فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف)

الطيبي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) وجعله قيماً لإقامة أود ذوي الألباب، فلا ترى فيه عوجاً، لا يحوم حول معانيه سوى الاستقامة، لأنها من الكلمات التامات، ولا ينزل بساحته الاعوجاج، إذ هو من المعجزات الباهرات، آياته صادعة وبيناته ساطعة، وزواجره وازعة، وزواخره فارعة، فكما لا يقف على إدراك بلاغته إلا الذوق، لا يسع كنه معرفة معانيه نطاق الطوق، أصفى مشارع موارده عن لوث الحدوث، ووصمه الانصرام، كما حمى شوارع مصادره أن تنعت بما ينمى إلى الانعدام، فما هو إلا من صفات مخترع الكائنات، ونعوت مبدع الأرض والسماوات، منشئ الأحياء ومنشر الأموات. أحمده على سوابغ نعمه حمداً يبلغ رضاه، وأسأله الصلاة والسلام على خير خلقه، محمد نبيه ومصطفاه، الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، دافع جيشات الأباطيل، قامع صولات الأضاليل، وعلى آله وأصحابه الكرام البهاليل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما بعد، فإن كتاب الله المجيد هو قانون الأصول الدينية، ودستور الأحكام الشرعية، وهو المختص من بين سائر الكتب السماوية بصفة البلاغة، التي تقطعت عليها أعناق العتاق، وونت عنها خطى الجياد في السباق. والموفق من العلماء الأعلام، وأنصار ملة الإسلام من كانت مطامح نظره، ومسارح فكره، الجهات التي تضمنت لطائف النكت المكنونة، واشتملت على أسرار المعاني المصونة، فلم يوفق لتصنيف أجمع لتلك الدقائق، وتأليف أنفع لدرك تلك الحقائق، وأكشف للقناع عن وجه إعجاز التنزيل، وأعون في مداحض الكلام على تعاطي التفسير والتأويل إلا الحبر الهمام: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، شكر الله سعيه؛ إذ مصنفه: "الكشاف عن حقائق التنزيل"، مصنف لا يخفى مقداره، ولا يشق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غباره. اتضح بيانه، وأضاء برهانه، وعمت أضواؤه، وانجلت سماؤه، تغرق الأفكار في بحار عباراته، ولا تنتهي الأوهام إلى ساحل إشاراته، هزت أريحية الفضل من أعطاف الفضلاء، لاعتلاء ذروته الشامخة، وابتغاء غاياته الباذخة، فكل غاص في تياره لاستخراج درر معان أبهج من نيل الأماني في ظل صحة وأمان، فإن من أراد عظيماً خاطر بعظيمته، ومن رام جسيماً راهن بكريمته، ومن هاب خاب، ومن أحجم أخفق. فقد استخرت الله- مع قلة البضاعة، وقصور الباع في الصناعة- لتصدي شرح مجمله، وحل معضله، وتلخيص مشكله، وتخليص مبهمه، وفسر عويصه، وفك عقوده الموربة، وتبين قيوده المكربة، وانتهاض إحراز قصبات عيون التفاسير، للعلماء النحارير، وخلاصة أفكار المحققين، ونقاوة أنظار المتبحرين، المتقدمين منهم والمتأخرين، لتسهيل وعره، وتيسير صعبه، بعد تتبع مظان العلمين المختصين بالقرآن آونة من الأزمان، والإتقان على الأساليب البديعية، والأفانين البيانية، وتحصيل غرائب اللغة ما لا يكاد إحصاء، ولطائف الإعراب ما لا يضبط إملاء، وعلى نكات علم أصول الدين: فقهه وكلامه، واستنباط فروعه وأحكامه، ولم آل جهداً في جهات المنقول استناداً إلى الأصول، وانتساب القراءات المشهورة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والشاذة، وبيان وجوهها، وكشف ستورها. هذا: وإن أصعب السبل تقييد القيود المبهمة؛ فإنه بلغ في الغموض وراء حد حل الإلغاز. وهو الذي يعجز الناظر فيه كل الإعجاز. ولم أقتصر على ذلك، بل جمعت معارضات عظماء الشرق، ومناقضات فضلاء الغرب، وتجنبت التعصب في الرد إلا فيما لم يساعد عليه النص القاهر، والنظم الباهر. وعثرت بعد طول المباحثات على أن معرفة إبراز النظم هي أعظم المطالب، وأسنى المقاصد والمآرب، فإنها مسبار البلاغة، ومعيار البراعة؛ إذ بها تنتقد الأقاويل، ويرجح تأويل على تأويل. ثم إن تر خللاً فانسبه إلى الونى والقصور، وإن تعثر على ما تقر به العين فأحله إلى فيضان النور من جناب سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم؛ فإني رأيت- والله الواهب- فيما يرى النائم في أثناء الشروع أو قبيله أنه صلى الله عليه وسلم ناولني قدحاً من اللبن وأشار إلي، فأصبت منه، ثم ناولته صلوات الله عليه وسلامه فأصاب منه، وسميت الكتاب بـ: "فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب" وبالله أستعين على ما نويته واعتقدته، وأستعيذ من الزلل فيما نحوته واعتمدته.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكر ما يحتاج إلى الكشف من غرائب الخطبة ونكتها إجمالاً وتفصيلاً: أما الإجمال، فإنه ضمنها جميع ما هو مفتقر إليه من المباحث التي تتعلق بالقرآن المجيد براعة للاستهلال: ساق الكلام أولاً في بيان الإنزال والتنزيل، والترتيب والتأليف، والتمييز والتفصيل، والمحكم والمتشابه، بحيث لزم منه ما قصده من بيان المذهب والقول بحدوثه. فلما قضى من ذلك وطره ثنى بذكر منافعه ديناً ودنيا، وثلث في بيان إعجازه وكيفية التحدي به، وكمية المتحدى به، ومن تحدى معه، وربع في بيان اشتماله على النكت واللطائف، ومدح مستخرجها، وذم من تقاعد عنها، إلى غير ذلك. وأما على التفصيل فقوله: (الحمد لله) قال الواحدي: "الحمد قد يكون شكراً للصنيعة، وقد يكون ابتداء الثناء على الرجل. يقال: حمدته على معروفه، وحمدته على علمه وشجاعته".

الذي أنزل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: "الحمد نقيض الذم، وهو أعم من الشكر. والشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف" فيقال: ما الحمد إذاً؟ أهو اللفظ المشترك بين المفهومين، أم هو اللفظ الموضوع للثناء المطلق كالمتواطئ، أم هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ . قال المصنف في "أساس البلاغة": "حمدت الله ومجدته، وأحمد الرجل: جاء بما يحمد عليه، ضد أذم. ومن المجاز: أحمدت صنيعه، وجاورته فأحمدت جواره". فتعين القسم الأخير، وسيجيء تمام تحقيقه في "الفاتحة". قوله: "الذي هو وصلة إلى وصف المعارف بالجمل". وحق الجملة أن تكون معلومة الانتساب عند المخاطب. وإنزال القرآن على ما وصفه. وفائدة إيراده هكذا: إما للنداء على الجميل بما فيه سبحانه وتعالى من صفة الكمال، وهي: التكلم بالكلام البليغ الذي بذ بلاغة كل ناطق، وشق غبار كل سابق. وإما للثناء عليه بما أولى عباده هذه النعمة الجسيمة التي هي مفتاح للمنافع الدينية والدنياوية. قوله: (أنزل)، الأساس: "نزل بالمكان، ونزل من علو إلى سفل، وأنزل الكتاب ونزله. ومن المجاز: نزل به مكروه، وأنزلت حاجتي على كريم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإمام والقاضي: "الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وذلك لا يتحقق في الكلام؛ وإنما لحقه بتوسط لحوقه الذات الحاملة له، فوصف بصفة حامله لالتباسه به. ويقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، وإنما نزل المستمع بها وأداها إلى الناس، وقول الأمير لا يفارق ذاته. ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم ويلقنه". وأما كيفية تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم [من الملك، فما رويناه عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ] "أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني، فأعي ما يقول". أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك، والترمذي، والنسائي.

القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القرآن)، القرآن لغة: الجمع، تقول: قرأت الشيء قرآناً، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض. أبو عبيدة: "سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها". وسمي المقروء قرآناً كما سمي المكتوب كتاباً. واصطلاحاً: هو الكلام المنزل على محمد صلوات الله عليه وسلامه، للإعجاز بسورة منه. قيل: هذا حد الشيء بما هو أخفى منه، وبما تتوقف معرفته على معرفته. وأجيب بأن قوله: "بسورة منه" ليس قيداً للفصل، بل بياناً له. واعلم أنه قال أولاً: "أنزل" ثم "نزل" ثم "جعله" إلى قوله: "مختتماً" لبيان ترتيب النزول، فإنه تعالى أولاً أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزله منه متفرقاً على حسب المصالح وكفاء الحوادث، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح، ونبه عليه بقوله: "مؤلفاً منظماً، وجعله بالتحميد مفتتحاً، وبالاستعاذة

كلاماً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مختتماً"، إلى آخره، مع ما روعي فيه من صنعة التجنيس الاشتقاقي. هذا هو المراد، لا ما قيل: إنه قال أولاً: خلق القرآن، ثم غيره تقية؛ لأنه صرح بذلك في قوله: "وما هي إلا صفات مبتدأ" إلى آخره. ولقائل أن يقول: إنما عدل استدراجاً كما هو دأب البلغاء، وعليه مخاطبات الأنبياء. قوله: (كلاماً)، الجوهري: "الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير". الإمام: "تركيب "ك ل م" بحسب تقاليبه الستة يفيد القوة والشدة، وسمي الكلام به؛ لأنه يؤثر في الذهن بواسطة القرع في السمع، ومنه الكلم: الجرح. ك م ل: الكامل القوة، بخلاف الناقص. ل ك م: بمعنى الشدة في اللكم، وهو الضرب بمجمع الكف، ظاهر. م ك ل: يقال: بئر مكول، إذا قل ماؤها، فيحصل منها للوارد الشدة. م ل ك: يقال: ملكت العجين، إذا اشتد عجنه، ومنه ملك الإنسان؛ لأنه نوع قدرة. ل م ك: يقال: تلمك البعير، إذا لوى لحييه.

مؤلفاً منظماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وانتصابه إما لأنه حال موطئة، كقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2]، أو مؤكدة كقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) [الحج: 72] وليس بلازم في المؤكدة أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية، ولا أن يكون مجيئها على إثر جملة عقدها من اسمين لا عمل لهما كما يشعر به ظاهر لفظ "المفصل"؛ لأن ذلك شرط لحذف عاملها على سبيل الوجوب، لا لكونه حالاً مؤكدة. وإما لأنه بدل من القرآن، وهذا أوجه على مذهبه؛ لما أن الحال زيادة في فائدة الجملة، والبدل هو المقصود في الإيراد، والمبدل كالتوطئة، فيفيد التوكيد لما فيه من التنبيه والتكرير، والإجمال والتفصيل. قوله: (مؤلفاً)، التأليف: جمع الحروف أو الكلم لتركيب الكلمة أو الكلام، والنظم: هو الجمع مع ترتيب. الأساس: "هو أليفي وغلفي، وهم ألافي، ولو تألف فلان وحشياً لألف".

ونزله بحسب المصالح منجماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: "نظمت الدر ونظمته، ودر منظوم ومنظم، ومن المجاز: نظم الكلام، وهو نظم حسن" فالتأليف يخص اللفظ، والتنظيم يعم اللفظ والمعنى. والتنكير فيهما دل على نوع من التأليف والنظم، لاقتضاء مقام المدح إلى ذلك المعنى، وهو تأليف بديع وتنظيم غريب عجيب. والتأليف دل على أنه بلغ في الفصاحة أقصى غاياتها، والنظم على أنه انتهى في البلاغة مدى نهاياتها؛ لأن الفصاحة تختص بحسن اللفظ مفرداً ومركباً، والبلاغة تعم حسن اللفظ والمعنى، كما تقرر في "التبيان". وانتصابهما على أنهما حالان مترادفتان أو متداخلتان، أو صفتان مخصصتان لكلام؛ ليمتاز عن الكلام النفسي عندنا، وموضحتان عند المصنف؛ لأن عندهم: لا كلام إلا هذا، ولا وجود للكلام النفسي. قوله: (بحسب)، الجوهري: قولهم: ليكن عملك بحسب ذلك، أي: على قدره وعدده. الأساس: "الأجر على حسب المصيبة، أي: بقدرها". المعنى: فرقه بقدر ما تقتضيه الأمور السانحة والحوادث المتجددة. قوله: (منجماً)، أي: دفعة بعد دفعة، حظاً غب حظ، موزعاً على الأوقات. المغرب: "أصله من نجوم الأنواء، وقال: النجم هو الطالع، ثم سمي به الوقت، ثم

وجعله بالتحميد مفتتحاً وبالاستعاذة مختتماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سمي به ما يؤدى فيه من وظيفة المكاتب، ثم اشتقوا منه فقالوا: نجم الدية إذا أداها نجوماً، ونجم الدين" وانتصابه على الحال من الضمير المنصوب في "نزله" وهو موافق للتنزيل بحسب التفصيل. قوله: (وجعله بالتحميد مفتتحاً)، أي: بسورة "الفاتحة"، "وبالاستعاذة" أي: "المعوذتين". فعل ذلك تفهيماً وتعليماً لما ينبغي أن يفعل، وقد روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم" أخرجه أبو داود. قال الخطابي: "معناه: الأقطع الأبتر الذي لا نظام له". وقد تقرر أن من ختم القرآن تحصل له نعمة عظيمة، فيخاف عين الكمال، فيستعيذ بالله حصانة لها، "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان، فلما نزلت "المعوذتان" أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك". أخرجه النسائي.

وأوحاه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي ذلك الافتتاح وهذا الاختتام رعاية حسن المطلع والمقطع، أما المطلع، فحسنه أن "الفاتحة" كما ترى بلغت في حسن ألفاظها وتنوق معانيها غاية من الكمال، مع تضمنها معنى ما سيق الكلام لأجله- كما سنبينه- وهو المسمى ببراعة الاستهلال. وأما المقطع فحسنه ما آذن إلى استماع ما بدئ به، فـ "المعوذتان" مشيرتان إلى الاستعاذة، لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] على أحد الوجهين، ومن ثم قال صلوات الله عليه وسلامه حين سئل: أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الحال المرتحل"، قيل: وما الحال المرتحل؟ قال: "صاحب القرآن، يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل". أخرجه الترمذي والدارمي عن ابن عباس. فالتحميد يقتضي الاختتام بناءً على أن المجمل يقتضي تفصيله، والاستعاذة تستدعي الافتتاح، فلا انقطاع إذاً، كما قال: فما تقف السهام على قرار ... كأن الريش يطلب النصالا قوله: (وأوحاه)، الأساس: "أوحى إليه وأومى إليه: بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إليه: إذا كلمته بما تخفيه عن غيره. وأوحى الله تعالى إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل: 68]، ووحى وحياً: كتب".

على قسمين: متشابهاً ومحكماً، وفصله سوراً وسوره آيات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزاد الجوهري: "الرسالة". قوله: (على قسمين)، انتصب محله حالاً من الضمير المنصوب في "أوحاه" أي: كائناً على قسمين. انتصب "متشابهاً ومحكماً" إما على المدح، بتقدير أعني، ليكونا تفسيرين لقوله: "قسمين" تمدح بالمتشابه لما فيه من تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استنباط المعاني ورده إلى المحكم حيث أمكن. ويجوز أن يكونا بدلين من محل "على قسمين" أو حالين من الضمير المستتر في الظرف الواقع حالاً، فيلزم تداخل الحالين. والمحكم: هو المتضح المعنى، والمتشابه بخلافه. وقد استوعب بهما الأقسام الأربعة من النص والظاهر، والمجمل والمؤول؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنى، إما أن لا يحتمل غيره؛ وهو النص، أو احتمل لكن إفادته لذلك المعنى أرجح؛ وهو الظاهر، أو مساو؛ وهو المجمل، أو مرجوح؛ وهو المؤول، والمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، وبين المجمل والمؤول هو المتشابه. وقد اقتبس المعنى من قوله تعالى: (آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]. قوله: (وفصله)، هو مأخوذ من قولهم: عقد مفصل. الجوهري: "هو أن يجعل بين لؤلؤتين خرزة أو من التفصيل بمعنى التبيين". قوله: (سوراً)، جمع سورة. وانتصب إما على الحال، أو على تضمين "فصل" معنى جعل. أي: جعل القرآن سوراً مفصلاً. والأحسن أن يكون تمييزاً نحو قوله تعالى: (وَفَجَّرْنَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأَرْضَ عُيُوناً) [القمر: 12] قال: "وجعلنا الأرض كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: عيون الأرض". وكذا القول في "وسوره آيات". الجوهري: "السور: حائط المدينة، وجمعه أسوار. والسور أيضاً جمع سورة، مثل: بسر وبسرة، وهي كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى". قال المصنف: "هي الطائفة من كلام الله المجيد المترجمة، التي أقلها ثلاث آيات". فالآية هي الطائفة الموسومة منه بفاصلة فذة التي أقلها ستة أحرف صورة، نحو: (الرَّحْمَنُ) [الرحمن: 1]. هذا التعريف على مذهب الجمهور سوى الكوفيين ظاهر، لأنهم ما عدوا شيئاً من الفواتح نحو (الم) آية، واستقلالها في المعنى ليس بلازم؛ إذ يجوز الفصل بين الصفات، والبدل والمبدل، والصفة والموصوف، كقوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 3 - 4]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ) [الفاتحة: 6 - 7]، (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 2 - 3]. ويعني بالفاصلة: تواطؤ القرينتين من النثر على الحرف الأخير أو الوزن، وهو السجع أيضاً. وإليه أومأ الراغب بقوله: "يقال لكل كلام من القرآن منفصل بفصل لفظي: آية".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "المرشد: (الم) عدها الكوفيون آية، واعتبروا في عدها الوزن؛ لأنه كآخر "حليم"، "عليم". وإذا اعتبر المعنى مع الوزن كان أقوى لمذهبهم في عدها آية؛ لأنه ينضم إلى مشابهته الفواصل كونه جملة مستقلة بنفسها. والآية: العلامة، الجوهري: "أصل آية: أوية بالتحريك. قال سيبويه: موضع العين منها الواو". الفراء: "هي من الفعل فاعلة، وإنما ذهبت منه اللام تخفيفاً، ولو جاءت تامة كانت آيية". الراغب: "في بناء آية ثلاثة أقوال: قيل: هي فعلة، وحق مثلها اعتلال لامه دون عينه كحياة ونواة، لكن صحح لامه لوقوع الياء قبلها كراية.

وميز بينهن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: فعلة، إلا أنها قلبت كراهة التضعيف نحو: طائي في طيئ. وقيل: فاعلة، وأصلها آيية فخففت، فصار: آية، وذلك ضعيف؛ إذ تصغيرها: أيية، ولو كانت فاعلة لقيل: أوية". واشتقاقها إما من "أي" فإنها هي التي تبين أياً من أي، أو من قولهم: أوى إليه. والآية قيل: هي العلامة الظاهرة، وحقيقتها لكل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته؛ إذ كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات. فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج، ثم وجد العلم علم أنه وجد الطريق، وكذا إذا علم شيئاً مصنوعاً علم أنه لابد له من صانع. وقوله تعالى: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [العنكبوت: 44] فهي من الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم. قوله: (ميز)، بالتشديد للمبالغة. الكواشي: "أصل الميز: الفصل بين المتشابهات،

بفصول وغايات، وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: مزت بين الشيئين مخففاً، وميزت بين الأشياء مشدداً". قوله: (بفصول وغايات)، قيل: الفصول: الوقوف، و"الغايات": رؤوس الآي. وقد تجتمع الغاية والوقوف، كما في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: 3] فالضمير في "بينهن" للآيات، والتحقيق أن الضمير يعود على المجموع من السور والآي، كقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9]، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 111] والضمير لليهود والنصارى بدليل قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى)، ويراد بالفصول رؤوس الآي، وهي الفواصل، جمع فاصلة- كما قررناه- وهي بمنزلة السجع في غير القرآن. قال الله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) [فصلت: 3]. والغايات: أواخر السور، جمع الغاية، وهي مدى الشيء. والمعنى: فصل عز شأنه القرآن بالسور، وفصل السور بالآيات، وميز بين ذينك الفصلين بالفصول والغايات. وفي هذا التقرير معنى الجمع والتقسيم، والجمع والتفريق. قوله: (وما هي إلا صفات)، هذا التركيب من قصر الصفة على الموصوف على القلب، أي: ليس التأليف والتنظيم، والافتتاح والاختتام، والتفصيل والتمييز إلا صفات شيء حادث؛ لأن حدوث الصفات يوجب حدوث الموصوف. قوله: (مبتدأ)، الزجاج: "المبدئ: الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء. والبديع: الذي ابتدع الخلق على غير مثال".

وسمات منشأ مخترع، فسبحان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المطلع: "البديع الذي يبدع الأشياء، أي: يحدثها مما لم يكن، وكذلك المبدئ، العين والهمزة تتبادلان". قوله: (فسبحان)، جواب شرط محذوف، وفيه معنى التعجب، قال المصنف في "النور": الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى في رؤية المتعجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. المعنى: إذ لزم من تلك الأوصاف حدوث القرآن، على أنه أحق الأشياء بعد الله سبحانه وتعالى بأن يوصف بالقديم لكونه قائماً بذاته خارجاً منه؛ قال الرسول صلوات الله عليه وسلامه: "وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" أخرجه الترمذي عن أبي أمامة، فلينزه المنزه متعجباً قائلاً: سبحان من استأثر بالأولية والقدم! وفي (وسم) نكتة: وهي أنه تعالى وحده اختص بصفة الكمال، وأن غيره موسوم بوسم النقصان. الجوهري: "يقال: وسمته وسماً: إذا أثرت فيه بسمة وكي، والهاء عوض من الواو". وفيه إبطال مذهب الفلاسفة في الماهيات، وإثبات مذهبه في الصفات".

من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم، أنشأه كتاباً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استأثر)، الاستئثار: التفرد والاستبداد والاستقلال. قوله: (بالأولية والقدم)، الجوهري: الأول: نقيض الآخر، والقدم خلاف الحدوث. الأزهري في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ) [الحديد: 3] الأول: هو السابق للأشياء كلها، وكان الله موجوداً لا شيء معه، ثم أوجد ما أراد من خلقه، ثم يفني الخلق كلهم، فيبقى تعالى وحده كما كان أولاً. وقلت: فالأولية التي تقتضي سبق الأشياء كلها مستدعية للقدم، والآخرية التي لم تقبل الفناء بعد فناء المحدثات مشعرة بالقدم؛ لأن المحدث يحتاج في إحداثه على سابق؛ ومن ثم جاء في الأدعية عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: "أنت الأول ليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، فيكون عطف القدم على الأولية من عطف البيان على المبين، وعطف: "ووسم كل شيء" على "استأثر" من عطف أحد الضدين على الآخر؛ للجامع الوهمي. قوله: (أنشأه)، أي: خلقه على اعتقاده، الجوهري: "أنشأه الله، خلقه، يقال: أنشأ يفعل كذا، أي: ابتدأ، وفلان ينشئ الأحاديث، أي: يضعها". قطع الجملة لتكون بدلاً من جملة: "أنزل" لكونها أوفى بتأدية المقصود منها، فإنه أجرى على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القرآن أوصافاً تدل على حدوثه ككونه مؤلفاً منظماً، وغير ذلك، لكن دلالتها على المقصود غير صريحة، فصرح بقوله: "أنشأه"، وأدخل بين البدل والمبدل قوله: (وما هي إلا صفات مبتدأ)، إلى آخره، معترضاً مؤكداً لما انتصب له من بيان مذهبه. واعلم أن في أمثال هذا التبجح على نصرة مذهبه جسارة عظيمة على الكلام، ثم على المتكلم؛ إذ عظمه الكلام على قدر عظمة المتكلم، فكلام الله عظيم بعظمته، جليل بجلالته وكبريائه. قال شيخنا شيخ الإسلام وسراج أهل الإيمان، أبو حفص السهروردي قدس الله سره: "كلام الله بعد ونأى بكنهه وغايته، وعظم شأنه، وقهر سلطانه، وسطوع نوره وضيائه. مثاله من عالم الشهادة: الشمس التي ينفع الخلق شعاعها ووهجها؛ إذ لا قدرة للخلق أن تقرب من جرمها. فمن قائل بأن لا حرف ولا صوت؛ لما عظم عليه أن يحضر، ومن قائل: إنه حرف وصوت؛ لما عز عليه أن يغيب، ولكل وجهة هو موليها. فالسبيل الأمثل والطريق الأعدل- أيها الإخوان من الطائفتين- أن تتركا المنازعة والخوض فيما لم يشرع فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فاعملوا في تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل بما فيه. والمنازعة في ذلك كمن يأتيهم كتاب من سلطان يأمرهم فيه وينهاهم، وهم يتشاجرون في أن الكتاب: كيف خطه، وكيف عبارته، وأي شيء فيه من صنعة الفصاحة والبلاغة؟ ويذهلون عن صرف الهمم إلى الانتداب لما ندبوا إليه".

ساطعاً تبيانه، قاطعاً برهانه، وحياً ناطقاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ساطعاً)، الجوهري: "يقال: سطع الغبار والرائحة والصبح يسطع سطوعاً إذا ارتفع". وفي حاشية "الصحاح": "يقال للصبح إذا طلع ضوؤه في السماء مستطيلاً: قد سطع"، وهو مع ما يليه صفتان لـ "كتاباً". قوله: (تبيانه)، الجوهري: "التبيان: البيان، وهو مصدر شاذ؛ لأن مثال هذه المصادر يبنى على الفتح كالتذكار والتكرار، ولم يجيء على الكسر إلا هذه و"التلقاء". قوله: (برهانه)، الأساس: "أبره فلان إذا جاء بالبرهان، وبرهن مولد، والبرهان: بيان الحجة وإيضاحها؛ من البرهرهة، وهي البيضاء من الجواري، كما اشتق السلطان من السليط لإضاءته". قوله: (وحياً ناطقاً)، شبه الوحي في وضوح دلالته على إثبات المعجزة والحجج بالإنسان الذي يتكلم بالبراهين والدلائل، ثم خيل أنه إنسان، ثم نسب إليه على سبيل الاستعارة التخييلية ما كان منسوباً إلى المشبه به عند التكلم، وهو النطق. فإن قلت: بين لي تأليف هذه المنصوبات. قلت: في التركيب ترق وتكميل وتتميم. أما الترقي فهو أن "كتاباً" بدل من الضمير الذي في "أنشأه" فيكون توضيحاً لما أبهمه.

ببينات وحجج، قرآناً عربياً غير ذي عوج، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال اليمني: "الفرق بين ضميري المتكلم والمخاطب وضمير الغائب: أن ضمير الغائب يحتمل أن يكون لكل ظاهر سابق ذكره، فإذا أبدل أفاد البدل بياناً، ولذلك لا يجيزون: ربك وربي رجلاً، وأجازوا: ربه رجلاً". فإن قلت: ها هنا ليس له محمل سوى القرآن؟ قلت: بالنظر إلى نفسه الاحتمال قائم، وان قوله: "وحياً" صفة مخصصة لـ "كتاباً"؛ لأن الكتاب أعم من أن يكون وحياً أو غير وحي. وكذا "قرآناً"؛ لأن الوحي يعم الكتب السماوية جميعها. وأما التتميم والتكميل؛ فلأن جميع الصفات المتواليات مشعرة بكون القرآن كاملاً في نفسه، فتمم بقوله: "مفتاحاً" وكمل بقوله: "مصداقاً لما بين يديه من الكتب السماوية" ليكون مكملاً لغيره. قوله: (ببينات وحجج)، المغرب: "البينة: الحجة، فيعلة من البينونة أو البيان. والحج: القصد، ومنه الحجة؛ لأنها تقصد وتعتمد، إذ بها يقصد الحق المطلوب". قوله: (غير ذي عوج)، قال المصنف: "ما يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة".

مفتاحاً للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقاً لما بين يديه من الكتب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال في "الزمر": "فإن قلت: هلا قيل: مستقيماً، أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان: إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج، كما قال: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) [الكهف: 1]. والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان". وقال: "العوج بكسر العين في المعاني، وبفتحها في الأعيان، وكذا عن الزجاج". قوله: (مفتاحاً)، هو إما اسم آلة، أي: يفتح به العلوم الدينية: فقهها وأصولها، ومعانيها وإعرابها، وأخلاقها، إلى غير ذلك. تشبيهاً بالمفاتيح في كونها وسيلة إلى فتح المخازن المستوثق عليها. فإن قلت: فعلى هذا القرآن كالمقدمة للعلوم. والواقع بخلافه. قلت: نعم، هي ذريعة على تحقيق معانيه، لكونها متشعبة منه، يتوصل باستعانته إلى تمهيد معاقدها، وتقرير أصولها. أو اسم فاعل من الفتح، كمضراب من الضرب للمبالغة. وكذا القول في "مصداقاً". قوله: (بين يديه)، استعارة تمثيلية كقوله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]، والأصل فيه بين الجهتين المسامتتين، لليمين والشمال، ثم استعمل في ظرف المكان بمعنى قدام، ثم في ظرف الزمان بمعنى قبل.

السماوية، معجزاً باقياً دون كل معجز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معجزاً)، المعجز: هو الأمر الخارق للعادة على سبيل التحدي. قوله: (دون كل معجز)، دون بمعنى أذنى، ثم استعير في الرتب، يقال: هذا دون ذلك في الشرف، ثم اتسع في كل تجاوز حد، وهو حال من ضمير "باقياً" أي: معجزاً باقياً متجاوزاً في بقائه عن سائر المعجزات. وكذا قوله: "من بين سائر الكتب" حال من ضمير "دائراً" أي: دائراً متفرداً من بين سائر الكتب. الجوهري: "سائر الناس: جميعهم". ذكره في (س ي ر). النهاية: "السائر- مهموز- الباقي، والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح. وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث وكلها بمعنى الباقي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، أي: باقيه". قيل: "دون" يجوز أن تكون بمعنى بعد، فيكون منصوباً على الظرفية. المعنى: معجزاً باقياً بعد كل المعجزات. واعلم أن قوله: "ساطعاً تبيانه" كناية ساذجة لما يلزم من سطوع تبيانه سطوعه، ولو قيل: ساطع التبيان لكان كناية مشتملة على التصريح؛ لانتقال الضمير من "تبيانه" إلى "ساطع"، ولو اكتفى بقوله: "ساطعاً" لكان تصريحاً محضاً. مثاله قولك: فلان منيع جاره ثم منيع الجار. ويجوز أن يكون استعارة تبعية: استعار لوضوح بيانات القرآن ارتفاع تباشير الصبح، والجامع:

على وجه كل زمان، دائراً من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكشف والجلاء. وأن تكون مكنية بأن شبه التبيان بالصبح، ثم أدخل في جنسه، ثم خيل أنه الصبح بعينه، ثم أطلق اسم المشبه وهو "التبيان" على اسم ذلك المتخيل وهو الصبح المشبه به، ونسب إليه السطوع على طريق التخييلية؛ لتكون قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة. قوله: (على وجه كل زمان)، الوجه مستعار للظهور؛ لأن الوجه في الإنسان أظهر شيء، وفي "على" معنى الاستعلاء والغلبة، وفي تخصيص الوجه معنى الاشتهار أيضاً. وكما استوعب "الزمان" كمله باستيعاب الأشخاص بقوله: "على كل لسان"، وتممه باستيعاب المكان بقوله: "في كل مكان"، فبلغ الغاية في توخي المطلوب. قوله: (أفحم)، أي: أسكت، الجوهري: "كلمته حتى أفحمته: إذا أسكته في خصومة". أي: أفحمهم الله ببلاغة القرآن وفصاحته، فما أحاروا ببنت شفة. وتحتمل الهمزة أن تكون للوجدان نحو: أحمدته، وأنحلته، أي: وجدوا مفحمين بسببه؛ فلذلك لم يتصدوا، كما يقال: هاجيناكم فما أفحمناكم. فصل هذه الجملة استئنافاً؛ فكأنه قيل: بين لي كيفية إعجازه؟ قيل: أفحم به من طولب، وأن تكون بياناً؛ لأنه ليس كون القرآن معجزاً إلا هذا. وتحتمل التأكيد أيضاً. قوله: (العرب)، النهاية: "الأعراب ساكنو البادية الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس- ولا واحد له من لفظه- سواء أقام بالبادية أو المدن، والنسبة إليه أعرابي وعربي". الجوهري: "العرب العاربة: الخلص منهم، أخذ من لفظه وأكد به، كما يقال: ليل لائل، وربما قيل: العرب العرباء".

وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر من سورة منه ناهض من بلغائهم، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبكم)، الأساس: "تكلم فلان فتبكم عليه إذا: أرتج عليه". ولم أجد في موضع آخر بنى من "بكم" فعلاً سواه. قوله: (تحدى به)، التحدي: طلب المعارضة والمقابلة. الجوهري: "تحديت فلاناً: إذا باريته في فعل ونازعته الغلبة". الأساس: "حدا حدواً، وهو حادي الإبل، وحدا بها حداء: إذا غنى لها. ومن المجاز: تحدى أقرانه: إذا باراهم ونازعهم الغلبة، وأصله في الحداء يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه، أي: يطلب حداءه، كما تقول: توفاه بمعنى استوفاه". وفي بعض الحواشي الموثوق به: "كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار، وحاد عن يساره، يتحدى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي: يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل مباراة". قوله: (المصاقع)، المصاقع: هو جمع مصقع، وهو الفصيح. الجوهري: "خطيب مصقع، أي: بليغ". قوله: (فلم يتصد)، أي: لم يتعرض. الجوهري: "تصدى له، أي: تعرض، والمصاداة: المعارضة". قوله: (ولم ينهض)، الأساس: "نهض إليه وله نهضاً، واستنهضه للأمر" المعنى: لم يقم لمعارضة أقصر سورة منه قائم.

وأوفر عدداً من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة، وإلقائهم الشراشر على المعازة والمعارة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الدهناء)، الجوهري: "الدهناء موضع ببلاد تميم، يمد ويقصر، وينسب إليه دهناوي"، الأساس: "الدهناء: أرض ذات رمال". قوله: (عرق العصبية)، النهاية: "العصبي: الذي يعين قومه على الظلم، والتعصب: المحاماة والمدافعة". وفي قوله: "عرق العصبية" استعارة تخييلية، وقوله: "لم ينبض" ترشيح لها؛ لأن النبض- هو الحركة التي تنبعث من أوعية الروح، المؤلفة من انقباض وانبساط- صفة ملائمة للمستعار منه. قوله: (المضارة)، هي الضرار. قوله: (المعازة)، وهي المغالبة، و"المعارة" بالراء المهملة: المعايبة، من المعرة وهي الإثم، وهو يعر قومه، أي: يدخل عليهم مكروهاً، جانس بين "المعازة" و"المعارة" وبين "المضادة" و"المضارة". قوله: (الشراشر)، وهي الأثقال. قال المصنف: ألقى عليه شراشره، أي: جملته، وصرف إليه همه، وهو من الشرشرة، وهي التحريك، قال الكميت:

ولقائهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتلقى عليه عند كل عظيمة ... شراشر من حيي نزار وألبب وفي "المجمل": الشراشر: النفس، يقال: ألقى عليه شراشره، إذا ألقى عليه نفسه حرصاً ومحبة. والمعنى: أنهم إذا دهمهم أمر من المعرة دخلوا فيه بجملتهم تهالكاً وحرصاً ليغلبوا ولا يغلبوا. قوله: (لقائهم)، الأساس: "لقيته لقاء ولقياناً ولقى- بوزن هدى- ولاقيته والتقيته ولقي فلان ألاقي من شر، ويقال: فلان ملقى: ممتحن". المغرب: وقد غلب اللقاء على الحرب. وقال أبو العلاء: وممتحن لقاؤك وهو موت ... وهل ينبي عن الموت امتحان؟

دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط، إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (المناضلة) وهي المراماة. يقال: ناضلت فلاناً فنضلته إذا غلبته. قوله: (الخطط) وهي جمع خطة، وهي الأمر العظيم أو الشدة، وهو مفعول: "لقائهم". المعنى: لم يتحرك عرق عصبيتهم مع لقائهم الشر والشدائد عند المدافعة عن أحسابهم، ومنه حديث وفد هوازن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختاروا إحدى الطائفتين: إما المال وإما السبي". فقالوا: أما إذا خيرتنا بين المال والحسب فإنا نختار الحسب". أرادوا أن فكاك الأسرى وإيثاره على استرجاع المال حسب وفعال حسن؛ فهو بالاختيار أجدر. وفي "النهاية": "الحسب: بمعنى المحسوب؛ لأنه مما يعده الإنسان من مفاخر نفسه وآبائه". ابن السكيت: "الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف. والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء". قوله: (يرومونه)، أي: يطلبونه، "والشطط": مجاوزة الحد والقدر. قوله: (إن أتاهم)، بيان وإيضاح لما تقدم من "لقائهم" و"اشتهارهم" و"ركوبهم"، ويحتمل الاستئناف.

وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر، وقد جرد لهم الحجة أولاً والسيف آخراً، فلم يعارضوا إلا السيف وحده، على أن السيف القاضب مخراق لاعب إن لم تمض الحجة حده، فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمأثرة)، المأثرة: كل خصلة تؤثر. و"المفخرة" بفتح الخاء وضمها: المأثرة. جميع ذلك مبالغة في عصبيتهم وحميتهم، وأنهم كانوا في عداد من يغلبون ولا يغلبون، ومع ذلك عجزوا عن التحدي والمعارضة. قوله: (وقد جرد لهم الحجة أولاً)، حال من ضمير "أفحم" جيء بها على سبيل الترقي والتدرج لإرادة المبالغة في إعجاز القرآن. قال أولاً: "لمقدار أقصر سورة"، وثانياً: "أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء"، ثم ثالثاً: مع تهالكهم وحرصهم على العصبية، ثم رابعاً: أنه "جرد لهم الحجة أولاً والسيف آخراً"، وتجريد الحجة أولاً والسيف آخراً بمنزلة تخيير المتحدى به بين الإتيان بما يتحدى به، وبين الإقرار بالعجز، كما تقول لمن تباريه: إما أن تأتي بمثله أو تقر بالعجز. قوله: (مخراق لاعب)، الجوهري: المخراق: المنديل يلف ليضرب به. عربي صحيح. قال عمرو بن كلثوم: كأن سيوفنا منا ومنهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا قوله: (على أن السيف)، هو حال من فاعل: "فلم يعارضوا". قال الحماسي:

فطم على الكواكب، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوالله لا أنسى قتيلاً رزيته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض على أنها تعفو الكلوم وإنما ... توكل بالأدنى وإن جل ما يمضي قال أبو البقاء: "موضع "على" وما يتصل به حال، والعامل فيه "لا أنسى" أي: ما أنسى هذا الرزء في حال الكلوم. أي: حالي مخالفة لحال غيري في استدامة الحزن". وكذا ما نحن بصدده يقدر أنهم اختاروا معارضة السيف وحده؛ حال علمهم أن السيف وحده مخراق لاعب، فحالهم مخالف لحال غيرهم في اختيارهم السيف العاطل. ويجوز أن يكون حالاً من المفعول وهو السيف. وقد وضع المظهر وهو السيف موضع المضمر لزيادة التقرير وإجرائه مجرى المثل. والفاء في قوله: "فما أعرضوا" نتيجة؛ لأن قوله: "فلم يعارضوا إلا السيف وحده" في قوة أنهم اختاروا معارضة السيف وأعرضوا عن معارضة الحجة، فرتب عليه "فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم". وفي قوله: "جرد لهم الحجة أولاً والسيف آخراً"، لطيفة: وهي أن التجريد يستعمل في السيوف أصالة، يقال: جردت السيف عن الغمد، ثم يستعمل في غيره مجازاً. وهو قد جعل الحجة في مضائها أصلاً في التجريد، وجعل السيف تابعاً لها. قوله: (طم)، أي: غلب، الجوهري: "جاء السيل فطم الركية، أي: دفنها وسواها. وكل شيء كثر حتى علا وغلب فقد طم". قوله: (الكواكب)، وهو جمع كوكب، الجوهري: كوكب الشيء: معظمه. استعار البحر للقرآن لغزارة فوائده وكثرة فرائده، والشمس لظهور دلائله وسطوع براهينه، ولبلاغتهم الأنهار والنجوم.

والصلاة على خير من أوحي إليه، حبيب الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ذي اللواء المرفوع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم رشح الاستعارات الأربع بالزخر، والطم، والإشراق، والطمس. ثم راعى بين الكوكبين صنعة الجناس التام، وبين الطم والطمس الجناس المذيل، وبين القرينتين الموافقة في الترصيع. ويجوز أن يكون المستعار له البحر والشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكواكب الكفار أنفسهم على طريق المشاكلة، وإلا فمن أين لهم نور وبهاء، ورونق وصفاء! ، وأن تكون الاستعارة تمثيلية بأن شبهت حالة سطوع الآيات القرآنية، وظهور المعجزات النبوية، واضمحلال تلقفاتهم وانطماس مزخرفاتهم بزخور البحر وطمه على الأنهار، وإشراق الشمس وطمسها الأنوار. قوله: (والصلاة على خير من أوحي إليه: حبيب الله أبي القاسم)، هو رسول الله خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خنزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

في بني لؤي، وذي الفرع المنيف في عبد مناف بن قصي، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "جامع الأصول": "إنما اقتصرنا على ذكر نسبه إلى عدنان؛ لأنه لا يكاد يصح لأحد الرواة رواية ولا ضبط الأسماء بعد عدنان". وصفه ثم كناه ثم سماه ثم نسبه، استلذاذاً وتيمناً وافتخاراً. قال: أسامياً لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها قوله: (لؤي)، تصغير لأى على وزن لعا: بقر الوحشي، ولأى أيضاً: رجل، وتصغيره: لؤي، ومنه لؤي بن غالب، قاله الجوهري. جانس بين اللواء ولؤي، وبين مناف ومنيف، ومرفوع وفرع، وعبر بجملة قوله: "ذي اللواء المرفوع في بني لؤي" عن ارتفاع مكانته، وعلو شأنه، ونباهة منزلته، تنبيهاً به على أنه العلم المشار إليه. قوله: (ذي الفرع)، فرع كل شيء: أعلاه، يقال: هو فرع قومه للشريف منهم، و"المنيف": العالي، يقال: أناف على كذا: أشرف عليه، و"قصي" تصغير القصا وهو البعد. فإن قلت: هلا أخر "لؤي" عن "قصي" وهو جده الأعلى؟ قلت: قدمه لينبه على مكان نكتة وهي إرادة التكميل؛ فإنه لما ذكر أنه صاحب اللواء

المثبت بالعصمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرفوع علم أنه ذو سلطان مطاع، مشتهر في سيادته فرأى أن الوصف بمجرد أنه كذلك غير واف، إذ من الجائز أنه مع ذلك غير عريق في أرومته، فكمل بقوله: "ذي الفرع المنيف". تلخيصه: أنه ذو حسب ظاهر ونسب طاهر، فلو اخر لفات ذلك، إذ في تأخير كل ما حقه التقديم إيذان بمكان لطيفة. قوله: (المثبت بالعصمة)، يقال: ثبت الشيء ثباتاً، وأثبته غيره وثبته بمعنى. والعصمة: الحفظ. أي: ثبته الله بما أوحى إليه على الصراط؛ لئلا يركن إلى ثقيف حين اقترحوا عليه ما اقترحوه فسكت، فنزلت: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء: 74] ويسمى هذا الأسلوب بالتلميح.

المؤيد بالحكمة، الشادخ الغرة الواضح التحجيل، النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المؤيد بالحكمة)، أي: بالقرآن حين طولب بالمعجزة أو بالعلم الوافي والعمل الكافي. قوله: (الغرة 9 الغرة: بياض في جبهة الفرس. والشادخة: هي الغرة إذا فشت في الوجه من الناصية إلى الأنف، والتحجيل: البياض في قوائم الفرس مأخوذ من الحجل وهو الخلخال. هذه الألفاظ واردة على التلميح أو الاقتباس من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل"، أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. يعني أن هذه العلامة هي الفارقة بين هذه الأمة وبين سائر الأمم. وبين هذا المعنى قوله صلوات الله عليه "لكم سيماء ليست لغيركم". استعار لتنويه شأنه وأنه ممتاز عن سائر الأنبياء، كما أن أمته ممتازة عن سائر الأمم بما ذكرنا. قوله: (الأمي)، المغرب: الأمي منسوب إلى أمة العرب، وهي لم تكن تكتب ولا تقرأ، فاستعير لكل من لا يعرف الكتابة ولا القراءة. راعى المناسبة بين الأمي والمكتوب، أي: لم يكن كاتبا ًوكان مكتوباً.

وعلى آله الأطهار، وخلفائه من الأختان والأصهار، وعلى جميع المهاجرين والأنصار. اعلم أن متن كل علم، وعمود كل صناعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأختان)، الجوهري: الختن: كل من كان من قبل المرأة كالأب أو الأخ، وفي العرف هو زوج الابنة، و"الأصهار" جمع صهر، وهو عند الخليل: أهل بيت المرأة، ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان جميعاً يقال: صاهرت إليهم إذا تزوجت فيهم. وتقديم الأختان على الأصهار كتقديم هارون على موسى في قوله تعالى: (بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه: 70]. قوله: (متن كل علم)، الجوهري: المتن من الأرض: ما صلب وارتفع ومنه سمي الظهر متناً. ثم سمي به أصول العلم وقواعده دون دقائقه وزوائده؛ لأنها تتفرع عليها كما أن الأعضاء تتقوم بالظهر. قوله: (وعمود كل صناعة)، أي: أصولها، الأساس: يقال للظهر: عمود البطن، وهو مذكور في عمود الكتاب، أي: في فصه ومتنه، واجعل ذلك في عمود بطنه: أي ظهره لأنه يمسك البطن ويقومه؛ فصار كالعمود له. قوله: (كل صناعة)، قيل: إن معلومات كل علم إما أن تحصل بالتمرن على العمل كحصول معلومات النحو بمطارحة الإعراب، ومعلومات صناعتي البلاغة والفصاحة بتتبع خواص تراكيب الكلام إفادة ودلالة وترتيباً، أو بالنظر والاستدلال. فخص الأول بالصناعة، والثاني بالعلم. وينتقض هذا بما ذكره: "وإن بز أهل الدنيا بصناعة الكلام"،

طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالِمُ العالِمَ لم يسبقه إلا بخطى يسيرة، أو تقدم الصانعُ الصانعَ لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة، وإنما الذي تباينت فيه الرتب، وتحاكت فيه الركب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبقوله: "وهما علم المعاني وعلم البيان" وبقوله: "علم النحو واللغة"، والحق أن كل علم مارسه الرجل سواء كان استدلالياً أو غيره حتى صار كالحرفة له سمي صنعة. قال المصنف في قوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة: 63]: "كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه". قوله: (طبقات العلماء)، الأساس: الناس طبقات ومنازل ودرجات بعضها أرفع من بعض. ومضى طبق بعد طبق: عالم من الناس بعد عالم. قال العباس: تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق قوله: (بخطى)، الخطى: جمع الخطوة وهي: ما بين القدمين، وجمع القلة خطوات. استعملت في موضع القلة لقوله: "يسيرة"، كقوله تعالى: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] في موضع أقراء. قوله: (بمسافة)، الأساس: ومن المجاز: كم مسافة هذه الأرض؟ أي: بعدها. وأصلها موضع سوف الأدلاء يتعارفون حالها من قرب وبعد. والسوف شم التراب. قوله: (تحاكت)، أي: تصاكت. يقال: هذا الأمر قد تحاكت فيه الركب، أي: اشتد. ويحتمل أن يكون كناية عن تجاثي المناظرين للبحث، و"الاستبقا": التسابق في العدو، و"التناضل" الترامي. يقال: تناضل القوم بالكلام والأشعار.

ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عد ألف بواحد؛ ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحديهم وأخصهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى انتهى)، غاية "تباينت" والمعنى ينظر إلى ما روي: "الناس كإبل مئة، لا تجد فيها راحلة"، وقول البختري: ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً ... لدى المجد حتى عد ألف بواحد قوله: (ما في العلوم)، "ما" موصولة، وهي مع صلتها خبر "الذي تباينت". قوله: (من محاسن)، الجوهري: الحسن: نقيض القبح، والجمع محاسن على غير قياس، كأنه جمع محسن. قوله: (النكت)، الأساس: كل نقطة من بياض في سواد، أو عكسه نكتة، ومن المجاز: جاء بنكتة ونكت في كلامه. قوله: (الفقر)، الأساس: ومن المجاز يقال: في كلامه وشعره فقرة وهي: فصل أو بيت شعر. والفقرة في النثر كالبيت في النظم، والفقر في الأصل حلي يصاغ على شكل فقر الظهر. قوله: (أوحديهم)، الياء للمبالغة كأحمري، كقوله:

وإلا واسطتهم وفصهم، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومشركي كافر بالفرق يقال: هو واحد قومه وأوحدهم، وهو واحد أمه، أي: لم تلد مثله. قوله: (واسطتهم)، واسطة الشيء: أجوده، ومنه واسطة القلادة، وقوم وسط وأوساط: خيار. وأنشد في "الأساس" لزهير: هم وسطاء يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم قوله: (وفصهم)، أي: صفوتهم، الأساس: ومن المجاز: أتيتك من فصه. أي: محزه وأصله. قال: ورب امرئ خلته مائقاً ... ويأتيك بالأمر من فصه ومنه فصوص الأخبار. قوله: (وعامتهم)، قيل: الضمير راجع إلى "العلماء"، ويجوز أن يعود إلى "الخاصة" على تأويل الجمع، أي: أكثر الخواص غافلون. قوله: (عماة)، هو جمع العامي، كعناة للعاني، وهو الأسير. بمعنى الأعمى، أو أنها من الأعماء، الجوهري: المعامي من الأرضين: الأغفال التي ليس فيها أثر عمارة، وهي الأعماء أيضاً.

بأحداقهم، عناة في يد التقليد لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال رؤبة: وبلد عامية أعماؤه ... كأن لون أرضه سماؤه قوله: (بأحداقهم)، إما أن يتعلق "بعماة" على منوال قولهم: رأيته بعيني وقبضته بيدي، أو أن يتعلق بـ "إدراك"، أي: لا يدركون الحقائق بأحداقهم، أي: لا تظهر لهم ظهور المحسوس حتى ينظروا بأحداقهم، تعريضاً بنفسه لبعد إدراك غوره، وكمال فطانته. جانس بين "عماة" و"عناة" تجنيس المضارعة لقرب المخرج بين الميم والنون، وبين العامة والعماة تجنيس قلب. قوله: (لا يمن)، يروى مجهولاً، أي: لا ينعم عليهم. يقال: من عليه مناً، أي: أنعم. ومعروفاً. وفاعله "التقليد" إذا روي بالياء و"اليد" إذا روي بالتاء، روي عن المصنف: كانوا إذا أرادوا إطلاق أسير جزوا ناصيته مذلة وهواناً. وأنشدوا: إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق المعنى: قد جززتم نواصيهم، والحال أنهم أسراء فأدوا حينئذ غرامة الجز إلينا أو أطلقوهم. هذا مثل ضربة المصنف للعالم المقلد الذي لا خلاص له من يد التقليد، وبالغ فيه وأفرط،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما بالغ في التفريط الواحدي حيث قال: ومن شرف علم التفسير وعزته في نفسه، أنه لا يجوز القول فيه بالعقل والتدبر والرأي والتفكر دون السماع والأخذ عمن شاهدوا التنزيل بالرواية والنقل، ثم شدد فيه بفعل الصحابة والتابعين، واستدل بحديث جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ". قال صاحب: "الجامع": أخرجه الترمذي، وأبو داود، وزاد رزين زيادة لم أجدها في "الأصول": "ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر". وبحديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الترمذي. فيقال: أما قوله: لا يجوز القول فيه بالرأي والتفكر، ففيه تفصيل كما سيجيء. ونحن نوافقه في أن الرأي لا مدخل له في التفسير، وأن الرأي الذي يؤدي إلى باطل أو جهل لا نعتبره في التأويل، وهو المعني بالمنع والتشديد، لكن نخالفه أن نمنع الرأي بالكلية! وكيف لا وهو قد أتى في كتابه مما لم ينقل عن الصحابة من التأويلات بما لا يدخل تحت الحصر؟ وكيف يمنع الاستنباط والأئمة الأربعة والعلماء الراسخون قد استنبطوا من القرآن علوماً جمة كالفقه، والأصولين، والنحو، والمعاني، والأخلاق، وغير ذلك؟ وليس كل ما قالوه سمعوه، ورد هذا ينتهي إلى سد باب عظيم في الدين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو الدرداء: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة. أخرجه في "شرح السنة". وسئل علي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ قال: "لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يعطيه الله رجلاً في القرآن" أخرجه الشيخان وغيرهما. وقال حجة الإسلام في "الإحياء": ينبغي أن يكون اعتماد العلماء في العلوم على بصيرتهم وإدراكهم بصفاء قلبهم، لا على الصحف والكتب، ولا على تقليد ما سمعوا من غيرهم، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم لا عالماً. قال ابن الجوزي: قالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي، والتأويل: نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته على دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. وقيل: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكواشي: التفسير: هو الوقوف على أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها، ولا يجوز ذلك إلا بالسماع. والتأويل: ما يرجع في كشفه إلى معنى الكلمة. بيان ذلك: لو قيل: ما معنى "لا ريب"؟ فنقول: لا شك؛ فهذا تفسير. فإن قيل: فقد نفيت الريب وقد ارتابوا؛ فإن أجبت وقلت: إنه في نفسه صدق، وإذا تؤمل وجد كذلك فانتفى عنه الريب؛ فهذا تأويل. تلخيصه: التفسير: ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية. يؤيده قول محيي السنة في "المعالم": التأويل صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وبعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لأهل العلم. ومنه قول مسلم بن يسار: إذا حدثت عن الله عز وجل فأمسك، واعلم ما قبله وما بعده. نقل عن كتاب "الزهد" للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. ومسلم بن يسار تابعي. وأما معنى الحديث الثاني فمنطبق على مذهبنا. وأما الأول فقد فسره صاحب "الجامع" وقال: يحمل النهي على وجهين:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن يكون له رأي وميل من طبعه وهواه فيتأول على وفق رأيه، ولو لم يكن له ذلك الهوى [لكان] لا يلوح له ذلك. وثانيهما: أن يتسارع إلى التفسير بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الإضمار، والتقديم، والتأخير، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. وتحرير هذا المعنى: أن المبتدع إذا جاء بمجمل في المتشابه على وفق بدعته، فأصاب رأيه- لأن محامل المتشابه كثيرة- فإنه مخطئ في التأويل؛ حيث لم يرده إلى المحكم، أو إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن الجاهل إذا قال في قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ... ) [الإسراء: 59]: الناقة لم تكن عمياء، لا يعلم أن المراد بها: آية مبصرة. وذكر في "الإحياء": أن الطامات وهي صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها إلى أمور لم تسبق منها إلى الأفهام- كدأب الباطنية- من قبل البدعية المنهي عنها؛ فإن الصرف عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بالنقل عن الشارع، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل عقلي حرام. مثال ذلك: قولهم في قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه: 24] ويشيرون إلى القلب أنه الطاغي على كل أحد. وقال صاحب "جامع الأصول": وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة؛ تحسيناً للكلام، وترغيباً للمستمع، وهو ممنوع، وإن كان المقصد صحيحاً.

ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم إن أملأ العلوم)، قيل: المليء: الغني المقتدر. وقد ملؤ ملاءة وهو أملأ منه على أفعل التفضيل. ومنه قول شريح: اختر أملأهم، أي: أقدرهم. ولا يجوز أن يكون من قولهم: ملأت الإناء ملئاً فهو مملوء، لأنه متعد ولا معنى له ها هنا. قلت: بل هذا الثاني أحسن لكن على أنه لازم ليتفرع على الاستعارة الترشيح وهو قوله: "بما يغمر القرائح" فإنه لا يناسب الغني المقتدر. قال المصنف في "المقدمة": ملئ الإناء بفتح الميم وكسر اللام، أي: امتلأ. وفي "إقناع" المطرزي: ملأ الوعاء وهو ملآن بفتح الميم واللام. فالاستعارة في "أملأ"، والقرينة الإضافة. "وبما يغمر" ترشيح. و"ما" إبهامية و"من" للبيان، أي: أكثر العلوم امتلاء بالذي يغمر القرائح، وهو غرائب نكت علم التفسير. و"يغمر" أي: يستر ويعلو، من غمره الماء، أي: علاه وغلبه. قوله: (القرائح)، وهي جمع قريحة، وهي أول ما يخرج من البئر. فاستعمل في محله مجازاً، ثم استعير للطبيعة من حيث صدور العلوم منها كالماء للبئر، يقال: لفلان قريحة، ويراد منه أنه مستنبط للعلوم. قوله: (وأنهضها)، أي: أقومها، من قولهم: نهض النبت إذا استوى. "يبهر": يغلب.

الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها؛ علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه، وإجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب "نظم القرآن"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القوارح)، وهي جمع القارحة. والقارح: هو الكامل السن من الخيل إذا بلغ خمس سنين. قوله: (لا يتم لتعاطيه)، أي: لا يستبد ولا يستقل لتناوله كل صاحب علم، ولا يتصدى له إلا رجل برع في العلمين المختصين بالقرآن. فقوله: "لا يتصدى" خبر "فالفقيه". قوله: (كما ذكر الجاحظ)، الكاف في موضع النصب على المصدر، أي: أذكر لك ذكراً مثل ذكر الجاحظ. واعلم أن التمييز بين الكلامين عسر جداً؛ لأنه لا يخلو من أن ينتهي كلام الجاحظ إلى قوله: "ولقد رأيت إخواننا"، أو إلى قوله: "إلا رجل قد برع" وحينئذ الاستثناء من كلام المصنف، ويقدر مثله لكلام الجاحظ. وذكر صاحب "المطلع" هذه الألفاظ إلى قوله: وهما علم المعاني وعلم البيان. أو لا يكون ها هنا من كلام الجاحظ شيء. بمعنى: أنه كان للجاحظ كلام يشبه معناه هذا المعنى فشبهه به، وأتى بمعناه دون ألفاظه. أما الاحتمال الأول فمما لا سبيل إليه؛ لأن من ذاق معرفة تراكيبه، وتتبع خواص بلاغته، واقتفى آثار فصاحته- علم ضرورة أن قوله: "وكان مسترسل الطبيعة منقادها" إلى آخره لم يخرج إلا من في مثله. روي أن الفرزدق حين استنشد ذا الرمة قصيدته التي مستهلها: نبت عيناك عن طلل بحزوى ... عفته الريح وامتنح القطارا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا يعدون الرباب وآل بكر ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا ويذهب بينها المرئي لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا وقائل الأبيات الثلاثة جرير. وقد ضمنها ذو الرمة قصيدته فاستعادها منه ثم قال: والله لقد علكهن من هو أشد لحيين منك. سلمنا لكن لا يليق ممن هو بصدده في منصب الفصاحة أن يكثر نقل كلام الغير إكثاره هذا. على أن المشار إليه بقوله: "تلك الطرائق وتلك الحقائق" هو قوله: "محاسن النكت والفقر". وأما الاحتمال الثاني فبعيد أيضاً؛ لأن هذا لا يصلح أن يكون دليلاً على ما حذف من كلام الغير. والذي نقوله ونعتمد عليه: هو الاحتمال الثالث؛ فإن كلامه إلى انتهائه مسدى مبانيه ملتحم معانيه، نسجه على منوال متين محكم، فصله غير مقصر، ووصله غير مردم؛ فألبست خرائد مخدرات الأفكار لاستباحة ألباب أرباب الأنظار. أسس معاقد قواعده على المعنى البديع، وشيد مقاصير قصره ببيان علم البديع، وأفرغ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قطر الجزالة على أساس البلاغة ما صيره رتباً، كأنه سد يأجوج فلن تستطيع له نقباً، فالفاء في قوله: "فالفقيه" نتيجة عما قدمه؛ أي: إذا كان الأمر كما ذكرت من أن كل صاحب علم غير مليء لتعاطيه، وقولي موافق لقول الجاحظ؛ فالفقيه كذا، والمتكلم كذا، وهلم جرا على آخره. هذا ولو حصل للناظر كلام الجاحظ تحقق له ما هو المطابق. ثم إني بعد برهة من الزمان عثرت على فائدة بخط الإمام همام الدين الخوارزمي: "قوله: "فالفقيه": الظاهر أن هذا قول الجاحظ يحكيه المصنف. وبرواية العلامة برهان الدين المطرزي: أنه كلام المصنف. وهو الوجه". انتهى كلامه. وعلى ما فسرنا كلامه يمكن التنكير في قوله: "رجل" فإنه للتفخيم والتهويل وعنى به نفسه في حاق معناه ولو كان من كلام الجاحظ لفاتت النكتة. ومثله قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) إلى قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) [الأعراف: 158] عدل عن المضمر إلى الظاهر لما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص الموصوف كائناً من

فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوي والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان إظهاراً للنصفة، وتفادياً من العصبية. على أني تتبعت ما نقله المصنف من كلام الزجاج، وابن جني، ووجدت أكثره منقولاً بحسب المعنى، وأشرت في موضعه إلى ما نقله من كلام ابن السكيت. والذي يوجه به كلام صاحب "المطلع": أن عطف قوله: "وتمهل" على قوله: "قد برع" من باب العطف التلقيني كقوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة: 124] فهو عطف على الكاف في "جاعلك". قال صاحب "الجامع": هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. المشهور صاحب الكلام والجدل والتصانيف المختلفة، وهو من أهل البصرة، وأحد شيوخ المعتزلة، قدم بغداد وأقام بها مدة، وكان تلميذ أبي إسحاق النظام. قوله: (الفقيه)، الفقه: هو العلم بالأحكام الفرعية الشرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية، والكلام: هو علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن الممكنات وأحوالها، وعن الملائكة والأنبياء، والأشقياء والسعداء في دار البقاء، على قانون الإسلام. قوله: (برز)، أي: فاق "الأقران" جمع قرن بالكسر وهو كفؤك في الحرب، وبالفتح:

وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أهل زمانك ومثلك في السن. "بز" أي: غلب، "القصص" بالكسر: جمع قصة، وبالفتح: مصدر والاسم أيضاً، ثم استعمل موضع المصدر، والسماع بكسر القاف. قوله: (ابن القرية)، بكسر القاف وتشديد الراء وكسرها، وتشديد الياء وفتحها، هو أيوب بن القرية، أحد الفصحاء، نقل الكتب القديمة إلى العربية. والقرية اسم أمه، وهي في اللغة حوصلة الطائر. قتله الحجاج، وتكلم عند القتل: لكل جواد كبوة، ولكل شجاع نبوة، ولكل حكيم هفوة؛ فصار مثلاً. قوله: (الحسن البصري)، قال صاحب "الجامع": هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، إمام وقته في كل فن وعلم وزهد وورع. قيل: إنه لقي علياً رضي الله عنه بالمدينة، وأما بالبصرة فإن رؤيته إياه لم تصح فيها. قوله: (أوعظ)، الوعظ: كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطباع النافرة. قوله: (والنحوي)، النحو: هو معرفة أحوال الكلم، وكيفية تركيباتها من جهة الإعراب.

وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى الأنباري: أن أبا الأسود الدؤلي قال: دخلت على علي رضي الله عنه، فوجدت في يده رقعة قال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء، فأردت أن أضع لهم شيئاً يرجعون إليه ثم ألقاها وفيها: "الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال: أنح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك. قال أبو الأسود: كان ما وقع إلي إن وأخواتها ما خلا لكن، فلما عرضتها عليه قال: وأين لكن؟ ثم قال: ما أحسن هذا النحو! فسمي النحو نحواً". قوله: (سيبويه)، قال الأنباري: هو أبو بشر عمرو بن عثمان، وسيبويه لقب، ومعناه بالفارسية: رائحة التفاح. وكان من أهل فارس من البيضاء، ومنشؤه بالبصرة، وصنف كتاباً لم يسبقه أحد قبله ولا لحقه أحد بعده. قوله: (واللغوي)، الجوهري: اللغة أصلها لغى أو لغو، والهاء عوض، وجمعها لغى، مثل برة وبرى، ولغات أيضاً، الأساس: إذا أردت أن تسمع من الأعراب فاستلغهم، أي: فاستنطقهم، وتقول: اسمع لغواهم. يقال: لغوت بكذا: لغطت به، ومنه اللغة. وفي الاصطلاح: هو معرفة أفراد الكلم وكيفية أوضاعها.

علك اللغات بقوة لحييه؛ لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق؛ إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علك)، أي: مضغ ولاك واللحي: منبت اللحية من الإنسان. عبر عن كثرة ممارسة الرجل اللغات العويصة الصعبة واستنباطه الشعب المستخرجة منها بحيث لا يتأتى منها شيء بهذه العبارة. قوله: (ولا يغوص)، يقال: غاص في الماء. عدي بـ "على" لإرادة معنى الاستعلاء، يقال: فلان يغوص على حقائق العلم أي: يتوغل فيها. قوله: (قد برع)، يقال: برع الرجل وبرع بالضم أيضاً براعة: فاق أصحابه فهو بارع. قوله: (علم المعاني)، وهو تتبع خواص التركيب في الإفادة ليحترز عن الخطأ في التطبيق، و"علم البيان" هو معرفة إيراد المعنى الواحد المأخوذ من المعاني في طرق مختلفة الدلالة بالخفي والأخفى لتمام المراد من المبالغة، نبه بتكرار لفظ "علم" على استحقاق كل منهما أن يسمى علماً برأسه، ولم يرد بالاختصاص أنهما لم يستعملا إلا في كلام الله المجيد، بل أراد أنهما لم يستعملا في كلام كاستعمالهما في التنزيل، وأن الواقف على اسراره مفتقر إليها كل الافتقار. قال صاحب "المفتاح": الويل كل الويل لمن يتعاطى التفسير وهو فيهما راجل. وقال: لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول، أقرأ منهما على المرء لمراد الله من كلامه، ولا

وتمهل في ارتيادهما آونة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع لدرك لطائف نكاته، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه. وقال المصنف: "حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدروه حق قدره، لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه". وقال: "كم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة؛ لأن من أول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلاً من دبير". ويقال أيضاً: إن كتابه هذا مما ضيم وسيم الخسف حيث أجري على ظواهره، ولم يفتش عن مكنون ضمائره، وأن من تصدى له ليس له نصيب واف ولا حظ وافر من هذين العلمين، حتى احتجبت عنه مستترات دقائقه، وعمت عليه مستودعات حقائقه. قوله: (تمهل)، أي: سبق واتأد، من الألفاظ المشتركة، المغرب: تمهل في الأمر: اتأد فيه، وتمهل أيضاً: تقدم، من المهل بالتحريك وهو التقدم. قال الأعشى: إن محلاً وإن مرتحلاً ... وإن في السفر إذ مضوا مهلاً والمقام يحتمل المعنيين. و"تمهل" عطف على "برع". قوله: (في ارتيادهما)، هو افتعال من راد الكلام: إذا طلبه. قوله: (آونة)، جمع أوان، كأزمنة وزمان. وأفعلة من جموع القلة.

وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا ارتياب أن هذا الفن فن- كما قال صاحب "المفتاح"- لا تلين عريكته، ولا تنقاد قرونته لمجرد استقراء صوره، وتتبع مظان أخوات لها؛ بل لابد من ممارسات كثيرة ومراجعات طويلة مع فضل إلهي. لكنهم قد يعبرون عن المعنى بضده تهكماً أو تمليحاً، وعلى هذا بنى المصنف كلامه. يعني من حق الاهتمام بشأن هذين العلمين أن يستفرغ المحصل جهده، ويفني فيهما عمره، وذلك قليل نزر لمن يبتغي كشف أسرار كلام الله المجيد، ونحوه في الأسلوب قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ .... ) [البقرة: 144] قال المصنف: ومعناه كثرة الرؤية. يعني: من حق اهتمامك بشأن القبلة- مع كثرة تقلب وجهك في السماء- أن تكون أكثر مما وجد منك وشوهد ن حالك؛ لأن أصل أمرك أن تستقبل قبلة آبائك؛ لكونه أدعى للعرب إلى الإيمان، ولوجوب مخالفة اليهود. وفي عكسه وضع "خطى" في قوله: "خطى يسيرة" موضع خطوات يعني: أنك ترى تفاوتاً كبيراً بين عالِمٍ وعالِمٍ في متون العلوم وأصولها، وإذا أمعنت النظر وحققت عرفت أن التفاوت يسير. قوله: (في التنقير)، التنقير: الفحص والبحث. استعير من نقر الطائر، الأساس: من المجاز نقرت عن الخبر ونقرت عنه: بحثت. قوله: (وبعثته)، من: بعثته على الشيء: إذا استحثثته وحرضته عليه. قوله: (مظانهما)، وهو جمع مظنة، ومظنة الشيء: موضعه ومألفه الذي يظن كونه فيه. قوله: (لطائف حجة الله)، قيل: هي القرآن: أي: من اللطائف الكائنة في القرآن. وألطف

وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ، جامعاً بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زماناً ورجع إليه، ورَدَّ ورُدّ عليه، فارساً في علم الإعراب، مقدماً في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه: أن المراد بلطائف حجة الله ما في القرآن من إثبات الحجج وإقامة البينات على وجه دقيق لطيف، مثل ورودها على أسلوب الاستدراج وإرخاء العنان، وما فيه من وجه الإعجاز الدال على معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن المغيبات. قوله: (على استيضاح)، وهو: أن تضع يدك على عينيك تنظر هل تراه. قوله: (طويل المراجعات)، أي: طالما رجع إلى العلماء النحارير، ثم رجع إليه التلامذة مدة مديدة. قوله: (قد رجع)، جملة منفصلة بيان قوله: "طويل المراجعات"، ويجوز أن تكون حالاً من المستتر في "طويل". قوله: (مسترسل الطبيعة)، المغرب: الإرسال خلاف التقييد. ومنه: الوصية بالمال المرسل يعني المطلق غير المقيد بصفة الثلث أو الربع. الجوهري: استرسل الشعر، أي: صار سبطاً. وبعير رسل، أي: سهل السير. الأساس: استرسل الشيء إذا تسلس، وفي مشية هذه الدابة استرسال: إذا لم يكن فيها سرعة، وناقة رسلة: فيها لين. والمناسب في هذا المقام أن يكون من السير السهل، واللين لاستدعاء المنقاد إياه، وسهولة السير لإرخاء الراكب الزمام، وانقيادها لانثناء زمامها. استعار

مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس دراكاً للمحة وإن لطف شانها، منتبهاً على الرمزة وإن خفي مكانها، لاكزاً جاسياً، ولا غليظاً جافياً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لجودة سماحة القريحة وسهولة تأتيها للمعاني الدقيقة سهولة سير الناقة بسبب إرخاء زمامها وانقيادها عند انثنائه. قوله: (وقادها)، تكميل لقوله: "مشتعل القريحة"؛ لئلا يتوهم أن قريحته كنار العرفج في أنها متقاصرة البقاء سريعة الاشتقال. وهما تكميل لقوله: "مسترسل الطبيعة"؛ لدفع توهم الجمودة. وإنما خصت القريحة بالاشتعال- وهي مستعارة من أول الماء المستنبط من البئر مكا مر- لإيهام الجمع بين الضدين. قال أبو العلاء: تبين فوقه ضحضاح ماء ... وتبصر فيه للنار اشتعالا قوله: (دراكاً)، فعالاً من الدرك، أي: كثير الدرك لدقيق المعاني. قوله: (منتبهاً)، نبهته على الشيء أوقفته، وانتبه مطاوع له، ومنتبهاً هو السماع. قوله: (على الرمزة)، وهي الإشارة والإيماء بالحاجب. قوله: (لاكزاً)، الكز: هو الانقباض واليبس. رجل كَزٌّ وقوم كُزٌّ بالضم. قوله: (جاسياً)، جسأت يده من العمل تجسأ جسئاً: صلبت، والاسم: الجسأة مثل الجرعة. وهي في الدواب: يبس المعطف. قوله: (جافياً)، الأساس: ثوب جاف: غليظ، وهو من جفاة العرب، المغرب: الجفاء غالب على أهل البدو، وهو الغلظ في العشرة، والخرق في المعاملة، وترك الرفق. وفي الكلام

متصرفاً ذا دربة بأساليب النظم والنثر، مرتاضاً غير ريض بتلقيح بنات الفكر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إيماء إلى اللف والنشر؛ فإن كل واحد من المنفيين تأكيد لكل من المثبتين السابقين. قوله: (ذا دربة بأساليب)، وهي جمع أسلوب، وهي الفنون، الأساس: سلكت أسلوب فلان: طريقته، وكلامه على أساليب حسنة. والدربة: التجربة والاعتياد. قوله: (النظم)، وهو الكلام الموزون المقفى مع قصده. وعلم الشعر مندوب إليه، عن عمر رضي الله عنه: عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فيه تفسير كتابكم. قوله: (مرتاضاً)، والمرتاض: الذي تمت رياضته، والريض: الذي يستحق الرياضة، ولم يرض بعد، وشارف أن يراض. الأساس: راض الدابة رياضة وارتاضت دابته. ومهر ريض: لم يقبل الرياضة ولم يمهر المشي، وناقة ريض: عسير. قوله: (بنات الفكر)، قالوا: هي المقدمات التي إذا ركبت تركيباً خاصاً أدت إلى المطلوب، والفكر: هو حركة النفس من المطالب إلى تلك الأوائل والرجوع منها إليها، و"التلقيح": عبارة عن ترتيب تلك المبادئ وجعلها مؤدية إلى المطالب. أو يقال: إن بنات

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفكر هي النتيجة، ومنه بنت الشفة للكلام. وفي قوله: "تلقيح بنات الفكر" دقيقة جليلة، وهي: أن الأصل في التلقيح بعد الاستعارة أن يطلق على استعمال الشخص القوة المفكرة بأن يرتب أموراً حاصلة في الذهن، ليتوصل بها إلى تحصيل ما ليس بحاصل، والمحصول منه بعد الترتيب يسمى نتيجة، وفعله تلقيحاً. والمصنف يسمي النتيجة بنات الفكر، وجعل التلقيح في النتيجة. وهذا المعنى موجود في الكنايات التلويحية. قال حسان: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل فإن النتيجة الحاصلة من مفهوم المشطور الأول أن الضيفان تغشاهم، وكلابهم لا تنبح، ثم نتيجته أنها لما شاهدت وجوهاً إثر وجوه استأنستهم، ثم نتيجته أن الممدوح مضياف، ثم أنه جواد. ثم اكتفى بهذا القدر من البيان فبنى اسم الفاعل وهو قوله: "مرتاضاً" من "افتعل" للتصرف لإظهار ما ينبغي حصوله بالتكرار، ثم أكد ذلك بقوله: "غير ريض"؛ لئلا يتوهم أن "مرتاضاً" من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه. ونحن نقتفي آثاره ونلقح بنات فكره؛ فإن قوله: "مرتاضاً غير ريض" من بنات فكره، ثم ما نكدح فيه هو التلقيح. وهذه المعاني الدقيقة المستنبط منها هي النتيجة، ثم تكرارنا هذه المعاني مرة بعد أخرى في تركيب غب تركيب هو الارتياض.

قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف يرتب)، مفعول "علم" على تأويل قد علم ما يجاب به كيف يرتب. واعلم أن معرفة ترتيب الكلام وترصيفه، ونظم التركيب وتأليفه من الأصول المعتبرة في فن البلاغة والفصاحة. قال صاحب "المفتاح": "وإنها لمحك البلاغة ومنتقد البصيرة". وقد قصر بعض الأئمة البلاغة على معرفة الفصل والوصل. ومن وقف على كتابنا المترجم بـ "التبيان" ظهر له من قسم المعاني في باب الفصل والوصل عنوانها، ومن قسم البيان في ترشيح الاستعارة وتجريدها، والمشاكلة فيها بيانها، ومن قسم البديع في الائتلاف والتكرير، والترقي، والتكميل والتتميم أنواع شجونها، ومن فن الفصاحة من باب أوصاف الألفاظ المفردة والمركبة أصناف شجونها. قوله: (طالما)، قال المطرزي: "ما" في "طالما" و"قلما" كافة بدليل عدم اقتضائهما الفاعل، وتهيئتهما لوقوع الفعل بعدهما، وحقهما أن تكتب موصولة بهما، كما في: ربما وإنما وأخواتهما؛ للمعنى الجامع بينهما، كذا قاله المحققون منهم ابن جني. وقال ابن درستويه: لا يجوز أن يوصل بـ "ما" شيء من الأفعال سوى نِعم وبِئس. والقول هو الأول، هذا إذا كانت كافة، فأما إذا كانت مصدرية فليس إلا الفصل. ومن الاتفاقات الحسنة أني دفعت إلى هذا المضيق ووقعت في هذا المقام الدحض،

ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلي في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب؛ أفاضوا في الاستحسان والتعجب، واستطيروا شوقاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسئلت عن موقع هذه الجملة في الكلام. فأجبت أنها داخلة في حيز المنصوبات: إما خبر مثلها، أو حال من ضمير "علِمَ" على التأويل، وأنها مستأنفة على أنها ترجيع للمعنى الذي اعتنى بشأنه مرة بعد مرة، وتطرية لذكر ما اهتم به كرة بعد كرَّة؛ وذلك أنه لما ذكر أولاً "قد برع في علمين مختصين بالقرآن" أتبعه بقوله: "وتمهل في ارتيادهما آونة" وحين ثنى بقوله: "بعد أن يكون أخذ من سائر العلوم بحظ" عقبه بقوله: "قد رجع زماناً ورُجع إليه" وكما قال: "ذا دربة بأساليب النظم" كر إلى قوله: "طالما دُفع إلى مضايقه" ولهذا السر قال صاحب "المفتاح": هذا العلم لا تلين عريكته ولا تنقاد قرونته ... إلى آخره. قوله: (العدلية)، قيل: إنما سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد؛ لأنهم نفوا صفات الله التي أثبتها الأشاعرة من القدماء؛ لئلا يلزم التعدد في القديم المقابل للتوحيد، وأوجبوا على الله تعالى الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية؛ لئلا يلزم الظلم عليه تعالى المقابل للعدل. قوله: (فأبرزت)، معطوف على "رجعوا" و"أفاضوا" جواب "كلما"، والجملة الشرطية ثاني مفعولي "رأيت"، وكلما لعموم الأوقات. و"ما" مع ما بعدها من الفعل في تأويل المصدر. قوله: (واستطيروا)، أي: استفزوا، قيل: استطير فلان فرحاً؛ إذا حلق به كأنه حُمِلَ على الطيران لخفته، قال: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا

إلى مصنف يضم أطرافاً من ذلك، حتى اجتمعوا إلي مقترحين أن أُملي عليهم في الكشف عن حقائق التنزيل، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أطرافاً)، مستعار من أطراف المدينة- وهي سوادها ونواحيها- للكلام المبسوط ذي الذيول والتتميمات، و"من ذلك" بيان "أطرافاً"، والمشار إليه ما دل عليه "أبرزت"، وهو المبرز المملي المكرر، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به ضم ذلك المبرز، وجمع ذلك المتفرق في مصنف. وثانيهما: أن يراد مصنف يحتوي جنس "ذلك" المبرز وأمثاله، فـ "ذلك" ها هنا مثل "تلك" في قوله تعالى: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111] قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة، أو أريد: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. هذا هو الوجه. قوله: (مقترحين)، الاقتراح: الاستدعاء والطلب. اقترحت عليه شيئاً: سألته من غير روية، الراغب: اقترحت الجمل: ابتدعت ركوبه، واقترحت كذا على فلان: ابتدعت التمني عليه، واقترحت بئراً: استخرجت [منه] ماءً قراحاً. قوله: (أن أملي عليهم)، قال في "المقدمة": أمليت عليه الكتاب. فالتقدير: أن أملي عليهم كتاباً في الكشف. ويجوز أن يكون من باب قوله: يجرح في عراقيبها نصلي، أي: أن

وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد. والذي حداني على الاستعفاء على علمي أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علي واجبة؛ لأن الخوض فيه كفرض العين؛ ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله، وركاكة رجاله، وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم، فضلاً أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أجعل الإملاء مظروفاً للكشف، ومكاناً له. المعنى: لا يتجاوز الإملاء الكشف، فالكشف هو المملى. قوله: (فاستعفيت)، أي: طلبت الإعفاء، عطف على "اجتمعوا"، والاستثناء في قوله: "إلا المراجعة" مفرغ. وفي "أبوا" معنى النفي. قوله: (لأن الخوض فيه)، إما علة "طلبوا"، أي: طلبوا مني المملى؛ لأن خوضي فيه كفرض العين، أو علة "واجبة". قوله: (رثاثة أحواله)، الأساس: رجل رث الهيئة، وكلام رث: غث سخيف. الجوهري: فلان في هيئته رثاثة، أي: بذاذة. قوله: (عدد هذا العلم)، الجوهري: العدد: جمع عدة. وهي الاستعداد. والعدة أيضاً: ما أعددته لحوادث الدهر من المال والسلاح. قوله: (فضلاً)، مصدر فعل محذوف، وهو حال من "هممهم" أي: تفضل فضلاً، أي: تجاوز تجاوزاً. يستعمل هذا في موضع يستبعد فيه الأدنى ويراد به استحالة ما فوقه؛ ولهذا يقع بين كلامين متغايرين معنى نحو "لكن".

فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة، وكان كلاماً مبسوطاً كثير السؤال والجواب، طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نُكَتِ هذا العلم، وأن يكون لهم مناراً ينتحونه، ومثالاً يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله، والإناخة بحرم الله، فتوجهت تلقاء مكة، وجدت في مجتازي بكل بلد من فيه مسكة من أهلها- وقليل ما هم- عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملى، متطلعين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأمليت)، عطف على "فأبوا"، و"الفواتح" هي الحروف المبسوطة في أوائل السور. واسم "كان" في قوله: "كان كلاماً مبسوطاً" ضمير يرجع إلى المملى، وفي "به" إلى قوله: "كلاماً مبسوطاً". "حاولت": طلبت. الجوهري: حاولت الشيء: أردته. قوله: (مُسكة)، أي: بقية، الجوهري: يقال: فيه مسكة من خير، أي: بقية. الأساس: ومن المجاز: أنه ذو مسكة وتماسك: ذو عقل. قوله: (متطلعين)، متشوفين. حال من الضمير العائد إلى "من" في "عطشى"، وهو مفعول ثان لـ "وجدت". فانظر إلى اختلاف العبارات من معبر واحد. فإن "من" في قوله: "من فيه مسكة" لما كان يستوي فيه الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث اعتبرها في كلامه أجمع. قال أولاً اعتباراً للفظ: "فيه"، ثم اعتداداً للمعنى: "هم"، ثم نظراً إلى الجمع بمعنى الجماعة "عطشى"، وإلى الجمع بمعنى العقلاء "متطلعين"؛ وذلك أن الذي عنده مسكة لما لم يوجد إلا واحد بعد واحد وحده، والقليل إذا تُطلع إلى كماله اعتد كثيراً، فكثرهم في قوله: "عطشى"، وجمعهم في "متطلعين". قوله: (إلى العثور)، الأساس: ومن المجاز قولك: عثر على كذا: اطلع عليه.

إلى إيناسه، حراصاً على اقتباسه، فهز ما رأيت من عطفي، وحرك الساكن من نشاطي، فلما حططت الرحل بمكة، إذا أنا بالشعبة السنية، من الدوحة الحسنية، الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول الله أبي الحسن علي بن حمزة بن وهاس- أدام الله مجده، وهو النكتة والشامة في بني الحسن، مع كثرة محاسنهم، وجموم مناقبهم- أعطش الناس كبداً، وألهبهم حشى، وأوفاهم رغبة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى إيناسه)، الإيناس: الإبصار. يقال: نست منه رشداً، أي: أبصرته، وهو أيضاً خلاف الإيحاش. قوله: (فهز)، الفاء جيء للسببية، و"ما" فاعل هز، والعائد محذوف، و"من" للتبعيض. قال المصنف في قوله تعالى: (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 265]: من للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفي، أي: حصل في بعض الارتياح؛ لأن هز العطف- وهو الجانب- كناية عن تحصيل السرور، أو عن التنبه عن الغفلة. قوله: (إذا أنا بالشعبة)، العامل في "إذا" فاجأت، و"الدوحة": الشجرة العظيمة ذات أغصان وشعب. "الأمير" بدل من: "الشعبة" أو عطف بيان، وهذا البيان يخرج الكلام عن الاستعارة إلى التشبيه، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: 187]. (الشامة): الخال. فلان نكتة في قومه وشامة، أي: علم ومشار إليه. قوله: (أعطش الناس)، حال من "الشعبة" على رأي من يجعل "أفعل كذا" نكرة؛ لأن الإضافة غير محضة، بدليل قولهم: مررت برجل أفضل الناس، أي: أفضل من الناس، على إثبات "من" كأنه قيل: من باقي الناس. ويؤيده مجيء "من" صريحاً فيما عطف عليه في قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة: 96]، والمسألة مذكورة في

حتى ذكر أنه كان يحدث نفسه- في مدة غيبتي عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشاده- بقطع الفيافي وطي المهامه، والوفادة علينا بخوارزم، ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض، فقلت: قد ضاقت على المستعفي الحيل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "اللباب". ويروى "أعطش" مرفوعاً خبر لمبتدأ محذوف. وكان أبو الحسن مشهوراً بابن وهاس السليماني، وهو فقيه مكة، مدحه المصنف بقوله: ولولا ابن وهاس وسابغ فضله ... رعيت هشيماً واستقيت مصردا قوله: (من المشاده)، وهي الشواغل، الأساس: وهو مشدوه، وهو في مشاده: في مشاغل. وقيل: قياس واحده مشدة، وهو غير مستعمل. والفيفاء: الصحراء الملساء، والجمع الفيافي، والمهامه: جمع مهمه، وهو المفاوز البعيدة. قوله: (والوفادة)، من الوفد، المغرب: الوفد: القوم يفدون على الملك يأتون في أمر فتح أو تهنئة، الأساس: ومن المجاز: الحاج وفد الله. قوله: (علينا)، اعلم أن في اختلاف الضمائر على سبيل الالتفات عدة نكات: عدل أولاً من التكلم عن نفسه وحده إلى الجماعة؛ لمناسبتها لفظ الوفادة، تعظيماً لنفسه، ثم رجع إلى الواحد في قوله: "على المستعفي"، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بالقصور والعجز، ثم طوى ذكر نفسه في "ففرغ" هضماً وانكساراً وتنبيهاً على أن الفراغ كان بتسديد الله وتوفيقه، لا من نفسه. وكذا في قوله: "يقدر" ليعم المقدرين؛ تفخيماً لهذا الأمر، ثم رجع عوده إلى بدئه في قوله: "أفيضت علي" ليخص نفسه بإفاضة البركات عليها. وفي قوله: "آيات هذا البيت"، و"بركات" اقتباس من قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) [آل عمران: 96 - 97].

وعيت به العلل، ورأيتني قد أخذت مني السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التي سمتها العرب دقاقة الرقاب، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعيت)، هو من العي، يقال: عييت بأمري، إذا لم تهتد لوجهه، أي: كثرة الأعذار أعيتني. قال في "المقدمة": يقال: عي في الأمر وعي به بمعنى، أي: عجز عنه. فقوله: "وعيت به العلل" الباء للتعدية. أي: أعيته العلل. ويجوز أن يكون التركيب من القلب المقبول لتضمنه معنى لطيفاً. والأصل أنه عيي بالعلل، لكن لما طالت العلل صارت كأنها متضجرة منه لكثرة تكررها عليه فأسند العي إليها مبالغة. قوله: (أخذت مني السن)، أي: نقصت الشيخوخة من قواي، كقوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس: 68] وحقيقته: أن العمر استوفى مني حقه. فنبه الشيخ به على الخطأ الذي عليه الناس؛ فإنهم يزعمون أن الإمداد في العمر زيادة، فقال: هو في الحقيقة نقصان. قوله: (وتقعقع)، التقعقع: صوت يبس القربة، أي: جف جلده. "ناهزت": أشرفت. قوله: (دقاقة الرقاب)، مثل يضرب في الهلاك. والعشر المشار إليه ما بين الستين إلى السبعين، روى الصغاني في "كشف الحجاب عن أحاديث الشهاب" في قسم الحسان عن أبي هريرة: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين"، وعنه: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين".

فأخذت في طريقة أخصر من الأولى، مع ضمان التكثير من الفوائد والفحص عن السرائر، ووفق الله وسدد، ففرغ منه في مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة! وما هي إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت علي من بركات هذا الحرم المعظم، أسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه منه سبباً ينجيني، ونوراً لي على الصراط يسعى بين يدي وبيميني، ونعم المسؤول. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مدة خلافة أبي بكر)، أي كان يقدر تمامه في مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهي ثلاثون سنة، ففرغ منه في مدة خلافة أقصرهم مدة، وهي سنتان وأربعة أشهر. وفيه تمليحان. قوله: (ما تعبت فيه منه سبباً ينجيني)، يجوز أن يكون الضمير في "فيه" عائداً إلى "ما"، وفي "منه" إلى الله تعالى، و"منه" حال من "سبباً" قدم للاهتمام، وأن يكون الضمير في "فيه" لله تعالى، أي: في طاعة الله تعالى وسبيله، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) [العنكبوت: 69]، وفي "منه" لـ "ما". المعنى: يجعل ما تعبت منه في سبيل الله سبباً لنجاتي. قوله: (بين يدي وبيميني)، أي: يسعى متقدماً علي وجنيباً لي. اقتبس من قوله تعالى: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) [الحديد: 12]، والله أعلم.

سورة فاتحة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم سورة فاتحة الكتاب مكية، وقيل: مكية ومدنية؛ لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى. وتسمى أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (سورة فاتحة الكتاب مكية، وقيل: مكية ومدنية)، الكواشي: والصحيح أنها مكية. والقاضي: وقد صح أنها مكية. لقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي) [الحجر: 87]، وهو مكي. قوله: (لاشتمالها على المعاني التي في القرآن)، أي: القرآن يفصل معنى ما أجملته "الفاتحة": ومنه سميت مكة أم القرى؛ لدحو الأرض من تحتها. قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: وسميت "الفاتحة": أم الكتاب؛ لأنها يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: وهي مشتملة على الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء. ويمكن أبسط من هذا بأن يقال: إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: أحدها: علم الأصول، ومعاقده: معرفة الله وصفاته، وإليها الإشارة بقوله: (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ومعرفة المعاد وهو المومى إليه بقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وثانيها: علم الفروع، وأسه العبادات، وهو المراد بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). والعبادات: بدنية ومالية، وهما مفتقرتان إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات، ولابد لها من الحكومات، فتمهدت الفروع على هذه الأصول. وثالثها: علم ما به يحصل الكمال، وهو علم الأخلاق. وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والالتجاء إلى جناب الفردانية، والسلوك لطريقه والاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية: السعداء منهم والأشقياء، وما يتصل بها من وعد محسنهم، ووعيد مسيئهم، وهو المراد بقوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). ونبين هذا المعنى مزيد كشف إذا شرعنا في تفسيرها على هذا النمط، فليكن على ذكر منك ليكون حاكماً فيصلاً.

من الثناء على الله بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد؛ وسورة الكنز، والوافية لذلك، وسورة الحمد، والمثاني؛ لأنها تثنى في كل ركعة، وسورة الصلاة؛ لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها، وسورة الشفاء، والشافية. وهي سبع آيات بالاتفاق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن التعبد بالأمر والنهي)، الأساس: تعبدني فلان واعتبدني: صيرني كالعبد له. وتعبد فلان: تنسك، وقعد في متعبده. وعدي بالباء لتضمنه معنى التكليف، أي: كلفه بالأمر والنهي تعبداً، أي: بالمأمور والمنهي. ويجوز أن تكون الباء كما في كتبت بالقلم، والأمر والنهي على حقيقتهما. قوله: (والوافية لذلك)، أي: تسمى الكنز والوافية للمعنى المذكور، وهو اشتماله على المعاني. قوله: (في كل ركعة)، أي: صلاة، قال الله تعالى: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43] وقيل: لأنها تثنى بسورة أخرى في كل ركعة. قوله: (لأنها تكون فاضلة أو مجزئة)، تعليل لوجه مناسبة اسم الصلاة للفاتحة، فإن الحنفية يقولون: إنما سميت سورة الصلاة؛ لكونها فاضلة، أي: قراءتها في الصلاة أولى من غيرها، والشافعية يعللون التسمية بأن الصلاة إنما تكون مجزئة بها.

إلا أن منهم من عد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس. [(بسم الله الرحمن الرحيم) 1] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أن منهم من عد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس)، قال في "المرشد": إن وقفت على (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) كان آخر آية على مذهب أهل المدينة والبصرة، وهو جائز، وليس بحسن؛ لأن "غير" مجروراً متعلق به على الوصفية أو البدلية، ومنصوباً على الحالية أو الاستثنائية، وجوازه إنما يكون بالخبر المروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف عند أواخر الآيات. وهذا آخر آية عند من ذكرت، فهذا وجه جوازه. تم كلامه. قلت: القول الثاني أولى؛ لأن (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لا يناسب وزانه وزان فواصل السورة، ولما روى محيي السنة في "شرح السنة" عن ابن جريج، أخبرني أبي، عن سعيد ابن جبير: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] هي أم القرآن. قال أبي: وقرأها علي سعيد بن جبير حتى ختمها، ثم قال: (بسم الله الرحمن الرحيم)، الآية السابعة، قال سعيد: قرأها علي ابن عباس كما قرأتها عليك ثم قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) الآية السابعة.

قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة، ولا من غيرها من السور، وإنا كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، كما بدئ بذكرها في كل أمر ذي بال، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، ومن تابعه؛ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قراء المدينة والبصرة والشام)، قال في "الشعلة": من مكة ابن كثير، ومن الكوفة عاصم والكسائي يعتقدون أن البسملة من "الفاتحة" ومن كل سورة، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومذهب الشافعي وعطاء والزهري وابن المبارك رضي الله عنهم، ومن الكوفة أيضاً حمزة يعتقد أنها من "الفاتحة" ليس إلا، والقرآن جميعه بمنزلة سورة واحدة، وهذا قول سعيد بن المسيب. ومن البصرة أبو عمرو، ومن المدينة نافع، ومن الشام ابن عامر على أنها ليست بآية من "الفاتحة" ولا من غيرها. وما في "النمل" بعض آية. وهذا قول ابن مسعود، ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم. قوله: (في كل أمر ذي بال)، روى الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح فيه بذكر الله فهو

ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وعليه الشافعي رضي الله عنه، وأصحابه؛ ولذلك يجهرون بها. وقالوا: قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن؛ ولذلك لم يثبتوا (آمين)، فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من تركها فقد ترك مئة وأربع عشرة آية من كتاب الله. فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبتر، أو قال: أقطع". النهاية: البال: الحال والشأن. وأمر ذو بال، أي: شريف يحتفل به ويهتم. والبال في غير هذا: القلب. وقيل: إنما قيل: ذو بال؛ لأنه من حيث إنه يشغل القلب كأنه ملكه، وكان صاحب بال. ويجوز أن يقال للأمر الخطير: ذو بال، على الاستعارة المكنية، ويجعل قوله: "أبتر" ترشيحاً لها على نحو (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [الكوثر: 3] كما جعله صلوات الله عليه ذا رأس وذروة سنام في قوله: "رأس الأمر الإسلام، وذروة سنامه الجهاد" الحديث أخرجه الترمذي. قوله: (من تركها فقد ترك مئة وأربع عشرة آية)، هذا القول إما للتغليب أو للتغليظ على التوبيخ، أو يدخل فيه ما في "النمل"؛ لأن النفي وارد على ترك ما تصدق عليه البسملة، أو على أن البسملة ينبغي أن تصدر بها سورة "براءة" أيضاً على اعتقاده. وينصره ما رويناه عن

قلت: بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ، أو أتلو؛ لأن الذي يتلو التسمية مقروء، كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي وأبي داود: سأل ابن عباس عثمان رضي الله عنهما: ما حملكم على أن لا تكتبوا "بسم الله الرحمن الرحيم" يعني في "البراءة". الحديث. قوله: (بمحذوف)، لأن حروف الجر لا تنفك عن متعلق؛ لأن وضعها لإفضاء معاني الأفعال إلى الأسماء، غير أنها تدل على مطلق الفعل، ولابد في تخصيصه من قرينة. وفيما نحن فيه القرينة ما يتبع التسمية، وهو قوله: (الحَمْدُ لِلَّهِ)، وهو مقروء متلو، فدل ذلك على أن المضمر: أقرأ أو أتلو، والتعليل في قوله: "لأن الذي يتلو" لتعيين المقدر. وكان الأنسب أن يقال: الذي يتلو التسمية القراءة؛ لأن الابتداء بالتسمية غنما يكون في الفعل الذي يريد أن يفعله المسمي، يدل عليه قوله: "كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله الرحمن الرحيم كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له"، والمضمر الفعل لا المفعول، كما أن تسمية الذابح إنما يتلوها الذابح لا المذبوح. قال: صاحب "الانتصاف": "الذي يقدره النحاة هو: أبتدئ فعل القراءة، والعام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صحة تقديره أولى: ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالاً بالكون والاستقرار حيثما وقع، ويؤثرونه لعمومه؟ وأيضاً: إن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض المقصود من التسمية، فإن الغرض منها أن تقع مبتدأ بها، فتقدير فعل الابتداء أوقع. وأما ظهور فعل القراءة في قوله تعالى: (اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ) فلأن الأهم ثمة القراءة؛ ولهذا قدم الفعل فيها على متعلقه، بخلاف البسملة فإن الأهم فيها الابتداء". وأجاب صاحب "الإنصاف" بأن قال: ما ذكره الزمخشري أصح؛ لأنه أخص وأمس بالمقصود، وأتم شمولاً، وأنه يقتضي أن التسمية واقعة على القراءة كلها مصاحبة لها، أو أن القراءة كلها بالله على المذهبين على ما يأتي بيانه، بخلاف تقدير "أبتدئ"؛ فإنه يقتضي مصاحبتها لأول القراءة. واستشهاده بتقدير النحاة غير مجد، لأنهم إنما فعلوه تمثيلاً وتقريباً، ولو قلت: زيد على الفرس، أو: زيد من العلماء، أو: زيد في البصرة- لقدرت: "راكب"، و"معدود"، و"مقيم"، وكان أمس من الاستقرار. وأما قوله: "إن الغرض أن تقع التسمية مبتدأ بها"، فنقول بموجبه، وأن ذلك يقع فعلاً بالبداءة بها لا بإضمار فعل الابتداء؛ لأن من صلى

فقال: بسم الله والبركات كان المعنى: بسم الله أحل وبسم الله أرتحل، وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله بـ (بسم الله) كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له. ونظيره في حذف متعلق الجار قوله عز وجل: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل: 12]، أي اذهب في تسع آيات، وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فبدأ بتكبيرة الإحرام، وبدأ في الوضوء بغسل وجهه، لا يحتاج في كونه بادئاً إلى إضمار: "بدأت بذلك"، لكنه مفتقر على بركة التسمية وشمولها لجميع فعله. قوله: (فقال: بسم الله)، عطف على "حل"، وجواب "إذا" قوله: "كان المعنى"، وقوله: "يبدأ في فعله" صفة "كل فاعل". قوله: (قول العرب)، ثم "قول الأعرابي" مشعر بالفرق، النهاية: الأعراب: ساكنو البادية الذين لا يقيمون [في] الأمصار، والعرب: اسم لهذا الجيل المعروف، ولا واحد له من لفظه، سواء أقام بالبادية أو المدن. المغرب: العربي: سكان المدن والقرى، والأعرابي: سكان البوادي. قوله: (للمعرس)، النهاية: أعرس الرجل فهو معرس: إذا دخل بامرأته عند بنائها. ولا يقال: عرس، كما تقول العامة. وفي "الجامع": الرفاء: حسن المعاشرة والموافقة، من رفو الثوب، يعنون بقولهم: بالرفاء والبنين: أن هذا النكاح ملتبس بهما، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من شعار الجاهلية.

بالرفاء والبنين، وقول الأعرابي: باليمن والبركة، بمعنى: أعرست أو نكحت، ومنه قوله: فقلت: إلى الطعام فقال منهم ... فريق: نحسد الإنس الطعاما فإن قلت: لم قدرت المحذوف متأخراً؟ قلت: لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به؛ لأنهم كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى أعرست أو نكحت)، إما متعلق بالأول، و"قول الأعرابي" معترض؛ لأن قوله: "باليمن والبركة" لفظ عام يستعمل في كل من يتوخى أمراً ما، أو متعلق بهما، وهو الأوجه. قوله: (فقلت إلى الطعام)، البيت. قبله: أتوا ناري فقلت منون أنتم؟ ... فقالوا الجن، قلت عموا ظلاما قال الأصمعي: عم صباحاً: معناه أنعم، وتقدير الفعل الماضي منه: وعم يعم، ولا ينطق به كمالا ينطق بماضي دع وذر. ذكره الأنباري. زعم الشاعر أنه أتاه الجن وهو عند ناره فحياهم ودعاهم إلى الطعام. حسده الشيء وحسده على الشيء، أي: إنما نحسدهم لأنهم يأكلون ونحن لا نأكل. "إلى الطعام" أي: هلموا. قوله: (لأن الأهم من الفعل)، وهو أتلو وأقرأ، "والمتعلق به" بكسر اللام في الموضعين. هو "بسم الله"، و"من" في: "من الفعل" للابتداء، أي: الأهم من "أقرأ" و"بسم الله" هو "بسم الله".

فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل، كما فعل في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص، والدليل عليه: قوله: (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود: 41]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معنى اختصاص اسم الله بالابتداء)، اعلم أن التقديم إما لمجرد الاهتمام، أو مع الاختصاص. ولابد في التخصيص من سبق حكم أخطأ فيه المخاطب، أو شك فيه ليرد إلى الصواب، أو إلى العلم، والاهتمام لا يستدعي ما يستدعيه التخصيص. فالمشركون إنما قدموا أسماء آلهتهم للاهتمام والتبرك لا للرد، لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25]، ولقولهم: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا) [يونس: 18]، ولما روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" الحديث. وأما المسلمون: فإنما يقدمون ليكون رداً لخطئهم، وقمعاً لأباطيلهم، فيكون من باب قصر الإفراد. وإلى هذا المعنى ينظر قوله: "فوجب أن يقصد الموحد معنى الاختصاص". هذا هو الوجه، لا ما قيل: أخص اسم الله بالافتتاح، وأخالفهم في اختصاصهم أسماء آلهتهم بالافتتاح. قوله: (والدليل عليه)، قيل: على أن التقديم لإرادة الاختصاص، وفيه إشكال وهو أن يقال: ما تعني بهذه الدلالة؟ إن عنيت أن دلالة التقديم في (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود: 41] على

فإن قلت: فقد قال: (اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] فقدم الفعل، قلت: هناك تقديم الفعل أوقع؛ لأنها أول سورة نزلت؛ فكان الأمر بالقراءة أهم. فإن قلت: ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم، على معنى: أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتداً به في الشرع واقعاً على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر" إلا كان فعلاً كلا فعل، جعل فعله مفعولاً (بسم الله)، كما يفعل الكتب بالقلم. والثاني: أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون: 20] على معنى: متبركاً باسم الله أقرأ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاختصاص لتقديم الخبر على المبتدأ، فالخصم إن ساعدك في دعواك أن "بسم الله" يفيد الاختصاص، فلا يجدي هذا شيئاً، وإن لم يساعدك عليه، لم يساعد على هذا أيضاً؛ لأن الكلام فيه كالكلام على الأول. وإنما قلنا: لتقديم الخبر على المبتدأ؛ لأن (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) بمعنى الإجراء والإرساء، ولا يقدم معمول المصدر عليه. والحق أن قوله: "والدليل عليه" أي: على تقدير تأخير المقدر وتقديم "بسم الله"، للاهتمام سواء كان على عامله أو على المبتدأ؛ لأن تقدير المقدر مؤخراً، وتقديم "بسم الله" للأهمية وهو الذي سيق الكلام لأجله، والدليل عليه قوله: "لم قدرت المحذوف متأخراً" يعني: قدمنا هذا الاسم للأهمية كما ورد في كلام السلف؛ يعني تقديم هذا الاسم سنة جارية من قديم الزمان، فإن الأمم السالفة درجت على هذا، فعلى هذا التقدير ورود السؤال الآتي ظاهر الارتباط بناءً على وجود الفاء فيه؛ لأنه علم من تتبع كلامه أن كل سؤال له بعد "فإن قلت" إذا تصدر بالفاء يكون مسبباً عما قبله، أي: لم زعمت أن تقديم هذا الاسم أهم مطلقاً، فقد جاء متأخراً في قوله: (اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1]؟ فأجاب بما اقتضاه المقام وهو أهمية القراءة. قوله: (متبركاً باسم الله أقرأ)، اعلم أن تنزيل هذا التقدير على معنى قوله: "فوجب أن

وكذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء والبنين، معناه: أعرست ملتبساً بالرفاء والبنين، وهذا الوجه أعرب وأحسن. فإن قلت: فكيف قال الله تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله بالابتداء" هو أن يقال: قراءتي مختصة بأن أتبرك باسم الله، وأخالف أعداء الله بتبركهم باسم آلهتهم. وأما احتمال التركيب- يعني: قراءتي مختصة بالتبرك باسم الله، لا بشيء آخر- فبمعزل عن المرام ومراحل من مقتضى المقام. وفي هذا التعلق بحث، لأن "أقرأ" حينئذ ليس بعامل في الجار والمجرور، فهو إما أن يحمل على اللغوي، فإن للحال تعلقاً بعاملها فسلك فيه طريق المشاكلة، أو على الإفضاء كما نص عليه في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [يونس: 27]، فيه إشارة على أن التبرك تابع لقراءتها وهو مطلوب بها، وسيجيء بيانه. قوله: (أعرب)، أي: أفصح؛ من قولهم: كلام عربي، أي: فصيح. وقيل: أبين، الأساس: عرب عن صاحبه تعريباً: إذا تكلم عنه واحتج له. قيل: إنما كان أعرب وأحسن؛ لأن باء المصاحبة تقتضي الاستدامة في قصد المتكلم. فمعناه كل حرف مما أتكلم به بعد التسمية أقدر فيه "بسم الله"، ففيه تعميم الفعل مع التسمية كما في قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون: 20] أي: تنبت ثمارها وفيها الدهن. ويناسبه ما روي في الحديث "تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم، سمى أو لم يسم" وقيل: إنما كان أحسن؛ لأن التبرك مؤذن برعاية حسن الأدب، واسم الإله بخلافه. وفيه نظر؛ لأن القارئ في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] إنما يطلب من الله تعالى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعونة والتوفيق على عبادته في جميع أحواله، ولا يلزم من كون الله معيناً ما تصور في القلم كأنه يقول: أقرأ باستظهاره ومكانته عند مسماه، وفي الحقيقة الله المعين في كل حرف. وقال صاحب "التقريب": إنما كان أحسن لتقدير الموجود حساً في الأول كالمعدوم. ولعل مراده منه قوله: "كان فعلاً كلا فعل" وفيه نظر؛ لأن جعل الموجود كالمعدوم بسبب الجري لا على المقتضى من محسنات الكلام ولطيف إشاراته. ومما يختص هذا الموضع من النكتة هي أن شبه اسم الله تعالى؛ بناءً على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس، وهو حصول الكتب بالقلم وعدم حصوله بعدمه، ثم أخرج مخرج الاستعارة على سبيل التبعية لوقوعها في الحرف. ألا ترى كيف صرح المصنف بذكر المؤمن، وضم إليه الاعتقاد والسنة؟ بل ينبغي أن يكون هذا كشفاً كما ورد: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" و"أن" في "وإلا كان" شرطية، أي: وإن لا يصدر بذكر اسم الله كان فعلاً كلا فعل. وقيل: المراد أن "بسم الله" موجود في القراءة، فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم، فلا يكون مقروءاً، والحال أنه مقروء. فيقال: إنا بينا ضعف التشبيه بالقلم. وقيل: إنما كان أعرب؛ لأن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى، وهذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقرب. وبيانه: أن الحال لبيان هيئة الفاعل هنا. وقد ثبت بالدليل أن لابد لكل فعل متقرب به إلى الله تعالى من إعانة الله وتسديده؛ فدل تقدير الحال على أمر زائد فيكون أبين. وينكشف هذا المعنى كشفاً تاماً في قولك: تنبت هذه الشجرة بالماء، إذا أردت بالباء الصلة كان المعنى: تنبت بواسطة الماء، وإذا أردت الحال رجع إلى أنها تنبت وهي ملتبسة بالماء، فأفاد أنها طرية رياً. والتحقيق أن يقال: على تقدير الحال أقرأ وأنا متبرك باسم الله، ومتوسل بمكانته عند الله لاستزادة التوفيق على إتمام ما شرعت فيه، وقبول ما تقربت به إليه. هذا كله يعطيه معنى التبرك المقدر لإرادة الحال. وقال: "البركة كثرة الخير وزيادته"، ولما كان مآل ذلك الوجه في الحقيقة إلى هذا، وكان أبين منه قال: "أعرب وأحسن". الراغب: قال بعض العلماء: إنما قال: "بسم الله" ولم يقل: بالله؛ لأنه لما استحب الاستعانة بالله في كل أمر يفتتح به من قراءة أو غيرها فبعضهم يذكره بقلبه، وبعضهم يريده ويقول بلسانه، ويكون أبلغ، فألفاظ الاستعانة نحو: أستعين بالله، واللهم أعني، ونحو ذلك. وذكر الله مستعمل في كل ذلك فصار لفظه "بسم الله" مستغنى به عن جميعها وقائماً مقامها. ولو قال: بالله لتوهم الاستعانة بهذه اللفظة فقط، والاسم ها هنا موضوع موضع المصدر، أي: التسمية. فالقائل إذا قال: بالله أبتدئ؛ فمعناه بهذا الاسم، وإذا قال: بسم الله؛ فإن المقصود به المسمى. وما ذكر من الخلاف في أن الاسم هل هو المسمى أو غيره؟ فكلاهما صحيح؛ فإن من قال: إن الاسم هو زيد أو عمرو، وهو المسمى، نظر إلى قولهم: رأيت زيداً، وزيد رجل صالح. فإن زيداً ها هنا عبارة عن المسمى، والرؤية به تعلقت.

متبركاً باسم الله أقرأ؟ قلت: هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره، وكذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى آخره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه: تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه، ويمجدونه، ويعظمونه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن قال: هو غير المسمى؛ نظر إلى نحو قولهم: سميت ابني زيداً، وزيد اسم حسن، فإنه عنى أني سميت ابني بهذا اللفظ، وأن هذا اللفظ محكوم عليه بالحسن. فإذا قولك: زيد حسن، لفظ مشترك يصح أن يعنى به أن هذا اللفظ حسن، وأن يعنى به أن المسمى حسن. وأما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال: النار، احترق فمه فهو بعيد؛ لأن العاقل لا يقول: إن زيداً الذي هو (زاي وياء ودال) هو الشخص. قوله: (هذا مقول على ألسنة العباد)، قال المصنف: مثاله ما إذا أمرك إنسان أن تكتب رسالة من جهته إلى غيره؛ فإنك تكتب: كتبت هذه الأحرف، وإنما تفعل هذا على لسان آمرك. الراغب: إن قيل: لِمَ لَم يقل: الحمدُ لي؟ قيل: لأن ذلك تعليم منه لعباده، كأنه قال: قولوا: بسم الله والحمد لله. وقيل: قل غير مقدر؛ لأن الله حمد نفسه ليقتدى به، أو لأن أرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه. قال: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: كل ما أثنى الله على نفسه، فهو في الحقيقة إظهاره بفعله؛ فحمده لنفسه هو بث آلائه وإظهار نعمائه لمحكمات أفعاله، وعلى ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ... ) [آل عمران: 18]، فإن شهادته لنفسه إحداثه الكائنات دالة على وحدانيته، ناطقة بالشهادة له. قال ذو النون: لما شهد الله لنفسه أنطق كل شيء بشهادته (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء: 44]. فإن قلت: كيف استحسن حمده لنفسه، وقد عُلم في الشاهد استقباحه! حتى قيل للحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الرجل نفسه. وأجيب: إنما قبح ذلك من الإنسان، لأن النقص فيه ظاهر، ولو لم يكن فيه إلا الحاجة إلى الكمال، وأن أثر الصنعة فيه ظاهر لكفى به نقصاً. ومن خفي عليه نقصه فقد خُدع عليه عقله. وقد يستحسن منه عند تنبيه المخاطب على ما خفي عليه من حاله كقول المعلم للمتعلم: اسمع مني، فإنك لا تجد مثلي. وعلى ذلك قول يوسف عليه السلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]. وسئل بعض المحققين عن شيء لم يقبح إطلاقه

فإن قلت: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو: كاف التشبيه، ولام الابتداء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الله تعالى مع ورود الشرع، فأنشد: ويقبح من سواك الشيء عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا قوله: (حروف المعاني)، اعلم أن الحروف تنقسم إلى: حروف معان وهي التي تفيد معنى نحو الجارة والعاطفة وسين الاستقبال وغيرها، سميت بها للمعنى المختص بها، وحروف مبان وهي التي تبتني الكلمات كزاي زيد وراء رجل. قوله: (أن تبنى على الفتحة)، قال الزجاج: أصل الحروف التي يتكلم بها وهي على حرف واحد الفتح أبداً إلا أن تجيء علة تزيله؛ لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإعراب، فيقع مبتدأ في الكلام، ولا يبتدأ بساكن، فاختير له الفتح لأنه أخف الحركات. والباء مكسورة أبداً، لأنه لا معنى له إلا الخفض، فوجب أن يكون لفظه مكسوراً ليفصل بين ما يجر وهو اسم نحو كاف كزيد، وبين ما يجر وهو حرف.

وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر؟ وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية، والجر، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة؛ لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن؛ إذ كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن؛ لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة، ولوضعها على غاية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما بال لام الإضافة)، قال المصنف: حروف الجر كلها تسمى حروف الإضافة؛ لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء. وإنما بنيت لام الإضافة على الكسر إذا دخلت على المظهر ليتميز عن لام الابتداء إذا دخلت فيه، وأما إذا دخلت على المضمر فلا بأس؛ لعدم الإلباس؛ لأن لام الابتداء لا تدخل إلا على الضمير المرفوع نحو: لأنت، ولم يعكسوا ليكون بناؤها على وفق عملها، وأما باء الإضافة فبنيت على الكسر؛ لكونها لا تنفك عن الجر المناسب للكسرة، وعن الحرفية المقتضية لعدم الحركة. قيل: ينتقض بواو القسم؛ فإنها لازمة الحرفية والجر وبنيت على الفتحة. وأجيب: أن هذه "الواو" إنما تجيء لنيابتها عن الفعل وعن هذه الباء على ما صرح به في "والشمس" فأجريت على الأصل. قوله: (الأسماء العشرة)، وهي ابن وابنة وابنُم- بمعنى ابن- واسم واست واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وايمن الله. وأما أيم الله فمحذوف منها نون ايمن. قوله: (لسلامة لغتهم)، هذا يشعر أن الابتداء بالساكن ممكن وموجود في لغة لكنه مستكره، وبه صرح صاحب "المفتاح" في الصرف، قال: دعوى امتناع الابتداء بالساكن

من الإحكام والرصانة، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء، ومنهم من لم يزدها، واستغنى عنها بتحريك الساكن، فقال: سِمٌ وسُم. قال: باسم الذي في كل سورة سمُه وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز؛ كيد ودم، وأصله سمو، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيما سوى حروف المد واللين ممنوعة، اللهم إلا إذا حكيت عن لسانك، لكن ذلك غير مجد عليك. قوله: (والرصانة)، وهي: الإحكام، الأساس: رصن البناء رصانة. ومن المجاز: له رأي رصين وكلام متين. قوله: (باسم الذي في كل سورة سمُه)، قبله: أرسل فيها بازلاً يقرمه ... فهو بها ينحو طريقاً يعلمه يقرمه: يتركه عن الركوب والعمل به ويدعه للفحل، الجوهري: المقرم: البعير المكرم الذي لا يُحمل عليه ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة، والضمير المستتر في "أرسل" للراعي، والبارز في "فيها" للإبل، وباسم يتعلق بـ "أرسل". قوله: (وأصله سمو)، فحذف الواو تخفيفاً لكثرة الاستعمال ولتعاقب الحركات، وخفف السين وحرك الميم، واجتلبت ألف الوصل ليمكن الابتداء. فقولك: اسم ليس فيه لام، فإذا جمعت وصغرت رددتها. وقال الكوفيون: أصله وسم وهو العلامة. وقال الزجاج: هذا غلط لأنا لا نعرف شيئاً دخلت عليه ألف الوصل فيما حذفت فاء فعله نحو عدة وزنة،

بدليل تصريفه، كأسماء، وسمي، وسميت، واشتقاقه من السمو؛ لأن التسمية تنويه بالمسمى، وإشادة بذكره، ومنه قيل للقب النبز، من النبز بمعنى النبر؛ وهو رفع الصوت. والنبز: قشر النخلة الأعلى. فإن قلت: فمل حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله: (بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1]؟ قلت: قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط؛ لكثرة الاستعمال، وقالوا: طولت الباء تعويضاً من طرح الألف. وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه قال لكاتبه: طول الباء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلو كان من الوسم لكان تصغيره وسيماً، كما أن تصغير عدة وعيدة. قوله: (تنويه)، من ناه الشيء ينوه: إذا ارتفع، فهو نائه. ونوهته تنويهاً إذا رفعته. والإشادة: رفع الصوت بالشيء، وأشاد بذكره: رفع قدره. قوله: (ومنه)، أي: من هذا القبيل، وهو أن التسمية تنويه بالمسمى. و"النبر" الرفعة: ومنه المنبر، لتنويه اسم الله عليه، أول مرتبة من استعلاه. قوله: (في حذفها حكم الدرج)، والمعنى: أن لهذه الألف حكمين: حكماً في الدرج وذلك إسقاطها في اللفظ، وحكماً في ابتداء الكلام وذلك إثباتها لفظاً. وقد أتبعوا في "بسم الله" خاصة حكم الخط حكم الدرج؛ حيث أسقطوها في الخط، وخالفوا القياس الذي هو إتباعها لحكم الابتداء لكثرة الاستعمال. قال أبو البقاء: "فلو قلت:

وأظهر السنات، ودور الميم. و(الله) أصله: الإله، قال: معاذ الإله أن تكون كظبية ونظيره: الناس، أصله: الأناس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاسم الله أو: باسم ربك؛ أثبت الألف. قوله: (السينات)، ويروى: "السنات"، وهو أصح دراية، والأول رواية، جمع سنة وهي رأس القلم وسنة السين. قوله: (معاذ الإله أن تكون كظبية)، تمامه: ولا دمية ولا عقيلة ربرب "معاذ الإله": مبالغة في الاعتصام بالله من تشبيهها بالظبية، وأصله: أعوذ بالله معاذاً. والدمية: الصنم والصورة المنقوشة. وعقيلة كل شيء: أكرمه. والربرب: سرب من بقر الوحش. وصف المحبوبة بهذه الأوصاف أو تصور أنها كذلك ثم تبين له أنها أحسن؛ فاستعاذ بالله من الخطأ. قوله: (ونظيره)، أي: ونظير لفظة "الله" في حذف الهمزة فقط: الناس؛ إذ ليس في الناس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعويض، كما ذكر أبو علي في "الإغفال": "فإن قلت: أليس قد قال سيبويه: ومثل ذلك أناس، فإذا أدخلت الألف واللام قلت: الناس؟ قلت: معنى قول سيبويه: ومثل ذلك أناس، أي: مثله في حذف الهمزة في حال دخول الألف واللام عليه، لا أنه بدل من المحذوف كما كان في اسمه تعالى بدلاً. ويقوي ذلك ما أنشده أبو العباس عن أبي عثمان: إن المنايا يطلعـ ... ـن على الأناس الآمنينا فلو كان عوضاً لم يكن ليجتمع مع المعوض منه"، وفيه بحث. قال المالكي: قول من زعم أن اللام في "الله" عوض عن الهمزة باطل؛ لحذفهما معاً في "لاه أبوك" بمعنى: لله أبوك، والعوض لا يحذف. جوابه: ما وقع في كلام أبي علي: أنهم يحذفون من نفس الكلمة في نحو: لم يك، ولا أدر، إذا كان في الذي أبقى دليل على ما ألقى سيجيء بعيد هذا تمامه في لاه أبوك.

قال: إن المنايا يطلعـ ... ـن على الأناس الآمنينا فحذفت الهمزة، وعوض منها حرف التعريف؛ ولذلك قيل في النداء: يا ألله بالقطع، كما يقال: يا إله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك قيل في النداء: يا ألله)، أي: ولأجل أن حرف التعريف عوض عن الهمزة استجيز قطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في النداء. ويُعلم منه: أنه لو لم يكن عوضاً، وكان حذفاً قياسياً كما نقله أبو البقاء، أصله الإله فألقيت حركة الهمزة على لام التعريف، ثم سكنت وأدغمت في اللام الثانية- لم يجز القطع. وهذا الذي اختاره المصنف أحد قولي سيبويه في هذا الاسم على ما نقل عنه أبو علي في "الإغفال" قال: أصله إله، ففاء الكلمة همزة، وعينها لام، واللام هاء، والألف ألف فعال، فحذفت الفاء لا على التخفيف القياسي. قال أبو علي: فإن قيل: هلا حمله على الحذف القياسي؛ إذ تقدير ذلك سائغ فيه غير ممتنع، والحمل عليه أولى؟ قيل: فلو كان طرح الهمزة على القياس دون الحذف لما لزم أن يكون فيها عوض؛ لأن المحذوف القياسي ملقى من اللفظ مبقى في النية، كما تقول في "جيل" إذا خففته: جيل، ولو كانت محذوفة في التقدير كما أنها محذوفة في اللفظ للزم قلب الياء ألفاً، فلما كانت الياء في نية السكون لم تقلب كما قلبت في "ناب".

والإله: من أسماء الأجناس، كالرجل، والفرس، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قيل: ما بال الهمزة قطعت في النداء ووصلت في غيره؟ قلت: قال صاحب "الضوء": إنما تجردت للتعويض في النداء؛ لأن التعريف الندائي أغنى عن تعريفها، فجرت مجرى الهمزة الأصلية، فقطعت. وفي غير النداء لما لم ينخلع عنه معنى التعريف رأساً وصلوا الهمزة. وقال المصنف في "مريم": أخلصت الهمزة في "يا ألله" للتعويض واضمحل عنها التعريف. وقلت: إنهم كثيراً ما يجردون الحرف عن معناه المطابقي مستعملين في معناه الالتزامي أو التضمني نحو الهمزة في قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) [البقرة: 6] عزلت عن الاستفهام وجردت لمعنى الاستواء، و"الواو" في قوله تعالى: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف: 22] تجردت لمعنى الجمعية فقط، وسلب عنها معنى المغايرة. قوله: (والإله من أسماء الأجناس ... ثم غلب على المعبود بحق)، وفي بعض "شروح المفصل": الأعلام متى غلبت باللام فلابد من أن تكون مسبوقة بالجنسية، ثم الجنسية إما أن تكون بالنظر إلى الدليل والأمارة أو إلى استعمال العرب. أما معنى الاستعمال فكما في النجم والصعق. وأما الدليل فهو أن الدبران والعيوق والسماك، وإن لم تكن أجناساً بالاستعمال لكنها بالنظر إلى أنها أوزان مخصوصة وحروف مخصوصة، ومعنى كل واحد منها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معلوم، كأن كل واحد منها جنس في الأصل بالنظر إلى الدليل. ونحو هذا المعنى في "التخمير" وفيه أيضاً: "أما الدبران فهو فعلان من الدبور، وأما العيوق فهو فيعول بمعنى فاعل من العوق، وأما السماك فمن السموك؛ فعلى هذا: الإله من القسم الثاني. وأما الله، والرحمن؛ فمن القسم الأول. وبيان ذلك: أن الإله من حيث إنه كان اسماً لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق، هو مثل النجم والكتاب. وأما الله من حيث إن المعبود يجب أن يكون خالقاً رازقاً مدبراً مقتدراً إلى ما لا نهاية له، واسم الله جامع لهذه المعاني، ومن لم يجتمع فيه كل ذلك لم يستحق أن يسمى به، فتكون الغلبة بحسب الدليل. وكذا الرحمن صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمى رحماناً، وليس كذلك إلا الله. فهو بهذا الاعتبار من الصفات الغالبة. والحاصل أن الإله من حيث الإطلاق والاستعمال من غير اعتبار المعنى من قبيل النجم ومن حيث اعتبار المعنى والاستحقاق من قبيل العيوق والدبران. ثم فرق بين الصيغتين؛ لاقتران المعنيين بالتعويض وتركه. وروى الأزهري في تفسير "الله" عن أبي الهيثم أنه قال: في قوله: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا الله، قال: ولا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عُبِد. وقال المالكي: إن الله علم للإله بالحق جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما عُلِمَ وما لم يُعْلم.

كما أن النجم اسم لكل كوكب، ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط، والبيت على الكعبة، والكتاب على "كتاب" سيبويه. وأما "الله" بحذف الهمزة، فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره، ومن هذا الاسم اشتق: تأله، وأله، واستأله، كما قيل: استنوق، واستحجر، في الاشتقاق من الناقة والحجر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "الحقائق" للسلمي: الأسماء كلها داخلة في هذا الاسم خارجة منه، تخرج منه معاني الأسماء كلها، ولا يخرج هو من غيره؛ وذلك أن الله تفرد بهذا الاسم وشارك غيره في اشتقاق أسمائه. وقال الزجاج: إن فعلان من أبنيته ما يبالغ في وصفه، وغضبان معناه الممتلئ غضباً، فالرحمن: الذي وسعت رحمته كل شيء؛ ولهذا لا يجوز أن يقال لغير الله: رحمن. قوله: (وأما "الله" بحذف الهمزة فمختص)، قال في "مريم" في قوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم: 65] أي: لم يسم شيء بالله قط. وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله، وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه. قوله: (ومن هذا الاسم اشتق: تأله)، قال أبو زيد: تأله الرجل إذا تنسك. قال أبو علي: كأنه ذو العبادة، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الله الذي هو اسم نحو: استحجر الطين واستنوق الجمل. المعنى: يفعل الأفعال المقربة إلى الله تعالى المستحق بها الثواب.

فإن قلت: أسمٌ هو أم صفة؟ قلت: بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه ولا تصف به؟ لا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، وتقول: إله واحد صمد، كما تقول: رجل كريم خير. وأيضاً فإن صفاته تعالى لابد لها من موصوف تجري عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها، وهذا محال. فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم: أله؛ إذا تحير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا محال)، قال في "التقريب": في استحالة اللازم وفي الملازمة نظر، والجواب عن نظر الملازمة: أن المراد بالصفات جميع ما نُقل عن الشارع من الأسامي، فلو جعلها بأسرها صفات بقيت تلك الصفات وليس لها اسم تجري عليه لفظاً ولا تقديراً. هذا صحيح؛ نعم، لو قال: غير جارية على مسمى، كان عليه الكلام. وعن استحالة اللازم: أن استعمال الألفاظ التي هي الصفات على طريقة الإجراء على الغير من غير أن يكون لها موصوف لفظاً أو تقديراً مما يستلزم الخروج عن استعمال العرب، ولا يعني بالمحال إلا هذا. قال الجنزي: إذا لم يكن الله اسماً وكان صفة، وسائر أسمائه صفات لم يكن للباري تعالى اسم، ولم تُبق العرب شيئاً من الأشياء- أي: المعتبرة إلا سمته- ولم تسم خالق الأشياء وبارئها ومبدعها. هذا محال، وهو اختيار الخليل ومذهب أبي زيد البلخي.

ومن أخواته: دله وعله، ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود، وتدهش الفطن؛ ولذلك كثر الضلال، وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح. فإن قلت: هل تفخم لامه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال المالكي: ولكون الله اسم عَلَم وليس بصفة قيل: في كل اسم من أسمائه تعالى سواه اسم من أسماء الله تعالى. ومما يواخيه سؤال ابن خالويه أبا علي: كم للسيف اسماً؟ فقال: اسم واحد فقال ابن خالويه: بل له أسماء، وأخذ يعددها؛ نحو: الحُسام، والمخذم، والقضيب، والمقضب، إلى غير ذلك، فقال أبو علي: هذه كلها صفات. قوله: (ومن أخواته دله وعله)، معترضة، وفائدتها: أن الاشتقاق بينه وبين "أله"كان صغيراً، وبينه وبين "علِهَ" كان من الأكبر؛ لجامع قرب المخرج بين الهمزة والعين، وإذا أخذ مع "دله" لجامع النوعية بين الهمزة والدال- وهو كونهما من المجهورة والشديدة- كان أيضاً من الأكبر. قوله: (ينتظمهما معنى التحير والدهشة)، يعني: أن تعريف الاشتقاق صادق عليه من حيث القياس، وهو كون أحد اللفظين مشاركاً للآخر في المعنى والتركيب. فدل هذا الجواب على أنه غير جازم في الاشتقاق؛ وذلك أنه حين سأل نفسه: أسمٌ هو أو صفة؟ أجاب بقوله: بل اسمٌ، وكان يكفيه أن يقول: اسمٌ، لكن لما اعتقد أن غيره محال أضرب عن تصور الوصفية. وها هنا كان حق الجواب أن يقول: نعم، أو لا، فعل إلى تلك العبارة؛ ليؤذن باختلاف الأئمة؛ فقد نقل الأزهري: أن سيبويه قال: سألت الخليل عن هذا الاسم، فقال: الأصل: الإله، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة. وقال مرة أخرى: الأصل لاه، فأدخلت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الألف، واللام لازمة، لم يرد الخليل على هذا، ولم يفسر مشتقه الذي اشتق منه. وقال بعضهم: أسامي الرب صفات كلها إلا الله فإنه اسم علم، وسائر أهل اللغة على أنه مشتق. وقال أبو علي: روي عن ابن عباس في قوله: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: 127]: أنه قال: (وَآلِهَتَكَ) أي: عبادتك، فقوله: الإله كأنه ذو العبادة، أي: إليه بها نتوجه. ونظيره في أنه في الأصل اسم حدث ثم جرى صفة للقديم سبحانه وتعالى: السلام، من سلم، والمعنى: ذو السلام، فأخر الحال عنه، كقولك: هو الله معبوداً، وعلق الظرف به نحو: هو الله في السموات، كما يجوز ذلك في المصادر. قلت: ذلك لا يلزم؛ ألا ترى أنهم قد أجروا أشياء من المصدر واسم الفاعل مجرى الأسماء، نحو: لله درك، وزيد صاحب عمرو، فلم يعملوها عمل الفعل؟ ! وقال المالكي: الله علم للإله الحق، واللام قارنت وضعه، وليس أصله الإله. وقال القاضي: لو كان "الله" وصفاً لم يكن قول: "لا إله إلا الله" توحيداً مثل "لا إله إلا الرحمن" فإنه لا يمنع الشركة. وكُتب في "حاشيته": الرحمن وإن خص بالباري تعالى إلا أن ذلك قد حصل بدليل منفصل؛ لأنه من حيث اللغة: الذي يبالغ في الرحمة. وقال أيضاً: والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في

قلت: نعم قد ذكر الزجاج أن تفخيمها سنة، وعلى ذلك العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر. و(الرحمن): فعلان من رحم، كغضبان وسكران من غضب وسكر، وكذلك (الرحيم) فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غيره، وصار كالعلم مثل الثريا أجري مجراه في إجراء الوصف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه؛ لأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ) [الأنعام: 3] معنى صحيحاً. وفيه نظر، وسيجيء في سورة الأنعام. قوله: (نعم)، قيل: في هذا الجواب نظر لإطلاقه؛ فإن لامه إذا فُتح ما قبل الكلمة أو ضم تفخم وإذا كسر ترقق. وقلت: المقصود من السؤال تفخيم هذا الاسم مطلقاً لا بيان مواقع تفخيمه وترقيقه. وفيه فائدة تفخيم هذا الاسم وتعظيمه؛ ولهذا قرنه بقوله: "وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر" ثم تصريحه بالدليل كتصريح الدليل في قوله: "والدليل عليه قوله: " (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود: 41] " يعني لم يزل الأقدمون يقدمون هذا الاسم اهتماماً، ولم يزالوا يفخمونه تعظيماً". قوله: (ورثوه كابراً عن كابر)، الأساس: هو كبر قومه: أكبرهم في السن والرئاسة؛ أو في النسب. وأنشد العتبي: نسبٌ توارث كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب

وفي (الرَّحْمَنِ) من المبالغة ما ليس في (الرَّحِيمِ)؛ ولذلك قالوا: رحمنُ الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. ويقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى. وقال الزجاج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي (الرَّحْمَنِ) من المبالغة ما ليس في (الرَّحِيمِ)، قال الزجاج: الرحمن اسم الله خاصة، لا يقال لغيره: رحمن، ومعناه المبالغ في الرحمة، وفعلان من بناء المبالغة تقول للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. والرحيم: اسم الفاعل من رحم فهو رحيم، وهو أيضاً للمبالغة. وقيل: الرحمن أبعد جرياً من الفعل، والرحيم أقرب إلى مضارعه في عدد الحروف والحركات، فما كان أبعد من الفعل كان أولى. قوله: (ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا)، المطلع: الرحمن: الذي كثرت آثار رحمته، والرحيم: الذي قويت آثار رحمته؛ ففي الدنيا يصل رزقه إلى كل مؤمن وكافر وحيوان ونبات، وفي الآخرة لا يصل إلا إلى المؤمنين، غير أن الواصل في الدنيا كثير الكمية قليل الكيفية؛ لقلة الدنيا وسرعة انصرامها وكثرة شوائبها، وفي الآخرة قليل الكمية بالإضافة إلى من يصل إليها وهم الذين ماتوا على الإسلام، لكنها كثيرة الكيفية لوجود الملك المؤبد والنعيم المخلد. قوله: (ويقولون: إن الزيادة)، عطف على قوله: "قالوا: رحمن الدنيا"، واستدل على أن "الرحمن" أبلغ من "الرحيم" بوجهين: أحدهما: نقلي؛ وهو قوله: "قالوا" إلى آخره، والآخر: قياسي، وهو قوله: "يقولون"، وخالف بين الصيغتين ماضياً ومضارعاً ليؤذن بأن القول الثاني هو الدائر بين الأدباء، والأول قول قديم مأثور كقوله تعالى: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87]. قوله: (وقال الزجاج)، عطف على "يقولون" على سبيل البيان. وفيه دلالة على إرادة الاستمرار فيه. ثم نقول: إن المبالغة في الرحمن إما بحسب الكمية؛ فهو المراد من الاستشهاد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالنقل، وإما بحسب الكيفية؛ فهو المراد من الاستشهاد بالغضبان. والمختار الثاني، أي: المبالغة بحسب الكيفية. يدل عليه قوله: "لما قال الرحمن فتناول جلائل النعم وعظائمها، أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها" ونحوه قال في قوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [ق: 29]: هو من قولك: ظالم لعبده، وظلام لعبيده، وأن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاماً، وهذا هو المراد بالاستشهاد. قال صاحب "الانتصاف": تعليل الزمخشري بقوله: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا"، بأن الرحمن أبلغ- ضعيف؛ غاية ما فيه: أن الرحمة المستفادة من الرحمن أعم من الرحمة المستفادة من الرحيم. والعموم بالدلالة على قصور المبالغة أولى منه بالدلالة على غايتها، ألا ترى أن ضارباً لما كان أعم من ضراب كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا يلزم من خصوص رحيم أن يكون أقل مبالغة من رحمن. أجاب صاحب "الإنصاف": أما أن الخصوص لا يلزم منه قلة المبالغة فحسن، وأما دعواه أن الخصوص دال على المبالغة والعموم على قصورها، واستشهاده بضراب وضارب فغير صحيح؛ لأن المبالغة في ضراب لم تكن لأجل خصوصه بل لدلالته على التكرار، ألا ترى أنا لو وضعنا لمن حصل منه الضرب اسم فاعل يخصه لم يكن أبلغ من ضارب مع أن ضارباً أعم منه؟ ! ولما انقسم المطر إلى: وابل، وطل، وجود؛ لم يكن الوابل والطل والجود أبلغ من المطر؛ لكونها أخص.

في الغضبان: هو الممتلئ غضباً. ومما طن على أذني من ملح العرب: أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشقدف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي. فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى. فقال: هذا اسمه الشقنداف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضاً: إن قوله: "الزيادة في البناء لزيادة المعنى" منقوض بحذر وهو أبلغ من حاذر. وأجاب عنه صاحب "الإنصاف" من وجهين: أحدهما: الحكم بالغالب. وثانيهما: أن حذراً ما وقعت المبالغة فيه لنقص الحرف، بل لإلحاقه بالأمور الجلية كالشره والنهم والفطن. والنقص إنما يكون مع اتحاد العلة، والعلة ها هنا ليست متحدة، والدعوى أن البناء على الزيادة يدل على المبالغة، ولم ندع انحصار المبالغة في ذلك. قلت: والصحيح أن استفادة المبالغة من (الرحمن) في الوجه الأول لأجل أنه مشارك لـ (الرحيم) في الآخرة بحسب الكيفية، وله مزيد اختصاص بحسب الكمية في الدنيا على تعليل صاحب "المطلع" لا تقديره. قوله: "وقال الزجاج"، قال الأنباري في "نزهة الألباء": هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، كان من أكابر أهل العربية، حسن العقيدة، جميل الطريقة، صنف مصنفات كثيرة منها كتاب "المعاني في القرآن"، وكان صاحب اختيار في علم النحو والعروض. وقال غيره: أخذ العلم من المبرد، وأخذ منه أبو علي. والذي يدل على جلالته أن المصنف في كتابه هذا قد أخذ منه ما لا يحصى كثرة، وقلما ترى تفسيراً يخلو من كلامه. قوله: (المحمل)، الجوهري: المحمل: واحد محامل الحاج، بفتح الميم الأولى وكسر الثانية.

فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، وهو من الصفات الغالبة، كالديبران، والعيوق، والصعق، لم يستعمل في غير الله عز وجل، كما أن (الله) من الأسماء الغالبة. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم فيه: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت: كيف تقول: الله رحمن، أتصرفه أم لا؟ قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعني نحو عطشان وغرثان وسكران؛ فلا أصرفه ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يستعمل في غير الله كما أن (الله) من الأسماء الغالبة)، هذا النص يوقفك على صحة ما تكلمنا في الأسماء الغالبة، والصفات من "الله" و"الرحمن" غلبا بحسب الدليل لا الاستعمال، فإذن ليس في كلامه تناقض كما ظن. قوله: (وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا)، أوله: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً الجوهري: اليمامة اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، واليمامة بلاد كان اسمها الجو فسميت باسم هذه الجارية لكثرة ما أضيف إليها. قوله: (فباب من تعنتهم)، النهاية: العنت: المشقة والفساد والهلاك والإثم والغلط والخطأ. الأساس: وقع فلان في العنت، أي: فيما شق عليه، وتعنتني، أي: سألني عن شيء أراد به اللبس علي والمشقة. قوله: (كيف تقول: الله رحمن، أتصرفه أم لا؟ )، فإن قلت: لم عدل في السؤال عن قوله: أرحمن منصرف أم لا؟ وما دعاه إلى هذا الإطناب؟

فإن قلت: قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى، واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت: كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى، كعطشى، فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة، كندمانة، فإذن لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض، فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص، وهو القياس على نظائره. فإن قلت: ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة؟ ومعناها العطف والحنو، ومنها الرحم؛ لانعطافها على ما فيها. قلت هو مجاز عن إنعامه على عباده؛ لأن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم، ومنعهم خيره ومعروفه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ليوقفك على الخلاف فيه، ويرشدك إلى طريق استنباطه. يعني لما خصصت "الرحمن" بالله عز وجل كيف حكمه في الصرف وعدمه؟ وأجاب بأن حكمه القياس على عطشان وغرثان في امتناع الصرف، ثم قال: لم تقيسه عليهما ولا تعتبر انتفاء فعلى فتصرفه؟ فقال: لأن له معارضاً وهو عدم فعلانة للاختصاص العارض، فإذن لا عبرة بامتناع التأنيث، فالواجب حمله على الأكثر؛ لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب أولى، فيمتنع الصرف. قوله: (أصابهم بمعروفه وإنعامه)، الانتصاف: فسر الرحمة بأنها مجاز عن إنعام الله تعالى على عباده، ولك أن تفسرها بإرادة الخير، وكلا القولين منقول، منهم من جعلها من صفات الذات، ومنهم من جعلها من صفات الأفعال. وقال في "الإنصاف": والعجب منه أنه كيف لم ينتبه على أن الزمخشري لا يمكنه أن يجعل الإرادة من صفات الذات؛ لأنه لا يثبت صفات الذات، والعجب من الزمخشري أنه إن

فإن قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه؟ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اجتنب ها هنا ما هو مخالف لمذهبه. وجاء في تفسير (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7] أن معنى الغضب إرادة الانتقام. والبحث في الموضعين سواء. وهم وإن أثبتوا الإرادة لكنهم لم يجعلوها صفة ذات. وقلت: إن المصنف ما أخطر بباله ذلك بل أجرى الرحمة والغضب في الموضعين على التمثيل والاستعارة، فلابد من تقدير الإرادة هاهنا أيضاً؛ ألا ترى كيف صرح بالتشبيه فيهما حيث قال هاهنا: "إن الملك إذا عطف على رعيته"، وقال هناك: "ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده"؟ ! قوله: (فلم قدم ما هو أبلغ)، وهذا مقام تكلم فيه العلماء فلابد من عد أقوالهم. قال صاحب "التقريب": وإنما قدم أعلى الوصفين، والقياس تقديم أدناهما كجواد فياض؛ لأن ذلك القياس فيما كان الثاني من جنس الأول، وفيه زيادة، والرحمن يتناول جلائل النعم وأصولها، والرحيم دقائقها وفروعها، فلم يكن في الثاني زيادة على الأول، كأنه جنس آخر فيقال: لما ثبت أن الرحمن أبلغ من الرحيم في تأدية معنى الرحمة، صح الترقي من الرحيم إليه؛ لأن معنى الترقي: هو أن يذكر معنى ثم يردف بما هو أبلغ منه. ثم نقول: ما تريد بقولك: فيما كان الثاني من جنس الأول؟ إن أردت أن الجنسية معتبرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيما فيه الترقي، فلم قلت: إن تلك في الصيغتين مفقودة؛ لأنهما مشتملان على معنى الرحمة، وفي أحدهما أبلغ من الآخر؟ وإن أردت أن الصيغتين لابد أن يتفقا في المعنى كما هو في قولك: جواد فياض، وليس فيهما ذلك؛ فغير مسلم، ألا ترى أن المصنف كيف اعتبر الترقي في قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء: 172] وفي قول الشاعر: وما مثله ممن يجاود حاتم ... ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره مع أن الملائكة والبحر ليسا من جنس البشر؟ ! وقال صاحب "الفرائد": فلما كان فعلان للأمور العارضة على ما عرف، كالسكران والعطشان، وفعيل للصفات الغريزية كالكريم ونحوه؛ وجب تقديم الرحمن على الرحيم. وأما عروض المعنى فمن جهة العباد، وأنه تعالى ينعم على العباد حالاً بعد حال، وهو ضعيف لأن فعلان صفة مشبهة وهو أبعد جرياً من الفعل كما سبق، وأن الرحيم اسم فاعل كما نص عليه الزجاج. وقوله: فعيل من الصفات الغريزية وذلك في نحو شرف وكرم، وليس وزان رحم وزانه، بل وزان مرض وسقم كما صرح به المصنف آنفاً. سلمنا، لكن قولك: ينعم على العباد حالاً بعد حال؛ يدل على أنه أبلغ من الدوام في بعض الصور كما سيجيء. الراغب: النديم: هو الذي كثرت منادمته، والندمان هو الذي مع كثرة ذلك منه تكررت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه؛ ولذلك قال أهل اللغة: ندمان أبلغ من النديم، فإن العرب إذا زادوا معنى زادوا في اللغة أيضاً. قال صاحبا "الإيجاز" و"الانتصاف": الرحمن أبلغ؛ لأنه كالعلم إذ كان لا يوصف به غير الله، فكأنه الموصوف. وهو أقدم؛ إذ الأصل في نعم الله أن تكون عظيمة، فالبداية بما يدل على عظمها أولى. هذا أحسن الأقوال وأقرب إلى مراد المصنف؛ يعني أن هذا الأسلوب ليس من باب الترقي، بل هو من باب التتميم: وهو تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر ما دل على جلائل النعم وعظائمها، أراد المبالغة والاستيعاب، فتمم بما دل على دقائقها وروادفها؛ ليدل به على أنه مولى النعم كلها: ظواهرها وبواطنها، جلائلها ودقائقها، وهو المراد بقوله هنا: "أردفه الرحيم، كالتتمة والرديف"، وفي "الفاتحة" قوله: "من كونه منعماً بالنعم كلها: الظاهرة والباطنة والجلائل والدقائق"، ولو قصد الترقي لفاتت المبالغة المذكورة وذهب به معنى التعميم المطلوب في ألفاظ "الفاتحة" كما سبق. وذلك أن الترقي يحصل فيما إذا قلت: فلان يعلم التصريف والنحو،

كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟ قلت: لما قال: (الرَّحْمَنِ) فتناول جلائل النعم، وعظائمها وأصولها، أردفه (الرَّحِيمِ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتتميم لا يحصل إلا من قولك: يعلم معاني كلام الله المجيد والتصريف؛ إذ من شرط التتميم الأخذ بما هو الأعلى في الشيء، ثم ما هو أحط منه ليستوعب جميع ما يدخل تحت ذلك الشيء؛ لأنهم لا يعدلون عن الأصل والقياس إلا لتوخي نكتة، والجواب إذن من باب الأسلوب الحكيم، والله أعلم. والذي عليه ظاهر كلام الإمام: أنه من باب التكميل وهو أن يؤتى بكلام في فن، فيرى أنه ناقص فيه فيكمل بآخر، فإنه تعالى لما قال: "الرحمن" توهم أن جلائل النعم منه، وأن الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمل بالرحيم. وينصره ما روينا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع"، وزاد: "حتى يسأله الملح"، أخرجه الترمذي. قوله: (نحرير)، أي: بليغ في العلم، كأنه ينحر الشيء علماً، الأساس: جلس فلان في نحر فلان: قابله، ونحرته نحراً: قابلته، ونحر الأمور علماً. ومنه: هو نحرير من النحارير، وسئل جرير عن شعراء الإسلام فقال: نبغة الشعر للفرزدق، وأنا نحرت الشعر نحراً.

كالتتمة والرديف؛ ليتناول ما دق منها ولطف. [(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) 2 - 3] والحمد والمدح أخوان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الحمد والمدح أخوان)، أي: متشابهان لا مترادفان، فإن الأخ يستعمل في المشابهة. قال في "الفائق" في قوله: كأخ السرار: أي: كلاماً كمثل المسارة، وشبهها به لخفض صوته. واعلم أنه ذكر ها هنا ألفاظاً متقاربة المعنى، متدانية المغزى، ولابد من الفرق وهي: الثناء والشكر، والحمد، والمدح. فالثناء: الذكر بالخير مطلقاً. الراغب: الثناء ما يذكر من محامد الناس فيثنى حالاً فحالاً ذكره. الجوهري: أثنى عليه خيراً، والاسم: الثناء. والشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف. والحمد: نقيض الذم، والمحمد: الذي كثرت خصاله المحمودة. والمدح: الثناء الحسن. فالثناء: هو القدر المشترك بين المفهومات الثلاث. قال الإمام: المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يحصل للعاقل وغيره، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان والفضائل. وقال الراغب: كل شكر حمد، وليس كل حمد شكراً، وكل حمد مدح، وليس كل مدح حمداً.

وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، والمدح هو الثناء على الجميل مطلقاً، تقول: حمدت زيداً على علمه وكرمه، ولا تقول: حمدته على حسنه؛ بل مدحته. وقال الإمام: وإنما خص الحمد ها هنا دون المدح ليؤذن بالفعل الاختياري، ودون الشكر ليعم الإحسان والفضائل. ولعمري إن المقام يقتضي ما قال، لما أسلفنا أن "الفاتحة" هي أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، وأنها بنيت على إجمال ما يحتويه القرآن مفصلاً، وأنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه: أن يتضمن ما سيق الكلام له كما سبق في شرح الخطبة. فينبغي أن لا يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق، فنحن بعون الله تعالى نراعي هذه الشريطة في التقرير؛ فما وافقنا المصنف فيها نتبعه، وما خالفنا نقف عنده ونجري الكلام على سننه. نعم فيها كلمات ثلاث خصت بمعان مهمة في التوحيد فتقتضي مزيد اختصاص به تعالى، إحداها: اللام في "لله" والكلمتان الأخريان: الصيغتان المنصوبتان وهما: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فأنهما مخصوصتان لغة ومعنى وتركيباً، والتاء في "أنعمت"، فانظر إلى أسرار كلام الله المجيد. ولله در القائل: أنعى إليك قلوباً طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم قوله: (النداء على الجميل)، أي: رفع الصوت بالثناء على الجميل. خص النداء لما قرر أن الحمد: هو الشكر باللسان، فبالغ في الإظهار والإشادة، وأشار بقوله: "على حسبه وشجاعته" إلى الأفعال الاختيارية.

تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته. وأما الشكر، فعلى النعمة خاصة، وهو بالقلب واللسان والجوارح. قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده"، وإنما جعله رأس الشكر؛ لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها، وأدل على مكانها من الاعتقاد، وإدآب الجوارح؛ لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان، وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي، ويجلي ويجلي كل مشتبه. والحمد نقيضه الذم، والشكر نقيضه الكفران، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو بالقلب واللسان والجوارح)، وعرف الشكر: بأنه تعظيم المنعم بالقلب، وثناؤه باللسان، وتحقيق مراضيه بالجوارح. قلت: هذا بحسب عرف أهل الأصول؛ فإنهم يقولون: شكر المنعم واجب، ويريدون به وجوب العبادة، والعبادة لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان كما سبق. قوله: (الحمد رأس الشكر)، لم أجده في "الأصول"، لكن ذكر ابن الأثير في "النهاية": ومنه الحديث: "الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده"، كما أن كلمة الإخلاص رأس الإيمان، وإنما كان رأس الشكر؛ لأن فيه إظهار النعمة والإشادة بها. قوله: (وإدآب الجوارح)، أي: إتعابها. النهاية: دأب في العمل: إذا جد وتعب، إلا أن العرب حولت معناه إلى العادة والشأن. قوله: (نقيضه)، أي: مقابله، وإنما كان الذم نقيض الحمد لاختصاصه باللسان أيضاً،

وارتفاع (الحمد) بالابتداء، وخبره الظرف الذي هو (لِلَّهِ)، وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم: شكراً وكفراً، وعجباً، وما أشبه ذلك، ومنها: سبحانك، ومعاذ الله، ينزلونها منزلة أفعالها، ويسدون بها مسدها؛ ولذلك لا يستعملونها معها، ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والكفران نقيض الشكر لحصوله بالقلب واللسان والجوارح، والمدح يقابل الهجو؛ لما في الهجو من الثلب الذي هو نقيض التحسين. قوله: (وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم)، قال الزجاج: الحمد رفع بالابتداء، وهو الاختيار؛ لأن السنة تتبع في القرآن، ولا يلتفت إلى غير الرواية الصحيحة التي قرأها المشهورون بالضبط والثقة، ويجوز "الحمد لله" تريد: أحمد الله الحمد، إلا أن الرفع أحسن وأبلغ في الثناء على الله تعالى. وهذه القراءة ما ذكرها ابن جني في "المحتسب". قال في "الانتصاف": يدل على ذلك أن سيبويه اختار في قول القائل: "فإذا له عِلْمٌ عِلْمُ الفقهاء" الرفع، وفي قوله: "فإذا له صَوْتٌ صَوْتَ حمار" النصب؛ لإشعار النصب بالتجدد المناسب للأصوات، وإشعار الرفع بالثبوت الذي هو في العلم أمدح. قوله: (ومنها: سبحانك، ومعاذ الله)، قيل: ميزهما لكونهما غير متصرفين. قوله: (كالشريعة)، أي: كالتدين بالشريعة المنسوخة في كونهما محظورين. وقيل: لا يجوز

والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: (قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ) [هود: 69] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم صلوات الله عليه حياهم بتحية أحسن من تحيتهم؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدده وحدوثه. والمعنى: نحمد الله حمداً، ولذلك قيل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، لأنه بيان لحمدهم له، كأنه قيل: كيف تحمدون؟ فقيل: إياك نعبد، فإن قلت: ما معنى التعريف فيه؟ قلت: هو نحو التعريف في: أرسلها العراك، وهو تعريف الجنس، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إظهار أفعالها؛ لأنها قد اشتهرت بينهم بمعان، وبلغت في الغنية عن تكلف انضمام أفعالها غاية لو تكلف عند ذكرها لاختل المعنى. قلت: لعل فائدة ما ذكر أن نحو قوله تعالى: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [محمد: 4] مفيد لمعنى التوكيد مع الاختصار، وفي الأصل كان الفعل مطلوباً ويتبعه المصدر، وها هنا بالعكس فيفيد طلب المسارعة في الامتثال، كما في قوله تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ... ) [البقرة: 60]. قوله: (ولذلك قيل)، أي: ولأن أصل الكلام: "نحمد الله حمداً" جملة فعلية فيها ضمير الحكاية للجماعة قيل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليكون مطابقاً له. قوله: (لأنه بيان لحمدهم)، تعليل للمطابقة؛ كأنه قيل له: لم تقدره مطابقاً له؟ فقيل: لأنه بيان له. قال صاحب "التقريب": والمعنى نحمد الله حمداً لقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأنه بيان لحمدهم له، واللام لتعريف الجنس، والاستغراق وهم. قوله: (أرسلها العراك)، تمامه: فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال

ومعناه: الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو، والعراك ما هو، من بين أجناس الأفعال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائله لبيد. الإرسال بمعنى التخلية. يصف العير وأتنه، والضمير في "أرسلها" للعير، والبارز للأتن. والدخال في الورد: أن يشرب البعير ثم يرد من العطن إلى الحوض ويدخل بين بعيرين عطشانين ليشرب منه. ونغص البعير: إذا لم يتم شربه. الأساس: نغص عليه عيشه: إذا قطع عليه مراده. و"العراك": نصب على الحال أي: معتركة. الجوهري: يقال: أورد إبله العراك، إذا أوردها جميعاً الماء. ونُصِبَ نَصْبَ المصادر، أي: أوردها عراكاً ثم أدخل عليه الألف واللام، كما قالوا: الحمد لله فيمن نصب، ولم يغير الألف واللام المصدر عن حاله. قوله: (والعراك ما هو)، وذلك أن تعريف الجنس على ضربين كما قال في تفسير قوله: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [البقرة: 25]: "لام الجنس إذا دخلت على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه". وهذا التعريف من قبيل الثاني وعليه قوله:

والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقد أمر على اللئيم يسبني أي: لئيم من اللئام وهو المراد بقوله: "من بين أجناس الأفعال" أي: الأفعال التي تنسب إلى الدواب في هذا المقام. قوله: (والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم)، قال صاحب "اللباب" في تفسير الفاتحة: وذلك أن اللام لا تفيد شيئاً سوى التعريف، والاسم لا يدل إلا على نفس الماهية المعبر عنها بالجنسية، فإذن لا يكون ثم استغراق. وقلت: ما أدري كيف ذهل هذا الفاضل عن كلام صاحب "المفتاح": أن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر لاجتماعها مع كل واحد منهما، فإذا اجتمعت مع المفرد والجمع في المقام الخطابي حملت على الاستغراق؟ ! والحق أن الحمل على الجنس أو على الاستغراق إنما يظهر بحسب المقام، ومنشأ حكمه بالوهم هو أن الأصل: "نحمد الله حمداً"، وأنه مطابق لقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] كما بينا، وأن الحمد في الأصل لا تعيين فيه، وإتيان البيان لإزالة ذلك الإبهام، فالواجب في تعريف الحمد الجنس؛ لأنه نائب عن المصدر، فلو جعل للاستغراق لتعين، وهو غير مطابق للبيان. وتمام تقريره: أن القائل لما أخبر عن نفسه أنه يصدر عنه حمد من المحامد باللسان لمن يستحق الحمد؛ فاتجه للسامع أن يسأل: كيف يحمده؟ أي: بين لي كيفية حمدك فإنها غير معلومة؛ فلابد أن تجيبه بما تلفظ به من الحمد، وهو في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنه قال: أقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ لأن المفروض أن السؤال عن الشكر اللساني، فإذن "الحمد" إخبار من القائل عن حمد حمده لله تعالى. وحقيقه الحمد المقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). هذا تمام تقرير كلامه. وبهذا ظهر: أن ليس المراد من تعريف الجنس في الحمد الماهية من حيث هي هي نحو: الرجل خير من المرأة؛ بل المراد منه فرد غير معين بحسب الخارج نحو: دخلت السوق في بلد كذا؛ بدليل قوله: "لأنه بيان لحمدهم" واستشهاده بالبيت. الانتصاف: تعريف النكرة باللام إما للعهد وإما للجنس، والذي للعهد إما أن ينصرف إلى فرد معين من أفراد الجنس نحو: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل: 11] وإما أن ينصرف العهد إلى الماهية باعتبار تمييزها عن غيرها كقولك: أكلت الخبز، والجنس: هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، وكلا نوعي العهد لا يوجب الاستغراق، وإنما يوجبه الجنس. والزمخشري جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وعبر عنه بتعريف الجنس. وقال الإمام فصيح الدين صاحب "الفرائد": كأنه أراد بهذا القول بعض الحمد بناءً على مذهبه، وليس كذلك؛ فإنه لا حمد إلا لله تعالى. نعم، تعريف الجنس ليس مما يقتضي الاستغراق؛ ولكنه يحتمله. فإن لم يمنع مانع واقتضاه المقام كان مراداً منه. والحمد لما كان هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم، والله تعالى خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل من يستحق به الحمد من الأفعال؛ فله الحمد في الحقيقة وإن أضيف في الظاهر إلى غيره. تم كلامه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الكلام يحتاج إلى فضل تقرير ومزيد بيان؛ فنقول وبالله التوفيق: أما قوله: بناءً على مذهبه؛ فذلك أن من مذهبه أن العبد أيضاً موجد لأفعاله بالاستقلال، فيستحق بذلك الحمد، فلا يكون كل الحمد لله تعالى. واعلم أن هذا المقام من مزال الأقدام، فالواجب أن نتكلم على مقتضى المقام ونقول للمصنف: ما تعني بإسناد الوهم إلى القائل بالاستغراق؟ فإن مجرد التعصب لا يجديك! إن عنيت أن أصل الكلام: نحمد الله حمداً؛ لأن المقام أو اللغة تقتضيه، فيقال: أين صحة تلك الدعوى؟ أما المقام فهو ناب عنه كما سنبينه، وأما اللغة فلا تمنع غير ذلك كما قال هذا الفاضل: إن تعريف الجنس ليس مما يقتضي الاستغراق ولكنه يحتمله كما ذكرت في قوله تعالى: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [البقرة: 25] ولعله يتشبث بالفصل وهو ترك العاطف بين الجملتين وهو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ). ونقول: ليس هذا الفصل إلا لأن يكون الثاني بياناً للأول فيرد بأن هذا من التعكيس؛ لأن جعل صدر الكلام متبوعاً للعجز أولى من العكس. وأما المحققون كالواحدي والإمام والقاضي وغيرهم؛ فعلى تعميم الحمد، وأن ترك العاطف في قوله: "إياك"؛ لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد، والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد من بيان أحواله بين يدي ذلك الغائب، فترك العاطف للتفرقة بين الحالتين، لا للبيان. ويدل على أن هذا التقدير أولى من وجوه: أحدها: أن حسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحد لمعلوم واحد، وعليه صاحب "المفتاح"، فلينظر إلى تقريره، وذلك مفقود على تقدير البيان والسؤال. والعجب أن المصنف حين قرر الالتفات نسي هذا السؤال والجواب وأجراه على ما يقتضيه معنى الالتفات. ولا ارتياب أن الذهاب إلى فسحة الالتفات، والقول بأن قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وارد على الشكر اللساني، وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مشعر بالشكر بالجوارح و (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) مؤذن بالشكر القلبي أحسن وأولى من الفرار إلى مضيق القول بأن المراد بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إخبار من القول الصادر عنه لحمد حمده كما سبق تقريره لنتخلص بالكلية من السؤال الذي أورده بعض أفاضل العصر على قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بيان "لحمدهم" وهو أنه يناقض ما ذكره من أن الشكر بالقلب واللسان والجوارح، والحمد باللسان وحده؛ لأنه إذا كان (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بياناً لحمدهم، والعبادة تكون بالجوارح والقلب- كما تكون باللسان- لزم أن يكون الحمد كذلك ضرورة. وثانيها: دل ذلك الاعتبار على بيان العظمة والجلال. قال الإمام: لو قال: أحمد الله كان قد ذكر حمد نفسه فقط، وإذا قال: إن حقيقة الحمد لله فقد دخل فيه حمده وحمد غيره جميعاً من لدن خلق العالم إلى انتهاء دخول أهل الجنّةِ الجنَّةَ (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10]. وثالثها- وهو المعتمد وعليه التعويل-: أن في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعاراً بأن الحمد إنما استحقه لما أنه متصف بها كما صرح به في قوله: "وهذه الأوصاف دليل على أن من كانت ذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء". وقد تقرر في الأصول: أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعاراً بالعلية. وها هنا الصفات بأسرها تضمنت العموم؛ فينبغي

وقرأ الحسن البصري: (الحمد لله) بكسر الدال لإتباعها اللام، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: (الحمد لله) بضم اللام لإتباعها الدال، والذي جسرهما على ذلك- والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة؛ كقولهم: منحدر الجبل ومغيره- تنزل الكلمتين منزلة كلمة واحدة لكثرة استعمالهما مقترنتين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون العموم في الحمد ثابتاً، وبيانه: أن الشكر يقتضي المُنْعِمَ والمُنْعَمِ عليه والنعمة. والمُنْعِمُ: هو الله، وخص اسمه المقدس لكونه جامعاً لمعاني الأسماء الحسنى ما عُلم وما لم يُعلم كما سبق. والمُنْعَمُ عليهم: العالمون، وهو قد اشتمل على كل جنس مما سمي به كما سنفسره. وموجب النعم: الرحمن الرحيم، وهو قد استوعب جميع النعم كما مر؛ فإذن ما الذي يستدعي تخصيص الحمد بالبعض سوى التحكم والتوهم عفا الله عنه؟ ! ولله در القائل: "قولك: زيد حسن الوجه وصف لزيد، وحمد لبارئه؛ إذ كل حسن صنيع جمال فطرته، وكل محسن رضيع لبان نعمته"! وهذا الكلام جدير أن ينمق على صفحات عين إنسان المعاني، ولا غرو في ذلك؛ لأنه من إنسان العين في المعاني. وفي "اللطائف القشيرية": واللام في الحمد للجنس، ومقتضاها الاستغراق بجميع المحامد لله تعالى: إما وصفاً، وإما خلقاً؛ فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. ومن أراد الإطناب في الباب فعليه بتفسير الإمام في الأنعام، (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4]. قوله: (والذي جسرهما)، الأساس: تجاسرت على كذا: تجرأت عليه. هذا الكلام يشعر أن قراءتهما مبنية على القياس دون السماع، وهذا جسارة عظيمة. والمصنف كثيراً يذهب إلى مثل هذا المحذور؛ ألا ترى إلى قوله في "الأنعام": والذي حمل ابن عامر على قراءة (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) [الأنعام: 137] أن رأى في بعض المصاحف "شركائهم" مكتوباً بالياء؟ !

وأشف القراءتين قراءة إبراهيم؛ حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى بخلاف قراءة الحسن. الرب: المالك، ونمه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. تقول: ربه يربه فهو رب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأشف القراءتين)، أي: أفضلهما، النهاية: الشف: الربح والزيادة، وفي حديث الربا: "ولا تشفوا أحدهما على الآخر": لا تفضلوا. والشف: النقصان أيضاً، وهو من الأضداد أيضاً. قال أبو البقاء: إتباع الكسر ضعيف؛ لأن فيه إتباع الإعراب البناء، وفيه إبطال الإعراب. وإتباع الضم أيضاً ضعيف، لأن لام الجر متصل بما بعده منفصل عن الدال، ولا نظير له في حروف الجر المفردة إلا أن من قرأ به أجراه مجرى المتصل؛ لأنه لا يكاد الحمد يستعمل مفرداً عما بعده. قوله: (قول صفوان)، الاستيعاب: هو صفوان بن أمية بن خلف الجمحي. هرب يوم الفتح ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد معه حنيناً والطائف وهو كافر، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغانم يوم حنين فأكثر، فقال صفوان: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفس نبي، فأسلم. وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أسلم يوم فتح مكة،

كما تقول: نم عليه ينم فهو نم، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة، كما وصف .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وشهد حنيناً، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائمها مئة بعير وأربعين أوقية. روى الصغاني في "حاشية الصحاح": لما انهزم المسلمون يوم حنين قال حنبل مولى معمر بن خبيب: بطل سحر ابن أبي كبشة اليوم، فقال صفوان: فض الله فاك، لأن يربني ... " إلى آخره، وهو إذ ذاك كافر ثم أسلم وتوفي بمكة. قوله: (نم عليه)، الجوهري: نم الحديث يَنُمُّه ويَنِمُّهُ نماً، أي: قته، والاسم: النميمة، والرجل نم ونمام. قوله: (ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر)، عطف على قوله: "الرب المالك". قال القاضي: الرب في الأصل التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وصف به للمبالغة، كالصوم والعدل. وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها مفتقرة على المبقي حال بقائها، وهذا التفسير أولى؛ لأنه أعم وأنسب للحمد كما سبق، فإن من شأن المالك إصلاح ما تحت سياسته وإتمام أمر معاشه. الأساس: هو رب لدار والعبد وغير ذلك، ورب ولده تربية. الجوهري: رب كل شيء مالكه. ورببت القوم: سستهم، أي: كنت فوقهم. ورب الضيعة أي: أصلحها وأتمها، ورب فلان ولده يربه رباً. فالواجب حمل (الرب) على كلا مفهوميه بأن يفسر (الرب) بالقدر المشترك التصرف

بالعدل. ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، وهو في غيره على التقييد بالإضافة؛ كقولهم: رب الدار، ورب الناقة، وقوله تعالى: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) [يوسف: 50]، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف: 23]. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما: (رب العالمين) بالنصب على المدح، وقيل: بما دل عليه الحمد لله، كأنه قيل: نحمد الله رب العالمين. العالم: اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين. وقيل: كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التام، وسبيل إعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمر: سبيل الكناية في أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه، وإذا اختلفا: سبيل الحقيقة والمجاز. قوله: (في غيره)، على التقييد والإضافة، كقولهم: رب الدار ورب الناقة، هذا يرده ما رواه الشيخان عن أبي هريرة: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، اسق ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي". وأما قول يوسف عليه السلام: (إِنَّهُ رَبِّي) [يوسف: 23] ونحوه فهو ملحق بقوله تعالى: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف: 100] في الاختصاص بزمانه. قوله: (والثقلين)، أي: الجن والإنس. قال: إنما سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض؛ فدل به على أن الجن أجسام. قوله: (كل ما عُلم به الخالق)، المطلع: العالم: فاعل من العلم كالطابع والخاتم من الطبع والختم، سمي به لكونه علماً على حدوثه وافتقاره إلى محدث قديم. أبو البقاء: العالم: اسم موضوع للجمع، ولا واحد له في اللفظ. وقال الزجاج: العالمين:

فإن قلت: لم جمع؟ قلت: ليشمل كل جنس مما سمي به. فإن قلت: فهو اسم غير صفة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كل ما خلق الله كما قال: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام: 164] وهو جمع عالم، تقول: هؤلاء عالمون، ورأيت عالمين، ولا واحد لعالم من لفظه؛ لأن عالماً جمع لأشياء مختلفة، فإن جعل "عالم" لواحد صار جمعاً لأشياء متفقة. قوله: (ليشمل كل جنس مما سمي به)، فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لقولهم: الاستغراق في المفرد أشمل؟ قلت: لا؛ لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات، والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة. فلو أفرد وقيل: رب العالم؛ لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه إطلاق اسم العالم، فلا تُعلم نصوصية تعدد الأجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما تعلم من الجمعية؛ فجمع ليشمل ذلك المعنى. وأما قول صاحب "الانتصاف": والتحقيق فيه وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد أمرين: أحدهما: أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة، والآخر: أنه مستغرق لجميع ما تحته منها. والمفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد للاستغراق التعريف؛ إذ لو جمع مجرداً عن التعريف أفاد اختلاف الأنواع، ولو عرف مجرداً عن الجمع أفاد الاستغراق. وظهر ضعف قول الزمخشري: "جمع ليشمل"؛ إذ الشمول من التعريف لا من الجمع فمندفع؛ لأن السؤال في قوله: "لم جمع؟ " وارد على الجمع المحلى باللام. وتقريره ما سبق. قوله: (فهو اسم غير صفة)، جيء بالفاء والتأكيد المؤذن بمزيد الإنكار، يعني: على ما

وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام. قلت: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فسرت العالم في الوجهين، ينبغي أن يكون اسماً لا صفة، وإنما يجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو أعلامها بالتأويل والرجع إليها. وهذا ليس منها. قال صاحب "التقريب": وإنما ساغ جمعه بالواو والنون مع أنه ليس صفة للعقلاء ولا ما في حكمها من الأعلام التي إنما تجمع بتصييرها صفة وتنكيرها وتأويل كونها مسماة بكذا؛ لما فيه من معنى الوصفية وهي الدلالة على معنى العلم. وفيه نظر؛ إذ دلالتها عليه ليست صفة للعقلاء؛ إذا الجماد يعلم به. وقال صاحب "الفرائد": لا يلزم من الوصفية جواز الجمع بالواو والنون؛ لما عرف من اختصاصه بصفات أولي العلم، فالوجه التغليب بعد اعتبار الوصفية؛ لأن كل عالم معلم من حيث إنه دل على الخالق تعالى وتقدس. فنقول: نحن أولاً نبين مغزى جواب المصنف وهو قوله: "ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم"، ثم ننظر ما يرد عليه. أما تنزيل جوابه على أن يراد بالعالم اسم لذوي العلم؛ فهو أن هذا الاسم وإن لم يكن صفة ولا علماً لكن مصحح جمعه بالواو والنون مراعاة المناسبة بين الاسم والمسمى من حيث الاشتقاق فإن فيه نوع وصفية؛ وهو بهذا الاعتبار أقرب جرياً إلى الصفة من الأعلام وتأويلها بالمسمى. ولعل هذا السر قدم في "المفصل" الوصف على العلم وقال: فالذي بالواو والنون لمن يعلم في صفاته وأعلامه كالمسلمين والزيدين. وروي عن المصنف: إنما يجمع بالواو والنون العقلاء، كقولنا: مسلمون ومؤمنون، أو ما في حكمها من الأعلام كقولنا: الزيدون والعمرون، فكأنك قلت: المسمون باسم زيد وعمرو، فلهذا جاز جمعها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "شرح اللباب": وإنما جمع العلم دون اسم الجنس؛ لأن العلم حقه أن لا يجمع أصلاً؛ لأن تشخصه يمنع من الجمعية، وإنما جمع بتقدير جعله وصفاً وهو كونه مسمى بالزاي والياء والدال بخلاف نحو رجل؛ فإنه لا تشخص له يمنع من جمعه ليحتاج إلى جعله صفة. والأصل في الجمع بالواو والنون الصفات، كضاربون، حملاً على يضربون. وعلى الوجه الثاني: وهو أن يراد بالعالم: اسم ما علم به الخالق تعتبر الوصفية فيما فيه من أولي العلم كما ذكره صاحب "الفرائد" ثم يغلبه على غيره، أو ينزل الكل؛ لكونه دالاً على معنى العلم كقوله: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد منزلة من له العلم، وتجمع بالواو والنون كما في قوله تعالى: (اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]، فسلم من هذا التقرير كلامه مما أورداه عليه. ثم أنسب الوجهين الثاني؛ لعمومه، وإن كان أولو العلم يستتبعون غيرهم، وإنما جمع بالواو والنون مع أنه جمع قلة، والظاهر مستدع للإتيان بجمع الكثرة تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه، وقد مر مثل ذلك.

[(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) 4]. قرئ: (مَلِكِ يوم الدين)، و (مالك)، و (ملك) بتخفيف اللام. وقرأ أبو حنيفة رحمة الله عليه: (مَلَكَ يوم الدين) بلفظ الفعل، ونصب (اليوم)، وقرأ أبو هريرة: (مالك) بالنصب، وقرأ غيره: (ملك) وهو نصب على المدح، ومنهم من قرأ (مالك) بالرفع. و(ملك) هو الاختيار؛ لأنه قراءة أهل الحرمين، ولقوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر: 16]، ولقوله: (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 2]، ولأن المُلْكَ يعم، والمِلْكَ يخص، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: مَلِكِ)، قال صاحب "التيسير": قرأ عاصم والكسائي (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] بالألف، والباقون بغير ألف. قوله: (ولأن "المُلك يعم، والمِلك يخص")، القاضي: "المالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة، والمَلِك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين". المطلع: المالك أجمع وأوسع؛ لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال إلا: مَلِك الناس. ولأنه لا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون مليكه ولا يملكه. وقال الزجاج: من قرأ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فعلى قوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ) [غافر: 17] أي: من المَلِكُ اليوم؟ ومن قرأ (مَالِكِ) فعلى معنى ذي المملكة في يوم الدين.

ويوم الدين: يوم الجزاء، ومنه قولهم: "كما تدين تدان". وبيت الحماسة: ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا فإن قلت: ما هذه الإضافة؟ قلت: هي إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع مُجرىً مَجرى المفعول به، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويوم الدين يوم الجزاء)، وفي اختصاص يوم الدين دون يوم القيامة وغيره من أساميه فائدتان: إحداهما: مراعاة الفاصلة، وثانيتهما: العموم المطلوب في الألفاظ، فإن الجزاء يشتمل على جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم. بل يكاد يتناول أحوال النشأة الأولى بأسرها. فظهر من هذا الاختصاص ومن مآل معنى القراءتين في الصورتين إفادة التعميم المطلوب من ألفاظ هذه السورة الكريمة، والدلالة على التسلط والغلبة والتصرف والملَكة فسبيل (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) سبيل (رَبُّ الْعَالَمِينَ) في الحمل على المفهومين. فانظر إلى حسن هذا الترتيب السري، وهذا النظم الأنيق تدهش منه؛ وذلك أن (رَبُّ الْعَالَمِينَ) إذن بالتصرف التام في الدنيا ملكاً وتربية، و (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دل على ذلك في العقبى تسلطاً وقهراً، وتوسيط (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بينهما مناد بترجيح جانب الرحمة، وأنه تعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. قوله: (على طريق الاتساع)، أي: جعل المفعول فيه بمنزلة المفعول به كقوله: ويوم شهدناه سليماً وعامراً قوله: (مُجْرى مَجْرى)، بالضم اسم مفعول حال من الظرف. ومجرى الثاني روي

كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، والمعنى على الظرفية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مضموماً من المزيد، والرواية الصحيحة بالفتح بمعنى الإجراء كقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً) [نوح: 17] أو بمعنى المكان. قوله: (والمعنى على الظرفية)، يعني لُمِح في المفعول به معنى الأصل، أي: المفعول فيه، فالاتساع حينئذ على الكناية؛ لأنه لا يُراعى معنى المنقول منه في المنقول إليه إلا في الكناية. وهذه الطريقة أبلغ من الأصل. وإن شئت فاختبر نفسك بين ما إذا قلت: فلان مالك الدهر صاحب الزمان، وبين ما إذا قلت: مالك الأمور في الزمان؛ تجد الفرق. وفائدتها الشمول التام؛ لأن تملك الزمان يستلزم تملك ما فيه على أبلغ وجه في مقام العموم والتعظيم. قال أبو علي في "الحجة": وأما إضافة "مَلِكِ" إلى الزمان فكما يقال: مَلِكُ عام كذا، وملوك سني كذا، ومَلِكُ زمانه، وسيد زمانه، وهو في المدح أبلغ. ولهذا قال: "مالك الأمر كله في يوم الدين" جعل المفعول فيه مفعولاً به اتساعاً ثم كناه عن المفعول فيه للمبالغة. كما جعل البحتري الفعل المتعدي لازماً، ثم كناه عن المتعدي في قوله: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع أي: يكون ذو رؤية، وذو سمع؛ فعبر به عن قوله: أن يرى مبصر آثار محاسن الممدوح، ويسمع واع صيت محامده. ولو أريد هذا المعنى ابتداءً من قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لم يفد تلك الفائدة. فإن قلت: بين لي الفرق في إيقاع قوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) مستشهداً به فيما تقدم وها هنا؛

ومعناه: مالك الأمر كله في يوم الدين، كقوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر: 16]. فإن قلت: فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية، فلا تكون معطية معنى التعريف، فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ قلت: إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، فكان في تقدير الانفصال، كقولك: مالك الساعة أو غداً. فأما إذا قصد معنى الماضي، كقولك: هو مالك عبده أمس، أو زمان مستمر، كقولك: زيد مالك العبيد، كانت الإضافة حقيقية، كقولك: مولى العبيد، وهذا هو المعنى في: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: هو فيما تقدم مستشهد لمعنى التسلط كما قررنا، وما كان يستتب ذلك غلا على قراءة "ملك". وها هنا مستشهد لمعنى العموم المستفاد من الإضافة. فهو على القراءتين مستقيم. قوله: (فإضافة اسم الفاعل)، هذه الفاء مؤذنة بالإنكار، أي: كيف يجعل اسم الفاعل عاملاً في الظرف، ثم يجعله مع هذا صفة للمعرفة؟ قوله: (أو زمان مستمر)، عطف على قوله: "معنى الماضي"، ومعنى الاستمرار فيه كما في قولك: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم. قال المصنف: يريد أنه مما اعتاده ووجد منه مستمراً. وبعدما أتى لكل واحد بمثال على حدة، أتى بمثال آخر يجمعهما في معنى الإضافة الحقيقية يدل عليه إيقاع "كانت" جواباً لـ "إذا" بعد ذكر المثالين. وإنما جمع العبيد في المثال الثاني وأفرده في الأول ليؤذن بتملكه إياهم في الأزمنة المختلفة. قوله: (هذا هو المعنى في: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، يعني كما قلنا من أن القصد هو المعنى أو الزمان المستمر. والإضافة حقيقية في المثالين، كذا هو المعنى في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، لا لمجرد الحال والاستقبال؛ دل على هذا الحصر توسيط ضمير الفصل بين اسم الإشارة والخبر المعرف باللام، ثم قال: "ويجوز أن يكون المعنى: مَلَكَ الأمور" يعني وجائز

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يقصد بالإخبار عن الآتي بلفظ المضي على سنن إخبار الله، كقوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44] فإن إخبار الله عن المستقبل في كونه واجب الوقوع كالماضي المحقق. فظهر من مجموع السؤالين إلى انتهاء الجوابين في: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أن مالك إذا قصد فيه معنى الاستمرار وكان عاملاً في الظرف لا يقدح في تعرفه حتى يقع وصفاً للمعرفة، وأن مصحح اسم الفاعل المضاف إلى معموله في تهيئه لوصف المعارف تحققه وثبوته في نفسه، سواء كان بمعنى المضي أو المضارع المستمر؛ ولذلك لا يصح ذلك إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وهو المراد من قوله: "فكان في تقدير الانفصال كقولك: مالك الساعة أو غداً"، وعليه اتجه السؤال فوافق هذا ما قرره في "الأنعام" في قوله تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام: 96] كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي؟ قلت: ما هو في معنى المضي؛ وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة المختلفة، كما تقول: الله قادر عالم، فلا تقصد زماناً دون زمان. وقد ذهب صاحب "التقريب": إلى أنه مخالف له. نعم هو مخالف للمذهب المشهور كما ينبئ عنه كلام صاحب "المفتاح": واسم الفاعل كيف كان، مفرداً أو مثنى أو مجموعاً جمع تكسير أو تصحيح، نكرة في جميع ذلك، أو معرفة، ظاهراً أو مقدراً، مقدماً أو مؤخراً، يعمل عمل فعله المبني للفاعل إذا كان على أحد زماني ما يجري هو عليه، وهو المضارع دون المضي أو الاستمرار عندنا، حيث قال: عندنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى ابن الحاجب عن الكسائي أنه قال: يجوز إعماله وإن كان للماضي، وتمسك بقولهم: الضارب زيداً أمس، وقوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ) [الكهف: 18]. وقال أبو البقاء في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر: 1]: الإضافة في (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ) محضة؛ لأنه للماضي، فأما (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ) فكذلك في أجود المذهبين، وأجاز قوم أن تكون غير محضة على حكاية الحال، و (رُسُلاً) مفعول ثان. هذا وإن القول بالفرق وارتكاب المجاز هو القول؛ لأن حكم هذه الألفاظ إذا وقعت أوصافاً لله تعالى- لأن أوصافه لا تلائم أوصاف المخلوقين- مخالف لما إذا وقعت أوصافاً لغيره تعالى، سيما إذا استدعاه المقام. ألا ترى إلى قول ابن جني في "الدمشقيات" في قولهم: مررت بالضارب زيداً أمس، قولان: أحدهما: أنه على معنى الفعل، أي: الذي ضربه أمس، والآخر: أنه كما جاز أن يقيم الألف واللام مقام الذي، كذلك جاز أن يعمل اسم الفاعل وإن كان ماضياً؛ لأنه موضع اتساع. وإلى هذا المعنى من الاتساع ذهب ابن الحاجب في الفرق.

ويجوز أن يكون المعنى: ملك الأمور يوم الدين، كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ) [الأعراف: 48]، والدليل عليه: قراءة أبي حنيفة رحمه الله: (مَلَكَ يوم الدين)، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه رباً مالكاً للعالمين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما قوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف: 18] فهذه وأمثالها إنما تكون في موضع الأحوال، والأحوال يقصد بها التعبير عن ذلك الفعل في حال وقوعه حتى كأنه واقع؛ ولذلك يقع الفعل المضارع في موضعها، ولولا قصد التعبير عن الحال لم يستقم وقوع المضارع موقعه فلا يلزم من إعماله ها هنا إعماله وهو ماض من كل وجه، فحصل الفرق. وفي قوله: "حتى كأنه واقع" إشعار بالاستمرار الذي يعطيه معنى استحضار كل أحد ذلك في مشاهدته على مر الدهور وكر الأعوام. وفي قوله أيضاً: "فلا يلزم من إعماله" إلى آخره الإشارة إلى أنه لا يلزم من إعماله وهو دال على مُلك مستمر في الأزمنة الثلاثة إعماله وهو ماض من كل وجه. وعليه مبنى الكلام السابق إضافة اسم الفاعل إلى معموله إذا كان لمجرد الحال والاستقبال غير إضافته إليه إذا كان بمعنى الاستمرار. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى مَلَكَ الأمور)، يعني أن "مالك" اسم فاعل من يملك الذي هو الاستمرار كقولك: فلان يعطي ويمنع، ويجوز أن يكون فاعلاً من مَلَكَ الذي بمعنى يملك كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44] أي: ينادي، وجاء به على الماضي لصدق تحققه. قاله بعض القدماء. قوله: (وهذه الأوصاف)، مبتدأ، والخبر "دليل"، و"صفاته" خبر "كانت"، والضمير الأول

لا يخرج منهم شيء من ملكوته وربوبيته، ومن كونه منعماً بالنعم كلها الظاهرة والباطنة، والجلائل والدقائق، ومن كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به، وأنه به حقيق في قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله. [(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) 5]. (إيّا): ضمير منفصل للمنصوب، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك: إياك وإياه وإياي، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في "أنه به" للحمد، والثاني لله تعالى أو بالعكس. قال القاضي: "ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل أن يحمد فضلاً أن يعبد". وفي قوله: (لم يكن أحد أحق منه بالحمد) وفي تخصيص أفعل التفضيل إيماء إلى مذهبه. قوله: (من ملكوته)، أي: ملكه وتصرفه فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وفي تكرير قوله: "ومن كونه" إشعار باستقلال كل من الصفات على حدة في الإشعار بالعلية كتكرير "كان" في قوله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [الكهف: 82]. قوله: (ولا محل لها من الإعراب)، قال الزجاج: موضعها خفض بإضافة "إيّا" إليها. و"إيّا" اسم للمضمر المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمر نحو قولك: إياك ضربت، وإياه ضربت، وإياي حدثت. ولو قلت: إيّا زيد حدثت كان قبيحاً؛ لأنه خص به

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المضمر. وقد روي عن العرب: "فإياه وإيا الضواب! ". وقال أبو علي: الدليل على أن هذا الاسم مضمر وليس بظاهر أنه في جميع الأحوال منصوب الموضع، وليس في الأسماء اسم كذلك إلا ما كان ظرفاً وليس إيا بظرف، ولأنه في المنصوب نظير "أنت" في المرفوع، فكما أن "أنت" مضمر كذلك "إيا". فإن قيل: الكاف في "إياك" ليست كالتي في "ذلك" لأن "إيا" قد تضاف إلى الهاء والياء. وأجيب أنه معارض بأنهم لم يؤكدوه فلم يسمع: إياكم كلكم وإياك نفسك. وقال ابن جني: كان أبو إسحاق يقول في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ): حقيقتك نعبد. وكان يشتقه من الآية، وهي العلامة. وهذا سائغ على رأيه؛ لأنه كان يعتقد أنه اسم مظهر خص به المضمر. وقال: وقد ذكرنا في "سر الصناعة" ما يحتمله "إيا" من المثل: هل هي "فعل"؛ أو "فعيل"، أو "فعول" أو "إفعل" أو "فعلل" أو "فعلى"، ومن أي لفظ هي: أمن "آءة" أو، "آية" أو "أويت" أو "وأيت". وأما على قول الكافة فاشتقاقه فاسد؛ لأنه اسم مضمر، والمضمر لا اشتقاق له.

كما لا محل للكاف في (أَرَأَيْتَكَ)، وليست بأسماء مضمرة، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون. وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب: "إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب! "؛ فشيء شاذ لا يعول عليه، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونَنِي أَعْبُدُ) [الزمر: 64]، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً) [الأنعام: 164]، والمعنى نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة، وقرئ: (إياك نعبد) بتخفيف الياء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أَرَأَيْتَكَ)، قال المصنف: "لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً، وصحة الخبر عنها استعملوا "أرأيت" بمعنى أخبر". قوله: (الشواب)، وهو جمع شابة، كدواب جمع دابة. أي: فليحذر نفسه أن يتعرض للشواب، وليحذر الشواب أن تفتنه. قوله: (وقرئ: "إياك نعبد" بتخفيف الياء)، قال ابن جني: قرأها عمرو بن فائد؛ فوزن "إيا" فعل كرضا وحجا، ونظيره: إيا الشمس، أي: ضوؤها. قال طرفة: سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد هذا البيت يومئ إلى صحة مذهب الزجاج. الضمير في "سقته" راجع إلى "ألمى"، أي: ثغر ألمى. قال الزوزني: إياة الشمس وإياها: شعاعها.

و (أياك) بفتح الهمزة والتشديد، و (هياك) بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي: فهياك والأمر الذي إن تراحبت ... موارده ضاقت عليك مصادره والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ونمه ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله؛ لأنه مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللثة: مغرز الأسنان، الإثمد: الكحل، والكدم: العض. يصف ثغر المحبوبة. أي: كأن الشمس أعارته الضوء إلا لثاته، استثنى اللثات؛ لأنه لا يستحب بريقها، ثم قال: أسف عليه بالإثمد، أي: ذر. ولم تكدم بأسنانها على شيء يؤثر فيها. وتقدير البيت: أسف بإثمد ولم تكدم عليه بشيء. ونساء العرب تذر بالإثمد على الشفاه واللثات فيكون ذلك أشد للمعان الأسنان. قوله: (فهياك والأمر)، البيت. المعنى: أحذرك أن تلابس الأمر الذي إن توسعت موالجه ضاقت عليك مخارجه. قوله: (فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع)، قال الراغب: العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى؛ ولهذا قال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء: 23]. والعبادة ضربان: عبادة بالتسخير كما في قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء: 44]، وعبادة بالاختيار وهي لذوي النطق، وهو المأمور به في نحو قوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) [البقرة: 21].

قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف طابق قوله: "هذا يسمى الالتفات" سؤاله: "لم عدل عن لفظ الغيبة؟ ". قلت: الجواب من وجهين: أحدهما: أن قوله "لم عدل؟ " كان استفهاماً فيه نوع إنكار، أي: ماذا حمله على ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر، وكان الأصل أن يجري الكلام على الغيبة. أجاب: أن هذا ليس بنكير في علم البيان، بل هو مشهور ومسمى بالالتفات الذي هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى لمفهوم واحد. وذلك الانتقال من دأبهم وافتنانهم في الكلام. ثم أتى بجواب آخر أعم منه فقال: "ولأن الكلام" أي: مطلق الكلام سواء صدر منهم أو من غيرهم "إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تطرية لنشاط السامع"، وهذه الطريقة وهي أن يتضمن الجواب الزيادة على المطلوب من الأسلوب الحكيم؛ ولهذا أتى بالمستشهدات المتنوعة الجامعة لأكثر أنواع الالتفات، لتكون كالتعريف له. وفيما شرحنا كلامه لطيفة وإرشاد إلى أن الأمثلة كالتعريف حيث وضعنا الحد موضعها، وفيما سلك إيجاز من وجه، لأنه علم منه حده وأقسامه. وثانيهما: أن في الكلام إطناباً، وأنه جواب واحد. وحقيقة الجواب قوله: "ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تطرية" وقوله: "وذلك على عادة افتنانهم" توطئة للجواب، وقوله: "هذا يسمى الالتفات" توطئة للتوطئة. ونحوه سؤاله في أول "طه": فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة، منها: عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة، ومنها كذا وكذا. و"الواو" في "وما يعطيه" كالواو في "ولأن الكلام" من عطف البيان على طريقة: أعجبني زيد وكرمه. قوله: (في علم البيان)، اعلم: أن البيان كثيراً ما يطلق على أنواع المعاني والبيان والبديع كما

قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22]، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ) [فاطر: 9]. وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات: تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبإ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود وذلك على عادة افتنانهم في الكلام، وتصرفهم فيه، ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب؛ كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يطلق عليها علم البديع. ويمكن أن يقال: إن الالتفات من حيث إنه يفيد التطرية وحسنها من البديع، ومن حيث إفادته التفنن والإخراج لا على مقتضى الظاهر من المعاني، ومن حيث كونه مستلزماً لإفادة دقيقة مطلوبة من الكناية التي هي نوع من أنواع البيان. قوله: (قد يكون من الغيبة)، إلى قوله: (إلى التكلم) لف، ومن قوله: "كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ) [يونس: 22] " إلى قوله: (فَسُقْنَاهُ) [فاطر: 9] " نشر. ولم يذكر للأول مثالاً كما ذكر لأخويه؛ لأن ما هو بصدده في "الفاتحة" أغناه عنه، وإنما فصل "قد يكون" لكونه بياناً للالتفات. قوله: (ثلاث التفاتات)، قيل: إن الأول ليس بالتفات؛ لأن الالتفات تلوين وتغيير وليس فيه. وأجيب بأن حقه أن يقول: ليلي، فلما عدل عنه كان تلويناً.

ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن للعلماء في مثل "تطاول ليلك" قولين، والذي عليه ظاهر كلامه أنه التفات، ووافقه صاحب "المفتاح" منبهاً عليه بقوله: منبهاً في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبإ عليها ولهت؛ فأخذ يخاطبها بـ "تطاول ليلك". وإنما قلنا: ظاهر كلامه؛ لأنه يمكن أن يقال: إن في البيت الثالث التفاتين: أولهما ذلك، والآخر جاءني، والذي عليه أبو علي، وابن جني، وابن الأثير: أن ذلك تجريد، وأنشدوا قول الأعشى: وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وهذا هو الحق. ويمكن حمل كلام المصنف على التغليب للقرب من حيث المعنى. وتقرير التجريد ما قدره صاحب "المفتاح": وهو أن نفسه كان من حقها أن تتثبت وتتصبر في المصائب فعل أمثالها من الملوك. فلما لم تفعل جردها وخاطبها تأنيباً، ولا يبعد أن يكون ميل صاحب "المفتاح" أيضاً إلى التغليب لتقريره هذا. واعلم أن حصول التطرية من الانتقال ليس لمجرد كونه انتقالاً، بل لاستتباعه لطيفة؛ إذ اللفظ متبوع المعنى، فالتطرية إنما تحصل من انتقال المعنى من قبل انتقال اللفظ؛ لأن الأرواح إنما تستلذ بالمعنى، وإليه الإشارة بقوله: "وقد تختص مواقعه بفوائد". قوله: (لما ذكر الحقيق بالحمد)، يعني: أن العبد حين خص الحمد بالله تعالى، وأجرى

وأجري عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء، وغاية الخضوع، والاستعانة في المهمات؛ فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك، ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه تلك الصفات العظام على طريقة لزم منها غثبات المطلوب مع التميز التام لتلك الذات، وانضمام استحقاقه لذلك الشكر اللساني بالشكر بالجوارح والقلب خاطبه بقوله: "إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين"، فترقى من البرهان إلى العيان، ومن مدرج علم اليقين إلى عين اليقين. قوله: (فقيل: إياك يا من هذه صفاته)، الفاء للتعقيب، أي: فأريد الخطاب فقيل: إياك، مثلها في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]. وما أحسن الفاء التي في قوله: "فخوطب"، فإنها منادية على أن المقام للتدرج والترقي، لا على تقدير السؤال المقول عنده: كيف تحمدون؟ فقيل: إياك نعبد، وأبى الله تعالى إلا نصرة الحق. قوله: (ليكون الخطاب أدل)، تعليل للتدرج، يعني لما حصل من إجراء الأوصاف على من يستحق الحمد على سبيل الغيبة تميز الموصوف. ومن التميز استحقاقه الثناء وغاية الخضوع بناءً على ترتب الحكم على الوصف، أريد مزيد ذلك، فخوطب ذلك المتميز ليتقوى ذلك التميز السابق فيزيد ذلك الاستحقاق؛ لأن مقام المشاهدة لا يحتمل ما يحتمله مقام المغايبة من الإيهام؛ فترقى من الحمد إلى العبادة والاستعانة مع رعاية معنى الاختصاص. قال ابن جني: إنما ترك الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الحمد دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده؟ ! ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى أمد الطاعة قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إصراحاً بها وتقرباً منه.

فإن قلت: لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟ قلت: ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته، فإن قلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يعبر بلسان أهل العرفان ويقال: إن الحمد مبادئ حركة المريد، فإن نفس السالك إذا تزكت، ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية- والعناية هي التي أوجبت الولاية- تجردت النفس الزكية للطلب، فرأت آثار نعم الله عليها سابغة، وألطافه غير متناهية، فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر، فكشف لها الحجاب من ما وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين، فشاهدت ما سوى الله على شرف الفناء، مفتقرة إلى المبقي محتاجة إلى التربية؛ فترقت لطلب الخلاص من وحشة الإدبار وظلمة السكون إلى الأغيار. فهبت لها من نفحات جناب القدس نسيمات ألطاف الرحمن الرحيم، فعرجت من هذا المقام بلمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الأحد الصمد، المالك الحقيقي، فنادت بلسان الاضطرار في مقام (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر: 16]: أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك. وهناك خاضت لجة الوصول، وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقالت: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وهنا انتهاء مقام السالك. ألا ترى إلى سيد الخلق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الإسراء: 1]؟ فطلبت التمكين بقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، واستعاذت عن التلوين بقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)، فقصد مستكملاً ورجع مكملاً. وفي كلام صاحب "المفتاح" إيماء إلى هذا المعنى. قوله: (من جهته)، الضمير راجع إلى "ما يتقرب" يعني أنهم يتقربون بالعبادة، ويطلبون ما هو المحتاج إليه في هذه العبادة، وهو إعانة الله إياهم على العبادة. وهذا التقدير ملائم

فلم قدمت العبادة على الاستعانة، قلت: لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة؛ ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت: لم أطلقت الاستعانة؟ قلت: ليتناول كل مستعان فيه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للتفسير الثاني للاستعانة. وعليه يتوجه السؤال بأن يقال: إن كان طلب الإعانة على الطاعة مقدماً على الطاعة، فكيف أخره؟ فيجاب: قدم لكونه وسيلة وأخر لكونه طلباً. قوله: (ليستوجبوا الإجابة عليها)، الانتصاف: أهل السنة لا يعتقدون وجوب الثواب على الله تعالى، بل يقولون: هو تفضل منه وإحسان، لكنه يجب بإيجابه، فإما أن يكون الزمخشري أراد صدق الخبر، أو أجرى ذلك على قواعده في اعتقاد وجوب الجزاء. الإنصاف: إن في قوله: "تقديم العبادة كالوسيلة"، إشعاراً بأنهم فعلوا بقدرتهم ليحصلوا ما ليس من قدرتهم، وهو الاستعانة، وكلاهما من فضل الله. قوله: (ليتناول كل مستعان فيه)، يعني: لم يذكر متعلق الاستعانة لقصد التعميم، فلو ذكر لقصر عليه. الانتصاف: قوله: أطلق ليشمل في الموضعين ليس بمسلم، فإن الفعل لا عموم له كمصدره، والإطلاق يقتضي الإبهام والشيوع، والنفس إلى المبهم أتوق لتعلق الآمال المختلفة بالمبهم دون المعين. وقلت: ليس هذا من العام الذي توهمه، ولا من المطلق الذي تصوره؛ بل هو من قبيل المقيد الذي قصد بإطلاقه توخي العموم؛ ولذلك قال: أطلق ليشمل؛ وذلك أن قرائن المقام دلت على أن المستعان فيه ما هو، فلم يلتفت إليه، وقصد الإطلاق؛ ولذلك إذا قصد تقييده بأحد ما هو شائع فيه قيل: هذا تحكم، بخلاف المطلق المتعارف! ألا ترى على كلام صاحب

والأحسن أن تراد الاستعانة به، وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: (اهْدِنَا) بياناً للمطلوب من المعونة؛ كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجزة بعض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "المفتاح": "أو القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم- ذهاباً في نحو: فلان يعطي ويمنع: إلى معنى: يفعل الإعطاء- إيهاماً للمبالغة بالطريق المذكور في إفادة اللام الاستغراق"؟ والمذكور قوله: فإذا كان المقام خطابياً مثل: المؤمن غر كريم؛ حمل المعرف باللام- مفرداً كان أو جمعاً- على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما يعود إلى ترجيح أحد المتساويين. أولا ترى إلى معنى التعليل في قول المصنف: "لأن من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا اشتملت عليه"؟ فإن قرائن المقام دلت على أن المتعلق المضمر هو الإسلام؛ فاستدعى معنى العموم إطلاق الإنعام بإطلاقه على الإسلام مجازاً؛ ليشمل كل إنعام. ولو ذكر نعمة الإسلام لاقتصر عليها ولم ينبه على هذه النكتة. قوله: (والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه)، أي: الاستعانة بتوفيقه. وقوله: "به" توطئة. فعلى هذا ترك المتعلق للاختصار لقرينة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأن الإقامة على أداء العبادة لا تتأتى إلا بالتوفيق. قوله: (لتلاؤم الكلام)، يقال: لاءمت القوم ملاءمة إذا أصلحت وجمعت بينهم. وإذا اتفق شيئان فقد التأما. وحجزة الإزار: معقده، وحجزة السراويل: التي فيها التكة. المعنى: إذا قدر التعميم في "نستعين" لم يوافق "اهدنا"؛ لأن المطلوب في "اهدنا" خاص و"نستعين" عام. وكذا إنما يكون ملائماً لأول الكلام وهو: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إذا قدر التوفيق؛ لأن العبادة لا تتم إلا باستعانة الله وتوفيقه. فعلى هذا قوله: "ويكون قوله: اهدنا" عطف على "أن يراد".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقائل أن يقول: الحمل على العموم أولى؛ لتتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها كما كرر، ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق أيضاً دخولاً أولياً أولى من طلب مجرد التوفيق. ويلائمه أيضاً قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]؛ لأن صراط المسلمين أعم من العبادات؛ إما دنيا: فالعبادات والاعتقادات وعلم الأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك، وإما عقبى: فالنجاة من شدائد البرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار، والفوز بالدرجات العلى. وكل ذلك مفتقر إلى إعانة الله وفضله. وفي قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 153] بعد قوله: (أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .. ) [الأنعام: 151] الآيات إيماء إلى هذا المعنى. وأيضاً، طرق الضلالات التي يستعاذ منها بقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] لا نهاية لها، وباستعانته يتخلص من مهالكها. فإن قلت: المراد بالعبادة في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه؟ قلت: فإذن وافقت الاستعانة في العموم. وأيضاً قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مطلق كما قال: "أطلق ليشمل كل إنعام" قال القاضي: والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها؛ ولهذا شرعت الجماعة. انظر إلى هذه الاعتبارات الدقيقة في معنى الشمول والعموم لتعثر على تلك الرمزة وهي كونها أم القرآن ومطلع التنزيل.

وقرأ ابن حبيش: (نستعين) بكسر النون. [(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) 6]. هدى: أصله أن يتعدى باللام، أو بـ "إلى"، كقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]، فعومل معاملة "اختار" في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("نستعين" بكسر النون)، قيل: هي لغة بني تميم، فإنهم يكسرون حروف المضارعة إذا لم ينضم ما بعدها، سوى الياء لاستثقال الكسرة عليها. قوله: (أن يتعدى باللام أو بـ "إلى")، روي عن المصنف: يقال: هداه لكذا وإلى كذا: إذا لم يكن في ذلك، فيصل إليه بالاهتداء، وهداه كذا- بدون اللام و"إلى"- محتمل للحالين بين أن يكون فيه وبين أن لا يكون، حتى لا يجوز أن يقال في قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]: لسبلنا إلى سبلنا. وفيه بحث لجواز تقدير الإرادة في الأول، أي قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) أو إرادة تحصلي المراتب العالية في الثاني؛ ومن ثم جمع السبيل، كأنه قيل: من جاهد في سبيل واحد لنهدينهم إلى سبل الخيرات كلها، كما ورد "من عمل بما علم ورثه الله عِلم ما لم يعلم"، ولا فرق بين إلى واللام. وقال في قوله تعالى: (مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ) [آل عمران: 193] يقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وناداه له وإليه، ونحوه: هداه للطريق وإليه؛ وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، أي: يجمعها معنى الحصول والوصول.

ومعنى طلب الهداية وهم مهتدون: طلب زيادة الهدى بمنح الألطاف، كقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد: 17]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]. وعن علي وأبي رضي الله عنهما: (اهدنا): ثبتنا، وصيغة الأمر والدعاء واحدة؛ لأن كل واحد منهما طلب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى طلب الهداية)، على تقدير سؤال وهو أن يقال: كيف طلبوا الهداية وهم مهتدون؟ وهل هذا إلا تحصيل للحاصل؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: أنهم طلبوا الزيادة، وثانيهما: طلبوا الثبات. قال القاضي: والمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه. فإذا قاله العارف الواصل عنى به: أرشدنا طريق السير لتمحو عنا ظلمات أحوالنا وتميط غواشي أبداننا؛ لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك. قوله: (الألطاف)، وهي جمع لطف. وهو في عرف المتكلمينك ما يختار عنده المكلف الطاعة وينتهي بسببه عن المعصية. وتمام تقريره سيجيء في أول "البقرة". ومنح الألطاف ها هنا هو التوفيق المراد بالاستعانة على تقريره. قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]، تقرير الاستشهاد به أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفاً له على المبالغة، أي: في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا، ولا يكون مثل هذا الجهاد إلا هداية لا غاية بعدها. ثم قال: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) على الاستقبال، وصرح بلفظ "سبلنا"، ولا يستقيم تأويله إلا بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف. قوله: (وصيغة الأمر والدعاء واحدة؛ لأن كل واحد منهما طلب)، يعني: صيغة الأمر حقيقة في القول للطالب للفعل، وهو المختار.

وإنما يتفاوتان في الرتبة، وقرأ عبد الله: (أرشدنا). (السراط): الجادة، من سرط الشيء؛ إذا ابتلعه؛ لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما يتفاوتان في الرتبة)، أي: صيغة افعل إما أن تصدر عن مساو للمخاطب أو لا، والأول الالتماس، والثاني إما أن يصدر عمن له الاستعلاء أو لا، والأول الأمر، والثاني الدعاء. قوله: (وقرأ عبد الله)، إذا قيل: عبد الله مطلقاً، فهو ابن مسعود. قال صاحب "الجامع": كان من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب سره وسواكه ونعله وطهوره في السفر، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وهاجر إلى الحبشة، وصلى إلى القبلتين، وكان سادساً في الإسلام، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في سمته ودله وهديه. قوله: (السابلة)، الأساس: مرت السابلة والسوابل، وهم المختلفون في الطرقات لحوائجهم. الراغب: يقال: الصراط والزراط والسراط. والأصل سرطت الطعام وزردته: إذا ابتلعته. وسمي بذلك تصوراً أنه إما أن يبتلعه سالكه أو يبتلع هو سالكه. ألا ترى أنه قيل: فلان أكلته المفازة إذا أضمرته أو أهلكته، وأكل المفازة إذا قطعها؟ وعلى هذا النحو قال أبو تمام: رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه وقيل: قتل أرضاً عالمها، وقتلت الأرض جاهلها.

كما سمي لقماً؛ لأنه يلتقمهم، والصراط، من قلب السين صاداً؛ لأجل الطاء، كقوله: (مصيطر) في (مسيطر)، وقد يشم الصاد صوت الزاي، وقرئ بهن جميعاً، وفصحاهن إخلاص الصاد، وهي لغة قريش، وهي الثابتة في الإمام. ويجمع: سرطاً، نحو: كتاب وكتب، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد به: طريق الحقن وهو ملة الإسلام. [(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) 7]. بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل؛ كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف: 75] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسمي الطريق: اللقم والملتقم على هذا النحو، وذلك في معنى الملقوم، كالنقض بمعنى المنقوض. قوله: (مسيطر)، المسيطر: المسلط على الشيء، الأساس: وهو مسيطر علينا ومتسيطر: متسلط ومالك. قوله: (وقرئ بهن)، الضمير عائد على قراءة "سراط" بالسين، وإلى قلبها صاداً، وإلى إشمام الصاد الزاي. قال في "الشعلة": قرأ قنبل بالسين على الأصل، وغيره بإبدالها صاداً لتجانس الطاء في الاستعلاء والإطباق، فإنهم كرهوا أن يخرجوا من السين وهو مهموس مستفل منفتح إلى الطاء وهو مجهور مستعل مطبق.

فإن قلت: ما فائدة البدل، وهلا قيل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل؛ لأنك ثنيت ذكره مجملاً أولاً، ومفصلاً ثانياً، وأوقعت فلاناً تفسيراً وإيضاحاً للأكرم الأفضل؛ فجعلته علماً في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه بفلان فهو المشخص المعين؛ لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقرأ خلف بإشمام الصاد الزاي، بالغ في طلب المشاكلة بين الزاي والطاء؛ لأنها تزيد على الصاد في الموفاقة للطاء بالجهر. قوله: (ما فائدة البدل وهلا قيل: اهدنا صراط الذين؟ )، قد يظن أنه سؤالان، وليس به؛ بل هو سؤال واحد، فإنه لما قال: "صراط الذين أنعمت عليهم: بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل" اتجه لسائل أن يقول: لم أطنب الكلام وكرر المعنى الواحد، وهلا اقتصر على قوله: "اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم"، وما فائدة هذا التكرير؟ يدل عليه تقديم الفائدة في الجواب وكونه منطوياً على جواب واحد. قوله: (فجعلته علماً في الكرم والفضل)، يعني أن البدل فيه معنى التكرير ومعنى التوضيح. فالتوضيح يرفع الإبهام عن نفس المتبوع، والتوكيد يرفع إبهام ما عسى أن يتوهم في النسبة. وإلى التوكيد الإشارة بقوله: "التوكيد لما فيه من التثنية"، وإلى التوضيح الإشارة بقوله:

و (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ لأن من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم أصحاب موسى عليه السلام قبل أن يغيروا، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره"، ثم إذا اجتمع رفع الإبهامين يصير ذلك المبهم مشخصاً معيناً، وهو المراد بقوله: "فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع"، فإذن الفرق بين التأكيد وعطف البيان والبدل هو: أن البدل يوضح المتبوع كالبيان، ويؤكد أمر المتبوع في النسبة كالتأكيد، وفيه أمر زائد عليهما وهو أنه توكيد لنفس النسبة، وإليه أومأ بقوله: "كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم". قوله: (ليشمل كل إنعام)، تعليل للإطلاق، وقوله: "لأن من أنعم الله عليه" تعليل للاشتمال، يعني أن الأصل أن يذكر متعلق "أنعمت"، وهو الإسلام، فأطلق ليشمل كل إنعام، ثم كنى به عن ذلك المقيد ليؤذن بأن نعمة الإسلام مشتملة على جميع النعم، فلو قيد أولاً، لم يفد هذه الفائدة. قال الإمام: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. وسيجيء تقرير هذا التعريف في سورة "لقمان" إن شاء الله تعالى. وقال القاضي: الإنعام إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان؛ فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين، ونعم الله- وإن كانت لا تحصى- منحصرة في جنسين: دنيوي وأخروي. والدنيوي: إما موهبي كخلق البدن والقوى الحالة فيه ونفخ الروح وإشراقه بالعقل

وقيل: هم الأنبياء، وقرأ ابن مسعود: (صراط من أنعمت عليهم). (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بدل من (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر، أو كسبي: كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الفاضلة، وكتزيين البدن بالهيئات المستحسنة والمال والجاه. والأخروي: أن يغفر ما فرط منه، ويرضى عنه ويبوئه في مقعد صدق. والمراد ها هنا القسم الأخير، فإن ما عداه يشترك فيه المؤمن والكافر. وقلت: الأشبه الحمل على الإطلاق كما ذكر المصنف. نعم الذرائع النعم العاجلة لتحصيل النعم الآجلة؛ ولهذا من الله تعالى على حبيبه بقوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى: 6] إلى آخر السورة. قوله: (وقيل: هم الأنبياء)، يدل عليه قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ) [مريم: 58] قال: "مِنْ" للبيان؛ لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. وأولى الوجوه الأول؛ إذ عم كل من آمن بالله من الأنبياء وغيرهم ليطابق ألفاظ السورة، ويعضده قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، لا توقيت فيه". قوله: (على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا)، يعني إنما يصح إبدال هذا من ذلك إذا اعتبر مفهوم أحدهما مع منطوق الآخر ليتفقا. ولذلك قال: "هم الذين سلموا من غضب الله"، ووسط ضمير الفصل، وهو من بدل الكل. وإذا جعل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) صفة لـ (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) كان من قبيل: شجاع باسل؛ من إقامة الوصف مقام الموصوف

فإن قلت: كيف صح أن يقع "غير" صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت: (الذين أنعمت عليهم) لا توقيت فيه، فهو كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لرسوخه فيه، فآذن ذلك بأن تلك الذات جامعة لهذين المعنيين، وإليه الإشارة بقوله: "على أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وبين السلامة من غضب الله". قوله: (لا يتعرف)، يقال: تعرفت ما عند فلان، أي: تطلبت حتى عرفت. قوله: (لا توقيت فيه)، أي: "الذين أنعمت عليهم"، قريب من النكرة؛ لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم، و"غير المغضوب عليهم" قريب من المعرفة بالتخصيص الحاصل لها بالإضافة. وكل واحد منهما فيه إبهام من وجه واختصاص من وجه. التخمير: المؤقت في الأصل: هو الذي حد وقته، ثم جعل عبارة عن المحدود. قوله: (ولقد أمر على اللئيم يسبني)، تمامه: فمضيت ثمة قلت: لا يعنيني لم يرد باللئيم لئيماً بعينه، ولا كل اللئام لاستحالته، ولا الحقيقة لاستحالة أن يمر على مجرد الحقيقة لعدمها في الخارج بل لئيماً من اللئام، واللام للعهد الذهني "المعبر عنه بتعريف الجنس على ما سبق في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ". قال ابن الحاجب: الحقيقة الذهنية معرفة في الذهن، نكرة في الخارج، فقوله: "يسبني" صفة للئيم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: وهو بمنزلة قولك: إني أمر على الرجل مثلك فأكرمه، هذا المثال أظهر؛ لأن الأول يحتمل الحال. وأجيب أنه لا يحتملها؛ لأن القائل يمدح نفسه ويصف أناته وتؤدته، وأن الحلم دأبه وعادته، لا أنه مر على لئيم معين مرة، وأنه احتمل مساءته ومسبته. وعن بعضهم: لا يحتملها لئلا تكون مقيدة؛ لأن الجملة وهي "يسبني" إذا كانت حالاً تكون مقيدة بخلاف الصفة. وقلت: دل عطف "فمضيت" و"قلت"- وهما ماضيان- على "أمر" وهو مضارع على إرادة الاستمرار المورث للعادة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) [فاطر: 29]، وعلى أن المسبة والتغافل إنما يحدثان منه عند مروره عليه. فإن قلت: جعلت هذا الوجه- أي: عدم التعيين في الصفة والموصوف- أقوى الوجوه وقد روى الترمذي عن عدي بن حاتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المغضوب عليهم اليهود والضالون هم النصارى". قلت: قاله صلوات الله عليه وسلم تعريضاً بعدي؛ يدل عليه: ما روينا عن الترمذي أيضاً عن عدي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت جئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي ثم ساق الحديث إلى قوله: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لي: "يا عدي، ما يفرك من الإسلام أن تقول: "لا إله إلا الله" فهل تعلم من إله سوى الله؟ قلت: لا، ثم قال: أتفر من أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ قلت: لا. قال: اليهود مغضوب

ولأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في (غَيْرِ) إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرف. وقرئ بالنصب على الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليهم والنصارى ضلال، قلت: فإني حنيف مسلم، فرأيت وجهه تبسط فرحاً" قلت: وكان عدي نصرانياً. الراغب: إن قيل: كيف فسر على ذلك وكلا الفريقين ضال ومغضوب عليه؟ قيل: خص كل فريق منهم بصفة كانت أغلب عليهم، وإن شاركوا غيرهم في صفات ذم. إن قيل: ما الفائدة في ترادف الوصفين، وأحدهما يقتضي الآخر؟ قيل: ليس من شرط الخطاب أن يقتصر في الأوصاف على ما يقتضي وصفاً آخر دون ذلك الآخر، ألا ترى أنك تقول: حي سميع بصير، والسمع والبصر يقتضي الحياة؟ ! ثم ليس من شرط ذلك أن يكون ذكره لغواً، وإنما ذكر (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)؛ لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير، فبين بالوصف أن المراد ليس إلا نعمة مخصوصة. قوله: (ولأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم)، قال أبو البقاء: إن "غير" إذا وقعت بين متضادين وكانا معرفتين تعرفت بالإضافة، كقولك: عجبت من الحركة غير السكون. الراغب: الضلال والخطأ: العدول عن الطريق المستقيم، وعن الصواب، سواء كان العدول عن ذلك عمداً أو سهواً، وسواء كان يسيراً أو كثيراً، والصواب من الشيء يجري

وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال: الضمير في "عليهم"، والعامل "أنعمت"، وقيل: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): هم اليهود، لقوله: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة: 60]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجرى القرطاس من المرمى في أنه هو الصواب وباقيه ضلال وخطأ؛ ولهذا قالوا: كوننا أخياراً من وجه واحد، وكوننا أشراراً من وجوه كثيرة. ولصعوبة الصواب وكونه واحداً، ورد في الألفاظ النبوية: "استقيموا ولن تحصوا"، وعلى هذا النظر قال: "من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد". وإذا علم هذا، علم أن ليس كل خطأ وضلال يستحق به العقاب الدائم؛ بل كما قد يسمى أكبر الكبائر نحو الكفر ضلالاً وباطلاً وخطاً، قد يسمى بذلك أصغر الصغائر، وقد يتقارب الوصفان جداً وموصوفاهما متباعدان، فعرض الضلال والخطأ عريض، والتفاوت بين أدناه وأقصاه كثير، ولذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) [الضحى: 7] أي: وجدت غير مهتد إلى ما سيق إليك من النبوة والعلم. وقوله: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164] وقد يعبر عن سوء الاختيار نحو: (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 20] ويعبر عن الخيبة قال: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر: 47]. قوله: (قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: عادته في القراءة، وإلا فجميع الروايات قراءته، وهذه القراءة شاذة سواء أسندت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نسبت إلى ابن كثير؛ لكونها لم تثبت عند الأئمة السبعة. قال الزجاج: ويجوز أن النصب على الحال، أي: أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم، أو

والضالون: هم النصارى لقوله: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) [المائدة: 77]. فإن قلت: ما معنى غضب الله؟ قلت: هو إرادة الانتقام من العصاة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الاستثناء. وحق "غير" في الاستثناء النصب إذا كان ما بعد إلا منصوباً. وقال الفراء: لا يجوز الاستثناء؛ لأنه حينئذ بمعنى سوى، فلا يجوز أن يعطف عليها بـ "لا"؛ لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على الجحد، ولا يجوز: جاءني القوم إلا زيداً ولا عمراً. وأجازه الأخفش وقال: جاءني القوم إلا زيداً، معناه لا زيد فيجوز العطف عليه بـ "لا" حملاً على المعنى. وقال أبو البقاء: وذو الحال الضمير في "عليهم"، ويضعف أن يكون حالاً من "الذين"؛ لأنه مضاف إليه، و"الصراط" لا يصح بنفسه أن يعمل في الحال. وقيل: يجوز ويعمل فيها معنى الإضافة. قوله: (هو إرادة الانتقام)، المعنى ما سبق في الرحمن الرحيم. ولهذه الطريقة مسلك آخر وهو: أن الغضب تغير يحدث عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وهو على الله تعالى محال، فيحمل على إرادة الانتقام. والقانون في أمثاله هو أن جميع الأعراض النفسانية مثل الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والخداع والاستهزاء لها أوائل وغايات، فإذا وصف الله تعالى بشيء منها، يكون محمولاً على الغايات، لا على البدايات. مثاله: الغضب ابتداؤه غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليهم؛ فلفظ الغضب في حق الله تعالى يحمل على إرادة الانتقام كما قاله، لا على غليان دم القلب. قال ابن

وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده، نعوذ بالله من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت: أي فرق بين (عَلَيْهِمْ) الأولى، و (عَلَيْهِمْ) الثانية؟ قلت: الأولى: محلها النصب على المفعولية، والثانية: محلها الرفع على الفاعلية. فإن قلت: لم دخلت "لا" في: (وَلا الضَّالِّينَ)؟ قلت: لما في "غير" من معنى النفي كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وتقول: أنا زيداً غير ضارب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جني: ولما ذكر النعمة صرح بالخطاب لموضع التقرب من الله بذكر نعمته، وأسند النعمة غليه، ولما صار إلى ذكر الغضب روى عنه تعالى الغضب وانحرف إلى الغيبة، فانظر إلى هذه الأسرار. قوله: (وأن يفعل)، معطوف على إنزال العقوبة بهم من باب: أعجبني زيد وكرمه. قوله: محلها الرفع على الفاعلية)، قال أبو البقاء: ليس في "غير المغضوب" ضمير؛ لقيام الجار والمجرور مقام الفاعل؛ ولذلك لم يجمع. قوله: (لم دخلت لا؟ )، تقرير السؤال: لم دخلت "لا" في (وَلا الضَّالِّينَ) ولا منفي قبله، وإنما يؤتى بـ "لا" بعد حرف العطف إذا كان قبله منفي، يقال: ما جاء زيد ولا عمرو، ولا يقال: جاء زيد ولا عمرو؟ قوله: (لما في "غير" من معنى النفي)، اعلم أن "لا" مزيدة عند البصريين لتوكيد النفي، وعند الكوفيين بمعنى غير.

مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ضارب، لأنه بمنزلة قولك: أنا زيداً لا ضارب. وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قرآ: (وغير الضالين). وقرأ أيوب السختياني: (ولا الضالين) بالهمزة، كما قرأ عمرو بن عبيد: (ولا جأن) [الرحمن: 39، 56، 74]، وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ضارب)، قال الزجاج: النحويون يجوزون أنت زيداً غير ضارب، ولا يجوزون: أنت زيداً مثل ضارب؛ لأن زيداً من صلة ضارب فلا يتقدم عليه. تم كلامه. وذلك أن وقوع المعمول فيما لا يقع فيه عامله ممتنع فامتنع قولك: أنا زيداً مثل ضارب؛ لأن "مثل" مضاف إلى ضارب و"زيداً" معموله، فكما لا يجوز تقدم ضارب على المثل لأنه مضاف إليه للمثل، لا يجوز تقدم "زيداً" عليه. وقولك: أنا زيداً غير ضارب، إنما يجوز؛ لأن "غير" لما كان متضمناً معنى النفي، كان بمنزلة: أنا زيداً لا ضارب، والإضافة في "غير" كلا إضافة. قوله: (أيوب السختياني)، قال صاحب "الجامع": هو أيوب بن أبي تميمة السختياني كان إماماً ثقة ثبتاً حجة ورعاً، أتى أنساً، وسمع الحسن وابن سيرين. السختياني بسكون الخاء المعجمة وكسر التاء فوقها نقطتان وبالنون، منسوب إلى السختيان: وهي الجلود. قوله: (جد في الهرب)؛ لأن التقاء الساكنين فيما إذ كان أولهما حرف لين والثاني مدغماً فيه مغتفر، فإذا هرب عن هذا الجائز فقد جد في الهرب.

ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة ودأبة. "آمين": صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، كما أن: رويد، وحيهل، وهلم أصوات سميت بها الأفعال التي هي: أمهل وأسرع وأقبل. وعن ابن عباس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين، فقال: "افعل"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جني: ذكر أن أيوب سئل عن هذه القراءة فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، وحكى اللحياني في الباز: البأز بالهمزة. ووجهه: أن الألف ساكنة ومجاورة لفتحة الباء قبلها. وقد ثبت أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فإنهم ينزلونه منزلة المحتمل بها كما في الوقف على بكر هذا بكر. قوله: ("آمين" صوت 9، أي: لفظ سمي به الفعل. قال صاحب "الضوء": إنهم وإن قالوا: إن هذه الأسماء موضوعة مواضع الأفعال إلا أن ذلك تجوز منهم؛ لأنها موضوعة مواضع مصادر سادة مسد أفعالها. فإذا قلت: صه فمعناه: سكوتك بالنصب، أي: اسكت سكوتك ثم أقيم صه مقامه، ولما كان هو ساداً مسد الفعل عبر النحويون بأنه اسم للفعل قصراً للمسافة، وإلا فهو اسم للمصدر في الحقيقة. وقديماً كان يختلج هذا التأويل في صدري حتى ظفرت بنص من قبل أبي إسحاق الزجاج، فإنه ذكر في "آمين" أنه صوت موضوع موضع الاستجابة، كما أن "صه" موضوع موضع السكوت. وقال الزجاج: وحقه من الإعراب الوقف؛ لأنه بمنزلة الأصوات إذ كان غير مشتق من فعل إلا أن النون فتحت لالتقاء الساكنين.

وفيه لغتان: مد ألفه قوصرها، قال: ويرحم الله عبداً قال آمينا وقال: أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقنني جبريل: آمين، عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب". وقال: إنه كالختم على الكتاب، وليس من القرآن، بدليل أنه لم يثبت في المصاحف، وعن الحسن أنه لا يقولها الإمام؛ لأنه الداعي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويرحم الله)، تمامه: يا رب لا تسلبني حبها أبداً قوله: (أمين فزاد الله)، تمامه: تباعد مني فطحل إذ لقيته البيتان أنشدهما الزجاج. قوله: (كالختم على الكتاب)، روينا عن أبي زهير النميري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل قد ألح في المسألة: "أوجب أن ختم" فقيل: بأي شيء؟ قال: "بآمين" قال أبو زهير: آمين مثل الطابع على الصحيفة. أخرجه أبو داود. كما أن الختم على الكتاب يمنعه من ظهور ما فيه على غير من كتب إليه- وهو الفساد- كذا الختم في الدعاء يمنعه من الفساد الذي هو الخيبة. لما روينا عن مسلم عن أبي هريرة قال:

وعن أبي حنيفة مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل، وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الشافعي رضي الله عنه يجهر بها. وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ (وَلا الضَّالِّينَ) قال: آمين، ورفع بها صوته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأبي بن كعب: "ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "فاتحة الكتاب، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً، فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة" أي: في الإجابة. قوله: (في الكتاب)، المغرب: أكتب الغلام وكتبه: علمه الكتاب، ومنه سلم غلامه إلى مكتب أي: معلم الخط. روي بالتخفيف والتشديد. وأما المكتب والكتاب فمكان التعليم وقيل: الكتاب: الصبيان. الجوهري: الكتاب: الكتبة، والكتاب أيضاً والمكتب واحد. وعن المبرد: ومن قال للموضع: الكتاب فقد أخطأ. وفي معناه روينا عن الدارمي عن ثابت بن عجلان الأنصاري: كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف ذلك عنهم. يعني بالحكمة: القرآن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال محيي الدين النواوي صاحب "الروضة": ومن الموضوع الحديث المروي عن أبي ابن كعب في فضل القرآن سورة سورة، وقد أخطأ من ذكره من المفسرين. وزاد الصغاني: وضعه رجل من أهل عبادان وقال: لما رأيت الناس اشتغلوا بالأشعار وفقه أبي حنيفة رحمه الله وغير ذلك ونبذوا القرآن وراء ظهورهم، أردت أن أضع لكل سورة فضيلة أرغب الناس بها في قراءة القرآن، وقل تفسير خلا من ذكر هذه الفضائل إلا من عصمه الله تعالى، والله أعلم بتحقيقه. تمت السورة بحمد الله وحسن توفيقه

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية، وهي مئتان وسبع وثمانون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الم)] الم اعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة البقرة مدنية، وهي مئتان وسبع وثمانون آية غير آية نزلت يوم عرفة بمنى. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (الألفاظ التي يتهجى بها)، الأساس: تعلم هجاء الحروف وتهجيتها وتهجيها وهو يهجوها ويتهجاها: يعددها. وقيل لرجل من قيس: أتقرأ القرآن؟ فقال: والله ما أهجو منه حرفاً. ومن المجاز: فلانٌ يهجو فلاناً هجاءً: يعد معايبه.

مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك (ضاد) اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: ((را))، ((با)): اسمان لقولك: ((ره))، ((به)) وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الحروف المبسوطة)، أي: حروف المباني المنثورة المفردة لا المركبة. قوله: (ضه)، بغير إفصاح الهاء وإنما كتبت على لفظ الواقف. والضمير في ((تهجيته)) يعود إلى ((ضه))، وقيل: إلى ((ضرب))، وهو أحسن. و ((تسمي)) من قولهم: سميت زيداً: إذا ذكرته، لا من التسمية بمعنى: وضع الاسم للمسمى. وأما التسمية بمعنى الوضع فهو المراد من قوله: ((وقد روعيت في هذه التسمية)). قوله: (وحدانٌ)، وهو جمع واحدٍ كركبانٍ جمع راكب. قوله: (اتجه لهم)، يقال: اتجه لأمر كذا، أي: وجه وجهه إليه، الجوهري: اتجه له رأيٌ، أي: سنح. قال الإمام قطب الدين الفالي تغمده الله بغفرانه: اعلم أن تصدير الاسم بالحرف المسمى يتوقف على ثلاثة أمورٍ: أحدها: كون المسمى لفظاً؛ إذ لو كان معنًى لا لفظاً لم يمكن تصدير الاسم. والثاني: كون المسمى حرفاً واحداً ليقع في الصدر. والثالث: كون الاسم ثلاثياً؛ إذ لو كان الاسم حرفاً واحداً كالمسمى اتحد الاسم والمسمى، ولو كان اثنين لم يستقم أيضاً لوجهين:

فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، والحولقة، والحيعلة، والبسملة وحكمها - ما لم تلها العوامل - أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثه فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما أولاً: فلأن الاسم المتمكن لا يكون على حرفين. وأما ثانياً: فلأن الحرف الثاني إما أن يكون صحيحاً، أو معتلاً، فإن كان صحيحاً لم يستقم لما مر، وإن كان معتلاً فلا يستقيم أيضاً لذلك، ولأنه قابلٌ للتنوين، وعند التنوين يسقط حرف لعلة، لاجتماع الساكنين. فإذا سقط حرف العلة عاد محذوراً اتحاد الاسم والمسمى، فتعين أن يكون ثلاثياًّ؛ إذ لا احتياج إلى الزيادة في المعنى. قوله: (فلم يغفلوها)، الأساس: فلاةٌ غفلٌ: لا علم فيها، ونعمٌ أغفالٌ: لا سمة عليها. المعنى: لم يجعلوا الأسامي أغفالاً لا سمة عليها من المسمى. وقيل: لم يغفلوها: لم يتركوها، من قولك: أغفلت الشيء، إذا تركته. والضمير راجعٌ إلى الطريق أو إلى اللطيفة أي: ما تركوا تلك الطريق غير مسلوكةٍ، واللطيفة غير مرعية. قوله: (استعاروا الهمزة مكان مسماها)، أي: مسمى الهمزة مكان مسمى الألف؛ لأن الألف اسم مدةٍ ساكنةٍ قبلها فتحة. ذكر ابن جني في ((سر الصناعة)): أن الألف في الأصل اسم الهمزة، واستعمالهم إياها في غيرها توسع. وذلك أن الهمزة تصير هذه المدة إذا أتى في آخر الاسم، ثم لما غلب استعمال الألف في هذه المدة أهمل ما وضع عليها.

كقولك: هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفا. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقي على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع؟ وكيف تلقيها أغفالا من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططا. فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالاسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى تأدية ذاته فحسب)، الجوهري: أحسبني الشيء: كفاني. وحسبك درهمٌ، أي: كفاك. وذلك أن اللفظ موضوعٌ للمعنى، وحركات اللفظ الإعرابية دالةٌ على أحوال المعنى، فإذا لم يرد باللفظ إلا مجرد معناه يجاء به عرياًّ عما يدل على الأحوال الطارئة عليها عند الإعراب. قوله: (ليرفع)، أي: ليضبط، الأساس: ومن المجاز: ارفع هذا الشيء: خذه. قوله: (كما توقع)، صفة مصدرٍ محذوف. وفاعل ((وقع)) ضميرٌ يرجع إلى أنها حروف، الأساس: زعم فلانٌ أن الأمر كيت وكيت زعماً ومزعماً: إذا شك أنه حق أو باطل. وفي قوله مزاعم.: إذا لم يوثق به. توجيه السؤال: لم قطعت الحكم باسميتها ولم لا تزعم كزعمهم؟ قوله: (قد استوضحت)، الأساس: وضحته وأوضحته واستوضحته: وضعت يدي على عيني أطلب أن يضح لي. واستوضح عن هذا الشيء: بحث عنه.

في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، ومستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك: ((ألف)) دلالته على أوسط حروف ((قال)) و ((قام)) دلالة ((فرس)) على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: ((با))، ((تا)). وبالتفخيم كقولك: ((يا))، ((ها)). وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالظروف)، يعني نحو قبل وبعد، ويعدون ((إذا)) و ((متى)) من حروف الشرط؛ لأنهم لما رأوا أن بعض الأسماء بمنزلة الحروف في كونها لا تتم في الاستعمال إلا بانضمام شيءٍ معها، استعاروا لها اسم الحرف. قوله: (ومستعملين الحرف في معنى الكلمة)، روينا عن الترمذي والدارمي عن ابن مسعودٍ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله مائة حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ)). قال القاضي: المراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه- وهو المعنى اللغوي- فإن تخصيصه به عزفٌ مجددٌ، ولعله سماه باسم مدلوله. قوله: (وذلك أن قولك ألف)، هذا شروعٌ في البرهان الذي استوضح منه اسمية هذه الألفاظ. أتى بحد الاسم وخواصه من التعريف والتنكير والتصغير.

والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إنى عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوما وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في ((لك)))، والباء التي في ((ضرب))؟ فقيل: نقول: باء، كاف فقال: إنما جئتم بالاسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: ((كهْ))، ((بهْ)). وذكر أبو على في كتاب ((الحجة)) في: (يس): وإمالة (يا)، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء. فأمالوا وإن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو ((يس)) أجدر. ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أي قبيل هي من الأسماء: أمعربة أم مبنية؟ ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من جانب الخليل)، كنايةٌ عن تعظيمه كقولك: المجلس العالي. وحق له ذلك لما روى الأنباري: أن الخليل بن أحمد البصري كان سيد أهل العربية قاطبةً في علمه وزهده واستخراجه مسائل النحو وتعليله. أخذ من أبي عمرو بن العلاء وأخذ منه سيبويه. قوله: (أقول: كه، به)، بإفصاح الهاء هاهنا للفصل. قوله: (وذكر أبو علي)، قال الأنباري: هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، كان من أكابر أئمة النحو، وعلت منزلته في النحو حتى قيل: ما كان بين سيبويه وأبي عليٍّ أفضل منه. صنف كتباً كثيرةً منها كتاب ((الحجة في علل القراءات السبع)). قوله: (من أي قبيلٍ هي من الأسماء: أمعربةٌ أم مبنية؟ )، السؤال مبنيٌّ على الخلاف في أن الأسماء قبل التركيب هل هي معربةٌ أم مبنية؟

قلت: بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: هذه الحروف [ليست] تجري مجرى الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب، وإنما هي تقطيع الاسم المؤلف الذي لا يجب له الإعراب إلا مع كماله. وقال: أجمع النحويون أن هذه الحروف مبنيةٌ على الوقف، بمعنى أنك تقدر أن تسكت على كل حرف وتجمع بين الساكنين كما بني العدد على السكون. وقال ابن الحاجب: المعرب: المركب الذي لم يشبه مبني الأصل. وفي سؤاله نوع إنكارٍ على جعل الألفاظ إما موقوفةً أو معربةً على ما بنى الكلام السابق عليه، وهو: ((وحكمها ما لم تلها العوامل أن تكون موقوفةً، فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب)) أي: الألفاظ الموقوفة من أي قبيلٍ هي من الأسماء؟ فإنها لا تخلو من هذين القبيلين. وما هذا التقسيم وتصريحه بذكر الأسماء إلا لمزيد الإنكار؛ ف ((أم)) في قوله: ((أم مبنية)) منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، كأنه قال: أمعربةٌ؟ ثم أضرب عن هذا السؤال وأنكر أن تكون معربةً فقال: هي مبنيةٌ لفقد مقتضى الإعراب، وهو التركيب كما عليه مذهب ابن الحاجب وغيره. ولذلك أجاب بالإضراب عن السؤال في كونها مبنيةً، وقال: ((بل هي أسماءٌ معربة)) كزيدٍ وعمرو، وأقحم الأسماء أيضاً لمزيد الإنكار على كونها مبنية، أي: هي أسماءٌ غير

والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء: أنها لو بنيت لحُذي بها حذو: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشابهةٍ للحروف كأين وكيف، بل هي أسماءٌ متمكنةٌ كزيدٍ وعمروٍ. وهذا مطابقٌ لحده المعرب في ((المفصل)): ((المعرب: المركب الذي يختلف آخره باختلاف العوامل، أي: من شأنه أن يختلف)). ويجوز أن تكون ((أم)) متصلةً و ((بل)) إضرابٌ عن التردد. أي: سؤالك هذا يشعر بأنك مترددٌ في كونها معربةً، وليست بقاطعٍ فيه، فاقطع بأنها معربةٌ، فالمضرب لازم التركيب. وقيل: الأصل في الكلمات إذا كن قابلاتٍ للإعراب، الإعراب الذي هو مسبب التركيب؛ لأن وضع الألفاظ لمسيس الحاجة إلى التعاون والتعارف، فوضعت بإزاء المعاني الذهنية لتفيد النسب دون المعاني المفردة، وإلا فتدور فقطعها عن التركيب عارضٌ كعروض الوقف، فاغتفر فيها التقاء الساكنين عند عروض عدم التركيب كما عند عروض الوقف، ولا يسكن آخر ما لا يقبل الإعراب إذا عدد نحو: أين، وكيف، وحيث، وحين؛ لأن حركتها لازمةٌ فلا تزول لعارض، وإنما زالت في الوقف للضرورة. وقال المالكي: لم يبعد من الصواب رأي من جعله معرباً حكماً؛ إذ لو كان مبنياًّ لم يسكن وصلاً، إذا عددت نحو زيدٍ وعمرو؛ إذ لم يرد مبنيٌّ كذلك. قوله: (إن سكونها وقف)، الوقف: قطع الكلمة عما بعدها، وهذه الفواتح وإن وصلت بما بعدها لفظاً، لكنها موقوفةٌ نيةً. يعني: أن سكونها ليس للبناء/، فإن الأسماء المبنية: إما مبنيةٌ

((كيف))، و ((أين))، و ((هؤلاء)). ولم يقل: ((ص))، ((ق))، ((ن)) مجموعا فيها بين الساكنين. فإن قلت: فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصورا، فلما أعرب مدّ فقال: هذه باء، وياء، وهاء وذلك يخيل أن وِزانها وزان قولك ((لا)) مقصورة فإذا جعلتها اسما مددت فقلت: كتبت (لاء)؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل والسبب في أن قُصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الحركة نحو كيف، وأين، وهؤلاء، أو على السكون على وجهٍ لا يلزم منه التقاء الساكنين ك: متى، وحتى. وهذه ليست كذلك؛ لأنها لو بينت لقيل: صاد وقاف بالفتح كالمبنيات، ولم يقل: صادٍ وقافٍ كزيدٍ وعمروٍ، جمعاً بين الساكنين. قوله: (فلم لفظ المتهجي)، يعني: كأن القياس على ما ذهبت في نحو ((صاد)) و ((قاف)) أن يقال: ((باء)) و ((تاء)) مهموزةً ساكنةً، وحين لفظ المتهجي، حال التهجي مقصورةً، وممدودةً حالة التركيب، خيل حرفيتها مقصورةً، واسميتها ممدودةً، كقول حسان يمدح النبي صلى الله عليه وسلم. ما قال قط إلا في تشهده ... لولا التشهد لم يسمع له لاء ويؤيده ما روينا عن الدارمي عن جابرٍ قال: ((وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط، فقال: لا)). وأجاب: أن كونها مقصورةً ليس لكونها حرفاً، بل لأمرٍ آخر وهو طلب الخفة، فلم يعلم من ذلك حرفيتها، فوجب الرجوع إلى تلخيص الدليل وهو البرهان النير.

خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت: فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد تبين أنها أسماءٌ)، يعني أطنبت في تقرير كونها أسماء، وتركت المقصود الأولى وهو وجه وقوعها على هذه الصورة المخصوصة في أوائل السور من بيان فائدتها، وكيفية إعرابها فيها، وتخصيص كلٍّ من السور التي فاتحتها بما اختصت به، وتخصيص أعدادها وغير ذلك، فإن كل ذلك هو المطلوب في التفسير. ودل على هذا الإنكار الفاء في قوله: ((فنا وجه وقوعها؟ )). وأجاب عن ذلك بوجوهٍ ثلاثة: وهي أنها أسماءٌ للسور، أو هي كقرع العصا، أو أنها تقدمةٌ لدلائل الإعجاز، وضمن هذه الوجوه الثلاثة ما يقتضيها من الفوائد، ومن كونها معربةً أو محكيةً. ومن اختصاص أعدادها وغير ذلك كما سيرد، فعلم من هذا البيان أن الأبحاث السابقة كانت كالمقدمة للاحقة. قوله: (لحروف المعجم)، الجوهري: العجم: النقط بالسواد. ومنه حروف المعجم وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط. ومعناه حروف الخط المعجم، كما تقول: مسجد الجامع، أي: مسجد اليوم الجامع. وناسٌ يجعلون المعجم بمعنى الإعجام مصدراً مثل المخرج والمدخل، أي: من شأن هذه الحروف أن تعجم. قوله: (وعليه إطباق الأكثر)، قال الإمام: هو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه.

وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب ((باب أسماء السور)) وهي في ذلك على ضربين: أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: ((كهيعص))، و ((المر)). والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسما فردا كصاد وقاف ونون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك: حم. وطس. ويس. فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ((ميم)) مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء واحد كدارابجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح ابن أوفى العبسي يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ. فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها لاجتماع سببى منع الصرف فيها، وهما: العلمية، والتأنيث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كسره)، أي جمعه، الأساس: ومن المجاز: كسر الطائر جناحيه كسراً: ضمهما للوقوع، وكسر الكتاب على عدة أبوابٍ وفصول. قوله: (وهي في ذلك)، أي الفواتح في كونها أسماءً للسور. قوله: (قاتل محمد بن طلحة)، في الاستيعاب)): هو محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشي، المعروف بالسجاد. قتل يوم الجمل، وكان طلحة أمره أن يتقدم للقتال فنثل درعه بين رجليه وقام عليها، وكلما حمل عليه رجلٌ قال: نشدتك ب ((حم)) حتى شد عليه العبسي فقتله، وأنشأ يقول:

والحكاية: أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك: دعني من ((تمرتان))، وبدأت بـ ((الحمد للَّه))، وقرأت ((سورة أنزلناها)). قال: وَجَدْنا في كِتَابِ بَنى تَمِيم ... أَحَقُّ الْخَيْلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأشعث قوامٍ بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم خرقت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً ... علياًّ، ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرني .... ، البيت. فلما رآه علي رضي الله عنه بين القتلى، استرجع وقال: إن كان لشاباًّ صالحاً، ثم قعد كئيباً. سمي السجاد لتعبده. شجر الرمح: اختلف. والتشاجر: التخاصم. وكل شيءٍ دخل في بعضٍ فقد تشاجر. قيل: المراد بقوله: ((حم)) قوله تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)، وهو في ((حم)) الشورى [الآية: 23]. قوله: (دعني من تمرتان)، جوابٌ عن قول من قال: يكفيك تمرتان، أو هاتان تمرتان. قوله: (أحق الخيل)، كأنه من قول الشاعر: أعيروا خيلكم ثم اركضوها ... أحق الخيل بالركض المعار يقال: ركض فلانٌ دابته: إذا ضرب جنبيها برجله لتعدو. المعار: من عار الفرس، إذا انفلت، وذهب يميناً وشمالاً من مرحه، وأعاره صاحبه، فهو معارٌ, وفي ((الصحاح)): البيت للطرماح، وقال الصغاني: وهو خطأٌ، البيت لبشر بن أبي

وقال ذو الرّمّة: سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً ... فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعى بِلَالا وقال آخر: تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً ... وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِى وروى منصوبا ومجرورا. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت زيدا، من زيداً؟ وقال سيبويه: سمعت من العرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خازم. وقال أبو عبيدة: والناس يعتقدون أنه من الإعارة بمعنى العارية، وهو خطأ، ومعناه على هذا: أن صاحبه لم يشفق عليه، فغيره أحق أن لا يشفق. قوله: (لصيدح): صيدح علم ناقة ذي الرمة. قوله: (بلالاً)، قال في ((الجامع)): هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، كان على البصرة. ((الناس)) مرفوعٌ على الحكاية، كأنه سمع قائلاً يقول: الناس ينتجعون غيثاً. النجعة: طلب الكلأ والخير. وفي ((انتجعي)) مشاكلةٌ لقوله: ينتجعون غيثاً. قوله: (وروي منصوباً ومجروراً)، هذا العطف دل على كونه مرفوعاً، فالرفع على الابتداء، أي: الرحيل غداً. أي: ينادون بهذا القول. والنصب على ارحل الرحيل. والجر على اللفظ. ((وفي ترحالهم نفسي)) أي: هلاك نفسي أو استقر في ترحالهم نفسي.

لا من أين يافتى. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: صادَ، وقافَ، ونونَ مفتوحات؟ قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في: حم، وطس، ويس لو قرئ به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا من أين يا فتى)، يقول الرجل لآخر: من أين يا فتى؟ فيقول: لا من أين يا فتى، أي: لا تسألني عن نسبي ومقامي، وسل عن حسبي ومناقبي. قوله: (فما وجه قراءة من قرأ صاد؟ )، قال الزجاج: قرأ عيسى صاد وقاف ونون بالفتح لالتقاء الساكنين. وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق بالكسر. والفاء في السؤال دلت على الإنكار على الكلام السابق، وهو قوله ((فسائغٌ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية)) يعني: أين الإعراب أم أين الحكاية على هذه القراءة؟ فإنها تدل على كونها مبنيةً لما أسلفت أنها لو بينت لحذي بها حذو أين وكيف، أي: فتح آخرها. فإذن هذه الحركات ليست بإعرابيةٍ لفقد المقتضي، ولا هي للوقف؛ لأن المحكية إنما يوقف عليها بالسكون كما سبق. وأجاب: لا نسلم فقد المقتضي؛ لأن التقدير ((اذكر)). ويجوز أن يحرك على التقاء الساكنين في لغة من جد في الهرب عنه، كما في (وَلا الضَّالِّينَ). قال الزجاج: فالفتح في صاد ونحوه لالتقاء الساكنين؛ لأن الفتحة تختار مع الألف في التقاء الساكنين، قال سيبويه: إذا رخمت ((إسحار)) اسم رجلٍ مشدد الراء قلت في ترخيمه: يا إسحار أقبل، ففتحت لالتقاء الساكنين.

وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ: يس. ويجوز أن يقال: حرّكت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ: وَلَا الضَّالِّينَ. فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم: نعمَ اللَّه لأفعلن، وأيِ اللَّه لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم. وقال ذو الرمة: أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبى لَهُ اللَّهَ نَاصِح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحكى أبو سعيد السيرافي)، قال الأنباري: إنه كان من أكابر الفضلاء، زاهداً لا نظير له في علم العربية، ولو لم يكن له سوى ((شرح كتاب سيبويه)) لكفاه فضلاً. قوله: (ألا رب من قلبي له الله ناصحٌ)، تمامه: ومن قلبه لي في الظباء السوانح أي: ألا رب من قلبي له ناصحٌ، أحلف بالله. أضمر الفعل بعد أن أعلمه فيه على حذف الجار، تقول: أنا أحبه، فأنصحه بقلبي، وقلبه نافرٌ عني نفور الظباء. ويمكن أن يكون المعنى: قلبه مستقرٌّ في الظباء. والسانح: ما أتاك من يمينك من طائرٍ وظبي، والعرب تتيمن به، والبارح: ما أتاك عن يسارك، والعرب تتشاءم به.

وقال آخر: فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ قلت: إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم عليه واحد وقد استكرهوا ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فذاك أمانة الله)، صدره: إذا ما الخبز تأدمه بلحمٍ أي: فذاك أمانة الله الثريد. قوله: (إن القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوفٌ بهما)، حاصل الجواب: أنه لا يجوز أن تكون هذه الفواتح مقسماً بها، ومنصوباً كما ذكرتم؛ لأن الواو حينئذٍ: إما للقسم، أو للعطف. ولا سبيل إلى الأول؛ لاجتماع قسمين على مقسمٍ عليه واحدٍ وهو مستكره، ولا إلى الثاني؛ لمخالفته الثاني الأول في الإعراب، فبقي أن يكون معمولاً لفعلٍ مضمرٍ، فعلى هذا قوله: ((قال الخليل)) إلى قوله: ((هذا)) اعتراضٌ على سبيل الاستطراد مبينٌ لقوله: ((وقد استكرهوا ذلك)). بيانه: أن الخليل جعل ((الواو)) في قوله: ((والليل)) للقسم، و ((الواو)) في ((والنهار)) للعطف. فاشتركا في معنى القسيمة، فيجوز تلقيهما بمقسمٍ عليه واحدٍ. ولو قدر أن يكون الثاني أيضاً حرف قسمٍ؛ لزم أن يكونا قسمين مستقلين. والأفصح حينئذٍ أن يتلقى كل منهما بمقسمٍ عليه، كقولك: بالله لأفعلن، تالله لأخرجن. وإن جاز أن يقال: وحقك وحق زيدٍ لأفعلن للتأكيد، لكن لم يحسن ذلك الحسن؛ ولذلك استكرهوه.

قال الخليل في قوله عزّ وجلّ: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى): الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء. قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر، فيكون كقولك باللَّه لأفعلنّ، باللَّه لأخرجنّ اليوم. ولا يقوى أن تقول: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو علي: والذي يمنع هذا: أن القسم يبقى متعلقاً بغير مقسم عليه؛ ألا ترى أنه إذا قال: قاف أو صاد، فنصبه بأنه مقسم به، لم يتلقه محلوف عليه، يدل على ذلك استئنافك باسم آخر لا يجوز عطفة على هذا الاسم الأول إذا قدرته مقسما به لانجراره بالواو. فهذا التأويل الذي ذكرنا امتناعه في هذه الفواتح لا يخلو الاسم المنجر فيه من أحد أمرين: إما أن يكون معطوفاً على ما قبله، وإما أن يكون مستأنفاً منقطعاً منه. ولا يجوز أن يكون معطوفا على ما قبلة لانجراره وانتصاب المعطوف عليه، فإذا لم يجز ذلك؛ ثبت أنه منقطع مما قبله، وأن الواو للقسم لا للعطف، وإذا كان كذلك، لم يكن الأول قسماً؛ ألا ترى أن الخليل وسيبويه لم يجيزا في قوله تعال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) الآية [الليل: 1] كون الواوين اللتين بعد الأولي قسما كالأولي فقالا فيهما: إنهما للعطف لما كان يلزم من إجازة ذلك بقاء القسم الأول غير متعلق بمقسم عليه. تم كلامه. واستدل الخليل أيضا على أن الواو الثاني للعطف بأنه لو وضع موضعها "ثم" و"الفاء" كما يقال: وحياتي ثم حياتك لأفعلن: لم يتغير المعنى وهما حرف عطف. وأعترض عليه بأنه لو جعل الواو في: (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل: 2] للعطف؛ للزم العطف على معمولي عاملين متغايرين، وهو غير سائغ.

وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت: فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: اللَّه لأفعلن مجرورا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب المصنف بأنه لما تنزلت الواو التي في ((الليل)) منزلة الباء والفعل حتى لم يجز ذكر الفعل معها، صارت كأنها هي العاملة نصبا وخفضا، فصارت كعاملٍ له عملان كقولك: إن زيدا قائم وعمرا قاعد؛ فعومل معها معاملتهما. الانتصاف: في قوله تعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا* فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) [الصافات: 1 - 3] دليل على صحة مذهب الخليل وسيبويه، فوقوع الفاء هاهنا كوقوع الواو في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) ولم يفترق الحال إلا بما أعطته الفاء من تفاوت الترتيب. قوله: (هذا)، من فصل الخطاب، أي: مضي هذا. ثم شرع في بيان ما هو المقصود من كلامه، ونحوه قوله تعالى: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ) [ص: 55] فإنه تعالى كلما فرغ من نوع من الكلام وأراد الشروع في نوع آخر، فصل بقوله: ((هذا)). وقيل: هذا فصل أحسن من وصل. قوله: (فقدرها مجرورة)، مسبب عما قبله يعني لم يقدر صاد وقاف ونون مجرورة بإضمار حرف الجر لا بحذفها حتى يتم للك العطف؟ والفرق بين أن يكون مضمراً وبين أن

ونظيره قولهم: لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون محذوفا هو: أن المضمر أثره باق؛ كقولك: الأسد الأسد، والمحذوف لا أثر له؛ كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]. ويجوز أن يكون من باب قوله: بدالي أني لست مدرك ما مضي ... ولا سابق شيئا إذا كان جانيا قوله: (لاه أبوك)، أصله: لله أبوك. قال أبو على: قال سيبويه: حذفوا اللامين منه: لام الإضافة واللام الأخرى. وقيل: المحذوف لام الأصل والمبقى الزائد، خلافا لسيبويه. قال أبو على: فلهم أن يقولوا: إن الزائد جاء لمعنى، وهو أولى بأن يترك؛ لأنه إذا حذف زالت لحذفه دلالته التي جاء لها. وقد رأيناهم يحذفون من نفس الكلمة في نحو: لم يك، ولا أدر، ولم أتل، إذا كان في الذي أبقى دليل على ما ألقى. فعلى هذا المحذوف من هذا الاسك ما هو من نفسه والمبقى الزائد. وقيل: معنى التعجب في: ((لاه أبوك)) أنهم يفيدون بذكر اللام المفيدة للاختصاص: أن الله تعالى لكمال قدرته مختص بإيجاد مثل هذا الشيء العجيب الشأن. قوله: (يستتب)، الأساس: استتب الطريق: ذل وانقاد، كقولهم: طريق معبد. واستتب

قلت: هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه قال: أقسم اللَّه بهذه الحروف. فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك: أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامى، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبنيات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن قلت: هل تسوّغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له الأمر: استقام. ويجوز أن يقال للاستقامة والتمام: الاستتباب، أي: طلب التباب الذي هو الهلاك؛ لأن التباب يتبع التمام. كما قيل: إذا تم أمر دنا نقصه. قوله: (عن ابن عباس: أقسم الله بهذه الحروف)، قال الإمام: أقسم الله بها لشرفها؛ لأنها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم. قوله: (فما وجه قراءة بعضهم: صاد؟ )، سؤال آخر على تحريك هذه الحروف كما سبق في قوله: ((فما وجه قراءة من قرأ ((صاد)) بالنصب؟ )). وأجاب: أنه على تقدير الحكاية دون الإعراب؛ لكونها غير مصروفة. والمراد بقوله: ((ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين)) ما سبق في جواب السؤال السابق على فتح صاد. قوله: (هل تسوغ لي في المحكية)، والمحكية كما مضى نوعان: نوع لا يتأتى فيه الإعراب ألبتة نحو: (كهيعص) [مريم: 1] و (الم) [البقرة: 1]، ونوع سائغ فيه الإعراب أيضا نحو: ((حم)) و ((ق)).

قلت: لا عليك في ذلك، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل: (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الدخان: 2]، كأنه قيل: أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين: إنا جعلناه. وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلم «حم لا يبصرون» فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره. فان قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا عليك)، أي: لا بأس عليك في ذلك. ثم عطف عليه على سبيل البيان قوله: ((وأن تقدر)) أي: لا بأس عليك أن تقدر في المحكية حرف القسم مضمرا عاملا عمل الجر فيما يشبه (حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) [الدخان: 1 - 2] يعنى فيما بعده الواو، ولا يقدره محذوفا لئلا يجتمع قسمان على مقسم عليه واحد، أو يحصل الاختلاف في المعطوف والمعطوف عليه في الإعراب كما سبق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((حم لا ينصرون)) فعلى تقدير سؤال، يعنى: فيما لم يأت بعده الواو في المحكية ما تقول فيه؟ فقال: وفي مثله يجوز الجر والنصب على حذف الجار وإضماره لزوال المانع وهو الواو. قوله: (حم لا ينصرون)، روى الترمذي وأبو داود عن المهلب عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بيتكم العدو فقولوا: (حم) لا ينصرون)).

قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف: 2]. فإن قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت: لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب: اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال في ((الفائق)): والذي يؤدي إليه النظر في معنى هذا الحديث: أن السور السبع التي في أوائلها ((حم)) سور لها شأن، فنبه صلوات الله عليه أن ذكرها لشرف منزلتها وفخامة شأنها مما يستظهر به على إنزال رحمة الله في نصرة المسلمين، وفل شوكة الكفار، وقوله: ((لا ينصرون)) كلام مستأنف؛ كأنه حين قال: ((قولوا: (حم)، وقال له قائل: ماذا يكون إذا قلت هذه الكلمة؟ فقال: ((لا ينصرون)). قوله: (كأن المعنى في ذلك الإشعار) إلى آخره. فإن قلت: أليس هذا المعنى يفيده الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة في الفواتح وهو قوله: ((أن يكون ورودها على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا))؟ قلت: لأن هذا المعنى إنما يفيده هذا الوجه بحسب التناسب بين الاسم والمسمى من غير قصد في التسمية إليه، وهناك يفيده قصدا أوليا، ومن ثم قال: ((كأن المعنى)) على التشبيه دون الجزم. وفيه إشارة إلى مذهبه على سبيل الإدماج.

وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها، وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده؛ أمنت وقوع اللبس فيها، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بنى عليها علم الخط والهجاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وأن اللافظ بها) وقوله: (وأن بعضها مفرد)، معطوفان على شهرة أمرها، يعني: لا يخطر ببال أن المراد من ((ق)) و ((ن)) و ((ص)) الأوامر، أو فائدة أخرى يعبأ بها حتلا يحتاج أن يكتب قاف ونون وصاد لئلا تلتبس. قوله: (غير متهجاة)، أي: أن يتلفظ ((ق)) مفردة من غير أن يقال: قاف. قوله: (لا يحلى بطائل)، حليت منه بطائل، أي: ظفرت منه بفائدة، الأساس: ومن المجاز: حلى فلان في صدري وفي عينى، وهو حلو اللقاء وحلو الكلام. وفيه: وله عليه طول: فضل، وهو غير طائل: غير فاضل. قوله: (وأن بعضها)، أي: بعض أسامي حروف التهجي، يعني: ورود بعض هذه الفواتح نحو ث، ص، ن، مفرداً لا يخطر ببال من يراه مكتوبا كذا- غير المعني المراد به وهو الاسم الملفوظ به. وضمير ((مورده)) عائد إلى البعض، أي: أن ذلك البعض المكتوب على حرف واحد وارد على ذلك الملفوظ الذي هو الاسم. قوله: (أمنت وقوع اللبس)، خبر ((إن)) في قوله: ((فإن شهرة أمرها)). قوله: (علم الخط)، قال ابن الحاجب: الخط تصوير اللفظ بحرف هجائه، إي: اللفظ المقصود تصويره. فإذا قيل: اكتب زيدا، تكتب مسمى زاي وياء ودال. والأصل في كل كلمة أن تكتب بصورة لفظها بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها.

ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد اللَّه بن درستويه في كتابه: المترجم بكتاب الكتاب المتمم: في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عبد الله بن درستويه)، قال الأنباري: كان أحد النحاة المشهورين، والأدباء المذكورين. ألف كتابه في ((الهجاء))، وهو من أحسنها. ووجدت في كتاب صنف في هذا الفن: اعلم أن كتابة المصحف مثبتة بخط واحد على الأحرف السبعة، وهي تنقسم إلى ما يوافق القياس، وإلى ما لا يوافقه، بل يتلقى بالقبول؛ لأنها سنة واجبة الاتباع؛ لأنه رسم زيد بن ثابت رضي الله عنه، أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه، علم من هذا العلم ما لم يعلم غيره، وما خالفه إنما خالف لحكمة بليغة ومعرفة خفية؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فإنه كتب بلا ألف، ولا يجوز إثباتها؛ لأن إثباتها يؤدي إلى مخالفة من قرأ بغير ألف، وكذلك قوله تعالى: (فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) [يوسف: 15] كتبت بالياء من غير ألف، إذ لو أثبتت لبطلت قراءة من قرأ بالوحدة، ولو كتبت بالهاء لبطلت قراءة من قرأ بالجمع. قوله: (بكتاب الكتاب)، أي: بكتاب الكتابة. وفي بعض النسخ: ((بكتاب الكتاب)) بالتشديد.

خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد، كالإيقاظ، وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خط المصحف وخط العروض)، مبتدأ، و "خطان لا يقاسان" خبره. قدم على المبتدأ للتشويق، كقول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر قوله: (هكذا)، صفة مصدر محذوف، و "الإيقاظ" خبر "يكون"، و "مسرودة" حال. وصاحبها "هذه الأسماء"، والعامل "الورود" أي: الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء متتابعة على طريقة التعداد كالتنبيه لمن يرد عليه امر له شأن وفيه فخامة ليتلقاه بالقبول. قوله: (مسرودة)، الأساس: سرد الحديث والقراءة: جاء بهما على ولاء. قوله: (وقرع العصا)، أصله من قولهم: إن العصا قرعت لذي الحلم، يضرب لمن إذا نبه انتبه. قال الميداني: ذو الحلم: عامر بن الظرب، كان من حكماء العرب، لا يعددل بفهمه فهم، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: إنه قد كبرت سني، وعرض لي

وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم؛ ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتصاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره، فاقرعوا لي المحجن بالعصا. قوله: (وقد عجزوا عنه عن آخرهم)، أي: عجزوا صادرا عن آخرهم، فإذا صدر العجز عن آخرهم؛ فيكون قد صدر عن جميعهم متجاوزا عن آخرهم. قوله: (دونه)، أي: عند الوصول إليه. والضمير عائد إلى المتلو عليهم. قوله: (معجزتهم)، يروى بكسر الجيم وفتحها، الجوهري: عجزت عن كذا أعجز بالكسر عجزا ومعجزة ومعجزة ومعجزة ومعجزا، ومعجزا أيضا بالفتح على القياس. قوله: (الحوار)، الأساس: كلمته فما أحار جوابا، أي: ما رجع. قوله: (على التساجل)، الأساس: ومن المجاز: ساجله: فاخره. وله من المجد سجل سجيل: ضخم. واقتضب الكلام: ارتجله. قوله: (في القصيدة)، القصيد والقصيدة كالسفين والسفية. قوله: (الرجز)، الرجز: ضرب من الشعر، الجوهري: الرجز داء يصيب الإبل في أعجازها، فإذا ثارت الناقة ارتعشت فخذاها ساعة ثم تنبسط. ومنه سمى الرجز من الشعر لتقارب أجزائه وقلة حروفه.

المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشقت غبار كل سابق)، وهو من قول قصير: "فأركب العصا، فإنه لا يشق غباره". قال الميداني: وكانت العصا فرشا لجذيمة. يضرب لمن لا يجارى. فإن قلت: هل من فرق بين ما في الكتاب وما في المثل؟ قلت: ما في المثل هي للسبق، والمقام مقام مدح السابق؛ فينبغي أن يكنى به عن عدم لحوق اللاحق. وما في الكتاب إثبات له، والمقام مقام مدح اللاحق؛ فالواجب أن يعبر به عن السبق على السابق. قوله: (مطامح)، الأساس: طمحت ببصري إليه، وطمح المتكبر يعينه: شخص بها. قوله: (إلا لأنه ليس من كلام البشر)، استثناء من قوله: "إن لم تتساقط"، ومن المنفيات المعطوفة عليه. الانتصاف: هذا الفصل أتى فيه ببلاغة لكنه أفسدها بالنفي، وطول فيه حتى انتهى إلى الإثبات، وهو متقد على المتبني قوله في الخيل:

وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلٍ. ولناصره على الأوّل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا ركبت بها إلا إلى ظفر ... ولا حصلت بها إلا على أمل وقلت: ليت شعري كيف ينتقد على مثله في بلاغته، أم كيف يقاس هذا الكلام ببيت أبي الطيب؟ فإنه أوهم في البداية دعاء السوء وما يدخل منه في وهل السامع ما لا ينجبر بما يستدرك بعده، وإن المصنف سلك مسلك التشويق إلى ما يرد في الإنتهاء؛ أتى أولا بقرينتين مشتملتين على سلب مقدرة الخصوم وبيان عجزهم وهما قوله: "لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله"، ثم عقبهما بقرائن ثلاث مضمنات صفات بليغة للقرآن لتؤدي بالسامع إلى مبلغ لا يتمالك إلا طلب العثور على المطلوب. وكأن هذا الزاعم ـ بعد أن حرم الوقوف على الأساليب ـ ما تلي عليه قوله: (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) [التوبة: 120] والعجب أن المنفيات الثلاث الأولى مؤذنات بما هو عليهم، والقرينيتين الأخريين مشتملتان على ما هو لهم، ولا يبعد أن المصنف اقتبس كلامه من أسلوب الآية. قوله: (والخلاقة)، الأساس: وهو خليق بكذا: كأنما خلق له وطبع عليه. وقد خلق خلاقة. قوله: (بمنزل)، أي: بمنزل بعيد، ومنه قول صاحب "المفتاح": إن التركيب متى وقع موقعه رفع شأن الكلام في باب البلاغة إلى حيث يناطح السماك.

أن يقول: إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوبا في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة: يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدّى أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً، فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروى: قفا نبك، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) [التوبة: 1]، و (يوصيكم الله في أولادكم) [النساء: 11]، و (الله نور السماوات والأرض) [النور: 35]. وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور، والآي، وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: هذا الوجه أقرب إلى التحقيق، وأوفق للطائف للتنزيل، وأسلم من لزوم النقل ووقوع الإشتراك في الأعلام من واضع واحد؛ فإنه يعود بالنقص على ما هو مقصود من العلمية. وقال السجاوندي: والمروي عن الصدر الأول في التهجي أنها أسرار بين الله وبين نبيه صلوات الله عليه. وقد تجرى بين المجرمين كلمات معماة تشير إلى سر بينهما، وتفيد تحريض الحاضرين إلى إستماع ما بعد ذلك. وهذا معنى قول السلف: حروف التهجي إبتلاء لتصديق المؤمن وتكذيب الكافر.

من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسما واحداً على طريقة حضر موت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا وهي أعلام توقظ من رقدة الغفلة بنصح التعليم، وتنشط في إلقاء السمع على شهود القلب للتعظيم، كمن أراد الإخبار بمهم حرك الحاضر بيديه، أو صاح به صرة، ليقبل بكله عليه. ومصداق ذلك أن معظمها معقبة بذكر الكتاب. وقد قلبت الرأي ظهرا لبطن في تأويل معاني هذه الحروف سنين، ونيفت الأقاويل المختارة على الستين، ولم أتحصل على ثلج اليقين ولا ظفر الجهد على المراد قادر اليمين، حتى استروحت إلى هذا الوجه من التحري. ثم إني بعد التجاسر والإمتناع إذا بثعلب سقى الله عهده وهو الإمام الموثوق برأيه، يقول: حروف التهجي تنبيه في معرض ألا، وكفى بلطف الله في تجاذب الآراء موئلا. قوله: (ولكن إذا جعلت)، استدراك عن مقدر، أي: التسمية مستنكرة لا في جميع الصور، ولكن إذا جعلت إسما واحدًا على طريقة "جضرموت" في إعتبار الإعراب في آخره. قوله: (غير مركبة منثورة)، منصوبان بمضمر، أي: فأما إذا جعلت غير مركبة، منثورة فلا إستنكار في التسمية.

كما سموا: بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمى: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وناهيك)، أي: كافيك وحسبك بتسوية سيبويه. ومن قوله في "باب الترخيم": "ولو رخمت "تأبط شراً" من الأسماء لرخمت رجلاً يسمى بقول عنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلمي" قوله: (ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف)، أي: كما أن تسمية المفرد بالمركب في الحروف لا تصير الإسم والمسمى واحدا، كذلك عكسه. قوله: (ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب)، والفرق بين هذا الوجه والسابق ذكره: أن دلالة هذا على الإعجاز والغرابة من نفسه؛ لصدورها عمن لم يجر منه

وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامى الحروف، فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت: 48]. فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله - حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعليم، ودلالة ذاك عليه بإعتبار التنبيه على غرابة نظم القرآن؛ فلو تحدى به كاتب وقارئ لجاز، بخلاف الثاني. فالوجهان يدوران مع تفسير قوله تعالى: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) [البقرة: 23] في أن الضمير في "مثله" إما لرسول الله، أو للقرآن كما سيجيء. قال صاحب "التقريب": وفيه ضعف؛ لانه يمكن تعلمه لول بسماع من صبي في أقصر زمان. والجواب: أن صدور مثل هذه الألفاظ من مثله، وهو ممن لم يمارس الخط والقراءة، ولم يشتهر به، سواء تعلم أو لم يتعلم بديع وغريب، فكان حكمه حكم العرب العرباء إذا تكلم بالزنجية مثلاً، فمطلق التكلم به منه غريب. والمقصود من إثبات الغرابة في الفواتح ليس إلا التنبيه على ما يرد بعدها من الإنجاز. قوله: (ومن دان بدينها)، النهاية: "كانت قريش ومن دان بدينهم" أي: اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له دينا وعبادة.

في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللَّه عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامى حروف المعجم «1» أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون - في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي)، متعلق بقوله: "وكان حكم النطق" وهو وجه التشبيه. قوله: (وبمنزلة)، عطف على قوله: "حكم الأقاصيص". قوله: "بالرطانة"، الأساس: كلمة بالرطانة، ورطن له يرطن: كلمه بالعجمية. قوله: (أربعة عشر سواء)، وقال بعده: "في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم" لما كان نصفه الحقيقي على الكسر جعله النصف تقريبا كما فعل في أجناس الحروف وقال: "ومن المستعلية نصفها"، فأورد ثلاثة مع أنها سبعةن وكذا في حروف القلقلة. قيل: فيه نظر لتأكيد بقوله: "سواء". وأجيب: أن "سواء" صفة أربعة عشر، ولا يتعلق "بنصف أسامي حروف المعجم". قوله: (وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف)، يشكل بحروف الذلاقة وهي:

أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف؛ ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون؛ ومن المستعلية نصفها: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (مر بنفل)، وهي ستة، وذكر منها أربعة وهي: (مر بل)، وبحروف المصمتة وهي ما عداها، وذكر منها عشرة، فكأنه أكثر من الذبلقة ونقص من المصمتة لسهولة الذلاقة وثقل المصمتة. قوله: (من المهموسة)، وهي: "ستشحثك خصفه". قوله: (من المجهورة)، وهي ما ينحصر جرى النفس مع تحركه. وحروفها: "ظل قو ربض إذ غزا جند مطيع". قوله: (ومن الشديدة)، وهي ما ينحصر جري الصوت عند إسكانه في مخرجه فلا يجري، وحروفها: "أجدك قطبت". والرخوة: وهي ما عدا الشديدة. والمطبقة: وهي ما ينطبق على مخرجه الحنك، وحروفها: "صضطظ". والمنفتحة: هي ما يخالف المطبقة. والمستعلية: هي ما يرتفع اللسان بها إلى الحنك وحروفها: "خفق" وحروف المطبقة.

القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى اللَّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن اللَّه عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمنخفضة: هي ما عدا المستعلية. والقلقلة: هي ما ينضم إلى الشدة فيها ضغط في الوقف، وحروفها: "قدطبج" قوله: (مكثورةً بالمذكورة)، أي: مغلوبة بالكثرة، أي: المذكورة غالبة على غير المذكورة، ومنه: كاثرة، أي: غالبه بالكثرة. قوله: (فكأن الله)، قيل، إنما ذكر بلفظ كأن لأنه ذكر بعضه، وأراد الكل. قوله: (من التبكيت)، وهو إلزام الخصم بما يعتقده من الحجة. والذي ذكره: ما في الوجهين الأخيرين من معنى التحدي. تقريره على الوجه الأول: أن هذا القرآن الذي عجزتم عنه منظوم من جنس ما تنظمون منه كلامهم، وانتم تعرفون انه كذلك، فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله؛ فأذعنوا للحق. وعلى الوجه الثاني: أن محمدا صلوات الله عليه اشتهر عندكم أنه ممن لم يمارس الخط والكتابة، ولم يقتبس العلم من أحد؛ فقد أتي بهذا البحر الزاخر، فاتركوا العناد.

ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم «2». أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. فان قلت: فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ ومالها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فان قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل تكرير)، إعلم أن التكرير: إما تكرير الألفاظ بنفسها كقوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 13]، وإما تكرير المعاني من غير النظر إلى الألفاظ؛ فهو كتكرير هذه الألفاظ في السور، فالمكرر هو التنبيه نفسه وإن إختلفت الألفاظ. قوله: (فهلا جاءت على وتيرة واحدة)، الوتيرة: الطريقة. غن قلت: ما معنى الفاءات في الأسئلة وهي: "فهلا عددت؟ " و"فهلا جاءت؟ " و"فما وجه اختصاص كل سورة؟ " قلت: الأولى مسببة من جعل الفواتح كقرع العصا، وجعلها تقدمة لدلائل الإعجاز: أي: هذان السببان يوجبان أن تذكر مجموعة في صدر الكلام؛ فلم فرقت؟ والثانية مسببة عن قوله: "لأن إعادة التنبيه على أن المتحدى به مؤلف" يعني كان يحصل التنبيه بمجرد الإيراد؛ فهلا أجريت على نسق واحد على أن التكرير يستدعيه؟

فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت: هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت: فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت: إذا كان الغرض هو التنبيه - والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة - كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ولذلك لا يقال: لم سمى هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدوّا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثالثة: مسببة عن الجوابين يعني: هب أن التكرير لإعادة التنبيه، وأن إختلافها على عادة إفتنانهم؛ فما وجه إختصاص مواقعها في كل سورة؟ قوله: (آية سلك)، أية: ظرف "حاصل" وهي موصولة، والمضاف إليه محذوف لكونها لازمة الإضافة، والضمير في "سلك" راجع إلى الرجل، أي: أية طريق سلكها؟ قوله: (للاعتماد)، وهو وقوع الشئ على الشئ، الجوهري: إعتمدت على الشئ: إتكأت عليه.

وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئا منها آية. فإن قلت: فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عدّ (الرحمن) [الرحمن: 1]، و (مدهامتان) [الرحمن: 64] وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا: (الم اللَّهُ) أى: هذه (الم)، ثم ابتدأ فقال (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران: 1 - 2]. فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا مذهب الكوفيين)، والذي يعلم من كتاب "المرشد": هو أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة بينها. قوله: (أو جعلت وحدها أخبار إبتداء)، عطف على قوله: "لم تجعل"، وقوله: "ونعق بها" عطف عليه على سبيل البيان؛ كأنه قيل: إذا نعق بالفواتح أو لم ينعق، وجعلت أسماء للسور على حذف المبتدأ، تكون على كلتا الحالتين مستقلة، فيوقف عليها. قوله: (هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ )، قيل: هو مستدرك؛ لأنه قد علم غير مرة أنها معربة وعلم محلها. قلت: التكرير إنما يصار إليه، لمعان شتى منها: أن يعاد ليعلق عليه معنى آخر، وها هنا لما قال: "أو جعلت وحدها أخبار إبتداء محذوف" ليكون الوقف عليها تاما، سأل هذا السؤال ليعلق عليه المسألتين في حالتي النصب والجر على تقدير القسم، فعلم عدم جواز الوقف عليها إن عنى كونها مقسما بها، وإن عنى بها منصوبة ب"اذكر" يجوز الوقف.

أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة اللَّه واللَّه على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدّدة. [(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)]. فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمتقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا. وقال اللَّه تعالى: (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة: 68]. وقال: (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف: 37]، ولأنه لما وصل من المرسل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعلى الابتداء)، أراد بالإبتداء اعم من أن يكون مبتدأ أو خبرا؛ فإن الإبتدائية هو رافعها كما هو مذهب المحققين. قوله: (لما مر)، يعني في جواب قوله: "هل تسوغ في المحكية مثل ما سوغت لي في المغربة؟ " وهو قوله: "أن يقضي له بالجر والننصب جميعا". قوله: (ولأنه لما وصل)، معطوف من حيث المعنى على قوله: "وقعت الإشارة" فإنه لما قال: "لم صحت الإشارة ب"ذلك" إلى ما ليس ببعيد" أجاب: إنما صحت الإشارة لأنه أشير بها إلى (الم) بعد ما سبق، "ولأنه لما وصل من المرسل" إلى آخره.

. .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: "وقيل: معناه ذلك الكتاب" جواب آخر مستقل، يعني: ليس المشار إليه (الم) ليلزم المحذور؛ بل هو الكتاب، وهو من حيث كونه موعودا في حكم البعيد، وإنما جازت الإشارة إلى الآتي لتصوره أولا في الذهن. قال في قوله تعالى: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ) [الكهف: 78]: قد تصور بينهما حلول ميعاد، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، وأما الوعد، فقد قال الواحدي والإمام: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعد بقوله: (إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] فأشير بذلك إلى ذلك. وقال الزجاج: القرآن ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى عليهما السلام، ودليله قوله تعالى: (وكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة: 89]. ويؤيده ما روينا عن الدرامي عن كعب: "عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم. وأحدث الكتب بالرحمن عهدا. وقال في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا". ثم المشار إليه إن كان ما وعد بقوله: "ثقيلاً" كما ذهب إليه الإمام؛ فالمناسب أن يكون (الم) اسما للسورة؛ وهي المشار إليها، وإن كان كل القرآن؛ فالمناسب أن يكون تعدادا ليؤذن أن ذلك الموعد مركب من هذه الحروف. والأحسن ما ذكره صاحب "المفتاح": قال: (ذَلِكَ الكِتَابُ) ذهاباً إلى بعده درجة.

إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وقيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة - والمشار إليه مؤنث وهو السورة؟ قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمّك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول: هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: إن الفواتح وإن كانت حاضرة نظرا إلى صورتها؛ لكنها غائبة نظرا إلى أسرارها وحقائقها، أو لكونها يعسر على البشر الإطلاع عليها كأنها غائبة. قوله: (احتفظ بذلك)، الأساس: إحتفظ بالشئ، وتحفظ به: عني بحفظه. وإحتفظ بما أعطيتك؛ فإن له شأنا. قوله: (كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه)، قال ابن جني: حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلان لعوب، جاءته كتابي فاحتقرته. فقل: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة! وفي "حواشي" المصنف: هذا كقوله في الشمس: (هَذَا رَبِّي) لكونه الخبر مذكرا؛ ذكر المبتدأ، وهو قياس مطرد في كل ضمير يقع بين مبتدأ وخبر مختلفين في التذكير والتأنيث.

وقال الذبياني: نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً ... سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى فإن قلت: أخبرنى عن تأليف (ذلِكَ الْكِتابُ) مع (الم). قلت: إن جعلت (الم) اسما للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلِكَ). مبتدأ ثانياً، و (الْكِتابُ) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ومعناه: أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نبئت نعمى) البيت، الزاري: من زريت بالفتح زراية: إذا عبت عليه، نعمى: اسم إمراأة، وحكمها حكم هند في الصرف وعدمه، "عاتبة": ثالث مفاعيل نبئت، " على الهجران" متعلق بعاتبة، ويجوز أن يكون حالا من المفعول الأول. قوله: (والجملة خبر المبتدأ الأول)، إنما صح وليس فيها العائد؛ لأن اسم الإشارة قائم مقامه. قوله: (ومعناه: أن ذلك هو الكتاب)، الضمير فصل، أذن بإدخاله بين المبتدأ والخبر أن التركيب مفيد للحصر، وأذن بقوله "الكامل" أن التعريف في الخبر للجنس، وأذن بإقحام أذاة التشبيه في قوله: "كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص" أن الحصر على المبالغة دون الحقيقة. قال ابن جني: إن من عادتهم أن يوقعوا على الشئ الذي يختصونه بالمدح اسم الجنس؛ ألا تراهم كيف سموا الكعبة بـ"البيت"، وكتاب سيبويه بـ"الكتاب"!

الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال: هُمّ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: إن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا، يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به المقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره. قوله: (يستأهل)، الأساس: فلان أهل لكذا، واستأهل لذلك، وهو مستأهل له. وقد سمعت أهل الحجاز يستعملونه إستعمالاً واسعاً. وعد الحريري هذه الكلمة من جملة أوهام الخواص، وسيجئ بيانه في تفسير قوله تعالى (إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]. قوله: (هم القوم كل القوم يا أم خالد)، صدره: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم. حانت: هلكت. والموصول على نحو قوله تعالى: (وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) [التوبة: 69].

وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف، أى هذه الم، ويكون ذلك خبراً ثانياً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلج: اسم موضع بالبصرة. والمعني: إن الذين هدرت دماؤهم وأريقت بهذا الوضع هم القوم، أي: هم المشهورون بالرجولية والبراعة، الموصوفون بكمال الشهامة والشجاعة. قوله: (وأن يكون الكتاب صفة)، قال القاضي: وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة، أو فعال بني للمفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم قبل أن يكتب؛ لأنه مما يكتب وأصل الكتب الجمع، ومنه الكتيبة. الراغب: الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط؟ وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض في اللفظ؛ ولهذا سمي كتاب الله وإن لم يكتب كتابا كقوله تعالى: (الم* ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2] وقوله: (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ) [مريم: 30]. ويعبر عن الإثبات والاقدير والإيجاب والعرض والكتابة. ووجه ذلك: أن الشئ يراد، ثم يقال، ثم يكتب؛ فالإرادة مبدأ، والكتابة منهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد به توكيده بالكتابة التي هي المنتهى قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي) [المجادلة: 21] وقال تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) [التوبة: 51]. ويعبر بالكتابة عن القضاء الممضى أو ما يصير في حكم الممضى، وقد حمل على هذا قوله: (بَلَى ورُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80] وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) [المجادلة: 22].

أو بدلاً، على أن الكتاب صفة، وأن يكون: (هذه الم) جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ، خبره (الكتاب)، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أى هو - يعنى المؤلف من هذه الحروف - ذلك الكتاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بدلاً على أن الكتاب صفة)، هذا القيد ينبئ أن على تقدير كونه خبرا لا يلزم ذلك، فيجوز أن يكون صفة لـ"ذلك". وأن يكون (ذَلِكَ) مبتدأ، والكتاب خبره، والجملة خبر ثان، ولو جعل بلا ذلك تعين كون الكتاب صفة؛ لأن البدل عن المفرد لا يكون جملة، ونظيره قولك: هذا زيد أخوك الكريم، ولأنك إذا قلت: (ذَلِكَ) وتسكت، ثم تبتدئ (الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة: 2] ركبت متعسفا. قوله: (وذلك الكتاب جملة أخرى)، وفصلها لكونها مقررة لها. قال: نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوث بغاية الكمال. قوله: (بمنزلة الصوت)، شامل للوجهين الأخيرين: قرع العصا، والتقدمة للإعجاز؛ ولهذا قيد الكتاب بالمنزل، يعني تنبهوا أن هذا الكتاب هو الكتاب الكامل الذي عجزتم عن الإتيان بمثله، وهو منزل بلسانكم. وإنما قد هذا الوجه والوجه السابق بقوله: "الكامل" لأن الكتاب إذا وقع خبرا، كان التعريف للجنس، فيفيد الحصر لمعنى الكمال كما سبق، وإذا وقع صفة لذلك كان اللام للعهد، ويعود المعنى إلى أنه الكتاب الموعود. قوله: (يعني المؤلف من هذه الحروف)، وكان من حق الظاهر أن يقول: هذه الحروف ذلك الكتاب، لكن هذه الحروف لما كانت دالة على المركب المؤلف فيما بعده قيل: "المؤلف من هذه" تسمية للدال باسم مدلوله.

وقرأ عبد اللَّه: (الم* تنزيل الكتاب لا ريب فيه. وتأليف هذا ظاهر. والريب: مصدر رابنى، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، ومنه: ما روى الحسن بن على قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتأليف هذا ظاهر)، يعنى (الم) على أنها اسم للسورة مبتدأ، خبره: ((تنزيل الكتاب)). و ((تنزيل)) بمعنى المنزل، ويجوز أن يكون (الم) خبر مبتدأ محذوف و ((تنزيل الكتاب لا ريب فيه)) مبتدأ وخبر. وعلى أنها تعديد الحروف ارتفع ((تنزيل الكتاب)) على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ خبره ((لا ريب فيه)). قوله: (دع ما يريبك)، والحديث من رواية الترمذي والنسائي: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)). المعنى: دع ما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما لا شك فيه، يقال: دع ذلك إلى ذلك، أي: استبدله به، أو دع ذلك ذاهبا إلى غيره، وقوله: ((إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة))، جاء ممهدا لما تقدمه. المعنى: إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب من الكذب. فارتيابك في الشيء مبني على كونه باطلا؛ فاحذره، واطمئنانك إلى الشيء مشعر بكونه حقا، فاستمسك به. وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب، وأوساخ الآثام. فظهر أن قوله: ((إن الشك ريبة)) لا يستقيم رواية ولا دراية.

وتسكن. ومنه: ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن أحمد بن حنبل والدارمي، عن وابصة بن معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((جئت تسأل عن البر والإثم؟ )) قال: نعم، فجمع أصابعه، فضرب بها صدره وقال: ((استفت نفسك، استفت نفسك يا وابصة ثلاثاً؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)). الراغب: الفرق بين الشك والمرية والريب والإرابة والتخمين والحدس والوهم والخيال والحسبان والظن- أن الشك: هو وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة والمرية: هي التردد في المتقابلين، وطلب الأمارة؛ مأخوذ من مرى الضرع، أي: مسحه للدر، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن. والريب: أن يتوهم في السيء أمر ما، ثم ينكشف عما توهم فيه. والإرابة: أن يتوهمه فينكشف خلاف ما توهم؛ ولذلك قيل: القرآن فيه إرابة وليس فيه ريب. والتخمين: توهم لا عن أمارة. والحدس: إسراع الحكم بما يأتي به الهاجس من غير توقف فيه؛ مأخوذ من حدس في سيره، أي: أسرع. والوهم: صورة تتصورها في نفسك سواء كان لها وجود من خارج كصورة إنسان ما، أو لم يكن لها وجود كعنقاء مغرب. والخيال: تصور ما أدركته الحاسة في النفس.

ومنه أنه مر بظبي حاقف فقال: "لا يربه أحد بشيء". فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحسبان: اعتقاد عن أمارة اعتددت به، سواء كام له وجود في الحقيقة أو لم يكن؛ وهو مشتق من حسبت الحساب. والظن أعم معنى من ذلك كله؛ فإنه اعتقاد عن أمارة مما قد ثبت، فمتى كانت تلك الأمارة ضعيفة جرى مجرى خلت وحسبت، ومتى كانت قوية جرى مجرى علمت. قوله: (أنه مر بظبي حاقف)، عن مالك والنسائي عن البهزي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل وفيه سهم، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه)). وقال صاحب ((الجامع)): الظبي الحاقف: الذي انحنى وتثنى في نومه. لا يريبه، أي: لا يزعجه ولا يتعرض له. الأثاية بضم الهمزة وبالثاء المثلثة وبالياء تحتها نقطتان: موضع معروف بطريق الجحفة إلى مكة، وبعضهم يكسر الهمزة، والرويثة بلفظ التصغير، والثاء المثلثة. قوله: (كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق)، يعني: أنه تعالى نفي عنه الريب بالكلية،

وكم من مرتاب فيه! قلت: ما نفى أنّ أحداً لا يرتاب فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فينبغي أن لا يتصور فيه الريب، ولا ما يتعلق به من وجود المرتاب وقد كثر المرتابون. قوله: (ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه)، قيل: إن ((نفى)) مسند إلى ما بعده و ((لا)) زائدة، أي: ما نفى عدم ارتياب أحد، وفيه ضعف. وقيل: أن ((نفى)) مسند إلى ضمير الريب، واللام مقدر في قوله: ((أن أحدا)) والتحقيق: أنه مسند إلى ما بعده و ((لا)) غير مزيدة، وأن ((أحدا)) مثله في قوله تعالى: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) [الأحزاب: 32] يعني لم يقصد بالنفي الاستغراقي نفي كل واحد واحد لا يرتاب فيه، وإنما قصد نفي كل فرد من الريب، ويدل عليه قوله: ((وإنما: المنفي كونه متعلقا للريب)) وتعليله بقوله: ((لأنه من وضوح الدلالة)) إلى آخره، يعنى: ما نفى الريب بحيث ينتفي به المرتابون وإنما نفى المرتابون. وإنما نفي بطريق يرشد إلى أنه لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه؛ فإذن الكلام مع المرتابين، ويدل عليه أيضا تصدير الكلام بأسامي حروف التهجي؛ لأنها كالتنبيه وقرع العصا لهم، كأنه قيل: أيها المرتابون، تنبهوا من رقدة الجهالة، واعلموا أن القرآن من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه، فينطلق على هذا استشهاده بقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا) [البقرة: 23] وتفسيره: فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة. وكلام صاحب ((المفتاح)): ويقلبون هذه القضية مع المنكر إذا كان معه ما إذا تأمله ارتدع كقوله تعالى في حق القرآن: (لَا رَيْبَ) [البقرة: 2].

وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة: 23]! فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحرزوا أنفسهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مظنة له)، قال في ((النهاية)): المظنة بالكسر: مفعلة من الظن، أي: الموضع الذي يظن به الشيء. ومنه حديث: ((طلبت الدنيا من مظان حلالها)) أي: المواضع التي أعلم فيها الحلال. ناسب هذا التفسير معنى الآية من حيث إنه تعالى جعل القرآن كظرف أخلي عن الريب، يعني: ليس القرآن ظرفا للريب، ولا الريب مما يصلح أن يكون مظروفا له ومتعلقا به. قوله: (أن يقع فيه)، أي: يظعن، الأساس: وقع الشيء على الأرض وقوعا. ومن المجاز: وقع فيه: اغتابه. وفاعل ((يقع)) ضمير المرتاب، والضمير في ((فيه)) للقرآن، أي: لا ينبغي لمرتاب أن يطعن فيه. قوله: (فما أبعد وجود الريب عنهم)، أي: خاطب المصرين على الريب الجازمين فيه بما يدل على خلوهم عنه، ولم يقصد به أنهم غير مرتابين، وإنما قصد به إرشادهم وتعريفهم الطريق إلى مزيل الريب على سبيل الاستدراج، يعني: أن الارتياب من العاقل في مثل هذا المقام واجب الانتفاء، فلا يفرض إلا كما تفرض المحالات، وأنتم عقلاء ألباء، تفكروا فيه، وجربوا نفوسكم، وانظروا هل تجدون فيه مجالا للريب. قال في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ): ((وما أبعد)) وفيها مر ((ما نفي))؛ لأن ((لا)) صريحة في النفي، و ((إن)) هنا متضمنة له.

ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن قلت: فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغول في قوله تعالى: (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات: 47]؟ قلت: لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفى الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدّعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أنّ كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يروزوا)، الجوهري: رزته أروزه، أي: جربته وخبرته. قوله: (تتضاءل)، النهاية: وفي الحديث: ((أن إسرافيل يتضاءل من خشية الله)، أي: يتصاغر تواضعا له. وتضاءل الشيء: إذا انقبض وانضم بعضه إلى بعض، والضئيل: النحيف. قوله: (أن ليس فيه مجال)، مفعول ((فيتحققوا))، الجوهري: حققت الأمر وأحققته أيضا: إذا تحققته وصرت منه على يقين. قوله: (فهلا قدم الظرف)، معنى الفاء أنه حين حقق الجواب أن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، فهم أن الكلام في كون القرآن ليس مظنة للريب، لا في الريب، وكان تقديم الظرف أهم. فأجاب أن الظاهر وإن اقتضي ذلك، لكنه منعه مانع؛ وهو توهم إثبات الريب في غيره من الكتب السماوية، فسلك به مسلكا لا يؤدي إلى ذلك، وحصل المقصود. قوله: (كما تغتالها هي)، الجوهري: أي: ليس فيها غائلة الصداع.

وقرأ أبو الشعثاء: (لا ريب فيه) بالرفع، والفرق بينها وبين المشهورة، أنّ المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوّزه. والوقف على: (فِيهِ) هو المشهور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو عبيدة: الغول: أن تغتال عقولهم، أي: تذهب بها، أبرز الضمير للتأكيد، وإلا فليس هنا موضع للإبراز لعدم اللبس. قوله: (قرأ أبو الشعثاء)، قال في (الجامع): أبو الشعثاء بفتح الشين وسكون العين: اسمه سليم بن الأسود المحاربي، تابعي مشهور. قوله: (وهذه تجوزه)، أي: الاستغراق. قال الإمام: والذي يدل على إيجاد المشهور للاستغراق أن نفي الجنس نفي الماهية، وهو يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، فلو ثبت فرد من أفرادها ثبتت الماهية، وأما قولنا: ((لَا رَيْبَ فِيهِ)) بالرفع؛ فهو، وإن كانت نكرة في سياق النفي؛ لكنه نقيض قولنا: ((رَيْبَ فِيهِ))، وهو يحتمل أن يكون إثباتا لفرد واحد منها، ونفيه يفيد انتفاءه. وقال الزجاج: إذا قلت: لا رجل في الدار؛ جاز أن يكون فيها رجلان، وإذا قلت: لا رجل في الدار؛ فهو نفي عام. قوله: (والوقف على (فيه) هو المشهور)، قال الإمام: الوقف على (فيه) أولى؛ لأنه

وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على: (لا رَيْبَ) ولا بد للواقف من أن ينوى خبراً، ونظيره قوله تعالى: (قالُوا لا ضَيْرَ) [الشعراء: 50]، وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز. والتقدير: (لا ريب فيه). (فِيهِ هُدىً) الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون الكتاب نفسه هدي، ولما تكرر في التنزيل أنه هدي وهو نور، وعلى (لا ريب) لا يكون الكتاب نفسه هدي؛ بل يكون فيه هدي. قوله: (ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً)؛ لأنه إذا لم ينوه يلزم الشروع في الكلام الثاني قبل تمام الأول. قال في ((المرشد)): إن جعلت ((لا ريب)) بمعنى حقا كأنك قلت: ((الم ذلك الكتاب حقا))، فالوقف عليه تام، وإليه ذهب الزجاج، وقال: لأن ((لا شك)) بمعنى حقا. قوله: (والهدي مصدر كالسري)، اضطرب كلام سيبوسه في الهدي؛ فمرة يقول: هو عوض من المصدر؛ لأن فعلاً لا يكون مصدراً، وأخرى يقول: هو مصدر هدي، وقال أيضاً: قلما يكون ما ضم أوله من المصادر إلا منقوصاً؛ لأن فعلاً لا يكاد يرى مصدراً من غير ثبات الياء والواو، فدل على أنه مصدر كالبكاء والسرى. واعلم أن المصنف استدل على مطلوبه وهو: أن الهدى هي الدلالة الموصلة إلى البغية بوجوه ثلاثة:

وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال اللَّه تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدها: وقوع الهدى في الآيتين في مقابلة الضلال، والضلالة هي الخيبة، وحيث وقعت مقابلة لها، كان معناها مقابلاً لمعناها. وثانيها: استعمال المهدي في موضع المدح كمعتد، يعني: أن المهدي اسم مفعول من هدى والمعتدي اسم فاعل من اهتدى، وكما يوصف المرء بالمعتدي في مقام المدح لوصوله إلى البغية، يوصف بالمهدي أيضًا، ولولا اعتبار هذا القيد في مسمى الهدى؛ لم يكن الوصف بكونه مهديًا مدحًا. وثالثها: أن "اهتدى مطاوع هدى" إلى آخره، ومعناه. أنا إذا قلنا: انكسر الإناء، كانت الفائدة الإخبار بحصول معنى الانكسار من تعلق فعل الكسر بما قام به الانكسار الذي هو أثر الكسر، كذا قولنا: اهتدى، بالوصول إلى البغية من تعلق هدى بمن قام به الاهتداء الذي هو أثر الهدى، لو لم يكن في مسمى الهدى الإيصال إلى البغية معتبرًا، يلزم أن يكون المطاوع في خلاف معنى المطاوع الذي هو أثره، فقوله: "ولأن اهتدى" معطوف على قوله: "بدليل وقوع الصلالة" وقوله: "يقال" عطف على "وقوع" أي: بدليل قولهم: ويجوز أن يعطف على الدليل. قال صاحب "التقريب": وفي الوجوه الثلاثة نظر؛ لأن: الأول: معارض بقوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 17]. والثاني: أن المدح حاصل بالتمكين من الاستدلال وإن لم يوصل إلى البغية. والثالث: بقولهم: أمرته فلم يأمر. لعلة اقتدى بالإمام؛ حيث قال في "تفسيره": الهدى عبارة عن الدلالة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة: 16]، وقال تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الكشاف": "هي الدلالة الموصلة إلى البغية". والذي يدل على صحة القول الأول، وفساد الثاني، أنه لو كان كون الدلالة الموصلة إلى البغية معتبرة في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لكن الله تعالى أثبت الهدى مع عدم الاهتداء في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 17]. ثم أجاب عن: الوجه الأول: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال، ومقابل الاهتداء هو الضلال؛ فجعل الهدى في مقابلة الضلالة ممتنع. وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى يسمى مهديًا، وغير المنتفع به لا يسمى مهديًا؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر، يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمرًا حصول الائتمان فكذا هذا. والجواب عن قوله: "أثبت الهدى مع عدم الاهتداء" يعني في قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت: 17] أي: بدلوا العمى بالهدى رغبة عن الهدى، واستحبابًا للعمى كما في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16]. وعن قوله: "فجعل الهدى في مقابلة الضلالة ممتنع": أنه لو كان ممتنعًا لم يقع في الآيتين،

(لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24]. ويقال: مهدى، في موضع المدح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولأن المراد بالمقابلة في الصناعة: الجمع بين اللفظين الدالين على المعنيين المتضادين حقيقة أو تقديرًا، أي: سواء كانا متعديين أو لازمين، أو أحدهما متعديًا والآخر لازمًا. وفي الآيتين هذا المعنى موجود وسيما في الثانية؛ فإنه صريح فيها، لتوسيط كلمة التقابل. وعن قوله: "أن المنتفع بالهدى يسمى مهديًا" بمعنى: أن المهدي إنما دل على المدح بالمجاز، والقرينة مقام المدح. فلا تثبت الحقيقة بقرينة المقام، أن يقال: إن المراد بقوله: يقال: مهدي في موضع المدح أن المهدي من الأوصاف التي تستعمل في المدح مطلقًا، لا أنه يعرضه ذلك، وعن قوله: أمرته فلم يأتمر ما قاله البزدوي في "اصوله": ألا ترى أن أمر فعل متعد لازمة ائتمر، ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه، كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار، فقضيته الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه، لسقط الاختيار من المأمور أصلاً، وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار. معنى هذا الكلام: أن أصحاب اللغة ما أثبتوا لكل فعل متعد لازمًا إلا إذا اتفقا في الوجود. قال ابن الحاجب: معنى المطاوعة حصور فعل عن فعل؛ فالثاني مطاوع لأنه طاوع الأول، والأول مطاوع لأنه طاوعه الثاني، فإذا وجد المطاوع يجب أن لا يختلف عنه المطاوع. فإذن معنى: أمرته فائتمر، جعلته مؤتمرًا فائتمر، لكن معنى الائتمار معنى سقوط الاختيار ولزوم الجبر، فعرض له عارض فوجب العدول عن الحقيقة.

كمهتدٍ؛ ولأن "اهتدى" مطلوع "هدى"، ولن يكون المطاوع في خلاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا وإن الواجب توخي الجمع بين القولين، ورفع الحاجز بين البحرين بتحقيق معنى الهدى: أهي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في الدلالة المخصوصة أو عكسه؟ أم هي مشتركة بينهما؟ أم موضوعة للقدر المشترك وهو البيان. روينا في "صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري": فهنديناهم: دللناهم على الخير الشر، كقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10] وكقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) [الإنسان: 3] والهدى الذي للإرشاد بمعنى أصعدناه؛ من ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90]. وقال الزجاج والواحدي: معناه البيان. وقال الجوهري: الهدى: الرشاد والدلالة. وقال صاحب "المطلع": معنى الهداية في اللغة: الدلالة، يقال: هداه في الدين يهديه هداية، إذا دله على الطريق. والهدى يذكر لحقيقة الإرشاد أيضًا؛ ولهذا جاز النفي والإثبات، قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص: 56]، وقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]. وفي كلام المصنف إشعار بأن الهدى حقيقة في الدلالة الموصلة إلى البغية، مجاز في مجرد الدلالة وذلك قوله في "حم" السجدة. "أليس معنى "هديته": حصلت فيه الهدى؟ والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى تحصيل البغية، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟

معنى أصله ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا انتصب لإقامة الدليل على حقيقتها في هذا المعنى، وأنها حقيق أن تحمل عليه في هذا المقام؛ لاقتضاء مدح الكتاب وكونه كاملاً في بابه. والإمام لما رأى الدلالة منصوبة في كونها حقيقة في ملق الدلالة، انتصب لإبطال مذهبه؛ هربًا من الاشتراك إلى المجاز، وكأن الزجاج والواحدي ذهبًا إلى القول بالقدر المشترك بين المفهومين، ولكل وجهة هو موليها، والله أعلم. والقول الجامع ما ذكره الراغب، قال: "الهداية دلالة بلطف، ومنه الهدية، وهو أدى الوحش: متقدماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بـ "فعلت" نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بـ" افتعلت" نحو: أهديت الهدية. وأما نحو قوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصفات: 23] فعلى التهكم. والهداية: هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً، وهي من الله تعالى على منازل، بعضها يرتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني. فأولها: إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه، إما تسخيراً وإما طوعًا؛ كالحواس الخمس، والقوة المفكرة، وعلى ذلك قوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50]، (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 3]. وثانيها: الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء، وإياها عني بقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) [السجدة: 24]. وثالثها: هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي المعنى بقوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 23]، وقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]. قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير، ولا يعمل به إلا اليسير ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العلماء!

فإن قلت: فلم قيل: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والمتقون مهتدون؟ قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك اللَّه وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورابعها: التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عني بقوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [الأعراف: 43] فإذا ثبت ذلك، فمن الهداية مالا ينفى عن أحد بوجه، ومنها ما ينفي عن بعض ويثبت لبعض؛ ومن هذا الوجه قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص: 56] فإنه عني الهداية التي هي التوفيق وإدخال الجنة، دون التي هي الدعاء كقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]. قوله: (فلم قيل)، الفاء فيه تدل على إنكار ما تقدم؟ يعني لما دللت على أن الهدى هي الدلالة الموصولة إلى البغية لا مطلق الدلالة، فحينئذ كيف يستقيم (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) والمتقوم هم المهتدون؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: باعتبار الثبات والزيادة. وثانيهما: باعتبار ما يؤول، وكذا الفاء في السؤال الآتي بعده إنكار على جوابه الثاني، أي: إذا كان المراد بالمتقين ما ذكرت، فلم ارتكب المجاز وترك الحقيقة؟ وأجاب أيضًا بوجهين: أحدهما: إثبات الاختصار الذ يهو حلية القرآن. وثانيهما: رعاية براعة الاستهلال.

ووجه آخر؛ وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى)، مقتبس من قوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26] واحتذاء على أسلوب (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ) [النحل: 112] فالاستعارة تحقيقية؛ لأن المشبه المتروك: إما عقلي وهو أن يستعار اللباس لماي غشى الإنسان ويتلبس به من انشراح الصدر، وقذف النور في القلب، والتخلص من مضيق الضلال وظلمات الكفر، قال الله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام: 125]. وإما حسي بأن يستعار اللباس لماي ظهر في الإنسان من شعائر الإسلام ونوره وحسن الطلعة، وبهاء المنظر، قال الله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]. ثم قوله: "الاكتساء" ترشيح لهذه الاستعارة، وقوله: "عند مشارفتهم" استعارة أخرى واقعة على الاستعارة، الأساس: شارف البلد، وساروا إليهم حتى إذا شارفوها. فعظم التقوى التي هي من لوازم الإسلام، وجعلها دار السلام. المغنى: سماهم متقين عند مشارفتهم مدينة السلام لدخول دار التقوى، فراعى في اللفظ الترقي أيضًا، لتطابق المعنى وهو كون هذا المجاز باعتبار ما يؤول إليه. قوله: (من قتل قتيلاً)، الحديث من رواية البخاري ومسلم وغيرهما "من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سلبه".

وعن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة، وتكتفّ الحاجة» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال: قتيلا ومريضاً وضالة. ومنه قوله تعالى: (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح: 27]، أى صائراً إلى الفجور والكفر. فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدىً للمتقين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباس)، الحديث إن صح فهو موقوف على ابن عباس، وهو من رواية أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أراد الحج فليتعجل" وليس فيه الزيادات. قوله: (ومنه قوله تعالى)، وإنما فصله للفرق؛ لأن الأمثلة السابقة إنما صير إليها لأن الفاعل كان ملابسًا له مجتهدًا فيه، فنزل لذلك منزلة الحاصل، ولا كذلك ها هنا لكن نزل اجتهاد الأب منزلة اجتهاد المولود المعدوم مبالغة في عنادهم. قوله: (بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا)، وهي المجاز باعتبار المآل.

وأيضاً فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأيضًا فقد جعل ذلك)، قيل: معطوف على قوله: "فاختصروا" ويجوز أن يعطف على "فقيل"، أي: فاختصر فقيل؛ فقد جعل ذلك الاختصار وذلك القول سلمًا إلى تصدير السورة. والفاءات كلها للتعقيف: وهذا كقوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 54] وفيه معنى الترقي، وقد روعي معنى التناسب بين السلم والترقي والتصدير والزهراوين والسنام، والمقصود من العدول رعاية حسن المطلع، والاحتراز عن لفظ يوحش السامعين. والسنام مقتبس من قوله صلوات الله عليه "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". و"أولى الزهراوين" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما" أخرجه مسلم عن أبي أمامة الباهلي، وقد روى الدارمي عن بريدة مثله. قال التوريشتي: "الزهراوين" أي: المنبرتين. والأزهر: المنبر، ومنه قيل المنيرين: الأزهران. وفيه تنبيه على أن مكان السورتين مما عداهما مكان القمرين من سائر النجوم فيما يتشعب منهما لذوي الأبصار. الغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من السحابة وغيرها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فرقان من الطير: طائفتان، وقيل: للقطيع من الغنم: فرق. تحاجان، أي: تدفعان عن صاحبهما وتذبان عنه. مثل السورتين مرة بغمامتين، وكره بغيايتين، وتارة بفرقين؛ لينبه على أنهما يظلان صاحبها عن حر الموقف وكرب القيامة. وإدخال "أو" في "غيايتان أو فرقان" إنما كان للتقسيم، لا من تردد الرواة. وقلت: أوقع صلوات الله عليه القراءة أولاً على النيرين ثم بينهما بقوله: "البقرة وآل عمران" ولولاهما كان استعارة، فالتشبيه واقع على حد التجريد كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] هذا بالنظر إلى البيان. وأما بالنظر إلى المعاني، فالتركيب من باب قوله: هل ادلك على الإكرام الأفضل فلان؟ كما مضى في آخر "الفاتحة" ثم أتى بنوع آخر من التشبيه هو قوله: كأنهما فرقان من الطير؛ بيانًا لترتيب طبقات أهل الإيمان، ولتمييز درجاتهم، فآذن بتشبيهه الأول بأن تينك المظلتين على غير ما عليه المظلة المتعارفة في الدنيا؛ فإنها وإن كانت لدفع كرب الحر عن صاحبها ولتكرمته، لكن لم تخل عن نوع كدورة وشائبة نصب، وتلك - رزقنا الله تعالى منها - مبرأة عن ذلك، لكونهما كالنيرين في النور والإشراق، مسلوبتي الحرارة والكرب. وآذن بتشبيهه الثاني بأنهما مع كونهما مشرقتين مشبهتين بمظلة من خص بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، ثم بولغ فيه وزيد "تحاجان" لينبه به على أن تلك الفرقتين من الطير على غير ما عليه طير نبي الله سليمان عليه السلام؛ من كونهما حاميتين صاحبهما، ذابتين عنه، وعلى عكس ذلك حال الكفار في ظلهم، قال الله تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ* لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) [الواقعة: 41 - 44] قوله: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) نفي لصفتي الظل المطلوبتين منه، وهما البرودة

وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء اللَّه والمرتضين من عباده. والمتقى في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقى من وجاها، إذا أصابه ظلع ٌ من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعلٍ أو تركٍ. واختلف في الصغائر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والكرم، يريد أنه ظل لا كسائر الظلال، وفيه تحكم بأصحابه. و "أو" في الحديث للتنويع، والثانية غير الأولى؛ فإنها لتنويع في التشبيه، والأولى للتنويع في المشبه به في تشبيه واحد، ثم إنهما وإن تفاوتا في الاعتبار؛ فإن الغيابة أفضل من الغمامة، ولكن دون الفرقين بمنازل كما قررنا، ولذلك كرر أداة التشبيه والمشبه. انظر إلى هذه الأسرار في الكلام النبوي، والله أعلم. قوله: (وسنام القرآن)، استعارة تخيلية؛ شبه السورة بالسنام لأن الفاتحة كالرأس للقرآن. قوله: (أول المثاني)، قيل: المثاني جميع القرآن لقوله تعالى: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) [الزمر: 23] والأولى أن يقال: إنها السبع الطول؛ لأن "البقرة" ليست بأول القرآن. قال المصنف في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) [الحجر: 87] سبع آيات وهي "الفاتحة"، أو سبع سور وهي الطول. قوله: (من وجاها)، الأساس: وجي الماشي: إذا حفي؛ وهو أن يرق القدم أو حافر الفرس، الجوهري: وجي الفرس بالكسر، وهو أن يجد وجعًا في حافره. قوله: (تعاطى)، أي: تناول، الأساس: لا تعطوه الأيدي، وفلان يتعاطى ما لا ينبغي له.

وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقى لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر. ومحل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع (لا رَيْبَ فِيهِ) لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه لا يتناولها)، قيل: الضمير في "أنه" راجع إلى "ما" في "ما يستحق به العقوبة" أي: ما يستحق به العقوبة لا يتناول الصغائر، بل إلى ما دل عليه المتقي وهو التقوى، أي التقوى لا يتناول اجتناب الصغائر. يدل عليه قول الإمام: اختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى! ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل؛ وإنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ ويمكن أن يقال: إن الإصرار على الصغائر مما يسلب العدالة؛ فكيف بالتقوى؟ وأيضًا قوله: "الوقاية فرط الصيانة" يوجب أن يتناولها؛ ويؤيده ما روينا عن عطية السعدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" أخرجه الترمذي، وابن ماجة. نعم ذلك من أعلى مناصب الصديقين، بل يكاد يختص بالنبيين. الراغب: التقوى: هو جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا حقيقته، ثم يسمى تارة الخوف تقوى، والتقوى خوفًا. وفي التعارف: حفظ النفس عن كل ما يؤثم، ولها منازل: الأول: ترك المحظور، وذلك لا يتم إلا بترك المباح كما جاء "من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وقيل: من لم يجعل بينه وبين محارم الله سترًا من حلال؛ فحقيق أن يقع فيها.

ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أن يتعاطى الخير مع تجنب الشر، وإياه عن بقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر: 73]. والثالث: التبري من كل شيء سوى الله تعالى، وهو المعنى بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102] وهذه المنازل مرتب بعضها فوق بعض. قوله: (ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة)، روى صاحب "الإقليد": عن المصنف قال: سئلت بمكة - حرسها الله تعالى - عن ناصب الحال في قوله تعالى: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) [هود: 72]. فقلت: ما في حرف التنبيه أو في اسم الإشارة من معنى الفعل فقيل: أم استقر من أصولهم أن العامل في الحال وذيها يجب أن يكون في العامل واحدًا، وقد اختلف العامل هنا حيث جعلته في الحال المعنى الذي ذكرته، قيل ذيها معنى الابتداء، فقلت: تحقيق الكلام أن التقدير: هذا بعلى أنبه عليه شيخًا، أو أشير إليه؛ فالضمير هو ذو الحال والعامل فيه وفي الحال واحد كما ترى. وقال ابن الحاجب: إن اسم الإشارة إذا تقيد بحال لم يكن الخير مقيدًا؛ بدليل قولهم: هذا زيد قائمًا، فإن الخبر بـ"زيد" غير مقيد بالقيام. وقال: لأن المعنى المشار إليه قائمًا زيد، فإن زعم زاعم أنه مقيد بأنه إذا كان قائمًا فهو زيد أيضًا، فإخباره بـ"زيد" إنما هو في حال القيام لم يستقيم؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون غير زيد في غير حال القيام.

أو الظرف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال اليمني: ولقائل أن يقول: إن من الأفعال ما لا يقبل التقييد، فإن قولك: عرفت زيدًا قائمًا، فغن المعرفة الحاصلة حال القيام ليست مقيدة بحال القيام حتى إنها تزول بزواله، بل هي حاصلة بعد ذلك في جميع الأحوال؛ وإنما ذكرت ليعرف أنه كان كذلك عند المعرفة، والمعرفة مستمرة، وكذلك جميع أفعال العلم. فإن قيل: إن الخبر هو المبتدأ في المعنى بمعنى أنه يصدق عليه، فيكون تقييدًا المبتدأ تقييدًا للخبر. ثم كلامه. ويقرب من هذا الكلام ما ذكره الزجاج: إنك إذا قلت: هذا زيد قائمًا، إن قصدت أن تخبر به من لم يعرف زيدًا لم يجز؛ لأنه يكون زيدًا ما دام قائمًا، فإذا زال عند القيام فليس بزيد وإنما تقول: هذا زيد قائمًا لمن يعرف زيدًا، فيعمل في الحال التنبيه، أي: انتبه لزيد في حال قيامه، أو أشير إلى زيد في حال قيامه؛ لأن "هذا" إشارة إلى ما حضر، وقال: هذا من لطيف النحو وغامضه. وأبو علي قرر أن هذا المعنى حيث لم يتكلم عليه في "الإغفال" بشيء وصرح المصنف وأبو البقاء في أول "لقمان" أن قوله: (هدى) في قوله: (الم* تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ* هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) [لقمان: 1 - 3] حال من (آيات) والعامل اسم الإشارة. قوله: (أو الظرف)، روي بالرفع واجر، والأول هو المشهور، أي: العامل في الحال "فيه" لكونه قائمًا مقام استقر، وذو الحال الضمير المجرور، لأنه مفعول معنوي باعتبار استقرار الريب فيه.

والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، وأن يقال إن قوله: (الم) جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلِكَ الْكِتابُ) جملة ثانية. و (لا رَيْبَ فِيهِ) ثالثة. و (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) رابعةٌ. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: لا يجوزُ أن يكون حالاً من الضمير المستتر في الظرف العائد إلى الريب لاستلزام نسبة الهدى إلى الريب. قوله: (والذي هو أرسخُ عرقاً)، فيه لطيفةٌ، فإنه رمز به تعريضاً أن الاعتبار اللفظي الذي لا يُساعده المعنى كشجرةٍ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، والذي شُد عضده بالمعنى كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء. قوله: (أن يُضرب عن هذا المحال صفحاً)، أي: عن البحث عن محل هذه الجمل بالطريق المذكور؛ فإنها لا طائل تحتها، وأن اللائق ببلاغة القرآن أن يُسلك به طريقُ المعاني والبيان، فإنها هي الطلبة وما عداها ذرائع إليها، وهي المرامُ وما سواها أسبابُ للتسلق عليها. قوله: (صفحاً)، المرزوقي: صفحت عنه: عفوت عن جرمه. ويقال: أعرضت عن هذا الأمر صفحاً: إذا تركته. قوله: (مستقلةٌ بنفسها)، أي غير مفتقرة إلى انضمام شيءٍ معها، إما لأنها كالإيقاظ وقرع العصا، أو كتقدمة الإعجاز. قوله: (مفصل البلاغة)، الجوهري: يقال لمن أصاب الحُجة: إنه طبق المفصل، النهاية: أصلُ التطبيق إصابة المفصل وهو طبق العظمين، أي: ملتقاهما فيفصل بينهما.

وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وموجب حسن النظم)، بفتح الجيم، أي: موضع إيجاب حسن النظم ومكانه ومستقره. قوله: (متآخية)، أي: متناسبة. يقال: آخاه مؤاخاةً وإخاءً، وتأخيت أخاً، أي: اتخذت. وفي قوله: "آخذاً [بعضها] بعنق بعضٍ" تأكيدٌ للمؤاخاة وترشيحٌ للاستعارة. قوله: (وهلم جرا)، جراً، منصوبٌ على الحال عند البصريين، وعلى المصدر عند الكوفيين. قال ابن جني: "جراً" مصدرٌ وقع حالاً، أي جاراً، أو منجراً. الجوهري: وتقول: كان ذاك عام كذا، وهلم جراً إلى اليوم. قيل: هلم جراً، مثلٌ لأمثالٍ. قال المُفضل: تعالوا على هيئتكم كما يسهل عليكم. قوله: (نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به)، أما على تأويله على أنها أسماءٌ للسور، فلقوله: "الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلماتٍ عربيةً معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ"، وأما على أنها طائفةٌ من حروف المعجم، فلما مر مراراً.

أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي قوله "شداً من أعضاده" اقتباسٌ من قوله تعالى: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص: 35]، ومراعاةٌ لمعنى المؤاخاة في قوله: "متآخية"، وترشيحٌ للاستعارة. قوله: (وتسجيلاً بكماله)، الأساس: سجَّل عليهم، وكتابٌ مسجل، وكتب عليه سجلاً يعني قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة: 2] تأكيدٌ لمعنى ذلك الكتاب، وهو كونه كاملاً لا كمال أكمل منه، ولا يكون كاملاً كذا إلا أن يكون حقاً وصدقاً، لا باطلاً وكذباً؛ فلا يحوم الشك حوله. قوله: (فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله)، أي: كونه هادياً تأكيدٌ لقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ)؛ لأنه لا يكون هادياً إذا كان فيه مجالٌ للشبهة، ففي قوله: "لا يحوم الشك حوله" كنايةٌ كقوله: فما جازه جودٌ، ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير وهذه المبالغة مستفادةٌ من إيقاع المصدر خبراً لـ"هو" كما أن المبالغة في الجملة الثانية حصلت من تعريف الخبر، وفي الثالثة: من الاستغراق. قوله: (الأنيق)، أي: العجيب، الأساس: هذا شيءٌ أنيقٌ، وآنقٌ ومونقٌ، وآنقني: أعجبني.

ونظمت هذا النظم السرى؛ من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (السري)، أي: العظيم، الأساس: يقال: فلانٌ من السراة، ومن أهل السرو؛ وهو السخاءُ في مروءة. ومن المجاز: سروات الطريق: معاظمها وظهورها. الراغب: السري من السرو، أي: الرفعة. يقال: رجلٌ سريٌ. قوله: (ففي الأولى الحذف)، أي: حذف المبتدأ، أي: هذه (الم) إذا جعلت اسماً للسورة. قوله: (والرمز إلى الغرض) أي: التحدي: وأُريد بألطف وجهٍ، كونها مشيرةً إلى أن المُتحدى به من جنس ما تنظمون منه كلامكم على سبيل الاستدراج. وطفي الثانية ما في التعريف من الفخامة" وهي: الدلالة على كونه كاملاً في بابه. و"في الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف" وهو الدلالة على نفي الريب عنه بالكلية من غير أن يتعرض لإبطال غيره. و"في الرابعة الحذف" أي: هو هُدى، ووضع المصدر موضع اسم الفاعل على طريقة رجلٍ عدل، وإيراده منكراً، أي: هادياً لا يكتنه كنهه. والإيجاز حيث لم يقل: هدى للضالين الصائرين إلى التقوى؛ رعايةً لحسن المطلع. قال القاضي: وتستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول؛ فإنه لما نبه أولاً على إعجاز المتحدى به- لزم منه أنه الكتاب البالغ درجة الكمال، واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه؛ إذ لا أنقص مما يعتريه الشك، وما كان كذلك؛ كان لا محالة هدى للمتقين

الذي هو «هدىً» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين. زادنا اللَّه اطلاعا على أسرار كلامه، وتبيينا لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه! [(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)]. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) إما موصول بـ (المتقين) على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعنى الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أُولئِكَ عَلى هُدىً). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو مدحٌ منصوبٌ أو مرفوع)، فيه لف. قال أبو علي: إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح أو الذم وخولف بعضها في الإعراب فقد خولف للافتنان. وقال المرزوقي في قوله: إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ هو أنه لو جعله خبراً، كان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمولٍ فيهم، وجهلٍ من المخاطب بشأنهم، فإذا جُعل اختصاصاً فقد أمن الأمرين جميعاً، فقال مفتخراً: إنا- أذكر من لا يخفى شأنه - لا نفعل.

فإذا كان موصولاً كان الوقف على (المتقين) حسناً غير تامّ، وإذا كان مقتطعاً، كان وقفاً تاماً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال شارح "الهادي": شرطُ هذا الأسلوب كون الممدوح مشهوراً، والصفة صالحةً للتمدح بها؛ ومن ثم لم يجز: زيدٌ الكريم في الدار، وعند المخاطب زيودٌ. ولا زيدٌ الإسكاف فيها، وهو مشهور. نعم، لو أريد الذم لجاز، فعلى هذا لو جعل (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 3] صفةً لأوهم خمول المتقين ولم يعلم أن الصفات مادحةٌ، فسلك به ذلك المسلك، ليكون نصاً في المراد. قوله: (حسناً غير تام)، قال السجاوندي: الوقوف على مراتب: لازم: وهو الذي وُصل غير المرام؛ كقوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ) [البقرة: 8 - 9] فلو وصل "يخادعون" صارت صفةً للمؤمنين، فينتفي الخداع عنهم، ويتقرر الإيمان خالصاً عن الخداع، كما تقول: وما هو بمؤمنٍ مخادعٍ. والمراد نفي الإيمان وإثبات الخداع. ومطلق: وهو ما يحسن الابتداءبما بعده. هذا هو الذي عناه المصنف بقوله: "مقتطعٌ عن المتقين، مرفوعٌ بالابتداء". وجائز: وهو ما يجوز الوصل فيه والفصل؛ لتجاذب الموجبين من الطرفين. وحمل قوله:

فإن قلت: ما هذه الصفة؟ أواردةٌ بياناً وكشفا للمتقين أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات اللَّه الجارية عليه تمجيداً؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "حسنٌ غير تام" على هذا القسم حسن؛ لأن اعتبار الصفة يقتضي الوصل، واعتبار الفاصلة وأنها آخر آيةٍ يقتضي الفصل. قوله: (ما هذه الصفة)، كرر الاستفهام وجعل الأول توطئةً للثاني تفخيماً لها، يعني أرى لهذه الصفة في هذا المقام شأناً وموقعاً رفيعاً، بين لي موقعاً. قوله: (بياناً وكشفاً)، أي: مفهومها مفهوم المتقين كما تجيء الصفة معرفةً لموصوفها نحو الجسم العريض، العميق، الطويل، يحتاج إلى حيز يشغله. قوله: (أم مسرودةٌ مع المتقين)، أي: تابةٌ للموصوف، ومخصصةٌ إياه، نحو: زيدٌ التاجر عندنا؛ لأن مفهوم التاجر غير مفهوم زيدٍ، وهو المراد بقوله: "تفيد غير فائدتها" أي: فائدة الصفة الواردة على البيان والكشف، وذلك أن فائدتها متحدةٌ متساويةٌ مع الموصوف في المعنى. قوله: (مسرودةٌ)، الأساس: ومن المجاز: نجومٌ سردٌ: متتابعةٌ، وتسرد الدر: تتابع في النظام. قوله: (كصفات الله الجارية عليه تمجيداً)، كقوله: (هُوَ اللَّهُ ... الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر: 23] أي: يكون مدحاً للمتقين كما يُمدح بصفاته؛ لأنه على جهة الإيضاح، ولا على سبيل التفصلة والإبانة والتفرقة؛ إذ ليس تعالى بالمشارك في اسمه المبارك، وإنما هي تماجيد لذاته المكونة لجميع الذوات.

لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن هاتين أما العبادات: البدنية والمالية)، فإن قلت: هل في وصف الإيمان بالأساسي، والصلاة والصدقة بالأم من نكتة؟ قلت: أجل، فيه نكت وأجلها: أن الأعمال: إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقية التوحيد والنبوة والمعاد؛ إذ لولاه لكان سائر الأعمال كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، أو بدنيةٌ وأصلها الصلاة؛ لأنها الفارقة بين الكُفر والإسلام، وهي عمود الدين، وهي الأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات، أو ماليةٌ وهي الإنفاق لوجه الله، وهي التي إذا وُجدت علم الثبات في الإيمان كما قال: (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 265]. قوله: (العيار)، الأساس: عاير المكاييل والموازين: قايسها. أي: هما الشاهدان المعدلان، بمعنى من كانت فيه هاتان العبادتان كان ذلك دليلاً على أنه يقيم سائر العبادات، ولم يقل: العياران؛ ملاحظةً لمعنى المصدر. قوله: (كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم عماد الدين؟ )، روينا عن الترمذي وابن ماجه عن معاذٍ في حديث طويل: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". قوله: (وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبلٍ عن بُريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".

وسمى الزكاة قنطرة الإسلام، وقال اللَّه تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت: 6 - 7]؟ فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]! ويحتمل أن لا تكون بيانا للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي. ويحتمل أن تكون مدحا للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسمى الزكاة قنطرة الإسلام)، هذا الحديث ضعفه الصغاني. وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6 - 7] " جعل منع الزكاة هنا من أوصاف المشركين تعريضاً بالمؤمنين وحثاً على أدائها، وتخويفاً شديداً من منعها، وجعل النفقة في سبيل الله دليلاً على الثبات على الإيمان في قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 265]. قوله: (والذي إذا وُجد)، عطفٌ على "ما هو" على سبيل البيان. قوله: (أن يقترن به)، صح بإدغام النون التي هي لام الكلمة في النون التي هي ضمير أخواته.

وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لإنافتها)، أي: لشرفها وعلو منزلتها، الجوهري: النوف: السنام، وناف الشيء: طال وارتفع ذكره. واعلم أن للقاضي صاحب "الأنوار" تغمده الله بغفرانه كلاماً رفيعاً في هذا المقام، فلا بد من إيراده، قال: التقوى على ثلاث مراتب: الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبرؤ عن الشرك، وعليه قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) [الفتح: 26]، وقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) [الحجرات: 3] وفي الشعراء: (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ) [الشعراء: 11]. والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعلٍ أو تركٍ، حتى الصغائر عند قومٍ، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، والمعنى بقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا) [الأعراف: 96]. والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق، ويتبتل بشراشره، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102]، فعلى هذا قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) مترتبة على المرتبة الأولى ترتيب التحلية على التخلية، والتصوير على التصقيل. وقد فسر المتقون ها هنا على الأوجه الثلاثة. وقلت: إذا جُعل (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الآية [البقرة: 3] كشفاً وبياناً للمتقين؛ كان من الوجه الثاني، وإذا جعل مدحاً؛ كان من الوجه الثالث، وإذا جعل صفة مخصصةً؛ كان من الوجه الأول.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم في جعل (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) صفةً مخصصةً للمتقين، وأن يراد بالمتقين الذين يجتنبون عن المعاصي، كما ذهب إليه المصنف وتبعه صاحب "المفتاح"- نظرٌ؛ لأن الصفة حينئذٍ على غير ما عليه الكاشفة، فيكون مفهومها غير مفهوم الموصوف كما قال: "تفيد غير فائدتها". فإذا قيل: المراد بالمتقين المجتنبون عن المعاصي! فهم منه أنهم الذين يأتمرون بأمر الله تعالى، وينتهون عما نهى الله عنه؛ لقوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) [التحريم: 6] فكيف يُقال: الذين يؤمنون بالغيب غير الذين يجتنبون عن المعاصي، أما لو أريد بهم الذين يجتنبون عن الشرك كما هو الوجه الأول للقاضي- وذُكر نحوه في "الوسيط"- أفادت الصفة ما هو المطلوب من هذا الوجه، وهو التحلية بعد التخلية وجاءت قارة في مكانها. وفي اختيار المصنف ذلك رمزٌ إلى المذهب كما صرح به في قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]. واعلم أن الصفة الفارقة تستدعي الاشتراك في الموصوف فيما يقع له الامتياز بالصفة، فإذا قلت: زيدٌ التاجر عندنا، وجب الاشتراك فيما يقع له الامتياز بصفة التجارة، كذلك "المتقين" إنما يتصور فيه الاشتراك باعتبار (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى آخره، فينبغي أن يتصور من هو متحل به، ومن هو معزولٌ عنه؛ ليختص بالوصف من قُصد إيراده له، وذلك لا يصح إلا بالقول بأنهم يجتنبون الشرك. وأما إذا قلت: الذين يجتنبون المعاصي؛ فلا يستقيم لما ذكرناه من وجوب الاشتراك فيما يقع له الامتياز بالوصف. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون القصد في إيراد المتقين إرادة المجتنبين عن المعاصي، فلما التبس عند السامع، أتى بالوصف قرينةً دالةً على المقصود؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لا يخلو أن يراد بالوصف فعل الطاعات لا غير، كما عليه ظاهر كلام المصنف، أو مع الاجتناب عن المعاصي. فالأول لا يصح؛ لأن منطوق الوصف غير مانعٍ للمعصية، على أن أغلب المتصفين به غير معصومين. والثاني كذلك؛ لأن مفهوم الوصف مفهوم الموصوف كما في الصفة الكاشفة؛ فيكون القصد في إيراد الوصف تمييزه عن الحقائق، والمقدر أن الوصف مفيدٌ غير فائدة الكشف. فإن قلت: تحمل المعاصي على المناهي وحدها؟ قلت: لا يستقيم؛ لأن العاصي خلاف المطيع. قال في "سورة الحجرات": العصيان: ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع. وفي "الذاريات": الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان. على أن مفهوم (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يوجب أن المجتنب عن المعاصي قد لا يكون موصوفاً به، فيكون كافراً، والكافر هو المارق المارد، فكيف يقال له: إنه المتقي المجتنب عن المعاصي؟ ! فإن قلت: ما الفرق بين قوله أولاً: "من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين"، وقوله ثانياً: "إظهاراً لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة الحسنات"؟ قلت: على الأول ذكر الصلاة والزكاة من باب إطلاق البعض على الكل، والشرط في هذا النوع من المجاز إيراد أشرف ما في ذلك الشيء كما قال. وقد علمت أن معظم الشيء وجُله ينزل منزلة كله؛ فتضمن هذا المعنى أفضلية هاتين العبادتين؛ ولهذا قال: "مع ما في ذلك

والإيمان إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيرى. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه. وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين" أي: لزم من ذلك هذا على سبيل الإدماج، وأما على الثاني، فلم يذكر المذكورات لاستجلاب الغير؛ بل هي المرادة أولاً، وإنما يُرجح ذكرها لفضلها على غيرها ابتداء. قوله: (ثم يقال: آمنه إذا صدقه)، أي: الإيمان إفعالٌ من الأمن لغةً، ثم نقل إلى المفهوم الشرعي وهو التصديق لعلاقة الأمن من التكذيب والمخالفة. قال الراغب: ولما كان من لوازم الإيمان التصديق قالوا: الإيمان هو التصديق، وقال: ولا يكون التصديق قالوا: الإيمان هو التصديق، وقال: ولا يكون التصديق إلا عن علمٍ؛ ولذلك قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 86] فالإيمان: اسمٌ لثلاثة أشياء: علمٌ بالشيء، وإقرارٌ به، وعملٌ بمقتضاه إن كان لذلك المعلوم عملٌ كالصلاة والزكاة. هذا هو الأصل، ثم قد يستعمل في كل واحدٍ من هذه الثلاثة فيقال: فلانٌ مؤمن، أي: أنه مقرٌ بما يحصن دمه وماله؛ وبذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجارية، فسألها ما سألها، ثم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". ويقال: مؤمنٌ، ويراد به أنه يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة".

وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة - أى ما وثقت - فحقيقته: صرت ذا أمن به، أى ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون (بالغيب) صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويقال: مؤمنٌ، ويعنى به أنه يسكن قلبه إلى الله تعالى من غير أن يلتفت إلى شيءٍ من العوارض الدنيوية، وغيان عنى بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية [الأنفال: 2]. قوله: (أما تعديته بالباء)، هذا على تقدير السؤال والجواب؛ يعني إذا كان حقيقة الإيمان منقولةً من "أمِنَ" فما باله عُدي بالباء ولم يُعد بنفسه كما سبق؟ فأجاب: إن تعديته بالباء من باب التضمين. قال ابن جني: لو جمعت تضمينات العرب لاجتمعت مجلدات. قال المصنف: من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى فعلٍ آخر، فيجرونه مجراه، ويستعملونه استعماله. وقلت: ولو زيد مع إرادة معنى المضمن كان أحسن، كما تقول: أحمدُ إليك فلاناً، أي: أُنهي إليك حمد فلانٍ. قال في "سورة الكهف": الغرض في التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى. قوله: (وأما ما حكى أبو زيدٍ)، قال الأنباري: هو سعيد بن أوسٍ الأنصاري البصري، وكان سيبويه إذا قال: سمعت الثقة، أراد به أبا زيد.

أي: يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر: 18]، (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف: 52]. ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد اللَّه ذكروا أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيبٍ، ثم قرأ هذه الآية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا أيضاً جوابٌ عن سؤالٍ آخر مقدر، يعني ليس في هذه الرواية مما ذكرت شيءٌ فأجاب: أن الهمزة للصيرورة، أي: صرت ذا سكونٍ به وطمأنينة. فإن الذي أومن وجد من نفسه سكوناً وطمأنينة، كما أن الخائف يجد قلقاً واضطراباً. الأساس: ما أومن بشيءٍ، أي: ما أصدق وما أثق، وما أومنُ أن أجد صحابةً- يقوله ناوي السفر- أي: ما أثق أن أظفر بمن أرافقه. فعلى هذا رجع هذا الوجه إلى المجاز، لقوله: "وحقيقته"، وهذا يشير إلى أن لابد من ذلك القيد في تعريف التضمين لئلا يدخل فيه هذا الوجه وجميع الاستعارات الواقعة في التبعية. قوله: (وحقيقته: ملتبسين بالغيب)، أي: يرجع معنى الغيب إليهم، أي: يصدقون وهم غائبون عن نظر المؤمن به، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يدلُّك على هذا قوله: "ويعضده" حديث ابن مسعودٍ وفيه: "ما آمن مؤمنٌ إيماناً أفضل من إيمانٍ بغيب" أي: هو غائبٌ عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعنى الحديث مُخرجٌ في "سنن الدارمي عن أبي عبيدة بن الجراح، أنه قال: يا رسول الله، أحدٌ خيرٌ منا، أسلمنا وجاهدنا معك؟ قال: "نعم، قومٌ يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني".

فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالا؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب، إمّا تسمية بالمصدر من قولك. غاب الشيء غيبا، كما سمى الشاهد بالشهادة. قال اللَّه تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الزمر: 46]. والعرب تسمى المطمئن من الأرض غيباً. وعن النضر بن شميل: شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب: الخمصة التي تكون في موضع الكلية، إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل «قيل» وأصله: قيل: والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلا عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما المراد بالغيب؟ )، يعني: رجحت وجه الحال بالحديث، كأن معنى الغيب يختلف باختلاف الوجهين فبيِّن ذلك. قوله: (المطمئن)، يُروى بكسر الهمزة وبفتحها. فبالكسر: الصفة، وبالفتح: الاسم. قوله: (الخمصة)، النقرة والحفرة، ويقال للجوع أيضاً، كقولهم: ليس للبطنة خيرٌ من خمصةٍ تتبعها. والبطنة: الامتلاء من الطعام. قوله: (وإنما تعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلاً عليه)، فيه تقسيمٌ لما جمع في حكم الغيب. وقوله: (وذلك نحو الصانع)، إلى آخره: تفريقٌ، فإن قوله: "نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها" يتعلق بقوله: "أو نصب لنا دليلاً". وقوله: (والبعث والنشور)، إلى آخره يتعلق بقوله: "ما أعلمناه" أي: بالنص، وهذا مبنيٌ على ما قال الإمام وهو: أن كل مقدمةٍ لا يمكن إثبات النقل إلا بعد ثبوتها؛ فإنه لا يمكن إثباتها بالنقل، وكل ما كان إخباراً عن وقوع ما جاز وقوعه، وجاز عدمه، لا يمكن معرفته إلا

والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء، فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعناد - وإن شهد وعمل - فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالحس أو بالنقل، ولا شبهة أن إثبات الصانع والنبوات من قبيل الأول، وإثبات الحشر والنشر وما يتعلق بهما من قبيل الثاني. الراغب: الغيب: ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بدائه العقول؛ وإنما يُعلم إما بواسطة علمٍ ما، واستشهادٍ به عليه، وإما بخبر الصادق. قوله: (كان بمعنى الغيبة والخفاء)، والفرق بين هذا الوجه والأول هو أن على الأول "بالغيب" مفعولٌ به، والإيمان مضمنٌ معنى الإقرار، أو مجازٌ من الوثوق؛ فلا يصدق الغيب على الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى الثاني يكون الإيمان بمعنى التصديق، ويكون مفعوله محذوفاً على طريقة العموم أو المبالغة؛ ليقع على جميع ما يجب أن يؤمن به، سواءٌ كان غائباً أو حاضراً، وهذا الوجه يختص بغير الصحابة كما مضى. قوله: "أن يعتقد الحق)، التعريف فيه للعهد، أي: الحق الذي تحقق عند المسلمين أنه ما هو، وهو: التصديق بما عُلم بالضرورة أنه من دين محمدٍ صلوات الله عليه، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء وما يتصل بها. قوله: (ويُعرب عنه)، أي: عن المذكورات بأن يُقر بالشهادتين؛ فإنها جامعةٌ لتلك المعاني، ومفصحةٌ عنها، ويصدقه بعمله؛ لأن مقتضى ذلك كله العمل، وهو أمارةٌ على ما في ضميره. قوله: (ومن أخل بالشهادة فهو كافر)، فيه نظر.

ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود - إذا قوّمه. أو الدوام عليها والمحافظة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: من عرف الله بالدليل، ولم يجد من الوقت ما يتلفظ بكلمة الشهادة: هل يُحكم بإيمانه؟ وكذا لو وجد من الوقت ما أمكنه التلفظ به؟ رُوي عن الغزالي: نعم. والامتناع من النطق يجري مجرى المعاصي التي تؤتى مع الإيمان. ويعضده ما روينا عن البخاري عن حُميدٍ، عن أنسٍ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يوم القيامة، شُفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلةٌ؛ فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء". والذي يعتذر له أن المراد بالإخلال هو أن يقصد به على سبيل الجحود والعناد كما فعل أبو طالبٍ وصرح به في قوله: وعرضت ديناً لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سُبةً ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا قوله: (ومعنى إقامة الصلاة: تعديل أركانها)، أي: هو استعارةٌ تبعيةٌ؛ شبه تعديل المصلي أركان الصلاة وحفظها من أن يقع فيها زيغٌ بتقويم الرجل العود المعوج، فقيل: يقيمون، وأريد: يعدلون. قوله: (أو الدوام عليها)، فعلى هذا هو كنايةٌ تلويحية؛ عبر عن الدوام بالإقامة، فإن

عليها، كما قال عز وعلا: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج: 23]، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المؤمنون: 9]، من: قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال: أَقَامَتْ غَزَالةُ سُوقَ الضِّرَابِ ... لِأَهْلِ العِرَاقيْنِ حَولًا قَمِيطاً لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشئ النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إقامة الصلاة بمعنى تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغٌ في فرائضها مُشعرةٌ بكونها مرغوباً فيها، وإضاعتها وتعطيلها يدل على ابتذالها؛ كالسوق إذا شوهدت قائمةً دلت على نفاق سلعتها، ونفاقها يدل على توجه الرغبات إليها، وتوجه الرغبات يستدعي الاستدامة، بخلافها إذا لم تكن قائمة، فعلى هذا المراد من قوله: "من قامت السوق" أي: من باب: قامت السوق، لا أنه منقولٌ من قامت السوق. قوله: ((عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))، الأساس: هو مُحافظ على سبحة الضحى: مواظبٌ عليها. ومن المجاز: قام على الأمر: دام وثبت، وأقامه: أدامه. ومنه ما روى مسلمٌ عن جابر: "لو تركتيها ما زال قائماً" قاله لأم مالكٍ حين عصرت العُكة التي كانت تهدي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الصغاني في "مشارق الأنوار". قوله: (أقامت غزالة) البيت، غزالة هي التي خرجت على الحجاج، والضراب: المضاربة بالسيوف، والعراقين: البصرة والكوفة. قميطاً: تاماً. قوله: (ويتنافس فيه)، الجوهري: شيءٌ نفيسٌ: ينافس فيه ويرغب. وهذا أنفس ماله: أحبه وأكرمه عنده.

المحصلون، وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها. وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توانٍ، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضدّه: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه - إذا تقاعس وتثبط - أو أداؤها، فعبر عن الأداء بالإقامة لأنّ القيام بعض أركانها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو التجلد والتشمر)، فعلى الوجوه "يقيمون" مسندٌ إلى المصلي، وعلى هذا الوجه مسندٌ إلى الصلاة باعتبار أن المصلي إذا أقام الصلاة كانت هي قائمةً على نحو: نهاره صائمٌ وليله قائم؛ ألا ترى إلى قوله: "وأن لا يكون في مؤديها فتور" فإنه لا يقال: نهاره صائم إلا لمن صام الدهر كله، ولا ليله قائم، إلا لمن لا ينام فيه، وكذا قوله: "قامت الحرب على ساقها" من الإسناد المجازي؛ لأنه نحو قوله تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4]. قوله: (وتثبط)، الجوهري: ثبطه عن الأمر تثبيطاً: شغله عنه. قوله: (أو أداؤها)، أي: معنى إقامة الصلاة: أداؤها. فعبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها، فإذن المراد بالإقامة إيجاد فعل القيام ليصح تعليله بقوله: "لأن القيام بعض أركانها". وتحرير هذا المقام، أن قوله: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) ليس على ظاهره؛ فهو إما استعارةٌ تبعيةٌ، أو كنايةٌ عن الدوام من: قامت السوق، إذا راجت ونفقت؛ لأن نفاقها مشعرٌ بتوجه الرغبات إليها، وهو يدل على المحافظة وهي على الدوام، أو مجازٌ في الإسناد، بمعنى يجعلون الصلاة قائمةً؛ فيفيد التجلد والتشمر، وأنها مؤداةٌ على وفور رغبةٍ ومزيد نشاطٍ كقولهم: قامت الحرب على ساقها، أو بمعنى: يوجدون قيامها، أي: يقومون فيها، فأسند القيام إليها على المجاز، فيفيد أنهم يؤدونها من باب إطلاق معظم الشيء على كله.

كما عبر عنه بالقنوت - والقنوت: القيام - وبالركوع وبالسجود، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واختار القاضي الوجه الأول وقال: تأويل "يقيمون الصلاة: يُعدلون أركانها، ويحفظونها من الزيغ أظهر؛ لأنه أشهر، وإلى الحقيقة أقرب وأفيد، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى، لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولذلك ذُكر في سياق المدح: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) [النساء: 162] وفي معرض الذم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) [الماعون: 4] ". والإمام اختار الوجه الثاني وقال: الأولى حملُ الكلام على ما يحصل معه الثناء العظيم؛ وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خللٍ في أركانها وشرائطها. قلت: هذا أولى من قول القاضي لما مر لنا في تقرير الكناية؛ فإنها جامعةٌ لجميع المعاني المطلوبة فيها. الراغب: إقامة الصلاة: توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص الإقامة فيه تنبيهٌ على أنه لم يُرد إيقاعها فقط؛ ولهذا لم يؤمر بالصلاة، ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) ولم يقل: المصلين إلا في المنافقين؛ حيث قال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4 - 5] ومن ثم قيل: إن المصلين كثيرٌ، والمقيمين لها قليل، كما قال عمر رضي الله عنه: الحاج قليلٌ والراكب كثير. وكثيرٌ من الأفعال التي حث الله تعالى على توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة: 66] ونحو: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن: 9].

وقالوا: سبح، إذا صلى لوجود التسبيح فيها (فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات: 143]. والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى: حرّك الصلوين لأن المصلى يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سبح إذا صلى)، إنما استشهد لهذا المثال بقول البلغاء أولاً وبالقرآن ثانياً؛ لأنه أخفى من أخواته، وأقل استعمالاً منها. فإن قلت: أليس من شرط هذا المجاز أن يكون هذا البعض أشرف وأعظم مما في ذلك الشيء، وهذه الاختلافات تُشعر بتعظيم الشيء على نفسه؟ قلت: خولف ليؤذن بأن أركان الصلاة كلها بحيث إذا سُمي أي واحدٍ منها وأريد به الكل كفى به شرفاً، على حد قولها: هم كالحلقة المفرغة، لا يُدرى أين طرفاها. قوله: (وكتابتها بالواو على لفظ المفخم)، قيل: التفخيم على ثلاثة أوجه: ترك الإمالة، وإخراجُ اللام من أسفل اللسان كما في اسم الله، والإمالة إلى الواو كما في اسم الصلاة. قوله: (حرك الصلوين)، بيان للعلاقة، الأساس: ضرب الفرس صلويه بذنبه: ما عن يمينه وشماله، ومنه مُصلي السابق. الجوهري: الكاذة: ما نتأ من اللحم في أعلى الفخذ.

ونظيره: كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لأنه ينثني على الكاذتين، وهما الكافرتان. وقيل للداعي: مصلّ، تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد. وإسناد الرزق إلى نفسه؛ للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى اللَّه، ويسمى رزقا منه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكر ابن جني في "المحتسب": قال أبو علي رحمه الله: الصلاة من الصلوين؛ وذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فأما القيام فلا يختص بالصلاة دون غيرها. قال ابن جني: هو حسن. قوله: (وقيل للداعي)، كأنه جوابٌ عن سؤال سائلٍ أن الداعي يُسمى مصلياً وهو لا يحرك الصلوين. قال الإمام: هذا الاشتقاق يُفضي إلى الطعن في كون القرآن حُجةً؛ لأن الصلاة من أشهر الألفاظ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء معرفةً، ولو جوزنا ذلك- ثم إنه خفي واندرس بحيث لا يعرفه إلا الآحاد- لجاز مثله في سائر الألفاظ، ولو جاز لما قطعنا بأن مراد الله من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه، بل لعل المراد تلك المعاني المندرسة. وأجاب القاضي: أن اشتهار اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله. قوله: (الطلق)، النهاية: الطلق بالكسر: الحلال، يقال: أعطيته من طلق مالي، أي: من صفوته وطيبه. قوله: (أن يضاف إلى الله ويسمى رزقاً)، قال القاضي: الرزق في اللغة: الحظ، قال تعالى:

وأدخل (من) التبعيضة؛ صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82] والعُرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان وتمكينه من الانتفاع به. والمُعتزلة لما استحالوا من الله أن يُمكن من الحرام؛ لأنه منع من الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه- قالوا: الرزق لا يتناول الحرام. ألا ترى أنه أسند الرزق هاهنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال الطلق، فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح، وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق، واختصاص "مما رزقناهم" بالحلال للقرينة، وتمسكوا بشمول الرزق للحرام، وأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقاً. وليس كذلك لقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]. قلت: قوله: "جعلوا الإسناد للتعظيم" معناه: أن الرزق وإن كان كله من الله، لكن من شرط ما يُضاف إليه من الأفعال أن يكون الأفضل فالأفضل، كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 80] وقوله تعالى: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7]. الانتصاف: المعتزلة أثبتوا خالقاً غير الله ورازقاً غيره، وقد قال الله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3].

وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها، وهي الصلاة، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبل الخير، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب: نفق الشيء، ونفد واحد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الرزق: لفظٌ مشتركٌ للحظ الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به. (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة: 3] محمولٌ على المباح؛ لأنه حث على الإنفاق ومدحٌ لفاعله، ولأنه مضافٌ إلى الله عز وجل والإنفاق كما يكون من المال والنعم الظاهرة يكون من النعم الباطنة كالعلم والقوة والجاه. والجود التام: بذل العلم، ومتاع الدنيا عرضٌ زائل. وقال بعض المحققين في الآية: ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون. قوله: (بأخت الزكاة)، أي: بالصلاة، فوضعها موضعها للإشعار بالعلية. قوله: (وعن يعقوب)، هو ابن إسحاق السكيت. قال الأنباري: كان من أكابر أهل اللغة. قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتاباً خيراً من كتاب ابن السكيت في اللغة وهو: "إصلاح المنطق". وأما حكاية قول ابن السكيت في "الإصلاح" فهو: نفق الزاد ينفق نفقاً: إذا نفد.

وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت. [(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)]. فإن قلت: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد، وفي قوله: إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهمامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ وقوله: يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّـ ... ابِحِ فالغَانِم فَالْآيِبِ؟ قلت: يحتمل أن يراد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى الملك القرم)، البيت. القرم: الفحل المكرم الذي لا يُحمل عليه، ثم سمي به السيد. والهمام: من أسماء الملوك؛ لعظم همتهم، أو لأنهم إذا هموا بأمرٍ فعلوه. والكتيبة: الجيش. وازدحم القوم: إذا وقع بعضهم على بعضٍ. ومنه قيل للمعركة: مزدحم؛ لأنها موضع المزاحمة. قوله: (يا لهف زيابة)، البيت. اللهف: كلمة استغاثة يُتحسر بها على ما فات. والزيابة: اسم أبي القائل. والحارث: من غزاهم وصبحهم وغنم منهم، وآب إلى قومه سالماً والصابح من: صبحت القوم: إذا أتيتهم صباحاً.

بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا، فاشتمل إيمانهم على كل وحى أنزل من عند اللَّه، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كعبد الله بن سلام)، قال في "الجامع": هو عبد الله بن سلام بن الحارث، من بني قينقاع الإسرائيلي. وكان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وسلام: بتخفيف اللام. قينقاع: بفتح القاف وضم النون وبالعين المهملة. قوله: (وأضرابه)، قال المصنف: أكثر الناس على أن الأضراب جمع ضربٍ بفتح الضاد، وعندي بكسرها فعلٌ بمعنى مفعول- كالعجز- وهو الذي يُضرب به المثل. ولا بد في المضروب به مثلاً والمضروب فيه من المماثلة. وقال غيره: الضرباء والأضراب: الأمثال، سمعت غير واحدٍ من العرب يقولون: هذا ضربه، أي: مثله بكسر الضاد. ويعضده مثل ومثيل، وشبهٌ وشبيه، وأنهم جمعوه على أضراب. قوله: (فاشتمل إيمانهم)، الفاء سببية، تقديره: آمنوا بالقرآن بعد أن كانوا مؤمنين بكتابهم؛ فلزم من إيمانهم بهذا اشتمال الإيمان على كل وحي. ثم قوله: "وأيقنوا بالآخرة" مشعرٌ بأن في الكلام تغييراً، وأن أصل الكلام: الذين آمنوا بما أُنزل إليك، وما أُنزل من قبلك، وأيقنوا بالآخرة؛ فأتى بالمضارع، وقدم الجار والمجرور، وأبرز الضمير، وبنى عليه لإعطاء معنى التخصيص مع التأكيد، على منوال قوله: (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) [الإسراء: 100] ليكون تعريضاً بمن لم يؤمن منهم، وبأن إيمانهم بالآخرة على خلاف ما هي عليه مع التردد فيهم، وأن إيمان المؤمنين مستمر الوقوع.

واجتماعهم على الإقرار بالنشأة الأخرى، وإعادة الأرواح في الأجساد، ثم افتراقهم فرقتين: منهم من قال: تجرى حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة، والسماع اللذيذ والفرح والسرور، واختلافهم في الدوام ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واجتماعهم)، روي مرفوعاً ومجروراً؛ فالرفع عطفٌ على قوله: "ما كانوا عليه"، والجر على قوله: "أنه لا يدخل الجنة". المعنى: زال مع هذا الإيقان زعماتهم أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وزال أيضاً ما كانوا عليه من خلط الحق مع الباطل، وهو الإقرار بالنشأة الأخرى، ثم افتراقهم فرقتين: فرقةٌ منهما موافقةً للمسلمين، وفرقةٌ مخالفةٌ لهم في قولهم بالتلذذ الجسماني، وفي الدوام والانقطاع. قوله: (الأرواح العبقة)، الجوهري: الريح واحدة الرياح والأرياح، وقد تُجمع على أرواح؛ لأن أصلها الواو، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها، فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو، كقولك: أروح الماء، وتروحت بالمروحة، الأساس: عبق به الطيب: لزمه، وامرأة عبقة: تطيبت بأدنى طيبٍ، فلم تذهب عنها ريحه أياماً. وقال أبو الطيب: مسكية النفحات إلا أنها ... وحشيةٌ بسواهم لا تعبق قوله: (واختلافهم)، عطفٌ على "افتراقهم" لا على "اجتماعهم"؛ ليكون في حكم "ثم" في التراخي. المعنى: أنهم اجتمعوا على الإقرار بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ثم حصلت لهم التفرقة في كيفية الأحوال، والاختلاف في كمية الزمان.

والانقطاع، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين. ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت: فإن أريد بهؤلاء غير أولئك، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟ . قلت: إن عطفتهم على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمنى أهل الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على (لِلْمُتَّقِينَ) لم يدخلوا. وكأنه قيل: هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك. فإن قلت: قوله: (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، فلم يكن ذلك منزلا وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضىّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت: المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضىّ وإن كان بعضه مترقباً، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، كما بغلب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب فيقال: أنا وأنت فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله، ويدل عليه قوله تعالى: (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [الأحقاف: 30] ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك: كل ما خطب به فلان فهو فصيح، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي، لكونه معقوداً بعضه ببعض، ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بِالْآخِرَةِ) وبناء (يُوقِنُونَ) على: (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي تقديم "بالآخرة" وبناء (يُوقِنُونَ) على (هُمّ) تعريضٌ) إلى آخره، أي: قصد بهذين الاعتبارين تينك الخاصيتين- أعني: التخصيص وتقوّي الحكم- تعريضاً بهم،

أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وبِالْآخِرَةِ تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأوّل، وهي صفة الدار بدليل قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص: 83]، وهي من الصفات الغالبة، وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام، كقوله (دَابَّةُ الْأَرْضِ) [سبأ: 14]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: "تعريضٌ بأهل الكتاب" توطئة، وقوله: "بما كانوا عليه" وقوله: "وأن قولهم" إني آخره، عطفٌ عليه على طريقة: أعجبني زيدٌ وكرمه. وهذان المعطوفان تفسيران لقوله: "وفي تقديم "بالآخرة"" وقوله: "وبناء "يوقنون"" على سبيل النشر، فدل التقديم على التخصيص، وأن إيمانهم مقصورٌ على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز إلى ما أثبته اليهود، وهو أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وأنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات، وأن أهل الجنة يتلذذون بالنسيم والأرواح العبقة، وهو المارد بقوله: "من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته" ودل بناء "يوقنون" على "هم" على تحقيق إيقانهم وثباته، وهو المراد بقوله: "وأن قولهم ليس بصادرٍ عن إيقانٍ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أُنزل إليك"، ثم بمجموعها دل على أن اليهود على خلاف ذلك تعريضاً، فعلى هذا قوله: "وأن اليقين ما عليه" ليس معطوفاً على "تعريضٌ" كما ظُن، وإنما لم يُحمل قوله: "وبناء "يوقنون" على "هم"" على التخصيص؛ لأن القول بتقوى الحُكم يفيد التحقيق ويستلزم التخصيص بالتعريض، والقول بالتقديم لا يفيد إلا التخصيص، فكان أولى. قوله: (والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه). قال القاضي: اليقين: إتقان العلم بنفي الشبهة عنه نظراً واستدلالاً، ولذلك لا يوصف به العلم القديم والعلوم الضرورية. وقال الإمام: لا يُقال: تيقنت أن السماء فوقي، ويقال: تيقنت ما أردته بكلامك.

وقرأ أبو حية النميري (يوقنون) بالهمز، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه، فقلبها قلب واو «وجوه» و «وقتت». ونحوه: لَحُبَّ المُؤْقِدَانِ إلَىَّ مُؤْسَى ... وَجَعدَةُ إذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ [(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] (أُولئِكَ عَلى هُدىً): الجملة في محل الرفع إن كان (الذين يؤمنون بالغيب) مبتدأ وإلا فلا محلّ لها. ونظم الكلام على الوجهين: أنك إذا نويت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الراغب: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: عِلم يقينٍ، ولا يقال: معرفة يقينٍ، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، يقال: استيقن وأيقن. قوله: (لحب المؤقدان) البيت لجرير. وموسى وجعدة ابناه، وهما عطفا بيانٍ لقوله: "المؤقدان" كانا يوقدان نار القرى، وقوله: "إذ أضاءهما" بدل اشتمال منهما، يحمد فعالهما ويشكر صنيعهما، المعنى: حبب الله إلي وقت إضاءة وقودهما إياهما، ونحوه في البدل قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) [مريم: 16]، أي: اذكر وقت انتباذهما، واللام في "لحب المؤقدان" للقسم، هكذا روى سيبويه بقلب الواو في "الموقدان"، وموسى همزه. "لحب" يُروى بضم الحاء وفتحها. الجوهري: يُقال: أحبه فهو محب، وحبه يحبه بالكسر فهو محبوبٌ، ولقد حببت بالكسر، أي: صرت حبيباً. قوله: (وإلا فلا محل لها) من الإعراب، قيل: فيه نظر لأنه لو كان الموصول الثاني مبتدأ، فكذلك محلها الرفع، فالحق أن يقال: إن كان أ؛ د الموصولين مبتدأ، فهو في محل الرفع.

الابتداء بـ (الذين يؤمنون بالغيب)؛ فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى ساقته، كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر. وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من اللَّه أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم، أحقاء بأن يهديهم اللَّه ويعطيهم الفلاح. ونظيره قولك: أحبّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعاً للمتقين، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجيب: أن المصنف في صدد أن يذكر في الآية وجوهاً ثلاثة، ويشير في التقرير إلى بيان الفرق؛ فبنى الكلام أولاً على الوجهين اللذين هما أقوى الوجوه وعليهما تعويل أهل المعاني دون الثالث، ثم سأل نفسه: هل يجوز ذلك التقدير؟ أي: أن يجري الموصول الثاني على الابتداء و"أولئك" خبره، لأن الوجه الأخير لا يحسن حسنهما لخلوه عن الاستئناف ولزوم فك الموصولين. ولهذه اللطيفة قُدِّم الاستئناف المنطوي على بيان الموجب على الآخرة، وكما روعيت هذه اللطيفة روعيت المناسبة بين الوجهين أيضاً حيث قال أولاً: "نويت" مقرونةً بإذا، وثانياً: "وإن جعلته تابعاً" وإنما كان الوجه الأول أحسن الوجوه لما ذكرنا من بيان الموجب، ولإيقاع "أولئك" خبراً له، وهو أيضاً موجبٌ كما سيجيء. قوله: (ما للمستقلين بهذه الصفات)، الأساس: ومن المجاز: هو مستقلٌ بنفسه: إذا كان ضابطاً لأمره. النهاية: يقال: أقل الشيء يُقله، واستقله يستقله، إذا رفعه وحمله، وفي الحديث: "حتى تقالت الشمس" أي: استقلت في السماء، وارتفعت وتعالت.

أولئك الموصوفين، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا. واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقولك: قد أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ما للمتقين الذين هذه المذكورات حدهم، أو ما للكاملين بهذه الصفات؟ وقد راعى فيه معنى لا يلزم منه الموجب، بخلافه في الأول فليتدبر. ولإفادة اللام الاختصاص: أعني في "المتقين"، قال في هذا الوجه: "أن يفوزوا دون الناس"، وفي الأول: "بمن ليسوا على صفتهم" وقال أولاً: "استوجبوا" بناءً على مذهبه، وثانياً: "غير مستبعدٍ أن يفوزوا" لأن الأول مبني على العلية، ثم الأنسب أن يجرى "المتقين" في الوجه الأول على الحقيقة، وهم الثابتون على التقوى، ليستقيم قوله: "استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم"، وفي الثاني على المجاز، كما قال: (هُدىً) للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فيستقيم قوله: "غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً". قوله: (هذا النوع) الإشارة بـ"هذا" إلى المذكور قبلُ، فإنه لا يخرج عن هذين القسمين، ويُفهم منه أن من الاستئناف أنواعاً تأتي على غير هذا النوع، ومن قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة: 15] بعد قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14]، وغير ذلك. قوله: (زيدٌ حقيقٌ بالإحسان) جوابٌ عن قول من قال- إذا قُلت: أحسنت إلى زيدٍ: ما له أُحسن إليه؟ أي: هو حقيقٌ بالإحسان لما فيه من الخصال المرضية والخلال الحميدة كما في الوجه الثاني في تفسير الآية؛ لأن الوصف حينئذٍ حده، أو مدحه لقوله: "ما للمستقلين بهذه الصفات"، وقولك: صديقك القديم، جوابٌ عن قوله- حين قلت له: أحسنت إلى زيد: ما له أحُسِنُ إليه ولم يستوجب مني الإحسان؟ أي: استوجب منك الإحسان لكونه

وتارةً بإعادة صفته، كقولك: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. فإن قلت: هل يجوز أن يجرى الموصول الأوّل على المتقين، وأن يرتفع الثاني على الابتداء و (أولئك) خبره؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صديقاً لك، كما في الوجه الأول، لأن الصفة حينئذٍ لغير الكشف والمدح، لقوله: "ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم"؛ فعلى الأول استحق الإحسان لما هو فيه، وعلى الثاني لما له عليك، وهذا أبين في تلخيص الموجب، لتخصيصه، أي: بما يستحق عليك الإحسان، ولكن ذاك أدخل في التمدح كأن ذاته لكونها مستجمعةً للخلال المرضية مستحقةٌ للإحسان. على أن (أُولَئِكَ) في الآية ليس كالمثال، فإن إيراد اسم الإشارة هنا، كإعادة الموصوف مع صفاته المذكورة، وذلك أن "المتقين" لما حكم عليهم بكون الكتاب هُدى لهم، ثم أجرى عليهم تلك الصفات شيئاً فشيئاً، كما ذكر في "الفاتحة" مُيزوا غاية التمييز، فاستحقوا لذلك التمييز التام أن يفوزوا بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً. ويؤيد هذا التأويل قول القاضي: إذا كان (أُولَئِكَ) استئنافاً، كان نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة. تم كلامه. فَوِزان قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] إلى قوله: (يُنْفِقُونَ) وزانُ قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2] إلى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4]، ووزان قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] وزان قوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]، وها هنا سرٌ دقيقٌ وهو: أنه تعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لبارئه بسبب إحسانه إليه، وترقى فيه ثم مدح الباري هاهنا عبده بسبب هدايته له، وترقى فيه على أسلوبٍ واحد.

قلت: نعم، على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نعم على أن يُجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً) يعني: إنما يجوزُ ذلك إذا جُعل الغرض في بناء (أُوْلَئِكَ) على "الذين"، ودلالة الاختصاص الذي يُعطيه معنى التركيب، التعريض بأهل الكتاب؛ ليكون قطع الكلام من الأول، وجعله جملةً بحيالها، والعدول من تلك المواقع المستحسنة لغرضٍ صحيح. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى) على الوجهين السابقين تعريضاً؟ قلت: ليس بواضح، لأن الغرض في الاستئناف الأول بيان موجب أن الكتاب هدىً لهم، أي: إنما كان الكتاب هدى لهم، لأنهم على هدىً لا يكتنه كنهه. وفي الاستئناف الثاني بيان جزاء أولئك الموصوفين بتلك الصفات الفائقة، فوجب أن يقال: لهم الهدى عاجلاً، والفلاح آجلاً. نعم لو أريد التعريض على سبيل الإدماج لجاز، بخلافه في تلك الصورة؛ لأن الغرض الأول هو التعريض. قال: "إذا كان الكلام منصباً إلى غرضٍ من الأغراض، جُعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوضٌ مطرح". وذهب صاحب "المفتاح": إلى أن الجملة على هذا من مستتبعات (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، وقدره: "هو هدى"، وقال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) تقريرٌ وتوكيدٌ لقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ). فعُلم منه أنه على الوجوه السابقة كان مستتبعاً للمتقين، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد بالمتقين: الضالون الصائرون إلى الهدى كما في الوجه الثاني من الكتاب، فعطف هذه الجملة على السابقة على سبيل الحصول والوجود وتفويض الترتب إلى الذهن. يعني: إذا كان الكتاب هدى للضالين الصائرين إلى الهدى، فلأن يكون هدىً للذين شرعوا وصدقوا ما يجب تصديقه أحرى وأولى.

الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند اللَّه. وفي اسم الإشارة الذي هو (أولئك) إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: أن يُراد بهم الثابتون على التقوى كما في الوجه الأول، فالعطف حينئذٍ من حيث الجملة لا بالنظر إلى أنها مؤكدةٌ للسابق إذ لا تحسن هذه أن تكون مؤكدةً مثلها، بل تكون مستطردةً ولا يمنع العاطف من الاستطراد كما في قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26] وتقريره: أنه لما قيل: إن الكتاب هدىً للمتقين الموصوفين بتلك الصفات النابهة، استتبع هذا الحديث حديث أهل الكتاب الذين جمعوا بين الإيمان بهذا الكتاب الكريم وبجميع ما نزل من الكتب السماوية، فأورد في الذكر على طريق التخصيص تعريضاً بمن لم يؤمن منهم. قوله: (فالمذكورون قبله أهلٌ لاكتسابه) معنى كونهم على هدىً وحصول الفلاح لهم أمارةٌ لاستئهالهم للهدى والفلاح، لأجل اتصافهم بتلك الصفات، وهذا إنما يقع موقعه إذا اعتبر الاستئناف من قوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى) [البقرة: 5] كما سبق تقريره آنفاً لا من قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3] لأنه يلزم من إجراء الأوصاف على المتقين استئهالهم الهدى والفلاح، ويلزم من الاستئناف كون الكتاب هدىً، اللهم إلا أن يُجعل الموجب مركباً. ولعل المقصود من ركوب الاستئناف الأول تقرير المذهب؛ يعني: إنما كان الكتاب هدىً للمتقين، لكونهم على هدىً وأي هدىً! فاستوجبوا لذلك أن يهتدوا بالكتاب، لأنهم أوجبوا على الله الهداية بعملهم كما قال: "بخصائصهم التي استوجبوا من الله أن يلطف بهم". وقوله: (فالمذكورون قبله) واردٌ على مذهب الأخفش، وهو: أنّ "إنَّ" و"أنَّ" لا يمنعان دخول الفاء في خبر المبتدأ، فهو كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) [البروج: 10] ولكن معناه معنى قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53] ألا ترى أنك لو جعلت مضمون قوله: (فَمِنَ اللَّهِ) هو المشروط، لكان المعنى:

كما قال حاتم: وللَّه صعلوك ثم عدّد له خصالا فاصلة، ثم عقب تعديدها بقوله: فَذلِكَ إنْ يَهْلِكْ فَحسْبى ثَنَاؤُهُ ... وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن استقرارها بهم سببٌ لحصولها من الله، وهو من التعكيس، وإذا جعلت الإخبار بنفس الجزاء هو المشروط كما تقول: والذي استقر بكم من نعمةٍ فإني أُخبركم أنه من الله، استقام. كذا هاهنا ورود ما ورد عقيب أولئك سبب الإخبار أن المذكورين أهلٌ لاكتسابه. قوله: (ثم عدد له خصالاً فاضلةً) إشارةً إلى سائر الأبيات، وهي: ولله صعلوكٌ يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما فتى طلباتٍ لا يرى الخمص ترحةً ... ولا شبعةً إن نالها عد مغنما إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما ترى رُمحه أو نبله أو مجنه ... وذا شُطبٍ عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاترٍ، ولجامه ... عتاد فتى هيجا وطرفاً مسوما فذلك إن يهلك فحسني ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما "ولله صعلوكٌ" كقولك: ولله القائل، ولله أنت، أي: لله القدرة على خلق قائل هذا الكلام، وهذا يُقال عند صدور كلامٍ غريب وفعلٍ عجيب. والتقدير: أنت صنيعه ومختاره، فله القدرة على خلق مثلك. الصعلوك: الفقير، وصعاليك العرب: ذؤبانها أي: الذين يتلصصون. المساورة: المواثبة، والخمص: الجوع، والترح: الشدة. شطبة السيف: طريقته التي في متنه، خذمه: قطعه بسرعة، وسيفٌ مخذم وخذم: قطاع.

ومعنى الاستعلاء في قوله: (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به. شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قولهم: جعل الغواية مركباً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعرضت، أي: ظهرت واستبانت. قاتر: واقٍ لا يعقر ظهر الفرس، وحسنى: مصدر بمعنى حسنٍ، مثل بُشرى بمعنى بشارة، وقيل: هو اسمٌ من الإحسان. يقول: لله در فقيرٍ يواثب همته ويمضي مقدماً على الدهر، والحال أنه فتى طلباتٍ يتجدد طلبه كل ساعة، والدهر يسعف بمطلوبه بجده ورشده، ولا يرى الجوع شدةً، ولا الشبع غنيمةً، لعلو همته، فمثله إن يهلك فحسنٌ ثناؤه، وإن يعِشْ يعِشْ ممدوحاً معززاً. قوله: (مثلٌ لتمكنهم) أي: هو استعارةٌ تمثيليةٌ واقعةٌ على سبيل التبعية، يدل عليه قوله: "شُبهت حالهم": وتقريره أن يُقال: شبهت حالهم وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه، وتمسكهم به، بحال من اعتلى الشيء وركبه، ثم استعير للحالة التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به. ويدلك على أن الاستعارة التبعية تمثيليةٌ الاستقراء، وبه يشعر قول صاحب "المفتاح" في استعارة لعل: فتشبه حال المكلف وكيت وكيت بحال المرتجي المخير إلى آخره. وليكن هذا المعنى على ذكر منك لينبهك على أن أحد وجهي المجاز في (خَتَمَ اللهُ) [البقرة: 7] من الاستعارة والتمثيل على هذا. قوله: (وقد صرحوا بذلك) أي: بإرادتهم معنى الاستعلاء والركوب فيما يُشبه الآية، وقولهم: "هو على الحق وعلى الباطل" من قولهم: "جعل الغواية مركباً" أي: كالمركب، فهو من التشبيه. وقالوا: "امتطى الجهل" أي: اتخذ الجهل مطيةً، وهو أيضاً تشبيه، وأما قوله: "واقتعد

وامتطى الجهل، واقتعد غارب الهوى. ومعنى (هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أى منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير، والترقي إلى الأفضل فالأفضل. ونكر (هدى)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غارب الهوى" فهو استعارةٌ: إما تحقيقيةٌ أو تخييليةٌ. و"اقتعد" ترشيحٌ لها نحو قوله: وعُري أفراس الصبا ورواحله قوله: (ومعنى (هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)) مبتدأ، و"منحوه من عنده" خبره، فأقحم "أي"التفسيرية، لمزيد البيان، أو معنى هدىً من ربهم هذا القول، فحذف القول وجيء بتفسيره كما سيجيء في قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [البقرة: 11]. قوله: (أي: منحوه من عنده وأوتوه من قبله) يعني: أن "من" هاهنا لابتداء الغاية فلا يصح إلا بتقدير "عند" نحو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [الأعراف: 206]، وهو أيضاً لا يصح إلا بالكناية، فيرجع حاصله: أوتوه من قِبَله، أي: بتوفيقه ولطفه، واللطف ما يختار عنده المكلف الطعة على مذهبه، وسيجيء تحقيقه بعد هذا. قوله: (والترقي إلى الأفضل فالأفضل) والفاء مثلها في قوله صلوات الله عليه: "الأمثل فالأمثل"، فهي للتعقيب على سبيل الاستمرار إلى ما لا نهاية له. المعنى: إذا ساعدتهم ألطاف الله، وتداركهم توفيقه، اقتدروا على عملٍ من الأعمال الحسنة، وهذا العمل يستنزل لهم لُطفاً جديداً أفضل منه، فيستجدوا به عملاً أعلى من ذلك،

ليفيد ضربا مبهماً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره كأنه قيل: على أى هدى، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وقال الهذلي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، فاللطف يدعو إلى العمل، والعمل إلى استجلاب اللطف، فلا يزال اللطف والعمل يتناوبان حتى يتمكنوا على الأعمال، فتصير فيهم صفةً راسخة. وإليه ينظر ما روي: "من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم". وروي عن الجنيد: "الحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة، والذنب بعد الذنب عقوبة الذنب". قوله: (لا يبلغ كنهه)، الأساس: سله عن كنه الأمر: عن حقيقته وكيفيته، واكتنه الأمر: بلغ كنهه وغايته. قوله: (لا يقادر قدره)، الأساس: قدرت الشيء أقدره، وهذا شيءٌ لا يقادر قدره، وقدرت أن فلاناً يفعل كذا، وفلانٌ يقادرني: يطلب مساواتي، وتقادر الرجلان: طلب كل واحدٍ مساواة الآخر.

فَلَا وَأَبِي الطّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى ... عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعْتِ على لَحَم والنون في: (مِنْ رَبِّهِمْ) أدغمت بغنة وبغير غنة. فالكسائى، وحمزة، ويزيد، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها. وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو. فقد روى عنه فيها روايتان. وفي تكرير (أُولئِكَ) تنبيه على ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا وأبي الطير المربة) البيت: نقل عن المصنف أنه كان يقول: ما أفصحك يا بيت المربة! أي: الملازمة، من أرب بالمكان: إذا أقام به، وقد كان خالدٌ هذا رفيع الشأن، على القدر، فاستعظم لحمه حيث نكره، وبسبب تعظيمه اللحم استعظم الطير الواقعة عليه، حيث أقسم بأبيها؛ والإقسام بالشيء دليلٌ على تعظيمه، وكذلك الكُنى تدل على التعظيم. ثم إن جعلت "لا" زائدةً، كان جواب القسم: "لقد وقعت"، وفيه إشعارٌ من حيث الالتفات بالتعظيم، ومن حيث إن سبب الإقسام بها كونها واقعةً على ذلك اللحم فيه تعظيم الشيء بنفسه، فيعود إلى معنى قول الطائي: وثناياك إنها إريض. وقوله تعالى: (حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف: 1 - 3]، وإن لم تُجعل "لا" زائدةً بل رداً لكلامٍ سابقٍ، أي: ليس الأمر كما زعمت وحق أبي الطير، يكون جواب القسم ما دلت عليه "لا"، ثم ابتدأ بإنشاء قسم آخر، أي: والله لقد وقعت على لحمٍ، كقوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [القيامة: 1] فيكون صفةً للطير على تأويل: الطير المقول في حقه ذلك.

أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلت كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها. فإن قلت: لم جاء مع العاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف: 179] قلت: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما ثبتت لهم) لا يجوز أن تُحمل "الكاف" على التشبيه؛ لأن "الفاء" التي في قوله: "فهي" مانعةٌ من جعل ما بعدها مشبهاً به، بل "الكاف" للقِران في الوقوع كما في قولك: كما حضر زيدٌ قام عمروٌ، والمعنى: كما حصلت الأثرة بالهدى ما توقف حصول الفلاح عقيبه؛ جعل الفلاح المتوقع في الآجل حاصلاً مع حصول الهدى في العاجل، مبالغةً، وما اكتفى بذلك، بل غير العبارة، وأبرز الجملة الثانية وهي قوله: "فهي ثابتةٌ" في معرض الاسمية وبناها على تقوي الحكم ليشير به إلى مبالغةٍ أخرى في الآية سوى التكرار، وهي تعريف ما يعطيه الخبر، وتوسيط الضمير في الجملة الثانية بخلاف الأولى. قوله: (الأثرة بالهدى) الأثرة: التقدم والاختصاص؛ من الإيثار، الأساس: ولهم مآثر، أي: مساع يأثرونها عن آبائهم، وهو أثيري، أي: الذي أوثره وأقدمه، وله عندي أثرةٌ، وهو ذو أثرةٍ عند الأمير. قوله: (على حيالها)، الجوهري: قعد حياله وبحياله، أي: بإزائه. وأصله الواو. المغرب: وأعطى كل واحدٍ على حياله، أي: بانفراده. قوله: (قد اختلف الخبران) أي: الجملتان الواقعتان خبرين عن (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) فإن معنى (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى): أنهم متمكنون الآن على الهداية، ومعنى (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أنهم في الآخرة يفوزون بمباغيهم ومآربهم، فبينهما اختلافٌ من وجهٍ، واتفاقٌ من وجه، فتوسطت

بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيهم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل (وهُمُ): فصلٌ، وفائدته: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. أو هو مبتدأ و (المفلحون) خبره، والجملة خبر أولئك. ومعنى التعريف في (الْمُفْلِحُونَ): الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أى هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، فدخل العاطف، بخلافه في قوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) [الأعراف: 179] الآية، هذا إذا قدروا الاستئناف من قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، وأما إذا قُدر من "أولئك" فالمراد بالخبرين الإخبار. والأظهر أن المراد بالخبرين قوله: (عَلَى هُدًى) وقوله: (هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؛ فاختلافهما يؤدي إلى اختلاف الجملتين، وإن اتحد المبتدأ فيهما، وكذلك اتفاقهما في تلك الآية يوجب اتفاق الجملتين. قوله: (أو هو مبتدأٌ و (الْمُفْلِحُونَ) خبره) فعلى هذا تكون الجملة من باب تقوّي الحكم، أو من التخصيص على نحو: هو عارف. قوله: (ومعنى التعريف) مبتدأٌ و"الدلالة" الخبر. وفي قوله: "هم الناس الذين بلغك" إشارةٌ إلى أن التعريف للعهد. وفي قوله: (أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين) دلالةٌ على أن التعريف في هذا الوجه للجنس، فإذا جُعل للعهد كان قصراً للمسند على المسند إليه، فالفلاح لا يتعدى إلى

وتحققوا ما هم، وتصوّروا بصورتهم الحقيقية، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرّر اللَّه عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدّموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غيرهم، وإذا جُعل للجنس، أفاد أن المسند إليه مقصورٌ على المسند، فلا يعدون من الفلاح إلى صفةٍ أخرى، فيلزم على الأول اختصاصهم بالفلاح دون غيرهم. ولما كان الكلام وارداً على التعريض بأهل الكتاب يعود عدم الفلاح إليهم. قوله: (وتحققوا ما هم) أي: أيّ شيءٍ هم؟ وهذه الجملة مفعولٌ ثانٍ لتحققوا وهو متضمنٌ لمعنى العلم، كأنه قيل: وعلموا أي شيءٍ هم، وهذا لا يسمى تعليقاً، وإنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعاً كقولك: علمت أيهما عمروٌ، وعلمتُ أزيدٌ منطلقٌ أم عمرو، وإذا قلت: علمت أزيدٌ منطلقٌ أم هو كاتبٌ، كانت هذه الجملة واقعةً موقع ثاني مفعولي علمت. قوله: (وتصوروا بصورتهم) أي: لو قُدر أن معنى المفلحين تصور بصورته الحقيقية، فالمتقون لا يعدون تلك الحقيقة، وهذا معنى قولنا: إن المسند إليه مقصورٌ على المسند، ويقرب منه قول الطائي: ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع قوله: (ويثبطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب) وهذا تلويحٌ إلى الوعيد.

والتمني على اللَّه ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهمّ زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته) معناه: توقع الثواب من غير عملٍ باطلٌ، لامتناع الثواب بدون العمل على مذهبه، وتلخيص كلامه: أن المتقي من صدر منه تلك الخصال المذكورة، فمن أخل بشيءٍ منها لم يكن متقياً، ومن لم يكن متقياً لم يكن مفلحاً، بدليل تكرير ما كُرر، ومن لم يكن مفلحاً، لا خلاص له من العذاب السرمد. وأجاب القاضي: المراد بالمفلحين: الكاملون في الفلاح، ويلزم عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح رأساً. وقلت: يمكن أن يقال: إن قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3] صفةٌ مادحةٌ، أو مخصصةٌ على ما قررناه، لا كاشفةٌ ولا مخصصة على ما ذكره من التفسير للمتقي لما أبطلناه، وأن المراد بالمتقين المجتنبون عن الشرك، فيدخل العاصي في هذا الحكم، وهذا التأويل أوفق لتأليف النظم مما ذهب إليه المصنف لدخول أكثر المسلمين في الحكم، فتتطابق هذه الآية وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة: 6] وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة: 8] ويحسن تقسيمه. افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم، وواطأت قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، إذ لو حُمل على ما قال، لم يدخل فيه سوى الأفراد منهم كقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]. فإن قلت: كيف جاز أن يكون العاصي مفلحاً؟

والمفلح: الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. والمفلج - بالجيم - مثله. ومنه قولهم المطلقة: استفلحى بأمرك بالحاء والجيم. والتركيب دال على معنى الشق والفتح، وكذلك أخواته في الفاء والعين، نحو: فلق، وفلذ، وفلى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: كما جاز أن يكون مصطفىً في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32]، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو جُعل القرآن في إهابٍ ثم أُلقي في النار ما احترق"، أخرجه الدارمي عن عقبة بن عامر. هذا مثلٌ لبركة مجاورته، فكيف بالمؤمن الذي تولى حفظه وتفسيره وإن كان عاصياً. وروينا عن البخاري ومسلمٍ والترمذي، عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل، فبشرني أنه من مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئاً، دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق! ". وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق! ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر". قوله: (استفلحي) أي: فُوزي بأمرك واستبدي؛ وهو من كنايات الطلاق.

[(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)]. لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدى عليهم اللطف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى في "الفائق" عن ابن مسعود: إذ قال الرجل لامرأته: استفلحي بأمرك والحقي بأهلك، فقبلت، فواحدةٌ بائنة. أي: استبدي به، واقتطعيه إليك من غير أن تنازعيه. وقال أيضً: كل ما فيه فاءٌ ولامٌ ففيه معنى الشق، فلق الصبح، أي: شق، وفلذ، أي: قطع، وفلى، هو من فلوته عن أمه، إذا فطمته، وفلوته بالسيف وفليته إذا ضربته به. قال الراغب: الفلح: الشق، وقيل: الحديدُ بالحديد يفلح، أي: يشق، والفلاح: الأكار، وكذلك الفلاح: الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وهو البقاء والغنى والعز، وفلاحٌ أخروي وذلك أربعة اشياء: بقاءٌ بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعزٌّ بلا ذل، وعلمٌ بلا جهل، ولذلك ورد: "لا عيش إلا عيشُ الآخرة"، وقال تعالى: (وإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت: 64]، وقال: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].

وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت: لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعاطف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تباينٌ في الغرض والأسلوب)، أما الغرض فلأن الأولى مسوقةٌ لوصف الكتاب بكونه هادياً كاملاً في بابه، بالغاً في إيصال المهديين إلى منتهى مباغيهم، والثانية واردةٌ لذم الكفار، وأن إنذارهم بالكتاب لا ينفع فيه، وأما الأسلوب، فلأن الثانية مصدرةٌ بحرف التوكيد التي يُتلقى بها الطالب أو المنكر عريةً عن الفنون البيانية والصنعة البديعية المستدعية، لذلك توخى العطف كقوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 13 - 14]، وإن فيها صنعة التقابل والترصيع، فإن العطف بين الجملتين جائزٌ بشرط رعاية التناسب، وبين المفردين بشرط اتحاد التصورات. قوله: (لا مجال للعاطف فيه) قيل: فيه نظر، لأن قوله: "سواءٌ وجود الكتاب وعدمه" مشعرٌ بأنها مسوقةٌ لوصف الكتاب. قلت: المطلوب من الوصف هنا تعظيم الكتاب وتفخيم شأنه، فإن الموصوف إنما يكتسب المدح إذا كانت الصفة صالحة للتمدح بها. ولا شك أن كون الكتاب غير منتفعٍ به للمصرين على الكفر لا يصلح للمدح، لأن القصد من سوق الآيات مدح الكتاب. وأما قوله: "سواءٌ وجود الكتاب وعدمه" بيانٌ لنظم الآي، وأن ذكر الكفار على سبيل

فإن قلت: هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأمّا إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان مثل تلك الآي المتلوّة. قلت: قد مرّ لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف، وأنه مبنىّ على تقدير سؤال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستطراد لذكر المؤمنين، وكون الكتاب هادياً لهم كما قال صاحب المفتاح: هذا كما يكون في حديث ويقع في خاطرك بغتةً حديثٌ آخر بينهما جامعٌ، لكن غير ملتفتٍ إليه لبُعد مقامك عنه، ويدعوك إلى ذكره داعٍ، فتورده مفصولاً. قوله: (كان مثل تلك الآي) يعني قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 13 - 14] ونحوها لانقطاعها عما قبلها، وابتداء جملةٍ أخرى متآخيةٍ لما بعدها بالتقابل، فإذن لا يمتنع إدخال العاطف بينهما. وخلاصة الجواب: أن (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية [البقرة: 6] ليست على منوال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3] لا صفةً ولا استئنافاً كما سبق. نعم، هي واردةٌ على الاستئناف استطراداً لا مدحاً، لأن "إنّ" مستدعيةٌ للطلب أو الإنكار، لكونها لتأكيد النسبة كأنه لما قيل: إن الكتاب هادٍ للمتقين، وموصلٌ لهم إلى مباغيهم، تردد السامع في هذا الاختصاص قائلاً: لم اختص المتقون بتلك الهداية؟ وما بال الكفرة محرومين عنه؟ فقيل: لأن الذين كفروا مُصرون على كفرهم، وأن الله ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. والحاصل: أن هذه الآية تابعةٌ للتابع وهو "الذين يؤمنون" لا صفةٌ للكتاب، لأنها لا يصلح للتمدح بها مثلها، فتدبر.

فذلك إدراج له في حكم المتقين، وتابع له في المعنى وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجارى عليه. والتعريف في الَّذِينَ كَفَرُوا يجوز أن يكون للعهد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إدراج) يعني: هو تعليل للحكم، كأنه قيل: الكتاب هدىً للمتقين؛ لاختيارهم تلك الفضائل النابهة، وكذا حكمه إذا جعل وصفاً له، لما عرفت أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يُشعر بالعلية، فتدبر. قوله: (والتعريف في (الَّذِينَ كَفَرُوا)) يعني المراد بالذين كفروا قومٌ بأعيانهم فيطابقه قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة: 6] فإذن لا إشكال فيه، ويجوز أن يكون التعريف للجنسن فيكون اللفظ بظاهره متناولاً لكل من صمم ولمن لم يصمم، كالمشترك، ويكون قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) قرينةً مبينةً لأحد مفهوميه. قال القاضي: وتعريفُ الموصول للجنس متناولٌ لمن صمم على الكفر وغيرهم، فخص منهم غير المصرين بما أسند إليهم. وقلت: حملُ قول المصنف على المطلق والمقيد أظهر عنده من الحمل على الخاص والعام، يدل عليه قوله في تفسير قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) [البقرة: 228]: أراد ذوات الأقراء. فإن قلت: كيف جاز إرادتهن خاصةً واللفظ يقتضي العموم؟ قلت: بل هو مطلقٌ في تناول الجنس صالحٌ لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك، وذلك أن دليل الخصوص عند الحنفية جملةٌ مستقلةٌ بنفسها، نص عليه

وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، و (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البزدوي بقوله: "دليل الخصوص يشبه الناسخ بصيغته؛ لأنه نص قائمٌ بنفسه"، فعلى هذا: "إن الذين كفروا" لفظٌ مطلقٌ يتناول كل من صمم على الكفر ومن لم يصمم؛ فدل على تناوله- أي: إرادته- المصرين هاهنا حديث استواء الإنذار وتركه، ودل على تناوله المنافقين انضمام قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8] معها. قوله: (وأن يراد [بهم] ناسٌ بأعيانهم) عطفٌ تفسيري. قوله: (من صمم)، الجوهري: صمم في السير، أي: مضى، وصمم، أي: عض ونيب فلم يرسل ما عض. قوله: (لا يرعوي)، النهاية: في الحديث "شر الناس رجلٌ يقرأ كتاب الله ولا يرعوي إلى شيءٍ منه" أي: لا يكف ولا ينزجر عن منهياته، وقد ارعوى عن القبيح يرعوي ارعواءً، وقيل: الارعواء: الندم على الشيء والانصراف عنه وتركه. قوله: (كما يُوصف بالمصادر) روي عن المصنف: الوصف بالمصدر نحو رجل صومٌ وعدلٌ على وجهين: أن يقدر مضافاً محذوفاً، أي: ذو صومٍ، وذو عدلٍ، وأن يُجعل أنه تجسيمٌ من الصوم والعدل مبالغةً. والمبالغة ها هنا أن الإنذار وعدم الإنذار نفس السواء.

ومنه قوله تعالى: (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران: 64]، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت: 10] بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإنّ، و (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إنّ الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول: إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه. أو يكون (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) في موضع الابتداء، (وَسَوَاءٌ) خبراً مقدّما بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإنّ. فإن قلت: الفعل أبداً خبر لا مخبر عنه فكيف صحّ الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بيناً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً) [فصلت: 10]) بالجر شاذٌ، وبالنصب مشهور. قوله: (من جنس الكلام المهجور) قال القاضي: والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما إذا أطلق، وأريد به اللفظ، أو مطلق الحديث المدلول عليه ضمناً على الاتساع، فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه كقوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) [البقرة: 13] وقوله: (يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ) [المائدة: 119] وقولهم: ((تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه)). وإنما عدل هنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد. قوله: (يميلون ... مع المعاني)، الأساس: مال معه ومايله ومال إليه: أحبه. والمعنى يميلون مصاحبين المعاني، أو يدورون معها ولا يبالون بالألفاظ كما في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، عطفوا الاسم على الفعل على تأويل: لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن.

من ذلك قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التقدير على غير المتعارف، فإنه قال في قوله تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ) [البقرة: 42]: إن ((الواو)) بمعنى الجمع، أي: لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كمسألة السمكة، لكن المعنى يعود إليه، لأن المنهي في الظاهر في قوله: ((لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن)) هو الأكل والشرب على منوال (فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف: 2]، ولا أرينك ها هنا، وإنما المنهي المخاطب بأن يجانب الأكل والشرب على أبلغ وجه، وقد علم جواز الانفراد، فتوجه النهي إلى الجمع لما يورث الداء المحذر منه. وأما بيان الجمع، فهو ما قال صاحب ((الضوء)): هذه ((الواو)) تسمى واو الجمع، وهي بمعنى ((مع))، لأن المراد: لا تأكل السمك مع شربك اللبن، وله أن يأكل كل واحدٍ منهما على حدة، وليس له أن يجمع بينهما في وقتٍ واحد، وإن أردت أن تكفه عن كل واحدٍ منهما، قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالجزم، والفعل بعدها مع ((أن)) المضمرة منصوب المحل على أنه مفعولٌ معه كما في قولهم: ما صنعت وإياك. ونحوه في ((الإقليد)). قوله: (((والهمزة)) و ((أم)) مجردتان) شروعٌ في التفسير على طريقٍ يؤكد معنى الجواب، لأن معنى ((الهمزة)) و ((أم)) أيضاً من جنس الكلام المهجور؛ يعني أن همزة الاستفهام تفيد شيئين: السؤال والاستواء، فإنك إذا قلت: أزيدٌ عندك أم عمرو؟ كان المعنى: أخبرني أيهما عندك؟ و ((أخبرني)) سؤالٌ، و ((أيهما عندك)) يؤذن بالاستواء، ألا ترى أن المجيب بأيهما أجاب كان مصيباً في الجواب. قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظرٌ، لأنهما لو كانا للاستواء لما أخبر عنه بـ ((سواء))، فلعل

قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابة، يعنى أنّ هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء: استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إمّا الإنذار وإمّا عدمه، ولكن لا بعينه، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرئ: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزتين، والتخفيف أعرب وأكثر، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المراد: أنهما كانا للاستفهام عن مستويين فجردا عن الاستفهام، بقي أنهما للمستويين، ولا تكرار لإدخال ((سواء)) عليه، لأن المعنى: أن المستويين في العلم مستويان في عدم النفع، وإنما جردا عن الاستفهام ليقع فاعلاً لسواء، لأن الاستفهام يمنع ذلك لصدارته، ولكونه لأحد الأمرين، والاستواء يقتضي متعدداً، فبالتجريد ارتفع المانعان. قوله: (قال سيبويه: جرى هذا) قال ابن الحاجب: اعلم أن في كلامهم حملاً لمعانٍ في الأصل، ثم نقلوها إلى معان أخر مع تجريدها عن أصل معناها، وهذا في أبوابٍ منها قولهم: سواءٌ علي أقمت أم قعدت، سؤالٌ عن تعيينٍ مع التسوية بينهما، ثم نقل إلى الخبر بمعنى التسوية من غير سؤال، ومنها: قولهم: يا أيها الرجل، أصله تخصيص المنادى بطلب إقباله عليك، ثم نقل إلى معنى الاختصاص مجرداً عن معنى طلب الإقبال في قولك: أما أنا فأفعل كذا يا أيها الرجل. قوله: (بعلمٍ غير معين) صح ((معين)) بكسر الياء في نسخة المصنف. لعل المراد أن المستفهم كما إذا استفهم بقوله: أزيدٌ عندك أم عمرو؟ يعلم أن أحدهما عنده، لكن لا يعينه ويطلب منه التعيين، كذلك المستفهم بقوله: أأنذرتهم أم لم تنذرهم يعلم أن أحد الأمرين كائنٌ، ولكن لا يعينه، فيجب التأويل، والقول بأن حرف الاستفهام منسلخٌ عن معنى الطلب إلى الاستواء.

وبتخفيف الثانية بين بين، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ (قَدْ أَفْلَحَ). فإن قلت: ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً؟ قلت: هو لاحن خارج عن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبتخفيف الثانية) عطفٌ على قوله: ((بتحقيق الهمزتين)) وقوله: ((والتخفيف أعرب وأكثر)) اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، إنما قدم للاهتمام، والقراءة بتحقيق الهمزتين لابن عامرٍ وعاصمٍ وحمزة والكسائي ((وبتخفيف الثانية بَيْنَ بَيْن)) لابن كثيرٍ ونافعٍ وأبي عمرو، وهشامٌ وورشٌ يبدلها ألفاً، والقياس أن تكون بين بين، وابن كثيرٍ لا يدخل بينهما ألفاً، وقالون وهشامٌ وأبو عمروٍ يدخلونها، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، وهو ((عليهم آنذرتهم))، القراءتان شاذتان. قال ابن جني: حذف الهمزة قراءة ابن محيصن وهو للتخفيف، كراهة اجتماع الهمزتين. والقرينة مجيء ((أم))، وقد حذف في غير موضع، منه بيت الكتاب: لعمري ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان أي: أبسبع؟ قيل: فلعل في الآية حذف همزة الفعل؟ وأجيب: أنه قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام، وأما حذف همزة الفعل في الماضي، فبعيد. قوله: (ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً) وهي روايةٌ ثانيةٌ لورش. قوله: (هو لاحنٌ خارجٌ). فإن قلت: هذا طعنٌ فيما هو من القراءات السبع الثابتة بالتواتر، وهو كفر.

كلام العرب خروجين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حدّه - وحدّه أن يكون الأوّل حرف لين والثاني حرفا مدغماً نحو قوله: (الضالين)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ليس بكفرٍ، لأن التواتر ما نقل بين دفتي مصحف ((الإمام))، وهذا من قبيل الأداء، ونحوه المد وتخفيف الهمزة. قال الكواشي: وفي زعمه نظر، من قلب الهمزة ألفاً يشبع الألف إشباعاً زائداً على مقدار الألف الخارجة عادةً، ليكون الإشباع فاصلاً بين الساكنين، وهما: الألف المقلوبة والنون. وذكر ابن الحاجب في وجه من قرأ ((محياي)) بإسكان الياء وصلاً، هذا المعنى. وقيل: طريق التخفيف ليس بخطأ، وأنشد للفرزدق: فارعي فزارة لا هناك المرتع أي: هنأك. وقال: حسان: سالت هذيل رسول الله فاحشةً ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب وإذا ثبت مثله في كلام الفصحاء ونقل عمن ثبتت عصمته من الغلط، يجب القبول، وأما القراء فهم أعدل من النحاة، فوجب المصير إلى قولهم.

وخويصة. والثاني: إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحرّكة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفاً فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار: التخويف من عقاب اللَّه بالزجر عن المعاصي. فإن قلت: ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت: إمّا أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبراً لإنّ والجملة قبلها اعتراض. [(خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)]. الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخويصة)، النهاية: في الحديث: ((بادروا بالأعمال ستاًّ: وخويصة أحدكم)) يريد حادثة الموت التي تخص كل إنسانٍ، وهي تصغير خاصة، وصغرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك. والحديث من رواية الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال ستاًّ: الدخان، والدجال، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم)). قوله: (والإنذار: التخويف) قال القاضي: إنما اقتصر عليه، لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيراً في النفس من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم، كانت البشارة بعدم النفع أولى. قوله: (والجملة قبلها اعتراض) والفرق بين المعترضة والمؤكدة- على أن المعترضة أيضاً مؤكدة-: هو أن المعترضة أحسن موقعاً، وألطف مسلكاً، وفيه مع التوكيد الاهتمام بشأنها لتخللها بين الكلام، وقال القاضي: إذا كانت معترضةً كانت علةً للحكم. قوله: (الختم والكتم أخوان)، الراغب: الختم والطبع: الأثر الحاصل عن نقش، ويتجوز

كتماً له وتغطيةً؛ لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة. فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به، يقال: ختمت كذا في الاستيثاق من الشيء والمنع منه، نظراً إلى ما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك، ونعني به بلوغ آخر الشيء نظراً إلى أنه آخر فعلٍ يفعل به في إحراز الشيء، ومنه قيل: ختمت القرآن. وقد قيل: للإنسان ثلاثة أنواعٍ من الذنوب يقابلها في الدنيا ثلاث عقوباتٍ، الأول: الغفلة عن العبادات، وذلك يورث جسارةً على ارتكاب الذنوب، وهي المشار إليها بقوله: ((إن المؤمن إذا أذنب أورث في قلبه نكتةً سوداء، وإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه)). والثاني: الجسارة على ارتكاب المحارم، إما لشهوةٍ تدعوه إليه، أو شرارةٍ تحسنه في عينه، فتورثه وقاحةً، وهي المعبر عنها بالرين في قوله تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]. والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهبٍ باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون تلفتٌ منه بوجهٍ إلى الحق، وذلك يورثه هيئةً تمرنه على استحسانه المعاصي، واستقباحه للطاعات، وهو المعبر عنه بالختم والطبع في قوله تعالى: (وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ) [الجاثية: 23] و (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [النحل: 108]، وبالأقفال في قوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24] إلى غير ذلك.

ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه) لا يخلو لفظه عن اتساع ما، لأنه جعل التمثيل نوعاً من المجاز، وقسيماً للاستعارة. بيانه: أنه إن عنى بالتمثيل ما هو واقعٌ على سبيل التشبيه، بأن يكون وجهه منتزعاً من عدة أمورٍ غير حقيقيةٍ، فهو ليس بمجاز، وإن أراد به الاستعارة التمثيلية، فهو ليس قسيماً للاستعارة، بل هو قسمٌ منها. والأظهر أن يقال: المجاز نوعان: مرسلٌ، واستعارة. والاستعارة نوعان: تمثيليةٌ، وغير تمثيليةٌ، ككونها تخييليةً، أو تحقيقيةً، أو مكنية، والعذر أن الاستعارة التمثيلية غلب عليها اسم التمثيل، ولا يكاد يطلق عليها اسم الاستعارة كما استقرينا من كلامه، منه ما قال في قوله تعالى: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) [آل عمران: 103]: يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به، ووثوقه بحمايته بامتساك المتدلي من مكانٍ مرتفعٍ بحبلٍ وثيق، وأن يكون استعارة، وبقية الاستعارات يطلق عليها اسم الاستعارة مطلقاً، ونحوه قول أبي الطيب: فإن تفق الأنام، وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال وذلك أنهم إذا رأوا أن بعض أنواع الجنس له مزيةٌ على سائر أنواعه يخرجونه من ذلك الجنس ويجعلونه جنساً آخر، كذا ها هنا. قوله: (فإن تجعل قلوبهم) إلى آخره، شروع في بيان كيفية التشبيه الذي هو واقعٌ في طريق هذه الاستعارة، ليعلم منه كيفية استخراج الاستعارة؛ وذلك أن قوله: ((أن تجعل قلوبهم)) بسبب عدم نفوذ الحق فيها ((كأنها مستوثقٌ منها بالختم)) كقولك في الاستعارة المكنية في قول الهذلي.

ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات اللَّه المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك. وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا المنية أنشبت أظفارها جعلت المنية بسبب اغتيالها الأرواح كأنها سبعٌ ذو أظفارٍ وأنياب، ثم ذكرت المنية، وأريدت المنية المشكلة على صورة السبع في التخييل، وجعلت القرينة ما يلازم السبع المشبه به، ونسبت إليها على سبيل الاستعارة التخييلية، لأن المكنية لا تنفك عن التخييلية، كذا ها هنا تجعل القلوب استعارةً مكنيةً عن قلوبٍ متخيلةٍ على صورة شيءٍ مستوثقٍ منه، ثم ينسب إليها لازم ذلك الشيء، وهو الختم بعد التخييل، قائلاً: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، والذي يؤيد أن هذه الاستعارة مكنيةٌ تصريح التشبيه في القلوب بقوله: ((كأنها مستوثق منها))؛ لأن الاستعارة بالكناية هي التي يذكر فيها المشبه، ويراد به المشبه به. قوله: (ولا يخلص)، الجوهري: خلص إليه الشيء: وصل. قوله: (فأن تمثل) أي: تشبه حالة قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وهي عدم انتفاعها الأغراض الدينية بسبب منع قبول الحق، بحالة أشياء ضرب حجابٌ- أي: حدٌّ فاصلٌ- بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغشية، ثم استعير لجانب المشبه لفظ ((الختم)) جاعلاً القرينة نسبته إلى القلوب، فيكون من الاستعارة التمثيلية الواقعة على طريق التبعية كما مر في قوله: (أُوْلَئِكَ

وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعىّ ختما عليه فقال: خَتَمَ الالهُ عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ ... خَتْماً فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ وإذا أَرَادَ النُّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ ... لَحْماً يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ فإن قلت: فلم أسند الختم إلى اللَّه تعالى، وإسناده إليه يدل على المنع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) [البقرة: 5] ويؤيده قوله بعيد هذا: ((ويجوز أن تضرب الجملة كما هي مثلاً)). ودل على أن التشبيه مركبٌ قوله: ((بأشياء ضرب حجابٌ بينها وبين الاستنفاع بها)) لأنه مشبهٌ به، ولابد من تقدير مثله في جانب المشبه فيقال: ((فأن تمثل)) أي: تشبه قلوبهم؛ لأن الحق لا ينفذ فيها ليستنفعوا بها في الأغراض الدينية، فظهر أن الاستعارة في ((ختم)) على الأول تخييلية، وفي القلوب مكنية، وعلى الثاني تبعيةٌ واقعةٌ على طريق الاستعارة التمثيلية، فصح قوله: ((لا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة)) وإنما قلنا: تبعية، لأن ((ختم)) فعلٌ، والاستعارة واقعةٌ في مصدره، والمراد ما في القلوب من المنع من قبول الحق. قوله: (ختم الإله) البيت، عذافرٌ بالعين المهملة وضمها والذال المعجمة: اسم رجلٍ، ويقال: جملٌ عذافرٌ، أي: قويٌ شديد. قوله: (فلم أسند الختم إلى الله) إلى آخره، هذا السؤال والجواب مبنيٌّ على مذهبه. والسؤال الأول والجواب مشتركٌ بينهم وبين أهل السنة. قال القاضي: المراد بالختم والتغشية أن يحدث في نفوسهم هيئةً تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات.

من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح واللَّه تعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه. وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق: 29]، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف: 76]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَامُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف: 28]، ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى اللَّه عز وجل، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشئ الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: فالإحداث فعل الله حقيقةً، والختم والتغشية مجازٌ كما مر. قوله: (لعلمه بقبحه) يعني من ارتكب قبيحاً إنما يرتكبه لأمرين: إما للجهل بكونه قبيحاً، أو للاحتياج إلى فعله. والله تعالى منزهٌ عنهما. و((الفاء)) في ((فلم)) دلت على إنكار، يعني: أن الختم لما كان عبارةً عن المنع من قبول الحق فلم أسند إلى ذاته. قوله: (القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها) أي: المقصود من الإسناد المبالغة في الإباء عن قبول الحق، فعبر عن المبالغة بقوله: ((كالمختوم عليها))، هذا خلاصة الجواب، والوجوه الآتية بيانٌ لهذا المعنى على طرقٍ شتى. قوله: (فلينبه) هذا هو الوجه الأول من الوجوه وخلاصته: أن (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) الآية بكاملها معبرةٌ عن فرط تمكن الكفر فيهم على الكناية الإيمائية: وهي أن تؤخذ الزبدة والخلاصة من الجملة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز. قال المصنف في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]: هذا كنايةٌ عن الملك، قالوا: فلانٌ استوى على العرش، يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وإليه الإشارة

وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: ((فلانٌ مجبولٌ على كذا، ومفطورٌ عليه، يريدون أنه بليغٌ في الثبات عليه)) قال صاحب المفتاح في قول الطائي: أبين فما يزرن سوى كريمٍ ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد إنه في إفادة أن أبا سعيدٍ كريمٌ، غير خاف. قوله: (وكيف يتخيل ما خيل) تعريضٌ بأهل السنة وتوهينٌ لدلائلهم، يعني أنها متخيلاتٌ لا حقيقة لها، وهي ما حكى الإمام في ((تفسيره)): القائلون بأن أفعال العباد مخلوقةٌ لله تعالى لهم قولان: أحدهما: أن الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار. وثانيهما: أنه خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر، وللمنع عن قبول الإيمان. وقال محيي السنة: معناه: حكم الله على قلوبهم بالكفر لما سبق من علمه الأزلي فيهم. قوله: (وقد وردت الآية ناعيةً على الكفار) أي: مظهرةً لهفواتهم؛ من قولهم: فلانٌ نعى على فلانٍ ذنوبه: إذا أظهرها وشهرها. وقال القاضي: الختم والتغشية من حيث إن الممكنات مستندةٌ إلى الله تعالى، واقعةٌ بقدرته أسندت إليه، ومن حيث إنهما مسببان مما اقترفوه وردت ناعيةً عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم، ثم الآية تعليلٌ للحكم السابق وبيان ما يقتضيه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: تقريره أن الآية جاريةٌ مجرى السبب الموجب لكون الهدى لا ينفع فيهم، فإن الله تعالى لما أظهر تصميمهم على الكفر بقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 6] اتجه لسائلٍ أن يقول: ما بالهم كذلك؟ فأوقع قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) إلى نهايته جواباً منطوياً على بيان الموجب، وقد بولغ في المعنى حيث جعل الختم على القلوب ليمنع من الفكر في الدلائل المقولة الصرفة، وعلى السمع لئلا تنفذ في القلوب بسببه الدلائل المسموعة، وجعل على البصر الغشاوة لئلا تصل إليها الدلائل المبصرة ليستدلوا بها على وجود منشئها، فسد الطرق عليهم من كل وجه. أما صاحب ((الانتصاف)) فقد أطنب في هذا المقام، وقال: قد اشتمل كلام الزمخشري على مفاسد: أحدها: الخروج عن دليل العقل الدال على أن لا موجد إلا الله. الثانية: محالفة دليل النقل المؤيد له كقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد: 16]، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3]. الثالثة: غلطٌ في أن ما يقبح غائباً، وهي قاعدةٌ باطلة. الرابعة: قالوا: لو كانت أفعال العباد مخلوقةً لله، لما عابها، ولما عاقب عليها بناءً على قاعدة الحسن والقبح، ولم يعلموا أن هذه الملازمة تلزمهم أيضاً، لأنه يقبح شاهداً أن يمكن الإنسان من القبائح والفواحش وهو بمرأًى منه وبمسمعٍ مع قدرته على رده، وهو كإعطاء سيفٍ باترٍ لفاجرٍ يقطع الطريق ويسبي الحريم، وهو قبيحٌ في الشاهد. فإن قالوا: نعم، لكن ذلك لحكمةٍ أستأثر الله تعالى بعلمها، ففرقوا بين الغائب والشاهد، فيقال: ما ذكرتموه إن صلح جواباً كان جواباً عم اعترضتم، فلم لا سلمتم الأمر إلى الله تعالى في أول الأمر؟ والواجب على العبد أن يلاحظ الفرق بين الحركة الاختيارية والاضطرارية فيخرج عن الجبر، ثم يلاحظ الأدلة الدالة على أنه لا خالق إلا الله، فيخرج عن الاعتزال.

ويجوز أن تضرب الجملة كما هي - وهي (خَتَم اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) - مثلاً، كقولهم: سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن تضرب الجملة كما هي) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه، وهو مبنيٌّ على التمثيل، وهو الذي عناه صاحب ((المفتاح)) بقوله: التشبيه التمثيلي متى فشا استعماله على سبيل الاستعارة سمي مثلاً. والفرق بين هذا التمثيل والذي سبق في قوله: ((ختم))، هو أن في ذلك الاستعارة واقعةٌ في الختم فقط على سبيل التبعية، وهنا الاستعارة في الجملة برأسها، وإليه الإشارة بقوله: ((أن تضرب الجملة كما هي مثلاً)). ثم هذا الوجه يقدر على ثلاثة أضربٍ: أحدهما: أن تكون قلوبٌ موجودةٌ ختم الله تعالى عليها نحو قلوب الأغتام. الأساس: الغتمة: عجمةٌ في النطق، ورجلٌ أغتم وقوم غتمٌ وأغتام من الغتم، وهو الأخذ بالنفس. وثانيهما: كذلك نحو قلوب البهائم. وثالثهما: قلوبٌ مقدرةٌ ختمها لا وجود لها. قوله: (ولا للعنقاء عملٌ في هلاكه) عن الميداني، قال الخليل: سميت عنقاء؛ لأنه كان في عنقها بياض كالطوق، ويقال: لطولٍ في عنقها. قال الكلبي: كان لأهل الرس نبيٌّ يقال له حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبلٌ مصعدة ميلٌ، وكانت تنتابه طائرةٌ كأعظم ما يكون لها عنقٌ طويلٌ فجاعت ذات يوم، وأعوزت الطير، فانقضت على صبيٍّ، فذهبت به فسميت ((عنقاء مغرب))، لأنها تغرب كل ما أخذته، ثم انقضت على جارية فشكوا ذلك إلى نبيهم،

من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم اللَّه عليها نحو قلوب الأغتام «1» التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدّر ختم اللَّه عليها حتى لا تعبى شيئا ولا تفقه، وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك. ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير اللَّه للَّه، فيكون الختم مسنداً إلى اسم اللَّه على سبيل المجاز. وهو لغيره حقيقة. تفسير هذا: أنّ للفعل ملابسات شتى يلابس. الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها للفاعل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال: اللهم خذها، واقطع نسلها، فأصابتها صاعقةٌ فاحترقت، فضرب بها العرب مثلاً وأنشد البحتري. أتت دون ذاك الدهر أيام جرهمٍ ... وطارت بذاك العيس عنقاء مغرب قوله: (ويجوز أن يستعار) هذا هو الوجه الثالث وهو: أن يستعار إسناد الفعل من الفاعل الحقيقي لفاعلٍ غير حقيقي. قوله: (في نفسه) أي: نفس الإسناد من غير النظر إلى المسند والمسند إليه، فإن كل واحدٍ منهما حقيقةٌ لا مجاز إلا في مجرد الحكم، كما يقال: أنبت الربيع البقل. قوله: (وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة) وقد يختلج في بعض الخواطر أن معنى الاستعارة ها هنا ليس على حده، وذلك بأن يذكر أحد طرفي التشبيه، ويراد به الطرف الآخر، بل هو على حده وموقعه.

في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه؛ فيقال في المفعول به: عيشة راضية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نعم، الفرق بين هذه الاستعارة وبين الاستعارة في المفرد، هو أن الاستعارة هناك واقعةٌ في الموضوع اللغوي واللفظ المفرد بسبب علاقة التشبيه، كما ترى بين الأسد والإنسان بسبب علاقة الجرأة الموجودة فيهما، وها هنا الاستعارة واقعةٌ في النسبة لدليلٍ عقلي بسبب التشبيه بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي، فكما أن المستعار هناك لفظ الأسد للشجاع، كذلك في قولنا: أنبت الربيع البقل، المستعار إسناد الإنبات من الفاعل الحقيقي وهو الله عز وجل للفاعل المجازي وهو الربيع بسبب دوران الإنبات معه. قال صاحب المفتاح: مثل ما يرى الربيع في: ((أنبت الربيع البقل)) من نوع شبهٍ بالفاعل المختار من دوران الإنبات معه وجوداً وعدماً، ثم قال: وإن لم يكن هذا الشبه بين المذكور والمتروك كما لو قلت: أنبت الربيع البقل، نسبت إلى ما تكره)). وإنما قلنا: إن نسبة الإنبات إلى الله على الحقيقة لما يتبادر إلى فهم الموحد من ذلك كما يتبادر إلى الفهم من لفظ الأسد الحيوان المفترس، فالطرف المتروك هنا إسناد الإنبات إلى الله والمذكور تعلق الربيع به، وهو حصوله في أوانه، ولذلك كان المقدر: أنبت الله البقل وقت الربيع، فقوله: ((وذلك لمضاهاتها الفاعل)) تعليلٌ لجعل الإسناد استعارةً، أي: إنما جعلناه استعارةً لذلك، لأنه تقرر أن الاستعارة هي المجاز الذي العلاقة بينه وبين الحقيقة التشبيه.

و: ماء دافق، وفي عكسه: سيل مفعم. وفي المصدر: شعر شاعر، وذيل ذائل. وفي الزمان: نهاره صائم. وليله قائم. وفي المكان: طريق سائر، ونهر جار. وأهل مكة يقولون: صلى المقام. وفي المسبب: بنى الأمير المدينة، وناقة ضبوث وحلوب. وقال: إذَا رَدَّ عَافِى الْقِدْرِ مَنْ يَسْتَعِيرُها فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر، إلا أنّ اللَّه سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي عكسه سيل مفعمٌ) مفعم، بفتح العين، من: أفعم السيل الوادي: إذا ملأه، وإنما قال: ((عكسه)) لأنه جعل في الأول المفعول فاعلاً، وفي هذا جعل الفاعل مفعولاً، فإن السيل يُفعِمُ ولا يُفعَمُ. قوله: (ذيلٌ ذائلٌ)، الأساس: وذالت: الجارية وتذيلت: تبخترت ساحبةً ذيلها، وأذاله: أهانه، وذال بنفسه ذيلاً. وهو في ذيلٍ ذائل: في هوان شديد. قوله: (ناقةٌ ضبوث))، الأساس: ضبث الشيء، وضبث عليه: إذا قبض عليه وجسه، ومن المجاز: ناقةٌ ضبوثٌ: يشك في سمنها فضبثت، وإنما جعلت ضابثةً لما بها من الداعي إلى الضبث، ومثله الحلوب والركوب. قوله: (إذا رد عافي القدر من يستعيرها) أوله: فلا تسأليني واسألي خليقتي الخليقة: الخلق والطبيعة. عافي القدر: من العفوة والعفاوة وهي: ما يبقى في أسفل القدر من المرقة، وموضع ((عافي)) رفعٌ على الفاعلية، لأنه هو الذي يرد المستعير ويمنع المعير من إعارة القدر، والفاعل على الحقيقة صاحب القدر، وهكذا كانوا يفعلونه في تناهي القحط وشدة الزمان.

ووجه رابع؛ وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها؛ لم يبق - بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعا واختياراً - طريق إلى إيمانهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجهٌ رابع) تلخيصه: أنهم لما كانوا مصرين على الكفر متمكنين عليه، وما كان الطريق إلى الإيمان سوى القسر والإلجاء، فكنى عن ترك القسر والإلجاء بالختم، وهي من التلويحية: أن قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [البقرة: 7] على زعمه مشعرٌ بأن الله تعالى لم يقسرهم، ولم يلجئهم إلى الإيمان، وترك القسر والإلجاء مشعرٌ بأن القسر والإلجاء مقتضى حالهم؛ لأن الترك إنما كان لئلا ينتقض غرض التكليف، وهو حصول الاختيار للابتلاء، وإلا كان الحق أن يقسر؛ لأنه الطريق إلى إيمانهم. وكون القسر والإلجاء مقتضى حالهم، مشعرٌ بأن الآيات والنذر لا تغني عنهم، والألطاف لا تجدي عليهم، وكون الآيات والألطاف لا تنفعهم مشعرٌ بأن ترامي أمرهم في التصميم أقصى غاياته ومدى نهاياته، فانظر بين الكناية وبين المطلوب بها كم ترى من لوازم وملوحات! قوله: (ولا تجدي عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة)، قال نجم الدين الزاهدي الخوارزمي في كتاب ((الصفوة)): اللطف في عرف المتكلمين: هو ما يختار عنده المكلف الطاعة تركاً وإتياناً. ثم إن اللطف إذا كان محصلاً للواجب يسمى توفيقاً، وإذا كان محصلاً لترك القبيح يسمى عصمةً، وإذا كان مقرباً من الواجب أو ترك القبيح يسمى لطفاً مقرباً. قوله: (إن أعطوها) شرط، والجزاء ما دل عليه ما قبله. وقوله: ((لم يبق)) جواب ((لما)) وقوله: ((بأنه لا طريق)) متصلٌ بالعلم، وقوله: ((عبر)) جواب ((إذا)).

إلا القسر والإلجاء، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم اللَّه ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف - عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم، إشعاراً بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي ((شرح مقامات المصنف)): الألطاف عند المتكلمين: هي المصالح، وهي الأفعال التي عندها يطيع المكلف أو يكون أقرب إلى الطاعة على سبيل الاختيار، ولولاها لم يطع أو لم يكن أقرب مع تمكنه في الحالين، والواحد لطف بضم اللام وسكون الطاء، وقد لطف الله بعبده يلطف، وأما الألطاف الهدايا، فالواحد لطفٌ بفتح اللام والطاء، قال: كمن لنا عنده التكريم واللطف والفعل منه: ألطف. وقال أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال: إن لله تعالى لطفاً لو فعل بالكفار لآمنوا اختياراً، غير أنه تعالى لم يفعل وهو في فعله متفضلٌ، وفي تركه عادلٌ، ولا يجب على الله تعالى الأصلح ولا الصلاح. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في كتاب ((مفاتيح الحجج ومصابيح النهج)): اللطف قدوة الطاعة على الصحيح، ويسمى ما يقرب العبد إلى الطاعة ويوصل دواعيه إلى الخير أيضاً لطفاً، والتوفيق ما تتفق به الطاعة، وهو القدرة التي تصلح للطاعة، واختص هذا

وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغى واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس: وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم: (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت: 5]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاسم بما يتفق به الخير دون ما يتفق به الشر عرفاً شرعياً، والخذلان: قدرة المعصية، والحرمان قدرة الكفر، والله سبحانه وتعالى قادرٌ على ما لو فعل بالمؤمن لكفر، وعلى ما لو فعل بالكافر لآمن، وليس لأحدٍ عليه سبحانه وتعالى حقٌّ مستحق، وكل ما يفعله فمنه جميل. قوله: (وهي الغاية)، الضمير عائدٌ إلى العبارة الدال عليها قوله: ((عبر)) أو إلى التعبير، والتأنيث باعتبار الخبر. قوله: (واستشرائهم) أي: لجاجهم، الأساس: استشرى في الأمر وفي العدو: لج فيه. وشري البرق: كثر لمعانه. قوله: (ووجهٌ خامس) وحاصله: أنه تعالى حكى كلام الكفار على سبيل التهكم، فإن الكفرة لما قالوا: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وفِي آذَانِنَا وقْرٌ ومِنْ بَيْنِنَا وبَيْنِكَ حِجَابٌ) [فصلت: 5] فجيء بقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) [البقرة: 7] معبراً عن كلامهم على سبيل التهكم والوعيد والتهديد، فقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) كقولهم: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ) و (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) كقولهم: (وفِي آذَانِنَا وقْرٌ) لأن الوقر في الأذن يمنع من نفوذ الصوت فيها، وقوله: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) كقولهم: (ومِنْ بَيْنِنَا وبَيْنِكَ حِجَابٌ) فإن الغشاوة هي الحجاب. قيل: هذا الوجه أحسن الوجوه، ويقال: لأنه أسهل في استخراج المقصود، ولم يحتج إلى استفراغ القوى وبذل المجهود، وإلا فأين الثريا من الثرى، على ما يلزم منه فك الرابطة الاستئنافية في بيان الموجب بينها وبين الجملة السابقة. ولله در القائل: ومستودعات هذا الفن لا تتضح إلا باستبراء خاطرٍ وقاد، ولا تنكشف جواهرها إلا لبصيرة ذي طبعٍ نقاد، ثم نقول: من رفع الختم عن تفسيره لختم الله، فقد حل له

ونظيره في الحكاية والتهكم قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة: 1]. فإن قلت: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية، فعلى أيهما يعوّل؟ قلت: على دخولها في حكم الختم لقوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية: 23]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشروع في هذا الكتاب، وقد علم أنه من رجالٍ تصدوا لكشف الحجاب، وإلا فليترك القوس لباريها، وعند الله العلم بالصواب. قوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة: 1])، قيل: كان الكفار من الفريقين: أهل الكتاب وعبدة الأوثان يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوبٌ في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فحكى الله تعالى كلامهم كما كانوا يقولون على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان هذا ابتداء إخبارٍ من الله تعالى لكان الانفكاك متحققاً موجوداً عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (على دخولها في حكم الختم) قال القاضي: لأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجهات جعل ما يمنعهما من خاص فعلمهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة، جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.

ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت: أىّ فائدة في تكرير الجارّ في قوله: (وَعَلى سَمْعِهِمْ)؟ قلت: لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. ووحد السمع كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك: فرسهم، وثوبهم، وأنت تريد الجمع رفضوه. ولك أن تقول: السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووحد السمع)، المغرب: اسمع: الأذن، وأصله المصدر. قيل: وقد يطلق مجازاً على القوة الحالة في الغشاء المفترش عند الصماخ بها تدرك الأصوات، فعلى هذا الوجه المراد بالسمع الآلة، ولم يلمح فيه الأصل. قوله: (كلوا في بعض بطنكم تعفوا) تمامه: فإن زمانكم زمنٌ خميص الخميص: الجائع، أي: ذو خمص كقوله: (عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة: 21] يقال: عف يعف عفاًّ ومنه العفة، وهي الكف عما لا يحل. أي: اقتنعوا بالقليل من الطعام، تعفوا عن طلب الحرام، فإن زمانكم زمن الضيق والجذب، واستعمل البطن في موضع البطون إرادة بطن كل واحدٍ منهم، ويفعل ذلك إذا أمن اللبس مثل قولهم: سمعهم وقلبهم وبطنهم، فإن من المعلوم أن لكل واحدٍ منهم سمعاً واحداً، وقلباً وبطناً، وإذا خيف اللبس في مثل الثوب والفرس، فلابد في حال الجمع أن يجمع، لأنه لا يبعد أن يكون للجميع فرسٌ واحدٌ، أو ثوبٌ واحد.

فلمح الأصل. يدل عليه جمع الأذن في قوله: (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت: 5]؛ وأن تقدّر مضافا محذوفا: أى وعلى حواس سمعهم. وقرأ ابن أبى عبلة: وعلى أسماعهم. فإن قلت: هلامنع أبا عمرو والكسائي من إمالة (أبصارهم) ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت: لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيها من التكرير كأن فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال. والبصر نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما اللَّه فيهما آلتين للإبصار والاستبصار. وقرئ (غشاوة) ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يدل عليه)، أي: على لمح معنى المصدرية في اسم العضو قوله تعالى: (وفِي آذَانِنَا وقْرٌ) [فصلت: 5] حيث جمع الأذن لأنها ليست في الأصل مصدراً. قوله: (وأن تقدر مضافاً محذوفاً)، فعلى هذا الوجه: السمع مصدرٌ وليس بمعنى الأذن كما في الوجهين الأولين، أي: على حواس هذه الحقيقة. قوله: (وكأنهما جوهران لطيفان) الضمير راجعٌ إلى البصر والبصيرة، وفي ((فيهما)) إلى العين والقلب. وقوله: ((آليتين))، إما حالٌ من مفعول ((خلقهما))، أو مفعولٌ ثانٍ له. فخلق بمعنى جعل. المعنى كأنه تعالى خلق في العين والقلب آليتين للإبصار والاستبصار، وهما النوران، شبه العرض بالجوهر في قوله: ((كأنهما جوهران)) مبالغةً في كونهما مقصودين من العين والقلب. قوله: (وقرئ: ((غشاوةً))) إلى آخره، القراءات كلها شواذ، والمشهورة (غِشَاوَةٌ) بكسر الغين المعجمة مع الألف بعد الشين والرفع، ولم يذكرها، وهو على وزن فعالة. قال الزجاج: كل ما اشتمل عليه الشيء مبنيٌّ على فعالةٍ نخو العمامة والقلادة، وكذلك أسماء الصناعات، فإن الصناعة مشتملةٌ على كل ما فيها نحو الخياطة والقصارة، وكذلك ما استولى على اسمٍ، فاسم ما استولى عليه: الفعالة؛ نحو الحلاقة والإمارة.

بالكسر والنصب. و (غشاوة) بالضم والرفع. و (غشاوةً) بالفتح والنصب، وغشوة: بالكسر والرفع. و (غشوةٌ) بالفتح والرفع والنصب، و (عشاوة) بالعين غير المعجمة والرفع، من العشا. والعذاب: مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه. كما تقول: نكل عنه. ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش، أي: يكسره؛ وفراتاً؛ لأنه يرفته على القلب، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً، أى: عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و(غِشَاوَةٌ) بالرفع على الابتداء عند سيبويه، وعلى إعمال الظرف عند الأخفش، ويؤيد الثاني العطف على الجملة الفعلية، أي: واستقر على أبصارهم غشاوة. ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، وأما العشاوة بالعين المهملة، فمن قولهم: عشى يعشى، إذا صار أعشى، وعشا يعشو: إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال تعالى: (ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) [الزخرف: 36]. قوله: (لأنك تقول) تعليلٌ للمعنى، لأن البناء ظاهرٌ، وإنما كان مثله في المعنى؛ لأن النكول ارتداعٌ عما يراد الإقبال إليه، كما أن العذاب يردع الجاني عن المعاودة إلى الجناية. قوله: (يرفته)، الأساس: رفت الشيء: فته بيده كما يرفت المدر والعظم البالي. قوله: (كل ألمٍ فادحٍ عذاباً)، الأساس: فدحني، أثقلني، ونزل بهم خطبٌ فادح.

فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً، تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات اللَّه. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللَّه. اللهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة. [(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)]. افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم للَّه وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم. ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوبا وألسنة. ثم ثلث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال السجاوندي: العذاب: إيصال الألم إلى الحي مع الهوان، فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب. [قوله]: (فكان العظيم فوق الكبير) الفاء جوابٌ لشرطٍ محذوف، يعني: إذا كان الحقير مقابلاً للعظيم، والصغير للكبير؛ يلزم أن يكون العظيم فوق الكبير؛ لأن العظيم لا يكون حقيراً؛ لأن الضدين لا يجتمعان، والكبير قد يكون حقيراً كما أن الصغير قد يكون عظيماً؛ لأن كلا منهما ليس بضد للآخر. قال: وبضدها تتبين الأشياء

بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء: 143]، وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعا. ولذلك أنزل فيهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آمنوا بأفواههم) أي: أظهروا كلمة الإيمان وهو المراد من قوله: (ءَامَنَّا) وقوله: (ولم تؤمن قلوبهم) [المائدة: 41] أي: لم يكن ذلك القول عن تصديق القلب، لأن مكان التصديق القلب لقوله تعالى: (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) [المجادلة: 22] وهو المراد من قوله: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8]. اعلم أن الإيمان إن كان مجرد التصديق بالجنان، فنسبته إلى القلب حقيقة، وإلى غيره مجاز، ومن ثم فسرنا قوله ((آمنوا بأفواههم)) بقولنا: أظهروا كلمة الإيمان، وإن كان مجموع التصديق والأعمال، فنسبته إلى الشخص حقيقةٌ وإلى بعض الجوارح مجاز. قوله: (تمويهاً) هو من: موهت الشيء: طليته بذهبٍ أو فضةٍ، والتدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري. قوله: (نعى عليهم فيها خبثهم) أي: شنع عليهم قولهم: (آمَنَّا بِاللَّهِ) والحال أنهم غير مؤمنين ((ونكرهم)) أي: دهاءهم، وذلك أنهم ادعوا مع الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر لقوله بعد هذا: ((إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة)). قوله: (ونكرهم) بالضم والفتح، الجوهري: يقال للرجل إذا كان فطناً منكراً: ما أشد نكره، بالفتح والضم.

وفضحهم وسفههم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صما بكما عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل (ناس) أناس، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة، في ألوقة. وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس. ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أى يبصرون، كما سمى الجنّ لاجتنانهم. ولذلك سموا بشراً. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه»: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفضحهم) عطفٌ على قوله: ((نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم)) على سبيل البيان، لأن إظهار خبثهم ونكرهم هي الفضيحة نفسها. قوله: (وسفههم) أي: سماهم سفهاء في قوله: (أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) [البقرة: 13] ((واستجهلهم))، أي: نسبهم إلى الجهل في قوله: (وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) (وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)، ((واستهزأ بهم)) في قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، ((وسجل بطغيانهم)) حيث أضاف الطغيان إليهم. قوله: (كما تعطف الجملة على الجملة) يحتمل وجهين: أحدهما: أن تعطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود. وثانيهما: أن الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهراً وباطناً، وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر: التوافق في الكفر. قوله: (لوقة، في ألوقة) الألوقة: طعامٌ من زبدٍ، قال ابن الكلبي: هو الزبد والرطب، وأنشد: وإني لمن سالمتم لألوقةٌ ... وإني لمن عاديتم سم أسود

افعل؟ وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال. وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم كأنه قيل: ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد اللَّه بن أبىّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك: نزلت ببني فلانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من أسماء الجمع) الفرق بين الجمع الحقيقي وبين اسم الجمع: أن اسم الجمع في حكم الإفراد، بدليل جواز التصغير فيه، ولا يجوز تصغير الجمع الحقيقي إذا كان جمع الكثرة. مثال اسم الجمع: ركبٌ، وسفرٌ، وصحبٌ، يجوز أن يقال: ركيبٌ، سفيرٌ، صحيبٌ، ولا يجوزون في جمع الكثرة، بل يجب أن يرد إلى واحده أو إلى جمع قلته إن وجد. قوله: (كرخالٍ)، الجوهري: الرخل بكسر الخاء: الأنثى من أولاد الضأن، والذكر حملٌ والجمع رخال، يريد أن وزن أناسٍ كوزن رخالٍ لا أنه جمعٌ مثله لأنه قال في ((الأعراف)) في قوله تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [الأعراف: 160] الأناس: اسم جمعٍ غير تكسيرٍ نحو رخال. قوله: (ونظير موقعه) يعني: أن اللام في الناس للجنس وهو المختار، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي التقديري، فإن قوله: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة: 6] في معنى الناس؛ لأن الواجب في العهد الخارجي أن يكون هناك ما يشار إليه، وهو إما تحقيقيٌّ كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل: 15 - 16] أو تقديريٌّ: وهو إما أن يكون في الكلام ما يدل عليه كما في الآية والمثال، لأن بني فلانٍ في معنى القوم، أو يكون

فلم يقروني والقوم لئام. و"من" في (مَنْ يَقُولُ) موصوفة، كأنه قيل: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال) [الفتح: 25]؛ إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) [التوبة: 61]. فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟ قلت: الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً. وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا الجنس - مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء - لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتى بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان باللَّه والإيمان باليوم الآخر؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين المتكلم والمخاطب حصةٌ معهودةٌ من جنسٍ كقوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا أريد به أبو جهلٍ والمغيرة. قال صاحب ((الفرائد)): الوجه أن يكون اللام للعهد ولا وجه أن يكون للجنس؛ لأن (مِنَ النَّاسِ) خبر (مَن يَقُولُ)، فلو كان للجنس لكان المعنى: من يقول من الناس، والظاهر أنه لا فائدة فيه. وأما إن كانت للعهد، فمعناه: ومن الناس المذكورين جماعةٌ يقولون كذا، ولم يلزم أن تكون موصولةً في العهد بل يجوز كلاهما. وكذا قال صاحب ((التقريب)): يحتمل ((من)) أن تكون موصولةً إن جعل التعريف للجنس، وموصوفةً إن جعل للعهد. ومنع بعضهم أن يكون للعهد و ((من)) موصولةً، وقال: بل اللام للجنس و ((من)) موصوفة، فإن المراد ب ((الذين كفروا)) الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، وبينهم وبين المنافقين تنافٍ، فلم يكونوا نوعاً تحت ذلك الجنس، وكيف وقد حكم على أولئك بالختم على القلوب وغيره، فعلم كفرهم الأصلي، وعلى هؤلاء بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] وأشار إلى تمكنهم من الهدى وتنور فطرتهم. وقلت: إن التفصي عن هذا المقام لا يستتب إلا ببيان كيفية نظم الآيات، فإنه محك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النظار ومتفاضل الأنظار، ولا يهتدي إليه من ديدنه المجادلة ودأبه المماراة، ولم يتكلم عن مقتضى الحال، ولم يعين لكل مقامٍ مقالاً، وليس كل ما يصح تقديره بحسب اللغة أو النحو يعتبر عند علماء هذا الفن، فإن ذلك قد يعد من النعيق في بعض المقامات؛ ألا ترى إلى المصنف في سورة ((طه)) في قوله تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) [طه: 39] كيف بالغ فيه حيث قال: ((حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر)) وفي سورة ((الحاقة)) في قوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ* وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة 5 - 6] كيف ذهب إلى أن المعني بقوله: ((بالطاغية)) بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة ليطابق قوله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، وعدل عن حمله على المصدر، وأنه الظاهر؛ لأن الطاغية كالعافية، أي: بطغيانهم، لأن الواجب رعاية حسن النظم بين آي التنزيل. وكم له أمثال ذلك! فالواجب على من يخوض في هذا الكتاب، لا سيما في كتاب الله المجيد، أن يستوعب معرفة جميع المقامات، وجميع خواص التراكيب لينزل كلاًّ في مقامه. إذا علم هذا فنقول: إذا كان النظم هو ما ذكر افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ثم ثنى بذكر الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، فالواجب حمل التعريف في الأقسام الثلاثة: إما على الجنس بأسرها، وإما على العهد برمتها، وإذا حمل على الجنس فلا يجوز أن يقال: ((من)) في (مَن يَقُولُ) موصولةٌ كما قال أبو البقاء: هذه الآيات استوعبت أقسام الناس، فالآيات الأول تضمنت ذكر المخلصين في الإيمان، وقوله: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) تضمن من أبطن الكفر وأظهره، وهذه الآية تضمنت ذكر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، و ((من)) للتبعيض، و ((مَنْ)) نكرةٌ موصوفةٌ، ويضعف أن تكون بمعنى ((الذي)) لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى ها هنا محتملةٌ للجنس كما في (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة: 6]، فيلزم الإبهام أيضاً. قلت: الموصوفة نصٌّ في الشياع، بخلاف الموصولة لاحتمال الأمرين فيها، وبيان الظاهر إيقاعه الموصولة في مقابلة الموصوفة، وكذا قوله قبيل هذا: ((ومن هؤلاء من يقول: وهو عبد الله ابن أبي وأصحابه)). بقي أن يقال: فما معنى قوله: ((ومن الناس من يقول)) وأي فائدة فيه؟ فيقال: إنه تعالى نظم الآيات الثلاث في سلكٍ واحدٍ، لكن خص كل صنفٍ بفنٍّ من الفنون، لا سيما خص هذا الصنف بمبالغاتٍ وتشديداتٍ لم يخص الصنفين بها كما قرره المصنف، وأبرز أيضاً نفس التركيب إبرازاً غريباً حيث قدم الخبر على المبتدأ، وأبهمه غاية الإبهام، ونكر المبتدأ ووصفه بصفاتٍ عجيبةٍ ليشوق السامع إلى ذكر ما بعده من قبائحهم ونكرهم نعياً عليهم، وتعجيباً من شأنهم. يعني: انظروا إلى هؤلاء الخبثة، وقبيح ما ارتكبوه كيف اختصموا من بين سائر الناس بما لم يرض العاقل أن ينتسب إليه! نعم، لم يفد شيئاً أن لو أريد مجرد الإخبار، ونظيره قوله تعالى: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ) [الأحزاب: 23] أي: امتاز من بين سائر المؤمنين بهذه المناقب الشريفة رجالٌ كرماءٌ، فدل التنكير في ((رجال)) على تعظيم جانبهم كما دل الإبهام في (مَن يَقُولُ) على خلاف ذلك ها هنا. وأما إذا حمل التعريف في الناس على العهد فيقال: المراد بالمتيقن من شاهد حضرة الرسالة من الصحابة المنتجبين، وينصره تقدير إرادة أهل الكتاب، أعني عبد الله بن سلامٍ وأصحابه من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) [البقرة: 4] معطوفاً على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [البقرة: 3] فعلى هذا يحمل قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) على قومٍ بأعيانهم كأبي جهل وأبي لهب والوليد وأضرابهم، وأن يراد بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة: 8] عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وجد بن قيسٍ وأشباههم، فلا وجه إذن لقول من قال: ويحتمل أن تكون موصوفةً إن جعلت التعريف للعهد، لأن المراد بقوله: (مَن يَقُولُ) حينئذٍ قومٌ بأعيانهم وأشخاصهم كعبد الله بن أبي وأصحابه، فكيف تجعل موصوفةً، لأن ((من)) نكرةٌ والقوم معهودون! ثم إني بعد برهةٍ من الزمان وقفت على ما أشار إليه المصنف في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ومَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) الآية [النحل: 75] بقوله ((الظاهر أن ((من)) موصوفة، كأنه قيل: وحرًّا رزقناه؛ ليطابق (عَبْدًا)، ولا يمتنع أن تكون موصولة))، يريد أن الآية من باب التضاد، فالظاهر أن تراعى المطابقة من كلمات القرينتين، فإذا قلت: عبداً مملوكاً والحر الذي رزقناه؛ ذهبت المطابقة وفاتت الطلاوة، فلا يذهب إليه إلا الكز الجافي الغليظ الجاسي. وأما الجواب عن قول من قال: بينهم وبين المنافقين تنافٍ، فهو عين ما ذكره المصنف في الجواب عن سؤاله ((كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم))؛ لأن هذا السؤال واردٌ على قوله: ((ويجوز أن تكون للعهد والإشارة إلى الذين كفروا المار ذكرهم كأنه قيل: ((ومن هؤلاء من يقول))، والمار ذكرهم على ما سبق في الكتاب: أبو لهبٍ وأبو جهلٍ والوليد بن المغيرة وأضرابهم، فإذا جعل التعريف في الناس للمعهودين و (مَن يَقُولُ) يكون بعضاً منهم، لزم أن يكونوا في حكمهم في كونهم مختوماً على قلوبهم، وليس كذلك لما ذكر من قوله: ((افتتح سبحانه بذكر المخلصين، ثم ثنى بذكر الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)) وإليه الإشارة بقوله: ((والمنافقون غير المختوم على قلوبهم)).

قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: أن ((الكفر جمع الفريقين معاً)) إلى آخره، يعني: كون هؤلاء مخصوصين بحكم النفاق لا يخرجهم من جنس المصممين، بل يفيد تميزهم عنهم بما لم يتصفوا به، وإليه الإشارة بقوله: ((بزيادةٍ زادوها على الكفر الجامع بينهما))، فالتعريف في قوله: ((الكفر جمع الفريقين معاً)) وقوله: ((الكفر الجامع بينهما)) للعهد وهو الكفر الخاص، لأنه جنسٌ أيضاً باعتبار النوعين، وهذا من فصيح الكلام ووجيزه؛ لأن الجنس إذا أطلق شاع في جميع متناولاته إن لم تنتهض قرينةٌ على إرادة البعض، فإذا حصلت القرينة قيدت، فإذا كررت كرر، فإنه تعالى لما قال: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) تناول جميع الفرق من الكفرة، فقيد بقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) بالمصممين، ثم قيده مرةً أخرى مع ذلك القيد بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ). ونحوه قول الأصوليين: يجوز تخصيص ما بقي غير محصور، وكيف لا يكون المنافقون مختوماً على قلوبهم، وقد صح المصنف بعد هذا في قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة: 17]! والأوجه أن يراد الطبع بقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة: 18]. ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على كلامٍ من جانب الإمام أفضل المتأخرين القاضي ناصر الدين- تغمده الله برضوانه- ما شد بعضده، قال: واللام فيه للجنس و ((مَنْ) موصوفةٌ إذ لا عهد، فكأنه قال: ومن الناس ناسٌ يقولون، وقيل: للعهد، والمعهودون: هم الذين كفروا، و ((مَنْ)) موصولةٌ مرادٌ بها ابن أبيًّ وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادةٍ زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم في هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزياداتٍ تختلف فيها أبعاضها. قوله: (اختصاصهما)، فاعله: الله، يعني: إنما خصهما بالذكر من بين سائر قبائحهم للكشف عن إفراطهم في الخبث.

وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود باللَّه ليس بإيمان، لقولهم: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) [التوبة: 30]، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبثاً مضاعفاً، وكفراً موجهاً، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الدعارة) أي: الفسق والخبث. الجوهري: يقال: هو خبيثٌ داعرٌ بين الدعر والدعارة. قوله: (موجهاً) أي: ذا وجهين. الأساس: ومن المجاز: كساءٌ موجهٌ: له وجهان. وأحدب موجهٌ له حدبتان من خلفٍ وقدام؛ لأنهم أظهروا في هاتين المسألتين ما يخالف اعتقادهم؛ لأنهم قالوا: عزيرٌ ابن الله، والآخرة لا يكون فيها إلا تلذذ الأرواح بالروائح العبقة وما شاكل ذلك، فلما علموا أن عمدة ما ينكره المسلمون عليهم هو هذان الأمران، تعرضوا لهما وصرحوا بالاعتراف بهما مع أنهم باقون على اعتقادهم الأصلي، وغرضهم إجراء أحكام المسلمين عليهم وكان ذلك غاية دهائهم ومكرهم. قوله: (وأيضاً): ابن السكيت: هو مصدر قولك: آض يئيض أيضاَ، أي: عاد، وإذا قال: فعلت ذاك أيضاً، قلت: قد أكثرت من أيضٍ. قوله: (وأيضاً فقد أوهموا) عطفٌ على جواب ((إذا)) وهو ((كان خبثاً إلى خبثٍ)) أي: إذا قالوه على وجه النفاق كان خبثاً مضاعفاً مع إيهام أنهم أحاطوا بالإيمان من جانبيه.

وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: كيف طابق قوله: (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي تكرير الباء) وذلك أن في العطف على المظهر المجرور لا يجب إعادة الجار كما في المضمر نحو: مررت به وبعمروٍ، فكرر ها هنا ليؤذن بالاستقلال والأصالة. قوله: (كيف طابق) تقرير السؤال: أن قولهم: ((آمنا)) مسوقٌ لذكر شأن الفعل، أي: أحدثنا الإيمان، وليس في شأن الفاعل، فلما كان الدعوى في إحداث الإيمان أتوا بجملةٍ فعليةٍ، ولو كان في شأن الفاعل لقيل: نحن آمنا، وحدنا دون غيرنا، فكيف طابقه قوله: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) وأنه في ذكر شأن الفاعل لإيلاء ضمير الفاعل حرف النفي، وقد أجمعوا على أنه يفيد التخصيص. قال المصنف في تفسير قوله تعالى: (ومَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز) [هود: 91]: دل إيلاء الضمير حرف النفي على أن الكلام واقعٌ لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيزٍ بل رهطك هم الأعزة عندنا. وذكر صاحب ((المفتاح)): ويحترز أن يقال: ما أنا ضربت إلا زيداً، لأن نقض النفي ب ((إلا)) يقتضي أن تكون قد ضربته، وتقديمك ضميرك وإيلاؤك حرف النفي يقتضي أن تكون قد ضربته. ونقل أن ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر على أن في ما يليه حرف النفي القطع بأنه يفيد التخصيص مضمراً كان أو مظهراً، معرفاً أو منكراً.

قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين؛ لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القصد إلى إنكار ما ادعوه) وحاصله: أن التركيب وإن دل على الاختصاص لكن ها هنا ما يأبى أن يحمل عليه، لأنه واردٌ في إنكار ما ادعوه؛ وذلك أن المنافقين ادعوا أنهم اختاروا الإيمان بجانبيه، وأحاطوا بأوله وآخره حيث خصوا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر من بين خصاله، وادعوا الاستحكام والتأكيد مع ذلك، حيث كرروا ذكر الباء، وما ادعوا أنهم اختصوا بهما دون سائر الناس، لينكر عليهم دعوى الاختصاص، فوجب المصير إلى التأويل والحمل على الكناية الإيمائية ليفيد التأكيد ويحصل التطابق. بيانه: أنه تعالى لما أولى الضمير حرف النفي وحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين، وكان ذلك جواباً عن دعوتهم أنهم اختاروا الإيمان بجانبيه على صفة الإحكام، دل على إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكونوا طائفةً من طوائف المؤمنين، وإذا شهد عليهم بذلك لزم نفي ما ادعوه على سبيل البت والقطع. وقلت: هذا إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين؛ إذ ليس قوله: وما هو بمؤمنٍ مثل ما هو من المؤمنين، لكن الأول أبلغ؛ لأنه نفيٌ لأصل الإيمان، والثاني نفيٌ للكمال. ويمكن أن يجري الكلام على التخصيص، وأن يكون الكلام في الفاعل، ويكون موقع السؤال قول المصنف: ((وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي)) وذلك لما ادعوا أنهم يوافقون المسلمين في المسألتين، وأن إيمانَهم كإيمانِهم قيل: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) على قصر الإفراد؛ لأنهم ادعوا الشركة في الإيمانين الحقيقيين فردوا باختصاص المؤمنين بهما دونهم، كقوله تعالى: (ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنكُمْ ومَا هُم مِّنكُمْ) [التوبة: 59]. والمقام يساعد هذا التقرير دون الأول، وذلك أن سياق الكلام لبيان خبث المنافقين ودعارتهم كما ذكر، فإذا ادعوا رفع المخالفة من البين، ارتفع المنازعة، وإنما المنازعة بينهما في هاتين المسألتين أقوى من سائر المسائل، وادعاء

في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة: 37]، هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها. فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حصولهما أدعى لرفع المخالفة، فكان اختصاصهما أهم من غيرهما. ألا ترى إلى قول الفقهاء: الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري علة الموجودات أو مبدؤها أو سببها، ولم يكن ذلك إيماناً حتى يقر بأنه مخترع ما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن. ذكره شارح ((اللباب)). وأما تشبيه التركيب بقوله: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ ومَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا) [المائدة: 37] فصحيحٌ، ولكن لا يتم به غرضه، وذلك أن قوله: (آمَنَّا) نحو: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا) وأن قوله: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) نحو قوله: (ومَا هُم بِخَارِجِينَ) ولكن قوله: (ومَا هُم بِخَارِجِينَ) نصٌّ في الاختصاص كما سيأتي بيانه في موضعه. قوله: (ما انتحلوا)، الأساس: قال شعراً فنحله غيره، وانتحل شعر غيره: إذا ادعاه لنفسه. قوله: (يحتمل أن يراد التقييد) حاصل الجواب: إنما حذف المفعول لدلالة المذكور عليه، أو حذف لتعم الفائدة، ولئلا يقصره السامع على ما يذكر معه، ويحتمل أن ينزل منزلة اللازم نحو: فلانٌ يعطي ويمنع. قوله: (قط)، الجوهري: إذا كانت بمعنى ((حسب)) وهو الاكتفاء فهي مفتوحةٌ ساكنةٌ الطاء، تقول: رأيته مرةً واحدةً فقط، وقط بضم الطاء معناها الزمان، يقال: ما رأيته قط.

ولا من الإيمان بغيرهما. فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده. والخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم: ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أو همه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فإن قلت: كيف ذلك ومخادعة اللَّه والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا. ألا نرى إلى قوله: واسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مُنْخدِعِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يراد به الوقت الذي لا حد له) يريد أن اليوم هنا: الوقت. وهو إما أن يعبر به عن الوقت الذي لا انقضاء له وبإزائه الوقت الذي له انقضاءٌ، وهو الأيام الدنيوية، وأوان البرزخ، وأوان النشور لفصل القضاء ولتعاقبه إياها سمي باليوم الآخر، وأن يعبر به عن الوقت المحدد، أي: الذي عينه الله تعالى بقوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج: 4]، وسمي باليوم الآخر لكونه آخر الأيام المنقضية ومن جملتها، وتلك محدودةٌ في علمه الخاص. قوله: (والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه) وزاده القاضي: لينزله عما هو بصدده. وقال الإمام: إظهار ما يوهم السلامة، وإبطان ما يقتضى الإضرار بالغير أو التخلص منه. يشير إلى أن تعريفه ليس بجامعٍ، ولعل قوله: ((من المكروه)) يشمل تخلصه منه؛ لأن العدو يكره خلاص عدوه، وفي قوله: ((ثم خرج من بابٍ آخر)) رمزٌ إليه. قوله: (واستمطروا من قريشٍ كل منخدعٍ) تمامه: إن الكريم إذا خادعته انخدعا

وقول ذي الرمّة: إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائله الفرزدق، والاستمطار: الاستسقاء، أي: اطلبوا العطاء، فإنه يعطيه كالمطر، و ((من قريشٍ)) بيان كل منخدعٍ، وهو حالٌ منه. قيل: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كلما صلى عبدٌ له أعتقه، فقيل له: من خادعنا بالله ننخدع [له]. وقيل في حق أبيه: كان أعقل من أن يُخدع، وأروع من أن يَخدع، ولا يبعد أن يحمل البيت على التلميح؛ وذلك أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر وقال: اللهم إنا كنا إذا أقحطنا استسقينا بنبيك، فتسقينا، وإنا نستسقيك اليوم بعم نبيك- يعني: عباساً- فاسقنا، فسقوا في الحال، فقال عقيل بن أبي طالب: بعمي سقى الله البلاد وأهلها ... عشية يستسقي بشيبته عمر توجه بالعباس في الجدب داعياً ... فما حار حتى جاد بالديمة المطر قوله: (إن الحليم وذا الإسلام يختلب) القائل ذو الرمة، وأوله: تلك الفتاة التي علقتها عرضاً

فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع؟ قلت: فيه وجوه. أحدها: أن يقال كانت صورة صنعهم مع اللَّه حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع اللَّه معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر اللَّه فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني: أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن اللَّه ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلق: الحب، يقال: نظرةٌ من ذي علق، عرضاً، أي: اعتراضاً من غير قصدٍ ونيةٍ بل بمخادعةٍ، ثم قال: إن الحليم .. البيت. الخلابة: الخديعة باللسان، يقال منه: خلبه يخلبه بالضم واختلبه مثله. قوله: (بإجراء أحكام المسلمين عليهم) يعني به جريان التوارث وإعطاء السهم من المغنم وغيرهما. هذا الوجه من الاستعارة التبعية الواقعة على طريق التمثيلية كما سبق في قوله: (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) [البقرة: 5]، ألا ترى إلى قوله: ((كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون)) إلى آخره كيف دل على بيان الحالة المتوهمة المنتزعة من عدة أمور. قوله: (وأهل الدرك) صح بالرفع عطفاً على محل ((في عداد)). قال: الدرك الأسفل: الطبق الذي في قعر جهنم. الراغب: الدرك كالدرجِ لكن الدرجُ يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة، ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاويةً. قوله: (ترجمةً عن معتقدهم وظنهم) هذا كما مر في آخر الوجوه المذكورة في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [البقرة: 7].

ممن يصح خداعه لأن من كان ادعاؤه الإيمان باللَّه نفاقا لم يكن عارفا باللَّه ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم، ولا أنه غنى عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون اللَّه في زعمه مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفى، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث: أن يذكر اللَّه تعالى ويراد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته) إلى آخره، مبنيٌّ على صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم، فجمع ذات الله العليا وصفاته الحسنى في: ((لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته))، وأما التفريق فهو قوله: ((ولا أن لذاته)) أي: أنهم لم يعلموا أنه من حيث ذاته له تعلقٌّ بكل معلومٍ جزئيٍّ وكلي، وقوله: ((ولا أنه غنيّ)) أي: لم يعلموا أنه من حيث صفاته غنيٌّ عن القبائح. وأما التقسيم فهو قوله: ((فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجهٍ خفيٍّ)) أي: أنهم حين لم يعلموا أن لذاته تعلقاً بكل معلومٍ، زعموا أنه ممن يخدع. وقوله: (وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم) أي: حين لم يعلموا أنه من حيث صفاته غنيٌّ عن القبائح، حوزوا أنه ممن يَخدع. الانتصاف: قوله: ((عالمٌ لذاته)) والصواب أنه عالمٌ بعلمٍ عام التعلق بجميع المعلومات، ثم إنه تعالى لما كان عالماً بعلمٍ عام التعلق استحال كونه مخدوعاً، ولما أنه لا يقع في الوجود شيءٌ إلا بقدرته، يمتنع أن يكون خادعاً لما فيه من الإشعار بالعجز عن المكافحة، لكن لما جاء في مقابلة خداع المنافقين صار كقوله: (ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ) [آل عمران: 54]. قوله: (أن يدلس) المدلس: هو الذي يظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع منه.

قال الملك كذا ورسم كذا وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]، وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]. والرابع: أن يكون من قولهم: أعجبنى زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا باللَّه. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من اللَّه بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62]، وكذلك: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57]. ونظيره في كلامهم: علمت زيدا فاضلا، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه لأنه كان معلوما له قديما كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت: هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت: وجهه أن يقال: عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت»؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن الخداع قد يكون حسناً إذا كان الغرض استنزال الغير من ضلالٍ إلى رشدٍ، كما يفعل الأب البار بابنه من حيلةٍ تدعوه إلى ترك شرٍّ أو تعاطي خير. ومن تأمل جميع استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، عاين معنى الخداع وشاهده. قوله: (أعجبني زيدٌ وكرمه) أي: أعجبني كرم زيدٍ. والتركيب يشبه البدل والمبدل منه من حيث التوظئة والتمهيد والتفسير والتأكيد، ويفترق من حيث إن المبدل في حكم المنحى. والمعطوف عليه هنا مقصودٌ بالذكر، ومرادٌ في الحكم، فكان لذات زيدٍ أيضاً مدخلاً في الإعجاب، ومن ثم قال: ((ولما كان المؤمنون من الله بمكانٍ سلك بهم ذلك المسلك)) أي: لما كان المؤمنون من الله بمنزلةٍ عظيمةٍ واختصاصٍ قويٍّ كأنه سرى خداعهم إلى خداعه تعالى. ويدل على الفرق قوله في المثال ((إحاطة العلم بفضل زيدٍ لا به نفسه)) إذ ليس فيه ذكر العاطف، فلا يكون فيه معنى الاختصاص بل مجرد التوطئة كما في المبدل. والمصنف كثيراً يسلك في تراكيبه هذا الفن من العطف ويشبه أن يسمى بالعطف التفسيري.

لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده قراءة من قرأ: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهو أبو حيوة. و (يُخادِعُونَ) بيان لـ (يَقُولُ)، ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل (يُخَادِعُونَ). فان قلت: عمّ كانوا يخادعون؟ قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعلم أن الوجه الثالث والرابع لا تستقيم جواباً للسؤال إلا أن يحمل خادعت على خدعت لما في تنزيل الله سبحانه وتعالى اسمه المقدس منزلة اسم رسوله، وجعل تمهيداً لذكر المؤمنين في هذا المقام للدلالة على الغضب الشديد على اعتدائهم، وإرادة الانتصار ممن يحاول خدعهم، وإنزال الهوان بهم، فلا يدخل في المعنى إثبات الخداع في جانب المؤمنين والله أعلم. ومن ثم عقبهما بقوله: (هل للاقتصار بخادعت على واحدٍ وجهٌ صحيح). قوله: (والمباراة)، الجوهري: فلانٌ يباري فلاناً، أي: يعارضه ويفعل مثل فعله، قال المصنف: هذا كما جاء يخاشي الله، أي: يخشاه خشيةً عظيمة. قوله: (رفقهم) أي: نفعهم، الأساس: ومن المجاز: هذا الأمر رافقٌ بك وعليك، ورفيق: نافعٌ بك، وأرفقني هذا الأمر ورفق بي: نفعني. قوله: (عم كانوا يخادعون؟ ) أي: عن أي شيءٍ من الأعراض كان يصدر خداعهم؟ ففيه تضمين معنى الصدور. قوله: (متاركتهم ... واصطناعهم ... واطلاعهم) هذه المصادر ثلاثتها مضافةٌ إلى المفعول، والفاعل المسلمون، والمفعول المنافقون. أي: متاركة المنافقين المسلمون، أي: لا يكلفونهم على المحاربة ويحمونهم عن الغير، ويحسنون إليهم كما يحسنون إلى المسلمين ويطلعونهم على أسرارهم. قوله: (يطرقون به)، الأساس: ومن المجاز: طرقه الزمان، أي: نوائبه، وأصابته طارقةٌ من الطوارق، ويقال: اصطنعت عنده صنيعةً، قال تعالى: (واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 41].

والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم - لاختلاطهم بهم - على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت: لم يظهر عليهم لما أحاط به علما من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (منابذيهم)، الأساس: من المجاز: نبذ إلى العدو: رمى إليه بالعهد ونقضه، ونابذه منابذةً. قوله: (فلو أظهر عليهم) جواب ((لو)) محذوفٌ، أي: لو جعل الله تعالى نفاقهم ظاهراً على المسلمين إظهاراً جلياً حتى لا يصلوا إلى أغراضهم، ماذا كان؟ ولا يجوز أن يكون ((أظهر عليهم)) بمعنى أطلع عليهم إلا على تقدير حذفٍ، أي: أطلع الله على المؤمنين على أسرار المنافقين. قوله: (لانقلبت مفاسد) منها: أنهم إذا ستروا على المنافقين أحوالهم، خفي على المخالفين أمرهم، وحسبوا أنهم من جملة المسلمين وأن كلمتهم واحدة، فكان ذلك سبباً لاجتنابهم عن محاربة المسلمين لكثرة عددهم، بل يؤدي ذلك إلى استشعار الخوف منهم، وإذا أظهر الله عليهم، انقلبت إلى العكس. ومنها: أنهم إذا سمعوا مخاشنة المسلمين مع من يصحبهم، ومن اشتهر أنه منهم، كان ذلك سبباً لنفرتهم وعدم تآلفهم؛ روينا عن البخاري ومسلمٍ والترمذي عن جابرٍ، قال عمر رضي الله عنه: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث، يعني عبد الله بن أبيٍّ بن سلول؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه)) هذا مبنيٌّ على رعاية الأصلح، وإلا فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فإن قلت: ما المراد بقوله: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)؟ قلت: يجوز أن يراد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن قلت: ما المراد بقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ)) [البقرة: 9] يعني أنك فسرت ((يخادعون الله)) بما فسرت. فما معنى (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ) والمخادعة إنما تكون بين اثنين، فكيف يخادع أحدٌ نفسه؟ وأجاب عنه بوجوهٍ ثلاثةٍ أحدها: أن قوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ)، ذكر لمشاكلته ((يخادعون الله)) المراد به الاستعارة كما سبق، أي: لما كان ذلك مبنياً على المفاعلة، جعل الذي من طرفٍ واحدٍ مثله، روماً للمشاكلة. قال الواحدي: فلما وقع الاتفاق على الألف في قوله (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) أجرى الثاني على الأول، طلباً للتشاكل. وقال المرزوقي في قول الطائي: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي لما قال في آخر البيت: ((ماء بكائي)) قال في الأول: ((ماء الملام)) فأقحم اللفظ على اللفظ إذ كان من سببه، كقوله تعالى: (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40] فالثانية جزاءٌ وليست بسيئةٍ، فجاء باللفظ على اللفظ إذ كان من سببه، فكذا ها هنا، لما كان خداع أنفسهم- أي: إيصال الضرر إليها- مسبباً عن تلك المخادعة المشبهة بمغافلة المخادعين ومصاحباً له، قيل: يخادعون، فجاء باللفظ على اللفظ. وثانيهما: أن يراد حقيقة المخادعة الواقعة بين اثنين، لكن على أسلوب التجريد. قال ابن الأثير: إنهم يجردون من أنفسهم شخصاً آخر، ثم يخاطبونه كخطاب الغير. قال الأعشى:

وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول: فلان يضارّ فلانا وما يضارّ إلا نفسه، أى: دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأمانى وأن يراد: وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرئ: (وَمَا يَخْدَعونَ)، و (يُخَدِّعون) من خدَّع. و (يَخدعون) بفتح الياء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولن تطيق وداعاً أيها الرجل وإليه الإشارة بقوله: ((وهم في ذلك يخدعون أنفسهم، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدثهم)). قوله: (وأن يراد: وما يخدعون) هذا الجواب وما قبله صريحٌ في أن السؤال عن استعمال ((يُخادِعون)) في جانبٍ واحد. والوجه الثالث أيضاً تجريدٌ لكن من جانبٍ واحدٍ، كأن كل واحدٍ منهم جرد من نفسه شخصاً يخدعه. قوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ) قرأها عاصمٌ وحمزة والكسائي وابن عامرٍ، والباقون: (وَمَا يَخْدَعُونَ) قراءة عبد السلام بن شداد والجارود.

بمعنى: يختدعون. ويخدعون. ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله. والنفس: ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفساً. ثم قيل للقلب: نفس لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم: (المرء بأصغريه)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا على قولك: خدعت زيداً نفسه، أي: عن نفسه على إرادة الإيصال، أو يحمل على المعنى، فيضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعت زيداً عن نفسه، يدخله معنى انتقصته نفسه، وملكت عليه نفسه، وهذا من أسد مذاهب العربية؛ وذلك أنه موضعٌ يملك فيه المعنى عنان الكلام، فيأخذه إليه ويصرفه بحسب ما يؤثره، وجملته: أنه متى كان فعلٌ من الأفعال في معنى فعلٍ آخر، فكثيراً ما يجزى أحدهما مجرى صاحبه، فيعدل في الاستعمال به إليه، ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى) [النازعات: 18] أي: في أن تزكى، فنظر معه معنى قولك: أجذبك إلى كذا، وأدعوك إليه. قوله: (ثم قيل للقلب: نفسٌ) إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، ولذلك قال: ((لأن النفس به)) أي: النفس تقوم بالقلب. قوله: (المرء بأصغريه) قال الميداني: يعني بهما القلب واللسان، وقيل لهما: الأصغران لصغر حجمهما. ويجوز أن يسميا الأصغرين ذهاباً إلى أنهما أكثر ما في الإنسان معنىً وفضلاً، كما قيل: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، والجالب للباء معنى القيام كأنه قال: المرء تقوم معانيه بهما، ويكمل المرء بهما، وأنشد لزهيرٍ: وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم

وكذلك بمعنى الروح، وللدم نفس؛ لأن قوامها بالدم. وللماء نفس لفرط حاجتها إليه: قال اللَّه تعالى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]. وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه، كقولهم: فلان يؤامر نفسيه - إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدرى على أيهما يعرج كأنهم أرادوا ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لسان الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فالنفس على هذا بمعنى الجملة لقوله: المرء بأصغريه. قوله: (وكذلك بمعنى الروح) عطفٌ على قوله: ((والنفس ذات الشيء)) أي: وكذلك جاء النفس بمعنى الروح. وقوله: ((ثم قيل للقلب نفسٌ)) مجازٌ متفرعٌ على الأول. وقوله: (للدم نفسٌ) متفرعٌ على الثاني يدل عليه قوله: ((لأن قوامها)) أي: قوام الروح بالدم، لأنه مقابلٌ لقوله: ((لأن النفس به)). قال في الأساس: ومن المجاز: دفق نفسه، أي: دمه. وعن النخعي: كل شيءٍ ليست له نفسٌ سائلةٌ فإنه لا ينجس الماء. ومنه: النفاس. وقوله: (وحقيقة نفس الرجل) متفرعٌ على الأول. قوله: (وقولهم) مبتدأٌ، والخبر ((كأنهم))، والعائد محذوف، و ((إذا)) ظرف قولهم.

داعي النفس، وهاجسي النفس فسموهما: نفسين، إما لصدورهما عن النفس، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم: أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم. والشعور علم الشيء علم حس. من الشعار. ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادى غفلتهم كالذي لا حسّ له. واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازاً؛ فالحقيقة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هاجسي النفس)، النهاية: الهاجسة: هي ما يهجس في الضمائر، أي: ما يخطر بها ويدور فيها من الأحاديث والأفكار. قوله: (إما لصدورهما عن النفس) أي: هو من إطلاق المحل وإرادة الحال. قوله: (ذواتهم: أن الخداع لاصقٌ بهم) مبنيٌّ على الوجه الأول في الجواب عن معنى المخادعة على طريق المشاكلة، وقوله: ((ويجوز أن يراد قلوبهم)) على الوجه الثاني على سبيل التجريد. قوله: (واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقةً) تحقيقه ما أشار إليه الإمام: أن الإنسان إذا صار مبتلًى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، ودام به، فربما صار سبباً لتغير مزاج القلب وتألمه. قال أبو الطيب: والهم يخترم النفوس مخافةً ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم

أن يراد الألم كما تقول في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: في قوله: ((فالحقيقة أن يراد الألم)) نظر؛ لأن الألم مسببٌ عن المرض لا نفس المرض. قال القاضي: المرض: حقيقةٌ فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال الخاص به، ويوجب الخلل في أفعاله، ومجازٌ في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي، لأنها مانعةٌ عن نيل الفضائل أو مؤديةٌ إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. قوله: (كسوء الاعتقاد) إلى آخره، جعل أمراض القلب على نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالدين وهو المراد بقوله: ((كسوء الاعتقاد)) وهو الكفر والبدعة. وثانيهما: ما يتعلق بالأخلاق، وهو إما ما يصدر به عن فاعله الرذائل، وهو المراد بقوله: ((الغل والحسد والميل إلى المعاصي)) وجعل طلب الشهوات شعاراً له. أو يمنعه من نيل الفضائل وهو المراد بقوله: ((والجبن والضعف)) فإن الجبن يمنعه من الشجاعة وكف الأذى عن نفسه وطلب معالي الأمور، والضعف يمنعه عن بذل المعروف، ويحمله على أن يقنع بسفساف الأمور، ولهذا لما نشر هذا الكلام جاء بلفظة ((أو)) في الوجهين الآخرين. ومعنى الاستئناف في قوله: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) [البقرة: 10] كمعنى الاستئناف في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [البقرة: 7].

كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين غلاً وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها اللَّه تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران: 118]، ويتحرقون عليهم حسدا (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [آل عمران: 120]، وناهيك مما كانمن ابن أبىّ وقول سعد بن عبادة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويتحرقون) من حرق نابه، أي: سحقه حتى يسمع له صريفٌ، فهو كنايةٌ عن الغيظ الذي جلبه الحسد. قوله: (ناهيك)، الجوهري: يقال: هذا رجلٌ ناهيك من رجل، أي: أنه بجده وغنائه ينهاك عن تطلب غيره. والباء في قوله: ((بما كان من ابن أبيٍّ)) كالباء في حسبك بزيدٍ. المعنى: يكفيك ما كان من ابن أبي بن سلول من الحسد والبغضاء أي: شدة البغض. روينا عن الشيخين: البخاري ومسلم، عن أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمارٍ، وأردف أسمة بن زيدٍ يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدرٍ، فسارا حتى مرا بمجلسٍ فيه عبد الله ابن أبي بن سلول قبل إسلامه، وفي المجلس أخلاطٌ من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله ابن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله ابن أبي: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقًّا فلا تؤذونا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب صلى الله عليه وسلم فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ )) يريد صلى الله عليه وسلم

اعف عنه يا رسول اللَّه واصفح، فواللَّه لقد أعطاك اللَّه الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة، فلما ردّ اللَّه ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور؛ لأن قلوبهم كانت قوية؛ إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به أن ريح الإسلام تهب حيناً ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الله ابن أبي، ((قال، كذا وكذا))، فقال: يا رسول الله اعف عنه، ثم ساقا الحديث كما أورده المصنف مع تغييرٍ سيرٍ. فالحديث دل على أن ابن أبي كان كافراً محضاً، ولم يكن منافقاً حينئذٍ، والذي يعلم من ظاهر كلام المصنف أنه كان منافقاً، ولعل مراده من إيراد قصته مجرد إظهار الحسد والبغضاء دون النفاق. قوله: (هذه البحيرة) البحيرة: كل قريةٍ واسعة، قال في ((الفائق)): البحيرة: المدينة، يقولون: هذه بحيرتنا، أي: أرضنا وبلدتنا. قوله: (أن يعصبوه) من العصابة؛ العمامة يعصب بها الرأس، وهو كنايةً عن التسويد، لأن العمائم تيجان العرب. قوله: (شرق بذلك) الشرق: الشجى والغصة. وقد شرق بريقه، أي: غص ولم يقدر على إساغته لتعاظمه إياه، كأنه اعترض في حلقه فغص به كما يغص الشارب بالماء. قوله: (أن ريح الإسلام) قال: الريح: الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيتها بالريح وهبوبها، وأنشد:

ثم تسكن ولواءه يخفق أياما ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال اللَّه على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجرامتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخورا حين قذف اللَّه في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد اللَّه لهم بالملائكة. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»». ومعنى زيادة اللَّه إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم، فكأن اللَّه هو الذي زادهم ما ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]؛ لكونها سبباً؛ أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد ونقصاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقةٍ سكون قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) في حديثٍ طويلٍ أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. الرعب: الفزع والخوف. قال صاحب ((الجامع)): وذلك أن أعداء النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوقع الله في قلوبهم الرعب، فإذا كان بينه صلوات الله عليهم وبينهم مسيرة شهرٍ، هابوه وفزعوا منه فلا يقدموا على لقائه. قوله: (فازدادوا كفراً إلى كفرهم) هذا على تقدير أن يكون المراد بالمرض سوء الاعتقاد. قوله: (إسناداً للفعل) مصدرٌ لفعلٍ محذوفٍ. وفيه إشارةٌ إلى مذهبه، يعني: أنه تعالى لما كان سبباً للفعل وهو إنزاله الوحي أسند ازدياد المرض إلى نفسه.

من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو في رواية الأصمعى: (مرضٌ) و (مرضاً) بسكون الراء: يقال ألم فهو أَلِيمٌ كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله: تحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ازدادوا حسداً وغلاً) هذا على التفسير الثاني. قوله: (أن يراد بزيادة المرض الطبع) يؤيد هذا الوجه إعادة ذكر المرض المنكر، وعدم الاكتفاء بالضمير في قوله: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)؛ لأن النكرة إذا أعيدت دلت على غير ما تدل عليه أولاً، ففيه لمحةٌ من معنى قوله تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نكتت في قلبه نكتةٌ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران)) أخرجه أحمد بن حنبلٍ والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. قوله: (وقرأ أبو عمرو) وهي شاذة. قال ابن جني: لا يجوز ((مرضٌ)) مخففاً من مرض، لأن المفتوح لا يخفف إلا شاذًّا، وإنما ذلك في المكسورة والمضمومة، فينبغي أن يكون أصله من مرضٍ لغةٌ في مرض كالحَلْبِ والحَلَب. قوله: (تحية بينهم ضربٌ وجيع) أنشد أوله الزجاج: وخيلٍ قد دلفت لهم بخيلٍ

وهذا على طريقة قولهم: جدّ جدّه. والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ، والمراد بكذبهم قولهم آمنا باللَّه وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح: 25]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أصحاب خيل، دلفت: دنوت، يقال: دلفت الكتيبة في الحرب، أي: تقدمت، والتحية مصدر حييته تحيةً، أي: رب جيشٍ قد تقدمت إليها بجيشٍ، والتحية بينهم: الضرب بالسيف لا القول باللسان كما هو العادة، والوجيع في الحقيقة المضروب لا الضرب. قوله: (طريقة قولهم: جَدَّ جِدُّه) أي: طريقة الإسناد المجازي. قيل: يجوز أن يكون ((أليم)) بمعنى مؤلم، كالسميع بمعنى المسمع، والنذير بمعنى المنذر، وأنشد الزجاج لعمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع وقال: معنى السميع: المسمع. قوله: (وفيه رمزٌ إلى قبح الكذب) وهو من باب التعريض، عرض بالمؤمنين، فإن المؤمن متى سمع أن العذاب ترتب على الكذب دون النفاق- على أن النفاق من أعظم أنواع الكفر، وأن صاحبه في الدرك الأسفل من النار- تخيل في نفسه تغليظ معنى الكذب، وتصور سماجته فانزجر منه أعظم الانزجار، وإليه الإشارة بقوله: (وإنما خصت الخطيئات استعظاماً لها، وتنفيراً عن ارتكابها)) وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر: 7] وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، وذكر الإيمان لشرفه والترغيب فيه، وإنما خص هذا النوع، وهو التعريض بالرمز إذ الرمز إشارةٌ إلى المقصود من قريب مع نوع خفاءٍ، والتعريض كذلك.

والقوم كفرة، وإنما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن ارتكابها. والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأما ما يروى عن إبراهيم عليه السلام أنه كذب ثلاث كذبات؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما ما يروى عن إبراهيم صلوات الله عليه: أنه كذب ثلاث كذباتٍ) جوابٌ عن سؤالٍ مقدرٍ يرد على قوله: ((هو قبيحٌ كله)) وهو يحتمل أن يكون مخصصاً لذلك العام، وأن يراد أن هذا لا يعد كذباً، لأنه تعريضٌ، ومن ثم قيل: إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب. ويدل على أن مراد المصنف هو الاحتمال الأول: قوله في ((الصافات)): ((والصحيح أن الكذب حرامٌ إلا إذا عرض وروى)) والذي قاله إبراهيم عليه السلام تعريضٌ، لأنه جاء بأداة الاستثناء، لكن الاحتمال الثاني أولى أن يصار إليه، لأن حد الكذب على ما قال ((هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به)) لا يصدق عليه، فإن المعاريض والمجازات والنصوص الواردة على العموم أخبارٌ مقيداتٌ بالقرائن المانعة عن الحمل على الكذب؛ إما لفظاً، أو تقديراً بحسب اقتضاء المقام، ومن ثم قال صاحب ((المفتاح)): إن الكذاب لا ينصب دليلاً على كذبه. وأما تخصيص هذا العام، فهو إذا أريد بالكذب المكيدة في الحرب، والتقية، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين على ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أم كلثوم بنت عقبة: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين، فيقول خيراً وينمي خيراً)). وزاد مسلم: ولم أسمعه يرخص في شيءٍ مما يقول الناس

فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كذبٌ إلا في ثلاثٍ، يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل زوجته، وحدي المرأة زوجها. وفي أفراد ((الترمذي)): يا أيها الناس، ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار؟ الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال: رجلٌ كذب امرأته ليرضيها، ورجلٌ كذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، ورجلٌ كذب بين مسلمين ليصلح بينهما. رواه عن أسماء بنت يزيد. قوله: (فالمراد التعريض) وهو اللفظ المشار به إلى جانب، والغرض جانبٌ آخر، ويسمى تعريضاً لما فيه من التعوج عن المطلوب، يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي: بجانبه، ومنه المعاريض في الكلام، وهو التورية بالشيء. وتفسيره الكذبات بالتعريض يوافق ما روينا عن ((الترمذي)) عن أبي سعيدٍ في حديث الشفاعة ((فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منها كذبةٌ إلا ما حل بها عن دين الله)) أي: خاصم وجادل وذب عن دين الله، وتلك الكذبات على ما روينا في حديثٍ آخر في الشفاعة عن الشيخين والترمذي عن إبراهيم عليه السلام: ((إني كذبت ثلاث كذبات)) وفي روايةٍ فقال: وذكر قوله في الكوكب: (هَذَا رَبِّي) وقوله في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آلهتهم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وقوله: (إنِّي سَقِيمٌ). ووجه التوفيق: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما حل)) أي: جادل، وهو معنى التعريض، لأنه نوعٌ من الكناية، ونوعٌ من التعريض يسمى بالاستدراج، وهو: إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة ليعثر حيث يراد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج. أما قوله في الكوكب: (هَذَا رَبِّي) فقال المصنف: ((فكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، ويرشدهم إلى أن شيئاً منها لا يصلح للإلهية لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها)). وأما قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) فتنبيهٌ على أن الإله الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير. وأما قوله: (إنِّي سَقِيمٌ) فإنه عليه السلام أوهمهم أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سقيمٌ ليتركوه، فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيمٌ لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهةً، وفيه توقيفٌ على إبطال علم النجوم. فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة، فما له يشهد على نفسه بها على أن تسميتها وأنها معاريض بالكذبات إخبارٌ بالشيء على خلاف ما هو به؟ قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية وسميناها معاريض، فلا ننكر أن صورتها صورة التعوج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها، فسماها معاريض، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك، وأنها مختصةٌ بالحبيب، فتجوز في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكذبات. ألا ترى إلى ما رواه أنسٌ وأخرجه الشيخان: ((فيأتون آدم فيقولون: اشفع لذريتك فيقول: لست لها)) وفي روايةٍ: ((لست هناكم)) فيذكر خطيئته، وعلى هذا نوحٌ وإبراهيم وموسى عليهم السلام إلى قوله: ((فيأتون فأستأذن على ربي)) الحديث. وإلا فما وجه ذكر الخطيئات وقد غفرت لهم بالنصوص القاطعة. ويمكن أن يقال: إنهم من هول ذلك اليوم، وما بهم من شأن أنفسهم، يدفعونهم بذلك. ويعضده ما أخرجه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة في حديثٍ طويلٍ: ((فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله، اشفع لنا إلى ربك، فيقول لهم: إني ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها ... نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري)) الحديث. ونظيره قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا) [المائدة: 109]. قال المصنف: ((قيل هو من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب)). هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام، فإنه من مزال الأقدام، ألا ترى إلى الإمام كيف ذهل عن ذلك، وطعن في الأئمة، وقال في سورة يوسف: ((الأولى ألا تقبل مثل هذه الأحاديث لئلا يلزمنا تكذيب الأنبياء))، ولا شك أن صونهم من نسبة الكذب إليهم أولى من صون الرواة، والله أعلم.

وعن أبي بكر رضى اللَّه عنه وروى مرفوعاً: «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» وقرئ (يكذبون) من "كذبه" الذي هو نقيض صدقه أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل: صدّق. ونظيرهما: بان الشيء وبين، وقلص الثوب وقلص؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي مرفوعاً) المرفوع: هو الحديث الذي أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان مجانباً للإيمان لما مضى أن الإيمان هو التصديق، والتصديق أمانٌ للمُصَدَّقِ عما يتوهم من المٌصَدَّقِ من خوف التكذيب، ويطابقه من حيث المعنى ما أورد الإمامان مالكٌ وأحمد بن حنبلٍ في ((مسنديهما)) عن مالك بن صفوان، قلنا: يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: ((نعم))، قيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: ((نعم))، قيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: ((لا)). قوله: (وقرئ: (يكذبون)) وهي قراءة نافعٍ وابن كثيرٍ وأبي عمروٍ وابن عامر، وقرأ الكوفيون بالتخفيف وفتح الياء. قوله: (قَلَصَ الثوب وقلَّصَ) أي: انزوى بعد الغسل.

أو بمعنى الكثرة كقولهم: موتت البهائم، وبركت الإبل، أو من قولهم: كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردّد في أمره، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بمعنى الكثرة) عطفٌ على قوله: ((هو مبالغة))، والفرق بين الكثرة والمبالغة: أن الكثرة تفيد صدور هذا المعنى من الشخص مراراً كثيرةً، والمبالغة لا تستدعي المرات، بل المراد أن الشخص في نفسه بليغٌ في كذبه، كأنه بمنزلة مارٍ كثيرة. قال في سورة ((مريم)): ((الصديق من أبنية المبالغة كالضحيك، والمراد كثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، أو كان بليغاً في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق)). قوله: (ومن قولهم: كذب الوحشي) عطفٌ على قوله: ((ومن كذبه الذي هو نقيض صدقه))؛ فعلى هذا هو استعارةٌ تبعيةٌ واقعةٌ على التمثيل لقوله: ((لأن المنافق متوقفٌ مترددٌ في أمره))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق)) إلى آخره. والحديث أخرجه مسلمٌ والترمذي؛ والرواية: ((كالشاة)) قال التوربشي: العائرة أكثر ما تستعمل في الناقة وهي التي تخرج من الإبل إلى أخرى ليضربها الفحل، ثم اتسع في المواشي. قوله: (بين الغنمين) أي: ثلتين، فإن الغنم اسم جنس. أي: المنافق يتردد بين الثلتين فلا يستقر على حالٍ، ولا يثبت مع إحدى الطائفتين كالشاة العائرة التي تطلب الفحل. قلت: وفيه أيضاً معنى سلب الرجولية عنهم، وتصوير شناعة فعلهم.

[(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ*)]. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) معطوف على (يكذبون). ويجوز أن يعطف على: (يَقُولُ آمَنَّا)؛ لأنك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، كان صحيحاً، والأوّل أوجه ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأول أوجه) قال صاحب ((التقريب)): إنما كان أوجه، لأنه أقرب، وليفيد تسببه للعذاب أيضاً. وقلت: وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها لقبحها كما يحترز عن الكذب تعريضاً كما سبق، ويمكن أن ينصر القول الثاني بأن يقال: إن في العطف على (يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة: 8] تصييراً للآيات على سنن تعديد قبائحهم كما ذكره، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم، ولا شك أن قوله: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) الآية [البقرة: 10] متعلقٌ بقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) على سبيل التعليل، فإذا عطف على ((يكذبون)) يكون تابعاً للتابع وإذا عطف على ((يقول)) كان مستقلاًّ مثله مذيلاً بقوله: (أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة: 12] كما ذيلت الآيات السابقة واللاحقة، ومن ثم فضل قول المتنبي: إذا كان مدحٌ فالنسيب المقدم ... أكل فصيحٍ قال شعراً متيم؟ ! على قوله: مغاني الشعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان

والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال اللَّه تعالى: (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) [البقرة: 205]، (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة: 30]. ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن المصراع الأول في البيت الأول مستقلٌ بنفسه بخلافه في الثاني، وأيضاً إذا ترتب إيجاب العذاب على الكذب وحده، ليكون سبباً مستقلاًّ، واستوجب هذا القول عذاباً آخر أفظع منه؛ لإطلاقه، كان أبسط للكلام وأشرح له لا سيما المقام يقتضي الإطناب. قوله: (لأن في ذلك فساد ما في الأرض) تعليلٌ لتسمية هيج الفتن بالفساد؛ لأن هيج الفتن سببٌ لانتفاء استقامة أحوال الناس من سفك الدماء وهلاك الزروع، وممالأة المنافقين الكفار على المسلمين سببٌ لهيج الحروب كما قال، فتكون الممالأة سبباً بعيداً، وأما قوله تعالى: (وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ) [البقرة: 205] فهو إشارةٌ إلى هيج الحروب والفتن، وقوله: (ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ) [البقرة: 205] إشارةٌ إلى فساد أحوال الناس والزروع. وقوله: (حرب الفساد) قيل: سمى هذا الحرب به؛ لأنهم مثلوا فيها بأنواع المثل؛ جدعوا الأنوف وصلموا الآذان. قوله: (يمالئونهم)، النهاية: في حديث عمر رضي الله عنه: ((لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به))، أي: تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا، ومنه حديث عليٍّ رضي الله عنه: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله، أي: ما ساعدت ولا عاونت.

وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و «إنما» لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. وأَلا مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله: (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) [القيامة: 40]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: مالأته: عاونته وصرت من ملئه، أي: جمعه، نحو: شايعته، أي: صرت من شيعته. قوله: (إنما لقصر الحكم على شيءٍ) أي: لقصر المسند على المسند إليه كقولك: إنما ينطلق زيدٌ. فهو لقصر الانطلاق على زيدٍ؛ لأنه فرع قولك: ما ينطلق إلا زيدٌ، فيلزم أن لا يكون أحدٌ منطلقاً، ولا يلزم أن لا يكون له صفةٌ غير الانطلاق. قوله: (أو لقصر الشيء على حكم) أي: لقصر المسند إليه على المسند كقولك: إنما زيدٌ كاتبٌ، فهو لقصر زيدٍ على الكتابة؛ لأنه فرع قولك: ما زيدٌ إلا كاتبٌ، فيلزم أن لا يكون له صفةٌ غيرها، ولا يلزم أن لا يكون غيره كاتباً، وقوله تعالى: (إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة: 11] من قبيل الثاني، وتقريره: أن المسلمين لما قالوا لهم: لا تفسدوا في الأرض، توهموا أن المسلمين أرادوا بذلك أنكم تخلطون الإفساد بالإصلاح، فأجابوا: بأنا مقصورون على الإصلاح لا نتجاوز إلى الإفساد ولا نتخطى إليه بوجهٍ من الوجوه، فيلزم منه عدم الخلط. وإليه أومأ بقوله: ((إن صفة المصلحين خلصت لهم)) إلى آخره فهو لقصر الإفراد، فأجيبوا بالقصر القلبي وهو (أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ) [البقرة: 12]، لإفادة ضمير الفصل وتعريف الجنس في الخبر أنهم

ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدّرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدّمات اليمين وطلائعها: أَمَا والّذِى لا يَعْلَمُ الغَيْبَ غَيْرُهُ أَمَا والّذِى أَبْكَى وأَضحَكَ ...... ردّ اللَّه ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدله على سخط عظيم، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن تصورت صفة المفسدين، وتحققوا ما هم، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما سبق في: (وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]. قال القاضي: تصوروا الفساد تصور الصلاح لما في قلوبهم من المرض (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر: 8]. قوله: (من مقدمات اليمين وطلائعها) طليعة الجيش: ما يتقدم الجيش، فاستعير ها هنا للمقدمة. قوله: (أما والذي لا يعلم الغيب غيره) تمامه: ويحيي العظام البيض وهي رميم قوله: (أما والذي أبكى وأضحك) تمامه: والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر وجواب القسم بعده: لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر

والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله: (لا يَشْعُرُونَ). أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجرّه إلى الفساد والفتنة. والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من اتباع ذوى الأحلام، ودخولهم في عدادهم فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادى جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت: كيف صح أن يسند (قيل) إلى (لا تفسدوا) و (آمنوا) وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت: الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسناد له إلى لفظه، كأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمبالغة فيه من جهة الاستئناف) أي: ترك العاطف ليفيد ضرباً من المبالغة، وذلك أن ادعاءهم الإصلاح لأنفسهم على ما ادعوه مع توغلهم في الإفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكم الله تعالى عليهم، وكان وروده هكذا أي: على التشويق، يفيد المبالغة، فإن الشيء إذا وجد بعد الطلب كان أعز مما فوجئ به من غير التعب. وفي قوله: (لاَّ يَشْعُرُونَ) أيضاً تأكيدٌ؛ لأن الشعور عِلْمُ الشيء عِلْمَ حسٍّ، فإذا نفى شعورهم كان أدعى لظهور الفساد، ولأن من ركب متن الفساد وله شعورٌ بقبحه ربما نزل منه، ولكن إذا فقد الشعور به بلغ غايته. قوله: (أتوهم) هذا شروعٌ في تفسير قوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) [البقرة: 13] بعد ما فرغ من تفسير قوله: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة: 11] على سبيل ترتيب النظم، أي: المسلمون نصحوا المنافقين أولاً: بإزالة ما لا ينبغي وهو الإفساد في الأرض، وثانياً: بتحصيل ما ينبغي وهو الإصلاح بإتباع دين الحق والانخراط في زمرة المؤمنين.

فهو نحو قولك: ألِفٌ: ضربٌ من ثلاثة أحرف. ومنه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مثل استيعابه النصيحة من قطريها واحتيازها من جانبيها بمن أتى الشيء من جميع أكنافه، وهو مقتبسٌ من قوله تعالى: (لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف: 17] أي: لآتينهم في الوسوسة من جميع جهاتها. قال المصنف: ((هذا مثلٌ لوسوسته وتسويله ما أمكنه)). قوله: (فهو نحو قولك: ألفٌ: ضربٌ) قال صاحب ((الفرائد)): وفيه نظر، لأن ((ضربٌ)) هنا ليس بفعل، و ((لا تفسدوا)) فعلٌ باعتبار، والجملة تذكر بعد القول مفعولاً بها كقولك: قلت لا تفعل، فأقيمت مقام الفاعل بعد ترك الفاعل، وأسند الفعل إليها بالنظر إلى أنها كلام، وقوله: ((ضربٌ)) ليس بفعلٍ، يعني أنه تأويل لفظ ((ضَرَبَ)) ولم يرد ب ((ضَرْب)) الإخبار عن الضرب الحاصل في الزمان الماضي، بخلافه في: لا تفسدوا، فإنه أريد به معناه، أي: طلبوا إنشاء عدم الإفساد، غير أن الجملة في مقول بمنزلة المفعول به في فعلٍ آخر، ومنظورٌ إلى كونها كلاماً مفرداً. وأجيب عنه: أن قوله: ((ألفٌ ضربٌ)) مثل: ((لا تفسدوا)) من حيث الإسناد إلى اللفظ وهذا يكفي في التشبيه، وذلك أن الفعل إذا أسند إليه اعتبار اللفظ لا يخلو إما أن لا يكون للمعنى فيه مدخلٌ رأساً كقولك: ألفٌ ضربٌ من ثلاثة أحرفٍ، أو يكون له مدخلٌ ما، كقوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة: 11]. وأما تخصيصه بالمفعول به، ففيه كلام. قال ابن الحاجب في ((الأمالي)): الجملة الواقعة بعد القول إذا بني لما لم يسم فاعله، تقوم مقام الفاعل كقوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) وكذلك ما أشبهه، لأن القول تحكى بعده الجمل في موضع نصبٍ بالاتفاق، إلا أنها هي مصدرٌ أو مفعولٌ به، وإن قلنا: لا يتعدى، كانت الجملة في

"زعموا: مطية الكذب" و «ما» في (كما) يجوز أن تكون كافة مثلها في: (رُبَما)، ومصدرية مثلها في: (بِما رَحُبَتْ) [التوبة: 25]. واللام في (الناس) للعهد، أي: كما آمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومن معه. أو هم ناس معهودون كعبد اللَّه بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم، أى: كما آمن أصحابكم وإخوانكم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضع نصبٍ بالمصدر، وكان ثم غير المصدر من المفاعيل أقيم كل واحدٍ مقام الفاعل وإن لم يكن تعين المصدر. وقال في ((شرح المفصل)): ومتعلق القول في المعنى هو القول، وإنما يكون فيه خصوصيةٌ تذكر خاصيته فيتوهم أنه متعلقٌ به، وليس كذلك. وتحقيق القول ما ذكره أبو البقاء، قال: القائم مقام الفاعل مصدرٌ وهو القول، وأضمر لأن الجملة بعده تفسره، والتقدير: وإذا قيل لهم قولٌ هو لا تفسدوا. قوله: (زعموا مطية الكذب) مبتدأٌ وخبر. قال صاحب ((النهاية)): إن الرجل إذا أراد السير إلى بلدٍ والظعن في حاجةٍ، ركب مطيته وسار حتى يقضي أربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا، بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: ((زعموا)) في حديثٍ لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ. قوله: (من جلدتهم) جملتهم، الجوهري: أجلاد الرجل: جسمه وبدنه، كقولهم: فلانٌ بضعةٌ مني، وفي الحديث ((لحمه لحمي، ودمه دمي)) أي: هو مني ومن جملتي.

أو للجنس، أي: كما آمن الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة). اعلم أن التعريف الجنسي يحمل ادعاءً، تارةً على الكمال كما في قوله تعالى: (الم* ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2] وقد سبق تقريره، وأخرى على الحصر كما في هذا الوجه، وإليه الإشارة بقوله: ((ومن عداهم كالبهائم))، وكان يمكن أن يحمل الأول على الحصر أيضاً، فإن الجنس لا يتعدد، وحين وجد كتبٌ غيره مثل التوراة والإنجيل والزبور، حمل الحصر على الكمال. قال القاضي: إن اسم الجنس يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره فيقال: إنه ليس بإنسان. وقال الإمام في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) [البقرة: 185]: وهذا يدل على أن المتقين في قوله تعالى: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بناس. الراغب: كل اسم نوعٍ فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما دلالةٌ على المسمى وفضلاً بينه وبين غيره، والثاني: لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به في نحو: إذ الناس ناسٌ والزمان زمان وذلك أن كل ما أوجده الله تعالى في هذا العالم جعله صالحاً لفعلٍ خاصٍّ ولا يصلح لذلك العمل سواه، كالفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، وعلى ذلك الجوارح كاليد والرجل والعين، والإنسان أوجد لأن يعلم ويعمل بحسبه، فكل شيءٍ لم يوجد كاملاً لما خلق له، لم يستحق اسمه مطلقاً، بل قد ينفى عنه كقولهم: فلانٌ ليس بإنسانٍ، أي: لا يوجد فيه المعنى

والاستفهام في (أَنُؤْمِنُ) في معنى الإنكار. واللام في (السُّفَهاءُ) مشارٌ بها إلى الناس، كما تقول لصاحبك: إن زيداً قد سعى بك، فيقول: أو قد فعل السفيه. ويجوز أن تكون للجنس، وينطوى تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي قد خلق لأجله، فقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) [البقرة: 10] هو اسم جنسٍ لا غير، وقوله: (كَمَا آمَنَ النَّاسُ) [البقرة: 13] معناه كما يفعل من وجد فيه تمام فعل الإنسانية الذي يقتضيه العقل والتمييز وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. قوله: (مشارٌ بها إلى الناس) وهم المار ذكرهم آنفاً، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو عبد الله بن سلام وأشياعه؛ لأن السفهاء عبارةٌ عن الناس، ويتغير معنى السفهاء بتغير إرادة معنى الناس، من كونه جنساً أو عهداً على كلا التقديرين فيه. قوله: (أو قد فعل السفيه! ) قال شارح ((الهادي)): اللام في ((السفهاء)) للعهد: وذلك أن لام العهد منها ما يجيء من غير نكرة، وذلك بأن يذكر اسمٌ يستدعي صفةً، فتذكر الصفة معرفةً باللام، كما إذا قيل: شتمك زيدٌ، فتقول: أو قد فعل السفيه! فإن قوله: شتمك زيدٌ، تنبيه على سفاهة زيدٍ، كأنه قال: اعترض لك سفيهٌ. وقد يجيء على غير هذا الحد، وهو أن يكون زيدٌ مشهوراً بصفةٍ، فمتى ذكر زيدٌ علم صفته. والآية تنزل على الوجهين: أما أولاً، فلأن صفة الإيمان عندهم تستدعي صفة السفاهة، فلما ذكر الإيمان ذكر الصفة معرفةً، وأما ثانياً: فلأن المؤمنين عندهم مشهورون أو مجبولون على السفاهة، فكلما ذكروا بادر معنى السفاهة إلى أذهانهم الخبيثة. قوله: (وينطوي تحته الجاري ذكرهم) فعلى هذا اسم الجنس شاملٌ لهؤلاء وغيرهم، ولما كان سوق الكلام لهؤلاء دخلوا فيه دخولاً أولياً، وهذا أبلغ لما فيه من الكناية كقوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ) [البقرة: 89] واللام في "الكافرين" للجنس.

لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه. فإن قلت: لم سفهوهم واستركوا عقولهم، وهم العقلاء المراجيح؟ قلت: لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم. أو أرادوا عبد اللَّه بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاطهم من إسلامهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعرق الناس في السفه)، الأساس: فلانٌ معرقٌ في الكرم واللؤم، وهو عريق فيه، وفلانٌ يعارق صاحبه: يفاخره بعرقه، واعترقت الشجرة: ضربت بعروقها. قوله: (استركوا عقولهم) أي: عدوا عقولهم ركيكةً. قوله: (المراجيح) جمع مرجاح، وهو الذي له رزانة العقل ورصانته. قال في ((الأساس)): ومن المجاز: رجلٌ راجح العقل، وقومٌ مراجيح الحلم. قوله: (لأنهم لجهلهم) هذا الجواب مبنيٌّ على أن اللام في ((السفهاء)) للجنس، وقوله: ((ولأنهم كانوا في رئاسةٍ)) على أن اللام للعهد. والمراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقوله: ((أو عبد الله بن سلام)) عطفٌ على قوله: ((ولأنهم كانوا في رئاسةٍ)) فاللام للعهد أيضاً. المعنى: أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم كانوا في رئاسةٍ، أو أرادوا عبد الله بن سلام، فرجع معنى نسبتهم السفهاء على أن اللام للجنس إلى أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه هو الباطل؛ لعموم ((من)) في قوله: ((ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً)) فيدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعبد الله وأشياعه، ورجع على تقدير العهد: إما إلى أن اليسار والرئاسة هو الرشد، والفقر والعدم هو السفه. هذا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإما إلى أن من ثبت على دينهم هو الرشيد، ومن فارقه هو السفيه هذا بالنسبة إلى عبد الله وأشياعه.

وفت في أعضادهم. قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. فان قلت: فلم فصلت هذه الآية بـ: (لا يَعْلَمُونَ)، والتي قبلها ب: (لا يَشْعُرُونَ)؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّى إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوىّ مبنى على العادات، معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسوس المشاهد؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفت في أعضادهم)، الأساس: وفت في عضده: إذا كسر قوته، وفرق عنه أعوانه. قوله: (لم فصلت) التفصيل من الفاصل كالتقفية من القافية. وفصلت الآية إذا جعل لها فاصلة. وهذا مما يقوي مذهبنا في الخطبة في قوله: ((فصله سوراً وسورة آيات)). قوله: (من التغاور والتناحر)، الأساس: صبحتهم الغارة، وبينهم التغاور والتناحر، وانتحروا على الأمر، وتناحروا عليه: تشاجروا، وحزب قومه فتحزبوا، أي: صاروا طوائف، وفلانٌ يحازب فلاناً: ينصره ويعاونه، وإنما قال: كالمحسوس، لأن المذكورات معانٍ لكن أماراتها ظهرت ظهور المحسوس. قوله: (فهو كالمحسوس) قيل: دخول الفاء فيه: إما لتضمن المبتدأ وهو قوله: ((وما كان قائماً)) معنى الشرط، وإما للعطف على قوله: ((وأما النفاق)) إلى آخره. ثم إن قوله: ((وإما النفاق)) إلى قوله: ((في جاهليتهم)) تفسيرٌ للآية الأولى من الآيتين المفصلتين ب ((لا يشعرون))، وقوله: ((وما كان قائماً)) إلى قوله: ((كالمحسوس المشاهد)) للآية الثانية فتدبر. وقلت: والتحقيق فيه أن قوله: ((وما فيه من البغي)) عطفٌ تفسيريٌّ على ((النفاق))

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و((ما كان قائماً بينهم)) عطفٌ على ((جاهليتهم)) على نحو: أعجبني زيدٌ وكرمه؛ لاستدعاء الضمير في ((بينهم)) أن يكون المرجع إليه العرب. وقوله: ((فأمرٌ دنيوي)) جواب ((أما)). قوله: ((فهو كالمحسوس)) عطفٌ على ((فأمرٌ دنيوي)) مترتبٌ عليه. وأما مع ما بعده عطفٌ على قوله: ((لأن أمر الديانة)) من حيث المعنى، لأن ((أما)) تفصيليةٌ تستدعي التثنية والتكرير. وتلخيص المعنى: أما أمر الديانة، فأمرٌ أخرويٌّ يحتاج إلى دقة نظرٍ، فلذلك فصلت الآية التي اشتملت على الإيمان بقوله: (لاَّ يَعْلَمُونَ)، وأما أمر البغي والفساد فأمرٌ دنيويٌّ فهو كالمحسوس المشاهد لا يحتاج إلى دقة نظر، فلذلك فصلت الآية ب ((لا يشعرون)). الراغب: أصل الشعور من الشعر، ومنه الشعار: الثوب الذي يلي الجسد. وشعرت كذا يستعمل على وجهين: تارةً يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس، وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلانٌ لا يشعر، فذلك أبلغ في الذم من قولهم: إنه لا يسمع ولا يبصر؛ لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارةً يقال: شعرت كذا، أي: أدركت شيئاً. وقالوا: فلانٌ يشق الشعر في كذا، إذا دقق النظر فيه، ومنه أخذ الشاعر لإدراكه دقائق المعاني. فظهر أن ((شعرت)) يستعمل بمعنى: أحسست، وبمعنى أدركت وفطنت، فقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ) في الآية الأولى نفيٌ للإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة، لأن معرفة الصلاح والفساد تدرك بالفطنة، وفي الآية التي بعدهما نفي العلم، وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيهٌ لطيفٌ ومعنىً دقيقٌ، وذلك أنه بين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهايةً للجهل الدال على عدم الحس، وفي الثاني: أنهم لا يفطنون، تنبيهاً على أن ذلك لازمٌ لهم؛ لأن من لا حس له لا فطنة له، وفي الثالث: أنهم لا يعلمون، تنبيهاً أن ذلك أيضاً لازمٌ لهم لأن من لا فطنة له، لا علم له.

ولأنه قد ذكر السفه، وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له. مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأنه قد ذكر السفه) جوابٌ آخر عن السؤال وهو من باب المطابقة المعنوية، إذ لو كانت لفظيةً لقيل: لا يرشدون، فإن الرشد مقابلٌ للسفه، أو قيل: ألا إنهم هم الجهلاء ليقابل ((لا يعلمون)). قوله: (مساق هذه الآية) أي قوله: (وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) [البقرة: 14] بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين، أي: قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا) المعنى: دلت الآية الأولى على بيان ما يعتقده المنافقون، فيندرج في ذلك القول من هو موسومٌ بسمة النفاق، لأنه لا معنى للنفاق شرعاً سوى ذلك، وهي بمنزلة حدهم ليمتازوا به عن قسمتهم. والثانية: على بيان الحالة المخصوصة بأولئك مع المؤمنين ومع أصحابهم، وتحريره أن قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) إبداء لخبثهم ونكرهم، وكشفٌ عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي، وأنهم أحاطوه من جانبيه، ومن ثم نفى ذلك عنهم بقوله: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) وفسر بقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: 9] وعلل بقوله: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) [البقرة: 10] وأن قوله تعالى: (وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) [البقرة: 14] بيانٌ لدأبهم وعادتهم، وأنهم حين استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم: (آمَنَّا) استهزاءاً وسخريةً، ولذلك أتى بالجملة الشرطية، وعقب بقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة: 15]. قوله: (من التكذب لهم) التكذب تكرير الكذب في مهلةٍ نحو تجرعه. قوله: (إلى شطار دينهم)، الجوهري: الشطار: جمع شاطرٍ، وهو الذي أعيا أهله خبثاً.

وروي أن عبد اللَّه بن أبىّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال عبد اللَّه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبى بكر فقال: مرحبا بالصدّيق سيد بنى تيم وشيخ الإسلام وثانى رسول اللَّه في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بنى عدىّ الفاروق القوىّ في دين اللَّه، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه. ثم أخذ بيد علىّ فقال: مرحباً بابن عم رسول اللَّه وختنه سيد بنى هاشم ما خلا رسول اللَّه. ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتمونى فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً، فنزلت. ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سيد بني تميم) وفي بعض النسخ، وهو خطأٌ لما في ((الجامع)): هو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وكذا: عبد الله بن عثمان أبي قحافة بن عامر بن عمرو في ((الاستيعاب)). قوله: (لقيته ولاقيته؛ إذا استقبلته) قال شارح ((الهادي)): وقد يفسر الكلام ب ((إذا)) تقول: عسعس الليل: إذا أظلم تفسيراً لعسعس، لكنك إذا فسرت جملةً فعليةً مستندةً إلى ضمير المتكلم ب ((أي)) ضممت تاء الضمير، فتقول: استكتمته سري، أي: سألته كتمانه، بضم تاء ((سألته))، لأنك تحكي كلامه المعبر عن نفسه، وإذا فسرتها بـ ((إذا)) فتحت فقلت: إذا سألته كتمانه، لأنك تخاطبه، أي: أنك تقول ذلك إذا فعلت ذلك الفعل، وأنشدوا في ذلك المعنى: إذا كتبت بـ ((أي)) فعلاً تفسره ... فضم تاءك فيه ضم معترف وإن تكن بـ ((إذا)) يوماً تفسره ... ففتحة التاء أمرٌ غير مختلف

وهو جاري ملاقي ومراوقي. وقرأ أبو حنيفة: وإذا لاقوا. وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى: مضى، و"خلاك ذمّ": أى عداك ومضى عنك. ومنه: القرون الخالية، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك: خلا فلان بعرض فلان يعبث به. ومعناه: وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدّثوهم بها. كما تقول: أحمد إليك فلاناً، وأذمّه إليك. و (شياطينهم): الذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم. وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة. والدليل على أصالتها قولهم: تشيطن، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير. ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة. ومن أسمائه: "الباطل". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال بعض الشارحين ل ((المفصل)): وسره أن ((أي)) تفسيرٌ فينبغي أن يطابق ما بعدها لما قبلها، والأول مضموم، فالثاني مثله، و ((إذا)) شرطٌ تعلق بقول المخاطب على فعله الذي ألحقه بالضمير فمحالٌ فيه الضم. قوله: (ومرواقي) مخففاً؛ معناه: رواق بيتي لي رواق بيته. النهاية: الرواق: هو ما بين يدي البيت، وقيل: رواق البيت: سماوته. قوله: (خلوت بفلانٍ وإليه)، الأساس: خلا بنفسه: انفرد، واستخليت الملك فأخلاني، أي: خلا معي. ومن المجاز: خلى فلانٌ مكانه: مات، ولا أخلى الله مكانك: دعاءٌ بالبقاء، وخلا به: سخر به وخدعه؛ لأن الساخر والمخادع يخلوان به، يريان النصح والخصوصية، وتضمن خلا معنى الإنهاء. قال السجاوندي: (وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ) في معرض أفضوا، أي: خلوا من المؤمنين إلى الشياطين، وهو أبلغ من قولك بشياطينهم. قوله: (كما تقول: أحمد إليك) أي: ضمن ((أحمد)) معنى الإنهاء، أي: أنهي إليك حمد فلان. النهاية: في حديث ابن عباس: ((أحمد إليكم غسل الإحليل)) أي: أرضاه لكم وأتقدم فيه إليكم.

(إِنَّا مَعَكُمْ) إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟ قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أريحية)، الجوهري: الأريحي: الواسع الخلق. قال في ((النهاية)): رجلٌ أريحيٌّ إذا كان سخيًّا يرتاح للندى ويحبه. قوله: (لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد) يشهد بذلك أنهم لما قالوا: (نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) [المنافقون: 1] على سبيل التوكيد أجيبوا بقوله: (واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1] أي: فيما ادعوا أن تلك الشهادة من صميم قلوبهم. قوله: (ظهراني المهاجرين)، النهاية: في قوله: فأقاموا بين ظهرانيهم، أي: أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وزيدت فيه ألفٌ ونونٌ مفتوحةٌ تأكيداً، ومعناه: أن ظهراً منهم قدامه، وظهراً وراءه، فهو مكنوفٌ من جانبيه، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقاً. قوله: (الذين مثلهم في التوراة والإنجيل) يعني أن الله تعالى مدحهم في هذين الكتابين على لسان ذينك الرسولين بهذه الأوصاف التي دلت على رجاحة عقولهم وشدة ذكائهم وصلابتهم في دين الله، ومن ثم علل التمثيل بقوله: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ) [الفتح: 29] فكيف تروج عندهم تصلفاتهم.

ألا ترى إلى حكاية اللَّه قول المؤمنين: (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) [آل عمران: 16]؟ وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى حكاية الله) استئنافٌ على تقدير سؤالٍ، كأن قائلاً يقول: لزم من قولك: إنهم لو ساعدتهم أنفسهم عليه أو روج عنهم ما قالوه، لأكدوا كلامهم، وما أمارة ذلك؟ فقيل: ألا ترى أن المسلمين كيف أوردوا في مثل هذا التركيب ما قدروا عليه من التأكيد لنا أنهم كانوا أوحديين فيه، فساعدتهم أنفسهم عليه، وكان ذلك مقبولاً منهم. وحاصل التأويل: أن معنى التوكيد الذي تعطيه ((إن)) ها هنا ليس راجعاً إلى المخاطب في إزالة تردده أو نفي شكه، بل إلى المتكلم في إظهار نشاطه ووفور ارتياحه إيذاناً بأن المقام خليقٌ بالإطناب وإبداء ارتياحه ونشاطه، وإعلاماً بأن السامع يتلقاه بالقبول، ويصغي إليه بشراشره. فإن قلت: فكيف سمحت أريحيتهم حتى قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر بتكرير الباء المؤكدة، أم كيف ادعوا أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وهم بين ظهراني أولئك المتوسمين؟ قلت: ولذلك قال: ((مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين)) لأن مساق تلك للتقية ولخداعهم ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمانين ليجروا عليهم أحكامهم، ويعفوهم من المحاربة والمقاتلة. يؤيده بيانه بقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: 9] فهو جديرٌ بالتوكيد، ومساق هذه مساق الاستهزاء والاستخفاف بعد استقرار تلك الدعوى، فهو بالخلو عن التوكيد أحرى. قوله: (وأما مخاطبة إخوانهم) عطفٌ على قوله: ((ليس ما خاطبوا به المؤمنين)).

والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد. فإن قلت: أنى تعلق قوله: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بقوله: (إِنَّا مَعَكُمْ)؟ قلت: هو توكيد له؛ لأن قوله: (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه الثبات على اليهودية، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على صدق رغبةٍ) خبرٌ عن قوله: ((فهم فيما أخبروا به)). قوله: (مظنةً للتحقيق)، النهاية: المظنة بكسر الظاء: موضع الشيء ومعدنه. والقياس فتح الظاء وإنما كسرت لأجل الهاء. قوله: (ومئنةً للتوكيد)، الفائق: في الحديث ((إن طول الصلاة وقصر الخطبة مئنةٌ من فقه الرجل المسلم)) قال أبو زيد: إنه لمئنةٌ من ذاك، وإنهن لمئنة، أي: مخلقة، وكل شيءٍ دلك على شيءٍ فهو مئنةٌ له، وحقيقتها: أنها مفعلةٌ من معنى ((إن)) التأكيدية غير مشتقةٍ من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمنت حروف تركيبها لإيضاح الدلالة على أن معناها فيها. قوله: (قلت: هو توكيدٌ) يرجع حاصل الجواب إلى وجوهٍ ثلاثةٍ لاحتمال (إنَّا مَعَكُمْ) على طريق الكناية أموراً ثلاثة. أحدها: إنا على دينكم ومذهبكم فيصح توكيده إذن بقوله: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) بمعنى ندفع دين مخالفيكم بالاستهزاء.

وقوله: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم: (إِنَّا مَعَكُمْ)، فقالوا: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). والاستهزاء: السخرية والاستخفاف، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: إنا مصاحبوكم في دينكم، لا نفارقكم لاحترامكم؛ لأن من توخى تعظيم الشيء لا يفارقه، فحينئذٍ يستقيم بيانه وتفسيره بقوله: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)؛ لأن مَنْ وضع مِن مقدار العدو وحقر شأنه، فقد عظم قدر وليه، فكان قوله: (إنَّا مَعَكُمْ) كالتوطئة؛ لأن من حق الظاهر أن يقولوا لأصحابهم: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) بعد قولهم للمؤمنين: (آمَنَّا) والفرق: أنه جعل الجملة الثانية في تأويل الأولى في الأول ليصح التوكيد، وبالعكس في الثاني ليستقيم التفسير، هذا على تقدير أن يكون بدل الكل تفسيراً للمبدل كما سبق في ((الفاتحة)). ويجوز أن يقال: إن قوله: (إنَّا مَعَكُمْ) دل على تعظيم الكفر، وقوله: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) دل على تحقير الإسلام، ولزم من مفهومه تعظيم الكفر كما قال المصنف ((لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر)) فقد اشتمل الثاني على معنى الأول مع الزيادة. والفرق بين هذا الوجه وبين الأول، وهو كونه تأكيداً أو تفسيراً: أنه اعتبر في الأول مفهوم الثاني، لتقرير المعنى الأول، واعتبر في هذه العبارة والمفهوم معاً، ولا بعد فيه؛ لأن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة. وثالثها: إنا موافقوكم وموالوكم، فإن هذا القول يحمل أصحابهم لأن ينكروا عليهم ويقولوا: إن صح أنكم معنا فما بالكم توافقون أهل الإسلام في الإيمان؟ فقالوا: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنقف على أسرارهم ونأخذ من أموالهم وغنائمهم. قوله: (والاستهزاء: السخرية)، الراغب: الاستهزاء: ارتياد الهزء، وإن كان قد يعبر به

وأصل الباب الخفة من الهزء؛ وهو القتل السريع. وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فغلبت فظننت لأهز أنّ على مكاني. وناقته تهزأ به: أى تسرع وتخف. فإن قلت: لا يجوز الاستهزاء على اللَّه تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل. ألا ترى إلى قوله: (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأنّ المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به، وإدخال الهوان والحقارة عليه، والاشتقاق -كما ذكرنا- شاهد لذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتياداً للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة. قوله: (فلغبت)، الجوهري: اللغوب: الإعياء، تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوباً ولغبت بالكسر لغةٌ ضعيفة. قوله: (لأن المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة) فيه إشارةٌ إلى ما سبق من القانون في (غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7] فالاستهزاء من المخلوق: الفعل الذي يصدر من الجاهل عبثاً، وغرضه فيه طلب هوان المستهزأ به، فيحمل ها هنا على المعنى الثاني دون الأول، وهو من باب إطلاق السبب على المسبب، ثم في قوله: ((غرضه)) مع قوله ((يرميه)) رعاية التناسب، فإن الرامي يرمي الغرض، أي: الهدف. قوله: (والزراية بمن يهزأ به) قيل: الزراية تعدى ب ((على))، وإنما عدي هنا بالباء لتضمنه معنى استخف. الأساس: أزريت به: قصرت به وحقرته، وزريت عليه فعله: عبته وعنفته. قوله: (والاشتقاق كما ذكرنا) وهو قوله: ((أصل الباب الخفة من الهزء)).

وقد كثر التهكم في كلام اللَّه تعالى بالكفرة. والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون. ويجوز أن يراد به ما مر في: (يُخادِعُونَ) من أنه يجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم، وقيل: سمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى: 40]، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة: 194]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد كثر التهكم)، النهاية: في حديث أسامة: ((فخرجت في أثر رجلٍ منهم جعل يتهكم بي))، أي: يستهزئ ويستخف. قوله: (والدلالة على أن مذاهبهم) إلى آخره، يعني: أن الاستهزاء مما يذم من الأخلاق، وكاد أن يكون حراماً، فلا يجوز إسناده إلى أدون الخلق، فإسناده إلى الله تعالى لإيذانٌٌ بالمبالغة في ذم مذهبهم. المعنى: أن مذهبهم مكان الاستهزاء وموقعه، وحقيقٌ على كل عالمٍ كاملٍ أن يوقع الاستهزاء فيه، فإنه قد أذن الله فيه، وندب إليه. قوله: (ما مر في (يُخَادِعُونَ)) أي: في الوجه الأول م الوجوه المذكورة فيه، وذلك بأن شبه صورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم بصورة صنع الخادع، كذلك شبه صورة صنع الله من إجراء أحكام المسلمين عليهم في الظاهر- وهو مبطنٌ بادخار العذاب- صورة صنع الهازئ مع المهزوء به، وهو من الاستعارة التبعية. قوله: (وهو مبطنٌ) الضمير فيه لقوله: ((إجراء للأحكام))، المدلول عليه بقوله: ((يجرى)) قيل: ثوبٌ مبطنٌ بالقطن إذا كان حشوه قطناً. المعنى: أجرى عليهم أحكام المسلمين من الموارثة والمناكحة وغيرهما، وفي ضمن هذا ما يراد بهم من العذاب والهوان، كما أنك إذا أحسنت إلى صاحبك وفي ضمنه ما يورث الهوان، فإنه إذا وقف على فعلك قال لك: أتسخر مني وتستهزئ بي.

فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ولم يعطف على الكلام قبله «1». قلت: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن اللَّه عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاءٍ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو استئنافٌ في غاية الجزالة) قيل: بيان الجزالة هو: أن حكاية حال المنافقين في الذي قبله لما كانت تحرك السامعين أن يسألوا: ما مصير أمرهم، وعقبى حالهم، وكيف معاملة الله إياهم؟ لم يكن من البلاغة أن يعرى الكلام عن الجواب، فلزم المصير إلى الاستئناف. وقلت: ما ذكر بيانٌ لكيفية ورود الاستئناف في هذا المقام، لا بيان جزالته، إذ حقيقة الاستئناف هو أن تجعل الجملة السابقة كالمورد للسؤال، فيجاب بالجملة الثانية، وقول المصنف: ((في غاية الجزالة)) يقتضي أمراً آخر، وتقريره أن يقال: كان من مقتضى الظاهر أن تصدر الجملة باسم المؤمنين، لأن المستهزأ بهم هم كما في قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وإذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطففين: 29 - 30] إلى قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين: 34]، فلما صدرت بذكر اسم الله الجامع لجميع الصفات وبنى الخبر عليه ليتقوى الحكم، وأبرز الفعل على صيغة المضارع المؤذن بالاستمرار لاستدعاء الجواب، ليكون أبلغ من كلامهم، دل ذلك كله على جزالة الاستئناف وفخامته، ولزم منه تعظيم جانب المؤمنين، وأنه تعالى هو الذي يتولى الاستهزاء البليغ بنفسه تعالى. وكفى الله المؤمنين القتال. وقد أشار إلى هذه المعاني بقوله: ((وفيه أن الله هو الذي يستهزئ بهم)) وقوله: ((وفيه أن الله

ولا يؤبه له في مقابلته، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل. وفيه أن اللَّه هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فان قلت: فهلا قيل اللَّه مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) قلت: لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الذي يتولى الاستهزاء بهم. وقد أتى في التفسير ب ((أن)) ووسط الجملة ضمير الفصل المؤذن بالاختصاص ليشير إلى أن بناء ((يستهزئ)) على ((الله)) مفيدٌ للاختصاص، ولهذا نفى احتياج المؤمنين إلى الاستهزاء بقوله: ((ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم)). وقد نص في ((المزمل)) في قوله: (واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ) [المزمل: 20] أنه مفيدٌ للاختصاص. قوله: (لا يؤبه له)، النهاية: في الحديث ((لا يؤبه له)) أي: لا يحفل به لحقارته. قوله: (وقتاً بعد وقت) أي: حالاً فحالاً على الاستمرار، وإفادة الفعل المضارع ذلك من اقتضاء المقام، فإنك إذا قلت في مقام المدح: فلانٌ يقري الضيف ويحمي الحريم، عنيت أنه اعتاده واستمر عليه، لا أنك تخبر عنه بأنه سيفعله، فكذا أنه تعالى يخبر أن معاملته مع هؤلاء القوم إنما تقع على هذه الحالة، وإليه الإشارة بقوله: ((وهكذا كانت نكايات الله فيهم)). ويمكن أن يقال: إن هذا الاستمرار أبلغ من الدوام الذي يعطيه معنى الجملة الاسمية؛ لأن النفس إذا اعتادت الشيء ألفته ولا تحب مفارقته، قال:

وهكذا كانت نكايات اللَّه فيهم وبلاياه النازلة بهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ)، (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة: 64]. وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مدّ الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها. ومددت السراج والأرض؛ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألفت الضنى لما تطاول مكثه ... فلو زال عن جسمي بكته الجوارح الانتصاف: على الاستمرار جاء قوله تعالى: (إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ (18) والطَّيْرَ مَحْشُورَةً) [ص: 18 - 19] لما كان التسبيح من الوظائف المتكررة أتى فيه بالفعل، وحشر الطير أمرٌ دائمٌ فذكر فيه اسم المفعول. قوله: (نكايات الله فيهم)، النهاية: يقال: نكيت في العدو أنكي نكاية؛ إذا أكثرت فيه الجراح والقتل، فوهنوا لذلك، وقد يهمز تقول: نكأت القرحة أنكؤها: إذا قشرتها. قوله: (واستشعار حذرٍ)، الجوهري: استشعر فلانٌ خوفاً، أي: أضمره. قوله: (من أن ينزل فيهم) أي: في شأنهم وحقهم ما يفتضحون به، ويكشف عن دغلهم وسوء دخلتهم، ومع ذلك لم يكن ينفعهم ذلك الاستشعار حيث كان ينزل الله تعالى ما كانوا يحذرون منه، واستشهد لذلك بقوله: (يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ) الآية [التوبة: 64]. قوله: (من: مد الجيش وأمده) فمعنى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) [البقرة: 15] نوليهم ونعطيهم مدداً في الطغيان، من مد الجيش، أي: أعطاهم مدداً.

إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغى وأمده: إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد انهما كافيه. فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن: (وَيَمُدُّهُمْ)، وقراءة نافع: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) [الأعراف: 202]، على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له. فان قلت: فكيف جاز أن يوليهم اللَّه مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) [الأعراف: 202]؟ قلت: إما أن يحمل على أنهم لما منعهم اللَّه ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً. وأسند إلى اللَّه سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (انهماكاً فيه)، الجوهري: انهمك الرجل في الأمر، أي: جد ولج، وكذلك تهمك في الأمر. قوله: (كأملى له)، الجوهري: أمليت له في غيه: إذا أطلت. وأملى الله له، أي: أمهله وطول له. وأما قراءة نافع: (يَمُدُّونَهُمْ) [الأعراف: 202] فمن الإمداد من المدد، لا من المد في العمر، ولأنه لا يعدى إلا باللام. وأجاب القاضي: أن أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم، ويمد في أعمارهم كي ينتهوا ويطيعوا، فما زادوا إلا طغياناً وعمهاً، فحذفت اللام وعدي الفعل بنفسه، أي: نمدهم استصلاحاً وهم مع ذلك يعمهون، ويؤيده قول الجوهري: مده في غيه، أي: أمهله.

وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى اللَّه لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت: استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى اللَّه ما أسندوا إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما حملهم على تفسير المد في الطغيان بالإمهال) والضمير للمفسرين؟ قال الزجاج: يمدهم: يمهلهم. وكذا في الواحدي. وقال محيي السنة: يمدهم: يتركهم ويمهلهم، والمد والإمداد واحدٌ وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر في الشر، والإمداد في الخير. وقال الإمام: والأولى أن يقال من المد بمعنى الإملاء والإمهال؛ لأنه تعالى لا يمدهم بالشر، على أن أكثر ما جاء في القرآن من الإمداد فبالخير نحو: (وأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ) [الطور: 22] (ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ) [نوح: 12] ومن المد فبالشر نحو: (ونَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدًا) [مريم: 79] (وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) [الأعراف: 202]. قوله: (الأروى)، الجوهري: الأروى: الأنثى من الوعول وثلاث أراوي على وزن أفاعيل، فإذا كثرت فهي الأروى على أفعل بغير قياس. وهي تسكن الجبال والوعور، والنعام تسكن البوادي والسهل، فبينهما بعدٌ، يضرب هذا المثل لمن يحاول أن يجمع بين المتنافيين.

ومن حق مفسر كتاب اللَّه الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّى سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان: الغلو في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنه: (في طغيانهم) بالكسر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعضد ما قلناه قول الحسن) فإنه فسر ((نمدهم)) بقوله: في ضلالتهم يتمادون. وقال: ((إن هؤلاء من أهل الطبع)) لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، فيكون من المدد لا من الإمهال. ويروى: ((وأن هؤلاء)) بفتح ((أن)) فيكون عطفاً على قول الحسن ودليلاً آخر، ويمكن أن يقال: إن معنى ((يتمادون)) يبلغون المدى والغاية في الضلال، وهي بالإمهال أليق، ويكون الطبع مسبباً عنه؛ لأن الإمهال في الكفر يتمادى إلى الطبع، قال الله تعالى: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد: 16]. قوله: (والطغيان: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو). الراغب: يقال: طغا يطغو ويطغى. وحكي: طغيت. والفرق بين عدا وطغى وبغى: أن العدوان تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده، وعلى ذلك قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [البقرة: 194] أي: تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه فتجاوزوا معه بقدره، لتكون العدالة محفوظةً في المجازاة، وأما الطغيان فتجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخل بما عين له من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فيما يتحراه ويتعاطاه، فقد طغى، وعلى ذلك: (لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ) [الحاقة: 11] أي: تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل، والبغي: طلب تجاوز قدر الاستحقاق، تجاوزه أم

وهما لغتان؛ كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان. فان قلت: أى نكتة في إضافته اليهم؟ قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن اللَّه بريء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين: (لو شاء اللَّه ما أشركنا) [الأنعام: 148]، ونفياً لوهم من عسى يتوهم. عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان اليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك أنه حين أسند المدّ إلى الشياطين، أطلق الغىّ ولم يقيده بالإضافة في قوله: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) [الأعراف: 202]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يتجاوزه، وأصله الطلب، ويستعمل في التكبر، لأن المتكبر طالب منزلةٍ ليس لها بأهل. قوله: (كلُقْيان) من اللقاء. و ((غُنْيان)) من: غني به غنيةً، وغنيت المرأة بزوجها غنياناً، أي: استغنت. قوله: (ويدفع في صدر من يلحد)، الأساس: دفعته عني ودفعت في صدره. قوله: (يلحد) أي: يميل عن الحق. هذا تعصبٌ قويٌّ ولفظٌ فاحشٌ. حيث جمع أهل الحق مع الكفرة بالعطف، وخص الإلحاد بهم. والمعنى: أنه أزال معنى ((يمدهم)) عن موضعه حيث جعل الإسناد مجازيًّا، وجعل تزايد الرين بمعنى منع الألطاف، وأمال ((طغيانهم)) إلى مذهبه وليس ما ذهب إليه أولى من العكس على اعتبار الإسناد أولى من اعتبار الإضافة؛ لأن الإضافة يصار إليها بأدنى ملابسة كما في قوله: إذا قال قدني قال بالله حلفةً ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا

والعمه: مثل العمى، إلا أن العمى عامّ في البصر والرأى، والعمه في الرأى خاصة، وهو التحير والتردّد، لا يدرى أين يتوجه. ومنه قوله: أعمى الهدى بالجاهلين العمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأن الإسناد إذا جعل مجازيًّا يشترط فيه أن يكون بين الفاعل الحقيقي وغير الحقيقي تعلق شبهٍ، وإلا لم يصح، لكن له شغفٌ بنضرة مذهبه، وأيضاً إسناد الطغيان إليهم لا ينافي مذهب أهل الحق؛ لأن فعل العبد يستند إلى الله تعالى خلقاً وتقديراً، ويضاف إلى العبد اقترافاً وكسباً. فمعنى الإضافة إرادة الطغيان الذي عرف صدوره عنهم ونظيره: (وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) [الإسراء: 19]، وأن الغي في قوله: (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ) [الأعراف: 202] مقيد بالتعريف فهو مثل الإضافة؛ لأنه إنما يصح المدد في أمرٍ ثابت. الانتصاف: فعل العبد الاختياري له اعتباران: أحدهما: وجوده وحدوثه، وما هو عليه من وجوه التخصيص، وذلك منسوبٌ إلى القدرة والإرادة. والثاني: تميزه عن القسري الضروري، وهو منسوبٌ من هذه الجهة إلى العبد، وهو الكسب المراد في مثل قوله تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30] فمدهم في الطغيان مخلوقٌ لله تعالى، فأضافه إليه، ومن حيث كونه واقعاً على وجه الاختيار، وهو الكسب أضافه إليهم. قوله: (لا يدري أين يتوجه) وهو استئنافٌ على سبيل البيان لقوله: ((وهو التحير والتردد)) والتردد يستعمل مجازاً في التحير. الأساس: ومن المجاز: رجلٌ مترددٌ حائرٌ بائر. قوله: (بالجاهلين العمه) تمامه: ومهمهٍ أطرافه في مهمهِ ... أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّهِ

أي الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضاً عمهاء: لا منار بها ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى: اختيارها عليه واستبدالها به، على سبيل الاستعارة، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. ومنه: أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رَاساً أزْعَرَا وبالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا وبالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العمه: جمع عمهٍ وعامهٍ، أي: المهمه طريقةٌ مشتبهةٌ على العمي إذ ليس فيه جادةٌ أو منارٌ يهتدى به. قوله: (لأن الاشتراء) تعليل الاستعارة، يعني: إنما جاز استعارة الاشتراء للاستبدال لما يجمعهما معنى الإعطاء والأخذ. وأصل المبايعة بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان أو المنافع، وهي تنقسم إلى: مبايعةٍ بناضٍّ، وإلى مبايعة سلعةٍ بسلعة، ويقال في الأول لآخذ السلعة: المشتري، ولآخذ الناض: بائع. وفي الثاني يطلق على كل واحدٍ منهما اسم البائع والمشتري، ولهذا عد البيع والشراء من الأضداد، ومتا تدخله الباء الثمن، والآخر المثمن، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره، سواءٌ كان من المعاني أو الأعيان. قوله: (أخذت بالجمة) الأبيات، قيل: هي لأبي النجم. والجمة بالضم: مجتمع شعر الرأس. وهي أكثر من الوفرة، والأزعر: الأصلع الذي قل شعره، والدردر: مغرز الأسنان

كما اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا وعن وهب: قال اللَّه عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. فان قلت: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت: جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم. كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الساقطة الباقية الأصول، والجيذر بالجيم والذال المعجمة: القصير. والمراد بقوله: ((كما اشترى المسلم إذ تنضرا)) جبلة بن الأيهم الغساني على ما روى الواقدي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب كتاباً إلى أجناد الشام أن جبلة ورد إلي في سراة قومه، وأسلم فأكرمته، ثم سار إلى مكة، فطاف فوطئ إزاره رجلٌ من بني فزارة، فلطمه جبلة، فهشم بها أنفه، وكسر ثناياه، فاستعدى الفزاري على جبلة إلي، فحكمت: إما العفو، وإما القصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملكٌ وهو سوقةٌ، فقلت: شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعاقبة، فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلما كان من الليل ركب في بني عمه، ولحق بالشام مرتداً، وفي رواية: أنه ندم على ما فعل، وأنشد: تنصرت بعد الحق عاراً للطمةٍ ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر فأدركني فيها لجاج حميةٍ ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قال لي عمر قوله: (جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم كأنه في أيديهم) اعلم أن موقع ((أولئك)) هنا بعد ذكر المنافقين وإجراء أوصافهم وقبائحهم عليهم في موقع ((أولئك)) في قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) [البقرة: 5] على أحد وجهيه، فإن السامع بعد سماع ذكرهم، وإجراء تلك

ولأن الدين القيم هو فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة والضَّلالَةَ الجور عن الفصد وفقد الاهتداء. يقال. ضلّ منزله، و"ضل دريص نفقه" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأوصاف المميزة عليهم، لابد أن يسأل: من أين دخل على أولئك هذه الهنات؟ فيجاب: بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها، وارتكبوا تلك الرذائل؛ لأنهم كانوا قد أبطلوا استعداداتهم الفطرية السليمة عن النقائص، واستبدلوا الضلالة بالهدى، فخسرت صفقتهم، وفقدوا الاهتداء إلى الطريق المستقيم، فلذلك وقعوا في تيه الضلالات. قوله: ((وإعراضه)) يقال: أعرض له، إذا أبدى عرضه، أي: جانبه. الجوهري: أعرض لك الخير، إذا أمكنك، والله أعلم. قوله: (هو فطرة الله) روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: ((ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، ثم يقول اقرؤوا: (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30] فأبواه يهودانه)) الحديث. قال صاحب ((الجامع)): كل مولودٍ إنما يولد في مبدأ الخلقة، وأصل الجبلة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدين حسنه موجودٌ في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفةٍ من الآفات البشرية والتقليد. وقلت: فعلى هذا الوجه إثبات الهدى لهم مجازٌ باعتبار ما كان، وعلى الوجه الأول مجازٌ باعتبار ما يؤول، حيث جعل التمكن من الهدى بمنزلة حصول الهدى. قوله: (ضل دريصٌ نفقه). قال الميداني: هو ولد الفأر واليربوع وأشباه ذلك. ونفقه: جحره، ويقال: ضل عن سواء السبيل، إذا مال عنه، وضل المسجد والدار، إذا لم يهتد إليهما، ولم يعرفهما؛ يضرب لمن يعنى بأمره ويعد حجةً لخصمه، فينسى عند الحاجة.

فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والربح: الفضل على رأس المال، ولذلك سمى الشف، من قولك: أشف بعض ولده على بعض، إذا فضله. ولهذا على هذا شف. والتجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح. وناقة تاجرة: كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها. وقرأ ابن أبى عبلة (تجاراتهم). فإن قلت: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازى، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين. فإن قلت: هل يصح: ربح عبدك وخسرت جاريتك، على الإسناد المجازى؟ قلت: نعم إذا دلت الحال. وكذلك الشرط في صحة: رأيت أسداً، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح. فإن قلت: هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاستعير للذهاب) هذا بيانٌ للعلاقة بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية. قوله: (إذا دلت الحال) وهي كما اشترى عبداً أو جاريةً ليتجر فيهما، فربح أو خسر فيهما، وإنما شرط ذلك؛ لأنه من الجائز أن يكونا مأذونين في التجارة فيكون الإسناد حقيقياً. قوله: (وكذلك الشرط في صحة: رأيت أسداً) نبه به على قرب معنى الإسناد المجازي من الاستعارة المصرحة، يعني: أن الإسناد يستعار من الفاعل الحقيقي لغير الحقيقي بسبب تعلق أحدهما بالآخر؛ لقيام القرينة، كما أن لفظ الأسد يستعار من الأسد الحقيقي للشجاع بسبب التشبيه لقيام القرينة. قوله: (كأن ثم مبايعةً على الحقيقة) يعني: سلمنا أن الشراء على المجاز لقرينة استعمال الهدى والضلالة معه فيما تصنع بقوله: (رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ) [البقرة: 16] فإنه لا يقرن إلا بالشراء الحقيقي، كأن بين إرادة المجاز وبين هذا التفريغ منافاة؟ وخلاصة الجواب: أنهم إذا أرادوا المبالغة في الاستعارة بنوا كلامهم على حديث المستعار منه كأنهم نسوا حديث التشبيه والاستعارة ولم يخطر منهم على بال.

قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب في البليد: (كأن أذني قلبه خطلاوان)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الصنعة البديعة) أي: الغريبة المستحسنة التي يتوخى بها تزيين الكلام، ويتحرى بها حسن النظام، وتسمى بالتتميم، وهو تابعٌ يفيد الكلام مبالغةً وإليه أشار بقوله: ((وأتبعه ما يشاكله)) إلى قوله: ((ويتم بانضمامه إليه تمثيلاً)) والترشيح وإن كان يبحث عنه في البيان لكنه من المستحسنات البديعية لا من الدلالات الالتزامية، ولهذا قال: ((لم تر كلاماً أحسن ديباجةً، وأكثر ماءً ورونقاً منه)) على أن الصنعة البديعية قد تطلق على مجموع المعاني والبيان والبديع؛ تسميةً الشيء باسم أشهر أقسامه. قوله: (أحسن [منه] ديباجةً) الديباج: فارسيٌّ معرب. الأساس: ومن المجاز: دبج المطر الأرض يدبجها بالضم دبجاً، ودبجها زينها بالرياض، ولهذه القصيدة ديباجةٌ حسنةٌ، إذا كانت محبرة. قوله: (خطلاوان)، الجوهري: أذنٌ خطلاء بينة الخطل، أي: مسترخية. ومنه سمي الأخطل الشاعر.

جعلوه كالحمار، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين، وادعوا لهما الخطل، ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة. ونحوه: ولَما رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَايَةٍ ... وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لهُ صَدْرِى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعلوه) أي: البليد كالحمار، ظاهره يؤذن بأن المشبه الشخص، وإنما المشبه قلبه، لكن في الحقيقة يعود المعنى إليه، فلذلك قال: ((جعلوه كالحمار)). وإنما ذكر القلب وأريد الشخص؛ لأن القلب محل الفهم والذكاء، والاستعارة التي في الأذن تخييلية، وفي القلب مكنية؛ شبه قلبه بالحمار في البلادة تشبيهاً بليغاً، ثم أخذ الوهم في تصويره بصورة الحمار بعينه واختراع ما يلازم صورته من الأذنين، ثم أطلق على ذلك المخترع المتوهم اسم المحقق، وإليه الإشارة بقوله: ((فادعوا لقلبه أذنين))، وجعلت القرينة إضافتهما إلى القلب، وقوله: ((خطلاوان)) ترشيحٌ لهذه الاستعارة؛ لأن ذكر الخطل متفرعٌ على إثبات الأذنين المستعارتين، وإليه الإشارة بقوله: ((وادعوا لهما الخطل))، تقدير الكلام: أذنا قلبه كأنهما خطلاوان. والفاء في ((فادعوا)) مثلها في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] لأن قوله: ((فادعوا)) إلى آخره عين قوله: ((جعلوه كالحمار)) كما أن القتل عين التوبة، أي: عزموا على جعله كالحمار فادعوا. قوله: (مشاهدةً معاينةً) حالان مترادفتان، أو متداخلتان، كقولك للمسافر: راشداً مهديًّا. قوله: (ولما رأيت النسر) البيت، النسر: طائرٌ يوصف بطول العمر. عز: غلب. وابن دأيةً: الغراب، الجوهري: دأية البعير: ما يقع عليه ظلفة الرحل فتعقره، ومنه قيل للغراب: ابن دأية.

لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فتاكهم في أمّه: فما أُمُّ الرّدين وإنْ أَدَلَّتْ ... بِعالِمَةٍ بأَخْلاقِ الْكِرَامِ إذَا الشّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاها ... تَنفّقْناهُ بالحُبُلِ التُّوَامِ أى إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم. يريد: إذا حردت وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها. استعار التقصيع أوّلا، ثم ضم إليه التنفق، ثم الحبل التوام. فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استعار للشيب النسر وللشباب الغراب، ثم رشحها بالوكرين، وهما: الرأس واللحية. قوله: (فتاكهم)، الجوهري: الفاتك الجريء، والجمع: الفتاك، والفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غافلٌ حتى يشد عليه فيقتله. قوله: (فما أم الردين) البيت: أدلت من الإدلال. أي: لا تحفظ حد الإدلال. القاصعاء:

تمثيلاً لخسارهم وتصويراً لحقيقته. فإن قلت: فما معنى قوله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)؟ قلت: معناه أنّ الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطريق المستوي، وهي إحدى جمري اليربوع، والنافقاء: موضع يرققه ولا ينفذه مخافة أن يقف عليه الصائد، فإذا طلب من القاصعاء خرج من النافقاء برأسه، ومنه سمي المنافق؛ لأنه يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه، وإنما جاء بالتقصيع مصدراً ليشير إلى أن الاستعارة في قصع تبعيةٌ، ورشح الاستعارة بأن ضم التنفق والحبل التؤام إليها. وأما وجه مناسبة القفا فهو أن سوء الخلق من الحمق. والحمق ينسب إلى القفا كما يقال: فلانٌ عريض القفا، ويروى: إنك لعريض الوساد، وفيه أنها مبالغةٌ في سوء الخلق بعيدة النزوع عنه، وأنه مثل الحارس الماهر حيث يعلم استخراج الصيد من مكامنه بلطائف الحيل والأسباب المتناسبة. قوله: (ما معنى [قوله: ] (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)؟ )، وفي بعض النسخ: (فما معنى) بالفاء، يعني: هب أنك حملت (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ) على الترشيح لكونه ملائماً للمستعار منه، فما معنى قوله: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فإنه معطوفٌ عليه ولا يصلح أن يكون ترشيحاً؛ لأنه غير ملائمٍ للمستعار منه، وأجاب: أنه وإن لم يصلح أن يكون ترشيحاً للاستعارة لكن يصلح أن يكون تجريداً لها؛ لأنه يحسن أن يوصف التاجر بأنه ليس مهتديًا لطرق التجارة، فكما أن مطلوب التجار في متصرفاتهم الربح، كذلك مطلوبهم سلامة رأس المال، ولا يسلم رأس المال إلا بمعرفة طرق التجارة. وها هنا رأس مالهم التمكن على

سلامة رأس المال، والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس ما لهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة. وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح. وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر دامر؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهدى، والربح حصول الفلاح في الآجل، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلال، فقد أضاعوا الطلبتين. والحاصل: أن هذه الصفقة استتبعت شيئين: أحدهما: الوصف بعدم الربح، والثاني: ظهور عدم الخبرة بصنعة التجارة. والذي يؤكد أن السؤال عن معنى انضمام (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) مع قوله: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ) سؤاله عن معنى (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ) بقوله: ((فما معنى ذكر الربح والتجارة، وإتيان هذا السؤال بعد الفراغ من ذلك السؤال وجوابه)). ولأجل أن السؤال عن معنى اقتران القرينتين يجب أن يقال: إن قوله (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة عطفٌ على قوله ((لم يوصفوا)) ليطابق الجواب السؤال. فإن قلت: لو كان (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) تجريداً للاستعارة لم قدر ((مهتدين لطرق التجارة))؟ قلت: ليرشدك إلى اكتساب المعطوف من المعطوف عليه معناه بحسب المقام. ومما يدل على أن قوله: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وصفٌ ملائمٌ للمستعار له أنك لو قلت: أولئك الذين استبدلوا الضلالة بالهدى، فما كانوا مهتدين، كان على ظاهره. قال القاضي: رأس مالهم كان الفطرة السليمة، والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختل عقلهم، ولم يبق لهم رأس مالٍ يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل. قوله: (لأن الضال خاسرٌ دامر) تعليلٌ لقوله: ((لم يوصفوا بإصابة الربح)). وقوله: ((ولأنه

ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله: قد ربح، (وما كانوا مهتدين): لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر. [(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)]. لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يقال)) عطفٌ على التعليل، والتقدير: لم يوصفوا بإصابة الربح، ولأنه لا يقال، يعني أن قوله: (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ): إما أن يحمل على الخسران، أو على عدم الربح، وإلى الأول الإشارة بقوله: ((لأن الضال خاسرٌ دامر))، وإلى الثاني بقوله: ((لمن لم يسلم)) إلى آخره لأنه يصح عرفاً أن يقال لمن ضيع رأس ماله: إنه ما ربح، كما يصح أن يقال: إنه خسر. ثم في تخصيص ذكر نفي الربح في التنزيل، مع تضييع رأس المال لطيفةٌ، وهي تصوير خيبتهم، وتخييل فوت مطلوبهم، وفي انضمام (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) إليه تجهيل أمرهم وتسفيه رأيهم وسلب رشدهم. قوله: (لما جاء بحقيقة صفتهم) يعني أن قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8] إلى هنا جارٍ مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين. فلما فرغ منها عقبها ببيان تصوير تلك الحقيقة، وأبرزها في معرض المشاهد المحسوس تتميماً للبيان، ونعم ما قال القاضي: التمثيل إنما يصار إليه لرفع الحجاب عن المعنى الممثل له، ليبرزه في صورة المشاهد ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعةٍ من الوهم؛ لأن من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال.

ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر - شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبىّ، ولأمر مّا أكثر اللَّه في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال اللَّه تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه تبكيت)، الأساس: بكته بالحجة وبكته: غلبه، تقول: بكته حتى أسكته، وبكته: قرعه على الأمر، وألزمه ما عيَّ بالجواب عنه، وبكته بالعصا: ضربه. قوله: (للخصم الألد)، الجوهري: رجل ألد بين اللدد، وهو شديد الخصومة. قوله: (الأبيّ)، الجوهري: أبى فلان: امتنع، فهو آبٍ وأبي وأبيان بالتحريك. وإنما كان كذلك؛ لأن إبراز حاله في صورة المثل أردع له من مجرد تقرير الحجة عليه كما في قصة الخصماء مع داود عليه السلام. قوله: (ثم ثيل للقول السائر)، أي: ثم نقل هذا المعنى إلى القول السائر، أي: المشهور الدائر بين الناس، الذي هو كالعلم للتشبيه، ولأجل كونه علما للتشبيه حوفظ عليه وحمي عن التغيير. قال الميداني: حقيقة المثل: ما جعل كالعلم للتشبيه بالحال الأولى، قال كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيده إلا الأباطيل

الممثل مضربه بمورده: مثل، ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول والقبول، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله "مواعيد عرقوب" علم لكل ما لا يصلح من المواعيد والأعلام لا تتغير. قوله: (الممثل مضربه بمورده)، مورد المثل: هو الحال التي صدر فيها المثل عن مرسله، ومضربه: الحال التي شبهت بها. أي: تشبه حالة مضربه بحالة مورده. مثاله قولهم: "في الصيف ضيعت اللبن". مورد المثل هو: أن دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت تحت عمرو ابن عمرو، وكان شيخا ففركته، فطلقها، ثم تزوجها فتى وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو: "في الصيف ضيعت اللبن"، فذهب مثلا. ومضرب المثل حصول حالة من يطلب شيئا قد فوته على نفسه في أوانه؛ لأن فخواه مشابه لذلك، فيستعار المثل بعينه من غير تغيير، وهو تذكير صيغة "ضيعت" لاستعماله في المذكر، بل يورد هكذا على صيغة المؤنث، وإلا لم يكن عارية لذلك. قوله: (قولاً فيه غرابة) أي: قولاً حاصلاً أو مستقرا فيه الغرابة. قال في "الأساس": يقال: رمى فأغرب، أي: أبعد المرمى، وتكلم فأعرب، إذا جاء بغرائب الكلام ونوادره، وقد غربت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه الكلمة، أي: غمضت فهي غريبة، ومنه: مصنف الغريب. وقال فيه: وهذا كلام نادر: غريب خارج عن المعتاد. واعلم أن غموضة الكلام وكونه نادرًا، إما أن يكون بحسب المعنى، أو اللفظ، أما الأول فأن ترى فيه أثر التناقض، أو التنافي ظاهرًا، مثال الأول في غير المثل قوله تعالى: (ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ) [الأنفال: 17]، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها فعل الله تعالى، فكان الله عز وجل هو فاعل الرمية على الحقيقة، وقوله تعالى: (ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة: 179] قال: كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل طرفًا ومكانًا للحياة. وفي المثل: قول الحكم بن عبد يغوث: رب رمية من غير رام، أثبت الرمي ونفى الرامي. ومثال الثاني ما روي في الحديث: "إن من البيان لسحر" حكم بأن بعض البيان سحر، والمشبه مباح مندوب والمشبه به حرام محظور. وأما الثاني: فأما أن يحصل فيه ألفاظ نادرة لا يستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. يضرب في المجرب الذي يستشفى برأيه وعقله، جذيل: تصغير الجذل، أصل الشجر، المحكك: الذي تتحكك به الإبل الجربى، وهو عود ينصب في مبارك الإبل، والعذيق: تصغير العذق بفتح العين: النخلة، المرجب: الذي جعل له الدعامة بأن يبنى حولها من الحجارة، وذلك إذا كانت كريمة. أو أن يكون فيه حذف أو إضمار كما في قوله: "رب رمية من غير رام"، أي: رب رمية مصيبة من رام مخطئ، أو مراعاة للمشاكلة نحو: كما تدين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تدان، أي: كما تجازي تجازى، أي: كما تعمل تجازى، فسمي الابتداء جزاء، إلى غير ذلك، وهو المراد من قوله: "فيه غرابة من بعض الوجوه" أي: الغرابة في المثل مطلوبة لا من كل الوجوه بل إن حصلت من بعض الوجوه المذكورة صح واستقام. وروى الميداني عن إبراهيم النظام. يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. وزاد ابن المقفع: والوسعة في شعوب الحديث. وقلت: "إن من البيان لسحراً" إذ المعنى أن بعض البيان يعمل عمل السحر لحدة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب له، وأما حسن التشبيه فأن يكون مورد المثل مما له صلاحية الممثل به لحسن موقعه وندرته كما في الحديث. روى الميداني: أن عمرو بن أهتم، والزبرقان وفدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرًا عن صاحبه فقال: مطاع في أدنيه، شديد العارضة مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان: إنه ليعلم مني أكثر من هذا، ولكنه حسدني، فقال: أما والله إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، أحمق الولد، لئيم الخال، والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة، ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما عملت، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا". يضرب في استحسان المنطق وإيراد الحجة البالغة، وفيه أيضًا معنى قول ابن المقفع: والوسعة في شعوب الحديث.

فإن قلت: ما معنى (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)؟ ، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا، وكذلك قوله: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما جودة الكناية، وهي أخذ الزبدة والخلاصة منه، فينبغي أن يكون صحيحًا مشروطًا فيه ما شرط في وجه التشبيه، كما في قوله: "رب رمية من غير رام". فإنه كالعلم لكل من أصاب في شيءٍ ولم يكن أهلاً له، والله أعلم. قوله: (ما معنى (مَثَلُهُمْ)) أي: كيف قال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] والمثل كما علم إما بمعنى النظير لغة، أو بمعنى القول السائر اصطلاحًا، فأين ذلك النظير أم أين القول السائر حتى يشبه أحدهما بالآخر؟ قوله: (وما مثل المنافقين؟ ) عطف تفسيري على قوله "ما معنى"، وخلاصة الجواب: أن المثل بعد النقل استعير لمعنى الحال أو القصة. فهو مجاز بعد النقل. قوله: (إذا كان لها شأن) "إذا" في أكثر النسخ مغير بإسقاط الألف، ولا حاجة إليه؛ لأن "إذا" يرد أيضًا لمجرد الظرفية، فلا بأس أن يعمل "قد استعير" فيه وإن كان للمعنى. قال صاحب التخمير: قال الإمام عمر الجنزي: فاوضت جار الله في قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى) [النجم: 1] ما العامل في الظرف؟ أعني "إذا". فقال: العامل فيه ما تعلق به "الواو"، فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟ وهذا لأن معناه: أقسم الآن، وليس معناه: أقسم بعد هذا، فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف وتقديره: وهوي النجم إذا هوى. فعرضته

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد: 35]، أى وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها؛ (وللَّه المثل الأعلى) [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة. (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح: 29] أي: صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت: وضع الذي موضع الذين، كقوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة: 69]، والذي سوّغ وضع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على زين المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني، والوجه: أن "إذا" قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا حمر البسر؛ لأن معناه: آتيك وقت احمراره، فقد عري عن معنى الاستقبال، لأنه قد وقعت الغنية بقولك: آتيك. قوله: (فلان مثلة في الخير والشر)، "في الخير والشر" يتعلق "بقالوا" لا بمثلة، أي: يستعملون هذه اللفظة في الخير والشر، لكن استعماله في معنى الخير قليل، ومنه قول الحريري: أنا في العالم مثله ... ولأهل العلم قبله قوله: (فاشتقوا) عطف على "قالوا" على التعقيب؛ عطف (فَاقْتُلُوا) على (فَتُوبُوا). قوله: (وخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) [التوبة: 69]) هذا إذا جعل ضمير الفاعل للذي.

"الذي" موضع "الذين"- ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران: أحدهما: أنّ «الذي» لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة، وتكاثر وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالا بصلته، حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. والثاني: أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون. وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: خضتم مشبهين بالذين خاضوا، أو خوضًا مثل خوض الذين خاضوا، وإذا جعل الضمير العائد محذوفا وجب أن يكون "الذي" على بابه، أي: وخضتم خوضًا مثل الذي خاضوه. فإن قلت: ليس قوله: (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] مثل (كَالَّذِي خَاضُوا) لاختلاف صلتيهما مفردًا وجمعًا، وقرينة التخفيف في المستشهد جمع الصلة. قلت: سيجيء أن الآية بحسب عود الضمير من (بِنُورِهِمْ) إلى الموصولة يحتمل أمرين، فيجوز أن يحمل على الوجه الضعيف للتخفيف، على أن الآية التي نحن بصددها إذا حمل على التشبيه المفرق يوجب تقدير الجمع. قال أبو البقاء: (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أراد "الذين"، فحذف النون لطول الكلام بالصلة، ومثله: (والَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ) ثم قال: (أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) [الزمر: 33]. قوله: (نهِكوه) بالكسر، صح عن نسخة الأصل. الجوهري: نهك، أي: دنف وضني. قال في "المفصل": ولاستطالتهم إياه بصلته مع كثرة الاستعمال خففوه من غير وجه، فقالوا: "اللذ" بحذف الياء، ثم "اللذ" بحذف الحركة، ثم حذفوه رأسًا واجتزوا عنه بالحرف الملتبس به، وهو لام التعريف، وأورد بأن الذي بكمالها للتعريف، واللام بانفرادها للتعريف. قوله: (وإنما ذاك علامة) قيل: يريد أن لفظة "الذي" كما تصلح للمفرد تصلح أيضًا للجمع

ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع، والواحد فيهن واحد. أو قصد جنس المستوقدين. أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا. على أنّ المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ونحوه قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة: 5]، وقوله: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد: 20] ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها. ومن أخواته: وقل في الجبل إذا صعد وعلا، والنار: جوهر لطيف مضيء حارّ محرق. والنور: ضوءها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة. واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأنّ فيها حركة واضطرابا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كسائر الموصولات مثل "من" و"ما" وغيرهما، فلما ألحق به "الياء" و"النون" اختص بالجمع، ولا كذلك سائر الأسماء التي جمعت بالواو والنون، لأنها بدونهما لا تكون للجمع. قال القاضي: إنما جاز ذلك في "الذي" ولم يجز في نحو: القائم، لأنه غير مقصود، والمقصود الوصف بالجملة التي هي صلته، وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه، فحقه أن لا يجمع كما لم تجمع أخواتها. قوله: (على أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا) يعني: أن التشبيه واقع في المضاف والمضاف إليه معًا، لا في المضاف إليه وحده، والتطابق من هذا الوجه حاصل كما في الآية المستشهد بها أولاً، وفي الثانية التشبيه واقع في النظرين وما يتصل بهما، لا فيما يتصل بهما وحده. قوله: (وذواتهم)، وفي أكثر النسخ بكسر التاء، وفي بعضها بالفتح. وجهه: أنه قال في "المغرب": ذو بمعنى الصاحب يقتضي شيئين: موصوفًا ومضافًا إليه، تقول للمؤنث: امرأة ذات مال، وللثنتين ذواتا مال، وللجماعة ذوات مالٍ، هذا أصل الكلمة ثم اقتطعوا عنها مقتضيها،

والنور مشتق منها. والإضاءة. فرط الإنارة. ومصداق ذلك قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس: 5]، وهي في الآية متعدية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها غير المقتضية لما سواها، فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ونسبوا إليها كما هي من غير تغيير علامة التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتية، واستعملوها استعمال النفس والشيء، وعن أبي سعيد: كل شيءٍ ذات، وكل ذاتٍ شيءٍ. وقال في الكواشي في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ) [النساء: 23]: بناتكم: جمع بنتٍ، فلام الكلمة محذوف والتاء عوض منه وليست بتاء تأنيث؛ لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها ومع ذلك فتكسر تاء بنات في حالة النصب تشبيها لها بما في آخرها تاء التأنيث كمسلماتٍ. إلا يونس فإنه يقول: رأيت بناتك فتحًا يجعلها كالتاء الأصلية. قوله: (والنور مشتق منها) أي: من النار. الراغب: النور والنار: أحدهما مشتق من الآخر من حيث إنه قلما ينفك أحدهما عن الآخر، ولهذا قال: (نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) [الحديد: 13] فاستعمل فيه الاقتباس الذي هو للنار. قوله: (وهي في الآية متعدية) فعلى هذا الهاء موصولة مفعول به، أي: أضاءت النار ما حول المستوقد ويجوز أن تكون غير متعدية فيسند لفعل ما إلى "ما" على تأويل: أضاءت الأماكن التي حول المستوقد، أو يسند إلى ضمير النار، فعلى هذا ينتصب (مَا حَوْلَهُ) على الظرفية أي: أضاءت النار في الأمكنة التي حول المستوقد، وإنما أضاء إشراق النار فيما حوله

ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى (ما حوله). والتأنيث للحمل على المعنى لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة (ضاءت). وفيه وجه آخر، وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار. ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها، على أنّ ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة. و (حَوْلَهُ) نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة. وقيل للعام: حول لأنه يدور. فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن جوابه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. والثاني: أنه محذوف كما حذف في قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ). وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا هي نفسها لكن يجعل إشراق ضوء النار بمنزلة إشراق النار في نفسها؛ لأن ضوء النار لما كان محيطا بالمستوقد مشرقا فيما حوله غاية الإشراق، أسند الفعل إلى النار نفسها إسنادًا للفعل إلى الأصل كقولهم: بنى الأمير للمدينة. قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف: 15] وجوابه المحذوف: فعلوا به ما فعلوا من الأذى. قوله: (بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى) يعني لو صرح بالجواب على ما يقتضيه حال مستوقد نار أضاءت ما حوله، أوهم أن ذلك محصور، ولما حذف أشعر بأن الأمر بلغ من الفظاعة والشدة إلى ما لا يدخل تحت الوصف، وهذا من السحر البياني، لأنه آذن بأن الإيجاز استقل بمعانٍ لا يستقلها الإطناب، لكن في كلامه تسامح، لأنه قدر المحذوف ما لو صرح به لما اجتزئ به، فيجب أن يقدر بعد قوله: "بعد الكدح في إحياء النار" وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوصف كما قال في قوله تعالى: (حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73]: حذف جواب "إذا"، لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف.

فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار. فإن قلت: فإذا قدّر الجواب محذوفا فبم يتعلق (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)؟ قلت: يكون كلاما مستأنفاً. كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وللواحدي في هذا المقام كلام حسن، فلابد من التعرض له، قال: مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا كلمة الإيمان، واستناروا بنورها، واعتزوا بعزها، وآمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب، كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا. فمعنى إذهاب الله نور المنافقين هو أن يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة، وكان من حق ظاهر النظم أن يكون اللفظ: "فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره"، ليشاكل جواب "لما" معنى هذه القصة. ولما كان إطفاء النار مثلا لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء، وجعل جواب "لما" اختصارًا وإيجازًا. وقلت: على هذا التقدير في هذا التمثيل إيجازان: أحدهما: إيجاز في الشطر الأول من الممثل له، وهو مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا كلمة الإيمان، واستناروا بنورها واعتزوا بعزها، وآمنوا فناكحوا المسلمين ووارثوا وأمنوا على أموالهم وأولادهم حيث اقتصر على قوله: (مَثَلُهُمْ) لدلالة الشطر الأول من الممثل به عليه وهو قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) [البقرة: 17]. وثانيهما: إيجاز في الشطر الثاني من الممثل به وهو قوله: فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقى مظلمًا خائفًا متحيرًا، حيث لم يذكر منه شيئًا، واكتفى بذكر الشطر الثاني من الممثل له وهو قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) [البقرة: 17]. قوله: (بعد الكدح) مستفاد من السين في قوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا).

اعترض سائل فقال: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب اللَّه بنورهم. أو يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان. فإن قلت: قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني؟ قلت: مرجعه الذي استوقد لأنه في معنى الجمع. وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في: (حَوْلَهُ)، فللحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إلى اللَّه تعالى في قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)؟ قلت: إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر، فقد أطفأها اللَّه تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها اللَّه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يكون بدلاً من جملة التمثيل) أي: يكون تفسير المجموع قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) خمدت فبقوا متحيرين متحسرين؛ لأن حاصله وتلخيصه: ذهب الله بنور المنافقين، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، والبدل كما علم في "الفاتحة" كالبيان والتفسير للمبدل. قوله: (قد رجع الضمير في هذا الوجه) يعني: إذا كان الجواب محذوفًا، وكان (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) استئنافًا، أو بدلاً، يرجع الضمير في (بِنُورِهِمْ) إلى المنافقين، وأما إذا كان الجواب (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لا يجوز أن يرجع إليهم، ولا بأس في تسميته بالوجه الثاني وإن كان مذكورًا أولاً؛ لأن كلا من الوجهين ثانٍ للآخر، كقوله تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغَارِ إذ) [التوبة: 40] أي: مصيرهما، ونظيره قوله في قوله تعالى: (وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ) [المائدة: 6]: "فعطفت- أي: الأرجل- على الرابع المسموح". قوله: (فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى) دلت "الفاء" على إنكار أن يكون (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) جوابًا، يعني إنما جاز إسناد إذهاب نور المنافقين إلى الله تعالى؛ لأنه جزاء لفعلهم، وأما إسناد إذهاب نور المستوقدين فلا يجوز لكونه عبثًا والعبث قبيح، بناء على مذهبه.

ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله: (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) [المائدة: 64]، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العبث، فأطفأها اللَّه وخيب أمانيهم. فإن قلت: كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتلخيص الجواب: أن الإسناد في قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) إذا جعل مجازيًا يجوز أن يحمل قوله: (الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) على نار أوقدها بعض الناس للانتفاع بها من نحو الاستدفاء وإضاءة ما حوله وغير ذلك، فأطفأها ريح أو مطر، وإنما جاز إسناده إلى الله تعالى لأنه سبب بعيد، وإذا جعل الإسناد حقيقة احتمل أن يراد بالنار نار الفتنة، وأن يراد نار حقيقية أو قدها الغواة، بناء على أن إطفاء تلك النيران مستحسن في العقول. وقال القاضي: معنى الإسناد إلى الله تعالى أن الكل بفعله، إذا طفئت النار بسبب سماوي. يريد أن الإسناد مجازي على طريقة: هزم الأمير الجند. قوله: (نارًا مجازية) وعلى هذا حصل التداخل بين التشبيه والمجاز، فأدخل الاستعارة في المشبه به، كما أدخل التشبيه في قوله: "كأن أذني قلبه خطلاوان"، في الاستعارة هناك، وجعله ترشيحًا لها كما مر. وأما قوله: (وتلك النار متقاصرة) فموضوع موضع يطفئها الله سريعًا، يدل عليه قوله: (أَطْفَأَهَا اللَّهُ) في قوله: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ) [المائدة: 64].

هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره. فإن قلت: هلا قيل ذهب اللَّه بضوئهم؟ لقوله: (فَلَمَّا أَضاءَتْ)؟ قلت: ذكر النور أبلغ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب اللَّه بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المجاز المرشح) يريد أنه لما استعار لإثارة الفتنة لفظ النار قفاها بالإضاءة، فإنها صفة ملائمة لها. قوله: (والغرض إزالة النور) والحاصل: أن نفي القليل يوجب نفي الكثير، دون العكس، وفي معناه: (فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23]. قال صاحب "الفلك الدائر": هذا غير صحيح، فإنا تصفحنا كتب اللغة فلم نجدها شاهدة لما ذكر ولا الاصطلاح العرفي مساعد له. وقال ابن السكيت- وإنه ثقة بالإجماع- في كتاب "إصلاح المنطق"، في باب فعل وفعل بكسر الفاء وضمها مع سكون العين باختلاف المعنى: النير: علم الثوب، والنور: الضياء فجعلهما شيئًا واحدًا، وليس في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والْقَمَرَ نُورًا) [يونس: 5] ما يدل على الاختلاف. والجواب عن قوله: إن ابن السكيت جعلهما شيئًا واحدًا؛ هو أن ابن السكيت بين معناه الحقيقي بحسب الوضع لا الاستعمال، وقد تقرر في أول هذه الآية، أن هذا الاعتبار بحسب الاستعمال، وحيث قال: ومصداق ذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) الآية [يونس: 5]، وأن الأصل ما ذكره ابن السكيت.

ألا ترى كيف ذكر عقيبه (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ)! والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه، وكيف جمعها، وكيف نكرها، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله (لا يُبْصِرُونَ). فان قلت: فلم وصفت بالإضاءة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال في "الأساس": أشرق ضوء الشمس وضياؤها وأضواؤها، وقولهم: فلان أضوأ من الشمس وأنور من البدر. وأما قوله: ليس في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والْقَمَرَ نُورًا) [يونس: 5] ما يدل على الاختلاف، فيقال له: أفلا تقابل الآية بقوله تعالى: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 12] وقوله تعالى: (وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح: 16] حتى يعلم الاختلاف للاستعمال! قوله: (ألا ترى كيف ذكر عقبيه ... وكيف جمعها، وكيف نكرها) كرر "كيف" ليؤذن باستقلال كل واحد من المذكورات فيما قصد إليه، أي: أنها ظلمات متكاثفة بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل، وأنها ظلمات لا يكتنه كنهها. ثم قوله: (لاَّ يُبْصِرُونَ) كالتتميم والإيغال كقولها: كأنه علم في رأسه نار وجعله بمنزلة اللازم من قبيل: فلان يعطي ويمنع. قوله: (فلم وصفت بالإضاءة) الفاء تدل على إنكار الكلام السابق. ومبنى سؤاله السابق "هلا قيل: ذهب الله بضوئهم"، هو أن المجاوبة بين صدر الكلام وعجزه مطلوبة، فلما قيل:

قلت: هذا على مذهب قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح. والفرق بين أذهبه وذهب به: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أَضَاءَتْ) فالمناسب أن يقال: بضوئهم، ليكون من باب رد العجز على الصدر، وأجاب عنه بأن مراعاة تلك النكتة- وهي إزالة النور بالكلية- اقتضت المخالفة، ثم سأل ثانيا على الإنكار: "فلم وصفت بالإضاءة؟ " يعني إذا كان الغرض إزالة النور بالكلية، وأنه لو قيل: ذهب الله بضوئهم، لم يحصل الغرض، فما الذي استدعى وصف النار بالإضاءة دون الإنارة، إذ لو قيل: فلما أنارت ما حوله لحصل المقصود أيضًا وتجاوب النظم؟ وأجاب بما معناه: أنه أدمج في الكلام معنى الباطل، وتحريره: أن سياق الكلام كان في إثبات ضوء أو نور كيف ما كان، ثم إزالته ليحصل غرض التمثيل، ففي إيراده على هذه الطريقة إشعار بمعنى البطلان أيضًا، فإنه ثبت عند ذوي البصائر وأرباب النهى قوة ظهور الباطل في بدء الحال ثم اضمحلاله سريعًا في المآل، فقيل: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ) ليثبت أولاً الإفراط في إشراق النار ثم (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) ليثبت التفريط فيه ثانيًا، ليكون على وزان قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل. وفي هذا التقرير إيذان بأن الواجب أن يحمل التنكير في قوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا) على التعظيم والتهويل، وأن يجعل الإسناد في "أضاءت" للنار على المجاز، كما سبق. قوله: (ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح) أي: هذا اللفظ وهو نار العرفج، علم لهذا المعنى وقد أسلفنا أن حقيقة المثل: ما جعل علما للتشبيه لحال الأول، فإن نار العرفج علم لحال من تراه يخوض في أمر مع شرهٍ قويٍّ، ثم تراه ينخفض عنه سريعًا. والعرفج: شجر ينبت في السهل، الواحدة عرفجة. والنزوة: الطفرة، ومنه: نزا الذكر على الأنثى، والطماح: الشره. قوله: (والفرق بين أذهبه وذهب به) وقد ذهب إلى هذا الفرق أبو العباس المبرد، ذكره الحريري في "درة الغواص". قال صاحب "المثل السائر": كل من ذهب بشيء فقد أذهبه،

أن معنى "أذهبه": أزاله وجعله ذاهبا. ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله: أخذه (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ)، (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون: 91]. ومنه: ذهبت به الخيلاء. والمعنى: أخذ اللَّه نورهم وأمسكه، (وما يمسك فلا مرسل له) [فاطر: 2]، فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني: أذهب اللَّه نورهم) ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس كل من أذهب شيئًا فقد ذهب به، لأن قولنا: ذهب به يفهم منه أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، وليس كذلك "أذهبه". وقال صاحب "الفلك الدائر": وفيه نظر؛ لأن كلا اللفظين يدلان على معنى واحد؛ لأن الأفعال اللازمة تعدى تارة بحرف الجر، وأخرى بالهمزة، كما تقول: أخرجت زيدًا من البلد، وخرجت بزيد منه، وليس معنى الثاني أنك أخرجت زيدًا واستصحبته معك، وكذا عن صاحب "الضوء" أنه قال: ويكون للتعدية إلى معنى آخر، وها هنا لم يفد شيئًا سواها. والجواب: أنهما وإن اشتركا في معنى التعدية، لكن لم قلت: إنهما مشتركان في تأدي معنى واحد؟ وهل النزاع إلا في هذا؟ فإن الهمزة ها هنا للإزالة والباء للمصاحبة، وصاحب المعاني لا ينظر إلا إلى الفرق بينهما، واستعمال كل منهما في مقامه، لا إلى التعدية نفسها فإن البحث عنها وظيفة النحوي. ويؤيده ما قاله المصنف في "الأعراف": "فإن قلت: كيف قيل: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف: 17] بحرف الابتداء (وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَن شَمَائِلِهِمْ) [الأعراف: 17] بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به، فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك، اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه، وعلى يمينه، وعن شماله، وعلى شماله،

و"ترك": بمعنى طرح وخلى، إذا علق بواحد، كقولهم: تركه ترك ظبى ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة: فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلنا: معنى "على يمينه" أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى "عن يمينه"، أي: جلس متجافيا عن صاحب اليمين، منحرفًا عنه غير ملاصق له". وقال في "طه": "ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) [طه: 10]: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه- في مررت بزيدٍ-: إنه لصوق بمكانٍ يقرب من زيد". قوله: (ترك ظبي ظله) أي: كناسه الذي يستظل به في شدة الحر، فيأتيه الصائد فيثيره فلا يعود إليه أبدًا، يضرب فيمن ترك الأمر تركًا لا يعود إليه أبدًا. قاله الميداني. قوله: (فتركته جزر السباع ينشنه) تمامه: ما بين قلة رأسه والمعصم قبله: فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمجرم وروي: فتركنه بالنون، والضمير "للقنا" وفي رواية: يقضمن حسن بنانه والمعصم. الجزر: جمع الجزيرة، وهي الشاة التي أعدت للذبح، والنوش: التناول، والقضم: الأكل بمقدم الأسنان. يقول: صيرته طعمة للسباع، أي: قتلته فجعلته عرضة للسباع حتى تناولته وأكلته بمقدم أسنانها.

ومنه قوله: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) أصله: هم في ظلمات، ثم دخل ترك فنصب الجزأين. والظلمة: عدم النور. وقيل: عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أى ما منعك وشغلك، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن (ظلمات) بسكون اللام وقرأ اليماني (في ظلمة) على التوحيد. والمفعول الساقط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه قوله: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) يوهم أن تقدير الآية مقصور على هذا الوجه دون الأول، ولكن جاء في "الأمالي" عن ابن الحاجب: أن على الأول مفعول "ترك": "هم"، و (فِي ظُلُمَاتٍ) و (لاَّ يُبْصِرُونَ) حالان مترادفان من المفعول، فيقال: إن المصنف إنما ترك ذكره لظهوره، والوجه الثاني: لما كان متضمنا لفائدة التضمين وعلى قاعدة وأصل في الإعراب وهي: أن بعض الأفعال التي تقتضي مفعولين مبنية على أصل الأخبار. وقال ابن الحاجب: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) كقولك: صيرت زيدًا عالمًا فاضلاً، لأنها في معنى الأخبار، فكما جاز تعدد الأخبار جاز تعددها، ويجوز أن يكون الأول هو المفعول، والثاني حالاً من الضمير في قوله "تركهم" أي: تركهم مستقرين في ظلماتٍ في حال كونهم لا يبصرون، ويجوز أن يكون الأول حالاً، والثاني هو المفعول، أي: صيرهم غير مبصرين في حال كونهم في ظلمات. قوله: (والظلمة عدم النور) وزاد الإمام: عما من شأنه أن يستنير. قوله: (وقيل: عرض ينافي النور) فعلى هذا الظلمة أمر وجودي، ويدل عليه قوله تعالى: (وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ) [الأنعام: 1].

من (لا يبصرون) من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنّ الفعل غير متعدّ أصلا، نحو (يَعْمَهُونَ) في قوله: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام: 110]. فإن قلت: فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت: في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورّطوا في حيرة. فان قلت: وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيم شبهت حالهم بحال المستوقد) والذي عليه المعنيون بشأن هذا الكتاب: أن السؤال عن وجه التشبيه؛ قالوا: المعنى ما وجه التشبيه؟ ثم بين الوجه من ثلاثة أوجه، ولما ذكر الوجه الأول من تلك الوجوه، أورد سؤالاً وأجاب عنه، ثم شرع في الوجهين الأخيرين فتدبر، وقالوا: إن الضمير في "أنهم غب الإضاءة" للمستوقدين، والذي نذهب إليه: أن السؤال عن المشبه، ومورده قوله السابق: إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد، وأن الضمير للمنافقين، وإن كان ظاهر اللفظ يشعر بأن السؤال عن الوجه فافهم، فإن هذا المقام من مزال الأقدام. فإذن المعنى: في أي حال من أحوال المنافقين وقع التشبيه بحال المستوقد؟ فإن حالات المنافقين فيها كثيرة كما سبقت من ابتداء ذكرهم إلى أن انتهت إلى ما نحن بصدده، فلا بد من تخصيص بعضها بهذا التشبيه، ولهذا وقع الاختلاف في الجواب وتعدد الوجوه، ولا كذلك إذا كان السؤال عن الوجه. ثم نقول: إنا لو فرضنا أن يكون هذا السؤال عن الوجه، فلا يخلو: إما أن يكون هذا التشبيه مفرقًا أو مركبًا كان الوجه ما ذكره صاحب "المفتاح"، حيث قال: وجه تشبيه المنافقين بالذين شبهوا بهم في الآية هو رفع الطمع إلى تيسير مطلوبهم بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقيب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب.

ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمى بهم إلى ظلمة سخط اللَّه وظلمة العقاب السرمد. ويجوز أن يشبه بذهاب اللَّه بنور المستوقد اطلاع اللَّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس في الأجوبة التي أوردها المصنف ما يدل على ذلك، ولا على ما يقاربه، وأما إذا كان مفرقًا، فالوجه في غاية الظهور، فلا يحتاج إلى السؤال والجواب كما في بيت امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا لدى وكرها العناب والحشف البالي لأن الوجه فيه متعدد بحسب تعدد المشبه والمشبه به، واستخراجه سهل، على أن السؤال من الوجه إنما يحسن إذا تعين الطرفان، وها هنا المشبه غير معلوم؛ لأن في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] المشبه مثلهم وليس فيه ظاهرًا ما يصح أن يقابل بما في المشبه به، فوجب السؤال عنه، ولمثل هذا المعنى أورد في التمثيل الثاني: "قد شبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد نارًا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات؟ "، ثم أعرض عن هذا السؤال بقوله: "والصحيح أن التمثيلين من التمثيلات المركبة". وأما بيان كون الاختلاف في الجواب دالا على المدعى، فهو أن قوله: "في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة، وتورطوا في حيرة" لا يصلح أن يكون وجهًا في التشبيه المركب والمفرق؛ لما تقرر أن الوجه أمر مشترك يعم الطرفين، وها هنا ليس كذلك، لأنه لا يخلو من أن تكون الإضاءة فيه حقيقة أو مجازًا، فإن كان حقيقة فتختص بالمستوقد، وإن كان مجازًا فبالمنافق، وعلى التقديرين لا يكون مشتركًا، فلا يكون وجها فيجب حمله على أحدهما، فخصصناه بالمنافقين على المجاز، ليكون مشبهًا، فيرد عليه سؤاله: "وأين الإضاءة في حال المنافق؟ " وينطبق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه الجواب المراد: "ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم" إلى آخره فإنه في بيان مجاز المشبه. وأما الجواب الثاني، وهو قوله: "ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد" إلى آخره، والثالث وهو قوله: "والأوجه أن يراد الطبع" فمن الدلائل القاطعة على ما قصدناه. بيان الوجه الثاني: أن المشبه بالاستضاءة هو انتفاعهم من المؤمنين بالمتاركة والإعفاء عن المحاربة، والإحسان إليهم، وإعطائهم الحظوظ من المغانم، وبذهاب الله بنور المستوقد إذهاب الله ذلك الانتفاع بكشف أسرارهم وافتضاحهم بين المؤمنين بإطلاعهم على أفعالهم، فيكون الاطلاع على النفاق مترتبًا على الانتفاع، كما أن الذهاب مترتب على الإضاءة في حال المستوقد. ويفترق هذا الوجه من الوجه الأول في إرادة معنى (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) دون الإضاءة والانتفاع، فإن المراد بالإضاءة في الوجهين الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، وبالإذهاب في الأول ظلمة العقاب، وفي الثاني إطلاع الله المؤمنين على أسرارهم. وبيان الوجه الثالث: هو أن المشبه بالاستضاءة هو الانتفاع المذكور، وبالإذهاب الطبع المرتب على عدم منح الألطاف، وتركهم على ما هم عليه، فإنه سبب لتراكم الرين والطبع على قلوبهم، فصح إيقاع الطبع مشبهًا، وأنه بمنزلة إذهاب النور في طرف المشبه به، لأن نورهم، أي: انتفاعهم لما كان سببًا عن إظهارهم الإيمان وموافقتهم المسلمين في الظاهر، وكان تركهم على هذه الحالة سببًا لتراكم الرين فكلما ازداد الرين، قل الانتفاع والإضاءة، إلى أن ينتهي الرين إلى الطبع، فحينئذ لم يتمالكوا أن يجروا على ألسنتهم كلمة الإيمان، قال الله تعالى: (قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران: 116] فانقطع لذلك الانتفاع بالكلية، فصح التشبيه، هذا على تقدير أن يكون (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) جزاء الشرط والضمير للمستوقدين، وأما إذا قدر الجزاء محذوفًا، تكون دلالة "ذهب الله" على هذا المعنى دلالة النائب على المنوب.

على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق. والأوجه أن يراد الطبع، لقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وفي الآية تفسير آخر: وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب اللَّه بنورهم وتركه إياهم في الظلمات. وتنكير النار للتعظيم. كانت حواسهم سليمة ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما افتضحوا) قيل: هو عطف على "اطلاع الله". وأما الجواب الرابع وهو قوله: "وفي الآية تفسير آخر" فكذا يقوي قولنا: إن تقدير السؤال: في أي حالة من حالات المنافقين وقع التشبيه؟ فإن حالات المنافقين فيها كثيرة. تقريره: أن تلك الأجوبة كانت مبنية على أن المراد من الحال المسؤول عنها ما يعلم من تفسيره قوله: () حيث قال: "كانت صورة صنيعهم مع الله- حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون- صورة صنع المخادعين، وصورة صنع الله معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع" إلى آخره. وهذا الجواب مبني على أن الحالة التي وقع التشبيه فيها هي ما في الآية السابقة وهي قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى) [البقرة: 16]. ألا ترى كيف صرج بالمشبه والمشبه به بقوله: "ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة"! فالحق أن هذا جواب ثان، والجواب الأول متفرع عليه الوجهان. قوله: (والأوجه أن يراد الطبع) لما أن قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة: 18] واقع استئنافًا على بيان الموجب. قوله: (كانت حواسهم سليمة)، الراغب: الصم: صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل: حجر أصم وصخرة صماء، وقيل لرأس القارورة: الصمام، والبكم: اعتقال اللسان، وأصله فيمن يولد أخرس، والعمى قد يقال في عدم البصيرة والبصر جميعًا، فمن ترك الإصغاء إلى

ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله: صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإنْ ذُكِرْتُ بسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ أَصَمُّ عَنِ الشَّىْءِ الَّذِى لا ارِيدُهُ ... وأَسْمَعُ خَلْقِ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكمة الربانية، وأعرض عن الطريق الأخروية واشتغل عن تعرف حالهما، ولم ينعم تدبرهما، صح أن تستعمل هذه الألفاظ فيه، والآية مبنية على الآية الأولى ومفسرة بحسب تفسيرها. قوله: (وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم) زاد في العبارة في هذا القسم، وأكد فيه، حيث بين النظر بالتبصر وصرح بذكر العين، وبناه من التفعل؛ لأن بديهة النظر لا تجدي ألبتة، والنظرة الأولى حمقاء، فلابد من بناء ثان على الأول، وإعمال التفكير فيه لينتفع به. قوله: (إيفت) أي: صارت ذا آفةٍ. الجوهري: الآفة: العاهة. وقد إيف الزرع، أي: أصابته آفة فهو مؤوف مثال معوف، والبنى: بالضم مقصورة مثل البنى يقال: بنية وبنى، وبنية وبنى. قوله: (أذنوا) هو من: أذنت الشيء أذنا، إذا أصغيت إليه، وأنشد الجوهري قبلة لقعنب: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا ... مني، وما أذنوا من صالح دفنوا

فأَصمَمتُ عَمْراً وأَعْمَيتُهُ ... عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار، فإن قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت: طريقة قولهم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأصممت عمرًا) البيت. أي: وجدته أصم، "وأعميته"، أي: وجدته أعمى. قوله: (كيف طريقته) قيل: أي: هو حقيقة أم مجاز؟ ثم إن كان مجازًا، أهو من باب التمثيل أو الاستعارة؟ وليس بذاك، بل توجيه السؤال أن يقال: ذكرت أن قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة: 18] ليست على ظواهرها؛ لأن حواسهم كانت سليمة، وأنها محمولة على تلك المعاني، فمن أي أسلوب هو في البيان؟ فأجاب: إنه من باب التشبيه، ثم أورد عليه أن مبنى التشبيه أن يذكر طرفاه، وهو المشبه والمشبه به، فهل يسمى استعارة أم لا؟ فأجاب بأنه لا يسمى استعارة؛ لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون، ثم منع هذا التعليل بقوله: "طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ" وتقريره: أنه ثبت في البيان أن شرط الاستعارة أن يكون المشبه المتروك مطويًا في جملة وقعت الاستعارة فيها، فلو ذكر في غيرها من الجمل لا يضرها، ألا ترى إلى قوله: قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس فإن قوله: "شمس تظللني" عد استعارة، وإن علم من السابق أنه تشبيه، كذا ها هنا هذه الجملة معراة عن ذكر المشبه، وإن علم مما سبق ذكرهم، فانسلق إلى أنه استعارة، وإليه الإشارة بقوله: "طوى ذكرهم عن الجملة". وأجاب أن المطوي في حكم المنطوق؛ لأن الكلام لا يتم إلا به، بخلافه في البيت، فإن تلك الجملة مستقلة.

هم ليوث؛ للشجعان، وبحور للأسخياء. إلا أنّ هذا في الصفات، وذاك في الأسماء، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعاً. تقول: رأيت ليوثا، ولقيت صما عن الخير، ودجا الإسلام، وأضاء الحق. فإن قلت: هل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه. والمحققون على تسميته تشبيها بليغاً لا استعارة؛ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم ليوث للشجعان، وبحور للأسخياء) أي: تشبيه بحذف الأداة، والوجه كأنه قيل: هم كالليوث وكالصم إلا أن الفرق بينهما من حيث الاسم والصفة، وكما جاءت الاستعارة على الأصالة في الأسماء وعلى التبعية في الصفات والأفعال كذا تجيء في التشبيه؛ لأن مبنى الاستعارة على التشبيه فقوله: "رأيت ليوثًا ولقيت صما، ودجا الإسلام، وأضاء الحق" استعارات لا تشبيهات، فإذا جوز ذلك في الفرع، ففي الأصل بطريق الأولى. قوله: (ودجا الإسلام)، الأساس: ومن المجاز ثوب داج: سايغ غطى جسده كله، وثوب الإسلام داج. قوله: (تشبيهًا بليغًا) وذلك أن حق التشبيه ذكر أركانه الأربعة: المشبه والمشبه به، وأداته ووجهه، وحين لم يذكر ها هنا الأداة دل على الحمل، ولما لم يذكر الوجه دل على العموم. وأما حذف المسند إليه، فيه بلاغة أم لا؟ فمذهب صاحب المفتاح: لا، لكون المقدر كالملفوظ، لكن لا يخلو من نوع مبالغة، فإن دلالة المسند على المسند إليه المقدر في نحو: أسد علي وفي الحروب نعامة قريب من نحو دلالة الأسد على الشجاع في قولك: رأيت أسدًا يرمي، ولهذا اختلف فيه.

لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير: لَدَى أَسَدٍ شَاكِى السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يطوى ذكر المستعار له) ليس بكلي؛ لأن ذلك مشروط في الاستعارة المصرحة، أما المكنية فبخلافه. قوله: (ويجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه) مبني على القول بالدعاء الذي هو أصل الاستعارة، وإلا فمعنى الحقيقة هو المبادر إلى الفهم عند خلو الكلام عن القرينة، وإلى الاستعارة عند وجودها؛ وذلك أن المتكلم عند إرادة الاستعارة يدعي أولا أن المشبه داخل في جنس المشبه به، وفرد من أفراد حقيقته، فالمستعار كاللفظ المشترك الدائر بين مفهوميه، ولولا القرينة المبينة لم يعلم المراد. قوله: (لدى أسد شاكي السلاح) الشوكة شدة البأس، والحدة في السلاح، وقد شاك الرجل، أي: ظهرت شوكته وحدته، فهو شائك السلاح، وشاكي السلاح مقلوب منه، مقذف: كثير اللحم، ناقة مقذفة مكتنزة اللحم، كأنما قذفت به قذفا. لبد: جمع لبدة، وهي الشعر الذي على رقبته يتلبد. قوله: (أظفاره لم تقلم) أي: براثنه لا يعتريها ضعف، يقال للضعيف: مقلوم الظفر، واجتمع في البيت تجريد الاستعارة مع ترشيحها، والبيت مستشهد به لقيام دلالة الحال على الاستعارة.

ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً. قال أبو تمام: ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ ... بأَنَّ لهُ حاجَةً في السَّمَاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن ثم) تعليل لقوله: ((ويجعل الكلام خلوا عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه)) أي: حقيقة ((والمنقول إليه)) أي: ادعاء، ولأن المشبه داخل في جنس المشبه به فرد من أفراد حقيقة ((يتناسون التشبيه)) في الترشيح كأنه لم يخطر منهم على بال، ولا رأوه ولا طيف خيال. فإن قلت: الكلام في تناسي التشبيه مسوق للاستعارة كما يفهم من كلامه، وهذا تشبيه كما تقرر من مفهوم كلام صاحب المفتاح؟ قلت: ذكره للمبالغة والإيذان بأنهم إذا كانوا مع التشبيه والاعتراف بالأصل يسوغون أن لا يبنوا إلا على الفرع الذي هو المشبه به، فهم إلى تسويغ ذلك مع جحد الأصل في الاستعارة أقرب. قوله: (المفلقين)، الجوهري: الفلق بالكسر: الداهية والأمر العجيب تقول منه: أفلق الرجل، وشاعر مفلق. الأساس: شاعر مفلق يأتي بالفلق وهو الأمر العجيب. قوله: (ويصعد) البيت، والضمير في ((يصعد)) للمدوح، ساق سمو منزلته وارتقاءه

ولبعضهم: لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبالهِ رَجُلًا ... ففِيهِ غَيْثٌ ولَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل وليس لقائل أن يقول: طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدإ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج: أَسَدٌ عَلَىَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدارج الكمال مساق علوه المكاني، واللام في ((الظن)) جواب القسم، والبيت مثال الاستعارة. قوله: (لا تحسبوا) البيت، والبيت مستشهد به من حيث اللفظ كما تقول في شجاع: هذا ليس بإنسان بل هو أسد؛ ألا ترى كيف يفترس ويصول. قوله: (مسبل)، الأساس: أسبل المطر: أرسل دفعة وتكاثف كأنما أسبل سترا. قوله: (فأتسلق)، الجوهري: تسلق الجدار: تسوره. أي ترك التشبيه وارتقى إلى الاستعارة، لأنها تدرج من التشبيه لحذف أحد طرفيه وذكر الآخر، وفي حذف المبتدأ إيهام لتطهيره اللسان عنه. قوله: (أسد علي) البيت، وبعده: هلا حملت على غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر فتخاء: مسترخية الجناح. والصفير: صوت المكاء، والنعام يضرب به المثل في الجبن. قيل: قتل الحجاج شبيبا الخارجي، فحاربته امرأته سنة، وهزمت الحجاج وهي تتبعه، فقيل له ذلك تغييرا، أي: هلا حملت على هذه المرأة في الوغى بل كان قلبك في الوجيب والخفقان كأنه في جناحي الطير.

ومعنى (لا يَرْجِعُونَ): أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلا عليهم بالطبع. أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى (لا يَرْجِعُونَ)) أي: (لا يَرْجِعُونَ) متعلقه محذوف. الأساس: رجع إلى رجوعا ومرجعا ورجعى، ورجعته أنا رجعا. فإما أن يقدر المتعلق ((إلى))، فالرجوع إذن بمعنى الإعادة إلى ما كان، فالمعني: ((لا يعودون إلى الهدي))؛ لأن المراد تمكنهم من الهدي، وإما أن يقدر ((عن)) فالمعنى: ((لا يرجعون عن الضلالة))، فإن المتمسك بالشيء لا يرجع عنه، وإما أن لا يقدر شيء، ويترك على الإطلاق، والوجهان المتقدمان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] والوجه الأخير من قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)، المعني به قوله: ((إنهم غب الإضاءة، خبطوا في ظلمة، وتورطوا في حيرة)). قوله: (تسجيلا عليهم بالطبع) اعلم أن في تفريعه هذا اللفظ على قوله: ((بعد أن باعوه)) أو ((بعد أن اشتروها)) وإيقاعه مفعولا له للقول المقدر، أي: قيل: فهم لا يرجعون، تسجيلا عليهم، دقيقة جليلة ولطيفة سنية، لأنه آذن به أن هذا القول أيضا متفرع على قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] وتتميم لذلك المعنى، نحو قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) وقوله: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)؛ لآن المشتري والبائع إذا بتا المبايعة بحيث لا يكون لأحدهما الخيار والرجوع إلى السلعة كتبا صكا على ذلك، ثم أثبت الحاكم سجله تأكيدا على تأكيد، فهذا هو معنى الطبع، لأن الطبع: تراكم الرين وتزايد في الكفر، فعلى هذا جملة التمثيل كالمعترضة بين التتميم أعني: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة: 18] والمتمم وهو قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ) الآية [البقرة: 16] وعلى الوجه الثاني وهو قوله: ((أو أراد

الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه. [(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*)]. ثم ثنى اللَّه سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنهم بمنزلة المتحيرين"، قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) كالتتميم لجملة التمثيل، ويمكن أن ينظر في الترشيح والتجريد والتتميم معنى الترقي ليشمل جميع شرائط التجارة؛ لأن المقصود من التجارة حصول الربح، وحفظ رأس المال، وهؤلاء في هذه الصفقة أضاعوا هاتين الطلبتين، فعلم من ذلك فقد اهتدائهم لطرق التجارة. ومن وقف على كونه دخيلاً في صنعة التجارة ربما اشتغل بالتلافي، ويرجع إلى البائع ويعتذر إليه ليرد رأس ماله، ويرجع عن الغبن الفاحش، وهؤلاء حرموا كل ذلك فدمروا. قوله: (وكيف يرجعون) عطف على "أيتقدمون أم يتأخرون" ضمن "لا يدرون" معنى العلم، وعلق عمله حيث أتى بالحملتين مصدرتين بحرف الاستفهام، و"كيف" مفعول "يرجعون" على تأويل جواب الاستفهام. قوله: (ثم ثنى الله تعالى) هو عطف على قوله: "عقبها بضرب المثل" في قوله: "ولما جاء بحقيقة صفتهم عقبها". قوله: (غب إيضاح)، الجوهري: الغب: أن ترد الإبل الماء يومًا وتدعه يومًا.

وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ: يُوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً ... وَحْىَ المُلَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ ومما ثنى من التمثيل في التنزيل قوله: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر: 19 - 21]، وألا ترى إلى ذى الرمّة كيف صنع في قصيدته: أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْي أَكْرَعُه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكما يجب على البليغ) الواو للاستئناف، والكلام إلى تمام بيت الجاحظ معترض، والكاف في "كما" مرفوع المحل و"ما" موصولة، ولذلك جيء بالفاء في الخبر، وهو "فكذلك". قوله: (يرمون بالخطب)، الأساس: ومن المجاز: رأيت الناس يرمون الطائف، أي: يقصدونه وهذا الكلام بعيد المرامي. قوله: (وحي الملاحظ) منصوب على المصدر، أي: يشيرون رمزًا. قوله: (وألا ترى) ويروى بغير "الواو"، وإذا كان بغير "الواو" فهو كالبيان لم امر، وإذا كان "بالواو" فهو عطف على "مما ثني". قوله: (أذاك أم نمش بالوشي أكرعه) تمامه: مسفع الخد غادٍ ناشط شبب النمش بالفتح: نقط بيض وسود، ومنه: ثور نمش بكسر الميم، وهو الوشي الذي فيه نقط. بالوشي: صفة النمش، وأكرعه فاعله. مسفع الخد: أسود. الجوهري: السفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة. ناشط: يخرج من أرضٍ إلى أرضٍ. وشبب: ثور مسن قد

أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّىِّ مَرْتَعُهُ؟ فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحكم أسنانه. والأكرع: جمع الكراع، وهو الوظيف وهو ما بين الركبة إلى الرسغ. يقول: أذاك الحمار الوحشي الذي مر ذكره يشبه ناقتي، أم ثور ملمع مسفع الخد. قوله: (أذاك أم خاضب بالسي مرتعه) تمامه: أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب الخاضب: الظليم. والظليم إذا أكل الربيع احمرت ساقاه، وأطراف ريشه. و"السي": ما استوى من الأرض. و"أبو ثلاثين" أي: ثلاثين فرخًا، فهو منقلب، أي: منصرف إلى وكره. كرر التشبيه، وشبه ناقته تارة بالحمار، وأخرى بالثور، ثم بالنعام في السرعة والخفة. قوله: (وإظهاره الإيمان بالإضاءة) قيل: فيه نظر، والأولى أن يقال: إظهاره الإيمان بالاستيقاد، وانتفاعه بالإضاءة؛ لأن المنافق إذا شبه بالمستوقد، ففعله وهو إظهار الإيمان يكون كالاستيقاد لا محالة، وما يحصل له من إظهار الإيمان يكون كالإضاءة الحاصلة من الاستيقاد. هذا هو التحقيق. وقلت: تحقيق هذا المقام أن التشبيه واقع في صفة المنافقين وصفة المستوقدين كقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] وصفة المنافقين إظهار الإيمان بالكلمة المجراة على ألسنتهم، وصفة المستوقدين مزاولة الوقود ومحاولة الاستيقاد، وكما أن هذه المزاولة عقيب هذه الإضاءة على ما قال تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ)، كذلك ذلك الإظهار أورث أن تجري عليهم أحكام المسلمين من المتاركة والاصطناع والإحسان إليهم، فإنها منافع بمنزلة

فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب؛ لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإضاءة، يدل عليه قوله فيما سبق: "وأين الإضاءة في حال المنافق" وجوابه: أن "المراد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم" ثم كما ترتب على تلك الإضاءة إذهاب النور بالكلية كذلك ترتب على هذه الإضاءة انقطاع الانتفاع وهو المراد بقوله: "وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار" ولا شك أن انقطاع الانتفاع متوقف على ثبوته، فالتقدير: شبه الإظهار بالاستيقاد والانتفاع بالإضاءة لدلالة كلامه السابق وهو قوله: "ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع" على أن الانتفاع مشبه بالإضاءة. هذا التقرير وهو قوله: "قد شبه المنافق" إلى آخره؛ هذا التقرير يؤيد أيضًا ما ذهبنا إليه من أن السؤال فيما سبق في قوله: "فيم شبهت" عن المشبه لا عن الوجه. قوله: (شبه دين الإسلام بالصيب) لما كان الكلام فيه تشبيه حال المنافقين بذوي الصيب، فكانوا ملتبسين بالمسلمين تجري عليهم أحكامهم، دخل دين الإسلام بالتشبيه. قال القاضي: شبه أنفس المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيبٍ فيه ظلمات ورعد وبرق من حيث إنه وإن كان نافعًا في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة، عاد نفعه ضرًا، وشبه نفاقهم حذرًا عن نكايات المؤمنين، وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت. قوله: (وما يتعلق به) روي مجهولاً. قيل: الضمير المجرور إذا رجع إلى "الدين"، لا يبقى للموصول عائد، ولو روي مرفوعًا لرجع الضمير المستتر فيه إلى الموصول، وفي "به" إلى "الدين"، لكان وجهًا، لكن الرواية بالضم.

وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما في قوله: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر: 58]! وفي قول امرئ القيس: كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً ... لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟ قلت: كما جاء ذلك صريحاً فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما فيه) الضمير المجرور "للدين"، والمستتر المتحول إلى الظرف للموصول. قوله: (وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق) فيه لف ونشر. قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) [غافر: 58] شبه المسئ بالأعمى، ومن عمل صالحًا بالبصير، وأتى بالمشبه والمشبه به فيهما على طريقة اللف والنشر من غير ترتيبٍ كما أتى امرؤ القيس بهما على الترتيب. والأول أحسن لأنه أدل على جودة ذهن السامع بأن يرد كلا منه إلى ما هو له. قوله: (كأن قلوب الطير) البيت، الحشف: أردأ التمر. والبالي من بلي الشيء بلاء بفتح الباء وبلى بكسرها، يصف بازيًا يصيد الطيور، ورطبًا ويابسًا حالان. والعامل "كأن"، كقولك: كأنك مقاتلاً الأسد أي: أشبهك به في حال القتال. قوله: (على سنن الاستعارة) أي: الاستعارة المصرحة، فإن المشبه فيها مطوي أبدًا، والفرق أن المتروك في التشبيه منوي مراد، وفي الاستعارة منسي غير مراد، فقول تعالى: (مَثَلُهُمْ)

كقوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [فاطر: 12]، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر: 29]. والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه: أنّ التمثيلين جميعاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشبه مبهم، والمشبه به قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] إلى آخره، وهو مشتمل على أشياء معدودةٍ مستدعيةٍ لما يقابلها من المشبه في الطرف الآخر ليتم أمر التشبيه، وكذلك كان في حكم المذكور كما استدعى الإخبار في قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة: 18] المبتدأ، ولذلك لم يكن استعارة بخلافه في قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ) [فاطر: 12] وقوله: (رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) [الزمر: 29] فإن المراد بالأول الكافر والمؤمن، وبالثاني الكافر وإشراكه الأصنام بالله، والمؤمن وتفرده بإله واحد. فشبه الكافر مع آلهته بعيدٍ قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف، كل واحدٍ منهم يدعي عبوديته، ويريد أن يتفرد له بالخدمة، فذاك بأمره، وهذا بنهاه، متحير لا يدري رضاء أيهم يتحري، وشبه المؤمن مع توحيده بعبدٍ قد سلم لمالكٍ واحدٍ، فهو معتنق لما لزمه من الخدمة، معتمد على مولاه فيما يصلحه ويهمه، فهو مجتمع القلب. ولا يستدعي الإتيان سوى القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة، والصارف فيهما سياق الكلام فكانتا استعارتين. قوله: (والصحيح) جواب آخر عن قوله: "فأين ذكر المشبهات" أو يقال: إنه جواب آخر عن السؤال الأول، فإنه سأل أولاً بقوله: "قد شبه المنافق في التمثيل الأول" إلى آخره. وقدر في الجواب المشبهات كلها، ثم سأل: فأين هذه المقدرات؟ وأجاب عنه: أنه مطوي مراد، ثم أتى بالوجه الصحيح بل الظاهر هذا؛ لأن المشبه في هذا الوجه أيضًا مطوي منوي لكن بوجهٍ آخر، فإذا هو عطف على قوله: "ولقائل أن يقول" ودل قوله في الجواب: "ولقائل أن يقول" على ضعف القول الأول.

من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولاً بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية [الجمعة: 5]. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يتكلف) استئناف على سبيل البيان، أو حال، المعنى: أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة فلا تحتاج إلى أن يقدر في طرف المشبه ما يقابل واحدًا واحدًا معزولاً بعضها عن بعض. قوله: (بيانه) أي: بيان وقوع التمثيلين في كلامهم، لا بيان القول الفحل، وأما جزالة هذا الوجه فإنك تتصور في المركب الهيئة الحاصلة من تقارن تلك الصور وكيفياتها المتضامة، فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات، كما إذا تصورت من مجموع الآية مكابدة من أدركه الوبل الهطل مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر، وصوت الرعد الهائل، والبرق الخاطف، والصاعقة المحرقة، ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من يحذر الموت، حصل لك منه أمر عجيب وخطب هائل بخلاف ما إذا تكلفت لواحدٍ واحدٍ مشبهًا به. قوله: (كقول تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) الآية [الجمعة: 5]. فإن قلت: كيف استشهد بها هنا للتمثيل المركب، وقد استشهد بها للمفرد في قوله: "لم يشبهوا بذات المستوقد وإنما شبهت قصتهم بقصتهم"؟ قلت: ليريك أن الآية أيضًا يسوغ فيها الأمران، وأن القول القوي الذي عليه علماء البيان هو الأخير.

من الكدّ والتعب. وكقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [الكهف: 45]، المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحدًا، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوي صيب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد) متعلق بقوله: "الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها" إلى آخره، إيجاز بحذف "إما" في أحد الفصلين، أي: إما أن يراد تشبيه المركب بالمركب فهو المرام، وإما أن يراد تشبيه المفرد بالمفرد، فلا. قوله: (فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم) هذا شروع في بيان التشبيهين على أن الوجه فيهما غير حقيقي، منتزع من عدة أمورٍ، فعند هذا يحسن السؤال عن بيان الوجه في التشبيهين، فإن ذلك مشكل، فيقال: فيم شبهت حال المنافقين بحال المستوقدين وبحال ذوي الصيب؟ والجواب عنها ما ذكره صاحب "المفتاح": فإن وجه تشبيه المنافقين بالذين شبهوا بهم إلى آخره كما سبق. وأن قوله تعالى: (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) [البقرة: 19] إلى آخره تمثيل لما أن وجه الشبه بينهم وبين المنافقين هو أنهم في المقام المطمع في حصول المطالب ونجح المآرب، لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال. قوله: (الذي كنت تقدره في المفرق من التشبيه من حذف المضاف، وهو قولك: أو كمثل ذوي صيب) يعني: لا بد في التشبيه المفرق من تقدير "ذوي"؛ لأن التشبيه حينئذٍ ليس بين

هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب الراجع في قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية، كيف ولى الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد: وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا ... بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذوات المنافقين والصيب نفسه، بل بين ذواتهم وذوات ذوي الصيب، ومن تقدير "مثل" أيضًا؛ لأن التشبيه أيضًا ليس بين صفة المنافقين وبين ذوات ذوي الصيب، بل بين صفتهم وصفتهم، لأن هذا التشبيه يقتضي التساوي بين الطرفين من جملة الوجوه، فإذا جعل التشبيه مركبًا هل يجب التطابق في مثل ذلك؟ وأجاب: أن مثل ذلك التطابق ليس بشرطٍ في المركب، لكن اقتضى ذلك التقدير أمران آخران: أحدهما ضمير الجمع في قوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ) فإنه يستدعي مرجوعًا إليه يناسبه، فلا بد من تقدير "ذوي"، وثانيهما: عطف هذا التمثيل على التمثيل الأول، فالواجب تقدير لفظ "مثل" أيضًا. قوله: (ومما هو بين في هذا) أي: في أن المراعى هي الكيفية المنتزعة لا النظر فيما يلي حروف التشبيه أي شيءٍ كان، فإن الشاعر جاء في التشبيه بأداة الحصر، وهو يقتضي أن لا يكون الناس إلا مشبهين بالديار، وليس كذلك إذا لم تراع فيه الكيفية. قوله: (وما الناس إلا كالديار) البيت، قوله: "بلاقع" خبر مبتدأٍ محذوف، "وغدوا" متعلق به والجملة حال عطفًا على قوله: "وأهلها بها" و"يوم" ظرف للمقدر في "بها" الذي هو الخبر. أي: الناس كالديار مأهولة يوم حلوا فيها، وبلاقع يوم رحلوا عنها. بعده:

لم يشبه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. فإن قلت: أي التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، ولذلك أُخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت: أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولابد يومًا أن ترد الودائع قوله: (ووشك نهوضهم) أي: قرب رحيلهم. الأساس: وشك وأوشك أن يفعل، ويوشك أن يخرج، وأخاف وشك البين. قوله: ("أو" في أصلها لتساوي شيئين [فصاعدًا] في الشك) إلى قوله: "فاستعيرت للتساوي". وتبعه صاحب "التخمير" بلا تغييرٍ في العبارة. قال صاحب "الفرائد": الوجه أن يقال: "أو" لتعليق الحكم بأحد المذكورين فصاعدًا، والتفاوت في المؤدى إنما يقع بحسب التركيب الذي وقعت فيه، فإن وقعت في الخبر، فالحاصل تعلق الحكم بأحدهما، وهو غير معين، فأمكن أن يقع الشك فيه، وإن وقعت في الطلب ولم يمكن وقوع الشك فيه، أفاد التخيير والإباحة، والحاصل أيضًا تعلق الحكم بأحدهما وذلك غير مانعٍ لتعلق الحكم بكل واحدٍ منهما، فعلى هذا لم تلزم الاستعارة وهي في المواضع كلها على معناها. قلت: حاصل تقريره: أن "أو" حقيقة في القدر المشترك بين الشك والتخيير والإباحة وهو تعليق الحكم بأحد الأمرين.

وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان: 24]، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحديثي: دلالة الثلاثة، أعني: "أو" و"أما" و"أم"على أحد الشيئين لا غير، وأما الشك والتخيير والإباحة وغيرها، فإنها من صفات الكلام الذي هي فيه، وإضافتها إليها مجازًا. وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": إنما قال -أي المصنف-: "ويقال في "أو" و"أما" إنهما للشك" بلفظة "يقال" تنبيهًا على أن ذلك ليس بلازم إذ قد يكون المتكلم غير شاك، بل يكون مبهمًا، أما في الأمر، فيقال للتخيير، والإباحة على وضعها لإثبات الحكم لأحد الأمرين، إلا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن الأمر غير حاجرٍ عن الآخر، مثل قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين سمي الإباحة، وإلا سمي تخييرًا، وهو لأحد الأمرين في الموضعين. وإنما علم نفي حجر الأمر عن الآخر في الإباحة من أمرٍ خارجًٍ كما في النهي نحو قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] جاء التعميم من جهة النهي الداخل على معنى النفي؛ لأن المعنى قبل وجود النهي على بابه، ومصير المعنى: ولا تطع واحدًا منهما، فلا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما مطلقًا. روي أن المصنف كتب في بعض الحواشي: تقول: كل خبزًا أو لحمًا، كأنك قلت: كل أحدهما، فإذا نفيت هذا، وقلت: لا تأكل خبزًا أو لحمًا، فكأنك قلت: لا تأكل شيئًا منهما. وقلت: وجه التوفيق بين كلامي المصنف في "الكشاف" و"المفصل" هو أن "أو" في أصل اللغة موضوعة لتساوي شيئين في الشك، ثم فيه طريقان:

والصيب: المطر الذي يصوّب، أى ينزل ويقع، ويقال للسحاب: صيب أيضا. قال الشماخ يصف سحابةً: وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن يستعار لمعنى التخيير "أو" الإباحة لعلاقة تعليق الحكم بأحد المذكورين كما يستعار الأسد للشجاع لعلاقة الجراءة. وثانيهما: أن يحمل على عموم المجاز لتعليق الحكم بأحد المذكورين، فيقال: "أو" أما في الخبر، فإنها للشك، وفي الأمر للتخيير والإباحة، وعلى الأول ورد في "الكشاف"، وعلى الثاني في "المفصل"، وفي كلام الزجاج إشعار بما ذهب إليه المصنف وقال: "أو" في قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ) دخلت لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "أو" الإباحة، والمعنى: أن التمثيل مباح لكم في المنافقين، إن مثلتموهم بالمستوقدين فذلك مثلهم، أو مثلتموهم بأصحاب فهو مثلهم، أو مثلتموهم جميعًا فهما مثلاهم. وقلت: إن اختصاص الحذاق، أي: المهرة بهذا المعنى دون من سواهم، دليل على دقة هذا المعنى. ولم يكن كذلك إذا كان حقيقة لاستواء الحذاق وغيرهم من أهل اللغة فيه. وهذا خلاف تلك القاعدة، وهي أن "أو" في الأمر للإباحة لكونها داخلة ها هنا على الخبر، وهي للإباحة، ولأن "أو" عند الإطلاق يتبادر منها الشك دون ما سواه من المعاني، وذلك أمارة الحقيقة. قوله: (وأسحم دانٍ صادق الرعد صيب) صدره: عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا الأسحم: السحاب الأسود، ذانٍ: قريب من الأرض، صادق الرعد، أي: غير خلب، المعنى: محا آثار ربع المحبوب وغير رسومه، اختلاف هاتين الريحين، وتتابع هبوبهما؛ مثل

وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول. وقرئ: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه للمظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. فان قلت: قوله: (مِنَ السَّماءِ) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت: الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختلاف الريحين بنسج الصانع الثوب، فإن إحدى الريحين بمنزلة السدى، والأخرى كاللحمة فإن ريح الصبا تهب من جانب المشرق، والجنوب من يمين من يكون متوجه المشرق. قوله: (أنها موج مكفوف) روينا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "هل تدرون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوف" أخرجه الترمذي، مكفوف: مدفوع، أي: كف أن يسيل. النهاية: كل سماءٍ يقال لها رقيع، وقيل: هو اسم سماء الدنيا. قوله: (الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة) يوهم أنه غير مطابق للسؤال؛ لأنه لم يسأل

فنفى أن يتصوّب من سماء، أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها). الدليل عليه قوله: ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عما عرض للفظ السماء من التعريف، بل سأل أن قوله: (مِنَ السَّمَاءِ) ما الفائدة في ذكره؟ بل الجواب المطابق قوله بعد ذلك: "وفيه أن السحاب من السماء ينحدرن ومنها يأخذ ماءه" ليرد زعم المخالف، وكان من الظاهر تقديم هذا على ذلك. قلت: قد يذكر الشيء إما لكونه مقصودًا بالذات، أو ليعلق عليه أمر آخر، وذلك الأمر موقوف على ذكر ذلك الشيء. وهاهنا المقصود الاستغراق والمبالغة، ولم يكن يحصل ذلك إلا بذكر السماء معرفة، فجيء بها كما ترى، واستجلب ذكره المعنى الثاني، وهو رد زعم المخالف على سبيل الإدماج، أي: إشارة النص، فذكره، ولو عكس لم تكن المبالغة مقصودًا أوليًا، وإنما قلنا: المقصود المبالغة ليطابق ذكر السماء ذكر الصيب؛ لأن فيه مبالغاتٍ شتى كما ذكرن وإليه الإشارة بقوله: "كما جاء بصيب" إلى آخره. قوله: (ومن بعد أرضٍ بيننا وسماء) صدره:

والمعنى: أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها سمى بعض الأرض أرضًا، وبعض السماء سماءً، وأريد ببعد السماء والأرض ما يقابل من السماء والأرض التي بينهما، ولا يجوز أن يراد بالسماء المطلقة؛ لأنها ليست بينه وبينها. قوله: (من جهة التركيب) لأنها ركبت من صادٍ، وهي مطبقة مستعلية، وياءٍ مشددة، وباءٍ وهي من الشديدة. قوله: (والبناء) لأنها بنيت على وزن فيعل، وهي صفة مشبهة تدل على شيءٍ ثابت. قال السجاوندي: وهو بناء يختص بالمعتل وفيه مبالغة. وقوله: (والتنكير) لأنه تنكير تهويل. قوله: (بأن جعله مطبقًا) حيث عرف السماء باللام الاستغراقية. قوله: (لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر) قال الإمام: من الناس من قال: المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبةٍ من الأرض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدة برد الهواء، ثم تنزل مرة أخرى، والله تعالى أبطل ذلك المذهب هنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء. وكذلك بقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48] وبقوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) [النور: 43].

ويؤيده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور: 43]. فان قلت: بم ارتفع (ظلمات)؟ قلت: بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالظرف على الاتفاق) يريد: أنك لو قلت ابتداءً: "فيه ظلمات" فعند الأخفش ارتفاعه على الفاعلية؛ لأنه لم يشترط الاعتماد، وعند سيبويه ارتفاعه على الابتداء لاشتراطه الاعتماد، وإذا اعتمد الظرف على شيء جاز إعماله كما في الآية، لأنه وصف "صيب" به، فارتفاعه على الفاعلية بالاتفاق. قوله: (والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب) إلى آخره، والصحيح الذي عليه التعويل هو ما روينا عن الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخازيق من نارٍ يسوقها بها حيث شاء الله"، فقالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: "زجره حتى تنتهي حيث أمرت، فقالوا: صدقت". النهاية: المخاريق: جمع مخراق، وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضًا، أراد أنها آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه، ويفسره حديث ابن عباسٍ: "البرق سوط من نورٍ تزجر به الملائكة السحاب". قوله: (تنتفض)، الجوهري: نفضت الثوب والشجر أنفضه نفضًا، إذا حركته لينتفض.

إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقا إذا لمع. فان قلت: قد جعل الصيب مكانا للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فان قلت: كيف يكون المطر مكانا للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه. ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري: يَا عَارِضاً مُتَلِّفعاً ببُرُودِهِ ... يَخْتالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الارتعاد) لم يرد أن أصله منه؛ لأن أصله من الرعدة، بل أراد أن فيه معنى الاضطراب والحركة. قوله: (مضمومة إليهما ظلمة الليل) قيل: ظلمة الليل من أين تستفاد من الآية وليس فيها ما يدل عليه؟ والعجب أنه كررها، فيقال: تستفاد من الجمع، ومقام المبالغة، فإن أقل الجمع ثلاثة، فلذلك اعتبر الأعداد على التقديرين. قوله: (في أعلاه ومصبه) هو من إطلاق أحد المتجاورين على الآخر، والمقصود في الاستشهاد بالبلد المجاورة، لا أنه من إطلاق الكل على البعض. قال السجاوندي: "فيه ظلمات" أي: في وقته. قوله: (يا عارضًا) البيت. العارض: السحاب. يقال: تلفعت، أي: تلحَّفْتُ كما تلحَّفَتِ المرأة بمرطها، والاختيال: التبختر.

وكما قيل: (ظلمات)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد العينان، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل - يقال: رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً؛ روعي حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع. والثاني: أن يراد الحدثان كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات، لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفا قائما مقامه الصيب، كما قال: (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف: 4]، لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه. ألا ترى إلى حسان كيف عوّل على بقاء معناه في قوله: يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ ... بَرْدَي يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العينان) أي: اسمان لا مصدران. قوله: (وإن أريد معنى الجمع) "الواو" بمعنى مع، أي: ترك الجمع لفظًا مع إرادته معنى. ولو روي "إن" بالكسر على الشرطية كان أظهر. قوله: (الحدثان) يجوز فيه الرفعن ويراد به المصدر، وكسر النون ويراد به تثنية الحدث، وهو مصدر أيضًا، وصح بالكسر. قوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الأعراف: 4] فإن "هم" والضمير في "قائلون" يرجع إلى المضاف المحذوف عند قوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) أي: أهلكنا أهلها، وإنما ذكر تقدر "ذوي" فيما سبق على سبيل الاستطراد، وذكره هناهنا على سبيل الأصالة وحل التركيب. قوله: (يسقون) البيت، قبله: لله در عصابةٍ نادمتها ... يومًا بجلق في الزمان الأول أولاد حفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية، الكريم المفضل بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول

حيث ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردي، ولا محل لقوله: (يَجْعَلُونَ) لكونه مستأنفاً، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول، فكأن قائلا قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم. فان قلت: رأيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن، فهلا قيل أناملهم؟ قلت: هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة: 6]، (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة: 6]، أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضاً ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل اللاحقين فقيرهم بغنيهم ... والمنفقين على اليتيم الأرمل جلق؛ بكسر الجيم وتشديد اللام: موضع بدمشق، بردى: وادي دمشق، والبريص: نهر متشعب منه، تصفيق الشراب: أن يتحول من إناءٍ إلى إناء. والرحيق: صفوة الخمر. وماء سلسل وسلسال، أي: سهل الدخول إلى الحلق. والشاعر عول على بقاء المعنى حيث ذكر "يصفق" لأن المعنى "ماء بردى"، وكان القياس "تصفق" بالتاء المعجمة بنقطتين من فوق؛ لأن في "بردى" ألف التأنيث. "الطراز الاول": هو الذي يبدأ بذكره في الخصال الحميدة. الأساس: ومن المجاز: ما أحسن طارز فلانٍ وطرزه، وهو طريقته في عمله، وهذا الكلام الحسن من طراز فلانٍ، وهو من الطراز الأول.

فإن قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، «3» فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة فعالة من السب؛ فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة. فان قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد. وقوله مِنَ الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون، أى: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة «1». والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق أى مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف: 143]. وقرأ الحسن: من الصواقع وليس بقلب للصواعق؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من العيمة). العيمة: اشتهاء اللبن، يقال: عام إلى اللبن. أي: اشتهاه. قال صاحب "الضوء": يروى: "عن العيمة"، أي: بعده عنها وجاوز به حكمها إلى الري، وإن شئت قلته بـ "من" على معنى سقاه من جهة العيمة، وهذا من عمل من تم كلامه. و"من" هذه كما في قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا) [مريم: 53] أي: من أجل رحمتنا. قوله: (قصفة رعد)، الجوهري: رعد قاصف: شديد الصوت، والقصف: الكسر. تنقض، أي: تسقط. قوله: (إلا أتت عليه) أي: أهلكته ووطئته وطأ مفنيًا. الأساس: أتى عليهم الدهر: أفناهم. وقال أبو زيد: الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعدٍ شديد. قوله: (ومنه قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) [الأعراف: 143]) أي: ومنه مجاز قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) كقوله في قوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة: 55]:

لأنّ كلا البناءين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "وموسى عليه السلام لم تكن صعقته موتًا، ولكن غشية بدليل قوله: (فَلَمَّا أَفَاقَ) [الأعراف: 143] إذ لو حمل على الاشتقاق لناقض بين كلامين. قوله: (سواء في التصرف) أي: فيما يلزم الفعل من التشعب والاشتقاق، فيقال: صقع الديك، وخطيب مصقع، وصقعه على رأسه، ولو كان مقلوبًا لم يتجاوز عن صورةٍ واحدة. الراغب: الصاعقة والصاقعة يتقاربان، وهما الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الأجسام الأرضية، والصعق في الأجسام العلوية. وقال بعض أهل اللغة: الصاعقة ثلاثة أوجه: الموت كقوله تعالى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر: 68] والعذاب كقوله تعالى: (أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 13] والنار كقوله: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) [الرعد: 13]. وما ذكره فهي أشياء متولدة من الصاعقة، فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو، ثم تكون منه نار فقط، أو عذاب أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تأثيرات منها. قوله: (وبناؤها) أي: بناء الصاعقة "إما أن يكون صفة لقصفة الرعد" لأن فاعلة صفة للمؤنث، يجئ جمعها على فواعل نحو: ضاربةٍ وضوارب، أو هو فاعل صفة للمذكر وهو الرعد، والتاء للمبالغة، فيجمع على فواعل شاذًا نحو فارسٍ وفوارس، أو هي فاعلة اسم المؤنث نحو كاتبةً وكواتب.

صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى: حذار الموت، وانتصب على أنه مفعول له كقوله: وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة اللَّه بالكافرين مجاز. والمعنى: أنهم لا يفوتونه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأغفر عوراء الكريم ادخاره) تمامه: وأعرض عن شتم اللئيم تكرما قائله حاتم. العوراء: الكلمة القبيحة، أي: أسترها لتبقى الصداقة، وأدخره ليومٍ أحتاج إليه، لأن الكريم إذا فرط منه قبح ندم على فعله، ومنعه كرمه أن يعود إلى مثله، واستشهد به لكونه مضافًا إلى المعرفة وهو نادر كقوله تعالى: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: 19] أي: ادخاره وتكرمًا، كلاهما مفعول له. قوله: (وقيل: عرض لا يصح معه إحساس، معاقب للحياة) هذا يدل على أن الموت في الوجه الأول ليس بعرضٍ بل هو أمر عدمي. وقال القاضي: وقيل: عرض يضاد الحياة لقوله تعالى: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) [الملك: 2] ورد بأن الخلق بمعنى التقدير، والإعدام مقدر. قوله: (وإحاطة الله بالكافرين مجاز) أي: الاستعارة تمثيلية شبهت حالة إنزال الله عذابه على الكافرين من كل جانبٍ بحيث لا محيد لهم عنه، بحالة الجيش الذي صبح القوم وقد أحاط بهم عن آخرهم، فلا يفوت منهم أحد، يؤيده قوله في موضع آخر: "والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به".

كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض لا محل لها. والخطف: الأخذ بسرعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المحاط به: المحيط به) لا ضمير في "المحاط" لأنه يعدى بالجار إلى المفعول به، والضمير المجرور عائد إلى اللام، والضمير في "المحيط" عائد إلى اللام فيه وفي "به" الثاني إلى المحاط. المعنى: كما لا يفوت الذي أحيط به من كل جانبٍ من قصده وأحاط به. قوله: (وهذه الجملة اعتراض لا محل لها) فإن قلت: كيف يصح أن تقع معترضة وهي لتأكيد معنى المعترض فيها، والكلامان اللذان اعترضت هذه فيهما في شأن ذوي الصيب، وهو الممثل به وهذه بعض أحوال المنافقين الممثل له؟ قلت: هذا من وجيز الكلام وبليغه؛ وذلك أن مقتضى الظاهر أن يذكر هذا قبيل "كصيب" ليكون بعضًا من أحوال المشبه، فنزل هنا ليدل على ذلك، ويعطي معنى التأكيد في هاتين الجملتين. وفيه من الغرابة: أنه مؤكد بحال المشبه به، وهو من حال المشبه، وفائدته شدة المناسبة بين المشبه والمشبه به، وأن المشبه مما يهتم بشأنه ويعتني بحاله، وهذا المعنى قريب مما مر في (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة: 17] وأنه في حال المنافقين على جزاء الشرط، وأنه من حال المستوقدين. والأوجه أن يقال: إن قوله: (بِالْكَافِرِينَ) من وضع المظهر موضع المضمر إشعارًا باستئهال أصحاب ذوي الصيب ذلك لكفرانهم نعم الله تعالى. ومثل هذا التتميم في المشبه به مما يقوي المقصود في التمثيل من المبالغة، ونحوه قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران: 117]. قال: "شبه بحرث قومٍ ظلموا أنفسهم، فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم؛ لأن الإهلاك عن سخطٍ أشد

وقرأ مجاهد (يخطف) بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: (يختطف)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأبلغ". وينصره قوله في التشبيه الأول: أن يكون المستوقد في هذه الوجه مستوقد نارٍ لا يرضاها الله تعالى، أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العيث فأطفأها الله تعالى وخيب أمانيهم. قال القاضي: "كاد" وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنه لم يوجد، إما لفقد شرط، أو لعروض مانع، و"عسى" موضوعة لرجائه، فهي خبر محض، ولذلك جاءت متصرفة بخلاف "عسى"، وخبرها مشروط فيه أن يكون مضارعًا تنبيهًا على أنه المقصود بالقرب من غير "أن" حملاً لها على "عسى" كما تحمل عليها بالحذف عن خبرها لمشاركتها في أصل معنى المقاربة. قوله: (قرأ مجاهد: يخطف). القراءات كلها شواذ. قال ابن جني: "حكى الفراء عن بعض القراء: "يخطف" بنصب الياء والخاء والتشديد، ثم قال ابن جني: أصله: يختطلف فأدغم التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرجٍ واحد، ولأن التاء مهموسة، والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس. ومتى كان الإدغام يقوي الحرف المدغم حسن ذلك، وعلته: أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرفٍ أقوى منه، استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم، فيه، فقوي. لقوته، وكان في ذلك تدارك وتلافٍ لما جني على الحرف المدغم، فأسكن

وعن الحسن: (يخطف)، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: (يخطف) بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن على: يخطف، من خطف. وعن أبىّ: يتخطف، من قوله: (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]. (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة، مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، (ولو شاء اللَّه) لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق فأعماهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "التاء" لإدغامها، و"الخاء" قبلها ساكنة، فنقلت الفتحة إليها، وقلبت التاء طاء، وأدغمت في الطاء فصارت "يخطف". ومنهم من إذا أسكن "التاء" ليدغمها، كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بكسرتها عن نقل الفتحة إليها، فيقول: يخطف. ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل بعده فيقول: يخطف". قوله: (استئناف ثالث) الأول: (يَجْعَلُونَ) والثاني: (يَكَادُ الْبَرْقُ). قوله: (وهذا- أي: قوله: (يَكَادُ الْبَرْقُ) - تمثيل)، أي: تتميم للتمثيل لا أنه تمثيل آخر، فقوله: "وما هم فيه" إلى آخره بيان معنى (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ) وعطف تفسيري على شدة الأمر على المنافقين كما أن (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ) بيان لقوله: (يَكَادُ الْبَرْقُ) والباءان- في "بشدته" و"بما يأتون ويذرون" أي: يزاولونه ويتركونه- يتعلقان بقوله: "تمثيل".

و (أضاء) إما متعد بمعنى: كلما نوّر لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى: كلما لمع لهم مَشَوْا في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت: كيف قيل مع الإضاءة: (كلما)، ومع الإظلام: (إذا)؟ قلت لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. و (أظلم): يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: هذا يوهم أن التشبيه الثاني مفرق، مع أن المنصف رجع عنه بقوله: "والصحيح الذي عليه علماء البيان". قلت: هذا لا يأبى التمثيل؛ لأن شرطه أن يكون منتزعًا؛ من عدة أمور، وكل ما ذكر في طرف المشبه به أمر يتوهم ويعتبر مثله في طرف المشبه، إذ لو اختل أمر منه اختل التمثيل كما صرح به صاحب "المفتاح" بقوله: والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظورٍ فيه إلى التأمل، لا سيما المعاني التي ينتزع منها، فربما ينتزع من ثلاثةٍ فأورث الخطأ لوجوب انتزاعه من أكثر. قوله: (فإذا ازداد فهو عدو (فإن قيل: فالمقام يقتضي عدوًا لا مشيًا لانتهازهم الفرصة، قلنا: بل يقتضي المشي لما سبق من قوله: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: 19] و (يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) [البقرة: 20]، فإنهم لغاية تحيرهم ودهشتهم لا يمكن لهم المشي أيضًا عند الفرصة فكيف بالعدو، وإليه الإشارة بقوله: "من إمكان المشي". قوله: (انتهزوها)، الجوهري: انتهزت الفرصة إذا اغتنمتها.

وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: (أظلم)، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس: هُمَا أَظْلَمَا حالَىَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب) قيل: فيه نظر؛ لم لا يجوز أن يكون الفعل مسندًا إلى الجار والمجرور كقوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]؟ والجواب: أن الجار والمجرور ليس صلة للإظلام، بل هو طرف مستقر كما في الاستعمال، و"على" مثلها في قوله: زارت عليها للظلام رواق ... ومن النجوم قلائد ونطاق قوله: (هما أظلما حالي) البيت، وقبله: أحاولت إرشادي فعقلي مرشدي ... أم استمت تأديبي فدهري مؤدبي استمت، أي: تجشمت وطلبت، "هما أظلما"، أي: العقل والدهر، "حالي"، أي: الشيب والشباب، "ثمت أجليا" يقال: للقوم إذا كانوا مقبلين على شيءٍ، محدقين به ثم انكشفوا عنه: قد أفرجوا عنه وأجلوا عنه. "أمرد"، أي: في السن، و"أشيب" أي: في الرأي، ويجوز أن يريد أنه شاب في حال المرد لعظم ما ناله من الشدائد، وإنما أضاف الإظلام إلى العقل لأن العاقل لا يطيب له عيش. قوله: (عن وجه أمرد أشيب) يريد به نفسه، جرد شخصًا أمرد يخاطب عاذلته، أي: لا تخاطبيني لإرشادي في الكرم، فعقلي يرشدني، ولا تجشمي تأديبي، فإن الدهر مؤدبي.

وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى قامُوا وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وقام الماء: جمد. ومفعول شاءَ محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى: ولو شاء اللَّه أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله: فلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِى دَماً لَبَكَيْتُهُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن كان محدثًا) الشعراء طبقات: الجاهليون مثل امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة، والذين أدركوا الجاهلية ثم أسلموا مثل لبيد، وحسان، والمتقدمون من الإسلاميين كفرزدق وجرير، والمحدثون كأبي تمام والبحتري. قوله: (فاجعل ما يقوله) أي: إنه موثوق به في الرواية، فلو لم يسمع من العرب لم يقل. قال ابن الأنباري: هو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيسٍ الطائي شامي الأصل، قدم بغداد وجالس فيها الأدباء، وعاشر العلماء، وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهرٍ وغيره أخبارًا مسندةً، ورثاه الحسن بن وهب: فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي ماتا معًا فتجاورا في حفرةٍ ... وكذاك كانا قبل في الأحياء قوله: (فلو شئت أن أبكي دمًا لبكيته) تمامه: عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقوله تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَخِذَ لَهوًّا لاَتَخذْنَاهُ مِن لَدُنَا) [الأنبياء: 17]، (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [الزمر: 4]، وأراد: ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة: (لأذهب بأسماعهم)، بزيادة الباء كقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَهلُكَةِ) [البقرة: 195]. والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه - في ساقة الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية -: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟ . والشيء: مذكر، وهو أعم العام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى بالمفعول لأن بكاء الدم مستغرب، ونصب دمًا باعتبار تضمين البكاء معنى الصب. قوله: (وأراد: ولو شاء الله) عطف على قوله: "والمعنى ولو شاء الله" يعني كما أن مفعول شاء محذوف كذا متعلق "لذهب" محذوف وهو "بقصيف" و"بوميض". قال القاضي: فائدة قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة: 20] إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله، وأن وجودها مرتبط بأسبابها. وقلت: وفائدته الراجعة إلى الممثل له هي أنه تعالى يمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغي والفساد ليكون عذابهم أشد. قوله: (بأسماعِهم" بزيادة الباء) يعني دلت الهمزة على التعدية، والباء كعضادةٍ للتعدية وتأكيدها كما يعضد الباب بعضادتيه. قوله: (وهو أعم العام) كلام المصنف لا كلام سيبويه، وهو لفظ يقع على كل مذكر ومؤنث، ثم إنه لا يستعمل إلا مذكرًا، فلولا أن المذكر أصل لوقع التغليب للفرع.

كما أن اللَّه أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض والقديم. تقول: شيء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال فان قلت: كيف قيل عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل وفعل قادر آخر؟ قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قيل: على كل شيء مستقيم قدير. ونظيره: فلان أمير على الناس أى على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما أن الله أخص الخاص) يريد به قوله: "وأما الله فمختص بالمعبود بالحق ولا يطلق على غيره". قوله: (وعلى المعدوم والمحال)، الانتصاف: الشيء عندنا مختص بالموجود فلا يدخل فيه المستحيل، وعند المعتزلة يدخل فيه المعدوم، وأما المستحيل فلا يدخل فيه فلا يرد السؤال. فإن قيل: إذا كان المعدوم لا يسمى شيئًا، وإذا وجد صار شيئًا لا تتعلق القدرة به، إذ القدرة إنما تتعلق بالشيء أول وجوده، فكيف يكون قادرًا على شيء؟ فجوابه: أنه من باب: "من قتل قتيلاً" أي: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كأنه قال: قادر على كل ما يصير شيئًا. الإنصاف: وفيه نظر، فإن القدرة تتعلق به في أول زمن وجوده، وهو في أول زمن وجوده شيء بلا خلافٍ بين المسلمين، إذ لو لم يكن شيئًا في أول وجوده لم يكن شيئًا في ثاني الأحوال. قال القاضي: الشيء يختص بالوجود؛ لأنه في الأصل مصدر شاء، أطلق بمعنى شاءٍ تارة، أي: مريدٍ، والمريد يكون موجودًا، وحينئذٍ يتناول البارئ تعالى كما قال: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ) [الأنعام: 19] وبمعنى مشئٍ أخرى، أي: مشئٍ وجوده، وما شاء الله وجوده

وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه. فإن قلت: ممّ اشتقاق القدير؟ قلت: من التقدير، لأنه يوقع فعله على مقدار قوّته واستطاعته وما يتميز به عن العاجز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو موجود، أي: موجود حالاً أو مالاً، أو أعم منه على حسب مشيئته، وعليه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 20] وهو المراد بقول المصنف: "مشروط في حد القادر بأن لا يكون الفعل مستحيلاً". قوله: (فمختلف فيه) يعني بين المعتزلة؛ فمن جوزه قال: إن القادر منا غير مستقل، أي: ليس سببًا تامًا، ومن منعه قال: إن اجتماع قدرتي قادرين مستقلين على فعلٍ واحدٍ ممتنع. وقيل: مختلف بين المعتزلة وأهل السنة، فإنهم قالوا: فعل العبد مقدور له من جهة الكسب، ومقدور لله من جهة الإيجاد. الانتصاف: المعتزلة زعموا أن ما تعلقت به قدرة العبد لا تتعلق به قدرة الله سبحانه وتعالى؛ إذ قدرة العبد مستغنية بنفسها، وأما أهل السنة، الخالق عندهم هو الله الواحد القهار، فتتعلق قدرته بالفعل، وتتعلق به قدرة العبد لا للتأثير، ولذلك لم يحيلوا مقدورًا بين قادرين. قوله: (لأنه يوقع فعله على مقدار قوته). قال القاضي: القدرة: هو التمكن من إيجاد الشيء. وقيل: صفة تقتضي التمكن، وقيل: قدرة العبد: هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله: عبارة عن نفي العجز عنه، والقادر هو الذي إن شاء فعل، وإن لم يشأن لم يفعل، والقدير هو الفعال لما يشاء على ما يشاء، ولذلك قلما يوصف به غير البارئ. واشتقاق القدرة من القدر؛ لأن القادر

[(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)]. لما عدّد اللَّه تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند اللَّه ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات المذكور عند قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوقع الفعل على مقدار قوته، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه، والممكن حال إمكانه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور الله، لأنه شيء. فقول المصنف: "اشتقاق القدير من التقدير" يؤول بقولنا: اشتقاقه من القدر بمعنى التقدير، إذ لا يستقيم أن يشتق الثلاثي من المزيد. الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان، فاسم لهيئةٍ له يتمكن بها من فعل شيءٍ ما، وإذا وصف الله تعالى بها فنفي للعجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى، وإن أطلق عليه [لفظًا]، بل حقه أن يقال: قادر على كذا، ومتى قيل: هو قادر، فعلى سبيل معنى التقييد، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من كل وجه، والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، ولهذا لا يوصف به إلا الله، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 20] والمقتدر يقاربه نحو: (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 55] لكن قد يوصف به البشر، فإذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير، وفي البشر بمعنى المتكلف والمكتسب للقدرة.

وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجارى أمورك، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأوجدته) أي: صيرته واجدًا، من: أوجدته الشيء فوجده، وأوجده الله مطلوبه، أي: أظفره به. المعنى: صيرته واجدًا شيئًا هازًا من طبعه، ولولا هذا الالتفات لما وجد السامع ذلك الشيء الهاز. قوله: (والخروج من صنفٍ إلى صنفٍ يستفتح الآذان للاستماع). واعلم أن كل عدولٍ عن الظاهر من البليغ، سواء كان التفاتًا أو غيره، تنبيه على مكان لطيفةٍ مثارها مقتضى المقام، فمتى وقع عند بليغٍ مثله، وتنبه لها، استهش نفسه لقبولها. قال صاحب "المفتاح": ولأمرٍ ما تجد أرباب البلاغة وفرسان الطراد يستكثرون من هذا الفن في محاوراتهم. واللطيفة التي يتضمنها هذا المقام هي أنه تعلى لما عدد الفرق الثلاث بمسمعٍ منهم، مخاطبًا غيرهم، ووصف كل فرقةٍ بما اختصت به مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها ويرديها؛ أقبل عليهم بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني: أيها المؤمنون كما شرفتكم ورفعت منزلتكم ومنحكتم الكتاب الكامل، ففزتم بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً، دوموا على ما أنتم فيه، ولا تتوانوا، وزيدوا في الشكر والتقوى، لأزيدنكم في النعمة والإفضال، ويا أيها الكافرون أقلعوا عما أنتم

ويستهش الأنفس للقبول، وبلغنا بإسناد صحيح عن إبراهيم عن علقمة: أنّ كل شيء نزل فيه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنى، فقوله: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) خطاب لمشركي مكة ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وارجعوا عن عبادة غير الله الذي لا نفع فيه، ولا ضر، وتوجهوا إلى عبادة من خلقكم وآباءكم، وجعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً، ورزقكم وكيت وكيت، ويا أيها المنافقون، اعلموا أني عالم بما في ضمائركم وأسراركم، وأعلم ما تأتون وما تذرون، فأخلصوا العبادة لخالقكم الذي أنعم عليكم وعلى أسلافكم لعلكم تتقون، فتحذرون عن النفاق. قوله: (وبلغنا) إلى آخره معطوف على قوله: "لما عدد الله تعالى" لأن معناه أن الخطاب شامل للمؤمن والكافر والمنافق، ومعنى "بلغنا" إلى آخره: أن الخطاب مختص بمشركي مكة. وأما قوله: "يا أيها الناس مكي، ويا أيها الذين آمنوا مدني" فمذكور في "معالم التنزيل" و"الوسيط" و"الكواشي" نحوه، ولم أجده في كتب الحديث. قوله: (فقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) خطاب لمشركي مكة) تفريع على هذه الرواية. روى الإمام عن القاضي: أن هذا الذي ذكراه -يعني إبرايهم وعلقمة- إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون

و «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه. وأما نداء القريب فله أى والهمزة، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكة، فضعيف، لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم ومرة باسم جنسهم، وقد مؤمر من ليس بمؤمنٍ بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها، فالخطاب في الجميع ممكن. وقال القاضي: الجموع وأسماؤها المحلاة باللام المعمول حيث لا عهد، ويدل عليه صحة الاستثناء، والتوكيد بما يفيد العموم، كقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر: 30]، واستدلال الصحابة بعمومها شائعًا ذائعًا، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظًا ومن سيوجد، لما تواتر من دين محمدٍ صلوات الله عليه أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبلين، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل. الراغب: "قد تقدم أن الناس يستعمل على وجهين: أحدهما: المشار به إلى الصورة المخصوصة، وذلك عام في الصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل. والثاني: المشار به إلى المختص بقوى العلم والعمل المحكم، وهو المستعمل على طريق المدح، ولذلك يقال: فلان أكثر إنسانية من فلان؛ لاختصاص هذا المعنى بقبول الزيادة والنقصان. وهذا المعنى هو المراد في هذا الموضع. والعبادة: نهاية التذلل في الخدمة، وبذل الطاقة وذلك في مقابلة أعظم النعم، ولا يستحقها غير الله؛ لأنه هو الذي له أعظم النعم، والعبادة تقال في ثلاثة أشياء: اعتقاد الحق، وتحري الحق، وعمل الخير، وعبادة الله كما تكون في فعل الواجبات قد تكون في فعل

ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلاً له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معني به جداً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المباحات، وذلك إذا قصد بالفعل وجه الله وتحري مرضاته. قال بعضهم: مباحات أولياء الله كلها واجبات، وواجباتهم نوافل، فقيل: كيف ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير تناولها متحتمًا، ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير فرضهم متنفلاً. وبهذا النظر قيل: عند أكمل الصالحين تنزل الرحمة. وفرق بين قوله: (اُعْبُدُوا اللَّهَ) وبين قوله: (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) لأن في الثاني إيجاب العبادة بواسطة رؤية النعمة التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي "اعبدوا الله" إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من غير واسطةٍ، وعلى ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج: 1] وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [البقرة: 278] فحيث ذكر الناس ذكر الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله". قوله: (ثم استعمل) أي: "يا" موضوعة لنداء البعيد حقيقة، وإذا استعملت في القريب على المجاز، فلا يخلو أن يراد بالبعد البعد بحسب المنزلة والمرتبة، إما من جهة المتكلم، كقوله تعالى: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) [هود: 44] إظهارًا لعظمته وكبريائه، وإبداءً لشأن عزته وتهاونًا بالمنادى وتبعيدًا له، وإما من جهة المخاطب، كما يقول: يا رب، ويا الله، هضمًا للنفس واستبعادًا لها عن مظان الزلفى، أو البعد بحسب الغفلة والبلادة كما يقال: يا هذا، إن البغاث بأرضنا يستنسر. وكقوله: فانعق بضأنك يا جرير ....

فإن قلت: فما بال الداعي يقول في جؤاره: يا رب، ويا اللَّه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظانّ الزلفى وما يقرّبه إلى رضوان اللَّه ومنازل المقرّبين، هضما لنفسه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو بحسب التفطن، وأن الخطاب بمكانٍ بعيدٍ عن التفكر لما فيه من المعاني الدقيقة، أو أنه معني به جدًا كما نحن بصدده، فينزل لذلك المخاطب منزلة الغافل تهييجًا وإلهابًا ليتلقاه بشراشره ومجامع قلبه. قال المصنف في قوله تعالى: (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65] أي: سمهم حرضًا كما يقال: ما أراك إلا ممرضًا في هذا الأمر، ليهيجه ويحرك منه. قوله: (في جؤاره)، النهاية: الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة، ومنه الحديث: "لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله". قوله: (وأسمع به وأبصر) عطف على جملة قوله: "وهو أقرب إليه من حبل الوريد". قال أبو البقاء في قوله تعالى: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الكهف: 26]: الهاء في "أبصر به" تعود على الله وموضعها رفع، والباء زائدة أي: أبصر الله. وهكذا في فعل التعجب الذي هو على لفظ الأمر. قوله: (واستبعاد لها من مظان الزلفى) تفسير لقوله: "استقصار منه لنفسه" وكذا "ما يقربه" تفسير لقوله "من مظان الزلفى" وكذا "إقرارًا علهيا بالتفريط في جنب الله" تفسير

وإقراراً عليها بالتفريط في جنب اللَّه مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله، و «أى» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أنّ «ذو» و «الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو «أي»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقوله: (هضمًا لنفسه" وقوله: "مع فرض التهالك" حال من فاعل "إقرار" أي يستبعد نفسه من القرب من رضوان الله لأجل إقراره بالتفريط مصاحبًا الحرص على استجابة الدعوة؛ لأن الله تعالى إنما يستجيب دعوة الضعيف الخاضع الذليل الذي يستعطفه ويظهر افتقاره ومسكنته. قوله: (التهالك)، النهاية: في الحديث "فتهالكت عليه" أي: سقطت عليه، ورميت بنفسي فوقه، فهو كناية عن الحرص. قوله: (والأذن لندائه)، النهاية: أذن يأذن أذنًا بالتحريك: استمع، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيءٍ ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن" أخرجه البخاري ومسلم، أي: ما استمع الله لشيءٍ كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، أي: يتلوه جهرًا. قوله: (فلا بد أن يردفه اسم جنس) قال ابن الحاجب: لأنه مبهم الذات، فكان وصفه بما يدل على ذاتياته أولاً هو الوجه؛ لأن الوصف بالمعاني الخارجة فرع على معرفة الذات، ولذلك كان المبهم مستبدًا بصحة الوصفية بأسماء الأجناس دون غيره لما فيه من الإبهام. قوله: (أو ما يجري مجراه) من اسم الإشارة نحو: يا أيهذا الرجل.

والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال «زيد» فلم ينفك من الصفة. وفي هذا التدرّج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين: معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه، ووقوعها عوضا مما يستحقه أىّ من الإضافة. فان قلت: لم كثر في كتاب اللَّه النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة: لأن كل ما نادى اللَّه له عباده - من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه - أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان - عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجها إلى المؤمنين والكافرين جميعاً، أو إلى كفار مكة خاصة، على ما روى عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لفائدتين) إحداهما: تأكيد معنى النداء؛ لأن النداء تنبيه. وثانيتهما: أن "أيًّا" مستدعيةٌ للإضافة، فحيث فكت عنها عوض بها ليشتغل بها عنها. قوله: (ومكانفته)، الجوهري: المكانفة: المعاونة. قوله: (ما لم يكثُر في غيره) "ما" يُمكن أن تكون موصولةً، أي: الكثرة التي لم تكثر في غيره، أو مصدريةً أي: كثر كثرةً لم تكثر في غيره من الكلام. قوله: (كقول القائل) وهو أبو تمام. وقبله: نعمةُ الله فيك، لا أسأل اللـ ... ــه إليها نعمى سوى أن تدوما

فلَوَ انِّى فَعَلْتُ كُنْتُ مَنْ تَسْ ... أَلُهُ وهُوَ قائمٌ أنْ يَقُوما وأما الكفار فلا يعرفون اللَّه، ولا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ قلت: المراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها. وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار. كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرهما وما لا بد للفعل منه، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر، حيث لم ينفعل إلا به، وكان من لوازمه. على أنّ مشركي مكة كانوا يعرفون اللَّه ويعترفون به (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزخرف: 87]. فان قلت: فقد جعلت قوله: (اعْبُدُوا) متناولا شيئين معاً: الأمر بالعبادة، والأمر بازديادها. قلت: الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئاً آخر. فإن قلت: (رَبَّكُمُ) ما المراد به؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: نعمة الله حاصلة فيك، شاملة عليك لا اسأل الله النعمة الحاصلة لك ولكن اسأله دوام تلك النعمة، فلو أني سألت النعمة الحاصلة لك، لكنت كمن يسأل قائمًا أن يقوم فإنه من من تحصيل الحاصل. قوله: (فمشروط فيها ما لا بد لها منه) وهذه مسألة أصولية وهي أن وجوب الشيء مطلقًا يوجب وجوب ما لا يتم إلا به وكان مقدورًا. قل: فيه خلاف، فعند من قال: المعارف ضرورية فالأمر بالعبادة للكافرين جائز، ومن قال: إنها غير ضروريةٍ قال: الأمر للكافر بالعبادة، الأمر بما هو من متمماتها، فيسلتزم الأمر بالمعرفة. قوله: (وليس شيئًا آخر) وها هنا بحث وهو أن اللفظ إذا أطلق وهو محتمل لمعنيين، فلا يخلو إما: أن يطلق على حقيقتين مختلفتين كاللفظ المشترك، أو على أفراد حقيقةٍ واحدةٍ كالجنس، أو على حقيقةٍ ومجاز، وأما القسم الأول والثالث فلا يجوز إرادتهما معًا، فبقي الثاني: وهو المراد بقوله: "والأمر بازدياد العبادة عبادة وليس شيئًا آخر"؛ لأن تلك الزيادة أيضًا عبادة.

قلت: كان المشركون معتقدين ربوبيتين: ربوبية اللَّه، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا وكان قوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعاً، فالمراد به «ربكم» على الحقيقة. و (الذي خلقكم) صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم. ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة، إلا أن الأول أوضح وأصح. والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء. يقال: خلق النعل، إذا قدرها وسواها بالمقياس. وقرأ أبو عمرو: (خلقكم) بالإدغام. وقرأ أبو السميقع: وخلق من قبلكم. وفي قراءة زيد بن على: (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لَكُمُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فالمراد به ربكم على الحقيقة). أي: الرب الذي إذا خوطب به مطلقًا سائر الناس لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ غير الله تعالى. والفرق أن الرب في الأول متعدد، والمربوب واحد. أي: طائفة واحدة فلذلك يجيء اللبس، وفي الثاني: بالعكس فلا لبس. قوله: (ولا يمتنع هذا الوجه) أي: أن تكون الصفة جارية على المدح في خطاب الكفرة، لأنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا، والرب الحقيقي هو هو. وأيضًا فإذا سمعوه من جانب الحق لم يشبه عليهم، والأول أصح لما تعورف بينهم، ولأن قول السحرة (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 121 - 122] ليس إلا لدفع الاحتمال. قوله: (وهي قراءة مشكلة) لأن فيها موصولين وصلة واحدة. والإقحام: الإدخال بالشدة. قوله: (يا تيم تيم عدي لا أبالكم) عجزه:

"تيماً" الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في: لا أبالك: ولعل للترجى أو الإشفاق. تقول: لعل زيداً يكرمني. ولعله يهينني. وقال اللَّه تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه: 44]، (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى: 17]. ألا ترى إلى قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى: 18]. وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، لجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به. قال من قال: إن «لعل» بمعنى «كى»، و «لعل» لا تكون بمعنى «كى»، ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. وأيضا فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: عسى، ولعل، ونحوهما من الكلمات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يلقينكم في سوأةٍ عمر وذلك أن عمر بن لجأٍ التيمي أراد أن يهجو جريرًا، فخاطب جرير قبيلة يتمٍ وقال: لا تتركوا عمر أن يهجوني فيصيبكم شري. قال المصنف: فإن قيل: يا تيم كلام مفيد بنفسه، فجاز وقوع تيم الثاني تأكيدًا له بخلاف "والذين" في الآية، فإنه غير مفيدٍ فكيف يجوز تأكيده بمن؟ والجواب: أن "الذين" مفيد أيضًا فائدة الإشارة وإن كان المشار إليها مبهمًا، ولهذا رجع الضمير إليه، والضمير إليه، والضمير إنما يرجع إلى المفيد فإنك تقول: الذي فعلته. قوله: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44] مثال الترجي. وقوله: (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى: 17] مثال الإشفاق، وكذا المثالان السابقان. قوله: (قال من قال) معلل قوله: "لأنه إطماع". قوله: (وأيضًا فمن ديدن الملوك) عطف على قوله "إطماع من كريم" من حيث المعنى.

أو يخيلوا إخالة. أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم، لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب. فعلى مثله ورد كلام مالك الملوك ذى العز والكبرياء. أو يجيء على طريق الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد، كقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [التحريم: 8]. فان قلت: ف «لعل» التي في الآية ما معناها وما موقعها؟ قلت: ليست مما ذكرناه في شيء، لأن قوله: (خَلَقَكُمْ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، لا يجوز أن يحمل على رجاء اللَّه تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة: وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يخيلوا إخالةً)، الجوهري: وقد أخالت السحاب وأخيلت وخايلت، إذا كانت ترجى المطر. وأخلت فيه خالاً من الخير، أي: رأيت فيه مخيلته. وعن يعقوب: وخلت الشيء خيلاً وخيلةً ومخيلةً، أي: ظننته. قوله: (أو يجئ على طريق الإطماع) عطف على قوله: "وقد جاءت على سبيل الإطماع" كأنه قيل: "لعل" إما تجيء على سبيل الإطماع مع التحقيق مجازًا أو على طريق الإطماع دون التحقيق حقيقة. قوله: (راجين للتقوى ليس بسديد) أي: لا يصح إسناد الرجاء إليهم حين خلقهم الله تعالى؛ لأنهم حينئذٍ لم يكونوا عالمين بالرجاء ولا بالتقوى، ولا بشيءٍ من المعاني حتى تتوجه أذهانهم إليها. ويمكن أن يقال: لم لا يجوز أن يكون: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21] على هذا حالاً مقدرة؟ قيل في جوابه: لأنهم حالة الخلق ليسوا براجين ولا مقدرين الرجاء، وأجيب: إن لم يجز مقدرين الرجاء بكسر الدال لم لا يجوز مقدرين بفتحها. قال في قوله تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ

ولكن «لعل» واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن اللَّه عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم - وهم مختارون بين الطاعة والعصيان، كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا) [الصافات: 112]: حال مقدرة، وقدر: (وَبَشَّرْنَاهُ) بوجود إسحاق (نَبِيًّا)، أي: بأن توجد مقدرة نبوته. قوله: (وهداهم النجدين) أي: طريقي الخير والشر. قوله: (لترجح أمرهم)، الأساس: رجحت الشيء وزنته بيدي ونظرت ما ثقله. ومن المجاز: رجح أحد قوليه على الآخر، وترجح في القول: تميل فيه. قوله: (حال المرتجى) أي: الذي يتوقع منه الفعل حقيقة كما قال صاحب "المفتاح": فتشبه حال المكلف الممكن من فعل الطاعة والمعصية- أي: مع تكليف الله أياه للابتلاء- بحال المرتجى المخير بني أن يفعل وأن لا يفعل- أي: مع مرتجيه الذي لا يعلم العاقبة- ثم استعير لجانب المشبه "لعل" جاعلاً قرينة الاستعارة علم الذي لا تخفى عليه خافية فيه. فهو من الاستعارة التبعية. قالوا: قوله: "لأن الرجاء لا يجوز على الله" إلى قوله: "ليس بسديد" هذا إنما يلزم إذا علق "لعل" بـ "خلقكم" وأما إذا علق بقوله: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) اتقاءً واحترازًا من عقابه، أو اعبدوا راجين أن تحصل لكم التقوى التي هي غاية العبادة بحسب تفسي "لعل" بمعنى الترجي أو الإشفاق، فلا يكون مجازًا. وعليه قول القاضي في "تفسيره": (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7، الملك: 2]، وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار. فإن قلت: كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حال من الضمير في (اعْبُدُوا) كأنه قال: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين جوار الله تعالى؛ نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين، وهو التبري من كل شيءٍ سوى الله تعالى إلى الله، وأن العابد ينبغي أن لا يتغير بعبادته، ويكون ذا خوفٍ ورجاءٍ، قال الله تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة: 16] (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء: 57] أو من مفعول (خَلَقَكُمْ) والمعطوف عليه على معنى: أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى ليترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه. قلت: لعل اختيار المصنف القول الثاني لكونه أقرب إلى مذهبه. واعلم أن الذي يفهم من ظاهر كلام المصنف أن "لعل" مشترك في الترجي والإشفاق، وفي الإطماع ملحق بـ "عسى". قال ابن الحاجب: "لعل" معناها التوقع، وقد يكون التوقع للمرجو والمخوف، ولكنه كثر في المرجو حتى صار غالبًا عليها. قلت: وأما كونها للإطماع فلتضمنها معنى "عسى"، ومن ثم عومل معها معاملتها في قوله: لعلك يومًا أن تلم ملمة

فلم قصره عليهم دون من قبلهم؟ قلت: لم يقصره عليهم، ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "عسى" معناها الطمع والإشفاق والإطماع من الله واجب. تم كلامه. ثم الإطماع إما راجع إلى المتكلم فيكون لتحقيق ما يطمع فيه؛ لأنه كريم، أو عظيم الشأن، أو إلى السامع فلا يكون للتحقيق. وقال ابن الحاجب: ومنهم من زعم أنها في حق الله لتحقيق ما تعلقت به، ويقف عليه في قوله تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 4]. ولم يتذكر ولم يخش، ومنهم من زعم أن معناها في مثل ذلك للتعليل، ويقف عليه في مثل (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى: 17]، وإليه الإشارة بقوله: "لعل لا تكون بمعني كي" أي: لا تظنن أن "لعل" بمعنى "كي" على الحقيقة، ومن قال: إنه بمعنى "كي" إنما قال لأنه حين رأي قائلها يستعملها في تحقيق المطلوب وإنجاز الموعود، زعم أنها بمعنى "كي"، وذلك إنما نشأ من المقام، فإن القائل: إما كريم لا يجوز إخلاف إطماعه لكرمه وشمول رحمته، وإما عظيم نطق بها إبداءً لعظمته، وإظهارًا لأبهته، فالرمزة من مثله تقوم مقام مبالغاتٍ شتى من غيره. وما هذا شأنه لا يكون حقيقة. فإن قلت: قوله "ليست مما ذكرناه في شيءٍ" يقتضي أن لا تكون "لعل" بمعنى "كي"، ومرجع تقريره الذي سيذكره إلى ذلك بدليل قوله: "خلقكم للاستيلاء"، وقوله بعد ذلك "خلقكم لكي تتقوا". قلت: إن المصنف كان في بيان مجيء "لعل" على الحقيقة، وقال: هي للترجي والإشفاق،

فإن قلت: فهلا قيل تعبدون؛ لأجل (اعبدوا)، أو: اتقوا؛ لمكان (تتقون) ليتجاوب طرفا النظم. قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدّى ذلك إلى تنافر النظم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وضم إليهما معنى الإطماع، وبنى عليه مسألة المجاز فيها، وهي بمعنى كي. وأما قوله: "ليست مما ذكرناه في شيءٍ" فمعناه: أن المذكور في معنى "لعل" لا يجوز حمل الآية على شيءٍ من ذلك، أما بمعنى "كي" لتكون من حمل النقيض على النقيض بواسطة التلميح من الكريم الذي إذا أطمع فعل، ومن العظيم الذي إذا رضي قطع، فالمقام يأباه؛ لأن المقصود من الإيراد الاختبار والابتلاء؛ لقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]، فلا يحصل ذلك إلا على طريق الاستعارة التبعية كما سبق، فطريق المجازين مختلف، وإن كان مآلهما إلى معنى "كي"، والله أعلم. الانتصاف: كلام الزمخشري حسن إلا قوله: "وأراد منهم التقوى" فإنه على مذهبه، والله تعالى مريد عند أهل السنة من كل أحدٍ ما وقع منه. وقال أيضًا، كلامه: "وأقدرهم وألقى بأيديهم زمام الاختيار" خطأ. قوله: (فهلا قيل: تعبدون) يعني من الصنعة البديعية رد العجز على الصدر، وهو أن يجعل أحد اللفظين المكررين في أول الفقرة والآخر في آخرها، كقوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) [الأحزاب: 37] وأول الآية الأمر بالعبادة وآخرها في ذكر التقوى، فلو جعل مقدمتها مطابقةً لسياقها بأن يقال: يا أيها الناس اتقوا، أو بالعكس بأن يقال: لعلكم تعبدون، لحصل المطلوب.

وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده. فإذا قال: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة، وأشدّ إلزاما لها، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يمينى إلا لجرّ الأثقال. ولو قلت: لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع. [(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)]. قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحاصل الجواب: أن المطابقة حاصلة من حيث المعنى مع إعطاء معنى المبالغة، وهي: أن التقوى عرفًا عبارة عن الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن جميع المنهيات، وإليه الإشارة بقوله: "والتقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده" ويمكن أن يكون الأسلوب من باب الترقي، والمراد في "لعلكم" معنى الترجي، لكن معناه راجع إلى المكلف، أي: اعملوا في عبادة ربكم علم من يرجو الترقي فيها من الأهون إلى الأغلظ. الانتصاف: قوله: "خلقكم للاستيلاء على أقصى غاية العبادة" مفرع على مذهبه، والأليق أن يقال: خلقكم على حالةٍ من حقكم معها أن لا تدعوا من جهدكم في التقوى شيئًا. الإنصاف: لا يرد عليه ما ذكره؛ لأن خلقهم للاستيلاء أعم من كون الاستيلاء منهم أو من الله تعالى، وحينئذٍ يخص عمومه بأن المراد من خلق ذلك. قوله: (خلقهم أحياءً قادرين) نحو قوله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء: 149] على أنهما حالان مترادفتان مقدرتان.

وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها - أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار رزقا لبنى آدم، ليكون لهم ذلك معتبرا: ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله (المُقِلَةِ والمُظِلَةِ) أي: الأرض والسماء، ومنه الحديث: ((ما أقلت الغبراء وأظلت الخضراء على أصدق لهجه من أبى ذر)). قوله: (المنتج)، الجوهري: نتجت الناقه على ما لم يسم فاعله تنتج نتاجا و ((من الحيوان ((متعلق بالمنتج، و ((من ألوان)) بيان ((أشباه)). قوله: (ليكون لهم ذلك معتبراً ومُتَسلَقاً) أي: مدرجا ومصعدا يرقون منه إلى معرفة التوحيد، وهو تعليل لقوله: ((قدم سبحانه وتعالى من موجبات عبادته)) وقوله: ((فيتيقنوا عند ذلك)) نتيجته. أما بيان الترقي فهو: أنه تعالى منعم على الأطلاق، فلا بد من ظهور هذه الصفة، ومظهرها وجود المعم عليه وهو المكلف وإليه الإشارة بقوله: ((خلقهم))، لابد من تمكنه مما خلق له أيضا، وهو أن يكون حيا قادرا، ولما كان الخلق والقدرة كالمقدمة للمطلوب قال: ((ومقدمتها والسبب في التمكن من العبادة والشكر))، ولما أن القيام بالشكر والعبادة مسبوق بمعرفه المنعم والمعبود احتج إلى التفكر والنظر المؤدى إلى تلك المعرفة. وأول شيء يقع نظر المكلف إليه مقره ومكانه، وإليه الإشاره بقوله: ((ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرهم))، ثم بعد هذا النظر إذا ساعدهم التوفيق بأن يأخذوا في العروج من السفليات إلى العلويات

ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر. والموصول مع صلته إمّا أن يكون في محل النصب وصفا كـ (الذي خلقكم)، أو على المدح والتعظيم. وإمّا أن يكون رفعا على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح. وقرأ يزيد الشامي: بساطا. وقرأ طلحة: مهادا. ومعنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس: أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده. فإن قلت: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وآثارها، فينظروا إلى هذه السماء التي هي كالسقف لمفترشهم، وإليه الإشارة بقوله: ((ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة على هذا القرار)) أي: المقر والمفترش، ثم ينظروا بعد النظر إليها إلى ما يحصل من ازدواجها مع مفترشها التي هي فراشهم من أنواع الثمار والنبات، وإليه الإشارة بقوله: ((ثم ما سواه - أي: ما سواه الله -عز وجل من شبه عقد النكاح)). ثم إن المصنف ضمن في دلائل الآفاق دلائل الأنفس على سبيل الإدماج، بأن جعل دليل الأنفس مشبها به، ودليل الآفاق مشبها، وذلك قوله: "أشباه النسل المنتج من الحيوان" لينضم إلى دليل الآفاق دليل الأنفس، لله دره وبيانه وتقريره. قوله: (يتعرفونها)، الجوهري: تعرفت ما عند فلان، أي: تطلبت حتى عرفت. أي: يطلبون ما به يعرفون وجود النعمة ليقابلوها بلازم الشكر، أي: العبادة؛ لأن الشكر لغة: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، ولازمه آداب الجوارح في العمل، وتحقيق مراضيه بالقلب وثناؤه باللسان. وقيل: المراد ((بلازم الشكر)): الشكر اللازم. قوله: (وإما أن يكون رفعا على الابتداء) أي: على أنه خبر لمبتدأ محذوف

هل فيه دليل على أنّ الأرض مسطحة وليست بكرّية؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش سواء كانت على شكل السطح أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع، لعظم حجمها واتساع جرمها وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهلا في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل. والبناء مصدر سمى به المبنى - بيتا كان أو قبة أو خباء أو طرافا - وأبنية العرب: أخبيتهم، ومنه بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا. فإن قلت: ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت: المعنى أنه جعل الماء سببا في خروجها ومادّة لها، كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجا لها من حال إلى حال، وناقلا من مرتبة إلى مرتبة حكما ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكاراً صالحة، وزيادة طمأنينة، وسكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بيتا كان أو قبة أو خباء)، الجوهري: واحد الأخبية من وبر أو صوف، لا من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيت، والطراف: بيت من أدم. قوله: (ومنه: بنى على امرأته)، النهاية: البناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأه بنى عليها قبة ليدخل بها فيها. قوله: (وسكون إلى عظيم قدرته)، الأساس: سكنت إلى فلان: استأنست به، ومالي سكن، أي: من أسكن إليه من امرأه وحميم. والتدرج إلى الشيء العظيم سبب لمؤانسة المرء به، كما أن المبادهة به سبب للاستيحاش، ألا ترى إلى إرشاد إبراهيم قومه إلى التوحيد، كيف

ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب. و «من» في (مِنَ الثَّمَراتِ) للتبعيض بشهادة قوله: (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [فاطر: 27]، وقوله: (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) [فاطر: 27]، ولأنّ المنكرين أعني: ماء، ورزقا. يكتنفانه. وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل: وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات، ليكون بعض رزقكم. وهذا هو المطابق لصحة المعنى، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخذ في إبطال معتقدهم شيئا فشيئا، والأخذ من الأدون إلى الأعلى من الكوكب أولا، ثم القمر ثانيا، ثم الشمس ثالثا، ثم قوله: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)] الأنعام: 78 - 79 [إذ لو خاطبهم أولا بالتوحيد لم يقع هذا الموقع. قوله: ] بشهادة قوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [يعنى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)] الأعراف: 57 [لأنه تعالى لم يرد بقوله: (سَحَابًا ثِقَالًا) كل السحاب، ولا بالبلد الميت جميع الأراضي، ولا أنزل من السحاب الثقال كل الماء، ولا أخرج جميع الثمرات، بل أراد بالكل الأكثر، ما يستعمل الكل في التنزيل بمعنى أكثر، منه قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)] الأحقاف: 25 [وقوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)] النمل: 16 [، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)] النمل: 23 [، وأما قوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ)] فاطر: 27 [فدلالته على البعضية من حيث الجمعية والتنكير لأنها جمع قلة. قوله: (لأنه لم ينزل من السماء الماء كله) أي: لم ينزل من السماء كل الماء الذى أخرج به كل الثمرات؛ لأن بعضا من الثمرات مخرج من غير ماء السماء بدليل قوله: ((وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات)) وقوله: ((ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات)).

ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز أن تكون للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم ألفا. فإن قلت: فيم انتصب (رِزْقاً)؟ قلت: إن كانت «من» للتبعيض. كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبنية، كان مفعولاً لـ"أخرج". فإن قلت: فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: يخالفه ما قال في ((الزمر)): ((كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه)). قلت: على تقدير صحة هذه الرواية، ((الفاء)) في قوله "فأخرج به" مستدعية للإخراج بعد الإنزال بلا تراخ عادة، ومفهومه: أن بعضا من الثمرات مخرج على غير هذه الصورة، وهي ما يسقى بماء الآبار والعيون والأنهار فإنها متراخية عادة عن الإنزال، لأنه تعالى استودعها الجبال، ثم أجراها في الأرض وأخرج بها بعض الثمرات. قوله: (إن كانت ((من)) للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له) قيل: إذا كانت ((من)) للتبعيض يكون محلها منصوبا على المفعول به، ورزقا على المفعول له، ومحل ((لكم)) منصوب على أنه مفعول به لـ ((رزقا)) لأنه مصدر، وإن كانت للتبين كانت حالا ورزقا مفعول به، و ((لكم)) صفة لـ ((رزقا)). وقيل: إذا قلت: أكلت من هذا الخبز، تكون ((من)) للتبعيض لا غير، وإذا قلت: أكلت من هذا الخبز الجيد بنصب الجيد، كان للبيان، وعلى أن تكون ((من)) مفعولا به كانت اسما كـ ((عن)) في قول الشاعر: فلقد أراني للرماح دريةً ... من عن يميني مرة وأمامي

فلم قيل: (الثمرات) دون الثمر والثمار؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره. ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة، لقصيدته. وقولهم للقرية: المدرة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدرية: هي الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، والمعنى من جانب يميني فـ ((من)) في الآية و ((عن)) في البيت مجازان عن متعلق معناهما كما قال صاحب المفتاح: ونازلان منزلتهما في الاعتبار، قال المصنف في (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا)] يوسف: 31 [: حاش: حرف من حروف الجر وضعت موضع التنزيه والبراءة. والدليل عليه قراءة من قرأ ((حاشاً لله)) بالتنوين، فإن قلت: فلم جاز أن لا ينون - أي في المشهورة - بعد إجرائه مجرى براءة؟ قلت: مراعاة لأصله الذى هو الحرفية؛ ألا ترى إلى قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا ((عن)) غير معرب على أصله. قوله: (أن يُقصَدَ بالثمراتِ جماعة الثمرة) يريد أن مفرد الثمرات الثمرة التي يُرادُ بها الثمارُ. والثمرات مشتملةٌ على أفرادٍ، كل فرد منها ثمار، فإذن تفيد الثمرات من الكثرة ما لا تقيده الثمار، وإن كانت جمع قلة. قوله: (ونظيرُه) أي: نظير إرادة الثمار بالثمرة. قوله: (كلمة الحويدرة) الحويدرة: اسم شاعر، تصغير حادرة، واسمه قطبة بن محصن. روى أن حسانا كان إذا قيل له: أنشدنا، قال: هل أنشدكم كلمة الحويدرة؟ أي: قصيدته العينية التي مستهلها:

وإنما هي مدر متلاحق. والثاني: أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية، كقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) [الدخان: 25]، و (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]. ويعضد الوجه الأوّل قراءة محمد بن السميقع: من الثمرة، على التوحيد. وقَبْلِكُمْ صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل اسما للمعنى فهو مفعول به، كأنه قيل: رزقا إياكم. فإن قلت: بم تعلق (فَلا تَجْعَلُوا)؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه: أن يتعلق بالأمر. أى اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أَنْداداً لأنّ أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل للَّه ندّ ولا شريك. أو بلعل، على أن ينتصب (تجعلوا) ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بكرت سميه بكرة فتمتع ... وغدت غدو مفارق لم يربع ابن السكيت: ربع الرجل: إذا وقف وتحبس. قوله: (وإن جعل اسما للمعنى) أي: مصدرا، فهو مفعول به، كأنه قيل: أعطاكم، وهو المراد بقوله: ((رزقا إياكم)) كما تقول: رزقه العلم والمال أي: أولاه وأعطاه. قوله: (فيه ثلاثة أوجه) والوجوه ذكرها القاضي ملخصا قال: (فَلَا تَجْعَلُوا) متعلق ((باعبدوا)) على أنه نهي معطوف عليه، أو نفي منصوب بإضمار ((أن)) جواب له، أو بـ ((لعل)) على أن نصب (تَجْعَلُوا) نصب (فَاطَّلَعَ) في قوله تعالى: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ)] غافر: 36 - 37 [إلحاقا لها بالأشياء السته؛ لاشتراكها في أنها غير موجبة، المعنى: إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا، أو ((بالذي)) جعل إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه: لا تجعلوا، فالفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والمعنى: من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به.

انتصاب، (فأطلع) في قوله عز وجل: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر: 36 - 37] في رواية حفص عن عاصم، أى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، أو بالذي جعل لكم، إذا رفعته على الابتداء، أى هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء. والند: المثل. ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ. قال جرير: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: والوجه الأول للمصنف مبنى على أنه منصوب جوابا للأمر، ولذلك علله بقوله: ((لأن أصل العبادة التوحيد، وأن لا يجعل له ند ولا شريك))، وأما على عطف النهي على الأمر، فالآية مثل قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)] النساء: 36 [. والوجه الثانى في الكتاب على غير ما ذهب إليه القاضي لأنه لم يجعل ((لعل)) على تأويل الشرط، بل جعلها بمعنى ((كي)) على تشبيه الحالة بالحالة في قوله تعالى: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ)] غافر: 36 [، ثم الاستعارة على سبيل التبعية كما مضى. والوجه الثالث غير مخالف لقوله: ((وإن زاد فيه لفظة ((هو)) حيث قال: ((هو الذى خلقكم)) لأنه في بيان المعنى لا تقدير الكلام، وفيه إشارة إلى معنى الاختصاص؛ لأنه استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث))، فكأن سائلا حين سمع قوله: (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) سأل: ما بالنا نخضه بالعبادة وأن لا نشرك به شيئا؟ فقيل: لأنه هو الذى خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة. وفي الوجوه إشارة إلى الإشعار بالعلية؛ لأن الحكم مترتب على الأوصاف. قوله: (حفكم)، الأساس: حفوا به واحتفوا: أطافوا، وهم حافون به وحففته بالناس: جعلتهم حافين به. قوله: (المناوئ)، الأساس: نؤتُ بالحمل: نهضت به، وناوأت الرجل: عاديته، ومعناه: ناهضته للعداوة.

أتَيماً تَجْعَلُون إِلَىَّ نِداًّ ... وما تَيْمٌ لِذِى حَسَب نَدِيدَا وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ندّ ندا إذا نفر. ومعنى قولهم: ليس للَّه ندّ ولا ضدّ نفى ما يسدّ مسدّه، ونفي ما ينافيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أتيما تجعلون) البيت. ضمن ((تجعلون)) معنى ((يضمون))، أي: يضمون إلى تيما ويجعلونه ندا. ويجوز أن يكون ((تيما)) مفعولا لفعل محذوف، أي: يضمون وينسبون إلى، تيما يجعلونه ندا لى، وأن يكون إلى مع متعلقة المحذوف حالا من ندا. قوله: (ونافرته)، الأساس: نافرته إلى الحكم فنفرني عليه، أي حاكمته فغلبني عليه، وأصل المنافرة قولهم: أينا أعز نفرا. قوله: (ليس لله ند ولا ضد) لف. وقوله: ((نفي ما يسد مسده، ونفي ما ينافيه)) نشر. الراغب: ند الشيء: مشاركه في الجوهر. وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل ولا ينعكس، يقال: نده ونديده ونديدته. والضدان: الشيئان اللذان تحت جنس واحد وينافي كل منهما الآخر في أوصافه الخاصة، وبينها أبعد البعد، كالخير والشر والسواد والبياض، وما لم يكونا تحت جنس واحد كالحلاوة والحركة لا يقال لهما ضدان، قالوا: الضد هو أحد المتقابلين، فإن المتقابلين هما الشيئان المختلفان بالذات وكل واحد قبالة الآخر، ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد وذلك أربعة أشياء: الضدان، والمتناقضان كالضعف والنصف والوجود والعدم، والنفي والإثبات في الأخبار، وكثير من أهل اللغة والمتكلمين يجعلون كل ذلك من المتضادات ويقول: الضدان ما لا يصح اجتماعهما

فإن قلت: كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنها تخالف اللَّه وتناويه. قلت: لما تقرّبوا إليها وعظموها وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادّته فقيل لهم ذلك على سبيل النهكم. كما تهكم بهم بلفظ الندّ، شنع عليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في محل واحد. وقيل: الله تعالى لا ضد له ولا ند؛ لأن الند هو الاشتراك في الجوهر، والضد هو أن يعتقب الشيئان المتنافيان على جنس واحد، والله تعالى منزه عن أن يكون له جوهر، فإذا لا ضد له ولا ند، وقال تعالى: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)] مريم: 82 [أي: منافين لهم. قوله: (كانوا يسمون) توجيه السؤال: أن الكفرة كانوا يجعلون أصنامهم مساوية لله تعالى في التسميه والتقرب إليهم، وما كانوا يزعمون أنهم يخالفون الله في شيء من ذلك حتى يكونوا أندادا فكيف قيل: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا)] البقرة: 22 [، وخلاصة الجواب: أن هذه التسمية، أي: تسمية الله إياها أندادا على التهكم لأنهم ينزلون الضد مقام الضد لضرب من التهكم كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)] آل عمران: 21 [استحقارا لهم وازدراء لفعلهم، أي: أنتم لا تعلمون أن مثل هذا التعظيم والتسمية تؤدى إلى جعلها قادرة على مخالفته ومناوأته، فهي استعارة مصرحة تحقيقية أصلية واقعة على سبيل التهكم. قوله: (شنع عليهم) يعنى: كما تهكم بهم بإثبات الند بولغ فيه بأن أوثر، لفظ الجمع، يعنى لم يكتفوا بذلك الفعل الشنيع حتى ضموا إليه ما زادت به الشناعة، فيكون من باب الإيغال كقولها:

واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط. وفي ذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه: أرَبًّا واحِداً أمْ ألْفُ رَبٍ ... أدِينُ إذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ وقرأ محمد بن السميقع: فلا تجعلوا للَّه ندا. فإن قلت: ما معنى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ قلت: معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنه علم في رأسه نار قوله: (أربا واحدا) البيت، أدين، أي: أتخذه دينا. تقسمت الأمور، أي تفرقت الأحوال، من قولهم: تقسمهم الدهر فتقسموا: فرفهم فتفرقوا، من ((الصحاح)). أي: إذا تفرقت الأمور وفوض اختيار هذا الأمر إلى أختار ربا واحدا أم ألف رب؟ أي: كيف أترك ربنا واحدا وأختار أربابا متعددة كقوله تعالى: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)] يوسف: 39 [وبعده: تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الرجل البصير روينا عن البخاري عن ابن عمر كان يحدث عن رسول الله - صل الله عليه وسلم-: ((أنه لقى زيد بن عمرو ابن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على النبي - صل الله عليه وسلم- الوحي، فقدم إليه رسول الله - صل الله عليه وسلم- سفرة فيها لحم، فأبى أن ياكل منها، ثم قال زيد: إنى لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه)). قوله: (معناه: وحالكم وصفتكم) يريد أن موقع (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) موقع الحال المقررة لجهة الإشكال المتضمنة لمعنى التعجب والتعجيب كقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ

والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه. وهكذا كانت العرب، خصوصاً ساكن والحرم من قريش وكنانة، لا يصطلى بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها. ومفعول (تعلمون) متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة. والتوبيخ فيه آكد، أى أنتم العرّافون المميزون. ثم إنّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام للَّه أندادا، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل. أو: أنتم تعلمون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا)] البقرة: 28 [أي: لا تجعلوا لله أندادا والحال أنكم من صحة التمييز والمعرفة بمنزلة، يعنى جعلكم لله أندادا مع هذا الصارف القوى مظنة تعجب وتعجيب. فـ ((ثم)) في قوله: ((ثم إن ما أنتم عليه)) للاستبعاد كما في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا)] السجده: 22 [. قوله: (لا يصطلى بنارهم)، النهاية: وفي حديث السقيفة: ((أنا الذى لا يصطلى بناره)) الاصطلاح: افتعال من صلى النار إذا تسخن بها. أي: أنا الذى لا يتعرض لحربي يقال: فلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا لا يطاق. ومعناه: لا تنال ناره لرفعة شانه حتى يصطلى بها، ونظيره: لا يشق غبارهم، فهما كنايتان عن علو المرتبة والسبق. قوله: (وأنتم من أهل العلم والمعرفة) هذا على تنزيل المعتدى منزلة اللازم، أي: أنكم توجدون على هذه الحقيقة إيهاما للمبالغة، وإليه الإشارة بقوله ((أنتم العرافون المميزون)). قوله: (وأنتم تعلمون أنه لا يماثل) إلى آخره، إشارة إلى قصد التعميم وعدم القصر على المذكور؛ إذا لو ذكر واحد مما ذكره المصنف لاقتصر عليه.

ما بينه وبينها من التفاوت. أو: وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم: 40]. [(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)]. لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويحققها، ويبطل الإشراك ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك وتصحيحه، وعرفهم أنّ من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرفون؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلم الطريق إلى إثبات ذلك) أي: إثبات التوحيد وإبطال الشرك كأنه قال: يا أيها الناس، اعلموا أن لكم معبوداً بجب عليكم عبادته؛ لأنه خلقكم وخلق آباءكم، وجعل لكم مظلة ومقلة، وأنعم عليكم بإنزال المطر وإخراج الثمر؛ فإذا لا تجعلوا له شريكا. فالتعليم هو ترتب الحكم على الأوصاف. قوله: (وغطى على ما أنعم عليه) يشير إلى قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)] البقرة: 22 [أي: لا يخفي عليكم بطلان أمر الأصنام وحقيقة ألوهية الملك العلام، فلا تكابروا عقولكم ولا تغطوا على ما رزقكم من المعرفة. قوله: (وأراهم) عطف على قوله ((عطف على ذلك)) على سبيل التفسير و ((بإرشادهم)) متعلق بقوله: ((أراهم))، والمراد بالإرشاد ما سبق في قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ)] البقرة: 2 [وطريقة الإتيان بـ ((إن)) الشرطية المستدعية للشك وخلو الجزم في مقام القطع ليحزر أنفسهم ويجربوا طباعهم، فقوله: ((على إثبات نبوة محمد -صل الله عليه وسلم-)) في مقابلة ما يثبت الوحدانية، ((وما يدحض الشبة)) في مقابلة ((ويبطل الإشراك ويهدمه))، ((وأراهم كيف يتعرفون)) في مقابلة ((علم الطريق إلى إثبات ذلك))، فطريق إثبات التوحيد هو التفكر في خلق أنفسهم وما يرتفقون به على الترتيب كما سبق، والتنبيه عليه بقوله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أهو من عند اللَّه كما يدعى، أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته. فإن قلت: لم قيل: (مِمَّا نَزَّلْنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من محازه لمكان التحدي. وذلك أنهم كانوا يقولون: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويذوقوا طباعهم)، الجوهري: ذقت القوس: إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها. قوله: (وهو من محازه) قيل: المعنى: النزول على سبيل التدريج من محاز استعمال لفظ التنزيل. وقلت: يأباه الجمع والتعليل على أنه من توضيح الواضح، والوجه أن يقال: هو راجع إلى معنى قوله: لم قيل: نزلنا دون أنزلنا؟ لأنه من محازه ومواقعه، و ((من)): إما ابتدائي أو تبعيضي، أي: ناس منه أو بعض مواقعه، لأن فوائده كثيرة؛ أما بالنسبة إلى رسول الله? فلضبط ألفاظه وتسهيل حفظه ثم التدرج إلى معرفة معانيه، وأما بالنسبة إلى المؤمنين فللتوقيف على ما يفتقرون إليه من المصالح السانحة، وأما بالنسبة إلى المخالفين فلإزاحة خللهم وتبكيتهم كما نحن بصدده، ولذلك علله بقوله ((لمكان التحدي)) وبين مقام التحدي بقوله: ((ذلك أنهم كانوا يقولون)) إلى آخره. ألا ترى حين لم يقصد هذه المعاني كيف جيء بلفظ الإنزال في نحو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)] البقرة: 4 [وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)] الكهف: 1 [إلى غير ذلك! فليتأمل مواقعها. قال القاضي: إنما قال (مِمَّا نَزَّلْنَا) لأن نزوله نجما فنجما على ما عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)] الفرقان: 32 [، فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزالة للشبهة، وإلزاماً للحجة.

لو كان هذا من عند اللَّه مخالفاً لما يكون من عند الناس، لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على حسب النوازل وكفاء الحوادث «2» وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقا حيناً فحيناً، وشيئاً فشيئا حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمى النائر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزله اللَّه لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة: قال اللَّه تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان: 32]. فقيل: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من محازه))، الأساس: قطع فأطاب المحز ومن المجاز: تكلم أو أشار فأصاب المحز. قوله: (وكفاء الحوادث)، الأساس: قولهم: لا كفاء له، مصدر بمعنى المكافأة، وضع موضع المكافئ، قال حسان: وروح القدس ليس له كفاء أي: مكافئ مقاوي، وهو كفؤ بين الكفاءة. الجوهري: كل شيء يساوى شيئا حتى يكون مثله فهو مكافئ له. قوله: (فقيل: إن ارتبتم) عطف على قوله ((كانوا يقولون)).

سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات. وهذه غاية التبكيت، ومنتهى إزاحة العلل. وقرئ (على عبادنا) يريد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأمته. والسورة: الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصلا، فإما أن تسمى بسورة المدينة وهي حائطها، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوّزة على حيالها، كالبلد المسوّر، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد، كاحتواء سورة المدينة على ما فيها. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة. قال النابغة: ولرَهْطِ حَرَّابٍ وقَدٍ سُورَةٌ ... في المَجْدِ لَيْسَ غُرَابُهَا بمُطَارِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه غاية التبكيت) أي: هذه الحجة غاية التبكيت؛ لأنها إفحام للخصم يعنى ما يريد به بطلان الشيء؛ وذلك أنهم كانوا يقولون: لم لم ينزل القرآن جملة واحدة ليكون على خلاف ما نشاهده من الشعراء والخطباء؛ إذا لو كان كلام الله لم يكن على سنن ما يرى عليه الخطابة والشعر؟ فأجيبوا بأن النزول هكذا كما هو دأبكم وعادتكم أسهل لكم أن تأتوا بمثله إذا تحديتم به فلا يشق عليكم معارضته، فلو نزل جملة واحدة وتحديتم بها لصعب عليكم معارضته، فإذا لم تأتوا بأقصر سورةٍ منه فقد دل على حقيقته وبطلان قولكم، فألزموا بعين ما أرادوا بطلانه وهذا قريب من القول بالموجب. قوله: (ولرهط حراب) البيت. حراب بالراء المهملة، وقد بالدال غير المعجمة. قوله: (ليس غرابها بمطار) كناية عن كثرة الرهطين ودوام المجد لهما؛ فإن النبات والشجر إذا كثر في موضع قيل: لا يطير غرابه؛ لأن الغراب إذا وقع في المكان الخصيب أصاب فيه

لأحد معنيين، لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ: وهي أيضاً في أنفسها مترتبة: طوال وأوساط وقصار، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين. وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة، فلأنها قطعة وطائفة من القرآن، كالسؤرة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه. فان قلت: ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت: ليست الفائدة في ذلك واحدة. ولأمر ما أنزل اللَّه التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه على هذا المنهاج مسوّرة مترجمة السور. وبوّب المصنفون في كل فنّ كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. ومن فوائده: أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون ببّاناً واحداً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما لا يحتاج معه إلى أن ينتقل منه إلى مكان آخر. والوجه: أن يراد أنه لا يرام هذه المرتبة لكونها منيعة رفيعة. قوله: (ببانا واحداً) روى البخاري أنه سمع عمر رضى الله عنه يقول: ((لولا أن أترك آخر الناس بباناً واحداً ليس لهم من شيء ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكنى أتركها خزانة لهم يقسمونها)).النهاية: عن أبي عبيد: لا أحسبه عربياً. قال

ومنها: أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه، وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر، إذا علم أنه قطع ميلا، أو طوى فرسخا، أو انتهى إلى رأس بريد؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو سعيد الضرير: ليس في كلامهم ببان، والصحيح عندنا: ((بيانا واحداً))، أي: لأسوين بينهم في العطاء حتى يكونوا شيئا واحداً لا فضل لأحد على غيره. وقال الأزهري: ليس كما ظن، وهذا حديث مشهور رواه أهل الإتقان، وكأنها لغة يمانيه. قوله: (رأس بريد) قال في ((الفائق)): ((سمى المسافة التي بين السكتين بريدا، والسكة الموضع الذى كان يسكنه الفيوج المرتبون من رباط أو قبة أو نحو ذلك وبعد ما بين السكتيرن الفرسخان، فكان يرتب في كل سكة بغال. والبريد في الأصل البغل وهي كلمة فارسية أي: ((بريده دم))، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فعربت وخففت، ثم سمي

نفس ذلك منه ونشطه للسير. ومن ثم جزأ القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة، اعتقد أنه أخذ من كتاب اللَّه طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة؛ فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه ويغتبط به، ومنه حديث أنس رضى اللَّه عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. ومنها أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرسول الذي يركب البريد باسمه. قال الصغاني: الفيج الذى تسميه أهل العراق الركابي والساعي، وهو معرب. قوله: (حذق السورة)، الجوهري: حذق الصبي القرآن، إذا مهر فيه. قوله: (جد فينا) روينا عن البخاري ومسلم عن أنس ((أن رجلا كان يكتب للنبي? وكان قد قرأ ((البقرة)) و ((آل عمران)) وكان الرجل إذا قرأ ((البقرة)) و ((آل عمران)) جد فينا)) الحديث، النهاية: ((جد فينا))، أي: عظم قدره وصار ذا جد. قوله: (كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل). قال الرافعي رحمه الله: ((وأوصل الاستحباب يتأذى بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أحب حتى إن السورة القصيرة أولى من بعض سورة طويلة)).

(مِنْ مِثْلِهِ): متعلق (بسورةٍ) صفة لها، أي: بسورة كائنة من مثله. والضمير لما نزلنا، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: (فَاتُوا) والضمير للعبد ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنْ مِثْلِهِ) متعلق (بِسُورَةٍ). قال الزجاج: وللعلماء فيه قولان: قال بعضهم: من مثل القرآن؛ كقوله تعالى: (فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ)] هود: 13 [وقال بعضهم: من مثله، أي: من بشرٍ مثله. وقالى القاضي: (مِنْ مِثْلِهِ) صفه ((سورة))، أي: بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم، أو لعبدنا، ومن للابتداء، أي: بسورةٍ كائنة ممن هو على حاله من كونه بشراً أميا لم يقرأ الكتب، ولم يتعلم العلوم، أو صلة (فَاتُوا) والضمير للعبد. تم كلامه. لا يقال: إنه إن جعل (مِنْ مِثْلِهِ) صفه لـ ((سورة))، فإن كان الضمير للمنزل فمن للبيان، وإن كان للعبد فمن للابتداء، وهو ظاهر. فعلى هذا إن تعلق قوله: (مِنْ مِثْلِهِ) بقوله: (فَاتُوا) فلا يكون الضمير للمنزل؛ لأنه يستدعى كونه للبيان، والبيان يستدعى تقديم مبهم، ولا تقديم، فتعين أن يكون للابتداء لفظاً أو تقديراً، أي: اصدروا وأنشئوا واستخرجوا من مثل العبد بسورةٍ؛ لأن مدار الاستخراج هو العبد لا غير، فلذلك تعين في الوجه الثاني عود الضمير إلى العبد؛ لأن هذا وأمثاله ليس بوافٍ، ولذلك تصدى للسؤال بعض فضلاء الدهر، وقال: قد استبهم قوله صاحب ((الكشاف)) حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لـ ((ما نزلنا)) تصريحا، وحظره في الوجه الثاني تلويحاً، فليت شعرى ما الفرق بين ((فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا)) و ((فأتوا من مثل ما نزلنا بسورة))! !

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجيب: إنك إذا اطلعت على الفرق بين قولك لصاحبك: أتيت برجل من البصرة، أي: كائن منها، وبين قولك: أتيت من البصرة برجل، عثرت على الفرق بين المثالين، وزال عنك التردد والارتياب. ثم نقول: إن ((من)) إذا تعلق بالفعل يكون إما ظرفا لغوا، و ((من)) للابتداء، أو مفعولا به و ((من)) للتبعيض، إذ لا يستقيم أن يكون بيانا لاقتضائه أن يكون مستقرا، والمقدر خلافه، وعلى تقدير أن يكون تبعيضا فمعناه: فأتوا بعض مثل المنزل بسورة، وهو ظاهر البطلان. وعلى أن يكون ابتداءً لا يكون المطلوب بالتحدي الإتيان بالسورة فقط؛ بل بشرطٍ أن يكون بعضا من كلامٍ مثل القرآن، وهذا على تقدير استقامته بمعزل عن المقصود واقتضاء المقام؛ لأقله نظير، فكيف للكل! فالتحدي إذا بالسورة الموصوفة بكونها من مثله في الإعجاز، وهذا إنما يتأتى إذا جعل الضمير ((لما نزلنا))، و ((من مثله)) صفة لسورة، ((ومن)) بيانية فلا يكون المأتى به مشروطاً بذلك الشرط؛ لأن البيان والمبين كشيء واحد؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)] الحج: 30 [. ويعضده قول المصنف في سوره ((الفرقان)): إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما نزل شيء منها أدخل في الإعجاز، وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة واحدة ويقال لهم: جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، أي: طوله. فإن قلت: إذا كان المال إلى المطلوب المبالغة والإتيان بمثل أقصر سورة يكون القول بأن الضمير للعبد مردودا، وقد قيل به، ونقله الزجاج وغيره؟

فإن قلت: وما "مثله" حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ولهذا جعله المصنف مرجوحا بقوله: لأنهم إذا خوطبوا، وهم الجم الغفير بأن يأتوا بطائفه يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم كان أبلغ في التحدي من أن يقال: ليأت أحد بنحو ما أتى به هذا الواحد. قوله: (فإن قلت: وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل) تلخيصه: أنه تعالى تحدى بإتيان مثل المنزل ومثل الرسول، ولا بد أن يكون المطلوب شيئا يتوجه إليه الطلب، فما ذلك الشيء الذى هو نظير هذا المنزل وهذا الرسول حتى يؤتى به؟ واعلم أن الجواب مبنى على قاعدة: وهي أن التشبيه أكثر ما يقع في إلحاق النظير بالنظير والمثيل بالمثيل، وربما لا يراد فيه النظير والمقابل، بل مجرد وصف يشركهما في أمر، وإن شئت فجرب في قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)] آل عمران: 59 [ قال المصنف: فإن قلت: كيف شبه به وقد ولد بغير أب، وآدم وجد بغير أب وأم؟ قلت: هو مثيله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران. وما نحن بصدده من قبيل الأول دون الثاني؛ ألا ترى إلى قوله: ((بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب)) وقوله: ((ولا قصد إلى مثل ونظير))! فإذن لو قدر أن يكون المأتى به شعرا أو خطبة ويكون المتصف بوصف البلاغة الفائقة والنظم الأنيق استقام وصح. ولو أريد به النظير لأوهم؛ لأن المراد نظيره في كونه مشتملا على علوم الأولين والآخرين، أو نظيره في كونه منزلا من عند الله بليغا فصيحا، أو نظيره? في كونه نبيا أميا فصيحا، ومن المثال الذي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورد ولم يرد من المثل النظير والمثيل: قول القبعثرى: مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. فإن قلت: المثال لا يصلح للاستشهاد؛ لأن المقصود منه أن الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، ولا معنى لقولنا: فأتوا بسورة من المنزل أو من محمد صلوات الله عليه وسلم. قلت: والعجب أن المثال أيضا مستشهد به لمجرد الوصفية دون الكناية، فإن المقصود من إثبات الوصف فيه الكناية، وتشبيه الآية به وقع في مجرد الوصفية دون ملزومها، وقد سبق أن هذا القدر لا يمنع من إيراد التشبيه. فإن قلت: أوضح لي الفرق بين المثل إذا كان بمعنى الصفة، وبينه إذا كان بمعنى النظير، فإن المذكور لا يشفي الغليل. قلت: على الأول الصفة مقصودة أولية ويتبعها الموصوف ضمنا، وعلى الثاني كلاهما مطلوبان معا؛ لأن نظير الشيء هو الذى يقابله ويباريه. قال في الأساس: وهو ناظره بمعنى مناظره، أي: مقابله ومماثله، وهي نظيرتها. وعن الزهري: لا تناظر بكتاب الله وبكلام رسول الله، أي: لا تقابله ولا تجعل مثلا له. قال الراغب: النظير: المثل، وأصله المناظرة كأنه ينظر كل واحد منهما إلى صاحبه فيباريه. فالنظير أخص، ولذلك قدرنا في المثال كونه منزلا من عند الله بليغا فصيحا. ولما كان الأول

أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. ولكنه نحو قول القبعثرى للحجاج - وقد قال له: لأحملنك على الأدهم -: مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد: من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد. ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. وردّ الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [يونس: 38]. (فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود: 13]، (عَلى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء: 88]، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً؛ وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، وهو مسوق إليه ومربوط به، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير إلى غيره. ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزل من عند اللَّه. فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله ويجانسه. وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقال: وإن ارتبتم في أنّ محمداً مُنزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعاً - وهم الجم الغفير بأن ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعم قدرنا أن يكون المأتى به شعراً أو خطبة أو غير ذلك، وهو المختار لاقتضاء المقام وإرخاء العنان، والله أعلم. قوله: (أو أمياً) عطف على ((عربياً)) ممن لا كتاب له أصلا كالعرب، أو ممن له كتاب لكنه لم يقرأ ولم يتعلم. قال في قوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ)] آل عمران: 20 [أي: الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب. قوله: (وهم الجم الغفير)، النهاية: روى جما غفيرا، يقال: جاء القوم جما غفيرا، والجماء الغفير، أي: مجتمعين كثيرين. ويقال: جاؤوا الجم الغفير، وأصل الكلمة من الجموم والجمة، وهو الاجتماع والكثرة.

يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم، كان أبلغ في التحدّى من أن يقال لهم: ليأتى واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد، ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله: (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ)، والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والغفير من الغفر وهو التغطية والستر. فجعلت الكلمتان في موضع الشمول والإحاطة. ولم يقولوا: الجماء إلا موصوفة، وهو اسم وضع موضع المصدر. قوله: (هو الملائم لقوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ)) الآية] البقرة: 23 [، إن كان المراد بالشهداء الأصنام كما سيجئ فدعاؤهم حينئذ لأجل الاستظهار والتعاون، ولا معنى لاستظهارهم بها أن يأتوا بسورة واحدة من مثل محمد? وكذا إن أريد بالشهداء القائمون بالشهادة ليشهدوا لهم أنهم أتوا برجل من مثله. قوله: (والشهداء جمع شهيد)، قال القاضي: الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، أو الناصر، أو الإمام، وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور؛ إذا التركيب للحضور، إما بالذات أو التصور، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله: شهيد، لأنه حضر ما كان يرجوه، أو الملائكة حضروه. الراغب: الشهادة تبين الشيء الحاضر. ولما كان تبين الشيء على ضربين: تبين بالبصر وتبين بالبصيرة، والحضور على ضربين: حضور بالذات وحضور بالتصور، صارت الشهادة تستعمل على أوجه، فيقال لحصول قربة ومنزلة، ومنه قيل: استشهد فلان وهو شهيد، كأنه حضر وتبين ما كان يرجوه. وقالوا: أنا شاهد لهذا الأمر، أي: عارف به متصور له، إشارة إلى

ومعنى (دون): أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون، وهو الدنىّ الحقير، ودوّن الكتب، إذا جمعها، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال: هذا دون ذاك، إذا كان أحط منه قليلا. ودونك هذا: أصله خذه من دونك. أى من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم. ومنه قول من قال لعدوّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولهم: لئن غبت عن عيني فما غبت عن قلبي. وأما الشهادة المتعارفة فأصلها الحضور بالقلب والتبيين، ثم يقال ذلك إذا عبر باللسان، ثم يقال لكل ما يدل على شيء. إن لم يكن قولاً. فقوله. (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) قد فسر على كل ما يقتضيه لفظ الشهادة. قوله: (ومنه الشيء الدون) أي: مأخوذ من هذا الأصل. وكذا جميع الأمثلة. قوله: (فاختصر) معطوف على قوله: "أصله خذه من دونك"، وقوله: "واستعير" على قوله: "أي: من أدنى مكان" يعني لما كثر استعمال في هذه المعاني استعير في معنى المرتبة مطلقاً بأن شبهت المراتب المعنوية بالمكانية واستعير لها ما كان مستعملاً هناك، ثم اتسع فيها، فجعل مثلاً لكل تجاوز حد من غير نظر إلى الاستعارة. وقال الزجاج: ومعنى "من دون المؤمنين" في قوله تعالى "لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران: 28] أنه لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، والكلام جار على المثل في المكان كما تقول: زيدٌ دونك، وليس معناه أنه في متسفل، وأنت في مرتفع، ولكن جعلت الشرف بنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال فيه، والمعنى: أن المكان المرتفع في باب الولاية مكان المؤمنين دون الكافرين.

وقد راءاه بالثناء عليه: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم. قال اللَّه تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 28] أى لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية: يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِى أي: إذا تجاوزت وقاية اللَّه ولم تناليها لم يقك غيره. و (مِنْ دُونِ اللَّهِ) متعلقٌ بـ (ادعوا) أو بـ (شهدائكم)، فإن علقته بـ (شهدائكم) فمعناه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد راءاه)، الجوهري: راءى فلانٌ الناس يرائيهم مراءاةً ورايأهم مرايأة على القلب بمعنى. وفي "مقدمة الأدب". راءى الناس بعمله: أراهم عمله. فالباء صلة. قال الميداني: هذا قول علي رضي الله عنه لرجل مدحه نفاقا. قوله: ((مِنْ دُونِ اللَّهِ) متعلق بـ (ادعوا) أو بـ (شهداءكم)) اعلم أن "من دون الله" إما متعلق بشهدائكم أو بادعوا، والشهداء إما بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. و"دون" إما بمعنى غير، أو قدام، فإذا علق بشهدائكم اختص أن يكون بمعنى القائم بالشهادة. والشاهد إما الأصنام أو مدارة القوم فعلى أن يراد به الأصنام (من دون الله) إما في محل النصب على الحال، قال أبو البقاء: "من دون الله" في موضع الحال والعامل محذوف أي: "شهدائكم"

ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون اللَّه وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق؛ أو: ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي اللَّه من قول الأعشى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منفردين عن الله. وهو المراد بقوله: "ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم" أو على الظرف والعامل ما في الشهداء من معنى الفعل. وهو المراد من قوله: "أو ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله"، وعلى التقديرين المراد بالشهداء الأصنام، يدل عليه قوله بعد ذكرهما: "وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد" إلى قوله: "غاية التهكم". وعلى أن يكون القائم بالشهادة المداره، المضاف محذوف. المعنى: ادعوا شهداءكم متجاوزين من أولياء الله ومن المؤمنين، وادعوا غيرهم فانظروا هل يشهدون لكم، وعلى هذا الأمر واردٌ على سبيل إرخاء العنان والكلام المصنف؛ لأنهم إذا سمعوا هذا الكلام تفكروا فيه، وأيقنوا أنهم لا يشهدون لهم بذلك، لأنهم زعماء الحوار وأرباب الفصاحة، يميزون بين كلام فصيح وأفصح، وبليغ وأبلغ، ويأنفون عن الكذب. إذا عُلق بـ"ادعوا "يعمُّ الشهداء في القائم بالشهادة وفي الحاضر، فعلى أن يراد القائم بالشهادة الشهيدُ مطلقٌ غير مقيد بقوله (مِنْ دُونِ اللَّهِ) كما في الأول؛ لأنه حينئذٍ قيدٌ للفعل و"من" لابتداء الغاية كما سبق في قوله تعالى (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فيكون الدعاء قد ابتدئ من دون الله، والمراد بالشاهد حينئذٍ الشاهد العدل، لأن الشاهد إذا أطلق عرفاً بادر إلى الذهن هذا، ومن ثمَّ قال في الأول: "من دون أولياء ومن غير المؤمنين"، وهاهنا: "وادعوا شهداء من الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوي"، وعلى هذا الأمر للتبكيت؛ لأنهم مُقرون بأن ليس لهم شهداء عادلون تصحح بهم الدعاوي يشهدون لهم بذلك. ولقرب هذا الوجه من السابق وهو أن يراد بشهدائكم المدارة قال: "وتعليقه بالدعاء

تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وهِىَ دُونَهُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في هذا الوجه جائز". وعلى أن يراد بالشهيد الحاضر، ففي الكلام تخصيصٌ بحسب المفهوم؛ لأن الدعاء إذا قُيِّد بمن دون الله يكون غير متناول لله تعالى، ولهذا قال: "فادعوا كل من يشهد لكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله"، والأمر ُعلى هذا للتعجيز والتحدي مطلقاً ولهذا قال: "وادعوا شهدائكم من دون الله" إلى قوله: "والجن والإنسُ شاهدوكم". ويؤيده قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88] وفي التقسيم وجوهٌ أخر، وللبحث فيه مجال فليتأمل. واعلم أن التفرقة بين الوجوه توجب التفرقة بين المعاني، فإذا أريد بالشهداء الأصنام كان الأمر بقوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) للتهكم، وإن أريد به الرؤساء، كان الأمر للاستدراج وإرخاء العنان، وإن أريد به الناس العدول، كان لإظهار التبكيت، وإن أريد به الناصر والمستظهر به من دون الله، كان الأمر للتحدي والتعجيز كما سبق تفصيله. قوله: (تُريك القذى من دونها وهي دونه) قيل تمامه: إذا ذاقها من ذاقها يتمطق أي: تريك الزجاجة القذى من قدامها وهي قدام القذى. الأساس: ودونه خرط القتاد، أي: أمامه. يتمطق، أي: يمص شفتيه من لذاذتها. وروى ابن حمدون في "التذكرة": أن الوليد بن عبد الملك قال لابن الأقرع أنشدني قولك في الخمر، فأنشده:

أي: تريك القذى قدّامها وهي قدّام القذى، لرقتها وصفائها. وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن بفصاحته: غاية التهكم بهم؛ أو (وادعوا شهداءكم من دون اللَّه) أي: من دون أوليائه ومن غير المؤمنين، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله. وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأنّ شهداءهم وهم مدارة القوم، الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة، تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلى في عقولهم إحالته، وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه جائز. وإن علقته بالدعاء فمعناه: ادعوا من دون اللَّه شهداءكم، يعنى لا تستشهدوا باللَّه، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كميت إذا شجت ففي الكأس وردها ... لها في عظام الشاربين دبيب تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة، قال: لئن كان وصفي لها رابك فقد رابني معرفتك بها. فعلى هذا ابن الأقرع إما ضمن المصراع، أو كان من التوارد. قوله: (مداره القوم)، الجوهري: درهت عن القوم: دفعت عنهم، مثل درأت، وهو مبدل منه نحو هراق، والمدره: زعيم القوم والمتكلم عنهم، والجمع المداره. قوله: (والأنفة) الأساس: ومن المشتق من الأنف: فيه أنفةٌ وأنفٌ، وأنف من كذا، ألا تراهم قالوا: الأنف من الأنفِ! الجوهري: أنف من الشيء تأنف أنفاً: استنكف.

ولا تقولوا: اللَّه يشهد أنّ ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم. وأنّ الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم: اللَّه يشهد أنا صادقون. وقولهم هذا: تسجيل منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة. وعن بعض العرب أنه سئل عن نسبه فقال: قرشىّ والحمد للَّه. فقيل له: قولك «الحمد للَّه» في هذا المقام ريبة. أو ادعوا من دون اللَّه شهداءكم: يعنى أنّ اللَّه شاهدكم لأنه أقرب إليكم من حبل الوريد، وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم. والجن والإنس شاهدوكم فادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا اللَّه تعالى، لأنه القادر وحده على أن يأتى بمثله دون كل شاهد من شهدائكم، فهو في معنى قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) الآية [الإسراء: 88]. [(نْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)]. لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرّفون أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعلى آله، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني أن الله شاهدكم) أي: حاضركم، وقوله: "لأنه أقرب إليكم" تعليل للتفسير أي: الشهيد بمعنى الحاضر، لقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) [ق: 16] ولقوله صلوات الله عليه: "وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم" والحديث من رواية البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى في حديث طويل: "اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" وهو مثلٌ لقربِ القريب، الجوهري: اربع على نفسك: أي: ارفق بنفسك وكف. قوله. (لما أرشدهم [الله] إلى الجهة) يعني بقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا) [البقرة: 23] حيث أتى بـ"إن" في موضع الجزم لكون الكلام مع المرتابين، والغرض استدراجهم إلى

وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسرّه وامتياز حقه من باطله. قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب. وفيه دليلان على إثبات النبوّة: صحة كون المتحدى به معجزاً، والإخبار بأنهم لن يفعلوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يحزروا نفوسهم ويجربوا قواهم، فيعثروا على سرِّه وامتياز حقه، قال لهم: فإذا لم تعارضوه، أي: رتب على ذلك الإرشاد جملتين شرطيتين: أولاهما: محذوفة الجزاء، وثانيتهما: محذوفة الشرط لتكميل ذلك الإرشاد وتتميم التحقيق فيه. بيانه: أن قوله: "فإذا لم تعارضوه، ولم يتسهل لكم ما تبتغون، وبان لكم أنه معجوز عنه" هو معنى قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) وهو الشرط الأول، "فقد صرح الحق عن محضة ووجب التصديق" جزاءٌ لهذا الشرط المذكور. وقوله: ((فآمنوا وخافوا العذاب)) هو معنى قوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وهو جزاءُ شرطٍ مقدر، أي: إذا "صرح الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب". يدل على هذا المقدر تصريحه بعد بقوله: "إنهم إذا لم يأتوا بها، وتبين عجزهم عن المعارضة فقد صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد استوجبوا العذاب". قوله: (صرح الحق عن محضة)، الجوهري: الصريح: اللبن الخالص، والمحض كذلك. الأساس: لبن صريحٌ: ذهبت رغوته وخلص. الميداني: صرح الحق عن محضه، أي: انكشف الأمر وظهر، وقال أبو عمرو: أي: انكشف الباطل واسبتان الحق فعرف. قوله: (وفيه دليلان) أي: في قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) الآية.

وهو غيب لا يعلمه إلا اللَّه. فان قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلا جيء بـ «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك. قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمّل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما به. فإن قلت: لم عبر عن الإتيان بالفعل وأى فائدة في تركه إليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال. تقول: أتيت فلانا، فيقال لك: نعم ما فعلت. والفائدة فيه: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على حسب حسبانهم) فإنهم كانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. قوله: (على من يقاويه) أي: يعارضه. قاويته فقويته، أي: غلبته. الأساس: وهم يتقاوون الفطيمة في الدم وتقاوينا الدلو تقاوياً: إذا جمعوا شفاههم على شفتها فشرب كل واحدٍ ما أمكنه. قوله: (لم أُبقِ عليك)، الجوهري: أبقيت على فلان: إذا أرعيت عليه ورحمته، يقال: لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي. قوله: (لأنه فعل من الأفعال)، الراغب: لفظ الفعل أعم معنىً من سائر أخواته نحو الصنع والإبداع والإحداث والخلق والكسب والعمل؛ لأن الإبداع أكثر ما يقال في إيجادٍ عن عدمٍ، وليس حقيقة ذلك إلا لله تعالى، والإحداث في إيجاد الأعيان والأعراض معاً، والعمل

أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه. ألا ترى أنّ الرجل يقول: ضربت زيداً في موضع كذا على صفة كذا، وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالا، فتقول: بئسما فعلت. ولو ذكرت ما أنبته عنه، لطال عليك، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله. ولن تأتوا بسورة من مثله. فإن قلت: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) ما محلها؟ قلت: لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يقال إلا فيما كان عن فكر ورويةٍ، ولهذا قُرن بالعلم حتى قال بعض الأدباء: قُلِب لفظُ العمل عن لفظ العلم تنبيهاً أنه من مقتضاه. والصنع يقال في إيجاد الصورة في المواد كالصياغة والبناء، والخلق تقدير الأعراض الجسمانية وإيجادها، وقد يقال للتقدير من غير إيجادٍ، ولأن الخلق لا يستعمل إلا في إيجاد الأجسام وأعراضها امتُنِعَ من إطلاق الخلق على القرآن. قوله: (جار مجرى الكناية) يريد بها الكناية اللغوية، وهي عدم التصريح بالشيء وتسميةُ الضمائر بها من هذا القبيل، ويمكن أن يحمل على الاصطلاحية: وهي أن يُنفى العام لينتفي الخاص. وهذا أبلغ لكن قوله: "جار مجرى الكناية" لا يساعد عليه؛ لأن ظاهره أن قوله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أجري مجرى الضمير في أنه إذا تقدم أشياء يُجاء به أو باسم الإشارة فيعبر بهما عنها كقوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً) [الإسراء: 36]. قوله: (ونكلت به)، الجوهري: يقال: نكل به تنكيلاً: إذا جعله نكالاً وعِبرةً لغيره. قوله: (جملة اعتراضية)، الكواشي: واوها استئنافية، ولا محلَّ لها من الإعراب، لأنها لم تقع موقع المفرد، ولا هي مستحقةٌ للإعراب في نفسها.

قلت: «لا» و «لن» أختان في نفى المستقبل، إلا أن في «لن» توكيداً وتشديداً. تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنى مقيم. وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه أصلها «لا أن» وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل: حرف مقتضب لتأكيد نفى المستقبل. فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقول لصاحبك: لا أُقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً) مثاله في الإثبات قولك لخالي الذهن: أنا مقيمٌ غداً، فإذا تردد قلت: إني مقيم غداً، ثم إذا أنكر قلت: إني لمقيمٌ غداً. قوله" (أصله: لا أن) قيل: حذفت همزة "أن" لكثرتها في الكلام، وذهبت الألف من "لا" في الدرج لاجتماع الساكنين فبقي اللام من "لا" والنون من "أن" فجُمِعا وقيل: لن، وقد جاء في الشعر على أصله: يُرجى المرء ما لا أن يلاقي ... وتعرض دون أقربه خطوب المعنى: يُرجي المرء ما لن يلاقيه ولن يجده. قوله: (مقتضب) أي: مرتجل، الأساس: ومن المجاز: اقتضب الكلام: ارتجله، واقتضب حديثه: انتزعه واقتطعه.

إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به فكان معجزة. فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: إنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار، ... . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذ خفاءُ مثله) الضمير راجعٌ إلى "شيء", و"فيما عليه" ظرف "محال" أي: خفاء ما وهو على صفة ذلك الشي المعارض به من الخطر والفخامة محالٌ فيما جرت به العادة. هذا الجواب مبني على قاعدةٍ أصولية. أي: علم أنهم ما أتوا بمثله لأنهم لو أتوا به لتواتر بين العالمين لتوفر الدواعي على نقله, وحين لم ينقل علم عدم الإتيان, فكان الإخبار عنه إخباراً بالغيب. فيكون معجزةً. قوله: (أكثف عدداً) , الأساس: كتف الشئ: كثر مع الالتفاف, وتكاثف عددهم. قوله. (ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة) أي: كيف يترتب على قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي: إن لم تأتوا بسورةٍ من مثله. قوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ) لأن عدم إتيانهم بمثله لا يصح أن يكون سبباً لاتقاء النار: لأنه تقرر أن الشرط سبب للجزاء , على أن الكلام مع المرتابين وهم ينكرون النار فكيف يتقونها؟ وأجاب بأن "فاتقوا" ليس جوابا للشرط المذكور, بل هو منبئ عن شرط محذوفو كما أن اتقاء النار كناية عن ترك العناد, وإليه الإشارة بقوله: "وإذا صح عندهم صدقه, ثم لزموا العناد, استوجبوا العقاب" هذا السؤال والجواب يرد قول الزاعم أن قوله: (فَاتَّقُوا) - صريحا كان أو كناية- جواب لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) , بل جزاء لشرط محذوف يستدعيه قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)] البقرة: 23 [.

فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد فوضع (فَاتَّقُوا النَّارَ) موضعه؛ لأنّ اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث أنه من نتائجه لأنّ من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطى. يريد: فأطيعونى واتبعوا أمرى، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه وإبرازه في صورته، مشيعاً ذلك بتهويل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقيل لهم: إن استبنتم) عطف على قوله "تبين عجزهم" إلى أخره, والفاء مثلها في قوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا)] البقرة: 54 [. قول: (لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد) ظاهره يوهم أنه من باب المجاز: لأنه مشعر بأن اتقاء النار ملزوم ترك العناد لقوله: "اتقاء النار لصيقه" أي: لازمه ترك العناد, ثم قوله بعد ذلك: "وهو من باب الكناية" بخلافه لكن الشرط في الكناية التساوي بين الملزوم واللازم فكان كل واحد ملزوم الآخر, ولهذا فسر "لصيقه" بقوله: "ضميمه", ونحوه قولهم: رعينا الغيث. وأما الإمام فقد جعله من إقامة المؤثر مقام الأثر؛ لأن اتقاء النار سبب لترك العناد. قوله: (فائدته الإيجار) لأن أصل المعنى إذا استبنتم العجز فاتركوا العناد الذي يستلزم تركه اتقاء النار: فأنيب (فَاتَّقُوا النَّارَ) مناب المذكور جميعاً, يدل عليه قوله: "يريد فأطيعوني واتبعوا أمري وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط" أي: المذكور جميعاً مرادٌ من قوله: "فاحذروا سخطي", ولو لم يكن كناية بان كان مجازا لم يصح إرادة المجموع. قوله: (وإبرازه في صورته مشيعاً) الضمير في "إبرازه" للعناد, وفي "صورته" لاتقاء النار "مشيعاً" حال من اتقاء النار, والعامل قوله: "إنابة"؛ يريد أن في إيثار الكناية على التصريح فائدتين أخريين:

صفة النار وتفظيع أمرها. والوقود: ما ترفع به النار. وأمّا المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح. قال سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول: وقدت النار وقوداً عاليا. ثم قال: والوقود أكثر، والوقود الحطب. وقرأ عيسى بن عمر الهمدانىّ - بالضم - تسمية بالمصدر، كما يقال: فلان فخر قومه وزين بلده. ويجوز أن يكون مثل قولك: حياة المصباح السليط، أى ليست حياته إلا به فكأنّ نفس السليط حياته، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إحداهما: تصوير معنى المكني عنه وأن العناد هو النار, والسامع عند ذكر النار يستحضر صورتها فيمتلئ قلبه رعباً وخوفاً, فإنك إذا أردت أن تقول: فلان جواد, قلت: فلان جبان الكلب, مهزولُ الفصيل, فصورت صفة الجود تصويراً بليغاً, فإن جبن الكلب يدل على مشاهدته وجوهاً إثر وجوه, وهي مشعرةٌ بكثرة تردد الضيفان, وهي بكونه مضيافاً, وهو بكونه جوداً. وثانيتهما: التمكن من انضمام قوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الآية إليه تتميماً لذلك التهويل والرعب وترتبه للتصوير. قوله: (الهمداني) قال صاحب "الجامع": همدان بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة: أبو قبيلةٍ واسمه أوشلة بن مالك بن زيدٍ بن ربيعة. قوله: (فلان فخر قومه) أي: الذي يفتخر به قومه: كقولك: ضرب الأمير, أي: مضروبه. قوله: (حياة المصباح السليط) ولا يبعد على هذا أن يكون من باب "رجلٌ عدلٌ"

فإن قلت: صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة، للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فإن قلت: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم، وهاهنا معرّفة؟ قلت: تلك الآية نزلت بمكة، فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة. ثم نزلت هذه بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أوّلاً. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ؟ قلت: معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى ليس وقود النار إلا الناس: لأن الناس بمنزلة الحطب, وعلى الأول يجوز أن يكون هناك وقود آخر. قوله: (تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه بالمدينة) , الانتصاف: يعني بآية سورة التحريم (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) لكني لم أقف على خلاف أن سورة التحريم مدنية, والقصة أنها شاهدة بصحة ذلك, والظاهر أن الزمخشري وهم في قوله: إنها مكية. وقلت: يؤيده ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلواء, وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه, فيدنو من إحداهن, فدخل على حفصة بنت عمر رضي الله عنهما" وساقوا الحديث إلى قوله: فنزل (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)] التحريم: 1 [, وكذلك قوله تعالى بعدها: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم: 9] وإنما نجم النفاق في المدينة.

وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أو قدت أوّلا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك - أعاذنا اللَّه منها برحمته الواسعة - توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنار، وبأنها لإفراط حرّها وشدّة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار، اشتعلت وارتفع لهبها. فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت: بل هي نيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة، يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم: 6]، (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل: 14]. ولعل لكفار الجن ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "جامع الأصول": تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بمكة في شوالٍ سنة عشر من النبوة, وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة, وتزوج حفصة في سنة ثلاث من الهجرة. قيل: لعل أن تكون هذه السورة مدنية, وهذه الآية وحدها مكية. قلت: لا يجوز على مذهبه: لأنه قال فيما سبق: بلغنا بإسنادٍ صحيح أن كل شئ نزل فيه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكي, و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فهو مدني, وهذه الآية مصدرة بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فهو منافٍ لما قيل, ومناقض لقوله, فحينئذٍ تعريف النار إما أن يكون لسماعهم إياها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أهل الكتاب. قوله: (وشدة ذكائها) , المغرب: أصل التركيب يدل على التمام ومنه: ذكاء السن بالمد لنهاية الشباب, وذكا النار بالقصر لتمام اشتعالها. الجوهري: ذكت النار تذكو ذكًا مقصوراً, أي: اشتعلت. وفي "الأساس": ذكت النار تذكو ذكاء, وأصابه ذكاء النار وذكا النار: بالمد والقصر. قوله: (يدل على ذلك تنكيرها) أي: على أن نيران الآخرة نيران شتى. قيل: فيه نظر,

وشياطينهم ناراً وقودها الشياطين، كما أنّ لكفرة الإنس ناراً وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. فإن قلت: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً. قلت: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما وجعلوها للَّه أنداداً أو عبدوها من دونه: قال اللَّه تعالى: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء: 98]، وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه. فقوله: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) في معنى الناس والحجارة، و (حَصَبُ جَهَنَّمَ) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون اللَّه أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها اللَّه عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغا في إيلامهم، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن التنكير في قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)] التحريم: 6 [لا يدل على تنوع نار الآخرة, وغايته أنه دل على تنوع النار مطلقاً, والجواب من وجهتين: أحدهما: أن النار ناران: نارٌ لغوية وهي المتعارف] عليها [, ونار شرعية وهي نار الآخرة, فإذا توعد المكلف بالنار بادرت الشرعية, والتنكير يدل على نوعية تلك النار. وثانيهما: أن التنويع بحسب من وعد بها, فإن من توعد بها في الآية هم المؤمنون, لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) وفي الثانية الكافرون لقوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)] الليل: 15 - 16 [. وأيضا دل هذا الحصر على الاختصاص. قوله: (بمكانهم) متعلق بقوله: "يستدفعون" وهو مقابل لقوله: "يستشفعون بهم", والمكان كناية عن مرتبتهم ومنزلتهم. وإنما قيد دفع المضرة به: لان الشافع إنما يدفع عن المشفوع بمكانته ومنزلته عند من يشفع له, أو كناية عن قوتهم وشوكتهم فيدفعون بها عنهم مضرة عدوهم. قوله: (جعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة) الفاء فيه كما في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) للتعقيب والتفسير.

وإغراقاً في تحسيرهم، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدّة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم. وقيل: هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل (أُعِدَّتْ) هيئت لهم وجعلت عدّة لعذابهم. وقرأ عبد اللَّه، (أعتدت)، من العتاد بمعنى العُدة ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في تحسيرهم) في نسخة الصمصام والمعزي: بالحاء المهملة, وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة, والتخسير: الإهلاك, والتحسير: التلهف على الشيء الفائت. قوله: (وقيل: هي حجارة الكبريت) روى محيي السنة عن ابن عباس وأكثر المفسرين ذلك. وقالوا: لأنها أكثر التهاباً, وهو دليل عظم النار. قال القاضي: إن صحت الرواية فلعل المراد أن الأحجار كلها لتلك كحجارة الكبريت لسائر النيران. وقيل: هذا ابلغ لأن الغرض تعظيم صفة هذه النار, والإيقاد بحجارة الكبريت لا يدل على قوة النار نفسها, أما لو حُمل على سائر الأحجار على أنها توقد إيقاد حجارة الكبريت بلغ النهاية, وفيه أن تلك النار تعلقت في أول أمرها بالحجارة التي طبعها إطفاء النار تعلق النار بالكبريت. قوله: (المشهود له) أي: الذي استشهد له من التنزيل, وهو قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)] الأنبياء: 98 [، ولا دليل لهم من التنزيل ولا من غيرها على إرادة حجارة الكبريت, وهو المراد بقوله: "تخصيص بغي دليل". قوله: (من العتاد بمعنى العدة) , الجوهري: العتاد: العدة, يقال: أخذ للأمر عدته وعتاده، أي: أهبته وآلته. وقال: أعده لأمر كذا, أي: هيأه له. والاستعداد للأمر: التهيؤ له. والأول من. عتد, والثاني من: عدد.

[(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)]. من عادته عز وعلا في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف؛ والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب. فإن قلت: من المأمور بقوله تعالى: (وَبَشِّرِ)؟ قلت: يجوز أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأن يكون كل أحد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتثبيط) يقال: ثبطه عن الأمر تثبيطا: شغله عنه. قوله: (وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر) قال الإمام: القول بالإحباط باطل؛ لأن من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة استحق الثواب الدائم, فإذا أتى بعده بالكفر استحق العقاب الدائم, ثم لا يخلو من أن يوجدا معاً, وهو محال, أو أن يندفعا, وليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لقيام الباقي, فيبطل القول بالإحباط, وعند هذا تعين أن يقال: إن العبد لا يستحق على الطاعة ثوابا ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجبا, وهو قول أهل السنة واختيارنا, وبه يحصل الخلاص من ظلمات هذه الورطة. قوله: (بالثواب) هو متعلق بقوله: "ببشارة عباده".

كما قال عليه الصلاة والسلام «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق. ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فَاتَّقُوا) كما تقول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بشر المشائين إلى المساجد) الحديث اخرجه أبو داود والترمذي. قوله: (ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر) يعني إذا حصلت الجهة الجامعة وقوي شأنها بين المعطوف والمعطوف عليه كما وجدت في هاتين الآيتين وهي شبه التضاد لا يبالي بالاختلاف من حيثية الخبري والطلبي في أجزائهما فإن ذلك إنما يعتبر عند عطف المفرد على المفرد, وأما في العطف الجملي, فيجوز ذلك بالتأويل. هذا تلخيص كلامه, مع أن ظاهر قوله: "هو جملة وصف ثواب المؤمنين" يوهم بتأويل الطلبي بالخبري وليس بذلك؛ لأن الواجب في الموضعين العكس, فإن قوله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] الجاثية: 28 [قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) مجملان واردان على الخطاب فوجب تأويل التفصيل بما يناسبهما من الأمر وجعل الخبري في تأويل الطلبي. قوله: (ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فَاتَّقُوا)) قال الخطيب في

يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بنى أسد بإحساني إليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الإيضاح" بعد أن نقل كلام المصنف: هذا كلامه, وفيه نظرٌ لا يخفى على المتأمل. ثم كتب في الحواشي: لأن قوله: (فَاتَّقُوا) جزاءٌ وما بعده في حكمه, فلهذا امتنع. قلت: هذا سؤال اتفق الناس على وروده, وقدر صاحب "المفتاح": "قُل" قبل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ليكون معطوفاً عليه هرباً من هذا. والجواب عنه: أن كل هذا توهم؛ لأن المصنف لم يجعل قوله: (فَاتَّقُوا) جواباً لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) حتى يلزم المحذور, وإنما جعله جزاء لشرط محذوف كما قررناه وحققنا القول فيه في قوله: "ولما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم, ولا بد من ذلك التقدير لتتم الملازمة: لأن قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا)] البقرة: 23 [يستدعي ذلك؛ لأن المقصود منه إزالة الريب وإثبات صحة ما ادعاه كأنه قيل: وإن كنتم في شك من صحة نبوته وصدق قوله: إن القرآن منزل عليه من عند الله, فأتوا بسورة من مثله, فإن لم تقدروا على ذلك, وأنتم فرسان البلاغة, فقد صح صدقه, وإذا صح صدقه المعاند النار, وبشر يا محمد المصدق بالجنة. ثم إني بعد برهة من الزمان عثرت على تحقيق هذا المقام من جانب الإمام القاضي ناصر الدين تغمده الله برضوانه قال: " (وَبَشِّرِ) عطف على (فَاتَّقُوا) لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه, وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب, ومن آمن به استحق الثواب, وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء. ثم على هذا التقدير يشتمل العطف على جهات من الحسن والمزايا منها: قرب المعطوف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من المعطوف عليه, ومنها رعاية الجهة الجامعة الوهمية بين (بَشِّرِ) و (اتَّقُوا) لأنه في معنى أنذروا العقلية لاتفاقهما في المسببية, ومنها: اجتماع ثلاث مقابلات, ومنها حذف العجز من الشطر الأول والصدر من الثاني المؤذن بالإيجاز الذي هو حلية القرآن. وأما عدم اتحاد المسند إليه في (فَاتَّقُوا) و (بَشِّرِ) فمضمحل نظراً إلى هذه الوجوه, على أن الاتحاد حاصل كما قررناه. هذا وإن الوجه الأول أقضى لحق البلاغة وأدعى لتلاؤم النظم، لأن قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) خطابٌ عام يشمل الفريقين: الموافق والمعاند كما سبق, وأن قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلى آخره قوله: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تفصيله, فقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) إلى قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) مختص بالفريق المخالف ومضمونة الإنذار, إن قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مختص بالفريق الموافق, ومضمونه البشارة, كأنه تعالى أوحي إلى حبيبه صلوات الله عليه أن يدعو الناس قاطبة إلى عبادة الله ويرشدهم إلى معرفته, ثم امره ان ينذر من أبي وعاند, ويبشر من آب وعبد, وهذا هو المعتمد, ولهذا قال في الوجه الأول: "إنما المعتمد في العطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين" وقال في الوجه الثاني: "ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: فاتقوا", ويعضده قول الشيخ صاحب "الفرائد": هو معطوف على الخبر الذي قبله: لأنه مشتمل على معنى الأمر, كأنه قيل: وأنذر وبشر. ويوافقه ما ذهب إليه صاحب "المفتاح" في قوله تعالى (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] يس: 54 [قال. غنه خطاب عام لأهل المحشر, ومن قوله: " إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ"] يس: 55 [إلى قوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)] يس: 59 [تفصيل لما أجمله, وأن التقدير: إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر, ومآله إلى معنى: فليمتازوا عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة حتى يصح عطف (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ) على قوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ).

وفي قراءة زيد بن علي رضي اللَّه عنه: (وَبَشِّرِ) على لفظ المبنىّ للمفعول عطفاً على: (أُعِدَّتْ). والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرنى» «أخبرنى» عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]: فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عطفاً على (أُعِدَّتْ)) فعلى هذا يدخل في حيز الصلة, ويكون بشارة للمؤمنين عن الخلاص عنها من جملة تنكيل الكافرين, فيجتمع لهم التعذيب مع التنوير كما قال في آخر "النساء": "إن الإحسان إلى العدو مما يغم العدو". قوله: (والبشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به) , الراغب: بشرت الرجل وأبشرته: أخبرته بسار يبسط بشرة وجهه, وذلك ان النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة. وبين هذه الألفاظ فروق, فإن بشرته بالتخفيف عام, وأبشرته نحو أحمدته, وبشرته على التكثير, واستبشر إذا وجد ما يبشره من الفرح, قال تعالى: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)] آل عمران: 170 [. قوله: (وأما (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فمن العكس) أي: من الاستعارة التهكمية؛ استعار البشارة للنذارة بواسطة اشتراك الضدين من حيث اتصاف كل بمضادة صاحبتها, فنزلت البشارة منزلة النذارة, ثم يل على التبعية: فبشرهم بدل فأنذرهم.

في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك. ومنه قوله: فَأعْتَبُوا بِالصَّيْلَمِ والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة: كيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَامٍ بظهْرِ الغَيْبِ تَاتِينِي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأعتبوا بالصيلم) أوله: غضبت تميم ان تقتل عامرٌ ... يوم النسار فأعتبوا الصيلم اسم الشاعر: بشر بن أبي خازم. يوم النسار: وقعة كانت لبني أسدٍ وذُبيان على بني جشم بن معاوية, والنسار ماءٌ لبني عامر. فأعتبوا, أي: أزيل العتب, كأشكى في إزالة الشكوى. والصيلم: الداهية والسيف أيضاً. قوله: (كيف الهجاء) البيت, الحطيئة بالهمز: الرجل القصير, وسمي الحطيئة لدمامته وقصره. واللام أيضاً مهموزة. الباء في "بظهر الغيب" للحال, أي: ملتبساً بظهر الغيب, أي. غائبين, والظهر مقحم لتأكيد معنى الغيب كما ورد في الحديث: "أفضل الصداقة ما كان عن ظهر غنى". "تأتيني": خبر "ما تنفك", أي. ما يزال.

والصالحات: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة، واللام للجنس. فإن قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "كامل التاريخ": وكان من سبب قول الحُطيئة: أن النعمان دعا بحلةٍ من حُلل الملوك وقال للوفود وفيهم أوس بن حارثة بن لأم الطائي: احضروا في غد, فإني مُلبسٌ هذه الحُلة أكرمكم, فلما كان الغد حضروا إلا أوساً فقيل له, فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي أن لا أحضر, إن كنت المراد فسأطلب, فلما جلس النعمان ولم ير أوساً, فطلب وقيل: احضر آمنا مما خفت, فحضر وألبس الحلة, فحسده قوم من أهله وقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاث مئة ناقة فقال. كيف الهجاء .... البيت. قوله: (والصالحات: كل ما استقام من العمال بجليل العقل والكتاب والسنة) , قال القاضي: الصالحات من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه, والتأنيث على تأويل الخصلة أو الخلة, واللام فيها للجنس, وعطف العمل على الإيمان مرتبا للحكم عليها إشعاراً بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين, فإن الإيمان المعبر بالتصديق أسٌّ, والعمل الصالح كالبناء عليه, ولا غناء بأس لا بناء عليه, ولذلك قلما ذُكرا مفردين, وفيه دليلٌ على أنها خارجةٌ عن مسمى الإيمان, إذ الأصلُ ان الشئ لا يعطف على نفسه وما هو داخل فيه.

على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه، وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: قيل ما ذكر الله تعالى الإيمان إلا قرن به الأعمال الصالحة؛ تبينها على أن الاعتقاد لا يغني من دون العمل, فالعلم أس والعمل بناء, ولا غناء للأسِّ ما لم يكن بناءٌ, كما لا بناء ما لم يكن له أسٌّ, ولذلك قيل: لولا العمل لم يطلب العلم, ولولا العلم لم يكن عمل, فإذن حقهما أن يتلازما. قلت: مذهب السلف الصالح والصحابة بخلافه كما نص في "شرح السنة". وأما قوله: لا يعطف على الشئ ما هو داخل فيه, فمنقوص بقوله: "وملائكته وجبريل", وفائدته: الإيذان بان الأعمال الصالحة أنفع الأجزاء وبها كما لها (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ)] فاطر: 10 [أو أن أصل الكلام. وبشر المؤمنين, كما في قوله: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)] الصف: 13 [فجيء بأبسط تعريضاً بالكافرين الذين عاندوا بعد ظهور الحق وهو عجزهم عن المعارضة, ونحوه تعبيرك عن المتقي العارف بقولك: الذي يؤمن ويصلى ويزكي, أي: يفعل الواجبات ويجتنب عن الفواحش. قوله: (صالحاً لا يراد به الجنس) اعلم: ان تعريف الجنس عنده بمنزلة المطلق, أي: اللفظ الشائع على جنسه, فكما أن المطلق يصح حمله على الحقيقة من حيث هي هي, وعلى بعض

والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحقيقة، وعلى كل بحسب التقييد وعدمه، كذلك هذا التعريف يدل عليه قوله: "صالحاً لأن يراد به الجنس، وأن يراد به بعضه"، وتصريحه في قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]: اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فقوله: "صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به" تقرير لبيان الاستغراق؛ لأن "إلى" لانتهاء الغاية فلا بد من الابتداء. يعني: إذا دخلت على المفرد وقصد الاستغراق تناول َفرداً فرداً من الحقيقة إلى أن يستغرقها إذا لم تنتهض قرينةٌ لإرادة البعض، وأما إذا انتهضت القرينة حمل على بعض تلك الحقيقية بحسب الإقتضاء إلى أن يحمل على الواحد منها، وكذا إذا دخلت على المجموع، لكن يفترق الحكم بحسب الاعتبار؛ لأن المجموع إذا أريد به الشمول والاستغراق كالمفرد لا يكون حقيقة فيه بل مجازاً؛ إطلاقاً للجمع على الجنس، قال البزدوي: قولك: والله لا أتزوج النساء، ولا أكلم العبيد وبني آدم، إنَّ ذلك يقع على الأقل ويحتمل الكل؛ لأن هذا جمعٌ صار مجازاً عن اسم الجنس، وبقي معنى الجمع من وجهٍ في الجنس، فكان الجنس أولى. تم كلامه. وإذا أريد بالمجموع البعض ينتهي المراد إلى أقل ما يطلق عليه اسم الجمع، فعلى هذا اللفظ المجموع المستغرق للجنس بحسب الجموع وحدانه الجموع، فلا يدخل تحته إلا ما فيه

فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجنسية من الجموع، فلا يبعد على هذا أن يكون حقيقة كالمفرد، فقوله: "وزانه في تناول الجمعية في الجنس" معناه ما يعتبر فيه معني الجموع في الجنس، وذلك أن الجنس من حيث هو هو لا متعدد ولا لا متعدد لكن يتحقق مع كل منهما، فتحققه مع المتعدد يكون تارة باعتبار الأفراد وأخرى باعتبار الجموع. والحاصل: أن وزان اللفظ المجموع المحلى باللام في تناوله الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناوله الجنسية، فكما يصح أن يطلق المفرد ويراد به جميع ما فيه الجنسية بحسب أفراده، وأن يراد بعض ما فيه الجنسية، كذا يصح أن يطلق الجمع ويراد به جميع ما فيه الجمعية في الجنس وأن يراد بعض ذلك. فإذن لا يدخل في هذا الاعتبار الواحد، إذ الجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه، فعلى هذا ينبغي أن يقدر بعد قوله: "صلح أن يراد به جميع الجنس لا إلى الواحد" بقرينة المذكور حتى يصح التعليل بقوله: "لأن وزانه" إلى آخره، وينطبق عليه قول صاحب"المفتاح": الاستغراق في المفرد أشمل منه في الجمع، ويؤيده قول ابن عباس في قوله تعالى: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) [البقرة: 285]: إن كتابه أكثر من كتبه. قوله: (فما المراد بهذا المجموع) الفاء مسبب عن المقدم ذكره، أي: إذا كانت اللام داخلة على المجموع ويصلح أن يراد جميع الجنس وأن يراد بعضه فما المراد بقوله: "وعملوا الصالحات"؟ إن كان جميع الجنس، فليس ذلك من وسع المكلف، وإن كان البعض فما المخصص، أي: المقيد؟ وأجاب: إن المخصص على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف، فمن ليس له مال فلا تجب عليه الزكاة، ومن لم يكن له استطاعة لم يجب عليه الحج، وكذا المسافر والمريض والصبي والمجنون علي هذا.

قلت: الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير: تَسقِى جَنَّةً سُحُقَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين) فالأعمال كالجنس تشمل الصحيحة وغيرها، والصحيحة إلى آخره كالفصل، وبالصحيحة خرجت الفاسدة سواء كانت في الدين أم لا، وبالمستقيمة خرجت من الأعمال الصحيحة ما لا تعلق لها بالدين. قوله: (في مواجب التكليف) أي: مساقطه، المغرب: الوجوب: اللزوم، يقلب: وجب البيع، ويقال: أوجب الرجل: إذا عمل ما تجب به الجنة أو النار. ويقال للحسنة والسيئة: موجبة، والوجبة: السقوط، يقال: وجب الحائط. عن مسلم عن جابر قال: سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم: ما الموجبتان؟ قال: "من مات لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار". قوله: (تسقي) تمامه. كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا "في غربي"خبر كأن، رجل مقتل: مجرب، والمقتلة: الناقة المرناطة المذللة. والغربان:

أي نخلاً طوالاً. والتركيب دائر على معنى الستر، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة، من مصدر جنه إذا ستره، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها. وسميت دار الثواب «جنة» لما فيها من الجنان. فإن قلت: الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت: قد اختلف في ذلك. والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدلوان الضخمان. والناضج: البعير يُستقى عليه. وتخصيص النواضح والمقتلة لأنها تخرج الدلو ملآن بخلاف الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من نواحي الغرب فلا يبقى منه إلا صبابة. والسحوق من النخيل الطويلة والجمع سحق، وأراد بالجنة النخل؛ لأنها أحوج إلى الماء، والطوال منها أكثر احتياجاً من القصار، وفي قوله: "في غربي" تجريدية. قوله: (سميت بالجنة) أي: سميت الجنة وهي البستان (بالجنة التي هي المرة من مصدر جنة) لما بينهما من مناسبة السترة الواحدة؛ وذلك أن البستان إذا كبرت أشجارها وتقاربت أغصانها والتفت بعضها ببعض صارت كأنها سترة واحدة. قوله: (لما فيها من الجنان) تعليل للتسمية، يعني سميت دار الثواب بالجنة وإن كانت مشتملة على أنواع من النعم سوى الأشجار المتكاثفة لكثرة جنانها، كما أن دار العقاب سميت بالنار لكونها أعظم أنواع العقاب، أو روعيت في هذه التسمية تلك السترة الواحدة أيضاً، فإن دار الثواب سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر "جَنَّه" لجنانها المتلاصقة المتباينة من غير فرج، فصيرت كأنها سترة واحدة. قوله: (على نهج الأسماء الغالبة) وذلك: أن الجنة كانت تطلق على كل بستان متكاثفٍ

كالنبي والرسول والكتاب ونحوها. فان قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أغصان أشجارها، ثم غلبت على دار الثواب. وإنما قال: "اللاحقة بالأعلام" لكونها غير لازمة اللام. وتحقيق القول: أنها منقولة شرعية على سبيل التغليب، وإنما تغلب إذا كانت موجودة معهودة كالأسماء الغالبة، كذلك اسم النار منقولة لدار العقاب على سبيل الغلبة، وإن اشتملت على الزمهرير والمهل والضريع وغير ذلك، ولولا ذلك لما كان يغني عن المذكورات طلب الوقاية عن مطلق النار. قوله: (كالنبي والرسول والكتاب) أي: القرآن، يعني في عرف الشرع لا العرف العام بدليل قوله: "وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة". قوله: (الجنة) أي: الجنة اسمٌ لدار الثواب كلها كما سبق أنها سترة واحدة فجئ بها مجموعة ليدل على تعددها، ومنكرة ليدل على تنوعها واختلافها، لأن كل عدد من تلك الأعداد لجماعة، فتختلف الجنان بحسب اختلاف استحقاق ساكنيها. قوله: "مراتب" منصوبة على المصدرية من مرتبة. قال القاضي: الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع: الفردوس، والعدان، والنعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون، في كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة علي حسب تفاوت الأعمال والعمال، لا لذاته، فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلا من أن يقتضي ثوابا وجزاء فيما يستقبل، بل بجعل

فإن قلت: أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت: لما جعل الثواب مستحقا بالإيمان والعمل الصالح، والبشارة مختصة بمن يتولاهما، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحساناً، وأعلم بقوله تعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65]، وقال تعالى المؤمنين: (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الحجرات: 2] كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر. فان قلت: كيف صورة جرى الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشارع ومقتضى وعده، ولا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [البقرة: 217] وقوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] ونحوهما، ولعله تعالى لم يقيدها هنا استغناءً بها. قوله: (كما ترى الأشجار النابتة) هذا تشبيه صورة ما لم يعرف ولم يشاهد بصورة ما تعورف وشوهد، وإلا فأين المشبه به أن يكون من المشبه! قال صاحب "المفتاح": كما إذ قيل لك: ما لون عمامتك؟ قلت: كلون هذه، وأشرت إلى عمامة لديك. والشرط في المشبه به أن يكون أعرف من المشبه وإن لم يكن أقوي منه في الوجه، وعليه قوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: جوابه غير مطابق للسؤال؛ سأل عن كيفية جرى الأنهار تحت الأشجار وأجاب عن الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار. قلت: في السؤال والجواب اختصار، وتحريره أن يقال: إن قوله تعالى: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [البقرة: 25] "من" فيه لابتداء الغاية، وذلك يقتضي أن يكون ابتداء الجري من تحت أشجار الجنات وأصولها، وهذا على غير ما هو عليه المشاهد. وأجاب بجوابين: أحدهما: أن "تحتها" صفة موصوف محذوف، والمعنى: جنات تجري الأنهار من مكان كائن تحت الأشجار كما تري الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار. وثانيهما: أنه لا يبعد ذلك، لأن أوصاف الجنة على خلاف المشاهد كما روى عن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. وقد ذكر الوجهين في تفسير قوله تعالى: (تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم: 24] وقال: في أحد الوجهين قيل: تحتها أسفل من مكانها كقوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [البقرة: 25].

وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط، حتى يجرى فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتا، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء اللَّه تعالى بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى: نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهر» بفتح الهاء. ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازى كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من غير أخدود)، الجوهري: هو شق في الأرض مستطيل. قوله: (لما جاء الله) جواب "لولا". قوله: (مشفوعاً) صح بغير إلا عن المعزى. قوله: (واللغة العالية)، المغرب: العالية ما فوق نجد وتهامة. وقيل: العالية: الفصيحة التي كثر استعمالها في كلام الفحصاء. الأساس: هذا شعرٌ علوي، أي: عالي الطبقة. قوله: (يطؤهم الطريق) أي: يقصدهم العفاة، وهو كناية عن وجودهم، والإسناد مجازي على نحو: طريق سائر: لأنه لما كثر في الطريق وطء العفاة كأنها هي التي تطؤهم.

وصيد: عليه يومان. فإن قلت: لم نكرت الجنات وعرّفت الأنهار. قلت: أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْباً) [مريم: 4]؛ أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) - الآية [محمد: 15]. وقوله (كُلَّما رُزِقُوا) لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصيد عليه يومان) أصله صيد الوحوش على الفرس مدة يومين، أسند الفعل إلى الظرف على المجاز. قوله: (وأما تنكير الجنات فقد ذكر) أنها نكرت ليدل على تنوعها واختلافها بحسب استحقاق ساكنيها، وأما تعريف الأنهار فقد ذكر في فائدتها وجوها ثلاثة: أحدها: أن المراد بالتعريف الجنس؛ ليشير بها إلى ما هو حاضر في ذهن المخاطب. وأنت تعلم أن الشيء لا يكون حاضراً في الذهن إلا أن يكون عظيم الخطر معقودا به الهمم، أي: تلك الأنهار التي عرفت أنها النعمة العظمي واللذة الكبرى، فإن الرياض وإن كانت آنق شيء لا تبهج النفس حتى تكون بها الأنهار كما سبق. وثانيها: أن ينبه على أن هذه الأنهار المتعددة لتلك الجنان المتنوعة بحسب التوزيع كقولهم: ركبوا خيولهم. وثالثها: ليعلم أن هناك أنهارا معهودة بين المخاطب والمخاطب. والمراد إحضارها فلا بد من الإشارة إليها.

لأنه لما قيل: (أن لهم جناتٍ)؛ لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إنّ ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا اللَّه. فان قلت: ما موقع مِنْ ثَمَرَةٍ؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك. فموقع (مِنْ ثَمَرَةٍ) موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمّانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأنّ الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من الرمّان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ)) قوله: "أن" يروى بالفتح على الحكاية وهو الوجه. قوله: (فـ"من" الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية) وعلى ما قدره متعلقتان بـ"رزقوا". وقال القاضي: وكلتاهما واقعتان موقع الحال، وكلما نصب على الظرف، "ورزقا" مفعول به، وصاحب الحال الأولى "رزقا"، والثانية ضمير الرزق المستكن فى الحال. والمعنى كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فيها. قوله: (وتنزيله) التنزيل: حط الكلام درجة درجةّ، فكأن أصله كان شيئاً آخر فنزلت إلى هذه المرتبة. قال في "النهاية": نزلت عن الأمر: إذا تركته، كأنك كنت مستعلياً عليه، وفي الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه "أنزله أبا" أي: جعل الجد في منزلة الأب وأعطاه نصيبه من الميراث.

وتحريره أن (رزقوا) جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيدا بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من (ثمرةٍ)، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار. ووجه آخر: وهو أن يكون (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسداً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتحريره)، الأساس: حرر الكتاب: حسنة وخلصه بإقامة حروفه وإصلاح سقطه. فإن قلت: ما معنى قوله أولا: "موقعه موقع قولك من الرمان" ثم ثانيا: "وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان" وثالثا: "تحريره: أن تقول (رُزِقُوا) جعل"؟ قلت: الأول لبيان الموقع وكونه صفة الفعل، والثاني: لبيان المعني وأن مرجع "من" الابتدائية على تقدير السؤال والجواب. والثالث: لبيان خلاصة المعنى وزبدته. قوله: (وليس المراد بالثمرة التفاحة ... على هذا التفسير) أي: على أن تكون "من" ابتدائية في (مِنْ ثَمَرَةٍ) لأن "رزقا" هو بمعنى مرزوقا، وهو أعم من أن يكون من الجنة أو من مكان غيرها، ومن أن يكون ثمرة أو غيرها من المأكولات، فخص عموم الأمكنة بقوله: (مِنْهَا) وعموم المأكولات بقوله: (مِنْ ثَمَرَةٍ) لكن بقي عاما في هذا الجنس، فلا وجه لتخصيصها بثمرة دون ثمرة فضلا عن أن تكون جناه واحدة. وفي نظيرة بقوله: "رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من الرمان" إيمان ألى هذا المعنى فقوله: "من الرمان" بيان للنوع، ويبعد أن يجاب عن قوله: من أي ثمرة بقوله: من الرمان الفذ، إذا ليس السؤال عن العدد. قوله: (رأيت منك أسداً) يعني هو من باب التجريد وهو: أن ينتزع من ذي صفةٍ آخر مثله فيها، إيهاما لكمالها فيه، كأنك جردت من المخاطب شيئا يشبه الأسد وهو نفسه. كذا هنا

تريد أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة. فإن قلت: كيف قيل (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ)؟ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل. وشبهه بدليل قوله (وأتوا به متشابهاً)، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جرَّد من ثمرة رزقاً وهو هي، فيكون رزقاً أخص من "ثمرة"؛ لأن الثمرة ذات أوصاف فانتزع منها وصف المرزوقية، أي: التي يقع الأكل عليها لكمال هذا المعنى فيه، فالرزق على هذا مخرج من قوله: (مِنْ ثَمَرَةٍ) وعلى الأول بالعكس. ولهذا لم يجز أن يراد على الأول بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمان الفذ، وجاز ذلك على الثاني: "والجناة الواحدة" إشارة إلى ذلك. قوله: (وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار والجناة الواحدة) لأن قوله: (مِنْ ثَمَرَةٍ) يدل على نوع من الثمار، فانتزع منها ما وقع عليه اسم الرزق، أي: الأكل، فيصح أن يراد بها التفاحة الواحدة، ويصح أيضا أن يراد بها النوع من الثمار، وذلك أن تخصيص الثمرة التي مدلولها النوع من أنواع الثمار إما باعتبار تعيين النوع عن الشخص كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) [النور: 45] قال صاحب "المفتاح": أي: نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو من ماءٍ مخصوصٍ وهي النطفة. قوله: (والجناة)، الجوهري: الجنى: ما يجتنى من الشجرة، يقال: أتانا بجناةٍ طيبةٍ لكل ما اجتنى. قوله: (كأن ذاتَه ذاتُه) أي: هو تشبيهٌ بحذف الأداة ووجهه نحو قولك: زيدٌ أسد. قال الإمام: لما اتحدا في الحقيقة وإن تغايراً بالعدد صح أن يقال: هذا هو ذاك؛ لأن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص.

فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (وَأُتُوا بِهِ)؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأنّ قوله: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) [النساء: 135]، أي: بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنياً أو فقيراً على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: هذا إشارة الى نوع ما رزقوا، كقولك مشيراً إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهد منه بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه. وقال صاحب"الفرائد": الإشارة بقوله: "هذا" إلى النوع فلا حاجة إلى التأويل الذي ذكره. وقلت: قوله تعالى (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) يخوجه إلى التأويل؛ لأنه اعتراض يقرر أمر المعترض فيه، أو حال مقيد، وإليه الإشارة بقوله: "بدليل قوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) ". قوله: (لأن قوله: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين) أي: المشبه والمشبه به مشتملان على معنى المرزوق في الدارين؛ يعني من أراد أن يعبر عن قوله: هذا الذي رزقنا في الآخرة مثل الذي رزقنا في الدنيا بلفظ جامع له أن يقول: المرزوق في الدنيا والآخرة، وهذا الطريق في البيان يسمى بالكناية الإيمائية، فالضمير المفرد راجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان، فلو رجع إلى الملفوظ وهو المشبه والمشبه به لقيل: وأتوا بهما، ونظيره في رجوع الضمير إلى المعنى دون اللفظ قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) [النساء: 135] إذ لو اعتبر اللفظ لقيل: "أولى به" على الأفراد؛ لأن الضمير في الشرط

بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو قوله: "إن يكن" راجع إلى المشهود عليه في قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ) أى: المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) ليتطابق الشرط والجزاء، لكن لما كان المانع من الشهادة على الأقرباء غالباً إما خوف الفقر عليهم إذا كانوا أغنياء، أو تضررهم بها إذا كانوا فقراء عم الصفتين بتثنية الضمير، أي: الله أولى بجنس المتصف بصفة الغني، وبجنس المتصف بصفة الفقر، سواء كان مشهوداً عليه أو غيره، وأعلم بمصالحه وبما ينفعه، فيدخل في هذا العالم المشهود عليه دخولاً أولياً، وهذا أيضاً كناية إيمائية. يدل على العموم قوله: "بجنسي الغني والفقير". قوله: (مزية)، الجوهري: المزية الفضيلة ولا ينبني منها فعل. وفي "حاشية الصحاح": يقال: أمزيته عليه، أي: فضلته. الأساس: تميزت علينا: تفضلت، أي: رأيت لك الفضل علينا، ومزيت فلانا فضلته. قوله: (وتبين كنه النعمة فيه) فاعله الإنسان، الجوهري: تبين الشيء: ظهر، وتبينته أنا. قوله: (تشبع السكن)، النهاية: السكن بفتح السين وسكون الكاف: أهل البيت، جمع ساكن كصاحب وصحب.

والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والنبقة)، النهاية: النبق بفتح النون وكسر الباء، وقد يسكن: ثمر السدر، واحدته نبقة. أشبه شيء بالعناب قبل أن تشد حمرته. قوله: (حجم الفلكة)، الجوهري: الفلكة المغزل سميت لاستدارتها. قول: (كفلان هجر)، المغرب: القلة: حب عظيم، وهي معرفة بالحجاز والشام، وعن الأزهري: تأخذ القلة مزادة كبيرة، وتملأ الراوية قلتين، وأراها سميت قلالاً؛ لأنها تقل، أي: ترفع إذا ملئت. الجوهري: هجر: مذكر مصروف، اسم بلد. قوله: (يسير الراكب) عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مئة عام لا يقطعها" أخرجه البخاري ومسلم. ولثبوت هذا المشبه به عن الأثبات الثقاب وكونه أعرف من المشبه أوقعه مشبها به في قوله: "كما رأوا" إذ التقدير: فحين أبصروا الرمانة والنبقة رؤية مثل رؤيتهم ظل الشجرة.

هو الذي يستملي تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة ذراعاً. ويجوز أن يرجع الضمير في: (وأُتُوا بِهِ) إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه، ويكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى اللَّه عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده» إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل اللَّه مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأوّل هو هو. فإن قلت: كيف موقع قوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]، وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يستملي)، الجوهري: يقال: استمليت الكتاب: سألته أن يملى علي. قوله: (تبجحهم) التبجح: الفرح، والصحفة. كالصعقة، والجمع صحاف. قواه: (متجانساً في نفسه) أي: يجانس بعضه بعضاً، ولا يجانس ثمر الدنيا، فعلى هذا (مِنْ ثَمَرَةٍ) بيان "رزقاً". قوله: (هو هو) أي: هو الكامل المعلوم كقوله:

والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقاً: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهنّ، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهنّ ومثالبهنّ وخبثهنّ وكيدهنّ. فإن قلت: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنا أبو النجم وشِعري شعري قال القاضي: والأول أظهر لمحافظته على عموم (كُلَّمَا)، فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا، فلا يصح في الوجه الثاني هذا القول إذا أتوا به أول مرة، ولأن الداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم، وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة. وقلت: ويفوت أيضاً على الثاني غرض الاستئناس وفائدة الاستئناف، وقد مر أن موقع "كلما" إما صفة جناتٍ، أو جملةٌ مستأنفة كما قدره: "أثمار الجنات أشباه ثمار الدنيا أم أجناس أخر"، ومن المقرر في علم المعاني حسن موقع الاستئناف في الكلام، وإنما يظهر حسنه على الوجه الأول لانقطاعه لفظاً. قوله: (أعراق السوء)، الأساس: فلان معرقٌ له في الكرم أو اللؤم وهو عريق فيه، وتداركته أعراق صدق أو سوء. قوله: (والمناصب)، الأساس: ومن المجاز: هو يرجع إلى منصب صدق ونصاب صدق، وهو أصله الذي نصب به وركب فيه، ومنه نصاب السكين؛ لأنها رُكِّبَت فيه.

فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان؛ يقال: النساء فعلن، وهنّ فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة: وإذَا العَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فملَّتِ والمعنى وجماعة أزواج مطهرة. وقرأ زيد بن على: (مطهرات) وقرأ عبيد بن عمير: مطهرة، بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب: ما أحوجنى إلى بيت اللَّه. فأطهر به أطهرة. أى فأتطهر به تطهرة. فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما الموصوف) أي كما الموصوف مجموعٌ، فـ"ما" كافةٌ مُهيئةٌ لدخول الكاف على الكافة. قوله: (وإذا العذارى بالدخان) البيت المرزوقي: العذارى جمع عذراء يقول: وإذا أبكار النساء صبرت على دخان النار صار كالقناع لوجهها، ولم تصبر على إدراك ما في القدور فشوت في الملة على قدر ما تعلل نفسها به من اللحم لدفع ضرر الجوع المفرط من اشتداد السنة. خصت العذارى بالذكر لفرط حيائهن ولتصونهن عن كثير مما يبتذل فيه غيرهن، وجعل نصب القدور مفعول "استعجلت"على السعة. وجواب إذا في البيت الذي يليه: دارت بأرزاق العفاة مغالق ... بيدي من قمع العشار الجلة المغالق: القداح في الميسر. والقمع: جمع قمعه وهي القطعة من السنام، يقال: سنام قمع، أي: عظيم. والجلة-بكسر الجيم-من الإبل: المسان، وهو جمع جليل كصبي وصبية. يقول: إذا صار الزمان كذا دارت القداح في الميسر بيدي لإقامة أرزاق الطلاب من أسنمة النوق السمان الكبار الحوامل التي قرب عهدها بوضع الحمل. وسميت القداح مغالق لأن الجزور يغلق عندها ويهلك بها.

(مطهرة) فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ. وليس ذلك إلا اللَّه عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم. والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال اللَّه تعالى: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء: 34]. وقال امرؤ القيس: ألَا انْعَمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِى ... وهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالى! وهَلْ يَنْعَمَنْ إلّا سَعِيدٌ مُخَلّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ مَا يَبِيتُ بأوْجَالِ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبقاء اللازم الذي لا ينقطع) هذا مذهبه، واستدل به على خلود أهل الكبائر في النار، ويقيده في قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) [النساء: 93]. على أن ابن جني نقل عن أحمد بن يحيى: الخلد: داخل القلب، واستدل بقول امرئ القيس: وهل ينعمن إلا سعيد مخلد يعني به من يلبس الخلد: السوار والقرط. أي: الصبي والصبية يدل عليه قوله: قليل الهموم لا يبيت بأوجال وأنشد في معناه: تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضي منها وما يتوقع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: والخلد والخلود في الأصل: الثبات المديد دام أم لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار: خوالد، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء: 57] لغواً، واستعماله حيث لا دوام كقولهم: وقف مخلد، يوجب اشتراكاً أو مجازاً. فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية للاستحالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال، فكيف يعقل خلودها؟ قلنا: إنه تعالى وتعظم يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة، بل يجعل أجزاءها متفاوتة في الكيفية متساوية في القوة لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن شيء كما يشاهد في بعض المعادن. هذا وإن قياس ذلك العالم على ما نجده ونشاهده، من نقص العقل وضعف البصيرة. وقد ذكر الراغب نحواً من هذا، ثم قال: ليس لهذا القول وجه إلا التوقيف ولا مدخل للاجتهاد فيه، والذي يستبعده المتفلسفون هو أنهم يريدون أن يتصوروا أبداناً متناولة لأطعمة لا استحالة فيها ولا تغير لها، ولا يكون منها فضولات، وتصور ذلك محال. وذلك أن التصور هو إدراك الوهم ما أدركه الحس، وما لا يدرك الحس جزءه ولا كله كيف يمكنه تصوره؟ ولو كان للإنسان سبيل إلى تصور ذلك لما قال تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبراً عن الله تعالى: "أعددت

[(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)]. سيقت هذه الآية لبيان أنّ ما استنكره الجهلة والسفهاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وقلت: اعلم أن قوله: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تكميل في غاية من الحسن ونهاية من الكمال، وذلك أن النعم وإن جلت منزلتها، والترفه وإن عظمت رفعته لا يتم ولا يكمل إذا تصور انقطاعها وتوهم زوالها، وأما إذا علم أنها باقية دائمة يزيد بها الابتهاج ويتم الفرح فلا ينغص ذلك العيش، ولا يكدر ذلك الصفو، والى هذا المعنى ينظر قول امرئ القيس: "ألا انعم صباحاً" البيتين. انعم صباحاً: كلمة تحية من: أنعم ينعم؛ إذا طاب عيشه، أي: طاب عيشك في الصباح، وإنما خص الصباح به؛ لأن الغارات والمكاره تقع صباحا. الأوجال: جمع وجل وهو الخوف، والعصر: الدهر. يخاطب الطلل الدارس من ديار المحبوبة بالنعم والطيب ثم قال: وكيف ينعم من كان في زمن الفراق والخلو من الأهل والأحباب! وهل ينعمن إلا سعيد مخلد آمناً من المخاوف والآفات! ولا يكون ذلك إلا في دار الخلد للمؤمنين، اللهم اجعلنا من زمرة الداخلين فيها. قوله: (سيقت هذه الآية) أي: قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي) قال الإمام: إنه تعالى لما بين

وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل- ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من قبل أنّ التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهم من المشاهد. فان كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن القرآن معجزٌ أتى بشبهةٍ أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها، وتقرير الشبهة: أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت، وهذه الأشياء لا تليق بكلام البلغاء فضلاً عن كلام الله المجيد. وأجاب: إن صغر هذه الأشياء لا يقدح في البلاغة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة. والمؤلف وإن لم يصرح بهذا المعني لكن أومى إليه في كلامه، فعلى هذا نظم هذه الآية بما قبلها نظم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة: 6] في كونها جملة مستطردة كما ذكره الإمام. وقلت: تلك في أحوالهم وهذه في أقوالهم. قوله: (أو أهل العناد) أي: المستنكرون طائفتان: طائفة لا يعلمون، وأخرى يعلمون ولكن يعاندون. قوله: (فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله) لم يرد به التشبيه التمثيلي أو الاستعارة التمثيلية بل أعم. وفيه. أن المشبه وإن كان فرعا في إلحاقه بالمشبه به لكنه أصل في إيراد المشبه به من كونه عظيما أو حقيرا أو غيرهما من الصفات. وإليه الإشارة بقوله: "فليس

وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذاً إلا أمراً تستدعيه حال المتمثل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحاً جلياً أبلج، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً للَّه تعالى لا حال أحقر منها وأقلّ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقلّ من الذباب وأخس قدراً، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع، ولم يقل للمتمثل: استحى من تمثيلها بالبعوضة، لأنه مصيب في تمثيله، محق في قوله، سائق للمثل على قضية مضربه، محتذ على مثال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العظم والحقارة في المضروب به" إلى آخره، فإذا اقتضى وصف آلهتهم بأن تثبت لها صفة الحقارة فلا بد أن يجاء بالممثل به ما يشتمل على معنى الحقارة كما نحن بصدده. ولما اقتضى وصف التكليف العظمة والفخامة في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية [الأحزاب: 72] جاء بالمثل به كما ترى. قوله: (لم يستنكر) جواب "لما" أي: لم يستنكر ضرب البعوضة لها مثلاً. قوله: (قضية مضربه) أي: موضع ضرب المثل فيه. اعلم أن المستعار في التمثيل إذا كان قولاً سائراً يشبه مضربه بمورده سمي مثلاً، وإن لم يكن للمضرب موردٌ سمي تمثيلا، وكلام الله وارد على الثاني دون الأول. قوله: (محتذ على مثال) هو افتعال من الحذو، وفيه معنى الاعتمال. الجوهري: حذوت النعل بالنعل إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها. وضمن معنى قدر، وعدى بـ"على"

ما يحتكمه ويستدعيه، ولبيان أنّ المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما يحتكمه) يقال: احتكمه الى الحاكم: ذهب به إليه واستصحبه معه واستجره. والضمير المستتر في "يحتكمه" عائد إلى الممثل له، أي: الذي ضرب لأجله المثل نحو حال الآلهة مثلاً، والبارز إلى ما. قوله: (ولبيان أن المؤمنين) عطف على قوله: "لبيان أن ما استنكره" على طريقة: أعجبني زيد وكرمه؛ لأنه تفصيله، بدليل عطف قوله: "وأن الكفار" على قوله: "أن المؤمنين" ثم قوله: "إن ذلك سبب زيادة الهدى وانهماك الفاسقين" كالنشر للمعطوفين. وتحريره: أن الآية من باب الجمع مع التقسيم والتفريق والتذييل، وتفسيره لها موافق لهذه الصنعة. أما الجمع فقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26]، لأنها متضمنة لحقية المثل وباطلية مستنكريه، وإليه أومى بقوله: "لم يستنكر ولم يستبدع" وبقوله: لأنه مصيب في تمثيله محق في قوله". ولما كان أصل الكلام مسوقاً للكفار، وذكر المؤمنين فيه على التبعية، صرح بذكرهم ونسب إليهم الاستنكار، ولم يذكر المؤمنين، لكن أثبت فيه الحقية التي هي مما ينسب إلى المؤمنين. وأما التقسيم، فالجملتان المصدرتان بـ "إما" لأنهما تفصيلا ما اشتمل عليه الكلام السابق، فجعل الحق منسوباً إلى صاحبه. والإنكار مضافاً إلى أهله، وإليه الإشارة بقوله: "وأن المؤمنين الذين عادتهم" وبقوله: "وأن الكفار الذين غلبهم الجهل".

وأنّ الكفار الذين غلبهم الجهل على عقولهم، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم، أو عرفوا أنه الحق إلا أنّ حب الرياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا، فإذا سمعوه عاندوا. وكابروا وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، وأنّ ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما التفريق فقوله: تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) حيث بين لكل من الفريقين مآل أمره من الضلال والهدى، وهو المراد بقوله: "وأن ذلك سبب زيادة هدى للمؤمنين" وبقوله: "وانهماك الفاسقين في غيهم وضلالهم". وأما التذييل فقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) فخص الضلال بهم على الحصر ليختص الهداية بالمؤمنين لتقابلهما، والله أعلم. قوله: (على بصائرهم) بدل اشتمال من الضمير المنصوب في "غصبهم" كقولك: سلب زيد ثوبه، الأساس: غصب على عقله. الصحاح: الغصب: أخذ الشيء ظلماً، تقول: غصبه منه وغصبه عليه. والفاء في قوله: "فلا يتفطنون" مسببة عن "غلبهم الجهل" وقوله: "أو عرفوا" متفرع على ما سبق أن المنكرين طائفتان: جاهل ومعاند المشار إليه بقوله: "إنما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراد من الكفار". والفاء في "فإذا سمعوه" مثلها في "فلا يتفطنون" مسببة عن قوله: "أو عرفوا أنه الحق" وهو عطف على "غلبهم الجهل" داخل في حيز صلة الموصول الذي هو صفة لاسم "إن"، وهما في الظاهر خبران لـ"إن"، والفاء تدخل في خبر الاسم الموصوف بالموصول المتضمن للشرط. وأن لا يمنع من ذلك على مذهب

وانهماك الفاسقين في غيهم وضلالهم. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا: "أجمع من ذرّة"، و"أجرأ من الذباب"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأخفش. قال الخبيصي: والمفتوحة مثلها، أي: في جواز دخول الفاء على الخبر كقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: 41]. قوله: (وانهماك)، الجوهري: انهمك الرجل في الأمر: إذا جد ولج. قوله: (وأحناش الأرض)، الجوهري: الحنش بالتحريك: كل ما يصاد من الطير والهوام، والجمع الأحناش. والحنش أيضاً: الحية، والحشرات: صغار دواب الأرض. قوله: (أجمع من ذرةٍ) قال الميداني: قال الشاعر في الذروة وجمعها: تجمع للوارث جمعاً كما ... تجمع في قريتها الذرة يزعمون أنها تدخر ف يقراها قوت سبع سنين. قوله: (وأجرأ من الذباب) وذلك أن الذباب يقع على أنف الملك، وعلى جفن الأسد، فإذا ذيد يعود، قال الراجز:

و"أسمع من قراد"، و"أصرد من جرادة"، و"أضعف من فراشة"، و"آكل من السوس". وقالوا في البعوضة: "أضعف من بعوضة"، و"أعز من مخ البعوض". وكلفتنى مخ البعوض. ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما سُمي الذباب ذباباً ... حيث يهوي وكلما ذُبَّ آبا قوله: (وأسمع من قراد) لأنه يسمع أصوات أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرك لها. قال أبو زياد الأعرابي: ربما رحل الناس عن دارهم بالبادية وتركوها قفاراً، والقردان منتشرةٌ في أعطان الإبل وأعقار الحياض، ثم يرجعون بعد عشرٍ أو عشرين سنة فيجدون القردان في تلك المواضع أحياءً وقد أحست بروائح الإبل. قال ذو الرمة: بأعقاره القردان هزلى كأنها ... نوادر صيصاء الهبيد المحطم إذا سمعت وطء الركاب تنغشت ... حشاشاتها في غير لحمٍ ولا دم الصيصاء: صغار الحنظل. والهبيد: حب الحنظل. قوله: (وأصرد من جرادة) وذلك أنها لا تُرى في الشتاء أبداً لقلة صبرها على البرد، يقال: صرد الرجل يصرد صرداً فهو صردٌ ومصراد للذي يجد البرد سريعاً، كلها في "مجمع الأمثال".

كالزوان والنخالة. وحبة الخردل، والحصاة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالزوان)، الجوهري: الزوان: حَبٌّ مرٌ يُخالط البر، بفتح الزاء وضمها وقد يُهمز. قال الإمام: قال: مثل ملكوت السماء كمثل رجلٍ زرع في قريته حنطةً جيدةً نقيةً، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان، فقال عبيد الزارع: يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زُرعت في قريتك؟ قال: بلى، قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال: لعلكم إن ذهبتم أن تلقطوا الزوان تقلعوا معه حنطةً، دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد، فأمر الحصادين أن يلقطوا الزوان من الحنطة إلى الجرائن وأن يربطوه حزماً، ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرائن. التفسير: الزارع أبو البشر، والقرية: العالم، والحنطة: الطاعة، وزارع الزوان: إبليس، والزوان: المعاصي، والحصادون: الملائكة الذين يتوفون بني آدم. قوله: (والنخالة) قال: لا تكونوا كمنخلٍ يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. قوله: (وحبة الخردل) قال: أضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء: لو أن رجلاً أخذ حبة خردلٍ وهي أصغر الحبوب فزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرةٍ من البقول، وجاء طير السماء فعشش في فروعها، وكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به. قوله: (والحصاة) قال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار، ولا يُلينها الماء، ولا تنسفها الرياح.

والأرضة، والدود، والزنابير. والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغنى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمى لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر اللَّه الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام اللَّه. فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية. والحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة. يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسي ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأرضة) قال: لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث اللصوص والسموم فيسرقها اللصوص وتحرقها السموم، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله. قوله: (والزنابير) قال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم، فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموني، كلها في "التفسير الكبير". قوله: (عن إعمال الحيلة) متعلق بقوله: "أن يرمي"، كما تقول: رميت عن القوس. قوله: (والتعويل) بالجر عطفٌ تفسيريٌ على قوله: "وإنكار المستقيم"، و"إذا لم يجد" ظرف "أن يرمي". قوله: (نسي) الرجل، فهو نسٍ على فَعِلٍ: إذا اشتكى نساه. الجوهري: قال الأصمعي: النسا بالفتح مقصور: عرقٌ يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر.

وحشي وشظي الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء. جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير، منتكس القوّة منتقص الحياة، كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدّة الحياء. وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا. فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به. ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: (إن اللَّه حي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا). قلت: هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يضرب مثلاً) ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحشي) الحشى: الربو. وقد حشي بالكسر: إذا اشتكى حشاه. قوله: (وشظي)، الجوهري: الشظي: عظمٌ مستدقٌ ملزقٌ بالذراع، فإذا تحرك من موضعه قيل: شظي الفرس. قال القاضي: الحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً، فإذا وصف به الباري تعالى، فالمراد اللازم للانقباض. كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابةُ المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما. قوله: (في حديث سلمان) والحديث رواه أبو داود والترمذي. الانتصاف: تأويل الحديث به لازمٌ، وأما الآية فلا تحتاج إلى التأويل؛ لأن الحياء مسلوبٌ عنه تعالى، فهو كقولك: إنه تعالى ليس بجسمٍ ولا عرض.

أي: لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيى أن يتمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال. وهو فنّ من كلامهم بديع، وطراز عجيب، منه قول أبي تمام: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنصاف: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن التأويل إنما يحتاج إليه في الخبر لا في الآية فقف عليه. قلت: يرده إثباته الترك في تأويل الحديث بقوله: "مثل تركه" ونفيه في تأويل الآية بقوله: "أي: لا يُترك ضرب المثل" والفرق بين قولنا: إنه تعالى ليس بجسمٍ ولا عرضٍ وما في الآية واحلديث، هو: أن القصد في ذلك التنزيه وما لا يجوز أن يُنسب إليه تعالى، وفي الآية القصد إلى تجويز ضرب المثل وأن الحياء غيرُ مانعٍ منه. وفي الحديث القصد إلى تركه تخييب العبد، وأن الحياء مانعٌ من التخييب، فالمقاصد مختلفة والمقامات متباينة، فهما قريبان من ترتب الحكم على الوصف المناسب، فلا بد من اعتبار المجاز. قوله: (على سبيل المقابلة، وإطباق الجواب) اعلم أن ها هنا ألفاظاً يذكرها أرباب البديع، أحدها المقابلة: وهي الجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وبين ضديهما، وثانيها: المطابقة: وهي أن يجمع بين متضادين، وثالثها: المشاكلة وهي: أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، والآية من قبيل النوع الأخير وإن سماه المصنف باسم النوع الأول، لكن المشاكلة على التقدير إذ لولا قولهم: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت على سبيل الإنكار لم يحسن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي) جواباً عنه، وبيت أبي تمام من المشاكلة التي لم ترد على السؤال والجواب وإن تأخر فيه المصاحب عن المصاحب، ومثله قوله:

مَنْ مُبْلِغٌ أَفْناءَ يَعْرُبَ كُلَّها ... أَنِّى بَنَيْتُ الجَارَ قبْلَ المَنْزِلِ. وشهد رجل عند شريح. فقال: إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل: إنها لم تجعد عنى. فقال: للَّه بلادك، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. وللَّه درّ أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسدّ مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي فإن المرزوقي عده من المشاكلة. وقول الشاهد: "إنها لم تُجعد عني" جواباً عن قول شريح: "إنك لسبط الشهادة" يحتمل أن يكون من المطابقة بالنظر إلى اللفظين؛ لأن السبط ضد الجعد، وأن يكون من المشاكلة، إذ لو قال شريحٌ: إنك لبديه الشهادة لم يحسن منه: لم تجعد عني. وموقع الاستشهاد هذا القسم، ولذلك قال: "لولا سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها". وأما قوله: "فجاءت على سبيل المقابلة" فلم يرد منه المعنى المصطلح عليه بل ما يصح أن يقابل به الكلام؛ لأن قوله: "وإطباق الجواب على السؤال" عطفٌ تفسيريٌ عليه، والمصنف سلك في هذا المقام طريق التشابه في الكلام، فهو مفتقرٌ إلى تقادح الآراء واستنباط الأساليب حتى يصرح المحض. قوله: (أفناء يعرب) فناء الدار ساحتها، والجمع أفنية. يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يُعلم ممن هو، ويعرب هو ابن قحطان سمى به القبيلة. قوله: (وقد استعير الحياء) يتعلق بالجواب الأول وهو قوله: "هو جارٍ على سبيل التمثيل"

إذَا مَا اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نفْسَهُ ... كرَعْنَ بِسبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ وقرأ ابن كثير في رواية شبل (يستحى) بياء واحدة. وفيه لغتان: التعدي بالجارّ والتعدي بنفسه. يقولون: استحييت منه واستحييته، وهما محتملتان هاهنا. وضرب المثل: اعتماده وصنعه، من ضرب اللبن وضرب الخاتم، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعلق الجملة الحالية بعاملها، وقد مر مراراً أن الاستعارة التبعية قد تقع على سبيل التمثيل، يعني: استعير الحياء للترك بعد التشبيه في كلام الله، وقد جاء مثله في كلامهم، واعترض بين الجواب ومتعلقه الجواب الثاني على سبيل الاستطراد؛ اهتماماً بشأنه لما اشتمل على بديع المعاني، وقد نبه عليه بقوله: "ولله در أمر التنزيل، وإحاطته بفنون البلاغة! ". قوله: (إذا ما استحين) البيت للمتنبي. أي: تركن، والضمير للنوق. كرع الماء يكرع كروعاً: إذا تناوله بفيه من موضعه. السبت: بكسر السين المهملة: جلود البقر المدبوغة بالقرظ. شبه مشافر الإبل به. عنى بالإناء جلد البقرة فيها الماء، وبالورد الأزهار. يصف الإبل وكثرة مياه الأمطار المحفوفة بالأزهار، فكأن الماء يعرض نفسه عليها، والإبل تستحيي من رد الماء إذا كثر عرض نفسه عليها فتكرع فيه بمشافر كأنها السبت. قوله: (وقرأ ابن كثير) وهي شاذة: وإن نُسبت إلى الإمام. قوله: (وضرب المثل اعتماده وصنعه)، الراغب: الضرب إيقاع شيءٍ على شيءٍ، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها،

وفي الحديث: اضطرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خاتما من ذهب. و (ما) هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعا وعموما، كقولك: أعطنى كتابا مّا، تريد أى كتاب كان. أو ضلة للتأكيد، كالتي في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) كأنه قيل: لا يستحيى أن يضرب مثلا حقاً أو البتة، هذا إذا نصبت (بَعُوضَةً)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وضرب الدراهم اعتباراً بضربه بالمطرقة، وقيل له: الطبع اعتباراً بتأثير السكة فيه، وبذلك شبه السجية فقيل لها: الضريبة والطبيعة، والضرب في الأرض: الذهاب فيها، وهو ضربها بالأرجل، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة، وتشبيهاً بضرب الخيمة، قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة: 61] أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة، ومنه استعير: (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) [الكهف: 11] وضرب المثل هو من ضرب الدراهم، وهو ذكر شيءٍ أثره يظهر في غيره، والاضطراب كثرة الذهاب في الجهات من الضرب في الأرض. قوله: (اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب) الحديث من رواية الشيخين وأبي داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر في رواية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، واتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوا رمى به وقال: "لا ألبسه أبداً" ثم اتخذخاتماً من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قوله: (كأنه قيل: لا يستحيي) فذلكةٌ لما سبق وتلخيصٌ لما فُسِّر؛ وذلك أن قوله: "حقاً" يتعلق بالوجه الأول، أن الله لا يترك المثل الحق والتمثيل الذي يقع في موقعه كيف ما كان؛ حقيراً كان أو عظيماً؛ لأن المقصود البيان الجلي وكشف معنى الممثل له على وفق الحاجة،

فإن رفعتها فهي موصولة، صلتها الجملة لأن التقدير: هو بعوضة، فحذف صدر الجملة كما حذف في: (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام: 154] ووجه آخر حسن جميل، وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام لما استنكفوا من تمثيل اللَّه لأصنامهم بالمحقرات قال: إنّ اللَّه لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة مثلا، بله البعوضة فما فوقها، كما يقال: فلان لا يبالى بما وهب ما دينار وديناران. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالذين آمنوا يعلمون أنه الحق من ربهم، فعلى هذا انتصاب "حقاً" على أنه صفة "مثلاً" لا على المصدرية كما سبق إلى بعض الأوهام. وأن قوله: "ألبتة" يتعلق بالوجه الثاني، وهو أن تكون "ما" مزيدةً، يعني أن الله لا يترك ضرب المثل ألبتة، لما فيه من الفوائد الجليلة والمنافع الكثيرة، لأنه أوقع في القلب وأقلع للشبه، وذلك أن "ما" إذا كانت إبهاميةً تُعطي معنى التنكير في "مثلاً" وتزيد في شيوعه، ولهذا قلنا: أي مثلٍ كان، وأن "ما" المؤكدة تؤكد معنى مضمون الجملة، وإليه الإشارة بقوله: "ألبتة"، ويعضده ما جاء في "المفصل": قولك: ما إن رأيت زيداً، الأصل: ما رأيت، ودخول "إن" صلةٌ أكدت معنى النفي. قال القاضي: تسمية "ما" مزيدةً لا يُعنى بها اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدىً وبيان؛ بل "ما" لم توضع لمعنىً يراد منه، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيره فتفيد له وثاقةً وقوةً، وهو زيادةٌ في الهدى. قوله: (بله)، النهاية: بله من أسماء الأفعال، كرويد ومه وصه، يقال: بله زيداً، بمعنى: دعه واتركه، وقد يوضع موضع المصدر، فيقال: بله زيدٍ، كأنه قيل: ترك زيدٍ.

والمعنى: أن للَّه أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه، أو بالمعدوم، كما تقول العرب: فلان أقل من لا شيء في العدد. ولقد ألم به قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت: 42] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالجزء الذي لا يتجزأ) هو في عبارة المتكلمين. وعندهم: أن الأجسام البسيطة من أجزاءٍ صغارٍ لا تنقسم أصلاً. قوله: (إلا هو وحده بلطفه) أي: بلطف إدراكه. قال في قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103]: وهو للطف إدراكه يُدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك. قوله: (أقل من لا شيء) قيل: "شيء" مجرورٌ بـ (من)، ولا زائدة. المعنى: فلانٌ في حسبان الناس كأقل شيء. أو لا تكون زائدةً أي: أقل من المعدوم، أو غيره ملتفتٍ إليه. قوله: (ألم به) أي: نزل بهذا المعنى، أي: بالحكم على الشيء بلا شيء، الأساس: ألم: نزل، ومن المجاز: ألم بالأمر، أي: لم يتعمق به، الجوهري: غلامٌ ملمٌ: قارب البلوغ. قوله: ((إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) [العنكبوت: 42]) قال أبو البقاء: "ما" في (مَا يَدْعُونَ) استفهامٌ منصوبٌ بـ (يَدْعُونَ) لا بـ (يَعْلَمُ)، و (مِن شَيءٍ) تبينٌ، ويجوز أن تكون نافيةً، و (مِن) زائدةً، و (شيئًا) مفعول (يَدْعُونَ).

وهذه القراءة تُعزى إلى رؤبة بن العجاج، وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم، والمشهود له بالفصاحة، وكانوا يشبهون به الحسن، وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه، وهو المطابق لفصاحته. وانتصب (بَعُوضَةً) بأنها عطف بيان لـ (مثلاً). أو مفعول لـ (يضرب)، و (مَثَلًا): حال عن النكرة مقدمة عليه، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: نفى أن يكون مدعوهم شيئاً، وما للنفي، والوقف على (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ)، ثم الابتداء بقوله: (مَا يَدْعُونَ) حسنٌ وهو موقع الاستشهاد. قوله: (رؤبة بن العجاج) قال القتبي في "طبقات الشعراء": هو رؤبة بن العجاج ابن رؤبة، من بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وأبوه لقي أبا هريرة رضي الله عنه وسمع منه أحاديث. قال ابن جني: فروايةُ "بعوضةٌ" بالرفع حكاها أبو حاتمٍ عن أبي عبيدة عن رؤبة، المعنى: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةٌ مثلاً، فحذف العائد إلى الموصول وهو ضعيفٌ؛ لأن هو ليس بفضلةٍ كما في ضربت الذي كلمت، أي: كلمته.

أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل». واشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب. يقال: بعضه البعوض. وأنشد: لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبى دِثارٍ ... إذَا مَا خافَ بعضُ القَوْمِ بَعْضَا ومنه: بعض الشيء لأنه قطعه منه. والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت، وكذلك الخموش. (فَما فَوْقَها) فيه معنيان: أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا، وهو القلة والحقارة، نحو قولك لمن يقول: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو انتصبا مفعولين) أي: (مَثَلًا) و (بَعُوضَةً). قيل: هذا أبعد الوجوه لندرة مجيء مفعولي جعل وأمثاله نكرتين لأنها من دواخل المبتدأ والخبر. قوله: (لنعم البيت بيت أبي دثار)، قيل: أبو دثار: كنية البعوض لدثوره، أي: دروسه بالنهار. قال ابن الأعرابي: أبو دثار: الكلة، أي: نعم البيت الكلة في ليالي الصيف إذا خاف بعض القوم من عض البعوض. قوله: (الخموش)، الجوهري: الخموش بفتح الخاء: البعوض لغة هذيل. والخموش: الخدوش وقد خمش وجهه.

فلانٌ أسفل الناس وأنذلهم: هو فوق ذاك، تريد: هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة. والثاني: فما زاد عليها في الحجم، كأنه قصد بذلك ردّ ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، لأنهما أكبر من البعوضة. كما تقول لصاحبك - وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال فلان بخل بالدرهم والدرهمين -: هو لا يبالى أن يبخل بنصف درهم فما فوقه، تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان، كأنك قلت: فضلا عن الدرهم والدرهمين. ونحوه في الاحتمالين ما سمعناه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يشح)، الجوهري: شححت بالكسر تشح، وشححت أيضاً تشح. قيل: هو في موضع ثاني مفعولي "عرفته" داخل في صلة الموصول، والوجه أن يكون حالاً. قوله: (هو لا يبالي) مقولٌ لقوله: "تقول لصاحبك" هذا الوجه إنما يُذهب إليه إذا سمع كلامٌ ذكر فيه ما يحتمل أحقر وأصغر منه، فيؤتى بما يحتمله من الصغر، ليترقى منه إلى ما ذكره المخاطب، فإن الكفار لما استنكروا ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فقيل لهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] فضلاً عما يقولونه وهو المثل بالذباب والعنكبوت، وعليه مثال الدرهم والدرهمين. الانتصاف: لا يستقيم المعنى على ما أشار إليه الزمخشري؛ لأن هذا الاستفهام إنما يقع للإنكار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، كما تقول: فلانٌ يُعطي الأموال ما الدينار وما الديناران؟ وأما ههنا فهم أنكروا ضرب المثل بالذباب، فلا يستقيم أن تكون البعوضة فما فوقها في الصغر أو الكبر على اختلاف المذهبين تنبيهاً بالأقل على الأكثر؛ إذ هي وما فوقها الأكثر في الحقارة! ولا تجد لتصحيح المعنى وجهاً. وإنما أطلت لأنه موضعٌ ضيقٌ يبعد فهمه، وحسبك بمعنىً انعكس فيه فهم الزمخشري.

في "صحيح" مسلم عن إبراهيم عن الأسود قال: دخل شباب من قريش على عائشة رضى اللَّه عنها وهي بمنى وهم يضحكون. فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه - أو عينه- أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنصاف: لو تأمل كلامه لوجد جواب اعتراضه فيه؛ لأنه قال: أُجيبوا بأن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً من الأمثال ما شاء؛ فما البعوضة فما فوقها؟ وذلك أن المسلوب عن الله أن يضرب مثلاً وهو نكرةٌ في سياق النفي، فيعم كل مثلٍ على اختلاف أنواعه عن الله، فما البعوضة، أي: الكل في الجواز سواء، فما البعوضة فما دونها في الحقارة؟ إذ المبالغة في تقليله لا يخرج عن كونه مثلاً، والكل جائزٌ، ولا يلزم من الاستفهام بـ"ما" أن يكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وقد يكون للإنكار على من سمع قاعدةً قد تقررت فسأل شيئاً من جزئياتها وقال: لِمَ جاز هذا مع وضوح الدليل على جواز الكل؟ وأُشير إلى أن الجميع علةٌ واحدة، وليس بعجيبٍ ما وهم فيه من ضيق مجال هذا البحث. وقلت: كلام صاحب "الإنصاف" يُشعر بأن وقله تعالى: (مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) من باب التذييل، وأنه يؤكد معنى العموم في قوله: (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا) وتكرير (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) للاستيعاب والشمول كقوله تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم: 62] سواءٌ اعتبرت الصغر أو الكبر أفاد الاستيعاب. والذي يُفهم من كلام المصنف: أن الوجه الأول من باب الترقي كقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى)، والثاني من باب الأولوية كقوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23]، وإلى الأول الإشارة بقوله: "تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به"، وإلى الثاني بقوله: "كأنك قلت: فضلاً عن الدرهم والدرهمين".

إني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة» يحتمل فما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة وهي نحو نخبة النملة في قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة وهي عضتها. ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط. فإن قلت: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت: ليس كذلك، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثلا للدنيا، وفي خلق اللَّه حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحادّ إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُشاك شوكةً) عن بعضهم: أراد المعنى لا العين، وهي المرة من شاك، ولو أراد العين لقال: بشوكةٍ، وفيه نظر. النهاية: شيك الرجل فهو مشوكٌ: إذا دخل في جسمه شوكة. الحديث أخرجه البخاري ومسلمٌ ومالكٌ والترمذي. وأما قوله: "ما أصاب المؤمن من مكروهٍ" الحديث، فلم أقف له على رواية. قوله: (كالخرور على طُنُب الفسطاط)، الجوهري: الفسطاط بيت من شعر. قوله: (وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا) روينا عن الترمذي عن سهل بن سعد،

فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس: 36]، وأنشدت لبعضهم: يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَها ... في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الألْيَلِ ويَرَى عُرُوقَ نِيَاطِها في نَحْرِها ... والمُخَّ في تِلْكَ العِظَامِ النّحَّلِ اغْفِرْ لِعبْدٍ تابَ مِنْ فَرَطاتِهِ ... ما كانَ مِنْهُ في الزَّمانِ الأوَّلِ. وفَأَمَّا حرف فيه معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيد ذاك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت: أمّا زيد فذاهب. ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وهذا التفسير مدل بفائدتين: بيان كونه توكيداً، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء". قوله: (يا من يرى) الأبيات، الجوهري: النياط: عرقٌ عُلِّق به القلب من الوتين، فإذا قُطع مات صاحبه. قوله: (أما زيدٌ فذاهب) قال الزجاج: الفاء دخلت في قوله: (فَيَعْلَمُونَ) لأن "أمّا"

وأنه في معنى الشرط. ففي إيراد الجملتين مصدّرتين به - وإن لم يقل: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون- إحماد عظيم لأمر المؤمنين، واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة الحمقاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تأتي بمعنى الشرط والجزاء كأنه إذا قال: أما زيدٌ فقد آمن وأما عمرو فقد كفر، قيل: مهما يكن من شيءٍ فقد آمن زيدٌ، ومهما يكن من شيءٍ فقد كفر عمرو. قلت: وتحريره: أي شيءٍ قُدر من الموانع والحوادث لا يمنع زيداً من افيمان. ويلزم منه أن الإيمان منه عزيمةٌ، ولهذا كرر العبارة. وفي "الإقليد": عن عبد القاهر: حق زيدٍ أن يكون بعد الفاء، لأنه جوابٌ وجزاءٌ إلا أنه حذف فعل الشرط وقدم المبتدأ وهو زيدٌ على الفاء وجُعل التقديم عوضاً من الفعل المحذوف. قوله: (إحمادٌ عظيم) ليس من أحمدته، أي: صادفته محموداً، وإنما هو من أحمدت صنيعه، وأحمدت الأرض: رضيت سكناها، وجاورته فأ؛ مدت جواره. قاله في "الأساس" في قسم المجاز. وقيل: حُكمٌ بكونه محموداً، كالإكفار حكمٌ بكونه كافراً. قوله: (ورميهم بالكلمة الحمقاء) وصف الكلمة بالحمقاء إذا لم تصدر عن فكرٍ ورويةٍ، بل يُرمى بها جزافاً. وقصد بها وصف صاحبها على الإسناد المجازي كما وصف القرآن في قوله: (وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ) [يس: 2] بصفة من هو بسببه، لتكون كنايةً عن حُمق صاحب الكلمة؛ ليصح التقابل بين هذه القرينة وبين قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ) [البقرة: 26]. قال القاضي: وكان من حق الكلام: وأما الذين كفروا فلا يعلمون؛ ليطابق قوله: "يعلمون"، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه.

والْحَقُّ الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. يقال: حق الأمر، إذا ثبت ووجب. وحقت كلمة ربك، وثوب محقق: محكم النسج. و(ماذا) فيه وجهان: أن يكون ذا اسماً موصولا بمعنى الذي، فيكون كلمتين. وأن يكون (ذا) مركبة مع (ما) مجعولتين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة، فهو على الوجه الأوّل مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته. وعلى الثاني منصوب المحل في حكم (ما) وحده لو قلت: ما أراد اللَّه. والأصوب في جوابه أن يجيء على الأوّل مرفوعاً، وعلى الثاني منصوباً، ليطابق الجواب السؤال. وقد جوّزوا عكس ذلك تقول - في جواب من قال: ما رأيت؟ - خير، أى المرئي خير. وفي جواب ما الذي رأيت؟ خيراً، أى رأيت خيراً. وقرئ قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219] بالرفع والنصب على التقديرين. والإرادة نقيض الكراهة، وهي مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك. وفي حدود المتكلمين: الإرادة معنى يوجب للحي حالاً ... ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره) قال القاضي: الحق يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة. قوله: (كما تقول في جواب من قال: ما رأيت؟ خيرٌ) استشهادٌ للتعكيس، وسيجيء إن شاء الله في "النحل" أن مدار المطابقة على موافقة السائل ومخالفته في قوله تعالى: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل: 24]. قوله: (أردت الشيء؛ إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك) قال القاضي: الإرادة: نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، ويقال للقوة التي هي مبدأ النزوع. والأول مع

لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. وقد اختلفوا في إرادة اللَّه، فبعضهم على أنّ للباري مثل صفة المريد منا التي هي القصد، وهو أمر زائد على كونه عالما غير ساه. وبعضهم على أن معنى إرادته لأفعاله هو أنه فعلها وهو غير ساه ولا مكره. ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها. والضمير في (أَنَّهُ الْحَقُّ) للمثل، أو لـ (أن يضرب) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل والثاني قبله، وكلٌ من المعنيين غير متصورٍ اتصاف البارئ تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته، وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح، فإنه يدعو القادر إلى تحصيله. والحق أنها ترجيح أحد مقدوريه على الآخر، وتخصيصه بوجهٍ دون وجه. وقال الإمام: إنها صفةٌ تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر؛ لا في الوقوع بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القيد عن القدرة. قوله: (عالماً غير ساهٍ) بيانٌ لقوله: "عالماً"؛ يريد أن المراد من الإرادة مجرد القصد، وهو أمرٌ زائدٌ على معنى العلم المراد منه غير ساهٍ. والوجه الآتي بخلافه. قوله: (وبعضهم على أن معنى إرادته) قال المصنف في كتاب "المنهاج": وقيل: معنى قوله: الله مريدٌ لأفعاله: أنه فعلها غير ساهٍ ولا مكرهٍ. "ومريدٌ لأفعال غيره": أنه أمر بها وليس له مثل صفة المريد منا، وهي القصد والميل. ومن أثبت له صفة المريد منا فهو عنده مريدٌ بمعنى الحادث وهو الإرادة، ويلزمه إثبات عرضٍ لا في محل. وعند الأشعري: هو مريدٌ بمعنى

وفي قولهم (ماذا أراد اللَّه بهذا) استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضى اللَّه عنها في عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: يا عجباً لابن عمروٍ هذا! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القديم. وعند النجار: مريدٌ لذاته، ويلزمهما أن يريد المعاصي فيكون كارهاً مريداً لشيءٍ واحدٍ في حالة واحدة. وقال الإمام في "نهاية العقول": القائلون بنفي الإرادة من المعتزلة أبو الهذيل والنظام والجاحظ والبلخي والخوارزمي قالوا: لا معنى للإرادة والكراهية شاهداً وغائباً إلا الداعي والصارف، وذلك في حقنا هو العالم باشتمال الفعل على المصلحة أو الاعتقاد أو الظن بذلك، والله سبحانه وتعالى لما استحال في حقه الاعتقاد والظن فلا جرم أنه لا معنى للداعي والصارف في حقه إلا علمه باشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة. وقال أصحابنا: إن الأمر قد ينفك عن الإرادة، وتمام الكلام مذكور في الأصول. قوله: (يا عجباً لابن عمرو هذا) روينا عن عبيد بن عميرٍ قال: بلغ عائشة رضي الله عنها: أن عبد الله بن عمرٍ ويأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجباً لابن

(مَثَلًا) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث:ماذا أردت بهذا جواباً؟ ولمن حمل سلاحاً ردياً. كيف تنتفع بهذا سلاحاً؛ أو على الحال، كقوله: (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف: 73]. وقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأما، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأنّ العلم بكونه حقاً من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلمائهم. فإن قلت: لم وصف المهديون بالكثرة - والقلة صفتهم (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص: 24] ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عمرو هذا. وفيه: "كنت أغتسل ورسول الله في إناءٍ واحدٍ وما أزيدُ أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات" أخرجه مسلم. قوله: (أو على الحال) قال أبو البقاء: "مثلاً" حالٌ من اسم الله، أو من "هذا" أي: متمثلاً أو متمثلاً به. والمصنف اختار الثاني لقوله: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً) [الأعراف: 73]. قوله: (جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين) لأن كلتا الجملتين مشتملةٌ على الكثرة وعلى معنى الضلالة والهدى وهو قوله: (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ) [البقرة: 26] و (فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ) فبين بقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) ذلك وكشف المعنى، وكذا تفسيره هذا، فقوله: "وإن فريق العالمين" و"فريق الجاهلين" جارٍ مجرى التفسير لقوله: "جارٍ مجرى التفسير والبيان"، وكذا قوله: "وأن العلم بكونه حقاً" وقوله: "وأن الجهل بحسن مورده" تفسيرٌ للتفسير على طريقة: أعجبني زيدٌ وكرمه.

"الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، "وجدت الناس أخبر تقله"؟ ... .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الناس كإبلٍ مئة) الحديث أخرجه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن ابن عمر. النهاية: أي: المرضي المنتجب من الناس كالنجيب من الإبل القوي على الأحمال الذي لا يوجد في كثيرٍ من الإبل. قال الأزهري: الراحلة هي البعير القوي على الأسفار والأحمال التام الخلق، يقع على الذكر والأنثى، والهاء فيه للمبالغة. قوله: (وجدت الناس أخبر تقله) قال الميداني: ويجوز: "وجدت الناس" بالرفع على الحكاية، أي: سمعت هذا القول، ومن نصب "الناس" نصبه بالأمر، أي: اخبر الناس. "ووجدت" بمعنى: عرفت، أي: عرفت هذا المثل، والهاء في "تقله" للسكت بعد حذف العائد أصله: اخبر الناس تقلهم ثم حذف الضمير، ثم أدخل هاء الوقف، والجملة في محل النصب بـ"وجدت" أي: وجدت الأمر كذلك. قال أبو عبيد: جاءنا الحديث عن أبي الدرداء، وقال: خرج الكلام على لفظ الأمر ومعناه الخبر، يريد أنك إذا خبرتهم قليتهم، يُضرب في ذم الناس وسوء معاشرتهم. وقالوا: اخبر تقله، مفعولٌ ثانٍ لوجدت، أي: وجدتهم مقولاً فيهم هذا القول. ومعناه: ما منهم من أحدٍ إلا وهو مسخوطٌ بالفعل عند الخبرة.

قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضاً فإنّ القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة، فسموا ذهاباً إلى الحقيقة كثيراً: إنَّ الكِرَامَ كثِيرٌ في البِلادِ وإنْ ... قَلُّوا، كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّ وإنْ كَثُروا وإسناد الإضلال إلى اللَّه تعالى إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم. وعن مالك بن دينار رحمه اللَّه أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه وقيد، فقال: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلة فقال: ... . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قُلٌّ وإن كثروا)، الأساس: في ماله قلةٌ وقُلٌّ، والربا وإن كثر فهو إلى قُلٍّ، والحمد لله على القل والكثر. قوله: (إن الكرام) البيت، الانتصاف: والاستشهاد بالبيت غير مستقيمٍ لأن معناه: أنهم وإن كانوا قليلاً فالواحد منهم كالكثير، قال: وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنى الإنصاف: المهديون في الآية كثيرٌ في أنفسهم وقليلٌ بالنسبة إلى غيرهم، فليس البيت من معنى الآية في شيء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: كلاهما اتفقا على أن الجواب الأول هو المقصود في تفسير الآية، لأن المعنى: المهديون كثيرون في أنفسهم لأنهم كانوا جماً غفيراً، ولكن بالنسبة إلى الكافرين كانوا قليلين. وأما الجواب الثاني والبيت المستشهد به فليسا من المعنى في شيء، إذ لو أريد هذا المعنى لقيل: يُضل به قليلاً ويهدي به كثيراً. ويمكن أن يقال: إن المعنى يُضل به الناقضين الذين إن عدوا كانوا كثيرن، ويهدي به الكاملين الذين إن اعتدوا كانوا كثيرين كقوله: قليلٌ إذا عُدوا كثيرٌ إذا شدوا. على أن سؤال المصنف المؤسس على قاعدته عن أصله مدفوع؛ لأنه إن أراد معنى العموم فقوله: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13] مع سائر الأمثلة لا يقابل الكافرين؛ لأن ذلك القليل لا يوجد إلا في الأنبياء وأفراد المؤمنين، بل المقابل عامة المؤمنين من أمة محمد صلوات الله عليه الذين علموا أن ما يقوله حقٌّ وصواب، سواءٌ كانوا مطيعين أو عاصين، فيدخل فيه من سيق له الكلام دخولاً أولياً، وهو الذي يقتضيه النظم، وإن أراد خصوص السبب، فقد أبعد المرمى؛ لأن الكلام واقعٌ في الطاعنين في ضرب الأمثال، القائلين: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب بالذباب والعنكبوت مثلاً؟ وماذا أراد الله بهذا مثلاً؟ وذلك أن الضمير في (أَنَّهُ الْحَقُّ) كما صرح به للمثل أو لـ"أن يضرب"، وفي "به" في "يضل به" "ويهدي به" كذلك، لما قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين والطاعنون في ضرب الأمثال ما بلغوا مبلغ المؤمنين الذين حازوا قصب السبق، وشهد الله تعالى به في قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100] فضلاً عن أن يزيدوا عليهم.

لمن هذه السلة؟ فقال: لي، فأمر بها تنزل، فإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك: هذه وضعت القيود على رجلك. وقرأ زيد بن على: يَضل به كثير. وكذلك: وما يَضل به إلا الفاسقون. والفسق: الخروج عن القصد. قال رؤبة: فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِها جَوَائرَا والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر اللَّه بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين أى بين منزلة المؤمن والكافر، وقالوا إنّ أوّل من حدّ له هذا الحدّ: أبو حذيفة واصل بن عطاء رضى اللَّه عنه وعن أشياعه. وكونه بين بين أنّ حكمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأمر بها تنزل) بالرفع على حذف أن وهو بدلُ اشتمالٍ من الضمير في بها كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) [الزمر: 17]. قوله: (فواسقاً عن قصدها جوائرا) أوله: يذهبن في نجدٍ وغوراً غائرا القصد: الطريق المستقيم، "غوراً": عطفٌ على محل الجار والمجرور، يصف نوقاً يمشين في المفاوز يذهبن عن استقامة الطريق. قوله: (النازل بين المنزلتين) قال القاضي: الفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وله درجاتٌ ثلاث: الأولى: التغابي وهو أن يرتكبها أحياناً مستقبحاً إياها، والثانية: الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبالٍ بها. والثالثة: الجحود وهو أن يرتكبها مستوصباً إياها، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ولابس الكفر. وما دام هو في

حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذمّ واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية: أنّ الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار: الفسقة. وقد جاء الاستعمالان في كتاب اللَّه. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات: 11]. يريد اللمز والتنابز (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة: 67]. النقض: الفسخ وفك التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟ قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ درجة التغابي والانهماك فلا يُسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، والمعتزلة لما قالوا: الإيمان عبارةٌ عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده؛ جعلوه قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر؛ لمشاكلته كل واحدٍ منهما في بعض الأحكام. قوله: (للخلعاء) هو جمع خليعٍ. الأساس: ومن المجاز: خلع فلانٌ رسنه وعذاره، فعدا على الناس بشره. وقيل لكل شاطرٍ: خليع. قوله: (وقد جاء الاستعمالان) أي: استعمال اسم الفاسق على المؤمن والكافر. قوله: (النقض: الفسخ)، الراغب: النقض فسخ المبرم، وأصله في طاقات الحبل، والنكث مثله. قوله: (من حيث تسميتهم العهد بالحبل) أي: لما سموا العهد بالحبل على سبيل الاستعارة كما في قوله: "إن بيننا بين القوم حبالاً" أي: عهداً، جسروا أن يستعملوا النقض في إبطال

لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول اللَّه، إنّ بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى إنّ اللَّه عز وجل أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العهد، وذلك أن شبه العهد بالحبل لما فيه من ثبات الوصلة تشبيهاً بليغاً حتى إنه حبلٌ من الحبال، ثم أخذ الوهم في تصويره بصورة الحبل، وتخييله بالحبل، واختراع ما يلازم الحبل من النقض، ثم إطلاق النقض المحقق على ذلك المخترع على سبيل الاستعارة التخييلية، ثم إضافته إلى العهد المتخيل ليكون قرينةً مانعةً عن إرادة العهد الحقيقي، ولو لم يُذكر النقض لم يُعلم أن العهد مكان الاستعارة، وإليه رمز المصنف بقوله: "أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار" أي: الحبل "ثم يرمزوا إليه بذكر شيءٍ من روادفه" أي: النقص، "فيُنبهوا بتلك الرمزة على مكانه" أي: الحبل المستعار، وعلى هذا المثالان. قوله: (التيهان) وفي "الحواشي": صح عن نسخة المصنف بفتح الياء، وبكسرها خطأٌ ذكره المرزوقي في "شرح الحماسة". قلت: بل هو أصوب لما في "جامع الأصول": ابن التيهان اسمه أبو الهيثم مالك بن التيهان الأنصاري صحابيٌ كبيرٌ شهد العقبة الأولى والثانية، وشهد بدراً وأُحداً والمشاهد كلها، التيهان: بفتح التاء فوقها نقطتان وبتشديد الياء تحتها نقطتان وكسرها. ذكره في موضعين من كتابه. قوله: (في بيعة العقبة) وهي العقبة الثانية في ثلاث عشرة من النبوة، والعقبة الأولى في سنة إحدى عشرة منها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في الموسم يعرض نفسه على القبائل، فبينا هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج، فجلس معهم وعرض عليهم الإسلام، وتلا القرآن،

أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه. ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس، وإذا تزوّجت امرأة فاستوثرها. لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأجابوه وانصرفوا راجعين، وكانوا ستة نفرٍ، فلما كان العام المقبل قدم منهم اثنا عشر رجلاً منهم ابن التيهان، قال عبادة بن الصامت: بايعناه بيعة النساء على أن لا نُشرك بالله شيئاً، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. قال ابن التيهان: بيننا وبين القوم حبالٌ إلى آخره، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنتم مني وأنا منكم". أورده ابن الجوزي في كتاب "الوفا في سيرة المصطفى". والحبال- في قول ابن التيهان- استعارةٌ مصرحة عن العهد والقرينة مقتضى المقام، و"قاطعوها" ترشيحٌ لها. "وأن يسكتوا" في الكتاب بدلٌ من قوله: "هذا" أي: سكوتهم "عن ذكر الشيء المستعار" إلى آخره "من أسرار البلاغة". قوله: (فاستوثرها)، الأساس: فراشٌ وثير: وطيءٌ، وقد وُثر وثارةً، ومن المجاز: وثرت وثارةً، إذا سمنت، قال القطامي: وكأنما اشتمل الضجيع بريطةٍ ... لا بل تزيد وثارةً وليانا قوله: (لم تقل هذا) أي: "يفترس" مثلاً إلا وقد دللت به على أن المراد بقولك: شجاعٌ: أسدٌ، ولا يكون أسداً إلا أن يكون استعارةً مكنيةً كما سبق، وذلك بأن يذكر اسم الشجاع

بأنهما أسد وبحر، وعلى المرأة بأنها فراش والعهد: الموثق. وعهد إليه في كذا: إذا وصاه به ووثقه عليه. واستعهد منه: إذا اشترط عليه واستوثق منه ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي هو المشبه، ويراد به اسم الأسد المشبه به أولاً، وهو الآن متخيلٌ، وإنما سميت مكنيةً لدلالة لازم المشبه به على مكانه، فتفطن لها، واحذه حذو ما نبه عليه المصنف، فإن غلط الناس فيها كثير، وحيث لم يفهموه خطؤوا صاحب "المفتاح". وأما قول صاحب "التقريب": إنها على الاستعارة المرشحة، فبعيد؛ لأن القرينة لا تكون ترشيحاً، بل الترشيح قوله: (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) [البقرة: 27]؛ لأن الترشيح تفريعٌ على الاستعارة وتتميمٌ لها، ولا يأتي إلا بعد تمامها. قوله: (وعلى المرأة بأنها فراش) وإنما أعاد الجار ليفرق بين الأمثلة، وقد فرقها في قوله: "وإذا تزوجت امرأة" حيث عدل إلى الشرطية، ولو قلت: شجاعٌ يفترس أقرانه، وعالمٌ يغترف منه الناس، وامرأةٌ وثيرة، لنسبت إلى ما تكره، ولجمعت بين الضرغام والنعام. قوله: (واستعهد) عطفٌ على قوله: "عهد إليه" أي: العهد مطلقاً: الموثق، فإذا استعمل بـ"إلى" كان بمعنى وصاه به، وإذا استعمل بـ"من"، كان بمعنى الاشتراط، والقدر المشترك الموثق، كما قال "العهد: الموثق" ولهذا قدر في المعنيين "وثقه عليه واستوثق منه"، ولابد من الأول من قبول من يُعهد إليه، وفي الثاني لزوم الوفاء من الطرفين، يدل عليه استشهاده بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40] والصريح فيه قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة: 38] إلى قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية [البقرة: 39].

والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد اللَّه: أحبار اليهود المتعنتون، أو منافقوهم، أو الكفار جميعاً. فإن قلت: فما المراد بعهد اللَّه؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف: 172]؛ أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول - يصدقه اللَّه بمعجزاته - صدّقوه واتبعوه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال. وعهد فلانٌ إلى فلان يعهد، أي: ألقى العهد إليه، وأوصاه بحفظه، وعهد الله تارةً يكون بما ركزه في عقولنا وتارةً بما أمرنا به بكتابه وسنة رسوله، وتارةً بما نلتزمه وليس بلازمٍ في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراها، وعلى هذا قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) [التوبة: 75] والمعاهد في أصل الشرع يختص بمن دخل من الكفار في عهد المسلمين، وكذلك ذو العهد، ومنه الحديث: "لا يقتل المؤمن بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهده" وباعتبار الحفظ قيل للوثيقة بين المتعاقدين عهدة، وقولهم: في هذا الأمر عهدةٌ لما أُمر به بأن يستوثق منه. ويقال: العهد للدار، لمراعاة الرجوع إليها. قوله: (ما ركز في عقولهم) مناسبٌ لقوله: "عهد إليه في كذا" فعلى هذا أخذ الميثاق تمثيلٌ بدليل قوله: "كأنه أمرٌ وصاهم به". فقوله: (وهو معنى قوله: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الأعراف: 172]) بيانٌ لقوله: "ما ركز في عقولهم من الحجة" وقوله: "أو أخذ الميثاق عليهم" مناسبٌ لقوله: "واستعهد منه: إذا اشترط عليه"، ويدل عليه تصريح الشرط بأنهم إذا بُعث إليهم رسولٌ صدقوه واتبعوه.

ولم يكتموا ذكره فيما تقدّمه من الكتب المنزلة عليهم، كقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40]. وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات اللَّه عليه: «سأنزّل عليك كتاباً فيه نبأ بنى إسرائيل، وما أريته إياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم وما نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به، وما ضيعوا من عهده إليهم» وحسن صنعه للذين قاموا بميثاق اللَّه تعالى وأوفوا بعهده، ونصره إياهم، وكيف أنزل بأسه ونقمته بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده، لأنّ اليهود فعلوا باسم عيسى ما فعلوا باسم محمد صلى اللَّه عليهما وسلم من التحريف والجحود وكفروا به كما كفروا به، وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيما تقدمه) متعلقٌ بقوله: "ذكره" وقيل: متعلقٌ بقوله: "أخذ" وليس بذلك. قوله: (في الإنجيل) أي: في حق الإنجيل. والمراد بقوله: "كتاباً" هو الإنجيل، نحو قوله تعالى لرسولنا صلوات الله عليه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل: 5] والقول الثقيل هو القرآن. قوله: (وما أريته) عطفٌ تفسيري لقوله: "بني إسرائيل"، على تقدير مضافٍ، أي: نبأ بني إسرائيل أريته إياهم. قوله: (لأن اليهود فعلوا باسم عيسى) قيل: إلى هاهنا تم كلام الله في الإنجيل. وفي قوله: "من عهده" التفاتٌ، وقوله: "لأن اليهود" كلام المصنف، وهو متعلقٌ بقوله: "في الإنجيل" والظاهر أنه تعليلٌ لانضمام قوله: "في الإنجيل" مع قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40] وكلاهما مثالان لقوله: "أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث" إلى آخره، أي: أن الله تعالى

هو أخذ اللَّه العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يبغى بعضهم على بعض، ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل: عهد اللَّه إلى خلقه ثلاثة عهود: العهد الأوّل الذي أخذه على جميع ذرّية آدم، الإقرار بربوبيته وهو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بني آدَمَ) [الأعراف: 172]؛ وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وهو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) [الأحزاب: 7]؛ وعهدٌ خصّ به العلماء وهو قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]. والضمير في (ميثاقه) للعهد، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخذ الميثاق عليهم بأنه إذا بُعث إليهم رسولٌ يصدقه بمعجزاته صدقوه، ولم يكتموا ذكره المثبت في الكتب المنزلة عليهم كما كتب في "التوراة"، واستعهد من اليهود فيها: أنه إذا جاءهم الرسول النبي الأمي ويصدقه الله بالمعجزة يؤمنوا به ويصدقوه، يدل عليه قوله: سأنزل إلى آخره؛ لأن فيه تسليةً للمسيح عليه السلام، وأنه من زُمرة من كذبته اليهود ونقضوا ميثاق الله فيه، ولم يوفوا بعهده. ووعد بأنه سينتقم له منهم البتة. قوله: (والضمير في (مِيثَاقِهِ) للعهد) أي: الضميرُ فيه: إما للعهد أو لله تعالى، وعلى التقديرين الميثاق: إما اسمٌ لما تقع به الوثاقة، أي: الاستحكام، وإما مصدر. فهذه وجوه أربعة: الوجه الأول مناسبٌ لقوله في الجواب "ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد"، لإيقاع قوله: طمن قبوله وإلزامه أنفسهم" بياناً "لما وثقوا به"، ولا بد في هذا الوجه من القبول ممن يعهد إليه، لما سبق في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172]. والرابع منها مناسبٌ للوجه الثاني في الجواب وهو قوله: "أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بُعث إليهم رسولٌ صدقوه" لقوله: "من آياته وكتبه وإنذار رسله"، ولا يجب على هذا الوجه

وهو ما وثقوا به عهد اللَّه من قبوله وإلزامه أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه، كما أنّ الميعاد والميلاد، بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى اللَّه تعالى، أى من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله. ومعنى قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل: قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القبول لما سبق في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). والوجه الثاني والثالث عامّان، ولهذا ما قيدهما بشيء، أما تقدير الوجه الثاني: فالمعنى الذين ينقضون عهد الله من بعد توثقتهم العهد مع الله بالقبول والتزموه، أو من بعد توثقة الله العهد بالشرط الذي شرط، وعلى هذا الوجه الثالث. قوله: (قطعهم الأرحام) قال القاضي: ويحتمل كل قطيعةٍ لا يرضاها الله تعالى وسائر ما فيه رفض خيرٍ وتعاطي شر، فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات. وقلت: ذهب القاضي إلى العموم، وخصه المصنف بالوجهين، ولا منافاةً؛ لأن قوله: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ) متصلٌ بقوله: (إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، وهو: إما مظهرٌ وضع موضع المضمر، وهم الطاعنون في التمثيلات الواردة في التنزيل. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا) [البقرة: 26] ردٌّ عليهم، وحينئذٍ لا يخلو: إما أن يُراد بهم المشركون، فالمراد بقطع الأرحام عداوتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يراد بهم أهل الكتاب، فالمراد قطعهم ما بين الأنبياء من الوُصلةِ والاتحاد حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعضٍ، وإما عامٌّ في جميع الفسقة، فحينئذٍ يُحمل على ما قاله القاضي، ويدخل فيه أحد الفريقين على البدل دخولاً أوليًّا بشهادة سياق الكلام، والله أعلم.

وقيل: قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق، في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. فإن قلت: ما الأمر؟ قلت: طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور؛ لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر؛ تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له شأن. والشأن: الطلب والقصد. يقال: شأنت شأنه، أي قصدت قصده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: أما ذمهم بقطع ما أمر الله به أن يوصف فذمٌ برفض الخيرات وتعاطي السيئات، وذلك أن التقاطع يحصل من رفض المحبة والعدالة، ورفضهما سبب كل فساد، فإن القوم إذا أحبوا وعدلوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمروا، وإذا عمروا أمروا. وبالعكس: إذا تباغضوا وظلموا تدابروا وتخاذلوا، وإذا تخاذلوا لم يعمل بعضهم لبعضٍ فهلكوا. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله". ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجمعات والجماعات؛ لكون ذلك سبباً إلى الألفة، بل لذلك عظَّم الله تعالى المنة على المؤمنين بقوله: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63]. قوله: (واحد الأمور) أي: القصد والشأن، لأن الأمر المصطلح عليه جمعه: الأوامر. قوله: (لأن الداعي الذي يدعو إليه) والضمير في "إليه" راجعٌ إلى الأمر بمعنى الشأن، وكذا المنصوب في "يتولاه"، لا إلى الفعل كما ظُنَّ؛ لأن التشبيه واقعٌ بين الأمر الذي هو بمعنى الشأن وبين الأمر الذي هو طلب الفعل، و"من يتولاه" مفعول يدعو، أي: شبه الداعي الذي

(هُمُ الْخاسِرُونَ)؛ لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها. [(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)]. معنى الهمزة التي في كَيْفَ مثله في قولك: أتكفرون باللَّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدعو من يقصد أمراً بآمر يأمر المتولي، أي: المأمور؛ لأن كل فعل لابد له من باعث وحامل، فشبه ذلك الباعث بالأمر، فصار ذلك الفعل كالمأمور به فسموه بالمصدر؛ كالصيد باسم المصيد. وفي كلامه إيماء إلى أنه منقول عرفي، والتشبيه بيان للعلاقة. قال صاحب "النهاية": الشأن: الخطب والأمر والحال، والجمع: شؤون. قوله: (استبدلوا النقض بالوفاء) يشير إلى أن تلك الاستعارة التي سبقت في قوله تعالى: (يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) [البقرة: 27] متضمنة للاستبدال المستعار له البيع والشراء استعارة قوله تعالى: (اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16]، ولهذا ذيل بقوله: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)، فإن الخسران لا يستعمل إلا في التجارة حقيقة، فيكون قرينة للاستعارة المقدرة، كما أن ثمة النسبة قرينة لها، و"فما ربحت" ترشيح، شبه استبدال النقض بالوفاء المستلزم للعقاب بالاشتراء المستلزم للخسران. قوله: (وعقابها) الضمير فيه راجع إلى النقض والقطع والفساد، وهي جماعة، كما أن في "بثوابها" راجع إلى نقائضها. قوله: (معنى الهمزة [التي] في (كَيْفَ) مثله في [قولك]: أتكفرون) يعني: "كيف"

ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناح، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان. فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في (كيف)؛ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سؤال عن الحال، فإذا قيل: كيف زيد؟ كأنه قيل: أصحيح أم سقيم؟ مشغول أم فارغ؟ لأنه إنما يجاب بمثل ذلك، فإذن "كيف" ها هنا متضمن للهمزة، ثم معنى الهمزة فيه الإنكار والتعجب؛ لأنه متفرع على قوله: أتكفرون كما سنبينه، والهمزة فيه للإنكار والتعجب فكذا في كيف. ونقل عن المصنف أنه قال في الفرق بين الهمزة و"كيف": إن "كيف" سؤال تفويض لإطلاقه، وكأن الله تعالى فوض الأمر إليهم في أن يجيبوا بأي شيء أجابوا، ولا كذلك الهمزة، فإنه سؤال حصر وتوقيت، فإنك تقول: أجاءك راكباً أم ماشياً؟ فتوقت وتحصر. ومعنى الإطلاق ما قاله صاحب "المفتاح": "كيف" سؤال عن الحال وهو ينتظم الأحوال كلها، والكفار حين صدور الكفر عنهم لابد من أن يكونوا على إحدى الحالتين: إما عالمين بالله وإما جاهلين به، فإذا قيل: كيف تكفرون بالله؟ أفاد: في حال العلم تكفرون بالله أم في حال الجهل؟ هذا هو معنى التفويض في الآية. قوله: (لما قوي من الصارف عن الكفر) والصارف هو العلم بكونه تعالى محييهم ثم مميتهم، ثم المرجع والمصير إليه لإيقاع قوله: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ) الآية قيداً لقوله: (تَكْفُرُونَ). قوله: (فما تقول في (كَيْفَ)) يعني: هلا أنكر عليهم ذات الكفر وذات الطيران وهما المنكران لا حالهما، و"كيف" للحال؟ وحاصل الجواب: أن إنكار الذات مستتبع لإنكار الحال،

حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني. والواو في قوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) للحال. فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالا وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، لا أن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على: (كُنْتُمْ أَمْواتاً) وحده، ولكن على جملة قوله: (كُنْتُمْ أَمْواتاً) إلى (تُرْجَعُونَ)، كأنه قيل: كيف تكفرون باللَّه وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن حال الشيء تابعة لذات الشيء، فلو أنكر الذات في هذا المقام [لم] يكن في المبالغة كما إذا أنكر الحال، فيتبعها امتناع الذات، لأن مقتضى الظاهر إنكار الذات. فإذا أنكر لم يكن من الكناية في شيء. وأما إذا أنكرت الحال لتنتفي الذات كان كناية، وكان أبلغ لما يلزم من نفيها نفيه بطريق برهاني؛ لأنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها وقد علم أن كل موجود لا ينفك عن حال، فإذا نفي اللازم ينتفي الملزوم، فكان كدعوى الشيء ببينة، وهي كناية إيمائية. قوله: (ولا يقال: جئت وقام الأمير ولكن: وقد قام) قال صاحب "المفتاح": إنما وجب ذلك ليقربه من زمانك حتى يصلح للحال. وقال السجاوندي: الفعل الماضي لا يصح أن يكون حالاً؛ لأن الحال مفعول فيها، وما مضى لا يصح أن يقع فيه شيء، فإذا صحبه "قد" وقع حالاً، وذلك أن "قد" حرف معنى، وحرف المعنى إذا دخل على الفعل غيره عما كان عليه من المعنى، فإذا قلت: جئت وقد كتب

فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم. فإن قلت: بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها. فإن قلت: فقد آل المعنى إلى قولك: على أى حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيد، لا يجوز أن يكون حالاً إن كانت الكتابة قد انقضت، ويكون إذا شرع في الكتابة، وقد مضى منها جزء لا أنه ملتبس بها، فيفيد "قد" أن زيداً قد شرع في الكتابة، وأنه قد مضى جزء منها، فلمضي ذلك الجزء جيء بالماضي، ولا يقع الماضي حالاً إلا على هذا المعنى، فلهذا لزم أن يكون معه "قد" ظاهرة أو مقدرة. وقال غيره: لابد في الماضي المثبت من "قد" ظاهرة أو مقدرة؛ لأنه إنما يصلح للحال ما يصح أن يقع فيه الآن أو الساعة، وهذا ممتنع في الماضي المثبت، فلا يكون حالاً، إلا إذا كان معه "قد"، فإنه قد يقرب الماضي من الحال، ولا يحتاج الماضي المنفي إلى ذلك لدلالة ما على نفي الحال، ولهذا يصح تقدير "الآن" أو "الساعة". قوله: (فقد آل المعنى) يعني رجع معنى قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) "على أي حال تكفرون" ومعنى قوله: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً) إلى آخره "في حال علمكم بهذه القصة" كأنه قيل: أجيبوا عن حال كفركم، والحال أنكم عالمون بهذه القصة، فما وجه استقامة هذا الكلام؟ وخلاصة الجواب وتحريره: أن كيف سؤال عن الحال، وتقرر أن حالة الكفر منحصرة في العلم بالصانع والجهل به، فإذا قيد السؤال بإحدى الحالتين فكيف يجاب عنه؟ وخلاصة الجواب: أنا قد دللنا على أن مرجع إنكار حال الكفر إلى إنكار ذاته لا حاله، وذكر الحال للمبالغة فقط، وأن الحال الثانية قيد للمنكر. المعنى: أتكفرون والحال حال العلم، فحصول

(كَيْفَ): الإنكار، وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قيل. فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جماداً، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: (بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان: 49]، (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس: 33]، (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل: 21]. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد نراخى عن الإحياء، ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكفر من العاقل العالم في هذا المقام مظنة تعجب وتعجيب، وحاصلة أن "كيف" قد انسلخ عنه معنى السؤال وتولد معنى الإنكار. قوله: (جمع قيل)، الجوهري: القيل: ملك من ملوك حمير دون الملك الأعظم، وأصله قيل بالتشديد، كأنه الذي له قول، أي: ينفذ قوله، والجمع أقوال وأقيال أيضاً، ومن جمعه على أقيال لم يجعل الواحد منه مشدداً. قوله: (لاجتماعهما) أي: اجتماع الجماد وما تصح فيه الحياة في معنى "لا روح ولا إحساس"، يعني شبه الجماد بالميت لجامع أن لا روح ولا إحساس فيهما، ثم استعير اللفظ.

والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً، وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها اللَّه، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمنه يكتسب العلم) أي: يعلم من استعمال "ثم" في هذا الموضع أن الميت يحيى في القبر للسؤال بعد زمان متراخ. وما يشعر بذلك ما روينا عن مسلم عن عبد الرحمن قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت، فبكى بكاء طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فأقبل بوجهه فقال ... وساق الحديث إلى قوله: فإذا أنا مت فلا يصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا علي القبر سناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى استأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع رسل ربي. وعن أبي داود عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدربين حين يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " الحديث. وفي "جامع الأصول": سياق الموت: وقت حضور الأجل، كأن روحه تساق لتخرج من جسده. وسننت التراب على الميت: إذا رميته فوقه برفق ولطف. قوله: (من أين أنكر اجتماع الكفر) "أين" سؤال عن تعميم الأمكنة والأحياز، فاستعير للتعليل، ولذلك فصله بقوله: "لأنها مشتملة على آيات" إلى آخره، ونحوه في التعليل "إذ"

قلت: يحتمل الأمرين جميعاً؛ لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"حيث"؛ قال المصنف: في "الأحقاف": لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته، وضربته إذ أساء، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، أجريا مجرى التعليل. وقريب منه قول الأصوليين: شرط المجاز العلاقة المعتبر نوعها، نحو السببية القابلية، نحو: سال الوادي، فإن تمكين الوادي للماء من السيلان بمنزلة سبب السيلان، وكذلك موقع صدور المعنى من الآية وتمكينه للمنكر من السؤال بمنزلة السبب فيه. ثم في الآية مقامان: مقام كونهم كافرين بالله جاحدين لآياته العظام، ومقام كونهم غير شاكرين لنعمه الجسام. وقوله: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يحتمل أن يكون موقعاً لكلا المعنيين؛ أما النعمة فلأن نعمة الحياة في الدنيا والآخرة مما يستوجب الشكر، وأما الآية فلأن تلك الأطوار آيات عظيمة، فعلى العالم بها الإقرار بعظمة منشئها وبارئها والإيمان به. فما المراد في الآية وما الذي يقتضيه المقام؟ وأجاب بقوله: "يحتمل الأمرين جميعاً" يعني لا منافاة بين المعنيين، فيجوز إرادتهما معاً لما يجمعهما معنى النعمة. وقلت: بل الواجب تنزلهما عليهما لما استؤنف بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) الآيات [البقرة: 29] على سبيل البيان، وهي متضمنة للنعمة والآيات جميعاً. وأما قول بعضهم: إن الكفر بمعنى الكفران لا يعدى بالباء، فجوابه: أن باب المجاز والتضمين غير

(لَكُمْ) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسدود، واقتضاء المقام حاكم لا يخالف، على أنهما من واد واحد، أي: كلاهما يتعديان بالباء كقوله تعالى: (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67]. قال الراغب: الكفر عبارة عن الستر، وكفر النعمة: سترها، يقال كفر كفراً وكفوراً نحو: شكر شكراً وشكوراً. وحقيقة الكفر ستر نعمة الله، لما كانت نعمة الله إجمالاً ثلاثاً: خارجية كالمال والجاه، وبدنية كالصحة والقوة، ونفسية كالعقل والفطنة، صار الشكر والكفر ثلاثة أنواع. وأعظم الكفر ما كان مقابلاً لأعظم النعم، وهو ما يتوصل به إلى الإيمان واستحقاق الثواب، ومن قابل تلك النعمة بالكفران فهو الكافر المطلق، ولذلك صار الكفر في الإطلاق جحود الوحدانية والنبوة والتشريع. قال القاضي: الإماتة من النعم العظيمة المقتضية للشكر، لكونها وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقية؛ كما قال: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت: 64] مع أن المعدود عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها وهو العلم. قوله: (فيه وما فيه) الضمير في الموضعين لـ (مَا فِي الأَرْضِ) كرر للتوطئة على موال: أعجبني زيد وكرمه، فـ "ما" فيه معطوف على الضمير المجرور ولا يحتاج إلى إعادة الجار لكونه كالبدل في مجرد التوطئة لا التنحية؛ لأن لذات زيد في المثال أيضاً مدخلاً في التعجب منه. المعنى: فالنظر في ما في الأرض وفي العجائب الكائنة فيه.

الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: (خَلَقَ لَكُمْ) على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها. ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحةٍ؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية؛ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خلقت في الأصل مباحة مطلقاً)، الانتصاف: هذا مذهب فرقة من المعتزلة بنوه على التحسين والتقبيح. الإنصاف: قال بهذا جماعة من أهل السنة من الشافعية والحنفية، واختاره الإمام فخر الدين في "محصوله" وجعله من القواعد الكلية، فليس المذهب مختصاً بهم كما زعم. وقال القاضي: الآية تقتضي إباحة الأشياء النافعة ولا يمنع اختصاص بعضها لأسباب عارضة، فإنه يدل على أن الكل للكل، لا أن كل واحد لكل واحد، والتعيين إنما يستفاد من دليل منفصل. وكذا عن الإمام.

جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. و (جَمِيعاً) نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً، من غير أن يلوى على شيء. ومنه استعير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي: قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء: جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جاز ذلك) أي: قول من زعم أن المعنى بقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) خلق الأرض وما فيها، إنما يصح إذا كنى بالأرض عن الجهات السفلية دون حقيقة الأرض التي هي الغبراء؛ لأن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية، وأما إذا أجريت على الحقيقة فلا، فإن الشيء لا يحصل في نفسه ولا يكون طرفاً لها. وينصر الأول إفراد السماء والمراد جهات العلو في الوجه المختار. قوله: (ثم قيل: استوى إليه)، الأساس: ومن المجاز: استويت إليك: قصدتك قصداً لا ألوي على شيء. ولما لم يكن في الاعتدال والاستقامة التواء سمي به القصد المستوي مجازاً، بقرينة التعدية "بإلى". الأساس: قصدته وقصدت إليه. ثم شبه بهذا القصد الذي يختص بالأجسام إرادته الخاصة تعالى عن صفات المخلوقين، ثم استعير لها ما كان مستعملاً في المشبه به استعارة مصرحة تبعية. قوله: (المراد بالسماء جهات العلو) إنما عدل إلى هذا التأويل لفقدان المطابقة بين ذكر السماء والضمير في "فسواهن" إفراداً وجمعاً، فأصل الكلام حينئذ: ثم استوى إلى فوق فسوى سبع سموات، ألا ترى حين جعل "السماء في معنى الجنس" أو قال: السماء "جمع سماوة" كيف جعل الضمير للسماء لحصول المطابقة، فإذن المعنى على التقديرين الأخيرين: ثم أراد

والضمير في (فَسَوَّاهُنَّ) ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تفسيره، كقولهم: ربه رجلاً. وقيل الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فمن ثم خلقهنّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسوية السماوات، فسواهن سبعاً، كقوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] أي: فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، لكن الأول أقضى لحق البلاغة ومقام إرادة تفضيل خلق السماوات على الأرض، بدليل إيثار "ثم" الدالة على التراخي في الرتبة وأدعى له، فإفراد السماء لإرادة جهة فوق مؤذن بالتفضيل، إذ التعبير عنها بها تعظيم لها، مع أن في تصوير الفوقية في هذا الجانب تصوير ضدها فيما يقابلها، ولرتبة هذه الفائدة أبهم ضمير السماوات ليشوق إلى ما يبينه، ثم جيء بها تفسيراً له، فحصل من ذلك مزيد التفخيم لشأنها، وإن شئت فجرب ذوقك في قولك: ربه رجلاً، وقولك: رب رجل، لتعرف الفرق. وليس في إرادة الجنسية تلك الفوائد، ولا في الجمعية مع أن تلك لغة غير فصيحة، وإليه الإشارة بقوله: "والوجه العربي الأول". وأما الفرق بين النصين فإن الضمير في (فَسَوَّاهُنَّ) إذا رجع إلى السماء على المعنى كان (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) حالاً، أي: فسواهن كائنة سبع سماوات، أو سبع سماوات متعددة على أنها حال موطئة نحو: (أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2] وإذا كان الضمير مبهماً كان (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) نصباً على التمييز، والتفسير نحو: ربه رجلاً. نص على هذين النصبين في سورة "حم السجدة". قوله: (وقيل: جمع سماءة) قال الزجاج: والسماء لفظها واحد ومعناها الجمع، ويجوز أن تكون السماء جمعاً كأن واحدها سماءة.

خلقاً مستوياً محكما من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم. فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه (ثم) لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: (ثم) هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السماوات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك - أى في تضاعيف القصد إليها - خلقاً آخر. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)؟ قلت: لا لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأمّا دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق اللَّه الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله: (كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء: 30]؛ وهو الالتزاق. [(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يناقضه) يعني فسرت الاستواء بأنه تعالى قصد إلى السماء بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، هذا يقتضي أن لا يتخلل بينهما زمان، ومعنى "ثم" التراخي في الزمان. وأجاب عنه من وجهين، أحدهما: أن "ثم" ها هنا مستعارة للتراخي

(وَإِذْ) نصب بإضمار "اذكر"، ويجوز أن ينتصب بـ (قالوا). والملائكة: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الرتبة كما في قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: 17]، فإن اسم "كان" ضمير يرجع إلى فاعل: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد: 11] وهو الإنسان الكافر، وقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 13 - 16] تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليهما، لكن "ثم" ها هنا للتراخي في الرتبة. وثانيهما: أن قولنا: إنه تعالى لم يحدث فيما بين ذلك شيئاً، لا يقتضي التعاقب. قال الإمام: "ثم" ها هنا من جهة تعديد النعم كما تقول لصاحبك: أليس قد منحتك هذا، ثم رفعت منزلتك، ثم دفعت الخصوم عنك! ولعل بعض ما أخره قد تقدم. فـ "ثم" على هذا مجاز لمجرد التعاقب. قوله: ((وَإِذْ) نصب بإضمار "اذكر") قال القاضي: "إذ" ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع "إذا" لزمان نسبة مستقبلة وقع فيه أخرى، واستعملتا للتعليل والمجازاة، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان، ومحلهما النصب على الظرفية أبداً. وفيه نظر؛ لأن "إذا" قد تقع اسماً كما تقول: إذا يقوم زيد، إذا يقعد عمرو. قوله: (ويجوز أن ينتصب بـ (قَالُوا)) والأول أوجه؛ لأن تقدير "اذكر" يقتضي تذكيراً متجدداً فيكون كقصة مستقلة، ولا كذلك العطف فيكون قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) [البقرة: 29] تذكيراً لدلائل الآفاق، وهذه لدلائل الأنفس؛ إما على سبيل كونها نعمة من الله تعالى، أو هي بنفسها آيات. وقد سبق أن هذه الآية كالبيان لقوله: (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ) من جهة النعمة والآية. ويحصل بالتفرقة الترقي من الأدنى إلى الأعلى، أما كونها

جمع (ملأك) على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. وجاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آيات فلأن الترقي من دلائل الآفاق إلى الأنفس باب عظيم في الاستدلال؛ ألا ترى إلى قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت: 53] قال حجة الإسلام: الطبيعيون رأوا في تشريح الأعضاء من عجائب صنع الله وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمور. وأما كونها نعمة فلا شك أن نعمة خلق الأنفس وتشريفها بالخلافة وتكريمها بسجود الملائكة أعظم من خلق ما في الأرض لهم جميعاً. قوله: (جمع "ملأك" على الأصل) أي: أصله: ملأك، بالهمز ثم ترك الهمز لكثرة الاستعمال، فملا جمعوه ردوه إلى الأصل، وقد استعمل المفرد أيضاً مع الهمزة كما أنشده الزجاج لبعضهم: فلست لإنسي، ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب وقال القاضي: ذهب أكثر المسلمين إلى أن الملائكة أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك.

(فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فكانا مفعوليه، ومعناه مُصير في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذرّيته. فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟ قلت: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كا استغنى بذكر أبى القبيلة في قولك: مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ: خليقة بالقاف ويجوز أن يريد: خليفة مني، لأنّ آدم كان خليفة اللَّه في أرضه وكذلك كل نبىّ (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص: 26]. فإن قلت: لأى غرض أخبرهم بذلك؟ ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد خليفة مني) عطف على قوله: "المعنى خليفة منكم" يعني لفظة "من" مقدرة في التنزيل، وهي صفة للخليفة، أي: كائنة منكم أو مني، وعلى الأول الخليفة بمعنى الخلف، الجوهري: الخلف: القرن بعد القرن. قال الله تعالى: (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف: 69]. وعلى الثاني: بمعنى السلطان فكان يرد على الوجه الأول أن يقال: كان المناسب أن يجاء بالخليفة جمعاً فلم جيء مفرداً؟ فأجاب بما ذكر، ثم أكد الجواب بالقراءة الشاذة لأنها مناسبة لأن يكون "خليفة" بمعنى الجمع. الجوهري: الخليقة: الخلائق، ويقال: هم خليقة الله، وهم خلق الله، وهو في الأصل مصدر، فعلل ذلك الوجه، ثم شرع في الوجه الثاني، فالخليفة على هذا غير محتاجة أن تفسر بالجمع. قوله: ((إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) [ص: 26]) استشهاد لكون آدم خليفة من الله تعالى في أرضه؛ لأن المراد بالخليفة حينئذ من يجري في الأرض أحكام الله على سنن العدل ونهج الصواب، يدل عليه ترتب قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) على الوصف بجعله خليفة في الأرض، ولهذا لما فقد هذا المعنى بعد الخلفاء الراشدين، قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون

قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة. (أَتَجْعَلُ فِيها): تعجب من أن يستخلف مكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سنة، ثم ملك بعد ذلك" رواه الترمذي عن سفينة، وروى أبو داود عنه: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء". الراغب: إنما استخلف الله تعالى آدم لقصور المستخلف عليه أن يقبل التأثير من المستخلف وذلك ظاهر، فإن السلطان جعل الوزير بينه وبين رعيته إذ هم أقرب إلى قبولهم منه، وكذا الواعظ جعل بين العامة والعلماء الراسخين، فإن العامة أقبل منهم من العالم الراسخ، وليس ذلك لعجزه بل لعجز العامة عن القبول منه. قوله: (صيانة لهم عن اعتراض الشبهة) الضمير للملائكة، و"صيانة" مفعول له لقوله: "أخبرهم" المقدر بعد قوله: "قلت" الدال عليه أخبرهم في السؤال، ولا يجوز أن يكون الضمير لبني آدم لأن الصيانة غير مقارنة عند الإخبار. قوله: (وقيل ليعلم عباده) عطف على قوله: "قلت: ليسألوا". قوله: (تعجب من أن يستخلف) أي: ولدت الهمزة معنى التعجب، لأنه لا يجوز أن يحمل على الإنكار لئلا يلزم منه اعتراضهم على حكم الله تعالى، وهذا لا يليق بمرتبة الملائكة، قال الله تعالى: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء: 27].

أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير. فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من اللَّه، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أنّ الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم؛ أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عرفوه بإخبار من الله تعالى) قال السدي: لما قال الله لهم ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: يكون ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضاً. قوله: (أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون) فيه مبالغات شتى: إحداها: إقامة المظهر موضع المضمر ليؤذن بالعلية، يعني: حقيقة الملائكة خليقة بأن توصف بالعصمة؛ لأن خليقتهم تقتضي ذلك، وثانيتها: تأكيدها، وثالثتها: نفي هذا الحكم عن الغير بالتصريح بقوله: "وحدهم" بعد أن نفاه بتعريف الخبر وبتوسيط ضمير الفصل، وأكد ذلك بقوله: "وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم"، وفيه تعصب لمذهبه. قوله: (أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر) قال المفسرون: خلق الله السماوات والأرض والملائكة والجن، وأسكن الملائكة السماء، والجن الأرض، فعبدوه، ثم ظهر فيهم الحسد

حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة. وقرئ: (ويسفُك) بضم الفاء، و (يُسْفِك)، و (يُسَفَّك) من أسفك. وسفَّكَ. والواو في (وَنَحْنُ) للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة، فطردوهم عنها، وألحقوهم بشعوب الجبال والجزائر. وقال القاضي: كأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماءن وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة، ونظروا إليها مفردة، وقالوا: ما الحكمة في استخلافه وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلاً عن استخلافه، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليماً عن معارضة تلك المفاسد، وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف، ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات، واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف، وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ). قوله: (أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه) قال القاضي: هي حال مقررة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج، والمقصود: الاستفسار عما رجحهم- مع ما هو متوقع منهم- على الملائكة المعصومين في الاستخلاف، لا العجب والتفاخر.

والتسبيح: تبعيد اللَّه عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء. وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد. و (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال، أى نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتسبيح: تبعيد الله من السوء)، الراغب: التسبيح: أصله من السبح وهو سرعة الذهاب في الماء، واستعير لجري النجوم في الفلك، ولجري الفرس. وتسبيح الله تعالى: تنزيهه بالقول والحكم، وسبحان: مصدر ككفران، ومعنى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي: نسبحك والحمد لك أو نسبحك بأن نحمدك. وقال السيد ابن الشجري: إن شئت علقت الباء بالتسبيح، أي: نسبح بالثناء عليك، وإن شئت قدرت: نسبح متلبسين بحمدك. قوله: (لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق [واللطف] لم نتمكن من عبادتك) تعليل لتقييد التسبيح بالحمد، أي: تسبيحنا مقيد بشكرك وملتبس به، يعني لولا الحمد لم يصدر الفعل، إذ كل حمد من المكلف يستجلب نعمة متجددة، ويستصحب توفيقاً إلهياً، ومنه قول داود عليه السلام: يا رب، كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك. وأنشد:

(أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم. فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال اللَّه كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) واشتقاقهم «آدم» من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم «يعقوب» من العقب، «إدريس» من الدرس، و «إبليس» من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمى: وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر وشالخ. وفالغ، وأشباه ذلك (الْأَسْماءَ كُلَّها) أي أسماء المسميات فحذف المضاف اليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لا بدله من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ) [مريم: 4]. فإن قلت: هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه، وأن الأصل: وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت: لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات كقوله: ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتسع العمر؟ ! وإن مس بالنعماء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر قوله: (على أنه قد بين لهم بعض ذلك) يعني أن "ما" في (مَا لا تَعْلَمُونَ) إن كان عاماً يشمل من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، لكن خص منها البعض بما أتبعه من قوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ) فإن اتصافه بعلم لا تعلمه الملائكة دليل على أنه جامع للكمالات التي بعضها هذا المذكور، فمن هذا الطريق يكون مبيناً مكشوفاً. قوله: (لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات) إلى آخره "الانتصاف": هو يفر

(أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [البقرة: 31]، (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة: 33]، فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل: أنبؤنى بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها. فان قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من أن الاسم هو المسمى. وقوله (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) دليل عليه، فإن المعروض المسميات بالاتفاق، وأيضاً فإن معرفة الذوات وما أودع فيها من الخواص والأسرار أهم من معرفة أسمائها، وغاية ما في قوله: (بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء) الإضافة المقتضية للمغايرة، وهو عندنا مثل قولك: نفس زيد، وحقيقته، والمراد: أنبئوني بحقائق هؤلاء، فإن الحقائق والذوات أعم من أسماء هؤلاء المشار إليهم، وهذا هو المصحح للإضافة. وعلى الجملة، الخلاف في هذه المسالة لفظي. وقال القاضي: الاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلاً يرفعه إلى الذهن من الأسماء والصفات والأفعال. واستعماله عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركباً أو مفرداً مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما. واصطلاحاً: في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة. والمراد في الآية إما الأول، أو الثاني وهو يستلزم الأول؛ لأن العلم بالألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني. المعنى: أنه تعالى خلق آدم، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقلت: هذا المعنى مفهوم من كلام المصنف من قوله: "أراه الأجناس التي خلقها وعلمه" إلى آخره. وقال القاضي: الاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى؛ لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى، والمسمى لا يكون

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي: عرض المسميات. وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني: في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كذلك. وإن أريد به ذات الشيء، فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى، وقوله تعالى: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى: 1] المراد به اللفظ؛ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب. وإن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره. وقلت: إن أريد به التحدي فبمجرد تعليم الأسماء يحصل المقصود، وإن أريد به إظهار الشرف والمزية كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11] فلابد من تعليم الحقائق، وهو الظاهر. وفي "إيجاز البيان": "وقع التعليم بالوحي في أصول الأسماء والمصادر ومبادئ الأفعال والحروف عند حصول أول اللغة في الاصطلاح، ثم بزيادة الهداية في التصريف والاشتقاق، فأفادت هذه الآية أن علم اللغة فوق التحلي بالعبادة، فكيف علم الشريعة التي هي الحكمة! ". قوله: (على سبيل التبكيت)، الأساس: بكته بالحجة، وبكته: غلبه بالحجة وألزمه ما عي بالجواب عنه؛ لأن الملائكة إذا سئلوا بقوله: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء) لا محيد لهم إلا أن يقولوا: لا علم لنا. قوله: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [يعني]: في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين). فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: هذا يخالف قول الواحدي: إن تقديره: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم وأفضل منه. وأيضاً، إن الكلام في العلم والسؤال فيه، فلا يناسبه قول المصنف، وهو كما تقول: إن كنت نجاراً فخط قميصي. قلت: ما ذهب إليه المصنف أولى وأحرى بأن يتلقى بالقبول، لأنه كالقول بالموجب، وبيانه: أن الملائكة لما بنوا دعواهم على المبالغة في طرفي الإفراط والتفريط في نسبة الفساد على بني آدم، والصلاح إلى أنفسهم، حيث صدروا قولهم: "أتجعل فيها" بهمزة الاستبعاد، وكرروا الظرف، وعطفوا سفك الدماء على الفساد، وبنوا الخبر وهو "نسبح" على "نحن"، ليتقوى به الحكم، وقيدوا التسبيح بالتحميد، وعطفوا عليه التقديس؛ أي: نحن أولى بالاستخلاف منهم لما لا يصدر منا إلا محض الصلاح وهم بخلافه دونهم، قيل لهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) أي: إنكم نظرتم إلى ظاهر ما يقتضي القوة الشهوانية والغضبية من الفساد وسفك الدماء، وغفلتم عما أودعت فيهما من الصلاح، وفي هذا الوجود أسرار عجيبة لا يحصى عددها، ولا يكتنه كنه عظم نفعها، وبعض ذلك هذا المتحدى به وهو العلم بأسماء المسميات، فأنبئوني بها إن كنتم صادقين في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين، وأنتم أحقاء بالخلافة دونهم. أي: ليس المانع ما نفيتموه، ولا السبب ما أثبتموه، وإنما قلنا: بعض ذلك هذا المتحدى به؛ لأن الواو العاطفة التي تستوجب معطوفاً عليه، هو مع المعطوف بيان لقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، كالواو في قوله تعالى حكاية عن داود وسليمان: (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15]، وإنما لم يذكر لئلا ينحصر عليه، ويفيد أكثر من ذلك، فوجب أن تقدر فوائد لا عدد لها بالنسبة إلى معلوم الله، وإليه الإشارة بقوله: "وبين لهم بعض ما أجمل من المصالح في قوله: (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) " وهذا الأسلوب من الجواب نحو قوله تعالى: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 23]. قال المصنف: إن رتبتم أن القرآن منزل

سفاكين للدماء؛ إرادة للرد عليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهاتوا أنتم طائفة يسيرة من جنس ما أتى به. لكن أصحابه لا يرضون منه هذا التقدير، لما يلزم من فضل البشر على الملائكة. تنبيه: واعلم أن قوله: (وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة: 30] ينتظم في سلك جوامع الكلم التي هي من حلية التنزيل، فأتى بلفظ السفك الدال على الإراقة والإجراء كالمائع، وخص بالمضارع المنبئ في مثل هذا المقام عن الاستمرار، نحو: فلان يقري الضيف، ويحمي الحريم. وجمع الدماء وحلى بلام الاستغراق ليصور شناعة ذلك الفعل ويستوعب الأزمنة، ويتضمن جميع أنواع الدماء: المحظور كحروب الفساد والفتن والفتك وقتل النفس المحرمة، والواجب كالمجاهدة مع أعداء الدين، قال تعالى: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة: 111]، والمباح كسفح دماء الحيوان المأكول، والمصلحي الديني كأنواع القصاص، والسياسي كحفظ نظام المملكة. قال: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم فإذاً من لوازم هذا الخليفة وخواصه أن يكون سفاكاً للدماء، لينتظم أمر معاشه ومعاده، ونحن معاشر الملائكة أبرياء من جميع كل ذلك؛ لأن دأبنا التسبيح والتحميد، وعادتنا التقديس والتهليل، فنودوا من سرادقات الجلال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ). والله أعلم. قوله: (إرادة للرد عليهم) قيل: هو مفعول له، لقوله: "استنبأهم" واعترض قوله: (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) في لفظ "الكشاف" تقريراً لكون الاستنباء على سبيل التبكيت. والوجه أن يكون مفعولاً له للقول المقدر عند قوله: (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي: قال ذلك إرادة للرد عليهم. وقوله: "على سبيل التبكيت" متعلق باستنبأهم، ويتم به الكلام، وقوله: "وقد علم عجزهم عن الإنباء" اعتراض أو حال، وقوله: (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) شروع في التفسير.

وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). وقوله: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استحضار لقوله لهم: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن فيمن يستخلفه) قيل: هو عطف على "الرد"، وقوله: "ما يستأهلون" اسم "أن" وفيمن يستخلفه خبره. قال الحريري في "درة الغواص في أوهام الخواص": يقولون: فلان يستأهل الإكرام وهو مستأهل للإنعام، ولم تسمع هاتان اللفظتان في كلام العرب، ولا صوب اللفظ بهما أحد من أعلام الأدب. ووجه الكلام أن يقال: فلان يستحق التكرمة، وهو أهل لإسداء المكرمة، فأما قول الشاعر: لا بل كلي يا مي واستأهلي ... إن الذي أنفقت من ماليه فإنه عنى بلفظ "استأهلي": اتخذي الإهالة، وهي ما يؤتدم به من السمن والودك. وفي أمثال العرب: استأهلي إهالتي وأحسني إيالتي، أي: خذي صفو طعمتي وأحسني القيام بخدمتي. قوله: (من الفوائد) بيان "ما" و"فأراهم" عطف على جملة: إرادة إلى آخره، وذلك إشارة إلى المذكور كله، وفي قوله: "إني أعلم" ظرف لقوله: "أجمل" وقيل: قوله "فأراهم، وبين" متوجهان إلى "بعض ما أجمل"، ويجوز أن يكون "بين" عطفاً على "أراهم" على سبيل البيان.

إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح. وقرئ: (وعُلّم آدمُ)، على البناء للمفعول. وقرأ عبد اللَّه: (عَرَضَهُن). وقرأ أُبىّ: (عَرَضَهَا). والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها: لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ: (أنبيِهِم)، بقلب الهمزة ياء (وأنبِهم)، بحذفها والهاء مكسورة فيهما. [(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ* وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ*)]. السجود للَّه تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على وجه أبسط) لأنه قال أولاً: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ثم قال: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية [البقرة: 33] وإنما قال: "أبسط من ذلك" ولم يقل: بيان له، لأن معلومات الله سبحانه وتعالى لا نهاية لها، وغيب السماوات والأرض وما يبدونه وما يكتمونه لم يكن قطرة من تلك الأبحر، لكنه نوع بسط لذلك المجمل. قال القاضي: إنما أجري على وجه أبسط ليكون كالحجة عليهم، فإنه تعالى لما علم ما خفي عليهم من أمور السماوات والأرض وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة، علم ما لا يعلمون، وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو أن يتوقفوا مترصدين أن يبين لهم. قوله: (على وجه التكرمة). قال القاضي: هذا المسجود له بالحقيقة الله تعالى، وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه، أو سبباً لوجوبه، وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون المسجود

كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له، ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. وقرأ أبو جعفر (للملائكةُ اسجدوا) بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: (الْحَمْدِ لِلَّهِ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [له] أنموذجاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها، ونسخة لما في العالم، وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمال، أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته، وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته. واللام فيه كاللام في قول حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن أو في قوله: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78]. قوله: (أن تختلف الأحوال والأوقات) يعني: أحوال الأمم السالفة وأوقاتهم مخالفة لأحوال هذه الأمة وأوقاتها، أي: يجوز أن يقتضي التعظيم في وقت وحالة السجود دون وقت وحالة أخرى. قوله: (ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع) قال السجاوندي: "للملائكة

(إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل، لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم، فغلبوا عليه في قوله: (فَسَجَدُوا)، ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اسجدوا" بالضم في غاية الضعف؛ لأن حركة ألف الوصل غير لازمة فكيف تحذف لها حركة إعراب مستحقة لإعراب! وإتباع ضم الجيم إنما يجوز في الساكن نحو "قالت اخرج" [يوسف: 31] ولا تقول: للرجل اخرج فإنه لا يجوزه أحد، لكن لعل عجوزاً رأت بناتها مع رجل فقالت: أفي السوتنتنه؟ تريد: أفي السوءة أنتنه. ولا يحسن حمل القرآن على مثل هذا التعسف. وروى أبو الحسن الفارسي عن أبي بكر بن مهران: أن التاء عند أبي جعفر بين الضم والكسر، استثقل الخروج من الكسر إلى ضمات "اسجدوا" أي: الجيم والدال والهمزة في التقدير، بخلاف نون "للإنسان اكفر" فإنه قد تسكن هاء التأنيث على كل حال كقولهم:

(أَبى): امتنع مما أمر به (وَاسْتَكْبَرَ) عنه، (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ): من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فكذلك أبى واستكبر كقوله: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50]. السكنى: من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. و (أَنْتَ): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لما رأى أن لادعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع فكان مثل (وَقَالَتْ اخْرُجْ) ولا تسكن نون "الإنسان" في الأصل. قوله: (فلذلك أبى واستكبر) يشير إلى قوله: (وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34]، جملة مذيلة أو معترضة واردة على سبيل التعليل نحو قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92] أي: أنتم قوم عادتكم الظلم، فلذلك اتخذتم العجل إلهاً. وقال القاضي: (وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) أي: في علم الله، أو صار من الكافرين باستقباحه أمر الله إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول. قوله: (كقوله تعالى: (كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50]) يعني: هذا الترتيب من حيث المعنى كالترتيب من حيث اللفظ في قوله تعالى: (مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) بشهادة الفاء، يعني: إنما صدر منه الفسق؛ لأنه كان من الجن، فكونه من الجن ككونه من الكافرين في صدور الفسق والتكبر عنه، وفيها معنى قولهم: الغايات سابقة في التقدم، لاحقة في الوجود.

تأكيد للمستكن في: (اسْكُنْ) ليصح العطف عليه. و (رَغَداً) وصف للمصدر، أي أكلاً رغداً واسعا رافها. و (حَيْثُ) للمكان المبهم، أي: أيّ مكان من الجنة (شِئْتُما) أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليصح العطف عليه) فإن قيل: كيف يصح العطف "وزوجك" لا يرتفع باسكن، فإنك لا تقول: اسكن غلامك؛ لأن الغائب لا يؤمر بلفظ الحاضر فيقال: قد اندرج الغائب في حكم الحاضر لقضية العطف على سبيل التغليب فينسحب عليه حكمه. قال القاضي: إنما لم يخاطبها أولاً تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف تبع له. الراغب: إن قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا، وبين أن يقال: افعلوا كذا؟ قيل: الأول تنبيه على أن المقصود بالحكم هو المخاطب والباقون تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى) [طه: 49] وليس كذا إذا قال: افعلوا. قوله: (على وجه التوسعة) أي: بالغ في جانب الأمر ليكون مزيلاً للعذر في التناول، وبالغ أيضاً في النهي حيث قال: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 35] يعني لا تحوما حولها فضلاً عن أن تتناولا بالأكل، وميزها أكمل تمييز بقوله: "هذه"، وجعل القربان منها سبباً لأن يكونا من زمرة الظالمين، ومنخرطين في سلكهم. الراغب: القصد بالنهي عن قرب الشيء تأكيد للحظر ومبالغة في النهي، وذلك أن القرب من الشيء مقتض للألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء كما قيل: حبك الشيء

المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر، وكانت الشجرة فيما قيل «الحنطة» أو «الكرمة» أو «التينة» وقرئ (ولا تِقربا) بكسر التاء. وهذى، والشجرة، بكسر الشين. والشيرة بكسر الشين والياء. وعن أبى عمرو أنه كرهها، وقال: يقرأ بها برابرة مكة وسودانها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعمي ويصم والعمى عن القبيح، والصمم عن المنهي عنه هما الموقعان فيه. والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الداعي إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك ورد "ومن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه". قوله: (المزيحة للعلة)، النهاية: زاح عن الأمر يزيح: زال وذهب. أي: لا يتسببان في تناولهما بعلة من العلل. قوله: (من شجرة واحدة) متعلق بالتناول، تحتمل هذه الوحدة أن تكون شخصية، فاللام في "الشجرة" للعهد، وأن تكون نوعية، واللام للجنس، والأول أظهر لإزاحة العذر والمبالغة في التوسعة. قوله: (برابرة مكة) قوم بالمغرب جفاة كالأعراب في رقة الدين وقلة العلم. قال في

(مِنَ الظَّالِمِينَ) من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية اللَّه (فَتَكُونا) جزم عطف على: (تَقْرَبا) أو نصب جواب للنهى. الضمير في: (عَنْها) للشجرة. أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها. و «عن» هذه مثلها في قوله تعالى: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]. وقوله: يَنهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وعَنْ شُرْبِ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الفائق": البربرة: كثرة الكلام ويحكى أن إفريقيس أبا بلقيس غزا البربر فقال: ما أكثر بربرتهم، فسموا بذلك. قوله: (فحملهما الشيطان على الزلة بسببها) يشير أن "أزلهما"- على أن يكون الضمير في "عنها" للشجرة- متضمن لمعنى "أصدر"، و"عن" حينئذ للسببية، كما في قوله: "ينهون عن أكل وعن شرب" أي: إن الشيطان إنما قدر على إصدار الزلة عن الشجرة بسبب الوسوسة بأن يقول: هذه شجرة الخلد، فكلا لتخلدا، أو لأن أكلها سبب لصيرورتكما ملكين، هذا هو المراد بقوله: "فحملهما الشيطان على الزلة بسببها" أي: بسبب الشجرة. قوله: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) أي: ما أصدرت ما فعلته عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله. قوله: (ينهون عن أكل وعن شرب) قبله: يمشون دسماً حول قبته ينهون، أي: يتناهون في السمن. الأساس: انتهى الشيء: بلغ النهاية وتناهى البعير سمناً، وجمل نهي، وناقة نهية. يقول: إن كون الأضياف متناهين صدر بسبب الأكل والشرب. يصف مضيافاً صدر عنه الأضياف شباعاً.

وقيل: فأزلهما عن الجنة: بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عني ذاك: إذا ذهب عنك وزل من الشهر كذا. وقرئ: (فأزالهما). (مِمَّا كانا فِيه) من النعيم والكرامة، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عَنها). وقرأ عبد اللَّه: (فوسوس لهما الشيطان عنها). وهذا دليل على أن الضمير للشجرة، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها. فان قلت: كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعد ما قيل له: اخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ؟ . قلت: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: فأزالهما) قرأها حمزة. قال الزجاج: هو من: زلت وأزالني غيري، وأزلهما، من: زللت وأزلني غيري. وهذه القراءة تشد من عضد التفسير الأخير ولذلك عقبه بها. قوله: (أو من الجنة) معطوف على قوله: "من النعيم والكرامة" أي: "ما" في (مِمَّا كَانَا فِيهِ) إما عبارة عن النعيم والكرامة إن كان الضمير في "عنها" للجنة. أي: أذهبهما عن الجنة، فأخرجهما من نعيمها والكرامة فيها، أو عن الجنة إن كان الضمير في "عنها" للشجرة. أي: أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة فأخرجهما من الجنة. الانتصاف: يشهد للضمير أن يعود على الجنة قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]. الإنصاف: وهو سهو؛ لأن الذي أعاد الضمير إلى الشجرة قال: فأصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة، وذلك لا ينافي إخراج الشيطان إياهما عن الجنة، ولا يمكن نسبة الإخراج إلى الشجرة. ولقد كان هذا الوجه قوياً وعن تأييده غنياً.

يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء. وقيل: كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون. قيل: (اهْبِطُوا): خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [طه: 123]، ويدل على ذلك قوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة: 38 - 39]. وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى (بعضكم لبعض عَدُوٌّ) ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة) يريد أن الأمر بالخروج معلل بقوله: (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر: 34] فدل على أن الجنة دار المقربين فلا يسكنها اللعين، فإذا دخل لغير التكرمة لا تمنع منه. ويمكن أن يعبر بالأمر عن مطلق الطرد والإهانة، فلا يلزم على هذا وجوب الخروج. قوله: (ومعنى (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة: 36] ما عليه الناس من التعادي والتباغي). وقال القاضي: "بعضكم لبعض" حال استغني فيها عن الواو بالضمير. أي: متعادين.

(مُسْتَقَرٌّ): موضع استقرار، أو استقرار ومَتاعٌ وتمتع بالعيش إِلى حِينٍ يريد إلى يوم القيامة. وقيل إلى الموت. [(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. [37 - 39] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وقوله: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (حال مقدرة أيضاً، ويجوز أن يكون قوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جملة مستأنفة على تقدير السؤال. قوله: (يريد إلى يوم القيامة. وقيل: إلى الموت) والوجه الأول يشكل بمعنى قوله: "متاع" بمعنى "تمتع بالعيش" قال صاحب الكواشي: لكل إنسان مكان في الأرض يستقر فيه، ويتمتع بما قسم له فيه مدة حياته وبعد مماته. قلت: هذا معنى قوله تعالى في "الأعراف": (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 24 - 25] فالمتاع بمعنى التحقير في الاستمتاع والتقليل في المكث على نحو قوله تعالى: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39]. ويمكن أن يجعل المتاع بمعنى التمتع في العيش على تقدير حصول الثواب والعقاب للمؤمن والكافر في القبر. وأما تمتع الكافر فعلى التهكم والتغليب. والوجه الأول أظهر. وقوله: (إِلَى حِينٍ) متعلق بخبر المبتدأ وهو قوله: "لكم"، أي: مستقر ثبت لكم إلى حين، فإذا جعل (مُسْتَقَرٌّ) بمعنى المصدر، وكذا "متاع" يجوز تعلقه بهما، ولا يجوز إذا أريد موضع

معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات: على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. فإن قلت: ما هنّ؟ قلت: قوله تعالى: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية [الأعراف: 23]. وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه: «إن أحب الكلام إلى اللَّه ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فىّ الروح من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستقرار؛ لأن اسم المكان لا يعمل. قال أبو البقاء: يجوز (إِلَى حِينٍ) أن يكون صفة لمتاع، أي: متاع كائن إلى حين. قوله: (استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها) فعلى هذا هو مستعار من استقبال الناس بعض الأعزة إذا قدم بعد طول الغيبة؛ لأنهم حينئذ لا يدعون شيئاً من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الإلهية العمل بها. قوله: (وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات) قراءة ابن كثير وعلى هذه القراءة أيضاً استعارة.

يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم واكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. وقد ذكرها في قوله: (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا). فَتابَ عَلَيْهِ فرجع عليه بالرحمة والقبول. فإن قلت: لم كرر: (قُلْنَا اهْبِطُوا)؟ قلت: للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراجعي) صح من نسخة المصنف بالتخفيف، ومن نسخة زين المشايخ بالتشديد، وهو السماع، وتوجيهه مشكل إلا أن يجعل جمعاً، وهو مستبعد أيضاً. قوله: ((فَتَابَ عَلَيْهِ) فرجع عليه بالرحمة والقبول) الراغب: التوب ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ ضروب الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمع هذه الأربعة فقد كملت شرائط التوبة، وتاب إلى الله، فذكر "إلى الله" يقتضي الإنابة، وتاب الله عليه، أي: قبل توبته، والتائب يقال لباذل التوبة. ولقابل التوبة التواب، ويقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله التوبة من العباد. قوله: (ولما نيط به من زيادة قوله: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) [البقرة: 38] يعني كرر "اهبطوا" ليعلق عليه معنى آخر غير الأول، اهتماماً به، ويسمى هذا الأسلوب في البديع بالترديد، قال ابن هانئ:

فإن قلت: ما جواب الشرط الأول؟ قلت: الشرط الثاني مع جوابه كقولك: إن جئتني فان قدرت أحسنت إليك. والمعنى: فإما يأتينكم منى هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم بدليل قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في مقابلة قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء اعلم أن قوله: "اهبطوا" في هذا المقام، يجوز أن يحمل على موضوعه الحقيقي وعلى غير موضوعه على سبيل الكناية؛ لأن الكناية لا تنافي إرادة معنى الحقيقة أيضاً، فينزل على انحطاط بعد الرفعة مكاناً ومرتبة، أما المكان فمن الجنة إلى الأرض، وأما المرتبة فمما كانا فيه من النعيم والكرامة، فعلق على "اهبطوا" أولاً النزول مما كانوا عليه من التحاب والتواد والتوافق التي هي من خواص أهل الجنة، قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47] إلى التباغض والتعادي وما عليه الناس من الشر، وإليه الإشارة بقوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ومن الخلود والدوام إلى الفناء والزوال، وإليه الإشارة بقوله: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ). ولما أراد أن ينتقل من هذا النوع من الانحطاط إلى نوع آخر من البلاء والمشقة وهو الابتلاء بالتكليف، أعاد اللفظ وهو قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا) وعلق عليه قوله: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) الآيات. وأما قوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) فحقه من حيث الوقوع أن يذكر بعد ذكر الهبوطين؛ لأن التوبة إنما صدرت وهو على الأرض، لكن قدم وعقب بالفاء الفصيحة؛ ليدل على مزيد الاهتمام بشأن التوبة، وليؤذن به على أن الذنب مما يجب أن يحترز منه، وعلى تقدير صدوره يجب أن يعقب بالتوبة ولا يمهل، فالمعنى: قلنا ذلك، فهبط آدم، فتلقته الكلمات أو تلقاها آدم، ولهذا صرح باسمه، ولكرامته خصه دون غيره. قوله: (بدليل قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: يدل على تقييد "هدى" برسول أبعثه وكتاب

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) فإن قلت: فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت: للإيذان بأنّ الإيمان باللَّه والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنزله، وقوع (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) في مقابلة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)، فلما كان الجزاء الذي هو الجملة الشرطية مع ما عطف عليه، مقيداً بالآيات والتكذيب، يقدر الشرط الأول كذلك؛ لأن متابعة الهدى وتكذيبه مسببان عن بعثة الرسل، وإنزال الكتب، فالتقدير: فإما يأتينكم مني الرسل والكتب، فمن صدقهما فلا خوف عليه، ومن كذبهما فهو من أصحاب النار. قوله: (لوجوبه) أي: رعاية الأصلح واجبة على الله تعالى بناءً على مذهبه، وتلخيص جوابه: أنها واجبة لكن هي عبارة عن منح العقل ونصب الأدلة. والهدى في الآية عبارة عن بعثة الرسل وإنزال الكتب، وهما ليسا واجبين على الله تعالى. قوله: (للإيذان بأن الإيمان بالله والتوحيد) إلى آخره يؤذن بأن الكلام باق على الشك. وقال الزجاج: إن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها "ما"، ومعنى لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد. قال صاحب الكواشي: "ما" تؤكد أول الفعل والنون آخره. قال صاحب "المرشد": وإنما زيدت "ما" ها هنا لتأكيد الفعل الذي بعد حرف الشرط؛ شبهوها بلام القسم المؤكدة للفعل كقولك: والله لأعطين، وهي أكدت أول الفعل والنون المشددة آخره. كذلك ها هنا، ولئن سلم الشك، فإنها جارية على خلاف مقتضى الظاهر، وذلك أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بما أمر، ونهاه عما نهى على المبالغة والتوكيد كما سبق وشوهد منه بعد ذلك عدم العزيمة، وعلم من حال أولاده أنهم مجبولون على العجلة وقلة

وإنزال الكتب، وأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً كان الإيمان به وتوحيده واجباً لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال. فإن قلت: الخطيئة التي أهبط بها آدم إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة، فلم جرى عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء، كما فعل بإبليس ونسبته إلى الغىّ والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟ قلت: ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال وأعظم الطاعات. وإنما جرى عليه ما جرى، تعظيما للخطيئة وتفظيعاً لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفاً له ولذرّيته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئةٍ واحدة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثبات، ومائلون إلى حب الشهوات، قال: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) على الشك، إيذاناً بأنه من غير أولي العزم، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه: 115] قال صاحب "المفتاح": إن استعملت "إن" في مقام الجزم لم يخل عن نكتة كتنزيل المخاطب منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، كما يقول الأب لابن لا يراعي حقه: إن لم أكن لك أباً فكيف تراعي حقي. فدل ذلك على أن لابد من إنزال الكتب وبعثة الرسل تفضلاً وإحساناً، فلا يلزم ما ذكره من وجوب الإيمان باستقلال العقل. قال صاحب "التقريب": إنما كرر (قُلْنَا اهْبِطُوا) للتأكيد ولزيادة (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ)، وجواب الشرط الأول الشرط الثاني مع جوابه. وإنما جاء بالشك في (إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) للإيذان بأن الوجوب- وجوب العقاب- إنما يكون بعد البعثة، والدلالة على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح. وقال القاضي: إنما جيء بحرف الشك، وإتيان الهدى كائن لا محالة؛ لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً، وكرر لفظ الهدى ولم يضمر؛ لأنه أراد بالثاني أعم من الأول، وهو ما

فكيف يدخلها ذو خطايا جمة. وقرئ: (فمن تبع هُدَيَّ)، على لغة هذيل، (فلا خوفَ) بالفتح. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى به الرسل واقتضاه العقل، أي: فمن تبع ما أتاه مراعياً فيه ما يشهد به العقل، فلا يحل بهم مكروه للعلية فيخافوا، ولا يفوت عنهم محبوب فيحزنوا. وقلت: إتيان الهدى في الثانية من وضع المظهر موضع المضمر للعلية، فدل على أن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الإتباع. وبالنظر إلى أنه أضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وهذا موافق لقول المصنف. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) في مقابلة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) فالمقابل له حكم المقابل. قوله: (هدي على لغة هذيل) حكى ابن جني: هي قراءة أبي الطفيل وعيسى بن عمر الثقفي، وهي لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم [ياء]، وأنشد قطرب: يطوف بي عكب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا قال أبو علي: إن وقوع ياء المتكلم بعد الألف موضع ينكسر فيه الصحيح نحو: هذا غلامي، ولما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا ن كسر الألف للجر قلبوها ياء.

[(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)]. إِسْرائِيلَ هو يعقوب عليه السلام لقب له، ومعناه في لسانهم: صفوة اللَّه، وقيل عبد اللَّه. وهو بزنة إبراهيم وإسماعيل غير منصرف مثلهما لوجود العلمية والعجمة. وقرئ إسرائل، وإسرائلّ. وذِكرهم النعمة: أن لا يخلوا بشكرها، ويعتدّوا بها، ويستعظموها، ويطيعوا ماتحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدّد عليهم: من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق. ومن العفو عن اتخاذ العجل، والتوبة عليهم، وغير ذلك، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعا. يقال أوفيت بعهدي، أى بما عاهدت عليه كقوله: (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [التوبة: 111] وأوفيت بعهدك: أى بما عاهدتك عليه. ومعنى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بى والطاعة لي، كقوله: (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) [الفتح: 10]، (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) [التوبة: 75]، (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23]، (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ): بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فلا تنقضوا عهدى. وهو من قولك: زيداً رهبته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مما عدد عليهم) بيان "ما أنعم"، و"من الإنجاء" بيان "ما عدد"، و"من العفو" عطف على "من الإنجاء". قوله: (وأوفوا بما عاهدتموني عليه) خبر قوله: "ومعنى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ". قوله: (وهو من قولك: زيداً رهبته) أي: من باب الإضمار على شريطة التفسير. قال الزجاج: إياي: نصب بالأمر كأنه قال: ارهبوني، ويكون الثاني مفسراً لهذا الفعل.

وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة: 5]. وقرئ (وأُوَفِّ) بالتشديد: أي أبالغ في الوفاء بعهدكم، كقوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [النمل: 189]، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) قال القاضي: وإنما كان آكد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول، والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط، كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون. وقلت: هذا على خلاف رأي المصنف؛ لأنه جعل التركيب من باب الإضمار على شريطة التفسير لقوله: "هو من قولك: زيداً رهبته"، فإن هذا التركيب آكد في إفادة الاختصاص من "إياك نعبد" إذا قدرت المفسر بعد المنصوب لتكرير الجملة المفيدة للتخصيص، بخلاف "إياك نعبد"، فإن فيه تقديماً فقط. قال صاحب "المفتاح": وأما زيداً عرفته، فأنت بالخيار، إن شئت قدرت المفسر قبل المنصوب، وحملته على التأكيد، وإن شئت قدرته بعده، وحملته على باب التخصيص. والمقام يقتضي الثاني لسياق الكلام وسباقه. وأما إذا جعل من باب الشرط، فلا وجه أن يقابل بقوله: "إياك نعبد" إذ لا مناسبة بينهما. نعم لو قدر: إن كنتم تخصون أحداً بألوهية، فخصوني بها أفاد التخصيص، لكن تقدير الشرط أحط وأضعف من "إياك"؛ لأن التقديم يستدعي وقوع الفعل جزماً، والشرط على الفرض والتقدير. فإن قلت: كيف عطف الجملة المؤكدة على مؤكدها والعطف يقتضي المغايرة؟ قلت: المغايرة حاصلة، لأن المراد من التكرار الترقي من الأهون إلى الأغلظ، فإن في التعقيب اتصال الرهبة برهبة هي أعلى منها من غير تخلل شيء آخر، كقولهم: الأفضل فالأفضل، والأكرم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالأكرم، لم يريدوا به أفضلين وأكرمين، بل الترقي إلى انتهاء الوسع والإمكان. قال المصنف في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) [القمر: 9] أي: كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب. ففيه إشعار بمزيد الاختصاص. ثم قوله: "أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد" يقتضي أنه أوكد منه وحده، لكن إذا ضم معه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] كان هذا أوكد لتصريح التكرير والتعميم في "نستعين" على ما سبق في الفاتحة. الراغب: إنما ذكر في الآية الأولى "فارهبون" وفي الأخرى "فاتقون"؛ لأن الرهبة دون التقوى، فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على [ذكر] النعمة التي يشتركون فيها، أمرهم بالرهبة التي هي مبادئ التقوى، وحيثما خاطب العلماء منهم، وحثهم على مراعاة آياته والتنبيه لما يأتي به أولو العزم من الرسل، أمرهم بالتقوى التي هي منتهى الطاعة. وقوله: "وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان والطاعة لي" أوف "بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم". اعلم أن المصنف قال فيما سبق: إن العهد الموثق، وعهد إليه في كذا: إذا وصاه ووثقه عليه، واستعهد منه: إذا اشترط عليه، واستوثق منه. واللائق بهذا المقام هذا الثاني. فيكون المراد بالعهد ما استعهد من آدم في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) [البقرة: 38] إلى آخره لتنتظم الآيات، يؤكده عطف قوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) [البقرة: 41] على "أوفوا" على سبيل التفسير، وفي كلامه إشعار به.

ويجوز أن يريد بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ما عاهدوا عليه ووعدوه من الإيمان بنبىّ الرحمة والكتاب المعجز. ويدل عليه قوله: (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أوّل من كفر به، أو أول فريق أو فوج كافر به، أو: ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به، كقولك: كسانا حلة، أي كل واحدٍ منا ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد) عطف على قوله: "ومعنى وأوفوا بعهدي" وعلى الأول العهد عام كما في قوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)، وعلى هذا خاص، والآيات الثلاث المستشهد بها لأجل أن العهد مع الله تعالى فحسب. ولما كان عطف قوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) [البقرة: 41] على سبيل البيان على هذا الوجه ظاهراً، قال: "ويدل عليه قوله: وآمنوا" لما يفهم من الأمر بالإيمان بالمنزل أن المراد بالأمر السابق الأمر بالإيمان بالمنزل عليه، وأنه نبي الرحمة بناءً على أن عطف الخاص يخصص العام، وأما على الأول فهو من عطف الخاص على العام، وجعل الأول توطئة للثاني؛ تنبيهاً على علو مرتبة هذا المنزل ونباهة منزلة هذا المنزل عليه، وفضله على سائر المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. قوله: (أو: أول فريق، أو فوج ... ، أو: ولا يكن كل واحد) إنما قدر هذه التقادير لما أن خبر كان مفرد لفظاً، والاسم جماعة. قال القاضي: أول: أفعل لا فعل له، وقيل: أصله "أوأل" من: وأل، فأبدلت همزته واواً تخفيفاً غير قياسي، أو أأول من آل فقلبت همزته واواً وأدغمت.

وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته. ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون اتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) إلى قوله: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة: 1 - 4]، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة: 89]، ويجوز أن يراد: ولا تكونوا مثل أول كافر به، يعنى من أشرك به من أهل مكة. أى: ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تعريض) أي: قوله: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) تعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم، ولما تكلموا به من الاستفتاح والبشارة، والتعريض أنواع منها: أن يكون الكلام مسوقاً لأجل موصوف غير مذكور كما تقول في عرض من يؤذي الناس: فلان رجل مؤمن يصلي ويزكي ولا يؤذي الناس. ويتوصل به على نفي الإيمان عن المؤذي. ومنها: أن يساق به لمقتضى الحال على طريقة قوله: أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وما نحن بصدده من هذا القبيل. قوله: (والمستفتحين) الاستفتاح: الاستنصار. أي: كانوا يقولون: قد آن مبعث النبي الأمي الذي نجده في التوراة والإنجيل، فنحن نؤمن به ونقاتلكم معه.

مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له. وقيل: الضمير في (به) لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به. والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى: (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة: 16]، وقوله: كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا وقوله: فإنِّى شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَك بالجَهْلِ يعنى: ولا تستبدلوا بآياتي ثمنا وإلا فالثمن هو المشترى به. ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهم إذا كفروا بما يصدقه فقد كفروا به) يعني لا تكونوا أول من كفر بالتوراة، لأنه صلوات الله عليه مصدق في التوراة لما فيها من صفته ونعته، فإذا كفرتم بالمصدق لزم أن تكفروا بالمصدق. قوله: (كما اشترى المسلم إذ تنصرا) أي: كما استبدل المسلم بالإسلام الكفر حتى اختار النصرانية، مضى بيانه. قوله: (فإني شريت الحلم بعدك بالجهل) قبله: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم "كنت أجهل" ثاني مفعولي "تزعميني" وقيل: الزعم بمعنى القول لوقوع الجملة بعده، أي: أن تقول كنت أجهل الناس فيمك، فإني بدلت حالي بعدك، واستبدلت الحلم بالجهل، والأناة بالطيش، والرفق بالخرق. قوله: (وإلا فالثمن هو المشترى به) وتقريره: أن الاشتراء استعارة للاستبدال، وإن لم يكن استعارة له لزم أن يكون الثمن في قوله تعالى: (ثَمَناً قَلِيلاً) هو المشترى، والثمن المتعارف هو

والثمن القليل: الرياسة التي كانت لهم في قومهم، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستبدلوها - وهي بدل قليل ومتاع يسير - بآيات اللَّه وبالحق الذي كل كثير إليه قليل، وكل كبير إليه حقير، فما بال القليل الحقير. وقيل كانت عامّتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع. وكان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا أو يحرّفوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشترى به، وها هنا المشتري به الآيات، لأن الباء تدخل على الثمن، فلما دخل على "آياتي" صار هو المشترى به، وصار (ثَمَناً قَلِيلاً) هو المبيع؛ يريد: أن هذه الاستعارة استعارة لفظية لا معنوية، فاستعير الشراء لمجرد الاستبدال من غير نظر إلى التشبيه كما يستعار لأنف الإنسان المرسن. قال المصنف في قوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات: 65] الطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها؛ إما استعارة لفظية أو معنوية. وأما التشبيه بقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] فلمجرد استعارة الاشتراء للاستبدال، ويمكن أن يكون استعارة معنوية، بولغ أولاً بأن شبه هذا الاستبدال في كونه مرغوباً فيه بالبيع والشراء، ثم زيد في المبالغة بأن قلبت القضية، وجعل الثمن مبيعاً، والمبيع ثمناً، ونحوه في القلب قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة: 275]. فجعلت الآيات في الابتذال والامتهان وكونها ذرائع إلى سائر مباغيهم كالدراهم المبذولة لقضاء الحوائج. ومقام التقريع والنعي على بني إسرائيل وسوء صنيعهم يقتضي هذه المبالغة، وإليه ينظر ما روينا عن الدارمي، قال أبو موسى: "إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن لكم وزراً، وكائن لكم ذكراً، اتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإن من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة، ومن يتبعه القرآن يزج في قفاه فيقذفه في جهنم".

[(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)]. الباء التي في (بِالْباطِلِ) إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء خلطته به، كأن المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه وَتَكْتُمُوا جزم داخل تحت حكم النهى بمعنى: ولا تكتموا. أو منصوب بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، أى ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. فإن قلت: لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن كانت باء الاستعانة) والفرق: أن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به. قال الجوهري: خلطت الشيء بغيره فاختلطا، فإذا جعلت صلة كان "بالباطل" مفعولاً مثل الأول، فخلطهم أن يكتبوا شيئاً آخر مثل المنزل، فإذا كتبوه اختلط مع الحق، فالمنهي الكتبة نفسها، لأنها مستلزمة للاختلاط، ومن ثم قال: "ولا تكتبوا فيختلط الحق بالباطل" وجعل "فيختلط" جواباً للنهي، وإذا جعلت للاستعانة كان المنهي جعل مكتوبهم سبباً للاشتباه، ولهذا قال: "ولا تجعلوا الحق مشتبهاً بباطلكم" أي: بسبب باطلكم. وقال "الذي تكتبونه" أي: الذي أنتم مشتغلون به وهو دأبكم وعادتكم، فقوله: "ملتبساً" ثاني مفعولي جعل. قوله: (والواو بمعنى الجمع) قال في "الإقليد": هذه الواو تسمى واو الصرف؛ لأنها تصرف المعطوف عن إعراب المعطوف عليه. قوله: (لبسهم وكتمانهم) تقريره: أن اللبس والكتمان متلازمان، فليست المسألة كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، ليصح دخول واو الجمع بينهما. وأجاب بما تلخيصه: أن لبس

متميزين حتى ينهوا عن الجمع بينهما، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق؟ قلت: بل هما متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتابتهم في التوراة ما ليس منها. وكتمانهم الحق أن يقولوا: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، أو حكم كذا. أو يمحوا ذلك. أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه. وفي مصحف عبد اللَّه: (وتكتمون) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحق بالباطل على ما بيناه في الوجهين، إظهار ما به يشتبه ما في التوراة، وكتمان الحق إخفاء ما في التوراة؛ إما بالقول بأن يقولوا: لا نجد فيها كذا، أو بالفعل بأن يمحوا ذلك، أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه، فقوله: "أو حكم كذا" عطف على "صفة محمد" صلوات الله عليه، وهو حكم الزاني المحصن، ورجمه كما سيجيء حديثه. وقوله: "أو يمحوا" عطف على قوله: "أن يقولوا". فإن قلت: فعلى هذا يلزمك جواز فعلهم اللبس بدون الكتمان وعكسه، كما في مسألة السمكة. قلت: لا نسلم جواز فعل كل واحد منهما على الانفراد كما في مسألة السمكة، فإن نهي الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه، وإنما يعلمان من دليل آخر، أما في مسألة السمكة فمن الطب، وأما في الآية فلاستبداد قبح كل منهما. وبقي أن يقال: إذا كان كذلك فما فائدة الجمع؟ والجواب: فائدته المبالغة في النعي عليهم وإظهار قبح أفعالهم من كونهم جامعين بين الفعلين اللذين إن انفرد كل منهما كان مستقلاً في القبح، وعلى قراءة الجزم وإن دل على المبالغة لكن تفوت فائدة النعي عليهم. قوله: (وفي مصحف عبد الله: وتكتمون) قال القاضي: هذه القراءة تعضد قول من

بمعنى كاتمين (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأنّ الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وءَاتُوا الزَّكَاةَ): يعني صلاة المسلمين وزكاتهم. (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) منهم؛ لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل «الركوع» الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين اللَّه. ويجوز أن يراد بالركوع: الصلاة، كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمرا بأن يصلى مع المصلين، يعنى في الجماعة، كأنه قيل: وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين، لا منفردين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: إن "الواو" للجمع، لأن المعنى: وأنتم تكتمون، وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق. قوله: (يعني صلاة المسلمين وزكاتهم) قال القاضي: يعني أن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة، أمرهم بفروع الإسلام بعدما أمرهم بأصولها، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها. والزكاة: من زكا الزرع: إذا نما، فإن إخراجها يستجلب تزكية في المال، ويثمر للنفس فضيلة الكرم، أو من الزكاة بمعنى الطهارة؛ فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. قوله: (لأن اليهود) تعليل لاختصاص الركوع بالذكر مع أنه داخل في الأمر بإقامة الصلاة.

[(أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)]. (أَتَامُرُونَ): الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة الخير والمعروف. ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير. ومنه قولهم: صدقت وبررت. وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى اللَّه عليه وسلم ولا يتبعونه. وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها. وعن محمد بن واسع: بلغني أنّ ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة. قالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البر كالمنسيات (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ): تبكيت، مثل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 42] يعني: تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صدقت وبررت) أي: بررت في صدقك، كما يقال: كذبت وفجرت، أي: فجرت في كذبك هذا. قوله: (وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة) فعلى هذا البر بمعنى الإحسان، وعلى الأول بمعنى الإيمان. قوله: (كالمنسيات) أشار بالكاف إلى أن المراد بقوله: "تنسون": تتركون على الاستعارة التبعية؛ لأن أحداً لا ينسى نفسه بل يحرمها من الخير، ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة لعدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله. قوله: ((وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) [البقرة: 44] تبكيت مثل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22]) يعني: كما وقع (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حالاً من فاعل "لا تلبسوا" على سبيل التبكيت

(أَفَلا تَعْقِلُونَ): توبيخ عظيم، بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإلزام الخصم، كذلك (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) حال من فاعل (أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) للتبكيت، وأيضاً كما اختلف تقدير متعلق "تعلمون" باختلاف تفسير "لا تلبسوا الحق بالباطل" في الوجهين على ما سبق، كذلك يختلف تقدير متعلق "يتلون" باختلاف تفسير "أتأمرون" في تلك الوجوه الثلاثة المذكورة من الأمر باتباع محمد صلوات الله عليه ولا يتبعونه، والأمر بالصدقة ولا يتصدقون، والأمر بالصدقة والخيانة فيها. فأتى بها في التقدير على طريقة النشر بلا ترتيب. ولما كان الوجهان الأخيران قولاً واحداً كما سبق، جاء بـ "أو" وعطف عليه قوله: "ومخالفة" على "الخيانة" بالواو. فإن قلت: هل يحتمل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما احتمل في قوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] من جعله بمنزلة اللازم مبالغة، أي: أنتم من أهل العلم والمعرفة؟ قلت: لا، لأنه عقب بقوله: (أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الآية وهو مثل قوله: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة: 5] وقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تقريع بعد التبكيت، أي: كأنكم مسلوبو العقول وكالحمار يحمل أسفاراً، فكيف يثبت لهم العلم الفائق كما أثبت لدهاة العرب هناك! وفي هذا إيذان بأن فعل اليهود كان أفحش من فعل المشركين؛ لأن مخالفة النص الجلي مع اعتقاد وجوبه مخالفة لأمر الله وأمر العقل، ومخالفة أمر العقل مخالفة له فحسب. قوله: (مسلوبو العقول؛ لأن العقول تأباه وتدفعه) فيه إيماء إلى أن قوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ونحوه: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 67]. (وَاسْتَعِينُوا) على حوائجكم إلى اللَّه (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي: بالجمع بينهما، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقها وما يجب فيها - من إخلاص القلب، وحفظ النيات، ودفع الوساوس ومراعاة الآداب، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات، ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه. ومنه قوله تعالى: (وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) [طه: 132] أو: واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مطلق يجري مجرى اللازم. قال القاضي: العقل في الأصل الحبس، سمي به إدراك الإنسان؛ لأنه يحبسه عما يقبح، ويعقله على ما يحسن، ثم القوة التي بها النفس تدرك هذا الإدراك. المعنى: فلا عقل لكم يحبسكم عما تعلمون وخامة عاقبته، أو: أفلا تعقلون قبح صنيعكم فيصدكم عنه. قوله: (وأن تصلوا صابرين) عطف تفسيري على قوله: "بالجمع بينهما" وكذا قوله: "وأن يستعان" عطف على قوله: "الدعاء"، والضمير في قوله: "بأنه انتصاب" راجع إلى الصلاة، والتذكير باعتبار الخبر لا إلى الجمع كما ظن؛ لأنه متعلق بقوله: "واستحضار العلم"، وهو عطف على "إخلاص القلب فيها"، و"ليسأل" تعليل "انتصاب"، وإنما قدم الصبر على الصلاة لأنه لا يمكن حصول الصلاة كاملة إلا بالصبر.

إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وعن ابن عباس: أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشى إلى راحلته وهو يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة). وقيل: الصبر الصوم، لأنه حبس عن المفطرات. ومنه قيل لشهر رمضان: شهر الصبر. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، وأن يستعان على البلايا بالصبر، والالتجاء إلى الدعاء، والابتهال إلى اللَّه تعالى في دفعه (وَإِنَّها) الضمير للصلاة أو للاستعانة. ويجوز أن يكون لجميع الأمور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا حزبه أمر) وفي رواية حذيفة: "إذا حزنه أمر صلى" أخرجه أبو داود. حزنه بالنون، وفي "الكشاف" بالباء الموحدة من تحت. وكذا في "النهاية": إذا حزبه أمر صلى، أي: إذا نزل به هم أو أصابه غم. قوله: (فزع إلى الصلاة)، النهاية: في حديث الكسوف "فافزعوا إلى الصلاة"، أي: الجؤوا إليها، واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث. قوله: (فاسترجع) أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال صاحب "الجامع": قثم بضم القاف وفتح الثاء المثلثة. وكان والياً لعلي رضي الله عنه على مكة، واستشهد بسمرقند زمن معاوية. قوله: ((وَإِنَّهَا) الضمير للصلاة)، الراغب: خصها برد الضمير؛ لأنها أرفع منزلة

التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) إلى (وَاسْتَعِينُوا). (لَكَبِيرَةٌ): لشاقة ثقيلة من قولك: كبر علىّ هذا الأمر، (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى: 13]. فإن قلت: مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت: لأنهم يتوقعون ما ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)؟ أي: يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده، ويطمعون فيه. وفي مصحف عبد اللَّه: يعلمون. ومعناه: يعلمون أن لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الصبر، لأنها تجمع ضروباً من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والأفكار على الطاعة؛ ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)، وأما الصلاة التي تخف على غير الخاشع فمسماة باسمها وليست في حكمها، بدلالة قوله عز وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45] وقلما ترى صلاة غير الخاشعين تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونظيره في رد الضمير: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11] أعيد الضمير إلى التجارة دون اللهو لما كانت سبباً في الانفضاض. قوله: (لأنهم يتوقعون) معللة مقدر؛ لأن تقدير السؤال: ما للصلاة لم تثقل على الخاشعين، والحال أن الخشوع في الصلاة في نفسه ثقيل كما علم من قوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 2]، وما يكون ثقيلاً في نفسه كيف يكون سبباً لخفة صلاتهم؟ وأجاب: إنما يكون سبباً لخفة صلاتهم "لأنهم يتوقعون" إلى آخره. قوله: (أي: يتوقعون لقاء ثوابه) مذهبه قال في "يونس" في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) [يونس: 15]: كيف جاز النظر على الله وفيه معنى المقابلة!

ولذلك فسر (يظنون) بـ: يتيقنون. وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب، كانت عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمراءين بأعمالهم. ومثاله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح صدر ومضاحكة لحاضريه، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة. ومن ثمّ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم (وجعلت قرّة عيني في الصلاة) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك فسر (يَظُنُّونَ) بـ: يتيقنون) أي: ولأجل ما قرأ عبد الله: (يعلمون) - ومعناه ما ذكر- فسر يظنون بـ: يتيقنون، قال: الظن ها هنا بمعنى اليقين. ولو كانوا شاكين كانوا ضلالاً كافرين، والظن بمعنى اليقين موجود، قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد قوله: (وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة) هذا يعلم من مفهوم قوله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]، لأنه في معنى: لا يهون على أحد إلا على الخاشعين، فإنه استثناء مفرغ من كلام موجب فلابد من تأويل. قوله: (يتسخره بعض الظلمة)، الجوهري: تسخره: كلفه عملاً بغير أجرة. قوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) الحديث من رواية النسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي الطيب والنساء، وجعل قرة عيني في الصلاة".

وكان يقول ((يا بلال روّحنا)) والخشوع: الإخبات والتطامن. ومنه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا بلال روحنا) الحديث من رواية أبي داود عن سالم بن الجعد قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها" أي: أذن بالصلاة نسترح بأدائها من شغل القلب بها، قيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، ولهذا قال: "وقرة عيني في الصلاة"، وما أقرب الراحة من قرة العين، يقال: أراح الرجل واستراح إذا رجع نفسه إليه بعد الإعياء، كلها في "النهاية". الراغب: الصلاة جامعة للعبادات وزائدة عليها لأنها لا تصح إلا ببذل مال ما، جار مجرى الزكاة فيما يستر به العورة، ويطهر به البدن، وامتساك في مكان مخصوص يجري مجرى الاعتكاف، وتوجه إلى الكعبة يجري مجرى الحج، وذكر الله تعالى ورسوله يجري مجرى الشهادتين، ومجاهدة في مدافعة الشيطان جارية مجرى الجهاد، وإمساك عن الأطيبين جار مجرى الصوم، وفيها ما ليس في شيء من العبادات الأخرى من وجوب القراءة وإظهار الخشوع والركوع والسجود وغير ذلك. وقلت: وفيها ما قال صلوات الله عليه: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" الذي هو أصل ذلك كله. قوله: (الخشوع: الإخبات والتطامن) الراغب: الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما

الخشعة للرملة المتطامنة. وأما الخضوع فاللين والانقياد. ومنه: خضعت بقولها إذا لينته. [(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)]. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ نصب عطف على: (نِعْمَتِيَ) أى اذكروا نعمتي وتفضيلي عَلَى الْعالَمِينَ على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى: (بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 71] يقال: رأيت عالما من الناس يراد الكثرة يَوْماً يريد يوم القيامة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي: "إذا ضرع القلب خشعت الجوارح" (تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً) [فصلت: 39] كناية. قوله: (خضعت بقولها: إذا لينته) مأخوذ من قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) [الأحزاب: 32]. قوله: (على الجم الغفير من الناس) ذهب الإمام: أن الآية بظاهرها تدل على أن يكونوا أفضل من الصحابة، وليس كذلك. وقلت- والله أعلم-: "العالمين" كما سبق: اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، أو لكل ما علم به الخالق، وهو عام يقبل التخصيص بالعلم بالبعض من أربعة أوجه: أحدها: من حيث الأشخاص، وهو المراد بقوله: "على الجم الغفير من الناس" وهو مجاز من باب إطلاق الكل على الأكثر نحو قوله تعالى: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 16] (وَأُوتِيَتْ مِنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23] فعلى هذا يلزم تفضيلهم على غير الصحابة رضوان الله عليهم وهم الجم الغفير. وثانيها: من حيث المكان كما في الآية المستشهد بها (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 71] أي: أهل الشام، كقوله تعالى: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء: 1] ولا يجوز حمل الآية عليه. وثالثها: أن يختص بالبعض بحسب اختصاص أمر ما. قال الإمام: "العالمين" عام لكنه مطلق في الفضل، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة، فيلزم أن يكونوا أفضل من غيرهم في أمر واحد، وغيرهم أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر. وقلت: هذا بعيد؛ لأن سياق الكلام لبيان الامتنان عليهم وتعداد النعم الفائقة، وهذا إنما يمكن إذا حملنا التفضيل على غير الصحابة من الجم الغفير. ورابعها: خص به بحسب اعتبار الزمان. قال محيي السنة: "على العالمين" أي: عالمي زمانهم، وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء لكن يحصل به الشرف للأبناء. وقال القاضي: يريد به تفضيل آبائهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا، بما منحهم من العلم والإيمان، وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين. وقلت: الحق هذا الوجه، وقضية النظم شاهدة بذلك، وبيانه أن المصنف كثيراً ما يذهب إلى أن الكلام إذا كرر كان للتأكيد، ولما يناط به من زيادة ليست مع الأول، وها هنا كرر نداءهم بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 40] فعلق بها:

(لا تَجْزِي) لا تقضي عنها شيئا من الحقوق. ومنه الحديث في جذعة بن نيار: «تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك». و (شَيْئاً) مفعول به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أولاً: النعمة التي اختصت بالذين شاهدوا حضرة الرسالة، وأنزل إليهم ما يصدق ما معهم، ومنحوا ما كانوا يتمنون من الاستفتاح على الكفار بنبي الرحمة. وثانياً: النعمة التي أنعمها الله تعالى على آبائهم وأسلافهم من تفضيلهم على عالمي زمانهم بالعلم والحكمة والنبوة، وبإنجائهم من فرعون وعقابه، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وغير ذلك. فالواجب: حمل الكلام على هذا لا على ما ذهب إليه المصنف لئلا يختل النظم، ويؤيده ما ذكره الزجاج: أذكرهم الله عز وجل نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49] والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله. ولكنه أذكرهم أنه لم يزل منعماً عليهم؛ لأن إنعامه على أسلافهم إنعام عليهم، والدليل عليه: أن العرب تجعل ما كان لآبائها فخراً لها، وما كان فيه ذم تعده عاراً عليها. ولعل مراد المصنف من تخصيص هذا العام وتفسير العالمين بالجم الغفير من الناس أن لا تدخل الملائكة في العالمين حتى لا يلزم أن يكون البشر أفضل منهم كما ذهب إليه في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) إلى قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70] لأن بعض الأصحاب استدل بهذه الآية التي نحن بصددها على فضل البشر. قوله: (ومنه الحديث في جذعة ابن نيار) روينا في "صحيح البخاري" قال أبو بردة بن نيار خال البراء: يا رسول الله، فإني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي، وتغديت قبل أن آتي الصلاة. قال: "شاتك شاة لحم"، قال: يا رسول الله، فإن عندنا عناقاً جذعة هي أحب إلي من شاتين،

ويجوز أن يكون في موضع مصدر، أي قليلاً من الجزاء، كقوله تعالى: (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم: 60]، ومن قرأ (لا تجزئ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزى نسمة عن نسمة شيئا. وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قلت: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلت: هو محذوف تقديره: لا تجزى فيه. ونحوه ما أنشده أبو علي: تَرَوَّحِى أَجْدَرُ أَنْ تَقِيلِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفتجزي عني؟ قال: "نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك"، الحديث وفي "مسند أحمد بن حنبل" نحوه. الجذع من الشاة، ما دخل في السنة الثانية. ابن نيار بكسر النون وتخفيف الياء والراء. قوله: (أي: قليلاً من الجزاء) فعلى هذا نزل المتعدي منزلة اللازم للمبالغة، ومن ثم استشهد بقراءة من قرأ "لا تجزئ" من: أجزأ عنه. قوله: (فلا يكون في قراءته إلا بمعنى: شيئاً من الإجزاء) أي: بمعنى المصدر، لأنه لازم تعدى إلى المفعول به بـ "عن". قوله: (تقديره: لا تجزي فيه) قال الزجاج: وحذف "فيه" ها هنا جائز؛ لأن "في" مع الظروف محذوفة تقول: أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم. فإذا أضمرت قلت: أتيتك فيه، ويجوز أتيتكه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد، لم يجز: الذي تكلمت زيد بدله. قوله: (تروحي أجدر أن تقيلي) تمامه: غداً بجنبي بارد ظليل

أي: ما أجدر بأن تقيلى فيه. ومنهم من ينزل فيقول: اتسع فيه، فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار ثم حذف الضمير كما حذف من قوله: ......... أو مال أصابوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أجدر) وفي نسخة: "ما أجدر"، وصح "ما أجدر" في المتن عن المعزي. و"ما" موصوفة، صفتها "أجدر" منصوبة بـ "تروحي" على تأويل مكاناً أو مراحاً. و"أجدر" أفعل التفضيل، وفاعله ضمير مستكن للمراح، و"الباء" المقدر في "أن" صلة أجدر، والمفضل عليه محذوف يقول: جدي يا ناقة في السير واطلبي مراحاً أحق بأن تقيلي فيه من مكان أنت فيه. تروحي: من الرواح وهو السير فيما بعد الزوال، و"تقيلي" من القيلولة. وفي "محتسب ابن جني": أصله ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف ائتي لدلالة تروحي عليه، فصار: تروحي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكاناً فصار أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء تخفيفاً فصار أن تقيلي فيه، ثم حذف "في" فصار أن تقيليه، ثم حذف العائد المنصوب فصار كما ترى، ففيه خمسة أعمال. هذا الذي عناه المصنف بقوله: "ومنهم من ينزل" أي: يحط به درجة فدرجة. قوله: (أو مال أصابوا) أوله: فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أو مال أصابوا وقبله: ألا أبلغ معاتبتي وقولي ... بني عمي فقد حسن العتاب

ومعنى التنكير: أن نفسا من الأنفس لا تجزى عن نفس منها شيئا من الأشياء، وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع. وكذلك قوله: (وَلا تُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي فدية لأنها معادلة للمفدي. ومنه الحديث ((لا يقبل منه صرف ولا عدل)) أي توبة ولا فدية. وقرأ قتادة: (ولا يَقبل منها شفاعة)، على بناء الفعل للفاعل وهو اللَّه عز وجل، ونصب الشفاعة. وقيل: كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسل هل كان لي ذنب إليهم ... هم منه- فأعتبهم- غضاب كتبت إليهم كتباً مراراً ... فلم يرجع إلي لها جواب وبعده: فمن يك لا يدوم له وفاء ... وفيه حين يغترب انقلاب فعهدي دائم لهم وودي ... على حال إذا شهدوا وغابوا قال السيد ابن الشجري في "الأمالي" قائلها: الحارث بن كلدة، وقد خرج إلى الشام وكتب بها إلى بني عمه، فلم يجيبوه. وإنما قال: أم مال أصابوا؛ لأن الغنى في أكثر الناس يغير الإخوان على إخوانهم، وهي من ألطف عتاب وأحسنه. قوله: (وكذلك قوله: "ولا تقبل منها شفاعة) أي: إقناط كلي. قوله: (ومنه الحديث) الحديث من رواية أبي داود عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت: نعم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال- أو الناس- لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً". قال صاحب "الجامع": صرف الكلام: ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة، والاستباء: افتعال من السبي، كأنه ينهب بكلامه قلوب السامعين، العدل: الفرض، والصرف: النافلة، وقيل: الصرف: التوبة. والعدل: الفدية، سميت لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحميدة. الراغب: تفسيرهم العدل والصرف بالفريضة والنافلة من حيث إن العدل هو المساواة وتعاطيه واجب، والصرف: الزيادة الحاصلة عن التصرف، وتعاطيه تبرعوهما كالعدل والإحسان. وقلت: في تخصيص السبي بالذكر في الحديث نكتة وهي أنه صلوات الله عليه استعار للميل إلى الباطل لفظ السبي الذي يختص بالغارة، ويفهم منه أنه إذا أميلت إلى الحق بسبب الكلمات المونقة في الترهيب والترغيب لم يدخل في هذا الوعيد. قوله: (هل فيه دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ ) ثم قوله: (نعم) فيه نظر؛ لأن سياق الآية على العموم كقوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37] فالسؤال إنما يحسن عن التخصيص؛ لأنها هل تدل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة وغير العصاة. والتخصيص من وجهين: أحدهما: بحسب المكان والزمان، فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيه سعة وطول، لعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدة أمره، ثم يأذن بالشفاعة.

لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. فإن قلت: الضمير في (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) إلى أى النفسين يرجع؟ قلت: إلى الثانية العاصية غير المجزى عنها، وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا يقبل منها شفاعة: إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها. ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزى عنها شيئا، ولو أعطت عدلا عنها لم يؤخذ منها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يعنى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة والتذكير بمعنى العباد والأناسى، كما تقول: ثلاثة أنفس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: بحسب الأشخاص، إذ لابد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات، ونحن نخصص في العصاة بما روينا من الأحاديث الصحيحة المروية عن البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة الثقات ما يبلغ مبلغ التواتر منها في حديث طويل: "ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة" قال: لا أدري أفي الثالثة أو في الرابعة قال: "فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن" أي: وجب الخلود. وقال القاضي: إن الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ويؤيده أن الخطاب معهم، والآية نزلت رداً لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم. وهذا القول مذكور في "الكشاف". قوله: (ولو أعطت عدلاً عنها) الضمير المستتر المرفوع راجع إلى النفس الأولى في (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)، والمجرور عائد على النفس الثانية. قوله: (والتذكير بمعنى العباد) عطف على قوله: "يعني ما دلت عليه النفس المنكرة" أي: يعني الله تعالى بالضمير في "هم لا ينصرون" ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة،

[(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)] 49. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتذكير بمعنى العباد، وحق الظاهر أن يقال: ولا هي تنصر، فخولف بأن جمع الضمير، والمرجوع إليه مفرد، وذكره وهو مؤنث، والجمع باعتبار أن النفس المنكرة في سياق النفي دلت على أن هناك نفوساً كثيرة، وكل واحدة منها لا تجزي عن الأخرى شيئاً، والتذكير بتأويل: "تلك الأنفس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطان الله وملكه". قال القاضي: وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحدٌ عن أحدٍ من كل وجه محتمل، فإنه إما أن يكون قهراً أو غيره، والأول: النصرة، والثاني: إما أن يكون مجاناً أو غيره، والأول: أن يشفع له، والثاني: إما بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه، أو بغيره، وهو أن يعطي عدلاً. وقلت: هذا على التقسيم العقلي، وأما البياني فإن الآية من أسلوب الترقي، ولذلك اختار المصنف في تفسير "تجزي": تقضي، على "تغني"، كأنه قيل: النفس الأولى غير قادرة على استخلاص صاحبها من قضاء الواجبات، وتدارك التبعات؛ لأنها مشتغلة عنها بشأنها (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37] ثم إن قدرت على سعي ما مثل الشفاعة فلا يقبل منها، وإن زادت عليها بأن يضم معها الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة- وأنى لها ذلك- فلا تتمكن منه، فالترقي من السعي إلى السعي. فإن قلت: لم خالف المفسرين مثل الزجاج ومحيي السنة وغيرهما؟ على أن صاحب

أصل (ءالِ) أهل، ولذلك يصغر بأهيل، فأبدلت هاؤه ألفاً. وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، فلا يقال آل الإسكاف والحجام ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الإيجاز" قال: وقيل: "تجزي": تقضي وتغني. و"تغني" أبلغ؛ لأن "تغني" يكون نقصاً وبدفع ومنع. قلت: لا يخلو حينئذ من أن يكون عطف "لا يقبل" إلى آخره على (لا تَجْزِي) من باب عطف الخاص على العام، أو من باب عطف البيان على المبين، أو من باب فحوى الخطاب كقوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23] كأنه قيل: لا يغني عنها شيئاً قليلاً فكيف بالشفاعة ثم بالفداء ثم بالنصرة! والأول ضعيف؛ لأن المقصود من إفراد الذكر بعد الاشتراك الإيذان بأن ذلك الفرد قد خرج من ذلك الجنس لاكتسابه ما به تميز عنه من الفضائل، وها هنا أفراد المعطوف عليه مذكورة، وأما الثاني فلا يقبله من عنده أدنى مسكة من الذوق، والثالث غير مستبعد لاجتماع الترقي من قوله: (وَلا يُقْبَلُ) إلى آخره مع فحوى الخطاب، لكن أين هذا من ذاك، والقول ما قالت حذام، والله أعلم. قوله: (آل الإسكاف)، الأساس: وهو إسكاف من الأساكفة: هو الخراز، وقيل: كل صانع. قال الجوهري: الثاني غير معروف.

و (فِرْعَوْنَ) علم لمن ملك العمالقة، كقيصر: لملك الروم، وكسرى: لملك الفرس. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان، إذا عتا وتجبر. وفي ملح بعضهم: قَدْ جَاءَهُ الْمُوسَى الْكَلُومُ فَزَادَ فِى ... أقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ وقرئ: (أنجيناكم)، (ونجيتكم). (يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفاً إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم: إذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً ... أَبَيْنَا أَنْ يَقِرَّ الْخَسْفُ فِينَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العمالقة) أي: الجبابرة، وهم الذين كانوا بالشام من بقية قوم عاد، الواحد: عمليق وعملاق. قوله: (سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً)، الأساس: سامه خسفاً: أولاه ذلاً وهواناً. يقال: رضي بالخسف وبات على الخسف: على الجوع. وشربوا على الخسف: على غير ثفل. الراغب: السوم: الذهاب في ابتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والابتغاء، فأجري مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل، فهي سائمة. ومجرى الابتغاء في قولهم: سمته كذا، قال تعالى: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [البقرة: 49] وقيل: سيم فلان الخسف: الظلم والنقصان، ومنه السوم في البيع. قوله: (إذا ما الملك سام) البيت. قال ابن الأنباري: المَلْكُ والمَلِكُ لغتان. قيل: هو

وأصله من سام السلعة إذا طلبها. كأنه بمعنى يبغونكم سُوءَ الْعَذابِ ويريدونكم عليه. والسوء: مصدر السيئ: يقال أعوذ باللَّه من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. ومعنى (سوء العذاب) والعذاب كله سيئ: أشدّه وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة لي سائره. (يُذَبِّحُونَ): بيان لقوله: (يسومونكم)؛ ولذلك ترك العاطف كقوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ الزهري (يذبحون) بالتخفيف كقولك: قطعت الثياب وقطعتها. وقرأ عبد اللَّه: (يقتلون). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تخفيف الملِك، الخسف: الظلم والنقصان. يقول: إذا حمل الملك الناس على الظلم أبينا أن نحمل ذلك ونقر به، وموضع "أن نقر" نصب بأبينا. قوله: (كأنه قبحه) أي: كأن أشد العذاب قبح العذاب بالنسبة إلى سائره. قال الزجاج: العذاب كله سوء فإنما نكر؛ لأنه أبلغ ما يعامل به من يجني، أي: من يبلغ الإساءة ما لا غاية بعده. قوله: ((يُذَبِّحُونَ): بيان لقوله: (يَسُومُونَكُمْ))، كما أن "يضاهون" بيان لقوله: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ) [التوبة: 30] الآية، كما ترك العاطف هناك ترك ها هنا. ولقائل أن يقول: هذا غير مستقيم، لأن "يضاهون" ليس بياناً، والدليل عليه قوله هناك:

وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ، وكان ما شاء اللَّه. والبلاء المحنة إن أشير بـ (ذلكم) إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم. وليس فيه ما يشعر به أنه بيان. ويجاب بأن يقال: إنه بيان لقوله: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) وذلك التقدير لا ينافيه، فإنه تعالى لما حكم عليهم أن هذا القول قول باطل ولا معنى له، بينه بقوله: "يضاهي قولهم قول المشركين: الملائكة بنات الله" دفعاً لوهم من عسى أن يزعم أن هؤلاء أهل كتاب، لعل قولهم عن نص أو دليل عقلي، فقال: بل قولهم مثل قول المشركين في البطلان وعدم الحجة. قوله: (والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء)، الراغب: بلي الثوب بلى وبلاء، أي: خلق، ومنه بلو سفر وبلي سفر، أي: أبلاه السفر، وبلوته: أي: اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، وسمي الغم بلاء؛ لأنه يبلي الجسم، وسمي التكليف بلاء من أوجه: الأول: أن التكاليف كلها مشاق. والثاني: أنها اختبارات، ولهذا قال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد: 31] والثالث: أن اختبار الله للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، والقيام بحقوق الصر أيسر، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به، فهو مخدوع عن عقله. وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) [الأنبياء: 35].

[(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)]. (فَرَقْنا): فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ: فرّقنا، بمعنى فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين، وفرّق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنى عشر على عدد الأسباط. فإن قلت: ما معنى بِكُمُ؟ قلت: فيه أوجه: أن يراد أنهم كانوا يسلكونه ويتفرّق الماء عند سلوكهم، فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما، وأن يراد فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم، وأن يكون في موضع الحال، بمعنى فرقناه ملتبسا بكم كقوله: تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا قيل: ابتلى فلان فلاناً وأبلاه يتضمن أمرين: أحدهما: تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره، والثاني: ظهور جودته ورداءته وربما قصد الأمران أو أحدهما، وإذا قيل: بلاه الله وأبلاه فالمراد الثاني، لأنه تعالى علام الغيوب. قوله: (تدوس بنا) البيت للمتنبي وأوله: كأن خيولنا كانت قديماً ... تسقى في قحوفهم الحليبا فمرت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا التريب: جمع التربية وهي عظام الصدر. والعرب تسقي اللبن كرام خيولهم، يقول: إن خيلنا كانت تسقى اللبن في أقحاف رؤوس الأعداء وألفت بها، فلذلك وطئت رؤوسهم

أي تدوسها ونحن راكبوها. وروى أنّ بنى إسرائيل قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال: اللهم أعنى على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه: أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصارت فيها كوى. فتراموا وتسامعوا كلامهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وصدورهم، ونحن عليها ولم تنفر. فالظرف على هذا مستقر. وعلى الوجهين لغو. وفرق بين الباء السببية والاستعانة، فإن باء الاستعانة كالآلة، وأن البحر فرق بواسطتهم. والسببية آذنت بأن الله تعالى فرقه بسببهم ولأجل إنجائهم، لكن ليس فيه أنه فرق بواسطتهم أم بشيء آخر. وعلى الملابسة ليس فيها نصوصية الأمر، قال السلمي: أما الاستعانة فنحو: كتبت بالقلم، وهذا في كل موضع اتصلت بآلة متوسطة بين الفاعل والمفعول، وأما المصاحبة فنحو: خرج زيد بثيابه، وتكون سببية نحو: أخذت بذنبه، أي: بسببه، وأما التعدية فنحو: خرجت به. قوله: (أن قل بعصاك)، النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام، فتقول: قال بيده، أي: أخذ، وقال برجله، أي: مشى، وقال بثوبه، أي: رفعه، وقال بالماء على يده، أي: قلب، ويقال: قال بمعنى مال وأقبل وضرب وغير ذلك. قوله: ((وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه) جعل "تنظرون" من النظر بالبصر، والظاهر الإطلاق. الراغب: النظر نظران: نظر بصر، ونظر بصيرة، والأول كالخادم للثاني، والنظر أصله

[(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)]. لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد اللَّه موسى أن ينزل عليه التوراة، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وقيل: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)؛ لأنّ الشهور غررها بالليالي. وقرئ (واعَدْنا)؛ لأن اللَّه تعالى وعده الوحى ووعد المجيء للميقات إلى الطور (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد مضيه إلى الطور. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) بإشراككم (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) حين تبتم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للمناظر، كأنه ينظر كل واحد إلى صاحبه في المشاكلة كالنظرين. ولما احتملت الآية المعنيين قيل: معناها وأنتم تشاهدونه ولا تشكون فيه، وعلى ذل حمل قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [يونس: 92] وقيل: معناها وأنتم تعتبرون بذلك. قوله: (وقيل: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) أي: في القرآن، لا أنه قول مفسر، وكذا قوله: "وقرئ (وَاعَدْنَا) ". قوله: (لأن الشهور) أي: شهور العرب، وهي إنما تبتدئ من الليالي برؤية الهلال، وسيجيء بعد هذا تحقيقه في قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234]. قوله: (لأن الله تعالى وعده الوحي ووعد المجيء إلى الطور للميقات) ومن فوائد صاحب "التقريب" رحمه الله: وعدته وعداً وعدة وموعداً، ويستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) [طه: 86] وقال: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج: 72] ويتعدى إلى مفعولين.

(مِنْ بَعْدِ ذلِكَ): من بعد ارتكابكم الأمر العظيم، وهو اتخاذكم العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: إرادة أن تشكروا النعمة في العفو عنكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن قيل: في قول أهل التفسير: وعد موسى المجيء إلى الطور، ووعد الله إليه الوحي، إشكال، ووجه تقريره: أن "أربعين" إما أن يكون منتصباً على الظرفية، أو على المفعول به لظهور بعد غيرهما من المنصوبات أو امتناعه. والأول ممتنع؛ لأن المواعدة لم تكن في أربعين، وكذا الثاني، لأن المواعدة إنما تتعلق بالأحداث والمعاني لا بنفس الحدث والأزمنة، ولا جائز أن يقدر مضاف، لأنه لو قدر إما أن يقدر المذكوران، أي: الوحي والمجيء، وهو ممتنع؛ لأن تقدير مضافين، إلى شيء واحد حذفا من اللفظ غير معهود في العربية، بخلاف ما لو كانا ملفوظين نحو: بين ذراعي وجبهة الأسد، أو أن يقدر أمر واحد منهما أو غيره، والأول أيضاً ممنوع؛ لأن أحدهما غير مواعد من الطرفين بل كليهما، والثاني غير جائز؛ لأن المنقول ذلك الأمران، على أن المواعدة تقتضي شيئين. وأجاب باختيار الثالث، ونقدر أمراً يتضمنهما لتصحيح المعنى واللفظ، نحو الملاقاة فإنها تستقيم من الجانبين، واللقاء الموعود من الله تعالى لأجل الوحي، ومن موسى عليه السلام لأجل استماعه. وغرض المفسرين من ذلك التقدير بيان المعنى، وأن الموعود من كل جانب ماذا، لا بيان الإعراب، على أنه يجوز تفكيك "واعدنا" إلى فعلين لإضمار المعنيين باعتبارين، كأنه قيل: نحن وعدنا وحي أربعين، أي: الوحي بعد أربعين، ووعد هو مجيء أربعين، أي: المجيء بعد أربعين. فإن "واعدنا"، وإن كان واحداً لفظاً فهو متعدد معنى، ونظيره قولك: بايع الزيدان عمراً؛ لأن المعنى باع زيد من عمرو، وباع أيضاً صاحبه منه؛ لا أن المفاعلة صدرت منهما دفعة فوجب التفكيك. هذا تلخيص كلامه. قوله: (من بعد ارتكابكم الأمر العظيم) ودل على عظم الأمر إتيان "ذلك" للبعيد، والمشار إليه قريب. قوله: ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إرادة أن تشكروا) فسر الرجاء بالإرادة، لأن الرجاء إرادة

[(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)]. الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ يعنى الجامع بين كونه كتاباً منزلاً، وفرقانا يفرق بين الحق والباطل: يعنى التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة. ونحوه قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً) [الأنبياء: 48]، يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكراً؛ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء حصوله غير معلوم، وهو على عالم الغيب والشهادة غير جائز، فجعله مجازاً عن مطلق الإرادة بناءً على مذهبه؛ لأن مراد الله قد يتخلف عن إرادته عندهم، وعلى مذهبنا استعمال "لعل" تمثيل. المعنى: نحن عاملناهم معاملة من يدر النعم على الغير متوالية، وهو غير ملتفت إليها، ولا يشكر المنعم، والمنعم لا يقطع خيره رجاء أن يقلع عن فعله، ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك نعياً عليهم في التمادي في الغفلة، والتناهي في كفران النعم. قوله: (يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً) يريد أن الكتاب والفرقان عبارتان عن معبر واحد وهو التوراة بعد تأويلها بالصفتين، يدل عليه قوله آخراً: "يعني التوراة"، هذا نحو قولك إذا أردت أن ترسم التوراة تقول: هي الكتاب المنزل على موسى عليه السلام، الفارق بين الحق والباطل، وهو من باب الكناية التي يطلب بها نفس الموصوف. نحو قولك في مستوي القامة: عريض الأظفار، وتريد به الإنسان. وأما "الواو" فهي الداخلة بين الصفات للإعلام باستقلال كل منها وهي الإشارة بقوله: "رأيت الغيث والليث"، وعليه قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً) [الأنبياء: 48] يعني التوراة.

أو التوراة. والبرهان: الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، وقيل الفرقان: انفراق البحر. وقيل: النصر الذي فرّق بينه وبين عدوّه، كقوله تعالى: (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال: 41]، يريد به يوم بدر. حُمل قوله (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) على الظاهر وهو البخع. وقيل: معناه قتل بعضهم بعضاً. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة. وروى أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر اللَّه تعالى، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو التوراة والبرهان الفارق) وهو عطف على قوله: "الجامع بين كونه كتاباً" أي: المراد بمجموع اللفظين التوراة، أو يراد بالكتاب التوراة، وبالفرقان البرهان الفارق، وهو غير التوراة لبيانه بقوله: "من العصا واليد"، فتحصل المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه إذن. قوله: (أو الشرع) عطف على قوله: "البرهان الفارق" فإذن العطف إما من باب قوله: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98] أو من باب التجريد؛ لأن التوراة مشتملة على الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فجرد منها هذه الصفة لكمالها فيها، ثم عطف عليها وهي هي. قال الزجاج: يجوز أن يكون "الفرقان" الكتاب بعينه إلا أنه أعيد ذكره، وعنى به أنه يفرق بين الحق والباطل. قال المصنف في (ص): هو اسم السورة (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) السورة بعينها، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. قوله: (البخع)، الأساس: بخع الشاة: بلغ بذبحها القفا، ومن المجاز: بخعه الوجد إذا بلغ منه المجهود. قوله: (فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى). الراغب: وقد طعن بعض الملحدة وزعم أن قتل النفس مستقبح في العقل، وهذا الجاهل إنما استقبحه لكونه جاهلاً بأن لنفوسنا خالقاً،

فأرسل اللَّه ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: اصبروا، فلعن اللَّه من مدّ طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهرون وقالا: يا رب، هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة. فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. فإن قلت: ما الفرق بين الفاءات؟ قلت: الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قبل أن اللَّه تعالى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأمره يستبقيها وبأمره يفنيها، وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو حياة سرمدية كما قال الله تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت: 64] وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم على ثغر يحرسه، ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده، فلا فرق بين أن يأمره بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه، وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما. قوله: (اصبروا، فلعن الله) الفاء للتعقيب داخلة على شرط مقدر، تقديره: اصبروا، فمن لم يصبر لعنه الله، فوضع "من مد طرفه" إلى آخره موضع الضمير إشعاراً بالعلية. قوله: (البقية البقية)! وهي منصوبة بفعل مضمر، أي: سلم البقية. قوله: (للتسبيب لا غير) يعني ليست للعطف، كقولهم: الذي يطير فيغضب زيد الذباب. قوله: (والثانية للتعقيب)، اعلم أن حمل الفاء على التعقيب يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قتل أنفسهم عين التوبة، فحينئذ يحتاج إلى تقدير "فاعزموا على التوبة فاقتلوا" لئلا يلزم عطف الشيء على نفسه، وإليه الإشارة بقوله: "من قبل أن الله جعل توبتهم قتل أنفسهم".

جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم. فيكون المعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم، والثالثة متعلقة بمحذوف، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلق بشرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإمّا أن يكون خطابا من اللَّه تعالى لهم على طريقة الالتفات. فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم. فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: أن يكون قتل أنفسهم تتمة للتوبة، فتكون التوبة مشتملة على القول المتعارف والفعل المخصوص، فيصح العطف بدون التقدير. قوله: (ففعلتم ما أمركم به موسى) والذي أمر به موسى هو قوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) [البقرة: 54] أي: قال لكم موسى: توبوا إلى بارئكم، فتبتم فتبنا عليكم، فالفاء إذن فصيحة؛ لأنها تفصح عن محذوف غير شرط هو سبب لما بعده. والأولى أن علة التسمية اختصاصها بكلام الفصحاء، كما سيجيء في قوله: (فَانفَجَرَتْ) [البقرة: 60]، وأما الفاء في قول المصنف: "فيكون التقدير" فجواب شرط محذوف، يعني: التقدير على طريقة الشرط ما ذكر، وعلى طريقة الالتفات هذا المذكور، فيكون لفظ بارئكم في "الكشاف" في قوله: "فتاب عليكم بارئكم" مقصوداً بالذكر وإن لم يكن في التنزيل. فإن قلت: فما فائدة هذه الزيادة في الكتاب؟ قلت: فائدتها بيان موقع النكتة في الالتفات، وهي مزيد الاعتناء بلفظ البارئ الدال على المعنى الذي تضمنه جوابه عن السؤال الآتي، كأنه يشير به إلى أن الضمير في "فتاب" يعود إلى البارئ المذكور، فيكون لفظ "البارئ" مقصوداً، بخلافه إذا قيل: فتبنا لأنه لا دلالة له عليه، والمقام يقتضي مزيد التوبيخ والتقريع لا التعظيم، ومن ثم كرر لفظ البارئ ولا كذلك في

قلت: البارئ: هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك: 3] ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرط؛ لأنه على ظاهره يقتضي العود إلى البارئ؛ لأنه من تتمة كلام موسى، ولهذا لم يصرح بـ "البارئ" في التقدير. فإن قلت: من أين نشأ الالتفات؟ وكيف موقعه؟ قلت: من قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) [البقرة: 54] يعني اذكروا يا بني إسرائيل وقت قول موسى لقومه: فتوبوا إلى بارئكم، فامتثلتم أمره، فتبتم، فتبنا عليكم، فرجع إلى الغيبة. قوله: (البارئ: هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت)، الراغب: أصل البرء: خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التفصي منه، أو على سبيل الإنشاء عنه، فعلى التفصي قولهم: بريء فلان من مرضه، والبائع من عيوب مبيعه، وصاحب الدين من دينه، ومنه استبراء الجارية. وعلى سبيل الإنشاء قولهم: برأ الله الخلق، وقوله صلوات الله عليه: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة". فإن قلت: ما معنى قوله: "ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة" بعد قوله: "بريئاً من التفاوت"؟ قلت: معنى التفاوت: عدم التناسب، فكأن بعضه يفوت بعضاً ولا يلائمه، ومعنى التميز: التفريق، فاليد متميزة عن الرجل لكن ملائمة لها من حيث الصغر والكبر والغلظ والدقة، كقوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه: 50] أي: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يناسب المنفعة المنوطة به.

فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عباد البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. - في أمثال العرب: أبلد من ثور - حتى عرضوا أنفسهم لسخط اللَّه ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها. [(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 55 - 57]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن هذه التوبة وهي قوله: (فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) مناسبة لذكر البارئ دون سائر الصفات في هذا المقام؛ لأن معناه كما قال: خلقهم "أبرياء من التفاوت" وهي نعمة جسيمة، وكان من حق الشكر أن يخصوا من له هذه الصفة بالعبادة دون غيره، فلما عكسوا هذه القضية، وكفروا هذه النعمة بأن عبدوا ما هو على ضده، أي: لا تميز له أصلاً، استرد منهم تلك النعمة بأن أمروا بالقتل وفك ذلك التركيب الأنيق. ما أحسن هذا البيان! قوله: (والتنافر) عطف على "التفاوت" على سبيل البيان لما فسر أن معنى التفاوت عدم التناسب، فعدم التناسب هو التنافر، أو على "ترك عبادة العالم"، وفيه تنافر. قوله: (حتى عرضوا) غاية قوله: "من ترك عبادة العالم" أي: تركوا عبادة العالم الحكيم مائلين إلى عبادة البقر حتى أورثهم التعرض لسخط الله. قوله: (وغمطوها)، الأساس: غمط النعمة: احتقرها ولم يشكرها.

قيل: القائلون السبعون الذين صعقوا. وقيل قاله عشرة آلاف منهم (جَهْرَةً): عياناً، وهي مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، كأنّ الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها، وانتصابها على المصدر، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس، أو على الحال بمعنى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (السبعون الذين صعقوا) قال محيي السنة: إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار السبعين وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه، فقالوا: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فلما دنا موسى إلى الطور وقع عليه عمود الغمام، فضرب دونه الحجاب، وسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، فلما انكشف الغمام، فقالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة، فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم؟ فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم. قوله: (كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية) يعني: استعمال جهرة ها هنا على الاستعارة، لأنها مسبوقة بالتشبيه، أي: استعير الجهر للرؤية، وفائدتها كمال الرؤية بحيث لا يضام فيها. الأساس: جهر الشيء: إذا ظهر، وأجهرته أنا، وأجهر فلان ما في صدره، ورأيته جهرة، أيك عياناً، وجهر بكذا، أي: أعلنه، وقد جهر بكلامه وبقراءته: رفع بهما صوته. الراغب: الجهر: يقال لظهور الشيء بإفراط إما لحاسة البصر نحو: رأيته جهاراً، قال تعالى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55] ومنه: جهر البئر: إذا أظهر ماءها، وقيل: ما في القوم أحد يجهر عيني، والجوهر: فوعل منه، وهو ما إذا بطل بطل محموله، وسمي بذلك لظهوره للحاسة، وإما لحاسة السمع، قال تعالى: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ

ذوي جهرة. وقرئ «جهرة» بفتح الهاء، وهي إمّا مصدر كالغلبة. وإما جمع جاهر. وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادّهم القول وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال؛ وأن من استجاز على اللَّه الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام والأعراض، فرادّوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل، فسلط اللَّه عليهم الصعقة كما سلط على أولئك القتل تسوية بين الكفرين ودلالة على عظمهما بعظم المحنة. و(الصَّاعِقَةُ): ما صعقهم، أي: أماتهم. قيل: نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وقيل: صيحة جاءت من السماء. وقيل: أرسل اللَّه جنودا سمعوا بحسِّها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ الْقَوْلِ) [الأنبياء: 110] وقيل: كلام جهوري وجهير يقال لرفيع الصوت ولمن يجهر بحسنه. قوله: (وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادهم القول وعرفهم) قيل: الدليل تسليط الصعقة عليهم؛ لأنه لولا ذلك لما سلط عليهم الصعقة، لكونهم معذورين إذ لم يعلموا أنه تعالى ممتنع الرؤية، فثبت أن موسى عليه السلام عرفهم ذلك وهم رادوه. وقلت: الوجه الذي لا محيد عنه أن ذلك الدليل هو قولهم: لن نؤمن لك، لأن (لن) في النفي بمنزلة (أن) في الإثبات في كونهما يقعان في صدر الجملة الإنكارية كما سبق في قوله: كما تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، وإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً. وليس في الكلام أن من استجاز على الله الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام. نعم فيه إنكار مطلقاً، وأقصى ما يقال في ذلك أنه تعالى مما لا يجوز أن يرى في الجملة، وذلك لا يفيد عموم الأحوال والأوقات، وليس فيه ما يلزم منه تكفير القوم.

فخرُّوا صعقين ميتين يوما وليلة. وموسى عليه السلام، لم تكن صعقته موتاً ولكن غشية، بدليل قوله: (فلما أفاق) [الأعراف: 143]. والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). وقرأ علىّ رضى اللَّه عنه: (فأخذتكم الصاعقة). (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث بعد الموت، أو نعمة اللَّه بعد ما كفرتموها إذا رأيتم بأس اللَّه في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتشبيههم بعبدة العجل إن كان بسبب طلب الرؤية لا يصح، فإن موسى عليه السلام طلبها في المرة الأولى عند مجيئه إلى الطور، ولم يكن معه القوم كما بيناه في "الأعراف"، وإن كان للصعقة فهو كذلك، وإن كان بسبب قولهم: "لن نؤمن لك" فحق، وإنما سلط الله عليهم الصعقة لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد إظهاره المعجزات، والإيمان بالأنبياء واجب بعد إثباتهم النبوة بإظهار المعجزة، ولا يجوز لهم بعد ذلك اقتراح المعجزات؛ لأنه باب من التعنت، ولهذا عاقبهم الله تعالى. قوله: (لم تكن صعقته موتاً ولكن غشية بدليل قوله: (فَلَمَّا أَفَاقَ) [الأعراف: 143]) هذا يوهم أن صعقته كانت في هذه المرة بل صعقته وإفاقته في المرة الأولى كما بيناه في "الأعراف". قوله: ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث) وكون البعث نعمة ما ذكره الزجاج: بعثكم بعد الموت، وأعلمكم أن قدرته عليكم هذه، وأن الإقالة بعد الموت، أي: الإعادة لا شيء بعدها، أي: لا نعمة أظهر منها، وهي كالمضطرة إلى عبادة الله. قوله: (أو نعمة الله بعدما كفرتموها) والنعمة على هذا إيمانهم قبل [ما] رادهم موسى،

(وَظَلَّلْنا): وجعلنا الغمام تظلكم. وذلك في التيه، سخر اللَّه لهم السحاب تسير بسيرهم تظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى، وينزل عليهم الْمَنَّ -وهو الترنجبين- مثل الثلج. من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، ويبعث اللَّه الجنوب فتحشر عليهم السَّلْوى - وهي السمانى- فيذبح الرجل منها ما يكفيه. (كُلُوا) على إرادة القول. (وَما ظَلَمُونا) يعنى: فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة (وما ظلمونا) عليه. [(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)]. (الْقَرْيَةَ): بيت المقدس. وقيل أريحاء من قرى الشام، أُمِروا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقولهم: لن نؤمن لك، أي: فأخذتكم الصاعقة لعلكم تشكرون نعمة الإيمان فلا تعودوا إلى طلب ما لا يجوز. وقوله: "إذا رأيتم" ظرف تشكرون. قوله: (يعني فظلموا بأن كفروا) يريد أن "الواو" في (وَمَا ظَلَمُونَا) [البقرة: 53] تستدعي معطوفاً عليه هو مترتب على ما قبله، كقوله تعالى: (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) بعد قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً) [النملك 15] والفاء في "فظلموا" مجاز لغير مترتب، على أسلوب قولك: أنعمت عليه فكفر، أي: ليشكر، فكفر، وضعوا الكفر موضع الشكر فظلموا، ونحوه قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي شكر رزقكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]. وإنما قال: "فظلموا بأن كفروا هذه النعم" ولم يقل: فظلموا بأن لم يمتثلوا الأمر؛ لأنهم امتثلوا الأمر لكن ما عملوا بمقتضاه، أي: الشكر. قوله: (أريحاء)، النهاية: أريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء والحاء المهملة: اسم قرية بالغور قريباً من بيت المقدس.

بدخولها بعد التيه. الْبابَ: باب القرية. وقيل: هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها - وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام- أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً للَّه وتواضعاً. وقيل: السجود: أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين؛ ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل: طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فلم يخفضوها، ودخلوا متزحفين على أوراكهم. (حِطَّةٌ) فِعلة من الحط كالجِلسة والرِّكبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي مسألتنا حطة، أو أمرك حطة. والأصل النصب بمعنى: حطّ عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات، كقوله: صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (طؤطئ لهم الباب) أي: خفض وحط، الأساس: طأطأت يدي بعنان الفرس: إذا خفضت يدك ولم ترفعها. ومن المجاز: طأطأت المرأة سترها: حطته. قوله: ((حِطَّةٌ) فعلة من الحط) قال صاحب "الإقليد": فعلة في صرفها مذهبان: منهم من يعطيها حكم نفسها فيمنعهما من الصرف للعلمية والتأنيث، وهو مذهب المصنف ووجهه لما كانت علماً باعتبار الجنس بقيت على علميتها، وإن أطلق على واحد، كأسامة إذا أطلقت على واحد من الآساد، ومنهم من يعطيها حكم موزونها فيقول: وزن ناصرة: فاعلة بالتنوين؛ لأن باب "أسامة" في جريه علماً على كل واحد من المشكلات، لكونه في المعنى نكرة. قوله: (أو أمرك حطة) أي: شأنك حطة، أي: حط الذنوب. قوله: (صبر جميل فكلانا مبتلى) أوله: شكا إلي جملي طول السرى ... يا جملي ليس إلي المشتكى

والأصل: صبراً على اصبر صبراً. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب على الأصل. وقيل: معناه: أمرنا حِطة، أي: أن نحُط في هذه القرية ونستقرّ فيها. فإن قلتُ: هل يجوز أن تُنصب حطة في قراءة من نصبها بـ (قولوا)، على معنى: قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. والأجود أن تنصب بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر بـ (قولوا). وقرئ (يُغفر لكم) على البناء للمفعول بالياء والتاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: أمرنا حطة) قال الإمام: هذا قول أبي مسلم الأصفهاني معناه: أمرنا حطة، أي: نحط في هذه القرية ونستقر فيها، وزيف القاضي ذلك، قال: لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به، وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) [البقرة: 58] يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة. وقال الإمام: ويمكن الجواب عنه: بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع، كان الغفران متعلقاً به. وقلت: يشكل بقوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة: 59] ويمكن أن يقال: إن الأمر بذلك القول كان لمحض التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه بما اتجه لهم من الرأي، فعذبوا لذلك. قوله: (وقرئ "يغفر لكم") بالياء التحتانية: نافع، وبالتاء: ابن عامر.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي: من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا كانت له توبة ومغفرة. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: وضعوا مكان حطة (قَوْلًا) غيرها. يعنى: أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر اللَّه. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاؤوا بلفظ آخر. لأنهم لو جاؤوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به. كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل: قالوا مكان (حطة): حنطة ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي من كان محسناً منكم كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة) أخرج المعطوف والمعطوف عليه، وهما نغفر وسنزيد مع متعلقهما مخرج الشرط والجزاء؛ إعلاماً أن كلاً منهما جواب للأمر وهو قوله: "قولوا"، وإن كان الثاني غير مجزوم، وأن اللام في (المحسنين) للعهد، يدل عليه قوله: "من كان محسناً منكم". فظهر من هذا البيان أن في الكلام جمعاً مع التفريق، أما الجمع فإن قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ) جمع الفريقين: المسيء والمحسن معاً في هذا القول المخصوص، وأما التفريق فقوله: (نَغْفِرْ) (وَسَنَزِيدُ). فإن قلت: كيف يكون "وسنزيد" عطفاً على "نغفر" وهو مجزوم؟ أجاب القاضي: إنما أخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله، فكيف إذا فعله! وأنه تعالى يفعله لا محالة. قلت: أراد أن الاستزادة إذا كانت عن وعد الله كانت أقطع مما إذا كانت مسببة عن فعلهم. قوله: (وقيل: قالوا مكان (حِطَّةٌ): حنطة) هذا يشعر بأن القول الأول أقوى، وهو قوله: "ليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة" قال الزجاج: كأنه قيل لهم: قولوا:

وقيل: قالوا بالنبطية: (حِطًّا سُمَقَاثا) أي: حنطة حمراء، استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولا عن طلب ما عند اللَّه إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) زيادة في تقبيح أمرهم. وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. وقد جاء في سورة الأعراف: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) [الأعراف: 133] على الإضمار. والرجز: العذاب. وقرئ بضم الراء. وروي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً. وقيل: سبعون ألفاً .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ احطط عنا ذنوبنا حطة، فحرفوا هذا القول وقالوا لفظة غير التي أمروا بها. ولذلك سماهم ظالمين بقوله: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة: 59]. قوله: (بالنبطية)، النهاية: النبط والنبيط: جيل معروف، كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. ومنه قول ابن عباس: نحن قريش من النبط من أهل كوثى. قيل: إن إبراهيم عليه السلام ولد بها، وكان النبط سكانها. قوله: (وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: في وضع المظهر موضع المضمر إشعار بالعلية، وهي أن إنزال الرجز عليهم كان بسبب ظلمهم، ولذلك علله بقوله: "لظلمهم" فقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة: 58] داخل في حيز الصلة، وسبب للظلم لا الإنزال، فيكون إنزال العذاب مسبباً عن الظلم المسبب عن الفسق، كما قيل: إن صغائر الذنوب تؤدي إلى كبائرها. ونحوه قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 61]. وموقع "كان" في هذا المكان من مجازه؛ قال الراغب: "كان" ما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصف له: تنبيه على أن ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك، كقوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) [الإسراء: 67].

[(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)]. عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له: (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)، واللام إمّا للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه، وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عطشوا في التيه) شروع في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) [البقرة: 60]. اعلم أن قوله هذا بعد قوله "أمروا بدخولها بعد التيه" في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) [البقرة: 58] ثم قوله: "وذلك في التيه" في تفسير قوله تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ) [البقرة: 57] مؤذن بأن الآيات واردة على التقديم والتأخير، فيتجه لقائل أن يقول: ما بالها ما قصت على ترتيب الواقعة؟ والجواب عنه ما قاله المصنف في قوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَاتُمْ فِيهَا) [البقرة: 72]: كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم. فكذا ها هنا لو قصت متصلات مرتبات كانت كقصة واحدة، فالتفريق دل على أن القصد تعديد النعم، وتقريع لهم على كفرانها نعمة غب نعمة، فإنها وإن كانت قصة واحدة لكنها نعم متعددة، ومن ثم كرر فيها لفظة "إذ" أي: اذكروا وقت كذا نعمة كذا، وصرح في بعضها ذكر موسى عليه السلام، وأعاده مرة من بعد أخرى. قوله: (بالسقيا)، النهاية: السقيا بالضم: اسم من قولك: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم.

لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وكانوا ست مئة ألف، وسعة المعسكر اثني عشر ميلا. وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب، فدفعه إليه مع العصا. وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففرّ به، فقال له جبريل: يقول لك اللَّه تعالى: ارفع هذا الحجر، فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وإمّا للجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له: الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. وروي: أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه. وقيل: كان يضربه بعصاه فينفجر، ويضربه بها فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه مُتنا عطشا، فأوحي إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون. وقيل: كان من رخام وكان ذراعا في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان. وقيل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة) روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمح موسى بإثره يقول: ثوبي، حجر، ثوبي، حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: والله ما بموسى من أدرة" الحديث. وليس فيه أنه هذا الحجر. النهاية: الأدرة بالضم: النفخة بالخصية، يقال: رجل آدر. جمح في إثره، أي: أسرع إسراعاً لا يرده شيء.

كان من أسّ الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار. (فَانْفَجَرَتْ) الفاء متعلقة بمحذوف، أي فضرب فانفجرت. أو فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: (فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 54]، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. وقرئ: (عَشِرَة) بكسر الشين وبفتحها ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من أس الجنة) قيل في هذه الرواية إشكال؛ لأن هذا مذكور في وصف العصا في عامة التفاسير، وأن عصاه كان من آس الجنة بالمد، طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً، فلا أدري من أين عن له ذلك. قلت: لعله لما رأى قول المفسرين: اضرب بعصاك الحجر، وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً. واسمها عليق، حملها آدم عليه السلام من الجنة، فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى عليه السلام، قال مقاتل: اسم العصا نبعة. ذكرها بطولها محيي السنة. حسب أنهم وصفوا الحجر، فأخذ في وصفه بما وصفت العصا، ثم عن له أن الآس مصحف، والدليل أنه في وصف الحجر قوله: "وكان يحمل على حمار". قوله: (وهي على هذا فاء فصيحة) ظاهره يقتضي أن الفاء على التقدير الثاني فصيحة، وفي كلام صاحب "المفتاح" ما يشعر أن الفاء الفصيحة هي التي تقع في جزاء الشرط، ولهذا عرفت أنها هي الفاء التي دلت على محذوف غير شرط هو سبب عما بعد الفاء. فإذن الواجب حمله على الوجه الأول.

وهما لغتان (كُلُّ أُناسٍ): كل سبط، (مَشْرَبَهُمْ): عينهم التي يشربون منها (كُلُوا): على إرادة القول (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ): مما رزقكم من الطعام -وهو المنّ والسلوى- ومن ماء العيون. وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويُشرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويعضد هذا قوله: "لا تقع إلا في كلام بليغ" وفاء النتيجة يكثر وقوعها في الكلام العامي. ولا يبعد أن يقال: إن المراد من قوله: "على هذا" أي: على أنها محتملة لهذين المعنيين، ووجه تسميتها بالفصيحة كونها مختصة بكلام الفصحاء لقوله: "لا تقع إلا في كلام بليغ" بالحصر، ووجد في الحاشية المنسوبة إليه: "الفاء" في "فتاب" تسمى فصيحة يستدل بها على فصاحة المتكلم، يقال: كلام فصيح، وكلمة فصيحة، وصفت الفاء بها على الإسناد المجازي كما وصف القرآن في قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 58] بصفة من هو بسببه، لأن الحكيم هو المتكلم، وإنما اختصت بكلام البلغاء، لأن المراد بالحذف الدلالة على أن المأمور لم يتوقف عن إتباع الأمر، فكان المطلوب من المأمور الانفجار لا الضرب، ومثل هذا المعنى الدقيق لا يذهب إليه إلا الفصيح، ونحوه مذكور في "الأعراف". قوله: ((مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) مما رزقكم من الطعام- وهو المن والسلوى- ومن ماء العيون) يريد أن الرزق عام يطلق على جميع ما يختص بالعبد، يقال: رزق المال والولد والعلم وغير ذلك بحسب المقام، وخص ها هنا من المأكول بالمن والسلوى، ومن المشروب بالماء بقرينة قوله: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) [البقرة: 57] وقوله: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60] ويجوز أن يخصص بالماء بقرينة حديث الاستسقاء، وعلق عليه (كلوا) لأن الماء ينبت منه الزرع والثمار، وهو المراد بقوله: "فهو رزق يؤكل منه ويشرب" فعلى هذا من حق الكلام أن يقال: كلوا واشربوا منه، أي: من المشروب بدل من رزق الله، ولما كان الماء مما لا يؤكل فلو حمل على المأكول والمشروب معاً، لزم استعمال اللفظ في مفهوميه: حقيقته ومجازه، فبدل بالرزق ليشملهما، ولا يلزم المحذور، فحينئذ (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) ها هنا مظهر أقيم موضع المضمر من غير لفظه السابق. وهذا القول ضعيف؛ لأنه لو كان كذلك لما طلبوا ذلك بقولهم: (يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا

والعَثي: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه. [(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) 61]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُنْبِتُ الأَرْضُ) [البقرة: 61] ولا يلتئم أيضاً قولهم: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) إلا على أن يحمل (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) على المن والسلوى. قوله: (والعثي: أشد الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد) الفاء متعلق بمحذوف، المعنى: العثي أشد الفساد، لما أريد أن ينهى القوم عنه أكد الفعل المنهي بالحال فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم، لأن القوم كانوا متمادين فيه. فإن قلت: التقييد بالحال يوهم أن المنهي أشد الفساد لا الفساد مطلقاً. قلت: يختلف المعنى باختلاف المقام، فالقوم لما كانوا على التمادي في الفساد نهوا عما كانوا عليه، وتعليله بقوله: "لأنهم كانوا متمادين فيه" إشارة إلى هذا المعنى، ونحوه قوله تعالى: (لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران: 130] فالحال إذن مؤكدة ومن ثم قال في: "حال فسادكم" أي: الفساد الذي خص بكم، وهو التمادي فيه. نعم لو نهى من أراد ذلك الفساد يلزم من المفهوم أن لا يكون نفس الفساد منهياً، فالحال حينئذ منتقلة. وإليه ذهب القاضي حيث قال: إنما قيده، لأنه وإن غلب في الفساد، فقد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله،

كانوا فلاّحة فنزعوا إلى عِكرهم فأَجِموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء. (عَلى طَعامٍ واحِدٍ): أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا: (على طعام واحد)؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدّة يداوم عليها كل يوم لا يبدّلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا يراد بالوحدة نفى التبدّل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فلاحة أهل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة. وعليه قوله تعالى: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] لكن المقام ناب عنه؛ لأن الآية واردة في قوم مخصوصين. قال أبو البقاء: مفسدين حال مؤكدة؛ لأن قوله: (لا تَعْثَوْا) لا تفسدوا. قوله: (فنزعوا إلى عكرهم) أي: اشتاقوا إلى أصلهم. النهاية: وفي حديث قتادة: ثم عادوا إلى عكرهم، عكر السوء، أي: أصل مذهبهم الرديء، قيل: العكر: العادة والديدن. قوله: (فأجموا) أبو زيد: أجمت الطعام بالكسر إذا كرهته. قوله: (أنهما ضرب واحد) أي: يجمعهما كونهما من طعام أهل التلذذ. وهذا أخص من الأول؛ لأنه بالنسبة غليه نسبة النوع على الجنس؛ لأن المراد من الطعام على الأول ما يؤكل ولا يختلف، وعلى الثاني: النوع من الطعام وهو كونه من طعام أهل التلذذ، فالأول يعم الفقراء والأغنياء، والثاني يخص الأغنياء. قوله: (ونحن قوم فلاحة) أي: أهل زراعات، وهذا طعام المترفين وأهل التنعم، وهو لا يليق بنا، ولهذا عقب الله الإنكار بقوله: ادخلوا مصر، أي: ادخلوا فيما فيه سبب تعبكم ومشقتكم، واشتغلوا بالزراعة والفلاحة، فأنتم أهل لذلك.

زراعاتٍ فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك. ومعنى (يُخْرِجْ لَنا): يظهر لنا ويوجد. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكرّاث وأشباهها. وقرئ (وقُثائها) بالضم. والفوم: الحنطة. ومنه فوّموا لنا، أي: اخبزوا. وقيل الثوم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود: (وثومها) وهو للعدس والبصل أوفق. (الَّذِي هُوَ أَدْنى) الذي هو أقرب منزلة وأدون مقداراً. والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار. فيقال: هو داني المحل. وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك فيقال: هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو. وقرأ زهير الفرقبي: (أدنأ) بالهمزة من الدناءة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وضرينا)، النهاية: يقال: ضري بالشيء يضرى ضراوة فهو ضار، إذا اعتاده. قوله: (والفوم: الحنطة) قال الزجاج: لا اختلاف عند أهل اللغة أن الفوم: الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم، وقال بعضهم: يجوز أن يكون الفوم الثوم، وهذا لا يعرف، ولأن ها هنا ما يمنعه، وهو أن يطلب القوم طعاماً لا بر فيه، والبر أصل هذا كله. قوله: (وهو للعدس والبصل أوفق) أي: حمل الفوم على الثوم أوفق من الحنطة، لما أتبع بقوله: (وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) لأن العدس يطبخ بالثوم والبصل. قوله: (الفرقبي)، النهاية: الفرقبية والثرقبية: ثياب مصرية بيض من كتان. وروي بقافين منسوب إلى قرقوب مع حذف الواو في النسب، كسابري في سابوري.

(اهْبِطُوا مِصْراً) وقرئ: (اهبطوا)، بالضم: أي: انحدروا إليه من التيه. يقال: هَبط الواديَ. إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج. وبلاد التيه: ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ. ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث، لسكون وسطه كقوله: (ونوحا) [آل عمران: 33]، (ولوطا) [الأنعام: 86]. وفيهما العجمة والتعريف، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد، وأن يريد مصراً من الأمصار. وفي مصحف عبد اللَّه وقرأ به الأعمش: (اهبطوا مصرَ) بغير تنوين كقوله: (ادخلوا مصر) [يوسف: 99]. وقيل: هو مصرائيم فعرّب. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ): جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهم فيها) مبتدأ وخبر، والكاف في "كما" صفة مصدر محذوف، و (ما) مصدرية. أي: فهم مستقرون فيها استقرار من ضربت عليه القبة في القبة. قوله: (أو ألصقت) معطوف على "جعلت" أي: الاستعارة إما أن تكون في الذلة بأن شبهت الذلة بالقبة المضروبة على شيء شاملة له من كل جانب، ثم بولغ في التشبيه، فحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه، فأثبت لها الضرب على طريق التخييلية، فتكون استعارة مكنية، وإما أن تكون في الفعل، وهو ضربت، فاستعير لمعنى "ألصقت" على سبيل التبعية، فتكون مصرحة، فإذن لا تكون "ضربت" في الآية على باب قوله: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج كما ظن.

فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة. إما على الحقيقة، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية. (وَباءو بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) من قولك: باء فلان بفلان، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أي: صاروا أحقاء بغضبه. (ذلِكَ): إشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلة والمسكنة والخَلاقة بالغضب، أي: ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وقد قتلت اليهود - لعنوا - شعيا وزكريا ويحيى وغيرهم: فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم. وقرأ علىّ رضي اللَّه عنه: (ويقتّلون) بالتشديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الراغب: الضرب: إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد، والعصا، والسيف ونحوها، وضرب الدراهم اعتباراً بضربه بالمطرقة، وقيل له: الطبع اعتباراً بتأثير السكة فيه، وبذلك شبه السجية فقيل لها: الضريبة، والضرب في الأرض: الذهاب فيها، وهو ضربها بالأرجل، وضرب الخيمة بضرب أوتادها بالمطرقة، وتشبيهاً بضرب الخيمة قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [البقرة: 61] أي: التحفتهم الذلة التحاف الخيمة، ومنه قوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) [الكهف: 11] وضرب المثل وهو من ضرب الدراهم، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. والاضطراب كثرة الذهاب في الجهات من الضرب في الأرض. قوله: (ومدقعة)، الأساس: فقير مدقع ومدقع وقد أدقع ودقع: لصق بالدقعاء وهو التراب من شدة الفقر، وأدقعه الفقر.

(ذلِكَ): تكرار للإشارة. (بِما عَصَوْا) بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود اللَّه في كل شيء، مع كفرهم بآيات اللَّه وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم، لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)]. (إن الذين آمنوا) بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون (وَالَّذِينَ هادُوا): والذين تهوّدوا. يقال: هاد يهود. وتهوّد إذا دخل في اليهودية، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ذَلِكَ) تكرار للإشارة) كرر ليناط به ما لم ينط به أولاً، واعلم أن فيما سلكه من التفسير دقة نظر، وفضل تأمل؛ وذلك أنه لما جعل ذلك تكريراً، والمشار إليه ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة، جعل في كلامه الباء في قوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) بمعنى مع، وحين لم يجعل اسم الإشارة تكريراً جوز أن تكون الباء في (بِمَا عَصَوْا) سببية تارة، وبمعنى "مع" أخرى. والسبب في أن اسم الإشارة إذا جعل مكرراً يوجب اختصاص معنى المعية في الأول، والسببية في الثاني، هو أن مدخول الباء الثانية لا يخلو من أن يكون بدلاً من مدخول الباء الأولى بإعادة العامل، كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف: 75] أو كررت لاستقلال كل من السببين على نحو قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) [البقرة: 7]، والأول بعيد لتقاصر معنى الثاني عن الأول، ويلزم من الثاني توارد السببين المستقلين على مسبب واحد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما المعية فتقتضي اجتماع أشياء في معنى سبب واحد، كأنه قال: ضربت عليهم الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم واعتدائهم المنضم معهما الكفر وقتل الأنبياء، ثم أقحم ذلك تأكيداً للأول، ولا كذلك إذا لم يكن تكراراً؛ لأن المشار إليه بذلك الأول هو ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب. وبالثاني كفرهم بآيات الله وقتل الأنبياء، ثم الباء إن كانت سببية يكون ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب مسبباً عن الكفر والقتل، وهما مسببان عن العصيان والاعتداء على وجه الترقي، فإن صغائر الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبائرها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، وإذا كانت بمعنى "مع" لا يكون كذلك. فإن قلت: لم جعل الباء في (بِمَا عَصَوْا) سببية، وقدمه، وفي التنزيل مؤخر، وفي (بِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ) بمعنى "مع" في الوجه الأول، وعكس في ثاني الوجهين من الثاني. قلت: لأن تقديم العصيان والاعتداء على وجه الترقي الكفر والقتل في الأول أولى من تأخيرهما، وإن كن تعليلاً واحداً للترتيب في الوجود، وتأخيرهما في الثاني أحرى لإرادة تكرير الكفر والقتل تشديداً عليهم، على أن لفظة "ذلك" على الأول لا تمنع من التقديم والتأخير، لكونها مزيدة مؤكدة، وعلى الثاني مانعة؛ لكونها مشيرة إلى الكفر والقتل، كأنه قيل: ضربت عليهم الذلة والمسكنة؛ لأنهم كفروا وقتلوا، وأنهم ما اكتفوا بهما، بل ضموا إليهما العصيان والاعتداء. وهو ينظر إلى قولها:

وهو هائدٌ، والجمع هود. (وَالنَّصارى) وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، قال: ... نصرانة لم تحنف. والياء في نصرانىّ للمبالغة كالتي في أحمرىّ. سموا لأنهم نصروا المسيح. وَالصَّابِئِينَ وهو من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة مَنْ آمَنَ من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام دخولا أصيلا وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنه علم في رأسه نار انظر إلى هذه الرموز الدقيقة مع الإيجاز. قوله: ((وَالنَّصَارَى) وهم جمع نصران) أي: وهو جمع نصران بدليل (وَالصَّابِئِينَ)، وهو من صبأ. وفي نسخة: "هو" بدل "هم". قوله: (نصرانة لم تحنف) أنشد الزجاج أوله: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف أسجد رأسها، أي: طأطأ، تحنف الرجل: إذا أسلم، أي: عمِل عملَ الحنيفية، والضمير في "رأسها" راجع إلى لفظ "كلتاهما" وأنث لتأنيثها. قوله: ((مَنْ آمَنَ) من هؤلاء الكفرة) جمع المنافقين واليهود والنصارى والصابئين في

فإن قلت: ما محل (من آمن)؟ قلت: الرفع إن جعلته مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والنصب إن جعلته بدلا من اسم إنّ والمعطوف عليه. فخبر إنّ في الوجه الأول الجملة كما هي وفي الثاني فلهم أجرهم. والفاء لتضمن «من» معنى الشرط. [(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ* فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)]. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) بالعمل على ما في التوراة. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "الكفرة" لأن الكفر يشملهم، وهذا العام بعد الكلام في قوم مخصوصين دليل على أن الكلام فيه استطراد، وما هو قبله من قوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ) مستطرد أيضاً، بيان ذلك: أنه تعالى لما حكى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم عليهم، جاء بقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) استطراداً حاكياً سوء صنيعهم بالأنبياء، وكفرهم واعتدائهم، يعني أنهم قوم بهت معكوسو الرأي في سائر الأمور، وليس هذا ببدع منهم، ألا ترى إلى أنه تعالى كيف ضرب عليهم الذلة والمسكنة، وغضب عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء، وعصيانهم بعد أخذ الميثاق، ورفع الطور وغير ذلك! فإنهم لما غلوا في التمادي في الطغيان أبدل الله مكان عزهم الذلة والمسكنة، ثم أراد الله أن يبين للعباد عظيم رحمته، وشمول كرمه ورأفته، فعم الكفرة، يعني ما بال هؤلاء إذا رجعوا إلى الله تعالى وتابوا وآمنوا بنبي الرحمة! بل غيرهم ممن هو أشد منهم كفراً، إذا دخلوا في ملة الإسلام دخولاً أصيلاً، وعملوا صالحاً، فلهم أجرهم، والدليل على الاستطراد العود إلى خطاب اليهود بقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا) الآية [البقرة: 63].

من الآصار والتكاليف الشاقة، فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا أُلقى عليكم، حتى قبلوا. خُذُوا على إرادة القول. (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بحدّ وعزيمة (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيقكم للتوبة لخسرتم. وقرئ: (خذوا ما آتيتكم) و (تذكروا)، و (اذّكروا). و (السَّبْتِ): مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وإن ناساً منهم اعتدوا فيه أى جاوزوا ما حدّ لهم فيه من التجرّد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن اللَّه ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى قبلوا) فيه لطيفة، وهي: أن تظليل الطور ومقالة موسى معهم امتد زماناً حتى قبلوا، وعلى عكسه قوله: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ) [البقرة: 60]. قوله: (واذكروا إرادة أن تتقوا) قال القاضي: هذا عند المعتزلة، أي: قلنا: خذوا وذاكروا إرادة أن تتقوا. وقلت: والحاصل أن "لعلكم" إن جعل تعليلاً لقوله: خذوا وذاكروا، كان على حقيقته، لأنه راجع إليهم، وإذا علق بـ "قلنا" المقدر كان تعليلاً لفعل الله تعالى، فيجب تأويله بالإرادة على مذهبه. قوله: (فما كان يبقى حوت) "كان" زائدة كما في قوله: وجيران لنا كانوا كرام

فإذا مضى تفرّقت، كما قال: (تَاتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) [الأعراف: 163]، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم: قِرَدَةً خاسِئِينَ خبر ان أى كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصغار والطرد فَجَعَلْناها يمنى المسخة (نَكالًا) عبرة تنكل من اعتبر بها أي: تمنعه، ومنه: النكل: القيد. (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لما قبلها وَما خَلْفَها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين: أو أريد بما بين يديها: ما بحضرتها من القرى والأمم. وقبل نكالاً: عقوبة منكلة (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((شُرَّعاً)) أي: ظاهرة على وجه الماء، يقال: شرع علينا فلان: إذا دنا منا وأشرف علينا. قوله: ((قِرَدَةً خَاسِئِينَ) خبران) أي: (خَاسِئِينَ) خبر بعد خبر، إذ لو لم يكن لكان وصفاً لقردة، فالواجب خاسئة، أو حالاً من اسم "كان" على بعد. قوله: (ما بحضرتها من القرى والأمم) ترك معنى "وما خلفها" في هذا الوجه لظهورها، أيك القرى التي ليست بحضرتها، فـ "ما" على الوجه الأول والثاني في "ما قبلها" و"ما خلفها" بمعنى "من" لقوله: "من الأمم" لاعتبار وصف المعتبرين تعظيماً، لأن (ما) إذا وضع موضع "من" كقوله: سبحان ما سخركن لنا، تعتبر الوصفية فيه بحسب المقام.

لأجل ما تقدّمها من ذنوبهم وما تأخر منها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متق سمعها. [(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ* قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَاتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) 67 - 73]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الوجه الثاني: "ما" بمعنى ذوي العقول وغيرهم، وهو أبلغ من الأول لما انضم مع اعتبار الأمم اعتبار الآثار والأطلال. ومجاز نسبة الاعتبار إلى القرى راجع إلى الأهل، كأنه قيل: جعلنا خراب القرى ومسخة أهاليها عبرة تمنع من اعتبر في خراب القرى وإهلاك أهاليها من ارتكاب ما ارتكبوه من العدوان. وعلى الوجه الثالث- وهو أن يراد بالنكال العقوبة لا العبرة- "ما" الأولى على ظاهرها، والثانية بمعنى "من" لأن المسخة الحاضرة يصح جعلها نكالاً، أي: عذاباً بسبب الجناية الماضية، لكن لا يصح جعلها نكالاً لما بعدها من الجناية التي لم توجد، ولهذا قال الواحدي: إن "ما" الثانية بمعنى "من" أي: نكالا ًلمن بعدهم من بني إسرائيل؛ يعني إذا رضوا بها، كقوله: (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران: 112] وفي "الكواشي": أي: ما عملت من الجناية التي قبل المسخ، ولما عملت وقت المسخ، فالضمير المجرور في "خلفها" عائد إلى "ما" في

كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته، فأمرهم اللَّه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوءًا بنا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) التي هي عبارة عن الجناية لا إلى المسخة. وتأويل ما ذهب إليه المصنف أقرب إلى أن يجعل الضمير في "خلفها" راجعاً إلى المسخة، أي: جعلناها منكلة لما بين يديها، أي: لأجل ما تقدمها من ذنوبهم، ولأجل اعتبار من تأخر من تلك المسخة. وحاصل كلام المصنف: أن "ما" في "ما قبلها" إما أن تجرى على العموم أو لا، والثاني: إما أن تجرى على ذوي العقول أو على وصفهم، فالوجه الأول محمول على الثاني لإيقاع قوله: "من الأمم والقرون" بياناً له، والثاني على الأول بجعله "من الأمم والقرى" بياناً لـ "ما بحضرتها" والثالث على الثالث لما بين ما بقوله: "من ذنوبهم". قوله: (فقتل ابنه بنو أخيه) قال المعزي: الصواب: فقتله بنو عمه، لقوله في آخر القصة: ولم يورث قاتل بعد ذلك؛ لأن المورث الأب لا ابنه المقتول، ولأن قاتل الابن لا يمنع الإرث من الأب بلا خلاف، وقيل في العذر: فقتل ابنه بنو أخيه بعد موت الشيخ، وفيه تعسف على أن المفسرين مثل محيي السنة، والواحدي وصاحب "المطلع": رووا أنه كان في بني إسرائيل رجل غني له ابن عمر فقير لا وارث له فلما طال عليه موته قتله ليرثه. قوله: (مكان هزء) أي: هزء مصدر لا يصلح أن يقع مفعولاً ثانياً لأنه على تأويل خبر المبتدأ فيقدر المضاف، فهو إما على مكان هزء، أو أهل هزء، أو يجعل الهزء بمعنى المهزوء به؛ تسمية المفعول به بالمصدر، كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة: 96] أي: مصيده،

أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء مِنَ الْجاهِلِينَ لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو تجعل الذات نفس المعنى، نحو رجل عدل، ويرجع معنى "مكان هزو" كناية إلى المبالغة فيه. قوله: (لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه)، أي: هذا المقام لا يصلح للاستهزاء، فإنه مقام الإرشاد وتبيين الأحكام، وتعيين الإبهام، فالاستهزاء فيه يعد من السفه. ويعلم منه أن الهزء إذا وقع في موقعه نحو قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21] ليزيد غيظ المستهزأ به، فيرتدع عما هو عليه، عين العلم والإرشاد. فوضع الجاهل موضع الهازئ للدلالة على أن الهازئ جاهل، وفسر الجهل بالسفه، ليؤذن أن العالم حليم. قال الزجاج: فانتفى موسى عليه السلام من الهزء، لأن الهازئ جاهل لاعب. قال القاضي: نفى عليه السلام عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان، وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة. وقلت: عنى بقوله: "طريقة البرهان" طريقة الكناية حيث نفى عن نفسه أن يكون داخلاً في زمرة الجاهلين، وواحداً منهم، وتمم المبالغة بالاستعاذة، أي: إن الهزء في مقام الإرشاد كاد أن يكون كفراً، فصحت الاستعاذة منه، فالمطابقة بين جواب موسى عليه السلام وبين كلامهم من حيث المعنى. قال الراغب: الجهل على ثلاثة أضرب: الأول: خلو النفس من العلم، هذا هو الأصل، والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل،

وقرئ «هزؤا» بضمتين. «وهزءاً» بسكون الزاي نحو (كفؤا) و (كفئا)، وقرأ حفص: (هزوا) بالضمتين والواو وكذلك «كفوا» [الإخلاص: 4]. والعياذ واللياذ من واد واحد. في قراءة عبد اللَّه: (سل لنا ربك ما هي) سؤال عن حالها وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا، فسألوا عن صفة تلك البقرة المجيبة الشأن الخارجة عما عليه البقر. والفارض: المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض. قال خفاف بن ندبة: ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً، كمن ترك الصلاة متعمداً، وعلى ذلك قوله تعالى: (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) فجعل فعل الهزء جهلاً، وقال عز وجل: (فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]. قوله: (قرئ: هزؤاً، بضمتين) الجماعة سوى حمزة، فإنه قرأ بالسكون. قوله: (أنهم تعجبوا من بقرة ميتة) يعني ما هي؟ يسأل به عن الجنس وحقيقة الشيء، وحقيقة البقرة غير مسئول عنها؛ لأن الضمير راجع إلى البقرة المذكورة، وهي بقرة فذة مبهمة، فامتنع السؤال بما عن حقيقتها، فرجع إلى صفاتها، ثم إلى أقربها من الحقيقة وما بها تمتاز الحقيقة عن الحقائق وعن سائر أنواعها، كأنها صارت حقيقة أخرى، على منوال قوله:

لَعَمْري لَقَدْ أَعْطَيْتُ ضَيْفَكَ فَارِضاً ... تُسَاقُ إلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ وكأنها سميت فارضا؛ لأنها فرضت سنها، أي: قطعتها، وبلغت آخرها. والبكر: الفتية. والعوان النصف. قال: نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال ألا ترى أنهم لما سمعوا بقوله: (لا شِيَةَ فِيهَا) [البقرة: 71] أمسكوا عن السؤال وقالوا: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) [البقرة: 71] وإليه الإشارة بقوله: "الخارجة عما عليه البقر"، قال الزجاج: إنما سألوا ما هي؛ لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت. وقال القاضي: ما هي، أي: ما حالها وصفتها؟ وكان حقهم أن يقولوا: أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ لأن "ما" يسأل به عن الجنس غالباً، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله. قوله: (لعمري لقد أعطيت) البيت، يصف مضيفاً. قوله: (ما تقوم على رجل) أي: ما كانت تقدر القيام لشدة هزالها. قوله: (نواعم بين أبكار وعون) للطرماح، قبله قوله:

وقد عوّنت. فإن قلت: (بين) يقتضى شيئين فصاعداً، فمن أين جاز دخوله على (ذلك)؟ قلت: لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قلت: كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدّم، للاختصار في الكلام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ظعائن كنت أعهدهن قدماً ... وهن لذي الأمانة غير خون طوال متل أعناق الهوادي ... نواعم بين أبكار وعون حسان مواضع النقب الأعالي ... غراث الوشح صامتة البرين متل أعناق الهوادي، أي: طويلة العنق، غراث الوشح كناية عن دقة خصرها، كما أن صامتة البرين كناية عن غلظ ساقها، والبرين: الخلخال. قوله: (وقد عونت) أي: صارت عواناً. قوله: (لأنه في معنى شيئين) قال القاضي: ذلك إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبكر، فلذلك أضيف إليه "بين"، فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد. قال السجاوندي: وعندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله. تقول: سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك، فالمشار إليه عوان. وهذا أولى لئلا يفوت معنى (بَيْنَ ذَلِكَ) لأن "عوان" هي النصف كما قال. وقال الجوهري: العوان هو النصف في سنها من كل شيء، والجمع عون، وبقرة عوان: لا فارض ولا بكر. وفائدة قوله: "عوان" بعد ما نفى أن تكون بكراً أو أن تكون فارضاً، هو أنه احتمل أن تكون عجلاً أو جنيناً، فقال: عوان، لإزالة اللبس ونفي الاحتمال.

كما جعلوا «فعل» نائباً عن أفعال جمة تذكر قبله: تقول للرجل: نعم ما فعلت، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة، كما تقول له: ما أحسن ذلك! وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. قال أبو عبيدة قلت لرؤبة في قوله: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِى الْجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما. فقال: أردت كأن ذاك، ويلك! والذي حسن منه أنّ أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة وكذلك الموصولات. ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما جعلوا "فعل" نائباً عن أفعال جمة) أي: كما أن الفعل الواحد يجعل كناية عن أفعال شتى، وكيفيات متعددة، كما سبق في قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [البقرة: 24] كذلك يجعل اسم الإشارة كناية عن المذكور، ثم يتفرع على اسم الإشارة الضمير بأن يجعل كناية عن المذكورات توسعة في الكلام كما في شعر رؤبة. قوله: (فيها خطوط) الضمير للبقرة. و"التوليع": اختلاف الألوان، و"البهق": بياض وسواد يظهر في الجلد. قوله: (ويلك) أي: هذا سهل لا يسأل. قوله: (ليست على الحقيقة) قيل: لأنها ليست على شاكلتها في أسماء الأجناس، ألا ترى أن "ذا" موضوع للمفرد المذكر، و"الذي" في الموصول كذلك، و"اللذان" موضوع للمثنى، وليست تثنية "الذي"، و"الذين" هكذا موضوع للجمع.

(ما تُؤْمَرُونَ) أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به من قوله أمرتك الخير أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول به بالمصدر، كضرب الأمير. الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه. يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال أسود حالك وحانك، وأبيض يقق ولهق. وأحمر قانى وذريخى. وأخضر ناضر ومدهامّ. وأورق خطبانىّ وأزمك ردانىّ. فإن قلت: فاقع هاهنا واقع خبراً عن اللون، فلم يقع توكيداً لصفراء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمرتك الخير) تمامه: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب قيل: قائله عباس بن مرداس، وقيل: خفاف بن ندبة، أي: أمرتك بالخير بدليل قوله: فافعل ما أمرت به، ولأن الأمر لا يستعمل إلا بالباء. "ذا مال" أي: ذا إبل وماشية. والنشب: المال الأصيل، وهو اسم يجمع الصامت والناطق. حذف من الآية الجار إيجازاً وأمناً من الإلباس، وأوصل الفعل ثم حذف الضمير. قوله: (وأنصعه) الناصع: الخالص من كل شيء، ويقال: أبيض ناصع، وأصفر ناصع، وأصفر وارس، الورس: نبت أصفر تتخذ منه الغمرة للوجه، تقول منه: أورس الرمث، أي: اصفر ورقه، فهو وارس. والرمث: بالكسر مرعى من مراعي الإبل، وهو من الحمض. "أسود حالك" حلك الشيء يحلك حلوكة: اشتد سواده. وأسود حالك وحانك بمعنى. "وأبيض يقق"، أي: شديد البياض، واللهق بالتحريك: الأبيض، وشيء لهق إذا كان شديد البياض. "وأحمر قانئ"، قنأ الرجل لحيته بالخضاب، وقد قنأت هي من الخضاب إذا اشتدت حمرتها.

قلت: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع توكيداً لصفراء، إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها. فإن قلت: فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأنّ اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جدّ جدّه، وجنونك مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. وعن على رضى اللَّه عنه: «من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تعالى: "تسرّ الناظرين» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ومدهام" ادهام الشيء: إذا اسود، قال تعالى: (مُدْهَامَّتَانِ) [الرحمن: 64] أي: سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر: أسود. "وأورق" من الحمام والإبل الذي له لون الرماد. و"خطباني" منسوب إلى الخطبان: وهو الحنظل إذا صارت فيه خطوط خضر. والرمكة من الإبل الذي اشتدت كمتته حتى يدخلها السواد، يقال: جمل أرمك. والرادن: الزعفران: يقال للشيء إذا خالط حمرته صفرة: أحمر رادني وناقة رادنية. قوله: (فلم يكن فرق بين: صفراء فاقعة، وصفراء فاقع لونها) أي: في كونهما مؤكدين للصفراء، وإلا فالثاني أوكد كما ذكر. قوله: (من قولك: جد جده) أي: من باب الإسناد المجازي. قال تأبط شراً: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

وعن الحسن البصري (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) سوداء شديدة السواد. ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها تعلوه صفرة. وبه فسر قوله تعالى: (جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات: 33]، قال الأعشى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المرزوقي: جد جده إذا ازداد جده جداً. ونحوه قولك: حتى استدق نحولها، أي: ازداد دقتها دقة، "وجنونك مجنون" من قوله: جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون قوله: (سوداء شديدة السواد) قال صاحب "المطلع": فيه نظر؛ لأن قوله: (فَاقِعٌ لَوْنُهَا) يرده. وقال القاضي: لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع. والجواب ما جاء عن الزجاج: فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قال بعضهم: صفراء ها هنا سوداء. قلت: لأن صفراء إذا أكد بالفقوع يدل على خلوص الصفرة فيها، ثم إذا روعي معنى الإسناد المجازي معها دل على أن المراد بذلك التأكيد المبالغة في الصفرة لا الخلوص فيها، فدلت هاتان المبالغتان على أنها بلغت الغاية في بابها، وكل لون إذا قوي واشتد أخذ بالعين كالسواد، ولهذا وصفت الخضرة إذا قويت بالإدهام. قوله: (ولعله مستعار) لأن الأصل في استعمال الأصفر وإرادة الأسود في الجمل، فنقل إلى البقر.

تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِى ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ (ما هِيَ) مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستشكاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شدّدوا فشدّد اللَّه عليهم» والاستقصاء شؤم. وعن بعض الخلفاء أنه كتب إلى عامله بأن يذهب إلى قوم فيقطع أشجارهم ويهدم دورهم، فكتب إليه: بأيهما أبداً؟ فقال: إن قلت لك بقطع الشجر سألتنى: بأى نوع منها أبدأ؟ وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتنى: أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني. وفي الحديث «أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تلك خيلي) البيت، يقول: خيلي وإبلي سود وأولادها سود. قوله: (لو اعترضوا أدنى بقرة)، الجوهري: عن محمد ابن الحنفية: كل الجبن عرضاً. قال الأصمعي: يعني اعترضه واشتره ممن وجدته، ولا تسأل عمن عمله، أمن عمل أهل الكتاب أم من عمل المجوس. قوله: (وفي الحديث: أعظم الناس جرماً) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن

(إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا): أي: إنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح. وقرئ: تشابه، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين. وتشابهت ومتشابهة ومتشابه. وقرأ محمد ذو الشامة: إن الباقر يشابه، بالياء والتشديد. جاء في الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» أى: لو لم يقولوا إن شاء اللَّه. والمعنى: إنا لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل (لا ذَلُولٌ): صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته". قيل: ظاهر الحديث دل على أن اقتراح السؤال على الأنبياء غير جائز؛ لأنهم مأمورون بالتبليغ، وبيان ما يجب كشفه، ولا يقصرون في ذلك، فمن سألهم عن شيء من ذلك فكأنه ينسبهم إلى التقصير، فهو جريمة من السائل، فقد يعاقبه الله تعالى بما هو مناسب لجريمته، وذلك بأن يحرم عليه المسئول عنه، فإذا حرم عليه يسري ذلك التحريم إلى جميع المكلفين لعموم حكم الشرع، فيكون هو سبباً لتحريم ذلك على الناس، فيعظم جرمه. يؤيد هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". قوله: (وقرأ محمد ذو الشامة) قيل: هو محمد الباقر. قال صاحب "الجامع": هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وسمي الباقر؛ لأنه تبقر في العلم، أي:

ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى الحروث، و «لا» الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توسع. وفيه نكتة لطيفة حيث عدل من الباقر إلى "ذو الشامة" لدفع إيهام أن قراءته موافقة للبقية. الجوهري: الباقر: جماعة بقر مع رعاتها وهي موافقة للقراءة المشهورة (إِنَّ الْبَقَرَ) من حيث الشمول، لأن جنس، أي: اشتبه علينا تلك البقرة الخارجة من جنس البقر الداخلة في جنس آخر، وذلك البيان قاصر غير واف لعموم التناول، ألا ترى حين سمعوا بقوله: (مسلمة) أي: معفاة سلمها أهلها من العمل والركوب والذبح وغير ذلك مما يتعاناه أرباب البقر، قالوا: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) [البقرة: 71]! وأن هذا الوصف بعد الأوصاف السابقة يخرجها مما عليه البقر المتعارف، وإنما فسرت (مسلمة) بما ذكر؛ لأنها مطلقة، فيتناول جميع ما يدخل في المعنى، فعلى هذا هي تتميم لمعنى قوله: (لا ذَلُولٌ) إلى آخره، وقوله: (لا شِيَةَ) تتميم لقوله: (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا). وهذا التقرير يوضح أن سؤالهم الأول بقولهم: "ما هي" كان عن الجنس كما مر، وأن تماديهم ومراجعتهم في السؤال كان تكشفاً لحقيقة البقرة المعينة المخصوصة. قوله: (النواضح) جمع الناضحة. والناضح: البعير الذي يستقى عليه، وهي السانية أيضاً. قوله: (لأن المعنى: لا ذلول تثير [الأرض] وتسقي) قال الزجاج: معناه: ليست بذلول ولا بمثيرة للأرض ولا تسقي الحرث.

على أنّ الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: (لا ذلول)، بمعنى لا ذلول هناك: أى حيث هي، وهو نفى لذلها ولأن توصف به فيقال: هي ذلول. ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان. أى فيهم، أو حيث هم. وقرئ تسقى بضم التاء من أسقى (مُسَلَّمَةٌ) سلمها اللَّه من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منها، كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: هذا التفسير على أسلوب قوله: على لا حب لا يهتدى بمناره نفياً للأصل والفرع، وانتفاء الملزوم بانتفاء لازمه. قوله: (وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي) في "جامع الأصول": هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي الكوفي، وهو أحد أعلام التابعين وثقاتهم، صحب علياً وسمع منه. قوله: (وهو نفي لذلها ولأن توصف به) وهو عطف تفسيري، أي: الذلول الذي هو ضد الصعب، لو كان في مكان البقرة كانت البقرة موصوفة به ضرورة؛ لأن الصفة تقتضي موصوفاً، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به، فهو من باب الكناية نحو قولهم: مجلس فلان مظنة الجود والكرم. قوله: (من أسقى) قيل: سقى وأسقى بمعنى واحد. قال لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال

أَوْ مَعْبَرَ الظَّهْرِ يُنْبِى عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبُهُ فِى الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا أو مخلصة اللون، من سلم له كذا إذا خلص له، لم يشب صفرتها شيء من الألوان (لا شِيَةَ فِيها): لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لونا آخر، ومنه ثور موشى القوائم (جِئْتَ بِالْحَقِّ) أى بحقيقة وصف البقرة، وما بقي إشكال في أمرها. (فَذَبَحُوها) أي: فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها. وقوله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) استثقال لاستقصائهم واستبطاءٌ لهم، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو معبر الظهر) البيت (ربه) باختلاس الحركة من الهاء ليستقيم الوزن. استشهد به سيبويه لذلك ضرورة. والمعبر من الإبل: الذي يترك وبره لا يجز سنتين ليتوفر. و"ينبي" من: نبا الشيء عنه ينبو، أي: تجافى وتباعد. عن وليته: أي: برذعته، سميت بذلك، لأنها تلي الجلد، والجمع الولايا. أراد ينبي وليته فزاد "عن" وإذا كثر الوبر على سنامه نبت وليته وارتفعت. وما حج ربه: أي: صاحبه ما قصد سفر الحج حتى يحتاج إلى جز وبره. قوله: (لا لمعة في نقبتها) أي: لونها. قال ذو الرمة: ولاح أزهر مشهور بنقبته ... كأنه حين يعلو عاقراً لهب قوله: ((بِالْحَقِّ) أي: بحقيقة وصف البقرة) أي: لم يتضمن قولهم: "بالحق" أن ما جئت به من قبل كان باطلاً، وإنما أرادوا الآن جئت بما تحققنا المراد منها.

وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها، وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وروى أنه كان في بنى إسرائيل شيخ صالح له عجِلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إنى أستودعكها لابنى حتى يكبر، وكان براً بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. فإن قلت: كانت البقرة التي تناولها الأمر بقرة من شق البقر غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة، فما فعل الأمر الأوّل؟ قلت: رجع منسوخا لانتقال الحكم إلى البقرة المخصوصة، والنسخ قبل الفعل جائز. على أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما كاد ينقطع خيط إسهابهم) خيط إسهابهم استعارة، وينقطع ترشيح لها. قال القاضي: "كاد" من أفعال المقاربة، وضع لدنو الخبر حصولاً، وإذا دخل عليه النفي فالصحيح أنه كسائر الأفعال، ولا ينافي قوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة: 71] قوله: (فَذَبَحُوهَا) لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى ما قاربوا أن يفعلوا حتى انقطعت سؤالاتهم، وانتهت تعللاتهم، ففعلوا كالمضطر الملجأ. قلت: يدفعه فاء الفصيحة كما سيجيء. قوله: (وكان براً بوالديه) والظاهر أن الابن بر بوالديه. قوله: (من شق البقر)، الأساس: خذ من شق الثياب: من عرضها ولا تختر. قوله: (على أن الخطاب) أي: أقول: إن الأمر الأول رجع منسوخاً مع جواز القول بأن الأمر الأول ثابت، وقضية النسخ المخالفة بين الناسخ والمنسوخ.

كما تناول غيرها. ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له، فكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم (فَادَّارَاتُمْ) فاختلفتم واختصمتم في شأنها، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الفرق بين الوجهين هو: أنه لما نظر إلى نفس الحكم، وأنه ورد على السعة والتخيير، ثم انقلب إلى التعيين، جعل الثاني ناسخاً، ولما اعتبر اللفظ وإبهامه، أي: إطلاقه وشيوعه في جنسه، جعله كالعام المتناول لهذه البقرة الموصوفة ولغيرها ثم خصصه، والمخصص إذا تأخر عن العام لا يكون ناسخاً بالاتفاق. وإنما قلنا: كالعام لأن اسم الجنس إذا كان معرفاً باللام، أو بالإضافة، أو كان نكرة في سياق النفي، يفيد العموم، وهذه ليست كذلك. ونقل عن أبي منصور الماتريدي رحمه الله أنه قال: الأمر بالذبح في الابتداء على مآل الأمر، ولكنهم أمروا بالسؤال عنها، والبحث عن أحوالها؛ ليصلوا إلى ما هو المراد بالأمر، لا أنه تعالى أحدث لهم ذلك بالسؤال الذي ذكروا. وقال القاضي: عود الكنايات في قوله تعالى: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) [البقرة: 68] وإجراء تلك الصفات يدل على أن المراد بها معينة، ويلزمه تأخير البيان، ومن أنكر ذلك زعم أن المراد بها بقرة من شق البقر غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم، ويلزمه النسخ قبل الفعل، فإن التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنص، والحق جوازهما، ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ، وتقريعهم بالتمادي، وزجرهم على المراجعة بقوله: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) [البقرة: 68].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: المعنى يساعد القول بأن هذه القضية كانت من باب الحكم عقيب العلم بصفة المحكوم عليه عند القائل، كما تقتضيه قصة الشيخ، واستيداعه البقرة عند الله، وإن عارضه الحديث الضعيف: "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم"؛ لأن عود الكنايات كما قال القاضي، لاسيما مراراً ثلاثاً، وبناء اسم البقرة على المسند إليه بعد الوصف، مبني على أن الجواب عن البيان، كأنه قيل: المأمور بذبحها هذه البقرة الموصوفة، لما تقرر في علم البيان أن في إيقاع الخبر نفس المبتدأ إيذاناً بأن القصد في الكلام نفس المبتدأ، وأن الخبر لتعيينه، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا، فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن، الخارجة عما عليه البقر، فأعيدت في الجواب وبني عليها الوصف، وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو منصور: أمروا بالسؤال عنها والبحث عن أحوالها؛ ليصلوا إلى ما هو المراد من الأمر. وقد سبق أن معنى الجنس في قراءة العامة (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [البقرة: 70] وقراءة ذي الشامة "إن الباقر" دل على أن الأسئلة صدرت عن تكشف حال البقرة، وعند الكشف التام (قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ). وأيضاً إن الفاء في قوله: (فَذَبَحُوهَا) كما قدرها المصنف- فصيحة- آذنت بأنهم سارعوا في الذبح ولم يتوقف امتثالهم أمر الله عند التمييز التام لمحة كما نص عليه في الأعراف عند قوله: (أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ) [الأعراف: 160]. فإن قلت: هذا معارض بقوله: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) وقوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لما دل ذلك على تثاقلهم وتثبطهم في الامتثال.

لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً، أى يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح. أو لأنّ الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة واتهمه (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) مظهر لا محالة ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وجه الجمع أن يقال: سارعوا في امتثال أمر الله عند ظهور الحق، والحال أن بشريتهم، وهي خوف الفضيحة، دعت إلى أن يمتنعوا من ذلك، وتلخيصه: رجحوا جانب الله على جانبهم. ووجه آخر: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) قبل تبين الحال، فاختلف الجهتان على التقديرين. قوله: (لأن المتخاصمين يدرأ) تعليل لوجه الكناية في قوله: (فَادَّارَاتُمْ) [البقرة: 72] بمعنى اختصمتم؛ لأن الدرأ لازم الخصومة. قوله: (فدفع المطروح) الفاء مثلها في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]، فهو كالتعليل للتفسير، ولهذا عطف عليه قوله: "أو لأن الطرح في نفسه دفع"، والفرق أن الطارح في الأول لا يصير دافعاً إلا بعد دفع المطروح عليه، بخلاف الثاني، فإنه دافع ابتداء لما يلزم من طرحه دفعه عن نفسه، وعلى الوجوه الثلاثة كناية. قوله: (أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة) عطف على "طرح قتلها" وذلك بأن يقول صاحبه: أنت متهم ولست ببريء، فالمدفوع البراءة من الجانبين. قوله: (مظهر لا محالة) يعني: دل بناء اسم الفاعل، وهو مخرج على المبتدأ، على الثبات وتوكيد الحكم، وهذا عندنا بحسب التفضل والكرم، وعند المعتزلة لرعاية الأصلح؛ لأن الاختلاف في باب القتل يؤدي إلى الفساد والفتنة، وهو خلاف إرادته تعالى، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].

ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً. فإن قلت: كيف أعمل (مخرج) وهو في معنى المضىّ؟ قلت: وقد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ كما حكى الحاضر في قوله: (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف: 18]. وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما (فَادَّارَاتُمْ)، و (فَقُلْنا) والضمير في (اضْرِبُوهُ): إمّا أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان، وإمّا إلى القتيل لما دل عليه من قوله: (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). بِبَعْضِها ببعض البقرة. واختلف في البعض الذي ضرب به، فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة بين الكتفين. والمعنى: فضربوه فحيى، فحذف ذلك لدلالة قوله: (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) وروى أنهم لما ضربوه قام بإذن اللَّه وأوداجه تشخب دماً وقال: قتلني فلان وفلان لا بنى عمه، ثم سقط ميتاً، فأخذا وقتلا، ولم يورّث قاتل بعد ذلك. (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى): ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما حكي الحاضر) يعني أن كلاً من اسمي الفاعل عند نزول القرآن كان ماضياً لكن (مُخْرِجُ) حكاية لما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ، و (بَاسِطٌ) حكاية للحاضر عند بسط الكلب ذراعيه، فقد اشتركا في أن كلاً منهما حكاية عند النزول، وفائدتها: استحضار تينك الصورتين في مشاهدة السامع؛ تعجيباً له. قوله: (وقيل: عجبها). العجب: أصل الذنب، وهو من كل دابة: ما ضمت عليه الورك من أصل الذنب. قيل: العجب أمره عجب، وهو أول ما يخلق وآخر ما يخلق. قوله: (العظم: الذي يلي الغضروف)، الجوهري: وهو ما لان من العظم، وهو الغضروف أيضاً. واعلم أن هذه الأقوال لا يدل عليها القرآن ولا خبر صحيح، فحسن السكوت عنها.

إما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم: كذلك يحيى اللَّه الموتى يوم القيامة، (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ودلائله على أنه قادر على كل شيء؛ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): تعملون على قضية عقولكم. وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإما أن يكون خطابا للمنكرين في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط حكم وفوائد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإما أن يكون خطاباً للمنكرين) فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير القول، وكاف الخطاب في قوله تعالى: (كَذَلِكَ) [البقرة: 73] نحو الخطاب في قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وذلك لأن أمر إحياء الموتى عظيم، يجب أن يخاطب كل من يصح أن يخاطب ويتأتى منه الاستماع، فيدخل هؤلاء فيه دخولاً أولياً: يدل عليه قوله: (وَيُرِيكُمْ). قوله: (في الأسباب والشروط حكم وفوائد) تمهيد للجواب. والجواب: "وإنما شرط ذلك"، وقوله: "وما في التشديد عليهم" عطف على قوله: "ما في ذبح البقرة" بدون لام التعليل. وقوله: "وليعلم" عطف على قوله "لما في ذبح البقرة" مع اللام. وفي هذا الاختلاف من العطف إيذان بأن في الشرط فائدتين: إحداهما: عملية، وثانيتهما اعتقادية. والأولى: إما عامة في نفس الذبح فيهم وفي غيرهم، أو خاصة بتلك القصة، أي: ناشئة منها. أما الاعتقاد فهو المراد بقوله: "ليعلم بما أمر من مس الميتِ بالميتِ، وحصول الحياة عقيبه، أن المؤثر هو المسبب". أما الفائدة العامة فهي ما ذكره من "التقرب وأداء التكليف واكتساب الثواب"، وأما الخاصة بذلك الذبح فهي قوله: "من اللطف لهم ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة" إلى آخره. وفي قول المصنف: "إن المؤثر هو المسبب لا الأسباب" إبطال لمذهبه في كثير من المواضع.

وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر اللَّه تعالى وارتسامها على الفور، من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البرّ بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرب به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المسارعة) عطف على قوله: "ترك التشديد". قوله: (والدلالة على بركة البر بالوالدين والشفقة على الأولاد). أما البر فقوله فيما سبق: "وكان براً بوالديه"، وأما الشفقة فقوله: "اللهم إني أستودعكها لابني". قوله: (وتجهيل الهازئ) أي: لما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم تجهيل للهازئ. يعني: لما شددوا على أنفسهم وقالوا: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) [البقرة: 67] أجيبوا بقوله: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) فعلم تجهيل الهازئ، وأن الهازئ: من لا يعلم كنه كلام الحكماء. فيه تعريض بأنه عالم بما يقول الحكماء وأنه حكيم. قوله: (أن يتنوق). تنوق في الأمر: تأنق فيه. وعمله بنيقة، أي: باشر فيه وأتمه بحذاقة. قال الحريري في "درة الغواص في أوهاهم الخواص": تنوق في الشيء، والأفصح تأنق كما روي للمنصور رحمه الله: تأنقت في الإحسان لم آل جاهداً ... إلى ابن أبي ليلى فصيره ذما فوالله ما آسى على فوت شكره ... ولكن فوت الرأي أحدث لي هما واشتقاقه من الأنق وهو الإعجاب بالشيء.

وأن يختاره فتىّ السنّ غير قحم ولا ضرع، حسن اللون بريئاً من العيوب يونق من ينظر إليه، وأن يغالى بثمنه، كما يروى عن عمر رضى اللَّه عنه أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي أمثالهم: ليس المتعلق كالمتأنق. أي: ليس القانع بالعلقة، وهي البلغة، كالذي يبلغ النقاوة والغاية. ويضرب أيضاً للجاهل الذي يدعي الحذق: خرقاء ذات نيقة. قوله: (غير قحم) أي: غير مسنة مهزولة، الجوهري: شيخ قحم، أي: هم. قوله: (ولا ضرع). الضرع بالتحريك: الضعيف. وقيل: الحديثة السن. قوله: (وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه) أي: يمكن المكلف من أدائه في ذلك الوقت. وصورته أن تقول: صل غداً وقت الظهر، وقبل الظهر تقول: لا تصل وقت الظهر، والحال أن المكلف متمكن من الفعل في الظهر. قوله: (لأدائه إلى البداء) أي: البداية، من قولهم: بدا له في الرأي بداء بالمد والرفع. وأهل السنة قالوا: لا يلزم البداء؛ لأن هذا الأمر والنهي راجع إلى امتحان المكلف بإطاعته الآمر وعصيانه، وعزم قلبه، وعدم عزمه وابتلائه، كما إذا قال السيد لعبده: اذهب غداً راجلاً إلى مواضع كذا، وقبل الغد يقول: اذهب راكباً، وغرضه الابتلاء. واعلم أنه جمع بين التشديد عليهم لتشديدهم وبين نفع اليتيم، فيلزم من التشديد أن تكون البقرة غير معينة، ومن نفع اليتيم أن تكون معينة، وبينهما تناف كما سبق.

في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة. فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قص من قصص بنى إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعاً لهم عليها، ولما جدّد فيهم من الآيات العظام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما للقصة لم تقص) إلى آخره، قيل: فيه نظر، لأنه قال: "الأصل أن يقدم ذكر القتل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها"، وحقه أن يقال: أن يقدم ذكر القتيل والأمر بالذبح على الأمر بضرب بعضها، كما قدره آخراً في السؤال. وأجيب: أن المراد أن هذه الآية التي ذكر فيها ذكر القتيل والضرب كان من حقها أن تقدم على الآية التي ذكر فيها الأمر بالذبح. فإن قلت: الإشكال باق؛ لأن القصة بجملتها لا يجوز تقديمها على تلك القصة، فإن فيها الأمر بالضرب، وهو متأخر عن الأمر بالذبح. قلت: بل القصة مستقلة في الدلالة ولابد من إضمار: "اذبحوا" سواء قدمتها أو أخرتها؛ لأنها محتوية إجمالاً على القصة بتمامها مع قرب طرفيها، ففتحت بذكر القتل، وختمت بإحياء القتيل، ووسطت بضرب المذبوح، ومع ذلك ما أجمل فيها من التنبيه على ما أضمر اعتراضاً واستطراداً، فقوله: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 72] اعتراض بين المعطوفين، فدل به على التقريع ونبه به على تقدير ما يحصل به ذلك الإخراج من الأمر بالذبح، وقوله: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) [البقرة: 73] استطراد عبر به عن الاقتدار على البعث، ونبه به على حصول إحياء القتيل. وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 73] تذييل وتنبيه غب تنبيه، وتقريع بعد تقريع، فحينئذ تقرير الآية: وغذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا: اذبحوا بقرة، واضربوه ببعضها، فذبحتم وضربتم به فأحيا الله القتيل، فأخبركم بقاتله، وقلنا: كذلك يحيي الله الموتى.

وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى: لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونظير هذه القصة قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً* فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً) [الفرقان: 35 - 36]. قال: أراد اختصار القصة، فذكر حاشيتها: أولها وآخرها؛ لأنهما المقصود من القصة، أعني إلزام الحجة ببعثه الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. فإذا قدمت القصة كان قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة: 67] إلى آخره كالتفصيل والبيان لكيفية الأمر بالذبح المطوي وما يتصل به، والبيان لا يكون مستقلاً بل تتمة للمبين، فيكون التقريع واحداً، وإذا أخرتها كما هي عليه لم تكن بياناً، وكان مستقلاً فيما قصد به من تنبيه التقريع، ولذلك غير السياق وقيل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ) فانظر إلى هذه الرموز، وإلى ذلك الإيجاز والتعجيز، ولله در المصنف ودقيق إشاراته! قوله: (وما يتبع ذلك) عطف على "تقريعهم"، لا على "الاستهزاء"، إذ ليس في تلك القصة غير الاستهزاء. وترك المسارعة شيء يتوجه إليه التقريع، وكذا "ما يتبعه" عطف على "التقريع" لا على "قتل النفس"، إذ ليست "الآية العظيمة" مما يرد عليها التقريع، وفيه إشارة إلى صنعة الإدماج، يعني: سيقت القصتان للتقريع، وأدمج فيها هذه الفوائد، والإشارة "بذلك" إلى المذكور السابق، أي: يتبع التقريع وترك المسارعة من الفوائد المتكاثرة كما عددها في قوله: "لما في ذبح البقرة من التقرب" إلى قوله: "وأن النسخ قبل الفعل جائز"؛ لأن تلك الفوائد تابعة للأمر بذبح البقرة، وقوله: "وما يتبعه من الآية العظيمة" هو الذي عناه بقوله: "وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه" إلى آخره، وهو مستفاد من قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى)، فظهر أن الجواب السابق كان منطوياً على هذين الاعتبارين.

والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)؛ حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة. [(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) 74]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة) هو الجواب، والسابق كالمقدمة والتمهيد له لئلا يلزم التكرار. قوله: (ولقد روعيت) عطف على قوله "قدمت"، وقوله: "أن وصلت" بدل من "نكتة". وقوله: (بضمير البقرة) متعلق "بوصلت"، و"دلالة": مفعول له لقوله: "أن وصلت" قدم المفعول له على متعلق الفعل للاهتمام، وإنما جيء بقوله: "ولقد روعيت" بلام القسم ليؤكد به ما قصده في الجواب، يريد: الذي يؤكد ما ذهبنا إليه من جعل القصة الواحدة قصتين اعتبار العائد، وإليه الإشارة بقوله: "حتى يتبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع" إلى آخره. فإن قلت: اسم البقرة كالضمير في الاتصال، بل هو أشد اتصالاً منه إذا جيء به معرفاً باللام؛ لأن المعرف باللام إذا أعيد كان عين الأول. قلت: نعم، لكن الربط بالمضمر ألصق لاستقلال المظهر.

معنى (ثُمَّ قَسَتْ): استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام: 2]. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها. وذلِكَ إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ): فهي في قسوتها مثل الحجارة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) منها، و (أشد) معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على الحجارة. وإما على: أو هي أنفسها أشدّ قسوة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معنى (ثُمَّ قَسَتْ) استبعاد) يعني: ثم موضوعة للتراخي في الزمان، وهنا مجاز للاستبعاد؛ لأن قسوة قلوبهم لم تتجدد بعد زمان، فهو نحو قولك لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها! يعني: يبعد من العاقل ارتكاب هذا المحذور بعد حصول ما ينافيه، ويقلعه من الآيات البينات المذكورة فيما سبق. قوله: (مثل لنبوها عن الاعتبار) أي: قست قلوبهم: استعارة تبعية واقعة على سبيل التمثيل، شبهت حالة قلوبهم، وهي نبوها عن الاعتبار، بحالة قسوة الحجارة في أنها لا يجدي فيها لطف العمل. قوله: (بنصب الدال) أي: بفتحها؛ لأنه مجرور، قال الزجاج: من قرأ (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بالرفع فعلى: أو هي في نفسها أشد قسوة، ومن نصب فهو خفض في الأصل بمعنى الكاف، و"أشد" أفعل لا ينصرف، وهو نعت ففتح، وهو في موضع جر. قوله: (وإما على: أو هي في نفسها أشد) يعني: (أَشَدُّ) مرفوع، وهو عطف على

والمعنى: أن من عرف حالها شبهها بالحجارة، أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً. أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة. فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكاف، إما على تقدير مثل، ومعنى قراءة الأعمش سواء في أن المراد قلوبهم مشبهة بجواهر أقسى من الحجارة، أو لا يقدر الشيء، فيكون المعنى: هي أقسى من الحجارة فلا يكون تشبيهاً، ولذلك قال: "أو قال"، ففي الكلام لف ونشر. قوله: (والمعنى أن من عرف حالها شبهها) إلى آخره. وإنما أخرج الكلام مخرج الشرطية ليؤذن بأن مرجع الشك إلى الناس؛ لأن الله تعالى لا يشك، كقوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147]. ولو حمل "أو" على معنى "بل" نحو ما أنشده الجوهري: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح كان أحسن التئاماً مع قوله: (وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ) الآية [البقرة: 74]، من التردد في التشبيه. وكيف وقد قال هو: "تقرير لقوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) "؟ قوله: (وهو أن لا يقصد معنى الأقسى)، اعلم أن الأصل في "أفعل" التفضيل أن يبنى من ثلاثي مجرد ليس بلون ولا عيب، وإذا قصد ذلك فيما ليس كذلك توصل بمثل أشد ضرورة، ولا ضرورة في الآية إلى التوصل به لاستقامة بيانه من القسوة. ولابد في هذا الإطناب في كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من فائدة، وهي: إما أن يجاء به لمزيد البيان والتوضيح، وإليه أشار بقوله: "لكونه أبين وأدل على فرط القسوة"،

ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. وقرئ: قساوة. وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس، كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم. وقوله (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ): بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة، وتقرير لقوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقرئ «وإن» بالتخفيف، وهي «إن» المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة. ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) [يس: 32]. والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة. وقرأ مالك بن دينار (ينفجر) بالنون. يَشَّقَّقُ يتشقق. وبه قرأ الأعمش ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإما أن يقصد معنى الاشتراك في الشدة نفسها، والتأويل بما قال: "اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة"، فظهر أن إتيان "أشد" في قولك: ما أشد حمرته! لمجرد التوصل إلى البناء، فلا يكون مقصوداً بالذات، بخلافه في الآية، فإنه مقصود بذاته، ولذلك قال: "لا يقصد معنى الأقسى، لكن قصد وصف القسوة بالشد"، ويندفع بهذا إيراد صاحب "التقريب": في قوله: "اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة" نظر؛ لأن أشد لو كان محمولاً على القسوة أفاد هذا، ولكنه محمول على القلوب، فيفيد أن قلوبهم أشد قسوة لا أن قسوتها أشد قسوة، وإن أراد أنهما اشتركا في شدة القسوة، وهي أزيد في الشدة، فلا يفيده هذا اللفظ، لأن معناه: أن قسوتها أشد، لا أن شدة قسوتها أزيد، وإنما كان يفيده لو قال: فهي أزيد شدة قسوة. قوله: ((وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ) بيان لفضل قلوبهم على الحجارة)، فالواو في قوله: (وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ) عطفت البيان على المبين، والأولى أنها استئنافية، والجملة كما هي مذيلة للتشبيه كقوله تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125]، والدليل على كونها مذيلة قوله: "وتقرير"؛ لأن المذيلة كالمعترضة مؤكدة، وسيجيء في "الأنعام" أن التأكيد أيضاً نوع بيان، ويجوز أن تكون الواو للحال من الحجارة في قوله: "كالحجارة"، أو من المقدرة في قوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وهو منها.

والمعنى: إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا يَهْبِطُ يتردّى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء. والخشية مجاز عن انقيادها لأمر اللَّه تعالى، وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقرئ (تَعْمَلُونَ) بالياء والتاء، وهو وعيدٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة) إلى آخره، فيه على ما فسر معنى التتميم دون الترقي، ليكون على وزان قوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 3] إذ لو أريد الترقي لقيل: إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يتفجر منه الأنهار. وفائدته: استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي. نعم، الترقي من قوله: (لَمَا يَتَفَجَّرُ) إلى آخره إلى قوله: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ) تتميم للتتميم. قوله: (وأنها لا تمتنع) إلى آخره: عطف على سبيل التفسير على قوله: "مجاز عن انقيادها لأمر الله، يعني: أثبت للحجارة الخشية على سبيل المجاز لفائدتين: إحداهما: التصريح في المبالغة في كونها منقادة لأمر الله، وثانيتهما: التعريض بأن قلوب هؤلاء لا تنقاد البتة. قوله: (من خشية الله يتعلق بالكل)، أي: كل ذلك من خشية الله. قوله: (وقرئ (تَعْمَلُونَ) بالياء والتاء). ابن كثير ونافع ويعقوب وأبو عمرو: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.

[(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ* أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)]. (أَفَتَطْمَعُونَ): الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم، كقوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت: 26]، يعنى اليهود، (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ): طائفة فيمن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وهو ما يتلونه من التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) كما حرّفوا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وآية الرّجم، وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام اللَّه حين كلم ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَفَتَطْمَعُونَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم). الراغب: الطمع: نزوع النفس إلى الشيء بشهوة له، يقال: طمعت طمعاً وطماعية فهو طمع وطامع، ولما كان أكثر الطمع من جهة الهوى، قيل: الطمع طبع، والطمع يدنس الإهاب. قوله: (وآية الرجم). روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والترمذي، عن ابن عمر: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: "ما تصنعون بهما؟ " قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: "فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" فجاؤوا بها، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "ارفع يدك" فرفع يده فإذا فيه آية الرجم، فقال: يا محمد، إن عليهما الرجم، ولكنا نكاتمه بيننا". الحديث. قوله: (وقيل: كان قوم) عطف من حيث المعنى على قوله: "طائفة"، وعلى الأول معنى

موسى بالطور وما أمر به ونهى، ثم قالوا: سمعنا اللَّه يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس. وقرئ: كلم اللَّه، مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون مفترون. والمعنى: إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك. وَإِذا لَقُوا يعنى اليهود (قالُوا): قال منافقوهم (آمَنَّا) بأنكم على الحق، وأنّ محمدا هو الرسول المبشر به (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ): الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ الذين نافقوا قالُوا عاتبين عليهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بما بين لكم في التوراة من صفة محمد. أو قال المنافقون لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم: (أتحدّثونهم)؛ إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التحريف: التغيير والتبديل، وعلى الثاني: إثبات ما ليس في الكتاب وكتمان ما هو ثابت فيه كما قال في تفسير قوله: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 42]. قوله: ((وَإِذَا لَقُوا) يعني: اليهود) أي: جماعة اليهود، منافقيهم وغير منافقيهم، ثم خص بقوله: (قَالُوا آمَنَّا) المنافقين منهم بهذا القول، وعلم من المفهوم أن غير المنافقين كانوا ساكتين حينئذ، وإليه الإشارة بقوله: "قال منافقوهم: آمنا"، قال تعالى: (وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) [البقرة: 76] يعني تلك الجماعة: المنافقين وغير المنافقين، ثم خص بقوله: (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ) غير المنافقين منهم بهذا القول، أي: قال الذين لم ينافقوا عاتبين على الذين نافقوا: أتحدثونهم، فعلم أن المنافقين كانوا معاتبين ساكتين، ويجوز على هذا أن يراد بالمعاتبين المنافقون أنفسهم، فإنهم كانوا يعاتبون بقاياهم ينافقون المؤمنين وينافقون اليهود. قيل: قوله: "أو قال المنافقون" عطف على قوله: "قال منافقوهم"، والظاهر أنه عطف على "قالوا عاتبين"، والأوفق لتأليف النظم أن يحمل اليهود في قول المصنف: " (وَإِذَا لَقُوا)

(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ): ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني اليهود" على الفريق المحرفين منهم، فيكون الضمير في "لقوا" راجعاً إلى قوله تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) [البقرة: 75] لأنه قسيم لقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) [البقرة: 78] كما سيجيء، ولأن قولهم: (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) لا يليق إلا بمن عقل الكتاب لا بالعامي، وينصره ما روى محيي السنة عن ابن عباس والحسن وقتادة: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم، إذا لقوا المؤمنين المخلصين (قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا) رجع (بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) ككعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ورؤساء اليهود، لاموهم على ذلك (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ): بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمداً حق وقوله صدق. الانتصاف: يوضح اختلاف الضميرين المذكورين قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232]، الضمير الأول للأزواج، والثاني للأولياء لشمول الخطاب. قوله: (بما أنزل ربكم في كتابه). قيل: إن المصنف جعل (عِنْدَ رَبِّكُمْ) بدلاً من قوله: به؛ لأن ما فتح الله وما أنزل ربكم في كتابه بمعنى واحد. وقلت: بل قوله: "بما أنزل ربكم في كتابه" تفسير للآية وتلخيص معناها، فلا يكون بدلاً ولا متعلقاً بقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ). قال صاحب التقريب: "عند" حال من المجرور في "به"، أو

جعلوا محاجتهم به، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند اللَّه. ألا تراك تقول: هو في كتاب اللَّه هكذا. وهو عند اللَّه هكذا، بمعنى واحد (يَعْلَمُ) جميع (ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان. [(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ* فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)]. (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ): التوراة (إِلَّا أَمانِيَّ): إلا ما هم عليه من أمانيهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ متعلق بـ "يحاجوكم" إن أريد بـ "عند ربكم" يوم القيامة. وقال القاضي: في الثاني نظر؛ لأن الإخفاء لا يدفعه. قوله: (جعلوا محاجتهم به) أي: جعل اليهود محاجة المسلمين بما فتح الله عليهم محاجة عند الله. يعني إذا قال المسلمون: "هو في كتابكم هكذا"، كأنهم قالوا: "هو عند الله كذا" وهما بمعنى واحد من حيث المؤدى لا المبالغة؛ لأن الثاني أبلغ لأنك فيه تصحح أن ما في الكتاب ثبت وصح، وأنه كلام الله ونازل من عنده، فالحكم به كالحكم بين يدي الله. وروي عن الأنباري أنه قال: (عِنْدَ رَبِّكُمْ) معناه: في حكم ربكم، كما تقول: هذا حلال عند أبي حنيفة، أي: في حكمه، والمعنى: ليكون لهم حجة عند الله في الدنيا والآخرة. قوله: ((أُمِّيُّونَ) لا يحسنون الكتب)، قال الزجاج: أمي منسوب إلى ما عليه جبلة أمه، أي: لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه.

وأن اللَّه يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أنّ النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل: إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد. قال أعرابى لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته، أم تمنيته، أم اختلقته وقيل: إلا ما يقرؤن من قوله: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَهِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "النهاية": وفي الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، أراد أنهم على أصل ولادة أمهم أنهم لم يتعلموا الكتابة والحساب. قوله: (وأن الله يعفو عنهم) إلى آخره: عطف تفسيري بيان لقوله: "من أمانيهم". قوله: (وقيل: إلا ما يقرؤون). فإن قلت: إلا ما يقرؤون كيف يناسب قوله: (أُمِّيُّونَ)؟ قلت: إن الأمي ربما قدر على قراءة ما، كما أنه يقدر على كتابة. وروينا عن البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الصلح، أخذ الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. وهذا القدر لا يقدح في التسمية بالأمي، ولهذا قال المصنف: "أميون لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها".

والاشتقاق من منى إذا قدّر، لأن المتمنى يقدّر في نفسه ويحزر ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. و (إلا أمانىّ) من الاستثناء المنقطع. وقرئ: (أمانى) بالتخفيف. ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوامّ الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم. (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) المحرّف (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد، وهو من محاز التأكيد، كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك هذه. مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرُّشا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الاستثناء المنقطع). فإن قلت: لم لا يجوز أن يقدر ليعلمون مفعولاً ثانياً، فيكون متصلاً؟ قلت: لا يجوز؛ لأن قوله: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) بيان لقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، أي: أميون لا معرفة لهم بالكتاب. قوله: (العلماء الذين عاندوا) شروع في بيان نظم الآيات. يعني: أن الله تعالى أنكر على المسلمين طمعهم في إيمان اليهود بقوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة: 75]، ثم قسمهم فرقتين بعثاً على رفع الطمع عنهم، لكونهما في الضلال سواء: الفرقة الأولى: العلماء الذين عاندوا وحرفوا مع العلم والاستيقان، وهو المراد بقوله تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) [البقرة: 75]، والفرقة الأخرى: العوام الذين قلدوهم، وهو المراد بقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) [البقرة: 78]، ثم نبه على التعليل لرفع الطمع بقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ). وقوله: (وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) يعني لا يطمع في أحد منهم، لأنهم في الضلال سواء، ويجوز أن يجعل الضمير في "يظنون" للفريقين، فنفى عن العلماء العلم في قوله: "أو لا يعلمون" على

[(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ* بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً): أربعين يوماً عدد أيام عبادة العجل. وعن مجاهد: كانوا يقولون مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما. (فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ) متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند اللَّه عهدا فلن يخلف اللَّه عهده ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبيل الإنكار حيث لم يعملوا بموجبه، وعن المقلدين بقوله: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ)، ثم حكم أنهم في الظن المؤدي إلى الضلال سواء كقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116]، وعليه ورد كلام القاضي: قد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع، وإن جزم به صاحبه، كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة، فعلى هذا في الآيات جمع وتقسيم، ثم جمع: جمع الفريقين في قوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ثم قسمهم فريقين: علماء ومقلدين، ثم جمعهم في "يظنون". قوله: (متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهداً) فاعلموا أن الله لن يخلف عهده، فالجملة الشرطية معترضة، والأصل: أأتخذتم عند الله عهداً أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ ! ويمكن أن تكون الفاء سببية، ليكون اتخاذ العهد مرتباً عليه عدم إخلاف الله عهده، فالمنكر إذن المجموع؛ لأنهم لما قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أنكر عليهم هذا القول، يعني: هذا الذي تقولونه لا يكون إلا بأن عاهدتم الله عليه، فهو لا يخلف وعده، ويؤيده إعادة "لن".

(وأَمْ) إمّا أن تكون معادلة بمعنى أى الأمرين كائن على سبيل التقرير، لأن العلم واقع بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أى بلى تمسكم أبدا، بدليل قوله: (هُمْ فِيها خالِدُونَ). (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) من السيئات، يعنى كبيرة من الكبائر، (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) تلك واستولت عليه، كما يحيط العدوّ ولم يتفص عنها بالتوبة. وقرئ: (خطاياه)، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (أَمْ) إما أن تكون معادلة بمعنى: أي الأمرين كائن)، وهي "أم" المتصلة، ومعنى الاتصال أن تكون معادلة للهمزة، وقرينة لها وتجريا مجرى "أي" فقولك: أزيد عندك أم عمرو؟ بمنزلة: أيهما عندك؟ والمنقطعة تكون بمعنى الهمزة وبل، كقولك: إنها لإبل أم شاء؟ فكأنه حين أخبر أنها لإبل، اعتراه شك، فأخذ يسأل، وأضرب عن الإخبار، فقال: بل هي شاء، فكأنه تعالى أضرب عن الإنكار السابق، واستأنف إنكاراً آخر أبلغ منه. قوله: (بكون آخرهما)، ويروى: أحدهما، والأول أصح في نسخة المعزي، و"آخرهما" هو قوله: (أَمْ تَقُولُونَ) لكون الاستفهام للتقرير، ولأن العلم تعليل للتقرير، وهذا القول كان مسموعاً منهم، وأما اتخاذهم عند الله عهداً فلا. قوله: (ولم يتفص) أي: لم يتخلص بالتوبة. هذا مذهبه. قال القاضي: أي: الخطيئة استولت عليه وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن الكافر؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط الخطيئة به، ولذلك فسرها السلف بالكفر. وتحقيق ذلك: أن من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجره إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه، حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه، فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي، مستحسناً إياها، معتقداً أن لا لذة سواها،

و (خطيئاته). وقيل في الإحاطة: كان ذنبه أغلب من طاعته. وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال: سبحان اللَّه: ألا أراك ذا لحية وما تدرى ما الخطيئة! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مبغضاً لمن يمنعه عنها، مكذباً لمن ينصحه فيها، كما قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) [الروم: 10]. قلت: وما يعضد قول السلف الصالح أن الآية وردت لرد زعم اليهود بأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وإثبات الوعيد بالخلود في النار، فجيء بها عاماً ليدخلوا فيه دخولاً أولياً، ثم أردفت بما هي مقابلة لمعناها، وهي وصف المؤمنين، وختمت بذكر الخلود، وذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 82] وهو عطف على قوله: (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) [البقرة: 81]، وغير معنى الشرطية فيها إلى الثبوت الصرف لترجيح جانب الرحمة. قال السجاوندي: تقول: من دخل داري فأكرمه، دخول الفاء يقتضي إكرام كل من دخل لكن على خطر أن لا يكرم، وفي الذي دخل مع الفاء يكرم حقيقة، فلذلك قال: (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) و (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... فَلَهُمْ) [البقرة: 274] فيما لا يكون. قوله: (كان ذنبه أغلب من طاعته) هذا أيضاً مبني على مذهبه والقول بالموازنة والإحباط، وقد سبق إبطاله. قوله: (سبحان الله، ألا أراك ذا لحية)، تعجب منه ومن سؤاله، يعني: بلغت مبلغ الكمال وأنت ناقص لم تعلم ما وجب عليك تعلمه.

انظر في المصحف فكل آية نهى فيها اللَّه عنها وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة. [(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) 83]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهي الخطيئة المحيطة)، الضمير راجع إلى ما يرجع الضمير في "عنها" غليها، وهي الخطيئة المقيدة، والضمير في "أنه" للشأن. والخطيئة والسيئة متقاربتان، غلا أن الخطيئة أكثر ما تستعمل فيما لا يكون مقصوداً إليه في نفسه، بل يكون القصد إلى شيء آخر لكن تولد منه ذلك الفعل، كمن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، أو شرب مسكراً فجنى جناية، وفي "الأساس": أخطأ في المسألة وفي الرأي، وخطئ خطأ عظيماً؛ إذا تعمد الذنب، ويقال: لأن تخطئ في العلم خير من أن تخطئ في الدين، وقيل: هما واحد. الراغب: الخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في نفسه، بل يكون القصد سبباً لتولد ذلك الفعل كمن يرمي صيداً وأصاب إنساناً، أو شرب مسكراً فجنى في سكره جناية. ثم السبب سببان: سبب محظور كشرب المسكر وما يتولد من الخطأ عنه غير متجاف عنه، قال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5]. فالخطيئة هنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعله، وقوله تعالى: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) [البقرة: 58] فهي المقصود إليها. والخاطئ هو القاصد للذنب وعلى قوله تعالى: (لا يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ) [الحاقة: 37]، وقد سمى الذنب خاطئة في قوله تعالى: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) [الحاقة: 9] أي: الذنب العظيم، نحو قولهم: شعر شاعر.

(لا تَعْبُدُونَ): إخبار في معنى النهى، كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهى، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه وتنصره قراءة عبد اللَّه وأبىّ (لا تعبدوا) ولا بدّ من إرادة القول، ويدل عليه أيضاً قوله: (وَقُولُوا). وقوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إما أن يقدّر: وتحسنون بالوالدين إحسانا. أو وأحسنوا. وقيل: هو جواب قوله: (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إجراء له مجرى القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقيل: معناه أن لا تعبدوا، فلما حذفت «أن» رفع، كقوله: ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويدل عليه أيضاً) أي: على أن الإخبار في معنى النهي، عطف قوله: "قولوا" عليه وهو أمر؛ لأن المناسب أن يعطف إنشائي على إنشائي أو ما في معناه. قوله: (وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون)، قال أبو البقاء: في إعراب (لا تَعْبُدُونَ) وجوه: أحدها: أنه جواب قسم دل عليه المعنى، أي: أحلفناهم أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، وثانيها: أن مراده أي: أخذنا ميثاق بني إسرائيل على أن لا تعبدوا إلا الله، فحذف حرف الجر ثم حذف "أن" فارتفع الفعل، وثالثها: نصب على الحال، أي: أخذنا ميثاقهم موحدين، وهي حال مصاحبة ومقدرة لأنهم كانوا وقت أخذ ميثاقهم موحدين، والتزموا الدوام على التوحيد، ولو جعلتها حالاً مصاحبة فقط- على أن يكون التقدير: أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد- جاز، ولو جعلتها حالاً مقدرة- على أن يكون التقدير: أخذنا ميثاقهم مقدرين التوحيد أبداً ما عاشوا- جاز، ورابعها: لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي.

أَلَا أَيُّهذَا الزّاجِري أَحْضُرَ الوَغَى ويدل عليه قراءة عبد اللَّه (أن لا تعبدوا)، ويحتمل (أن لا تعبدوا) أن تكون «إن» فيه مفسرة، وأن تكون أن مع الفعل بدلاً عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بنى إسرائيل توحيدهم وقرئ بالتاء حكاية لما خوطبوا به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى). قائله طرفة، وتمامه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي الوغى: الصوت. ومنه قيل للحرب: الوغى. والتقدير: أن أحضر الوغى، فلما حذف "أن" حذف أثره. يقولك أيها اللائمي على حضور الحرب وشهود اللذات هل تخلدني إن كففت عنهما؟ الوغى: يكتب بالياء؛ لأن الألف يؤذن أنه مقلوب عن الواو، وليس في الأسماء اسم أوله واو وآخره واو إلا الواو. قولهك (وأن تكون أن مع الفعل بدلاً عن الميثاق)، و"أن" على هذا: ناصبة، فتجعل الجملة كما هي عبارة عن معنى التوحيد؛ لأن معنى قوله: "ألا تعبدوا إلا الله" التوحيد، وهذا البدل ليس في حكم المنحى لقوله: "ميثاق بني إسرائيل توحيدهم". قوله: (وقرئ بالتاء)، قرأها ابن عامر، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن كثير، وقرأ حمزة والكسائي بالياء؛ لأن بني إسرائيل اسم ظاهر، والأسماء الظاهرة كلها غيب.

وبالياء لأنهم غيب. (حُسْناً) قولاً هو حسن في نفسه؛ لإفراط حسنه. وقرئ (حسنا). و (حسنى) على المصدر كبشرى. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على طريقه الالتفات أى توليتم عن الميثاق ورفضتموه، (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو حسن في نفسه لإفراط حسنه) يريد أن "حسنا" مصدر وصف به للمبالغة نحو: رجل عدل. قال الواحدي: الحسن لغة في الحسن كالرَّشَدِ والرُّشد. قوله: (وقرئ حسناً)، قرأ حمزة والكسائي "حسناً" بالفتح، والباقون: بالضم، وأما "حسنى" فشاذة. قوله: (وحسنى على المصدر كبشرى) كأنه رد لقول الزجاج؛ لأنه قال: أما حسنى فخطأ لا ينبغي أن يقرأ به، ونحو باب الأفعل والفعلى لا يستعمل إلا بالألف واللام كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) [الأنبياء: 101]. قال القاضي: والمراد بقوله: (حُسْناً): ما فيه تخلق وإرشاد؛ لأن المتكلم إما أن يتكلم من جهة نفسه فينبغي أن لا يصدر منه إلا ما يدخل تحت مكارم الأخلاق، وإما من جهة مخاطبه فكذا ينبغي أن لا يتكلم إلا بما يرشده إلى طريق الحق والصراط المستقيم. قوله: ((ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على طريقة الالتفات)، وهو من الغيبة في قوله: (أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلى الخطاب، والفائدة التأنيب والتوبيخ، استحضرهم فوبخهم.

قيل: هم الذين أسلموا منهم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ): وأنتم قومٌ عادتكم الإعراض عن المواثيق، والتولية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل: هم الذين أسلموا منهم). قال القاضي: لعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب. وقلت: فالأوفق أن يقال: إن أصل الكلام: "ثم تولوا وهم معرضون"، لقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي: اذكر وقت أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وتوليهم وإعراضهم عن ذلك، فعدل إلى خطاب الموجودين منهم تغليباً، وإشعاراً بأن التولي الذي حصل منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس ببدع منهم؛ لأنه دأبهم ودأب أسلافهم، فلا يكون في الكلام التفات، ولا يصح أن يكون حالاً كما في قوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92]. قوله: (وأنتم قوم عادتكم الإعراض)، يشير إلى أنه من الاعتراض والتذييل كما سيجيء في قوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92]. وقيل: لا يجوز أن تكون الواو للحال، لأن التولي والإعراض واحد. ورد بما روى صاحب "التخمير" عن أبي علي: الحال مؤكدة في قوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25] لأن في "وليتم" دلالة على أنهم مدبرون. الراغب: (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) حال مؤكدة إذا جعلا شيئاً واحداً، وقيل: إن التولي والإعراض مثل مأخوذ من سلوك الطريق. وإذا اعتبرنا حال سالك المنهج في تركه سلوكاً، فله حالتان: إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذلك هو التولي، والثانية: أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق، والمتولي أقرب أمراً من المعرض، لأنه متى ندم على رجوعه سهل

[(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَاتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)]. (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ): لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. جعل غير الرجل نفسه. إذا اتصل به أصلا أو دينا. وقيل: إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه، لأنه يقتص منه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه العود إلى سلوك المنهج، والمعرض- من حيث ترك المنهج وأخذ في عرض الطريق- يحتاج إلى طلب منهجه، فيعسر عليه العود إليه، وهذا غاية الذم؛ لأنهم جمعوا بين العود عن السلوك، والإعراض عن المسلك. وقيل: إن التولي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد، والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب. قوله: (جعل غير الرجل نفسه) أي: جعل غير الرجل إذا اتصل به من جهة الأصل أو الدين بمنزلة نفسه، ثم نسب إلى نفسه ما كان منسوباً إلى الغير، فهو من باب المجاز بأدنى ملابسة، وقوله: "إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه" من باب إطلاق المسبب على السبب.

كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا شاهد عليها. وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ): استبعاد لما أسند اليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعنى أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقولك: فلان مقر على نفسه [بكذا] شاهد عليها). قال القاضي: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) [البقرة: 84] توكيد، كقولك: أقر فلان شاهداً على نفسه. وقلت: إنه لما قال: أقر فلان، احتمل أنه تكلم بما يلزم منه الإقرار، فأزيل الاحتمال بقوله: شاهداً على نفسه، أي: أقر إقراراً يشبه شهادة من يشهد على غيره بإثبات البينة له. قوله: (وقيل: وأنتم تشهدون) يعني: وأنتم تشهدون: إما جار على الالتفات السابق على رأي المصنف، والخطاب مع الحاضرين فحسب، وعلى رأي القاضي: هو جار على سنن الخطاب السابق مع اليهود الحاضرين لحضرة الرسالة على التغليب، لكن أخذ الميثاق والإقرار والشهادة من أسلافهم، فخوطبوا به، لكونهم أولادهم، ويجوز أن يخص قوله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) وحده بالحاضرين، وعلى الأول يجوز أن يكون (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) حالاً على سبيل التتميم، وعلى هذا عطف جملة على جملة للإلزام والتبكيت. قوله: (ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء). "ثم" للاستبعاد. يعني: أيها الحاضرون أنتم بعد أخذ الميثاق عليكم، وإقراركم به، وشهادتكم عليه، هؤلاء الناقضون. وكان من حق الظاهر: (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد، فتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، أي: صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها، فأدخل "هؤلاء" وأوقع خبراً لـ "أنتم" وجعل قوله: (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 85] جملة مبينة مستقلة لتفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها، نعياً عليهم بشدة وكادة أخذ الميثاق، ثم تساهلهم فيه وقلة المبالاة به.

تنزيلاً، لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله (تَقْتُلُونَ) بيان لقوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ)، وقيل: هؤلاء موصول بمعنى الذين. وقرئ: (تظاهرون) بحذف التاء وإدغامها، و (تتظاهرون) بإثباتها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رجعت بغير الوجه الذي خرجت به)، يعني: ما أنت بالذي كنت من قبل، وكأنك أذهب بك، وجيء بغيرك، وفي الحديث: "دخل بوجه غادر، وخرج بوجه كافر". قوله: ((تَقْتُلُونَ) بيان)، كأنه لما قيل: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء) قالوا: كيف نحن؟ فجيء بقوله: (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) تفسيراً له. قوله: (وقيل: (هَؤُلاء) موصول بمعنى: الذين). قال أبو البقاء: ويضعف أن يكون (هَؤُلاء) خبراً بمعنى "الذين" و (تَقْتُلُونَ) صفته؛ لأن مذهب البصريين أن "هؤلاء" لا يكون بمنزلة "الذين"، وأجازه الكوفيون. قوله: (وقرئ: (تَظَاهَرُونَ)) بحذف التاء وتخفيف الظاء: قرأها عاصم وحمزة والكسائي، و"تظاهرون" بإدغام التاء: الباقون، و"تتظاهرون" و"تظهرون": شاذتان. قال القاضي: "تظاهرون": حال من فاعل "تخرجون"، أو من مفعوله، أو كليهما، والتظاهر: التعاون، من الظهر.

و (تظهرون) بمعنى: تتظهرون، أي: تتعاونون عليهم. وقرئ: (تفدوهم)، و (تفادوهم)، و (أسرى)، و (أسارى). (وَهُوَ): ضمير الشأن، ويجوز أن يكون مبهما تفسيره (إِخْراجُهُمْ)، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي: بالفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي: بالقتال والإجلاء. وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا خلفاء الخزرج، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تفدوهم" و (تُفَادُوهُمْ))، والثانية قراءة نافع وعاصم والكسائي، والأولى قراءة الباقين. و"أسرى" لحمزة وحده، و (أُسَارَى) للباقين. قوله: (ويجوز أن يكون مبهماً، تفسيره: (إِخْرَاجُهُمْ)) كما في قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) [المؤمنون: 37] هذا الضمير مبهم لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، كما تقول: هي العرب تقول ما شاءت. قال أبو البقاء: يجوز أن يكون هو ضمير الإخراج المدلول عليه بقوله: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) [البقرة: 85] ويكون: "محرم" الخبر، وإخراجهم: بدل من الضمير في "محرم"، أو من هو"، وأن يكون هو ضمير الشأن، و"محرم": خبره، وإخراجهم: مرفوع بـ "محرم"، ويجوز أن يكون إخراجهم مبتدأ، و"محرم" خبر مقدم، والجملة خبر "هو". قوله: (وذلك أن قريظة كانوا حلفاء)، اعلم أن الذين كانوا نازلين بيثرب فرقتان: اليهود وهما قبيلتان: بنو قريظة والنضير، والمشركون وهما أيضاً قبيلتان: الأوس والخزرج، وكان

فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. فعيرتهم العرب وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم، فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحيى أن نذل حلفاءنا. والخزي: قتل بنى قريظة وأسرهم وإجلاء بنى النضير. وقيل الجزية. وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشد العذاب، لأن عصيانه أشدّ. وقرئ: (تردّون) و (تعملون) - بالياء والتاء - (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) عذاب الدنيا بنقصان الجزية، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم. وكذلك عذاب الآخرة. [(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بينهم- أي: بين الأوس والخزرج- ثارات ومناصبات، فاستحلف الأوس قريظة، والخزرج النضير لنصرتهم على صاحبهم، ولم يكن بين اليهود مخالفة ولا قتال، وإنما كانوا يقاتلون لأجل حلفائهم. قوله: (وإذا أسر رجل من الفريقين) أي: من بني قريظة والنضير، "جمعوا" أي: كلا الفريقين "حتى يفدوه" من المشركين. قوله: (فيقولون: أمرنا أن نفديهم). روى محيي السنة عن السدي: أن الله أخذ على بني إسرائيل في "التوراة": أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه. قوله: (و (تَعْمَلُونَ))، بالياء: نافع وابن كثير وأبو بكر، وبالتاء الفوقانية: الباقون.

كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ* وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ)]. (الْكِتابَ): التوراة آتاه إياها جملة واحدة. ويقال: قفاه إذا أتبعه من القفا. نحو ذنبه، من الذنب. وقفاه به: أتبعه إياه، يعنى: وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون: 44] وهم: يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياً وأرمياً وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. وقيل (عِيسَى) بالسريانية أيشوع. و (مَرْيَمَ) بمعنى الخادم. وقيل: المريم بالعربية من النساء، كالزير من الرجال. وبه فسر قول رؤبة: قُلْتُ لِزَيْرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأشمويل)، قيل: هو تعريب إسماعيل، وليس به؛ لأن قوله: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) [البقرة: 87] يأباه، اللهم إلا أن يراد أن هذا غير إسماعيل الذي هو ابن إبراهيم عليهما السلام، وهو بعيد أيضاً، لأن أشمويل هذا على ما أورده أبو عبد الله محمد الكسائي في كتاب "المبتدأ": أشمويل بن يام بن حام من ولد هارون عليه السلام، وذكره الله تعالى في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة: 246] والنبي أشمويل، وقال لهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا) [البقرة: 246]. قوله: (قلت لزير لم تصله مريمه)، بعده: ضليل أهواء الصبا تندمه

ووزن «مريم» عند النحويين «مفعل» لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير وعليب. (الْبَيِّناتِ): المعجزات الواضحات والحجج، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات. وقرئ: وآيدناه. ومنه: آجده بالجيم إذا قوّاه. يقال: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القصيدة قالها رؤبة في أبي جعفر الدوانيقي. قال الجوهري: الزير من الرجال: الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن. ومريم: مفعل بفتح الميم وسكون الراء من رامه يريمه ريماً، أي: برحه وفارقه. ومن ثم قيل: مريم للمرأة التي تكثر زيارة الرجال، كأنها سميت بذلك تمليحاً كما يقال: كافور للأسود. وقال أبو البقاء: ومريم: علم أعجمي، ولو كان مشتقاً من رام يريم، كان مريماً بفتح الميم وسكون الياء، وقد جاء في الأعلام بفتح الياء نحو مزيد، وهو على خلاف القياس. والضليل بتشديد اللام: مبالغة في الضلال، والتندم بمعنى: الندم، واللام في "لزير" بمعنى لأجل، نحو قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [مريم: 73] وضليل: مجرور صفة لزير، وفاعله تندمه على الإسناد المجازي على نحو: نهاره صائم. قوله: (نحو: عثير)، العثير: هو الغبار، ولا تفتح العين فيه، و"عليب": اسم واد لم يجيء على فعيل بضم الفاء وسكون العين غيره. ويجوز فيه الصرف ومنعه. قوله: (آجده، بالجيم: إذا قواه)، الأيد والآد: القوة، تقول منه: آيدته على أفعلته، وتقول من الأيد: أيده تأييداً، أي: قواه.

الحمد للَّه الذي آجدني بعد ضعف، وأوجدني بعد فقر. (بِرُوحِ الْقُدُسِ): بالروح المقدّسة، كما تقول: حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: (وَرُوحٌ مِنْهُ) فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب، ولا أرحام الطوامث. وقيل بجبريل. وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن: (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى: 52]. وقيل: باسم اللَّه الأعظم الذي كان يحيى الموتى بذكره. والمعنى: ولقد آتينا يا بنى إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم َفَكُلَّما جاءَكُمْ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: ناقة أجد: إذا كانت قوية موثقة الخلق، وآجدها الله، وهي موجدة القرا، أي: موثقة الظهر. قوله: (كما تقول: حاتم الجود)، والأصل حاتم الجواد، ثم حاتم الجود. فهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، ففي الصفة القدس منسوب إليها، أي: روح مقدسة، وفي الإضافة بالعكس، نحو: مال زيد. قال المصنف في قوله: (عَذَابَ الْخِزْيِ) [فصلت: 16]: أضاف العذاب إلى الخزي على أنه وصف للعذاب كما تقول: فعل السوء، تريد الفعل السيئ. قوله: (كما قال: (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء: 171])، التشبيه واقع للمبالغة في الكرامة، أي: فوصفها بالقدس للكرامة، كما وصفه بالاختصاص للكرامة. الفاء في قوله: "فوصفه" تفسيرية، لأنه لا يجوز تشبيه الوصف بالقول ففسره بالوصف ليصح. قوله: (وقيل: لأنه لم تضمه) عطف من حيث المعنى على قوله: "ووصفها بالقدس"، أي: وصف روح عيسى بالقدس، لمطلق طهارته وبراءته عن الرذائل، وقيل: "لأنه لم تضمه الأصلاب".

رَسُولٌ منهم بالحق (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان به، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم. ثم وبخهم على ذلك. ودخول الفاء لعطفه على المقدّر. فإن قلت: هلا قيل وفريقا قتلتم؟ . قلت: هو على وجهين: أن تراد الحال الماضية، لأنّ الأمر فظيع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ)، يعني: قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) مسبب عن قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) [البقرة: 87]، ولهذا دخلت "الفاء" عليه على تقدير: نحن أنعمنا عليكم ببعثة موسى، وإيتائه الكتاب، ثم أتبعناه الرسل، وبإيتاء عيسى البينات، لتشكروا تلك النعم بالتلقي بالقبول، فعكستم بأن كذبتم فريقاً، وقصدتم قتل آخرين على نحو: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]، ثم أدخل بين المسبب والسبب همزة التوبيخ والتعجيب لتعكيسهم فيما يجب عليهم. واعلم أن إدخال الهمزة في أثناء الكلام خلاف الأصل؛ لأن رتبتها صدر الكلام، لكنهم قد يقحمونها للتأكيد، قال أبو البقاء: دخلت "الفاء" ها هنا لتربط ما بعدها بما قبلها، والهمزة للتوبيخ. وقال الزجاج: الألف في قوله: "أفأنت" في قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر: 19] جاءت مؤكدة معادة لما طال الكلام؛ لأنه لا يصلح أن تأتي بألف الاستفهام في الاسم وألف أخرى في الخبر. واعلم أن هذا أصل في العربية وقانون يرجع إليه سيما في هذا "الكتاب"، فإنه قد يكرر فيه هذا المعنى مراراً. قوله: (ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم) فعلى هذا ما عقبوا الإتيان محذوف وهو قوله:

فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يراد: وفريقاً تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى اللَّه عليه وسلم لولا أنى أعصمه منكم. ولذلك سحرتموه، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ففعلتم ما فعلتم" فهو كناية عن عين التكذيب والقتل وغير ذلك من قبائحهم وعنادهم. ثم استأنف الكلام موبخاً لهم على ذلك، مصدراً الجملة بهمزة الإنكار قائلاً: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ) على تقدير: أكفرتم وخالفتم، فكلما جاءكم رسول. وهو المراد بقوله: "الفاء لعطفه على المقدر" وهو كفرتم. هذا تقدير صاحب "المفتاح". فالهمزة على الوجه الأول مقحمة، وعلى الثاني: لا. وتلخيصه: أن "الفاء" في قوله: "أفكلما" إما سببية أو عاطفة، فإذا كانت سببية يكون ما بعدها مسبباً عما قبلها على سبيل التعكيس، فلا يجب تقدير مسبب آخر، فتكون الهمزة مقحمة بين السبب والمسبب، وإذا كانت عاطفة فيجب تقدير مسبب عن الإيتاء قبل الهمزة، وتقدير المعطوف عليه بعدها، والوجه هو الأخير لما يحصل منه تنبيه التقريع والتوبيخ إجمالاً وتفصيلاً. وقيل: المقدر "ففعلتم ما فعلتم". وليس بذلك، ويدفعه "ثم" في قوله: "ثم وبخهم" لأنه يستدعي إنشاء كلام متراخ في المرتبة، والفاء العاطفة تنافيه، ولأن المشار إليه بقوله: "على ذلك" هو "فعلتم ما فعلتم". قال القاضي: الفاء في قوله: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) للسببية أو التفصيل، يعني لقوله: (اسْتَكْبَرْتُمْ)، بمعنى: أنفتم أو تعظمتم من أن تكونوا أتباعاً، لأنهم كانوا متبوعين فآثروا الدنيا على الآخرة أيضاً.

وسممتم له الشاة. وقال صلى اللَّه عليه وسلم عند موته «ما زالت أُكلة خيبر تعادّنى، فهذا أوان قطعت أبهرى» (غُلْفٌ): جمع أغلف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما زالت أكلة خيبر تعادني) روينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" أخرجه البخاري، وليس في الرواية "تعادني". وفي "النهاية": تعادني وتعاودني، أي: يراجعني أثر سمها في أوقات معدودة. الجوهري: العداد: اهتياج وجع اللديغ؛ وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ اهتاج به الألم، يقال: عادته اللسعة إذا أتته لعداد، قال الشاعر: ألاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد النهاية: الأبهر: عرق مستبطن القلب، فإذا انقطع لم تبق معه حياة، وقيل: هو عرق منشؤه من الرأس، ويمتد إلى القدم، وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى النأمة، ويمتد إلى الحلق، فيسمى الوريد، وإلى الصدر، فيسمى الأبهر، وإلى الظهر، فيسمى الوتين، والفؤاد معلق به، وإلى الفخذ، فيسمى النسا، وإلى الساق فيسمى الصافن. وكان من حديث الشاة المسمومة على ما روينا عن أبي هريرة، أنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟ " قالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم: "من أبوكم؟ " قالوا: فلان، قال: "كذبتم بل

أي: هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى اللَّه عليه وسلم ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن، كقولهم: (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) [فصلت: 5]، ثم ردّ اللَّه أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، بأن اللَّه لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبوكم فلان"، قالوا: صدقت وبررت، قال: "فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ " قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا، وساق الحديث إلى أن قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ " قالوا: نعم. قال: "فما حملكم على ذلك؟ " قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك" رويناه في "صحيح البخاري". قوله: (أي: هي خلقة وجبلة مغشاة) مغشاةٌ: خبر "هي"، و"خلقة" و"جبلة" منصوبتان: إما تمييزاً أو حالاً أو ظرفاً. قوله: (فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا) إلى آخره فيه إشعار بادعاء التخصيص على ما يقتضيه مذهبه، يعني هم الذين تسببوا بأن غلفوا قلوبهم، لا أنها مخلوقة لله، يدل عليه ادعاؤهم أن قلوبهم مجبولة على الكفر. ورد الله قولهم بقوله: (بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 88]. فقوله: "لعنهم الله" على هذا وضع موضع: غلف الله. والجواب ما ذكره صاحب "الانتصاف": إنما كذبهم في ادعائهم عدم الاستطاعة والتمكن، وإنما هم اختاروا الكفر على الإيمان، فوقع اختيارهم مقارناً بخلق الله إياه في قلوبهم بعد ما أنشأهم على الفطرة إقامة للحجة عليهم.

للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين. (فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ): فإيماناً قليلاً يؤمنون، و"ما" مزيدةٌ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: في قوله: (بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) ترق إلى الأغلظ، ورد لقولهم مما ادعوه أبلغ رد، كأنهم قالوا: نحن من الذين ختم الله على قلوبهم، فردوا: بل أنتم مطرودون، وأكفر منهم حيث جعلتم ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر قديماً كما قال: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة: 87] وحديثاً حيث جاءكم كتاب من عند الله مصدق لما معكم، ورسول كنتم تستفتحون بقدومه على الكفار، فكذبتم بالكتاب وكفرتم بالرسول، فلذلك كرر اللعنة، وجعله تتميماً للآية بقوله: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) وعقبه بقوله: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) [البقرة: 90]. قوله: (و"ما" مزيدة) قال أبو البقاء: "ما" مزيدة و"قليلاً" صفة مصدر محذوف أي: فإيماناً قليلاً ما يؤمنون، وقيل: صفة لظرف، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، ولا يجوز أن تكون "ما" مصدرية لأن "قليلاً" لا يبقى له ناصب. وقيل: نافية، وفيه ضعف لتقدم معمول "ما" في حيز "ما" النافية عليها. قوله: (بمعنى العدم)، النهاية: هذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء كما جاء في الحديث: "أنه كان يقل اللغو" أي: لا يلغو أصلاً. ومنه قول الحماسي: قليل التشكي ..... أي: عديمه.

وقيل: (غُلْفُ) تخفيف "غُلف" جمع "غِلاف"، أى قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره. وروى عن أبى عمرو: قلوبنا غلف، بضمتين. (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من كتابهم لا يخالفه. وقرئ: (مصدّقا) على الحال. فإن قلت: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلت: إذا وصف النكرة تخصص فصح انتصاب الحال عنه، وقد وُصِفَ «كِتَابٌ» بقوله «من عند اللَّه». وجواب "لما" محذوفٌ؛ وهو نحو: كذبوا به، واستهانوا بمجيئه، وما أشبه ذلك يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يستنصرون على المشركين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي عن أبي عمرو: "قلوبنا غلف" بضمتين) وهي شاذة وإن نسبت إلى الإمام. قوله: (وجواب "لما" محذوف، وهو نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه وما أشبه ذلك) يعني حذف الجواب ليدل على الإبهام والشيوع. نقل الإمام عن المبرد: أن "لما" الثانية تكرار لطول الكلام، والجواب: كفروا به، كقوله تعالى: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون: 35] كرر أنكم، والجواب الجملة الشرطية، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. وقال أبو البقاء: هذا ضعيف، لأن "لما" لا تجاب بالفاء، إلا أن يذهبوا به مذهب الأخفش في أن الفاء زائدة.

إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبىّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم: وقيل معنى (يَسْتَفْتِحُونَ): يفتحون عليهم ويعرفونهم أنّ نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: والمعنى أيضاً لا يساعد عليه؛ لأن الشرط كلام في شأن الكتاب، والجزاء في شان الرسول، فلا يتطابق الشرط والجزاء. فإن قلت: نظيره قوله تعالى بعد هذا: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ) [البقرة: 101] لأن نبذ الكتاب هو الجزاء، وهو كلام في الكتاب، والشرط كلام في الرسول. قلت: الفرق ظاهر، لأن ذكر الرسول فيما نحن بصدده وهو قوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) تابع لذكر الكتاب، وقيد للفعل، وتتميم للمعنى، فلا يصح أن يمحض الجزاء بذكر الرسول، بخلافه في تلك الآية، فإن ذكر الرسول كالتمهيد لذكر الكتاب، فلذلك استقام "نبذ فريق" أن يكون جزاء، وأما المعنى الذي عليه كلام المصنف. فإن قوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) جملة حالية مقررة لجهة الإشكال، "وقد" مقدرة، أي: انظروا إلى عناد هؤلاء، فإنهم لما جاء الكتاب المصدق لما معهم، والحال أنهم كانوا من قبل يستنصرون على الكفار بمن أنزل عليه الكتاب، كذبوا به واستهانوا، وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة: 89] جملة معطوفة على الجملة الأولى بعد تمامها، لتدل الأولى على سوء معاملتهم مع الكتاب الذي هو مصدق لما معهم، والثانية مع الرسول الذي كانوا يستفتحون به ويعرفونه حق معرفته. قوله: (أظل زمان نبي)، الجوهري: هو من قولك: أظلك فلان، إذا دنا منك كأنه ألقى عليك ظله، ثم قيل: أظلك أمر وأظلك شهر كذا.

والسين للمبالغة، أى يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسين في استعجب واستسخر، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق (كَفَرُوا بِهِ) بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة. (عَلَى الْكافِرِينَ) أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (يَسْتَفْتِحُونَ) معناه: يستعملون خبره من الناس، وقيل: يطلبون من الله تعالى بذكره الظفر، وقيل: كانوا يقولون: إنا ننصر بمحمد صلوات الله عليه على عبدة الأوثان. قوله: (والسين للمبالغة) أي: هو من باب التجريد، جردوا من أنفسهم أشخاصاً، وسألوهم الفتح. المعنى: يا نفس عرفي الكافرين أن نبياً يبعث إليهم وهو المراد بقوله: "أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم"، ومنه قولهم: مر مستعجلاً. أي: مر طالباً للاستعجال من نفسك مكلفاً إياها التعجيل. قوله: (أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليهم) يعني أن أهل الكتاب كان يقول بعضهم لبعض: انصرني على الكافرين نقاتل مع النبي المبعوث. هذا مثل الوجه الأول في أن السين مجرى على الحقيقة. وفي أن الفتح مضمن معنى النصرة بواسطة "على"، والوجه الثاني من قولهم: فتح عليه كذا، إذا أعلمه ووقفه عليه، كقولهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم. ويجوز أن يراد: أو يسأل بعضهم بعضاً أن يعلموا الكفار أن نبياً يبعث. الراغب: الاستفتاح: طلب الفتح، والفتح ضربان: فتح إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وفتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية.

للدلالة على أنّ اللعنة لحقتهم لكفرهم. واللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوّليا. [(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 90 - 91]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دخولاً أولياً) أي: قصدياً؛ لأن لفظ الكافرين يعم اليهود وغيرهم من سائر المشركين، لكن اليهود داخلون في هذا العام دخولاً قصدياً؛ لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم، وهو من الكناية؛ لأن اللعنة إذا شملت الكافرين أجمع- وهؤلاء منهم-، فيلزم أن تلحقهم على البت والقطع، وهو أقوى مما إذا قيل: فلعنة الله عليهم. فإن قلت: قولك: هو من الكناية ينافي تقريرك وهو أن اللعنة إذا شملت الكافرين إلى آخره لما تقرر أن الكناية هي الانتقال من لازم الشيء إلى ملزومه. قلت: لا منافاة؛ لأن هذه الكناية تسمى إيمائية، وإنما يصار إليها إذا كان الموصوف مبالغاً في ذلك الوصف، ومنهمكاً فيه، حيث إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال نحو قولهم لمن يقتني رذيلة من الرذائل ويصر عليها: أنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو بصددك وأبناء جنسك. فاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعى الله عليهم ذلك، صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم، فكان هذا الكلام لازماً لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولاً فيه، لكونهم تسببوا لاستجلاب هذا القول في غيرهم، وبذلوا أنفسهم فيه، وأنشد صاحب "المفتاح" في المعنى:

"ما": نكرةٌ منصوبةٌ مفسرة لفاعل "بئس"، بمعنى: بئس شيئاً اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. والمخصوص بالذم: (أَنْ يَكْفُرُوا). و (اشْتَروْا) بمعنى باعوا بَغْياً حسداً وطلبا لما ليس لهم، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا الله لم يسق إلا الكرام ... فسقى وجوه بني حنبل وقال: إنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى، لا خفاء فيه. قوله: (ما نكرة منصوبة) قال أبو البقاء: "ما" نكرة موصوفة، و"اشتروا" صفتها، و"أن يكفروا" مخصوص بالذم. قوله: (و (اشْتَرَوْا) بمعنى: باعوا) وهو من الأضداد. فالأنفس بمنزلة المثمن والكفر بمنزلة الثمن؛ لأن أنفسهم لا تشترى بل تباع، فهو على الاستعارة. أي: إنهم اختاروا الكفر على الإيمان، وبذلوا أنفسهم فيه، وإنما وضع الأنفس موضع الإيمان، ليؤذن بأن الأنفس إنما خلقت للعلم والعمل به المعبر عنه بالإيمان، فلما بدلوا الإيمان بالكفر فكأنهم بدلوا الأنفس به. قوله: (بَغْياً): حسداً) قوله: حسداً تفسير لقوله تعالى: (بَغْياً) ثم قوله: "وطلباً لما ليس لهم" تفسير للحسد؛ لأن البغي الذي هو الظلم. أعم من الحسد، ففسره بالحسد لاقتضاء الكلام.

وهو علة (اشْتَرَوا). (أَنْ يُنَزِّلَ): لأن ينزل، أو: على أن ينزل، أي: حسدوه على أن ينزّل اللَّه مِنْ فَضْلِهِ الذي هو الوحى عَلى مَنْ يَشاءُ وتقتضي حكمته إرساله ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى الحسد طلب ما ليس من حق العبد؛ لأن إزالة النعمة التي عرف الله موقعها في المحسود ليس لأحد توخي زواله، وقيل: "طلباً" عطف على "حسداً" وكلاهما تفسير لقوله: (بَغْياً). وقيل: التقدير: اشتروا لبغيهم وبغوا لحسدهم، والأول هو الوجه لقوله: "أي: حسدوه على أن ينزل الله" وقد صرح الواحدي به حيث قال: (بَغْياً)، أي: حسداً. قال اللحياني: بغيت على أخيك بغياً، أي: حسدته، فالبغي: أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغياً؛ لأن الحاسد يظلم المحسود جهده طلباً لإزالة نعم الله عنه. وينصره قول الزجاج: كفروا بغياً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يشكوا في نبوته، وإنما حسدوه على ما أعطاه الله تعالى، فإنه لم يتجاوز عن معنى الحسد، وأي داء أدوى منه! قوله: (وهو علة (اشْتَرَوْا)) قال القاضي: وهو علة (أَنْ يَكْفُرُوا) دون اشتروا، للفصل. وقلت: المعنى مع الأول؛ لأن فيه إبدال أنفسهم بالكفر كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد، كأنه قيل: بئس الاستبدال! استبدال أنفسهم بالكفر لأجل محض الحسد، على أن قوله: "أن يكفروا" مخصوص بالذم فلا يكون فاصلاً.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ): فصاروا أحقاء بغضب مترادف، لأنهم كفروا بنبىّ الحق وبغوا عليه. وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى. وقيل بعد قولهم: (عُزَيرٌ ابنُ اللَّهِ) [التوبة: 30]، وقولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]، وغير ذلك من أنواع كفرهم. (بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) مُطلقٌ فيما أنزل اللَّه من كل كتاب. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) مقيد بالتوراة، (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أي: قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ منها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فصاروا أحقاء بغضب مترادف) دل على كونهم أحقاء به ترتب الحكم على الوصف بالفاء، والمعنى: فلذلك تمكنوا في الغضب تمكن الملاك في ملكهم ومبوئهم، ومنه الحديث: "فليتبوأ مقعده من النار" وإليه أومى الزجاج بقوله: معنى باؤوا: احتملوا، يقال: قد بؤت بهذا الذنب، أي: احتملته، أي: باؤوا بغضب على غضب. أي: بإثم استحقوا به النار على إثم تقدم استحقوا به النار. قوله: (والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة). قال القاضي: "يكفرون" حال من الضمير في "قالوا"، ووراء في الأصل مصدر جعل ظرفاً، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول ويراد به ما يواريه وهو قدامه، وهو من الأضداد. قوله: ((لِمَا مَعَهُمْ) منها) "من" بيان "ما"، والضمير في "منها" للتوراة، وقيل: "من" للتبعيض، والضمير للكتاب، أي: الذي معهم وهو التوراة بعض الكتاب.

غير مخالفٍ له. وفيه رَدّ لمقالتهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها. ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادّعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوّغ قتل الأنبياء. [(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)] (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) يجوز أن يكون حالاً، أي: عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها. وأن يكون اعتراضا بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم. وكرّر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأول مع ما فيه من التوكيد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه رد لمقالتهم) أي: أدمج في إيقاع "وتكفرون" حالاً من فاعل "تؤمن" هذا المعنى يعني: أنهم في هذه الدعوى شاهدون على أنفسهم بالكفر. قوله: (وأن يكون اعتراضاً) أي: تذييلاً؛ لأن المعترضة هي التي اعترضت بين كلام، أو بين كلامين متصلين معنى، والتذييل ما يؤكد به تمام الكلام. والفرق بين أن تكون حالاً وبينها أن تكون اعتراضاً، أن الحال لبيان هيئة المعمول، والاعتراض لتأكيد الجملة بتمامها، ومن ثم قال في الحال: "وأنتم واضعون العبادة غير موضعها"، وفي الاعتراض: "وأنتم قوم عادتكم الظلم" أي: دأب الظلم استمر منكم، وعبادة العجل نوع منه، وأيضاً الجملة الحالية مقيدة للمطلق، فتكون كالمخصص للعام، والمعترضة أعم مما اعترضت فيه، وإليه الإشارة بقوله: "وأنتم قوم عادتكم الظلم". قوله: (كرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى) وذلك أنه ذكر في الأولى:

(وَاسْمَعُوا) ما أمرتم به في التوراة، (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك. فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه قال لهم: (واسمعوا)، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا: (سمعنا)، ولكن لا سماع طاعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) وذكر ها هنا: (وَاسْمَعُوا)، والمراد بقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) التلقي بالقبول والتمسك بما فيه مع وفور نشاط. وبقوله: (وَاسْمَعُوا) العمل بما فيه، والطاعة لأوامره، وحفظ ما فيه، وكذلك معنى: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)، وقال ثمة: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) وها هنا (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وهو مثله؛ لأن من سمع وعصى، فقد تولى بعد الميثاق، وأما الزيادة فهي قوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) الآية والمراد بكفرهم ذلك العصيان والتولي فوضعه موضع المضمر ليدل على أن ذلك العصيان والتولي هو كفر منهم وجحود بالآيات وكفران بتلك النعم، وانه أدى إلى عبادة العجاجيل، وبأن يخاطبوا بقوله: (بِئْسَمَا يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) على سبيل التهكم والسخرية إلى غير ذلك، والله أعلم. قوله: (وليكن سماعكم سماع تقبل) ومرجعه إلى القول بالموجب. أمرهم بالسماع فأجابوه، ولكن على طريق العصيان، ونظيره قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) [التوبة: 61]. الراغب: قوله: اسمعوا معناه: افهموا، وقيل: اعملوا به، ووجه ذلك: أن الشيء يسمع ثم يتخيل، ثم يفهم، ثم يعقل، ثم يعمل به إن كان ذلك المسموع مما يقتضي عملاً، ولما كان السماع مبدأ والعمل غاية، وما بينهما وسائط، صح أن يذكر ويراد به بعض الوسائط، وأن يعنى به الغاية وهي العمل.

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي: تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ. وقوله (فِي قُلُوبِهِمُ) بيانٌ لمكان الإشراب كقوله: (إِنَّما يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء: 10] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: تداخلهم حبه ... كما يتداخل الثوب الصبغ) قال الزجاج: معناه: سقوا حب العجل، فحذف الحب وأقيم العجل مقامه. النهاية: وفي الحديث: "وأشربته قلوبكم" أي: سقيته قلوبكم كما يسقى العطشان الماء: وأشرب قلبه كذا، أي: حل محل الشراب واختلط كما يختلط الصبغ بالثوب. الراغب: من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب إذ هو أبلغ منجاع في البدن، ولذلك قالت الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية، وبركوبها يبلغ أقاصي الأمكنة، قال: تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور وقيل: الأصل حب العجل، فحذف المضاف، وليس في إثباته من المبالغة [ما] في حذفه، لأنه نبه أن فرط شغفهم به أثبت صورة العجل في قلوبهم راسخة. قوله: ((فِي قُلُوبِهِمْ) بيان لمكان الإشراب)؛ وذلك أن قوله: وأشربوا حب العجل مبهم كقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه: 25] كما أن "صدري" بيان لقوله: "لي"

(بِكُفْرِهِمْ): بسبب كفرهم. (بِئْسَما يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ): بالتوراة؛ لأنه ليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب (أَصَلاتُكَ تَامُرُكَ) [هو: 87]، وكذلك إضافة الإيمان إليهم. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له. [(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)]. (خالِصَةً) نصب على الحال من (الدَّارُ الآَخِرَةُ) والمراد الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه أفاد أن شيئاً ما عنده محتاج إلى الشرح، فبين بقوله: صدري ذلك المبهم، كذلك قوله: (وَأُشْرِبُوا) مبهم. لا يعلم منه أي مكان من أمكنة جسدهم تداخل فيها الحب. فبين أن المكان هو قلوبهم، وهذا من المبالغات والإيذان بأن المقام يقتضي مزيد التقرير. قوله: ((خَالِصَةً) نصب على الحال من (الدَّارُ الآخِرَةُ)) قيل: الوجه أن تكون حالاً من الضمير المستتر في الخبر العائد إلى الدار الآخرة، لأن اسم كان لا يقع عنه الحال. قال الحديثي: إن الأفعال الناقصة لا تعمل في الحال؛ لأنه لم يؤت بها لنسبة حدث محقق إلى فاعلها حتى يقتضي متعلقات، يعني إذا قلت: كان زيد قائماً، لم ترد به أن زيداً ثبت، بل تريد به أن القيام المنسوب إليه ثبت لا غير، وذلك حاصل لزيد وإن لم تذكر "كان"، ولذا توهم كثير أنه لا دلالة لها على الحدث، بل وضعها للدلالة على مجرد الزمان، فلذا لم تعمل إلا في الاسم والخبر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي كلام صاحب "المفتاح" ما يشعر بهذا المعنى، قال: إن الخبر هناك هو نفس المسند لا بقيد للمسند إنما تقييده هو كان؛ ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال: إن كونها لثبوت القيام المنسوب إلى المسند إليه لا يمنع عملها في الحال، فالحال حينئذ قيد للمقيد. وقالوا: دليل كون اسم "كان" فاعلاً: أن المصنف وابن الحاجب لم يذكرا اسم "كان" في المرفوعات، على أنهما أوردا خبرهما في المنصوبات. وذكر ابن الحاجب في شرح خبري "كان" و"أن" ما يشعر باختياره كونه فاعلاً. قال أبو البقاء: خبر "كان" لكم و"عند الله" ظرف و"خالصة" حال. والعامل "كان" أو الاستقرار، أو الخبر "عند الله" و"خالصة" حال، فالعامل فيها إما "عند الله" أو ما يتعلق به أو كان أو لكم. وقال ابن جني في "الدمشقيات": يدل على جواز نصب "كان" وأخواتها الأحوال قول الشاعر: فكونوا أنتم وبني أبيكم تمامه: مكان الكليتين من الطحال وقوله:

أي: سالمةً لكم خاصةً بكم ليسَ لأحدٍ سواكم فيها حق. يعنى إن صحّ قولكم: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكان وإياها كحران وأنشد: صخب كأن دعاء عبد منافه ... في رأسه، عقب الصباح الجافل جوز أن يكون "في رأسه" حالاً من الدعاء، و"عقب الصباح" خبراً، وأن يكون "في رأسه" متعلقاً بنفس الدعاء. وقال السيد ابن الشجري في "الأمالي": ومن منع إعمال "كان" في الأحوال فغير مأخوذ بقوله؛ لأن الحال فضلة في الخبر منكورة، فرائحة الفعل تعمل فيها، فما ظنك بـ "كان" وهي فعل متصرف تعمل الرفع والنصب في الاسم الظاهر والمضمر، وليست "كان" في نصبها الحال بأسوأ حالاً من حرف التنبيه واسم الإشارة. وحكى أبو زكريا في "شرح المتنبي" عن أبي العلاء المعري أنه قال: زعم بعض النحويين أن "كان" لا تعمل في الحال. قوله: (خاصة بكم)، الراغب: الخالص كالصافي لكن الصافي يقال فيما لم يكن فيه قبل شوب، دون خالص، فإنه لا يقال إلا فيما كان فيه شوب فزال منه.

(لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودا) ً. و (النَّاسِ) للجنس، وقيل: للعهد وهم المسلمون. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)؛ لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب، كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان على رضى اللَّه عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين: فقال: يا بنىّ لا يبالى أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة رضى اللَّه عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. يعني على التمني. وقال عمار بصفين: الآن ألاقى الأحبة محمداً وحزبه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بين الصفين) أي: بين صف العدو وصف المسلمين. قوله: (جاء على فاقة) أي: تمنيت الموت وجاءني وقت حاجتي إليه، ثم قال: "لا أفلح من ندم" يريد: تمنيت فلما جاء ما ندمت، فعم وقال: لا أفلح، وهو يحتمل الدعاء أيضاً، والله أعلم. قوله: (بصفين) قال الصغاني: صفين: موضع قرب الرقة على شاطئ الفرات على الجانب الغربي بين الرقة وبالس. وكانت وقعة صفين سنة سبع وثلاثين غرة صفر، وهي وقعة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. صفين: بكسر الصاد المهملة وكسر الفاء.

وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحنّ إليه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودى». (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل واحد من العشرة) وهم العشرة المبشرة. روينا عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد ابن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" أخرجه الترمذي، ولأبي داود نحوه. وتخصيص العشرة بعد ذكر المبشرين بالجنة يدل أن المراد بالمبشرين أعم من العشرة، ومن ثم ذكر عماراً وحذيفة. قوله: (يحب الموت)، الراغب: لأن المحبة داعية إلى الشوق، والشوق داع إلى محبة لقاء المحبوب، ومحبة لقائه داعية إلى تأتي سهول السبيل إليه، ولا سبيل إلى الطريق إليه إلا بالموت، فيجب أن يكون الموت متمنى. وقيل: سرور المؤمن بموته كسرور القادم إذا ورد على أهله. وفي الحديث: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه". قوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من موجبات النار). قال القاضي: ولما كانت اليد

وبما جاء به، وتحريف كتاب اللَّه، وسائر أنواع الكفر والعصيان. وقوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، كقوله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة: 24] فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت: لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قلت: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى، وليت: كلمة التمني، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العاملة مختصة بالإنسان وآلة لقدرته، بها عامة صنائعه، ومنها أكثر منافعه، عبر بها عن النفس تارة، وعن القدرة أخرى. وقلت: الظاهر أن قوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة: 95] الآية جملة معترضة كقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا) [البقرة: 24] وينصره قول الزجاج: "ولتجدنهم" حال من فاعل "قل": المعنى: أنك لتجدنهم في حال دعائهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة. فالآية معترضة بين الحال وعاملها. قوله: ("ليت" كلمة التمني) يعني إذا قال الرجل بلسانه كذا، قال أهل اللغة: إنه تمنى، فعبروا عن القول بالتمني، وقالوا أيضاً: إن كلمة "ليت" للتمني. قوله: (ومحال أن يقع التحدي)، وذلك أن قوله: (فَتَمَنَّوْا) طلب للتمني على سبيل التحدي، وإنما يظهر العجز إذا لم يصدر منهم ما طلب منهم. وقوله: "ولو كان التمني" تنزل

فإن قلت: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدّقون. قلت: كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على اللَّه وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا، فكيف يمتنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه، مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدّق مع احتمال أن يكون كاذبا لأنه أمر خافٍ لا سبيل إلى الاطلاع عليه. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم. (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) هو من وجد بمعنى: علم؛ المتعدي إلى مفعولين في قولهم: وجدت زيداً ذا الحفاظ ومفعولاه "هم" (أَحْرَصَ). فإن قلت: لم قال: (عَلى حَياةٍ) بالتنكير؟ قلت: لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبىّ (على الحياة). (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس. فإن قلت: ألم يُدخلِ (الذين أَشْرَكُوا) تحت الناس؟ قلت: بلى، ولكنهم أفردوا بالذكر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الجواب. أي: ولئن سلم أن التمني بالقلوب، فلابد من الإظهار بالقول بأن يقولوا: تمنيناً بقلوبنا رداً منهم لقوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ولكن ما نقل أنهم قالوه. فعلم أنهم ما تمنوا. قوله: (لم يقولوه) وارد على الجواب الثاني، يعني إذا قدر أن التمني من أعمال القلوب، لا يجب أن يقولوا بألسنتهم: تمنيناً، ليدفعوا قوله تعالى: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) لقيام المانع، وهو عدم تصديق المؤمنين إياهم، فالتمني واقع فلا يكون معجزة، وأجاب: أن عدم تصديق المؤمنين ليس بمانع لأن يقولوا: تمنيناً؛ لأنه تعالى كم حكى عنهم من أشياء لم يصدقهم المؤمنون فيها، فهذا من ذلك. قوله: (محمول على المعنى) قال صاحب "الإقليد": تقول: زيد أفضل من القوم، ثم تحذف "من" وتضيفه. والمعنى على إثبات "من".

لأن حرصهم شديد. ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة (أَحْرَصَ النَّاسِ) عليه. وفيه توبيخ عظيم: لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "المرشد": فإن قلت: فلم جيء بـ "من" في الثاني دون الأول؟ قلت: لأن "أفعل" إذا أضفته إلى جملة هو بعضها لم يحتج إلى ذكر من، فهو إما إضافة الواحد إلى جنسه، أو إضافة البعض إلى الكل فتقول: زيد أفضل الناس، وعبدك خير العبيد. فلو قلت: عبدك خير الأحرار، وزيد أفضل إخوته، لم يجز، لأن إخوة زيد غير زيد، وهو خارج من جملتهم، ولو قلت: زيد أفضل الإخوة، جاز، لأنه أحد الإخوة، فعلى هذا قوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعني: علماء اليهود أحرص الناس، أضافهم إلى ما بعدهم؛ لأنهم من جملة الناس، ثم قال: (وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) والمراد بالمشركين المجوس في أصح الأقاويل، للتحية التي كانت لهم إذا عطس العاطس قالوا: عش ألف سنة، وهم غير اليهود، فهو مثل: زيد أفضل من إخوته. ولا يبعد أن يحمل على هذا قول المصنف: "وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس" وقوله: "ويجوز أن يراد: وأحرص "من الذين أشركوا" عطف على قوله: "محمول على المعنى" وهذا قول مقاتل فيكون "من الذين أشركوا" عطفاً على ثاني مفعولي "لتجدنهم" على حذف "أحرص" لدلالة الأول عليه. فإن قلت: ما الفرق بين الوجهين، وعائدتهما راجعة إلى شدة حرصهم، وأنهما من باب عطف الخاص على العام كقوله: "وملائكته وجبريل"؟

فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا - لعلمهم بحالهم - أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملوكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: هو قول الأعاجم: زى هزار سال. وقيل (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) كلامٌ مبتدأ، أى ومنهم ناس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ)، على حذف الموصوف كقوله: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: 164]. و (الذين أشركوا) على هذا: مشارٌ به إلى اليهود؛ لأنهم قالوا: (عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ) [التوبة: 30]. والضمير في (وَما هُوَ) لـ (أَحَدُهُمْ). و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعلٌ (بمزحزحه)، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الثاني أبلغ لإرادة تكرير "أحرص". قوله: (وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس) قال الواحدي: هو قول أبي العالية والربيع، وإنما وصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة، ويزدان وإهرمن، وهم موصوفون بالحرص على الحياة، ولهذا تحيتهم: زي هزار سال. قوله: (و (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على هذا مشار به إلى اليهود) يعني: أقيم المظهر مقام المضمر، ولهذا قدر "ومنهم ناس" ليؤذن أن الموحد يحب لقاء الله كما أن المشرك يكره لقاء الله، ولهذا قال المعري: هذا الوجه أحسن وأعرب.

أي: وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره. وقيل: الضمير لما دل عليه (يُعَمَّرَ) من مصدره، و (أَن يُعَمَّرَ) بدل منه، ويجوز أن يكون (هُوَ) مبهماً، و (أَن يُعَمَّرَ) مُوضِّحه. والزحزحة: التبعيد والإنحاء. فإن قلت: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ما موقعه؟ قلت: هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. فإن قلت: كيف اتصل لو يعمر بيودّ أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم. و «لو» في معنى التمني، وكان القياس: لو أعمر، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) كقولك: حلف باللَّه ليفعلنّ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره) أي: ليس أحد منهم يخلصه من النار طول عمره بسبب أعماله الصالحة. المعنى ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله"، وقيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله". أخرجه أحمد بن حنبل عن أبي بكرة. قوله: (دل عليه (يُعَمَّرُ) من مصدره) كأنه قيل: وما التعمير بمزحزحه من العذاب تعميره. قوله: (و (أَن يُعَمَّرُ) موضحه). قال أبو البقاء: هو ضمير التعمير، وقد دل عليه قوله: (لَوْ يُعَمَّرُ) و (أَن يُعَمَّرُ) بدل من "هو"، ولا يجوز أن يكون هو ضمير الشأن؛ لأن المفسر لضمير الشأن مبتدأ وخبر، ودخول الباء في "بمزحزحه" يمنع من ذلك، وكذا عن الزجاج، وهذا غير وارد على المصنف، لأنه لم يجعله ضمير الشأن بل على نحو: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [البقرة: 29]. قوله: (وكان القياس لو أعمر) لأن الذي صدر منهم من القول هو على حكاية النفس، لكن نظر إلى ظاهر "يود" فأجري مجراه، فهو قريب من المشاكلة.

[(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) 97 - 98]. روي: أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله، وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: "جبرئل"، فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقد عادانا مراراً، وأشدها: أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر، فبعثنا من يقتله، فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً، فدفع عنه جبرئل، وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه؟ وقيل: أمره الله أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. وروي: أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض أعلى المدينة، وكان ممره على مدراس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم، فقالوا: يا عمر، قد أحببناك، وإنا لنطمع فيك. فقال: والله ما أجيئكم لحبكم، ولا أسألكم لأني شاك في ديني، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد، وارى آثاره في كتابكم. ثم سألهم عن جبرئيل، فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمداً على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلقيه ببابل)، النهاية: بابل: الصقع المعروف بالعراق وألفه غير مهموزة. قوله: (غلاماً) هو توطئة للحال التي هي "مسكيناً" كقوله تعالى: (قُرْآناً عَرَبِيّاً). قوله: (مدراس اليهود)، النهاية: المدراس: صاحب كتب اليهود، مفعل ومفعال من أبنية المبالغة. والمدراس أيضاً: البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في المكان.

قالوا: أقرب منزلة جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدو لجبرئيل. فقال عمر: لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله. ثم رجع عمر فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد وافقك ربك يا عمر"، فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وقرئ: (جبرئيل) بوزن: قفشليل، و (جبرئل) بحذف الياء، و (جبريل) بحذف الهمزة، و (جبريل) بوزن: قنديل، و (جبرال) بلام شيدة، و (جبرائيل) بوزن: جبراعيل، و (جبرائل) بوزن: جبراعل. ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل: معناه: عبد الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأنتم أكفر من الحمير) قال الميداني: قولهم: هو أكفر من حمار. وهو رجل من عاد يقال له: حمار بن مويلع، قال الشرقي: هو حمار بن مالك بن [نصر] الأزدي. كان مسلماً، وكان له واد طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، فخرج بنوه يتصيدون فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر وقال: لا أعبد من فعل هذا، ودعا قومه إلى الكفر. فمن عصاه قتله، فأهلكه الله وأخرب واديه، فضرب به المثل في الكفر، قال الشاعر: ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار وقيل: لأن الكفر من الجهل، ولا شيء أبلد وأجهل من الحمار، كأن هذا أنسب لعدم الطباق بين الجمع في "الكتاب"، والإفراد في "المثل". قوله: ("جبرئيل" بوزن: قفشليل) حمزة والكسائي، و"جبريل" بفتح الجيم وكسر الراء من

الضمير في (نَزَّلَهُ) للقرآن، ونحو هذا الإضمار- أعني إضمار ما لم يسبق ذكره- فيه فخامة لشأن صاحبه؛ حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته. (عَلَى قَلْبِكَ) أي: حفظه إياك وفهمكه. (بِإِذْنِ اللَّهِ) بتيسيره وتسهيله. فإن قلت: كان حق الكلام أن يقال: على قلبي. قلت: جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به، كأنه قيل: قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدواً لجبريل فإنه نزَّله على قلبك. فإن قلت: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غير همزة: ابن كثير، و"جبريل" بوزن: قنديل: نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، و"جبرئل" بحذف الياء: أبو بكر عن عاصم، والبواقي: شواذ. قوله: (أي: حفظكه) ويروى: "حفظه إياك وفهمكه"، هذا تفسير لجملة قوله: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) [البقرة: 97] لمح فيه معنى الاستعلاء والاستيلاء، يعني: إذا نزل جبريل بالقرآن على قلبه استولى على القلب، وجعل مجامعه مغمورة به، وتمكن فيه، فلا يشذ منه شيء، ولهذا قال في "الشعراء": حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى) [الأعلى: 6] وفي عكسه: نزلت عن الأمر. قال صاحب "النهاية": كأنك كنت مستعلياً عليه، ومستولياً فنزلت.

كيف استقام قوله: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاءً للشرط؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: إن عادى جبرئيل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته؛ حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك الكتابة مصدقاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف استقام قوله: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاءً للشرط؟ ) أي: من حق الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، وقوله: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) لا يستقيم أن يكون مسبباً عن قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ) وخلاصة الجواب: أن الجزاء هنا ما دل بالإخبار والإعلام إنكاراً على اليهود، وبيانه من وجهين: أحدهما: قوله: (فلا وجه لمعاداته) يعني: من كان من هؤلاء اليهود عدواً لجبريل، فإني أعلمكم أنه معاند مكابر، لا إنصاف له، فلا وجه لمعاداته لأنه نزله كتاباً مصدقاً لكتابه، وكان الواجب أن يتلقاه بالقبول، لكن ما أنصف، وهو المراد بقوله: "فلو أنصفوا لأحبوه"، ونظيره ما قرره ابن الحاجب في قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) [النحل: 53]. وثانيهما: قوله: (إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه) نزله على قلبك، وهو نحو قولك: إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس، يعني: عداوته سبب لما أخبركم به، وهو أنه نزل على قلبك ما يكرهونه، يدل عليه قوله: "إن عاداك فلان، فقد آذيته" قالوا: في هذا الكلام وصف السبب في الجزاء؛ ألا ترى أنك تقول: من شكرني فأنا جواد سخي؟ فلا تأتي بالضمير، بل تشتغل بالسبب، وفيه ضمير معنى، كأنه قال: من كان عدواً لجبريل فله عذر من هذا السبب، ونظيره قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر: 10] فلا ضمير في اللفظ، ولكنه ثابت معنى، أي: فليطلبها عندي، أو فليعتزز بالله، أو في مظانها.

لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم؛ ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه. أفرد الملكان بالذكر؛ لفضلهما، كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. وقرئ: (ميكال) بوزن قنطار، و (ميكائيل) كميكاعيل، و (ميكائل) كميكاعل، و (ميكئل) كميكعل، و (ميكئيل) كميكعيل. قال ابن جني: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه. (عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) أراد: عدو لهم، فجاء بالظاهر؛ ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً فما بال الملائكة وهم أشراف! والمعنى: من عاداهم عاداه الله ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أفرد الملكان بالذكر) يعني: ذكر جنس الملائكة، ثم أفرد جبرئيل وميكائيل منهم، وعطفهما عليهم، ليدل على فضلهما، كأنهما ليسا من جنس الملائكة لاختصاصهما بمزايا وفضائل؛ لأن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. قال أبو الطيب: وإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال أي: المسك لا يعد من الدماء لما فيه من الخصلة التي لا توجد في الدم. قوله: (وقرئ: ميكال) أي: بغير همز ولا ياء: أبو عمرو وحفص، و"ميكائل" بهمزة مكسورة بغير ياء: نافع، والباقون: بياء بعد الهمزة، والبواقي: شاذة. قوله: (والمعنى: من عاداهم عاداه الله) تلخيص معنى الشرط والجزاء، ولو قال: من عادى جبريل عاداه الله كان أظهر، لأن القوم إنما أظهروا عداوة جبريل فحسب، فذكر الله والملائكة والرسل للتوطئة نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57].

وعاقبه أشد العقاب. [(وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ* أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) 99 - 101]. (إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) إلا المتمردون من الكفرة. وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي؛ وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. وعن ابن عباس: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عاقبه أشد العقاب) لزم المعاقبة من معنى العداوة؛ لأن معنى عداوة الله، إنزال النكال، ولزم شدة العقاب من إعادة ذكر اسم الله تعالى في الجزاء، وتخصيص اسم الذات الجامع المفيد في هذا المقام معنى القهارية، وتصريح ذكر الكافرين حيث لم يقل: عدو لهم، أي: فما بال العداوة التي يتولاها الله تعالى بنفسه، فإنه لجلاله يعاقب من عاداه بما لا يدخل تحت الوصف. الراغب: العدو: التجاوز ومنافاة الالتئام، فتارة يعتبر بالقلوب، فيقال له: العداوة، وتارة في المشي فيقال له: العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان. وحقيقة معاداة الإنسان له عز وجل: البعد عنه، ومخالفته في تحري الصدق في المقال، والحق في الفعال، وأن لا يستحق أن يوصف بشيء من أوصافه نحو العادل والجواد والكريم، والقريب منه والمحب له هو أن لا يخالفه في ذلك، وأن يصح أن يوصف بتلك الصفات. وتلك المعاني هي المقتضية لمعاداة الله وأوليائه والداعية إلى ارتكاب المعاصي.

قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها. فنزلت. واللام في (الْفَاسِقُونَ) للجنس، والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب. (أَوَكُلَّمَا) الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات البينات؟ ! وكلما عاهدوا. وقرأ أبو السمال بسكون الواو على أن (الْفَاسِقُونَ) بمعنى: الذين فسقوا، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. وقرئ: (عوهدوا)، و (عهدوا). واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب) يعني أن اللام في (الْفَاسِقُونَ) مع أنها جائز أن تكون للجنس، ويدخل فيه اليهود دخولاً أولياً على سبيل المبالغة، لكن الأحسن الحمل على العهد، ووجه حسنه إفادة التخصيص المستفاد من "ما" و"لا" ليسجل عليهم خاصة بالتمرد والفسق. المعنى: لا يصدر مثل هذا الفسق إلا من هؤلاء، والترقي من الأهون إلى الأغلظ في الإنكار، وهو الكفر بآيات الله، لاسيما على قراءة أبي السمال في الإضراب؛ أثبت أولاً أنهم مبالغون في الفسق ثم أضرب عنه بقوله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة: 100] أي: ليس هذا أول فسقهم وكفرهم بآيات الله يا محمد، بل كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم من الذين مضوا، ثم أضرب عن هذا إلى ما هو أعلى منه بقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي: ما صدر النبذ من فريق منهم فقط بل أكثرهم كافرون. قوله: (وقرأ أبو السمال)، وأبو السمال باللام، وابن السماك بالكاف. فعلى هذا يكون قوله: "أوكلما" معطوف من حيث المعنى على صلة الموصول، وعلى الأول: اللام حرف تعريف.

وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا! وكم عاهدهم رسول الله فلم يفوا! (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) [الأنفال: 56]. والنبذ: الرمي بالذمام ورفضه. وقرأ عبد الله: (نقضه فريق منهم). وقال: (فَرِيقٍ مِنْهُمْ)؛ لأن منهم من لم ينقض. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً، ولا يبالون به. (كِتَابَ اللَّهِ): يعني: التوراة؛ لأنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب في قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 21] "لكما" متعلق بالناصحين؛ لأن المعنى عليه؛ لأن الألف واللام لما كانت صورته صورة الحرف المنزل جزءاً من الكلمة، صارت كغيرها من الأجزاء التي لا تمنع التقديم. وقال المرزوقي وأبو البقاء في قول الحماسي: فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج "في" متعلق بالمتولج. على أن تحمل اللام على التعريف، ويجوز أن تحملها بمعنى "الذي" وتعلق "في" بمحذوف و "أو" بمعنى "بل" لا للشك. قال ابن جني: "أو" هذه هي التي بمعنى "أم" المنقطعة؛ وكلتاهما بمعنى "بل" موجودة في الكلام كثيراً، يقول الرجل لمن يهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول صاحبه: أو يحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك، وأنشد الفراء لذي الرمة: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها، أو أنت في العين أملح

وقيل: كتاب الله: القرآن نبذوه بعدما لزمهم تلقيه بالقبول. (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك، يعني: أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا. ونبذه وراء ظهورهم مثل لتركهم وإعراضهم عنه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذا قال في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] أي: بل يزيدون، وقال ابن جني: لا يجوز أن يكون سكون الواو على أنها حرف عطف كقراءة الكافة، لأن حرف العطف لم يسكن، وإنما يسكن ما بعدها في نحو: (وَهُوَ اللَّهُ) [الأنعام: 3]. قوله: (وقيل: كتاب الله: القرآن) يعني: كتاب الله مظهر أقيم مقام المضمر الدال عليه (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) فإن أريد المصدق كان القرآن، وإن أريد لما معهم كان التوراة. قوله: (لا يدخلهم فيه شك) قيل: هو خبر بعد خبر لأن، أي: كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، ولا يعلمون أنه بريء من أن يحوم الشك حوله، أو في تأويل مصدر، أي: كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله علم تحقيق، أو حال من فاعل "لا يعلمون"، أي: كأنهم لا يعلمون في حال يقينهم. قوله: (أن علمهم بذلك رصين) فإن قلت: من أين استفاد هذا التوكيد ورصانة العلم؟ قلت: من وضع "الذين أوتوا الكتاب" موضع الضمير، يعني عرفوه حق معرفته لما قرؤوا في كتابهم نعته، ودارسوه حتى استحكم بذلك علمهم. وكذا في اختصاص كتاب الله ووضعه موضع ضمير ما دل عليه (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) للدلالة على عظم ما ارتكبوه، وأن المنبوذ كتاب الله المجيد. قوله: (مثل لتركهم وإعراضهم) يعني شبه تركهم كتاب الله وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر. والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً

مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه. وعن الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه. [(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 102]. (وَاتَّبَعُوا): أي: نبذوا كتاب الله واتبعوا (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) يعني: واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هناك، وهو النبذ وراء الظهر. والضمير في قوله: "نبذوه وراء ظهورهم" للكتاب المذكور في التنزيل، وهو محتمل لأن يراد به التوراة، وأن يراد به القرآن، فإذا حمل على التوراة كان كناية عن قلة مبالاة بها فقط؛ لأن النبذ الحقيقي لم يكن منهم، ولهذا قال: "وهو بين أيديهم يقرؤونه" وقال أيضاً: "وأدرجوه في الديباج والحرير"، والحمل على القرآن لا ينافي إرادة حقيقة النبذ فهو كقولك: فلان طويل النجاد؛ يحتمل أن لا يكون له نجاد ويحتمل أن يكون. قوله: (كتب السحر والشعوذة) في نسخة الصمصام بنصب الشعوذة. قال الإمام: الشعوذة إظهار الرجل الحاذق عمل شيء يشغل به أذهان الناظرين وأعينهم لعمل شيء آخر على سبيل السرعة، ليخفى الأمر على الناظر.

أي: على عهد ملكه وفي زمانه؛ وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب. وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه تسخر الإنس والجن والريح التي تجري بأمره. (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ): تكذيب للشياطين، ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به، وسماه كفراً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: على عهد ملكه وفي زمانه) هذا يؤذن أن لابد من تقدير مضاف وجعل "على" بمعنى "في"؛ لأن الملك لا يصلح أن يكون مقروءاً عليه، ولا العهد المقدر ممن يقرأ عليه شيء فيجعل "على" بمعنى "في" ليستقيم المعنى، أي: يقرؤونه في زمانه وعهده. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون "تتلوا" مضمناً معنى الإملاء، فلذلك عدي بـ "على". وقلت: فعلى هذا أيضاً، لابد من تقدير المضاف. المعنى: واتبعوا ما أملى الشياطين على رجال عهد ملك سليمان. قوله: (يلفقونها)، الجوهري: أحاديث ملفقة، أي: أكاذيب مزخرفة. قوله: (تسخر) أي: اتخذ الجن سخرة لنفسه. الجوهري: سخره تسخيراً، أي: كلفه عملاً بلا أجرة، وكذلك تسخره. قوله: (بهتت به) أي: قالوا عليه ما لم يفعله، فقوله: "ودفع لما بهتت به" تفسير لقوله: "تكذيب للشياطين" وقوله: "وسماه كفراً" حال بتقدير "قد" من المجرور في "ما بهتت به" ويجوز أن يكون عطفاً على "دفع لما بهتت به" من حيث المعنى، أي: دفع ما بهتت به وسماه كفراً.

(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ) هم الذين (كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه، (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ): يقصدون به إغواءهم وإضلالهم. (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ): عطف على (السِّحْرَ)، أي: ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل: هو عطف على (مَا تَتْلُوا)، أي: واتبعوا ما أنزل. و (هَارُوتَ وَمَارُوتَ): عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما هو علم السحر؛ ابتلاء من الله للناس؛ من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لئلا يعمل به ولكن ليتوقاه، ولئلا يغتر به؛ كان مؤمناً: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقصدون به إغواءهم) تفسير لـ "يعلمون الناس"، وإنما أوله به لأنه استئناف على سبيل التعليل لقوله: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) ومجرد تعليم السحر لا يوجب التكفير، فلابد من التأويل كما نص عليه، ودل عليه قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ). وقال أبو البقاء: "يعلمون" في موضع نصب على الحال من الضمير في "كفروا"، وقيل: هو حال من الشياطين، وليس بشيء؛ لأن "لكن" لا يعمل فيها. قوله: ((وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على (السِّحْرَ)) وهو من باب عطف البيان على المبين، فكذلك إذا كان معطوفاً على (مَا تَتْلُوا). قوله: (أو تعلمه لئلا يعمل به) إلى قوله: (كان مؤمناً) فيه إشعار بأن تعلمه واجب لإيقاع قوله: "كان مؤمناً" مسبباً عما قبله لكونه جزاء للشرط المقيد، ولاستشهاده بقوله: عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه

عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه كما ابتلي قوم طالوت بالنهر: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة: 249]. وقرأ الحسن: (على الملكين) بكسر اللام على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل. وما يعلم الملكان أحداً حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وصرح بوجوبه الإمام، وجعله مقدمة للواجب. وأما قوله: "إن اجتنابه أصلح" فمستنبط من الآية بحسب الإدماج، ومؤذن بعدم الوجوب، فيتناقض كلامه، اللهم إلا أن يقال: إن المراد بقوله: "كان مؤمناً" لم يكفر. قال القاضي: المراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام، وتسميته سحراً على التجوز لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل لما خفي سببه. وبهذا ظهر أن تعلمه لئلا يعمل به ولكن ليتوقاه حرام أيضاً، وقال صاحب "الروضة": ويحرم فعل السحر بالإجماع، وأما تعلمه وتعليمه ففيه ثلاثة أوجه: الصحيح الذي قطع به الجمهور أنهما حرامان، والثاني: مكروهان، والثالث: مباحان.

(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي: ابتلاء واختبار من الله (فَلا تَكْفُرْ): فلا تتعلم معتقداً أنه حق فتكفر. (فَيَتَعَلَّمُونَ) الضمير لما دل عليه (مِنْ أَحَدٍ) ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضاً: اعلم أن التكهن وإتيان الكهان والتنجيم والضرب بالرمل وبالشعير والحصى والشعبذة وتعليمها حرام، وأخذ العوض عليها حرام بالنص الصحيح في حلوان الكاهن، والباقي: بمعناه، وأما الحديث الصحيح: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" فمعناه: من علمتم موافقته له فلا بأس، ونحن لا نعلم الموافقة، فلا يجوز. قال الإمام: وفي الآية ما يدل على أن الشياطين إنما كفروا لأنهم كانوا يعلمون السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية. وقلت: يريد أنه تعالى قطع قوله: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) عن قوله: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) لأنها جملة استئنافية واردة على بيان العلية، ولما كان تعليم الملكين الناس للابتلاء، صرح بقوله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ)، قال الواحدي: امتحن الناس

أي: فيتعلم الناس من الملكين (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي: علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين؛ من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه، لا أن السحر له أثر في نفسه، بدليل قوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالملكين، وجعل المحنة في الكفر والإيمان، بأن يقبل القابل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه، ولله أن يمتحن عباده بما شاء. قوله: (أي: فيتعلم الناس من الملكين) جعل أحداً بمعنى الناس. قيل: الفرق بين الواحد والأحد بعد اشتراكهما في معنى التوحيد، أن الأحد في موضع النفي يعم القليل والكثير بصفة الاجتماع والافتراق، يقال: ما في الدار أحد ولا اثنان ولا ثلاثة، ولا مجتمعون ولا متفرقون، بخلاف الواحد فإنه يصح أن يقال: ما في الدار واحد بل اثنان. قال الزجاج: قيل (فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام، أي: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ولا تتعلم، ولا تعمل السحر، فيأبون فيتعلمون، والأجود أنه عطف على يعلمان المقدر، أي: يعلمان فيتعلمون. قوله: (الفرك)، الجوهري: الفرك بالكسر: البغض، ولم يسمع هذا في غير الزوجين. قوله: (لا أن السحر له أثر في نفسه) قال صاحب "الروضة": روي عن أبي جعفر

لأنه ربما أحدث الله عنده فعلاً من أفعاله وربما لم يحدث. (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ)؛ لأنهم يقصدون به الشر. وفيه: أن اجتنابه أصلح، كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأستراباذي من أصحابنا أنه قال: لا حقيقة للسحر، وإنما هو تخييل. والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة. وقال الإمام: الخلاف فيما أن الساحر هل يبلغ بسحره إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة وتغيير البنية والشكل، أم لا؟ فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك، لأنه لا يعرف حينئذ صدق الأنبياء. وأجيب: أن من ادعى النبوة، وكان كاذباً فيه، [فإنه] لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء، لئلا يحصل التلبيس. قوله: (كتعلم الفلسفة) قال صاحب "الروضة": ووراء العلوم الشرعية أشياء تسمى علوماً، منها محرم ومكروه ومباح، فالمحرم كالفلسفة والشعوذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبيعيين، وكذا السحر على الصحيح، وتتفاوت درجات تحريمه، والمكروه كأشعار المولدين المشتملة على الغزل والبطالة، والمباح كأشعارهم التي ليس فيها سخف، ولا ما ينشط إلى الشر ويثبط عن الخير.

ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه- أي: استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله- (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ): من نصيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي في وصية أوصى بها بعض من أخذ منه: أوصيه أن يسد سمعه عن أباطيل الفلاسفة فضلاً عن الإصغاء إليها، والتعلم منها، فإنها لم تزل مشؤومة على أهلها، ولو مزجت كلمة منها بالبحر لمزجته، ثم إنها لا تثمر إلا الهوان في الدنيا والخزي في الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك. وللإمام حجة الإسلام كتاب "التهافت" وكتاب "المنقذ من الضلال"، ولشيخنا إمام الموحدين أبي حفص السهروردي كتاب مسمى بـ "الرشف في نصائح الإيمانية، والكشف عن فضائح اليونانية". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (ولقد علم هؤلاء اليهود) بيان لضمير علموا، للتنبيه على أنه راجع إلى من سيق له الكلام أولاً، وأن قصة السحر مستطردة. بيانه: أن قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) [البقرة: 101 - 102] الآيات، بيان لجهلهم وتركهم الحق الواضح إلى الباطل الظاهر بطلانه، وإليه الإشارة بقوله: "أي: استبدل ما تتلوا الشياطين من كتاب الله" وكان من الظاهر أن يكتفي عن قوله: (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) بقوله: واتبعوا السحر، لكن كنى به عنه حتى يحسن استطراد (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وما اتصل به، تصويراً لقبح ما ارتكبوه، حيث بدلوا علوم الدين بعلوم الشياطين، ومن هذا القبيل وضع "من اشتراه" في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ) الآية موضع

(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) أي: باعوها. وقرأ الحسن: (الشياطون)، وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون، وقد ذكر وجهه فيما بعد. وقرأ الزهري: (هاروت وماروت) بالرفع على: هما هاروت وماروت ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "لقد علموا أن ذلك الاشتراء خسران"، ليثبت لهم العلم بخسران أنفسهم بالطريق البرهاني وعلى البت والقطع. وفي لفظة: (تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) إشارة إلى هذا المعنى: إما على سبيل المشاكلة التقديرية يشعر به قوله: "هو بين أيديهم يقرؤونه" كأنه قيل: تركوا قراءة كتاب الله، واشتغلوا بقراءة كتاب الشياطين، أو الاستعارة التهكمية؛ لأن التلاوة عرفاً خصت بقراءة القرآن. الراغب: تلاه: تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك تارة يكون بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءة، وتختص بإتباع كتب الله المنزلة بالقراءة، وقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) فاستعمل فيه لفظ التلاوة لما كان يزعم الشياطين أن ما يتلونه من كتب الله. قوله: (وقد ذكر وجهه فيما بعد) أي: يذكر. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون وبين أن يجريه على ما قبله فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا: هذه يبرون ويبرين، وفلسطين وفلسطون، وحقه أن تشتقه من الشيطوطة، وهي الهلاك كما قيل له الباطل، هذا ما ذكره المصنف في "سورة الشعراء".

وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت، وهو الكسر- كما زعم بعضهم- لانصرفا. وقرأ طلحة: (وما يعلمان) من أعلم. وقرئ: (بين المُرْءِ) بضم الميم وكسرها مع الهمز، و (المَرِّ) بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف، كقولهم: فرج، وإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الأعمش: (وما هم بضاري) بطرح النون والإضافة إلى (أَحَدٍ) والفصل بينهما بالظرف. فإن قلت: كيف يضاف إلى (أَحَدٍ) وهو مجرور بـ (مِنْ)؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال غيره: الشيطان يحتمل أن يكون من شطن، وأن يكون من شاط، فجمعه على حال الرفع جمع السلامة بعد رده إلى المصدر، وهو الشياط، كما قيل: خاط خياطاً، فأقامه مقام الاسم، وفي غير حال الرفع جمعه على فياعيل، نحو شياطينهم، فعلى هذا فالشيطان فيعال من: شطن، وعلى الوجه الآخر فعلان من: شاط. قوله: (وقرئ: بين المُرء) قال ابن جني: "المُرء" بضم الميم وسكون الراء والهمز: قراءة ابن أبي إسحاق، و"المرء"بكسر الميم والهمز: قراءة الأشهب، وهما لغتان، و"المَرِّ" بالتشديد: قراءة الزهري، ووجهه أنه أراد التخفيف، ووقف فصار "المَر" بسكون الراء، ثم ثقل للوقف على قول من قال: هذا خالد، وهو يجعل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فأقر التثقيل بحاله. قوله: ("وما هم بضاري" بطرح النون) قال ابن جني: هذا من أبعد الشواذ، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون "وما هم بضاري أحد به، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضاً "من" في (مِنْ أَحَدٍ) غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من

فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؟ قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه. [(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ* مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 103 - 105]. (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) برسول الله والقرآن (وَاتَّقَوْا) الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ)، وقرئ: "لمثوبة" كمشورة ومشورة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المجرور، فكأنه قيل: وما هم بضاري به أحد. قيل: يقرب هذا من قول سيبويه في: لا أبا لك على الإضافة، واللام لتأكيد الإضافة ولا يجوز أن يكون طرح النون من "بضاري" نحو طرحها في قول الشاعر: الحافظو عورة العشيرة لأن طرحها على هذا الحد إنما يجوز في المعرف باللام. قوله: (وقرئ: لمثوبة) أي: بفتح الواو، قرأ بها قتادة وابن بريدة وأبو السمال.

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير مما هم فيه، وقد علموا، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم. فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب "لو"؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على إثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد: 24] لذلك. فإن قلت: فهلا قيل: لمثوبة الله خير؟ قلت: لأن المعنى: لشيء من الثواب خير لهم. ويجوز أن يكون قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية؟ ) قال الزجاج: لمثوبة في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: لأثيبوا. المعنى: ثواب الله خير لهم من كسبهم بالسحر والكفر. وقال القاضي: وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه. قوله: (لأن المعنى: لشيء من الثواب خير لهم) يعني: المقام يقتضي الترغيب في الثواب، والزجر عن المعاصي، والمعنى: لشيء قليل من ثواب الله خير مما شروا به أنفسهم من إتباع ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان. قلت: إنما جمع بين معنى الدوام والقلة ليؤذن أن قدراً يسيراً من الثواب في الآخرة مع الدوام، خير من كثير ثواب الدنيا مع الزوال، فكيف وثواب الله كثير دائم! قوله: (ويجوز أن يكون قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا)) عطف على قوله: "ولو أنهم آمنوا برسول الله والقرآن" على أن "لو" للتمني، و"لمثوبة" جملة مبتدأة، وعلى الأول "لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، وجوابه "لمثوبة" وإنما خص رسول الله والقرآن بالذكر ليؤذن باتصال الآية بقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) [البقرة: 101]، وأتى

تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدئ: (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ). كان المسلمون يقولون لرسول الله إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم: راعنا يا رسول الله! أي: راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية؛ وهي (راعينا)، فلما سمعوا بقول المؤمنين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: "فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين" لينبه أيضاً على اتصاله بقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) [البقرة: 102]. قوله: (تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له) إشارة إلى مذهبه، وارتكب فيه أمراً عظيماً؛ لأن التمني أصله أن يستعمل فيما لا يتوقع حصوله، ولا يصح حمل هذا على إرادة الله إيمانهم، لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأن الله تعالى إذا أراد شيئاً أن يقول كن فيكون. فإن قلت: التمني مجاز عن بلوغ تماديهم في الطغيان إلى حد لا يمكن تصور الإيمان منهم. يقال: فإذن يلزم أن يكون مراد الله مغلوباً بمرادهم. والحق أن يكون التمني من جهة العباد تنبيهاً من الله تعالى على إرادة الكفر منهم على معنى: أن من عرف حالهم قال ذلك على منوال: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] كما عليه مذهب أهل السنة. المعنى: حصول إيمانهم غير ممكن؛ لأن الله تعالى يريد الكفر منهم، وإذ لا يمكن حصول الإيمان فيطلب كما تطلب المحالات بأن يقال في حقهم: ليتهم آمنوا! قوله: (ثم ابتدئ: (لَمَثُوبَةٌ) أي: استؤنف. كأنهم لما تمنوا لهم ذلك، قيل لهم: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجابوا: لأنا نعلم أن هؤلاء المجازفين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وهم لا يعلمون ذلك، فـ "لو" الثانية أيضاً للتمني. قوله: (وكانت لليهود كلمة يتسابون بها، عبرانية أو سريانية وهي: "راعينا" يعني: قولة

راعنا افترضوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يعنون به تلك المسبة؛ فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها؛ وهو: (انظُرْنَا) من نظره؛ إذا انتظره. وقرأ أبي: (أنظرنا) من النظرة، أي: أمهلنا حتى نحفظ. وقرأ عبد الله بن مسعود: (راعونا) على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع؛ للتوقير. وقرأ الحسن: (راعناً) بالتنوين من الرعن؛ وهو الهوج، أي: لا تقولوا قولاً راعناً، منسوباً إلى الرعن بمعنى رعنياً، كدارع ولابن؛ لأنه لما أشبه قولهم: (راعينا)، وكان سبباً في السب؛ اتصف بالرعن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "راعينا" كلمة ذات وجهين تحتمل المدح والذم، أما المدح فباعتبار العربية، والسب بالعبرانية، فجعلوا كلمة الحق باطلاً، والمدح ذماً، فهذا أيضاً من تعاكيسهم كاستبدال كلام الشياطين بكلام الله. قوله: (راعنا) من راعيت الأمر، نظرت إلام يصير، وأنا أراعي فلاناً، أنظر ماذا يفعل. الجوهري: راعيت الأمر: نظرت إلى أين يصير. وراعيته: لاحظته. الراغب: الرعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم، قيل: رعيت النجوم، إذا راقبتها. قوله: (من الرعن وهو الهوج) الأهوج: الطويل الأحمق. وصف الكلام به مبالغة كما يقال: كلمة حمقاء. قال الزجاج: معنى قراءة الحسن راعناً بالتنوين، لا تقولوا حمقاً من الرعونة. قوله: (لأنه لما أشبه) تعليل لتسمية قولهم: راعناً بالرعن ووصفه بالرعونة. يعني: لم يكن قصدهم فيه هذا المعنى، لكن لما أشبه قولهم قولهم، فكانت المشابهة سبباً لافتراضهم السب سمي بالرعن؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، والفرق بين القراءتين: أن تعليل النهي في قراءة الحسن منصوص عليه، وفي الأولى مطلق.

(وَاسْمَعُوا): وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الهل ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة؛ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة؛ أو: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) [البقرة: 93]؛ أو: واسمعوا ما أمرتم به بجد؛ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه؛ تأكيداً عليهم ترك تلك الكلمة. وروي: أن سعد بن معاذ سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله! والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَاسْمَعُوا): وأحسنوا سماع ما يكلمكم) أي: أجيدوا. قال في قوله تعالى: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة: 7] حقيقته: يحسن معرفته. أي: يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وإنما فسر "واسمعوا" بما فسر من الوجوه الثلاثة لينبه على أن المسلمين كانوا يسمعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن سماع مقصر غير واع، فأمروا بأن يسمعوا حق السماع. أولها: فسره بمعنى إلقاء الذهن وإحضار القلب، يعني: أنكم إنما احتجتم إلى قولكم "راعنا" لأنكم لم تكونوا تحسنون السماع، وكان ذلك مستلزماً لذلك المحذور، فأحسنوا السماع لئلا يلزم ذلك. وثانيها: أن يراد بقوله: "واسمعوا" القبول والطاعة، نهاهم أولاً بقوله: "لا تقولوا راعنا" على إرادة: تأن بنا حتى نحفظه عن مجرد جعل الحفظ غاية للتأني كما قدره، ثم أمرهم بقوله: (وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا) [البقرة: 104] إعلاماً بأن السماع المعتبر أن يجمعوا بين الفهم والعمل حتى تكون غاية الفهم العمل تعريضاً باليهود حيث سمعوا ولم يعملوا وعصوا. وثالثها: أن يكون "اسمعوا" تكريراً للتأكيد كما تقول: لا تضرب زيداً واسمع أمري، فهو تأكيد للكلام المسموع. يعني: إذا تلقيتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً تلقوه بجد وعزيمة حتى لا تحتاجوا إلى أن تقولوا: راعنا.

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأضربن عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت. (وَلِلْكَافِرِينَ): ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه (عَذَابٌ أَلِيمٌ). "من" الأولى للبيان؛ لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، كقوله تعالى: (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة: 1]؛ والثانية مزيدة لاستغراق الخير، والثالثة لابتداء الغاية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ): ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم) إشارة إلى أن قوله: للكافرين مظهر وضع موضع ضمير اليهود؛ للإشعار بأن قولهم ذلك كان تهاوناً بالرسول، ومن أهان نبي الله وحبيبه كان غالياً في الكفر، كاملاً فيه مستحقاً لأن يعذب بعذاب أليم، أي: مبالغ في الإيلام نحو جد جده. فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل التعريف للجنس ليدخل اليهود فيه دخولاً أولياً؟ قلت: ليس بظاهر؛ لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصح قوله: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104] أن يكون تذييلاً، بخلافه في قوله: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89] وإذا جعل التعريف للعهد اختص باليهود بقرينة السياق، وكان تعريضاً بالمؤمنين وتغليظاً للوصف. قوله: ("من" الأولى للبيان) أي: في قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 105]، "والثانية مزيدة" أي: في قوله: (مِنْ خَيْرٍ) لأنها واقعة في سياق النفي، فتفيد النكرة العموم، وهو المراد من قوله: "لاستغراق الخير" أي: لتأكيد استغراق الخير، "والثالثة لابتداء الغاية" أي: في قوله: (مِنْ رَبِّكُمْ). المعنى: أن الكفر في الفريقين يقتضي عدم ودادتهم إنزال الخير من الله، وفي تخصيص أهل الكتاب وإيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وإقامة المظهر مقام المضمر، الإشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق، لكن كفرهم يمنعهم.

والخير: الوحي وكذلك الرحمة، كقوله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) [الزخرف: 32]، والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم؛ فيحسدونكم، وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ) بالنبوة (مَنْ يَشَاءُ)، ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم، كقوله تعالى: (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [الإسراء: 87]. [(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ* أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: أن الكفر شر كله؛ لأنه هو الذي يورث الحسد، ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه البتة، وأن الإيمان خير كله؛ لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى. قوله: (والخير: الوحي، وكذلك الرحمة) فعلى هذا قد أقيم المظهر، وهو الرحمة، مقام المضمر، وهو ضمير الوحي من غير لفظه السابق؛ ليؤذن بأن الوحي هو عين الرحمة، كما أن إرساله صلى الله عليه وسلم محض الرحمة لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107] وكذلك لفظة "الله" في قوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 105] أقيم مقام ضمير "ربكم" لينبه به على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض ملائم للألوهية، كما أن إنزال الخير على العموم مناسب للربوبية. قوله: (إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم) جعل إيتاء النبوة بعضاً من الفضل العظيم؛ لأن الفضل العظيم يعم جميع الأفضال، فقوله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل، أو لكون الكلام في النبوة دخلت فيه دخولاً أولياً.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 106 - 110]. روي أنهم طعنوا في النسخ، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً! فنزلت. وقرئ: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) و (ما ننسخ) بضم النون من أنسخ (أو ننسأها) وقرئ: (نُنسِهَا)، و (نُنَسِّها) بالتشديد، و (تَنْسَها)، و (تُنْسَها) على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله: (ما ننسك من آية أو ننسخها)، وقرأ حذيفة: (ما ننسخ من آية أو ننسكها). ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ما ننسخ" بضم النون) ابن عامر، وبالفتح الباقون، "أو ننسأها" بالهمز: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بغير همز، والبواقي: شواذ. والمصنف جمع المعنيين، أي: النساء والإنساء في الإذهاب بالكلية. قال القاضي: نسخ الآية: بيان انتهاء التعبد بقراءتها، أو الحكم المستفاد منها، أو بهما جميعاً. قوله: (ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى) أي: آية أخرى مكانها، ولابد من هذا التقدير؛ لأن "خيراً منها" صفة موصوف محذوف، ولابد من القرينة الدالة على خصوصيته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي قوله: (مِنْ آيَةٍ) كما قدرها المصنف، ولو قدرت غيرها لركبت شططاً، ونظيره قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]، أي: آيات أخر؛ هذا مشعر بأن الناسخ للكتاب ينبغي أن يكون الكتاب لا شيئاً غيره، وهو موافق لما ذهب إليه الإمام الشافعي؛ لأنه منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وهو موافق لما ورد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً"، رواه الدارقطني، وكيف يخفى على الإمام ما خفي على غيره وهو من أعلام المختصين وقد قال ابن الصلاح: أعيى الفقهاء وأعجزهم معرفة ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه. وكان للشافعي رضي الله عنه اليد الطولى والسابقة الأولى. وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما عرفنا المجمل من المفسر، ولا الناسخ في الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. والآيات التنزيلية شواهد صدق؛ ذلك لأن الناسخ لابد أن يكون خيراً من المنسوخ أو مثله قوله تعالى: (نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] والسنة ليست بخير من القرآن ولا مثله، وأيضاً قال: (نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) والضمير في "نأت" لله تعالى فيكون الآتي بالناسخ هو الله تعالى. وأجاب الجمهور عن الأول: أن المراد بالنسخ، هو نسخ الحكم لا اللفظ؛ لأن القرآن

وإنساخها: الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها. ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وإنساؤها: أن يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى: أن كل آية نذهب بها على ما توجبه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تفاضل فيه، ويجوز أن يكون حكم السنة خيراً من حكم القرآن، أو مثلاً له؛ لأنه يجوز أن يكون حكم السنة أصلح للمكلف من حكم القرآن. وعن الثاني: أنه يصح إطلاق "نأت" على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما أتى به الرسول عليه السلام أيضاً من عند الله لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]. قلت: أما قولهم: إن المراد بالنسخ هو نسخ الحكم لا اللفظ، فهو تخصيص من غير مخصص، على أن الآية ورودها في شأن أهل الكتاب ورد ودادتهم أن لا ينزل الله تعالى على رسوله صلوات الله عليه هذا الكتاب الشريف فينسخ به كتابهم لفظاً وحكماً. ورد أنه صلى الله عليه وسلم اختص به دونهم، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يبدله من تلقاء نفسه بشهادة سبب النزول، ويدل عليه قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 105] إلى قوله تعالى: (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 107]، فإذن كيف يتصور خلاف هذه المعاني! وعن قولهم: أن يكون حكم السنة أصلح، فإنه قريب من القول بالاعتزال مع أن قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [البقرة: 107] يقلع هذا الزعم؛ لأن معناه أن الله تعالى إنما يحسن منه النسخ، لكونه مالكاً للخلق، ومستولياً عليهم، لا لثواب يحصل ولا لعقاب يدفع، ولا لغرض من الأغراض، لأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قولهم: "إنه يصح إطلاق "نأت" على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم فمردود جداً، لما يلزم منه فك التركيب، وارتكاب المحذور، أما فك التركيب، فإن الضمائر في "ننسخ" و"ننسها" و"نأت" دالة على تعظيم الفاعل، ومنادية على جلالته واستبداده بما فعله، فإذا دخل الغير يفوت الغرض المطلوب، ولاشك أنه لا مدخل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في "ننسها"، فإذا فرق الضمائر، ينخرم النظم، وأن ضمير الخطاب في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ) - إذا خص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو عم- والاستفهام المفيد للتقرير ينافي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الضمائر، وكذا وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيصه بذكر اسم الذات في قوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ) مكرراً. وأما ارتكاب المحذور، فهو إذا جعل الفاعل في قوله: "ننسخ" و"نأت" الله، والغير؛ فلا يخلو، إما أن يكون حقيقة فيه دون الله سبحانه وتعالى، أو مجازاً، أو مشتركاً بينهما، فالكل باطل؛ أما بطلان الأول والثاني فظاهر، لأنه يستلزم اجتماع إرادة الحقيقة والمجاز معاً. وأما الثالث، فيستلزم تعدد الفاعل، وحينئذ يفوت التعظيم المطلوب. وأما استدلالهم بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4] فضعيف أيضاً؛ لأن الكلام هناك في المنزل؛ لأن الكفار كانوا ينسبونه إلى الجن، ويسمون قائله مجنوناً بشهادة الآيات المناسبة لها كقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) إلى قوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير: 22] وقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) [الحاقة: 40 - 41] ولهذا عقبة بقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 3 - 5]، فإذن لا تدخل في المعنى الأحاديث الواردة منه صلى الله عليه وسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما نقل ابن الحاجب عنهم: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" نسخ الوصية بالوالدين والأقربين، والرجم للمحصن نسخ الجلد، فضعيف أيضاً، لما روى الإمام عن الشافعي رضي الله عنه: أن الوصية للأقربين منسوخة بآيات المواريث، وأن آية الجلد مخصوصة بما روى عمر رضي الله عنه: أن قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها" كان قرآناً، فلعل النسخ إنما وقع به. وقلت: رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وابو داود وابن ماجة عن ابن عباس قال: سمعت عمر رضي الله عنه، وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم، فقرأناها ووعيناها. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد [عمر] في كتاب الله لكتبتها"، وفي رواية مالك وابن ماجة: وقد قرأ بها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما". وقال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة. وأما حديث: "لا وصية لوارث" فلا يتم استدلالهم به، لأنهم شرطوا التواتر في الحديث الناسخ، وهذا لم يبلغ إلى الدرجة القصوى في الصحة، فكيف بالتواتر؛ لأن أئمة الحديث

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأساطين النقل مثل: البخاري ومسلم ومالك والنسائي، ما أوردوه في كتبهم، بل ذكره الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع [يقول]: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" أو على تقدير تواتره، فقوله: أعطى كل ذي حق حقه، إشارة إلى آية المواريث، فالحديث موضح لدلالة نسخ آية المواريث لهذه الآية. والحمد لله الذي هدانا لنصرة الحق، وترجيح مذهب الإمام المطلبي رضي الله عنه. والعجب أن الأصحاب خالفوا أصولهم في القول بالأصلح، وأبوا متابعة إمامهم، وأولوا ظاهر النص القاطع، وأن المصنف خالف أصحابه ووافقنا، فإن شئت فجرب ذوقك في المتلو من قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 105] إلى آخر قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 107]، ثم انظر: هل تجد مجالاً أن تقحم فيه فعل الغير أو كلامه. فائدة في معرفة التواتر من "كتاب ابن صلاح" و"مختصره" لمحيي الدين النواوي

المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معاً، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رحمهما الله: التواتر عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه، ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه، وحديث: "إنما الأعمال بالنيات" ليس من ذلك بسبيل، وإن نقله عدد التواتر وزيادة؛ لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله، نعم حديث "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" نراه مثالاً لذلك، فإنه نقله من الصحابة العدد الجم، وهو في "الصحيحين" مروي عن جماعة منهم، روى بعض الحفاظ: أنه رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وستون من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقيل: أكثر من ذلك، وقيل: لا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة إلا هذا، وقال الشيخ ابن صلاح: ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد، وهلم جراً على التوالي والاستمرار، والله أعلم. قوله: (من إزالة لفظها وحكمها معاً) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود. قوله: (أو من إزالة أحدهما إلى بدل، أو غير بدل) هذا مبني على قوله أولاً: "نسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها" ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل". فإن قلت: كيف يستقيم قوله: وإذهابها لا إلى بدل مع قوله تعالى: (نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106]؟ قلت: لابد في كلامه من تقدير محذوف وتعسف ليستقيم. فقوله: "إلى بدل" يتعلق بقوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "إزالة لفظها وحكمها معاً أو من إزالة أحدهما" وهو معنى النسخ، وقوله: "أو غير بدل" لا يتعلق بالمذكور، بل بالإنساء. المعنى: ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها، وما ننس من آية لم نأت بدلها، فحذف في الجزاء أحد ما يقابل به "ما" في الشرط. وقلت وبالله التوفيق: الحق أن الآية دالة على شيئين: على النسخ وعلى الإنساء، وعلى أن لكل واحد منهما بدلاً، فالمناسب للنسخ أن يؤتى بآية أخرى، سواء أثبت بها حكم آخر مع إزالة الآية الأولى، أو أزيل بها الحكم الثابت، والمناسب للإنساء أن يؤتى بأخرى لكن لا على طريق النسخ. والحاصل: أن ما اعتبر فيه إزالة الحكم هو النسخ، وما لا يعتبر فيه ذلك هو الإنساء. ويعضده ما روينا عن مسلم، عن أبي موسى: "إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة بـ "براءة" فأنسيتها غير أني حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) "، فتنزيله على هذه القاعدة أن يقال: إنه يمكن أن الله تعالى أنزل بعد هاتين السورتين المنسيتين سوراً وآيات غير مشتملة على إبطالهما وإزالتهما. روينا عن البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا". وعن مسلم عن عبيد الله بن عبد الله قال: قال لي ابن عباس: "أتدري آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً؟ " قلت: نعم، "إذا جاء نصر الله والفتح"، قال: "صدقت".

(نأتِ بـ) آية (خَيْرٍ مِنْهَا) للعباد، أي: بآية العمل بها أكثر للثواب (أَوْ مِثْلِهَا) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن تنزيل قول المصنف على هذا التقرير، فإن قوله: "إلى بدل أو غير بدل" مشير إلى النسخ والإنساء في الشرط، وقوله: "نأت بخير منها للعباد" إلى معنى الجزاء، أي: بخير منها، إما على طريقة النسخ والإبدال، أو على غير هذه الطريقة. والمقام يساعد هذا التقرير؛ لأن الكلام جار في أمر المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطاله كتب اليهود والنصارى، والكتب المنسوخة مشتملة على أحكام وغيرها، والناسخ كذلك، فقوله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) تفصيل لكيفية إبدال المنزل عن الكتب السابقة على سبيل العموم، لأن تلك الأحكام، بعضها منسوخة، وبعضها مقررة، وغير الأحكام مثل القصص والتوحيد ومكارم الأخلاق منسي، ومتروك التلاوة مأمور بالإنساء عنها. وأما نسخ القرآن بالقرآن، فمستفاد من عموم الآية على طريقة إشارة النص وأسلوب الإدماج، فإذن لابد في النسخ بالإتيان بآية أخرى، ولا يرد قولهم: قد جاء النسخ بلا بدل كما في قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة: 12] لمجيء البدل وهو قوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الدال بمفهومه على إباحة الصدقة. قوله: ((بـ) آية (خَيْرٍ مِنْهَا) للعباد، أي: بآية العمل بها أكثر للثواب) يشير إلى أن الخيرية في الآية من حيث الثواب، لا اللفظ؛ لأن القرآن لا تفاضل فيه بحسب اللفظ، وفيه بحث. فإن قلت: إذا كان جواز النسخ معللاً بكون الناسخ خيراً منه من حيث كون العمل بها أكثر ثواباً، لزم جواز ذلك بالحديث بهذه العلة. قلت: لا يلزم؛ لأن الخيرية من هذه الحيثية ليست علة مستقلة، بل مع قيد عدم التفاضل في اللفظ، فإن الثواب الحاصل من نفس قراءة القرآن لا يوازيه قراءة الحديث.

في ذلك (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الخير وما هو خير منه. وعلى مثله في الخير. (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره وقررهم على ذلك بقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ)، أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم، وان لا يقترحوا على رسولهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو يملك أموركم ويدبرها) الفاء سببية. يعني: إنما رتب حكم النسخ على هذه الصفة، وهي أنه مالك السماوات والأرض ليؤذن أنه تعالى يدبر مصالحكم في النسخ والإنساء؛ لأن من دبر أمراً هو أعظم لا يمتنع عليه الأهون، وعندنا من هو مالك للأمور كلها، له التصرف في ملكه ما يشاء. قوله: (لما بين لهم أنه مالك أمورهم) إلى قوله: "أراد أن يوصيهم بالثقة به" بيان لربط قوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة: 108] الآية مع الآيات السابقة، يعني لما رد على اليهود قولهم في النسخ والطعن فيه، وعم الخطاب للكل في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ) [البقرة: 106] إلى قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [البقرة: 107] لأنه من أسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين" رجع إلى المسلمين بخطابهم فيما يشبه حالهم حال اليهود من سؤالهم لما يضرهم ويرديهم، توصية لهم بالثقة بالله، وبما ينزل عليهم من القرآن، وأن لا يكونوا كاليهود في اقتراحهم على نبيهم، ثم لما أراد أن يؤكد النهي عن اقتفائهم آثار اليهود ذكر بعض ما صدر منهم من الحسد وتمني الكفر لهم قال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) [البقرة: 109].

ما اقترحته آباء اليهود على موسى من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالاً عليهم، كقولهم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فسر المصنف تبدل الكفر بالإيمان بترك الثقة بالآيات المنزلة على العموم، فلم خصت الآيات بالقرآن في قولك: وبما ينزل عليهم من القرآن؟ قلت: لا ارتياب أن قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ) الآية، تذييل للكلام السابق على سبيل التهديد والوعيد، والتذييل ما يؤتى في آخر الكلام بما يشتمل على المعنى السابق؛ توكيداً له، فبالنظر على كونه تذييلاً فسر المفسر بالعموم، وبالنظر إلى ما سيق له الكلام وأنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتراحهم ما اقترحوه؛ خصصناه بالقرآن. قوله: (ما اقترحه آباء اليهود على موسى) جاء في بعض الروايات في "التفسير الكبير": أن المراد بهذا السؤال اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط. على ما رويناه عن أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين، مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: "ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا غلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه الترمذي، وزاد رزين: "حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا". هذا، وأما استشهاده بقوله: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153] فمحض تعصب.

(اجْعَل لَنَا إِلَهاً) [الأعراف: 138]، (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153] وغير ذلك. (وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ): ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلاً. فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال: فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت. فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: "أصبتما خيراً وأفلحتما"؛ فنزلت. فإن قلت: بم تعلق قوله: (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "النهاية": ذات أنواط: اسم سمرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي: يعلقونها ويعكفون حولها. قوله: (وشك فيها) عطف تفسيري على "ترك الثقة بالآيات". قوله: (فيه وجهان): أحدهما: أن يتعلق بـ "ود" على معنى وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم" وثانيهما: "أن يتعلق بـ "حسداً" أي: منبعثاً من أنفسهم" جعل "من" ابتدائية، وتصور معنى الظرفية في "عند" و"من" ثم قال: "من قبل أنفسهم": منبعثاً من أنفسهم. قال السيد ابن الشجري في "الأمالي" رداً على مكي بن أبي طالب المغربي في الوجهين:

أن يتعلق بـ (وَدَّ) على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم، وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم، ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق؛ لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟ وإما أن يتعلق بـ (حَسَداً) أي: حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن قول النحويين: هذا الجار متعلق بهذا الفعل يريدون أن العرب وصلته به، واستمر سماع ذلك منهم، فقالوا: رضيت عن جعفر، ورغبت في زيد، كذلك قالوا: حسدت زيداً على علمه، ولم يقولوا: حسدته من ابني. وكذلك وددت لم يعلقوا به "من" فثبت بهذا أن قوله: (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ) لا يتعلق بـ (حَسَداً) ولا بـ (وَدَّ)، لكنه متعلق بمحذوف يكون وصفاً لـ (حَسَداً) أو وصفاً لمصدر (وَدَّ)، أي: حسداً كائناً من عند أنفسهم أو وداً كائناً من عند أنفسهم. والجواب: أن القول بإفضاء عمل الفعل إلى معمولِ معمولِه سائغ وقد قرره في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [يونس: 27] وأيضاً باب التضمين والمجاز واسع. قوله: (حسداً متبالغاً) أي: متناهياً يقال: ابتلغ فيه الحسد وتبالغ متناهياً من قولهم: تبالغ فيه المرض والهم. الأساس: تبلغت به العلة، إذا اشتدت. وإنما كان متناهياً، لأنه انبعث من عند أنفسهم، وكان ذاتياً كقوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر: 9] قال: وقد أضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها، ونفس الرجل كزة حريصة على المنع. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: إن النفوس مجبولة على

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة (حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم. (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم. (مِنْ خَيْرٍ) من حسنة: صلاة أو صدقة أو غيرهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غرائز وطبائع هي من لوازمها وضرورتها خلقت من تراب وصلصال من حمأ مسنون، ولها بحسب تلك الأصول التي هي مبادئ تكونها، صفات من البهيمية والسبعية والشيطنة. وقلت: من الشيطنة نشأ الحسد، ولهذا قال المارد: خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنارية في الإنسان من قوله تعالى: (كَالْفَخَّارِ) [الرحمن: 14]. قال أبو البقاء: حسداً مصدر وهو مفعول له، والعامل (وَدَّ) أو (يَرُدُّونَكُمْ)، (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ) "من" متعلقة بـ (حَسَداً) أي: ابتداء الحسد من عند أنفسهم. قوله: (فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح) العفو: ترك عقوبة المذنب. والصفح: ترك تثريبه، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، يقال: صفحت عنه، أي: أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه. والعفو عنهم لا يكون على وجه الرضا بما فعلوا، بل دفعاً لاشتعال نائرتهم وزيادة إيذائهم، ولهذا علق بقوله: (حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة: 109] وإنما أوثر العفو على الصبر على أذاهم والإعراض عنهم، ليؤذن بتمكين المؤمنين ترهيباً للكافرين.

(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) تجدوا ثوابه عند الله. (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم لا يضيع عنده عمل عامل. [(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) 111 - 112]. الضمير في: (وَقَالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين؛ ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه منسوخ بآية السيف، وفيه نظر؛ إذ الأمر غير مطلق يعني: أن (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) مقيدان بقوله: (حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ). وأورد الإمام هذه الشبهة حيث قال: كيف يكون منسوخاً وهو متعلق بغاية كقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] وإذا لم يكن ورود الليل ناسخاً لم يكن ورود إتيان الأمر ناسخاً. وأجاب: أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً، لم يخرج ذلك الوارد عن أن يكون ناسخاً، ويحل محل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه لكم. وقلت: ويؤيده حكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما أن انتهاء مدة الحكم بهما إرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ) [الأعراف: 157] فكان ظهوره صلوات الله عليه نسخاً، والله أعلم.

وأمناً من الإلباس؛ لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه، ونحوه: (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) [البقرة: 135] والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ، وبازل وبزل. فإن قلت: كيف قيل: (كَانَ هُوداً) على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ (مَن)، والخبر على معناه، كقراءة الحسن: (إلا من هو صالو الجحيم). وقوله: (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) [الجن: 23]. وقرأ أبي بن كعب: (إلا من كان يهودياً أو نصرانياً). فإن قلت: لم قيل: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)، وقوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية واحدة؟ قلت: أشير بها إلى الأماني المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) متصل بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى). و (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) اعتراض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كعائذ)، الجوهري: العوذ: الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذ، ويجمع أيضاً على عوذان. قوله: (و (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) اعتراض) فإن قلت: من حق الاعتراض أن يكون مؤكداً للمعترض فيه، فأين مقتضاه ها هنا؟ قلت: قوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) حكاية دعواهم الباطلة، وقد أكدوها بلفظة "لن" على سبيل الحصر، وقوله: (قُلْ هَاتُوا)، أي: بيانكم إن كنتم صادقين، بيان لبطلانها، وأن تلك الدعوى بمجرد القول لا برهان لهم فيها، وقوله: "تلك" إشارة لبعدها عن التحقيق وتحقير شأنها، ومن ثم سماها أماني، والأماني لا ثبوت لها، وأما على تقدير حذف المضاف فهي أبلغ في باب الاعتراض، يعني أن هذه الأمنية ليست ببدع منهم، بل كان أمانيهم مثل هذه.

أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه يريد: إن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل أمنيتهم هذه. والأمنية أفعولة من التمني، مثل الأضحوكة والأعجوبة. (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة: (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين. وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت. و"هات" صوت بمنزلة هاء بمعنى: أحضر. (بَلَى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم) فعلى هذا المشار إليه بـ "تلك": هذه المقالة، وإنما بعدها لعظم شأنها وتفخيمها. الانتصاف: أو الأمنية الواحدة جمعت إشعاراً بأنها بلغت منهم كل مبلغ، كما قالوا: معي جياعاً، جمعت لزيادة تأكيد الواحد وإبانة زيادته على نظرائه. الإنصاف: وإنما جمع ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم، وتكررها، فتصير أماني حقيقة، أو أن الأماني هي الأباطيل والأقاويل كما نقله المهدوي، وهذه الجملة أقاويل؛ لأنها نفت دخول غيرهم الجنة، وأثبتت دخول النصارى الجنة ودخول اليهود الجنة، وهي أقاويل وأباطيل حقيقة. قوله: (من أخلص نفسه له)، الراغب: أصل الوجه: العضو المقابل، فاستعير للمقابل من كل شيء حتى قيل: واجهته ووجهته، وقيل للقصد: وجه، وللمقصد: وجهة، وعلى ذلك:

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي يستوجبه. فإن قلت: (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) كيف موقعه؟ قلت: يجوز أن يكون (بَلَى) رداً لقولهم، ثم يقع (مَنْ أَسْلَمَ) كلاماً مبتدأ، ويكون (مَنْ) متضمناً لمعنى الشرط، وجوابه: (فَلَهُ أَجْرُهُ)، وأن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعلاً لفعل محذوف أي: بلى يدخلها من أسلم، ويكون قوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ) كلاماً معطوفاً على "يدخلها من أسلم" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) [البقرة: 112] و (وَجَّهْتُ وَجْهِي) [الأنعام: 79] وقيل: الوجه في هذه المواضع اسم للعضو مستعار للذات، وقوله: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي: نفسه. قوله: ((وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله) وهو ينظر إلى الألفاظ النبوية صلوات الله على قائلها بعد ما أجاب عن الإيمان والإسلام والإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وقد فسر بالإخلاص في العمل. قوله: (كلاماً مبتدأ) أي: مستأنفاً جواباً عن سؤال مقدر، فإنهم لما نفوا دخول الجنة عن غيرهم، وأثبتوا لأنفسهم، رد عليهم هذا التحكم الباطل بـ "بلى"، أي: ليس الأمر كما تزعمون، ثم اتجه لسائل أن يقول: فما الحكم الحق والقضاء العدل؟ فقيل: (وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ) الآية [البقرة: 112]، فظهر أن السؤال على هذا عن الحكم، وعلى الوجه الثاني لا يكون استئنافاً، ويجوز أن يكون استئنافاً كأنه لما قيل: بلى يدخلها، قيل: مَن؟ قيل: من أسلم، هذا هو الوجه؛ لأن الكلام وقع في الفاعل لا في الحكم، على أنه ذلك الوجه أيضاً مستتبع للحكم، وبيانه: أن اليهود والنصارى لما ادعوا أنهم وحدهم يدخلون الجنة، وأن

[(وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) 113 - 114]. (عَلَى شَيْءٍ): على شيء يصح ويعتد به، وهذه مبالغة عظيمة؛ لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غيرهم لا نصيب لهم، حيث بنوا كلامهم على النفي والإثبات المفيد للقصر، أي: نحن ندخل لا غيرنا، فقيل لهم: بل يدخل غيركم. ولما أراد أن يوقفهم على خطيئتهم في تلك المقالة على وجه يبعثهم على التفكر وتوخي الصواب، ويرشد غيرهم إلى تحري ما به يفوزون بالفلاح عاجلاً وآجلاً، قال: (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: يدخل الجنة من اجتنب الشرك الجلي والخفي، عقيدة وعملاً، وتواطأ ظاهره مع باطنه إخلاصاً وإحساناً كائناً من كان، فإذا نظر الزاعمون في هذا الكلام الذي سلك فيه طرائق الإنصاف، وتفكروا في حال أنفسهم، وما هم فيه من مساوئ الأعمال والاعتقاد الباطل والقول الكاذب وحال المؤمنين وإخلاصهم لله ظاهراً وباطناً، وصدقهم في المقال أذعنوا للحق. ثم إنه تعالى ما اكتفى بهذا القدر من الجواب، بل ضم إليه على وجه التتميم قوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وأطلق الأجر، ليشمل ما لا يدخل تحت الوصف، وجعله من عند مالكه ومدبر أمره، الرب الرؤوف الرحيم، وأردفه بما ينبئ عن حصول الأمن التام عاجلاً وآجلاً، فقال: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ولما فرغ من بيان قدحهم في غيرهم، أتبعه بما كان يختص بهم، وبما بينهم من القدح وقال: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) الآية [البقرة: 113]. والله أعلم. قوله: (وهذه مبالغة عظيمة، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء)، الانتصاف: لا

في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهذا كقولهم: أقل من لا شيء. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) الواو للحال، والكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة في تصديق بعضها بعضاً. (كَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصح قوله على مذهب أهل السنة ولا المعتزلة؛ لأن الأباطيل التي يستحيل وجودها لا تسمى شيئاً اتفاقاً. قوله: (أي: مثل ذلك الذي سمعت به) قال أبو البقاء: الكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف منصوب بـ "قال"، وهو مصدر مقدم على الفعل. والتقدير: قولاً مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون، فعلى هذا (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) منصوب بـ "يعلمون" على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون "الكاف" في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر عنه، والعائد إلى المبتدأ محذوف. أي: قاله. (مِثْلَ قَوْلِهِمْ): صفة مصدر محذوف، أو مفعول ليعلمون، والمعنى: مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. وقلت: وعلى أن يكون "مثل قولهم" صفة مصدر محذوف يمكن أن يجرى القول مجرى العلم، أي: مثل ذلك القول قال الذين لا يعلمون علماً يشبه علمهم؛ لأنهم أهل كتاب، وهم مشركون ومعطلة، وعليه ظاهر كلام المصنف. قال في "النهاية": سمع علي رضي الله عنه امرأة تندب عمر رضي الله عنه، فقال: أما والله ما قالته ولكن قولته. أي: لقنته وعلمته.

(قَالَ) الجهلة (الَّذِينَ) لا علم عندهم، ولا كتاب، كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم؛ قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم؛ حيث نظموا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم. وروي: أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة. (فَاللَّهُ يَحْكُمُ) بين اليهود والنصارى (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وعن الحسن: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث: "قولوا بقولكم" أي: بقول أهل دينكم وملتكم. وفي التشبيه مبالغة على نحو قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة: 275]، وتخصيص من جهة التقديم. قوله: ((يَحْكُمُ) بين اليهود والنصارى) فإن قلت: لم خصهما بالذكر بعد قوله: (قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فهذا أعم، فيدخل اليهود والنصارى دخولاً أولياً؟ قلت: المراد توبيخ اليهود والنصارى حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم شيئاً، فالواجب تهديد هؤلاء خاصة. والدليل عليه الفاء في قوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، وإيقاع "لا يعلمون" على "مثل قولهم". قوله: (بما يقسم لكل فريق) يعني "يحكم" يستدعي جارين: الباء "وفي" كما يقال: حكم الحاكم في هذه الدعوى بكذا، فحذف في التنزيل المتعلق بالباء، ليعم المقدر، ولذلك قال "بما يقسم" أولاً و"أن يكذبهم" ثانياً.

(أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعولي (مَّنَعَ)؛ لأنك تقول: منعته كذا، ومثله: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ) [الإسراء: 59]، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [الإسراء: 94]، ويجوز أن يحذف حرف الجر مع "أن"، ولك أن تنصبه مفعولاً له بمعنى: منعها كراهة أن يذكر، وهو حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم. والسبب فيه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعولي (مَّنَعَ) يعني تعدى "منع" إلى المفعولين بنفسه، واستدل بقوله: "منعته كذا" وبالآيتين، وقال في "مقدمة الأدب": منعته عن الأمر ومنعته الأمر، ثم قال: "ويجوز أن يحذف حرف الجر" ويوصل بالفعل، وعلى التقديرين، لابد لقوله: (مَسَاجِدَ اللَّهِ) من تقدير مضاف، أي: أهل مساجد الله بدليل قوله: "يمنعون الناس" وقوله: منع المشركين رسول الله". وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون "أن يذكر" في موضع نصب على البدل من "مساجد" بدل الاشتمال، المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه، أو على أنه مفعول له، أو التقدير: من أن يذكر، فحذف "من" ونصب. وفي "الصحاح" منعت الرجل عن الشيء، ومن هذا قيل: إن قوله: "ويجوز أن يحذف" جواب سؤال، أي: كيف يكون أن يذكر ثاني مفعولي "منع"، ولا يجوز لـ "منع" مفعول ثان إلا بواسطة حرف الجر؟ فقال في جوابه: "ويجوز أن يحذف" إلى آخره. ويقال: الواو في "ويجوز" مانع للحمل على الاستئناف على تقدير السؤال والجواب. قوله: (والسبب فيه) أي: في نزول الآية. وقوله: "وقيل: منع المشركين" عطف على قوله: "والسبب فيه" وكذا قوله: "وينبغي أن يراد بـ "من منع" العموم" عطف عليه، وقوله: "ولا يراد الذين" بيان على سبيل التأكيد لقوله: "أن يراد بـ "من منع" العموم"، فالوجوه ثلاثة: الأول خاص، وأن المراد بـ "من منع": النصارى، وبالمساجد: بيت المقدس.

أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وان الروم غزواً أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا. وقيل: منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. فإن قلت: كيف قيل (مَسَاجِدَ اللَّهِ) وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت لا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: ومن أظلم ممن آذى الصالحين، وكما قال الله عز وجل: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، والمنزول فيه الأخنس بن شريق. (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان، وينبغي أن يراد بـ "من منع" العموم كما أريد بمساجد الله، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين. (أُوْلَئِكَ) المانعون (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا) أي: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله (إِلاَّ خَائِفِينَ)، على حال التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: خاص بالمشركين وبالمسجد الحرام، والسؤال: "كيف قيل: مساجد الله؟ " وارد على هذين الوجهين. والثالث: عام وهو أوفق لتأليف النظم لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة: 115]، ولهذا قال: "إنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً". قوله: (لا بأس أن يجيء الحكم عاماً، وإن كان السبب خاصاً 9 فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله: (مِمَّنْ مَنَعَ) على العموم، كما أن "مساجد الله" عام، فإن الجمع إذا أضيف صار عاماً ليتطابقا، ويلزم العمل بالدليلين، فظهر أن الوجه الثالث أرجح الوجوه، وأظهر، وللتأليف أوفق كما سبق. قوله: (وارتعاد الفرائص)، الجوهري: الفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف التي لا تزال

أن يبطشوا بهم، فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وقيل: ما كان لهم في حكم الله يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقويهم، حتى لا يدخلوها إلا خائفين. روي: أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ترعد من الدابة، وجمعها: فرائص، وفرائص العنق: أوداجها الواحدة فريصة، وهو كناية عن شدة الخوف. قوله: (أن يبطشوا) هو مفعول "خائفين" نحو قولك: هذا زيد ضارباً عمراً الآن أو غداً، و"فضلاً" متعلق بقوله: "أن يدخلوا". قوله: (ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة)، فإن قلت: لولا لامتناع الشيء لوجود غيره، فيلزم من وجود الظلم انتفاء الوجوب، وليس كذلك، وأما وجود الظلم، فكما روي أن بيت المقدس بقي أكثر من مئة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً إلى أن استخلصه الملك الناصر صلاح الدين. قلت: المعنى ما أوجب على أولئك المانعين ولا ألزم عليهم بحيث لا يسعهم تركه إلا أن يدخلوها خائفين، لكنهم لعتوهم وعنادهم غيروا الواجب، وتمردوا كما أن من وجبت عليه الصلاة إذا تركها لم يسقط عنه الواجب، لكنه لعصيانه تركه. ويؤيده ما قال الإمام: ما فرض الله ولا أوجب إلا ذلك. أو المعنى: ما حكم الله بشيء إلا بأن ينصر المؤمنين حتى لا يدخل النصارى إلا خائفين، فقد حصل الحكم فلا يجب في عموم الأوقات، وهو المراد بقوله: "إن الله قد حكم وكتب [في اللوح] أنه ينصر المؤمنين ويقويهم، حتى لا يدخلوها إلا خائفين".

وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان" وقرأ أبو عبد الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنهك ضرباً) أي: بولغ في ضربه، الجوهري: نهكه السلطان عقوبة ينهكه نهكاً ونهكة: بالغ في عقوبته. قوله: (وابلغ إليه في العقوبة)، الأساس: أبلغت إلى فلان: فعلت به ما بلغ به الأذى والمكروه البليغ، ففيه تضمين معنى الإفضاء. قوله: (وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم) عطف على قوله: (روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى" وفيه تقسيم لقوله: "أولئك المانعون" المراد بهم النصارى والمشركون مطلقاً، لقوله: "ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى والمشركين". قوله: (ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك) الحديث رويناه في "صحيح" البخاري ومسلم و"سنن أبي داود" والدارمي والنسائي عن أبي هريرة: "أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره [عليها] رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". قال الإمام: وفي الآية بشارة للمسلمين بأن الله سيظهرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام منهم أحد إلا خائفاً، وقد أنجز الله هذا الوعد بمنعهم من دخول المسجد الحرام، فيحمل هذا الخوف على ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته عليهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته أبداً.

(إلا خيفاً) وهو مثل صيم. وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوزه أبو حنيفة، ولم يجوزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) [الأحزاب: 53]. (خِزْيٌ): قتل وسبي، أو ذلة بضرب الجزية، وقيل: فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "إلا خيفاً" [وهو] مثل صيم) أي: في قلب الواو ياء. روي عن المصنف: القياس خوف وصوم، ولكن لقربه من الطرف اجترئ على إعلاله، وقبح "صيام" في "صوام" لبعده من الطرف. قوله: (وفرق الشافعي) روى الإمام عن الشافعي رضي الله عنه أنه يمنع من دخول المسجد الحرام لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ) [التوبة: 28] والمراد الحرام لقوله تعالى: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1] وأسرى من بيت أم هانئ. واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بما روي أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد، ولأن للكافر الدخول في سائر المساجد وفاقاً، وكذلك المسجد الحرام. وأجاب بالفرق للتعظيم، وان الحديث مختص ببدء الإسلام. قوله: (وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول) عطف على قوله: "ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله" وعلى الأول إخبار وعلى الثاني نهي. نهي المؤمنون عن تمكينهم الكفار من الدخول وهو أبلغ من صريح النهي، لأن الكناية أبلغ، فإنك إذا قلت لصاحبك: لا ينبغي لعبدك أن يفعل كذا على إرادة النهي للسيد، كان أبلغ من النهي له ابتداء، فعلى هذا لا يجب المصير إلى تخصيص العام الذي وقع خلافه، ومن ثم أخر هذا البحث.

[(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) 115]. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي: بلاد المشرق والمغرب. والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها. (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) ففي أي مكان فعلتم التولية؛ يعني تولية وجوهكم شطر القبلة، بدليل قوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي: جهته التي أمر بها ورضيها والمعنى: أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام وفي بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان، لا يختص إمكانها في مسجد دون مسجد، ولا في مكان دون مكان. (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ) الرحمة، يريد التوسعة على عباده، والتيسير عليهم. (عَلِيمٌ) بمصالحهم. وعن ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وعن عطاء: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل معناه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعلتم التولية) يعني: أجرى "تولوا" مجرى اللازم؛ لأن مفعوله الأول وهو "وجوهكم" منسي غير منوي نحو: فلان يعطي ويمنع، وقوله: "يعني تولية وجوهكم شطر القبلة" بيان لأصل المعنى لا تفسير لقوله: "فعلتم التولية". قوله: (أي: جهته التي أمر بها ورضيها) اعلم أنه جيء بالوجه إما: مجازاً عند المعتزلة، أو كناية عندنا عن رضا الله؛ لأن من رضي عنه مخدومه، لا يمنعه أن يستقبل بوجهه إليه، بل يستبشر له ويرضى عنه، وسيجيء نحو هذا البحث في قوله تعالى: (وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) في آل عمران [77]. قوله: (فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا) قال القاضي: وفي قول ضعيف: لو اجتهد المجتهد وأخطأ، ثم تبين له أنه أخطأ، لم يلزمه التدارك، تمسكاً بهذه الآية.

فأينما تولوا للدعاء والذكر، ولم يرد الصلاة. وقرأ الحسن: (فأينما تولوا) بفتح التاء من التولي يريد فأينما توجهوا القبلة. [(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) 116]. (وَقَالُوا) وقرئ بغير واو، يريد الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله. (سُبْحَانَهُ): تنزيه له عن ذلك وتبعيد. (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَقَالُوا): وقرئ بغير واو) قرأها ابن عامر وعلى الأول: الجملة عطف على قوله: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) [البقرة: 113] وعلى الثاني استئناف، كأن سائلاً سأل: هل انقطع حبل افترائهم على الله، أو امتد ولم ينقطع؟ فقيل: بل قالوا أعظم من ذلك، وهو نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) الآية [الشورى: 5]. قوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو خالقه ومالكه ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح) وتقرير هذا المعنى هو: أنه تعالى عم أولاً في قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [البقرة: 116] مع أن سوق الكلام فيمن عبد من دون الله من العقلاء لقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) إتباعاً لأولي العلم غير أولي العلم للإعلام بأنهم في غاية من القصور عن معنى الربوبية، وفي نهاية من النزول إلى معنى العبودية، إهانة لهم وتنبيهاً على إثبات مجانستهم بالمخلوقات المنافية للألوهية، ثم ثنى بتغليب العقلاء على غيرهم في قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) إيذاناً بأن الأشياء كلها في التسخير والانقياد بمنزلة المطيع المنقاد الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف

(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد. والتنوين في (كل) عوض من المضاف إليه أي: كل ما في السموات والأرض، ويجوز أن يراد كل من جعلوه لله ولداً. (لَهُ قَانِتُونَ): مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم. فإن قلت: كيف جاء بـ: "ما" التي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الأمر ولا يمتنع عن الإرادة. ولما كان القصد في الإيراد إلى من عبد من دون الله من العقلاء انخرطوا في هذا السلك انخراطاً أولياً، واتصفوا بصفة العجز والتسخير أولوياً، فحينئذ يقال ما قال المصنف: "من كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد" وفيه إشارة إلى أن العقلاء إذا نسبوا إلى الألوهية كانوا بمنزلة الجمادات، والجمادات إذا نسبت إلى العبودية كانت بمنزلة العقلاء. قوله: (ويجوز أن يراد كل من جعلوه): عطف على قوله: "كل ما في السماوات والأرض"، ويجوز أن يعطف على قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وهو خالقه"، فعلى هذا (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) لم يكن عاماً، بل مجرى على العقلاء لإرادة الوصفية، فحينئذ يتوجه عليه: كيف قرن "ما" الذي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ) وهو لأولي العلم؟ ويكون الجواب: أن حاله كحال قولك: سبحان ما سخركن لنا، هذا توطئة للجواب، ولهذا عطف عليه قوله: فكأنه جاء بـ "ما" دون من، تحقيراً على سبيل البيان، أي: الظاهر أن يقال: له من في السماوات والأرض، أي: ممن عبد دون الله من الملائكة والمسيح وعزير، فوضع "ما"، وهي لغير أولي العلم، موضع "من" إرادة للوصفية، وهي المملوكية، تحقيراً لشأنهم، حيث نسبوا إلى الله سبحانه وتعالى بالوالدية، كما حقر شأن الملائكة في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات: 158]، لهذه العلة سماهم جنة، وهم ملائكة مكرمون؛ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى.

قلت: هو كقوله: سبحان ما سخركن لنا، وكأنه جاء بـ "ما" دون "من"؛ تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، كقوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات: 158] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الفرق بين الوجهين فهو: أن التحقير على الأول يعلم من قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ) بطريق المفهوم، والتسخير من قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كذلك، وعلى الثاني بطريق التصريح، وكم بين الدلالتين! وذلك أن الدعوى مع الكناية كدعوى الشيء للبينة، وكذلك قررنا التفسير بطريق أدى إلى المقصود بالطريق الأولى. الراغب: قيل: إنما وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؛ لأن في الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله تعالى هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب هو معبود الابن من وجه، أي: مخدومه، يقصدون معنى صحيحاً كما يقصد علماؤنا بقولهم: الله تعالى محب ومحبوب ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وقولهم: رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، وكان عيسى يقول: أنا ذاهب إلى أبي، ثم تصور الجهلة منهم معنى الولادة الطبيعية. قوله: (سبحان ما سخركن لنا)، يخاطب النساء، وفيه معنى التعجب، يتعجب من كونهن- مع الدهاء والحيلة- مسخرات للرجال. وفي "الإقليد": كأنه قيل: ليس من شأنكن أن تكن مسخرات لنا، فسبحان الملك القادر الذي سخركن لنا بكمال ملكوته وتمام قدرته وعظمته.

[(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 117]. يقال: بدع الشيء فهو بديع، كقولك بزع الشيء فهو بزيع. و (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي: بديع سماواته وأرضه. وقيل: البديع بمعنى المبدع كما أن السميع في قول عمرو: أمن ريحانة الداعي السميع بمعنى المسمع، وفيه نظر. و (كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامة، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بزع الشيء) بالزاي والعين المهملة، الأساس: غلام بزيع ظريف: ذكي، وقد تبزع الغلام: تظرف. قوله: (في قول عمرو)، قال الزجاج: هو عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع معنى السميع: المسمع. تم كلامه. قيل: ريحانة: اسم امرأة. وقيل: اسم موضع. يؤرقني: يوقظني، هجوع: نيام، الداعي: دواعي الشوق الذي يدعوه ويسمعه الصوت، يؤرقني: حال من الضمير الذي تحول من الفعل إلى الظرف، وهو قوله: "من ريحانة"، إن قلنا: "الداعي": مبتدأ والمقدم خبره، وإن قلنا: "الداعي": فاعل، فالجملة حال منه، والأولى أن يكون "يؤرقني": جملة مستأنفة. الجوهري: السميع: السامع، والسميع: المسمع، واستشهد بالبيت.

احدث فيحدث، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل، ولا قول ثم، كما لا قول في قوله: إذ قالت الأنساع للبطن الحق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف: "في كون السميع بمعنى المسمع نظر"، لجواز أن يكون بمعنى السامع؛ لأن داعي الشوق لما دعا الشاعر صار سامعاً للقول الذي أجيب به، أو لقول نفسه، فإيراد السميع ترشيح للاستعارة. سلمنا لكنه شاذ. قوله: (وهذا مجاز من الكلام)، "من": بيان مجاز، أي: هذا يسمى في أساليب كلام البلغاء بالمجاز، وقوله: "وتمثيل": عطف تفسيري، أي: وارد على سبيل الاستعارة التمثيلية، شبهت الحالة التي تتصور من تعلق إرادته جل وعز بشيء من المكونات، ودخوله تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف بحالة أمر الآمر النافذ تصرفه في المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، ولا يتوقف، ولا يكون منه الإباء، فيقول: افعل كذا فيمتثل، ثم استعير لهذه الحالة ما كان مستعملاً في تلك الحالة، فإذن لا قول ثمة، وعليه قول الزجاج والإمام القاضي. قال البزدوي: أريد ذكر الأمر، والتكلم بها على الحقيقة لا المجاز عن الإيجاد، بل كلام بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل، وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر. وقال صاحب "المطلع": (كُنْ فَيَكُونُ) ليس هو قولاً من الله بالكاف والنون، ولكنه عبارة عن أوجز كلام يؤدي المعنى التام المفهوم. قوله: (إذ قالت الأنساع للبطن الحق). تمامه: قدماً فآضت كالفنيق المحنق النسعة هي: التي تنسج عريضاً للتقدير والجمع نسع ونسع وأنساع، الفنيق: فحل

وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة؛ لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. وقرئ: (بديع السماوات) مجروراً على أنه بدل من الضمير في "له". وقرأ المنصور بالنصب على المدح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكرم، والمحنق: من الحنق وهو الحقد، والقول من الأنساع تمثيل، إذ لا قول ثمة، قدماً: القدم بضم القاف، الجوهري: مضى قدماً: لم يعرج ولم ينثن، يعني سريعاً، الحق: أمر من: لحق- بالكسر- لحوقاً، أي: ضمر. قوله: (أكد بهذا استبعاد الولادة)، يعني: علم من قوله تعالى: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) إلى قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) استبعاد الولادة، فأكد ذلك المعنى بقوله: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ) إلى قوله: (فَيَكُونُ)، وذلك أنه تعالى لما حكى قولهم: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) وأضرب بقوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) دل بمنطوقه على كونه مالكاً للكل، لا يخرج شيء من ملكه وملكوته، وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) دل على كونه تعالى قهاراً، وأن الأشياء كلها مقهورة تحت تصرفه، لا يمتنع شيء منها على تكوينه وتقديره، ولو فرض شيء لوجب دخوله تحت ملكه وقهره بدلالة هذا العموم، فكيف يتصور له ولد؟ ! لأنه لا يجانسه في المالكية والقهارية. وغليه الإشارة بقوله: "ومن كان بهذه الصفة لم يجانس" إلى آخره. هذا، وإن معنى قوله: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أنه مخترعهما وموجدهما من غير مثال ولا احتذاء، فدل بمفهومه على كونه تعالى مالكاً لها، فيكون مؤكداً لقوله: (لَهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وقوله: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً) الآية، معط معنى القهارية الذي يعطيه معنى قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كما سبق، وفي كلامه سابقاً ولاحقاً إشارة إلى هذا المعنى. قوله: (وقرأ المنصور) وهو أبو جعفر، الثاني من خلفاء بني العباس.

[(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) 118]. (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ): وقال الجهلة من المشركين. وقيل: من أهل الكتاب. ونفى عنهم العلم؛ لأنهم لم يعملوا به، (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ): هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؛ استكباراً منهم وعتواً، (أَوْ تَاتِينَا آيَةٌ)؛ جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات، واستهانة بها. (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى، كقوله: (أَتَوَاصَوْا بِهِ) [الذاريات: 53] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استكباراً): مفعول له، أي: وقال الجهلة: فهلا يكلمنا الله، استكباراً، يعني: نحن عظماء كالملائكة والنبيين، فلم اختصوا به دوننا! قال صاحب "المطلع": فإن قيل: أليس في قولك: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مقنع في التشبيه حتى كرر ذلك بقوله: (مِثْلَ قَوْلِهِمْ)؟ قلنا: ليس التكرير في تشبيه واحد، بل هما تشبيهان، الأول: في نفس الاقتراح، والثاني: في المقترح. قلت: ويجوز أن يكون التشبيه الأول توطئة للثاني، فقوله: (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) مفعول مطلق لقوله: (قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) و (كَذَلِكَ): خبر مبتدأ محذوف، أي: الشأن والأمر مثل ذلك، أي: جرت عادة الناس على ما شوهد من هؤلاء، ثم استؤنف بقوله: (قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بياناً وتفسيراً للشأن والأمر. قوله: (واستهانة بها) عطف على قوله: "جحوداً"، أي: قالوا: إنها ليست بآيات الله جحوداً واستهانة بها، والعجب أنهم عظموا أنفسهم وهي أحقر الأشياء، واستهانوا بآيات الله وهي أعظمها. قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أولها: (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ*

(قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ) ينصفون فـ (يُوقِنُونَ) أنها آيات يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها. [(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) 119]. (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَتَوَاصَوْا بِهِ) [الذاريات: 52 - 53]، الضمير في (بِهِ) للقول، أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوا جميعاً متفقين عليه، والهمزة في (أَتَوَاصَوْا) لتعجيب اتفاق القولين. قوله: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ) ينصفون فـ (يُوقِنُونَ) أنها آيات). هذا التقدير يؤذن أن قوله: (يُوقِنُونَ) مجاز من إطلاق المسبب على السبب، ولهذا قدر "ينصفون فيوقنون" بالفاء، يعني: إنما تنفع الآيات لمن يؤدي إنصافه إلى الإيقان، وهذه الخاتمة كالتخلص من عد قبائح الكفار إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لما اشتملت على التعريض بهؤلاء، يعني: هؤلاء قوم ديدنهم الجحد والتكبر، فلا تجدي فيهم الآيات والنذر، وإنما تنفع الآيات لمن فيه الإنصاف، فلا تحرص على هداهم ولا تتساقط حسرات على توليهم؛ لأنك لست عليهم بمسيطر، إن أنت إلا نذير وبشير، فلذلك علل بقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً)، فالجملة مصدرة بـ "إن" من غير عاطف، وفيه معنى إقامة غير المنكر منكراً لما استشعر منه من ملابسة ما ينكر عليه، ولهذا فسره بقوله: "إنا أرسلناك لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان"، فهو قصر إفرادي.

لرسول الله، وتسرية عنه؛ لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك (عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلَّغْتَ وَبلَغْتَ جهدك في دعوتهم؟ كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) [الرعد: 40]. وقرئ: (ولا تسأل) على النهي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتسرية عنه)، النهاية: هو من قولهم: سري عنه الهم، أي: انكشف عنه، يقال: سروت الثوب وسريته: إذا خلعته. قوله: (ولا تسأل) أي: لا تسأل أنت يا محمد، بضم التاء والرفع، وهي قراءة الجماعة سوى نافع، فإنه تفرد بقراءة: "ولا تسأل" بفتح التاء وجزم اللام على النهي. قال الزجاج: أما الرفع فعلى وجهين: أحدهما: أنه استئناف، كأنه قيل: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، كأنه قال: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) [الرعد: 40]. وثانيهما: أنه حال، أي: أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقلت: المعنى على القراءة الأولى: إذا كان حالاً كان قيداً للفعل، وعلى أن يكون استئنافاً يكون تذييلاً، ومرجعهما إلى معنى: إنا أرسلناك؛ لأن تبشر وتنذر لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، يعني: ما كلفناك بأن تجبرهم على الإيمان، وفيه فائدتان: إحداهما: الإيذان بانشراح الصدر، وأنه في فسحة منهم إن لم يؤمنوا، وهو المراد بقوله: "وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه". وثانيتهما: إظهار أن الحجة قد لزمت الكفار، وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما كان عليه؛ لأن هذا القيد إنما يصار إليه إذا تجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة إلى ما يوهم منه الإجبار، وإليه الإشارة بقوله: "ما لهم لم يؤمنوا".

روي أنه قال: "ليت شعري ما فعل أبواي؟ ! " فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وقيل: معناه: تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، كما تقول: كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم: أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه؛ لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره. أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره؛ لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل. وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله: (ولن تسأل)، وقراءة أبي: (وما تسأل) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما القراءة بالجزم فالنهي: إما مجرى على ظاهره والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وهو المراد بقوله: "نهي عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله" أو عبارة عن تعظيم الأمر وتهويله والمخاطب كل من يتأتى منه السؤال، ثم التهويل إما عائد إلى المستخبر بفتح الباء، وهو المراد من قوله: "إن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته"، أو إلى المستخبر، بكسر الباء، وإليه الإشارة بقوله: "أو: أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره". قوله: (ما فعل أبواي؟ ! )، أي: ما فعل بهما، وفي الحديث "يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ "، أي: إلى أي شيء انتهى عاقبة أمره، فلو قيل: يا أبا عمير: ما فعلت بالنغير، لم يكن في الاهتمام بذلك. قوله: (وتعضد القراءة الأولى) أي: (تُسْئَلُ) بضم التاء والرفع لكونهما إخبارين لا إنشاءين، كما أنها إخبار، بخلاف القراءة الثانية لأنها إنشاء، أي: نهي.

[(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 120]. كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا؛ إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام، فحكى الله عز وجل كلامهم؛ ولذلك قال: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) على طريقة إجابتهم عن قولهم، يعني: إن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن أبلغت في طلب رضانا). هذه المبالغة مستفادة من قوله: (وَلَنْ تَرْضَى) لما مر أن "لن": رد لجواب منكر مبالغ. قوله: (إقناطاً منهم) يعني: محال منك أن تتبع ملتهم، فإذن لا يتبعون ملتك. قوله: (ولذلك قال) تعليل لقوله: "كأنهم قالوا"؛ لأن قوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ) حكاية لمعنى كلامهم، وأن كلامهم هو: لن نرضى عنك ولا نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا، وإلا فقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) بظاهره غير مطابق لقوله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) ووجه المطابقة مع المقدر هو انهم ما قالوا: لا نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا إلا وزعموا أن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فأجيبوا بقوله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) على القصر القلبي، يعني: أن دين الله هو الدين الحق وأن دينكم هو الباطل، وإليه الإشارة بقوله: "إن هدى الله، الذي هو الإسلام، هو الهدى ... ، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، وإنما هو هوى". وفي الآية مبالغات، منها: إضافة "الهدى" إلى الله تعالى، ومقارنته بـ "إن"، وإعادة "الهدى" في الخبر على نحو: أنا أبو النجم وشعري شعري

وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، إنما هو هوى، ألا ترى إلى قوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)؟ أي: أقوالهم التي هي أهواء وبدع (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ) أي: من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة. [(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ* يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) 121 - 123]. (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ): هم مؤمنو أهل الكتاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتسمية الدين بالهدى لمجيئه جواباً عن قولهم: "ملتنا"، وجعله مصدراً، وتوسيط ضمير الفعل، وتعريف الخبر بلام الجنس، ولهذا أكد كلامه بقوله: "والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله". هذا في جانب الإثبات، وأما في جانب النفي فقال: "ليس وراءه هدى وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، إنما هو هوى". قوله: (أَهْوَاءَهُمْ) أي: أقوالهم). قال القاضي: الأهواء: الآراء الزائفة، والهوى: رأي يتبع الشهوة. وقلت: في كلام المصنف إشعار بأن أهواءهم مظهر وضع موضع المضمر من غير لفظه السابق، وذلك أن قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) حكاية حكاها الله تعالى عن قولهم، وأن قولهم هو: لن نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا، فيكون الأصل: ولئن اتبعتها، ليرجع الضمير إلى مقالتهم تلك، ثم في الدرجة الثانية: ولئن اتبعت أقوالهم، وإنما جمعها باعتبار القائلين بها، ولما لم يكن هذا القول عن هدى ورشد، بل عن ضلالة وزيغ، وضع موضعه أهواءهم في الدرجة الثالثة.

(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ): لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله، (أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ) بكتابهم دون المحرفين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) من المحرفين (فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى. [(وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ* وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) 124 - 125]. (ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ): اختبره بأوامر ونواه، واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه) يريد أن قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) دل على أن الكلام تعريض بمن يتلونه على غير هذه الحالة، وهم الذين عرف منهم واشتهر التحريف والتغيير، ولما أتى باسم الإشارة وعقب بقوله: (يُؤْمِنُونَ بِهِ) وفهم تعريضاً أيضاً بأن أولئك لا يؤمنون به، بنى عليه قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) تذييلاً، فقوله: "حيث اشتروا الضلالة بالهدى" إشارة إلى أن قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) مؤذن بأن قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) كفر خاص، وأنه مفسر بالاستبدال، وفيه إدماج أنهم إنما حرفوا وبدلوا وما تلوه حق تلاوته؛ لأنهم أخذوا الرشى على ذلك، كقوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة: 41]. قوله: (ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) اختبره)، الراغب: الابتلاء: الاختبار، لكن الابتلاء: طلب إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما يتلازمان. قوله: (واختبار الله عبده: مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين)، أي: الطاعة والمعصية، يعني مكن الله تعالى إبراهيم على الفعل والترك وأن يختار أيهما شاء، وفي قوله: "ما يريد الله وما يشتهيه العبد" اعتزال خفي، وإنما كان اختبار الله العبد مجازاً؛ لأن الابتلاء والامتحان في

كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله، وهي قراءة ابن عباس: (إبراهيم ربه) رفع "إبراهيم" ونصب "ربه"، والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا. فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر. قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم، فأما "ابتلى إبراهيم ربه" أو "ابتلى ربه إبراهيم" فليس واحد منهما بإضمار قبل الذكر؛ أما الأول: فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكراً ظاهراً؛ واما الثاني: فإبراهيم فيه مقدم في المعنى، وليس كذلك "ابتلى ربه إبراهيم"؛ فإن الضمير فيه قد تقدم لفظاً ومعنى؛ فلا سبيل إلى صحته. والمستكن في (فَأَتَمَّهُنَّ) في إحدى القراءتين لإبراهيم، بمعنى: فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ونحوه: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاهد لاستفادة علم خفي على الممتحن من الممتحن، وذلك غير جائز في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها من الأزل إلى الأبد، فهو استعارة تبعية واقعة على طريق التمثيل كما سبق في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ودل على سبق التشبيه قوله: "فعل المختبر ... " حيث نصب "فعل" على المصدر، أي: فعل معه فعلاً مثل فعل المختبر. قوله: (والمستكن في (فَأَتَمَّهُنَّ) في إحدى القراءتين)، أي: المشهورة، وفي الأخرى، أي: قراءة أبي حنيفة.

وفي الأخرى لله تعالى بمعنى: فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً. ويعضده ما روي عن مقاتل: انه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) [البقرة: 126]، (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة: 128]، (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة: 129]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة: 127]. فإن قلت: ما العامل في "إذ"؟ قلت: إما مضمر، نحو: واذكر إذ ابتلى، أو: إذ ابتلاه كان كيت وكيت؛ وإما (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ). فإن قلت: فما موقع (قَالَ)؟ قلت: هو على الأول استئناف، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعضده)، أي: يعضد أن يكون الضمير في "أتمهن" لله تعالى، على قراءة أبي حنيفة: الرواية عن مقاتل؛ لأن الابتلاء حينئذ من إبراهيم عليه السلام والإتمام من الله، أما الابتلاء فقوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) ونحوه، والإتمام: إجابة دعائه على سبيل توفية مطلوبه، أي: اختبر إبراهيم عليه السلام ربه بدعائه أنه تعالى: هل يجيبه إليه ويسعف مطلوبه وينجح مآربه أم لا؟ قوله: (هو على الأول)، أي: على إضمار عامل "إذ"، وإن كان هذا الوجه في التقدير وجهين لكن يجمعهما معنى إضمار العامل، ومن ثم قال: "إما مضمر ... وإما (قَالَ) " وعلى الثاني، أي: على أن يكون العامل (قَالَ) فيكون (قَالَ) في التقدير مقدماً على "إذ" رتبة؛ لأنه عامله، ومؤخراً عن حرف العطف، والجملة معطوفة على جملة قبلها، وهو قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 122] عطف قصة على قصة، وما أعني بالمعطوف عليه هذه القربى، بل القصياء وأولاهن به؛ لأن هذه معادة خاتمة تقريراً للامتنان على بني إسرائيل وعوداً إلى بدء، وتخلصاً إلى قصة جدهم وبيان ما أنعم الله عليه من نعمة كل نعمة دونها،

وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: (ابْتَلَى)، وتفسيراً له؛ فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام قبل ذلك في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكيف لا وقد اشتمل على بيانه أكرم البقاع، ودعائه لأفضل الخلق بتلاوة أشرف الكتب، وهو قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [البقرة: 129]، ونحوه قوله تعالى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) إلى قوله: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) [النمل: 91 - 92]، فعلى هذا أولى الوجوه في الآية: تقدير: اذكر، وجعل "قال" بياناً وإن أخره. قوله: (ويجوز أن يكون بياناً لقوله: (ابْتَلَى))، والعامل في "إذ": اذكر، والضمير في "أتمهن" لإبراهيم عليه السلام، ويراد بالكلمات: ما ذكره من الإمام وغيرها إلى آخر الآيات، وإنما استقام أن يكون بياناً لأن ما بعد (قَالَ) إلى آخر (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) كالشرح والتفصيل لما أجمله في قوله: (بِكَلِمَاتٍ)، وصح أن يبتلى بها لما يتضمن كل واحد منها المشقة، قال القاضي: الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء. تم كلامه. وسميت كلمات لأنها أوامر أو في تأويلها، كما سمي قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) كلمة، وقد سمى الله تعالى قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي) كلمة بقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف: 26 - 28]. الراغب: الكلمات قد تقع على الألفاظ المنظومة وعلى المعاني التي تحتها، فقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الأنعام: 115] أي: قضيته وحكمه، وقال: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي) [الكهف: 109] للمعاني التي يبرزها بالكلمات، ولم يرد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللفظ، فإن ما يحصره اللفظ يحصره الخط، ولما لم يكن يؤثر عليه السلام على اختبار الله في شيء مما ابتلاه من الكلمات قيل فيهن: (فَأَتَمَّهُنَّ)، وقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]، ويعلم منه أن الكلمات، إذا لم تفسر بالمذكورات جاز أن تفسر بالعشر إلى آخره، وحينئذ لم يكن بياناً، بل كان استئنافاً على بيان الموجب، يعني: لما قام إبراهيم عليه السلام بما كلف به من الكلمات قيل: ما فعل الله به جزاء لما فعل، فقيل: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: وعده بما يتلوه من الإكرام والإفضال، وأما تقرير التفضيل وتطبيق المبين على المجمل فإن يقال: إنه تعالى أمره: أولاً: بقوله: (أَسْلِمْ)، وأتمه إبراهيم عليه السلام بما ينبئ عنه قوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131] وإن كان هذا متأخراً تلاوة لكنه متقدم معنى، ومن ثم قال المصنف: "والإسلام قبل ذلك". وثانياً: ابتلاه بقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: استعد للإمامة وهيئ أهبتها، فإني جاعلك للناس إماماً، فأتمه بما دل عليه قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، فإن الجواب مبني على الأسلوب الحكيم، أي: إن نفسي منقادة مطواعة لا تتأبى عن أمرك لما تفضلت علي وجعلتني أهلاً لذلك، لكن اجعل بعض ذريتي أهلاً لها. وثالثاً: ابتلاه بقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) فأتمه بما دل عليه قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125]، وأن الأمر باتخاذ الناس مقامه مصلى يقتضي أن يكون مقامه ذلك صالحاً لأن يثوب الناس إليه ويصلى فيه، وإنما كان كذلك إذا كان مأموراً من عند الله بجعل مقامه صالحاً لذلك. والذي يدل على وجود ذلك الأمر قوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)، فعبر عن الأمر الوارد على المثابة بالإخبار للدلالة على سرعة امتثاله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: لما أردنا أن نجعل البيت مثابة للناس أمرنا إبراهيم بذلك فامتثل الأمر وحصل المأمور به وقلنا للناس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). والذي عليه ظاهر كلام المصنف من قوله: "ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت" أن قوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) كالمقدمة للأمر بتطهير البيت، وقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) جاء مستطرداً معترضاً للاهتمام. ورابعاً: ابتلاه بقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ)، فالأمر هو (طَهِّرَا)، على أن (عَهِدْنَا) أيضاً فيه معنى الأمر، فأتمه بما دل عليه قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ)، أي: قبلت يا رب ما أمرتني به، وتوسلت إليك قبل الشروع بهذا الدعاء؛ لأن هؤلاء إنما يمكنهم الطواف والعكوف والصلاة إذا كان البلد آمناً ذا رزق، ثم بعد الدعاء شرعاً في المأمور به. وأنت- أيها السامع- استحضر ذهنك لتلك الحالة العجيبة الشأن، وهي: إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل داعيين لله متضرعين إليه، إلى أن ختما الدعاء بالمطلوب السني، وهو قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)، وإلى هذه المعاني أشار مجملاً بقوله: "فيراد بالكلمات: ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده والإسلام قبل ذلك". والحاصل أن قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) صريح في المطلوب، فيلزم منه ومن ذلك الإجمال حمل البواقي على هذا المعنى ليصح التفصيل واستنباط معنى الأمر من الله، والامتثال من إبراهيم عليه السلام، والله أعلم. وهذا وجه متين قوي، وهو اختيار الإمام.

وقيل في الكلمات: هن: خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن: الختان، والاستحداد، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. وقيل: ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً: عشر في براءة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [التوبة: 112]، وعشر في "الأحزاب": (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) [الأحزاب: 35]، وعشر في "المؤمنون" [1 - 9]، و (سَأَلَ سَائِلٌ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المعارج: 1 - 34]. وقيل: هي مناسك الحج؛ كالطواف، والسعي، والرمي، والإحرام، والتعريف، وغيرهن. وقيل: ابتلاه بالكوكب، والقمر، والشمس، والختان، وذبح ابنه، والنار، والهجرة. والإمام: اسم من يؤتم به، على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي: يأتمون بك في دينهم. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي): عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وقرئ: (الظالمون) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونقل محيي السنة عن مجاهد: هن الآيات التي بعدها في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ... ) إلى آخر القصة. وقال الواحدي: وأكثر المفسرين أنها تلك العشرة المذكورة، وهن: الفرق وقص الشارب إلى آخرها، وكذا في "شرح السنة" عن ابن عباس. قوله: (الفرق)، الجوهري: رجل أفرق: الذي ناصيته [كأنها] مفروقة بين الفرق. قوله: (والاستحداد)، أي: استعمال الحديد من حلق العانة. "والتعريف": الوقوف بعرفة. قوله: (كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً)، وفي "المطلع": أي: قل: وزيداً. وقيل: يقال لمثل ذلك العطف عطف تلقين، كأن إبراهيم عليه السلام يلقن ويقول، قل: وبعض ذريتي.

أي: من كان ظالماً من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم. وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا يجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ ! وكان أبو حنيفة رحمه الله، يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضي الله عنه، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا قدر صاحب "المطلع" أيضاً في قوله: (وَمَنْ كَفَرَ)، أي: قل: ومن كفر. وهذا الاسم مناسب للمعنى. قلت: وفيه نظر؛ لأن الخليل عليه السلام إنما عطف قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على تقدير: وجاعل من ذريتي إماماً، على جملة كلام الله تعالى، على تقدير العامل لا الانسحاب؛ فإذاً ليس من عطف التلقين في شيء، نعم إذا ذهب إلى الانسحاب، لكن المصنف لم يذهب إليه، وعلى هذا المنوال جاء الحديث على ما رويناه عن البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين". قوله: (زيد بن علي) أي: زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم. قوله: (على اللص المتغلب)، اللام: للجنس، وفي جعل اللام للجنس ووصفه باللص وإيقاع "كالدوانيقي" مثالاً له والتلقيب به من المبالغة في تحقير شأنه ما لا يخفى، وقيل: سمي دوانيقياً لأنه زاد في الخراج دانقاً، ومثل هذا التحقير لا يليق بمنصب من انتصب

كالدوانيقي وأشباهه، وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل، فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لإمامة المسلمين. وذكر صاحب "كامل التاريخ"، أن اسمه: عبد الله وكنيته أبو جعفر ولقبه المنصور: هو ثاني خلفاء بني العباس، وكان كريماً وسيماً، جم العطاء، أعلم الناس بالحديث، ذا رأي وتدبير، وكان من رأيه أنه لما عزم أن يفتك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى، فكتب إليه: إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا فوقع المنصور: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا ولا تمهل الأعداء يوماً بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا قال الإمام: قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أن الفسق الطارئ: هل يبطل الإمامة أم لا؟

المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر: "من استرعى الذئب ظلم". و"البيت: " اسم غالب للكعبة، كالنجم للثريا. (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه، أي: يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم، (وَأَمْناً): وموضع أمن، كقوله: (حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأرادوني على عد آجره لما فعلت)، ذكر في "جامع الأصول": ولما أشخص المنصور أبا حنيفة رحمه الله إلى العراق، أراده على القضاء فأبى، فحلف عليه ليفعلن، وحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، وتكررت الأيمان بينهما، فحبسه المنصور، ومات في الحبس، وقيل: إنه افتدى نفسه بأن يولى عد اللبن، ولم يصح. قوله: (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مباءة)، الجوهري: المثابة: الموضع الذي يرجع إليه مرة بعد أخرى، وإنما قيل للمنزل: مثابة لأن أهله يتفرقون في أمورهم ثم يثوبون إليه، وهو المراد بقوله: "يتفرقون عنه ثم يثوبون"، ثم التفرق والإثابة: إما حقيقي، وهو المراد بقوله: "أعيان الذين يزورونه"، أي: أنفس الذين يزورونه، أو أمثالهم من غيرهم، أو ينصرف عنه أشراف الذين يزورونه ثم يرجعون هم إليه دون سائر الناس، قال في "الأساس": ومن المجاز: هم من أعيان الناس: من أشرافهم. يعني: من له قدم صدق في الدين إذا حج البيت رأى فيه مهابط الرحمة ومنازل البركات، فلا يهم بشيء سوى العود إليه. روى الإمام، عن ابن عباس: "لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه". فالتعريف في الناس: للجنس، والجنس إذا حمل على البعض في مقام المدح أريد به الكمال

ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج. وقرئ: (مثابات)؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفضل، قال الله تعالى: (هُدًى لِلنَّاسِ) [البقرة: 185]، وقال: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2]. ومن ثم فسره بقوله: "أعيان الذين يزورونه"، وإما مجازي، وهو المراد بقوله: "أو أمثالهم". أي: أمثال الذين يزورونه، أي: من هم على صفتهم في كونهم وفد الله وزوار بيته. فالثابت إذاً: من هو متصف بصفة الوفادة لا عين الشخص، والتعريف أيضاً للجنس، كقولهم: دخلت السوق في بلد كذا، يريد سوقاً من الأسواق. يعني: جعلنا البيت مثابة للزائرين زواراً إثر زوار. قوله: (ولأن الجاني) عطف على قوله: "كقوله: (حَرَماً آمِناً .... ) "، يريد أن معنى (آمِناً): "ذا أمن"، وموضع أمن كقوله تعالى: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم: 37]؛ لأن من سكن فيه آمناً إلى الحرم أمن من خطف الناس، فالحرم إذاً موضع أمن على الحقيقة، أو لأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له، فيأمن حتى يخرج. فعلى هذا إسناد (آمناً) إلى الحرم على سبيل المجاز؛ لأن المقصود: أمن الملتجئ إليه، فأسند إليه مبالغة، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، واستدل بظاهر الآية. وروى الإمام، عن الشافعي رضي الله عنه: من دخل البيت ممن وجب عليه الحد يؤمر بالتضييق عليه حتى يخرج، وإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وأول الأمن بأن يكون آمناً من القحط وعن نصب الحروب فيه، وعن إقامة الحدود، وليس اللفظ من العام حتى يحمل على الكل، أما حمله على الأمن كما ذكرنا فأولى، لأنا لا نحتاج حينئذ إلى حمل لفظ الخبر على الأمر، ونحتاج على ذلك إليه. قال القاضي: (أَمْناً)، أي: يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله.

لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم. (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25]. (وَاتَّخَذُوا) على إرادة القول، أي: وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهي على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: "هذا مقام إبراهيم" فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ يريد: أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه؛ تبركاً به وتيمناً بموطئ قدم إبراهيم؟ فقال: "لم أؤمر بذلك"، فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: إذا فسرت الكلمات بالأمر، على ما سبق، مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه راجح. قوله: (لأنه مثابة لكل من الناس): تعليل لقراءة الجمع، يريد أن البيت وإن كان مثابة في نفسه لكنه مثابات باعتبار القاصدين؛ لكل منهم مثابة تختص به، فإذن لا يختص به واحد منهم، والمراد بالناس: الذين يقصدونه من كل جانب، فلا يحتاج إلى التكرار بالمرات. روى محيي السنة، عن مجاهد وسعيد بن جبير: يثوبون إليه من كل جانب: يحجون به، فالتعريف في "الناس" استغراق عرفي. قوله: (أنه أخذ بيد عمر رضي الله عنه)، الحديث من رواية البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي، عن أنس وابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر رضي الله عنه قال: وافقت ربي في ثلاث:

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). وقيل: (مُصَلًّى): مدعى. ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه سأل المطلب بن أبي وداعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم. وعن عطاء: (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ): عرفة والمزدلفة والجمار؛ لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها. وعن النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ: (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفاً على (جَعَلْنَا)، أي: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها. (عَهِدْنَا): أمرناهما (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي) بأن طهرا، أو: أي: طهرا. والمعنى: طهراه من الأوثان، والأنجاس، وطواف الجنب ولحائض، والخبائث كلها. أو: أخلصاه لهؤلاء لا يغشاه غيرهم، (وَالْعَاكِفِينَ): المجاورين الذين عكفوا عنده، أي: أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، وقلت: يا رسول الله، يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يتحجبن! فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك. قوله: (واتخذوا، بلفظ الماضي): نافع وابن عامر، والباقون بلفظ الأمر. وقد مضت فائدة العدول في قوله: (فَأَتَمَّهُنَّ).

ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، بمعنى: القائمين في الصلاة، كما قال: (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26]، والمعنى: للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. [(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 126]. أي: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان (بَلَداً آمِناً): ذا أمن، كقوله: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [الحاقة: 21]، أو: آمناً من فيه، كقولك: ليل نائم. و (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (أَهْلَهُ)، يعني: وارزق المؤمنين من أهله خاصة، (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (مَنْ آمَنَ)، كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في (جَاعِلُكَ) [البقرة: 124] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما قال: (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)) أي: وضع في سورة "الحج" مكان العاكفين: القائمين، فيجعل ها هنا "العاكفين" بمعنى القائمين حتى يتطابقا، والمعنى على هذا: للطائفين والمصلين، فجعل جملة القيام والركوع والسجود مجازاً عن الصلاة. وعلى الوجه الأول يقدر للطائفين والعاكفين والمصلين؛ لأن العكوف بمعنى المجاورة لا يجعل مجازاً عن الصلاة لفقدان العلاقة المعتبرة، بخلاف القيام. قوله: (أو آمناً من فيه) أي: هو من باب الإسناد المجازي. قوله: (وارزق المؤمنين) بضم القاف في نسخة المعزي، للإتباع. قوله: (كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف) يعني هو مثله في الاعتبار، وقد سمي بعطف التلقين، ذكر في الحواشي: إنما قلنا ها هنا: هو عطف التلقين، وفيما سبق: كأنه عطف التلقين، رعاية للأدب، وذلك أن يكون الملقن هو الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أولى من العكس.

فإن قلت: لم خص إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما؛ لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له، والمعنى: وأرزق من كفر فأمتعه. ويجوز أن يكون (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ متضمناً ومعنى الشرط، وقوله: (فَأُمَتِعُهُ) جواباً للشرط، أي: ومن كفر فأنا أمتعه. وقرئ: (فأمتعه)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وفيه نظر؛ لأنه من عطف جملة كلام الله على جملة كلام خليله؛ ولذلك كرر المصنف العامل؛ ليكون من عطف التقدير لا الانسحاب قطعاً كما سبق في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ). قوله: (وإلزاماً للحجة له)، والظاهر أن يقال: للحجة عليه، أي: رزقهم ليزيح عللهم، ويقيم الحجة عليهم، لكن اللام الأولى صلة الإلزام، والثانية للتعليل، والضمير لله تعالى، أي: قد يكون إعطاء الرزق استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة للرازق عليهم. ومعنى الاستدراج ما في قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي: سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم. قوله: (والمعنى: وأرزق من كفر فأمتعه)، أي: قل: ارزق من كفر، أي: ادع، فأنا أستجيب، وأرزق من كفر فأمتعه: عطف على هذا المقدر. قوله: (فأمتعه) على الحكاية، فالتخفيف: ابن عامر، والتثقيل: الباقون.

(فأضطره): فألزه إلى عذاب النار لز المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه. وقرأ أبي: (فنمتعه قليلاً ثم نضطره)، وقرأ يحيى بن وثاب: (فإضطره) بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس: (فأمتعه قليلاً ثم نضطره)، وقرأ يحيى بن وثاب: (فإضطره) بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس: (فأمتعه قليلاً ثم اضطره) على لفظ الأمر، والمراد الدعاء من إبراهيم، دعا ربه بذلك. فإن قلت: فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت: في (قَالَ) ضمير إبراهيم، أي: قال إبراهيم بعد مسألته اختصاص المؤمنين بالرزق: ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فألزه)، الجوهري: لزَّه يلزُّه لزّاً ولززاً، أي: شدَّه وألصقه. قوله: (لزَّ المضطرِّ): مفعول مطلق فيه معنى الاستعارة، شبَّه حالة الكافر الذي درَّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلاً قليلاً إلى ما يهلكه، بحالة من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، فاستعمل في المشبَّه ما كان مستعملاً في المشبَّه به. قوله: (وقرأ ابن عباس: فأمتعه قليلاً) وهي شاذة. قال ابن جني: "هذه القراءة تحتمل وجهين: أحدهما: وهو الظاهر: أن يكون الفاعل في (قَالَ) ضمير إبراهيم عليه السلام، وحسن إعادة "قال" لأمرين: أحدهما: طول الكلام، والآخر: أنه انتقل من دعاء قوم إلى دعاء آخرين، كأنه أخذ في كلام آخر". والوجه الثاني: أن يكون الفاعل هو الله تعالى، أي: وأمتعه يا خالق يا قادر، يخاطب بذلك نفسه، كقول الأعشى: وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وقرأ ابن محيصن: (فأطره) بإدغام الضاد في الطاء، كما قالوا اطجع، وهي لغة مرذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف: ضم شفر. [(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 127 - 129]. (يَرْفَعُ) حكاية حال ماضية. و (الْقَوَاعِدَ) جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها: الثابتة، ومنه: قعدك الله، أي: اسأل الله أن يقعدك، أي: يثبتك. ورفع الأساس البناء عليها؛ لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر. ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء؛ لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا يتصل بباب غريب لطيف، وهو باب التجريد، كأنه يجرد نفسه منها يخاطبها، هذا خلاصة كلامه. وعلى هذين الوجهين لا يكون العطف للتلقين. قوله: (ضم شفر)، الجوهري: الشفر، بالضم: واحد أشفار العين، وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر، وهو الهدب. قوله: (وهي الأساس والأصل لما فوقه)، والأصل: عطف تفسيري لقوله: "الأساس"، فالضمير في "فوقه": عائد إلى الأساس، والمستتر في الظرف: عائد إلى "ما"، وانتصاب "قعدك" على المصدر، والأصل: اسأل الله أن يقعدك تقعيداً.

ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء؛ لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات، ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي: استوطأ يعني: جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء. وروي: أنه كان مؤسساً قبل إبراهيم فبنى على الأساس. وروي: أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد شرقي وغربي، وقال لآدم عليه السلام: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشياً وتلقته الملائكة فقالوا بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبريل مكانه. وقيل: بعث الله سحابة أظلته، ونودي أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص. وقيل: بناه من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وأسسه من حراء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: الساف: كل عرق من الحائط. المغرب: الساف: الصف من اللبن والطين. الأساس: بنى سافاً وسافين وثلاث سافات. قوله: (ما قعد من البيت)، فعلى هذا الألف واللام في القواعد بمعنى الذي، أي: الذي قعد من البيت. قوله: (إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور)، والرواية الصحيحة عن البخاري في حديث المعراج أنه في السماء السابعة. الفاء في قول المصنف: "فهو البيت المعمور" لتعقيب الإعلام والإخبار حالاً بعد حال. قوله: (من حراء)، حراء، يصرف ولا يصرف، والثاني أكثر. "تمخض"، أي: تحرك وأخذه المخاض.

وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء. وقيل: تمخض أبو قبيس فانشق عنه، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان، وكان ياقوتة بيضاء من الجنة، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. وقيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. (رَبَّنَا)، أي: يقولان: ربنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال، وقد أظهره عبد الله في قراءته، ومعناه: يرفعانها قائلين: ربنا، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا، (الْعَلِيمُ) بضمائرنا ونياتنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (فانشق عنه)، أي: انشق أبو قبيس عن الحجر. وأبو قبيس: جبل مشرف على مكة، واستعير له ما للمرأة من الطلق عند الولادة. قوله: (فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود). والرواية الصحيحة عن الترمذي والنسائي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم". قوله: (وقيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة)، وفي الآية دلالة على هذا القول، حيث أخر إسماعيل عن إبراهيم ووسط بينهما المفعول المؤخر مرتبته من الفاعل، وهو: إسماعيل. قوله: (رَبَّنَا)، أي: يقولان: ربَّنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال)، والعامل: (يَرْفَعُ)، و (رَبَّنَا): تكرار للاستعطاف، (وَاجْعَلْنَا): معطوف على (تَقَبَّلْ)، وكذا قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ).

فإن قلت: هلا قيل: قواعد البيت! وأي فرق بين العبارتين؟ قلت: في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها؛ لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين. (مُسْلِمَيْنِ لَكَ): مخلصين لك أوجهنا، من قوله: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة: 112]، أو: مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم واستسلم؛ إذا خضع وأذعن، والمعنى: زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك. وقرئ: (مسلمين) على الجمع، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر، أو أجريا التثنية على حكم الجمع، لأنها منه. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا): واجعل من ذريتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، و"من" للتبعيض أو للتبيين، كقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [النور: 55] فإن قلت: لم خصا ذريتهما بالدعاء؟ قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) [التحريم: 6]؛ ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير، ألا ترى أن المقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مسلمين، على الجمع) إلى قوله: (لأنها منه)، أي: التثنية من الجمع. أعني: من مراتب الجمع؛ لأن أقل الجمع اثنان على رأي، وقد اختاره في تفسير قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [البقرة: 25]. قوله: (واجعل من ذريتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، و"من" للتبعيض أو للتبيين). قال القاضي: أي: بعض ذريتنا، وخصا بعضهم لما علما أن في ذريتهما ظلمة، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله، فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يقال: إنه عليه السلام عَلِمَ بالنص أن بعض ذريته ظلمة، وذلك من قوله تعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حين قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، وكان في هذا الدعاء متبوعاً وإسماعيل تابعه، كما في البناء، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم"؟ الراغب: إنما قيل: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ولم يعمم؛ لأن هذه منزلة شريفة لا يكاد يتخصص بها إلا الواحد فالواحد، في برهة بعد برهة، وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي ذلك، فإنه لو جعل الناس كلهم كذلك لما تمشي أمر العالم، إذ كان العالم يفتقر إلى كون الأفاضل فيها والأوساط والأراذل، تتولى عمارته والقيام بتمشية أمر العالم، فقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء: الزراعة والحرث والحماية والحرب، وجلب الأشياء من مصر إلى مصر، وأنبياء الله لا يصلحون لذلك، إذ كانوا لغرض آخر أشرف من ذلك. تم كلامه. ويجوز أن تكون (مِن) للتبيين، قدم على المبين وفصل به بين العاطف والعطوف، كقوله تعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق: 12] يعني: فصل بين (أُمَّةً مُسْلِمَةً) والمعطوف عليه وهو الضمير المنصوب في (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ).

على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل: أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (وَأَرِنَا) منقول من "رأى" بمعنى: أبصر أو عرف؛ ولذلك لم يتجاوز مفعولين، أي: وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها وقيل: مذابحنا. وقرئ: (وأرنا) بسكون الراء قياساً على فَخْذ في فخِذ، وقد استرذلت؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: والواو داخلة في الأصل على أمة، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا) نعت الأمة مقدم عليها، وانتصب على الحال. قوله: (متعبداتنا في الحج .. وقيل: مذابحنا)، قال القاضي: والنسك في الأصل: غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. وقال الراغب: النسك: غاية العبادة، والناسك: الآخذ نفسه ببلوغ قاصيتها حسب طاقته. وسمى أعمال الحج بالمناسك، ثم خص الذبيحة بالنسك، وتعورف فيه حتى قيل: نسك فلان، أي: ذبيحته. وقال الزجاج: كل متعبد فهو مَنْسَك ومَنْسِك، ومنه قيل للعابد: الناسك، ويقال للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى: نسيكة. قوله: (وقرئ: "وارنا"، بسكون الراء)، التيسير: ابن كثير وأبو شعيب: "وأرنا"

لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف. وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة، وقرأ عبد الله: (وأرهم مناسكهم). (وَتُبْ عَلَيْنَا) ما فرط منا من الصغائر، أو استتاباً لذريتهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"أرني" بسكون الراء حيث وقعا. وأبو عمر عن اليزيدي: باختلاس كسرتها، والباقون بإشباعها. قال الزجاج: (أَرِنَا) يقرأ بكسر الراء وإسكانها، والأجود الكسر، ومن أسكن جعله بمنزلة: فخذ وعضد، وليس بمنزلتهما؛ لأن الكسرة في (أَرِنَا) كسرة همزة ألقيت حركتها على الراء، والكسرة دليل الهمزة، فحذفها بعيد، وهو على بعده جائز؛ لأن الكسرة والضم تحذفان للاستثقال. قوله: (لأن الكسرة منقولة)، روي منصوبة: حالاً من الضمير في قوله: "دليل عليها"، ومرفوعة: خبراً لـ "أن"، ودليل: خبر بعد خبر. قوله: ((وَتُبْ عَلَيْنَا) ما فرط منا من الصغائر)، أي: فيما فرط. قال الإمام: المعتزلة يجوزون الصغائر على الأنبياء، وفيه نظر؛ لأن الصغيرة إذا كانت مكفرة بثواب فاعلها فالتوبة عنها محال،

(وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم. وروي أنه قيل له: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي". (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ): يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك. (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة وبيان الأحكام، (وَيُزَكِّيهِمْ): ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157]. [(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) 130 - 131] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعند أهل السنة: هذه التوبة لترك الأولى والأفضل، وأنها من باب التشديد والتغليظ ليرتدع مرتكب الكبائر ولا يغفل عن التوبة. وقال القاضي: قوله: (وَتُبْ عَلَيْنَا) استتابه لذريتهما أو عما فرط منهما سهواً، أو لعلهما قالا هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما. قوله: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، روينا عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام"، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وصاحب "شرح السنة"، وقد أخرج حديث الرؤيا الدارمي. قوله: "دعوة أبي"، أي: إثر دعوته، أو: الدعوة نفسها.

(وَمَنْ يَرْغَبُ) إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم. و (مَنْ سَفِهَ) في محل الرفع على البدل من الضمير في (يَرْغَبُ)، وصح البدل؛ لأن (وَمَنْ يَرْغَبُ) غير موجب، كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد؟ (سَفِهَ نَفْسَهُ): امتهنها واستخف بها، وأصل السفه الخفة، ومنه: زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: انتصاب النفس على التمييز)، وهو عطف على قوله: " (سَفِهَ نَفْسَهُ) امتهنها"؛ لأن على هذا التقدير، نصبه على أنه مفعول به، وعلى الثاني: سفه لازم، ونفسه: تمييز. قال الزجاج: قال الفراء: التمييز في النكرات أكثر، وزعم أن هذه المميزات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إلى الفاعل، نحو: وجع زيد رأسه، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه، وجعل (سَفِهَ نَفْسَهُ) من هذا الباب. قال القاضي: قال المبرد وثعلب: سفه بالكسر: متعد، وبالضم: لازم، ويشهد له ما جاء في الحديث: "الكبر أن تسفه الحق". وقال صاحب "الفرائد": الوجه أن (سَفِهَ) ضمن معنى "جهل" وعدي تعديته، كأنه

غبن رأيه وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله: ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل: جهل نفسه لخفة عقله، أي: لم يعرفها بالتفكر فيها، يدل عليه قول ابن عباس، (إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ): والسفه: غلبة الجهل وركوب الهوى، وهذا القول اختيار الزجاج. الراغب: سفه نفسه أبلغ من جهلها، وذلك أن الجهل ضربان: جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء، وجهل مركب، وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل وفي الباطل أنه حق، والسفه: أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده، فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم فإن ذلك لسفهه نفسه، فإذاً هو مبدأ كل نقيصة، وذلك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، وإذا جهل ذلك جهل صانعه، وإذا جهله فكيف يعرف أمره ونهيه؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق قال جل ثناؤه: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21]. قوله: (غبن)، الجوهري: الغبن بالتسكين: في البيع والشراء، وبالتحريك: في الرأي. قوله: (ولا بفزارة الشعر الرقابا)، أوله: فما قومي بثعلبة بن بكر ثعلبة وفزارة: قبيلتان، أي: ليس قومي بثعلبة ولا بفزارة الكثير الشعر بالرقبة. الشعر: جمع أشعر. قوله: (أجب الظهر)، أوله:

وقيل: معناه سفه في نفسه، فحذف الجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: "الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام الشعر للنابغة يمدح النعمان بن المنذر، وذناب الوادي: منتهاه، وذناب الشيء بالكسر: عقبه. ربيع الناس، أي: سبب طيب عيشهم، وأريد بالشهر الحرام: الأمن، أي: نبقى بعد الممدوح في طرف عيش قد مضى صدره وخيره وبقي ذنبه وما لا خير فيه، الأجب: الجمل المقطوع السنام. واستشهد بأنه نصب الظهر بالأجب على التمييز، قيل: يجوز النصب في البيتين على التشبيه بالمفعول، لا على التمييز، كقولك: الحسن الوجه، وهو الوجه. قوله: (والوجه هو الأول) أي: أن يكون "سفه" متعدياً كما في الحديث، فإن "سفه" فيه متعد بلا ارتياب. والحديث من رواية ابن مسعود: "الكبر بطر الحق وغمط الناس"، أخرجه مسلم والترمذي. قال صاحب "النهاية": وفي الحديث: "إنما ذلك من سفه الحق وغمط الناس"، يقول: غمض الناس يغمصهم غمصاً، وكذلك غمط، أي: حقرهم ولم يرهم شيئاً، بطر الحق وهو: أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته، باطلاً، وقيل: هو أن يتجبر عن الحق فلا يراه حقاً، وقيل: أن يتكبر عن الحق فلا يقبله.

وذلك: أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها؛ حيث خالف بها كل نفس عاقلة. (وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ) بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته؛ لأن من جمع الكرامة عند الله في الدارين؛ بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا، وكان مشهوداً له بالاستقامة على الخير في الآخرة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أنه إذا رغب): تعليل لقوله: "والوجه هو الأول"؛ لأن المقصود من الآية أن من له رأي سديد، وعقل هاد، ورأى الناس مجتمعين على أمر خطير وخطب جليل، وهو مع ذلك يخالف الناس فيه ويكابر عقله في اتباع ذلك الأمر الخطير فلا يكون ذلك إلا من تجهيله عقله الهادي، وغمص الناس وتحقيرهم، وهذا المعنى لا ينطبق على الوجهين الأخيرين ولا على قول صاحب "الفرائد" إلا مع التعسف. قوله: (وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ): بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته)، وهو حال مقررة لجهة الإشكال، والمعنى: أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب الترغيب فيها، وأنه جمع خير الدارين وفاز بالمنقبتين؟ قوله: (وخيرته)، في "المغرب": الخيرة: الاختيار في قوله تعالى: (مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ) [القصص: 68]، وفي قولهم: محمد خيرة الله، بمعنى المختار، وسكون الياء لغة فيهما. قوله: (وكان مشهوداً له بالاستقامة)، أي: أثبتت له إثباتاً ببينة وطريق برهاني، وذلك بأن جمع الصلاح المفسر باستقامة الشيء، وحكم أنه عليه السلام من زمرة من اتصف بصفته وأنه داخل في أعدادهم، فإذا ثبتت له صفة الاستقامة على الكناية، وإنما فسر الصلاح بالاستقامة لأنه مقابل للفساد الذي هو خروج الشيء عن حال استقامته، وبأن جعلت الجملة اسمية مؤكدة بـ (إن) واللام. فإن قلت: لم خصت الكرامة الدنيوية بالاصطفاء والأخروية بالصلاح؟

لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه. (إِذْ قَالَ) ظرف لـ (اصْطَفَيْنَاهُ)، أي: اخترناه في ذلك الوقت، أو انتصب بإضمار "اذكر" استشهاداً على ما ذكر من حاله، كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت؛ لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، ومعنى (قَالَ لَهُ .... أَسْلِمْ): أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام، فقال: أسلمت، أي: فنظر وعرف. وقيل: (أَسْلِمْ) أي: أذعن وأطع، وروي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: أما الاصطفاء بالنبوة فهو أقصى شرف الإنسان ومنتهى درجات العباد في الدنيا، وأما الصلاح في الآخرة فكذلك؛ لأن الصلاح كما قال هو: "الاستقامة على الخير"، ولا ارتياب أن الأحوال العاجلة وإن وصفت بالصلاح في بعض الأوقات لكن لا تخلو من شائبة فساد وخلل، ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة، خصوصاً لزمرة الأنبياء؛ لأن الاستقامة لا تكون إلا لمن فاز بالقدح المعلى ونال المقام الأسنى، وهم الأنبياء، ومن ثم كانت هذه المرتبة مطلوب للأنبياء والمرسلين، قال عليه السلام: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83] وغيرها من الآيات. قوله: (أو انتصب بإضمار "اذكر" استشهاداً على ما ذكر)، يعني: تكون جملة مقطوعة مستأنفة مشتملة على بيان الموجب لكونه مصطفى. قوله: (ومعنى: (قَالَ لَهُ ... أَسْلِمْ): أخطر بباله النظر) يريد أن "أسلم" أمر جار على المجاز على نحو قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 117]، إذ ليس ثمة أمر ولا جوابه، فإن هذه الواقعة في بدء حاله فلا يكون إلا الإلهام، وفي كلام المصنف إشعار به وهو قوله: "والإسلام قبل ذلك"، هذا إذا أريد بالإسلام الإيمان والتصديق، وأما إذا أريد به الإذعان والطاعة فالأمر على الحقيقة، وإليه الإشارة بقوله: "وقيل: أسلم، أي: أذعن".

ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فنزلت. [(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) 132]. قرئ: (وأوصى) وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام، والضمير في (بِهَا) لقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف: 28] إلى قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف: 26 - 27]. وقوله: (كَلِمَةً بَاقِيَةً) دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: وأوصى)، وهي قراءة نافع وابن عامر، والباقون: ووصى. قال الزجاج: و"وصى" أبلغ من "أوصى"؛ لأن الثاني جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، و"وصى" لا يكون إلا لمرات كثيرة. وقال القاضي: التوصية هو التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، وأصلها الوصل، يقال: وصاه: إذا وصله، وفصاه إذا فصله، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى. قوله: (والضمير في (بِهَا) لقوله: (أَسْلَمْتُ))، قال الزجاج: الهاء ترجع إلى الملة؛ لأن إسلامه هو إظهار طريقته وسنته، يدل عليه قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ).

(وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم داخل في حكمه، والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً. وقرئ (ويعقوب) بالنصب عطفاً على (بَنِيهِ)، ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب. (يَا بَنِيَّ) على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق بـ (وَصَّى)؛ لأنه في معنى القول، ونحوه قول القائل: رجلان من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلاً عريانا بكسر الهمزة، فهو بتقدير القول عندنا، وعندهم يتعلق بفعل الإخبار. وفي قراءة أبي وابن مسعود: (أن يا بني) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا هو الحق؛ لأن قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) كما قال المصنف: "استشهاداً على ما ذكر"، يعني يستبعد من العاقل المميز أن يرغب عن ملة إبراهيم، والحال أنه مصطفى في الدنيا صالح في الآخرة. وإن شئت فاذكر ذلك الوقت الذي أظهر الملة الواضحة، وحين قال له ربه: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين، ليظهر لك إنابته وإخباته وينصره، عطف قوله: (وَوَصَّى) على (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي: اذكر إذ قال الله له: أسلم، فامتثل أمره وأسلم، وما اكتفى به، بل ضم معه توصية بنيه بالإسلام، والذي يدل عليه قوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132]؛ لأنه الموصى به، وهو مطابق لقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وإنما ضم الوصية إلى امتثال الأمر لحنوه وحدبه على ذريته فلم يخص نفسه بما ناله من الفضل والكرامة، بل شارك ذريته معه، ومثله قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة: 124]. قوله: (من ضبة): اسم قبيلة، الجوهري: وضبة بن أد عم تميم بن مر. قوله: (فهو في تقدير القول عندنا)؛ لأنه لو تعلق بـ "أخبرانا" لكان "إن" مفتوحة.

(اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ): أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به. (فَلا تَمُوتُنَّ) معناه: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام؛ فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَلا تَمُوتُنَّ) معناه: فلا يكن موتكم)، أي: (لَا تَمُوتُنَّ) لا يستقيم إجراؤه على ظاهره؛ لأنهم نهوا عن الموت، وذلك ليس بمقدورهم، وإنما ينهى المكلف عما له تركه، لكن معناه: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، وهذا أيضاً لا يستقيم على ظاهره؛ لأن المنهي الموت، والموت مما لا ينهى، فرجع حاصله إلى أن ينهى الإنسان عن أن يوجد على حالة يدركه الموت وهو على غير الإسلام، وهذا معنى قوله: "فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا". قال الزجاج: هذا على سعة الكلام نحو قولهم: لا أرينك ها هنا، فلفظ النهي للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب، أي: لا تكونن ها هنا، فإن كنت هاهنا رأيتك، المعنى: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين. وقلت: الآية مثل المثال، وفيه ترق بلازم آخر لقوله: "فلا تموتن: معناه: فلا يكن موتكم". قوله: (كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع) نهى عن فعل الصلاة، ومطلق الصلاة لا ينهى عنها، لكن معناه: لا تكن صلاتك إلا على الخشوع، فيرجع معناه إلى أن يكون المنهي الإنسان عن حالة هي غير حالة الخشوع، فيكون في الآية كناية تلويحية.

فإن قلت: فأي نكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة، وليس بمنهي عنها؟ قلت: النكتة فيه: إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، فكأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"؟ فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد: لا تصل إلا في المسجد، وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن قلت: وأي نكتة في إدخال حرف النهي؟ ) حاصل السؤال: إذا كان المنهي عنه الحالة التي هي على غير الخشوع في الصلاة، والحالة التي يدركهم الموت عليها وهم على غير الإسلام، فلم نهى عن الصلاة وعن الموت، وما الفائدة فيه؟ وخلاصة الجواب: أن الصلاة أو الموت إذا قصد بالنهي عنهما نهي حالة يقعان فيها إرادة للفضيلة والخيرية، كان أبلغ مما إذا قصدت نفي الفضيلة والخيرية ابتداء. فإن قلت: هذا يناقض ما سبق في تفسير قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً) [البقرة: 28] أن إنكار الحال ليتبعها إنكار الذات أبلغ من العكس. قلت: الأبلغية وعدمها باعتبار العدول عن مقتضى الظاهر، فإن المقتضى هنالك إنكار ذات الكفر، فعدل إلى إنكار الحال، فيلزم منه إنكار الذات على طريق الكناية. وها هنا المقتضي نفي الفضيلة، فعدل إلى نفي الذات ليلزم منه نفي الفضيلة على سبيل الكناية. والحاصل أن في العدول عن الظاهر مبالغة ليست في ارتكاب الظاهر، ولهذا قال صاحب "المفتاح": ولأمر ما تجد أرباب البلاغة وفرسان الطراد يستكثرون من هذا الفن، وإنه في علم البيان يسمى بالكناية. فقوله أيضاً: "أن لا يحل فيهم" كناية إيمائية على نحو قوله:

وتقول في الأمر أيضاً: مت وأنت شهيد، وليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات، وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته، وإظهاراً لفضلها على غيرها وأنها حقيقة بأن يحث عليها. [(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 133]. (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) "أم" هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها: الإنكار. والشهداء: جمع شهيد، بمعنى الحاضر، أي: ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أي: حين احتضر، والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما جازه جود ولا حل دونه قوله: (وأنها حقيقة بأن يحث عليها)، هذا غاية المبالغة، فأكرم بفضيلة يرام لإدراكها الموت، وحسب المنايا أن يكن أمانيا. قوله: ("أم" هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها: الإنكار). قالوا: هذه "أم" الكائنة بمعنى بل والهمزة، كأنه قيل: بل أكنتم شهداء، أذنت بالإضراب عما قبلها وبالإضراب عما بعدها، أي: ما كنتم شهداء، والإضراب: الإعراض عن الشيء بعد الإقبال عليه. وقالوا: وهي "أم" المنقطعة الواقعة في الخبر، فإنه تعالى لما أخبر أولاً أن إبراهيم ويعقوب وصياً بنيهما بالإسلام، ثم أعرض عن هذا الخبر، وأقبل على الاستفهام تنبيهاً على أن الاستفهام على سبيل الإنكار ها هنا أهم، فقال: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، يعني ما كنتم حاضرين بل حصل لكم العلم بهذا المعنى

وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه؛ لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من طريق الوحي امتناناً منه؛ لأن المؤمنين كانوا يقولون: إن إبراهيم حرض بنيه على التوحيد وملة الإسلام يفتخرون بذلك. وقوله: (وقيل: الخطاب لليهود)، على هذا القول أيضاً وقعت "أم" في الخبر؛ لأنه لما أخبر عن الوصية أعرض عن الإخبار وأقبل على الاستفهام على سبيل الإنكار؛ لأنه أهم؛ لأنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألست تعلم أن يعقوب عليه السلام يوم مات أوصى بنيه باليهودية"، فقال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) إنكار، أي: ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال، لكن جار الله رد هذا القول وقال: إنهم لو شهدوا يعقوب وسمعوا قوله لبنيه حين احتضر لعلموا حرصه على الإسلام ولم يقولوا: إنه وصى بنيه باليهودية، فالآية منافية لقولهم، لما ذكر فيها من قوله: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) إلى آخره، فيمتنع أن يقال لهم: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) إنكاراً عليهم، فإن الإنكار عليهم إنما يصح أن لو كان مضمون هذه الآية موافقاً لقولهم بأن يقال مثلاً بدل قوله: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) يكون يهودياً، ثم قال: "ولكن الوجه أن توجد أم متصلة"، ولما لم يجز أن تقع المتصلة إلا في الاستفهام يقدر محذوف مثل: أتدعون أن الأنبياء كانوا هوداً، ثم يعطف عليه بأم المتصلة فيقال: أم كنتم شهداء، على سبيل التقرير للمشاهدة، والإنكار للدعوى كما في قوله تعالى: (قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 80]، وقوله: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ) [البقرة: 140].

ولكن الوجه أن تكون "أم" متصلة على أن يقدر قبلها محذوف؛ كأنه قيل: أتدعون على ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن الوجه أن تكون "أم" متصلة) يعني أن الخطاب إذا كان مع اليهود والإنكار وارد على قولهم: ما مات نبي إلا على اليهودية، الوجه أن تجعل "أم" متصلة وعليه النظم؛ لأنه تعالى لما قرر أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه ويعقوب بالتمسك بالتوحيد والإسلام والعض عليه بالنواجذ، وبخ اليهود على قولهم: ما مات نبي إلا على اليهودية بقوله: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، قال بعض فضلاء العصر: وفيه إشكال؛ لأن "أم" المتصلة تقتضي السؤال عن تعيين أحد الأمرين، وها هنا كل واحد من دعوى اليهودية على الأنبياء وحضور أوائلهم حين احتضر يعقوب ووصى بنيه بالتوحيد، معلوم عند المتكلم. وأجاب عنه: أنه لما كان الأمران متساويين في كون كل واحد منهما مما لا يصدر عن العقلاء لكون أحدهما ادعاء لشيء من غير علم، والثاني: ادعاء له مع العلم بخلافه لكون هذا القول يقتضي عدم حضورهم، فإذا سئلوا عن ذلك فلا شك أنهم لا يجيبون بتعيين الأمر الأول، فيتعين أن يجيبوا بتعيين الأمر الثاني، فحينئذ يندرج في ذلك إلزامهم وتقريعهم. يعني: إذا عرفتم بأن أوائلكم كانوا مشاهدين له إذ حرض بنيه على التوحيد، ودعاهم إلى الإسلام، وعلمتم ذلك، فما بالكم تدعون على الأنبياء ما هم عنه براء. وقلت: تلخيصه أن السؤال تبكيت وإلزام، سئلوا عن أمرين أيهما اختاروا لزمتهم الحجة، كأنه قيل: أيها المعاندون، أتدعون على الأنبياء اليهودية دعوى مجردة غير مسندة إلى دليل، أم تدعون حضور أوائلكم حين وصى يعقوب بنيه؟ فلابد أن يختاروا الثاني، فيقولوا: إن أوائلنا كانوا مشاهدين له، إذا أراد بنيه، فيقال لهم: أنتم قد علمتم حضور أوائلكم عند الوصية بالتوحيد، فما لكم تعاندون وتدعون على الأنبياء ما هم عنه براء؟ والله أعلم.

الأنبياء اليهودية، (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) يعني: أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ ! وقرئ: (حضر) بكسر الضاد وهي لغة. (مَا تَعْبُدُونَ): أي شيء تعبدون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: وتمام تقريره أن تقول: إذا كان المراد بالهمزة و"أم" حقيقة الاستفهام يدل على ثبوت أحدهما، ويكون السؤال عن التعيين، والمراد هنا ليس حقيقة الاستفهام بل التقرير، أي: ثبوت أحدهما وتقريره من غير معنى استفهام، ويكون إشارة إلى أن أحدهما، وهو كونهم شهداء حاصل، ويلزم منه إنكار ادعاء اليهود؛ لأن شهودهم ينافي ذلك الادعاء، ثم اعلم أن الإنكار هنا بمعنى: لم كان، لا بمعنى: لم يكن. وقوله: (وقد علمتم ذلك) بعد بيان أن أوائلهم كانوا المشاهدين، إذ أراد بنيه على الإسلام، أي: وقد علمتم ذلك، فكأنكم شاهدتموه إذ ذاك، فما لكم تدعون عليهم ما هم منه براء؟ وقلت وبالله التوفيق: إن هذا الأسلوب من باب التقسيم الحاصر، نحوه قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف: 102]، قال المصنف: "هذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم يقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي"، وقوله تعالى: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ) إلى قوله: (وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [القصص: 44 - 45].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن التقسيم قول الزجاج في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة: 258] "هذا حجة على أهل الكتاب؛ لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءة كتاب، أو تعليم معلم، أو بوحي من الله تعالى، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أمي، وأنه لم يعلم التوراة والإنجيل، فلم يبق وجه يعلم أن هذا الإخبار منه إلا الوحي". وتنزيل هذا التقرير على هذا المقام أن يقال: إنكم أيها المؤمنون تقولون: إن يعقوب حين احتضر وصى بنيه بالتوحيد والإسلام، وهو حق وصدق، ولكن ما علمتم ذلك من طريق استدلال، ولا قراءة كتاب، ولا تعليم معلم، ولا كنتم حاضرين حين احتضر ووصى بالتوحيد، فلم يبق إلا طريق الوحي، هذا إشارة إلى معنى الحصر في قول المصنف: "إنما حصل لكم العلم من طريق الوحي". فإن قلت: فلم خص الإنكار بطريق المشاهدة دون الطرق الأخرى على أن طريق التعليم أولى بالإنكار كما قال في قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44]، فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: "كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة". كذا ها هنا بقي ما هو مستبعد مستحيل ليثبت ما هو المقصود بالطريق البرهاني امتناناً نه تعالى عليهم، وإليه الإشارة بقوله: "أي: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي". وهذا التقرير لا يستقيم إذا كان الخطاب مع اليهود؛ لأن القول الذي وقع الإنكار في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طريقه ينبغي أن يكون مقرراً في نفسه مذكوراً بعد ذكر طرقه المنفية حتى يصح، فلو أريد الإنكار على طريق قولهم، لوجب أن يذكر بعد إنكار طريق المشاهدة، وأن يقال: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تتبعون من بعدي من الملل؟ قالوا: نتبع ملتك وملة آبائك وهي اليهودية، وحين ذكر ما يخالفه من قوله: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) إلى قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لا يصح الإنكار عليهم على ما مر؛ لأنه لو تقرر عندهم هذه المقاولة لظهر لهم حرصه على التوحيد، ولما ادعوا عليه اليهودية. والحاصل: أن الإضراب عن الكلام السابق وإنكار اللاحق يأبى أن يكون الخطاب مع اليهود، ولهذا قال: "فالآية منافية لقولهم"، فكيف يقال لهم: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)؟ ألا ترى أنه حين جعل "أم" متصلة ولم يكن لها تعلق بالآية السابقة، قال: "ولكن الوجه أن تكون أم متصلة إلى آخره"، ويفهم من تقرير كلامه: أن "أم" إذا كانت منقطعة، والهمزة فيها للتقرير على سبيل التقريع، جاز أن يكون الخطاب مع اليهود، وذلك أنهم لما قالوا: ما مات نبي إلا على اليهودية، قيل لهم: أتقولون هذا القول مع أنكم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، أي: أوائلكم كانوا شاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، والنظم لا يأباه، وذلك أن قصة إبراهيم عليه السلام بجملتها كما ذكرنا معطوفة على قصة بني إسرائيل، والجامع: الامتنان عليهم بالنعمة التي أنعم الله على آبائهم، وكان من حق الظاهر أن يذكر قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بعد قوله: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) كما قال: "والإسلام قبل ذلك" في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)، وإنما أخره ليكون ذريعة إلى هذا التقرير وتخلصاً إلى هذا التفريع، وذلك أنه تعالى لما قال له: (أَسْلِمْ)، وامتثل أمره وقال: (أَسْلَمْتُ)، ووصى بالإسلام بنيه، وأراد أن يوبخ اليهود على ما قالوه، قال: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، أي: دعوا إخبارنا عن وصية إبراهيم بنيه بالتوحيد والإسلام، ألستم حضرتم

و (مَا) عام في كل شيء، فإذا علم فرق بـ "ما" و"من"، وكفاك دليلاً قول العلماء: "من" لما يعقل. ولو قيل: من تعبدون؟ لم يعم إلا أولي العلم وحدهم، ويجوز أن يقال: (مَا تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود كما تقول: ما زيد؟ تريد أفقية أم طبيب أم غير ذلك من الصفات. و (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) عطف بيان لـ (آبَائِكَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعقوب حين وصى بنيه بما وصاه جده إبراهيم من التوحيد والإسلام؟ فلم تقولون مع ذلك: ما مات نبي إلا على اليهودية؟ ولا مانع على هذا التقرير أن نجعل الهمزة المقدرة في (أَمْ) للإنكار كما في "المعالم": فإنهم لما قالوا: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وكان ذلك كذباً وميناً، وإخباراً بما يخالف اعتقادهم، نزلوا منزلة أنهم ما كانوا شهداء، وقيل لهم: كأنكم ما شهدتم حين وصى بنيه بالتوحيد والإسلام وما اعتقدتم ذلك، ولذلك قلتم ما قلتم. والله أعلم. قوله: (مَا): عام في كل شيء)، أي: يسأل بها عن كل مبهم، فإذا عرف أنه عاقل خص بمن أو غير عاقل خص بما، فهي مشترك في العموم وفي غير العقلاء، فلا يتعين أحد مفهوميها إلا بانتصاب قرينة مبينة. قوله: (ولو قيل: من تعبدون؟ لم يعم إلا أولي العلم وحدهم)، الراغب: لم يعن بقوله: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، وكأنه دعاهم أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله عز وجل، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: ما قطعك عن الله فهو طاغوت، وهذا المعنى تحراه الشاعر بالعبادة في قوله:

وجعل إسماعيل- وهو عمه- من جملة آبائه؛ لأن العم أب، والخالة أم؛ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة، لا تفاوت بينهما، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "عم الرجل صنو أبيه"، أي: لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، وقال في العباس: "هذا بقية آبائي"، وقال: "ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتى ملك اللذات أن يعتبدنه ... وما كل ذي ملك لهن بمالك وقلت: ويعضده تقييد الفعل بقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون. قوله: (عم الرجل: صنو أبيه) من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في العباس رضي الله عنهما: "إن عم الرجل صنو أبيه"، أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه. الصنو: المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد، أي: أصل العباس وأصل أبي واحد. الراغب: قد استدل بالآية من منع مقاسمة الجد مع الإخوة، وأسقط الإخوة مع الجد كما يسقطون مع الأب، واستدل بها أيضاً على أن العم يجري مجرى الأب في الولاية على مال الصغيرة وتزويجها، وفي الجملة أن تسميتهما أبوين ليس بمنكر؛ لأن الأعمام والأجداد مع الأب أقرب من تسمية الشمس مع القمر القمرين. قوله: (ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود)، روى صاحب "جامع الأصول": أن عروة بن

وقرأ أبي: (وإله إبراهيم) بطرح (آبَآئِكَ). وقرئ: (أبيك) وفيه وجهان: أن يكون واحداً، وإبراهيم وحده عطف بيان له؛ وأن يكون جمعاً بالواو والنون، قال: وفديننا بالأبينا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسعود قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، واستأذنه بالرجوع، فرجع فدعا قومه إلى الإسلام فأبوا، فلما كان عند الفجر قام على غرفة له فأذن للصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبره: "مثل عروة مثل صاحب يس: دعا قومه إلى الله فقتلوه"، وأما حديث عباس فما وجدته في "الأصول" ولا في "التاريخ"، سوى أن ذكر في بعض الحواشي عن زين الأئمة الفردوسي في "المستقصى"، عن الواقدي: أنه صلى الله عليه وسلم: بعث عمه العباس إلى مكة قبل عام الفتح ليدعوهم إلى الله تعالى، فأبطأ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي أبي"، وفي رواية أخرى أنه قال: "لعلهم يصنعون به ما صنعت ثقيف بعروة بن مسعود: دعاهم إلى الله فقتلوه، والله إذاً لا أستبقي منهم أحداً"، ثم جاء العباس ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بصحته. قوله: (وفديننا بالأبينا) أوله: فلما تبين أصواتنا ... بكين ....... أي: قلن: جعل الله آباءنا فداكم، والألف في "الأبينا": للإشباع، والضمير في "تبين" عائد إلى النساء اللاتي أسرن، فلما رأيننا بكين وقلن هذا الكلام، والشاعر سعى في خلاصهن من الأسر.

(إِلَهاً وَاحِداً) بدل من (إِلَهَ آبَائِكَ)، كقوله: (بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ) [العلق: 15 - 16]، أو على الاختصاص أي: نريد بإله آبائك إلهاً واحداً. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل (نَعْبُدُ)، أو من مفعوله؛ لرجوع الهاء إليه في (لَهُ) ويجوز أن تكون جملة معطوفة على (نَعْبُدُ) وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد، أو مذعنون. [(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 134]. إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، والمعنى: أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِلَهاً وَاحِداً): بدل من (إِلَهَ آبَائِكَ). قال القاضي: وفائدته: التصريح بالتوحيد ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف والتأكيد. قوله: (أي: ومن حالنا أنا له مسلمون) بيان لتقرير أن تكون الجملة معترضة لا حالاً، أي: من عادتنا وشأننا، إذ لو أريد تقرير الحال لقيل: والحال أنا له مخلصون، وقوله: "أو: مذعنون" عطف على (مُخْلِصُونَ). قوله: (إشارة إلى الأمة المذكورة)، الراغب: الأمة في الأصل: المقصود، كالعمدة والعدة في كونهما معموداً ومعداً، وسمى الجماعة أمة من حيث تؤمها الفرق، وقيل للحين: أمة لكونه متضمناً لأمة ما، وسمي الدين أمة لكون الجماعة عليه، وقوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120] أي: جمع في نفسه من الفضيلة ما لا يجتمع إلا في الأمة.

وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم. ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". (وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): ولا تؤاخذون بسيئاتهم كمالا ينفعكم حسناتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم) تعليل لقوله: "تلك إشارة إلى الأمة المذكورة"، والمعنى راجع إلى أن أحداً لا ينفعه كسب غيره، وفيه إشارة إلى بيان النظم، فكأن اليهود لما ادعوا تلك الدعوى الباطلة، وهي أنه ما مات نبي إلا على اليهودية، وألقمهم الله الحجر بقوله: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) على ما تقرر في وجه الاتصال، قالوا: هب أن الأمر كذلك، أليسوا بآبائنا وإليهم ينتهي نسبنا؟ مفتخرين، فأجيبوا بقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ). قوله: (لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، قيل: هذا نفي في معنى النهي، ولهذا أكد بالنون، والحاصل أنه نهي عن أن يأتي الناس بالعمل وهم بالنسب، والأولى أن يقال: إن الواو للجمع، والمعنى على قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم قوله: (كما لا ينفعكم حسناتهم) قاس عدم مؤاخذتهم بسيئات الأمة السابقة بعدم انتفاعهم بحسناتهم، وذلك إنما يحسن إذا تقرر المقيس عليه، وتقرره إنما يعلم من مفهوم قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ)، وعلم منه أن قوله: (وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وضع موضع عليهم ما كسبوا وعليكم ما كسبتم، وإنما عدل إلى نفي السؤال عنهم ليؤذن بأنهم لا يسألون عما

[(وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ 135). (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بل نكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملته كقول عدي بن حاتم: إني من دين. يريد: من أهل دين. وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ: (ملة إبراهيم) بالرفع، أي: ملته ملتنا، أو: أمرنا ملته، أو نحن ملته، بمعنى: أهل ملته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عملوا فضلاً عن أن يؤخذوا بما كسبوا، وإلى اختصاص النفي بهم للتعريض بأن الأنبياء يسألون عنهم سؤال توبيخ وإهانة، كقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) [المائدة: 109]، أشار بقوله: هو سؤال توبيخ لقومهم، كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد، ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116]، وللاعتناء بشأن هذا المعنى كررت الآية، وختمت بها القصة وجعلت ذريعة إلى الشروع في مشرع آخر من الكلام، والله أعلم. قوله: (أي: ملته ملتنا، أو: أمرنا ملته) فإن قلت: إذا قدر "ملتنا"، حكم بأن "ملته": مبتدأ، وإذا قدر "أمرنا" حكم بأن "ملته": خبر، فلم لا يجوز العكس فيهما. قلت: لا يقدم فيما نحن فيه ما يقدم بسلامة الأمر، لأن الجملة مثبتة للحكم بعد الإضراب عما يخالفها، فإنهم قالوا للمسلمين: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، فإنك إذا قدرت: ملته. ملتنا، تصورت أنهم زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، وقالوا: اتبعوا ملتنا حتى تكونوا على ملة إبراهيم، ويدل عليه تعقيبه بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 67]، وإذا قدرت: أمرنا ملته، تصورت أنهم زعموا أن دين الحق دين اليهودية أو النصرانية، وقالوا:

و (حَنِيفاً) حال من المضاف إليه، كقولك: رأيت وجه هند قائمة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اتبعوا ملتنا حتى تكونوا على الحق، فجئت بالرد على الوجه المطلوب، أي: ليس أمرنا على الإشراك كما أنتم عليه، بل أمرنا ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً ونظيره تقدير أمركم أو الذي يطلب منكم بحسب تفسير "المعروفة" في قوله: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور: 53]. والحاصل أن الذي أجري له الكلام أولاً: أن ملة إبراهيم ملتهم، فوجب تقديمها، وعلى الثاني: ادعوا أنهم على الحق ودعوا المسلمين إلى اليهودية أو النصرانية، فوجب تقديم ما عليه المسلمون، وأنما أوثر أمرنا على "ملتنا" للتفادي عن أن يسمى ما هم عليه بالملة، أي: ليس أمرنا أمركم، بل أمرنا ملة إبراهيم، ولو قدر "ملتنا" كان التقدير: ليس ملتنا ملتكم، بل ملة إبراهيم، والله أعلم. قوله: (حال من المضاف إليه)، نحو قوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً) [الحجر: 47]، قيل: وانتصاب الحال من المضاف إليه لا يحسن حتى يكون المضاف والمضاف إليه متصلين أو ملتبسين، فالملة متصلة وملتبسة بإبراهيم عليه السلام، ألا ترى إلى قول عدي: "إني من دين"، كأنه قال: أنا مجسم منه أو متصل به، كقوله: "ما أنا من دد ولا الدد مني"، ولهذا جاز: رأيت وجه هند قائمة، ولا يجوز: غلام هند قائمة. وقال أبو البقاء: والحال من المضاف إليه قليل؛ لأن عامل الحال هو عامل صاحبها، ولا يصح أن يعمل المضاف في مثل هذا في الحال، ومن جعله حالاً قدر العامل: معنى اللام أو

والحنف: الميل في القدمين، وتحنف؛ إذا مال. وأنشد: ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفاً ديننا عن كل دين (وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب وغيرهم؛ لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك. [(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 136 - 137]. (قُولُوا) خطاب للمؤمنين، ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين، أي: قولوا لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معنى الإضافة، وهي المصاحبة والملاصقة، وقيل: حسن جعل (حَنِيفاً) حالاً لأن المعنى: نتبع إبراهيم حنيفاً، وهذا جيد؛ لأن الملة هي الدين، والمتبع إبراهيم عليه السلام. وهذا مأخوذ من قول الزجاج، فإنه قال: ينتصب (حَنِيفاً) على الحال، أي: نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته. قوله: (والحنف: الميل في القدمين). الميل: بفتح الميم والياء، الجوهري: الميل، بالتحريك: ما كان خلقة، يقال منه: رجل أميل العاتق، وفي عنقه ميل، وقال الزجاج: وإنما أخذ الحنف من قولهم: رجل أحنف: للذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، والمعنى: أن إبراهيم حنف إلى دين الإسلام، فلم يبعث نبي إلا به وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) يجوز أن يكون على: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الحنف هو: ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف: الميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحنيف هو المائل إلى ذلك، وتحنف فلان، أي: تحرى طريق الاستقامة، وسمت العرب كل من اختتن أو حج حنيفاً، تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم عليه السلام، والأحنف: من في رجله ميل، قيل: سمي بذلك على التفاؤل، وقيل: بل استعير للميل المجرد. قوله: (وكذلك قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أي: قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، يجوز أن يكون على هذين الوجهين، أما كونه خطاباً للمؤمنين فكما سبق تقريره: بل نكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملته، أو: بل نتبع ملة إبراهيم، أما كونه خطاباً للكافرين فكما قدره: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم، أو: كونوا أهل ملته، فنظم الآيات على هذين التقديرين أن يقال: إن اليهود والنصارى لما قالوا: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، وفي "قالوا" ضمير الفريقين على سبيل اللف، بدليل النشر، وهو قوله: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى). وقدر الزجاج: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فـ "أو": للتنويع، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله عليه أن يرد على الفريقين مقالهم ويضرب عن محالهم بقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)، فحينئذ إما أن يسوق الكلام معهم مخاطباً إياهم: لا تكونوا هوداً أو نصارى، بل كونوا أهل ملة إبراهيم، أو: لا تتبعوا اليهودية والنصرانية، بل اتبعوا ملة إبراهيم. ويؤيد ذلك بما عقبه من قوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآيتين، وإما أن يضرب عنهم صفحاً، ويلتفت إلى المؤمنين قائلاً: قولوا: ما نكون منكم بل نكون أهل

والسبط: الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَالأَسْبَاطِ): حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى. و"أحد" في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول "بين" عليه (بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) من باب التبكيت؛ لأن دين الحق واحد لا مثل له، وهو دين الإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملة إبراهيم أو لا نتبع ملتكم بل نتبع ملة إبراهيم، وأنتم أيها المؤمنون لا تهتموا بهم وقولا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وصبغنا الله بالإيمان صبغة ولم نصبغ صبغتكم، فقوله: (قُولُوا) تفسير لقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) على التقديرين، أي: على أن يكون الخطاب للكافرين: أي: قولوا: لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل، أو للمؤمنين، يعني: لا تهتموا بهم وقولوا: (آمَنَّا). قوله: (و"أحد" في معنى الجماعة)، الجوهري: الأحد بمعنى الواحد، وهو أول العدد، وأما قولهم: ما في الدار أحد فهو: اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، قال تعالى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ) [الأحزاب: 32]، وقال: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة: 47]. قال المصنف في "سورة الأحزاب": "منى (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ): لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أمة النساء جماعةً جماعةً لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة"، فيكون المعنى في هذا المقام: إذا تقصيت جماعة الأنبياء جماعةً جماعةً فلا نفرق نحن بين جمع من جموعهم. قوله: (من باب التبكيت)، أي: إلزام الخصم، وهو الاستدراج وإرخاء العنان معه ليعثر حيث يراد تبكيته، وهو من مخادعات الأقوال حيث يسمع الحق على وجه لا يزيد غضب

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85] فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين فقيل: (فَإِنْ آمَنُوا) بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أي: فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه: أن دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل؛ لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا: قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه، ويجوز أن لا تكون الباء صلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المخاطب: كقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24]، أي: تفكروا في حالكم وما أنتم عليه من العبث والفساد وحال المؤمنين وما هم عليه من الصلاح والسداد، فإذا رجعوا إلى أنفسهم وتفكروا، علموا أن المسلمين على هدى وهم على ضلال، كذلك ها هنا: جيء بكلمة "إن"، وهي للشك، وفرض دين آخر مثل دين الإسلام في الاستقامة، أي: نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم ديناً آخر مساوياً لهذا الدين في الصحة والسداد فقد اهتديتم، ومقصودنا هدايتكم كيف ما كانت، والخصم إن نظر في هذا الكلام بعين الإنصاف تفكر فيه وعلم أن دين الحق هو دين الإسلام لا غير. قوله: (وفيه)، أي: أدمج في هذا الكلام- تعريضاً كما ذكرنا- أن الدين: الذي هم عليه، وكل دين سواه: باطل وضلال، فعلى هذا أصل الكلام: إن كل دين سوى دين الإسلام باطل، فأقحم قوله: "دينهم الذي هم عليه" وعطف عليه العام ليؤذن بأن الكلام معهم أصالة، وقيل: الضمير في سواه، لدينهم. قوله: (ويجوز أن لا تكون الباء صلة)، يعني على ما فسرنا كانت صلة، و (آمَنُوا): مضمناً معنى دخلوا، أي: فإن دخلوا في الإيمان بشهادة، أي: باستعانة شهادة مثل شهادتكم،

وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم، أي: فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: (بما آمنتم به) وقرأ أبي: (بالذي آمنتم به). (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عما تقولون لهم، ولم ينصفوا فما هم إلا (فِي شِقَاقٍ) أي: في مناوأة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحق في شيء، أو: وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي كلمة الشهادتين، قال القاضي: المعنى: إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق. قوله: (بما آمنتم به) وقوله: (بالذي آمنتم به) في القراءتين دلالة على أن "مثل": مقحم، قال القاضي: يجوز أن تكون الباء مزيدة للتأكيد، كقوله تعالى: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) [يونس: 27]، أي: إن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم به، أو المثل مقحم، كقوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) [الأحقاف: 10] أي: عليه، يدل عليه قوله: "تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان" ففي الكلام لف ونشر. قوله: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا): عما تقولون لهم ولم ينصفوا)، هذا بناءً على أن الباء في (بِمِثْلِ) صلة (آمَنُوا)، يدل عليه قوله: "ولم ينصفوا"؛ لأن الوجه الأول مبني على الكلام المنصف والاستدراج، وقوله: "فإن تولوا عن الشهادة" على أن الباء للاستعانة، يدل عليه قوله: "والدخول في الإيمان"، ففي الكلام لف ونشر. وينصر الوجه الأول قوله: " (فِي شِقَاقٍ) في مناوأة ومعاندة"؛ لأنه مناسب للإنصاف، وكذا قوله: (فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ).

(فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ) ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء بني النضير، ومعنى السين: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): وعيد لهم، أي: يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل، وهو معاقبهم عليه. أو: وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى: يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك، وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك. [(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) 138]. (صِبْغَةَ اللَّهِ) مصدر مؤكد منتصب عن قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ) كما انتصب (وَعَدَ اللَّهُ) [الروم: 6] عما تقدمه، وهي فعلة من: صبغ، كالجلسة من: جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى السين) في (فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ)، قال المصنف: الأصل في السين التوكيد؛ لأنها في مقابلة لن، قال سيبويه: لن أفعل: نفي سأفعل. قوله: (أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أو: للتنويع لا للترديد؛ لأنه لا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً. قوله: (مصدر مؤكد) أي: مؤكد لنفسه؛ لأن ما قبله وهو قوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ) إلى آخر الآية دال على ما يدل عليه "صبغة الله". قوله: (كما انتصب (وَعَدَ اللَّهُ) عما تقدمه)، وهو قوله: (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 4 - 5].

الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)، وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا؛ أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم)، هذا على تقدير أن يكون (قُولُوا) خطاباً للكافرين. قوله: (أو يقول المسلمون) هذا على تقدير أن يكون (قُولُوا) خطاباً للمؤمنين. قوله: (يصطنع الكرام)، الجوهري: اصطنعت فلاناً لنفسي، وهو صنيعي: إذا اصطنعته وخرجته، وقال: خرجه في الأدب فتخرج، وهو خريج فلان. وقيل: معناه: يصطنع فعل الكرام أو يصطنع نفس الكرام على المبالغة، والمشاكلة واقعة بين فعل الغارس وقول القائل: اغرس، فإن المراد بقوله: "اغرس غرس الكريم" أي: أحسن إحسانه. فلولا فعل الغارس لم يحسن منه كما يغرس فلان، كما أن قوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ) مشاكل لفعل النصارى وإن لم يوجد منهم قول، وقال الزجاج: يجوز أن يكون (صِبْغَةَ اللَّهِ) بمعنى: خلقة الله الخلق، أي: أن الله تعالى ابتدأ الخلقة على الإسلام لقوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30]، وقول الناس: صبغ الثوب إنما هو تغيير لونه وخلقته. وقال القاضي: أي: صبغنا الله صبغته، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو: هدانا هدايته وأرشدنا حجته، أو: طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه صبغة؛ لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً)، يعني: أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغة الله. وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) عطف على (آمَنَّا بِاللَّهِ)، وهذا العطف يرد قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللَّهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله؛ لما فيه من فك النظم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: فعلى هذا القول لا يكون مشاكلة، بل يكون استعارة مصرحة تحقيقية، والقرينة إضافتها إلى الله تعالى، والجامع على الأول- أي: على أن يراد بالصبغة: الحلية- التأثر والظهور على السيما، وعلى الوجوه الثلاثة الجامع الظهور والبيان، وهذا التأويل أظهر وأنسب من المشاكلة؛ لأن الكلام عام في اليهود والنصارى كما سبق تقديره، وتخصيصه بصبغ النصارى لا وجه له، ولأن قوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 93] عبارة عن حب عبادة غير الله. قال المصنف: "معناه: تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ"، فكذا ينبغي في عبادة الملك العلام، وأنشد السجاوندي: وصبغة همدان خير الصبغ أي: مكارمهم ظاهرة في روائهم. قوله: (يرد قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللَّهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أو نصب على الإغراء ... لما فيه من فك النظم)، قال الواحدي: صبغة الله: نصب على الإغراء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونقل محيي السنة عن الأخفش: هي بدل من قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، وقال أبو البقاء: انتصابه بفعل محذوف، أي: اتبعوا دين الله. وقال الزجاج: صبغة الله: منصوبة على قوله: "بل نتبع ملة إبراهيم"، أي: نتبع صبغة الله، أو على: بل نكون أهل صبغة الله. وقال القاضي: قوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) عطف على (آمَنَّا)، وذلك يقتضي دخول قوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ) في مفعول (قُولُوا آمَنَّا)، ولمن نصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر (قُولُوا) معطوفاً على "الزموا" أو "اتبعوا" (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، و (قُولُوا آمَنَّا): بدل "اتبعوا" حتى لا يلزم فك النظم وسوء الترتيب. وقلت: المراد أن العطف مانع من جعل (صِبْغَةَ اللَّهِ) نصباً على الإغراء. فنقدر: الزموا صبغة الله وقولوا: نحن له عابدون، ليصح، وكذا يقدر: اتبعوا ملة إبراهيم، أي: صبغة الله وقولوا: نحن له عابدون، والحق أن كلاً من قوله تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ): اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به، مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى، لا عطف، وتحريره: أن قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مناسب (لآمَنّا"، أي: نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه، وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ

وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. [(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ* أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 139 - 141] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَابِدُونَ) ملائم لقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ)؛ لأنها دين الله، فالمصدر كالفذلكة لما سبق من الإيمان والإسلام، وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موافق لقوله: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، وفي ذكر هذا المعنى بعد ذلك ترتيب أنيق؛ لأن الإخلاص شرط في العبادة، وفيه لمحة من حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإحسان بعد سؤاله عن الإيمان والإسلام، ومثل هذا النظم يفوت مع تقدير الإغراء والبدل، ويجوز على هذا أن تقع كل واحدة من هذه الجمل الثلاث حالاً عما قبلها، ونظيره قوله في قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في قوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ)، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، والله أعلم. قوله: (والقول ما قالت حذام)، أوله: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام حذام: امرأة حذرت قومها من غارة فأنكروا، فلما نزلت بهم الغارة قالوا: صدقت حذام، فضرب به مثلاً.

قرأ زيد بن ثابت: (أتحاجونا) بإدغام النون، والمعنى: أتجادلوننا في شان الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل الله على واحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا، (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة. (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) يعني أن العمل هو أساس الأمر، وبه العبرة، وكما أن لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، ثم قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب؟ )، فإن قلت: كيف قيد المطلق، وهو (فِي اللَّهِ) بقيد النبوة وليست ثم قرينة التقييد؟ قلت: القرينة قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) والكلام تعريض باليهود وأنهم كتموا ما في التوراة من دلائل النبوة وما عهد إليهم أن يظهروها ولا يكتموها، وهم ما اكتفوا بالكتمان، بل حاولوا المجادلة في كونهم أحق بالنبوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فأين قرينة تخصيص أنهم أحق بها منه؟ قلت: قوله: (رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) الآية؛ لأن هذا إنما يستقيم جواباً إذا كانوا قد ادعوا النبوة بالأحقية، وتقرير الجواب: نحن وأنتم مستوون في كوننا عبيد الله وفي أن لكم أعمالاً ولنا أعمالاً، ولنا مزية عليكم بالإخلاص من حيث التوحيد الصرف والأعمال الخالصة، وإليه الإشارة بقوله: "فجاء بما هو سبب الكرامة". قوله: (هم فوضى في ذلك)، الأساس: ما لهم فوضى بينهم: مختلط، من أراد منهم شيئاً أخذ، وبنو فلان فوضى: مختلطون لا أمير عليهم، قال: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

(وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فجاء بما هو سبب الكرامة، أي: نحن له موحدون نخلصه بالإيمان، فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوة، وكانوا يقولون: نحن أحق بأن تكون النبوة فينا؛ لأنا أهل كتاب، والعرب عبدة أوثان. (أَمْ تَقُولُونَ) يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون "أم" معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنَا) بمعنى: أي الأمرين تأتون؛ المحاجة في حكم الله، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ ! والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معاً؛ وأن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضاً، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضاً، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ): يعني: أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران: 67] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيمن قرأ بالتاء) أي الفوقاني: ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي، والباقون: بالياء. قوله: (لا تكون إلا منقطعة)، وذلك أن المتصلة تقتضي المساواة بين ما يلي الهمزة وأم، والمنقطعة لا تقتضيها، وها هنا أن أهل الكتاب لما خوطبوا بقوله: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) ثم جعلوا غائبين بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ) انتفت المساواة؛ لأن المخاطبين حينئذ غيرهم، لأنه تعالى- بسبب تلك المجادلة الفظيعة، وهي قولهم: "نحن أحق بالنبوة من محمد صلوات الله عليه"- انتقل من خطابهم إلى النعي عليهم بخطاب غيرهم كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم، كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22]، ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) أي: كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ويحتمل معنيين أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. و (مِنَ) في قوله: (شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان؛ إذا شهدت له، ومثله (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 1] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويحتمل معنيين)، أي: قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً). أحدهما: أن يراد بـ "من كتم": أهل الكتاب وأنهم لما كانوا ظالمين ثابتين عليه، صدرت الجملة بـ "إن" المؤكدة وأتي بالخبر مقروناً بـ "لا" الاستقرائية، فقيل: إن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم. وثانيهما: أن يراد به المسلمون، فمعناه: إنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا، فإنهم حين برئت ساحتهم عن نزول الظلم فيها جيء بـ "لو" المفيدة للشك، يعني: لو فرضنا الظلم كما تفرض المحالات، كان كَيْتَ وكَيْت، واعتبار النفي في المثالين مستفاد من الاستفهام المولد للتعجب، وذلك أن قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً) الآية، كالتذييل للكلام السابق، فإذا أريد بها شهادة أهل الكتاب كان تأكيداً لمضمون قوله: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا) إلى آخره؛ وأنه في معنى كتمان الشهادة، وإن عنى بها شهادة المسلمين كان تقريراً لما اشتمل عليه (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) إلى قوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) لأنه في معنى إظهار الشهادة منهم. قوله: (وفيه تعريض) أي: في المعنى الثاني دون الأول لأنه تصريح. قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ)، قال المصنف: "ومن: لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وليس

[(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) 142 - 143] (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ): الخفاف الأحلام، وهم اليهود؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، وأنهم لا يرون النسخ. وقيل: المنافقون؛ لحرصهم على الطعن والاستهزاء. وقيل: المشركون؛ قالوا: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، والله ليرجعن إلى دينهم. فإن قلت: أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته: أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بصلة كما في قولك: برئت من الدين، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله وروسله إلى الذين عاهدتم، كما تقول: كتاب من فلان إلى فلان، فعلى هذا تقدير الكلام: شهادة كائنة من الله تعالى لمحمد صلوات الله عليه بالنبوة. قوله: ((السُّفَهَاءُ): الخفاف الأحلام) قال صاحب "الفرائد": السفيه: الذي يعمل بغير دليل، إما أن لا يلتفت إلى دليل ولا يتوقف إلى أن لاح له، بل يتبع هواه، أو أن يرى غير الدليل دليلاً. وقلت: المناسب أن يجعل تعليل تسمية اليهود بالسفهاء كراهتهم التوجه للكعبة بناءً على أنهم لا يلتفتون على الدليل، وهو حال النبي ذي القبلتين على ما في التوراة، ويتبعون أهواءهم بأخذ الرشى على الكتمان، وتسمية المشركين بالسفهاء لأجل أنهم لا يرون الدليل دليلاً لقولهم: رغب عن ملة آبائه، وما يدرون ما توجبه الحكمة والمصلحة من الفوائد.

لما يتقدمه من توطين النفس، وان الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم. (مَا وَلاَّهُمْ): ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمْ)؛ وهي بيت المقدس. (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، أي: بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها. (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) من أهلها (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم)، الانتصاف: ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فيسلفون ذكر المعارض قبل ذكر الخصم له، وهذه الآية من أحسن ما يستدل به عليه. قوله: (قبل الرمي يراش السهم) قال الميداني: يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها. قوله: (وهو ما توجبه الحكمة): بيان لقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) والضمير يعود إلى الهداية التي يدل عليها (يَهْدِي)، وذكر باعتبار الخبر وذلك "ما"، ويدل على كونه بياناً إيقاع "من توجيههم" بياناً لقوله: "ما توجبه"، أي: الهداية على صراط مستقيم، توجههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة. قال القاضي: القبلة في الأصل للحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة، وهذا المكان لا يختص به مكان دون مكان لخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وغنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً): خياراً، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء؛ ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنطوا الثبجة" يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومثل ذلك الجعل العجيب)، يريد أن الكاف منصوب المحل على المصدر، وأن معنى المثل الذي يعطيه الكاف هو الصفة والحالة لا النظير والشبيه، والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وهو الأمر العجيب الشأن، وذلك أنهم لما طعنوا بقوله: (مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) جيء بقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) جواباً له، وجعل (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) توطئة للجواب، قالوا: أي شيء ولاهم عن قبلتهم؟ فأجيبوا: هداية الله اختصتهم بهذه التولية ومنحتهم الصراط المستقيم، وهو نظير قوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) [النور: 35]، فعلم من قوله: (مَنْ يَشَاءُ) تعظيم المسلمين، وأنهم المختصون بهذا الفضل دون سائر الناس، ومن قوله: (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعظيم التوجيه إلى القِبلة وأنه هو النور، وهو الصراط المستقيم، يعني: كما جعلناكم في الدنيا أفضل الأمم وقبلتكم أفضل القبل جعلناكم في الآخرة شهداء على الناس تشهدون كما تشهد الأنبياء على أممهم، هذا هو الجعل العجيب الشأن، ويجوز أن يكون قوله: (قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) جواباً و (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) استئنافاً لبيان الموجب، وذلك أن الإضافة في قولهم: (مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) بمعنى اللام، ولهذا طابقه اللام في قوله: (لِلَّهِ)، أي: أي داعية دعتهم على التولي عن القِبلة التي استقبلوها من تلقاء أنفسهم، ومتابعة أهوائهم؟ فأجيب بأن ليس ذلك اختصاصاً من قِبل أنفسهم، بل كل الجهات لله عز وجل، فهو يهدي من يشاء إلى الجهة التي أرادها تعالى. قوله: (وأنطوا الثبجة)، النهاية: الإنطاء: الإعطاء بلغة اليمن، أي: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذالته، ولحقها تاء التأنيث لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية.

وصفاً بالثبج؛ وهو وسط الظهر إلا أنه ألحق تاء التأنيث؛ مراعاة لحق الوصف. وقيل للخيار: وسط؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محمية محوطة، ومنه قول الطائي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا وقد اكتريت بمكة جمل أعرابي للحج، فقال: أعطني من سطاتهنه: أراد: من خيار الدنانير؛ أو: عدولاً؛ لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والإعوار)، الأساس: أعور الفارس: إذا بدا فيه عورة، أي: خلل، وقد أعور لك الصيد وأعورك: أمكنك للضرب. قوله: (قول الطائي)؛ أي: أبي تمام، وهو: حبيب بن أوس الطائي، يمدح المعتصم في فتح عمورية. قوله: (ليس إلى بعضها أقرب من بعض)، المغرب: الوسط، بتحريك العين: ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة، وبالسكون: اسم مبهم لداخل الدائرة مثلاً، ولذلك كان ظرفاً، فالأول يجعل مبتدأ وفاعلاً ومفعولاً به، وداخلاً عليه حرف الجر، ولا يصح شيء من هذا في الثاني، ويوصف بالأول مستوياً فيه: المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، قال تعالى: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، وقد يبنى منه أفعل التفضيل، قال تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ) [المائدة: 89]، (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [البقرة: 238]. وقول المصنف: "عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض" إشارة إلى أنه كالمركز للدائرة.

(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) روي: أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا، وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء: 41]. فإن قلت: هلا قيل: لكم شهيداً، وشهادته لهم لا عليهم! قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له؛ جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]، (كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117]. وقيل: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: (وَسَطاً) في الأصل: اسم المكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها، واستدل به على أن الإجماع حجة، إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لا نثلمت به عدالتهم. وقال الزجاج: يقال: هو من أوسط قومه، أي: من خيارهم، والعرب تصف الفاضل النسب بأنه من أوسط قومه، على التمثيل، فتمثل القبيلة بالوادي والقاع، فخير الوادي وسطه، فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، أي: من خير مكان فيه. قوله: (فهلا قيل: لكم شهيداً). هذا السؤال وارد على تأويله، وهو قوله: "فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم"، يعني أن "شهد عليه" أكثر ما تستعمل فيما فيه مضرة، كما أن

(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يزكيكم ويعلم بعدالتكم. فإن قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً؟ قلت: لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "شهد له" فيما فيه منفعة، ولو أريد ما ذهبت إليه لقيل: ويكون الرسول لكم شهيداً، وأجاب: أن الشهيد هنا ضمن معنى الرقيب، فعدي تعديته بـ "على"، وإنما أوجب ذلك مقام المدح، وهو قوله: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نذير، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهد أنه قد بلغ، وهو قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الآية". قال صاحب "الانتصاف": من عليهم بثبوت كونهم شهداء على الناس أولاً، وثانياً: بثبوت كونهم مشهوداً لهم بالتزكية، خصوصاً من هذا الرسول المعظم، وقال أيضاً: وصف عيسى الرب عز وجل بالرقيب أولاً وبالشهيد ثانياً في قوله: (كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117] مع اتحاد معناهما، كما تقول: كنت محسناً إلينا وأنت محسن إلى كل واحد، خص ثم عم، فبذلك تم استدلال الزمخشري. وقلت: التحقيق فيه ما قررناه أن شهد عليه إنما تستعمل فيما فيه مضرة المشهود عليه، وأوجب ها هنا مقام المدح الحكم بالعكس، وأن يضمن الشهيد معنى الرقيب والمهيمن ليفيد معنى التزكية؛ لأن المزكي لابد أن يكون مراقباً على أحوال المزكى، فإذا شاهد منه ما اقتضى الصلاح والرشد والهداية لا يشهد إلا بعدالته ولا يصدر منه إلا تزكيته، ففي الكلام تضمين ثم كناية، والله أعلم.

اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. (الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) ليست بصفة للقِبلة، إنما هي ثاني مفعولي "جعل"، يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة؛ تألفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني وما رددناك إليها؛ إلا امتحاناً للناس وابتلاء؛ (لِنَعْلَمَ) الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص (عَلَى عَقِبَيْهِ)؛ لقلقه فيرتد، كقوله: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية [المدثر: 31]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم) وهو من باب قصر الفاعل على المفعول، أي: لا تتجاوز تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة بعدالة أحد سواهم. قوله: (التي يجب) بالجيم، وفي نسخة: بالحاء المهملة، وهي صفة القِبلة. قوله: (الثابت على الإسلام). معناه: الثابت على الصراط المستقيم الذي هو وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، دل عليه قوله: "ممن هو على حرف" أي: على طرف من طرفي العدل، وليس في الوسط، فيزل بأدنى شيء. قوله: (ينكص (عَلَى عَقِبَيْهِ)). ينكص: خبر بعد خبر، والنكوص: الإحجام عن الشيء، الراغب: إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟ الجواب من وجهين: أحدهما: أن الإنسان متدرج في الفضيلة واكتساب المعرفة درجةً درجةً إلى حين الكمال، فإن حكمه في بطن أمه حكم النبات، ثم يصير في حكم الحيوان، ثم بعد الولادة يصير في حكم الإنسان باكتساب العلم والعمل حتى يرقى إلى أعلى المدارج، ومتى اخل بمرتبة وصل إليها ورجع عنها فقد انقلب على عقبيه. وثانيهما: أن الله تعالى أنشأ الأديان، فما زال يتمها شيئاً فشيئاً حتى كملها بنبينا صلوات الله عليه كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3]، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد

ويجوز أن يكون بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته يعني: أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس لنمتحن الناس، وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه. فإن قلت: كيف قال: (لِنَعْلَمَ) ولم يزل عالماً بذلك؟ قلت: معناه: لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء؛ وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً، ونحوه: (وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]. وقيل: ليعلم رسول الله والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده. وقيل: معناه: لنميز التابع من الناكص، كما قال الله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ) [الأنفال: 37]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعثته وأدرك تلك السعادة، ثم رغب عنه مائلاً إلى ما قبله من الشرائع المنسوخة فقد انقلب على عقبيه. قوله: (ويجوز أن يكون بياناً) أي: قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) إلى آخره، وهو عطف على قوله: " (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ): الجهة التي كنت عليها"، وعلى الأول كان بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة، تقريره: أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بأن يصلي إلى الكعبة ثم أمر بالتحويل إلى بيت المقدس، ثم أعيد إلى ما كان أولاً وهي الكعبة، فالمخبر به الجعل الناسخ، وهي الجهة التي كان عليها، يعني: ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لابتلاء الناس، وعلى الثاني: كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يصلي إلى بيت المقدس، ثم أمر بأن يتحول إلى الكعبة، فالمخبر به الجعل المنسوخ، يعني أنت الآن على ما ينبغي أن تكون عليه، وما كنت عليه قبل هذا كان أمراً عارضاً. قوله: (لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء)، وهو أن نعلمه موجوداً حاصلاً.

فوضع العلم موضع التمييز؛ لأن العلم به يقع التمييز. (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: هذا العلم وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، والمعنى: يتعلق علمنا به موجوداً. وتحقيقه ما ذكره الزجاج: أن الله عز وجل يعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبع قبل وقوعه، وذلك العلم لا يوجب مجازاة في ثواب ولا عقاب، ولكن المعنى: ليعلم ذلك منهم شهادة، فيقع عليهم بذلك العلم اسم المطيعين واسم العاصين، فيتعين ثوابهم على قدر عملهم، وتكون معلومة في حال وقوع الفعل منهم شهادة، كقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [التغابن: 18]، فعلمه به قبل وقوعه غيب، وعلمه به حال وقوعه شهادة، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله. وقال الإمام: المسلمون اتفقوا على أنه تعالى عالم بالجزئيات كلها قبل وقوعها، ثم قال أبو الحسين البصري من المعتزلة: العلم يتغير عند تغير المعلوم؛ لأن العلم بكون العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان جهلاً، وإلا لوجب التغير، وقال أهل السنة: لا يلزم التغير؛ لأن عند إيجاد العالم انقلب ذلك العلم علماً بأنه قد حدث ولم يلزم حدوث علم الله تعالى، ونظيره الإخبار بقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [الفتح: 27]، فلما دخلوه انقلب ذلك الخبر إلى هذا من غير أن يتغير الخبر الأول. قوله: (لأن العلم به يقع التمييز)، هذا موافق لقول من قال: العلم صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.

هي "إن" المخففة التي تلزمها اللام الفارقة، والضمير في (كَانَتْ) لما دل عليه قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) من الردة أو التحويلة أو الجعلة، ويجوز أن يكون للقبلة. (لَكَبِيرَةً): لثقيلة شاقة (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ): إلا على الثابتين الصادقين في إتباع الرسول، الذين لطف الله بهم وكانوا أهلاً للطفه. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: ثباتكم على الإيمان، وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم، وأعد لكم الثواب العظيم. ويجوز أن يراد: وما كان الله ليترك تحويلكم؛ لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة. عن ابن عباس رضي الله عنه: لما وجه رسول الله إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت. (لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ): لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم. ويحكى عن الحجاج: أنه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا على الثابتين الصادقين)، وإنما فسر (الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) بالثابتين؛ لأنه مقابل لقوله تعالى: (مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، ويعلم من المفهوم أنها كبيرة على المتزلزلين المرادين من قوله تعالى: (مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ). قوله: (عن ابن عباس رضي الله عنه: لما وجه)، عن الترمذي وأبي داود والدارمي، عن ابن عباس: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ). قوله: (ما رأيك في أبي تراب؟ )، عنى به علياً رضوان الله عليه، منقصة له وحطاً لمنزلته، روى ابن عبد البر في "الاستيعاب"، أنه قيل لسهل بن سعد: إن أمير المؤمنين يريد أن يبعث

فقرأ قوله: (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)، ثم قال: وعلي منهم، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، وأقرب الناس إليه، وأحبهم. وقرئ: (إلا ليعلم) على البناء للمفعول. ومعنى العلم: المعرفة. ويجوز أن تكون (مَن) متضمنة لمعنى الاستفهام معلقاً عنها العلم، كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو؟ وقرأ ابن أبي إسحاق: (على عقبيه) بسكون القاف، وقرأ اليزيدي: (لكبيرة) بالرفع، ووجهها: أن يكون "كان" مزيدة، كما في قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إليك تسب علياً عند المنبر، فقال: أقول ماذا؟ قال: تقول: أبا تراب، فقال: والله ما سماه بذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على فاطمة رضي الله عنها، فقال: "أين ابن عمك؟ " فقالت: هو ذاك مضطجع في صحن المسجد، فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب"، فوالله ما سماه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كان اسم أحب إليه منه"، وأخرجه البخاري أيضاً مع تغيير يسير. قوله: (وعلي منهم)، أي: هو من جملتهم وداخل تحت امتحان الله تعالى بقوله: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، وهو من الذين اتبع الرسول وممن هداه الله، أي: الثابتين على الإيمان؛ لأن الناس عند نزول هذه الآيات بين التابع والناكص، ولا ارتياب أنه من التابع. قوله: (ويجوز أن تكون (مَنْ) متضمنة لمعنى الاستفهام)، قيل: هو معطوف على قوله: "ومعنى العلم المعرفة" أي: لا يكون من أفعال القلوب، بل تكون (مَن): موصولة و (يَتَّبِعُ): صلته، يدل عليه قوله فيما سبق: "ليعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه".

وجيران لنا كانوا كرام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون (مَن) استفهامية؛ لأن ذلك يوجب أن يعلق "نعلم" عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق لقوله: (مِمَّنْ يَنقَلِبُ) ما يتعلق به؛ لأن ما بعد كلمة الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بـ (يَتَّبِعُ)؛ لأنها في المعنى متعلقة بـ "نعلم"، وليس المعنى: أي فريق يتبع (مِمَّنْ يَنقَلِبُ)، بل (مَن يَتَّبِعُ): موصولة منصوبة بـ "نعلم"، والمعنى: ليفصل المتبع من المنقلب، وهو الذي عناه المصنف قبيل هذا: "لنميز التابع من الناكص"، ويمكن أن يعلق بـ (يَتَّبِعُ) على أنه حال من فاعله، أي: لنعلم أي فريق يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب على عقبيه. قوله: (وجيران لنا كانوا كرام). أوله: فكيف إذا مررت بدار قوم قال سعدان: قال الأصمعي: أنشد الفرزدق القصيدة التي مستهلها: قفا يا صاحبي بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام فلما بلغ: كانوا كرام، قال الحسن البصري: يا أبا فرسا، كراماً، قال الفرزدق: ما ولدتني إذاً إلا ميسانية إن جاز ما قلت يا أبا سعيد، وفي "المغرب": ميسان: قرية من قرى العراق.

والأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إن زيد لمنطلق. ثم وإن كانت لكبيرة، وقرئ: (ليضيع) بالتشديد. [(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ) 144 - 145]. (قَدْ نَرَى) ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله: قد أترك القرن مصفراً أنامله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أراد: أني لم أكن إذاً من العرب، بل أكون من المولدين. قوله: ((قَدْ نَرَى) معناه: ربما نرى)، اعلم أن لفظة "قد" قد يعنى بها ضدها لمجانسة بين الضدين، ومثله "رب" للتقليل، ثم تستعار للتكثير، قال: فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود قوله: (قد أترك القرن مصفراً أنامله)، تمامه: كأن اثوابه مجت بفرصاد القرن: من هو مثلك في الشجاعة، مصفراً أنامله، أي: مقتولاً خرجت روحه فاصفرت أصابعه، مجت: من مج الرجل الماء من فيه، أي: رمى، والفرصاد: التوت، أي: مجت بماء فرصاد، أي: صب عليها كما يصب الماء من الفم.

(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ): تردد وجهك، وتصرف نظرك في جهة السماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة؛ لأنها قِبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم؛ ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل. (فَلَنُوَلِيَنَّكَ): فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا؛ إذا جعلته والياً له؛ أو: فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولمخالفة اليهود): عطف على: (لأنها قبلة أبيه). قوله: (فكان يراعي نزول جبريل [عليه السلام] والوحي بالتحويل)، قال القاضي: وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل. قوله: (أو: فلنجعلنك تلي سمتها)، الأساس: السمت: النحو والطريق، وسامته مسامتة وتسمته: تعهده وقصد نحوه. هذا الوجه وإن كان موافقاً لقوله: (فَوَلِّ) لكن الأول أقضى لحق ما يستدعيه قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) ليؤذن أن الله تعالى يسارع في رضاه ويملكه ما يتمناه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، الحديث، أخرجه الشيخان وغيرهما. قال القاضي: خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيماً له وإيجاباً لرغبته، ثم عم تصريحاً بعموم الحكم وتأكيداً لأمر القبلة، وتحضيضاً للأمة على المتابعة.

(تَرْضَاهَا): تحبها وتميل إليها؛ لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تَرْضَاهَا): تحبها). أي: الرضا مجاز عن المحبة، الراغب: قيل: لم يقصد بقوله: (تَرْضَاهَا) أنك ساخط للقبلة التي كنت عليها، بل إنه صلى الله عليه وسلم ألقي في روعه أن الله تعالى يريد تغيير القبلة، وكان يتشوقه ويحبه، وقيل: تحبها؛ لأن مرادك لم يخالف مرادي، وهذه المنزلة يشير إليها أولو الحقائق، ويذكرون أنها فوق التوكل؛ لأن قضية المتوكل: الاستسلام لما يجري عليه من القضاء كأعمى يقوده بصير، وهذه المنزلة هي أن يحرك الحق سره بما يريد فعله، وعن ابن عباس أنه أحبها اقتداء بإبراهيم عليه السلام. وعن الزجاج: أحبها لاستدعاء العرب لها. فكل هذه الإرادات صحيحة، وفي تطلعه الوحي المنزل دون الطلب تنبيه على حسن أدبه صلوات الله عليه حيث انتظر ولم يسأل، فالولي الذي قد حصلت له قربة قد تنقص قربته بالمسألة، كما جاء في الحديث القدسي: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". قال أمية بن أبي الصلت: إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضك الثناء

ووافقت مشيئة الله وحكمته. (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): نحوه، قال: وأطعن بالقوم شطر الملوك وقرأ أبي: (تلقاء المسجد الحرام) وعن البراء بن عازب: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة. وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): نحوه)، قال الزجاج: يقال: هؤلاء القوم مشاطرونا، أي: دورهم تتصل بدورنا. وقال القاضي: الشطر في الأصل: لما انفصل عن الشيء، من: شطر: إذا انفصل، ودار شطور: منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانب الشيء وإن لم ينفصل كالقطر. قوله: (وأطعن بالقوم شطر الملوك)، تمامه: حتى إذا خفق المجدح المجدح: الدبران؛ لأنه يطلع آخراً، ويسمى حادي النجوم، وتزعم العرب أنه يمطر بها، ومجاديح السماء: أنواؤها، وطعن في المفازة يطعن ويطعن: ذهب، والباء في "بالقوم": للتعدية. أي: أذهب بالقوم في زمن الجدب إلى الملوك حتى تغيب الدبران ويزول القحط فيرجعوا إلى وطنهم. قوله: (فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه

في مسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال؛ فسمي المسجد مسجد القبلتين. و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) نصب على الظرف، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي: في جهته وسمته؛ لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد. وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ): أن التحويل إلى الكعبة هو الحق؛ لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إلى القبلتين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت. وفي رواية عن مسلم وأبي داود، عن أنس: وهم ركوع في صلاة الفجر قد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة. قوله: (لأن استقبال عين القِبلة فيه حرج عظيم)، الانتصاف: من قال بأن الواجب على البعيد عين الكعبة يرد عليه صحة صلاة الصف المستطيل زيادة عن سمت الكعبة، ومن قال بالجهة يلزمه أن من كان في الشمال مثلاً له أن يصلي إلى الجهات الثلاث لأنها جهات الكعبة، والسمت غير مرعي على هذا، والمختار في الفتوى أن الواجب في البعد: الجهة.

(يَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء. (مَا تَبِعُوا) جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. (بِكُلِّ آيَةٍ) بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق. (مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) حسم لأطماعهم؛ إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقرئ: (بتابع قبلتهم) على الإضافة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يَعْمَلُونَ)، قرئ بالتاء): ابن عامر وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء، وعلى القراءة بالتاء تذييل لقوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) إلى قوله: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ووعد للمؤمنين، يعني: أن الله لا يضيع عملكم وما عقدتم به نياتكم، وعلى القراءة بالياء: وعيد لأهل الكتاب. قوله: (سد مسد جواب الشرط)، يريد أن اللام في قوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ) موطئة للقسم. قوله: ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) حسم لأطماعهم)، الراغب: أي: لا يكون منك، ومحال أن يكون؛ لأن من عرف الله حق المعرفة محال أن يرتد، وقد قيل: ما رجَعَ من رَجَعَ إلا من الطريق، أي: ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إلى الله حق الوصول، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعل الله للإنسان بالفطرة، فإن ذلك كشررة تهمد إذا لم تتقد. قوله: (إذ كانوا ماجوا في ذلك)، الأساس: ومن المجاز: ماج الناس في الفتنة: اضطربوا، وهم يموجون فيها.

(وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة، لا يرجى اتفاقهم كما لا يرجى موافقتهم لك؛ وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه؛ فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه؛ لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله؛ لشدة شكيمته في عناده. وقوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن تصلب كل حزب)، الأساس: ومن المجاز: فلان صلب في دينه، وقد تصلب لذلك: تشدد له. قوله: (شكيمته)، الأساس: عض الفرس على الشكيمة والشكيم، ومن المجاز: إن فلاناً لشديد الشكيمة: إذا كان ذا حد وعارضة. قوله: (وقوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ)): مبتدأ، والخبر: "كلام وارد"، والضمير في "حاله" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي "عنده" لله تعالى، وقوله: (في قوله) ظرف للإفصاح، يعني: مجيء قوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) بعد ما أفصح بقوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) يدل على أن الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير: إلهاباً أو تعريضاً، لئلا يلزم التنافي بين ذلك التصريح بالنفي البليغ وهذا التعليق، وإنما كان النفي بليغاً لمجيء "الباء" في الخبر، وإن "أنت" نحو مثل في قولك: مثلك لا يبخل، وجدت نحوه في تضاعيف كلامه، وإفادة ذلك من أن قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) عطف على جواب القسم، على أن القسم منصب على المعطوفين معاً، وتحرير المعنى: والله ما مثلك في صدد الرسالة ومتبع الآيات البينات بتابع قبلة هؤلاء الجهلة الذين لا يجدي عليهم كل برهان قاطع، وإلى معنى العطف على جواب القسم ينظر.

- بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) - كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر؛ (إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ) المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده)، يعني أنه تعالى أقسم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بتابع قبلتهم لما علم من حقيقة حاله ذلك. قوله: (وفي ذلك لطف للسامعين)، والمشار إليه بقوله: "ذلك" مفهوم هذه الآية وما تضمنت من التعريض والتهييج، أما التعريض فهو: أما بالنسبة إلى المؤمنين فيكون لطفاً لهم؛ لأن من بلغت منزلته إلى أقصى نهايات الكمال إذا خوطب بذلك الخطاب الهائل فالمؤمنون أحرى بأن يحذروا من متابعة ما نهى عنه، وبالنسبة إلى الكافرين يكون استفظاعاً لحالهم؛ لأن المؤمنين مع جلالتهم إذا حذروا متابعة أهوائهم أشد التحذير فكيف بالكافر الذي ركب هواه وكان خليعاً فيه؟ الراغب: حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع أهوائهم، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى، وكرر ذلك في عدة مواضع، وقول من قال: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعني به الأمة فلا معنى له؛ لأن من قدر له المنزلة الرفيعة أحوج حفظاً لمنزلته وصيانة لمكانته من الغير، وقد قيل: إن حق المرآة المجلوة أن يكون تعهدها أكثر، إذ قليل من الصدأ عليها أظهر. وهو واقع على سبيل الكناية. قال صاحب "المفتاح": التعريض تارة يكون على سبيل الكناية، وأخرى على سبيل المجاز، فإذا قلت: آذيتني فستعرف، وأردت المخاطب، ومع المخاطب إنساناً آخر، كان من

وتهييج وإلهاب للثبات على الحق. فإن قلت: كيف قال: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ولهم قبلتان؛ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة. [(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 146 - 148]. (يَعْرِفُونَهُ): يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضي الله عنه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبيل الأول، وإن لم ترد المخاطب كان من قبيل الثاني، وأما التهييج فلأنه جل منصب الرسالة من ركوب الشنعاء فيكون سبباً لمزيد الثبات على الطريق المستقيم، كقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65]. قال القاضي: أكد الله تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه، وقيل: الوجوه: لام القسم، و"إن" واللام في خبرها، والجملة الاسمية، والتعبير بـ "إذاً"، ونسبة الظلم إليه، وجمعه، واستغراقه. قوله: (وتهييج وإلهاب)، الأساس: ألهبته الأمر: أردت بذلك تهييجه وإلهابه، الجوهري: هاج هائجه، أي: ثار غضبه. قوله: (كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد)، الانتصاف: مثله (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) [البقرة: 61] مع أنه منٌّ وسلوى؛ لأنهما من طعام المترفه. قوله: (المعين المشخص). يروى بكسر الياء والخاء عن الأصل.

أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بابني. قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه. وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوماً بغير إعلام. وقيل: الضمير للعلم، أو القرآن، أو تحويل القبلة ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الضمير للعلم أو القرآن أو التحويل). روى الإمام عن ابن عباس والمفسرين أن الضمير راجع إلى أمر القبلة، يعني: علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي تقلبك إليها كما يعرفون أبناءهم، وقال الإمام: "الأصل في الضمير أن يرجع إلى أقرب المذكورات وهو العلم في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ)، والمراد بالعلم: النبوة، كأنه قيل: يعرفون أمر النبوة كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فهو ما تقدم". وقيل: لو كان الضمير للقرآن لوجب أن يقال: يعرفونه كما يعرفون التوراة، رعاية للمناسبة، فلما قيل: كما يعرفون أبناءهم عرف أن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، وإليه الإشارة بقوله: " (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) يشهد للأول"، قالوا: في قوله: "جاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر" نظر؛ لأن من ابتداء قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) إلى هنا قد تكرر الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)، (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ)، (مَا جَاءَكَ)، و (إِنَّكَ) نعم، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، فكيف يقال: "وإن لم يسبق له ذكر؟ " فيقال: لم يسبق له ذكر يعني: في كلام ورد في شأنه صلوات الله عليه وسلامه؛ لأن الخطاب معه صلوات الله عليه تابع لأمر القبلة، فإن الآيات السالفة وردت في شأن القبلة، وهذه في شأن نفسه صلوات الله عليه، فليس بينهما مناسبة، ومن ثم ابتدأ بقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) من غير عاطف، فلو رجع الضمير إلى المذكور السابق لأوهم نوع اتصال ولم يحسن ذلك الحسن.

وقوله: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام. فإن قلت: لم اختص الأبناء؟ قلت: لأن الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. وقال: (فَرِيقاً مِنْهُمْ) استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) [البقرة: 78]. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، أو: مبتدأ خبره (مِنْ رَبِّكَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتقرير النظم: أنه تعالى لما ذكر أمر القبلة وذكر قول السفهاء من أهل الكتاب وطعنهم فيه مع أنهم يعلمون أن التحويل هو الحق؛ لأنه كان مذكوراً عندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، جاء بهذه الآية على سبيل الاستطراد بجامع المعرفة الجلية مع الطعن فيه، والدليل على أن الآية مستطردة: قوله تعالى بعد ذلك: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، ولناصر من ذهب إلى أن الضمير لأمر القبلة أن نظم الآي السابقة والآتية يستدعي اتحاد الضمائر؛ لأن الكلام فيها في أمر القبلة. قوله: (لأن الذكور أشهر وأعرف)، الراغب: إنما قال (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) ولم يقل: أنفسهم؛ لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، ثم في ذكر الابن ما ليس في ذكر النفس؛ لأن ابن الإنسان عصارة ذاته ونسخة صورته. قوله: (استثناء لمن آمن منهم أو لجهالهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ))، هذا الاستثناء معنوي لا اصطلاحي، وهو بمعنى الإخراج، وقد صرح به صاحب "المطلع" حيث قال: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ): إخراج لمن آمن منهم أو لجهالهم.

وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد والإشارة على الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) تخصيص لمن عاند، واستثناء لمن آمن، وقيل: معنى قول القاضي: أن قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) يدل من حيث المفهوم أن غير ذلك الفريق لا يكتمون الحق. وقلت: معناه: أن أهل الكتاب كانوا فرقاً ثلاثاً: فرقة يعلمون ويكتمون كابن صورياً وكعب بن الأشرف، وأخرى يعلمون ولا يكتمون كعبد الله بن سلام، وفرقة أميون، فخص الله تعالى بالذكر من الفرق الثلاث فرقة كتموا الحق، ليبقى في ذلك العام من آمن منهم أو الأميون، والحاصل أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وتخصيصه بالحكم كقوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) [البقرة: 228]، والترديد بـ "أو" في كلامه بناءً على معنى الذين آتيناهم الكتاب، فإذا اعتبر مطلق اليهود كان متناولاً للجهال أيضاً، وإذا اعتبر العارفون بالكتاب كان متناولاً لمن آمن منهم، فإن قلت: كيف يعتبر العموم وقد قيد بالمعرفة؟ فالجواب عنه ما ذكره في قوله: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) [مريم: 66]، فلينظر هناك. قوله: (وفيه وجهان). ذكر الوجهين بعد ذكر الاحتمالين يوجب أن تكون الأقسام أربعة، لكن ذكر المصنف منها وجهين فخص كلاً من التقديرين بكل من الاحتمالين، فحين جعل اللام للعهد قدر خبر مبتدأ محذوف، وحين جعلها جنساً جعل (مِنْ رَبِّكَ) الخبر، وذلك أن اللام إذا كان للعهد والمشار إليه ما سبق، وهو: إما ما عليه الرسول عليه الصلاة والسلام

أو إلى الحق الذي في قوله: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك؛ وأن تكون للجنس على معنى: الحق من الله لا من غيره، يعني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدال عليه قوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وإما الحق الذي اشتمل عليه قوله: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، فالضمير المقدر مبتدأ راجع إلى اسم الإشارة، والخبر معرف باللام فيفيد الحصر الذي نبه عليه بقوله: "هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك"، وإذا كان للجنس فالمشار إليه ما في ذهن أهل الحق من الحق الذي هم فيه. وذكر القاضي وجهاً آخر، وقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ): كلام مستأنف مبتدأ وخبر، واللام للعهد، والإشارة على ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو الحق الذي يكتمونه. بقي وجه آخر وهو أن تكون اللام للجنس "ويكتمون" خبر مبتدأ محذوف، فهو ممتنع، لأنه لا معنى لقولك: المذكور جنس الحق الكائن من ربك، اللهم إلا على الادعاء كما في قولك: حاتم الجواد. وعلى التقديرين الحصر لازم، أما على العهد فكما سبق، وأما على الجنس فلأن حقيقة الحق وماهيته إذا كانت صادرة من الله تعالى لا يكون فرد من أفرادها لغيره، وإليه الإشارة بقوله: "الحق من الله لا من غيره". قوله: (أو إلى الحق الذي في قوله: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ))، فيه إشكال لما يؤدي إلى اتحاد الخبر والمخبز عنه، وأن التقدير: هذا الذي يكتمونه هو الذي يكتمونه، فيقال: لا ارتياب أن الحق الأول مظهر وضع موضع ضمير هو عبارة عما في "يعرفونه"، للإشعار بأن الذي يعرفونه ويكتمونه حق مبين، وهم في كتمانه على ضلال وباطل، فالمبتدأ المقدر عبارة عن المعنى، وهو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو التحويل، فالإشارة باللام إلى اللفظ وهو مطلق الحق، وإليه يلمح قوله: "هذا الذي يكتمونه هو الحق"، ونظيره قوله تعالى: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ) [آل عمران: 91].

أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من الله- كالذي عليه أهل الكتاب- فهو الباطل. فإن قلت: إذا جعلت الحق خبر مبتدأ فما محل (مِنْ رَبِّكَ)؟ قلت: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون حالاً. وقرأ علي رضي الله عنه: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) على الإبدال من الأول، أي: يكتمون الحق من ربك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف: "هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً"، فجعل ملء الأرض ذهباً في معنى الفدية، بدلالة (وَلَوْ افْتَدَى بِهِ)، وجعل الضمير في (بِهِ) راجعاً إلى لفظه لا معناه، ومرجع قوله: "الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى الحق المطلق أيضاً لقوله تعالى: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 78]، وقوله: (إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يس: 3 - 4]، ومنه الحديث: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، وسألوا: من هي يا رسول الله؟ رواه الترمذي عن ابن عمر. يعني: هذا الذي يكتمونه هو الحق المبين، فالمثال وارد على وجهي العهد، ويقال: يجوز أن يراد ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النعت والوصف الثابت في الكتابين، المعنى: هذا الذي كتموه من النعت والوصف ثابت من الله تعالى في التوراة والإنجيل، والأول أظهر لدلالة قوله: "الحق الذي عليه"، إذ لو أريد الثاني لقال: الذي فيه، يعضده قول المصنف: "يعني أن الحق: ما ثبت أنه من الله، كالذي أنت عليه" إلى آخره والله أعلم. قوله: (وأن يكون حالاً)، فعلى هذا، المبتدأ المقدر "هذا" ليصح قوله: "الحق من ربك، على الإبدال".

(فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ): الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في أنه من ربك. (وَلِكُلٍّ) من أهل الأديان المختلفة (وِجْهَةٌ): قبلة، وفي قراءة أبي: (ولكل قبلة). (هُوَ مُوَلِّيهَا) وجهه، فحذف أحد المفعولين. وقيل: (هُوَ) لله تعالى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف: هذه القراءة تؤكد كون (مِنْ رَبِّكَ) حالاً، وتدل على أن اللام للعهد. قوله: (أو في أنه من ربك). أي: لا تكونن من الشاكين في أنه من ربك. قال القاضي: وليس المراد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه؛ لأنه غير متوقع منه، بل إما: تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو: أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ. قلت: الأول من باب قوله: "بشر المشائين"، والثاني: من قوله: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]، لكن المعنى على الأول أبلغ؛ لأن الخطب من العظم بحيث لا يختص بالخطاب أحد دون أحد، وعلى الثاني: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام أمته وقدوتهم اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لمرتبته. قوله: ((وِجْهَةٌ): قبلة). قال أبو البقاء: وجهة جاء على الأصل، والقياس جهة، والوجهة: مصدر في معنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق، وقال الزجاج: يقال: هذه جهة ووجهةٌ ووِجْهَةٌ. قوله: ((هُوَ مُوَلِّيهَا) وجهه). قال الزجاج: "هو" لكل، المعنى: كل أهل وجهة هم الذين

أي: الله موليها إياه وقرئ: (ولكل وجهة) على الإضافة، والمعنى: وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام؛ لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولوا وجوههم إلى تلك الجهة، وقيل: هو موليها، أي: الله تعالى يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد، فعلى التقديرين أحد مفعوليه محذوف. قوله: (وقرئ: "ولكل وجهة" على الإضافة)، وتوجيهه: أن يقدر مضاف مثل: ولكل صاحب وجهة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والضمير في (مُوَلِّيهَا) راجع إلى الوجهة، أي: الله مولي الوجهة كل صاحب وجهة، "وكل": مفعول "مول"، فملا قدم أدخل اللام لضعف العامل. قال أبو البقاء والقاضي: المعنى: وكل وجهة الله موليها أهلها، واللام مزيدة للتأكيد، أو: الضمير راجع إلى المصدر. قال السجاوندي: المعنى: الله مولي لكل وجهة تولية، و"ها": تعود على التولية المفهومة من موليها، واللام كقوله: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]؛ تم كلامه. مثاله قول الشاعر: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب الضمير في "يدرسه" لمصدره لا للقرآن، لأنه لو كان للقرآن لا يكون لإدخال اللام وجه؛

وقرأ ابن عامر: (هو مولاها) أي: هو مولى تلك الجهة، وقد وليها، والمعنى: لكل أمة قبلة تتوجه إليها منكم ومن غيركم. (فَاسْتَبَقُوا) أنتم (الْخَيْرَاتِ) واسبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره. ومعنى آخر؛ وهو أن يراد: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن الفعل قد أخذ مفعوله، وإذا كان الضمير للمصدر يستقيم ذلك، وكذا الضمير في ضاربه للمصدر، "ولزيد": مفعوله، أي: لزيد أبوه ضارب الضرب، وإنما أورد المصنف المثالين ليشير إلى أنه يجوز أن يكون الضمير في (مُوَلِّيهَا) للوجهة، وأن يكون للمصدر الذي هو التولية. قوله: (وقرأ ابن عامر: "هو مولاها")، قال أبو البقاء: "وهو" على هذا: ضمير الفريق، و"مولى" لما لم يسم فاعله، والمفعول الأول: الضمير المرفوع فيه، و"ها": ضمير المفعول الثاني الراجع إلى الوجهة، ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون "هو" ضمير اسم الله تعالى لاستحالة ذلك المعنى، والجملة صفة لـ "وجهة". قوله: (ومعنى آخر): عطف على قوله: "والمعنى: لكل أمة"، يعني: يجوز أن تكون الآية عامة في كل أهل الأديان المختلفة لقوله: "منكم ومن غيركم"، وفي كل أعمال صالحة لقوله: "من أمر القبلة وغيره"، وفي كل ما يتصل بالأعمال من الجزاء إلى الموافق والمخالف، فيكون تذييلاً لقوله: (مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)، أي: اعلموا أن لكل حزب من اليهود والنصارى جهة يستقبلونها وهم يصلون فيها، فاستقبلوا أنتم- يا أمة محمد- الخيرات واستبقوا إليها غيركم، ويجوز أن تكون مختصة بأمة محمد صلوات الله عليه وسلامه، وهو لوجهين، أحدهما: أن يراد بالوجهة: استقبال القبلة والسبق، وثانيهما: أن يختص كل من ألفاظ الآية إلى آخرها بأمر القِبلة وما يتصل به، وحينئذ تكون الآيات التالية كعطف تفسيري لهذه الآية.

ولكل منكم- يا أمة محمد- وجهة، أي: جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء، من موافق ومخالف، لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت. (أَيْنَ مَا تَكُونُوا) من الجهات المختلفة (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: أينما تكونوا مجتمع الأجزاء ومفترقها يأت بكم الله جميعاً، أي: يحشركم الله تعالى للجزاء. قلت: وفي تركيب "الكشاف" لف ونشر واستطراد بين، إذ لو لم يرد النشر لكان مكان قوله: " (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء من موافق ومخالف" قبل قوله: "ومعنى آخر" ليكون الشروع في الوجه الخاص بعد الفراغ من العام ظاهراً، ولو لم يذهب إلى الاستطراد لكان الظاهر أن يذكر الوجهان المختصان بالمؤمنين على سنن واحد، ثم يتبع لكل من العام والخاص بما يناسبهما من غير تخلل أجنبي، فلما أخر أحد وجهي الخاص عما يتعلق بالوجه العام والأول من وجهي الخاص؛ وهو (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء؛ علم أن المصنف أورد هذا الوجه استطراداً، والله أعلم. الراغب: وفي الآية قول آخر، وهو أنه تعالى قيض الناس في أمور دنياهم وآخرتهم في أحوال متفاوتة، وجعل بعضهم أعوان بعض فيها، فواحد يزرع، وواحد يطحن، وواحد يخبز، وكذلك في أمر الدين: واحد يجمع الحديث، وآخر يطلب الفقه، والثالث يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون وفي الباطن مسخرون، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما

[(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) 149 - 154]. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ): ومن أي بلد خرجت للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خلق له". ولهذا سئل بعض الصالحين عن تفاوت الناس في أفعالهم فقال: كل ذلك طرق إلى الله تعالى، أراد أن يعمرها بعباده، فبين تعالى أن لكل طريقاً إذا تحرى فيه وجه الله تعالى. قوله: ((وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به). وفيه أن قوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ) تذييل لقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) نحو قولك: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعد وتذييل للمجموع، يعني من حقيقة هذا المأمور به وثباته أنه تعالى لا يهمل عامله ويعطيه أجره كاملاً ثابتاً ديناً ودنيا، وهذا نوع من التوكيد المعنوي، ومن ثم لما فرغ منه أتى بتوكيد لفظي حيث قال: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ).

وقرئ: (يعملون) بالياء والتاء، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده؛ لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، والحاجة على التفصلة بينه وبين البداء، فكرر عليهم؛ ليثبتوا ويعزموا ويجدوا؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر؛ فاختلفت فوائدها. (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) استثناء من "الناس"، ومعناه: لئلا تكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم تحول حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (يعملون)، بالياء والتاء)، بالياء التحتانية: أبو عمرو، والباقون: بالتاء. قوله: (والحاجة إلى التفصلة) يجوز أن يكون عطفاً على مدخول لام التعليل، أي: كرر لتأكيد أمر القبلة للحاجة إلى التفصلة، وأن يكون عطفاً على "الفتنة"، أي: النسخ من مظان الحاجة إلى التفصلة. قوله: (ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر)، أما أولاً: فقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) علق به قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ)، يعني: ما كنت تحبه وتتمناه حق وصدق مكتوب في زبر الأولين، يعلمه علماؤهم وأنه من أمارة نبوتك، وأما ثانياً: فقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) علق به قوله: (لِئَلاَّ يَكُونَ)، وقوله: (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي) بين في الأولين حقية التولية، وفي الأخير فائدتها وجدواها. قوله: (أي حجة كانت تكون للمنصفين)، توجيه السؤال: فلما حولت القِبلة إلى الكعبة

قلت: كانوا يقولون: ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلتك كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة، ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب. (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) على أن "ألا" للتنبيه، وقف على (حُجَّةٌ) ثم استأنف منبهاً. (فَلا تَخْشَوْهُمْ): فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم؛ فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) ولا تخالفوا أمري وما رأيته مصلحة لكم. ومتعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك، أو يعطف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يبق لليهود حجة إلا لهؤلاء المعاندين، وحجتهم داحضة، ويفهم منه أنه لو لم يحول كانت حجة المنصفين لازمة، وما تلك الحجة؟ وأجاب بما أجاب، ويجوز أن يكون من باب قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب قال الزجاج: المعنى: لئلا يكون للناس حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك علي حجة إلا الظلم، أي: ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني، وإنما سمي ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون): عطف على قوله: "ومعناه: لئلا يكون حجة لأحد من اليهود"، والمراد بالناس على الأول: اليهود، واعتراضهم بترك ما هو مذكور في نعته صلوات الله عليه، وعلى الثاني: العرب واعتراضهم بترك قبلة أبي العرب.

وقيل: هو معطوف على (لِئَلاَّ يَكُونَ)، وفي الحديث: "تمام النعمة دخول الجنة"، وعن علي رضي الله عنه: تمام النعمة الموت على الإسلام. (كَمَا أَرْسَلْنَا): إما أن يتعلق بما قبله، أي: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول؛ أو بما بعده، أي: كما ذكرتكم بإرسال الرسول (فَاذْكُرُونِي) بالطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب، (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هو معطوف على (لِئَلاَّ يَكُونَ). فعلى هذا، المعلل مذكور، وكذا المعطوف عليه، كأنه قيل: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولأتم نعمتي عليكم، أي: أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فليظهر سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلنثيبنكم به الجزاء الأوفى. قوله: (أو بما بعده). أي: (كَمَا أَرْسَلْنَا): إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده، والأول أوفق لتأليف النظم، على أن يكون (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي) معطوفاً على قوله: (لِئَلاَّ يَكُونَ)، فترتبط الآيات على النسق الأنيق، أي: حولنا القبلة إلى الكعبة لئلا يكون لليهود حجة، ولأتم نعمتي عليكم، غذ حولتكم إلى قبلة بناها إبراهيم وإسماعيل وهما أبواكم، كما أتممت النعمة بإرسال الرسول من أنفسكم ومن ضئضئ إسماعيل، وإذا كان كذلك فاذكروني بالطاعات واشكروا هذه النعم الجليلة، وفيه تلويح إلى معنى قولهما: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية، وتنبيه أن النعمة في بعثته ودعائه العالم إلى دين الحق أعظم من نعمة تغيير القبلة إلى الكعبة لإيقاعه مشبهاً به. وقال الراغب: قيل: عنى بقوله: (مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) العلوم التي لا طريق على تحصيلها إلا بالوحي على السنة الأنبياء، وقال لبني إسرائيل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي)، ولهذه الأمة: (فَاذْكُرُونِي)،

(وَلا تَكْفُرُونِ): ولا تجحدوا نعمائي. (أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ): هم أموات بل هم أحياء، (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) كيف حالهم في حياتهم. وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إن النعمة في الدنيا مشوبة بالمكاره والمصائب، فإذا نالكم شيء منها فاصبروا لتكونوا شاكرين لنعمائي صابرين على بلوائي، وذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) الآية [البقرة: 153]، ولو تعلق (كَمَا أَرْسَلْنَا) بقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لم يكن النظم بهذا الحسن. قوله: ((وَلا تَكْفُرُونِ) ولا تجحدوا نعمائي)، الراغب: إن قيل: لم أتبع (وَاشْكُرُوا لِي) قوله: (وَلا تَكْفُرُونِ) ولم يقتصر على إحدى اللفظتين؟ قيل: لما كان الإنسان قد يكون شاكراً في شيء ما، وكافراً في غيره، فلو اقتصر على (وَاشْكُرُوا لِي لكان يجوز أن يتوهم أن من شكر مرة أو على نعمة ما فقد امتثل، ولو اقتصر على قوله: (وَلا تَكْفُرُونِ) لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهي عن تعاطي قبيح دون حث على الفعل الجميل، فجمع بينهما لإزالة هذه الشبهة، ولأن في قوله: (وَلا تَكْفُرُونِ) نهياً عن الكفر المطلق، وذلك معنى زائد على (وَاشْكُرُوا لِي). فإن قيل: لِمَ لم يقل: ولا تكفروا لي ليطابق (وَاشْكُرُوا لِي)؟ قيل: لأنه يقتصر من العبد على شكل نعمه ولا يقتصر على أن لا يكفر نعمه، بل النهي عن الكفر به أكثر من النهي عن كفر نعمه، إذ قد يعفو عن كفر بعض النعم ولا يعفو عن الكفر المطلقز قوله: ((وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) كيف حالهم في حياتهم). قال القاضي: هذا تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك إلا بالكشف أو الوحي، وفيها دلالة على أن الأرواح: جواهر قائمة بنفسها وأنها تبقى بعد

كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشياً، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة. وقيل: نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر. [(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) 155 - 157] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموت دراكة، وعليه جمهور الصحابة والتابعين، وبه نطقت الآيات والسنن، وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة. الراغب: ذهب بعض المعتزلة إلى أن إثبات الحياة ونفي الموت في الآية: في يوم الحساب، لا في الحال، وقال: لا اختصاص لهم به، بل إنما علق الحكم بهم لأنه في ذكرهم، ولو ذكر معهم غيرهم لذكرهم، وفرع هذا على الحس، وقال: إنما نعلم أنهم في قبورهم لا يأكلون ولا يشربون، وهذا التأويل قد نفاه الله تعالى بقوله: (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي: لا تحسون ولا تدركون ذلك بالمشاعر، أي: بالحواس، تنبيهاً على أن ذلك مما السبيل إليه أمر آخر وهو أن الإنسان متى كان محسناً كان روحه منعماً إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئاً كان به معذباً، وإلى هذا ذهب جماعة الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث. ويؤيده آيات وأحاديث، منها: قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف: 172]، وقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)، لقوله بعده: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) [غافر: 46]، ومنها:

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ): ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم: هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ (بِشَيْءٍ): بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه. (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) المسترجعين عند البلاء؛ لأن الاسترجاع تسليم وإذعان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف"، وقوله: في أصحاب قليب بدر: "ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يقدرون على الجواب"، والمخالف إنما وهم في ذلك لأنه جعل الأرواح أعراضاً لا قوام لها إلا بالأجساد، وأنها مهما فارقت الأجسام بطلت، وهو قول باطل. قوله: ((وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) المسترجعين عند البلاء)، الراغب: أمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصور بها المقصد ووطن نفسه به؛ لأن الصابر على الحقيقة: من عرف فضيلة مطلوبه، ولم يرد بقوله: (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبيح وسخط للقضاء، وإنما يريد تصوير ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ليتعرض لطريق الوصول. قوله: (لأن الاسترجاع تسليم وإذعان) تنبيه على أن الصفة، وهي قوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ) الآية، كاشفة في هذا المقام، وفيه أن معنى الصبر التسليم والإذعان. وقال القاضي: وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل بالقلب، بأن يتصور ما خلق لأجله وانه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ويستسلم له.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه" وروي: أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون" فقيل: أمصيبة هي؟ قال: "نعم، كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة". وإنما قلل في قوله: (بِشَيْءٍ)؛ ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه؛ وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. وإنما وعدهم ذلك قبل كونه؛ ليوطنوا عليه نفوسهم. (وَنَقْصٍ) عطف على "شيء"، أو على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من استرجع عند المصيبة)، الحديث ما وجدته في الكتب المعتبرة، وأما معناه فهو ما روينا عن مالك ومسلم والترمذي وأبي داود، عن أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها" الحديث، وأما حديث بيت الحمد وموت الولد، فأخرجه الترمذي بتمامه، عن أبي موسى، لكن بحذف همزة الاستفهام في "أقبضتم؟ ". قوله: (ففوقه ما يقل إليه) أي: البلاء الذي أصاب الإنسان يقل بالنسبة إلى البلاء الذي هو فوقه. الراغب: الإنسان لا ينفك في الدنيا من شيء من المحن، بل في حال المسار يساق به إلى محنة، ولهذا قيل: كفى بالسلامة داء، وقال الشاعر:

(الْخَوْفِ) بمعنى: وشيء من نقص الأموال. والخطاب في (وَبَشِّرْ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. وعن الشافعي رحمه الله: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان الشباب يعود شيباً ... وهماً فالحياة هي الحمام فالعاقل بفكره يعلم أن ماله وبدنه وذويه عارية مستردة، فإذا عرض له نائبة كان له من الصبر مطية لا تكبو، ومن الرضا بقضاء الله سيف لا ينبو، والله تعالى لما أجرى العادة أن لا تنفك الدنيا من هذه الآفات المذكورة، فإنها قد تنال الأخيار كما تنال الأشرار، جعلها ابتلاء لأوليائه، لكن إذا تلقوها بالصبر حط بها وزرهم وأعظم بها أجرهم. قوله: (وعن الشافعي رضي الله عنه: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان) إلخ، الانتصاف: وفيه نظر؛ لأن الابتلاء موعود به في المستقبل وكل قد تقدم لهم من قبل، والخوف كان ملء قلوبهم، ويبعد تسمية الصدقة نقصاً مع أن الله تعالى سماها بالزيادة وهي الزكاة، وأجاب بنفسه عن هذا بأن الزكاة نقص حقيقة، وزيادة باعتبار ما تؤول إليه مجازاً، فعند الابتلاء سماها بالنقص إذ به الابتلاء، وعند الأمر بالإخراج سماها زكاة ليسهل إخراجها.

ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؛ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد". والصلاة: الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنصاف: الجواب عما ذكره أيضاً بأنا لا نسلم أن الزكاة فرضت قبل نزول هذه الآية، والابتلاء بوجوبها أتم من الابتلاء بوقوعها، ويقوى به السؤال فإن الخوف يتضاعف بنزول آيات الوعيد وبيان المخوف منه، ولذلك قال: (بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ)، وكذلك الصيام لا نسلم وجوبه قبل نزول هذه الآية، وسؤاله متوجه في المرض وفقد الولد. وقلت: لا نسلم صحة الرواية عن الإمام، وعلى تقدير الصحة: الجواب عن المرض وفقد الولد، كأنه قيل: ولنبلونكم بهما لنعلم هل أنتم على ما كنتم عليه في الجاهلية من الضجر والجزع أم أحدثتم الصبر والالتجاء إلى الله تعالى والاسترجاع إليه؟ يدل عليه تقييد الصابرين بقوله: (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). قوله: (والصلاة: الحنو والتعطف) بناءً على ما قال إن الصلاة مشتقة من تحريك الصلوين، قال: "حقيقة صلى: حرك الصلوين؛ لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل للداعي: مصل تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد". ثم الخشوع والخضوع يدل على الحنو والعطف، وهو على الرأفة والرحمة، وهو المراد بقوله: "فوضعت موضع الرأفة"، وهي كناية تلويحية، وذلك أن العطف والحنو على الله محال، فيكنى بها عن الرأفة. الراغب: والصلاة وإن كانت في الأصل: الدعاء، فهي من الله: التزكية على وجه، والمغفرة

وجمع بينها وبين الرحمة، كقوله تعالى: (رَافَةً وَرَحْمَةً) [الحديد: 27]، (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117]، والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. (وَرَحْمَةً) أي رحمة، (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا الأمر لله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على وجه، وهي الرحمة، وإن كانتا متلازمتين فهما مفترقتان في الحقيقة، وإنما قال: (صَلَوَاتٌ) على الجمع، تنبيهاً على كثرتها منه. قوله: (وجمع بينها) أي: وجمع بين الصلاة والرحمة كما جمع بين الرأفة والرحمة، لكن اختلف المعنى في هذا المقام لاختلاف الصيغتين جمعاً وإفراداً، وعطف أحدهما على الآخر، لأن القصد في عطف المفرد على المجموع إرادة التكرير في الجمع والتعظيم في المفرد بحسب تنكيره، وإلى الأول الإشارة بقوله: "رأفة بعد رأفة"؛ لأنه على منوال: لبيك وسعديك، وإلى الثاني بقوله: "رحمة أي رحمة". والنكتة في تكرير (أُوْلَئِكَ): التنبيه على إناطة كل بما يناسبه، وأن ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه الخلال المرضية، فقوله: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) مترتب على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) إلى آخر الآيتين، وقوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) على قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) إلى قوله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يدل عليه قوله: " (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله"، فمن استعان بالله بالصبر والصلاة والجهاد كفاه الله أمور دنياه ما عاش، بأن يؤويه إلى ظلال رأفته رأفة بعد رأفة، ويمنحه مناه في عقباه ليطير فوق منتهى بسطته رحمة أي رحمة. قال الجوهري: الرأفة: أشد الرحمة، وقيل: الرأفة: أن يدفع عنك المضار، والرحمة: أن يوصل إليك المسار.

[(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) 158]. الصفا والمروة: علمان للجبلين كالصمان والمقطم. والشعائر: جمع شعيرة؛ وهي العلامة، أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته. والحج: القصد، والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان. وأصل (يَطَّوَّفَ) يتطوف، فأدغم وقرئ: (أن يطوف) من: طاف. فإن قلت: كيف قيل: إنهما من شعائر الله، ثم قيل: لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت: كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى: أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما؛ ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فملا جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل فعل الجاهلية، وأن يكون عليهم جناح في ذلك؛ فرفع عنهم الجناح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالصمان والمقطم). قال المصنف: الصمان والمقطم: علمان مع الألف واللام، كالصفا والمروة، فلذلك اختارهما، والصمان: موضع إلى جنب رمل عالج، والمقطم: جبل بمصر في "الصحاح". قوله: (والشعائر: جمع شعيرة، وهي: العلامة). قال الزجاج: الشعائر: كل ما كان من موضع أو مسعى أو مذبح، وإنما قيل: شعائر لكل علم مما تعبد به من قولهم: شعرت به: علمته.

واختلف في السعي؛ فمن قائل: هو تطوع بدليل رفع الجناح، وما فيه من التخيير بين الفعل والترك، كقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) [البقرة: 230]، وغير ذلك؛ ولقوله: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً)، كقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة: 184]. ويروى ذلك عن أنس، وابن عباس، وابن الزبير، وتنصره قراءة ابن مسعود: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما). وعن أبي حنيفة رحمه الله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واختلف في السعي) إلى آخره، قال الإمام الرافعي في "الكبير": السعي ركن في الحج والعمرة، ولا يحصل التحلل دونه ولا ينجبر بالدم، وبه قال مالك، وأصح الروايتين عن أحمد؛ وعند أبي حنيفة: ينجبر بالدم. قال الإمام: ظاهر الآية لا يدل على الوجوب ولا على عدمه، فإن قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)، أي: لا إثم عليه، يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، فإذن لابد في تعيين أحدهما من الرجوع إلى الدليل. وقلت: ويؤيده ما روينا عن عروة: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؟ فوالله ما على أحد من جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، وقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها نزلت في الأنصار، وكانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:

أنه واجب وليس بركن، وعلى تاركه دم. وعند الأولين: لا شيء عليه. وعند مالك والشافعي: هو ركن لقوله عليه الصلاة والسلام: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود، وقول الإمام موافق لهذا الحديث، ويؤيد دليل الوجوب ما رواه المصنف: "اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي" الحديث مخرج في "مسند أحمد بن حنبل"، وعن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع بعد ما طاف وسعى ورمى: "لتأخذوا مناسككم، وإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"، فثبت من هذا دليل الوجوب، لكن بقي الخلاف في أنه ركن أم لا؟ والركن: ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان داخلاً فيه، ولاشك أن السعي داخل في مناسك الحج كالإحرام والطواف والوقوف وغيرها، لقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) [البقرة: 200] وقوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا مناسككم"، وإذا ثبت أنه من الواجبات الداخلة ثبت أنه ركن، فقيل: يجوز السعي بعد الإحلال وفاقاً، ولو كان ركناً لما أدي بعده، وأجيب: كونه داخلاً تحت أعمال الحج لا يوجب دخوله تحت الإحرام، قيل: قراءة ابن مسعود: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، وقول ابن عباس

"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". وقرئ: (ومن يطوع) بمعنى: ومن يتطوع، فأدغم؛ وفي قراءة عبد الله: (ومن يتطوع بخير). [(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) 159]. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من أحبار اليهود (مَا أَنزَلْنَا) في التوراة (مِنْ الْبَيِّنَاتِ): من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم، (وَالْهُدَى): والهداية بوصفه إلى اتباعه والإيمان به، (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ) ولخصناه (لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ): في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنس وابن الزبير، يدل على أنه تطوع، وأجاب الإمام: أن القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها مع المشهورة، وأن قول عائشة أولى بالقبول من قول غيرها بناءً على النص الذي هو قولها: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره، وقولهم على الاجتهاد. قوله: (وقرئ: "ومن يطوع"): حمزة والكسائي، وقراءة الباقين: (تَطَوَّعَ) على: تفعل، ماضياً. قوله: (لم ندع فيه موضع إشكال) مع ما بعده مبين للكلام السابق، يعني: أنزلنا في التوراة من العلامات الدالة على أمر محمد صلوات الله عليه ثم شرحنا فيها من العلامات الدالة على صحته، ثم هدينا الطريق فيها إلى متابعته بوصف أمره، وأنه الذي يصلي إلى القبلتين كما سبق،

فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس؛ (أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) الذين يتأتى منهم اللعن عليهم؛ وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين. [(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 160]. (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم، وتداركوا ما فرط منهم، (وَبَيَّنُوا) ما بينه الله في كتابهم فكتموه، وبينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم؛ ليمحوا سمة الكفر عنهم، ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. [(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) 161 - 162] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنهم كانوا يقولون: ما باله لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ وأنه (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ) الآيات [الأعراف: 157]، فكتموه ولبسوا على الناس، فالفاء في قوله: "فعمدوا" للترتيب على العكس، أي: بينا لهم بياناً شافياً ليظهروه فعمدوا .. إلى آخره، وكذلك الفاء في قوله: "ما بينه الله في كتابهم فكتموه". قوله: (الذين يتأتى منهم اللعن) أي: للعنهم تأثير، لعطفه على (يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ) وتعقيبه لأولئك. قال الزجاج: (اللاَّعِنُونَ) هم المؤمنون وكل من آمن بالله من الجن والإنس والملائكة. عن ابن عباس: اللاعنون: كل شيء في الأرض، وعن ابن مسعود: "الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود"، والأول أولى لقوله بعد ذلك: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً. وقرأ الحسن: (والملائكة والناس أجمعون) بالرفع عطفاً على محل اسم الله؛ لأنه فاعل في التقدير، كقولك: عجبت من ضرب زيد وعمرو؛ تريد من أن ضرب زيد وعمرو، كأنه قيل: أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة. فإن قلت: ما معنى قوله (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وفي الناس المسلم والكافر؟ قلت: أراد بالناس من يعتد بلعنه؛ وهم المؤمنون. وقيل: يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً. (خَالِدِينَ فِيهَا): في اللعنة. وقيل: في النار إلا أنها أضمرت؛ تفخيماً لشأنها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين)، قال الإمام: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) عام، فلا وجه لتخصيصه، قال أبو مسلم: يجب حمله على المقدم ذكرهم؛ لأن الكاتمين إما أن يتوبوا، فهو قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا)، أو يموتوا من غير توبة فهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فإن الكاتمين ملعونون في الحياة والممات، وأجاب الإمام: إن هذا إنما يصح إذا لم يدخل الذين يموتون تحت الآية الأولى، يعني: (أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)، ولما دخلوا فيها استغني عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف. قلت: هذا أحسن؛ لأن الآية حينئذ من باب التذييل، فيدخل هؤلاء فيها دخولاً أولياً، فالتعريف في قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) على هذا: للجنس، وعلى الأول: للعهد. قوله: (أراد بالناس: من يعتد بلعنه) يعني: التعريف فيه للعهد، والمعهود: ما يعلم من قوله: (وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ). قوله: (أضمرت؛ تفخيماً لشأنها)، يعني: لما اشتهر وتعورف أن خلود الكفار لا يكون إلا فيها ترك التصريح بذكرها تهويلاً.

وتهويلاً. (وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) من الإنظار، أي: لا يمهلون ولا يؤجلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة. [(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) 163 - 164]. (إِلَهٌ وَاحِدٌ): فرد في الإلهية لا شريك له فيها، ولا يصح أن يسمى غيره إلهاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِلَهٌ وَاحِدٌ): فرد في الإلهية)، قال الإمام: ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها، فهو بمنزلة وصفهم الرجل بأنه سيد واحد، وبأنه عالم واحد. وقلت: هذا المعنى إنما يعطيه إعادة الإله في الخبر ووصفه بالواحد، فلو لم تكن الوحدة معتبرة في الإلهية لكان يكفي أن يقال: إلهكم واحد، وإليه ينظر قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [النحل: 51]، قال صاحب "المفتاح": لفظ إله يحتمل الجنسية والوحدة، والذي له الكلام مسوق الوحدة. ففسر بالواحد بياناً لما هو الأصل في الغرض، ولهذا أكد المصنف تفسير (إِلَهٌ وَاحِدٌ) بقوله: "لا شريك له، ولا يصح أن يسمى غيره إلهاً". وقال أبو البقاء: (إِلَهٌ): خبر المبتدأ، و (وَاحِدٌ): صفة له، والغرض ها هنا الصفة، إذ لو قال: وإلهكم واحد، لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد، وهذا يشبه الحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً، والخبر: زيد شخص صالح.

و (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته. (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، المولي لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة؛ فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه. وقيل: كان للمشركين حول الكعبة ثلاث مئة وستون صنماً، فملا سمعوا بهذه الآية تعجبوا، وقالوا: إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك؛ فنزلت: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ): تقرير للوحدانية)، قال الإمام: وذلك أنه تعالى لما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أمكن أن يخطر ببال أحد: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق. وقال القاضي: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ): تقرير للوحدانية وإزاحة أن يتوهم أن في الوجود إلهاً يستحق العبادة. وقال السجاوندي: (هُوَ) بدل عن موضع (لا إِلَهَ)، أي: لا إله في الوجود غلا الله، ولا اعتماد إلا على الله، فلم يجز النصب؛ لأن مساق الكلام لإثبات الصانع، ونفي الشريك تبع، وفي النصب على الاستثناء الاعتماد على الأول. قوله: (المولي لجميع النعم أصولها وفروعها)، قال القاضي: وذكر هاتين الصفتين كالحجة على التوحيد، فإنه لما كان مولي النعم كلها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه، لم يستحق العبادة واحد غيره، وهما خبران آخران لقوله: (وَإِلَهُكُمْ)، أو لمبتدأ محذوف.

واختلاف الليل والنهار: اعتقابهما؛ لأن كل واحد منهما يعقب الآخر، كقوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) [الفرقان: 62]. (بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله: (وَبَثَّ فِيهَا) عطف على (أَنزَلَ) أو "أحيا"؟ قلت: الظاهر أنه عطف على (أَنزَلَ) داخل تحت حكم الصلة؛ لأن قوله: (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ) عطف على (أَنزَلَ) فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن كل واحد منهما): تعليل لتفسير الاختلاف بالاعتقاب، وهو أن يخلف أحدهما صاحبه بعده، لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) [الفرقان: 62]. قوله: (أو ينفع الناس)، يريد أن "ما" مصدرية، وحين جعلها موصولة قدر فيها الراجع، قال القاضي: وذكر الفلك للقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله، فهو متبوع والفلك تابع، وإنما خصص الفلك بالذكر دون البحر لأنه سبب الخوض فيه والإطلاع على عجائبه. قوله: (لأن قوله: (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) عطف على (أَنزَلَ))، تعليل لظهور هذا العطف، وذلك أن قوله: (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ) ليس مستقلاً بنفسه فيصح عطفه على صلة الموصول ليكون آية أخرى مثل أنزل الماء من السماء لأجل الفاء السببية، فهما كالسبب والمسبب فصارا جميعاً كالصلة الواحدة، بخلاف قوله: (وَبَثَّ فِيهَا)، إذ يصح جعله صلة معطوفة على الصلة لاستقلاله واشتماله على ما يبين الموصول من قوله: (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)، كقوله: (مِنْ مَاءٍ) بياناً لقوله: (مَا أَنزَلَ)، والعائد المنصوب محذوف، أي: ما بثه الله من كل دابة، فيكون آية أخرى، مثل: (أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ)، ألا ترى كيف صرح بالبيانين في قوله: "وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة"! والمطلوب تكثير الآيات، فكان هذا العطف ظاهراً.

ويجوز عطفه على "أحيا" على معنى: فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة؛ لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا. (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: هذه الأشياء وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد كما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). انتهى كلامه. وأما إذا عطف على (فَأَحْيَا)، وكان من تتمة الصلة مسبباً عما هو المعطوف عليه مسبب عنه، فيحتاج إلى تقدير حرف التسبب وإظهار السبب الذي هو الماء، وجعل (مِن) في قوله: (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) زائدة، فكأن التقدير: وبث فيها من كل دابة بسبب الماء؛ لأن تعيشها به، ولاشك أن هذا التقدير أدق معنى وأخفى من الأول؛ لأن الآية حينئذ على وزان قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً) [الفرقان: 48 - 49]. قوله: ((وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً)، الجوهري: الصبا: مهبها المستوي، أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وتسمى قبولاً، ويقابلها الدبور، والشمال: التي تهب من ناحية القطب، ويقابلها الجنوب. وقال الثعالبي: النكباء: هي التي تهب بين الريحين، والنماوحة: هي التي تهب من جهات مختلفة، والعاصف هي: الشديدة الهجوم، وهي التي تقلع الخيام، والزعزع هي: التي

وقيل: تارة بالرحمة وتارة بالعذاب. (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ) سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء. (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" أي: لم يتفكر فيها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقلع الأشجار، والإعصار هي: التي تهب من الأرض نحو السماء كالعمود، والنسيم هي: التي تجيء بنفس ضعيف وروح، والعقيم هي: التي لم تلقح شجراً ولم تحمل مطراً، واللواقح هي: التي تلقح الأشجار، والمعصرات هي: التي تأتي بالأمطار، والمبشرات هي: التي تأتي بالسحاب الممطر الذي يروي التراب، والهيف هي: الحارة التي تأتي من قبل اليمن، والصرصر: الباردة. قوله: (وقيل: تارة بالرحمة وتارة بالعذاب) عطف على قوله: "في أحوالها"، وهو وجه آخر في تفسير تصريفها. قوله: (سخر للرياح تقلبه في الجو)، قال القاضي: لا ينزل ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما، قيل: لأنه لو كان خفيفاً لطيفاً ينبغي أن يصعد، وإن كان كثيفاً يقتضي أن ينزل، واشتقاق السحاب من السحب، لأن بعضه يجر بعضاً. قوله: (فمج بها)، أي: "لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها"، والمج في الأصل: قذف اللعاب من الفم، في "النهاية": وفي الحديث: "أخذ حثوة من ماء فمجها في بئر ففاضت بالماء الرواء"، أي: صبها، فاستعير في جميع المدركات. قال الحسن: الأذن مجاجة، أي: لا تعي شيئاً، فاستعمل ها هنا في القلب، ومجه: عدم الاعتبار فميا يرد عليه من الآيات.

ولم يعتبر بها وقرئ: (والفلك) بضمتين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: هذه العلامات تدل على أنه تعالى واحد كما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)؛ لأنه لا يأتي بمثل هذه الآيات إلا هو. وقال القاضي: دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة، فلابد لها من قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته، متعالياً عن معارضة غيره، قال الله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا). وقلت: وإنما لم يورد الآثار العلوية على الترتيب، بل أخر الرياح والسحاب عن الكل وأقحم الفلك والبحر بين خلق السماوات والأرض وإنزال الماء منها، وأدرج بث الدواب بين الأمطار والسحاب، ليشير إلى استقلال كل من الآيات في القصد، واستبداده، وهذا يعضد قول من يعطف "بث" على "أنزل"، وعن صاحب "المفتاح": ترك الإيجاز إلى الإطناب لينبه على أن في ترجح وقوع أي ممكن كان على لا وقوعه لآيات للعقلاء، ولما فيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من طوائف الغواة المختلفة، أطنب الكلام ليعين لكل أناس مسارح أفكارهم. قوله: (وقرئ: "والفلك"، بضمتين)، قال القاضي: هي على الأصل أو الجمع، وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين.

(وتصريف الريح) على الإفراد. [(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ) 165 - 167]. (أَندَاداً): أمثالاً من الأصنام، وقيل: من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدل بقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا). ومعنى (يُحِبُّونَهُمْ): يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب، (كَحُبِّ اللَّهِ): كتعظيم الله والخضوع له، أي: كما يحب الله تعالى على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغني عن ذكر من يحبه؛ لأنه غير ملتبس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("وتصريف الريح"، على الإفراد) قرأها حمزة والكسائي، والباقون بالجمع. قوله: (واستدل بقوله)، أي: استدل على أن المراد بالأنداد: الرؤساء، بقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا). قوله: (استغني عن ذكر من يحبه) وهم المؤمنون، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ). وأما على قوله: "كحبهم لله" فالمعني بمن يحب الله: الكافرون، ووجه الشبه على الأول: التعظيم، وعلى الثاني: التقرب والتشبيه من باب بيان حال المشبه في الوصف من

وقيل: كحبهم الله، أي: يسوون بينه وبينهم في محبتهم؛ لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. (أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)؛ لأنهم لا يعدلون عنه على غيره بخلاف المشركين؛ فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد، فيفزعون غليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) [يونس: 18]، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة. (الَّذِينَ ظَلَمُوا): إشارة إلى متخذي الأنداد، ز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القوة والضعف والتسوية، وها هنا المراد التسوية لقوله: "يسوون بينه وبينهم" لينطبق عليه قوله تعالى: (أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ). قال القاضي: المحبة: ميل القلب، من الحب، استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها، ومحبة العباد لله تعالى: إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي. قوله: (باهلة إلهها من حيس)، الجوهري: باهلة: قبيلة من قيس عيلان، والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط، قال الراجز: التمر والسمن معاً ثم الأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط

أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله. على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة؛ لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا) [الأنعام: 27، 30]، وقولهم: لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه. وقرئ: (ولو ترى) بالتاء على خطاب الرسول [صلى الله عليه وسلم]، أو: كل مخاطب، أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم) يريد أن في وضع المظهر موضع المضمر في قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) دلالة على أن ذلك الفعل، وهو اتخاذ الأنداد، ظلم عظيم؛ لأن أصل الكلام: ولو يرون إذ يرون، ثم: ولو ترى الذين اتخذوا من دون الله أنداداً، فهو على أسلوب قوله: إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد قوله: (إذا عاينوا العذاب)، وقوله: "ولو يعلم هؤلاء" يؤذن بأن لارؤية في قوله: (وَلَوْ يَرَى) بمعنى العلم، وفي قوله: (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) بمعنى النظر، وبأن قوله: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد المفعولين، وجواب (لَوْ) محذوف ليدل على العموم والتهويل بحسب اقتضاء المقام، وإليه الإشارة بقوله: "لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف". قوله: (وقرئ: (ولو ترى) [بالتاء]، على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم): نافع وابن عامر. قوله: (على خطاب الرسول أو كل مخاطب)، فإن كان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان مثل قوله تعالى: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]، وإذا كان لكل مخاطب، كان نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين إلى المساجد"، وعلى هذا يجوز أن يكون قوله: (أَنَّ الْقُوَّةَ) معمول

وقرئ: (إذ يرون) على البناء للمفعول. و"إذ" في المستقبل، كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44]. (إِذْ تَبَرَّأَ) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أي: تبرأ المتبوعون- وهم الرؤساء- من الأتباع. وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء. (وَرَأَوْا الْعَذَابَ): الواو للحال، أي: تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب، (وَتَقَطَّعَتْ) عطف على (تَبَرَّأَ)، و (الأَسْبَابُ): الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب والمحاب والاتباع والاستتباع، كقوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام: 94]. (لَوْ) في معنى التمني؛ ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرة فنتبرأ منهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جواب لو، أي: لو ترى ذلك لرأيت أن القوة لله جميعاً، فوضع المصنف قوله: "أمراً عظيماً" مقام (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). قوله: (وقرئ: "إذ يرون" على البناء للمفعول)، وهو من الإراءة، لا من الرؤية لمجيء المفعول الثاني. قوله: (و"إذ" في المستقبل، كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44]) يعني: كما أن "نادى" وضع للماضي واستعمل في المستقبل، كذا (إِذْ) في قوله: (إِذْ يَرَوْنَ)، وإنما جاء على لفظ "إذ" الذي هو للماضي دون "إذا" لأن وقوع الساعة قريب، وقريب الوقوع يجري مجرى ما وقع، وعلى هذا قال: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44]. قوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)) هذا على قراءة الرفع، والبين من الأضداد، ومن قرأ (بَيْنَكُمْ) بالنصب جعله ظرفاً، أي: فيما بينكم، ومن قرأ بالرفع كان بمعنى: الوصل والسبب.

(كَذَلِكَ): مثل ذلك الإرآء الفظيع. (يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ) أي: ندامات، و (حَسَرَاتٍ) ثالث مفاعيل "أري"، ومعناه: أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم؛ فلا يرون غلا حسرات مكان أعمالهم. (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ) "هم" بمنزلته في قوله: هم يفرشون اللبد كل طمرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: الباء في (بِهِمُ) للسببية، أي: تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون بها النجاة، وقيل: للحال، أي: تقطعت موصولة بهم الأسباب، وقيل: هي بمعنى "عن"، وقيل: للتعدية، أي: قطعتهم الأسباب كما تقول: فرقت بهم الطريق. قوله: (مثل ذلك الإرآء)، قال المصنف: ذكر سيبويه أن العرب تحذف التاء من الإراءة، ولذلك وقعت الإشارة بكذلك إلى مذكر، وعليه قوله تعالى: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور: 37]. قوله: (هم يفرشون اللبد كل طمرة) تمامه: وأجرد سباق يبذ المغاليا يفرشون اللبد: بضم الياء رواية المرزوقي، أي: يجعلون اللبد فراشاً لظهر كل طمرة، أي: رمكة وثابة، وكل فحل كريم سباح في عدوه غلاب لمباريه سباق في الرهان يحوز قصب التقدم. "يبذ المغاليا"، إن ضممت الميم جاز أن يراد به السهم نفسه، أو فرس يغاليه، وجاز أن يراد به الرافع يده بالسهم يريد به أقصى الغاية، يقال: بيني وبينه غلوة سهم، كما يقال: قيد رمح وقاب قوس، وإن فتحت الميم يكون جمعاً للمغلاة، وهي السهم يتخذ

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للمغالاة، والمعنى: يسبق السهم في غلوته، والمراد أن سعيهم مقصور على تعهد الخيل وخدمتها، والتفرس على ظهورها. ورواية "الكتاب": يفرشون بفتح الياء، أي: يفرش اللبد على كل طمرة، فحذف الجار، يقال: فرشت ساحتي الآجر وبالآجر. قوله: (على قوة أمرهم فيما أسند إليهم) يعني دلالة التركيب على تقوي الحكم، بمعنى: أنهم لا يخرجون البتة، لا أن غيرهم يخرجون منها، وكذا معنى البيت: أنهم يفرشون اللبد على التحقيق، لا أن غيرهم لا يفرشون. وقال القاضي: أصله: وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا، وقال صاحب "التقريب": "هم" ليست للفصل، فلا يدل على الاختصاص، بل على قوة أمرهم فيما أسند، فهو قفى أثر المصنف، والجواب: أن قوله: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ) ليس نظير البيت لتسليط حرف النفي على الفاعل المعنوي، مع أن البيت لا يصح للاستشهاد لاحتماله التخصيص أيضاً بالادعاء، وغليه أومأ المرزوقي في قوله: "سعيهم مقصور على تعهد الخيل"، بل هو نظير قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود: 91]، وقد قال فيه ما قال. واتفق علماء هذا الفن: أن مثل هذا التركيب مقطوع به في إفادة الاختصاص، وقد سبق فيه كلام مشبع عند قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على ما ذكر صاحب "الانتصاف" فيه، قال: دلالتها على الاختصاص هو الحق، فإن العصاة من المسلمين يخرجون من النار، وقد احتج الزمخشري في قوله: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) [الأنبياء: 21]، (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة: 4]. لكن هذا الاختصاص لا يوافق مذهبه، فأعمل الحيلة في صرف الكلام عنه فجعلها مقيدة للأحقية، فإن العصاة وإن خلدوا عنده فالكفار أحق منهم بالخلود، فسبحان من بلاه بالمحنة مع حذقه وفطنته! . الإنصاف: الآية فيمن اتخذ أنداداً من الكفار، والكفر أعم من ذلك، وجميع أهله ليسوا بخارجين من النار فلا اختصاص لهؤلاء بالخلود دون غيرهم من الكفار، والذي قاله الزمخشري صحيح. وقلت: مما ذكرت مع إيلاء النفي ضمير الفاعل لابد من القول بالاختصاص، والآية عامة في جميع من يخالف المؤمنين من أهل الملل المختلفة، ويتخذ من دون الله أنداداً، أي: رؤساء يتبعونهم ويطيعونهم كما نص عليه المصنف، ثم قال: واستدل بقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، ويؤيده أيضاً قوله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإبدال (إِذْ تَبَرَّأَ) من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ)؛ لأن الكلام في التابع والمتبوع سواء كان مشركاً أو غيره، وإلى معنى الآية ينظر ما روينا عن البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي سعيد في حديث طويل: "إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر غير أهل الكتاب، ثم يدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم! ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد"، إلى قوله: "فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد

لا على الاختصاص. [(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّمَا يَامُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) 168 - 169]. (حَلالاً) مفعول (كُلُوا)، أو حال (مِمَّا فِي الأَرْضِ). (طَيِّباً): طاهراً من كل شبهة، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. و"من" للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم! ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد" الحديث، وعلى تقدير أن تكون مخصوصة بعبدة الأصنام فهي مقابلة للمؤمنين، بدليل قوله تعالى: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) أي: يعظمون الأصنام كما يعظم المؤمنون الله تعالى، والمؤمنون أشد تعظيماً له، فيكون الكلام للمؤمنين وفي هؤلاء القوم فلا يدخل في الحصر غيرهم، وسنبين هذا المعنى بعيد هذا في قوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ). والتركيب من باب القصر القلبي، فإذا انتفى الحكم من أحد المتقابلين يثبت للآخر، فإذا قيل في حق غير المؤمنين: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ) علم أن المؤمنين خارجون منها. قوله: (لا على الاختصاص)، إشارة إلى مذهبه، وذلك أن صاحب الكبيرة عندهم مخلد في النار إذا لم يتب، فلو حمل الآية على الاختصاص لزم منه خروجه عنها. قوله: (طَيِّباً): طاهراً من كل شبهة)، قال القاضي: طيباً: ما يستطيبه الشرع أو الشهوة المستقيمة، إذ الحلال دل على الأول، يعني: ينبغي أن يفسر (طيباً) بما تستطيبه الشهوة المستقيمة، إذ الحلال في قوله: (حلالاً) دل على ما يستطيبه الشرع.

وقرئ: (خُطُوات) بضمتين، و (خُطْوات) بضمة وسكون، و (خُطؤات) بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو و (خَطَوَات) بفتحتين، و (خَطْوات) بفتحة وسكون. والخَطوة: المرة من الخطو. والخُطوة: ما بين قدمي الخاطي. وهما كالغَرفة والغُرفة، والقَبضة والقُبضة. يقال: اتبع خَطَواته، ووطئ على عقبه. إذا اقتدى به واستن بسنته (مُبِينٌ): ظاهر العداوة لا خفاء به. (إِنَّما يَامُرُكُمْ) بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته. أي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("خطوات" بضمتين): قنبل عن ابن كثير، وحفص وابن عامر والكسائي، والباقون بضمة وسكون الطاء. قوله: (كأنها على الواو) والأصل أن الضمة إذا كانت على الواو يجوز قلبها همزة، وها هنا وإن لم تكن الضمة عليها إلا أنها على جارها، فجعلت كأنها على الواو. قال الزجاج: هذا جائز في العربية. قوله: (كالغرفة والغرفة)، الجوهري: الغرفة: المرة الواحدة، والغرفة، بالضم: اسم المفعول منه؛ لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة، والجمع غراف.

لا يأمركم بخير قط، (إنما يأمركم بِالسُّوءِ): بالقبيح، (وَالْفَحْشاءِ): وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وقيل: السوء: ما لا حدّ فيه، والفحشاء: ما يجب فيه الحدّ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللَّه تعالى مما لا يجوز عليه. فإن قلت: كيف كان الشيطان آمراً مع قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر: 42]؟ قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين؛ لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء: 119]، وقال اللَّه تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت. [(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)]. (لَهُمُ) الضمير للناس، وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم؛ لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون. قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف كان الشيطان آمراً) أي: الآمر مستعل على المأمور ومتسلط فوقه، فكيف يستقيم هذا مع قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر: 42]. وخلاصة الجواب: أن الكلام فيه استعارة، وفي الاستعارة كناية رمزية؛ نعى على سوء صنيعهم وتسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، وذلك بأخذ الزبدة والخلاصة من الجملة. قوله: (قيل: هم المشركون، وقيل: هم طائفة من اليهود) يعني: التعريف في الناس للعهد، والمعهود: إما ما يفهم من قوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً) إذا أريد بالأنداد:

و (ألفينا) بمعنى: وجدنا، بدليل قوله: (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). (أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ)، الواو للحال، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم (لا يعقلون) شيئاً من الدين (ولا يهتدون) للصواب؟ ! .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأصنام، أو من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ) [البقرة: 159]، ويجوز أن يكون التعريف للجنس والخطاب عاماً في الكفرة، وعليه النظم، وبيانه إنما يتبين بتمهيد مقدمة، وذلك أن قولهم: شكر المنعم واجب، معناه: أنه تعالى خلق المكلفين ورزقهم ما به يعيشون ويتمتعون ويرتفقون، وأوجب عليهم الطاعة شكراً لتلك النعم، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآيات [البقرة: 21]، وأرسل إليهم الرسل لينبههم على مكان تلك النعمة، ويعلمهم كيفية شكرها من الطاعة والعبادة، ثم إن الشياطين اجتالتهم حتى كفروا نعمة الله، وتقدموا على تكذيب من دعاهم إلى الشكر ولبسوا ذلك الحق المبين، فإذا قال لهم الأنبياء: اتبعوا من يرشدكم إلى الهدى، ولا تتبعوا من يضلكم عن السبيل، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فلذلك نودي على ضلالهم بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة قائلاً للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون! هذا هو التحقيق، لأن السورة في بيان إثبات التوحيد والنبوات، ووضع الأحكام والتنبيه على خطأ الناس في الضلالات، وإرشادهم إلى الحق، فإنه تعالى كما ذكر نبذاً من أحوال الأمم وقصصهم، كر إلى ذلك المعنى. قوله: (والهمزة بمعنى الرد والتعجب)، أي: دخلت همزة التعجب على الجملة الحالية

[(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)]. لا بدّ من مضاف محذوف تقديره. ومثل داعى الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)، أو: ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للرد عليهم، قال القاضي: جواب "لو" محذوف، أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين إذ علم بدليل، ولا يهتدون إلى الحق، لاتبعوهم، وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق، كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهو في الحقيقة ليس بتقليد، بل اتباع ما أنزل الله. وكلام المصنف ينبئ عن أن جواب "لو" غير منوي، وكلام القاضي بخلافه، وسيجيء في الممتحنة تقريره. قوله: (لابد من مضاف محذوف) إما عند المشبه وإما عند المشبه به؛ لأن تشبيه الكفار بالداعي إذا قدر أنه تشبيه مفرق لا يستقيم بدون التقدير. قوله: (والمعنى: ومثل داعيهم)، قيل: أشار به إلى التقديرين المذكورين، وقيل: فيه لف، فقوله: "ومثل داعيهم" إلى آخره مبني على الوجه الأول، وقوله: "وقيل: معناه: ومثلهم في اتباعهم" مبني على الوجه الثاني. وقلت: التحقيق فيه أن المذكورات وجوه مختلفة المقاصد: أولها: قوله: (ومثل داعي الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) مبني على أن التشبيه من التشبيهات المفرقة، فالداعي بمنزلة الراعي، والكفرة بمنزلة الغنم المنعوق بها، ودعاؤه الكفرة بمنزلة دعاء الناعق البهائم. وثانيها: قوله: (ومثل الذين كفروا كبهائم الذين ينعق) أي: بهائم الشخص الذي ينعق

في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار، كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها، وزجر لها، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعى كما يفهم العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلخ الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف. وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت، ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم لا يفقهون أهم على حق أم باطل. وقيل معناه: ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بما لا يسمع، والمراد بما لا يسمع: البهائم، وضع موضع المضمر، أي: كمثل بهائم الذي ينعق بها، المعنى: ومثل الذين كفروا مع داعيهم في أنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى ما يدعوهم إليه كمثل البهائم مع داعيها ينعق بها وهي لا تعقل سوى أن تسمع الصوت، ومآل المعنيين يعود على ما ذكره من قوله: "ومثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلى جرس النغمة" إلى آخره، فصح قول من قال: إن قوله: "المعنى ... " إشارة على التقديرين. وثالثها: قوله: (ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم)، هذا مثل الأول، لكن الاختلاف بين البهائم والرجل الأصم. ورابعها: قوله: (ومثلهم في اتباعهم آباءهم) مبني على أن التشبيه مركب تمثيلي، وهو أن يكون الوجه منتزعاً من عدة أمور متوهمة، فلا يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف، ولهذا قال: "ومثلهم في اتباعهم آباءهم" وكَيْتَ وكَيْت، وهذا الوجه أوجه وأشد ملاءمة بالآية السابقة، وهي قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا) إلى قوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). وخامسها: قوله: (ومثلهم في دعائهم الأصنام)، قال القاضي: لا يساعده قوله: (إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً)؛ لأن الأصنام لا تسمع، إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب.

إلا أنّ قوله: (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) لا يساعد عليه، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئاً .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مراده أن هذا الوجه فيه احتمالات: أن يكون تشبيهاً مفرقاً والآخر تمثيلاً، والاحتمال الأول مردود لفقدان التقابل بين المشبه والمشبه به، والثاني مقبول؛ لأنه غير مشروط بذلك. وقلت: إذا أريد المركب التمثيلي لابد من ذلك؛ لأن المراد أن داعي الأصنام لا يرجع من دعائها إلى شيء ما، وأنها أدون حالاً من البهائم لأنها تسمع دعاء ونداء وهي لا تسمع شيئاً قط، كقوله تعالى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ) [فاطر: 14]، فإذا لم يوجد في الممثل ما للممثل به تفوت هذه الدقيقة؛ لأن الواجب في التمثيلي أن يقدر للممثل ما للمثل به من الحالة المتوهمة المنتزعة من أمور، ولو احتمل منها شيء احتمل التمثيل، اللهم غلا أن يجعل التشبيه مركباً عقلياً كما اعتبر المصنف في قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية [البقرة: 265]، حيث قال: "ومثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله"، المعنى على كونه مركباً عقلياً: ومثلهم في دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه كمثل الناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وهذا أحسن الوجوه المذكورة في "الكتاب"، وأوفق لتأليف النظم، وذلك أن العاطف في قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يستدعي معطوفاً عليه، ولا يحسن أن يعطف على جملة قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا) الآية، حسنة إذا عطف على قوله: (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) على سبيل البيان، فيكون المراد بالذين كفروا آباءهم، وضعاً للمظهر موضع المضمر للإشعار

والنعيق: التصويت، يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن. قال الأخطل: فَانْعِقْ بِضَانِكَ يَا جَرِيرُ فَإنّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلَاءِ ضَلَالا وأما (نغق الغراب)؛ فبالغين المعجمة. (صُمٌّ): هم صم، وهو رفع على الذمّ. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)]. (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ): من مستلذاته؛ لأنّ كل ما رزقه اللَّه لا يكون إلا حلالا. (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذي رزقكموها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم، وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "يقول اللَّه تعالى: إنى والجنّ والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيرى، وأرزق ويُشكر غيري". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعلية عدم الاهتداء وسلب العقول نعياً على المخاطبين وتسجيلاً على ضلالهم، وفي عطف الجملة الاسمية على الفعلية الإيذان بأن المراد بالمضارع في قوله: (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الاستمرار. قوله: (فانعق بضأنك) البيت؛ منتك: من تمنيت الشيء ومنيت غيري، يقول: إنك من رعاء الشاء لا من الأشراف، وما منتك نفسك في الخلاء أنك من العظماء فضلال باطل. قوله: (لأن كل ما رزقه الله) تعليل لتفسير الطيبات بالمستلذات، يعني: أن المراد بالطيبات: المستلذات؛ لأن قوله: (مَا رَزَقْنَاكُمْ) محمول على الحلال؛ لأن الرزق عندهم لا يكون إلا حلالاً، وعند أهل السنة، وإن جاز حمل الطيبات على الحلال والحرام؛ لأن قوله: (مَا رَزَقْنَاكُمْ) مطلق يتناول الحلال والحرام، لكن مقام الامتنان على قوم مخصوصين والأمر بالتناول يأبى الحمل إلا على ما تستطيبه النفس كما سيجيء.

[(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. قرئ: (حَرّم) على البناء للفاعل، و (حُرِّم) على البناء للمفعول، و (حَرُم) بوزن كرم ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (حَرَّمَ)، على البناء للفاعل) وهي المشهورة، وعلى بناء المفعول شاذ، قال الزجاج: ويجوز: (إنما حرم عليكم الميتة) على أن: الذي حرم عليكم الميتة. والمختار أن "ما": كافة لاتباع سنة الكتابة، المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة؛ لأن "إنما" تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها ونفياً لما سواه. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (ما) بمعنى: الذي، والميتة: خبر إن، ويجوز أن تكون: كافة، والميتة: أقيم مقام الفاعل. قال القاضي: [فإن قيل]: "إنما" تفيد قصر الحكم على ما ذكر، وكم من حرام لم يذكر، وأجاب: المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه، لا مطلقاً، أو قصر حرمته على حال الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها. وقلت: الوجه الأول هو الوجه، والثاني ضعيف؛ لأن الحصر في باب "إنما" إنما يأتي في القيد الأخير، قال صاحب "المفتاح": نزل القيد الأخير من الكلام الواقع بعد "إنما" منزلة مستثنى ولا تصنع شيئاً غير ما أذكره. والقيد الأخير هنا المفعول به، والمعنى: ما حرم عليكم شيئاً من المأكولات إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، فالكلام في المأكولات لا في الحال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: إن عطف (فَمَنْ اضْطُرَّ) يفيد تقييد ما تقدمه بالحال، فصح قوله: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها. وإنما تقرير هذا الوجه القصر، فاعلم أن القصر لابد فيه من سبق خطأ من المخاطب مشوب بصواب، وأنت تريد تحقيق صوابه ونفي خطئه، فقوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهو قصر الحكم على المذكورات، فيفيد أن المحرم ليس إلا المذكورات، وليس كذلك، وهو المراد بقوله: "وكم من حرام لم يذكر"، وإنما يمكن التفصي منه إذا عينا اقتضاء المقام، فإن القائل إذا قال: زيد شاعر ومنجم، فإذا قلت في جوابه: ما زيد إلا شاعر، أفاد القصر، وليس المراد أن ليس لزيد صفة سوى الشاعرية، بل القصر على أحد الوصفين المتنازع فيهما، كذلك في هذا المقام، أنه تعالى لما عم الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة: 168] وخصه بالمؤمنين في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم عقبهما بقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ) الآية، وجب أن يقدر لكل من المخاطبين ما يناسبه ليصح الرد، وذلك بأن يرد على المشركين تحريمهم ما أحله الله وهو السائبة والحام والوصيلة وأمثالها، وتحليلهم ما حرمه الله من هذه المذكورات، كأنهم قالوا: تلك حرمت علينا وهذه أحلت، فقيل لهم: ما حرمت إلا هذه، وإليه ينظر قول القاضي: قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه، لا مطلقاً، وأن يرد على المؤمنين تحريمهم على أنفسهم لذيذ الأطعمة ورفيع الملابس، وهذه الأشياء المذكورة، فقيل لهم: ما حرمت عليكم إلا هذه، ويؤيده ما روينا عن

(أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) أي: رفع به الصوت للصنم؛ وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى (غَيْرَ باغٍ) على مضطرّ آخر بالاستئثار عليه، (وَلا عادٍ) سدّ الجوعة. فإن قلت: في الميتات ما يحل؛ وهو السمك والجراد، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان». قلت: قُصِد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة؛ ألا ترى أنّ القائل إذا قال: أكل فلان ميتة لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دماً، لم يسبق الوهم إلى الكبد والطحال، ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البخاري ومسلم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، قاله حين سمع أن نفراً من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، ذكر في "مشارق الأنوار"، وأمثال هذا الحديث واردة كثيراً، وفيه نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [المائدة: 87]، فالتركيب بالنسبة إلى المشركين: قصر قلب، وإلى المؤمنين: قصر إفراد، والفاء في قوله: (فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) تفصيلية؛ لأنها تدل على تقدير محذوف يبين الحكم السابق. المعنى: ما حرم عليكم إلا هذه، فمن استحلها وتناولها فقد ارتكب إثماً عظيماً، ومن اضطر إليها وتناول شيئاً منها من غير بغي وعدوان فإن الله يغفر له ويرحمه ويحط عنه ذلك الإثم؛ لأن الله غفور رحيم، وظهر ضعف الوجه الثاني للقاضي، والله أعلم. قوله: (أي: رفع به الصوت للصنم). قال القاضي: الإهلال أصله: رؤية الهلال، يقال: أهل الهلال وأهللته، لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمي ذلك إهلالاً، ثم قيل لرفع الصوت: إهلال وإن كان لغيره.

من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكا لم يحنث، وإن أكل لحماً في الحقيقة. قال اللَّه تعالى: (لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل: 14]، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث، وإن سماه اللَّه تعالى دابة في قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال: 55]. فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم، لكونه تابعا له وصفةً فيه؛ بدليل قولهم: لحم سمين، يريدون أنه شحيم. [(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)]. (فِي بُطُونِهِمْ): ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه (إِلَّا النَّارَ)، لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار، ومنه قولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال: أَكَلْتُ دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فِي بُطُونِهِمْ): ملء بطونهم). قال أبو البقاء: والجيد أن يكون (فِي بُطُونِهِمْ): ظرفاً لـ (يَاكُلُونَ)، فعلى هذا هو مبالغة في الأكل، كأنهم كانوا متمكنين على البطون عند الأكل فملؤوها. قوله: (أكلت دماً إن لم أرعك بضرة). تمامه: بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

وقال: يأكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا أراد ثمن الإكاف، فسماه إكافاً؛ لتلبسه بكونه ثمناً له. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) تعريضٌ بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة اللَّه إياهم بكلامه، وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم، كمن غضب على صاحبه ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: كنت آكلاً دماً إن لم أتزوج عليك، أي: بدل الدم، وهي الدية، فإنهم يستنكفون من أخذ الدية، وقيل: أراد العلهز، وهو الدم والصوف يؤكل في الجدب، أي: وقعت في الجدوبة، أرعك: أفزعك، وإنما سميت الامرأتان للرجل ضرتين لأن كل واحدة منهما تريد ضر صاحبتها، "بعيدة مهوى القرط": كناية عن طول العنق. قوله: (يأكلن كل ليلة إكافا)، أوله: إن لنا أحمرة عجافا الإكاف: البرذعة، أي: نعلفها كل ليلة ثمن الإكاف. قوله: (تعريض بحرمانهم)، يعني: لا يكلمهم ولا يزكيهم: تعريض بأنهم لا يكرمون ولا يزكون بالثناء عليهم؛ لأن أهل الجنة مكرمون بتكليم الله إياهم ومزكون بثناء الله عليهم، إنما خصا بالذكر إظهاراً لغيظهم وإبداء لتحسرهم؛ لأن الإحسان إلى العدو سبب لاغتمام العدو، وفيه أنهم فوتوا على أنفسهم بسبب الكفر هاتين الكرامتين. قوله: (نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم) مشعر بأنه من باب الكناية، وكذلك قوله: "تعريض بحرمانهم"؛ لأن التعريض نوع من أنواع الكناية، وأبى في "آل عمران" عند قوله: (وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 77] أن يكون (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)

فصرمه وقطع كلامه وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون: 108]. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن! تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل: (فما أصبرهم): فأي: شيء صبرهم! يقال: أصبره على كذا وصبره بمعنى وهذا أصل معنى فعل التعجب. والذي روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضى اليمن بمكة: اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كناية عن عدم الالتفات بل مجازاً عنه، حيث قال: "أصله فيمن يجوز عليه النظر كناية، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان"، كأنه فرق بين إثبات النظر إلى الله تعالى ونفيه عنه وبين إثبات الكلام ونفيه. وفيه بحث. قوله: (فأي شيء صبرهم)، إلى قوله: "وهذا أصل معنى فعل التعجب"، فرق بين الأصل والفرع، وهو كذلك؛ لأن الأصل الاستفهام فيه يحتمل الإنكار والتوبيخ والتعجب وغير ذلك، والفرع منصوص في إنشاء التعجب. الراغب: قال أبو عبيدة: إن ذلك لغة بمعنى الجرأة، واحتج بقول الأعرابي لخصمه: ما أصبرك على الله، وهذا تصور مجاز بصورة حقيقة؛ لأن ذلك معناه: ما أصبرك على عذاب الله في تقديرك إذا اجترأت على ارتكاب ذلك، وإلى هذا يعود قول من قال: ما أبقاهم على النار! وقول من قال: ما أعملهم بعمل أهل النار! وذلك أنه قد يوصف بالصبر من لا صبر له في الحقيقة اعتباراً بالناظر إليه، واستعمال التعجب في مثله اعتبار بالخلق لا بالخالق.

على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على اللَّه! فمعناه: ما أصبرك على عذاب اللَّه! (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ) أي: ذلك العذاب بسبب أنّ اللَّه نزل ما نزل من الكتب بالحق (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) في كتب اللَّه فقالوا في بعضها: حق، وفي بعضها: باطل، وهم أهل الكتاب. (لَفِي شِقاقٍ): لفي خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق. والكتاب للجنس، أو كفرهم ذلك، بسبب أنّ اللَّه نزّل القرآن بالحق كما يعلمون. (وإن الذين اختلفوا) فيه من المشركين، فقال بعضهم: سِحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: أساطير (لفي شقاق بعيد)، يعني: أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو كفرهم ذلك) هو معطوف على قوله: "ذلك العذاب بسبب أن الله نزل"؛ لأن المشار إليه السابق، إما ما دل عليه قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أو قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) فعلى الأول: الكلام مع اليهود خاصة، والتعريف في الكتاب للجنس، وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) الآية كالتأكيد والتذييل للجملة السابقة، يدل عليه وضع قوله: (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) موضع الضمير. المعنى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إنما يثبت لهم العذاب؛ لأنه تعالى نزل جنس الكتاب بالحق وهم اختلفوا فيها وكتموا الحق وقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل؛ ثم نعى عليهم هذا المعنى على سبيل التذييل بقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، ففي الكلام حذف، والمحذوف ما قدرناه لدلالة التذييل عليه، وقدر القاضي اللام للعهد فقال: ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب والكتمان. وعلى الثاني: الكلام مع اليهود والمشركين، والتعريف للعهد، والمراد بالكتاب: القرآن، وبالذين "اختلفوا": المشركون، وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) الآية: حال من الكتاب، وقد أقيم مقام الراجع المظهر. المعنى: إنما كفر اليهود لأن الله تعالى نزل القرآن بالحق،

[(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)]. الْبِرَّ: اسم للخير ولكل فعل مرضيّ. (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الخطاب لأهل الكتاب؛ لأن اليهود تصلى قِبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قِبل المشرق؛ وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حُوّل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته، فردّ عليهم. وقيل: ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ، ولكن البرّ ما نبينه. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحال: أن المشركين كانوا فيه على شقاق قوي واختلاف شديد ولم تتفق كلمتهم مع كلمة المسلمين حتى جسرت اليهود على أن طعنوا فيه وكفروا به بعد ما عرفوا أنه الحق فاشتروا الضلالة بالهدى، ولا امتناع في أن تصدر الجملة الحالية بأن كما ورد في قوله: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ) [الفرقان: 20]، قال أبو البقاء: كسرت (إن) لأجل اللام، وقيل: لو لم تكن اللام كسرت أيضاً؛ لأن الجملة حالية، إذ المعنى: إلا وهم يأكلون، واستشهد دار الحديثي بهذه الآية في "شرحه" لهذا المعنى. قوله: (لأن اليهود تصلي قبل المغرب؛ إلى بيت المقدس)، أراد بحسب أفق مكة. وذلك جار مجرى سبب النزول والتعليل في كون الخطاب مع أهل الكتاب. قوله: (وقيل: كثر خوض المسلمين) معطوف على قوله: "الخطاب لأهل الكتاب" فعلى

فقيل: ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به، وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال. وقرئ: (وليس البرّ) بالنصب على أنه خبر مقدم. وقرأ عبد اللَّه: (بأن تولوا) على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك: ليس المنطلق بزيد. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) على تأويل حذف المضاف، أي: برّ من آمن، أو يتأول البرّ بمعنى ذى البرّ، أو كما قالت: فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ وعن المبرّد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكنّ البرّ، بفتح الباء. وقرئ: (ولكن البارّ). وقرأ ابن عامر ونافع: ولكنّ (البر) بالتخفيف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا: الخطاب عام في أهل الكتاب والمسلمين، فينبغي أن يكون ما خاض فيه المليون جميعاً أمراً عظيماً، وذلك أن اجتماعهم وكثرة خوضهم في شيء يوهم أن ذلك الشيء أمر عظيم، ولهذا قال: "ليس البر العظيم". وأما اختصاص المشرق والمغرب فللتعميم لا تعيين السمتين كما في الوجه الأول. قوله: (أو كما قالت) أي الخنساء، ترثي أخاها صخراً، أول البيت: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت جعلت الناقة كأنها تجسدت من الإقبال والإدبار، يعني: هذه الناقة ترتع زماناً، فلما ذكرت صاحبها تترك الرتع وتقبل وتدبر بالغة حدها. قوله: (لو كنت ممن يقرأ) أي: لو أجيز لي بأن أقرأ بعدما ورد المنع بإجماع الصحابة أن يقرأ كل أحد من غير سماع لقراءته. الانتصاف: هذا القول من المبرد خطأ، فإن القراءة لا توكل إلى الاختيار والاجتهاد، بل معتمدها النقل، والمتواترة أفصح؛ لأن أول الكلام (لَيْسَ الْبِرَّ)

(وَالْكِتابِ) جنس كتب اللَّه، أو القرآن (عَلى حُبِّه) مع حب المال والشح به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا. وقيل: على حب اللَّه. وقيل: على حب الإيتاء؛ يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه. وقدم ذوى القربى؛ لأنهم أحق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو مصدر قولاً واحداً، فلو استدرك البر انقلبت المطابقة، ولذلك حذف المضاف وتقديره: "بر من آمن" أصح وأشد مناسبة للسياق. قوله: ((وَالْكِتَابِ) جنس كتب الله أو القرآن)، فقد أومى بهذا إلى بيان النظم، وان هذا الكتاب هو: ذلك الكتاب المذكور في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، فإن أريد به الجنس كان هذا مثله، وإن أريد العهد فكذلك؛ لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، وبيان النظم أنه تعالى لما ذكر اختلاف أهل الكتاب في جنس كتب الله أو القرآن، ذكر اختلافاً آخر لهم في شأن القبلة مستطرداً، وجعله تخلصاً وذريعة إلى ذكر أقسام البر وأصنافه، وأراد أنهم عن سائر الخيرات معزولون، ولا يختص اختلافهم في الكتاب وحده أو القبلة وحدها. قوله: (كما قال ابن مسعود)، والحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان". قوله: (وقيل: على حب الإيتاء) اعلم أن الضمير إذا كان للمال أو الإيتاء كان من باب التتميم والمبالغة، وإذا كان لله تعالى كان من التكميل لانضمام الإخلاص مع الكرم.

"صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان؛ لأنها صدقة وصلة" وقال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح)). وأطلق (ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) والمراد الفقراء منهم؛ لعدم الإلباس. و"المسكين": الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر. (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل؛ لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صدقتك على المسكين صدقة) الحديث من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي، عن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة". قوله: (ذي الرحم الكاشح)، الأساس: هو طاوي الكشحين، ومنه عدو كاشح، وكشح له بالعداوة، أي: أضمرها في كشحه. قوله: (و"المسكين": الدائم السكون إلى الناس)؛ لأنه لا شيء له، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لقوله تعالى: (أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 16]، ومذهب الشافعي رحمه الله: هو الذي يملك ما يقع موقعاً ن كفايته ولا يكفيه، لقوله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) [الكهف: 79].

لأنّ السبيل ترعف به. (وَالسَّائِلِينَ) المستطعمين. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه". (وَفِي الرِّقابِ) وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل: في فك الأسارى. فإن قلت: قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقا سوى الزكاة؟ قلت: يحتمل ذلك. وعن الشعبي: أنّ في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية. ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة، أو يكون حثاً على نوافل الصدقات والمبارّ. وفي الحديث: «نسخت الزكاة كلَّ صدقة» يعني وجوبها. وروي ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن السبيل ترعف به). الأساس: ومن المجاز: رعف فلان بين يدي القوم، واسترعف: تقدم، ورعف به صاحبه: قدمه. قوله: (للسائل حق ولو جاء على ظهر فرسه)، أخرجه أبو داود ولم يذكر فيه الظهر، والراوي علي رضي الله عنه. قوله: (ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة)، فإنه تعالى لما ذكر إقامة الصلاة ذكر شقيقتها مجملاً بعدما ذكرها مفصلاً، وذلك أن مفهوم (وَآتَى الزَّكَاةَ) ومفهوم (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) إلى آخره، متقاربان إجمالاً وتفصيلاً، وإنما قدم بيان المصرف على ذكر الزكاة، لأنه هو المهتم بشأنه، ألا ترى على قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)؟ [البقرة: 215] وسيجيء بيانه، وإنما أوقع الصلاة واسطة للعقد بين المفصل والمجمل ليؤذن بأن التعظيم لأمر الله إنما يحسن كل الحسن إذا كان مكتنفاً بالشفقة على خلق الله.

«ليس في المال حق سوى الزكاة». (وَالْمُوفُونَ) عطف على (من آمن). وأخرج (الصَّابِرِينَ) منصوباً على الاختصاص والمدح؛ إظهاراً الفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ: (والصابرون)، وقرئ: (والموفين والصابرين). و (الْبَاساءِ): الفقر والشدّة، (وَالضَّرَّاءِ): المرض والزمانة. (صَدَقُوا): كانوا صادقين جادّين في الدين. [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)]. عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وعطاءٍ، وعكرمة، وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهم: أنّ الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الاختصاص والمدح إظهاراً لفضل الصبر). نقل الإمام عن أبي علي الفارسي: إذا ذكرت صفات في معرض المدح أو الذم، فالأحسن أن يخالف بإعرابها؛ لأن المقام يقتضي الإظناب، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل؛ لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعاً واحداً. قوله: (وهو مذهب مالك والشافعي: أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى)، وفيه نظر، إذ مذهبه أن الذكر يقتل بالأنثى؛ قال الإمام: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ)

أخذاً بهذه الآية. ويقولون: هي مفسرة لما أبهم في قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة: 45]؛ ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخرج مخرج التفسير لقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ) فدل على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة، وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية، وقال: إن الآية دلت على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر بالقياس والإجماع، أما القياس فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر أولى، وكذلك القول في قتل الأنثى، وأما الإجماع فهو أن يقتل الذكر بالأنثى، وقال القاضي: والآية لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم إنما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وقد بين الغرض من بيان الواقعة في الجاهلية، وإنما منع مالك والشافعي قتل الحر بالعبد، سواء كان عبده أو عبد غيره لما روى علي رضي الله عنه: أن رجلاً قتل عبده، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به، ولأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير، وللقياس على الأطراف. الانتصاف: وهم على الإمامين في مسألة قتل الذكر بالأنثى. قوله: (ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة): عطف على قوله: "ويقولون"؛ لأنه

وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها. وعن سعيد ابن المسيب، والشعبي والنخعي، وقتادة، والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة: 45]، والقصاص ثابت بين العبد والحرّ، والذكر والأنثى. ويستدلون بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، وبأنّ التفاضل غير معتبر في الأنفس، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به. وروي: «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا: لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، فتحاكموا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استدلال على أن الآية ليست بمنسوخة، فهو عطف معنوي، قال القاضي: إن الآية لا ينسخها قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)؛ لأنه حكاية ما في التوراة، فلا ينسخ ما في القرآن؛ لأن من شرط الناسخ تأخره عن المنسوخ. قوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) تمامه: عن علي رضي الله عنه: "ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، أخرجه النسائي من رواية أبي جحيفة، وأخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب، مع زيادات. النهاية: تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوى في القصاص والديات، والكفء: النظير والمساوي، ومنه الكفاءة في النكاح. ويسعى بذمتهم أدناهم، أي: إذا أعطى أحد الجيش العدو أماناً، جاز ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن ينقضوا عليه عهده.

حين جاء اللَّه بالإسلام؛ فنزلت، وأمرهم أن يتباوؤا" (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شيء، من العفو، على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير، وطائفة من السير، ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به؛ لأن «عفا» لا يتعدّى إلى مفعول به إلا بواسطة. وأخوه: هو وليّ المقتول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يتباوءوا)، النهاية: عن أبي عبيد: يتباءوا، الصواب: يتباوءوا، بوزن: يتقاتلوا، من البواء وهو المساواة، يقال: باوأت بين القتلى، أي: ساويت، وقال غيره: يتباءوا صحيح، يقال: باء به: إذا كان كفؤاً له، وهم بواء أي: أكفاء، معناه: ذوو بواء. قوله: (فمن عفي له من [جهة] أخيه شيء)، أي: عفو قليل، وهو مفعول مطلق، والفعل مسند إلى المصدر، كما في قولك: سير بزيد بعض السير. قوله: (ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به)، روى صاحب "الكشف"، عن عثمان، أنه قال: قد يمكن أن يكون تقديره: فمن عفي له من أخيه عن شيء، فملا حذف الجار ارتفع "شيء" لوقوعه موقع الفاعل، كما أنك لو قلت: سير بزيد وحذفت الباء وقلت: سير زيد. ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون شيء مرتفعاً بفعل محذوف يدل عليه قوله: عفي له؛ لأن معناه: ترك له شيء. قوله: (وأخوه: [هو] ولي المقتول)، (فَمَنْ) عبارة عن القاتل، و (مِنْ): لابتداء الغاية، و (شَيْءٌ) عبارة عن العفو.

وقيل له: أخوه؛ لأنه لابسه من قِبَل أنه ولى الدم ومطالبه به، كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة، أو ذكره بلفظ الأخوة؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. فإن قلت: إن "عفى" يتعدّى بـ"عن" لا باللام، فما وجه قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)؟ قلت: يتعدى بـ"عن" إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال اللَّه تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) [التوبة: 43]، وقال: (عَفَا اللَّهُ عَنْها) [المائدة: 101]، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه، وتجاوزت له عنه، وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل: فمن عُفيَ له عن جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الواحدي: العفو عبارة عن ترك الواجب من أرش جناية أو عقوبة ذنب أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية، فصفح عنه وترك من الواجب شيء. قوله: (بلفظ الأخوة، ليعطف) أي: للاستعطاف، نحو قول هارون عليه السلام: (يَبْنَؤُمَّ) [طه: 94]. قال الواحدي: أراد من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به، واراد بالأخ: المقتول، سماه أخاً للقاتل فدل على أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع وأن القاتل لم يخرج من الإيمان بقتله، والكنايتان. في قوله: (لَهُ) و (أَخِيهِ) يرجعان إلى "من" وهو القاتل. قوله: (وعلى هذا ما في الآية) أي: على الاستعمال الثاني، وهو تعدي "عفا" إلى الذنب، وقولهم: عفوت لفلان عما جنى، ورد (عُفِيَ) في الآية وحذف "عن جنايته" لأن العفو استدعى ذلك.

فإن قلت: هلا فسرت "عُفيَ" بـ"ترك" حتى يكون شيءٌ في معنى المفعول به؟ قلت: لأن "عفا الشيء" بمعنى تركه، ليس بثبتٍ، ولكن أعفاه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعفوا اللحى». فإن قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره؛ إذا محاه وأزاله فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء. قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها. وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ إذا أعضل عليه تخريج وجهٍ للمشكل من كلام اللَّه على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ باللَّه منها. فإن قلت: لم قيل: شيء من العفو؟ قلت: للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة؛ تم العفو؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأعفوا اللحى) الحديث من رواية البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى". أنهكوا، أي: بالغوا في قصها. قوله: (عبارة قلقة)، أي: غير قارة في مكانها، فإن الكلام الفصيح هو الذي يستعمل فيه ما هو على ألسنة الفصحاء أدور، واستعمالهم له أكثر، وكلام الله أفصح الكلام لا يجوز فيه أمثال هذه العبارة. نعم، فيه ما لو اقتضاه المقام كما في قول الشاعر: وما عفت الديار له محلاً ... عفاه من حدا بهم وساقا لأن الكلام في محو أثر ديار المحبوبة فهو مكان استعماله، والآية مسوقة في شأن العفو عن الجنايات، فهو بمعزل عن استعماله فيه، وهو المراد من قوله: "نابية عن مكانها". قوله: (وبعض منه) تفسير لقوله: "طرف من العفو"، والبعضية إنما تتصور بأحد شيئين: بأن يعفو الورثة كلهم بعض الدم، أو بأن يعفو بعض الورثة حقه بتمامه.

وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ): فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً، يعنى: فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه. (ذلِكَ) الحكم المذكور من العفو والدية (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو، توسعة عليهم وتيسيراً (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل، أو القتل بعد أخذ الدية؛ فقد كان الولي في الجاهلية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية)، قلت: أما تحريم أخذ الدية فصحيح، لما روينا عن البخاري والنسائي عن ابن عباس: "كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية"، وأما تحريم العفو فمنظور فيه لقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة: 45]، وقوله في "الأعراف" في تفسير قوله: (وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145] "أي: فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص والعفو". قوله: (من قتل غير القاتل) "من" بمعنى "أجل"، أي: تجاوز ما شرع له من جهة قتل غير القاتل، ويجوز أن يكون بياناً لجملة قوله: "فتجاوز ما شرع له" ولا يجوز أن يكون بياناً لـ "ما" لفساد المعنى. قوله: (فقد كان الولي في الجاهلية): جملة مستطردة لبيان سبب النزول، استطرد بين تفسير الجزاء والشرط للاهتمام، والفاء لشدة الاتصال.

يؤمّن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم: أن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه دية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافى أحداً قتل بعد أخذه الدية». (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام فصيح؛ لما فيه من الغرابة؛ وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية) في رواية أبي داود عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أعفي من قتل بعد الدية". قوله: (ومن إصابة) عطف على قوله: (من الغرابة)، أما الغرابة فهي حمل الشيء على ضده، ولم يكتف بهذا القدر، بل صرح بالظرفية بأن جعل القصاص مدخولاً لحرف (في)، وفائدته: أن المظروف إذا حواه الظرف لا يصيبه ما يفوته ولا هو بنفسه يتفرق ويتلاشى، كذلك بالقصاص، يحمي الحياة من الآفات، ومعناه: أن الحياة الحاصلة بالارتداع، والحياة العظيمة، إنما تحصل بشرعية القصاص لا غير. وأما البلاغة فهي أن هذا الكلام مع وجازته دل على معان كثيرة؛ لأن لام الجنس الداخلة في القصاص تدل على حقيقة هذا الحكم، وهو مشتمل على الضرب والجرح والقتل وما يجري مجراها، ولو قيل كما قالوا: "القتل أنفى للقتل"، لم يفد هذه الفوائد، ثم إذا نظر إلى تنكير الحياة من حيث كونها مطلقة غير مقيدة وقد حمل عليها قوله: (فِي الْقِصَاصِ) أفاد التعظيم، وإذا قيدت بقرائن الأحوال بالارتداع، أفاد التخصيص، فعلى هذا قوله: "أو نوع من الحياة" عطف على قوله: "حياة عظيمة".

لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليبٍ حتى كاد يفنى بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة، أو نوع من الحياة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل)، وكان من حديثه على ما رواه ابن الأثير في "الكامل": أن وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب بن وائل، كان من عزه إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مر بروضة تعجبه، ضربه وألقاه في ذلك المكان وهو يعوي، فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه، فسمي بذلك كليب وائل، ثم إن كليباً تزوج جليلة بنت مرة بن شيبان أخت جساس، وحمى أرضاً من العالية، ثم إن رجلاً يسمى بسعد الجرمي نزل بالبسوس، خالة جساس، وكان للجرمي ناقة ترعى مع نوق جساس وهي مختلطة مع إبل كليب، واسم الناقة سراب، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها، فقال لجساس: لا تعد هذه الناقة إلى هذه الحمى، فإن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: إذن لأضعن سناني في لبتك، ثم تفرقا، فرأى كليب ناقة الجرمي في حماه فرمى ضرعها فأنفذه، فولت ولها عجيج، فصرخ صاحبها بالذل، ووضعت البسوس يدها على رأسها فصاحت: واذلاه! فقال جساس: لا تراعي، إني سأقتل جملاً أعظم من هذه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعنى به كليباً، فلم يزل يطلب غرة كليب حتى قتله، فبلغ الخبر مهلهلاً أخا كليب، واسمه عدي وسمي مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر، أي: رققه، من قولهم: ثوب هلهل: سخيف النسج، وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي، فجز شعره، وقصر ثوبه، وهجر نساءه، وترك الغزل وحرم القمار والشرب، فجمع إليه قومه فأقدم على حرب بكر، وكان من الفريقين ما كان، ثم إن جليلة زوجة كليب عادت إلى أبيها وهي حامل، فولدت غلاماً فسمته هجرساً، ورباه خاله جساس، فخرجا ذات يوم وعليهما اللأمة، فأخذ هجرس بوسط رمحه وقال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقوم أبيه، فأرسل مرة أبو جساس إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف، وقد أرسلت ابني إليك، يعني: بجير بن الحارث بن عباد، فإما أن تقتله بأخيك وتصلح بين الحيين، وإما أن تطلقه وترفع ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه أصلح لنا ولكم، فلما وقف على كتابه أخذ بجيراً فقتله وقال: بؤ بشسع نعل كليب، فلما سمع أبوه بقتله قال: نعم القتيل قتيلاً إن أصلح بين ابني وائل: بكر وتغلب، فقيل له ما قال، فغضب عند ذلك وولي أمر بكر وشهد حربهم، ودامت الحروب بين الحيين أربعين سنة، ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم، فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت

وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء: (ولكم في القصاص حياة) أي: فيما قص عليكم من حكم القتل. والقصاص. وقيل: القصص: القرآن، أي: ولكم في القرآن حياة للقلوب، كقوله تعالى: (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى: 52]، (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42]. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة. [(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد، ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة؟ وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم، وتتعطف الأرحام، أما أنا فلا تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال، وأنا سائر إلى اليمن، ففارقهم، فكان كما قال. قوله: (لوقوع العلم) تعليل للارتداع، وقوله: (لأنه إذا هم) تعليل للحياة الحاصلة بالارتداع. قول: (وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة) يعني: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) خطاب عام لجميع الأمة، وتعليله بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يخصصه بالأئمة وهو المراد بقوله: "تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به".

(إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ): إذا دنا منه وظهرت أماراته. (خَيْراً): مالاً كثيراً. عن عائشة رضى اللَّه عنها: أنّ رجلاً أراد الوصية وله عيال وأربع مئة دينار، فقالت: ما أرى فيه فضلاً، وأراد آخر أن يوصى فسألته: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إنما قال اللَّه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك. وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنّ مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة فمنعه. وقال: قال اللَّه تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير: هو المال، وليس لك مال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((خَيْراً): مالاً كثيراً)، الراغب: الخير: ما يرغب فيه الكل، كالعقل مثلاً والعدل والفضل والشيء النافع، والشر: ضده، وقيل: الخير ضربان: مطلق، وهو أن يكون مرغوباً فيه بكل حال، كالجنة، ومقيد، وهو أن يكون خيراً لواحد، وشراً لآخر، كالمال، ولهذا وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة: 180]، وفي آخر: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) [المؤمنون: 55 - 56]، وقال بعض العلماء: لا يقال للمال: خير حتى يكون كثيراً، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8]، والخير والشر يكونان اسمين كما مر ووصفين، وتقديرهما تقدير أفعل منه، كقوله تعالى: (نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) [البقرة: 106]، قال بعض العلماء: إنما سمي المال هنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أن الذي تحسن الوصية به ما كان مجموعاً من المال من وجه محمود، وعلى ذلك قوله تعالى: (قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [البقرة: 215] وقيل في قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور: 33] أي: مالاً من جهتهم، وقيل: إن علمتم أن عتقهم يعود عليكم وعليهم بنفع، أي: بثواب. قوله: (وعن علي رضي الله عنه) الحديث رواه الدارمي، عن هشام، عن أبيه، أن علياً

و (الوصية) فاعل (كتب)، وذكر فعلها للفاصل؛ أو لأنها بمعنى أن يوصى، ولذلك ذكر الراجع في قوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام، فنسخت بآية المواريث، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللَّه أعطى كلّ ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث. وبتلقى الأمّة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دخل على مريض فذكر له الوصية، فقال علي رضي الله عنه: قال الله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) ولا أراه ترك خيراً، قال حماد: فحفظت أنه ترك أكثر من سبع مئة. قوله: (فنسخت بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم)، وظاهر كلامه أن الآية مع الحديث نسخاً آية الوصية، والحق أن آية المواريث ناسخة لآية الوصية، والحديث مبين لكونها ناسخة؛ لأن الحديث لا ينسخ الكتاب، وقد مر في قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيانه: أنه صلى الله عليه وسلم خطب عام حجة الوداع وقال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"، يعني أن الوصية إنما كانت لأن حقوق الأقرباء لم تكن منقسمة، فالآن قسمها الله تعالى وأعطى لكل منهم ما يستحقه، فبطل الحكم الأول، قيل: كون الآية منسوخة بآية المواريث بعيد؛ لأنه لا يمتنع الجمع بين حكم الآيتين. نعم، يجوز أن تكون آية المواريث مخصصة لهذه، وذلك بأنها توجب الوصية للأقربين، وآية المواريث تخرج القريب الوارث وتبقي غير الوارث بسبب اختلاف الدين أو الرق أو القتل، ومن يحجب لوجود الحاجب، ومن لم يكن وارثاً كذوي الأرحام فيوصى لهؤلاء صلة للرحم، ولو قيل: كيف الجمع فيمن لا يخلف إلا الوالدين فيصير كل المال حقاً لهما فلا يبقى للوصية شيء؟ فيقال: هذا لمانع. وقال الإمام: وكونها منسوخة بالحديث بعيد أيضاً، ودعوى تلقي الأمة إما على الظن أو على القطع، والأول مسلم، إلا أن ذلك إجماع منهم على أنه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من الآحاد لأجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز، ولو قيل: إنها منسوخة بالإجماع بعد وجود دليل الناسخ واكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل، فيقال: لا يصح ذلك؛ لأن في الأمة من أنكر وقوع النسخ، فكيف يدعي انعقاد الإجماع؟

وإن كان من الآحاد؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن كان من الآحاد) يريد أن السلف وإن قبلته على طريقة الآحاد لكن الخلف ألحقته بالتواتر لتلقيهم إياه بالقبول، أي: أجمعوا على صحته ونسخوا القرآن به، والجواب عنه ما ذكره الإمام. واعلم أن الحديث المتواتر المعتبر في الدين هو: أن يرويه جماعة لا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم، ويدوم هذا الحد فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، نحو القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات ومقادير الزكوات وما أشبه ذلك، ذكره البزدوي في "أصوله". وهذا الحديث لم يتفق له هذا المعنى لا سلفاً ولا خلفاً، أما الخلف فإن البخاري ومسلماً والنسائي ما أوردوه في "صحاحهم"، وأما السلف فإن مالكاً لم يذكره في "موطئه" والله أعلم.

لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته. وقيل: لم تنسخ، والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. وقيل: ما هي بمخالفة لآية المواريث. ومعناها: كتب عليكم ما أوصى به اللَّه من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء: 11]؛ أو: كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به اللَّه لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم (بِالْمَعْرُوفِ): بالعدل، وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير، ولا يتجاوز الثلث. (حَقًّا) مصدر مؤكد، أي: حق ذلك حقاً (فَمَنْ بَدَّلَهُ): فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وتحققه (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصى والموصى له، لأنهما بريئان من الحيف. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيدٌ للمبدّل. (فَمَنْ خافَ): فمن توقع وعلم، وهذا في كلامهم شائع يقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع والظنّ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا الثبت)، الثبت، بالفتحتين: الحجة، وأما قولهم: فلان ثبت من الأثبات: مجاز منه، لقولهم: فلان حجة: إذا كان ثقة في روايته. قوله: (أو: كتب على المحتضر أن يوصي) عطف على: "كتب عليكم ما أوصى به الله"، لأن المراد: كتب على الحكام أو على الأولياء أو على المحتضر، أي: الذي حضرته الوفاة. قوله: (فمن توقع وعلم)، قال الواحدي: الخوف يستعمل بمعنى العلم؛ لأن في الخوف طرفاً من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا، كأنه يقول: أعلم، وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، فاستعمل الخوف في العلم. قال تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ) [الأنعام: 51]، وقال تعالى: (إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 229].

الغالب الجاري مجرى العلم. (جَنَفاً): ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية، (أَوْ إِثْماً): أو تعمداً للحيف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الموصى لهم؛ وهم الوالدان والأقربون؛ بإجرائهم على طريق الشرع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) حينئذ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)]. (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علىّ رضى اللَّه عنه: أوّلهم آدم، يعنى أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى اللَّه أمّة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها وتعظيمها؛ لأصالتها وقدمها، أو: لعلكم تتقون المعاصي، لأنّ الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الصوم عبادة قديمة أصلية)، قال القاضي: الصوم في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات، فإنها معظم ما تشتهيه النفس. قوله: (أظلف لنفسه)، الأساس: ظلف نفسه: كفها عما لا يجمل، قال ربيعة بن مقروم: وظلفت نفسي عن لئيم المأكل

قال صلى الله عليه وسلم: «فعليه بالصوم فإنّ الصوم له وجاء» أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين، لأنّ الصوم شعارهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعليه بالصوم)، الحديث على ما روينا عن البخاري ومسلم، عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء". الوجاء: نوع من الخصاء. وهو أن ترض عروق الأنثيين وتترك الخصيتان كما هما، أي: أنه يقطع شهوة الجماع كما يقطعها الخصاء. النهاية: الباءة: النكاح والتزويج، وهو من المباءة: المنزل؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً، وقيل: لأن الرجل يتبوأ من أهله، أي: يتمكن منها كما يتبوأ من منزله. قوله: (لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين). اعلم أن التقوى من الوقاية، وهي: فرط الصيانة، والمتقي شرعاً على ما قال هو: الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. وقد فسر (يَتَّقُونَ) هنا بوجوه، أحدها: أنه مجاز باعتبار ما يؤول إليه، أي: كتب عليكم شرعية الصيام لعلكم تصيرون متقين ببركة المحافظة عليه وتعظيمه، فإن تعظيم شعائر الله له تأثير عظيم في النفوس، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، وتعليله بقوله: "لأصالتها وقدمها" إشارة إلى هذا المعنى.

وقيل: معناه: أنه كصومهم في عدد الأيام، وهو شهر رمضان، كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان؛ فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده؛ فجعلوه خمسين يوماً. وقيل: كان وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: أنه حقيقة لغوية على ما قلنا: إن الوقاية: فرط الصيانة، وذلك أن الصوم أردع شيء للنفس عن ارتكاب المعاصي على ما ورد في الحديث النبوي. وثالثها: أنه كناية إيمائية، وتقريره: أن الصوم لما كان عبادة قديمة ودرج عليها الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، يكون من شعار المتقين، ومن اقتفى أثرهم يوشك أن لا يعدم من بركتهم فيعد منهم وينتظم في زمرتهم، وإنما قلنا: إنها كناية إيمائية لأنه تعالى سماهم متقين لأنهم اكتسبوا لباسهم وتزيوا بزيهم، ومن تزيا بزي قوم فهو منهم. قوله: (وقيل: معناه أنه كصومهم): عطف على قوله: "على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم" من حيث المعنى، وكذا قوله: "وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر"، ووجه التشبيه على الأول: افتراض الصوم مطلقاً، وعلى الثاني: عدد الأيام، والقرينة قوله: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)، ومن ثم بحث عن معناها في هذا الوجه، وعلى الثالث: اتقاء المفطر بعد العشاء والنوم. وفائدة التشبيه على الأول: التسلي بالتأسي، يعني: لا ينبغي أن تشق عليكم شرعية الصوم، لأنكم لستم بمخصوصين فيها؛ لأنها سنة الأنبياء السالفة والأمم الخالية كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، وأما قوله: "وقيل: الأيام المعدودات: عاشوراء" فمعطوف على قوله: "وهو شهر رمضان"، وقوله: "وقيل: كان وقوعه في البرد الشديد" على قوله: "فأصابهم موتان". قوله: (فأصابهم موتان)، النهاية: في الحديث: "يكون في الناس موتان كقعاص

فجعلوه بين الشتاء والربيع، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته. وقيل: الأيام المعدودات: عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر. كتب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صيامها حين هاجر. ثم نسخت بشهر رمضان. وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا، ثم نسخ ذلك بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية [البقرة: 187]. ومعنى (مَعْدُوداتٍ): مؤقتاتٍ بعددٍ معلوم، أو قلائل، كقوله: (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف: 20]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغنم". الموتان بوزن البطلان: الموت الكثير الوقوع، والموتان، بفتح الواو: ضد الحيوان، وفي الحديث: "موتان الأرض لله ولرسوله" يعني: مواتها الذي ليس ملكاً لأحد. الأساس: قد وقع في الناس مُوْتانٌ ومَوْتانٌ بالفتح والضم مع سكون الواو، ومن المجاز: اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان. الراغب: قيل: كان قد أوجب الصوم على من كان قبلنا رمضان، فغيروا فزادوا ونقصوا، وهذا قول عهدته على قائله.

وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه، والكثير يهال هيلا ويحثى حثياً. وانتصاب (أياماً) بالصيام، كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر (فَعِدَّةٌ): فعليه عدّة ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويتحكر فيه). النهاية: أصل الحكر: الجمع والإمساك، والحكر، بالتحريك: الماء القليل المجتمع، وكذلك: القليل من الطعام واللبن، فهو فعل بمعنى مفعول، أي: مجموع. قوله: (يهال هيلاً). الجوهري: هلت الدقيق في الجراب، أي: صببته من غير كيل. قوله: (وانتصاب (أَيَّاماً) بالصيام). قال الزجاج: الأجود أن يكون العامل في (أَيَّاماً): الصيام، كأن المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وقال القاضي: نصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما، بل بإضمار "صوموا". قال صاحب "الكشف": (كَمَا كُتِبَ): صفة مصدر محذوف، والتقدير: كتب عليكم الصيام كتابة مثل ما كتب. قال أبو البقاء: إنما لم يجز لأنه مصدر، وقد فرق بينه وبين أيام بقوله: (كَمَا كُتِبَ)، وما يعمل فيه المصدر: كالصلة، ولا يفرق بين الصلة والموصول بأجنبين وقال صاحب "اللباب": ويجوز أن ينتصب بالصيام إذا جعلت (كَمَا) حالاً، فإن جعلت مصدراً فلا. قال السجاوندي: لأن (كَمَا) أجنبي عن العامل والمعمول، إلا أن يجعل حالاً للصيام. قوله: ((فعدة) أي: فعليه عدة)، أبو البقاء: "فعدة": مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فعليه صوم عدة من أيام أخر، وعدة: بمعنى المعدود.

وقرئ بالنصب بمعنى: فليصم عدّة، وهذا على سبيل الرخصة. وقيل: مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) واختلف في المرض المبيح للإفطار، فمن قائل: كل مرض، لأنّ اللَّه تعالى لم يخص مرضاً دون مرض، كما لم يخص سفراً دون سفر، فكما أنّ لكل مسافر أن يفطر، فكذلك كل مريض. وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه. وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه، فقال: إنه في سعة من الإفطار. وقائل: هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، لقوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة: 185]. وعن الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل. واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى اللَّه عنه: «إنّ اللَّه لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر، وإن شئت ففرّق» وعن علىّ وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضى كما فات متتابعاً ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فواتر)، المواترة: المتابعة. اللحياني: لا تكون مواترة إلا إذا وقعت بينها فترة، وإلا فهي مداركة. النهاية: ومنه حديث أبي هريرة: "لا بأس أن يواتر قضاء رمضان"، أي: يفرقه فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يلزمه التتابع فيه فيقضيه وتراً، وعن مالك: أن أبا هريرة، وابن عباس اختلفا في قضاء رمضان، فقال أحدهما: يفرق، وقال الآخر: يتابع. وفي "الصحاح": مواترة الصوم: أن تصوم يوماً وتفطر يوماً أو يومين، وتأتي به وِتْراً وِتْراً، ولا يراد به المواصلة لأن أصله من الوتر. فعلى هذا يكون المراد بقوله: "واتِرْ" أي: صم يوماً وأفطر يوماً أو يومين، وبقوله: "ففرق" أن يكون المتخلل بين الصومين أكثر من يومين، والأقرب أن معنى "واتر": صم يوماً وأفطر يوماً، ومعنى "ففرق": أن تصوم في أيام شتى كيف تشاء.

وفي قراءة أبي: (فعدّة من أيام أخر متتابعات). فإن قلت: فكيف قيل (فَعِدَّةٌ) على التنكير ولم يقل: فعدّتها، أي: فعدة الأيام المعدودات؟ قلت: لما قيل: (فعدّة)، والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ): وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)؛ نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مدّ، وكان ذلك في بدء الإسلام: فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. وقرأ ابن عباس: (يطوّقونه) تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة، أي: يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا. وعنه: (يتطوّقونه) بمعنى يتكلفونه، أو يتقلدونه؛ و (يطوقونه) بإدغام التاء في الطاء، و (يطيقونه). و (يطيقونه) بمعنى: يتطيقونه، وأصلهما: يُطيوقونه ويتطيوقونه، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياءً، كقولهم: تدير المكان، وما بها ديار ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل: (فَعِدَّةٌ)، على التنكير، ولم يقل: فعدتها)، يريد أن مقتضى الظاهر أن يقال: فعدتها؛ لأن قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرتب على فرضية صوم الأيام المعدودات، أي: وجب عليكم صوم الأيام المعدودات، فمن كان غير معذور فليصمها كاملات، ومن كان معذوراً فأفطر فليصم عدتها فلم نكرها؟ وأجاب: أن مجيئها في أثر ذلك الحكم وأن العدة بمعنى المعدود لا يلبس أن المراد: فعدة الأيام المعدودات، فاستغنى ذلك عن تعريف الإضافة، أي: تعيينها بالإضافة، والفاء في "فأمر بأن يصوم"، مثلها في قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) [النحل: 98]، والضمير في "مكانها وعددها": للمعدودات. قوله: (و"يطيقونه" بمعنى: يتطيقونه)، فيه لف، وقوله: "يُطَيْوَقُونَهُ ويَتَطَيْوَقُونَهُ" نشره، قال ابن جني: عين الطاقة واو لقولهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي، وعليه قراءة يطوقونه، وهو يفعلونه منه، كقولك: يجشمونه ويكلفونه، وقال: يطوقونه: يتفعلونه، من الطوق، كقولك:

وفيه وجهان: أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ. ويجوز أن يكون هذا معنى (يطيقونه) أي: يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتكلفونه ويتجشمونه، وأصله: يتطوقونه، وأبدلت التاء طاء، فأدغمت في الطاء بعدها، نحو: اطير يطير، أي: يتطير. قوله: (وفيه وجهان)، أي: فيما قرأ ابن عباس، فإن جميع ما ذكر بعده مروي عنه، وحاصل المعنى يرجع إلى يكلفونه أو يقلدونه، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أن من أمر بالصوم- ولا خفاء في كونه شاقاً على النفس- كأنه كلف عليه وألزم في عنقه ذلك، وإليه الإشارة بقوله: "يقال لهم: صوموا". وثانيهما: أن المكلف إذا داوم عليه وتمرن وصار دأبه الصيام، لم يكن شاقاً عليه، لكن إذا مرض أو هرم فربما شق عليه، وإلى الأول الإشارة بقوله: "يطيقونه"، وإلى الثاني "على جهد منهم وعسر". قوله: (وحكم هؤلاء الإفطار والفدية). قال صاحب "الروضة": الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم أو تلحقه مشقة شديدة، لا صوم عليه، وفي وجوب الفدية عليه قولان أظهرهما: الوجوب، ويجري الوجهان في المريض الذي لا يرجى برؤه. قوله: (ويجوز أن يكون هذا معنى (يُطِيقُونَهُ)) أي: القراءة المشهورة يجوز أن تحمل على هذا المعنى، فلا تكون الآية منسوخة.

على مقدار الفدية (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)، فالتطوع أخير له، أو الخير. وقرئ: (فمن يطوّع)، بمعنى: يتطوّع. (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً. وفي قراءة أبىّ: (والصيام خير لكم). [(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو الخير) أي: الضمير المرفوع، وهو "هو" للتطوع أو للخير، وعلى التقديرين الشرط مكرر في الجزاء، وفائدته تعظيم الخبر، كقولهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. قوله: (أيها المطيقون) على القراءة المشهورة، أو: المطيقون على قراءة ابن عباس، والمشهورة على تأويل النسخ. قوله: (وجهدتم طاقتكم) نصب على أنه مفعول مطلق، الجوهري: قال الفراء: الجهد، بالضم: الطاقة، وبالفتح، من قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي ابلغ غايتك، والجهد: المشقة. قوله: (ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر)، وذلك أنه تعالى لما حكم على المريض والمسافر بالترخص بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وعلى المطيقين والمطوقين بقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) عم الخطاب، فقال: (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المرخصون (خَيْرٌ لَكُمْ)، ليندرج تحته المطيقون أو المطوقون والمريض والمسافر، فعلى هذا معناه: خير لكم من الفدية وتطوع الخير، أي: الزيادة على مقدار الفدية أو منهما ومن التأخير للقضاء.

الرمضان: مصدر رمض؛ إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، كما قيل: «ابن دأية» للغراب، بإضافة الابن إلى دأية البعير، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت. فإن قلت: لم سمي شَهْرُ رَمَضانَ؟ قلت: الصوم فيه عبادة قديمة، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته، كما سموه ناتقاً؛ لأنه كان ينتقهم، أي: يزعجهم إضجاراً بشدّته عليهم. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. فإن قلت: فإذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما قيل "ابن دأية" للغراب) أي: رمضان: مصدر رمض، من الرمضاء، أضيف إليه الشهر، وجعل لامركب علماً للشهر المعلوم، ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون، كما أن دأية في ابن دأية أخذ من دأية البعير، وهو موضع القتب، وأضيف إليه الابن وجعل علماً للغراب، ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث. والتسمية وإن وقعت مع المضاف لكن قد تحذف لعدم الإلباس. قوله: (لارتماضهم)، الجوهري: الرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، وأرمضتني الرمضاء، أي: أحرقتني. قوله: (ناتقاً)، الجوهري: النتق: الزعزعة والنقض. قوله: (فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر)، قال القاضي: وغنما سموه بذلك إما لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، أو لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه. قال السجاوندي: سمي المحرم لتحريم القتال فيه،

«من صام رمضان إيماناً واحتساباً، «من أدرك رمضان فلم يغفر له»؟ قلت: هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورجب لترجيب العرب إياه أي: تعظيمه، أو لقطع القتال فيه، والأرجب: الأقطع، وذو القعدة: للقعود عن الحرب، وصفر: لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، وذو الحجة: للحجة، والربيعان: لارتباع الناس فيهما، أي: إقامتهم، وجمادان: لجمود الماء، وشعبان: لتشعب القبائل، ورمضان: لرمض الفصال، وشوال لشول أذناب اللقاح. ذكر نحوه المرزوقي في كتاب "الأزمنة والأمكنة" وأبسط نمه، وقال أيضاً: معنى الشهر: أن الناس ينظرون إلى الهلال فيشهرونه. قوله: (من صام رمضان)، والحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". النهاية: احتساباً، أي: طلباً لوجه الله تعالى وثوابه، والاحتساب من الحسب، كالاعتداد من العد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد عمله. قوله: (من أدرك رمضان فلم يغفر له). روي في "المصابيح": "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة".

بمَا أعْيَا النِّطَاسِي حِذْيَمَا أراد: ابن حذيم، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه بدل من (الصيام) في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة: 183] أو على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ. وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، أو على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) [البقرة: 184]. ومعنى (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ابتدئ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بما أعيا النطاسي حذيما)، أوله: فهل لكم فيها إلي فإنني ... طبيب ..... ويروى خبير، قال صدر الأفاضل: الواقع في نسخة "المفصل": "كما أعيا"، والصواب: بما، بدليل أول البيت، وفي أمثالهم: "أطب من ابن حذيم"، أي: فهل لكم رغبة فيما نسب إلي، كذا رواه الميداني في "مجمع الأمثال". حذيم: بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح الياء، التنطس: دقة النظر في الأمور، يقال منه: رجل نَطْسٌ ونَطَسٌ، ومنه قيل للطبيب نطيس ونطاسي. قوله: (على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا))، قال رشيد الدين الوطواط: وفي جعل شهر رمضان مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) نظر؛ لأن شهر رمضان حينئذ على تقدير المضاف إليه لـ "أن تصوموا"، وهما بمنزلة المبتدأ، أي: صوم شهر رمضان، والخبر: (خَيْرٌ لَكُمْ)، وعلى ما قدره

وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوماً. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة: 183] كما تقول: أنزل في عمر كذا، وفي علىّ كذا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون الخبر فاصلاً بين أجزاء المبتدأ، وذلك غير سائغ. هذا تلخيص كلامه. ثم قال: فعرضت هذا البحث عليه فأذعن له، وقيل في العذر: إن الفصل جائز ها هنا؛ لأن المفعول فضلة لا جزء كالفاعل، والإضافة هنا إلى الفاعل لا المفعول، أي: صومكم شهر رمضان خير لكم، فيقال: هذا وأمثاله لا يليق بمنصب التنزيل؛ لأن المقرر أن مفعول المصدر كالصلة، فلا يجوز الفصل بالأجنبي، وأقصى ما يقال فيه: أن قوله: (وَأَنْ تَصُومُوا) وإن كان مصدراً في المعنى، لكن صورته صورة الفعل، فبالنظر إلى الصورة، جاز الفصل وإن لم يجز في المصدر المحض، وفرق بينهما صاحب "الإقليد" في بحث لام كي، وقال: إن امتناع وقوع المصدر خبراً عن الجثة لعدم كونه دالاً بصيغته على فاعل وعلى زمان، والفعل المصدر بأن يدل عليهما، فيجوز الإخبار به عن الجثة، وإن لم يجز بالمصدر. فإن قلت: فإذا جعل شهر رمضان مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) يلزم أن لا يكون صوم شهر رمضان واجباً؛ لأن الواجب لا يقال فيه: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)؟ قلت: بل يقال، وغايته: أن يلزم منه الإبهام بين الندب والوجوب، والمبين للوجوب، تفصيله: وهو قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، يؤيده قول الزجاج: الأمر بالفرض فيه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ) نصب على الحال، أي: أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) بعد قوله: (هُدىً لِلنَّاسِ)؟ قلت: ذكر أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به اللَّه، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ): فمن كان شاهداً، أي: حاضراً مقيما غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر. والشهر: منصوب على الظرف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى قوله: (وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى) بعد قوله: (هُدًى لِلنَّاسِ)؟ ). حاصل السؤال: أن النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، فما معنى التكرير؟ وأجاب: أن المعرف هنا أعم من المنكر، إذ اللام فيه للجنس لا للعهد الخارجي، والدليل على كونه جنساً قوله: "من جملة ما هدى به الله"، وأن معنى الجنس هو ما قال: "من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة"؛ لأن شأن الكتب السماوية كلها الهداية والفرقان بين الحق والباطل، حكم أنه "هدى"، أي: هدى لا يقادر قدره، ومع ذلك بينات من جملة الهدى، فكرر تنويهاً بشأنه وتعظيماً لأمره، وتأكيداً لمعنى الهداية فيه، كما تقول: فلان عالم نحرير، وإنه من زمرة العلماء المتبحرين. قوله: (و (الشهر): منصوب على الظرف). قال القاضي: التقدير: فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافراً فليصم فيه، والأصل: فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع [المظهر] موضع المضمر [الأول] للتعظيم، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع. الراغب: فإن قيل: فلم قال: فليصمه، ولم يقل: فليصم فيه؟ قيل: قد قال بعض النحويين: اليوم ضربته، إنما يقال إذا استوعب اليوم لضربه، وإذا قيل: ضربت فيه فهو أن يضرب فيه في

وكذلك الهاء في: (فَلْيَصُمْهُ)، ولا يكون مفعولاً به كقولك: شهدت الجمعة؛ لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعض أوقاته، فنبه بقوله: (فَلْيَصُمْهُ) على الاستيعاب. وقيل: في قوله: "ولا يكون مفعولاً به" نظر، والتعليل وهو قوله: "لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر" غير تام، إذ مراده أنه إن جعل مفعولاً به لزم التساوي بين المقيم والمسافر، وكذا إذا جعل مفعولاً فيه لزم التساوي بين المقيمين من المريض والحائض وغيرهما من المعذورين وغير المعذورين، والأولى أن يقال: هو مفعول به وعام فيمن أدرك الشهر ثم خصص بقوله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ). قال القاضي: قيل: فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه، كقولك: شهدت الجمعة، أي: صلاتها، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، ويكون قوله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصصاً له؛ لأن المريض والمسافر ممن شهد الشهر. وقال الإمام: قيل: إن الشهر لو كان مفعولاً به يلزم المسافر أن يصوم في الشهر؛ لأن المقيم والمسافر حاضران للشهر، وإذا كان ظرفاً لا يلزم المسافر الصوم لأنه ليس شاهداً في الشهر، فيكون على هذا مفعول شهد محذوفاً، أي: شهد البلد أو بيته في الشهر. وأقول: مفعول شهد هو الشهر، تقديره: من شاهد الشهر، أي: أدركه مع وجود شرائطه وزوال موانعه فليصمه، كما يقال: شهدت عصر فلان، وأدركت زمان فلان، فعلى الأول يلزم الإضمار، وعلى الثاني التخصيص، والتخصيص أولى من الإضمار، على أنه يلزم على الأول التخصيص أيضاً؛ لأن الصبي والمجنون والمريض والحائض كل واحد منهم شهد البلد، مع أنه لا يجب عليهم الصوم، ثم قال الإمام: هذا ما عندي فيه، مع أن الواحدي والزمخشري ذهبا إلى الأول.

(يُرِيدُ اللَّهُ) أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، وجملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض. ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر، حتى زعم أنّ من صام منهما فعليه الإعادة. وقرئ: (اليسر) و (العسر) بضمتين ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت على ما ذهب إليه المصنف: الفاء في (فَمَنْ شَهِدَ) جاءت مفصلة لما أجمل في قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ) من وجوب التعظيم، وذلك أن غجراء الصفة عليه أوجب تعظيمه على من أدركهن ومدركه إما حاضر أو مسافر، فمن كان حاضراً فيه فحكمه كذا، ومن كان مسافراً فيه فكذا، ولا يحسن أن يقال: من أدرك الشهر فليصم، ومن كان مريضاً أو على سفر فليقض؛ لأن المقيم والمسافر شاهدان للشهر، وعطف الشرط على الشرط- على سبيل التفصيل- يقتضي المغايرة، ويؤيده قول الزجاج: من كان شاهداً غير مسافر ولا مريض فليصم، ومن كان مسافراً أو مريضاً فقد جعل له أن يصوم عدة أيام السفر والمرض من أيام أُخر. وقلت: إنما قرن المريض بالمسافر دون سائر المعذورين ليؤذن أن المسافر لما كان يتضرر بالصوم تضرر المرضى أدخله في حكمه مبالغة في التيسير عليه كما في قوله تعالى: (مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) [النساء: 97 - 98]. قال المصنف: أخرج الولدان من الوعيد وإن لم يكونوا داخلين فيه، لبيان أن الرجال والنساء في انتفاء الذنب عنهم كالولدان، والأظهر اختيار الإمام، فإن التركيب من باب ترتب الحكم على الوصف المناسب؛ لأن الشهر في قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ) هو الشهر الموصوف الذي أنزل فيه القرآن الذي هو ببينات من الهدى؛ لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، أي: الزمان الذي شرف بهذا التعظيم، وحقيق على من أدركه أن يتقرب إلينا فيه

الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع ذلك يعنى جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: (وَلِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالصيام، ثم خص من العام المعذورين، واختص منهم بالذكر المسافر والمريض لغلبة السفر والمرض على سائر الأعذار. وقال الواحدي: إنما أعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما في الإفطار؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المقيم الصحيح والمسافر والمريض، فلو اقتصر على هذا احتمل أن يعود النسخ إلى تخيير الجميع، فأعاد بعد النسخ ترخيص المسافر والمريض ليعلم أنه باق على ما كان. وقال أبو البقاء: إن قوله: (فَمَنْ شَهِدَ): خبر (شَهْرُ رَمَضَانَ)، وإنما دخلت الفاء لأن الشهر موصوف بالذي، ومثله قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة: 18] وقد وضع في الجزاء موضع العائد الظاهر تفخيماً، أي: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ). قوله: (وهذا نوع من اللف) وتقريره: أن الفعل المعلل المقدر، وهو قوله: "شرع لكم" مع العلل الثلاث، معطوف على الجملة السابقة بالواو على طريقة النشر، وفيه اسم الإشارة، ولابد له من المشار إليه بحسب كل واحد من العلل المذكورة، أولها: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، وهي علة للأمر بمراعاة العدة، والمشار إليه قوله: (فَعِدَّةٌ)، أي: فعليه صوم عدة أيام العذر

إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من غير نقصان، وثانيها: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) علة لقوله وهو "علة ما علم من كيفية القضاء" وهدى إليه، والمشار إليه مفهوم قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي: اقضوا الصيام في غير رمضان كيف شئتم متواترة أو تفريقاً، وثالثها: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وهو علة الترخيص والتيسير، والمشار إليه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ). وقلت: لو جعل (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) علة لقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ) إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) كان أحسن؛ لأنه سبق أن شرعية الصوم معللة بنزول القرآن المشتمل على هدى لا يكتنه كنهه في هذا الشهر، والهداية إلى مثل هذا التقرب الذي ليس فوقه، يوجب تعظيم الهادي وأن نكبر اسمه المبارك ونسبح ونقدس، وكان أسلم للنظم من ركوب المتعسف، وهو جعله قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معللاً باعتبارين: لتكملوا تارة، ولتكبروا أخرى، وفي تقديره أولاً حمله ما ذكره من أمر الشاهد شاهد صدق لهذا المعنى، وأما لطف مسلكه أن اللف هو الذي يستدعي ما يرد عليه ما في النشر من المعاني المناسبة، وهذا بالعكس، وتكون تلك المعاني مبنية عليه على ترتيبه السابق، وهذا ليس كذلك، وفيه أن الواو في قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ليست كالواوين في (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) وفي (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) وفي (وَلَعَلَّكُمْ) لما سبق، فالتقدير: وشرع ذلك، للمذكورات. قوله: (النقاب المحدث)، قال صاحب "النهاية": النقاب: الرجل العلامة، وفي حديث الحجاج وذكر ابن عباس: "إن كان لنقاباً"، وفي رواية: "وإن كان لمنقباً"، النقاب والمنقب- بالكسر والتخفيف-: الرجل العالم بالأشياء الكثير البحث عنها والتنقيب، أي: ما كان إلا نقاباً، وفي "النهاية" أيضاً: "وقد كان في الأمة محدثون، فإن كان في أمتي أحد فعمر بن الخطاب"، تفسيره: إنهم لملهمون، والملهم: الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة، وهو نوع يختص به الله من يشاء من عباده الذين اصطفى، ومقصود المصنف مدح نفسه تعريضاً.

بحرف الاستعلاء؛ لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم. ومعنى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وإرادة أن تشكروا. وقرئ: (ولُتكَمِّلوا) بالتشديد. فإن قلت: هل يصح أن يكون (وَلِتُكْمِلُوا) معطوفاً على علة مقدرة، كأنه قيل: لتعملوا ما تعلمون، ولتكملوا العدة. أو على اليسر، كأنه قيل: يريد اللَّه بكم اليسر، ويريد بكم لتكملوا، كقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) [الصف: 8]؟ قلت: لا يبعد ذلك والأوّل أوجه. فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم اللَّه والثناء عليه. وقيل: هو تكبير يوم الفطر. وقيل: هو التكبير عند الإهلال. [(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولتكبروا الله حامدين) ليس بتضمين، والتضمين: لتحمدوا الله مكبرين؛ لأن تصريحه بقوله: "لتكبروا" دافع له؛ لأن التضمين اصطلاحاً: إما: إعطاء الفعل المذكور معنى المقدر بواسطة الاستعمال كما في قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3]، وقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك: 2]، أو: إعطاؤه مع إرادة المضمر معهما كما ذكره في قوله تعالى: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) [الكهف: 28]، وهذا ليس منهما في شيء، فالحق أن الجار والمجرور على تقديره: حال، أو يرتكب القلب في الكلام. قوله: (والأول أوجه)، وهو أن يكون الفعل المعلل محذوفاً لما فيه من صنعة اللف والنشر، ويحتمل أن يراد بالأول: أن يكون (لِتُكْمِلُوا) معطوفاً على علة مقدرة؛ لأن اللام حينئذ للعلة، وهي أظهر من أن تكون صلة كقوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا) [الصف: 8]، والأول أوجه لاشتماله على العلم والعمل مع اللف والنشر. قوله: (عند الإهلال)، النهاية: الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ومنه: إهلال الهلال واستهلاله: إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ): تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته، ونحوه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم». وروي: أنّ أعرابياً قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فنزلت. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أنى أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم. وقرئ (يرشدون) و (يرشدون) بفتح الشين وكسرها. [(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)]. كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلى العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو بينكم وبين أعناق رواحلكم)، الحديث عن الشيخين، عن أبي موسى، سبق عند قوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [البقرة: 23]. قوله: (أقريب ربنا) الحديث في "جامع الأصول" مروي عن رزين، فقال أصحابه: "أقريب ... " الحديث. الراغب: وقد روي أن موسى عليه السلام قال: إلهي، أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فقال: لو حددت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو حددت لك القرب لما اقتدرت عليه.

الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إنّ عمر رضى اللَّه عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقال: يا رسول اللَّه، إني أعتذر إلى اللَّه وإليك من نفسي هذه الخاطئة. وأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كنت جديراً بذلك يا عمر". فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء؛ فنزلت. وقرئ: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، أي: أحل اللَّه. وقرأ عبد اللَّه: الرفوث، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ النيك، وقد أرفث الرجل. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه أنشد وهو محرم: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا فقيل له: أرفثت! فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء. وقال اللَّه تعالى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كلفظ النيك)، الأساس: رفث في كلامه، وأرفث وترفث: أفحش وأفصح بما يجب أن يكني عنه من ذكر النكاح. وليس بين الرفث والنيك مماثلة من حيث المؤدى في المعنى، بل من حيث إنهما ممن يجب أن لا يصرح بهما، لأنهما مما يوحش السامع، يدل عليه اعتراضهم على ابن عباس، فإنهم ظنوا أن النيك مثل الرفث، فلا يجوز أن يتكلم به المحرم، وجوابه: أن الرفث ما كان عند النساء، أي: ليس النيك في البيت من الرفث في التنزيل في شيء، وفي "النهاية": كان ابن عباس يرى بقوله هذا أن الرفث المنهي: ما خوطب به المرأة، فأما ما يقوله ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكذا عن الأزهري. قوله: (وهن يمشين)، الضمير للعيس، هميساً: مشياً خفياً إن تصدق الطير في العيافة بها، ولميس: اسم صاحبته.

(فلا رفث ولا فسوق) [البقرة: 197] فكنى به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من شيءٍ من ذلك. فإن قلت: لم كني عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء: 21]، (فَلَمَّا تَغَشَّاها) [الأعراف: 189]، (بَاشِرُوهُنَّ) (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء: 43]، (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) [النساء: 23]، (فَاتُوا حَرْثَكُمْ) [البقرة: 223]، (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 237]، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) [البقرة: 223]، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) [البقرة: 222]؟ قلت: استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. فإن قلت: لم عدي الرفث بـ"إلى"؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء. لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه؛ شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي: إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَليْهِ لِبَاسَا فإن قلت: ما موقع قوله: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ)؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال؛ وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكنى به عن الجماع) رتب على قوله: "الرفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه"، يعني: كنى ها هنا بالرفث عن الجماع، وكان من حق الظاهر أن يكنى عن الرفث، لا به، وإنما عدل إليه ليرتدع من ارتكبه، يدل عليه قوله: "استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة". الانتصاف: ويؤيد قول الزمخشري أنه تعالى لما أباحه قال: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، فعاد إلى الكنايات المألوفة، ويشكل بقوله: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197] ولم يسبق منهم فيه فعل؟ وجوابه: أنه في آية الحج منهي عنه، فشنعه وهجنه لينفرهم عن التورط فيه، ولذلك قرنه بالفسوق.

(تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ): تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ): واطلبوا ما قسم اللَّه لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة، أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع اللَّه له النكاح من التناسل. وقيل: هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر. وقيل: وابتغوا المحل الذي كتبه اللَّه لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرّم. وعن قتادة: (وابتغوا ما كتب اللَّه لكم) من الإباحة بعد الحظر. وقرأ ابن عباس (واتبعوا) وقرأ الأعمش (وأتوا) وقيل معناه: واطلبوا ليلة القدر وما كتب اللَّه لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل)، الراغب: قوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة، وهي أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوعنا إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل وحصن النفس على الوجه المشروع، وإلى هذا أشار من قال: عنى به الولد. قوله: (لأنه في الحرائر) أي: قوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) نزلت في شأن الحرائر؛ لأنه متصل بقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)؛ لأن في عرف التنزيل إطلاق النساء على الحرائر، وإطلاق ما ملكت أيمانكم على الإماء. والمراد بابتغاء ما كتب الله الولد، ومن عزل، أي: الماء عن النساء؛ حذر الحمل، فهو بمعزل عن ابتغاء ما كتب الله له، ولا يجوز العزل عن الحرائر إلا بإذنهن، بخلاف الإماء.

وهو قريب من بدع التفاسير. (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ): هو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. والْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ما يمتدّ معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال أبو داود: فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنَارَا. وقوله: (مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود. لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو قريب من بدع التفاسير). قال الإمام: وهو قول معاذ بن جبل وابن عباس، وجمهور المحققين استبعدوه؛ وعندي أنه جائز، وذلك أن الإنسان إذا قضى وطره من المباشرة ويصير فارغاً من داعية الشهوة المانعة عن التفرغ للطاعة، يمكنه أن يتفرغ لها، أي: إذا تخلصتم من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص فابتغوا ما كتب لكم من الإخلاص في العبودية من الصلاة والذكر وطلب ليلة القدر. قوله: (من غبش الليل)، الجوهري: الغبش، بالتحريك: البقية من الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل. قوله: (فلما أضاءت) البيت، الأصمعي: السدفة في لغة نجد: الظلمة، وفي لغة غيرهم: الضوء، وهو من الأضداد، وقال أبو عبيد: وبعضهم يجعل السدفة اختلاط الضوء والظلمة معاً كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار، وقوله: "أنارا" جواب "لما". قوله: (واكتفي به) يريد: قد مر آنفاً المراد بالخيط الأبيض ما هو وبالأسود ما هو، وكان

ويجوز أن تكون «من» للتبعيض؛ لأنه بعض الفجر وأوّله. فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت: قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسداً مجاز. فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. فإن قلت: فلم زيد (مِنَ الْفَجْرِ) حتى كان تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينبغي أن يذكر بعد بيان الخيط الأبيض بقوله: (مِنْ الْفَجْرِ) بيان الخيط الأسود بقوله: "من غبش الليل"، فاكتفى بأحدهما؛ لما يلزم من بيان أحد المختلطين بيان الآخر. قوله: (ويجوز أن تكون (مِنَ) للتبعيض)، والضمير في "لأنه" راجع إلى قوله: "أول ما يبدو"، فعلى هذا يكون (مِنْ الْفَجْرِ) بدلاً من الخيطين، أي: يتبين لكم بعض الفجر، وهو أول ما يبدو. قوله: (أخرجه من باب الاستعارة)؛ لأن الاستعارة هي: أن يذكر أحد طرفي التشبيه ويراد به الطرف الآخر. وههنا الفجر هو المشبه، والخيط الأبيض المشبه به، وهما مذكوران فلا يكون استعارة. فإن قلت: هب أن ذكر (مِنْ الْفَجْرِ) أخرجه من الاستعارة لذكر المشبه، لكن بقي الخيط الأسود على الاستعارة لترك المشبه، كقولك: رأيت أسداً يرمي؟ قلت: لما كان في الكلام ما دل عليه، فكأنه ملفوظ كقولها: أسد علي وفي الحروب نعامة وإليه الإشارة بقوله: "لأن بيان أحدهما بيان للثاني". قوله: (هي أبلغ من التشبيه)، وذلك أن في التشبيه اعترافاً بكون المشبه به أكمل من المشبه في الوجه، وفي الاستعارة ادعاء أنهما جنس واحد.

وأدخل في الفصاحة! قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر (مِنَ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد (مِنَ الْفَجْرِ) فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة. فإن قلت: فكيف التبس على عدىّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبرته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يدل عليه) أي: على كونه مستعاراً. قوله: (ولو لم يذكر (مِنْ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران) جواب، لكنه غير تام لكون العدول من الاستعارة التي هي أبلغ إلى التشبيه، الذي هو أدنى لفقدان القرينة، لا يمهد العذر، على أن القرائن كثيرة، نحو أن يقال: حتى يتفلق لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أو يشرق أو يطلع، ونحوهما، لكن الجواب الكافي أن يقال: إن العدول إليه وإن كان تشبيهاً لكنه بليغ لا يقصر عن مرتبة الاستعارة؛ لأنه واقع على طريق التجريد، كأنه جرد من الفجر نفس الخيط، كقولك: رأيت أسداً منك، وهو المراد بقوله: "فكان تشبيهاً بليغاً". قوله: (عمدت على عقالين أبيض وأسود) الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن عدي بن حاتم: لما نزل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" وفي رواية البخاري: قال: "إن وسادتك إذاً لعريض، أن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادتك"، وفي رواية أخرى أنه قال: "إنك إذاً لعريض القفا".

فضحك وقال: «إن كان وسادك لعريضاً»، وروى: «إنك لعريض القفا! إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل»؟ قلت: غفل عن البيان، ولذلك عرّض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. وأنشدتنى بعض البدويات لبدوى: عَرِيضُ القَفَا مِيزَانُهُ فِى شِمَالِهِ ... قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ القَرَارِيِط شَارِبُهْ فإن قلت: فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي: أنها نزلت ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ)، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ)؛ فعلموا أنه إنما يعنى بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "عريض الوسادة" كناية تلويحية، فإن عريض الوسادة مشعر بعريض القفا، وعريض القفا مشعر بالبلاهة، وعريض القفا: كناية رمزية. قوله: (بعض البدويات)، قيل: هي أم كردس خادم المصنف. قوله: (ميزانه في شماله) كناية عن الحمق، انحص شعره وشاربه: إذا تجرد وانحسر، والحاسب إذا أمعن في الحساب وتفكر فيه عض على شفتيه وشاربه. قوله: (فيما روي عن سهل) الحديث رواه البخاري مع تغيير يسير.

فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت: أما من لم يجوّز تأخير البيان - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبى علىّ وأبى هاشم - فلم يصح عندهم هذا الحديث، وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث؛ لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) قالوا: فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة)، هذا يؤذن أن التشبيه ليس بحقيقة، وقد قيل: إن ألفاظ التشبيه كلها مستعملة فيما وضع لها، نحو: زيد كالأسد في الشجاعة، لكن مفهوم المشبه به، وهو الخيط الأبيض والخيط الأسود، غير مراد فيما أجرى الكلام له، ولذلك قال: "وهي غير مرادة". قوله: (فلم يصح عندهم هذا الحديث) والحديث رواه البخاري ومسلم، فكيف يقال: لم يصح. قوله: (لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب)، قيل: وفيه نظر؛ لأن من يجوز تأخير البيان يحمله على ظاهره لعدم القرينة الصارفة حينئذ، وأجيب: أنك إذا أردت بالقرينة: القرينة التفصيلية، فمسلم، ولكن لا يلزم من عدمها جواز الحمل على الظاهر، وإن أردت الإجمالية فلا نسلم انتفاءها، فإن البليغ لا يرضى بمثل هذا التركيب، ألا ترى كيف عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم عدياً حين حمله على الظاهر! على أن سياق الكلام ومساقه حديث في شأن الصوم وبيان ابتدائه وانتهائه من قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ). قوله: (فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان)، ووجهه أن معنى قوله: (ثُمَّ

وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفى صوم الوصال. (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَتِمُّوا الصِّيَامَ) بعد قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ): ائتوا بالصوم تاماً، فيكون إتيان الصوم مأموراً به بعد الفجر والنية مع الفعل، فيلزم إيقاع النية بعد الفجر، قال صاحب "التقريب": الإتمام مأمور به بعد الفجر، وهو مسبوق بالأمر بالشروع، وهو إما بترك المفطر، وهو لا يلزم قبل الفجر، وإما بالنية وهو المطلوب، ومعنى أتموا الصيام على هذا: ابتدئوه وأتموه، ولقائل أن يقول: إن أردت بقولك: بعد الفجر: عقيبه متصلاً به، فهو ممنوع، إذ ثم للتراخي، وإن أردت التراخي فيجوز أن يسبق الشروع بالنية أو الإمساك بالجزء الأول على الإتمام، وهو مع ذلك يقع بعد الفجر. والجواب الصحيح: أنه ليس في الآية ما يوجب النية ولا تعيين الزمان ولا ينافيه، وليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وما يوجب النية يستفاد من الحديث، وكذا تعيينها بزمان، أما أولاً فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، أخرجه الشيخان وغيرهما عن عمر رضي الله عنه، وأما ثانياً فقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"، أخرجه أبو داود والترمذي، عن أم المؤمنين حفصة، وفي رواية النسائي: "فلا يصوم"، فالحديثان مبينان للآية. النهاية: الإجماع: إحكام النية والعزيمة، أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه: بمعنى. قوله: (وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر)؛ لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى الانفجار لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الصبح. قوله: (وعلى نفي صوم الوصال)؛ لأنه تعالى جعل غاية الصوم الليل، وغاية الشيء: منقطعه ومنتهاه، وما بعد الغاية يخالف ما قبله، وإنما يكون كذلك إذا لم يبق بعد ذلك صوم،

والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ... فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ). وقيل: معناه: ولا تلامسوهنّ بشهوة. والجماع يفسد الاعتكاف، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل. وعن قتادة: كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد، فنهاهم اللَّه عن ذلك. وقالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وأنه لا يختص به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: إنه تعالى بين الغاية، والبيان لا يفيد حرمة الوصال، وإنما حرم بالسنة، روينا عن عائشة رضي الله عنها: نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني"، أخرجه البخاري ومسلم، ولأبي داود نحوه. الهيئة: صورة الشيء وشكله وحالته. قال الإمام: الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه، وقالت الشافعية: الآية واردة لبيان صوم الفرض فتختص به. قوله: (أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه). "يتعبد" بالنصب في بعض النسخ على حذف لام التعليل يعني أن يتعبد، ثم حذف "أن" وبقي أثره. قوله: (لما تقدم من قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ) وذلك أن قوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) عطف على الأمر من قوله: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، ولا يستراب أن المراد منه الجماع؛ لما سبق من قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) رخصة فيها بعدما كانت منهية، فيجب العمل على الجماع فقط؛ ليتجاوب النظم. قوله: (قالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد)، قال صاحب "التقريب": ليس فيه ما يدل على ذلك.

مسجد دون مسجد. وقيل: لا يجوز إلا في مسجد نبىّ وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل: في مسجد جامع. والعامة على أنه في مسجد جماعة. وقرأ مجاهد: (في المسجد). (تِلْكَ) الأحكام التي ذكرت (حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها): فلا تغشوها. فإن قلت: كيف قيل: (فَلا تَقْرَبُوها) مع قوله: (فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 29]؟ قلت: من كان في طاعة اللَّه والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه؛ لأن من تعداه وقع في حيز الباطل؛ ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزى الحق والباطل؛ لئلا يدانى الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف، فضلاً عن أن يتخطاه، كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إنّ لكل ملك حمى، وحمى اللَّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود اللَّه محارمه ومناهيه ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المساجد الثلاثة) وهي: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (كيف قيل: (فَلا تَقْرَبُوهَا))، يعني: قال في هذه الآية: (فَلا تَقْرَبُوهَا) أي: الحدود، وقال في الأخرى: (فَلا تَعْتَدُوهَا) [البقرة: 229] وذلك لا يمنع من القربان، وأجاب: بأن هذه الآية كالترقي بالنسبة على تلك الآية. قوله: (وأن يكون في الواسطة): عطف على "أن لا يداني"، ويجوز أن يكون عطفاً على "نهي أن يقرب الحد"، وأمر بأن يكون في الواسطة على سبيل التوكيد. قوله: (متباعداً): حال من الضمير في خبر "كان"، أو: خبر بعد خبر، "وفضلاً": يجوز أن يكون متعلقاً بيقرب أو بيداني. قوله: (ويجوز أن يريد بحدود الله: محارمه): عطف على قوله: "تلك الأحكام التي ذكرت: حدود الله". قال الزجاج: معنى الحدود: ما منع الله تعالى من مخالفتها، فإن الحداد في اللغة: الحاجب، وكل من منع شيئاً فهو حداد، والحديد إنما سمي حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء،

خصوصاً؛ لقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ)، وهي حدود لا تقرب. [(وَلا تَاكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَاكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)]. ولا يأكل بعضكم مال بعض (بِالْباطِلِ): بالوجه الذي لم يبحه اللَّه ولم يشرعه ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحد الدار: ما يمنع غيرها أن يدخل فيها. تم كلامه. فتسمية محارم الله بالحدود ظاهر، وأما تسمية الأوامر والنواهي بها فلأنه تعالى منع الناس عن مخالفتها كما قال الزجاج، ومعنى القربان على هذا: الغشيان، كقوله: "فلا تغشوها"، فالمعنى: تلك الأوامر والنواهي السابقة مما منع الله الناس عن مخالفتها فلا تجاوزوها والتزموها، كقولك: كن وسط الحق ولا تتجاوز إلى أطرافه، على أن أطراف الحق حق، وإليه الإشارة بقوله: "أن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف"، أما الأوامر فقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، وقوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، وأما النواهي فقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ)، ثم إذا اعتبر أن الأمر بالشيء نهي عن ضده صح القول بأن ما سبق كلها محارمه. قوله: (وهي حدود لا تقرب) مشعر بأن الوجه الأول فيه تكلف، والحديث يناسب الوجه الثاني، وهو أن المراد بالحدود: محارمه، وراوي الحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ولكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

(و) لا (تُدْلُوا بِها): ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام؛ (لِتَاكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً): طائفة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ): بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح، مع العلم بأن المقضى له ظالم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه: قال للخصمين: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليَّّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع منه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((و) لا (تُدلُوا بِهَا): ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام)، الراغب: الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، واستعير للتوصل إلى الشيء، وعلى هذا قول الشاعر: فليس الرزق عن طلب حثيث ... ولكن ألق دلوك في الدلاء قوله: (قال للخصمين: إنما أنا بشر) الحديث مع تغيير يسير أخرجه البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي، وانفرد الترمذي بقوله: "فبكى الرجلان، إلى آخره". قال صاحب "الجامع": قوله: "ألحن بحجته" أي: أقوم بها من صاحبه وأقدر عليها، من اللحن، بفتح الحاء: الفطنة، وأما لحن الكلام فهو ساكن، قاله الخطابي، التوخي: قصد الحق واعتماده، والاستهام: الاقتراع، ولم يقنع بالتوخي فضم القرعة إليه؛ لأن القرعة أقوى من التوخي، ثم أمرهما بالتحليل ليكون انفصالهما عن يقين، لأن التحالل إنما يكون فيما هو في الذمة.

فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئاً، فإنما أقضي له قطعةً من نار»، فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال «اذهبا فتوخيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه». وقيل: (وَتُدْلُوا بِها): وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. و (تدلوا) مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار "أن"، كقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) [البقرة: 42]. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ. [(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)]. روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم الأنصارى قالا: يا رسول اللَّه، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؛ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت (مَواقِيتُ) معالم يوقت بها الناس مزارعهم، ومتاجرهم، ومحال ديونهم، وصومهم، وفطرهم، وعدد نسائهم، وأيام حيضهنّ، ومدد حملهنّ، وغير ذلك؛ ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: الآية فيها دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً. قوله: ((مَوَاقِيتُ) معالم يوقت الناس بها مزارعهم)، قال القاضي: المواقيت: جمع ميقات، من الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان: أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان: مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لأمر.

فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم: (لَيْسَ الْبِرُّ) بتحرّجكم من دخول الباب (وَلكِنَّ الْبِرَّ) برّ (مَنِ اتَّقى) ما حرّم اللَّه. فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة، وعن الحكمة في نقصانها وتمامها: معلوم أنّ كل ما يفعله اللَّه عز وجل لا يكون إلا حكمة بالغة، ومصلحةً لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدةٍ تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برّا ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل) إلى قوله: "معلوم أن كل ما يفعله [الله] تعالى لا يكون إلا حكمة بالغة"، هذا الجواب من باب الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، بتنزيل سؤاله منزلة غير السؤال لينبهه على تعديه من موضع سؤال هو أليق بحاله وأهم له إذا تأمل، وإليه الإشارة بقوله: "فدعوا السؤال عنه وانظروا في هيئة واحدة تفعلونها". والجواب الثاني من باب الاستطراد، وذلك أن السؤال لما كان عن الأهلة، وأجيبوا عن الميقات، وبعض المواقيت ميقات الحج، أورد بعض أفعالهم التي كانوا يفعلونها فيه. والجواب الثالث: من باب السؤال مما لا يستحق الجواب؛ لأن الواجب عليكم أن تسألوا عما يهمكم من منافع الأهلة وفوائدها لتعملوا بمقتضاها، فعكستم وسألتم عن أحوالها، أي: مثلكم في العدول عن الطريق المستقيم كمن لا يدخل من باب بيته ويدخله من ظهره، ويمكن أن يجعل هذا الجواب أيضاً من باب الأسلوب الحكيم. والجواب الثاني أوفق لتأليف النظم؛ لأنه تعالى لما استطرد عملاً من أعمالهم في الحج، وقبح فعلهم وبين أن التقوى في عكس ذلك، عم التقوى بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فاندرج فيها جميع ما يجب أن يعتبر فيها من الأفعال والتروك فعطف على (وَاتَّقُوا) بعض ما كان مشتملاً عليه، وهو القتال ليشير إلى أنه مهتم بشأنه بحسب اقتضاء الوقت، فالعطف من باب قوله تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن: 68].

ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج؛ لأنه كان من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يحسر على مثله، ثم قال: (وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها، ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال اللَّه حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك، حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الابهام بمقارفة الشك؛ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء: 23]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: العلوم ضربان: دنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع ومعرفة الأجرام السماوية والمعادن والنبات وطبائع الحيوان، وقد جعل الله لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وشرعي، وهو البر، ولا سبيل إلى أخذه إلا من النبي، فلما سألوا عما أمكنهم معرفته أجابهم بما أجاب، ثم قال: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) أي: بأن تطلبوا الشيء من غير بابه، يقال: فلان أتى البيت من بابه: إذا طلب الشيء من وجهه. قال الشاعر: أتيت المروءة من بابها فجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج. قوله: (بمقارفة الشك)، الجوهري: هو من: قارف فلان الخطيئة، أي: خالطها.

[(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)]. المقاتلة في سبيل اللَّه: هو الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه وإعزاز الدين (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ): الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين، وعلى هذا يكون منسوخا بقوله: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة: 36]، وعن الربيع بن أنس رضى اللَّه عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف؛ أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ): الذين يناجزونكم) فسر المقاتلين بوجوه ثلاثة: أحدها: بالذين يبارزون المسلمين دون المحاجزين. وثانيها: بمن يصح منهم المقاتلة دون من لا يصح، وهو المراد بقوله: "أو الذين يناصبونكم القتال". وثالثها: بالكفرة كلهم مجازاً، والمراد بالمقاتلة: المضادة، الأول أخص من الثاني والثالث أعم منهما. قوله: (يناجزونكم)، الجوهري: المناجزة في الحرب: المبارزة والمقاتلة، والمحاجزة: الممانعة، وفي المثل: المحاجزة قبل المناجزة. قوله: (يناصبونكم)، الجوهري: نصبت لفلان نصباً: إذا عاديته، وناصبته الحرب مناصبة.

والصبيان والرهبان والنساء؛ أو الكفرة كلهم؛ لأنهم جميعاً مضادّون للمسلمين، قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكمٍ المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل: لما صدّ المشركون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء؛ خاف المسلمون أن لا يفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام، وكرهوا ذلك، نزلت، وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك. (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال، أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان، والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة، (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث وجدتموهم في حل أو حرم. والثقف: وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه: رجل ثقف، سريع الأخذ لأقرانه. قال: فَإمَّا تَثْقَفُونِى فَاقْتُلُونِى ... فَمَنْ أثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُودِ (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي: من مكة وقد فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لعمرة القضاء) أي: العمرة التي أحرم بها عام الحديبية وتحلل عنها بسبب الإحصار، وهو من إضافة العام إلى الخاص؛ لأن العمرة أعم من أن تكون قضاء أو أداء. قوله: (نزلت)، وفي بعض النسخ: فنزلت، فعلى هذا جواب "لما" قوله: "خاف"، وإذا كان جواب "لما نزلت"، فالصواب أن يكون خاف بالواو، وهو لم يرو. قوله: (والثقف: وجود على وجه الأخذ والغلبة)، وفي الكواشي: الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله. قال القاضي: الثقف: الحذق في إدراك الشيء، علماً كان أو عملاً، فهو يتضمن الغلبة، ولذلك استعمل في الغلبة في قول الشاعر: فإما تثقفوني فاقتلوني البيت.

الفتح. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به؛ أشد عليه من القتل. وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت. جُعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل: لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعاً ... عَلى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بحَدِّ فِرَاقِ وقيل: (الْفِتْنَةُ): عذاب الآخرة؛ (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [الذاريات: 14]، وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم؛ وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، ويعيبون به المسلمين، فقيل: والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اسم "ليس" في قوله: "ليس إلى خلود" ضمير يرجع إلى "من"، يقول: إن تدركوني أيها الأعداء وقدرتم على قتلي فاقتلوني، فإن من أدركته منكم فليس له طريق إلى الخلود، أي: لا بقاء له ولا أخليه، بل أقتله. قوله: 0 جعل الإخراج من الوطن من الفتن)، فعلى هذا قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ) يحتمل أن يكون تذييلاً لقوله: (وَأَخْرِجُوهُمْ) أو لقوله: (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، ويجوز أن يكون تكميلاً لقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) إلى قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) إذا أريد بالفتنة عذاب الآخرة، كما قال: "لتجتمع لهم فتنة الدنيا والآخرة"، كقوله تعالى: (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [التوبة: 74]، وقوله: (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ) [طه: 127]. قوله: (ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم) عطف على قوله: "والشرك أعظم من القتل"، وأما قوله تعالى: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فتخصيص لقوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، وقوله: "إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم" ترخيص بعد تخصيص، يعني: إنما أمرتم

وقرئ: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم) جُعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. يقال: قتلتنا بنو فلان. وقال: فإن تقتلونا نقتلكم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك والقتال، كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38]. (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالإمساك عن مقاتلتهم تعظيماً لهتك حرمة الحرم، فإذاً لا تعزموا مقاتلتهم حتى يعزموا على مقاتلتكم، فإذا شرعوا فيها فلا تبالوا بقتالهم؛ لأنهم بدؤوا بهتك حرمة الحرم وسنوا سنة العدوان. قوله: (وقرئ: ولا تقتلوهم): حمزة والكسائي قرآ: 0 ولا تقتلوهم ... حتى يقتلوكم ... فإن قتلوكم) بغير ألف، من القتل، والباقون بالألف، من القتال. قال الزجاج: وجاز: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، وإن وقع القتل على بعض دون بعض، فإنه يقال: قتلت القوم، وإنما قتل بعضهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم. قوله: ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب)، هذا الاختصاص يعلم من اللام في (لِلهِ)، ولهذا فسر الفتنة بالشرك حيث قال: "فتنة، أي: شرك"؛ لأنه وقع مقابلاً له. قلت: والذي يقتضيه حسن النظم وإيقاع النكرة في سياق النفي أن تجرى (فِتْنَةٌ) على حقيقتها، لتستوعب جميع ما سمي فتنة، فيدخل فيها الشرك والقتال والحرب وجميع ما عليه مخالفو دين الإسلام، فيطابقه قوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)؛ لأن معناه: ويكون الدين كله لله كما جاء، فيكون تعميماً بعد تخصيص؛ لأن الفتنة حملت أولاً على الشرك، ولو أريد بها عين الفتنة السابقة لكان الواجب أن يجاء بها معرفة؛ لأن الشيء إذا أعيد أضمر أو كرر بعينه، وضعاً للمظهر

(فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) فلا تعدوا على المنتهين؛ لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع: على المنتهين؛ أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين؛ سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، كقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضع المضمر، وإن النكرة إذا أعيدت ولم يرد بها التكرار كانت غير الأول، بخلاف المعرفة، ولأن قوله: (فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ) يقتضي مفعولاً أعم مما اقتضاه قوله: (فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ لأن الشيء إذا كرر وجيء بالثاني أعم من الأول كان أحسن من العكس، لئلا يجيء الكلام مبتوراً. قوله: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) فلا تعدوا على المنتهين) يريد أن قوله: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) كناية إيمائية عن قولنا: "فلا تعدوا على المنتهين"، وذلك أن إثبات العدوان على الظالمين على سبيل الحصر في هذا المقام مفيد لنفي العدوان عن النمتهين. فقوله: "لأن مقاتلة المنتهين عدوان" تعليل لوضع (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع "المنتهين"، يعني: مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، ومقاتلة الظالمين، أي: غير المنتهين، حق وصواب، وأصل الكلام: فإن انتهوا عن الفتنة فلا تقاتلوهم، ثم فلا عدوان عليهم، ثم فلا عدوان على المنتهين، ثم كنى عن هذا المعنى بقوله: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)، فقول المصنف: "فوضع قوله: (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع على المنتهين" معناه: أن ماله يرجع إليه. قوله: (أو: فلا تظلموا) معطوف على قوله: "لا تعدوا" فعلى هذا: (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) قار في موضعه، لكن (فَلا عُدْوَانَ) وضع موضع "لا تقاتلوا، ولا تتعرضوا" على سبيل المشاكلة بحسب المعنى، ولهذا قال: "ولا تظلموا إلا الظالمين"، ومعنى الحصر على هذا: فإن انتهوا فلا تقاتلوهم، وقاتلوا غيرهم من المشركين الذين ليسوا بمنتهين، يعني: لابد لكم من

أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم. [(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)]. قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال؛ وذلك في ذى القعدة: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ)، أي: هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه؛ يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المقاتلة مع مخالفيكم، فإذا انتهى هؤلاء من المخالفة فاتركوهم وقاتلوا غيرهم، فوضع "لا تظلموا" موضع لا تقاتلوا للمشاكلة. والفرق بين هذا الوجه الأول هو أن قوله: "فلا عدوان" على الأول: كناية عن قوله: "فلا تقاتلوهم" على سبيل المبالغة، وعلى الثاني لمجرد التحسين في الكلام، وأن النهي عن العدوان على المنتهين على الأول مقصود دون ما يعطيه اللفظ من معنى العدوان على الغير بالحصر؛ لأن الكناية لا توجب إثبات التصريح كما تقول: فلان طويل النجاد، فإنه لا يوجب إثبات نجاد وطوله، وعلى الثاني نهي المقاتلة عنهم وإثباتها للغير مقصودان. قوله: (أو أريد: إنكم) وجه آخر، على تقدير أن الفاء في قوله: (فَلا عُدْوَانَ) جزاء شرط مقدر لا لهذا المذكور، يعني: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فإن انتهوا عن الفتنة فلا تتعرضوا لهم، فإنكم إن تعرضتم لهم كنتم ظالمين فإذا كنتم ظالمين فلا عدوان إلا عليكم، فوضع الظالمين موضع المضمر إشعاراً بالعلية، وقول المصنف: "فيسلط عليكم من يعدو عليكم" حاصل المعنى. قوله: (قاتلهم المشركون عام الحديبية). في هذه الرواية نظر؛ لأن عام الحديبية لم يكن فيه قتال، بل كان صد على ما روينا عن البخاري ومسلم. وقال محيي السنة: الآية نزلت في عمرة القضاء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبية،

(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي: وكل حرمةٍ يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي: حرمة كانت- اقتص منه؛ بأن تهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا، وأكد ذلك بقوله: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم، فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. [(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)]. الباء في (بِأَيْدِيكُمْ): مزيدة، مثلها في: أعطى بيده؛ للمنقاد، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكةً، وقيل: (بأيديكم) بأنفسكم. وقيل: تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصالحهم على أن ينصرف ويرجع في العام القابل فيقضي عمرته، فرجع صلى الله عليه وسلم في العام القابل وقضى عمرته، فذلك معنى قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ) يعني ذا القعدة الذي دخلتم مكة وقضيتم عمرتكم بالشهر الحرام، أي: ذا القعدة الذي صددتم فيه عن البيت، والصد كان في سنة ست من الهجرة، والقضاء في سنة سبع، فعلى هذا، معنى قوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ): أنهم لما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم في القابل، فإن منعوكم فاقتلوهم، لقوله تعالى: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) لأنه نتيجة لقوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ). قوله: (أعطى بيده؛ للمنقاد) أي: يقال لمن انقاد لأحد وأطاعه: أعطى بيده، كما يقال في ضده: نزع يده عن الطاعة. قوله: (والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم) بيان لطريق المجاز، أي: لا تجعلوا التهلكة مسلطاً عليكم فتأخذكم كما يأخذ المالك القاهر يد مملوكه، فسبيل هذا المجاز سبيل الاستعارة المكنية.

كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب لهلاكها، والمعنى: النهى عن ترك الإنفاق في سبيل اللَّه لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: النهي عن ترك الإنفاق ... أو عن الإسراف في النفقة)، فالآية على هذا تذييل لقوله: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله: (وَأَنفِقُوا) تكميل لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا)، وإنما احتملت الآية الضدين؛ لأن اليد تستعمل في الإعطاء والمنع بسطاً وقبضاً، قال الله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء: 29]. والإنفاق طرفان: الإفراط، وهو التبذير، والتفريط، وهو الإمساك، والقصد هو السخاء، فقوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يحتمل النهي عن الطرفين المذمومين، ومن ثم فسرها بهما. قوله: (أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو)، فعلى هذا الآية تذييل لقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، فكذا تحتمل الآية الضدين، فإن اليد تستعمل في القدرة قوة وضعفاً، ومن ثم فسر قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] بهما، أي: يعطوها إياكم صادرة عن يد استيلاء وقدرة وقوة لكم عليهم، أو: يعطوها إياكم صادرة عن انقياد وطاعة منكم. وللجراءة أيضاً طرفان: الإفراط وهو التهور، والتفريط وهو الجبن، والقصد هو الشجاعة والنهي في الآية يحتمل الطرفين المذمومين. ولله در المصنف ولطيف إشارته، والتفسير الأول أحسن وأولى لقوله تعالى بعده: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ولما ورد في "صحيح" البخاري عن حذيفة رضي الله عنه: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ): نزلت في النفقة.

وروي: أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصارى: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما أنزلت فينا، صحبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنصرناه وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها؛ فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وحكى أبو علي في "الحلبيات" عن أبي عبيدة: التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال: فدلّ هذا من قول أبى عبيدة على أن التهلكة مصدر، ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم: التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان: التنضبة والتنفلة. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة، كالتجربة والتبصرة ونحوهما؛ ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن الاستقتال)، الأساس: استقتل فلان: استسلم للقتل، كما يقال: استمات. قوله: (فقال أبو أيوب الأنصاري)، الحديث رواه الترمذي وأبو داود، عن أسلم أبي عمران مع اختلاف في ألفاظه. قوله: (في الحلبيات)، وهو كتاب صنفه أبو علي الفارسي في حلب. قوله: (التضرة)، يقال: لا ضرر ولا ضارورة ولا تضرة، والتنضبة: شجرة، والتنفلة: ولد الثعلب. وقال الزجاج: التهلكة: معناه الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكاً وهلكة وتهلكة.

على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار. [(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)]. (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه اللَّه من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال: ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما جاء الجوار في الجوار)، الجوهري: جاورته مجاورة وجُواراً وجِواراً، والكسر أفصح. قوله: (تأمين كاملين بمناسكهما). اعلم أن إتمام العبادات إما أن يكون من حيث الصورة، وهي أن يجاء بها على وجه يسقط عن مؤديها قضاؤها ظاهراً، وإما أن يكون من حيث الحقيقة، وهي أن تؤدى بحيث تكون مقبولة عند الله، بأن تكون تامة كاملة بأركانها وشرائطها وهيئتها وسننها، وتكون غير مشوبة بشيء من الرياء، وهذا الذي عناه سيدنا صلوات الله عليه بقوله: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، بعد بيانه الإيمان والإسلام، وغليه أومى المصنف بقوله: "لوجه الله من غير توان ولا نقصان"، فالإحسان في العبادات والمعاملات هو الفضل والإفضال في جميع الأحوال، وهو الزيادة على العدل، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90]، فالعدل هو أداء الواجب، والإحسان: الإتمام والإفضال، ويؤيد هذا التأويل قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، أي: لوجه الله، ثم عطفه على قوله: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) عطف الخاص على العام على سبيل الاستطراد.

تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا ... عَلى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. وقيل: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك. روي ذلك عن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضى اللَّه عنهم. وقيل: أن تفرد لكل واحد منها سفراًً، كما قال محمد رحمه الله: حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل. وقيل: أن تكون النفقة حلالاً. وقيل: أن تخلصوهما للعبادة، ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية. فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين؛ فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تمام الحج) البيت، خرقاء: محبوبة ذي الرمة، واضعة اللثام، أي: مسفرة نقل عن بعض السلف الصالحين أنه حج، فلما قضى نسكه قال لصاحبه: هلم نتمم حجنا، ألم تسمع قول ذي الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا؟ البيت، وحقيقة ما قال هو أنه لما قطع البوادي حتى وصل إلى حرم الله، ينبغي أن يقطع أهواء النفس ويخرق حجب القلب حتى يصل إلى مقام المشاهدة ويبصر آثار كرمه قبل الرجوع عن حرمه. قوله: (أن تحرم بهما من دويرة أهلك)، هذا إنما يصح إذا أمكن المسير من الدار في أشهر الحج، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، وأما إذا لم يمكن ذلك فلا؛ لأن من بعدت داره من مكة بحيث يحتاج إلى الخروج في رمضان مثلاً كيف يحرم منها؟ قوله: (فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً)، قال صاحب "الفرائد": الإتمام لوجه الله

إلا أن تقول: الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما؛ بدليل قراءة من قرأ: (وأقيموا الحج والعمرة) والأمر للوجوب في أصله، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب، كما دلّ في قوله: (فَاصْطادُوا) [المائدة: 2]، (فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب: 53]، ونحو ذلك، فيقال لك: فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب، وهو ما روي أنه قيل: يا رسول اللَّه، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: «لا، ولكن أن تعتمر خير لك»، وعنه: «الحج جهاد والعمرة تطوّع». فإن قلت: فقد روي عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج. وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنّ رجلا قال له: إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واجب في الفرض والتطوع؛ لأن الإخلاص واجب في كل عبادة، سواء كانت فرضاً أو تطوعاً، ولا يلزم من ذلك وجوب الأداء، فعلى هذا من شرع في الحج والعمرة وجب عليه إتمامهما. قوله: (الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما) بناءً على أن مقدمة الواجب واجب، قال الإمام: هذا الاحتمال أولى من الأول لما يلزم منه الإجمال، وهو خلاف الأصل مع أن وجوب الإتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً فهو واجب. قال محيي السنة: المعنى: وابتدئوه فأتموه. وقال الإمام: والقول بإيجاب العمرة أقرب إلى الاحتياط، وقلت: أما الحديث المروي عن أحمد بن حنبل والترمذي، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: العمرة واجبة هي؟ قال: "لا، وان تعتمروا هو أفضل"، فمعارض بروايته أيضاً عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عليّ أهللت بهما جميعاً. فقال: هديت لسنة نبيك. وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام، فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت: كونها قرينةً للحج أنّ القارن يقرن بينهما، وأنهما يقترنان في الذكر، فيقال: حجّ فلان واعتمر، والحجاج والعمار، ولأنها الحجّ الأصغر، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب، وأمّا حديث عمر رضى اللَّه عنه، فقد فسر الرجل ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد"، رواه أحمد ابن حنبل وابن ماجة، عن عمر رضي الله عنه، أما حديث ابن عباس رضي الله عنه، فالصحيح ما روى البخاري تعليقاً، عن ابن عباس: "إنها لقرينتها في كتاب الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) "، ومذهبهما أنها واجبة، وما رواه أيضاً عن ابن عمر: "ما من أحد إلا وعليه حجة وعمرة".

كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه، كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة. والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب؛ فبقي الحجّ وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوّال، في أنك تأمره بفرض وتطوّع. وقرأ عليّ وابن مسعود والشعبي رضي اللَّه عنهم: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما)، يعني قوله: اهللت بهما جميعاً استئناف لبيان الموجب. المعنى وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما جميعاً، فسبب كونهما مكتوبين علي إهلالي بهما، فالوجوب إنما يكون للشروع فيهما لا للأمر. وقال القاضي: إنه رتب الإهلال على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس، يعني: إنما أهللت بهما لأني وجدتهما مكتوبين علي. وقلت: فعلى هذا الفاء مقدرة، ويوافقه جواب عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك، أي: طريقته، لأن كون الشروع في الشيء موجباً للإتمام لا يقال فيه: إنها طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقال ذلك في أداء المناسك والعبادات. قوله: (والدليل الذي ذكرناه) يعني: ما روي: أنه قيل: يا رسول الله، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: "لا"، يعني: استدلالك بأنها قرينة للحج بحديث ابن عباس، وبأنها نظمت في الآية مع الحج لا يجديك مع ذلك النص، على أن الاقتران لا يدل على الوجوب، ودليلنا يلزه إلى التأويل ويوجب أن يقال: هو مثل قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، ويمكن أن

(والعمرة للَّه) بالرفع، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب. (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يقال: أُحصر فلانٌ، إذا منعه أمر من خوف أو مرضٍ أو عجز. قال اللَّه تعالى: (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة: 273]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: إن دليله معارض بما رويناه عن ابن مسعود كما سبق، والتأويل خلاف الظاهر، على أنه إنما يستقيم إذا قيل: إن صيغة افعل موضوعة للقدر المشترك، وهو ضعيف، لما ثبت أنها حقيقة في الوجوب مجاز في الباقي. قوله: (كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج)، يعني قطعوا العمرة عن حكم اشتراكها الحج في الإتمام وجعلوها مع الظرف جملة أخرى إخبارية مستقلة ليؤذن على اختلاف حكميهما. قوله: (كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج)، يعني قطعوا العمرة عن حكم اشتراكها الحج في الإتمام وجعلوها مع الظرف جملة أخرى إخبارية مستقلة ليؤذن على اختلاف حكميهما. وقلت: هذا القطع يشعر بشدة الاهتمام بشأنها؛ لأنهم غنما يعدلون من الإنشائية إلى الإخبارية للمبالغة، لاسيما وقد أتى بالجملة الاسمية وبلام الاختصاص، كأنه قيل: إذا شرعتم في الحج فأتموه، وأما العمرة فهي المختصة بالله ولا كلام في أدائها، ونحوه قولُه في قولِه تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197]، قرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب، حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار، كأنه قيل: ولاشك ولا خلاف في الحج، ونحوه من حيث المعنى ما روينا عن الشيخين وغيرهما، عن أبي هريرة: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به"، هذه المبالغة لدفع ما عسى يظن ظان التهاون فيه وتوهم عدم الوجوب.

وقال ابن ميادة: وَمَا هجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَليْكَ وَلَا أَنْ أحْصَرَتْكَ شَغُولُ وحُصر؛ إذا حبسه عدوّ عن المضيّ أو سجن، ومنه قيل للمحبس: الحصير، وللملك: الحصير؛ لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما هجر ليلى) البيت، يقول: ليس الهجر هو صدود الحبيبة وتباعدها لحاجة من جانبها أو منع وحبس من جانبك، وإنما الهجر: صدودها عن اختيار منها. قوله: (وللملك: الحصير)، وأنشد الراغب قول لبيد: ومقامة غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام أي: لدى باب سلطان، وتسميته بذلك إما لكونه محصوراً، أو محجوباً، وإما لكونه حاصراً، أي: مانعاً لمن أراد الوصول إليه، وإن الحصير سمي بذلك لحصر بعض طاقاته على بعض، والإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) محمول على الأمرين. قوله: (هذا هو الأكثر في كلامهم) والمشار إليه بلفظة "هذا" هو المذكور، يعني: ما ذكرت من الفرق أكثر استعمالاً من أن يكونا بمعنى واحد، ثم قال: "وهما- أي: أحصر وحصر- بمعنى المنع في كل شيء"، يعني: هما بمعنى واحد من غير تفرقة، "كقولهم: صده وأصده، وعليه قول الفراء وأبي عمرو وابي حنيفة رحمهم الله"، ويدل على هذا التأويل قول الزجاج:

مثل: صدّه وأصدّه، وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبى حنيفة رحمهم اللَّه تعالى: كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار، وعند مالك والشافعي: منع العدوّ وحده. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل». (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فما تيسر منه يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب والهدي: جمع هدية، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية عن أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو المرض من التصرف: قد أحصر فهو محصر، ويقال للذي حبس: قد حصر فهو محصور، وقال الفراء: لو قيل للذي منعه المرض والخوف: قد حصر، لأنه بمنزلة الذي حبس: لجاز، ولو قيل للذي حبس: أحصر، لجاز، كأنه يجعل حابسه بمنزلة المرض والخوف الذي منعه من التصرف، والحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض: أحصر، وللمحبوس: حصر. قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل")، الحديث رواه أبو داود والترمذي عن الحجاج بن عمرو، وضعفه محيي السنة في "المصابيح". في "النهاية": يقال: عرج يعرج عرجاً: إذا غمز من شيء أصابه، وعرج بالكسر، يعرج عرجاً: إذا صار أعرج أو كان خلقة فيه. وفي "المستظهري": يعني: من حدث له بعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإحرام مانع غير إحصار العدو، وعجز عن إتمام الحج كالمرض وغيره، يجوز له أن يترك الإحرام ويرجع إلى وطنه ليجيء في سنة أخرى بعد زوال العذر، ويقضي حجه، كالمحصر، هذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يجوز الخروج من الإحرام بغير عذر الإحصار، بل يصبر على الإحرام، فإن زال العذر قبل فوات الحج فهو المراد، وإن زال بعد فواته لزمه أن يخرج من الإحرام بأفعال العمرة، وظاهر قول القاضي أن له أن يخرج من الإحرام إذا اشترط الإحلال، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على ضباعة بنت الزبير: "لعلك أردت الحج؟ "، قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال لها: "حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني"، رواه البخاري ومسلم والنسائي، عن عائشة، وفي رواية الترمذي وأبي داود، عن ابن عباس: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أريد الحج، أفأشترط؟ قال: "نعم"، قالت: كيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، محلي من الأرض حيث تحبسني". قال في "المستظهري": الحديث يدل على أنه يجوز لكل محرم أن يشترط الخروج من الإحرام بعذر يعترضه، وهو قول أحمد وأحد قولي الشافعي، وقال غيرهما: لا يجوز له أن

كما يقال في جدية السرج: جدي. وقرئ (من الهديّ) بالتشديد، جمع هدية، كمطية ومطيّ، يعني: فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرةٍ فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدي؛ من بعيرٍ أو بقرةٍ أو شاة. فإن قلت: أين ومتى ينحر هدي المحصر؟ قلت: إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء عند أبى حنيفة؛ يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمارٍ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يخرج، روى الترمذي: أن ابن عمر كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم؟ وزاد النسائي: إنه لم يشترط، فإن حبس أحدكم حابس فليأت البيت فليطف به وبين الصفا والمروة ثم ليحلق أو ليقصر ثم يحلل، وعليه الحج من قابل. قوله: (جدية السرج) هو بالدال المهملة، الجوهري: الجدية بتسكين الدال: شيء محشو تحت دفتي السرج والرحل، وهما جديتان، والجمع جدىً. قوله: (للمبعوث على يده)، الضمير في يده: راجع إلى اللام في المبعوث؛ لأنها موصولة، والجار والمجرور: مفعول للمبعوث أقيم مقام الفاعل. قوله: (يوم أمار) أي: يقول للمبعوث على يده: انحر يوم كذا، فإذا جاء ذلك اليوم وغلب على ظنه أنه نحر يتحلل، النهاية: وفي حديث ابن مسعود: "ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار"، الأمار والأمارة: العلامة، وقيل: الأمار: جمع الأمارة، المعنى: أن من أحصر لمرض أو عذر فعليه أن يبعث بهدي ويواعد الحامل يوماً بعينه يذبحها فيه، فإذا ذبحت تحلل.

وعندهما في أيام النحر، وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقتٍ عندهم جميعاً، «ما استيسر» رفع بالابتداء، أي: فعليه ما استيسر، أو نُصب على: فاهدوا ما استيسر. (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) الخطاب للمحصرين، أي: لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ (مَحِلَّهُ)، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين: وقت وجوب قضائه، وهو ظاهر على مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه. فإن قلت: فإنّ النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم نحر هديه حيث أحصر. قلت: كان محصره طرف الحديبية ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعندهما) أي: عند مالك والشافعي، وقيل: عند محمد وأبي يوسف، فهما لم يخالفا في المكان وخالفا في الزمان، يعني: مع أبي حنيفة رضي الله عنه، وفي "صحيح البخاري": قال مالك رضي الله عنه وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً أن يقضوا شيئاً ولا يعودوا له، والحديبية خارج من الحرم. قوله: (ومحل الدين وقت وجوب قضائه) يعني: لفظ الحل مشترك يطلق على المكان والزمان، والذي عليه الكلام ها هنا المكان، لأن المراد: لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب نحره فيه، وهو المراد من قوله: "وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله". قال الإمام: قالت الحنفية: إن المحل، بالكسر هنا: عبارة عن المكان؛ لأن قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدل على أنه الآن غير بالغ إلى مكان حله، ولو جعل للزمان لكان بالغاً محله في الحال، وهو أن يذبح متى أحصر، ثم قال: هب أن المحل يحتمل المكان والزمان، إلا أنه تعالى أزال الاحتمال بقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33]، وبقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95]، والمراد به الحرم؛ لأن البيت عينه لا تراق فيه الدماء، وأما حجة الشافعي رحمه الله فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، ولأن المحصر سواء كان في الحل أو الحرم مأمور بنحر الهدي، وأول درجات المكلف أن يكون له التمكن من الفعل المأمور به، ولأنه تعالى إنما شرع التحلل للمحصر ليتخلص من الخوف في الحال، ولو فرض ضرب يوم أمار لطالت عليه المدة، لاسيما إذا أحصر بعيداً من الحرم، وفات المقصود من شرعية هذا الحكم، ولأن الموصل إلى الحرم هو الخائف، فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف وربما لم يجد الغير ليبعثه فيتأثم لذلك. وقلت: والذي يقوى به مذهب الإمام قوله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) أي: تيسر، كما تقول: استعظم واستصعب، في: تعظم وتصعب، فإذا كان الله عز وجل بنى أمر الهدي نفسه على السهولة والتيسير، كيف يشدد في محله وموضع نحره؟ ولا ارتياب أن أمر المرض وأذى الرأس أيسر من الإحصار، وقد بني الأمر فيهما على التخيير والسعة، حيث قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) إيذاناً بأن الأمر على التساهل وعدم الحرج. والحاصل: أن المحل في قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) مجمل؛ لأنه مشترك في الزمان والمكان، والقرينة المبينة للمكان: بلوغ الهدي، باعتبار قوله: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وللزمان: فعل النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بالتيسير، والثاني أولى؛ لأن قوله: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) نازل في أمر غير الإحصار، وأما تأويل الآية فهو أن قوله: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حكم مستقل، والجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، المعنى: شرعية الإحصار: وجوب ما استيسر من الهدي، وشرعية الحلق: بلوغ الهدي محله، أي: وقت حله أو مكان حله، وهو ما عينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه حلق حيث أحصر.

الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم، وعن الزهري: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي: طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق، (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ) وهو القمل أو الجراحة، فعليه إذا احتلق فدية مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ) على ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ من برّ، (أَوْ نُسُكٍ) وهو شاة. وعن كعب بن عجرة أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال له: «لعلك أذاك هوامّك». قال: نعم يا رسول اللَّه. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة». وكان كعبٌ يقول: فيّ نزلت هذه الآية. وروي: أنه مرّ به وقد قرح رأسه فقال: «كفى بهذا أذى»، وأمره أن يحلق ويطعم، أو يصوم. والنسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك بالتخفيف. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار، يعني: فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو من الحرم)، وفي النهاية: الحديبية: قرية قريبة من مكة، سميت ببئر هناك، وهي مخففة الياء، وكثير من المحدثين يشددونها. وقد روينا في "صحيح البخاري" أن الحديبية خارجة من الحرم. قوله: (وعن كعب بن عجرة)، الحديث رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مغفل مع تغيير يسير. قوله: (وكنتم في حال أمن وسعة) بيان لقوله: "لم تحصروا"، هذا مبني على أن المراد بالإحصار: المنع من خوف أو مرض أو عجز. قال القاضي: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) المراد منه حصر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العدو عند مالك والشافعي، لقوله: (فَإِذَا أَمِنتُمْ)، ولنزوله في الحديبية. قلت: لأن لفظ الأمن أكثر ما يستعمل حقيقة فيما يقابل الخوف. الأساس: هؤلاء قوم مستأمنة، ويقول الأمير للخائف: لك الأمان، إني قد أمنتك، ويقال: ويأمنه الناس ولا يخافون غائلته. وأما قضية النظم، فإنه تعالى ابتدأ بإتمام الحج والعمرة، ثم جاء بقوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) وقوله: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ) تفصيلاً لبيان المانع من الإتمام، ورتب على كل منهما ما يجبر به النقصان من قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ)، والمعنى: وأتموا الحج والعمرة، أي: ائتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، فإن منعكم العدو بأن لم تتمكنوا على شيء من ذلك، فجبرانه ما استيسر من الهدي، وإن لم يمنعكم وأنتم في حال أمن منهم ولكن أردتم تمتع ميقات فجبرانه ما استيسر من الهدي، وإنما أوثر "إذا" في جانب الأمن على "إن" ليؤذن أن ذلك الإحصار، أعني يوم الحديبية، لا اعتبار له، وأن أغلب أحوالكم بعد ذلك الأمن والغلبة والتمتع كيف شئتم، هذا هو النظم السري، وقد ظهر من هذا التقرير أن خوف العدو من الإحصار والأمن منه، الغالب أن يختص بالآفاقي، وأن المشار إليه بقوله: (ذَلِكَ) في قوله: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إذا كان هو الحكم الذي هو وجوب الهدي، والصيام كان أولى مما إذا قيل: المشار إليه هو التمتع، لما يعلم من الأول مسألة زائدة، ومن الثاني يلزم التكرار، فعلم من هذه الإشارة مسألة عدم لزوم الهدي وبذله على أهل الحرم إذا كان متمتعاً على سبيل الإدماج، كما علم من قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مسألة لزوم الكفارة على المريض والمتأذي من الرأس على سبيل الاستطراد، ليجتمع في الآية عدة مسائل في كفارة الحج.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ) أي: استمتع (بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)، واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج: انتفاعه بالتقرّب بها إلى اللَّه تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل: إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم بالحج. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): هو هدي المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة، ويأكل منه، وعند الشافعي يجرى مجرى الجنايات، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عندنا، وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي فعليه: صِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أي: في وقته؛ وهو أشهره ما بين الإحرامين: إحرام العمرة وإحرام الحج، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه، والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم، وعند الشافعي: لا يصام إلا بعد الإحرام بالحج؛ تمسكاً بظاهر قوله: (فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بحجته) بكسر الحاء. الجوهري: والحج بالكسر: الاسم والحجة بالكسر: المرة الواحدة، وهو من الشواذ، لأن القياس بالفتح. قوله: (يوم التروية)، النهاية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي: يستقون ويسقون. وفي المغرب: روأت في الأمر تروية: فكرت فيه ونظرت، ومنه: يوم التروية للثامن من عشر ذي الحجة، وأصلها الهمز، وأخذها من الرؤية خطأ، ومن الري منظور فيه، وعن محيي السنة: سمي به لأن إبراهيم عليه السلام تفكر فيه في الرؤيا التي رآها، وفي التاسع عرف فسمي لذلك عرفة. قوله: (تمسكاً بظاهر قوله: (فِي الحَجِّ))، أي: في حال أنكم مشتغلون بأعمال الحج؛ لأن الحج في الأصل: القصد، ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك، قاله الجوهري.

بمعنى: إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: هو الرجوع إلى أهاليهم. وقرأ ابن أبى عبلة: (وسبعة) بالنصب عطفاً على محل (ثلاثة أيام)، وكأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله: (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد: 14 - 15]. فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت؛ نفياً لتوهم الإباحة، وأيضاً: ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً؛ ليحاط به، ومن جهتين، فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب: علمان خيرٌ من علم. وكذلك (كامِلَةٌ) تأكيد آخر، وفيه زيادة ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفذلكة) قيل: الفذلكة في الحساب: الإجمال بعد التفصيل، وذلك بأن يذكر تفاصيله ثم يجمل ويكتب في مؤخره: فذلك كذا وكذا، ومنه قول حاتم: فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما قوله: (لتوهم الإباحة) كما توهم في قوله: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 2]، قال: ثلاث واثنتان فهي خمس ويحتمل أنه لإزالة أن السبعة مع الثلاثة كقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت: 9]، أي: مع اللذين تقدما فيه في قوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ). قوله: (علمان خير من علم). قال الميداني: وأصله أن رجلاً وابنه سلكا طريقاً، فقال الرجل: يا بني استبحث لنا عن الطريق، قال: إني عالم، قال: يا بني، علمان خير من علم، يضرب في مدح المشاورة والبحث.

توصية بصيامها، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلٍ: اللَّه اللَّه لا تقصر! وقيل: (كاملة) في وقوعها بدلاً من الهدي. وفي قراءة أبىّ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع، عند أبى حنيفة وأصحابه؛ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه، وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند الشافعي: إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: (كَامِلَةٌ) في وقوعها) عطف على قوله: (كَامِلَةٌ): تأكيد آخر"، قال القاضي: (كَامِلَةٌ): صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدة، أو مبينة كمال العشرة، فإنه أول عدد كامل، إذ به ينتهي الآحاد وتتم مراتبها، أو مقيدة تفيد كمال بدليتها من الهدي، المعنى: لا تفاوت في الثواب بكل واحد منهما من البدل والمبدل منه. الراغب: كمال الشيء: حصول ما فيه الغرض منه، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233] تنبيهاً أن ذلك غاية ما يتعلق به صلاح الولد، وقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، قيل: إنما وصف العشرة بالكاملة لا ليعلمنا أن السبعة والثلاثة عشرة، بل ليبين أن بحصول صيام العشرة يحصل كما الصوم القائم مقام الهدي. قوله: (لا متعة) جملة مستأنفة مبينة لقوله: " (ذَلِكَ) إشارة على التمتع عند أبي حنيفة"، كأن قائلاً قال: إذا كان إشارة إلى ذلك فما حكم حاضري المسجد؟ قيل: لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عملاً بالمفهوم.

ولم يوجب عليهم شيئاً. وحاضرو المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبى حنيفة، وعنده أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في المحافظة على حدوده، وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف؛ ليكون علمكم بشدّة عقابه لطفاً لكم في التقوى. [(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يوجب عليهم شيئاً)، أي: على حاضري المسجد الحرام إذا قرنوا أو تمتعوا. قال الشافعي: (ذَلِكَ) إشارة إلى الأقرب وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع، وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقياً؛ لأن الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا عن الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجعل مجبوراً بهذا الدم، والمكي لا يجب إحرامه عن الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، قاله الإمام. قوله: (لا تقصر فيها) في نسخة المعزي، و"تقصر" بغير "لا" في نسخة الصمصام، والأول موافق لمذهب الشافعي؛ لأن كل من مسكنه دون مسافة القصر حوالي مكة فهو من الحاضرين. قوله: (لطفاً لكم في التقوى). كل ما يزجر عن المعصية أو يدعو إلى الطاعة هو لطف في مذهبه.

أي: وقت الحج (أَشْهُرٌ)، كقولك: البرد شهران. والأشهر المعلومات: شوالٌ وذو القعدة وعشر ذى الحجة عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: تسع ذى الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالكٍ ذى الحجة كله. فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضاً عند الشافعي في غيرها، وعند أبى حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه. فإن قلت: فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهراً؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد. بدليل قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم: 4]، فلا سؤال فيه إذن وإنما كان يكون ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أنه مكروه)؛ لأنه يمتد مكثه، فربما يضطر إلى محظورات الإحرام، قال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت؛ لأنه يتضرر به، لأنها أقصر الأوقات التي ينبغي للإنسان أن لا يتقدمها في عقد فرض الحج. قوله: (اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد)، أي: الاسم الذي هو جمع، لئلا يدخل فيه نحو: القوم، قال صاحب "الفرائد": جعل الجمع مشتركاً على خلاف النقل والعقل، ولو كان كما قال لما توقف إطلاق الجمع في نحو هذا على كون المضاف متصلاً، ولجاز غلمانهما كما جاز قلوبكما، والجواب عن قوله: خلاف النقل والعقل، أن محيي السنة ذكر في "تفسيره": قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة، لأن معنى الجمع: ضم شيء إلى شيء، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث بلفظ الجمع. وقال ابن الحاجب: واختلف العلماء في أقل ما يطلق على أبنية الجمع على مذاهب، أحدها: اثنان بطريق الحقيقة، وثانيها: الثلاثة بالحقيقة والاثنان بالمجاز قطعاً، وثالثها: الثلاثة بالحقيقة ويصح إطلاقه على الاثنين مجازاً فيقال: من قال: إن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة حقيقة يلزمه القول بالاشتراك ضرورة، وأما توقف إطلاق الجمع على كون المضاف متصلاً بشرط

موضعاً للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات. وقيل: نزّل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنما رآه في ساعةٍ منها. فإن قلت: ما وجه مذهب مالك وهو مرويّ عن عروة بن الزبير؟ قلت: قالوا: وجهه أنّ العمرة غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر فكأنها مخلصة للحج .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القائلين إن أقل الجمع ثلاثة، على أن المصنف ترك الآية على المذهبين على سبيل الحكاية، لأن قوله: "وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله"، مبني على أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة وما دونها مجاز، وهذا هو الجواب أيضاً عما لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات، لأن هذا محصور بالعدد فلا يكون الاثنان وبعض الثالث ثلاثة إلا بالمجاز. قوله: (ما وجه مذهب مالك؟ ) أي: إن أشهر الحج عنده إلى آخر ذي الحجة، وفائدة التسمية بأشهر الحج أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، وقد فرغ من أعمال الحج إلى العشر من ذي الحجة، فلم سمي به؟ والجواب من وجهين: أحدهما: فائدة التسمية اختصاصها بأعمال الحج دون العمرة، فيكون علة التسمية الاختصاص لا الأعمال وإن وقعت فيها، وثانيهما: قوله: "وقالوا: لعل من مذهب عروة" إلى آخره، أي: لا نسلم أن أفعال الحج لا تصح بعد العشر، فإن مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، وقيل: إن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج وهو رمي الجمار، والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لابد منه إلى انقضاء أيام العشر، وضعفهما الإمام بأن الرمي يقع فيها بعد التحلل وهو الخروج بالحلق والطواف والنحر، فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض تطوف قضاءً لا أداء. وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن التحلل هو: الخروج عن محظور الإحرام لا عن الحج، فالرمي نسك من أعمال الحج وإن وقع بعد التحلل، بل يضعفه من حيث إن الرمي وإن

لا مجال فيها للعمرة. وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يخفق الناس بالدّرة، وينهاهم عن الاعتمار فيهنّ. وعن عمر رضى اللَّه عنه قال لرجل: إن أطعتنى انتظرت حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. وقالوا: لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. (مَعْلُوماتٌ): معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه: أنّ الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء مقرّرا له. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ): فمن ألزمه نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه عند أبى حنيفة، وعند الشافعي - رضي الله عنهما- بالنية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقع في أيام النحر فلا يتجاوزها، فلا يكون كل الشهر حينئذ للحج وإنه المطلوب في هذا التوجيه، ولقائل أن يقول: فإذن لا يصح قولهم: إن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها مع قولك بأن الرمي من أفعال الحج ويقع في أيام النحر، فالقول ما قاله الإمام، لأن الرمي يجبر بالدم فلا يكون كسائر الأركان. الانتصاف: هذا الذي ذكره الزمخشري أحد قولي مالك، وليس بالمشهور عنه، والحجة له حمل لفظ الشهر على الحقيقة، وأما احتجاج الزمخشري له بكراهة عمر رضي الله عنه وابنه الاعتمار إلى أن يهل المحرم، فلا وجه له؛ لأنه يقول: لا تنعقد العمرة في أيام منى لمن حج ما لم يتم الرمي ويحل بالإفاضة، ولا تظهر فائدة الخلاف عند مالك إلا في سقوط الدم عن مؤخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة كما هو مذهب عروة. قوله: (يخفق ... بالدرة)، أي: يضرب. النهاية: المخفقة: الدرة، من الخفق: الضرب. قوله: (وعند الشافعي: بالنية)، قال القاضي: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن، وهو ما ذهب إليه الشافعي وأن من احرم بالحج لزمه الإتمام.

(فَلا رَفَثَ): فلا جماع؛ لأنه يفسده، أو: فلا فحش من الكلام، (وَلا فُسُوقَ): ولا خروج عن حدود الشريعة. وقيل: هو السباب والتنابز بالألقاب، (وَلا جِدالَ): ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال؛ لأنه مع الحج أسمج؛ كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا جماع، أو: فلا فحش)، الأول: كناية، والثاني: حقيقة، في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]، وأما حمل الفسوق على السباب والتنابز فمن قوله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) [الحجرات: 11]. قوله: (والتطريب في قراءة القرآن)، يعني: مثل ما يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ في المجالس من الألحان الأعجمية، قاله صاحب "جامع الأصول"، وأما تحسين القراءة ومدها فهو مندوب إليه، روينا عن أبي داود، والدارمي، والنسائي، وابن ماجة، عن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم"، وفي رواية للدارمي: "حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً"، وعن أبي داود، عن أبي لبابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع.

والمراد بالنفي: وجوب انتفائها، وأنها حقيقةً بأن لا تكون. وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأوّلين على معنى النهى؛ كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق؛ والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج؛ وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب)، أي: بالفتح. قوله: (وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع) إلى آخره، وقرأ غيرهما بالفتح فيهن. قوله: (كأنه قيل: ولاشك ولا خلاف في الحج)، قال الإمام: فائدة العدول من النهي إلى النفي هو أن النفي يدل على نفي الماهية، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً، وهو أدل على عموم النفي من الرفع، فدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي أخويه، وذلك أن المجادل لا ينقاد للحق فيؤدي إلى الإيذاء المؤدي إلى العداوة فيقع في كل فسق وباطل، ثم نقل ما ذكره المصنف وقال: ليس فيه بيان أنه لم خص الأولين بالنهي والثالث بالنفي؟ . وقلت: كفى بقوله: "فلا يكونن رفث ولا فسوق"، وقوله: "ولا شك ولا خلاف في الحج" بياناً، وتقريره: أن قوله: "فلا يكونن رفث ولا فسوق" مبني على الكناية، نحو قولك: لا أرينك ها هنا، فيدل على شدة الاهتمام بشأن المنهيين، أي: ينبغي أن لا يوجدا ولا ينشآ،

وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرّد إلى وقتٍ واحد، وردّ الوقوف إلى عرفة، فأخبر اللَّه تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنهما ينافيان النسك ويضادانه، وأن قوله: "قد أخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف" إخبار عن الكائن، يعني: كانوا ينسئون في الحج، وبسببه يقع الشك والخلاف في الحج، والآن قد ارتفع الخلاف بظهور الحق، فوافقه معنى ما روينا عن الشيخين، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً ... " الحديث، فاقتضى الأمران الأولان لذلك النهي، والأخير الإخبار. قوله: (وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء). الجوهري: النسيء: فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا من منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهراً، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها؛ لأن معاشهم كان من الغارة، فيحل لهم المحرم. وقال غيره: كان أهل الجاهلية ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى آخر، ويجعلون الشهر الذي أنسئوا فيه ملغى، فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، ويتركون العام الثاني على ما كان عليه الأول سوى أن الشهر الملغى في الأول لا يكون في العام الثاني، ثم يصنعون في العام الثالث صنيعهم في الأول، ويتركون الرابع على ما تركوا عليه العام الثاني، وعلى هذا تمام الدورن فيستدير حجهم في كل خمس وعشرين سنة إلى الشهر الذي بدأ منه، ولهذا تخبط عليهم حساب السنة، وكانت السنة التي حج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي كان الحج فيها في ذي الحجة، ذكره التوربشتي في "شرحه"، وسيجيء رواية "شرح السنة" في "براءة". وقول المصنف: "يقدمون الحج سنة ويؤخرون سنة" محمول على ما ذكرنا، لأن في بعض هذه الأحوال يقع قبل ذي الحجة، وفي بعضها بعدها.

واستدلّ على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه»، وأنه لم يذكر الجدال. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة، أو جُعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من حج فلم يرفث ولم يفسق) الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم، وغيرهما. ونقل محيي السنة، عن ابن عباس وابن مسعود: الجدال أن يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه، وهو قول جمع كثير من المفسرين، وقيل: هو ما كان عليه أهل الجاهلية، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة، وكل يقول: ما فعلته هو الصواب، فقال جل ذكره: (وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) أي: استقر أمر الحج على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الزمان .. " الحديث، وقال مجاهد: معناه: ولاشك في الحج أنه في ذي الحجة، فأبطل النسيء. قوله: (وأن يستعملوا) عطف على قوله: "الخير عقيب النهي" على سبيل البيان، وقوله: (أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم): عطف على قوله: "حث على الخير" يريد أن "خيراً" في قوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) مطلق يتناول كل ما سمي خيراً، وعلى الأول بعيد لقرينة الكلام السابق بما يضاد المذكورات، وإليه الإشارة بقوله: "وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن" إلى آخره، وعلى الثاني مقيد بقرينة الكلام اللاحق بما ينبئ عن التقوى، وهو ضبط النفس عن كل ما نهوا عنه، وموقعه- على الأول إذا حمل (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) على معنى النهي، وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) على معنى الأمر- موقع التأكيد على الطرد والعكس؛ لأنهما متقابلان بناءً على أن النهي عن الشيء أمر بضده وعكسه،

وينصره قوله تعالى: " وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي: اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإنّ خير الزاد اتقاؤها. وقيل: كان أهل اليمن لا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، ونحن نحج بيت اللَّه أفلا يطعمنا فيكونون كلًّا على الناس، فنزلت فيهم. ومعناه: وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم، فإن خير الزاد التقوى. (وَاتَّقُونِ): وخافوا عقابي. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني: أن قضية اللب تقوى اللَّه ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الثاني موقع التذييل، وموقع (وَتَزَوَّدُوا) على الثاني- مع قوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) - موقع التفسير. قوله: (وقيل: كان أهل اليمن) عطف على قوله: "وينصره"، والحديث من رواية البخاري وأبي داود، عن ابن عباس: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى (وَتَزَوَّدُوا). قوله: (يعني: أن قضية اللب تقوى الله)، هذا المعنى يفيده توجيه الخطاب بتخصيص ذكر اللب، وإلا كان يكفي (وَاتَّقُونِ). الراغب: اللب أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء الإنسان، كلب الشيء إلى القشور، وباعتباره قيل لضعيف العقل: يراعة، وقصبة، ومنخوب، وخاوي الصدر. قال القاضي: حثهم على التقوى مطلقاً ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ عن كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى، فلذلك خص أولي الألباب

[(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)]. (فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء منه وتفضلاً، وهو النفع والربح بالتجارة. وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة: الداجّ، ويقولون: هؤلاء الداج ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالخطاب. الراغب: قال أبو مطيع البلخي لحاتم الأصم: بلغني أنك تجوب البادية بلا زاد، فقال: بل أجوبها بالزاد، وزادي أربعة أشياء: أرى الدنيا بحذافيرها لله، والخلق كلهم عبيداً له، وأرى الأشياء كلها بيده، وأرى قضاءه نافذاً في الأرض، فقال: نعم الزاد زادك يا حاتم، تجوب به مفاوز الآخرة. قوله: (هؤلاء الداج)، النهاية: في حديث ابن عمر: "أنه رأى قوماً في الحج لهم هيئة أنكرها،

وليسوا بالحاج. وقيل: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة. وعن ابن عمر رضى اللَّه عنه: أن رجلاً قال له: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا. فقال: سأل رجل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عما سألت، فلم يردّ عليه حتى نزل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)، فدعا به فقال: "أنتم حجاج". وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟ ! وقرأ ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (فضلاً من ربكم في مواسم الحج). (إن تبتغوا): في أن تبتغوا. (أَفَضْتُمْ): دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء، وهو صبه بكثرة، وأصله: أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول كما ترك في: دفعوا من موضع كذا وصبوا. وفي حديث أبي بكر رضى اللَّه عنه: صب في دقران وهو يخرش بعيره بمحجنه. ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج". الداج: أتباع الحاج كالخدام والأجراء والجمالين؛ لأنهم يدجون على الأرض أي: يدبون ويسعون في الأرض في السير، وهذان اللفظان وإن كانا مفردين فالمراد بهما الجمع، كقوله تعالى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون: 67]. قوله: (دفعوا من موضع كذا)، النهاية: دفع من عرفات، أي: ابتدأ السير ودفع نفسه منها ونحاها، أو: دفع ناقته: حملها على السير. قوله: (صب في دقران)، النهاية: ذلك عند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر صب في دقران، مضى فيه منحدراً ودافعاً، وهو موضع عند بدر، ومنه حديث الطواف: "حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي"، أي: انحدرت في المسعى. المغرب: فلما انصبت قدماه في الوادي، أي: استقرتا،

ويقال: أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه. وعَرَفاتٌ: علم للموقف سمى بجمع كأذرعات. فإن قلت: هلا مُنعت الصرف وفيها السبيان: التعريف والتأنيث! قلت: لا يخلو من التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرةٍ كما في: سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا يقدر تاء التأنيث في "بنت"؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث؛ فأبت تقديرها. وقالوا: سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام، فلما أبصرها عرفها. وقيل: إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستعار من انصباب الماء. النهاية: وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "أنه أفاض وهو يحرش بعيره بمحجنه"، أي: يضربه ثم يجذبه إليه، يريد تحريكه للإسراع وهي شبيهة بالخدش، والمحجن: عصاً معقفة الرأس كالصولجان، والميم زائدة. قوله: (وهضبوا فيه)، الأساس: ومن المجاز: هضبوا في الأحاديث وأفاضوا: خاضوا فيها، وهو يهضب بالشعر والخطب: يسح سحاً. قوله: (وعرفات: علم للموقف) سمي بجمع كأذرعات. قال الجوهري: وهو اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، قال الأخفش: إنما صرفت لأن التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون؛ لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة النون، فلما سمي به ترك على حاله كما يترك مسلمون إذا سمي به على حاله، وكذلك القول في أذرعات. الانتصاف: يلزم الزمخشري إذا سمى امرأة بمسلمات أن لا يصرفه، وهو قول رديء، والأفصح تنوينه، والزمخشري يرى أن تنوين عرفات للتمكين لا للمقابلة، ولم يعد تنوين المقابلة

أراه إياها، فقال: قد عرفت. وقيل: التقى فيها آدم وحوّاء فتعارفا. وقيل: لأنّ الناس يتعارفون فيها واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. وهي من الأسماء المرتجلة؛ لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف. وقيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعده. ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في "مفصله"، بناءً منه على أنه راجع إلى تنوين التمكين. ونقل الزجاج فيها وجهين: الصرف وعدمه، إلا أنه قال: لا يكون إلا مكسوراً وإن سقط التنوين. وقال القاضي: وإنما نون وكسر مع العلمية والتأنيث؛ لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكن، أي: قابل التنوين نون الجمع المذكر. قوله: (إلا أن تكون جمع عارف)، قيل: يضعف أن يقال: هو مستثنى من قوله: "فهو من الأسماء المرتجلة"، إذ يصير التقدير: عرفات من الأسماء المرتجلة، إلا أن يكون عرفات جمع عارف، فإنها حينئذ تكون من الأسماء المنقولة، وهذا ليس بسديد؛ لأن عرفات ليست جمع عارف بل جمع عرفة، وعرفةٌ: جمع عارف، بل هو مستثنى من قوله: "العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس"، إذ لو عرف لجاز أن يكون من الأسماء المنقولة، اللهم إلا أن يقال: إن عرفة جمع عارف، كطلبة وطالب، وعرفات: جمع الجمع، فحينئذ يكون من الأسماء المنقولة، وقال ابن الحاجب: وقد يجمع الجمع لا على أنه يطرد قياساً، لكنه كثر في جمع القلة وقل في الكثرة إلا بالألف والتاء. قوله: (وقيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة)، وهو قول الزجاج، قال صاحب "التقريب": دليل الوجوب أن الذكر عند الإفاضة من عرفات واجب، وهو يتوقف على الإفاضة،

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج». (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات. وقيل: بصلاة المغرب والعشاء ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي على الوقوف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوقوف واجب، وفيه نظر؛ لأنه إنما يستقيم لو كان الأمر بالذكر مطلقاً، وهو ها هنا مقيد مشروط بالإفاضة، وقولك: إذا حصل لك مال فزك، لا يقتضي وجوب تحصيل المال، وأن توقف عليه الزكاة، لكون الأمر غير مطلق. فإن قلت: المأمور به ذكر مقيد بالحصول عند الإفاضة، فهو مركب، ووجوب المركب يستلزم وجوب أجزائه، قلنا: لا نسلم أن المأمور به ذكر مقيد بالحصول عند الإفاضة، وإنما كان كذلك لو تعلق الظرف، وهو "إذا" بـ "اذكروا"، وليس كذلك، فإنه ظرف متضمن لمعنى الشرط، ولذلك جيء بالفاء في جوابه، فإذاً ليس الواجب ذكراً مقيداً بالإضافة، بل إذا حصلت الإفاضة وجب الذكر، فالإفاضة قيد للأمر لا للمأمور به، وفيه دقة فليتأمل. وقلت: لو أنهم استدلوا بقوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) كان أقرب. قوله: (الحج عرفة)، روينا عن الترمذي وأبي داود والنسائي، عن عبد الرحمن الديلي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي: "الحج عرفة"، وفي رواية أبي داود "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج"، وفي رواية أخرى للنسائي: "الحج عرفة، فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه"، والمصنف أردف الاستدلال بالنص ليشد بعضده.

و"الْمَشْعَرِ الْحَرامِ": قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. وقيل: المشعر الحرام: ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام. والصحيح أنه الجبل؛ لما روى جابر رضى اللَّه عنه: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة- بغلسٍ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر- أو هلل- ولم يزل واقفا حتى أسفر. وقوله تعالى: (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) معناه: مما يلي المشعر الحرام قريباً منه، وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة، وإلا فالمزدلفة كلها موقفٌ إلا وادي محسر. أو جعلت أعقاب المزدلفة؛ لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر: المعلم؛ لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرم لحرمته. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه: أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل: سميت المزدلفة وجمعاً؛ لأنّ آدم صلوات اللَّه عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها، أي: دنا منها. وعن قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الميقدة)، المغرب: هي بالمشعر الحرام على قزح، كان أهل الجاهلية يوقدون عليها النار. قوله: (مأزمي عرفة)، الجوهري: المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر وبين عرفة مأزمين. النهاية: كأنه من الأزم: القوة والشدة، والميم زائدة. قوله: (أو جعلت أعقاب المزدلفة) عطف على قوله: "معناه: مما يلي المشعر الحرام"، و"عند المشعر": مفعول ثان لـ "جعلت"، يريد أن المشعر الحرام موضع مخصوص، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام، وقد شرط أن يذكر الله عنده، وليس كذلك؛ لأن المزدلفة كلها موضع للذكر وموقف للناس، واوله بتأويلين، أحدهما: أن تخصيص ذكره مع الجواز في كل المواضع لشرفه،

ويجوز أن يقال: وصفت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى اللَّه، أي: يتقرّبون بالوقوف فيها. (كَما هَداكُمْ) "ما" مصدرية أو كافة. والمعنى: واذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه، (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل الهدى (لَمِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارة بقوله: "وذلك للفضل، كالقرب من جبل الرحمة"، وثانيهما: أنه سمى كل المزدلفة ببعضه، ويرجع حاصله إلى شرفه أيضاً؛ لأن الشرط في إطلاق الجزء على الكل أن يكون الجزء أشرفه، ومما يدل على أن المزدلفة كلها موقف: ما روينا عن أبي داود عن علي رضي الله عنه، قال: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف على قزح فقال: "هذا قزح، وهو الموقف، وجمع كلها موقف". قوله: (أو اذكروه كما علمكم)، "أو": ليس لترديد معنى "ما" في كونها مصدرية أو كافة على طريقة اللف والنشر؛ لأنه لا يتغير معناها في الوجهين، بل لترديد معنى (هَدَاكُمْ)، أي: الهداية: إما دلالة موصلة إلى البغية، أو بمعنى الدلالة المطلقة، ولهذا قال: "هداية حسنة"، وقال: "كما علمكم كيف تذكرونه"، والذكر الحسن: مشاهدة الذاكر المذكور وإخلاصه له في العبادة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه"، ومن ثم قال: "لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه"، حيث فسر الهداية بالعبادة. قوله: (لا تعدلوا عنه) تفسير لقوله: "كيف تذكرون÷"، أي: علمكم كيف توحدونه بكلمة التوحيد فلا بعدلوا عن تعليمه إلى غيره، تلخيصه: ذلكم سبيل التوحيد فلا تعدلوا عنه لتهتدوا، وقوله: (وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ) تذييل لما سبق، وتقرير لمعناه. قال الزجاج: ومعنى: (وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ): التوكيد للأمر، كأنه قيل: وما كنتم من قبله إلا الضالين.

وتعبدونه. و"إن" هي مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. (ثُمَّ أَفِيضُوا): ثم لتكن إفاضتكم (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ولا تكن من المزدلفة؛ وذلك لما كان عليه الخمس من الترفع على الناس، والتعالي عليهم، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل اللَّه وقطان حرمه فلا نخرج منه، فيقفون بجمعٍ وسائر الناس بعرفات. فإن قلت: فكيف موقع "ثم"؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، تأتي بـ"ثم" لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبعد ما بينهما؛ فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال: (ثم أفيضوا) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والثانية خطأ ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما كان عليه الحمس)، النهاية: الحمس: جمع الأحمس، وهم: قريش ومن ولدت قريش، وكنانة، وجديلة قيس، سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا، والحماسة: الشجاعة، كانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. قوله: (وأن إحداهما صواب): عطف تفسيري على قوله: "لتفاوت ما بين الإفاضتين"، يعني: أن الإفاضة من عرفات صواب ومن مزدلفة خطأ، وفي قوله نظر؛ لأن التفاوت إذا اعتبر بين الإفاضة من عرفات الدال عليه قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) وبين هذه الإفاضة وهي: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، فكلاهما صوابان، وإذا اعتبر بين الإفاضة من عرفات وبين الإفاضة من مزدلفة فهي غير مذكورة في التنزيل، فلا يصح العطف عليها بـ "ثم". وأيضاً، لا يقال بين الصواب والخطأ: إنهما متفاوتان في الرتبة؛ لأنهما متباينان. والجواب: أن التفاوت هنا ليس في الرتبة، بل في مجرد أن إحداهما صواب والأخرى خطأ، ولما كان قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) مراداً به التعريض، فكأنه قيل: لا تفيضوا من مزدلفة فإنه خطأ، فينطبق عليه مثال: "ولا تحسن إلى غير كريم"؛ لأن الإحسان إليه خطأ، وصح قوله: "وأن إحداهما صواب" أي: الإفاضة من عرفات، والثانية

وقيل: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) وهم الحُمس، أي: من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. وقرئ: (من حيث أفاض الناس) بكسر السين أي: الناسي؛ وهو آدم، من قوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه: 115] يعني: أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) من مخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك من جاهليتكم. (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ): فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم، (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ): فأكثروا ذكر اللَّه وبالغوا فيه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم؛ وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فيعدّدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في موضع جرّ؛ عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: (كَذِكْرِكُمْ) كما تقول: كذكر قريشٍ آباءهم، أو قوم أشدّ منهم ذكراً، أو في موضع نصب؛ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خطأ، أي: الإفاضة من مزدلفة، وأما تطبيق الآية مع المثال فإن قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) في تأويل: أفيضوا من عرفات، يدل عليه قوله: "فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة"، وقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) في تأويل: لا تفيضوا من مزدلفة على سبيل التعريض؛ وإنما قلنا بالتعريض لأن التعريف في الناس: للجنس، والمراد به: المؤمنون، فدل على الكمال، فيكون تعريضاً بالحمس، وإليه الإشارة بقوله: "لتكن إفاضتكم من عرفات ولا تكن من المزدلفة". قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، وهم الحمس)، فعلى هذا، اللام: للعهد، وثم: على ظاهره. قال محيي السنة: قال بعضهم: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي: ثم أفيضوا من جمع، وكيف يسوغ إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله، ثم أفيضوا من عرفات؟ ! وقيل: "ثم" فيه كما في قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: 17].

عطفٌ على (آباءكم) بمعنى: أو أشدّ ذكراً من آبائكم، على أن (ذِكراً) من فعل المذكور. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) معناه: أكثروا ذكر اللَّه ودعاءه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: ثم ها هنا كما في قولك: قد أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس كذا، وفائدتها: تأخير أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخير هذا المخبر عنه عن ذلك. وقلت: أما بيان أن "ثم" ها هنا كما في قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: 17] للتفاوت في المرتبة كما نص عليه المصنف في موضعه، فهو أن الأمر بالإفاضة أعلى من الأول، كأنه قيل: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ)، ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الكملة من الناس، ومثاله الصريح: أحسن إلى الناس ثم ليكن إحسانك إلى الكريم منهم، ويؤيده ما روى الإمام، أن المراد بالناس: إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإيقاع اسم الجنس على الواحد إذا كان رئيساً يقتدى به جائز. قوله: (على أن (ذِكْراً) من فعل المذكور) أي: يكون المصدر من ذكر المجهول لا من ذكر المعروف، قال المصنف: "المصدر يأتي من فعل كما يأتي من فعل، كقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) [الروم: 3]، أي: من بعد كونهم مغلوبين"، فكذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) معناه: أو قوماً أبلغ في كونهم مذكورين، وقدر القاضي: أو كذكركم أشد مذكوراً من آبائكم. قال المالكي: جعل الزمخشري (أَشَدَّ) معطوفاً على الكاف والميم، ولم يجز عطفه على "الذكر"، وهو الصحيح؛ لأنه لو عطف على "الذكر" لكان "أشد" صفة كـ "ذكر"، وامتنع نصب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الذكر" بعده؛ لأنك لا تقول: ذكري أشد ذكراً، وإنما تقول: أشد ذكر، وتقول: أنت أشد ذكراً، ولا تقول: أنت أشد ذكر؛ لأن الذي يلي أفعل التفضيل من النكرات إن جر فهو كل لأفعل، وأفعل بعض له، وإن نصب فهو فاعل في المعنى للفعل الذي صيغ منه أفعل؛ ولذلك تقول: أنت أكبر رجل وأكثر مالاً، فالأكثر بعض ما جر به، و"أكثر" بمنزلة فعل، وما انتصب بمنزلة فاعل؛ كأنك قلت: كثر مالك. وقال ابن الحاجب في "الأمالي": في قوله: " (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً): في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: (كَذِكْرِكُمْ) " نظر، لما يلزم منه العطف على المضمر المخفوض، وذلك لا يجوز عنده، ورد قراءة حمزة أقبح رد، أي: في (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء: 1] بالجر، وكذا في قوله: "إن ذكراً من فعل المذكور" لما يؤدي إلى أن يكون أفعل للمفعول، وهو شاذ لا يرجع إليه إلا بثبت، وأفعل لا يكون إلا للفاعل، كقولهم: هو أضرب الناس، على أنه فاعل الضرب، سواء أضفته أو نصبت عنه تمييزاً، والوجه: أن يقدر جملتين، أي: فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم، أو: اذكروا الله في حال كونكم أشد ذكراً من ذكر آبائكم، فتكون الكاف: نعتاً لمصدر محذوف، وأشد: حالاً، وهذا أولى؛ لأنه جرت الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه من أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل؛ لأن ذلك في المفردات. وقلت: نظر المصنف إلى التوافق بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلى جعلهما من عطف المفرد على المفرد، لا من عطف الجملة على الجملة؛ لأن جعل أحدهما مصدراً والآخر حالاً له

فإنّ الناس من بين مقل لا يطلب بذكر اللَّه إلا أعراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين. (آتِنا فِي الدُّنْيا): ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عامل آخر مما يؤدي إلى تنافر النظم، وذكر مثله في قوله تعالى: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء: 77]، وأما الجواب عن الأول فإنه رد في "النساء" العطف على المضمر المجرور لعلة شدة الاتصال، وصحح نحو: مررت بزيد وعمرو، لضعف الاتصال، وهنا إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو في حكم الانفصال، على أن من الجائز أن يكون الفاصل بين المعطوفين هو المصحح للعطف كما في العطف على المرفوع المتصل. وذكر ابن الحاجب في "شرح المفصل": أن بعض النحويين يجوزون في المجرور بالإضافة دون المجرور بحرف الجر؛ لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل منهما بمعناه، ثم استشهد بالآية. وعن الثاني: أنه إنما يلزم ذلك أن لو كان أفعل من الذكر وبني منه، بل إنما بني مما يصح بناؤه منه للفاعل، وهو أشد، وجعل (ذِكْراً)، الذي بمعنى المذكور تمييزاً، كأنه قيل: أشد مذكوراً، وهو إذن مثل سائر ما يمتنع منه بناؤه نحو: أقبح عوراً وأكثر شغلاً وفيه بحث. قوله: (فإن الناس من بين مقل)، يريد أن الفاء في قوله: (فَمِنْ النَّاسِ) تفصيلية، والمجمل: ما عليه الناس في نفس الأمر، يعلم من سياق الآيات وبيان النظم، وذلك أنه عز وجل لما فرغ من الإرشاد إلى هذا النسك العظيم الشأن، قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)، أي: إذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم إلى أوطانكم، لا تقولوا: قضينا ما علينا، بل اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلاً، ثم قسم الناس أربع فرق،

اجعل إيتاءنا، أي: إعطاءنا في الدنيا خاصة، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي: من طلب خلاقٍ، وهو النصيب. أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأنّ همه مقصور على الدنيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهم: الكافرون الذين جل همهم أعراض الدنيا والإعراض عن المولى، وهم المرادون بقوله: (فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)، وثانيهم: المقتصدون الذين يقولون: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، وثالثهم: المنافقون الذين كانت تحلولى ألسنتهم، وقلوبهم أمر من الصبر، وهم المرادون بقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ)، ورابعهم: السابقون البذالون أنفسهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وهم المعنيون بقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) إرشاداً لهم إلى اختيار ما هو الأصوب وإيثار ما يزلفهم إلى الله تعالى والاجتناب عما يبعدهم عن رضوانه. ولما فرغ من ذلك وأراد أن يشرع في قصة بني إسرائيل، أتى بما يتخلص منه إليها، قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). قوله: (اجعل إيتاءنا) ذهب إلى أن (آتِنَا) يجري مجرى اللازم، ثم عدي بـ "في" مبالغة، كقوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) وأما إفادة خصوصية الإيتاء في الدنيا فمستفاد من التقابل في قوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، ولهذا قدر المضاف في المقابل وهو لفظ الطلب، والحاصل أنه قدر الطلب في القرينة الثانية بواسطة لفظ: "آتنا" في القرينة الأولى، وقدر "خاصة" في الأولى باقتضاء القرينة الثانية. قوله: ((مِنْ خَلاقٍ) أي: من طلب خلاق) وهو النصيب، الراغب: الخلاق: نصيب الإنسان من أفعاله المحمودة التي تكون خلقاً له، وذلك أن الفعل قد يحصل من الإنسان تخلقاً، وقد يحصل خلقاً، وهو المحمود. وفي قوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) تنبيه أن

والحسنتان: ما هو طِلْبةُ الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير، وطِلْبتُهم في الآخرة من الثواب. وعن علي رضى اللَّه عنه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا رغبة لهم صادقة صادرة عن أخلاقهم، روي أنهم كانوا يقولون: اللهم أكثر أموالنا وأولادنا وأنزل الغيث علينا وأنبت مرعانا، ولا يسألون شيئاً من أمور الآخرة، وذلك أنهم عرفوا الدنيا ولم يعتقدوا الآخرة، وكيف يسأل الآخرة من لا يعرفها، وكيف يعرفها من لم يتحقق كونها، وكيف يتحقق كونها من لم يبصرها؟ أي: لم يدركها ببصيرته، وليس يعني بقوله تعالى: (يَقُولُ رَبَّنَا) التفوه بذلك فقط، بل صرف العناية إليها والاهتمام بها. قوله: (والحسنتان ما هو طلبة الصالحين)، الراغب: لما أجرى الله تعالى العادة أن لابد للإنسان من أخيارهم وأشرارهم من بلغة في الدنيا، صار المؤمن يطلبها كما يطلبها الكافر، ولكن طلب المؤمن لها على سبيل العرض قدر ما يحسن وفي وقت ما يحسن، ولأجل الحاجة إليها قال بعض الصالحين: اللهم وسع الدنيا علي وزهدني فيها، ولا تضيقها علي فترغبني فيها. قوله: (الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة) وعن مسلم والنسائي وابن ماجة، عن عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، وتفسيره: ما روينا عن أبي داود وابن ماجة، عن ابن عباس في حديث طويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته".

وعذاب النار: امرأة السوء. (أُولئِكَ) الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي: نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح: 25]، أو لهم نصيبٌ مما دعوا به؛ نعطيهم ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا، واستحقاقهم في الآخرة. وسمي الدعاء كسبا؛ لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب؛ (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم) [الشورى: 30] ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعاً، وأن لكل فريقٍ نصيباً من جنس ما كسبوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون (أُوْلَئِكَ) للفريقين) عطف على قوله: "أولئك الداعون". اعلم أن المشار إليه بقوله: "أولئك" إما الفريق الثاني، وهو القائل: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، أو مجموع الفريقين، فعلى الأول قوله: (مِمَّا كَسَبُوا) إما مجرى على حقيقته أو مجاز عن الدعاء بقرينة قولهم: (رَبَّنَا)، فعلى الحقيقة "من": إما بيان نصيب، وهو المراد من قوله: "أي: نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال"، وقوله: "وهو الثواب": بيان لجنس ما كسبوا، والجنسية بحسب الحسنة، ولذلك وصف كلاً من الأعمال والمنافع بالحسنة، أو ابتداء، وهو المراد من قوله: "من أجل ما كسبوا"، وعلى أن يراد بما كسبوا الدعاء، فهو من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق؛ لأن المفهوم من قوله: (رَبَّنَا آتِنَا) الدعاء والكسب، وسمي كسباً؛ لأنه من الأعمال والأعمالُ موصوفة بالكسب، وعلى الثاني: الأسلوب من باب الجمع مع التقسيم التقديري؛ لأن التقدير: أولئك الفريقان اللذان اختص كل واحد بنوع من الدعاء، لهم نصيب مما دعوا، من اقتصر على طلب الدنيا فله نصيب منها فحسب، ومن طلب الدنيا والآخرة جميعاً فله ذلك، والأول أقرب إلى النظم؛ لأن قوله: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) في مقابلة قوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، ثم إن قوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) تذييل للكلام السابق من قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) إلى آخره،

(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد؛ فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه. روي: أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة: وروي: في مقدار فواق نافة. وروى في مقدار لمحة. [(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) 203]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو إما أن يكون تحريضاً على إكثار الذكر وطلب الآخرة وانتهاز الفرصة في ذلك قبل حلول الأجل؛ لأن سرعة الحساب من الله تعالى إنما تقع في يوم القيامة، فأطلق ما يقع في يوم القيامة على القيامة مجازاً، نظيره في ظرف المكان قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) [آل عمران: 107] أي: في الجنة، وإليه أشار بقوله: "فبادروا" إلى آخره، وإما وعيداً على التقصير في ذلك، وتحذيراً عن التفريط فيه، فكنى بسرعة الحساب عن القدرة الكاملة؛ لأن من حاسب الأولين والآخرين في مقدار الفواق كان كامل القدرة باهر السلطان، فيقدر على الانتقام منهم إن قصروا فيه، وإليه أشار بقوله: "ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر منه". قوله: (فواق ناقة)، النهاية: هو: قدر ما بين الحلبتين من الوقت، تضم فاؤه وتفتح، ومنه الحديث: "عيادة المريض قدر فواق ناقة"، وهذا تمثيل في السرعة لا تعيين المقدار، وكقوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82].

الأيام المعدودات. أيام التشريق، وذكر اللَّه فيها: التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى، فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف. (فَمَنْ تَعَجَّلَ): فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل واستعجل: يجيئان مطاوعين، بمعنى عجل، يقال: تعجل في الأمر واستعجل؛ ومتعديين، يقال: تعجل الذهاب واستعجله، والمطاوعة أوفق؛ لقوله: (وَمَنْ تَأَخَّرَ)، كما هي كذلك في قوله: قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ لأجل المتأني. (فِي يَوْمَيْنِ): بعد يوم النحر يوم القرّ، وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس اليوم، وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: ينفر قبل طلوع الفجر، (وَمَنْ تَأَخَّرَ) حتى رمى في اليوم الثالث، والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمطاوعة أوفق) أي: لنظم الآية، فإن "تأخر" لازم، فيجعل "تعجل" كذلك، كما أن المطاوعة في البيت أوفق للتناسب لأجل المتأني، يعني: قابل المستعجل بالمتأني، فكما أن المتأني لازم فكذا المستعجل. قوله: ((فِي يَوْمَيْنِ))، قال المصنف: معناه: في آخر يومين، إلا أنه أورد مجملاً، كقوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) وهو في بعض الأشهر لا في كلها. قوله: (يوم القر)، النهاية: يوم القر هو الغد من يوم النحر؛ لأن الناس يقرون فيه، أي يسكنون ويقيمون.

وعند الشافعي لا يجوز. فإن قلت: كيف قال: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) عند التعجل والتأخر جميعاً؟ قلت: دلالة على أنّ التعجل والتأخر مخير فيهما، كأنه قيل: فتعجلوا أو تأخروا. فإن قلت: أليس التأخر بأفضل؟ قلت: بلى، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل، كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل. وقيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين؛ منهم من جعل المتعجل آثما، ومنهم من جعل المتأخر آثما، فورد القرآن بنفي المآثم عنهما جميعاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل)، الانتصاف: التخيير بين الفاضل والمفضول يوجب التساوي وينافي طلب أحد الطرفين، وكيف يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك؟ إنما الزمخشري أخل في التفسير فلزمه السؤال وهو غير لازم، فإن نفي الحرج عن الأمرين لا يلزم منه التخيير، وغايته: إشراكهما في رفع الحرج، لكن أحدهما مطلوب دون الآخر فلا يحتاج إلى الجواب، لاندفاع السؤال. وقلت: ما نظر صاحب "الانتصاف" إلى المقام، فإن نفي الحرج إنما لا يوجب التخيير ابتداء، نظراً إلى اللفظ، وأما إذا كان مسبوقاً بخلاف فلا، ألا ترى كيف عطف على سبيل البيان قوله: "وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين" على قوله: "دلالة على أن التعجل والتأخر مخير فيهما"! ومما يواخي هذا المقام ما رويناه عن الشيخين وغيرهما، عن عروة: سألت عائشة: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها كانت: لا جناح

(لِمَنِ اتَّقى) أي: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي؛ لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند اللَّه، ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ليعبأ بكم، ويجوز أن يراد: ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره (لمن اتقى)؛ لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، وكانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، وكان من أهل لها تحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التحرج فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ .. ) الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما". وقلت: كلاهما مصيبان؛ لأن عروة فهم من الآية معنى الإباحة ابتداء، والصديقة رضي الله عنها بينت الاختلاف والسبب، كذلك ها هنا، أما قوله: "كيف يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك؟ " فجوابه: أنه كيف لا يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك في نفي الحرج، والكلام في ذلك؟ ! قوله: (أي: ذلك التخيير)، يعني قوله: (لِمَنْ اتَّقَى): خبر مبتدأ محذوف، وهو اسم الإشارة، والمشار إليه ما سبق، واللام: متعلق بمحذوف وهو: إما بمعنى الاختصاص نحو قولك: "المال لزيد" ومن ثم قال: "دون من سواه"، واستشهد بقوله تعالى: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ) [الروم: 38]، أو للتعليل نحو قولك: خروجه لمخالفة الشر وضربه للتأديب، ولذلك اعتبر وصف التقوى في التعليل حيث قال: "لأجل الحاج المتقي". قوله: (يرهق صاحبه)، الجوهري: رهقه بالكسر، يرهقه رهقاً، أي: غشيه، يقال: أرهقني

[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)]. (مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) أي: يروقك ويعظم في قلبك. ومنه: الشيء العجيب الذي يعظم في النفس. وهو الأخنس بن شريق كان رجلاً حلو المنطق، إذا لقي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ألان له القول، وادعى أنه يحبه، وأنه مسلم، وقال: يعلم اللَّه أني صادق. وقيل: هو عامّ في المنافقين، كانت تحلولى ألسنتهم، وقلوبهم أمرّ من الصبر. فإن قلت: بم يتعلق قوله: ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلان إثماً حتى رهقته، أي: حملني إثماً حتى حملته له. قوله: ((يُعْجِبُكَ) أي: يروقك)، الراغب: التعجب: حيرة تعترض الإنسان عند جهل سبب الشيء، وليس هو بشيء في ذاته بل هو بحسب الإضافة إلى من يعرف السبب وإلى من لا يعرفه، ولهذا قال قوم: كل شيء عجب، وقال قوم: لا شيء عجب، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه. قوله: (تحلولى ألسنتهم)، الجوهري: يقال: حلا الشيء يحلو حلاوة، واحلولى: مثله، وقد عداه حميد بن ثور بقوله: فلما أتى عامان بعد انفصاله ... عن الضرع، واحلولى دماثاً يرودها ولم يجيء افعوعل متعدياً إلا هذا، واعرورى الفرس. الدمث: الأرض اللينة، ورياد الإبل: اختلافها في المرعى.

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)؟ قلت: بالقول، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا؛ لأنّ ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول، فكلامه إذن في الدنيا لا في الآخرة، ويجوز أن يتعلق بـ (يعجبك)، أي: قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة؛ لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي: يحلف ويقول: اللَّه شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام. وقرئ: (ويشهد اللَّه). وفي مصحف أبىّ: (ويستشهد اللَّه). (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه)، من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره قوله: ((أَلَدُّ الْخِصَامِ): وهو شديد الجدال)، قال الزجاج: اشتقاق ألد من لديدي العنق، وهما: صفحتاه، أي: أن خصمه في أي وجه أخذ من يمين وشمال غلبه في ذلك، وقد لددته أنا ألده: إذا جادلته فغلبته. السجاوندي: ألد: أشد من اللدود ومعوج الخصومة، من لديدي الوادي، وأصل الخصام: التعمق، والخصوم: زوايا الأوعية، وهو مصدر، قال أبو علي: وهو جمع، إذ لا يكون الشخص بعض الحدث، وأفعل لا يضاف إلا إلى بعضه، ووجه تصحيحه تقديراً: ألد في الخصومة، ولهذا شبهته بقوله: "ثبت الغدر". الجوهري: فلان ثبت الغدر: إذا كان لا يزل لسانه عند الخصومات.

وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين. وقيل: كان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم، وأحرق زروعهم. والخصام: المخاصمة. وإضافة الألدّ بمعنى "في"، كقولهم: ثبت الغدر، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة. وقيل الخصام: جمع خصم، كصعب وصعاب بمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة. (وَإِذا تَوَلَّى) وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول، وإحلاء المنطق (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها)، كما فعل بثقيف. وقيل: (وَإِذا تَوَلَّى): وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الميداني: يقال: رجل ثبت، أي: ثابت، والغدر: اللخاقيق في الأرض مثل جحرة اليرابيع وأشباهها، ومعناه: ثبت في الغدر، أي: ثابت في قتال وكلام لا يزل في موضع الزلل. قوله: (وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين)، جعل الخصام مشتركاً وحمله على المعنيين: الجدال والعداوة، وفرع عليه قوله: "وقيل: كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم"، ويجوز أن يكون "والعداوة": عطفاً على الجدال على سبيل البيان. قوله: (أو جعل الخصام ألد، على المبالغة) كقولك: جد جده، فالإضافة لفظية. قوله: (وقيل: الخصام: جمع خصم). قال الزجاج: لأن فعلاً يجمع إذا كان صفة على فعال، نحو صعب وصعاب، وكذلك إن جعلت خصماً صفة يجمع على أقل العدد، وأكثره على فعال وفعول، يقال: خصم وخصام وخصوم. قوله: (كما فعل بتثقيف) أي: الأخنس بن شريق. قوله: (فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض)، إنما قيده بولاة السوء، لأن ولاة الصدق بخلاف ذلك.

بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع اللَّه بشؤم ظلمه القطر؛ فيهلك الحرث والنسل. وقرئ: (ويهلك الحرث والنسل) على أن الفعل لـ"الحرث والنسل"، والرفع للعطف على (سعى). وقرأ الحسن بفتح اللام، وهي لغةٌ، نحو: أبى يأبى. وروي عنه: (ويهلك)، على البناء للمفعول. (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) من قولك: أخذته بكذا؛ إذا حملته عليه وألزمته إياه أي: حملته العزة التي فيه، وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلي عنه ضراراً ولجاجاً؛ أو على ردّ قول الواعظ. [(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) 207]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا بخلاف هو آمر به ولا لحب له، وما تراه من فعله إفساداً، فهو بالإضافة إلينا وباعتبارنا، وأما بالنظر الإلهي فكله إصلاح، ولهذا قيل: يا من إفساده إصلاح، أي: ما نعده إفساداً، فهو لقصور نظرنا، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رشح له، فإذن إهلاك ما أمر بإهلاكه فلإصلاح الإنسان، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية. قوله: (أي: حملته العزة التي فيه) أراد أنه استعارة تبعية واقعة على التمثيل، استعير الأخذ للحمل بعد أن شبه حالة إغراء حمية الجاهلية وحملها إياه على الإثم بحالة شخص له حق على غريمه فيأخذه به ويلزمه على أداء حقه ويلزه، والإثم إما أن يراد به حقيقته، وإليه الإشارة بقوله: "على الإثم الذي ينهى عنه"، وإما ترك الاتعاظ فيها أمر بقوله: (اتَّقِ اللَّهَ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ): يبيعها، أي: يبذلها في الجهاد. وقيل: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ): يبيعها، أي: يبذلها في الجهاد)، الراغب: يشري: يبيع ويشتري، والناس على أضرب: ضرب باع نفسه من الشيطان بالشهوات فصار غلقاً في يده لا سبيل إلى الانفكاك منه، وهم المعنيون بقوله: (فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ) [النحل: 63] وقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية: 23]، وضرب وقع أسر الشيطان عليه فاجتهد في تخليص نفسه منه، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس غاديان: فبائع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها"، وضرب لم يقع عليه أسر الشيطان، وقد باع نفسه من الله عز وجل، وهو المعني بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ) الآية، فقوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ) يتناول الضربين: المخلص نفسه من أسر الشيطان، ومن باع نفسه من الله عز وجل، فإذن يشري نفسه للأمرين، والشرى والبيع في مثل هذا الموضع كالرمز والإشارة، وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله تعالى والتحري في مصالح عباده. وقلت: لما حمل اللفظ المشترك على كلا مفهوميه المخالف، وذلك لا يستتب إلا بجعل الشرى مجازاً عن أمر يجمع المعنيين، قال: "وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله تعالى" إلى آخره، ومقتضى النظم حمل الشرى على تخليص النفس من أسر الهوى والشيطان؛ لأن قوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) قسيم لقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إلى قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)، وهو الأسير بيد الهوى، وقرين

وقيل: نزلت في صهيب بن سنان؛ أراده المشركون على ترك الإسلام، وقتلوا نفرا كانوا معه فقال لهم: أنا شيخ كبير إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فخلوني وما أنا عليه، وخذوا مالى. فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة. (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)]. (السلم) بكسر السين وفتحها، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام؛ وهو الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا للَّه وأطيعوه ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وفيه إيماء إلى التخليص من أسر الشيطان لقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)، فالمناسب أن يحمل الشرى على الاشتراء، والله أعلم. قوله: (وقيل: نزلت في صهيب)، عطف على "يبيعها"، ويشري على هذا بمعنى يشتري، وقوله: (فعرضهم) من التعريض للأمر، أي: النصب له، وهذا المعنى مناسب للوجه الأول، وهو أن يكون الشرى بمعنى البيع. قوله: (السِّلْمِ) بكسر السين)، نافع وابن كثير والكسائي بفتحها، والباقون بكسرها. الراغب: عنى بالسلم: سلم العبد لله عز وجل؛ لأن الإنسان في كفره وكفران نعمة الله كالمحارب له، وهو على ثلاثة أضرب: ضرب يتقدم الإيمان، وهو الإسلام الذي به سلم أن يراق دمه ويسلب ماله، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، واثنان بعد الإيمان، أحدهما: أن يسلم من

(كَافَّةً) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته. وقيل: هو الإسلام. والخطاب لأهل الكتاب؛ لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، أو للمنافقين؛ لأنهم آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون (كافة) حالاً من (السلم)؛ لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سخطه بارتسام أوامره وزواجره طوعاً أو كرهاً. والثاني: أن يكون سلماً من الشيطان وأوليائه وسلماً فيما يجري عليه من قضائه، وبه تحصل دار السلام المذكورة في قوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) [يونس: 25]، وهذا غاية ما ينتهي إليه العبد من المنازل الثلاث وإن كانت لكل منزلة منها درجات، وهذا السلم المعني بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، وإلى هذا المعنى أشار يوسف عليه السلام بقوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] وبه رمز المصنف بقوله: "أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها". قوله: (وقيل: هو الإسلام)، الجوهري: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يذهب بمعناها إلى الإسلام، وأسلم: إذا دخل في السلم، وهو الاستسلام. وقلت: هذا يشعر بأن السلم إذا كان بمعنى الإسلام كان مجازاً. وقال الزجاج: (كَافَّةً) بمعنى الجميع: الإحاطة، فيجوز: ادخلوا جميعاً أو ادخلوا في السلم كله، أي: جميع شرائعه، والسلم بالكسر والفتح معناهما: الإسلام والصلح، ومعنى (كَافَّةً) في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء إلى آخره ومن ذلك كفة القميص لحاشيته، وكفة الميزان؛ لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، ولهذا قيل للراحة: الكف؛ لأنها تكف سائر البدن. قوله: (ويجوز أن يكون (كَافَّةً) حالاً من (السِّلْمِ): عطف على قوله: "لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته" هذا العطف مؤذن بأن السلم إذا أريد به الاستسلام يجوز أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكون (كَافَّةً) حالاً من الواو في (ادْخُلُوا) أي: جماعة كافة، وأن تكون حالاً من السلم، أي: ادخلوا في الطاعات كلها، وعلى هذا المخاطبون هم المؤمنون، وإذا أريد به الإسلام فهي حال من الضمير، والمخاطبون: إما أهل الكتاب أو المنافقون، ويمكن أن تستنبط وجوه غير ما ذكر بحسب هذه الاعتبارات. وكون الكفار مخاطبين بالفروع أيضاً، فنقول- والله أعلم بمراده من كلامه-: الخطاب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لا يخلو: إما أن يكون مع المؤمنين أو أهل الكتاب أو المنافقين، فهذه احتمالات ثلاثة، أما حمله على المؤمنين فظاهر، وحمله على أهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، وعلى المنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم كما أشار إليه المصنف، ثم السلم إما أن يفسر بالاستسلام أو الإسلام، وكافة: إما أن يجعل حالاً من الضمير في (ادْخُلُوا) أو من السلم نفسها فهذه وجوه أربعة، فيرتفع من ضرب الثلاثة في الأربعة اثنا عشر وجهاً. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه أربعة: أحدها: أن يراد بالسلم: الاستسلام، "وكافة": حال من الضمير، فالمعنى: أيها المؤمنون، استسلموا لله وأطيعوه كافة لا يخرج أحد منكم عن طاعته، كما ذكره. وثانيها: أن يراد بالسلم الإسلام، فالمعنى: أيها المؤمنون، اثبتوا ودوموا على ما أنتم عليه، هذا وإن لم يذكره المصنف، لكن الزجاج ذكره قال: أمر المؤمنون بأن يدخلوا في الإيمان، أي: أن يقيموا عليه ويكونوا فيما يستقبلون عليه كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: 136]. وثالثها: أن تكون (كَافَّةً): حالاً من السلم، والسلم بمعنى الطاعة، فالمعنى ما أومى إليه بقوله: "إن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة". ورابعها: السلم بمعنى الإسلام، والمعنى ما ذكره: "أمروا بأن يدخلوا في شعب الإسلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلها وأن لا يخلوا بشيء منها"، والشعب هي التي وردت في كلام سيدنا صلوات الله عليه وسلامه على ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن أنس: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان"، وزاد في رواية: "أفضلها قول لا إله غلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". وأما الاحتمال الثاني ففيه الوجوه: أحدها: السلم بمعنى الاستسلام، وكافة: حال من الضمير، المعنى: يا أهل الكتاب ادخلوا كلكم في طاعة الله وطاعة رسوله والمؤمنين مما التزمتموها صغاراً وذلة، قال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). وثانيها: السلم بمعنى الإسلام، فالمعنى: يا أهل الكتاب ادخلوا في دين الإسلام كلكم لا يبقى أحد منكم خارجاً منه، هذا الذي يدل عليه سياق كلام المصنف، أو: ادخلوا في الإسلام بكليتكم بحيث لا يبقى لكم ميل إلى اليهودية، ولا يبعد أن يحمل قول المصنف: "إن عبد الله ابن سلام استأذن أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل" على هذا. وثالثها: السلم بمعنى الطاعة، و (كَافَّةً): حال منها، فالمعنى: يا أيها الذين آمنتم بكتاب واحد وبشريعة واحدة، ادخلوا في طاعة الله كلها وآمنوا بجميع الشرائع وصدقوا جميع الرسل والكتب. ورابعها: ادخلوا في شعب الإيمان كلها على ما سبق. وأما الاحتمال الثالث ففيه الوجوه أيضاً: أحدها: أيها المنافقون، ادخلوا كلكم في الطاعة الحقيقية، وعليه قوله تعالى: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور: 53] على إرادة: الذي يطلب منكم طاعة معروفة عند المؤمنين. وثانيها: أيها المنافقون، ادخلوا كلكم في الإسلام، لا يخرج أحد منكم عنه، روي أن ناساً

السِّلْمُ تَأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ على أنّ المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يُخلوا بشيء منها. وعن عبد اللَّه بن سلام أنه استأذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل. و (كافة) من الكف؛ كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهم أسلموا وحسن إسلامهم، وعليه ظاهر كلام المصنف، يدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ) [النساء: 145] إلى قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا) [النساء: 146]. ثالثها: ادخلوا في طاعة الله جميعاً، يعني: تظهرون الصلاة والصيام ونحوهما ثم إذا دعيتم إلى الغزو واستنفرتم اثاقلتم، كما قال تعالى: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) [التوبة: 38]. ورابعها: يا أيها الذين آمنتم بألسنتكم، آمنوا بقلوبكم؛ لأن كمال الإيمان: مواطأة القلب اللسان، وإقامة شعبه كلها، ويمكن أن يجعل الخطاب عاماً وإن كان فيه بعد، والله أعلم. قوله: (السلم تأخذ منها) البيت، الجرعة من الماء: حسوة منه، يقول: الصلح له مجال واسع ومنافع ما ترضى ببعض منها، والحرب لها مضار لا تقاسى وقليل منها يهلك، يحرضه على الصلح ويثبطه عن الحرب. قوله: (باجتماعهم) أي: بسبب اجتماعهم، أي: اجتماعهم يمنعهم من أن يخرج منهم أحد. قال القاضي: (كَافَّةً): اسم للجملة؛ لأنها تكف الأجزاء من التفرق. وحقيقتها ما سبق من قول الزجاج.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدخول في السلم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي: الحجج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم، (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق. وروي: أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابى فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال: إن كان هذا كلام اللَّه فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. وقرأ أبو السمال (زللتم) بكسر اللام، وهما لغتان، نحو: ظللت وظللت. [(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)]. إتيان اللَّه إتيان أمره وبأسه كقوله: (أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [الأنعام: 158] ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ): عن الدخول في السلم)، قال الزجاج: يقال: زل يزل زلاً وزللاً ومزلة، وزل في الطين زليلاً، أي: تنحيتم عن القصد والشرائع. قوله: (فلا يقول كذا الحكيم)، أوقع طفلا يقول" جزاء للشرط على تأويل الإخبار، يعني: إن فرض وقدر أن هذا الذي قرأه القارئ كلام الله فأنا أرده وأخبركم بأن لا يقول كذا الحكيم، يعني: من كانت أقواله وأفعاله محكمة متقنة لا يقع فيهما خلل ولا زيغ، فحمله الناس على المعاصي بعيد؛ لأنه زيغ وإضلال، فقوله: "لا يذكر الغفران": استئناف على سبيل التعليل. ونحوه ما حكي عن الأصمعي أنه قال: كنت أقرأ " (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ) [المائدة: 38] والله غفور رحيم"، وبجنبي أعرابي فقال: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله، قال: أعد، فأعدت، قال: ليس هذا كلام الله، فانتبهت، فقرأت: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال: أصبت، هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: من أي شيء علمت؟ قال: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

(جاءَهُمْ بأسُنا) [الأنعام: 43]، ويجوز أن يكون المأتي به محذوفاً، بمعنى أن يأتيهم اللَّه ببأسه أو بنقمته؛ للدلالة عليه بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ). (فِي ظُلَلٍ): جمع ظلة؛ وهي ما أظلك. وقرئ (ظلال) وهي جمع ظلةٍ، كقلة وقلال، أو جمع ظل. وقرئ: (وَالْمَلائِكَةُ) بالرفع كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنعام: 158]، وبالجر عطفاً على (ظللٍ)، أو على (الغمام). فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول؛ لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير؟ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للدلالة عليه بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ)) أي: دل على هذا المقدر في الوجهين قوله تعالى في الفاصلة السابقة: (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ)؛ لأن صفة قهر وغلبة أوقع العلم عليها، ففي لفظ "الكشاف" تساهل حيث قال: "فإن الله"، والصواب: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ) [البقرة: 209]، المعنى: إن تنحيتم عن القصد وامتنعتم عن الدخول في الإسلام بعد مجيء الدلائل الدالة على حقيقته فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم كما قال، ثم استبطأ إسلامهم ونعى عليهم التثبط، وقال: ما ينتظرون إلا مجيء بأسه ونقمته، وحينئذ لا ينفعهم الإسلام، قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا) [غافر: 85]. قوله: (وقرئ: (وَالْمَلائِكَةِ) بالرفع) كلهم بالرفع، والجر شاذ. قال الزجاج: ومن قرأ بالخفض فالمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وظلل من الملائكة، والرفع هو المختار. وقال القاضي: إنما إتيان الملائكة فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه.

ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع؛ لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثم اشتد على المتفكرين في كتاب اللَّه قوله تعالى: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47]. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ): وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه. وقرأ معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه: (وقضاء الأمر) على المصدر المرفوع عطفاً على (الملائكة) وقرئ: (ترجِع) و (ترجَع) على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: على هذا ذكر الله تمهيد لذكر الملائكة كما في قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: 9] في وجه، والمعنى على العطف على ظلل: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ببأسه في الملائكة؟ قوله: (ومن ثم اشتد على المتفكرين) أي: من جهة أن الشر يجيء من حيث يحتسب الخير، اشتد على الذين يتفكرون في كتاب الله، يعني قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47]. قال في تفسيره: "عملوا أعمالاً حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات"، فقوله: "قوله: (وَبَدَا لَهُمْ) ": فاعل اشتد، يعني: لما علموا ذلك المعنى أي: الاستدراج، ونزلوا عليه هذه الآية، صعب عليهم الأمر وكاد أن يقضي عليهم فزعاً وخيفة. وروي أن محمد بن واسع قرأ هذه الآية فقال: آه آه! إلى أن فارق الدنيا. والله أعلم بصحته. قوله: (وقرئ: "ترجع" ... على البناء للفاعل): حمزة والكسائي وابن عامر، والباقون: على

[(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)]. (سَلْ) أمر للرسول، أو لكل أحد وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة. (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدى أنبيائهم؛ وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام. و (نِعْمَةَ اللَّهِ) آياته، وهي أجل نعمةٍ من اللَّه؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: أن اللَّه أظهرها؛ لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم، كقوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]؛ أو حرفوا آيات الكتب ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البناء للمفعول، وكلتا القراءتين بالتأنيث، والتذكير شاذ، قال القاضي: بناء الفاعل من الرجوع، والمفعول من الرجع. الراغب: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) أي: ما قد ملكه عباده في الدنيا من الملك، والملك والتصرف مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه، ويقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إلى الغير. قوله: (و (نِعْمَةَ اللَّهِ): آياته وهي أجل نعمة من الله) يريد أن ذكر نعمة الله هاهنا من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، للإشعار بتعظيم الآيات وتعليل قبح فعلهم بكفران تلك النعمة العظمى، وهو تبديلهم إياها. قوله: (أو حرفوا آيات الكتب) عطف على قوله: "أن الله أظهرها" أو على قوله: "فجعلوها"؛

الدالة على دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: "كم" استفهامية أو خبرية؟ قلت: تحتمل الأمرين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن التبديل على ما قال في آخر سورة إبراهيم في التغيير، وذلك قد يكون في الذات، نحو: بدلت الدراهم دنانير، وفي الأوصاف نحو: بدلت الحلقة خاتماً، فالوجه الأول منزل على المعنى الثاني، والثاني على الأول، ثم الأول مفرع على قوله قبل هذا: " (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدي أنبيائهم، وهي معجزاتهم"، والثاني مفرع على قوله: "من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام"، وذلك أن (آيَةٍ) في قوله تعالى: (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) يحتمل أن تجري على المعجزات وأن يراد آيات الكتب المنزلة، فاعتبرهما المصنف في بيانه، وكذلك يختلف معنى التبديل باختلاف المعنيين في الآية. قوله: (تحتمل الأمرين) أي: يجوز أن تكون خبرية وأن تكون استفهامية، قال القاضي: محلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، و (آيَةٍ): مميزها، و (مِنْ): للفصل. قال أبو البقاء: والأحسن إذا فصل بين "كم" وبين مميزها أن يؤتى بـ "من"، وقال مكي: كم في موضع المفعول الثاني لآتيناهم، وإن شئت جعلتها في موضع رفع على إضمار العائد، أي: كم آيتناهموه، وفيه ضعف لحذف الضمير، وعن بعضهم أن محل: (كَمْ آتَيْنَاهُمْ): نصب على المصدر، أي: سل بني إسرائيل هذا السؤال، ومثله قول صدر الأفاضل في قول الحريري: "سألناه: أنى اهتديت إلينا"، أي: سألناه هذا السؤال.

ومعنى الاستفهام فيها للتقرير. فإن قلت: ما معنى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ)؟ قلت: معناه: من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله: (ثُمَّ يُحَرِفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) [البقرة: 75]؛ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة عنه. وقرئ: (وَمَنْ يُبَدِّلْ) بالتخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ)؟ ) يعني: لا يصح تبديل الآيات إلا بعد مجيئها، فلم صرح به؟ وما فائدة تصريحه؟ والجواب: ربما يوجد التبديل عن غير خبرة بالمبدل أو عن جهل به فيعذر فاعله، وهؤلاء على خلاف ذلك، والفائدة: مزيد التقريع والتشنيع، وإثبات المجيء للآيات من الاستعارة، ويحتمل أنواعاً منها، قال القاضي: وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، ولذلك قيل: تقديره: فبدلوها ومن يبدل. وقلت: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ) الآية، واردة على سبيل التذييل، وهي مع ذلك مشتملة على التتميم مقررة لقوله: (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) لتضمن الاستفهام في (كَمْ) معنى التقريع والتوبيخ، وفيها مبالغات شتى: إحداها: العموم في (مِنْ) ليدخل هؤلاء الذين بدلوا فيه دخولاً أولياً. وثانيتها: إقامة المظهر موضع المضمر كما سبق. وثالثتها: إضافتها إلى اسم الله تعالى. ورابعتها: التتميم في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ). وخامستها: نسبة المجيء إلى الآيات على سبيل الاستعارة. وسادستها: إيقاع (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) جزاء للشرط على تأويل الإخبار، يعني: تبديل الناس نعمة الله سبب لإخبار الله بكونه شديد العقاب، وهذا لا يصار إليه إلا عند فظاعة الشأن.

[(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)]. المزين هو الشيطان؛ زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها. ويجوز أن يكون اللَّه قد زينها لهم؛ بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين له تزيينا وتدل عليه قراءة من قرأ: (زين الذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل. (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا، كابن مسعودٍ وعمارٍ وصهيب وغيرهم، أي: لا يريدون غيرها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسابعتها: إقامة المظهر موضع المضمر في الجزاء. وثامنتها: تصدره بأداة التأكيد. وتاسعتها: إضافة الشديد إلى العقاب. وعاشرتها: التعميم في الجزاء. قوله: (ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم؛ بأن خذلهم)، فهو من إطلاق المسبب على السبب، أو جعل إمهال المزين تزييناً، فالإسناد على هذا مجاز، نحو: بنى الأمير المدينة، وهزم الأمير الجند، وقال القاضي: والمزين على الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا هو فاعله، ويدل عليه قراءة "زين" على البناء للفاعل، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلق الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية، مزين بالعرض. الراغب: التزيين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل، ولهذا جاء في أوصاف الدنيا دون أوصاف الآخرة نحو: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ) الآية [آل عمران: 14]. قوله: (أي: لا يريدون غيرها) تفسير لقوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وكناية إيمائية،

وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها، أو ممن يطلب غيرها. {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}؛ لأنهم في عليين من السماء، وهم في سجين من الأرض؛ أو حالهم عالية لحالهم؛ لأنهم في كرامة، وهم في هوان، أو هم عالون عليهم، متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون الفضل لهم عليهم، {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}. {والله يرزق من يشاء بغير حساب}: بغير تقدير، يعني: أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه، كما وسع على قارون وغيره، فهذه التوسعة عليكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذي يصحح هذا التفسير إيقاع قوله: (وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) حالاً من "الذين كفروا"، وذلك أنهم إن أرادوا شيئاً من غير الحياة الدنيوية لم يصح تسخرهم بمن لا يريد إلا الحياة الأخروية، والذي يدل على أن قوله: (وَيَسْخَرُونَ): حال تقدير لفظة "هم" في قوله: "وهم يسخرون" ليستقيم وقوع المضارع مع الواو حالاً، ويحتمل العطف على (زُيِّنَ) فيفيد معنى الاستمرار، وقال صاحب "الكشف": تم الكلام عند قوله: (وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم ابتدأ فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا): مبتدأ، و (فَوْقَهُمْ): الخبر، أي: فوقهم في الحجة والقهر والغلبة. انتهى كلامه. ثم المؤمنون على قسمين: المعرض عن الدنيا بكليته كالزهاد، وهو المشار إليه بقوله: "ممن لا حظ له فيها" والطالب معها الآخرة كالمقتصد، وهو المراد بقوله: "ممن يطلب غيرها". قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ)) قال القاضي: قال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) بعد قوله: (مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) ليدل على أن استعلاءهم للتقوى. وهذا يشعر أن العطف في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) تفسيري، والتفرقة بين الوجوه في معنى العلو هي: أن الفوقية على الأول: مكانية، وعلى الثاني: رتبية، وعلى الثالث: استعلائية وقهرية. قوله: (فهذه التوسعة عليكم)، "فهذه": مبتدأ، و"من جهة الله": خبره، أو: "مِن": متعلقة بالتوسعة، والخبر قوله: "لما فيها"، والأولى أحسن طباقاً للتنزيل.

من جهة اللَّه؛ لما فيها من الحكمة، وهي استدراجكم بالنعمة، ولو كانت كرامةً لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم. فإن قلت: لم قال: (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)؟ قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي؛ وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: كفاء ما يستحق بلا إفراط ولا تفريط، وأعطاه بلا حساب إذا أعطاه أكثر مما يستحق أو أقل، والأول هو المقصود هاهنا، وقيل: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك أن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا من حيث يجب وفي وقت ما يجب، وعلى الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسب، ولهذا ما روي أن "من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في القيامة". قوله: (ليريك أنه لا يسعد). خلاصة الجوابين: أن هذا الأسلوب من باب إقامة المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق للعلية، وفائدة التعليل: إما تعظيم من اتصف بالتقوى، أو تفخيم هذه الصفة، والجواب الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني، وهذه النكتة توقفك على أن تفسيره الثاني لقوله تعالى: (فَوْقَهُمْ) أولى، لأن المتقي كريم مكرم، وقال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [الدخان: 51]، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 23]. قال صاحب "الانتصاف": وفي كلامه إشارة إلى مذهبه في وجوب وعيد العصاة بقوله: "لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي"؛ لأن فيه إشارة إلى أن المصر على الكبيرة شقي حتماً كالساخرين من الذين آمنوا، ويتوجه إليه الرد من كلامه، فإن العمل عندهم والتقوى

[(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ داخل في حقيقة الإيمان، ومن أخل بذلك فهو فاسق عندهم ليس بمؤمن ولا كافر، وكلامه يناقضه، فإنه قال عقيبه: "ليبعث المؤمن على التقوى". قلت: قد علم من مضمون كلام المصنف في فاتحة السورة المخالفة بين المؤمن والمتقي، وأن المتقي أرفع منزلة من المؤمن، فإذا القصد فيه ترغيب المؤمنين في الترقي، ولئن سلمت الموافقة فالقصد في إيراد الوصف الإيذان بشرف التقوى ورفعة شأنها، ليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على التقوى كما وصف الله تعالى الملائكة بالإيمان في قوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر: 7]، وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن هو بعث للمؤمنين على الاتصاف بصفتهم، وتنبيه على شرف الإيمان ورفعة شأنه، لكن الذي يقتضيه النظم أن تفسر التقوى بما عرف في اللغة، وهو: التجنب والاحتراز مطلقاً، ويكون مفعوله مقدراً لدلالة الكلام عليه، فيكون المعنى: إن الكافرين إنما يسخرون من المؤمنين لأنهم أصحاب ثروة ونعمة، قصروا السعادة على جمع الدنيا والتنعم فيها، ومن زهد فيها عدوه من الأراذل وسخروا منه، كما ترى أصحاب هذا الزمان، فأخبر الله أن الذين اتقوا، أي: احترزوا من جمع الدنيا وزهدوا فيها، حالهم في الآخرة عالية كحال الأغنياء في الدنيا، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هلك المكثرون، إن المكثرين الأقلون يوم القيامة ... " الحديث.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على دين الإسلام، (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) يريد: فاختلفوا، فبعث اللَّه، وإنما حذف لدلالة قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) عليه، وفي قراءة عبد اللَّه: (كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه)، والدليل عليه قوله عز وعلا (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [يونس: 19]. وقيل: كان الناس أمة واحدة كفاراً، فبعث اللَّه النبيين فاختلفوا عليهم، والأوّل الوجه. فإن قلت: متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت: عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا. وقيل: هم نوح .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يريد: فاختلفوا فبعث الله)، يريد أن الفاء في (فَبَعَثَ اللَّهُ) فصيحة ليؤذن أن البعثة لم تتخلف عن الاختلاف، بل كما حصل الاختلاف لم تتوقف البعثة. قوله: (والدليل عليه) بعد قوله: "لدلالة قوله" ليس بتكرار؛ لأن الدليل الأول قرينة لتقدير المقدر من جنس ما يدل عليه المذكور، والثاني دليل آخر منصوص عليه، وارد للتوافق بين الآيتين، وقالوا: المراد بقوله: "والدليل عليه" إثبات قراءة ابن مسعود، وهي شاذة بما تواترت فيه الرواية، وفيه إشكال. فإن قلت: قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ) يقتضي أنه لم يسبق اختلاف. قلت: يحمل هذا على الشدة فيه، وإليه الإشارة بقوله: "جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الاختلاف". قوله: (والأول الوجه) أي: المراد بقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) متفقين على ملة الإسلام هو الوجه القوي. وقلت، والله أعلم: لابد من تفصيل الأقوال هاهنا، روى محيي السنة، عن ابن عباس: "كان الناس على عهد إبراهيم أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين"، وعن الحسن وعطاء: "كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهم السلام على ملة الكفر، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: ورواه ابن عباس، وقال: واحتجوا بالآية فقوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، وأما الخبر فهو "إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، وقال: جوابه أن هذا لا يليق إلا بضده، إذ لو كان الاتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى، وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الاتفاق كان على الحق. وروى محيي السنة عن مجاهد: "كان آدم وحده أمة واحدة؛ لأنه أصل البشر، فلما كثر نسله اختلفوا، فبعث الله النبيين". وعن قتادة وعكرمة: "كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا فبعث الله إليهم نوحاً". وعن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: "كان الناس، حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية، أمة واحدة مسلمين ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم، ونظيره في يونس: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا .. ) ". وقال الإمام: قيل: إن المراد بالناس ها هنا أهل الكتاب لأن الآية متعلقة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وهي في قول أكثر المفسرين نازلة في اليهود، أي: كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة على دين واحد، ثم اختلفوا بغياً وحسداً، فبعث الله النبيين الذين جاؤوا بعد موسى على بعثة محمد صلوات الله عليه، وقال: هذا القول مطابق لما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل الآية وما بعدها، وليس فيها إشكال. وقلت: والذي هو أقرب إلى التحقيق ما رواه أبو العالية، عن أبي بن كعب، ويوافقه قول مجاهد وقتادة وعكرمة، وقول المصنف: "والأول الوجه" يدل عليه وجهان، أحدهما: ما في يونس: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 19]، حيث جاء بأداة الحصر وعقب الاختلاف بالفاء، والأصل عدم التقدير، قال المصنف: "وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل وهابيل". وثانيهما: ما روينا عن مسلم، عن عياض المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبة: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وغني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك"، الحديث. قوله: "أحرق قريشاً"، أي: أقتلهم وأهلكهم. وأما بيان النظم: فهو أنه تعالى لما عد الفرق الأربع كما سبق في قوله: (فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا) ثم خص اليهود بالذكر في قوله:

ومن كان معه في السفينة (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يريد الجنس، أو مع كل واحدٍ منهم كتابه ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وكان صلوات الله عليه يرجو رفع الاختلاف عند بعثته، فلما اختلفوا أشتاتاً بأن نجم قرن النفاق، واختلف اليهود في التحريف والتبديل، ودخل في خلده من ذلك الاضطراب، سلي بقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني: هون على نفسك فإن مثل هذا الاختلاف غير مختص بزمانك، فإن الأمم المتقادمة من لدن آدم إلى عهدك، هذا كان دأبهم وعاداتهم مع الأنبياء، فعليك بأصحابك المهديين وقل لهم أن يتأسوا بك فيما أنت والأمم المؤمنة السالفة عليه من الصبر على البلاء والمحن كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة: 214] الآية، وإليه الإشارة بقوله: (ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف) إلى آخره، انظر كيف طابق هذا المعنى ما رويناه من الحديث من أوله إلى آخره، ثم الفاء التعقيبية في قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) آذنت بأن المؤمنين أيضاً كانوا داخلين في حكم الاختلاف، لكن الله تداركهم بلطفه الشامل واستخلصهم لنفسه وترك أولئك الضلال في عنادهم، يدل عليه قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وإليه ينظر قوله صلوات الله عليه: "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم؛ عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، والمراد بأهل الكتاب: أهل الحق منهم. قوله: ((الْكِتَابِ)، يريد الجنس، أو مع كل واحد منهم كتابه)، قال القاضي: "الكتاب" يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم. وقلت: هذا الثاني أيضاً صحيح؛ لأن قوله: (النَّبِيِّينَ) عام، فخص لتقييده بقوله: (وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ) بالمشهورين الذين أنزل معهم الكتاب، كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228].

(لِيَحْكُمَ) اللَّه، أو الكتاب، أو النبىّ المنزل عليه (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ): في الحق (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ): إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، أي: ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب، وجعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الاختلاف واستحكامه. (بَغْياً بَيْنَهُمْ): حسداً بينهم، وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم. و (مِنَ الْحَقِّ) بيان لما اختلفوا فيه، أي: فهدى اللَّه الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف. [(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)]. (أَمْ) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: قال في سورة مريم: يحتمل أن يكون التعريف جنساً فيتناول العموم، والمراد الخصوص، ويحتمل أن يكون عهداً، فهو في أول وهلة: خاص. قوله: ((لِيَحْكُمَ) الله، أو الكتاب، أو النبي)، إسناد الحكم إلى الله تعالى وإلى النبي حقيقة، وإلى الكتاب، كقوله تعالى: (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 58]: على الاستعارة. قوله: (ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده)، يعني: "المخاطبون" بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب وجود هذا الحسبان منهم؛ لأن التقرير والإنكار والاستبعاد يقتضي ذلك، وكان كذلك، لما روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي، عن الخباب ابن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده

بعد مجيء البينات؛ تشجيعاً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب، وإنكارهم لآياته وعداوتهم له - قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ: (أم حسبتم) ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك عن دينه"، قال القاضي: وفيه إشارة على أن الوصول إلى الله والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات، وأنشد: دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا قوله: (على طريقة الالتفات التي هي أبلغ) فإن قلت: أين الالتفات ها هنا، فإن الالتفات هو: الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى لمفهوم واحد، وهذا المعنى ها هنا مفقود؟ قلت: قوله: "ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف"، معناه: أن قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) الآية، كان كلاماً مشتملاً بظاهره على ذكر اختلاف الأمم السالفة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء، وما لقوا منهم من الشدائد بعد إظهار المعجزات، ومدمجاً لتشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المشركين، قال الله تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120]، فمن هذا الوجه كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مرادين في هذا الكلام غائبين، يؤيده قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)، فإذا قيل لهم بعد ذلك: (أَمْ حَسِبْتُمْ) كان نقلاً من الغيبة إلى الخطاب، والكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والتصبر لأذى المشركين، فكأنه وضع ذلك

و"لَمَّا" فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات، والمعنى: أن إتيان ذلك متوقع منتظر. (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) حالهم التي هي مثل في الشدّة. و (مَسَّتْهُمُ) بيان للمثل، وهو استئناف؛ كأن قائلاً قال: كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء، (وَزُلْزِلُوا): وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع؛ (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها: (مَتى نَصْرُ اللَّهِ)، أي: بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه: طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشهدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضع: كان من حق المؤمنين التشجع والتصبر على مكابدة المشاق من المخالفين وأعداء الدين تأسياً بمن قبلهم لجامع الإيمان، كما صرح به الحديث النبوي، وهو المضرب عنه "ببل" التي تضمنها (أَمْ)، أي: دع ذلك، أحسبوا أن يدخلوا الجنة ولما يأتهم مثل الذين خلوا من قبلهم، كقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2]، فترك ذلك إلى الخطاب مريداً للإنكار والاستبعاد. قوله: (و"لما" فيها معنى التوقع)، قال في "الإقليد": إنماتضمن معنى التوقع لأنها جعلت نقيضة قد، وفي "قد" معنى التوقع، تقول: قد ركب الأمير، لقوم ينتظرون ركوبه ويتوقعون، وكذلك لما يركب، ومعنى التوقع: طلب وقوع الفعل مع تكلف واضطراب، ولذلك قيل: الانتظار موت أحمر، وقولك: "لما يركب" معناه: ما وجد بعد وقوع ما كنت تتوقعه أي: في الحال. قوله: (ومعناه: طلب النصر وتمنيه)، فإن المتمني يطلب ما لا يرجى حصوله، يعني: ليت الله ينصرنا وهو دليل على تناهي الأمر في الشدة، قال أبو البقاء: موضع (مَتَى): رفع؛ لأنه خبر المصدر، وعند الأخفش: ظرف، و (نَصْرُ): مرفوع به.

في الشدة وتماديه في العظم؛ لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) على إرادة القول، يعني: فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. وقرئ: (حتى يقول) بالنصب على إضمار "أن" ومعنى الاستقبال؛ لأنّ «أن» علم له، وبالرفع على أنه في معنى الحال كقولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرّ بطنه، إلا أنها حال ماضية محكية. [(يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) 215]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا مطمح وراءها)، الجوهري: طمح فلان بصره: رفعه، وقال بعضهم: طمح أي: أبعد في الطلب. قوله: (من عاجل النصر) بيان لـ "طلبتهم". قوله: (وقرئ: (حَتَّى يَقُولَ)، بالنصب) قرأ نافع بالرفع، والباقون بالنصب. قال الزجاج: فالنصب على معنى سرت حتى أدخلها، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون الدخول غاية السير، والسير والدخول قد مضيا جميعاً، والمعنى: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ... وثانيهما: أن يكون السير قد وقع، والدخول لم يقع، أي: سرت كي أدخلها، وليس هذا وجه الآية، والرفع على وجهين: أحدهما: أن يكون السير قد مضى، والدخول واقع الآن، تقول: سرت حتى أدخلها الآن ما امتنع.

فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال في قوله: (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت: قد تضمن قوله: (قُلْ مَا أَنَفْقتُم مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه؛ وهو كل خير، وبني الكلام على ما هو أهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول، نحو قولك: سرت فأدخلها، أي: فدخلتها، وحتى لم تعمل في الفعل، وعلى هذا وجه الآية. وقلت: وهذا الذي عناه المصنف بقوله: "على أنه في معنى الحال لكن على أنها حكاية حال ماضية"، وفائدته: تصوير تلك الحالة العجيبة الشأن، واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها، وعليه قوله: "حتى يجيء البعير يجر بطنه". قوله: (وهو كل خير)، الراغب: (مِنْ خَيْرٍ) أي: من مال، سمي المال خيراً تنبيهاً على أن الذي يجوز إنفاقه هو المال الذي تناوله اسم الخير، كما قال: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة: 180]. قوله: (وبني الكلام على ما هو أهم). قال صاحب "المفتاح": سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف، نزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله، لتوخي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أو أهم له إذا تأمل. قلت: وأما ما عليه كلام المصنف فخلاف ذلك؛ لأن الجواب مطابق من حيث الإشارة، فإنه بظاهره مسوق لبيان المصرف ومدمج فيها معنى ما ينفق، وهو الخير، تقديره: قل: ما يعتد به من إنفاق الخير مكانه ومصرفه الأقربون، ومع هذا لا يخرج من باب الأسلوب الحكيم، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) [البقرة: 189]، وذلك أن معرفة بدو الأهلة وتزايدها وكمالها ومحاقها لما لم يكن من الأمور المعتبرة في الدين

وهو بيان المصرف؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، قال إنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يلتفت إليها رأساً بل ردها ضمناً، وأن إنفاق كرائم الأموال من الدين لكن اعتداده بحسب المصرف، وأنه المطلوب الأولى، جعله أصلاً والمسئول عنه تابعاً، وفيه إبطال علم النجوم وما لا جدوا له في الدين من علم الفضول. الراغب: قيل: في مطابقة الجواب السؤال وجهان: أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق وعلى من ننفق؟ لكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازاً، ودل عليه الجواب بقوله: (مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ)، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلف أحدهما في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة. والوجه الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أني صير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه، طلبه المريض أو لم يطلبه، فلما كان حاجتهم إلى من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمران. وقلت: مثاله: من غلب عليه مرة السوداء إذا طلب من الطبيب تناول الجبن فيقول: عليك بمائه، كما أجيب عن قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ) بقوله: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)، وإذا طلب من غلب عليه مرة الصفراء العسل فيقول: مع الخل، وعليه الآية التي نحن بصددها. قوله: (إن الصنيعة) البيت، بعده: وإذا صنعت صنيعة فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أو دع وهو يوضح البيت الأول.

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هِمّ وله مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت. وعن السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة. وعن الحسن: هي في التطوّع. [(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)]. (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) من الكراهة بدليل قوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً). ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقولها: فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصنيعة: ما اصطنعت لأحد من خير، والمصنع: محل الصنيعة، أو: مصدر ميمي. قوله: (وعن ابن عباس): جواب آخر مطابق لظاهر الجواب في الآية، لكن السؤال متضمن لذكر المنفق مع المنفق عليه، تقديره: ماذا ينفقون؟ وأين يضعونه، وإليه ينظر الوجه الأول من قول الراغب. قوله: (شيخ هم)، الجوهري: الهم بالكسر: الشيخ الفاني. قوله: (هي منسوخة بفرض الزكاة)، قال القاضي: ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به. قوله: ((وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ): من الكراهة)، أي: لا من الإكراه. قال في "الأساس": وقد كره كراهة، وكرهته، فهو مكروه، وتكره الشيء: تسخطه. وقال الزجاج: كرهت الشيء كرهاً وكرهاً وكراهةً، بالفتح والضم، وكل ما في كتاب الله من الكره جائز فيه الوجهان لكن هنا الناس مجمعون على الضمة.

كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له؛ وإما أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز، أي: وهو مكروهٌ لكم. وقرأ السلمي بالفتح على أن يكون بمعنى المضموم، كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم. ومنه قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) [الأحقاف: 15]، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: الكره، بالضم: المشقة، يقال: أقمت على كره، أي: مشقة، ويقال: أقامني فلان على كره، بالفتح: إذا أكرهك عليه، قال: وكان الكسائي يقول: الكَرْهُ والكُرْه لغتان. الراغب: قيل: هما واحد، وقيل: الكَرْهُ، بالفتح: المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه، وبالضم: ما يناله من ذاته وهو ما يعافه إما طبعاً أو عقلاً أو شرعاً ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد: إني أريده وأكرهه، بمعنى إني أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، كقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الآية. وذهب المصنف إلى أن الكره من الكراهة لا من الإكراه، بناءً على انه لا يجوز أن يكرههم ويجبرهم على القتال، بل إنه تعالى أوجب عليهم القتال، والحال أن في القتال كراهة عندهم، بدليل قوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإنه أسند الفعل إليهم، ولو كان بمعنى الإكراه لم يطابق الكلام، ويجوز أن يكون إسناد الإكراه إلى الله على سبيل المجاز، بمعنى أنهم لشدة كراهتهم للقتال بحيث لا طريق إلى أن يؤمروا به إلا على طريق الإجبار والإكراه كما مر بيانه في قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [البقرة: 7] في الوجه الرابع منه، ثم مطابقته لقوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) على سبيل التذييل. قوله: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً)) [الأحقاف: 15]. قال المصنف: وكرهاً بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة.

وعلى قوله تعالى: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) جميع ما كلفوه؛ فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما يصلحكم وما هو خير لكم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك. [(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين؛ ليترصد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي وثلاثة معه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلى قوله)، أي: جميع ما كلفوه على نسق قوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا). قوله: (وتحب خلافه) أي: النفس تحب خلاف ما كلفت به، وهو شر لها؛ لأنه يفضي بها إلى الردى. قال القاضي: إنما ذكر (عَسى) لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها فلا يكون كرهاً عليها بل تستلذ له، وفي قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة، وإن لم يعرف عينها. وقال الزجاج: ومعنى كراهيتهم القتال أنه من جنس غلظه عليهم ومشقته، لا أن المؤمن يكره فرض الله، لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح. قوله: (عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة)، روي أنهم الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله.

فقتلوه وأسروا اثنين، واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويبذعرّ فيه الناس إلى معايشهم، فوقف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم العير وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، وردّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم العير والأسارى. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: لما نزلت أخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الغنيمة. والمعنى: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام. و (قِتالٍ فِيهِ) بدل الاشتمال من (الشهر)، وفي قراءة عبد اللَّه: (عن قتال فيه) على تكرير العامل، كقوله: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف: 75]، وقرأ عكرمة: (قتل فيه قل: قتل فيه كبير) أي: إثم كبير. وعن عطاء: أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف باللَّه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وما نسخت. وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5] ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويبذعر) أي: يتفرق، الجوهري: ابذعروا: تفرقوا، قال أبو السميدع: ابذعرت الخيل: إذا ركضت تبادر شيئاً تطلبه. قوله: (وما نسخت) تتمة قول عطاء وتفسير لقوله: "ما يحل للناس" إلى آخره، أي: فحلف بالله: ما نسخت، وأكثر الأقاويل أنها منسوخة بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5]، قال القاضي: وهو نسخ للخاص بالعام وفيه خلاف، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقاً، فإن (قِتَالٍ فِيهِ) نكرة في حيز مثبت فلا تعم.

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ): مبتدأ، و (أكبر): خبره، يعني: وكبائر قريشٍ من صدّهم عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام وكفرهم باللَّه وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم رسول اللَّه والمؤمنون (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن. (وَالْفِتْنَةُ): الإخراج أو الشرك. (والمسجد الحرام) عطف ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): عطف على (سَبِيلِ اللَّهِ))، قال صاحب "الفرائد": فالتقدير حينئذ: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكان (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) من صلة الصد؛ لأن المعطوف على الصلة في حكم الصلة، فكيف صح عطف (وَكُفْرٌ بِهِ) على قوله: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قبل الفراغ منه؟ هذا معنى قول المصنف في الحاشية: "كيف صح العطف قبل الفراغ من المعطوف عليه وقد منعوا من ذلك؟ "، وأجاب عنه من وجهين أحدهما: أن قوله: (وَكُفْرٌ بِهِ) في معنى الصد عن سبيل الله، فاتحادهما هو الذي سوغ ذلك، كأنه قال: "وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام"، وقلت: يريد أن قوله: (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) على سبيل التفسير، كأنه قيل: وصد عن سبيل الله، أي: كفر بالله والمسجد الحرام، فاعترض بين المعطوف والمعطوف عليه التفسير. وذكر صاحب "الكشف" عن أبي علي: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): عطف على (سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ألا ترى على قوله: (هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الفتح: 25]. وثانيهما: أن موضع (وَكُفْرٌ بِهِ) عقيب قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلا أنه قدم لفرط العناية عليه كما في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص: 4]، كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن أحد كفواً له، إلا أنه قيل: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) فقدم قوله: (لَهُ) لفرط العناية، قال أبو البقاء: والجيد أن يكون متعلقاً بفعل محذوف دل عليه الصد،

على (سبيل اللَّه)، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (بِهِ). (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، و"حتى" معناها: التعليل، كقولك: فلان يعبد اللَّه حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كى يردّوكم. و(إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ويصدون عن المسجد الحرام، كقوله تعالى: (هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الفتح: 25]. وقال السجاوندي: هو عطف على الشهر، فقد عظموا القتل في الشهر والمسجد، فسألوا عنهما. وقال الزجاج: (قِتَالٌ): مرتفع بالابتداء، و (كَبِيرٌ): خبره، ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْرَاجُ) أهل المسجد الحرام (مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)، على الابتداء والخبر، أي: هذه الأشياء أكبر عند الله، أي: أعظم إثماً، والفتنة أكبر من القتل، أي: هذه الأشياء فتنة، والفتنة كفر، والكفر أكبر من القتل. قوله: (ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (بِهِ)) يعني عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار ولأنه يفسد المعنى، إذ لا معنى لقولنا: وكفر بالمسجد الحرام. قوله: (و (إِنْ اسْتَطَاعُوا): استبعاد)، أي: لا يكون استطاعة، وبعيد أن تكون استطاعة،

فلا تبقُ عليَّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ): ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه (فَيَمُتْ) على الردّة، (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)؛ لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة، وبها احتج الشافعي على أن الردّة ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتفرض كما تفرض المحالات، لدلالة استعمال "إن" في مقام التحقيق، وهذا التقدير يستدعي أن يجري (حَتَّى) على التعليل دون الغاية. قوله: (على رده إليه) هذا من حذف الفاعل وإضافة الرد إلى مفعوله، أي: يطاوعهم على ردهم إياه. قوله: (من ثمرات الإسلام وباستدامتها) نشر لقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أي: يفوتهم ثمرات الإسلام بإحداث الردة، وثواب الآخرة باستدامة الردة والموت عليها، ويريد بقوله: "ثمرات الإسلام" هي: أن لا يستحق من المسلمين موالاة ولا نصراً ولا غنيمة ولا ثناء حسناً، وتبين زوجته، ولا يستحق الميراث من المسلمين، ولا يكون آمناً؛ لأنه يقتل عند الظفر به. قوله: (وبها احتج الشافعي)، ووجهه: أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. فإن قيل: هذا معارض بقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، فالجواب أن هذا من باب حمل المطلق على المقيد، لأنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً، ولو حملنا المطلق على المقيد لعملنا بمقتضى الدليلين، وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا صلى المسلم، ثم ارتد ثم أسلم، قال الشافعي: لا قضاء عليه لما أدى

لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها، وعند أبي حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلماً. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا): روي أن عبد اللَّه بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر؛ فنزلت، (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ). عن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمّة، ثم جعلهم اللَّه أهل رجاءٍ كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب. [(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 219 - 220]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل الردة، وقال أبو حنيفة: يلزم قضاء ما أدى، والذي يشد من عضد الحمل على التقييد: إيقاع (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) حالاً من المجرور في (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، وهو مطلق وشائع في الخسران، وعطف (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) على (فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، وهو تقييد لذلك المطلق وبيان لذلك المبهم. قوله: (ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون)، قال القاضي: أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة، لاسيما والعبرة بالخواتيم. الراغب: وهذه المنازل الثلاثة التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) [المائدة: 35]، ولا سبيل إلى المهاجرة

نزلت في الخمر أربع آياتٍ؛ نزلت بمكة: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل: 67]، وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول اللَّه، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت: (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا بعد الإيمان، ولا إلى جهاد الهوى في سبيله إلا بعد هجران الشهوات، ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته. قوله: (نزلت في الخمر أربع آيات)، إلى آخره، قال القفال: الحكم في وقوع التحريم على هذا الترتيب؛ أنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق. وقلت: ومصداقه ما روينا عن البخاري، عن يوسف بن ماهك أنه قال: قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعراقي: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنا" الحديث. ويدل على هذا التدرج قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) [المائدة: 91]؛ لأنه كما قال: أبلغ من

ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون"؛ فنزلت: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء: 43]، فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحي بعيرٍ فشجه موضحة، فشكا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 90 - 91]، فقال عمر رضى اللَّه عنه: انتهينا يا رب. وعن عليّ رضى اللَّه عنه: لو وقعت قطرةٌ في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو وقعت في بحرٍ ثم جفت ونبت فيه الكلأ لم أرعه. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعني ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صريح النهي. كما أنه ذكر عقيب الصوارف. ولاستعمال (هَلْ) في غير مقتضاها قال الزجاج: معناه التحضيض على الانتهاء والتهديد على ترك الانتهاء. قوله: (فشجه موضحة) نصب على أنه مفعول مطلق من "شجه"، والموضحة: الشجة التي توضح العظم. قوله: (ونبت فيه الكلأ لم أرعه)، الأساس: رعت الماشية الكلأ، وارتعت، ورعاها صاحبها، وهو راعي الإبل، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أنه مجاز عن الأكل على التوسعة، قال في قوله تعالى: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف: 12] يريد يتسع في أكل الفواكه وغيرها.

وهذا هو الإيمان حقاً وهم الذين اتقوا اللَّه حق تقاته. والخمر: ما غلا واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه، ثم غلا واشتدّ ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبي حنيفة، وعن بعض أصحابه: لأن أقول مراراً: هو حلال أحبّ إليّ من أن أقول مرةً: هو حرام، ولأن أخرّ من السماء فأتقطع قطعاً أحبّ إليّ من أن أتناول منه قطرة. وعند أكثر العلماء؛ هو حرام؛ كالخمر، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب. وسميت خمراً؛ لتغطيتها العقل والتمييز، كما سميت سكراً؛ لأنها تسكرهما، أي: تحجزهما، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً؛ إذا ستره للمبالغة. والميسر: القمار: مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: الأصل: لم ترعه ماشيتي، فحذف المضاف- أي: ماشية- وأقيم المضاف إليه- أي: ضمير المتكلم- مقامه، فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى المتكلم، كذا قدر محيي السنة في (يَرْتَعْ)، والمصنف في قوله: (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [الكهف: 60]، وهذا أبلغ، ومقام الإغراق في الوصف له أدعى. قوله: (والخمر: ما غلا واشتد)، الراغب: الخمر: ستر الشيء، ويقال لما يستر به، لكن الخمار صار في التعارف لما تغطي به المرأة رأسها، وخمرت الإناء: غطيته، وكذلك خمرت العجين، وسميت الخميرة لكونها مخمورة، والخمار: الموروث من الخمر، جعل بناؤه بناء الأدواء نحو: الكباد والصداع، وخامره الحزن: إذا استولى عليه حتى ستر فهمه وبنحوه حتى سمي غماً، وأصله من الستر.

يقال: يسرته؛ إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر؛ لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولةٍ من غير كد ولا تعب، أو من اليسار؛ لأنه سلب يساره. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال: أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى أي: يفعلون بي ما يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت: كيف صفة الميسر؟ قلت: كانت لهم عشرة أقداح؛ وهي: الأزلام والأقلام والفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد، لكل واحدٍ منها نصيب معلوم من جزورٍ ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء، وقيل ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي: المنيح والسفيح والوغد، ولبعضهم: لِيَ فِى الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمنِيحُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قمرته)، أي: غلبته في القمار، "يخاطر" أي: يراهن ويقامر. قوله: (أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني) تمامه: ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم "ييسرونني" أي: يقتسمونني كما تقتسم أعضاء الجزور في الميسر. قال الزجاج: الميسر إنما كان قماراً في الجزور خاصة، وجعل كل القمار قياساً عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول الشاعر: إنهم أخذوا فداه فاقتسموا، فكأنهم اقتسموا نفسه، والشعب: موضع، وزهدم: اسم فرس، وفي رواية صاحب "المطلع": ألم تيأسوا موضع "ألم تعلموا"، وهو في لغة النخع: "ألم تعلموا"، ومنه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا) [الرعد: 31]، أي: أفلم يعلم. وقال صاحب "المطلع": كانت لهم عشرة أقداح تسمى الأزلام ذوات الأنصباء منها سبعة: الفذ، وله سهم وفيه في اليسر فرض، والتوأم وله سهمان وفيه فرضان، وعلى هذا: الرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل والمعلى، يزداد في كل واحد منها سهم وفرض، والتي لا حظوظ لها: المنيح والسفيح والوغد، وهي الثلاثة تسمى أغفالاً لخلوها عن السهام، وإنما تخلط بذوات السهام في الربابة وهي خريطتها ليكثر عددها، ويؤمر الحرضة الإجالة، وهو الضارب، ولهذا تشد عيناه عند الضرب، وإذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ويضرب للسبعة الياسرين ليعلم من يجب عليه الثمن، ثم ينحرونه قبل أن ييسروا ويقسمونه عشرة أقسام، وهو قول أكثر الأئمة، وقال الأصمعي: ثمانية وعشرين سهماً، ولو كان كما قال لا يظهر الفوز والغرم، وإذا ضرب القداح وخرج الفذ وله نصيب واحد، أخذ صاحبه عشر أعشار الجزور، وسلم من غرم الثمن واعتزل القوم، وإن كان الذي خرج أولاً التوأم أخذ صاحبه عشرين من أعشار الجزور وسلم واعتزل، وكذلك كل خارج منها إلى المعلى، فإن صاحبه يأخذ من أعشار قدحه ويعتزل، ثم يعيد الحرضة الإجالة ثانية، ثم يخرج سهماً، فإن خرج بعد الفذ التوأم أخذ صاحبه السهمين وسلم واعتزل، وإن كان الرقيب أخذ ثلاثة أسهم على هذا، يجيلها مرة بعد أخرى ويخرج في كل مرة سهماً إلى أن يستغرق الأجزاء العشرة من الجزور ويظهر الفوز والغرم، فإن فضلت حصص السهام على أعشار الجزور، كما إذا خرج أولاً المعلى ثم المسبل، فهذه ثلاثة عشر نصيباً، أخذ صاحب المعلى سبعة من الأعشار، وصاحب المسبل ثلاثة، وغرم له الذين لم تخرج سهامهم قيمة ثلاثة أعشار مع ثمن الجزور بعد سهامهم، فقس على هذا. تم كلام صاحب "المطلع".

للفذ سهم؛ وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة؛ يجعلونها في الربابة وهي خريطة، ويضعونها على يدي عدلٍ ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم. وفي حكم الميسر: أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم». وعن عليّ رضي اللَّه عنه: أنّ النرد والشطرنج من الميسر. وعن ابن سيرين: كل شيءٍ فيه خطر فهو من الميسر. والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما، بدليل قوله تعالى: (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويسمونه البرم)، الجوهري: هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. النهاية: الأبرام: اللئام، واحده برم، بفتح الراء. قوله: (إياكم وهاتين الكعبتين المشؤومتين)، روينا عن مسلم وأبي داود، عن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في دم خنزير"، وفي رواية أبي داود:

(وَإِثْمُهُما) وعقاب الإثم في تعاطيهما (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام. وقرئ: (إثم كثير) بالثاء، وفي قراءة أبيّ: (وإثمهما أقرب). ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. (الْعَفْوَ) نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال: خُذِى الْعَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "غمس يده في لحم خنزير ودمه"، وعن مالك وأبي داود: "من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله". قوله: (وقرئ: "إثم كثير")، بالثاء المثلثة: حمزة والكسائي. قوله: (الجهد)، النهاية: الجهد، بالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، وأما المشقة والغاية فالفتح لا غير. قوله: (خذي العفو مني تستديمي مودتي). الشعر لأبي الأسود الدؤلي يخاطب به امرأته، وتمامه قوله: ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ويقال للأرض السهلة: العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنّ رجلاً أتاه ببيضةٍ من ذهب أصابها في بعض المغازي، فقال: خذها مني صدقة فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأتاه من الجانب الأيمن، فقال: مثله، فأعرض عنه ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه، فقال: "هاتها" مغضباً .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الغضب: شدته وحدته. وبعده قوله: وإني رأيت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب المعنى: إن أردت دوام المودة وبقاء المحبة فخذي السهل، وهو: أن لا تنطقي في حال حدة غضبي، فإن الحب والأذى إذا دخلا في الصدر لا يلبث الحب معه، فهما ضدان لا يجتمعان. قوله: (وقرئ بالرفع والنصب)، أبو عمرو: "قل العفو" بالرفع، والباقون: بالنصب. قوله: (أن رجلاً أتاه ببيضة)، الحديث من رواية أبي داود عن جابر، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بجميع ما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". النهاية: "عن ظهر غنى" أي: ما كان عفواً قد فضل عن غنى، وقيل: أراد: ما فضل عن العيال، والظهر قد يراد في مثله هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مسندة إلى ظهر قوي من المال.

فأخذها فخذفه بها خذفاً لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى» (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إمّا أن يتعلق بـ (تتفكرون) فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما هو أصلح لكم، كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد في النفقة، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم؛ وإمّا أن يتعلق بـ (يُبَيْنُ) .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فخذفه) بالخاء المعجمة، وعلى ما روينا: بالحاء المهملة، النهاية: الخذف: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين إبهامك وسبابتك وترمي بها، أو ترمي بها بالخشب. قوله: 0 يتكفف) أي: يمد كفه يسأل الناس. قوله: (وإما أن يتعلق بـ (يُبَيِّنَ)): عطف على قوله: "إما أن يتعلق بـ (تَتَفَكَّرُونَ) "، فعلى أن يتعلق بـ (تَتَفَكَّرُونَ): المشار إليه بقوله: (كَذَلِكَ) إما جواب السؤال الثاني، وهو قوله: (قُلْ الْعَفْوَ)، وهو لكونه إرشاداً إلى الأصلح في النفقة، وقد وقع مشبهاً به لبيان الآيات، يدخل فيه سائر الأحكام الشرعية مما له مدخل في تحري الأصلح، وإليه الإشارة بقوله: "فتأخذون بما هو أصلح لكم"، هذا بالنظر إلى العفو في الإنفاق نفسه، وأما بالنظر إلى أن يقع الإنفاق راجعاً إلى السائل، ووقع مشبهاً به، فيدخل فيه الكلام في تحري إيثار ما فيه النفع من الدارين؛ لأن الإنفاق على الفضل من غير تقتير ولا تبذير، أبقى لمال المنفق، وأنفع له من الإسراف، وفيه تنبيه على أن إيثار الآخرة على الدنيا لكونها أبقى وأكثر نفعاً من شيمة العارف بالأمور المتفكر فيها، وإليه الإشارة بقوله: "أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع". وأما إذا كان المشار إليه متعلق جواب السؤال الأول، وهو قوله: (وَإِثْمُهُمَا)،

على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين، وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون. لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء: 10] اعتزلوا اليتامى وتحاموهم، وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، فشق ذلك عليهم، وكاد يوقعهم في الحرج، فقيل: (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وتعاشروهم ولم تجانبوهم فهم فَإِخْوانُكُمْ في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه. وقد حملت المخالطة على المصاهرة. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي: لا يخفى على اللَّه من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه، ولا تتحروا غير الإصلاح ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالمعنى ما قال: "لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا" إلى آخره، وعلى أن يتعلق بقوله: (يُبَيِّنَ) يكون قوله: (تَتَفَكَّرُونَ) عاماً فيما يتفكر فيه أو مطلقاً، ويكون المشار إليه بـ (كَذَلِكَ) جميع ما سبق من أول السورة، أو جميع ما بين في التنزيل، والمعنى: مثل هذا البيان المذكور في كل ما تأتون وتذرون يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، لعلكم تتفكرون في جميع ذلك، أو تكونون من أهلا لتفكر ومن زمرة المتدبرين. وقال صاحب "المرشد": واختلفوا في ناصب (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، منهم من قال: إنه منتصب بـ (تَتَفَكَّرُونَ)، ومنهم من قال: منتصب بـ (يُبَيِّنُ اللَّهُ)، والوجهان بعيدان، فلا يوقف على قوله (تَتَفَكَّرُونَ) لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول، والوقف التام عند قوله: (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). قوله: (وقد حملت المخالطة على المصاهرة)، النهاية: الصهر: ما كان من خلطة تشبه القرابة يحدثها التزويج. قال الزجاج: كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشر، ويأكلون أموالَهم مع أموالِهم، فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه التزوج بنساء اليتامى ومخالطتهم،

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لحملكم على العنت - وهو المشقة- وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم. وقرأ طاووس: (قل إصلاح إليهم) ومعناه: إيصال الصلاح وقرئ (لاعنتكم)، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وكذلك (فَلا إِثْمَ) [البقرة: 173]. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم، ولكنه (حَكِيمٌ) لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم. [(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأعلم الله تعالى أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة، ويجيء تفسير الآية في "النساء" إن شاء الله. قوله: (لحملكم على العنت)، الراغب: المعانتة: كالمعاندة، لكن المعانتة أبلغ؛ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك، ولهذا يقال: عنت فلان: إذا وقع في أمر يخاف منه التلف، يعنت عنتاً، ويقال: عنته غيره، قال تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128]. قوله: ("لاعنتكم"، بطرح الهمزة)، قرأ البزي من رواية أبي ربيعة عنه بتليين الهمزة، والباقون: بتحقيق الهمزة، قيل: أسقط في الكتابة ما أسقط في القراءة من الهمزة.

(وَلا تَنْكِحُوا) وقرئ بضم التاء، أي: لا تتزوّجوهنّ، أو: لا تزوّجوهن. والْمُشْرِكاتِ: الحربيات. والآية ثابتة. وقيل: المشركات: الكتابيات والحربيات جميعاً؛ لأن أهل الكتاب من أهل الشرك؛ لقوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) إلى قوله تعالى: (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 30 - 31]، وهي منسوخة بقوله تعالى: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5]، وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس، والأوزاعى. وروي: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمها عناق، فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستأمره. فاستأمره؛ فنزلت. (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ): ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكةً، وكذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ)؛ لأنّ الناس كلهم عبيد اللَّه وإماؤه. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ): ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَلا تَنكِحُوا) قرئ بضم التاء)، قال الزجاج: هذا وجه، ولا أعلم أحداً قرأ به. قوله: (وكذلك: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ)) أي: ولعبد مؤمن حراً كان أو عبداً، الراغب: فيه إشارة مجملة إلى فضل العبد المؤمن على الحر المشرك، وبيان فضيلته يحتاج إلى مقدمة، وهي: أن الشيئين إذا تشككت أيهما أفضل أخذت كل واحد منهما مع ضد الآخر، فأيهما هو المؤثر حكمت له، مثاله: إن شك في العلم والغنى أيهما أفضل، تقول: انظر: هل الغنى مع الجهل أفضل أم الفقر مع العلم؟ فإذا علمت أن الفقر مع العلم أفضل من الجهل مع الغنى علمت

فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك، (أُولئِكَ) إشارة إلى المشركات والمشركين، أي: يدعون إلى الكفر، فحقهم أن لا يوالوا، ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال، (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) يعني: وأولياء اللَّه- وهم المؤمنون- يدعون إلى الجنة، (وَالْمَغْفِرَةِ)، وما يوصل إليهما؛ فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم. (بِإِذْنِهِ): بتيسير اللَّه وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن: (والمغفرة بإذنه) بالرفع، أي: والمغفرة حاصلة بتيسيره ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن العلم أفضل من الغنى، فإذا ثبت ذلك، والعبد هو الذي ملك منافعه مدة، والحر هو الذي لم تملك منافعه، والمؤمن هو المستحق للثواب الدائم، والمشرك هو المستحق للعقاب الدائم، فينظر: هل من ملك منافعه مدة ثم أثيب دائماً أفضل؟ أم من لم تستحق منافعه مدة ويعاقب دائماً؛ فإذا علمنا أن الأول خير علمنا أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك. قوله: (أي: يدعون على الكفر) تفسير لقوله: (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، أي: الكفر المؤدي إلى النار. قوله: (يعني: وأولياء الله) أي: حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيماً لشأنهم، وإنما قدر المضاف لأن قوله: (بِإِذْنِهِ) لا يستقيم من غير تقدير إذ لا يقول: الله يدعو بإذنه، ولأنه واقع في مقابل (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، وهم أعداء الله، قوبل بأولياء الله. قوله: (وأن يؤثروا على غيرهم) صح بغير "لا" من نسخة المعزي، وفي نسخة الصمصام: "وأن لا يؤثروا على غيرهم"، مع "لا" وقال المطرزي: الصواب: وأن لا يؤثر عليهم غيرهم. قوله: ((بِإِذْنِهِ): بتيسير الله وبتوفيقه للعمل)، قال المصنف: هو مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق.

[(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ* نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)]. الْمَحِيضِ: مصدر، يقال: حاضت محيضاً، كقولك: جاء مجيئاً، وبات مبيتا. (قُلْ هُوَ أَذىً) أي: الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرةً منه وكراهة له، (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ): فاجتنبوهنّ، يعني: فاجتنبوا مجامعتهنّ. روي: أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في بيت، كفعل اليهود والمجوس، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ؛ فأخرجوهنّ من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب: يا رسول اللَّه، البرد شديد، والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم". وقيل: إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء، فأمر اللَّه بالاقتصاد بين الأمرين ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المحيض: مصدر). قال الزجاج: يقال: حاضت المرأة، تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً، وعند النحويين: أن المصدر في هذا الباب بابه "المَفْعِل" لكن "المَفْعَل" جيد بالغ. قوله: (فاجتنبوهن، يعني: فاجتنبوا مجامعتهن)، وهو كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) [النساء: 23]، أي: نكاحهن، وفيه مبالغة، ولذلك وصف المحيض بالأذى، ورتب عليه الحكم بالفاء.

وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال: فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج. وروى محمد حديث عائشة رضى اللَّه عنها: أنّ عبد اللَّه بن عمر سألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: تشدّ إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم: أنّ رجلاً سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لتشدّ عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، وقد جاء ما هو أرخص من هذا ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها)، وحديثها مذكور في "الموطأ" وفيه بدل "سفلتها": "أسفلها"، السافلة: المقعد والدبر، والسفلة، بكسر الفاء: قوائم البعير، من "الصحاح"، وحديث زيد بن أسلم أيضاً في "الموطأ". قوله: (ثم شأنك بأعلاها)، النهاية: أي: استمتع بها فوق فرجها، فإنه غير مضيق عليك، "وشأنك": منصوب بإضمار "فعل"، ويجوز رفعه على الابتداء. قوله: (وهذا قول أبي حنيفة)، يعني: روى محمد بن الحسن الحديث الثاني، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، ثم ذكر محمد بن الحسن الحديث الثالث تقوية لمذهبه، ويجوز أن يكون "وقد جاء ... " من كلام المصنف.

عن عائشة رضي اللَّه عنها: أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. وقرئ: (يطهرن) بالتشديد، أي: يتطهرن، بدليل قوله: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ)، وقرأ عبد اللَّه: (حتى يتطهرن) و (يطهرن) بالتخفيف، والتطهر: الاغتسال، والطهر: انقطاع دم الحيض، وكلتا القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاةٍ كامل. وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتتطهر فتجمع بين الأمرين. وهو قول واضح، ويعضده قوله: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شعار الدم)، المغرب: الشعار: العلامة، وشعار الدم: أي: الخرقة، أو: الفرج، على الكناية؛ لأن كلاً منهما علم للدم. وفيه أريد بشعار الدم: الخرقة والإزار، فعلى هذا إن أريد بالشعار الإزار فهو قول أبي حنيفة، وإن أريد به الفرج والكرسف فهو قول محمد، وفي قول محمد: "قد جاء ما هو أرخص من هذا" إشعار بأن المراد منا لشعار الكرسف والفرج. قوله: (وقرئ: "يطهرن" بالتشديد) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد، وقراءة عبد الله: شاذة. قوله: (وهو قول واضح)، أي: ظاهر الآية يدل عليه، فإن قوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) حكم مرتب على الوصف المناسب، فعلم أن الموجب كونه أذى، فإذا انتفى الأذى

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ): من المأتى الذي أمركم اللَّه به وحلله لكم؛ وهو القبل. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن الفواحش، أو إنّ اللَّه يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار، كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل، وإتيان ما ليس بمباح، وغير ذلك. (حَرْثٌ لَكُمْ): مواضع حرثٍ لكم. وهذا مجاز، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجوز قربانهن، ثم قوله: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لابد له من فائدة زائدة على ذلك، فإذا أريد بالطهارة انقطاع الدم، كان تكريراً والمقام لا يقتضيه. فيجب حمله على الاغتسال، ويعضده قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فإنه بناءُ مبالغة يقتضي التطهر التام، والفاء نتيجة، أي: إذا حصل الطهارتان فلا تفعلوا ما هو أقذر من ذلك من الإتيان في أدبارهن، بل (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يبدر منكم من القربان في المحيض، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ): المجتنبين عن تلك الفاحشة المتنزهين عن الإتيان في الأدبار؛ لأنه فاحشة فيكون المشار إليه بقوله: "من ذلك" ما يفهم من قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)، والمراد بالمتطهرين: المجتنبون عن تلك الفاحشة، ويجوز العكس، ويجوز أن يكون المشار إليه النهيين المذكورين في الآية، ومعنى النهي في الثاني بناءً على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وعلى الوجه الآتي القرينتان، أعني التوابين والمتطهرين، علامتان كقوله أولاً: "التوبة من كل ذنب"، وثانياً: "المطهرين من جميع الأقذار" وهذا الوجه أنسب بالاعتراض الواقع بين البيان والمبين، وأدعى للمقام، ولذلك صرح بمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل وإتيان ما ليس بمباح. قوله: (مما عسى يبدر منهم) بالياء والباء، وفي نسخة الصمصام: بالياء والنون. الجوهري: بدرت منه بوادر غضب، أي: خطأ وسقطات عندما احتد، والبادرة: البديهة، بدرت إلى الشيء، أبدر إليه بدوراً، شرعت، وكذلك: بادرت إليه. قوله: (مواضع حرث لكم، وهذا مجاز)، فإن قلت: هذا يوهم أن التشبيه مجاز وأن قوله

شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل، أي: فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي: جهةٍ شئتم، لا يحظر عليكم جهة دون جهة ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ): استعارة وليس به لورود المشبه والمشبه به في الكلام، فإن قوله: (نِسَاؤُكُمْ): مشبه، و (حَرْثٌ لَكُمْ): مشبه به، أي: نساؤكم كمواضع حرث لكم، والتشبيه حقيقة من الحقائق، فما القول فيه؟ قلت: أما على مذهب ابن الأثير فظاهر؛ لأن التشبيه عنده مجاز، وذلك أن إلحاق الناقص بالكامل لأجل المبالغة في قولك: زيد أسد، بدل: شجاع، تعدى اللفظ من مكانه الأصلي. أما عند المحققين فهو تشبيه بليغ كما مر، فإذن المراد بقوله: "هذا مجاز" أي: وضع (حَرْثٌ) موضع "مواضع حرث لكم" مجاز، نحو قوله تعالى: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]. وقوله: "شبهن بالمحارث": جملة مستأنفة، بيان للتركيب وصحة تشبيه النساء بمواضع الحرث؛ لأن قوله: "تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن": مفعول مطلق، نحو: ضربت ضرب الأمير، يعني: شبهت النساء بالأراضي مثل ما شبهت النطف بالبذور، والظاهر أن يكون مفعولاً له؛ لأن الغرض من التشبيه ذلك. فإن قلت: ما قولك في قوله: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل، ثم قوله: "من الكنايات"؟ قلت: أما التمثيل فباعتبار المعاني المنتزعة من إتيان المرأة من أي جهة شاء بعد توخي موضع الحرث وتحري رضاء الله تعالى، مثل هذه الحالة بحالة الزارع الذي له أن يأتي أراضيه المملوكة للحرث من أي جهة شاء لا يمنعه مانع، فالوجه منتزع من عدة أمور متوهمة، وهو عدم الحرج والتضييق في الإتيان بعد أن يكون المقصد واحداً، وأما الكناية فباعتبار أخذ الزبدة والخلاصة من هذا المجموع. قوله: (وقوله): مبتدأ، والمذكورات بعده مفعوله، وقوله: "من الكنايات": الخبر، أي:

والمعنى: جامعوهن من أي: شق أدرتم بعد أن يكون المأتى واحداً؛ وهو موضع الحرث. وقوله: (هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ)، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام اللَّه آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدّبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم. وروي: أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها؛ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المذكورات الأربع كل واحد منها من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، والتعريضات: عطف على الكنايات على سبيل البيان. يعني أنها تعريضات واقعة على طريق الكناية، أما قوله: (هُوَ أَذًى) فكناية عن قوله: "شيء مستقذر" كما قدره؛ لأن المستقذرات مستلزمة للأذى، ووجه حسنها: أن المراد الاجتناب عنه، فيجب أن يكني بلفظ [لا] يوحش السامع كما سبق في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]، وأما قوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ) فهو كناية عن اجتناب قربانهن ومجامعتهن، ووجه حسنها: لفظ الاعتزال، فإنه يدل على التبعيد منهن لتناسب الأذى وإظهار لفظ النساء وتصريح المحيض، ورتب هذا الحكم على تلك الصفة، وأما قوله: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ) فكناية عن إتيانهن في قبلهن، ووجه حسنها: الإشعار بأن في المأمور به فوائد غير ما ورد الكلام له من طلب النسل، والتحصن وغير ذلك، قال الزجاج: أي: ولا تقربوهن وهن طامثات، ولا معتكفات، ولا صائمات، ولا محرمات. وفي تخصيص اسمه الأعظم في هذا المقام معان وحكم لا تحصى، وأما قوله: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فعلى ما سبق. قوله: (وهي مجبية)، النهاية: في حديث جابر: كانت اليهود تقول: إذا نكح الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول، أي: منكبة على وجهها تشبيهاً بهيئة السجود، والرواية عن البخاري،

كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: "كذبت اليهود" ونزلت. (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وما هو خلاف ما نهيتكم عنه. وقيل: هو طلب الولد. وقيل: التسمية على الوطء. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تجترئوا على المناهي، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ)؛ فتزوّدوا ما لا تفتضحون به، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات. فإن قلت: ما موقع قوله: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، يعني: أنّ المأتى الذي أمركم اللَّه به هو مكان الحرث؛ ترجمة له وتفسيراً، أو إزالة للشبهة، ودلالةً على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهنّ إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومسلم، وأبي داود، والترمذي، عن جابر: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت (نِسَاؤُكُمْ). قوله: (فتزودوا ما لا تفتضحون به)، يريد أن ذكر الملاقاة بعد ذكر التقوى مؤذن بأن المراد بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) التقوى الذي ذكر في قوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]، ثم الوافد يحتاج في سفره إلى تقديم الوسيلة إلى من يقصد إليه، وإليه الإشارة بقوله: (وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ). قوله: (ترجمة له وتفسيراً وإزالة للشبهة)، وفي أكثر النسخ: "أو إزالة"، وفي نسخة بولغ في تصحيحها بالواو، وهي منصوبة على أنها مفعول له لقوله: "يعني"، أو لقوله: "موقع البيان"، ويجوز أن تكون مفعولاً مطلقاً أو حالاً. اعلم أن قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) لما ورد بغير العاطف صلح أن يكون بياناً لقوله تعالى: (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ)؛ لأنها تدل بمنطوقها على الموضع المبهم، ومن حيث

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مفهومها على شيئين آخرين لأن الأمر أن أحدهما: أن الأمر بإتيانهن قد يتوهم منه أن يكون لمجرد الشهوة، أو لطلب الولد، فبين بقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الموضع الذي ينبغي أن يؤتى فيه، فأزيل طلب مجرد الشهوة، فإن الحرث مختص بالمكان الذي يتأتى فيه البذر والزرع، والحاصل أن من حق الظاهر أن توضح الكناية بالتصريح ليتبين المقصود ظاهراً، فبينت هذه الكناية بكناية أخرى، لتلك النكتة السرية، وليناط بها مسألتان على سبيل الإدماج، إحداهما: أن النساء كالأراضي، مملوكات للرجال. وثانيتهما: رفع الجناح عما كان يجتنبه اليهود من التجبية، ثم السر في جعل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) اعتراضاً بين البيان والمبين، وتوكيداً لمضمونهما، وإيثار بناء الفعل في (الْمُتَطَهِّرِينَ) من التفعل، وإيقاع المحبة عليه، وتخصيص اسم الله الجامع بعد سبق ذكر الأذى والمحيض: للإعلام بتوخي تكلف الطهارة وتحري العروج من حضيض السفالة إلى يفاع مدارج قدس تجلي المحبة. وفي "اللطائف القشيرية": إن الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين من العيوب، ويحب التوابين من الزلة المتطهرين من العلة. انظر أيها الناظر في كلام الله المجيد، المتأمل في دقيق إشاراته ولطيف لمحاته إلى هذه الرموز والتلويحات، لتعرف أن الحديث في الأذى والمحيض إذا اشتمل على هذه النكات، فما الظن في النبوات والإلهيات، والله أعلم. هذا على تقدير الواو، وأما على تقدير "أو" فلا ينبغي أن يجمع بين هذه المعاني، اللهم إلا أن يقال: إن "أو" للإباحة، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.

فإن قلت: ما بال (يَسْئَلُونَكَ) جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثاً؟ قلت: كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة، فلم يؤت بحرف العطف؛ لأنّ كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد؛ فجيء بحرف الجمع لذلك؛ كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن الإنفاق، والسؤال عن كذا وكذا. [(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)]. العرضة: فعلة بمعنى مفعول، كالقبضة والغرفة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضاً: المعرض للأمر. قال: فَلَا تَجْعَلُونِى عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بغير واو ثلاث مرات)، وهي: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) [البقرة: 219]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى) [البقرة: 215]، (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 217]، (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ) [البقرة: 219]. قوله: (ثم مع الواو ثلاثاً)، وهي: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) [البقرة: 219]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى) [البقرة: 220]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ) [البقرة: 222]، فالثلاثة الأخيرة التي فيها الواو مع الأخير ما ليس فيه الواو، أعني قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) كأنها جمعت، فلذلك قال: "يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر" إلى آخره. قوله: (فيعترض) هو مطاوع: تعرضه. قوله: (المعرض للأمر) أي: المنصوب له. قوله: (فلا تجعلوني عرضة للوائم) أوله:

ومعنى الآية على الأولى: أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات؛ من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحدٍ أو عبادة، ثم يقول: أخاف اللَّه أن أحنث في يمينى؛ فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دعوني أنح وجداً كنوح الحمائم يقال: فلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه، وجعلت فلاناً عرضة لكذا: إذا نصبته له. الراغب: العرض: خلاف الطول، وأصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها كما قال تعالى: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) والعرض: خص بالجانب، وأعرض الشيء بدا عرضه، ومنه: عرضت العود على الإناء، واعترض الشيء في حلقه: وقف فيه بالعرض، والعرضة: ما يجعل معرضاً للشيء، قال: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ)، وبعير عرضة للسفر، أي: يجعل معرضاً له. قوله: (ومعنى الآية على الأولى)، أي: على اللغة الأولى، وهي: أن يكون عرضة اسم ما تعرضه دون الشيء. قوله: "إذا حلفت على يمين"، الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. جعل المصنف قوله: "على يمين" بمعنى المحلوف عليه مجازاً، وقيل: "على يمين" معناه: ما يتعلق به اليمين، وهو من إقامة المصدر مقام المفعول، سمي المحلوف عليه يميناً، لأنها بمعنى الحلف، تقول: حلفت يميناً، كما تقول: حلفت حلفاً، يدل عليه قوله: "فرأيت غيرها خيراً"، أي: غير المحلوف عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "النهاية": الحلف: هو اليمين، كما تقول: حلف يحلف حلفاً، وأصلها العقد بالعزم والنية، فخالف بين اللفظين، أي: حلف. "وعلى يمين" تأكيداً لعقده وإعلاماً أن لغو اليمين لا ينعقد، وعن النسائي، عن أبي موسى، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيته"، فإنه لا يدل إلا على التأكيد؛ لأن "أحلف عليها": صفة مؤكدة "ليمين"، نحو: أمس الدابر لا يعود، أي: من حلف على حلف، كقول المتنبي: أرق على أرقٍ ومثلي يأرق والمعنى: من حلف يميناً جزماً لا لغواً، ثم بدا له أمر آخر إمضاؤه أفضل من إبرار يمينه، فليأت ذلك الأمر، ويكفر عن يمينه، وهو الذي عناه بقوله: "فيترك البر إرادة البر في يمينه"، صورته: ما روينا عن مسلم ومالك والترمذي، عن أبي هريرة: أن رجلاً حلف أن لا يأكل طعاماً قدم بين يديه، ثم بدا له فأكل، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأتها، وليكفر عن يمينه".

فقيل لهم: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ)، أي: حاجزاً لما حلفتم عليه. وسمي المحلوف عليه يميناً؛ لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك» أي: على شيءٍ مما يحلف عليه. وقوله: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا) عطف بيانٍ لـ"أيمانكم"، أي: للأمور المحلوف عليها التي هي: البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت: بم تعلقت اللام في (لأيمانكم)؟ قلت: بالفعل، أي: ولا تجعلوا اللَّه لأيمانكم برزخاً وحجازاً، ويجوز أن يتعلق بـ (عُرْضَةً)؛ لما فيها من معنى الاعتراض، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَنْ تَبَرُّوا): عطف بيان لـ "أيمانكم") بناءً على أن "أيمانكم" بمعنى المحلوف عليه، فإذن (أَنْ تَبَرُّوا) بمعنى: لأن تبروا. قال الزجاج: المعنى: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا [ومعنى الآية]: أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم قد حلفوا، أي: الإثم في الإقامة على ترك البر والتقوى، واليمين إذا كفرت فالذنب مغفور. وقال الإمام: المعنى: لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى، هذا أجود ما ذكره المفسرون. قوله: (قلت: بالفعل): تقرير الجواب من وجهين، أحدهما: أن تكون اللام صلة، إما لقوله: (وَلا تَجْعَلُوا) أو لـ (عُرْضَةً)، فعلى الأول: (وَلا تَجْعَلُوا) متعد إلى ثلاثة مفاعيل لكن أحدها بالواسطة، وعلى الثاني إلى مفعولين، و"أيمانكم" على التقديرين بمعنى المحلوف عليه، و (أَنْ تَبَرُّوا): بيان له. وثانيهما: أن تكون اللام للتعليل، والأيمان على حقيقتها، ويؤيده قوله: "لأجل أيمانكم به"، ويرجع معنى (أَنْ تَبَرُّوا) إلى كونه إما مفعولاً ثالثاً لتجعلوا، أو متعلق أحد مفعولي جعلوا، وهو: "عرضة"، وإليه الإشارة بقوله: "شيئاً يعترض البر".

بمعنى: لا تجعلوه شيئاً يعترض البر، من: اعترضني كذا؛ ويجوز أن يكون اللام للتعليل، ويتعلق (أن تبروا) بالفعل، أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا اللَّه لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. ومعناها على الأخرى: ولا تجعلوا اللَّه معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به؛ ولذلك ذم من أنزل فيه (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم: 10] بأشنع المذامّ، وجعل "الحلاف" مقدّمتها- و (أن تبروا) علة للنهى، أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا- لأن الحلاف مجترئ على اللَّه غير معظم له؛ فلا يكون براً متقياً، ولا يثق به الناس؛ فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. اللغو: الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره؛ ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل: لغو. واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: إرادة أن تبروا) قيل: إنما قدر "إرادة" ليتحقق شرط حذف اللام، وهو المقارنة؛ لأن البر والتقوى والإصلاح لم تكن مقارنة للنهي، والأولى أن تقدر الإرادة لتكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل، وقيل: لا يحتاج إلى تقديرها، فإن حذف اللام على القياس المستمر، قال صاحب "المفتاح": الأصل في المفعول له اللام، فإذا لم يجتمع ما ذكرنا، أي: من الشروط، التزم الأصل إلا في نحو: زرتك أن تكرمني، وأن تحسن إلي. قوله: (لأن الحلاف مجترئ على الله) علة لجعل الحلاف مقدمة المذام. وقوله: ((أَنْ تَبَرُّوا): علة للنهي) إلى آخره: معترض بين العلة والمعلول، وقوله: "ولذلك ذم": علة معلل محذوف، المعنى: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه؛ لأن تبروا وتتقوا، يعني: لأجل أن تكونوا أبراراً أتقياء يثق بكم الناس ويدخلونكم في وساطتهم، تبتذلون الله بكثرة الحلف به، وهذا من أشنع الأفعال، ولذلك ذم من أنزل فيه (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ) [القلم: 10]، وجعل الحلاف مقدمة المذام؛ لأن الحلاف مجترئ على الله تعالى، إلى آخره.

والدليل عليه: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة: 89]، (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، واختلف الفقهاء فيه: فعند أبي حنيفة وأصحابه: هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه، وعند الشافعي: هو قول العرب: لا واللَّه، وبلى واللَّه، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك، ولعله قال: "لا واللَّه" ألف مرة. وفيه معنيان: أحدهما: (لا يُؤاخِذُكُمُ الله) أي: لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) في المائدة [89]، وقلت: وفي قوله: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ذلك المعنى أيضاً، وذلك أن الكسب يستعمل فيما يزاول باليد، كقوله تعالى: (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30]، فاستعماله في القلب استعارة، فيفيد المبالغة. الراغب: قوله: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أعم من قوله: (بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ)، وذلك أن القلب لما كان يعبر به عن الجسد الذي به المعرفة والفكر، ويجري من سائر أجزائه مجرى الراعي من المرعي، نبه بقوله: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أن الاعتداد به دون غيره من الجوارح، حتى إن كل فعل لا يكون عنه وبه سهو أو خطأ متجاوز عنه، ولهذا ورد أن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد. قوله: (في المسجد الحرام) فيه نكتة، يعني: الحلف مع انضمام ما يعد مغلظة لاعتبار المقام يعد في العرف لغواً. قوله: (ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم)، يفهم من كلامه عدم المعاقبة على لغو اليمين،

أي: اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله، وهي اليمين الغموس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعاقبة على عقدها، ولا يفهم منه ثبوت الكفارة، قال في "البداية": الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين الغموس، ويمين منعقدة، ويمين لغو، فاليمين الغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه، فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها ولا كفارة فيها إلا التوبة، وقال الشافعي رضي الله عنه: فيها الكفارة، والمنعقدة: فالحلف على أمر في المستقبل أني فعله أو لا يفعله، وإذا حنث فيها لزمته الكفارة لقوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) [المائدة: 89]، ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كما قال والأمر بخلافه، فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها، قال في "حاشيتها": تجب الكفارة في الغموس عند الشافعي، وكذلك تجب الكفارة عندنا في اللغو المفسر بالتفسير الذي عند الشافعي، ويفهم من ذلك أنه لا تجب الكفارة عندهم في اللغو المفسر بتفسيرهم، وان عقد اليمين ليس على ما فسره المصنف من اليمين الغموس. قوله: (وهي اليمين الغموس)، النهاية: وهي اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وفعول: للمبالغة، وفي الحديث: "اليمين الغموس تذر الديار بلاقع".

والثاني: (لا يُؤاخِذُكُمُ) أي: لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أي: بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده. (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم. [(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)]. قرأ عبد اللَّه: (آلوا من نسائهم)، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (يقسمون من نسائهم). فإن قلت: كيف عدي بـ"من"، وهو معدى بـ"على"؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين، ويجوز أن يراد: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم) أي: قصدت من الأيمان، هذا المعنى هو الذي عناه صاحب "النهاية" في قوله: "من حلف على يمين"، أي: عقد بالعزم والنية، ويؤيده قوله في الحديث: "وكفر عن يمينك". قوله: (آلوا من نسائهم)، فسر (يُؤْلُونَ) بالماضي لينبه على أن المراد بالمضارع هنا الاستمرار الشامل للأزمنة الثلاثة، بدليل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) [فاطر: 29].

لهم (مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، كقولك: لي منك كذا. والإيلاء من المرأة: أن يقول: واللَّه لا أقربك أربعة أشهر، فصاعداً، على التقليد بالأشهر، أو: لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون في مادون أربعة أشهرٍ، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه، أو بالقول إن عجز؛ صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبي حنيفة، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لهم (من نسائهم تربص)) من: لابتداء الغاية، قال أبو البقاء: اللام في (لِلَّذِينَ) متعلق بمحذوف وهو: الاستقرار، وهو خبر والمبتدأ: (تَرَبُّصُ)، وعلى قول الأخفش هو فعل وفاعل، وأما (مِن) فقيل: يتعلق بـ (يُؤْلُونَ)، يقال: آلى من امرأته وعلى امرأته، وقيل: الأصل: على، ولا يجوز أن يقام "من" مقام "على"، فعند ذلك تتعلق "من" بمعنى الاستقرار، وإضافة التربص إلى الأشهر إضافة المصدر إلى المفعول فيه في المعنى وهو مفعول به على السعة. وضع المصنف الضمير في "لهم" موضع الموصول مع صلتها في التنزيل ليظهر تعلق "من" بالجار والمجرور لا بالصلة. قوله: (والإيلاء من المرأة: أن يقول)، الراغب: الإيلاء: الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه من قوله: (لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً) [آل عمران: 118] (وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) [النور: 22] وصار في الشرع: الحلف المانع من جماع المرأة. قوله: (بانت بتطليقة عند أبي حنيفة) رضي الله عنه، في "الهداية": ولنا أنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة.

وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر، ثم يوقف المولي فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله: (فَإِنْ فاؤُ): فإن فاؤوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد اللَّه: (فإن فاؤوا فيهن) (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء، وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل، أو ببعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة. (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) فتربصوا إلى مُضيِّ المدة. (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة. وعلى قول الشافعي رحمه اللَّه، معناه: (فإن فاءو)، (وإن عزموا) بعد مضي المدة. فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت: موقع صحيح؛ لأن قوله: (فَإِنْ فاءُو)، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر). قال القاضي: المعنى: للمولي حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، ويؤيده قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) أي: رجعوا في اليمين بالحنث. وقال المصنف: "فإن فاءوا في الأشهر" ليكون موافقاً لمذهب أبي حنيفة، وأما قراءة عبد الله فمن الشواذ التي لم يذكرها ابن جني ولا الزجاج. قوله: (من الغيل)، النهاية: الغيل: أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، وقد أغال الرجل وأغيل، والولد مغال ومغيل، واللبن الذي يشربه الولد يقال له: الغيل أيضاً. قوله: (لأجل الفيئة) متعلق بقوله: "يغفر". قوله: (وعلى قول الشافعي) عطف على قوله: "ومعنى قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) ". قوله: (كيف موقع الفاء؟ ) أي: الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فكيف يصح مذهب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي حنيفة، فإن الفيء وعزم الطلاق يصح عنده قبل مضي الأشهر الأربعة لا بعده؟ وأجاب: إن عطف قوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) على قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) يدل على أن كليهما كالتفصيل لما أجمل في قوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، والمفصل عن المجمل يتعقبه في الذكر لا الوجود، وأجاب الإمام: أن الفيء وعزم الطلاق مشروعان عقيب الإيلاء وعقيب حصول التربص، فلابد أن يكون مدخول الفاء واقعاً بعد هذين الأمرين، والمثال المذكور ليس منه؛ لأن الفاء مذكورة عقيب شيء واحد. وقلت: المثال المذكور ليس منه؛ لأن الفاء مذكورة عقيب شيء واحد؛ لأن النزيل عند القوم لا يخلو حاله من هذين المعنيين، إما أنهم يراعون حقه أو يتركونه ولا يلتفتون إليه، ولا ثالث فيصح التفصيل، وأما في الآية فللمولي حالة ثالثة غير الفيء والطلاق، وهو التربص، فلا يكون التفصيل حاصراً، على أن التربص يدفعهما؛ لأن معناه: الانتظار والتوقف، كما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]، فالواجب حمل الفاء على التعقيب مطلقاً. قال صاحب "الانتصاف": ما قاله صاحب "الكشاف" في الفاء التفصيلية تفريع على مذهب أبي حنيفة، والسؤال لازم له، ويجوز أن يجاب عنه على مذهبه، فإن التربص هو: الانتظار، وذلك يصدق بالشروع فيه، فتقول لمن أمهلته: قد أجلتك أربعة أشهر، وتربصت بك أربعة أشهر، وإن لم يمض منها إلا دقيقة، فتكون الفاء واقعة في محلها حقيقة ولا يحتاج إلى حملها على المجاز. وقلت: هو وإن أجرى الفاء على حقيقتها لكن جعل مدة تربص أربعة أشهر مجازاً من الشروع فيها، وعلى ما قررنا لا يلزم من ذلك شيء.

(وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ)، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل. فإن قلت: ما تقول في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار لا يخلو من مقاولة ودمدمة، ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا اللَّه كما يسمع وسوسة الشيطان. (وَالْمُطَلَّقاتُ): أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نزيلكم)، الجوهري: النزيل: الضيف، قال: نزيل القوم أعظمهم حقوقاً ... وحق الله في حق النزيل قوله: (فإن أحمدتكم) أي: وجدتكم محمودين. قوله: (ريثما أتحول)، النهاية: وفي الحديث: "فلم يلبث إلا ريثما قلت" أي: قدر ما قلت. قوله: (ودمدمة). في الحواشي: الدمدمة: الكلام الخفي، وكذا الدندنة، ولم نجد في كتب اللغة الدمدمة في الميم، وفي "الصحاح": الدندنة: هي: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وزاد صاحب "النهاية": وهو أرفع من الهينمة قليلاً. وكذا في "الفائق". الراغب: "دمدم عليهم ربهم" أي: أهلكهم وأزعجهم، وقيل: الدمدمة: حكاية صوت الهرة، ومنه دمدم فلان في كلامه.

فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بل اللفظ مطلق في تناول الجنس) أي: اللفظ شائع في جنسه مقيد ها هنا بقيدين. اعلم أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم؛ لأن العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد، والمطلقات كذلك، لكن منع هنا مانع من الحمل عليه. قال الإمام: إنما يحسن تخصيص العام إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر، فإن العادة جارية في أن الثوب إذا كان الغالب عليه السواد يقال: إنه أسود، ولا يقال فيما إذا كان الغالب عليه البياض: إنه أسود، وهذه الآية من القسم الثاني، فإن "المطلقات" صالحة للمطلقات المدخولات ولغير المدخولات، ولذوات الأقراء ولذوات الأشهر وللحوامل، فأنتم أخرجتم عن عمومها أكثر الأقسام وتركتم الأقل، فإطلاق لفظ العام عليه غير لائق، وقال الأرموي في "الحاصل": مثال التقييد بالحكم قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). هذا وإن عند الحنفية على ما نقله البزدوي في "أصوله": دليل الخصوص مستقل بنفسه ومقارن للعموم، فيشبه الناسخ بصيغته؛ لأنه نص قائم بنفسه، ويشبه الاستثناء بمقارنته، حتى لو تراخى كان ناسخاً. وأيضاً، إن المطلق يوجب العمل بإطلاقه، فإذا صار مقيداً صار شيئاً آخر؛ لأن القيد والإطلاق ضدان لا يجتمعان، وإن التخصيص تصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم، فالمخصص يتناول بعض العموم، والقيد لا يتناوله المطلق مطلقاً، فعلى هذا لا يجوز أن يكون (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) تخصيصاً للمطلقات، لأنهما ليستا جملتين مستقلتين، فتعين أن تكونا قيدين.

صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك اللَّه! أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة، فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ، مما زاده أيضاً فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل: (تربص أربعة أشهر)؟ وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن؛ وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صالح لكله وبعضه)، هذا هو الذي عناه صاحب "المفتاح": أن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر، والحكم بأحدهما يعرف بالقرينة، كاللفظ المشترك، وها هنا قامت القرينة على أنها المطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء. قوله: (وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد). قال صاحب "المفتاح": سببه أن المبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يسند إليه صرفه المبتدأ إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم، ثم إذا كان متضمناً لضميره صرفه إلى المبتدأ ثانياً فيكتسي الحكم قوة. قوله: (فيحملهن على أن يتربصن)، الراغب: التربص: الانتظار بالشيء، سلعة يقصد بها الغلاء أو رخصاً، أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله، يقال: لي ربصة بكذا أو تربص.

فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص. والقروء: جمع قرء أو قرء، وهو الحيض؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك»، وقوله: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان»، ولم يقل: طهران، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويغلبنها على الطموح)، الأساس: غلبته على الشيء: أخذته منه، وهو مغلوب عليه. قوله: (بدليل قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك"، وقوله للأمة: "وعدتها حيضتان")، ما وجدتهما في "الأصول"، ومع هذا فهما معارضان بحديث ابن عمر رضي الله عنهما كما سيجيء، ويؤيده أيضاً ما روينا عن مالك، عن عائشة رضي الله عنها: "أتدرون ما الأقراء؟ هي الأطهار"، وقال مالك: قال ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا هو يقول ما قالت عائشة، وأما الآية فلا تصح للدليل.

وقوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4]، فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار؛ ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر؛ ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة. ويقال: أقرأت المرأة؛ إذا حاضت، وامرأة مقرئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أي: تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مقام الحيض دون الأطهار)، وذلك أن قوله: (إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4] إرشاد إلى إزالة الارتياب الحاصل بسبب اليأس من الحيض، فيجب حمل (فَعِدَّتُهُنَّ) على ما يزيل الارتياب، وهو وجود الحيض دون الطهر، يدل عليه قوله في تفسيرها: "فمعنى (إِنْ ارْتَبْتُمْ): إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن، فهذا حكمهن". وجوابه: أنا وإن كنا قائلين بأن العدة بالأطهار، لكنا لا نقول: إن الحيض ليس بأمارة لمعرفة الأطهار، فاللبس ها هنا في العدة لرفع علامتها. وقوله: (والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر)، قال القاضي: إن القرء يطلق للحيض وللطهر الفاصل بين الحيضتين، وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد به في الآية؛ لأنه هو الدال على براءة الرحم، لا الحيض كما قالت الحنفية. قوله: ((فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ))، وتوجيهه: أن اللام للوقت، أي: في وقت عدتهن، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47]، أي: في وقت القيامة، و (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78] أي: وقد دلوكها، وهذا الوقت لا ينبغي أن يكون وقت الحيض؛ لأن الطلاق فيه منهي عنه لما روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" و"الموطأ"

والطلاق الشرعي إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه: مستقبلات لعدتهن، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"سنن أبي داود" و"الترمذي" و"النسائي" و"الدارمي" و"ابن ماجة"، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله". قوله: (معناه: مستقبلات لعدتهن)، فإن أيد بما روينا بالإسناد المذكور في حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (وطلقوهن) في قبل عدتهن، قلنا: هذا عليه لا له، قال الإمام: معناه: فطلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه والإذن بالتطليق في جميع زمان الطهر، فوجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة. تقريره: أن العدة عبارة عن: الزمان الذي تتربص فيه المرأة بعد الفراق، وله مبتدأ ومنتهى، ومبدأه عقيب حصول الفراق، سواء كان طهراً أو حيضاً، وتعيينه بدليل خارجي، بدليل أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يفهم من معنى الآية المراد حتى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فتلك العدة كما أمر الله". وقال محيي السنة: فائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها عند من يجعل القرء طهراً، وعند من يجعله حيضاً لا تنقضي العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة، قالت عائشة رضي الله عنها: إذا طعنت المعتدة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه

كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهنّ الحيض الثلاث ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبرئ منها. ومن يجعلها حيضاً يقول: لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة. قال الزجاج: في هذا مذهب آخر، قال أبو عبيدة: القرء يصلح للحيض وللطهر، وقال: أظنه من أقرأت النجوم: إذا غابت، وكذا عن يونس، وقال الزجاج: والذي عندي: أن القرء في اللغة: الجمع، يقال: قريت الماء في الحوض، وقرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً، فالقرء: اجتماع الدم في البدن، فيكون في الطهر، ويجوز اجتماعه في الرحم، فعلى هذا القرء مشترك معنوي. قوله: (لثلاث بقين من الشهر). قال الحريري في "درة الغواص": ومن أوهامهم في باب التاريخ أنهم يؤرخون لعشرين ليلة خلت ولخمس وعشرين خلون، ولاختيار أن يقال: من أول الشهر إلى منتصفه: خلت وخلون، وأن يستعمل في النصف الثاني: بقيت وبقين، على أن العرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير، فيقولون: لأربع خلون، وإحدى عشرة خلت، ولهم اختيار آخر أيضاً، وهو أن يجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف، وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشددة، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36]، فجعل ضمير الأشهر الحرم الهاء والنون لقلتهن، وضمير شهور السنة الهاء والألف لكثرتها.

فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى: لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما تقول في قول الأعشى)، توجيهه أن يقال: لزمك من تفسيرك لقوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ) بقولك: "مستقبلات لعدتهن" أن تقول في قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة مستقبلاً للذي ضاع من حيض نسائك، والحيض لا توصف بالضياع؛ لأنهن لا يجامعن فيها، وإنما يوصف بها الطهر؟ وأجاب: "بأن القرء في البيت مستعار لطول المدة"، لكن بمرتبتين، ففي المرتبة الأولى هو مجاز من العدة لقوله: "من عدة نسائك"، ثم المراد من العدة لازمها، وهو طول المدة، يدل عليه إيقاع قوله: "أي: من مدة طويلة" تفسيراً له، ولما شرط في المجاز- الذي هو في المرتبة الأولى- أن يكون مشهوراً بالغاً مبلغ الحقيقة في التبادر إلى الذهن، قال: "لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن"، وفيه تعسف، إذ العدول إلى المجاز إنما يصار إليه إذا انتهض الصارف، وقد تقرر أن اللفظ مشترك يحتاج في إرادة أحد معنييه إلى القرينة، وها هنا قامت القرينة على إرادة الطهر، فلا يجوز العدول عنه، وأما جوابه الثاني فهو أقرب من الأول. قال الزجاج: ذكر أبو عمرو بن العلاء أن القرء: الوقت، وهو يصلح للحيض والطهر، يقال: هذا قارئ الرياح: لوقت هبوبها، وأنشدوا: شنئت العقر، عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح

قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدّة نسائك لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، أي: من مدّةٍ طويلةٍ كالمدة التي تعتد فيها النساء؛ استطال مدة غيبته عن أهله كل عام؛ .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لوقت هبوبها وشدة بردها، لكن لابد من التخصيص ها هنا بالأطهار؛ لأن الشاعر يخاطب غازياً لا يبرح في تقحم الأهوال وتجشم الأفزاع والشدائد، يطلب المال والجاه ويترك مغازلة النساء ومعاشرتهن والتلذذ بغشيانهن، وذلك لا يستقيم في سائر الأوقات، فيلزم تخصيص الأوقات بزمان الطهر، وأنشد في مبدأ المعنى، وقيل: إنه لجاهلي: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار قوله: (لما ضاع فيها) أوله في "معالم التنزيل": أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا مؤثلة مالاً، وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ويروى: مورثة، جشمت الأمر أجشمه جشماً، وتجشمته: إذا تكلفته، يقال: عزمت على كذا عزماً وعزيمة وعزيماً: إذا أردت فعله، والعزاء: الصبر، يقال: عزيته تعزية فتعزى. هو يقول: أتكلف نفسك كل عام غزوة تشد لأبعدها وأشقها عزيمة الصبر لتكثر المال وتزيد الرفعة في الحي لما يضيع في تلك الغزوة من أطهار نسائك، واللام في "لما" كما في قوله تعالى: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8]. فإن قلت: الهمزة في البيت للإنكار، ثم تصريح الخطاب "بأنت" والمواجهة بقوله: "نسائكا" بعيد عن مقام المدح؟ قلت: بل الشاعر ما اكتفى من المبالغات بما ذكرت، بل قدم الظرف والفاعل المعنوي على عاملهما ليدل على تخصيص عموم الأحوال، وقصره على المخاطب، ثم بالغ في الغزوة حيث أتبعها بقوله: "لأقصاها" تتميماً لها، واستعار حرف الترتب،

لاقتحامه في الحروب والغارات، وأنه يمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد: من أوقات نسائك، فإنّ القرء والقارئ جاء في معنى الوقت، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً. فإن قلت: فعلام انتصب (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)؟ قلت: على أنه مفعول به، كقولك: المحتكر يتربص الغلاء، أي: يتربصن مضيّ ثلاثة قروء، أو على أنه ظرف، أي: يتربصن مدة ثلاثة قروء. فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر؛ .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو اللام في قوله: "لما ضاع" لما لا ترتب له، كل هذه المبالغات؛ إعلاماً بأن المدح بلغ نهايته وغايته، ورجع المعنى إلى قولك للشجاع: قاتلك الله ما أشجعك! وقول عروة: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح قال القتيبي في "طبقات الشعراء": اسم أعشى: ميمون بن قيس، جاهلي أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج إليه يريد الإسلام، فلقيه أبو سفيان فأخبره أنه يحرم عليك ثلاثاً كلها موافق لك: الزنا والخمر والقمار، فقال: أما الزنا فهو الذي تركني، وأما الخمر فتركتها، وأما القمار فلعلي أصيب منه خلفاً، قال: أو خير من هذا؟ نجمع لك مئة ناقة حمراء فتنصرف بها إلى أهلك، فقال لقريش: هذا الأعشى قد تعرفون شعره، والله لئن صبأ لتصبون العرب قاطبة، فلما قبض الإبل ورجع رماه في طريقه بعيره فقتله. قوله: (يتسعون في ذلك). قال الحريري في "الدرة": المعنى: لتتربص كل واحدة من المطلقات ثلاثة أقراء، فلما أسند على جماعتهن (ثَلَاثَةَ)، فالواجب على كل واحدة منهن ثلاثة،

لاشتراكهما في الجمعية، ألا ترى إلى قوله: (بِأَنْفُسِهِنَّ)؟ وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه؛ تنزيلاً للقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري: (ثلاثة قرو) بغير همزة. (ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الولد، أو من دم الحيض؛ وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع؛ ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت؛ استعجالاً للطلاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى بلفظة (قُرُوءٍ) لتدل على الكثرة المرادة والمعنى الملموح. وقال القاضي: ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناؤها، وقلت: ومثل هذا المعنى ذكر المصنف في تفسير قوله: (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال: 51]. قوله: (ينتظر بطلاقها)، قيل: الباء في "بطلاقها" للتعدية، وموضع "أن تضع": جر بالخافض من المضمر، أي: يؤخر طلاقها للوضع، أو: إلى الوضع، والظاهر أن تكون الباء سببية، "وأن تضع": مفعول ينتظر. قوله: (أو كتمت): عطف على "فكتمت"، وهما نشر لقوله: "من الولد، أو: من دم الحيض"، قال الزجاج: قوله تعالى: (أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) بالولد أشبه؛ لأن ذكر الأرحام مؤذن به لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ) [آل عمران: 6]، قال الإمام: الحيض خارج من الرحم لا مخلوق في الرحم.

ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة، فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تعظيم لفعلهن، وأن من آمن باللَّه وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم. والبعول: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع، كما في الحزونة والسهولة، ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر، من قولك: بعل حسن البعولة، يعني: وأهل بعولتهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ): برجعتهن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجحدنه لذلك)، أي: للإسقاط، قال الإمام: قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يرد إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم، وعنى بقوله: "مستأنف مستقل" أنه تذييل للكلام السابق. قوله: (وأن من آمن بالله): عطف تفسيري على قوله: ""تعظيم لفعلهن" يعني: ارتكبن أمراً عظيماً، وإنما نشأ التعظيم من لفظة (إِن)، حيث شكك الناس في إيمانهن، وأدخلهن في زمرة الذين لا يرجح إيمانهم على كفرهم تغليظاً، وإليه الإشارة بقوله: "من آمن لا يجترئ على مثله"، كقوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] أي: لا يترك الحج وله استطاعة بعد هذا البيان إلا من قرب إلى الكفر. قوله: (والتاء لاحقة لتأنيث الجمع)، الراغب: البعل: النخل الشارب بعروقه، وعبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل: باعلها، كقولك: جامعها، وبعل الرجل: إذا دهش فأقام مكانه كالنخل الذي لا يبرح، وبهذا النظر قيل لمن لا يحول عن مكانه: ما هو إلا شجر أو حجر.

وفي قراءة أبٌيّ: (بردّتهن) (فِي ذلِكَ): في مدة ذلك التربص. فإن قلت: كيف جُعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت: المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها، وكان هو أحق منها، لا أن لها حقاً في الرجعة. (إِنْ أَرادُوا) بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن، ولم يريدوا مضارّتهنّ. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ، (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ، ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم، ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجبِ الواجبَ في كونه حسنةً، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال. (دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضيلة. قيل المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: وقال الزجاج: بعوله: جمع بعل، كذكر وذكورة وعم وعمومة، والهاء: زيادة مؤكدة لمعنى تأنيث الجماعة، وهذه الأمثلة سماعية لا قياسية، فلا نقول في كعب: كعوبة. قوله: (لا أن لها حقاً في الرجعة) يشير إلى أن تسمية إباء المرأة بالرجعة للتأييس، إما للتغليب أو المشاكلة، أو من باب: الصيف أحر من الشتاء، وذلك أن الشارع أبغض المفارقة وأحب الموافقة، فكان طلب الرجعة من البعولة أبلغ في بابه من طلب الفرقة من المرأة، روينا عن أبي داود، عن محارب بن دثار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق"، وفي رواية قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". وعن الترمذي وأبي داود، عن

[(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)]. (الطَّلاقُ) بمعنى التطليق، كالسلام بمعنى التسليم، أي: التطليق الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"، فعلى هذا يمكن أن يحمل أفعل على مطلق الزيادة، روماً للمبالغة، فلا يتصور من جانب المرأة شيء من الطلب، كأنه قيل: حقيق على البعولة ردهن واي حقيق؛ لأن الله تعالى يبغض المفارقة، كقولك: الله أكبر في أحد وجهيه، وسيجيء تقريره في سورة "الزمر" مستوفى إن شاء الله تعالى. قال القاضي: الضمير في (بُعُولَتُهُنَّ) أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه، كما لو كرر الظاهر، أي: كما أن إعادة الظاهر لا تخصص العام المقدم لكونها شيئاً واحداً، كذا الضمير لأنه بمنزلة الظاهر. قوله: ((الطَّلاقَ) بمعنى التطليق)، ولذلك قوبل بقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، الراغب: التسريح كالتطليق في أنه من: سرحت الماشية، كما أن الطلاق من أطلقت البعير، والمعروف ما لا تنكره العقول الصحيحة، وسمي الجود معروفاً لمعرفة العقول كلها حسنة، وعلى هذا قول الشاعر:

على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدةً، ولم يرد بالمرتين التثنية، ولكن التكرير، كقوله: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك: 4] أي: كرّةً بعد كرّةٍ، لا كرّتين اثنتين، ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير: قولهم: لبيك، وسعديك، وحنانيك، وهذاذيك، ودواليك. وقوله تعالى: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تخيير لهم .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل فإن قيل: كيف علق التسريح بالإحسان، وهل بينه وبين المعروف فرق؟ قيل: الإحسان أعم معنى من المعروف؛ لأن الشيء قد يكون معروفاً غير منكر ولا يكون مستحسناً، فكل إحسان معروف، وليس كل معروف إحساناً، وبين أن من حق المسرح أن يبذل ما يزيد على الإنصاف تبرعاً، وذلك على حسب ما كانوا يراعون في بذل فضل المعروف لمن يرتحل عنهم. قوله: (على التفريق)، أي: يطلق في قرء طلقة ثم في آخر أخرى إلى الثالثة، لا أن يطلق في قرء واحد ثلاثاً. قوله: (من التثاني)، الجوهري: ثنيت الشيء ثنياً: عطفته، وثنيته تثنية، أي: جعلته اثنين. قوله: (لبيك)، قال ابن السكيت: هو من الب بالمكان: أقام به ولزمه، قال الجوهري: وكان من حقه أن يقال: لباً لك، لكنه ثني على معنى التأكيد، أي: إقامة على طاعتك بعد إقامة، و"سعديك" أي: إسعاداً لك بعد إسعاد، وحنانيك أي: رحمةَ بعد رحمة، يعني كلما كنت في رحمة اتصلت برحمة أخرى، وهذاذيك، أي: قطعاً بعد قطع، ودواليك: مداولة بعد مُداولة، أو: دال لك الأمر دوالاً بعد دوال، من: دالت لك الدولة.

بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم. وقيل: معناه الطلاق الرجعى مرّتان؛ لأنه لا رجعة بعد الثلاث. (فإمساك بمعروف) أي: برجعة، (أو تسريح بإحسان)، أي: بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها. وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروي: أنّ سائلاً سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أو تسريح بإحسان). وعند أبي حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهرٍ لم يجامعها فيه؛ لما روي في حديث ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة»، وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث؛ لحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها ثلاثاً بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم ينكر عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعد أن علمهم) فيه تقديم وتأخير؛ لأن الأصل تخيير لهم بين أن يمسكوا النساء بعد أن علمهم وبعد أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم، ومعنى "بعد" مستفاد من الفاء في قوله: (فَإمْسَاكٌ). قوله: (وقيل: معناه الطلاق الرجعي) عطف على قوله: "أي: التطليق الشرعي". فاللام على الأول: للجنس، والمراد بقوله: (مَرَّتَانِ) التكرير، وعلى هذا: للعهد، والمعهود: ما علم من قوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) أي: برجعتهن. قوله: (لحديث العجلاني)، ذكر الحميدي عن الشيخين، عن سهل بن سعد الساعدي، "أن عويمراً العجلاني قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها"، قال

وروي: أنّ جميلة بنت عبد اللَّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فأتت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شيء، واللَّه ما أعيب عليه في دينٍ ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة؛ فإذا هو أشدهم سواداً، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سهل: فتلاعنا، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين، وفي رواية ابن جريج: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، وقال بعد قوله: فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين" ورواه صاحب "الجامع"، عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي، مع اختلافات فيه. وأما حديث ثابت فقد ذكره الأئمة بروايات شتى وليس فيها: "إني رفعت جانب الخباء" إلى قوله: "وأقبحهم وجهاً"، بل فيه الحديث: "إن ثابتاً ضربها فكسر يدها". قوله: (لا أنا ولا ثابت) أي: لا أجمع أنا وثابت، وفي رواية البخاري والنسائي: "ما أعتب" بالتاء المنقوطة من فوق. قوله: (أكره الكفر) أي: كفر العشير، أي الزوج، النهاية: في الحديث: "أكثر أهلها

وأقصرهم قامةً، وأقبحهم وجهاًَ فنزلت. وكان قد أصدقها حديقةً فاختلعت منه بها. وهو أوّل خلع كان في الإسلام. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا)؟ إن قلت: للأزواج لم يطابقه قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ)، وإن قلت: للأئمة والحكام؛ فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن. قلت: يجوز الأمران جميعاً؛ أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام؛ لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون. (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ): مما أعطيتموهنّ من الصدقات، (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ): إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود اللَّه فيما يلزمهما من مواجب الزوجية؛ لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما): على الرجل فيما أخذ، ولا عليها فيما أعطت، (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر. والخلع بالزيادة على المهر مكروه؛ وهو جائز في الحكم. وروي: أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضى اللَّه عنه، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليالٍ ثم دعاها، فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقرّ لعيني منهن. فقال لزوجها: اخلعها ولو بقرطها. قال قتادة: يعني بمالها كله .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النساء لكفرهن"، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "لا، ولكن يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير" أي يجحدن إحسان أزواجهن. قوله: (لم يطابقه قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ)؛ لأن الخطاب فيه للأئمة والحكام. قوله: (ولو بقرطها)، فيه تلميح، وقال الميداني: أصل المثل: خذه ولو بقرطي مارية، وهي مارية بنت ظالم، وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار الكندي، قال أبو عبيد: هي أم ولد جفنة، يقال: إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها وعليهما درتان كبيضتي حمام لم ير الناس مثلهما، يضرب في الشيء الثمين، أي: لا يفوتنك بأي ثمن يكون.

هذا إذا كان النشوز منها، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئاً. وقرئ: (إلا أن يخافا) على البناء للمفعول وإبدال (ألا يقيما) من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود اللَّه، ونحوه: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء: 3]، ويعضده قراءة عبد اللَّه: (إلا أن تخافوا)، وفي قراءة أبىّ (إلا أن يظنا)، ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن، يقولون: أخاف أن يكون كذا، وأفرق أن يكون، يريدون أظن. (فَإِنْ طَلَّقَها) الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، واستوفى نصابه؛ أو فإن طلقها مرةً ثالثةً بعد المرّتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ): حتى تتزوّج غيره. والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل، كما التزوج. ويقال: فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره، وهو سعيد ابن المسيب، والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة؛ لما روى عروة عن عائشة رضي اللَّه عنها: أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "إلا أن يخافا"، على البناء للمفعول)، قرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب، أي: يعلم ذلك منهما إما القاضي أو الوالي، يؤيده قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ). قوله: (أو: فإن طلقها مرة ثالثة) هذا إشارة على الوجه الثاني، وقوله: "فإن طلقها الطلاق المذكور" إلى الوجه الأول في تفسير قوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ). قال القاضي: (فَإِنْ طَلَّقَهَا): متعلق بقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، وتفسير لقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجاناً تارة وبعوض أخرى، والمعنى: فإن طلقها بعد الثنتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). قوله: (أن امرأة رفاعة) الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما مع اختلاف فيه، وعبد الرحمن ابن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء.

فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجني، وإنما معه مثل هُدبة الثوب، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ! لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك". وروي: أنها لبثت ما شاء اللَّه ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسني. فقال لها: "كذبت في قولك الأوّل فلن أصدّقك في الآخر"، فلبثت حتى قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأتت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقالت: أرجع إلى زوجي الأوّل؟ فقال: قد عهدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعي إليه. فلما قبض أبو بكر رضى اللَّه عنه قالت مثله لعمر رضى اللَّه عنه فقال: إن أتيتينى بعد مرّتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت: فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيدٍ ومالكٌ وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائزٌ عند أبى حنيفة مع الكراهة. وعنه: أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة، وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنه لعن المحلل والمحلل له. وعن عمر رضي اللَّه عنه: لا أوتى بمحللٍ ولا محلل له إلا رجمتهما. وعن عثمان رضي اللَّه عنه: لا، إلا نكاح رغبةٍ غير مدالسة ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عسيلته)، النهاية: شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقاً، وإنما أنث لأنه أراد "قطعة" من العسل، وقيل: على إعطائها معنى النطفة، وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث، وإنما صغره لأنه أشار إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل. قال الزجاج: إنما فعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل، فحرم عليهم التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق وأن يتثبتوا. قوله: (لا إلا نكاح رغبة) أي: لا أجور. قوله: (غير مدالسة) أي: مخادعة.

(فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (أَنْ يَتَراجَعا): أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج (إِنْ ظَنَّا): إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علما أنهما يقيمان؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى؛ لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن فسر الظن ها هنا بالعلم فقد وهم). قال الواحدي: (إن ظَنَّا) أي: علما وايقنا، قال محيي السنة: (ظَنَّا) أي: علما، وقيل: رجوا؛ لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله. قوله: (وَهِمَ) أي: غلط، الجوهري: يقال: وهمت في الحساب- بالكسر- أوهم وهماً: إذا غلطت فيه وسهوت، ووهمت في الشيء، بالفتح أهم وهماً: إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره. قوله: (لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد) إشارة إلى بيان الخطأ من طريق اللفظ، وإنما لم يجز هذا لأن "أن" الناصبة للفعل المستقبل تنافي التحقيق، وعلمت: للتحقيق. قوله: (ولكن علمت أن يقوم)، وإنما جاز هذا لأن "علمت" للتحقيق ناسب أن يليها "أن" التي هي للتحقيق ليدل على أن اسمها وخبرها واقعان، فلو لم يكن الفعل الذي قبلها محققاً يحصل تضاد، وجاز: ظننت أن تقوم، على أن تكون غير ناصبة، ليتناسبا في عدم التحقيق، في "الإقليد". وقال صاحب "الكشف": هذه الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يكونل ليقين والثبات، نحو: علمت وتيقنت، وفعل يكون في الاستقبال وقوع ما بعده، نحو: طمعت ورجوت وخفت وخشيت، وفعل يتردد بين العلم والخشية، وما هو من القسم الأول يقع بعدها أن المشددة،

[(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)]. (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: آخر عدتهن، وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدّة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهى به: أجل، وكذلك الغاية والأمد، يقول النحويون: «من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية. وقال: ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحو: علمت أنك تقوم، وغن وقع بعدها أن كان بمعنى "أنه"، نحو: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) [المزمل: 20]، ولهذا ارتفع يكون، وما هو من القسم الثاني جاءت بعدها أن الناصبة للفعل، نحو: خفت أن يقول، ومنه قوله تعالى: (إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 229]، وما هو من القسم الثالث: جاز وقوع أن الناصبة للفعل وأن المخففة من الثقيلة نحو قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة: 71] بالرفع والنصب، فالرفع على أنه: لا يكون، والنصب على أنه: شك ليس بيقين. قوله: ((فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: آخر عدتهن)، اعلم أن البلوغ حقيقة يطلق على الوصول إلى الشيء، ويتسع مجازاً في المشارفة والدنو، وكذا الأجل، موضوع للمدة كلها، يقال لعمر الإنسان: أجل، ويتسع مجازاً على آخر المدة فيقال للموت الذي ينتهي عمر الإنسان إليه: أجل، وكذلك الغاية والأمد، أي: الغاية والأمد يقعان على المدة كلها وعلى آخرها، أما أنهما يقعان على آخر المدة فظاهر، وأما أنهما يقعان على المدة كلها فكقول النحويين: "مِنْ": لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهائها، فلو لم يرد بالغاية المدة كلها لا يصح منهم هذان الكلامان، قال المصنف في

كُلُّ حَيٍ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْـ ... ـرِ وَمُودٍ إذَا انْتَهَى أمَدُهْ ويتسع في البلوغ أيضاً، فيقال: بلغ البلد؛ إذا شارفه وداناه، ويقال: قد وصلت، ولم يصل وإنما شارف؛ ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له؛ لأنها بعد تقضيه غير زوجةٍ له في غير عدّة منه؛ فلا سبيل له عليها. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة؛ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفسير قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف: 15]: لما كان الرضاع يليه الفصال لأنه ينتهي به ويتم سمي فصالاً كما سمى المدة بالأمد من قال: كل حي مستكمل مدة العمـ ... ـر ومود إذا انتهى أمده يعني سمي الرضاع فصالاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه، كما سمي المدة، وهي: طول الإمهال بالأمد، وهو الانتهاء مجازاً. قوله: (مود) أي: هالك، من: أودى: إذا هلك، يقول: كل حي يستكمل مدة عمره ويهلك إذا انتهى عمره. قوله: (ولأنه قد عُلم) عطف من حيث المعنى على قوله: "والأجل يقع على المدة كلها"؛ لأنه في معنى التقييد والتعليل، يعني: إنما قلنا: إن معنى قوله تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) شارفن منتهى الأجل؛ لأن الاستعمال وارد عليه، ولأن المقام يقتضيه، إذ لا يمكن حمل الأجل على جميع المدة، والبلوغ على الوصول؛ لأنه لا يمكن الإمساك بعد تقضي الأجل، فيتعين الحمل على ما ذكرنا، وهو مشارفة منتهى الأجل. الراغب: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) مشكل؛ لأن المراجعة ثابتة قبل انقضاء العدة، وظاهره يقتضي أن المراجعة بعد انقضاء العدة، ووجه ذلك: أن الأجل ها هنا: زمان العدة، لا تمام العدة، وأيضاً، فإنه يقال: إذا فعلت كذا، ويعني: إذا خضت، لا إذا فرغت منه، نحو: (وَإِذَا قُلْتُمْ

(أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً): كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجةٍ، ولكن ليطوّل العدة عليها، فهو الإمساك ضراراً. (لِتَعْتَدُوا): لتظلموهنّ، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء. (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعقاب اللَّه. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) أي: جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً. ويقال لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت لاعب وهازئ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]، فقوله: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: خضن في زمان بلوغ الأجل. وأيضاً، فقولهم: بلغ، يقال لما شارف وإن لم ينته، وإنما خصت المشارفة؛ لأنهم كانوا يطلقون المرأة فيتركونها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يراجعونها إضراراً بها، وهذه الآية ظاهرها إعادة حكم ما تقدم، فإنه يجوز مراجعتها بعد انقضاء العدة، وقد فسرت تفسيرين: أحدهما: أن الأولى فيها حكم جواز الرجعة بعد التطليقة والتطليقتين، وتحريم الرجعة بعد الثالثة، وهذه تقتضي جواز رجعتها ما دامت في العدة، لا عن الطلاق الثلاث، وفيها زيادة حكم وإن كانت تفيد بعض ما أفادت الأولى، وهي ما ذكر بعدها من الأحكام. قوله: ((أَوْ سَرِّحُوهُنَّ) بإحسان في نسخة، ولفظ القرآن: (بِمَعْرُوفٍ)، وضع المفسر موضع المفسر، لأنه فسر المعروف بعيد هذا بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط، ولما سبق في تلك الآية: (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]. الراغب: لم تعلق التسريح ها هنا بمعروف، وفي الأولى بإحسان؟ قيل: نبه به على أنه إن لم تراعوا في تسريحها الإحسان فراعوا فيه المعروف، كما قال بعضهم لسلطان: إن لم تحسن فعدلاً. قوله: (أي جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها). قال القاضي: كأنه نهي عن الهزؤ، واراد به الأمر بضده.

ويقال: كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة. وقيل: كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول: كنت لاعباً. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: الطلاق والنكاح والرجعة». (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام وبنبوّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من القرآن والسنة. وذكرها: مقابلتها بالشكر والقيام بحقها. (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم. (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ): إما أن يخاطب به .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كن يهودياً)، كانوا يقولون لليهودي الذي لا يعمل بالتوراة حق العمل هذا المثل. قوله: (نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ): بالإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم)، وإنما خص نعمة الله بما ذكر ليدل على أن ذلك الفعل، وهو إمساك النساء للضرار، كان من فعل الجاهلية، وكان مقتاً وكفراً، فبدله الله تعالى بنعمة الإسلام وببعثة محمد صلوات الله عليه، كقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [آل عمران: 103]، وقوله: (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ) يجوز أن يكون مجروراً؛ عطفاً على مقدر وهو: "بالإسلم وبنبوة محمد" ليشمل جميع نعمة الدين، أي: اذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وبنبوة محمد وبالكتاب والسنة، وأن يكون منصوباً؛ عطفاً على (نِعْمَةَ اللَّهِ) عطف الخاص على الخاص، وعليه ظاهر كلام المصنف، وأن يكون عطف الخاص على العام، وعليه كلام القاضي، حيث قال: أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما، فعلى هذا هو من باب (وَمَلائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلُ) [البقرة: 98]، والأول أقرب إلى النظم؛ لأن الأمر بالذكر بعد النهي المعقب به التوضيح بقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) مشعر به تعالى يمن على المؤمنين بإنقاذهم من الظلم الذي كانوا عليه في الجاهلية، فيجب أن تختص النعمة بنعمة متجددة من الإسلام وبنبوة محمد صلوات الله عليه، وبإنزال هذا الكتاب الكريم، وإنما صرح به دونهما لأن الكلام فيه، بدليل قوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً). قوله: ((يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم)، يحتمل قوله: (يَعِظُكُمْ بِهِ) أن تكون جملة

الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة؛ ظلماً وقسراً، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج. والمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ؛ وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ. روي: أنها نزلت في معقل بن يسارٍ حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. وقيل: في جابر بن عبد اللَّه حين عضل بنت عم له ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستأنفة لبيان موجب الإنزال، والأوجه أن الضمير في (بِهِ) راجع إلى المذكور كله، وتكون الجملة معترضة مؤكدة للمعاني السابقة واللاحقة؛ لأن المأمورات والمنهيات كلها وعظ من الله وتذكير، والذي سيق له الكلام إمساك المطلقات وتسريحهن، فيدخل فيه دخولاً أولياً. قوله: (وإما أن يخاطب به الأولياء)، قال القاضي: فعلى هذا يكون دليلاً على أن المرأة لا تزوج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن. قوله: (روي أنها نزلت في معقل بن يسار)، روينا عن البخاري والترمذي وأبي داود، عن معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس، فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله، ثم طلقها طلاقاً له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فملا خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها فزوجتك، ثم طلقتها طلاقاً لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب؟ والله لا أنكحتها أبداً، قال: ففي نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه.

والوجه أن يكون خطاباً للناس، أي: لا يوجد فيما بينكم عضل؛ لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. والعضل: الحبس والتضييق، ومنه: عضلت الدجاجة؛ إذا نشب بيضها فلم نخرج. وأنشد لابن هرمة: وَإنَّ قَصَائِدِى لَكَ فَاصْطَنِعْنِى ... عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاحِ وبلوغ الأجل على الحقيقة. وعن الشافعي رحمه اللَّه: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (إِذا تَراضَوْا): إذا تراضى الخطاب والنساء، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والوجه أن يكون خطاباً للناس) لما يلزم من الأول المجاز باعتبار ما يؤول إليه في إضافة قوله: (أَزْوَاجَهُنَّ)؛ لأن التقدير: من شيئين من الأزواج غيركم، ومن الثاني يلزم تسمية الأزواج أزواجاً باعتبار ما كان، وإسناد الطلاق إلى الأولياء على المجاز أيضاً، ولأن قوله: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) إلى آخر الآية كالتعليل لشرعية هذا الحكم والامتنان على الأمة، وفيه أن لكل أن ينكر هذا العضل إذا وجد فيما بينهم. قوله: (أي: لا يوجد فيما بينكم عضل)، تفسير للخطاب العام؛ لأن النهي إنما يتوجه إلى من يباشر الفعل أو عزم عليه، فإذا توجه إلى المجموع كانوا في حكم شخص واحد، فإذا انتهوا بأسرهم لم يوجد عضل قط. قوله: (وإن قصائدي لك)، البيت، عقيلة كل شيء: أكرمه، والعقيلة من النساء: التي عقلت في بيتها أي خدرت وجلست، يقول: إن قصائدي مثل عقائل النساء وقد عضلن عن النكاح، فلا أمدح بها غيرك، فاصطنعني بمدحي إياك بها. قوله: (وبلوغ الأجل على الحقيقة) يعني: في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) محمول على انتهاء الغاية لا على المجاز، وهو المشارفة والمداناة كما في الآية

(بِالْمَعْرُوفِ) بما يحسن بالدين والمروءة من الشرائط وقيل: بمهر المثل. ومن مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه: أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ)؟ قلت: يجوز أن يكون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولكل أحدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السابقة، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ)؛ لأن الإمساك بعد مضي الأجل لا وجه له، فيحمل على المجاز، بخلافه هاهنا. قوله: ((بِالْمَعْرُوفِ): بما يحسن في الدين)، قال القاضي: (بِالْمَعْرُوفِ): حال من الضمير المرفوع، أو: صفة مصدر محذوف، أي: تراخياً كائناً بالمعروف، وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه. قوله: (يجزو أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد)، قال القاضي: إذا كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كقوله تعالى: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1] للدلالة على أن حقيقة المشار إليه لا يكاد يتصورها كل أحد. وقلت: يعني: لا يدركه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تنبيه لهم. قال المصنف: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم الخطاب، إظهاراً لترؤسه وأنه مدره قومه ولسانهم والذي يصدرون عن رأيه، وكان وحده في حكم كلهم. وقال القاضي: أو الكفاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطبين، والفرق بين الحاضر والمنقضي، وقال الزجاج: (ذَلِكَ): مخاطبة الجميع، والجميع لفظه لفظ واحد، المعنى: ذلك أيها القبيل يوعظ به من كان منكم، وقوله بعد ذلك: (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ) يدلك على أن لفظة "ذلك" و"ذلكم": مخاطبة للجماعة.

ونحوه: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [المجادلة: 12]. (أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام، وقيل: (أَزْكى) (وَأَطْهَرُ): أفضل وأطيب. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما في ذلك من الزكاء والطهر، وأنتم لا تعلمونه. أو: واللَّهُ يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه. [(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وكيف ما كان في الكلام تلوين الخطاب؛ لأنه تعالى خاطبهم أولاً بقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) ثم رجع إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم تعليلاً لهم وتعظيماً له، أو إلى مخاطبة كل أحد للدلالة على تعظيم الأمر، فلا يختص بهؤلاء، أو جعلهم في حكم القبيل والفوج تقليلاً لهم وتعظيماً للمتكلم، ثم عاد على مخاطبتهم بقوله: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)، والأول أوجه لأنه أوفق لما في سورة الطلاق. قوله: () ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ))، والتلاوة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قوله: (وقيل: (أَزْكَى) (وَأَطْهَرُ): أفضل وأطيب)، فعلى الأول "وأطهر": عطف تفسيري على "أزكى"؛ لأنه بمعنى الطهارة، وعلى هذا بمعنى النمو والزيادة. الراغبك زكاء الإنسان وطهارته في الحقيقة: كونه بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة عظيم المثوبة، وأن يصلح لمجاورة الملأ الأعلى بل لمجاورة المولى، ولذلك عقبه بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(يُرْضِعْنَ) مثل (يَتَرَبَّصْنَ) في أنه خبرٌ في معنى الأمر المؤكد. (كامِلَيْنِ) توكيد، كقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة: 196]؛ لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: (أن يكمل الرضاعة)، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أنه خبر في معنى الأمر). قال الزجاج: اللفظ خبر والمعنى أمر، كما تقول: حسبك درهم، أي اكتف بدرهم، ومعنى الآية: لترضع الوالدات. الراغب: ذكر جماعة من الفقهاء أن (يُرْضِعْنَ) أمر وإن كان لفظه خبراً؛ لأنه لو جعل خبراً لم يقع مخبر بخلافه، وهذه قضية إنما تصح في كل خبر لفظه لا يحتمل التخصيص، فأما إذا كان عاماً يمكن أن يخصص على وجه يخرج من كونه كذباً فإن ادعاء ذلك فيه ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن فيه ذلك، أخبر تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات احق بإرضاع أولادهن، سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا ورد في الحديث: "إنها أحق بالولد ما لم تتزوج". وقلت: أشار بقوله: "إن الإرضاع من خصائص الولادة" أن في تخصيص ذكر الوالدات دون الأمهارت إشعاراً بالعلية، نظيره قوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً) [النور: 3]، قال المصنف: المرفوع، أي قوله: (لا يَنكِحُ) فيه معنى النهي، ويجوز أن خبراً محضاً، على أن عادتهم جارية على ذلك، وكما قال: الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح.

وقرئ: (الرِّضاعة) بكسر الراء. و (الرضعة)، و (أن تتم الرضاعة) و (أن يتم الرضاعة) برفع الفعل تشبيهاً لـ «أن» بـ «ما»؛ لتآخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف اتصل قوله: (لِمَنْ أَرادَ) بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، "لك" بيان للمهيت به، أي: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع. وعن قتادة: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) ثم أنزل اللَّه اليسر والتخفيف، فقال: (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)، أراد: أنه يجوز النقصان. وعن الحسن: ليس ذلك بوقتٍ لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بـ (يرضعن)، كما تقول: أرضعت فلانة لفلانٍ ولده، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "الرضاعة" بكسر الراء)، قال الزجاج: والفتح أكثر، وعليه القراء، وروى الأخفش بالكسر. قوله: (تشبيهاً لـ "أن")، أي: شبه "أن" المصدرية بـ "ما" التي لها، لجامع المصدرية. قوله: ((هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23])، هيت به وهوت به، أي: صاح به ودعاه، وقولهم: هيت لك، أي: هلم لك، وهو: اسم الفعل، وفيه ضمير المخاطب، كأنه قيل: هيت أنت، ولك: تبيين للمخاطب وتأكيد جيء به بعد استكمال الكلام كما في سقياً لك، وكذا الكاف في رويدك: تبيين للمخاطب، فإن معناه: رويداً أنت، كأنه لما قيل: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) فقيل: لمن هذا الحكم؟ قيل: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). قوله: (ليس ذلك بوقت) أي: بحد، "الأساس": شيء موقوت ومؤقت: محدود، والآخرة ميقات الخلق. الراغب: قال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين، وقال في موضع آخر: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف: 15]، علم أن الولد قد يولد لستة اشهر. وفيه تنبيه على لطيفة

أي: يرضعن حولين (لمن أراد أن يتمّ الرضاعة) من الآباء؛ لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه اللَّه، ما دامت زوجةً أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز، فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت: فما بال الوالدات مأموراتٍ بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمراً على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل: أراد: الوالدات المطلقات. وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ): وعلى الذي يولد له، وهو الوالد، و (لَهُ) في محل الرفعِ على الفاعلية، نحو: (عَلَيْهِمْ) في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]. فإن قلت: لم قيل: (الْمَوْلُودِ لَهُ) دون الوالد؟ قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم؛ لأن الأولاد للآباء؛ ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات؛ وأنشد للمأمون بن الرشيد: فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي أن الولد لما كان زمان حمله وفصاله أقل من ثلاثين شهراً أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين. قوله: (وقيل: أراد الوالدات المطلقات)، فعلى هذا، التعريف في (وَالْوَالِدَاتُ): للعهد، والمشار إليه: ما يفهم من قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ)، والمراد من إيجاب النفقة والكسوة: ما يعطيه قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من معنى الوجوب، وهذا الوجه أحسن في الالتئام وأظهر في معنى الوجوب في قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) لأن على الأزواج رزق الزوجات وكسوتهن، سواء أرضعن أو لم يرضعن. قوله: (فإنما أمهات الناس) البيت، ويروى فيه: "وللآباء أبناء"، وقيل: الرواية: "وللأنساب أبناء". قبله:

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظآر، ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تزرين بفتى من أن يكون له ... أم من الروم أو سوداء دعجاء زرى به: إذا عابه، والدعج: شدة سواد الحدقة وشدة بياضها. وكانت أمه أم ولد، يقال لها: مراجل. وقيل: عاب هشام زيد بن علي رحمهما الله وقال: بلغني أنك تريد الخلافة، وكيف تصلح لها وأنت ابن أمة؟ فقال: كان إسماعيل ابن أمة، وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله تعالى من صلب إسماعيل خير ولد آدم صلوات الله عليه، وهذه الصنعة تسمى في البديع بالإدماج، وفي أصول الحنفية: بإشارة النص، وهو: أن يضمن في كلام سيق لمعنى معنى آخر، سيقت الآيات لإثبات النفقة للمرضع وضمنت معنى أن النسب ينتهي إلى الآباء، وفيه أيضاً معنى قوله صلوات الله عليه حين أتاه رجل وقال: إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يحتاج إلى مالي، فقال: "أنت ومالك لوالدك"، أخرجه أبو داود عن عبد الله ابن عمرو ابن العاص. قوله: (فكان عليهم أن يرزقوهن) الفاء تدل على أن إيثار المولود له، وتقديم الخبر وحمله على (رِزْقُهُنَّ) وصف مناسب لهذا الحكم، وهو إيجاب الرزق والكسوة عليهم. قوله: (أنه ذكره باسم الوالد) يعني: إنما لم يعدل عن الظاهر في تلك الآية حيث لم يكن

وهو قوله تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان: 33]؟ (بِالْمَعْرُوفِ) تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا. وقرئ: (لا تكلف) بفتح التاء، و (لا نكلف) بالنون. وقرئ: (لا تُضَارَّ) بالرفع على الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر؛ بكسر الراء، وتضارر؛ بفتحها. وقرأ: (لا تُضَارَّ) بالفتح أكثر القراء، وقرأ الحسن بالكسر على النهي، وهو محتمل للبناءين أيضاًً، ويبين ذلك أنه قرئ: (لا تضارَرْ)، و (لا تضارِرْ) بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وقرأ أبو جعفر: (لا تضارّ) بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج: (لا تضارْ) بالسكون والتخفيف، وهو من: ضاره يصيره، ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً. وعن كاتب عمر بن الخطاب: (لا تضرر). والمعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به، وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئراً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الوالد إيجاب شيء. وقلت: وإن لم يعدل في الوالد فيها، عدل عن الولد إلى المولود لنكتة أخرى وهي ما ذكره هناك. قوله: (وقرئ: "لا تضار" بالرفع) ابن كثير وأبو عمرو، والباقون بفتح الراء، والبواقي شواذ. قال الزجاج: الرفع على معنى: لا تكلف نفس على الخبر الذي فيه معنى النهي، وفتح الراء على النهي أيضاً، والموضع موضع جزم، والأصل: لا تضارر فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إذا كان قبله فتح أو ألف، ويجوز: لا تضار، بالكسر، ولا أعلم أحداً قرأ به، وإنما جاز الكسر لالتقاء الساكنين لأنه الأصل، ومعنى (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) أي: لا تترك إرضاع ولدها غيظاً على أبيه فتضرَّ به.

وما أشبه ذلك، ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع، وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد. ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أي: لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها، ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد. فان قلت: كيف قيل: (بولدها) و (بولده)؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه، وأنه ليس بأجنبيّ منها، فمن حقها أن تشفق عليه، وكذلك الوالد. (وَعَلَى الْوارِثِ) عطف على قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، وما بينهما تفسير للمعروف، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي: إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف، وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه. واختلفوا؛ فعند ابن أبي ليلى: كل من ورثه، وعند أبي حنيفة: من كان ذا رحمٍ محرمٍ منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا نفقة فيما عدا الولاد) أي: الأصول والفروع. الجوهري: ولدت المرأة تلد ولاداً وولادة، وحان ولادها. قال محيي السنة: ذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث هو الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، تكون أجرة رضاعه ونفقته في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى الأم، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي، وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر، عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة، وقال بعضهم: من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ممن ليس بمحرم، مثل ابن العم والمولى، فغير

وقيل: من ورثه من عصبته؛ مثل: الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل: المراد وارث الأب، وهو الصبي نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل: (عَلَى الْوارِثِ): على الباقي من الأبوين، من قوله: «واجعله الوارث منا». (فَإِنْ أَرادا فِصالًا) صادراً (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما: أمّا الأب فلا كلام فيه، وأمّا الأمّ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراد بالآية، وهو قول أبي حنيفة، وقيل: ليس المراد منه النفقة، بل معناه: وعلى الوارث ترك المضارة، وبه قال الشعبي والزهري. وفي بعض الحواشي: روي بإضافة الرحم إلى المحرم، وفي "المغرب": وذو رحم محرم بالجر، صفة للرحم، وبالرفع: لذو، وعلى ما ذكر في "المغرب" يكون الرحم منوناً لا مضافاً. قوله: (واجعله الوارث منا). أوله: اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، أخرجه الترمذي ورزين، النهاية: ومن أسماء الله تعالى: الوارث: وهو الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، ومعنى: "اجعله الوارث منا"، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، وقيل: أراد بقاءهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقيين بعدها. قوله: (وهذه توسعة بعد التحديد)، فإن قلت: هذا مخالف لما سبق من قوله: "أراد أنه يجوز

فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي. وقرئ (فإن أراد). "استرضع" منقول من "أرضع"، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعتها الصبي، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة: 6]، وقرئ: (ما أتيتم) من أتى إليه إحساناً إذا فعله. ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا) [مريم: 61] أي: مفعولاً. وروى شيبان عن عاصم: (ما أوتيتم) أي: ما آتاكم اللَّه وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]. وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى، ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد؛ كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النقصان" تفسيراً لقول قتادة: "ثم أنزل الله اليسر والتخفيف وقال: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) "، وقول الحسن: "ليس ذلك بوقت لا ينقص". قلت: المراد أنه من التحديد الوقت المضروب، فما وقت نقص دون ما زاد، وقصر الإرادة على الآباء في قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) دون الأمهات، فالحاصل: أن الأول دل على جواز النقصان للآباء دون الأمهات، والثاني على جواز النقصان والزيادة للآباء والأمهات، وأما قوله: "قيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز"، فمعناه: أن التشاور ينتهي إلى غاية الحولين فلا يتجاوز، فالغاية بمعنى: جميع المدة لا آخرها. قوله: (ويجوز أن يكون بعثاً) قيل: هو عطف على قوله: "ما أردتم إيتاءه" فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، ولهذا قال: "إذا أديتم إليهن يداً بيد" كذا ذكروا، وقلت: الأولى أن يكون عطفاً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على جملة قوله: "وليس التسليم" إلى قوله: "وإنما هو ندب إلى الأولى"، وعن بعضهم: ويجوز أن يكون "نعتاً": بياناً لوجه الندب ولحكمته. وقلت: الظاهر المغايرة، وتحرير المعنى: أن ظاهر التركيب يوجب أن يكون التسليم شرطاً لصحة حكم الاسترضاع؛ لأن قوله: (إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ) شرط، وجزاؤه ما دل عليه الشرط المتقدم مع جزائه، كذا قدره أبو البقاء، فالمعنى: إذا سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه، فلا جناح عليكم إن أردتم أن تسترضعوا، فجعل رفع الجناح عن إرادة حكم الاسترضاع مشروطاً بتسليم الأجرة، وليس بشرط باتفاق العلماء، فيكون محمولاً على الندب إلى الأولى، ويجوز أن يكون شرطاً ويجري على الوجوب، مبالغة، ليكون بعثاً على أن يكون المعطى منجزاً، فقوله: "إذا أديتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن" حاصل المعنى لا التقدير كما ظنوا؛ لأن الذي حمله على تقدير الإرادة تصحيح إيقاع "سلمتم" على "ما آتيتموهن" لاستحالة أن يكون الإيتاء قبل التسليم، وهذا المعنى أيضاً قائم مع "أديتم، أي: إذا أديتم إليهن ما أردتم إعطاءه، وإنما فسر التسليم بالأداء في هذا الوجه مراعاة للمطابقة بين معنى الوجوب والأداء، ونحو هذا الأسلوب قول الأصوليين في قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"

(بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بـ (سلمتم) أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن. [(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)]. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. وقيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر نفي لماهية الصلاة في غير المسجد وصحتها، واتفقوا على صحتها، فتحمل على ما يقرب إلى الحقيقة من نفي الكمال، وإلى هذا المعنى أشار بقوله: "أن يكون الذي تعطاه المرضع من أهنأ ما يكون"، وهو أن يكون منجزاً يداً بيد. قوله: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ): على تقدير حذف المضاف) لأن الخبر (يَتَرَبَّصْنَ) وليس فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ، فوجب أن يقدر ما يرجع إليه الضمير في الخبر. عن أبي البقاء: وقال سيبويه: إن (الَّذِينَ): مبتدأ والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، وقوله: (يَتَرَبَّصْنَ): بيان الحكم المتلو. وقال الزجاج: قال الأخفش:

وقرئ: (يَتوفون) بفتح الياء، أي: يستوفون آجالهم، وهي قراءة علي رضى اللَّه عنه. والذي يحكى: أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفي؟ بكسر الفاء. فقال: اللَّه، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضى اللَّه عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو، تناقضه هذه القراءة. (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً): ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتربصن بعدهم، وقال غيره من البصريين: أزواجهم يتربصن، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو صواب، وقال الفراء: إن الأسماء إذا كانت مضافة إلى شيء، وكان الاعتماد في الخبر على الثاني، أي: المضاف إليه، أخبر عن الثاني وترك الأول، المعنى: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. قوله: (وقرئ: "يتوفون" بفتح الياء)، قال ابن جني: روى هذه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه، قال ابن مجاهد: ولا يقرأ بها، قال ابن جني: هذا عندي مستقيم؛ لأنه على حذف المفعول، أي: والذين يتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، وحذف المفعول كثير في القرآن، وفصيح من الكلام. قلت: هذا معنى قول الشاعر: كل حي مستكمل مدة العمـ ... ـر ومود إذا انتهى أمده قوله: (تناقضه هذه القراءة) لأن الآية تقتضي صحة السؤال عن الميت بالمتوفي، بالكسر، والحكاية تنافيها، فدلت قراءته على أن الرواية غير ثابتة لموافقتها إياها. نعم، هي موافقة لقراءة العامة، وموجبة للأمر بوضع ما تتقوم به ألسنة الناس من علم النحو. والجواب ما قال صاحب "المفتاح": لم يقل: فلان، بل قال: الله، رداً لكلامه مخطئاً إياه، منبهاً له بذلك على انه كان يجب أن يقول: من المتوفى؟ بلفظ اسم المفعول، يريد أن السائل لم يكن من مرتبته في

يعتددن هذه المدّة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وقيل: عشرٌ؛ ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلة معها. ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه؛ ذاهبين إلى الأيام، تقول: صمت عشراً، ولو ذكرت خرجت من كلامهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البلاغة أن يبلغ إلى إدراك هذا المعنى الدقيق من هذا اللفظ، فما استحق الجواب المطابق لذلك. وقريب من ذلك ذكره صاحب "الانتصاف". قوله: (يعتددن هذه المدة)، الراغب: إن قيل: ما وجه التخصيص بهذه المدة؟ قيل: قد ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة اشهر، وإذا كان أنثى فبعد أربعة أشهر، فجعل ذلك عدتها وزيد عشرة استظهاراً، وتخصيص العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها. قوله: (ولو ذكرت خرجت من كلامهم)، يعني: لا ترى العرب يستعملون العدد بالتاء ذاهبين إلى الأيام، بل يستعملونه بغيرها ذاهبين إلى الليالي، والأصل فيه أن التاريخ هو: ضبط جزء معين من الزمان بالعدد، والعرب أرخت بالليالي، لأن الشهر قمري، ومبدأ ظهوره من الليالي، والليل سابق النهار، فخصوها بالذكر. قال الزجاج: حكى الفراء: صمنا عشراً من شهر رمضان، فالصوم إنما يكون في الأيام ولكن التأنيث مغلب في هذه الأيام والليالي بإجماع أهل اللغة، يقولون: سرنا خمساً بين يوم وليلة، وقال سيبويه: هذا باب المؤنث الذي استعمل في التأنيث والتذكير، والتأنيث أصله، وليس بين البصريين والكوفيين خلاف في الباب، وذكر المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة": إنما غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ فقيل: كتبت إليك لخمس بقين وأنت في اليوم؛ لأن ليلة الشهر

ومن البين فيه قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) [طه: 103]، ثم: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه: 104]. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): فإذا انقضت عدّتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة وجماعة المسلمين (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التعرّض للخطاب (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى: أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ، وإن فرّطوا كان عليهم الجناح. (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) هو أن يقول لها: إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة، ومن غرضي أن أتزوّج، وعسى اللَّه أن ييسر لي امرأةً صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح؛ فلا يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد اللَّه بن سليمان عن خالته قالت: دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي، فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وحق جدّي عليّ، وقدمي في الإسلام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبقت يومه، ولم يلدها وولدته، ولأن الأهلة لليالي دون الأيام. قوله: (ومن البين فيه) أي: ومن الدليل البين في استعمال العدد بغير التاء في الأيام ذهاباً إلى معنى الليالي قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً) [طه: 103]، فإن المراد به الأيام، وإنما أنث فيه ذهاباً إلى الليالي بدليل قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)، والتلاوة (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) [طه: 103 - 104]. قوله: (أو صالحة أو نافقة) أو: للتخيير والإباحة، عطف الأولين بأو، والآخرين بالواو؛ لأن المعنى أن يذكر أحد المذكورات أولاً مع أحد الآخرين بأن يقول: إنك لجميلة ومن غرضي أن أتزوج، مثلاً. قوله: (وقدمي في الإسلام) في نسخة المعزي: بفتح القاف، أي: ثباتي، وفي نسخة الصمصام: بكسرها.

فقلت: غفر اللَّه لك، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك! فقال: أوقد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وموضعي، قد دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أم سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللَّه وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة. فإن قلت: أي: فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت: الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له؛ كقولك: طويل النجاد والحمائل؛ لطول القامة، وكثير الرماد؛ للمضياف، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره؛ كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أوقد فعلت؟ ) يروى بضم التاء وبكسرها، والهمزة للإنكار، وتعريض النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر منزلته بيان شرعية التعريض، وإلا لما كان محتاجاً إلى ذكر منزلته عندها. قوله: (وهو متحامل)، النهاية: تحاملت الشيء: تكلفته على مشقة. "الأساس": والشيخ يتحامل في مشيته، وتحاملت الشيء: حملته على مشقة، وتحامل علي فلان: لم يعدل. قوله: (الكناية: أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له)، ليس هذا تعريف الكناية، لدخول المجاز فيه، ولو قال: مع قرينة غير مانعة لإرادة الموضوع له لصح، وكذلك تعريف التعريض هو: اللفظ المشار به على جانب بحيث يوهم أن الغرض جانب آخر، وبين الكناية والتعريض عموم وخصوص من وجه، فقد يكون كناية ولا يكون تعريضاً كقولك: فلان طويل النجاد، وبالعكس، كقولك في عرض من يؤذيك لغير المؤذي: آذيتني فستعرف، وعليه قوله تعالى لعيسى عليه السلام: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116]، وقد يجتمع التعريض والكناية معاً، كقولك في عرض من يؤذي المؤمنين: المؤمن هو الذي يصلي ويزكي ولا يؤذي أخاه المؤمن، ويتوصل بذلك إلى نفي الإيمان عن المؤذي ومن هو بصدده، والتلويح: أن تشير إلى مطلوبك من بعد، كقولك: "فلان كثير الرماد"، فإنه يدلُّ على

وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّى تَقَاضِيَا وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح، لأنه يلوح منه ما يريده. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ): أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كثرة إحراق الحطب ثم على كثرة الطبخ ثم على كثرة تردد الضيفان ثم على أنه مضياف، وفي كلام المصنف تسامح. الراغب: التعريض كالكناية، إلا أن التعريض: أن يذكر ما يفهم المقصود من غرضه، وليس بموضع للمفهوم عنه لا أصلاً ولا نقلاً، والكناية: العدول عن لفظ إلى لفظ هو يخلف الأول ويقوم مقامه، ولهذا سمي الأسماء المضمرات في النحو: الكنايات. وقلت: هذا قريب إلى ما ذهب إليه المصنف. قوله: (وحسبك بالتسليم مني تقاضيا) أوله: أروح بتسليم عليك وأغتدي قوله: (وكأنه: إمالة الكلام) أي: التعريض: إمالة الكلام، يريد أن الكلام له دلالة ظاهرة على معنى معين، فتميله إلى جانب آخر بقرينة اقتضاء المقام؛ لأنك حين سلمت على من تستجديه أشرت بالتسليم إلى غرضك، ولا دلالة للتسليم على الاستعطاء لا حقيقة ولا مجازاً، لكن في التسليم استرقاق واستعطاف، وهما يؤديان إلى استرضاء المسلم إما بالعطاء أو غير ذلك، ومآل هذا إلى الكناية، ولذلك قال القاضي: التعريض: إيهام المقصود بما لم يوضع له، لا حقيقة ولا مجازاً.

(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) لا محالة، ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ، ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التوبيخ كقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 187]. فإن قلت: أين المستدرك بقوله: (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ)؟ قلت: هو محذوف؛ لدلالة (ستذكرونهنّ) عليه، تقديره: علم اللَّه أنكم ستذكرونهنّ، فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً، والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء؛ لأنه مما يسرّ، قال الأعشى: وَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه، كما فعل بالنكاح. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تنفكون)، وفي بعض النسخ: "ولا ينفكون"، الجوهري: فككت الشيء: خلصته، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما. قوله: (ولا تقربن جارة) البيت، تأبد: من الأبود، وهو النفار، أي: اعتزل عنهن ما لم يكن حلالاً، كأنك وحشي لا تدري ما النكاح، وأصله: "تأبدن" أبدل نون التأكيد بالألف في الوقف. قوله: (ثم عبر به) أي: ثم عبر بالسر ها هنا عن العقد بعدما جعل كناية عن الوطء؛ لأن العقد سبب للوطء، فيكون مجازاً عن العقد من إطلاق لفظ المسبب على السبب. قوله: (كما فعل بالنكاح) أي: كما عبر بالنكاح الذي هو الوطء عن العقد؛ لأنه سبب فيه، ولو جعل السر كناية عن النكاح الذي هو الوطء ثم جعل عبارة عن العقد ليكون كناية تلويحية: لجاز، فالضمير في "أنه" راجع إلى الوطء حينئذ.

فإن قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بـ (لا تواعدوهنّ)، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أي: لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من (سِرًّا)؛ لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهنّ إلا التعريض. وقيل: معناه: لا تواعدوهن جماعاً، وهو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت وكيت؛ يريد ما يجرى بينهما تحت اللحاف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بم يتعلق حرف الاستثناء؟ ) هذا يؤذن أن تعلق حرف الاستثناء بـ (لا تُوَاعِدُوهُنَّ) من حيث كونه عاملاً بوساطتها فيما بعدها كسائر الحروف التي يوصل بها الفعل إلى المعمول، هذا هو المختار في "شرح المفصل" لابن الحاجب، وروى الأنباري في "النزهة": أن أبا علي اجتمع مع عضد الدولة في الميدان، فسأله عضد الدولة: بماذا انتصب الاسم المستثنى في نحو: قام القوم إلا زيداً؟ فقال: بتقدير: أستثني زيداً، فقال: هلا قدرت امتنع زيد فرفعت؟ فقال أبو علي: هذا جواب ميداني فذكر في "الإيضاح" أنه انتصب بالفعل المقدم بتقوية إلا. قوله: (وقيل: معناه: لا تواعدوهن جماعاً). اعلم أنه فسر السر هنا تارة بعقد النكاح وما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتعلق به كناية تلويحية، وأخرى بالجماع كناية رمزية، ومرة مع ما يتصل به كناية إيمائية عما يستهجن منه. أما الأول فعلى وجهين، أحدهما: قوله: "لا تواعدوهن مواعدة قط" أي: لا تواعدوهن مواعدة فيها ألفاظ تستعمل في عقد النكاح إلا مواعدة فيها لفظ التعريض، والمستثنى منه أعم عام المصدر. وثانيهما: قوله: "إلا بأن تقولوا"، المعنى: لا تواعدوهن بشيء من الأقوال التي تتعلق بعقد النكاح، إلا بالقول المعروف، وهو التعريض، والمستثنى منه أعم عام المفعول به على حذف الجار واتصال الفعل، وعلى هذا القول، وهو أن يراد بالسر: عقد النكاح، لا يجوز الاستثناء أن يكون منقطعاً، قال القاضي: لأنه يؤدي إلى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو غير موعود، أي: التعريض واقع في الحال، فلا يكون موعوداً. وقلت: الفرق بين أن يكون الاستثناء متصلاً وأن يكون منقطعاً هو أن المتصل يستدعي أن يكون التعريض داخلاً تحت جنس المستثنى منه، وهو: (سِرّاً)، وتحت حكم المواعدة ايضاً، فيصير التعريض من جنس الألفاظ التي تتعلق بعقد النكاح، فيرجع المعنى إلى قولك: لا تواعدوهن إلا مواعدة فيها التعريض، والمنقطع يوجب أن لا يدخل التعريض تحت جنس معنى السر على ما فسرناه، فلا يكون من الألفاظ التي تستعمل في عقد النكاح بالتعريض، إذ لو كان لكان الاستثناء متصلاً، والمقدر خلافه، لكن يدخل تحت المواعدة؛ لأنه استدراك من عدم المواعدة، فإذن يلزم أن يكون مطلق التعريض موعوداً به كما قال القاضي. وأما الثاني- وهو أن يراد بالسر: الجماع- فالمراد بالمواعدة هو أن يقول لها: إن نكحتك كان كَيْتَ وكَيْتَ، إلى قوله: "من غير رفث وإفحاش في الكلام".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الثالث- وهو أن يعبر بالسر وبما يتصل به عما يستهجن منه- فهو الذي أشار إليه بقوله: "إن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن"، وقوله: "لأن مسارتهن، إلى آخره": بيان لوجه الكناية، ويفهم من ظاهر كلامه أن الاستثناء على هذين الوجهين متصل أيضاً، أما أولاً: فقوله: "من غير رفث وإفحاش" معناه: لا تواعدوهن بما يستعمل تحت اللحاف سوى ألفاظ لا توحش نحو: اللمس والغشيان، وأما ثانياً: فإن التقدير: لا تواعدوهن في الخفية بما يجري بين الرجل والمرأة سوى ألفاظ معلومة لا يستحيى منها في المجاهرة، وعلى هذا التأويل ينبغي أن لا يفسر قوله: (إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) بالتعريض في الخطبة كما في الأول؛ لأن المنهي في الخطبة استعمال ألفاظ تصرح في النكاح كما قال، فلا تقول: إني أريد أن أنكحك أو: أتزوجك أو: أخطبك، فضلاً عن ألفاظ توهم الجماع. ثم الأحسن أن يعبر بالسر عن الجماع كما اختاره الزجاج، وأن يجعل الاستثناء منقطعاً كما عليه كلام مكي وأبي البقاء وصاحب الكواشي، وأن يراد بالمواعدة ما قد يجري بين الزوجين بعد الخطبة من المعاهدة بحسن المعاشرة، كما قال الإمام: لما أذن في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة، استثنى عنه أن يسارها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها بالسر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير هذا مؤكداً لذلك التعريض، كأنه قيل: لا تواعدوهن بما يستهجن منه، ولكن بما يؤذن بحسن المعاشرة، والنظم يساعد عليه أيضاً؛ لأن أحوال الناكح لا تخلو من ثلاث، فإنه إذا شرع في

(إلا أن تقولوا قولاً معروفاً) يعني: من غير رفثٍ ولا إفحاش في الكلام. وقيل: لا تواعدوهن سراً، أي: في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن؛ لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً): هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر وعزم عليه، وذكر العزم مبالغة في النهى عن عقدة النكاح في العدّة؛ لأن العزم على الفعل يتقدّمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، ومعناه: ولا تعزموا عَقد عُقدة النكاح. وقيل: معناه: ولا تقطعوا عقدة النكاح، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطلب فالأدب أن لا يصرح في الخطبة بألفاظ العقد والنكاح، بل يعرض بها، ثم بعد ذلك إن جرت بينهما معاهدة ينبغي أن يحترز عما يشعر به مجرد الشهوة، وإذا تم ذلك، فالواجب أن لا يستعجل في عقد النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله لئلا يفوت حق الغير، ومن ثمة أكد التوصية بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ) وكرره. ويمكن أن يحمل كلام المصنف على الاستثناء المنقطع، بأن تخصص (ما) في: "مما يجري بينهما تحت اللحاف" بالألفاظ الدالة على الجماع بالتصريح بدليل قوله: (سِرّاً) أي: جماعاً، وأن يقال في قوله: "لا تواعدوهن في السر": أنه على حذف المفعول، أي: لا تواعدوهن في الخفية بما يستهجن ويستحيى منه لكن بأن تقولوا قولاً معروفاً، وهو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره. قوله: (على أن المواعدة في السر) أي: بناءً على أن المواعدة في السر. قوله: ((وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)) أي: لا تعزموا على النية على عقد النكاح؛ لأن النية هي: عقد القلب على فعل الشيء، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، يعني: لابد لكل فعل من مقدمة عقد القلب عليه، فإذا نفيت المقدمة اللازمة له نفي الملزوم على طريق برهاني.

وحقيقة العزم: القطع؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي: «لمن لم يبيت الصيام». (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعني: ما كتب وما فرض من العدّة. (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ)، ولا تعزموا عليه. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة. [(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ* وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 236 - 237]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحقيقة العزم: القطع). الراغب: دواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب: السانح ثم الخاطر ثم التفكر فيه ثم الإرادة ثم الهمة ثم العزم، فالهمة: إجماع من النفس على الأمر وإزماع عليه، والعزم هو: العقد على إمضائه، ولهذا قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159]. قوله: (لا صيام لمن لم يعزم الصيام) رواية الحديث عن أبي داود والترمذي: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". قوله: ((غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة). اعلم أن قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) عطف على قوله: (وَاعْلَمُوا) مع ما ترتب عليه، وكلاهما تذييل لما سبق، وفيه إيذان بوكادة المنهي عنه وأنه مما يجب أن يجتنب منه، وذلك نهي عن العزم دون الفعل، وتنبيه

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ): لا تبعة عليكم من إيجاب مهر، (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ): ما لم تجامعوهنّ، (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة تسمية المهر؛ وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمي لها مهر فلها نصف المسمى، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة؛ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أن من ارتكبه ولم يعاجل بالعقوبة فإنه تعالى يمهله فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ونحوه قوله تعالى: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 6]، قال: هذا تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل. قوله: (من إيجاب مهر) بيان تبعة لقوله بعد الجناح: "تبعة المهر" أي: لا يجب المهر على من طلق قبل المسيس، ولم يسم المهر، عبر عن عدم وجوب المهر بعدم لزوم الجناح، فيلزم أن يكون المهر جناحاً لما فيه من الثقل، يقال: جنحت السفينة: إذا مالت بثقلها، والدين سمي جناحاً لما فيه من الثقل. قوله: (إلا أن تفرضوا لهن) جعل "أو" في (أَوْ تَفْرِضُوا) تقديره: أولم تفرضوا، فهو معطوف على قوله: (تَمَسُّوهُنَّ) و"أو" في النحو تارة بمعنى: إلا أن؛ لأنها في معنى قولهم: هو قاتلي أو أفتدي منه، وقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، أي: إلا أن تعطيني حقي، وأخرى بمعنى حتى؛ لأنه فسر قوله: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) بلا تبعة مهر عليكم، وهو دال على جواب الشرط، أي: ما لم تمسوهن، فالمعنى: ما لم تمسوهن لا مهر عليكم، إلا أن تفرضوا لهن، أو: حتى تفرضوا لهن فريضةن فحينئذ يجب المهر، ومن أجرى الجناح على موضوعه فـ "أو" عنده

والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ) إلى قوله: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)، فقوله: (فنصف ما فرضتم) إثبات للجناح المنفي ثمة، والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبى حنيفة إلا أن يكون مهر مثلها أقل من ذلك، فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى الواو، وعليه كلام الراغب، قال: قوله: (أَوْ تَفْرِضُوا) تقديره: أولم تفرضوا، فهو معطوف على قوله: (تَمَسُّوهُنَّ)، و (أَوْ) في نحو هذا الموضع تفيد ما يفيد الواو على وجه، وذلك أنه إذا قيل: افعل كذا إن جاءك زيد أو عمرو، يقتضي أن تفعله إذا جاء أحدهما، ولا شك أنه يحتاج أن يفعله إذا جاءا جميعاً؛ لأنه قد جاء أحدهما وزيادة، وعلى هذا قال النحويون: جالس الحسن أو ابن سيرين يقتضي أنه إذا جالسهما فقد امتثل، وعلى هذا قوله: (وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ) [النساء: 43] فظاهر الآية يقتضي أنه إن لم يكن لها مسيس أو لم يكن لها فرض أو لم يكن الأمران فلها المتعة، فكأنه قيل: إذا طلقتموهن ولم يحصل الأمران: المسيس والفرض، أو حصل المسيس ولم يحصل الفرض، فمتعوهن. إن قيل: "ما" في قوله: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) يقتضي الشرط، وذلك يوجب أن رفع الجناح عن المطلق بشرط عدم المماسة وعدم الفرض، ومعلوم أن الجناح مرفوع عن المطلق مسها أو لم يمسها، فرض أو لم يفرض، فما وجه ذلك؟ قيل: القصد بالآية: أن الجناح مرفوع بإعطاء المتعة، فكأنه قيل: لا جناح في طلاقها إذا متعها، ودل على ذلك بقوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ)، وقد علم أن الجناح غير مرفوع عمن لم يمتع إذا طلقها قبل الفرض والمسيس. قوله: (والدليل على أن الجناح تبعة) يعني: قوله تعالى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) إثبات لوجوب المهر ها هنا، وهو موجب لأن يكون المنهي المنفي هناك إيجاب المهر؛ لأن المقابل إنما

و (الْمُوسِعِ): الذي له سعة، و (الْمُقْتِرِ): الضيق الحال، وَ (قَدَّرَهُ): مقداره الذي يطيقه، لأنّ ما يطيقه هو الذي يختص به. وقرئ بفتح الدال، والقدْر والقدَر لغتان. ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعطى نقيض حكم ما يقابله، وإنما كان جناحاً لما في لزوم نصف المهر على الزوج، وهو لم يدخل بها من تبعة وثقل من غير استنفاع، وثبوت المتعة لجبر إيحاش الطلاق، فقوله: "والدليل على أن الجناح تبعة" استدلال على قول من قال: إن نفي الجناح محمول على نفي الوزر عن المطلق؛ لأن الطلاق: قطع سبب الوصلة، قال محيي السنة: جاء في الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فنفي الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك، وقال القاضي: الفريضة: نصب على المفعول به، فعيلة بمعنى مفعول، فالتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، ويحتمل المصدر، والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسم لها مهراً، إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى أو مهر المثل، ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمى لها فلها نصف المسمى، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين. قوله: ((الْمُقْتِرِ) الضيق الحال)، الراغب: المقتر: الفقير، وأصله من نال القتر، كما أن المترب والمزمل: من نال التراب والرمل، والقتار: ما تحمله الريح من رائحة القدر. ولما أفاد تقديم الخبر على المبتدأ الاختصاص قال: لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. قوله: (وقرئ بفتح الدال): حفص وحمزة والكسائي.

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لرجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً ثم طلقها قبل أنّ يمسها: «أمتعتها»؟ ، قال: لم يكن عندي شيء. قال: «متعها بقلنسوتك». وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب. (مَتاعاً) تأكيد لـ"متعوهن"، بمعنى تمتيعاً. (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة. (حَقًّا) صفةٌ لـ (متاعاً)، أي: متاعا واجبا عليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا تجب المتعة إلا لهذه)، وهي المطلقة غير الممسوسة التي لم يسم لها مهراً، قال القاضي: ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج، وألحق الشافعي بها في أحد قوليه: الممسوسة المفوضة وغيرها قياساً، وهو مقدم على المفهوم. قوله: (مَتَاعاً) تأكيد لـ "متعوهن")، الراغب: المتعة: اسم لكل ما فيه تمتع، أي: انتفاع قدراً من الزمان، وعلى ذلك قوله: (وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) [النحل: 80]. قوله: وقول الشاعر: إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار لكن صار المتعة في تعارف الشرع: لما تختص به المطلقة.

أو حق ذلك حقاً، (عَلَى الْمُحْسِنِينَ): على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع. وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه». (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يريد المطلقات. فإن قلت: أي: فرق بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون؟ قلت: الواو في الأوّل ضمير "هم"، والنون علم الرفع، والواو في الثاني لام الفعل، والنون ضمير "هنّ"، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، وهو في محل النصب، «ويعفو» عطف على محله. و (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ): الولىّ، يعني: إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني، ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئاً! أو يعفو الوليّ الذي يلي عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعي. ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتع)، الراغب: إن قيل: ما وجه تخصيص المحسنين في هذه الآية والمتقين في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 241]، وهلا دل ذلك على أنه غير واجب إذا كانت الواجبات من المشروعات لا يختلف فيها المتقي والمحسن وغيرهما؟ قيل: قد نظر بعض الناس هذا النظر، وقال: لما كان الإحسان قد يكون لما يزيد على الواجب، وقد خص بذلك المحسنين، دل على أن ذلك حث على المعروف لا إيجاب، وقال أكثرهم: إن ذكر المحسنين والمتقين لا لتخصيص الإيجاب، بل للتأكيد، وإنه من تمام الإحسان والتقوى، كما أن قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] ليس بتخصيص أنه لا يهتدي به إلا المتقون، لكن تنبيه على أن الاهتداء به من تمام التقوى. وقلت: المحسنين من وضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية، أي: حقاً عليكم، بدليل قوله: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي: من شأنكم أيها المخاطبون وجوب شرعية المتعة لكونكم محسنين. قوله: (وهو مذهب الشافعي) أي: المراد بالذي يعفو: الولي، "الانتصاف": هذا الذي عزاه إلى الشافعي ليس بصحيح، بل مذهبه كمذهب أبي حنيفة، إنما المنسوب إلى الشافعي هو

وقيل: هو الزوج، وعفوه: أن يسوق إليها المهر كاملاً، وهو مذهب أبي حنيفة، والأوّل ظاهر الصحة. وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيها نظر، إلا أن يقال: كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوّج، فإذا طلقها استحقّ أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها، أو سماه عفواً على طريق المشاكلة. عن جبير بن مطعم: أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها، فأكمل لها الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو. وعنه: أنه دخل على سعد بن أبى وقاص فعرض عليه بنتاً له، فتزوّجها، فلما خرج طلقها، وبعث إليها بالصداق كاملاً. فقيل له: لم تزوّجتها؟ قال: عرضها علىّ فكرهت ردّه. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ و (الْفَضْلَ): التفضل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مذهب مالك رضي الله عنهم. الإنصاف: عند الشافعي قولان: فالزمخشري نقل أحد قوليه، وقال القاضي: وذلك إذا كانت المرأة صغيرة، وهو قول قديم. قوله: (وقيل: هو الزوج)، وهو أوفق للنظم؛ لأن الزوج هو المالك لعقد النكاح وحله، كأنه قال: (إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ) أي: المطلقات، أو يعفو الأزواج، فأقيم المظهر موضع المضمر، لكن في تسمية سوق المهر إليها كاملاً بالعفو- والحق نصف المهر- بعد، وإليه الإشارة بقوله: "فيها نظر"، قال صاحب "الإيجاز": وعفوه إذا سلم كل المهر أن لا يرتجع النصف بالطلاق، أو إن لم يسلم وفاه كاملاً، كأنه من: عفوت الشيء: إذا وفرته وتركته حتى يكثر، وفي الحديث "ويرعون عفاها" والعفا: ما ليس لأحد فيه ملك. قوله: (والأول ظاهر الصحة) يعني: تفسير قوله: (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) بالولي على الصغيرة إذا كان أباً ظاهر الصحة؛ لأن العفو مجرى على ظاهره.

أي: ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤوا ولا تستقصوا. وقرأ الحسن (أو يعفو الذي) بسكون الواو. وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه لهما بالألف، لأنهما أختاها. وقرأ أبو نهيك: (وأن يعفو) بالياء. وقرئ: (ولا تنسوا الفضل) بكسر الواو. [(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)]. (الصَّلاةِ الْوُسْطى) أي: الوسطى بين الصلوات، أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط. وأنما أفردت وعطفت على (الصلاة) لانفرادها بالفضل، وهي صلاة العصر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتتمرؤوا) أي: تصيروا أصحاب مروءة. قوله: (وإنما أفردت وعطفت على (الصَّلَوَاتِ) لانفرادها بالفضل). قال الزجاج: إن الله عز وجل قد أمر بالمحافظة على جميع الصلوات، إلا أن هذه الواو إذا جاءت مخصصة فهي دالة على المعنى الذي تخصصه كقوله تعالى: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [البقرة: 98] فذكرا مخصوصين لفضلهما على الملائكة. وقلت: معنى قوله هو: أن الثاني إن كان في الظاهر كالتخصيص للأول، لكن الأول جيء به توطئة، فيكون الثاني بياناً لإرادة ما استجملت له الأول، فإن بني إسرائيل ما تكلموا إلا في جبريل، فذكر الملائكة عليهم السلام توطئة لشرفه عليهم كما سبق في موضعه، ولولا الثاني لم يعلم المراد من ذكر الأول، وهو المراد بقوله: "فهي دالة على المعنى الذي تخصِّصُّه".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: لعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها، هذا أحد الوجوه المذكورة في "التفسير الكبير". وقلت: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر شرعية أحكام الأولاد والأزواج ووصيتهم بالتقوى وعم النهي عن نسيان الحقوق والفضل فيما بينهم بقوله: (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وعلله بأنه عليم بما في ضمائرهم بصير بأحوالهم، أردفه بالأمر بالمحافظة على حقوق الله لاسيما أفضلها نفعاً وأعلاها قدراً، ولهذا عطف عليه (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)، وفيه إشعار بأن مراعاة حق العباد مقدمة على حق الله، ومن ثم شرط في التوبة رد المظالم أولاً، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، ويدل على أن الآية مستطردة: العود إلى ذكر ما يتعلق بالحكم بين الأزواج، وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ). الراغب: إن آيات القرآن منزلة حسب الحاجات، ولهذا قال الكفار: (لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الآية، أعلمهم أنه تعالى فعل ذلك ليقوى عليه الصلاة والسلام على تلقينه وتلقيه، وقال: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء: 106] ثم إن الله تعالى لا يخلي شيئاً يذكره مما يتعلق بالأحكام الدنيوية إلا ويقرنه بحكم أخروي لينبههم على مراعاة الآخرة في جميع أحوالهم وأعمالهم وأنها هي المقصودة بالقصد الأولى، وأما سائر ما يتحرى فلأجلها، على أن ما تراه موجوداً ها هنا ومحفوظاً لدينا أبلغ وأحسن مما راعاه أصحاب القوانين؛ لأنه تعالى لما حثهم على العفو ورغبهم في المحافظة على الفضل عرفهم أن السلوك إلى التخصيص بذلك هو المحافظة على الصلوات بكل حال، فإن الصلاة هي الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، ثم صرف الكلام إلى ذكر ما كان بصدده فتممه.

وعن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه بيوتهم ناراً»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب»، وعن حفصة: أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقرؤها. فأملت عليه: والصلاة الوسطى صلاة العصر. وروي عن عائشة وابن عباس رضى اللَّه عنهم: (والصلاة الوسطى وصلاة العصر) بالواو، فعلى هذه القراءة يكون التخصيص لصلاتين، إحداهما: الصلاة الوسطى، إمّا الظهر، وإمّا الفجر، وإمّا المغرب على اختلاف الروايات فيها؛ والثانية: العصر. وقيل: فضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنه قال يوم الأحزاب)، وهو اليوم الذي أحاط فيه الكافرون بالمدينة، والحديث رواه الشيخان وغيرهما، عن علي رضي الله عنه مع التفاوت، وحديث حفصة رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي، وعن عائشة رضي الله عنها مع الاختلاف، وأما كاتب حفصة فهو: رافع مولى عمر رضي الله عنهما، كذا ذكره في الحاشية. وقولها: كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، وهذه الزيادة يجوز أن تكون صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل البيان

وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: هي صلاة الظهر؛ لأنها في وسط النهار، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصليها بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها. وعن مجاهدٍ: هي الفجر؛ لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فحسبت أنها من القرآن، وأنها قراءة شاذة، وحديث ابن عمر رواه الترمذي وأبو داود، عن زيد بن ثابت، مع التفاوت. قوله: (وعن مجاهد: هي الفجر). روي عن علي وابن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. رواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً، وفي "شرح السنة": سأل عبيدة علياً عن صلاة الوسطى، قال: كنا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم

وعن قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب، لأنها وتر النهار، ولا تنقص في السفر من ثلاث. وقرأ عبد اللَّه: (وعلى الصلاة الوسطى)، وقرأت عائشة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ناراً"، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه. قوله: (وتر النهار). في الحاشية: سمي المغرب بوتر النهار لأنه آخر جزء من النهار، وفي "المغرب": يقال: وترته، أي: قتلت حميمه وأفردته منه، يقال: وتره حقه: إذا نقصه، ومنه: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" بالنصب. قوله: (ولا تنقص في السفر) من تتمة التعليل، ووجهه: أن المغرب هي الوسطى؛ لأنها فصل بين النهار والليل، وأنها لا تنقص في السفر، وإنما قلنا: إنه من تتمة التعليل لأن الصبح أيضاً فصل واقع بين الليل والنهار، ولكن ليس فيه المعنى المذكور، قال القاضي: وقيل: الوسطى: المغرب؛ لأنها المتوسط بالعدد ووتر النهار.

(والصلاة الوسطى) بالنصب على المدح والاختصاص. وقرأ نافع: (الوصطى). (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ): ذاكرين للَّه في قيامكم. والقنوت: أن تذكر اللَّه قائماً. وعن عكرمة: كانوا يتكلمون في الصلاة، فنهوا. وعن مجاهدٍ: هو الركود وكف الأيدى والبصر. وروي: أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا. (فَإِنْ خِفْتُمْ): فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ نافع: الوصطى)، وهي شاذة وإن نسبت للإمام. قوله: (هاب الرحمن)، فإن قيل: صفة الرحمن مما لا يهاب منها، يقال: إن الله تعالى إذا تجلى للعبد بما يحتوي على جلائل النعم ربما يضيق منها نطاق بشريته، وفي معناه أنشد: أشتاقه، فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة ... وصبابة لجماله ومن ثمة أردف بالرحيم عند الإفضال، وضم إليه الاستواء على العرش عند العظمة والكبرياء، وكلما ذكر مجرداً عن الرحيم أشعر بمعنى الهيبة. قوله: (فإن كان بكم خوف). قال الزجاج: (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي: إن لم يمكنكم أن تقوموا قانتين، أي: عابدين موفين الصلاة حقها لخوف ينالكم فصلوا ركباناً، فإذا أمنتم فقوموا قانتين، أي: مؤدين الفرض، هذا ظاهر على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وحجةُ أبي حنيفة

(فَرِجالًا): فصلوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام؛ أو رجلٍ، يقال: رجل رجل، أي: راجل. وقرئ: (فرجالاً) بضم الراء، و (رجالاً) بالتشديد، و (رجلاً). وعند أبي حنيفة رحمه اللَّه: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف، وعند الشافعي رحمه اللَّه: يصلون في كل حال، والراكب يومئ، ويسقط عنه التوجه إلى القبلة (فَإِذا أَمِنْتُمْ): فإذا زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من صلاة الأمن، أو: فإذا أمنتم فاشكروا اللَّه على الأمن، واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق، واجيب بأنه منسوخ بهذه الآية، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن صلاة الوسطى" يحتمل النسيان. قوله: (و"رجالاً") كجاهل وجهال، "أو رجلاً" كصاحب وصحب. قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) فالذكر ها هنا إما الصلاة أو الذكر نفسه، فعلى الأول يحمل قوله: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) على إزالة الخوف، يعني: فإذا زال خوفكم، فأدوا الصلاة أو اقضوها؛ على الخلاف، وعلى الثاني يحمل: "إذا أمنتم" على ظاهره، يعني: إذا خولكم نعمة الأمن بعد الخوف فقابلوها بالشكر، وهي العبادة، كأنه لمح بقوله: "كما أحسن إليكم" إلى مذهبه؛ لأن عندهم تعليم الشرائع إحسان من الله؛ لأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً كان الإيمان به واجباً لما ركب فيهم من العقول، هذا لفظه في أول السورة.

[(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)]. تقديره فيمن قرأ: (وصية) بالرفع: ووصية الذين يتوفون، أو: وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم، أو: والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم؛ وفيمن قرأ بالنصب: والذين يتوفون يوصون وصية، كقولك: إنما أنت سير البريد، بإضمار تسير؛ أو والزم الذين يتوفون وصية. وتدل عليه قراءة عبد اللَّه (كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول) مكان قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ)، وقرأ أبيّ: (متاع لأزواجهم متاعاً)، وروي عنه: (فمتاع لأزواجهم)، و (متاعاً) نضب بالوصية، إلا إذا أضمرت "يوصون"؛ فإنه نصب بالفعل. وعلى قراءة أبيّ متاعاً نصب بـ"متاع"، لأنه في معنى التمتيع كقولك: الحمد للَّه حمد الشاكرين، وأعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً. و (غَيْرَ إِخْراجٍ) مصدر مؤكد كقولك: هذا القول غير ما تقول؛ أو بدل من (متاعاً) أو حال من "الأزواج"، أي: غير مخرجات، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيمن قرأ: "وصية"، بالرفع) الحرميان وأبو بكر والكسائي: بالرفع، والباقون: بالنصب. قوله: (أو ألزم الذين يتوفون) فعلى هذا (وَصِيَّةً): ثاني مفعولي "ألزم". قوله: (وقرأ أبي: "متاع") أي: مكان (وَصِيَّةً)، وروي عنه: "فمتاع"؛ لأن "الذين" متضمن لمعنى الشرط، فجاز إدخال الفاء في الخبر.

والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً، أي: ينفق عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 243]. وقيل: نسخ ما زاد منه على هذا المقدار، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى، فعند أبى حنيفة وأصحابه: لا سكنى لهن. (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التزين والتعرض للخطاب (مِنْ مَعْرُوفٍ): مما ليس بمنكر شرعاً. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم) إلخ، هذا على تقدير الحال ظاهر، ومن ثمة قدر ولا يخرجن عن مساكنهن"، وأما على تقدير المصدر فالمعنى: يمسكن في البيوت إمساكاً غير إخراج، فإنه لما ذكر أنهم يوصون لأزواجهم ما تمتع به حولاً دل على أنهم لا يخرجون، فأكد ذلك بقوله: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)، وعلى تقدير البدل: فحق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا لأزواجهم، أن: لا يخرجن من مساكنهن حولاً كاملاً، وعلى التقديرين لا يكون في الآية ما يدل على إيجاب النفقة، قال القاضي: سقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، وقوله تعالى: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) هذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه، وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها. قوله: (كيف نسخت الآية المتقدمة؟ ) توجيه السؤال أن قوله تعالى: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234] متقدم على هذه الآية في التلاوة، وهي ناسخة لها، ومن شرط الناسخ أن يكون متأخراً.

قلت: قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة: 142]، مع قوله: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة: 144]. [(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) 241 - 242]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل) يعني: ليس ترتيب المصحف على ترتيب التنزيل، وإنما ترتيب التلاوة هو ترتيب الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (كقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) [البقرة: 142] مع قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [البقرة: 144])، وذلك أن تقلب وجهه في السماء مؤذن بأنه صلى الله عليه وسلم كان طالباً من الله الإذن بالتحويل؛ لأنها قبلة آبائه، والدليل عليه قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من الله أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام وأدعى للعرب إلى الإيمان"، وهذا التوقع إنما يحسن إذا لم يسبق بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ويمكن أن يقال: إن قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ) إخبار عن الكائن ووعد لحبيبه صلوات الله عليه أن يحوله إلى قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، يعني لابد أن يحول القبلة إلى الكعبة ولابد أن يقول السفهاء: (مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وقل أنت: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، وكان صلوات الله عليه يتوقع من ربه إنجاز وعده زماناً غب زمان، ويراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل، فقيل له: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) انتظاراً لما وعدناك، ننجز الوعد ونعطيك قبلة ترضاها.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها، وقال: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) كما قال ثمة: (حقاً على المحسنين) [البقرة: 236]. وعن سعيد بن جبير وأبى العاليه والزهري: أنها واجبة لكل مطلقة. وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً. وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة. [(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ* وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 243 - 244]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عَمَّ المطلقات بإيجاب المتعة) ينافي مذهبه في تفسير الآية السابقة، وهو قوله: "عند أصحابنا: لا تجب المتعة إلا لهذه" أي: المطلقة غير المدخول بها ويستحب لسائر المطلقات؛ لأنه أوجب ها هنا لكلهن، ثم أكد هذا الوجه بقول سعيد بن جبير وغيره، والتفصي منه لا يحصل إلا بتخصيص المنطوق بالمفهوم، كما قال القاضي: إفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم، ولهذا أوجبها ابن جبير لكل مطلقة، وأول غيره بما يعم التمتع الواجب والمستحب. وقلت: لكن الحنفية لا يقولون بالمفهوم وعلى تقدير جوازه كما هو مذهب المصنف في هذا الباب، ينبغي أن يكون المخصص متأخراً عن المخصص، وقد قال: ما أوجبها لواحدة منهن. قوله: (وقد تناولت التمتيع الواجب والمستحب)، هذا مبني على أن مطلق الأمر يتناول الواجب والمستحب جميعاً، فلا تنافي الآية السابقة. وقال القاضي: ويجوز أن تكون اللام للعهد، والتكرير للتأكيد أو لتكرير القضية.

(أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم)، الراغب: "رأيت" يتعدى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم: "ألم تر" لمعنى: ألم تنظر؟ عدي تعديته، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقدير، ولا يقال: رأيت إلى كذا. قوله: (ويجوز أن يخاطب) عطف على قوله: "تقرير لمن سمع بقصتهم"، وهو أوفق من الأول لتأليف النظم، لأن الكلام مع المؤمنين في شأن الأزواج والأولاد، وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، كالتخلص من الأحكام إلى القصص لاشتمال معنى الآيات عليها، يؤيده قوله بعد هذا: "وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد"، وذكر الجهاد ها هنا كذكر الصلاة قبل ذلك تدرجاً من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر. قال الزجاج: وفي ذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم احتجاج على مشركي العرب وأهل الكتاب؛ لأنه أنبأ أهل الكتاب بما لا يدفعون صحته وهو صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كتاباً ولا تعلم من أحد، وهم يعلمون أنه كذلك، فلا تكون هذه الأقاصيص إلا بوحي من الله تعالى. قوله: (لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل) تعليل لجواز استعمال (أَلَمْ تَرَ) في غير من سمع على تقدير سؤال، وذلك أن (أَلَمْ تَرَ) إذا خوطب به من نظر إلى حال أو سمع قصة تولد منه معنى التعجب كما في الوجه الأول، وأما إذا خوطب به من لم ينظر ولم يسمع افاد الحث على النظر والاستماع، فكيف يفيد معنى التعجب؟ والجواب: أنه مزال عن الأصل نظراً

روي: أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط -وقع فيهم الطاعون، فخرجوا هاربين فأماتهم اللَّه ثم أحياهم؛ ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم اللَّه وقضائه. وقيل: مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى، فأوحي إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن اللَّه. فنادى فنظر إليهم قياماً يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت، فأماتهم اللَّه ثمانية أيام ثم أحياهم. (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه دليل على الألوف الكثيرة، واختلف في ذلك؛ فقيل: عشرة، وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون. ومن بدع التفاسير: (أُلُوفٌ): متآلفون جمع آلف، كقاعد وقعود. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى الاستعمال السابق وجار مجرى المثل بعده، قال الزجاج: (أَلَمْ تَرَ) كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يتعجب منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف صنع كذا. قوله: (مر عليهم) أي: اجتاز، "الأساس": مررت به وعليه مراراً ومروراً وممراً. كذا في "الصحاح". قوله: (فنظر إليهم)، الفاء فيه فصيحة، أي: فنادى فحيوا وقاموا ونظر إليهم قياماً. قوله: (فقيل: عشرة، وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون) قال الإمام: للوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف، لأن الألوف جمع الكثير. قوله: (ومن بدع التفاسير) أي: ليس يثبت أن الألوف جمع آلف، قال القاضي عبد الجبار: الوجه الأول أولى؛ لأن ورود الموت عليهم وهم كثيرون يفيد مزيد اعتناء

فإن قلت: ما معنى قوله: (فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا)؟ قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر اللَّه ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل اللَّه (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)؛ حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد: ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل اللَّه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بشأنهم، وأجاب الإمام: أن كونهم مؤتلفين أيضاً كذلك، لأن كونهم مؤتلفين يقتضي الاهتمام أيضاً، بمعنى أنهم مع غاية المحبة والألف أماتهم الله تعالى. قوله: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً)) هذا مبني على أن ليس ثمة أمر ولا قول، بل هو تمثيل شبه حال تعلق إرادة [الله] تعالى بموتهم دفعة واحدة، وكما تعلقت إراداته حصل المراد بلا مهلة- بحالة أمر مطاع برد أمره على ما هو مطيع، فلم يتوقف عن الامتثال، ثم أخرجه مخرج الاستعارة فإذا تخلف رجل منهم لم يحصل الامتثال، وهو المراد من قوله: "ماتوا ميتة رجل واحد". قوله: (ما يقوله المتخلفون والسابقون) أي: من تنفير الغير عن الجهاد وترغيب الغير في الجهاد.

(عَلِيمٌ) بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء. [(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)]. إقراض اللَّه مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بما يضمرونه) أي: من البواعث والأغراض، وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا. قوله: (وهو من وراء الجزاء) مثل، يريد أنه تعالى لابد أن يجازي المتخلف والسابق كما أن سائق الشيء من ورائه لابد أن يوصله على ما يريده، والمعنى مستفاد من قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهو كما تقول لمن تهدده وتوعده: أنا أعلم بحالك، أي: لا أنساها وأجازيك عليها. قوله: (إقراض الله مثل)؛ لأن حقيقة الإقراض هو: إعطاء عين على وجه طلب البدل، قال الزجاج: القرض في اللغة: أصله ما يعطيه الرجل ليجازى عليه، والله عز وجل لا يستقرض عن عوز، ولكنه يبلو الأخيار، قال أمية بن أبي الصلت: كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً ... وسيئاً ومديناً كالذي دانا والقرض هنا: اسم لكل ما يلتمس عليه في الحقيقة الجزاء. وقال الراغب: إقراض الله عبارة عن: كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمى ذلك قرضاً تلطفاً لعباده، وإنما يطلبه منهم مع كونه في الحقيقة ملكاً له تعالى يأخذه ليرد عوضه إليهم خيراً منه. وقال أبو البقاء: القرض: اسم للمصدر، والمصدر على الحقيقة الإقراض، ويجوز أن يكون القرض ها هنا بمعنى المقروض فيكون مفعولاً به، و (حَسَناً) - على هذا-

والقرض الحسن: إما المجاهدة في نفسها، وإما النفقة في سبيل اللَّه. (أَضْعافاً كَثِيرَةً): قيل: الواحد بسبع مائة. وعن السدي: كثيرة لا يعلم كنهها إلا اللَّه. (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ): يوسع على عباده ويقتر فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: يقرض الله مالاً إقراضاً حسناً، ويجوز أن يكون صفة للمال، ويكون بمعنى الطيب أو الكثير، وقوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) تتميم للتحريض على الإنفاق، وإيذان بأن الإنفاق والإمساك لا ينقص من المال ولا يزيد، بل الله هو الموسع والمقتر، هذا على تأويل الإقراض بالإنفاق في سبيل الله كالتجريد للاستعارة، وعلى تأويل المجاهدة في نفسها وإما بمعنى المفعول كالترشيح لها. قوله: (والقرض الحسن إما: المجاهدة في نفسها) يعني: قد تقرر أن الإقراض ها هنا تمثيل لتقديم العمل المطلوب ثوابه، وأن المراد بالعمل: المجاهدة، لقرينة قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم قوله (قَرْضاً حَسَناً) إما بمعنى المصدر فيكون تأكيداً وهو المجاهدة نفسها، وإما بمعنى المفعول به مكا سبق، وهو: يقرض الله مالاً إقراضاً حسناً، فيكون كما قال، وإنما النفقة في سبيل الله، ويجمعهما قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]. قوله: (فلا تبخلوا عليه) حكم ترتب على الوصف المناسب، وهو القبض والبسط، يعني: إذا علمتم أن الله هو القابض والباسط، وأن ما عندكم من بسطه وإعطائه فلا تبخلوا لئلا يعاملكم بالقبض، قوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): تذييل للتحريض على الإنفاق والمنع من البخل، ولهذا قال: "فيجازيكم على ما قدمتم، بالفاء".

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)]. (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع، أو شمعون، أو اشمويل. (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً): أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره. طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره. وروي: أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم. (نُقاتِلْ) قرئ بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنهض للقتال معنا أميراً). قال القاضي: أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر عن رأيه. وفي "المغرب": البعث: الإثارة، يقال: بعث الناقة، أي: أثارها، وبعثه: أرسله. الراغب: البعث: إرسال المبعوث عن المكان الذي فيه لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المتعلق به، فقيل: بعثت البعير من مبركه، أي: ثورته، وبعثته في السير، أي: هيجته، وبعث الله الميت: أحياه، وضرب البعث على الجند: إذا أمروا بالارتحال. قوله: (والرفع على أنه: حال)، قال الزجاج: والرفع بعيد، ويجوز على معنى "فإنا نقاتل"، وكثير من النحويين لا يجيزونه، قال أبو البقاء: الجمهور على النون والجزم على جواب الأمر، والبواقي شواذ.

أي: ابعثه لنا مقدّرين القتال؛ أو استئناف، كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: (يقاتل) بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لـ (ملكاً) وخبر (عسيتم): (أَلَّا تُقاتِلُوا)، والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعني: هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى: أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل "هل" مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أنّ المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان: 1]، معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين، وهي ضعيفة. (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ): وأي: داعٍ لنا إلى ترك القتال؟ وأي: غرض لنا فيه (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا)؟ ! وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا)، يعني: أن نبي الله كان يظن ويتوقع أنهم لا يقاتلون بما شاهد منهم من أمارات التثاقل والتثبط، ثم لما قويت تلك الأمارات وعلم أن متوقعه كائن أدخل "هل" على سبيل التقرير، ولما كان "هل" في الأصل سؤالاً عن النسبة، فإذا وجدت النسبة أفادت التقرير والتثبيت قال: "إن المتوقع كائن، وإنه صائب في توقعه ... وقرئ بكسر السين، وهي ضعيفة"، قرأها نافع، قال في "الكواشي": يقال: عسي كعمي، واسم الفاعل: عس كعم، عن ابن الأعرابي. فإن قيل: أليس موضع قوله: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا) بعد قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً)؟ قلت: لا؛ لأن ورود قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) للتعجب من قبائح

فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين. (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ): قيل: كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، على عدد أهل بدر. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ): وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد. [(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) 247]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اليهود ولبيان نقص ما أعطوا من العهود بأن يجاهدوا أعداء الدين بعد ما كانوا هم الطالبين له على الإجمال، وقوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) إلى آخر الآيات، كالتفصيل لذلك المجمل بتكرير التعيير والتوبيخ، يدل عليه قوله تعالى في التفصيل: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا) للكثير الذين انخزلوا، و (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) هم القليل الذين ثبتوا معه. قوله: (فأسروا من أبناء ملوكهم)، قال محيي السنة: قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربع مئة غلام وضربوا عليهم الجزية. قوله: (على عدد أهل بدر)، روينا عن البخاري والترمذي، عن البراء قال: "كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاث مئة".

طالُوتَ: اسم أعجمي كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من الطول «فعلوت» منه، أصله طولوت، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق حنطا حنطة، و"بشما لاها رخمانا رخيما": بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فهو من الطول كما لو كان عربياً، وكان أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو من الطول) الفاء ناتجة من قوله: "إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربياً"، وفيه إشكال؛ لأنه يلزم منه أن يكون غير العربي مشتقاً أيضاً، فيقال: لا يبعد ذلك، ذكر ابن الأثير في "المثل السائر": أن يهودياً حضر عندي وكان معتقداً فيه بين اليهود لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات، قال: لغة العرب أشرفها مكاناً وأحسنها وضعاً، فقال اليهودي: وكيف لا، وقد جاءت متأخرة فنفت القبيح من اللغات وأخذت الحسن! ثم إن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة، واختصر ما اختصر وخفف ما خفف، فمن ذلك "الجمل"، فإنه في اللسان العبراني كويمل ممالاً على وزن فويعل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف الثقل المستبشع وقال: جمل، فصار خفيفاً حسناً، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره، وإليه أشار المصنف: "كما وافق حنطاً حنطة، وبشمالا رخمانا رخيما: بسم الله الرحمن الرحيم"، فكما أن الفرع وهو الرحمن الرحيم مشتق من الرحمة، فكذا الأصل.

(أَنَّى): كيف، ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم، واستبعاد له. فإن قلت: ما الفرق بين الواوين في: (وَنَحْنُ أَحَقُّ)، (وَلَمْ يُؤْتَ)؟ قلت: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً، قد انتظمتهما معاً في حكم واو الحال. والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك؛ لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به. وإنما قالوا ذلك؛ لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين؛ ولأنه كان رجلاً سقاءً أو دباغاً فقيراً. وروي: أنّ نبيهم دعا اللَّه تعالى حين طلبوا منه ملكاً فأتي بعصاً يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. (قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ): يريد أنّ اللَّه هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم، ولا اعتراض على حكم اللَّه، ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأولى: للحال، والثانية: لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً)، الانتصاف: هذا من السهل الممتنع. الإنصاف: لا أدري ما وعر هذا السهل. قلت: سهل ما وعره عدم السلوك وقلة توغله فيه، فالحال الأولى هي المقررة لجهة الإشكال، كقوله تعالى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة: 30]، والثانية لتتميم معناها والمبالغة فيها. قوله: (من أحد السبطين) قيل: كان من سبط بنيامين، وهو أدون الأسباط. قوله: (ثم ذكر مصلحتين) يريد أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) وقع جواباً عن قولهم: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) الآية، على طريقة الاستئناف والرد عليهم، وأن قوله: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) على آخره شروع في تفصيله على ما بنوا عليه كلامهم، قال القاضي: لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، رد عليهم ذلك أولاً بأن العمدة فيه

والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحي إليه ونبئ؛ وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به وأن يكون جسيماً يملأ العين جهارة؛ لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. والبسطة: السعة والامتداد. وروي: أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه. (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي: الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء من يستصلحه للملك. وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والعطاء، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر، (عَلِيمٌ) بمن يصطفيه للملك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اصطفاء الله، وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانياً بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم، وثالثاً: أنه مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء، ورابعاً: أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه، عليم بما يليق بالملك بالنسب وغيره. وقلت، والله أعلم: قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تكميل لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)، لأن المراد بالأول: إثبات المالكية والقدرة الكاملة على جميع الكائنات، وبالثاني: إثبات علمه الشامل على جميع المعلومات، وهما كالتذييل لما سبق، ومن ثمة عم الحكمين، ووضع المظهر، وهو لفظة "الله"، موضع المضمر، وكرره، فالمراد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) إثبات العلم الخاص، وهو العلم بمصالح العباد كما قال المصنف: "يريد أن الله تعالى هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم"، وبالزيادة في العلم والجسم: القدرة المخصوصة، والله أعلم بمراده من كلامه. قوله: (يملأ العين جهارة) قال في "الأساس": جهرني فلان: راعني بجماله وهيئته، وجهرت الجيش واجتهرتهم: كثروا في عيني.

[(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)]. (التَّابُوتُ): صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه، فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرّون. والسكينة: السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وعن علىّ رضى اللَّه عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة. (وَبَقِيَّةٌ) هي: رضاض الألواح، وعصا موسى، وثيابه، وشيء من التوراة، وكان رفعه اللَّه تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفاء اللَّه طالوت. وقيل: كان مع موسى ومع أنبياء بنى إسرائيل بعده يستفتحون به، فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت، فلما أراد اللَّه أن يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن، فقالوا: هذا بسبب التابوت بين أظهرنا، فوضعوه على ثورين، فساقهما الملائكة إلى طالوت. وقيل كان من خشب الشمشار مموّها بالذهب. نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبىّ وزيد بن ثابت: (التابوه) بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت: ما وزن التابوت؟ قلت: لا يخلو من أن يكون فعلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتئن فيزف التابوت)، الجوهري: الزفيف: السير السريع مثل الذفيف، يقال: زف الظليم والبعير يزف، بالكسر، أي: يسمع منها أنين فيسرع التابوت. قوله: (ريح هفافة). والريح الهفافة: الساكنة الطيبة، والرض: دق الجريش، وقد رضضت الشيء فهو رضيض ومرضوض.

لقلةٍ، نحو: سلس وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، فهو إذاً «فعلوت» من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده، إلا فيمن جعل هاءه بدلاً من التاء، لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث. وقرأ أبو السمال: (سكينة) بفتح السين والتشديد وهو غريب. وقرئ: (يحمله) بالياء. فإن قلت: مَن (آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)؟ قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما؛ لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوي بن يعقوب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لقلة نحو: سلس) أي: قل في كلام العرب لفظ فاؤه ولامه من جنس واحد، فلا يجوز القياس على هذا، وغذا لم يجز فلا يقال: تابوت من تبت، وأما من قرأ بالهاء فهو فاعول؛ لأن فعلوة غير موجود، قال الجوهري: التابوت: أصله تابوة كترقوة، وهو فعلوة، فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء. روى صاحب "جامع الأصول"، عن رزين، عن علي قال: أرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص رضي الله عنهم فقال: ليكتب أحدكم آي القرآن وليمل الآخر، فإذا اختلفتم فارفعاه إلي، فاختلفا في هذا الحرف، قال سعيد: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفعاه إلى عثمان، قال: اكتبوه التابوت. قال علي: لو وليت الذي ولي عثمان لصنعت مثل الذي صنع. قوله: (وهو ابن قاهث) صوابه: عمران بن يصهر بن قاهث، يدل عليه ما سنذكره في آل عمران.

فكان أولاد يعقوب آلهما. ويجوز أن يراد: مما تركه موسى وهرون. والآل مقحم لتفخيم شأنهما. [(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)]. (فَصَلَ) عن موضع كذا، إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون فصله فصلاً وفصل فصولاً كوقف وصدّ ونحوهما والمعنى: انفصل عن بلده (بِالْجُنُودِ) روى أنه قال لقومه: لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مقحم)، قال المصنف: إقحام الآل للتفخيم، كقول الواحد المطاع: أمرنا ونهينا، قلت: مثله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120]. قوله: (وقيل: فصل عن البلد فصولاً) معطوف على قوله: "صار" أي: حتى صار في حكم اللازم واستعمل استعماله فجيء بمصدره على طريقة مصدر اللازم وقيل: فصل فصولاً. قوله: (ويجوز أن يكون) معطوفاً على جملة قوله: "وأصله: فصل نفسه" أي: أصله التعدي ثم جعل لازماً، ويجوز أن يكون في أصله لازماً ومتعدياً كوقف، يقال: وقفت الدابة وقوفاً ووقفتها أنا؛ يتعدى ولا يتعدى، وصد عنه يصد صدوداً: أعرض، وصده عن الأمر صداً: منعه. قوله: (لم يبن عليها)، قال المصنف: يجوز: بنى بها، وعليها أفصح؛ لأنه كان من عادتهم أن الواحد منهم إذا زفت إليه امرأته بنى قبة عليها.

ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجرى اللَّه لهم نهراً، فـ (قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ) بما اقترحتموه من النهر، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ): فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه (فَلَيْسَ مِنِّي): فليس بمتصل بي ومتحد معي؛ من قولهم: فلان مني كأنه بعضه؛ لاختلاطهما واتحادهما، ويجوز أن يراد: فليس من جملتي وأشياعى. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ): ومن لم يذقه؛ من طعم الشيء، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء؛ لمذاقه. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيظاً) بالظاء المعجمة، الجوهري: قاظ يومنا أي: اشتد حره. قوله: (فليس بمتصل بي) يريد أن من في (مِنّيِ) للاتصال، كقوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، وقول النابغة: إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني ويجوز أن تكون "من" للتبعيض، والمعنى: فليس من جملتي. قوله: (من طعم الشيء: إذا ذاقه)، الراغب: الطعم: تناول الغذاء، ويسمى ما يتناول منه طعماً وطعاماً، وقيل: قد يستعمل "طعمت" في الشراب، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)، وقال بعضهم: إمنا قال: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) تنبيهاً أنه محظور عليه أن يتناوله إلا غرفة مع طعام، كما أنه محظور أن يشربه إلا غرفة، فإن الماء قد يطعم إذا كان مع شيء يمضغ، ولو قال: ومن لم يشربه لكان يقتضي أن يجوز تناوله أكثر من غرفة إذا كان في طعام، فلما قال: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) بين أنه لا يجوز تناوله على كل حال، غلا على قدر المستثنى، وهو الغرفة.

وَإنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نَقَاخًا وَلَا بَرْدَا ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم! ويقال: ما ذقت غماضاً ونحوه من الابتلاء ما ابتلي اللَّه به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعاً، بل هو أشد منه وأصعب، وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي، وإن كان نبياً - كما يروى عن بعضهم - فبالوحي. وقرئ: (بنهر) بالسكون. فإن قلت: ممَّ استثنى قوله: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ)؟ قلت: من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي)، والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم (وَالصَّابِئُونَ) في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة: 69]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن شئت لم أطعم)، صدره: وإن شئت حرمت النساء سواكم النقاخ: الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده، أي: يكسر العطش، ولو لم يكن الطعم في البيت بمعنى الذوق لما جاز العطف، لصيرورة المعنى: لم آكل النوم، وأما إن كان بمعنى الذوق فجاز لما ذكر من أنه يقال: "ما ذقت غماضاً"، قال في مخاطبة: النساء سواكم، إرادة لتعظيمهن كما يجاء بالجمع لواحد المذكر. قوله: (بل هو أشد منه وأصعب) أي: الابتلاء بالنهر أشد من ابتلاء أهل أيلة لما حصل لهم من مشقة السفر مع بعد المفازة والوقت قيظ، بخلاف أهل أيلة لقلة احتياجهم إلى الحيتان مع أنهم حاضرون ولهم أطعمة سواها. قوله: (والجملة الثانية في حكم المتأخرة)، إذ التقدير: "فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده ومن لم يطعمه فهو مني"، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) إلى قوله: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [المائدة: 69]، والتقدير: إن الذين آمنوا

ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله: (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي: فكرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذين هادوا والنصارى فلا خوف عليهم، والصابئون كذلك، قدم و"الصابئون" للعناية تنبيهاً به على أن الصابئين يتاب عليهم أيضاً وإن كان كفرهم أغلظ، هكذا ها هنا، المطلوب: أن لا يذاق من الماء رأساً، والاغتراف بالغرفة رخصة، فقدم (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) للعناية؛ لأنه عزيمة، وهو المطلوب أولياً. قوله: (دون الكروع)، النهاية: كرع في الماء يكرع: إذا تناوله بفيه من غير أن يشرب بكف ولا بإناء كما تشرب البهائم؛ لأنها تدخل فيه أكارعها، والمصنف إنما عدل من الشرب إلى الكروع ليؤذن أنهم بالغوا في مخالفة المأمور، يعني: لم يغترفوا بل كرعوا، أي: أفرطوا في الشرب كالبهائم. الراغب: في القصة إيماء ومثال للدنيا وأبنائها وأن من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا، ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً، وعليه قيل: الدنيا كالماء المالح: من ازداد منها شرباً ازداد عطشاً، وإلى هذا أشير في الخبر المروي أن الله عز وجل إذا سأله عبد شيئاً من عروض الدنيا أعطاه وقال له: خذه حرصاً، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى غليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب". قوله: (والدليل عليه) أي: على الاستثناء من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) لا من قوله: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)؛ لأنه لو كان منه لقيل: فطعموه، وفيه أن من ذهب إليه تعسف، قال أبو البقاء: (إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) استثناء من الجنس وموضعه نصب، وأنت بالخيار؛ إن شئت جعلته استثناء من "مِن" الأولى، وإن شئت من "مِن" الثانية.

وقرئ: (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف. وقرأ أبيّ والأعمش: (إلا قليل) بالرفع؛ وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى: فلم يطيعوه؛ حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق: لمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني: القليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "غرفة" بالفتح) الكوفيون وابن عامر: بضم الغين، والباقون: بفتحها، قال الزجاج: معنى الفتح: المرة الواحدة باليد، والفتح مقدار ملء اليد، قال صاحب "الكشف": كان أبو عمرو يطلب شاهداً على قراءته غرفة بالفتح، فلما هرب من الحجاج إلى اليمن وخرج ذات يوم، فإذا هو براكب ينشد لأمية بن أبي الصلت: ربما تكره النفوس من الأمر ... ما له فرجة كحل العقال قال فقلت له: ما الخبر؟ قال: مات الحجاج، قال أبو عمرو: فلا أدري بأي الأمرين كان فرحي، أبموت الحجاج أم بقوله: له فرجة. قوله: (وقرأ أبي والأعمش: "إلا قليل")، قال الزجاج: لا أعرف هذه القراءة ولا لها عندي وجه؛ لأن المصحف على النصب، والنحو يوجبها؛ لأن الاستثناء من الكلام الموجب ليس فيه إلا النصب، كأن قول المصنف: "وهذا من ميلهم" جواب عن هذا. قوله: (لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف) صدره:

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يعني: الخلص منهم، الذين نصبوا بين أعينهم لقاء اللَّه وأيقنوه، أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون اللَّه. والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة. وقيل: الضمير في (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اليوم) للكثير ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعض زمان يا ابن مروان لم يدع أوله: إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... شعوب النوى والهوجل المتعسف الهوجل: المفازة، والمتعسف: الذ يميل عن الطريق المستقيم، والمسحت: المذهب والمستأصل، يقال: مسحوت، والمجلف: الذي أخذ من جوانبه فذهب بعضه وبقي منه شيء، وروى المصنف البيت في سورة طه: "إلا مسحتاً أو مجلف"، وقال: بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه، فمن روى: إلا مسحت أو مجلف كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف، ومن روى: إلا مسحتا أو مجلف، فإنه يرفع "مجلف" بالعطف على المعنى؛ لأن المعنى: لا يدع إلا مسحتاً وبقي مجلف، فكأنه قال: وبقي مجلف. قوله: ((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ)) يعني: افترق هؤلاء القليلون فرقتين: فرقة قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ)، وفرقة ردوا عليهم وقالوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً)، ومن ثم وجب أن يفسر (يَظُنُّونَ) بيوقنون لتحصل التفرقة بين الفريقين؛ لأن هؤلاء أعلى رتبة من أولئك المؤمنين، وإليه الإشارة بقوله: "والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين". قوله: (وقيل: الضمير في (قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا) للكثير)، هذا معطوف من حيث المعنى على قوله: " (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني: القليل"، كأنه قال: الضمير في "قالوا" للذين آمنوا وهم الأقلون، وقيل: الضمير للذين انخزلوا وهم الأكثرون، ولعل هذا الوجه أقرب؛ لأنه

الذين انخذلوا، و (الذين يظنون) هم القليل الذين ثبتوا معه، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما، يظهر أولئك عذرهم في الانخزال ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف يقال فيهم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ويوضع المظهر موضع المضمر القليل المشعر بالتعظيم؟ والحال أنهم يقولون: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فإن قلت: فسر (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) على أن القائلين هم القليلون بوجهين، فما تفسيره على أنهم الكثيرون؟ قلت: تركه اعتماداً على السابق، والأنسب أن يفسر (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) على إرادة الكثيرين بقوله: "المخلصين الذين تيقنوا لقاء الله" ليكون تعريضاً بأولئك المنخزلين وأنهم غير مخلصين ومندرجون تحت قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ... ) [يونس: 7] ويعضد التعريض تكرير وضع الظاهر واختلافه، وعلى إرادة القليلين أن يؤول بقوله: "الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله"، فإنهم لما سمعوا ذلك من إخوانهم المؤمنين وشاهدوا استكانتهم وجبنهم تشجعوا وقالوا: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ)، ونظيره قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) [آل عمران: 122] قال: الطائفتان حيان من الأنصار، وانخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس، فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وإن الوجه القوي هو القول بالتعريض كما سبق، وأما اختصاص الوصفين- أعني الإيمان والإيقان- بلقاء الله في هذا التعريض والقوم يهود فكاختصاصهما في "ما" قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة: 4] من التعريض. قوله: (وأيقنوه)، قال الزجاج: "ظننت" جاء بمعنى: أيقنت، قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سوادهم في الفارسي المسرد

وروي: أنّ الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش. [(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)]. وجالُوتَ: جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عادٍ، وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمدجج: تام السلاح، وأراد بالفارسي المسرد: الدروع، الراغب: ظن ها هنا هو المفسر باليقين عند أهل اللغة، وهو المعرفة الحاصلة عن أمارة قوية، يدل على ذلك استعمال أن المشددة، لأن الظن إذا أريد به العلم استعمل معه أن: المشددة أو المخففة، منها: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) [المزمل: 20]، وإذا أريد الشك استعمل "أن" الناصبة للفعل. قوله: (أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته)، هذا مثال قاصدي الآخرة الذين اقتنعوا بالبلغة وجعلوا الدنيا زاداً للآخرة، والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش. هذا مثال عابدي الدنيا وطالبيها لم يقتنعوا بالقليل ولم يشبعوا بالكثير، فأفضى بهم الحرص إلى السعير. قوله: (بيضته فيها ثلاث مئة رطل) من باب التجريد، أي: هي في نفسها هذا المبلغ، كقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، جرد منه صلوات الله عليه شيء يسمى قدوة، وهو في نفسه هي.

(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا): وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو، ونحو ذلك من الأسباب. كان إيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم، وهو صغير يرعى الغنم، فأوحي إلى أشمويل: أنّ داود بن إيشى هو الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجارٍ دعاه كل واحدٍ منها أن يحمله، وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مِخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وزوّجه طالوت بنته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا): وهب لنا ما نثبت فيه في مداحض الحرب من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك) وفي قوله: "في مداحض الحرب" إشارة إلى أن قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) ترشيح لاستعارة "أفرغ" لـ "هب"؛ لأن المقام الدحض ملائم لإفراغ الماء. الراغب: الفرغ: خلو المكان مما كان فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء منه، فقوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) كلام جامع يشتمل في ذلك المقام على جميع ما يحصل به الظفر على العدو، وقال القاضي: في هذا الدعاء ترتيب بليغ، إذ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب منه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالباً. وقلت: فعلى هذا الواجب أن يؤتى بالفاء دون الواو؟ والواجب ما قال صاحب "المفتاح": الواو أبلغ؛ لأن تعويل الترتيب حينئذ إلى ذهن السامع دون اللفظ، وكم بين الشهادتين، ويمكن أن تجرى الواو على ظاهرها، فإنهم طلبوا أولاً إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء، ثم

وروي: أنه حسده وأراد قتله ثم تاب. (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود، (وَالْحِكْمَةَ): النبوّة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) من صنعة الدروع وكلام الطير والدواب وغير ذلك، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ): ولولا أن اللَّه يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طلبوا ثانياً ثبات القدم، أي: تحمل المكاوحة والمقاومة مع العدو؛ لأن الصبر على القتل قد يحصل لغير المحارب، ثم طلبوا العمدة والمقصود من المحاربة، وهي النصرة والدبرة على الخصم؛ لأن الشجاعة دون نصرة الله لا تنفع، والفاء في (فَهَزَمُوهُمْ) فاء فصيحة، أي: استجاب الله دعاءهم وفهم مناهم فصبروا وثبتوا ونصرهم الله فهزموهم. قوله: (ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون). الراغب: فيه تنبيه على فضيلة الملك وانه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وعلى ذلك قوله: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ) [الحج: 40]. إن قيل: على أي وجه دفع الله الناس ببعضهم؟ قيل: على وجهين، أحدهما: دفع ظاهر، والثاني: خفي، فالظاهر: ما كان بالسواس الأربعة: الأنبياء، والملوك، والحكماء المعنيون بقوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة: 269] والوعاظ، فسلطان الأنبياء على الكافة خاصهم وعامهم ظاهرهم وباطنهم، وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون الباطن، كما قيل: نحن ملوك أبدانهم لا ملوك أديانهم، وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة، وسلطان الوعاظ على بواطن العامة، وأما الدفع الخفي فبسلطان العقل، فالعقل يدفع عن كثير من القبائح، وهو السبب في التزام حكم سلطان الظاهر.

وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن اللَّه ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض. [(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)]. (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) يعني: القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم، وتمليك طالوت، وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلبة الجبابرة على يد صبي. (بِالْحَقِّ) باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك. (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولولا أن الله ينصر المسلمين)، هذا على أن التعريف في الناس: للعهد، وهم المؤمنون والكفار، وعلى الأول كان للجنس. قوله: ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ) يعني: القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت)، إلى قوله: " (وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف"، خص الآيات بحديث الألوف وقصة طالوت، وأما أبو إسحاق الزجاج فقد ذهب إلى أعم من ذلك، حيث قال: (وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) أي: أنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم؛ لأنك قد أعطيت من الآيات مثل الذي أعطوا وزدت على ما أعطوا، وقال: نحن نبين ذلك في الآية التي تتلوها إن شاء الله، أراد في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وبين فيها بقوله: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) أنه صلوات الله عليه أفضلهم بكثرة المعجزات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: النظم يقتضي أعم من ذلك، وأن يجعل التعريف في المرسلين وفي الرسل: للجنس، وأن يراد بالآيات جميع الآيات المذكورة من لدن مفتتح السورة، وتقريره: أنه سبحانه وتعالى لما بين بقوله: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا) [البقرة: 23 - 24] الآية، أنه صلوات الله عليه نبي صادق ومعجزته هذا القرآن الذي بذ بفصاحته فصاحة كل ناطق، وشق ببلاغته غبار كل سابق، وما اكتفى بذلك، بل أتى بكل ما يتعلق بأمور الدين من التوحيد والأخلاق والديانات وأحوال الآخرة وقصص الأنبياء السالفة والأمم الدارجة وشيء صالح من الأحكام التي يناط بها أكثر أمور الأمة، وأطنب فيها كل الإطناب، ليؤذن به أن الكتاب كما أنه معجزة في نفسه، مشتمل على حكم وعلوم وأحكام يتوقف عليها أمر الرسالة، ولما أراد أن يرجع إلى ما بدأ به من إثبات نبوته ورسالته قال: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ليكون كالفذلكة لسائر ما ذكر، وكالتخلص إلى حديثه صلوات الله عليه، وأنه صلوات الله عليه نبي مرسل، وأنه أفضل الرسل على سبيل الترقي، كأنه قيل: تلك المذكورات كلها آيات الله ملتبسة بالحق الهادي إلى صراط مستقيم ليقرر بها أمر نبوتك الذي ثبت بالمعجزة القاهرة، وليعلم بها إنك لمن المرسلين الجامعين بين المعجزة والوحي وإنك من أفضلهم وواسطتهم؛ لأنك أعطيت ما أعطوا، وزدت على ما أعطوا، وهو هذا الكتاب الكريم. فعلى هذا، التعريف في الرسل كما في المرسلين، وهو للجنس، والمشار إليه بقوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ) هو الرسل على منوال قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78] في أحد وجهيه، قال المصنف: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده، وأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك، وهو المراد من قوله في الوجه الثاني: "أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو المشار إليه ما يعلم من المرسلين وإن كانوا غائبين تفخيماً وتعظيماً لهم، و (الرُّسُلَ): صفة، و (فَضَّلْنَا): الخبر، وأما بيان كونه صلوات الله عليه أفضل المرسلين فهو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه تعالى لما أدخله في زمرة المرسلين أجمعهم؛ لأنه جمع محلى باللام مفيد للشمول، اتجه لسائل أن يسأل: أن تلك الرسل هل تتفاوت حالهم في علو الرفعة ومراتب الرسالة أم هم سواء؟ فقيل: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم أخذ يشرع في بيان التفضيل في التفصيل: منهم من كلم الله، ومنهم من رفع درجات، ومنهم من أوتي من المعجزات، ومنهم من حاله كَيْتَ وكَيْت، وإنما فرق أحد من الأقسام بقوله: "بعضهم وبالدرجات"، ليشير إلى أن هذا القسم مباين للأقسام، ومغايرته بحسب ما خص به؛ لأن رفع الدرجات ليس من قبيل ما أوتوا ولا هو داخل في حكم ما أعطوا، ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة". وروى محيي السنة في هذه الآية: وما أوتي نبي آية إلا أوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع بمفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم والشهادة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء والأرض عن الإتيان بمثله، وكذا عن الزجاج، وضم القاضي إليه المعجزات المتعاقبة بتعاقب الدهر والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. ونظيره في أسلوب التقسيم بيت الحماسة: ومن الرجال أسنة مذروبة ... ومزندون شهودهم كالغائب منهم ليوث ما ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب قال المرزوقي: يقول: من الرجال رجال يمضون في الأمور نفاذ الأسنة، ومنهم مزندون،

[(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)]. (تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات. (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ): منهم من فضله اللَّه بأن كلمه من غير سفير، وهو موسى عليه السلام. وقرئ: (كلم اللَّه) بالنصب، وقرأ اليماني: (كالم اللَّه) من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم اللَّه بمعنى مكالمه. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمداً صلى اللَّه عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آيةٍ أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منفياً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمزند: المبخل المقلل، وكان من حق التقسيم أن يقول: ومنهم مزندون، لكنه اكتفى بـ "من" الأول، ومثله. قوله تعالى: (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود: 100]، وسمعت أبا علي الفارسي يقول: كل صفتين تتنافيان وتتدافعان فلا يصح اجتماعهما لموصوف، لابد من إضمار "من" معهما إذا فصل جملة بهما متى لم يجيء ظاهراً، وقال المرزوقي: ومن الرجال رجال كالأسود عزة وأنفة لا يطلب اقتسارهم، ومنهم متقاربون كالقماش واللفائف جمعوا على ما اتفق من شيء إلى شيء، كأنه لم يقنعه ذلك التشبيه وتلك القسمة فاستأنفها على وجه آخر، يعني: بين الصنفين تفاوت عظيم وتباين شديد، وذكر البعض بدلاً عن قوله: "ومنهم"؛ لأن من

وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم، أو: بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس. فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال. ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم من الرسل صلوات الله عليهم. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء، فذكرنا نوحاً بطول عبادته، وإبراهيم بخُلته، وموسى بتكليم اللَّه إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء. فدخل عليه السلام فقال: "فيم أنتم؟ " فذكرنا له، فقال: "لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا"، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للتبعيض فاستغنى به، و"ضم حبل الحاطب" معناه: أن الحاطب يجمع في حبله الجيد والرديء واليابس والرطب على تدان بينهما. قوله: (ولو شئت لذكرت الثالث)، مثله ما روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن علي رضي الله عنه، قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، ولو شئت لحدثتكم بالثالث. والأسلوب من باب التعريض على سبيل التفخيم. قوله: "وعن ابن عباس: كنا في المسجد نتذاكر .. "، الحديث رواه الترمذي والدارمي أبسط وأبلغ مما ذكره المصنف، لكن ليس فيه ذكر يحيى.

فإن قلت: فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة، ولقد بين اللَّه وجه التفضيل؛ حيث جعل التكليم من الفضل، وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خُصا بالذكر في باب التفضيل، وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلى اللَّه عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها؛ كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع. اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) مشيئة إلجاء وقسر، (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ) من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضاً، (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) لالتزامه دين الأنبياء، (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) لإعراضه عنه، (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرّره للتأكيد، (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من الخذلان والعصمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما أوتيا من الآيات العظيمة)، قال صاحب "الفرائد": الأولى فيما أرى والله أعلم، أن يقالك خصا بالذكر لأن الكلام فيما مر مع أهل الكتاب، واليهود ينكرون عيسى، والنصارى ينكرون موسى، وقال الإمام: إنما خصا بالذكر لأن أمتهما موجودون وأمم سائر الأنبياء ليسوا كذلك، وقال القاضي: خص عيسى بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، والوجه ما ذكره المصنف، أن ذكرهما لبيان وجه التفضيل، يعني: أن فضل رسول على رسول مثله إنما يظهر بسبب اختصاصه بما أوتي من الفضل والكرامة ورفعة الدرجة، وبحسب هدايته وإرشاده وكثرة متبعيه، ولاشك في أن أولئك الثلاث هم المخصوصون من بين سائر الأنبياء بذلك، وأن لنبينا قصبات السبق عليهم، ومن ثم اكتفى بهم عنهم، وبهذا يتبين المقصود، وهو فضل نبينا على سائر الأنبياء. وعلى ما ذكروه يفوت المراد ويخرم النظم. قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرره للتأكيد). أصل الكلام: نحن فضلنا بعض النبيين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على بعض وآتينا كلاً منهم ما يدعو به أمته إلى دين الحق، فلما درجوا تشعبت مذاهب أمتهم محقين ومبطلين، فاقتتلوا، ولو شاء الله اتفاقهم ما اختلفوا وما اقتتلوا ولكن شاء الله ذلك، اختلفوا واقتتلوا، فكرر، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)؛ لئلا يظن ظان أن المشيئة ليست على إطلاقها وأنها مقيدة بقيد القسر والإلجاء، روى الإمام عن الواحدي: إنما كرر تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى، ويؤيده قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118 - 119]، ألا ترى كيف عقب الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)؟ قال الإمام: الآية دالة على مسألة خلق الأعمال وأن الكائنات كلها بقضاء الله وقدره فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وقال القاضي: (يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ): يوفق من يشاء فضلاً ويخذل من يشاء عدلاً، وفي الآية دليل على أن الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، لكن بقاطع، وأن الحوادث بيد الله تابعة لمشيئته خيراً كان أو شراً. الراغب: إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟ قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة مختلفتين، وذلك أن المشيئة من شيء، والشيء: اسم للموجود، وأما الإرادة فمصدر أراد، أي: طلب، وأصله أن يتعدى إلى مفعولين، لكن اقتصر على أحدهما في التصرف، وفي الأصل لا يقال إلا لأن يطلب ممن يصح منه الطلب، فإن ترك منه هذا الاعتبار في التعارف صار لطلب الشيء والحكم بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، وإذا استعمل في الله فهو

(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أراد الإنفاق الواجب؛ لاتصال الوعيد به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ) لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بَيْعٌ فِيهِ حتى تبتاعوا ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للحكم دون الطلب، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك، وقلت: ظاهر الآية مع المتكلمين، لأن المعنى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله شاء ذلك فاقتتلوا، والله يفعل ما يشاء، فوضع موضعه ما يريد مراعاة للفواصل. قوله: (لاتصال الوعيد به) هو قوله: (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) [البقرة: 254] الآية، لأن الواجب هو: الذي يستحق تاركه العقاب، قال الإمام: اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال والمال في الإنفاق، فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه الأمر بالإنفاق، وأنه تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ثم أعقبه بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ)، والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثم أكده ثانياً وذكر فيه قصة طالوت، أعقبه مرة أخرى. وقلت: قد دل على أن الآيات واردة في الجهاد وفي الإنفاق سابقها ولاحقها، أما السابق فقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، وأما اللاحق فقوله: (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) لما فيه لمحة من معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]، وكذا قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنتم أيها المؤمنون من الذين يقاتلون من خالف الأنبياء وبدلوا بعدهم الشرك بالتوحيد والباطل بالحق، فجاهدوا المخالفين بأموالكم وأنفسكم ولا تخافوا ضياع سعيكم، فإن الذي تعاملونه حي قيوم لا يعتريه سهو ولا غفلة، يعلم ما تفعلون، قادر مالك كامل القدرة شامل العلم، فيجازيكم به ويزيدكم من فضله، ثم إذا جاهدتم الكفار حق جهاده بعد ما دعوتموهم إلى الدين الحق باللين والرفق وبذلتم وسعكم وجهدكم وفعلتم ما وجب عليكم، لا عليكم ألا يؤمنوا؛ لأنه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

ما تنفقونه، وَلا خُلَّةٌ حتى يسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير) يريد أنه لا يتصور في حق هؤلاء الشفاعة؛ لأن الشفاعة في زيادة الفضل، وهم أهل النقصان يعوزهم ما به يسدون خللهم، فإذن لا شفيع لهم، قال الإمام: هذا باطل، وإلا لكنا شافعين للرسول صلى الله عليه وسلم إذا طلبنا من الله أن يزيد من فضله، والذي يدل على أن الشفاعة لأهل الكبائر: ما روينا عن الترمذي وأبي داود، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وعن الترمذي، عن جابر: "من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة"، والأحاديث فيها كثيرة، وأما نفي الشفاعة في الآية فهو من الكفار. قال الراغب: حث الله تعالى المؤمنين على الإنفاق مما رزقهم من النعماء: النفسية والبدنية، والخارجية، وإن كان الظاهر في التعارف إنفاق المال، ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى، وسائر العبادات، ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء، والآخرة دار ثواب وجزاء، بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينفعه به في الآخرة ابتداء، وذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المقصود إليها، أحدها: المعاوضة، وأعظمها المبايعة، والثاني: ما يناله بالمودة وهو المسمى بالصلات والهدايا، والثالث: ما يصل إليه بمعاونة الغير، وذلك هو الشفاعة، وعلى هذا قال: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا

فقال: (وَالْكافِرُونَ) للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج: (ومَنْ كَفَرَ) [آل عمران: 97] مكان ومن لم يحج؛ ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت: 6]. وقرئ: (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) بالرفع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 123]، ولما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثاً: عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله تعالى، فكذلك للظلم مراتب ثلاثة، وأعظم العدالة ما بين الإنسان وبين الله تعالى، وهو: الإيمان، وأعظم الكفر ما يقابله، ولذلك قال: (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، أي: هم المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم بلا مثنوية، ولما نفى أن يكون للكفار شيء مما ذكره في الآخرة، بين أن ذلك ليس لظلم منه لهم، لكن هم الظالمون، ليس مجازاً كما قيل بل كناية أنهم الذين خسروا أنفسهم. قوله: (ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار): عطف على قوله: "للتغليظ"، فعلى هذا (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ) ليس مجازاً كما قيل، بل كناية وتعريض بالمؤمنين وبعث لهم على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها، أي: الكافرون هم المتصفون بترك الزكاة، فاجتنبوا أيها المؤمنون من أن تتصفوا به، وعليه قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 7 - 8]، والمشرك لا يوصف بمنع الزكاة، لكن حث المؤمنين على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين، وعلى التغليظ ورد قوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، أي: التاركون الزكاة هم الظالمون، فهو مجاز باعتبار ما يؤول؛ سمى المؤمنين عند مشارفتهم لاكتساء لباس الكفر الذي هو منع الزكاة: كفاراً للتغليظ، وعليه قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، أي: ومن لم يحج، وليس أن من ترك الحج من غير جحد صار كافراً لكن سمي كافراً للتغليظ. قوله: (وقرئ: (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)) ابن كثير وأبو عمرو: بالفتح، على الأصل، والباقون: بالرفع والتنوين.

[(اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)]. (الْحَيُّ): الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء، وهو على اصطلاح المتكلمين: الذي يصح أن يعلم ويقدر. و (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وقرئ: (القيام) و (القيم). والسنة: ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذي يصح أن يعلم ويقدر). قال الإمام: قال المتكلمون: الحي ذات يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا؟ قال المحققون: إنها صفة موجودة، ووصف الله تعالى بها يفيد أنه كامل على الإطلاق غير قابل للعدم لا في ذاته ولا في صفاته النسبية والإضافية. قوله: (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق)، الراغب: يقال: قام كذا، أي: دام، وقام بكذا، أي: حفظه، والقيوم: القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50]، وفي قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33]. قوله: (والسنة: ما يتقدم النور من الفتور)، قال القاضي: النوم: حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصراً في

قال ابن الرقاع العاملي: وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِى عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده. وقلت: المذكور أبلغ من عكسه، وهو من باب فحوى الخطاب والتتميم، وذلك أن قوله تعالى: (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ) يفيد انتفاء السنة، واندرج تحته انتفاء النوم بالطريق الأولى على باب قوله: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23] ثم جيء بقوله: (وَلا نَوْمٌ) تأكيداً للنوم المنفي ضمناً، ولو عكس لكان من باب الترقي على معنى: لا تأخذه سنة فكيف بالنوم؟ كما قال المصنف في قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء: 172]، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح. وقد نبهت في "الرحمن الرحيم" على أن التتميم أبلغ من الترقي، فأحسن تدبره فإنه لطيف جداً، ومنه قوله تعالى: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) [الكهف: 49]، قال صاحب "المثل السائر": إن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة، وعلى القياس: ينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة؛ لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأولى أن لا يغادر كبيرة، وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة؛ لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة اقتضى القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة، وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة، وكذلك ورد قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23]. قوله: (وسنان أقصده النعاس) البيت، الوسن: اختلاط النوم بالعين قبل استحكامه، ورجل وسنان وامرأة وسنانة، والسنة: ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم: ريح تقوم من أغشية

أي: لا يأخذه نعاس ولا نوم. وهو تأكيد لـ (القيوم)؛ لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً، ومنه حديث موسى: أنه سأل الملائكة- وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية-: أينام ربنا؟ فأوحى اللَّه إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام، ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين. فأخذهما، وألقى اللَّه عليه النعاس، فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء: إني أمسك السموات والأرض بقدرتي، فلو أخذنى نومٌ أو نعاس لزالتا. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ: 38]. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ): ما كان قبلهم وما يكون بعدهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدماغ فإذا وصلت إلى العين نامت وهي السنة، وإذا وصلت إلى القلب نام وهو النوم، قبله: وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم جاسم: قرية بالشام، أقصده، من أقصدت الرجل: إذا أصبته بالسهم فلم يخط مقاتله، ورنق الطائر: رفرف حول الشيء، أي: دار حوله ليقع عليه، وقيل: رنق الطائر: إذا خفق بجناحيه في الهواء وثبت ولم يطر. قوله: (وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية) جملة معترضة صيانة للمكروه؛ لأن نسبة ذلك إلى موسى عليه السلام يؤدي إلى أنه ما كان عالماً بأن الله تعالى منزه عن النوم، أو شاكاً فيه، ثم قوله: (كطلب الرؤية) كالتذييل للاعتراض لتعصب مذهبه. قوله: (بيان لملكوته وكبريائه). قال القاضي: هو بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا أحد يساويه ويدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلاً أن يعاوقه عناداً ومناصبة.

والضمير لما في السموات والأرض؛ لأنّ فيهم العقلاء، أو لما دل عليه (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والضمير لما في السماوات والأرض، أو: لما دل عليه (مَن ذَا) من الملائكة والأنبياء) يعني: في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، فإن كان الأول فالمعنى هو: أنه لما قيل: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) بمعنى: أنه مالك ما في السماوات وما في الأرض وكل منقاد مقهور تحت ملكوته وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، جيء بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) مقرراً لبيان كبريائه وقهره وأن أحداً لا يتمالك أن يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف يسعه أن يتصرف في ملكوته؟ وبقوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) كشفاً للتصرف التام والحكمة البالغة، وإن كان الضمير لما دل عليه (مَن ذَا) فهو: استئناف لبيان سبب نفي الشفاعة عن الغير، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المرفوع في (يَشْفَعُ) أو من المجرور في (بِإِذْنِهِ) أو من المتحول إليه، فيكون حالاً متداخلة؛ لأن قوله: (إِلاَّ بِإِذْنِهِ) في موضع الحال، قال أبو البقاء: والتقدير: لا أحد يشفع عنده إلا مأذوناً له، أو: في حال الإذن، والحال رافعة لجهة الإشكال، أي: كيف يتمكن أحد من الشفاعة بغير الإذن والحال أنه تعالى عالم بجميع ما صدر من المشفوع له مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما أسر به وما أعلن، ولا يحيط الشافع من معلومه ذلك إلا بما أحاطه الله به من ظاهر الحال، وربما يتقدم الشافع في الشفاعة نظراً إلى الظاهر ويشفع وهو ذاهل عن باطنها وأن المشفوع له لا يستحق الشفاعة، فيتحرج منه. فإنق يل: كيف أثبت إحاطة العلم للمخلوق في قوله: (بِمَا شَاءَ) وأضاف مطلق العلم إلى ذاته عز وجل؟ فالجواب: أن قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) وما عطف عليه من قوله: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) بمجموعه: بيان للموجب في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) كما سبق تقريره، وقد تقرر أن مصحح الشفاعة كون الشافع

(مِنْ عِلْمِهِ): من معلوماته. (إِلَّا بِما شاءَ): إلا بما علم. الكرسي: ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد. وفي قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أربعة أوجه؛ أحدها: أنّ كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محيطاً بأحوال المشفوع له، فقوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) عبارة عن إثبات العلم مع الإحاطة من جميع الجوانب مفهوماً، فإن هذا التكرير كتكرير قوله تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) [مريم: 62]، فنفى عن الغير منطوقاً بعد ذلك بقوله: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ). قال القاضي: (وَلا يُحِيطُونَ): عطف على ما قبله، والمجموع يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته. قوله: ((مِنْ عِلْمِهِ)، أي: من معلوماته)، الراغب: (مِنْ عِلْمِهِ) على وجهين، أحدهما: مما يعلمه فيكون العلم مضافاً إلى الفاعل، والثاني أن يعلمه الخلق، فيكون مضافاً إلى المفعول به لينبه على أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن يعرف الموجودات ثم يتحقق أنه ليس إياها ولا شيئاً منها ولا شبيهاً بها، بل هو سبب وجود جميعها وأنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه، وبهذا النظر قال أبو بكر رضي الله عنه: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته، وقال بعض الأولياء: غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه، ولهذا قيل: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) [الحديد: 3]. قوله: 0 إن كرسيه لم يضق عن السماوات) إلخ، فإن قلت: أثبت أولاً الكرسي وأنه لم يضق عن السماوات ثم نفاه ثانياً بقوله: "لا كرسي ثمة"، هل هذا إلا تناقض؟ قلت: إثبات الكرسي أولاً بحسب مؤدى اللغة وتفسير اللفظ من غير النظر إلى استقامة إطلاقه على صفات الله تعالى، وأما نفيه فبالنظر إلى نسبته إلى الله، وأنه يجب حمله على العظمة والكبرياء على سبيل الكناية وأخذ الزبدة من مجموع الكلام.

كقوله: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67]، من غير تصوّر قبضة وطيّ ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسيّ ألا ترى إلى قوله: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). والثاني: وسع علمه وسمي العلم كرسياً؛ تسميةً بمكانه الذي هو كرسي العالم والثالث: وسع ملكه؛ تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك. والرابع: ما روي: أنه خلق كرسياً هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر: 67]؟ ) أي: ألا ترى كيف دل هذا القول على العظمة، ثم جيء بقوله: (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) [الزمر: 67] إلى آخره بياناً وتفسيراً له على طريقة: أعجبني زيد وكرمه! وسيجيء تقريره مستوفى في تفسير هذه الآية، قال الإمام: هذا القول منقول عن القفال. قوله: (أنه خلق كرسياً)، الراغب: الكرسي في تعارف العامة: اسم لما يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرس، أي: التلبد، والكراسة: المتكرسة من الأوراق، والمكروس المتراكب بعض أجزاء رأسه على بعض، وما روي أن الكرسي: موضع القدمين، وأن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد فصحيح، ومعناه لا يخفى على من عرف الله تعالى وعرف الأجرام السماوية ومجازات اللغة، ونظر من المعنى إلى اللفظ لا من اللفظ إلى المعنى، ومن لم يعرف ذلك فحقه أن يسلم ويترك الخوض فيما لا يعلم اتباعاً لقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وليس فيه إثبات الجسمية كما أنه ليس في إثبات البيت له كونه ساكناً فيه.

وعن الحسن: الكرسي هو العرش. (وَلا يَؤُدُهُ): ولا يثقله ولا يشق عليه (حِفْظُهُما): حفظ السموات والأرض. (وَهُوَ الْعَلِيُّ) الشأن، (الْعَظِيمُ) الملك والقدرة. فإن قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت: ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن) هذا ليس وجهاً خامساً، بل هو كالتتمة للوجه الرابع، وحاصله: أن الكرسي جسم عظيم، إما بين يدي العرش أو العرش نفسه، ويمكن أن يقال: إنه أراد بالوجوه: الأربعة المختارة، ثم ذكر عن الحسن وجهاً ضعيفاً. قوله: (على سبيل البيان لما ترتبت عليه)، وهو الذات المتميزة، واسمه الجامع للنعوت الكاملة، يعني: الجمل الآتية من قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) إلى قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) مترتبة عليه على سبيل البيان والكشف، قال الإمام: إن ذاته سبحانه وتعالى من حيث هي هي مستلزمة لصفات الكمال، فتكون هذه الصفات مترتبة على الذات على سبيل البيان، يؤيده تكرار ضمير الله في قوله: "لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مالكاً، ولكبرياء شأنه، ولإحاطته، ولسعة علمه، أو لجلاله وعظيم قدره"، ونحوه سبق في تفسير البسملة، وهو أن صفاته تعالى لابد لها من موصوف تجري عليه، فالجملة الأولى قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) مع قوله: (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لكونها متممة لها مؤكدة لبعض ما اشتملت عليه، ومن ثم قال: "غير ساه عنه" بعد قوله: "لبيان قيامه بتدبير الخلق"، كما قال أولاً: (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) هو تأكيد للقيوم، والثانية: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، والثالثة: (مَنْ ذَا الَّذِي)، والرابعة: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، والخامسة: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ)، هذا التقرير يقتضي أن يجعل قوله: (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) حالاً مؤكدة من (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الواقعين بدلين من الضمير، كما أن (قَائِماً بِالْقِسْطِ): حال من الضمير في (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) [آل عمران: 18]، وقوله: (وَلا يُحِيطُونَ)، (وَلا يَئُودُهُ): حالان مما يتصل بهما في تينك الجملتين، وقد أسلفنا عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي الهيثم: أن الإله المعبود يجب أن يكون خالقاً رازقاً مدبراً، ولعابده مثيباً ومعاقباً، ولو اختل من هذه الأوصاف وصف لاختل معنى الألوهية، هذا معنى ترتب الأوصاف على اسم الذات في آية الكرسي على سبيل الأخبار المترادفة، ولو دخل العاطف بينها لتوهم استقلال كل وصف في مصحح الألوهية، فإذاً، معنى امتزاج الأوصاف بعضها مع بعض كامتزاج حلو حامض في قولك: هذا حلو حامض، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، ونظيره في الكناية عن الإنسان قولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار، فلفقوا لوازم مجموعة مانعة عن دخول ما عدا المقصود. وأما قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، فلما كان تذييلاً لمعنى الكبرياء والعظمة والعلا الذي اشتملت عليه الآية، أتى توكيداً وتقريراً لما سبق، فالواو للاستئناف، والله أعلم. وجه آخر، وهو أن يقال: إن الجملة الثانية هي قوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) على أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً، و (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ): حالاً مؤكدة، كقولك: هو الحق بيناً، والجملة استئنافية مبينة للموجب، وذلك أنه تعالى لما أثبت لنفسه الفردانية في الألوهية الموجبة للعبودية، استلزم ذلك أن يكون حياً قائماً بتدبير عباده، وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه، فبينه بقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)، والمدبر المثيب المعاقب، إنما يتمشى له التدبير إذا كان مالكاً على الإطلاق لا ينازعه منازع في ملكه وملكوته، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22]، فكان قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، المفيد للاختصاص بتقديم الخبر، بياناً لذلك، واستلزم ذلك كبرياء شأنه وعظمة سلطانه، فبينه بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، واقتضى ذلك إحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب بالشفاعة وغير المرتضى فأردفه بقوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، وأوجب ذلك سعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، فأوضحه بقوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، الراغب: هو تأكيد لقوله: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)، أي: إذا كان علمه ومملكته

فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه. والثانية: لكونه مالكاً لما يدبره. والثالثة: لكبرياء شأنه. والرابعة: لإحاطته بأحوال الخلق، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى. والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره. قلت: لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقدرته محيطاً بهذه الأشياء، والإنسان بعض هذه الأشياء، فكيف يصح إحاطته بمن هو محيط به وبهذه الأشياء؟ وقال القاضي: إن هذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه تعالى واحد في الإلهية، متصف بالحياة، قائم بنفسه، مقوم لغيره، منزه عن التحيز والحلول، مبرأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، العالم وحده بالأشياء كلها: جليها وخفيها، كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، ولا يؤوده شاق، ولا يشغله شأن، متعال عما يدركه، وهو عظيم لا يحيط به فهم. قوله: (بين العصا ولحائها)، اللحاء، ممدود: قشر الشجر، يضرب لمن يدخل بين متخالين شقيقين، وهو ليس أهلاً لذلك، وأنشد: سقياً لها ولطيبها ... ولحسنها وبهائها أيام لم يلج النوى ... بين العصا ولحائها قوله: (وتعلقه بالمعلومات كلها)، هذا إذا كان الكرسي مؤولاً بالعلم. وقوله: (أو لجلاله وعظم قدره)، هذا إذا كان مؤولاً بالملك وبتصور العظمة.

ما ورد؛ منه: قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة. يا عليّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها"، وعن عليّ رضي اللَّه عنه: سمعت نبيكم صلى اللَّه عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدِّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمَّنه اللَّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله». وتذاكر الصحابة رضوان اللَّه عليهم أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليّ رضي اللَّه عنه: أين أنتم عن آية الكرسي؟ ! ثم قال: قال لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «يا عليّ، سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي». قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص؛ لاشتمالها على توحيد اللَّه وتعظيمه وتمجيده، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا اهتجرتها الشياطين)، عن بعضهم: الفاعل إذا اتحد يقال: هجروا، وإذا تعدد يقال: اهتجر فلان واهتجره الناس. قوله: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة)، نحوه رواه البيهقي في كتاب "اليوم والليلة"، ونحو معنى قوله: "ومن قرأها إذا أخذ مضجعه" رواه الترمذي والدارمي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ (حم) المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهام حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح"، ونحو معنى قوله: "سيد البقرة آية الكرسي" رواه الترمذي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة؛ فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار، وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم. وأعلاها منزلةً عند اللَّه علم أهل العدل والتوحيد، ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه؛ فـ: إنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً وَلَا تَرَى لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا [(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)]. (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)، أي: لم يجر اللَّه أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن فيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي". قوله: (إن العرانين تلقاها محسدة) آخره: ولن ترى للئام الناس حسادا الفاء في قوله: "فإن العرانين" فاء الكاشفية، والعرنين: طرف الأنف، والجمع العرانين،

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ): قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان باللَّه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من الحبل الوثيق المحكم المأمون انفصامها، أي: انقطاعها، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به. وقيل: هو إخبار في معنى النهى، أي: لا تتكرهوا في الدين، ثم قال بعضهم: هو منسوخ بقوله: (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 73]. وقيل: هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعرانين الناس: ساداتهم، روي أن المنصور الدوانيقي قال لسفيان بن معاوية المهلبي: ما أسرع الناس إلى قومك؟ فأنشد البيت. وهذا تعصب بمجرد التشهي. قوله: (قد تميز الإيمان من الكفر) فسر الرشد والغي بهما لتقدم ذكر الدين، الراغب: الغي: كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد، والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا قيل: زوال الجهل بالعلم وزوال الغي بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن أخطأ: غوي، وعلى هذا قال: ومن يغو لم يعدم على الغي لائما قوله: (وقيل: هو إخبار في معنى النهي): معطوف على قوله: "لم يجر الله أمر الإيمان". قوله: (وقيل: هو في أهل الكتاب خاصة): معطوف من حيث المعنى على قوله: "قال بعضهم"، أي: هو عام في جميع الكفار، فيكون منسوخاً؛ لأنه وجد الإكراه بقوله: (جَاهِدْ الْكُفَّارَ) [التوبة: 73] (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 5]، أو هو خاص في أهل الكتاب فلم يكن منسوخاً لأنه لم يوجد القتال؛ لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية.

وروي: أنه كان لأنصاريّ من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: واللَّه لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال الأنصارى: يا رسول اللَّه أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما. [(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: أرادوا أن يؤمنوا، يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك. أو: اللَّه ولىّ المؤمنين، يخرجهم من الشبه في الدين ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي أنه كان لأنصاري) متفرع على القول الثاني. قوله: (أو: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين) يريد أن النور والظلمات يجوز أن يكونا مستعارين للإيمان والكفر، شبه الدين في ظهور آياته وسطوع بيناته بإشراق النور، والكفر بالعكس، أو شبه اليقين وماي حصل به في القلب من انشراح الصدر والخلاص من ورطة ضيق الشك بالنور، قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر: 22]. والوجه الثاني أوجه ولتأليف النظم أوفق، بيانه: أن في تقدير الإرادة في قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) خروجاً عن السداد، مع أن الفطرة الأصلية بمقتضى قوله صلوات الله عليه: "كل مولود يولد على الفطرة" توجب استواءهما في النور،

إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ) الشياطين، (يُخْرِجُونَهُمْ) من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة. [(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويلزم منه فك التركيب، وأما تأليف النظم فهو أنا بينا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 254] أن قوله: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) متصل بما قبل الآيات وأنه في قوم مخصوصين؛ لأن نفي الإكراه لتبين الرشد من الغي لابد أن يكون بظهور الآيات البينات الشاهدة على صحة الدين، وبإزاحة الشبهات المتشبث بها، ثم قوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) الآية، مترتب عليه، فلا مناسبة، إذ الحديث النور الأصلي، والظلمات العارضي، فصح قوله: "يخرجهم من الشبه في الدين إلى نور اليقين" إلى آخره، فعلى هذا الآيات من باب الجمع مع التفريق غب التقسيم؛ جمع الله تعالى الرشاد والغواية في حكم التبيين بقوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ)، ثم قسم فجعل الرشاد للمؤمنين والغواية للكافرين؛ لأن الفاء في قوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) تفصيلية، وقد أضمر أحد قسميه لدلالة الجمع عليه، ولأن قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وارد على سبيل الاستئناف لبيان الفرق بين الولي الهادي والولي المضل، وبين الطريق والطريق، فلابد من أن يقال: فقد ظهر الحق من الباطل، فمن سلك طريق الحق فقد رشد وهدي، ومن خبط في ظلمات الباطل فقد ضل وغوى؛ لأن من يكون هاديه الله يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن يكون مضله الطاغوت فالحكم بالعكس. قوله: (يخرجهم من الشبه في الدين): متعلق "بالشبه"، ويروى: "إلى الدين" فيكون متعلقاً بـ (يُخْرِجُهُمْ)، وقوله: "يهديهم ويوفقهم" تنازعا في لفظ "له".

عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. (أَلَمْ تَرَ) تعجيب من محاجة نمروذ في اللَّه وكفره به. (أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) متعلق بـ (حاج) على وجهين: أحدهما حاجّ لأن آتاه اللَّه الملك، على معنى: أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوّ؛ فحاجّ لذلك؛ أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه اللَّه الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان؛ لأنى أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونحوه قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]. والثاني: حاجّ وقت أن آتاه اللَّه الملك. فإن قلت: كيف جاز أن يؤتى اللَّه الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تريد أنه عكس ما كان يجب عليه) فاللام كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً) [القصص: 8]. قوله: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ)) أي: شكر رزقكم. قوله: (وقت أن آتاه الله) أي: وقت إيتاء الملك، نحو قولهم: كان ذلك مقدم الحاج، وخفوق النجم. وعلى الوجهين أن: مصدرية. قوله: (وأما التغليب والتسليط فلا)، والدليل عليه قوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 141]. الانتصاف: هذا بناءً على قاعدتهم في وجوب رعاية المصالح.

وقيل: ملكه امتحاناً لعباده. و (إِذْ قالَ) نصب بـ (حاج)، أو بدل من (آتاه) إذ جعل بمعنى الوقت (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ): يريد: أعفو عن القتل، وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً، ولكن إبراهيم صلوات الله عليه، لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب؛ ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (إِذْ قَالَ): نصب ب (حَاجَّ) هذا على تقدير حذف اللام في (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ) أو: بدل من (أَنْ آتَاهُ) على تقدير حذف المضاف. قوله: (وكان الاعتراض عتيداً) أي: اعتراض إبراهيم عليه السلام أجاب عن سؤال فرعون على ما قال "نمرود" حاضراً مهيئاً سهلاً لا يخفى على من عنده مسكة. قوله: (جوابه الأحمق) هذا مقابل لما قيل: إن موسى عليه السلام أجاب عن سؤال فرعون بقوله: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الشعراء: 24]، جوابه الحكيم؛ لأنه عليه السلام نبه به على النظر المؤدي إلى العلم، وكان جواب نمرود يؤدي إلى عكس ذلك، وإسناد الأحمق إلى ضمير الجواب من الإسناد المجازي وصف بصفة من هو بسببه. قوله: (إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب)، الراغب: وقد كان إبراهيم يمكنه أن يقول: الذي ادعيته لربي ليس من جنس الذي ادعيته، لكن عدل إلى فعل ليس في طوق البشر، هو ولا قريب منه، ولا ما يشاركه اسماً، أي: قد ثبت باتفاقنا أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت من المغرب فلم يجد شيئاً يدعيه كما ادعى في الإحياء والإماتة، فبهت حينئذ فظهر عجزه. قوله: (وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حُجَّة إلى حُجّة). قال صاحب "الفرائد": لا يلزم أن يكون هذا انتقالاً من حجة إلى حجة أخرى، بل يمكن أن يكون انتقالاً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من مثال إلى مثال آخر للإيضاح، فقول إبراهيم عليه السلام: (رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) في المحاجة ينبئ أن يكون استدلالاً له على وجود الصانع تعالى وتقدس بحدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثه في الظاهر ولا يسعه أن يدعي إحداثه، فجاء بالإحياء والإماتة للمثال، فنازع نمرود في المثال، فانتقل إلى ما لا يمكنه المنازعة فيه ولا بحث في النظير. وذكر القاضي وصاحب "الانتصاف" ما يقرب منه، وتمام تقريره ما ذكره الإمام، قال: للناس في هذا المقام طريقان، أحدهما: قول أكثر المفسرين، وهو أن إبراهيم عليه السلام لما سمع من نمرود تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، وزعموا أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل؛ والطريق الثاني: أن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى آخر، والذي فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحداً، إلا أن الانتقال لإيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة، قال المنكر: أتدعي الإحياء والإماتة من الله تعالى ابتداء أم بواسطة الأسباب السماوية والأرضية؟ أما الأول فلا سبيل إليه، وأما الثاني فأنا أيضاً قادر عليه، وهو المراد بقوله: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فلما أجاب نمرود بذلك قال إبراهيم: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله بواسطة الأسباب، إلا أنه لابد لتلك الأسباب من مسبب فاعل مختار يوجد ويعدم وهو الله تعالى، وليس الإحياء والإماتة الصادران من البشر بتلك الحيثية، ثم قال: والإشكال على الأول من وجوه، أحدها: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت في الأسماع وجب على المحق أنه يجيبه في الحال إزالة للتلبيس، فكيف ترك النبي المعصوم الجواب؟ وثانيها: أن الانتقال إنما يجوز إذا كان المنتقل إليه أوضح، وها هنا بالعكس، وثالثها: أن نمرود لما لم يستحي من المعارضة الأولى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه أن يقول هذا مني؟ .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مراد المصنف من قوله: "جواز الانتقال من حجة" أي: بعد إتمامها وإلزام الخصم بها إلى حجة أخرى تأكيداً وتقريراً لها، يدل عليه قوله: "لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه"؛ لأنه لم يكن يستحق الجواب وظهر إفحامه به، وأما أن الثاني أوضح، فلأن اللعين إن قدر على أن يدعي الإحياء والإماتة على ذلك الطريق لكن ليس له البتة أن يدعي مثله في الثاني؛ لأن غير المعطلة مجمعون على أن خالق السماوات والأرض ومدبرها هو الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25]، فكان هذا أوضح من حيث التعجيز والتبكيت، وهذا أيضاً جواب عن الإشكال الثالث للإمام، ثم إني وقفت على نقل من جانب الإمام البزدوي ما يوافق ما ذهبت إليه، قال: إن قصة إبراهيم عليه السلام ليست من قبيل الانتقال من علة إلى علة أخرى لإثبات الحكم الأول؛ لأن الحجة الأولى كانت لازمة، ألا ترى أنه عارض بأمر باطل وهو قوله: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وإن كان كذلك كان اللعين منقطعاً، إلا أن إبراهيم عليه السلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل دفعاً للاشتباه إلى ما هو خال عما يوجب لبساً، وذلك حسن عند قيام الحجة وخوف الاشتباه. وقال محيي السنة: انتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أخرى لا عجزاً، فإن حجته كانت لازمة؛ لأنه أراد بالإحياء: إحياء الميت، فكان له أن يقول: فأحي من أمته إن كنت صادقاً، فانتقل إلى حجة أوضح من الأولى، وإليه أومى المصنف في "الشعراء": ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن كنعان، فبهت الذي كفر، وعلم منه أنه إذا لم تكن الحجة لازمة وشرع في الثانية كان منقطعاً.

وقرئ: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي: فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة: (فبهت) بوزن قرب. وقيل: كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ثم أخرجه من السجن ليحرقه، فقال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربي الذي يحيى ويميت. (أَوْ كَالَّذِي): معناه: أو أرأيت مثل الذي مرَّ، فحذف؛ لدلالة (أَلَمْ تَرَ) عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("فبهت الذي كفر" أي: فغلب)، قال الزجاج: بهت: انقطع وسكت متحيراً، يقال: بهت الرجل يبهت بهتاً: إذا انقطع وتحير. قوله: (كلتيهما كلمة تعجيب)، وذلك أن "أرأيت" استخبار، قال المصنف: لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً وصحة الخبر عنها، استعملوا أرأيت بمعنى أخبر. ومعنى التعجيب فيها: أن إجراءه على ظاهره لا يجوز؛ لأن الاستخبار على عالم الغيب والشهادة محال، فهو تنبيه للمخاطب على ما شاهده وأحاط به علماً، إظهاراً لمعنى الغرابة فيه وإيجاباً عليه إبداء ما لا يجوز إخفاؤه، وأما معنى (أَلَمْ تَرَ) ففيه تنبيه للمخاطب على التعجيب فيما يشاهده. قال الزجاج: (أَلَمْ تَرَ): كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف صنع كذا؟ فمعنى الرؤية: النظر، قال الواحدي: معنى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ): هل انتهت رؤيتك يا محمد إلى من هذه صفته؟ . وقال الزجاج: معنى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا): احتجاج على مشركي العرب وعلى احتجاج

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أهل الكتاب، يعني أنه صلى الله عليه وسمل لم يتعلم ولم يقرأ الكتب ولم ينظر أيضاً، وقد اخبر عنها إخبار من شاهدها، فصح أن حصولها ليس إلا بطريق الوحي. واعلم أن في عطف قوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ) على قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) إشكالاً، وطريق التفضي من وجهين، أحدهما: أن يعطف الجملة على الجملة من غير اعتبار مفرداتها، فيقدر ها هنا: أرأيت مثل الذي، لدلالة (أَلَمْ تَرَ)؛ لأن كلتيهما كلمة تعجيب كما مر، وإنما أوثر أن يعطف (أَرَءَيْتَ) على (أَلَمْ تَرَ) لأن الأول يعدى بنفسه والثاني بإلى، كما ذكره صاحب "التقريب"، فتقديره أسهل، لا كما قيل: إن تقدير (أَلَمْ تَرَ) ينافي التعجيب. وثانيهما: أن يجعل من عطف المفرد على المفرد ويوضع "أرأيت" مكان (أَلَمْ تَرَ) وتجعل الكاف اسماً، فيعطف المثل على المثل، قال مكي: الكاف في موضع نصب معطوفة على معنى الكلام، تقديره عند الفراء والكسائي: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم، أو: كالذي مر على قرية؟ . وقال الإمام: قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ) بمعنى: أرأيت كالذي، وهو قول الكسائي والفراء وأبي علي وأكثر النحويين، قالوا: ونظيره في القرآن: (قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون: 84 - 85]، ثم قال: (مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون: 86 - 87]، فهذا حمل على المعنى؛ لأن معناه لمن السماوات؟ فقيل: لله. وقال القاضي: وتخصيص الثاني بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحسى، بخلاف مدعي الربوبية. الراغب: الوجه أن الكاف ها هنا ليس للتشبيه المجرد، بل هو للتحديد والتحقيق كما هو

ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ كان كافراً بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك؛ ولكلمة الاستبعاد التي هي: (أنى يحيى)، وقيل: هو عزيز، أو الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قولك: الاسم كزيد وعمرو، وعلى أنه إن جعل للتشبيه فعلى سبيل المثل والمشبه غير مذكور، وقيل: الكاف زائدة، وليس بشيء. وقلت: لعل مراد القائل أنه حينئذ على باب: مثلك يجود، أي: أنت تجود، أي: ألم تر إلى من هذه صفته لأنها عجيبة الشأن. قوله: (والمار كان كافراً) لانتظامه مع نمروذ. الانتصاف: استدلاله على أن المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ معارض بانتظامه مع إبراهيم. فإن قلت: انتظامه مع كافر أقوى، فإن قصة المار عطفت على قصة نمروذ وعطف لشريك في الفعل منطوقاً به في الأول محذوفاً في الثانية مدلولاً عليه بذكره أولاً، وقصة إبراهيم عليه السلام مصدرة بالواو التي لتحسين النظم، فتتوسط بين جمل متقاطعة للتحسين، بخلاف "أو" فإنها لا تستعمل إلا مشركة، عارضناه بما بين قصة المار وبين قصة إبراهيم من التناسب المعنوي، فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء، واعتبار المعنى أولى، ويؤكد إيمان المار تحرزه في قوله: (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) حذراً من الكذب، ولا يصدر حذر من معطل، فإن قال: إنما قال ذلك بعد أن آمن! قلنا: على القول بكفره ما آمن إلا بعد تبين الآيات لقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وعلى الحكاية التي أوردها الزمخشري من أن المار أماته الله ضحى، فلما رأى بقية من الشمس قال: "أو بعض يوم" إشكال، إذ كان يجب أن يقول: بل بعض يوم، مضرباً عما اعتقده أولاً بالجزم الذي حصل ثانياً، والظاهر أن المار كان جازماً أولاً ثم شك لا غير، واتباع ظاهر الآية أولى من اتباع حكاية لا تثبت.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الإنصاف": كلام صاحب "الانتصاف" حسن إلا قوله: "مثل هذا التحرز، ولا يصدر من معطل"، فإنهل يس كذلك، فإن الغرض إذا انتفى ترجح الصدق عند كل أحد، لاسيما من سئل عند ظهور آية باهرة وإن لم يؤمن بعد، لاسيما إذا أريد إرشاد داهش متحير فسئل ليعلم، فإنه لا يكذب غالباً. وقلت: ويمكن أن يرجح هذا القول بأن يقال: إنما عطفت قصة إبراهيم عليه السلام على قصة المار لأنهما اشتركا في أن وفقا لقمع ما قد يختلج في خلد ذلك المحق من الشبهة، فقول المار: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) قريب من قول إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، وأما معنى الاستبعاد فهو ما ذكره الإمام: أنه ما كان عن شك في قدرة الله، بل بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصير معموراً، ثم القصتان عطفتا على قصة نمروذ واشتركتا في أن يتعجب من كل منهما، ومما يشد من عضد هذا التأويل النظم والنقل، أما النظم فإنه تعالى لما ذكر قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) والوجه المتصور على ما سبق: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة، عقبه بما يعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل أحد، فذكر أولاً: قصة اللعين الذي أخرجه الشيطان من نور البينات التي أظهرها له الخليل عليه السلام إلى ظلمات الكفر والضلال، فقيل في حقه: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وثانياً: قصتي النبيين حيث وقفا فأخرجا من مضيق ظلمات الشك إلى فضاء نور اليقين حتى قال أحدهما: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقيل للآخر: (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، نبه بالأول على كمال قدرته، وبالثاني على شمول علمه وغاية عزته، فتم فيها وجوب القول بإعادة الخلق بعد تلاشي أجزائهم.

وقوله: (أَنَّى يُحْيِي) اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي. والقرية: بيت المقدس حين خربه بختنصر. وقيل: هي التي خرج منها الألوف. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تفسيره فيما بعد. (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على الظن. وروي: أنه مات ضحى، وبعث بعد مئة سنة، قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوماً، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وروي: أن طعامه كان تيناً وعنباً، وشرابه عصيراً أو لبناً، فوجد التين والعنب كما جنيا، والشراب على حاله ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما النقل فقد قال الإمام: اختلفوا في الذي مر بالقرية، فقال قوم: كان رجلاً شاكاً في البعث، وهو قول مجاهد وأكثر المعتزلة، وقال الباقون: كان مسلماً، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس: هو أرمياء، فقال محمد بن إسحاق: إن أرمياء هو الخضر، وهو من سبط هارون عليه السلام، ورواية "معالم التنزيل" موافقة لهذا، والله أعلم. قوله: (والقرية: بيت المقدس) يعني: أهل بيت المقدس، لقوله تعالى: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ). قوله: (تفسيره فميا بعد) أي: في سورة الحج، وهي خاوية، أي: ساقطة، والعرش: السقف، والسقوف إذا تهدمت ثم انقلعت الحيطان فتساقطت على السقوف فقد خوت على سقوفها. قال الزجاج: خاوية: خالية (عَلَى عُرُوشِهَا): خيامها: وهي بيوت الأعراب.

(لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير، والهاء أصلية، أو هاء سكت، واشتقاقه من السنة على الوجهين؛ لأن لامها هاءٌ أو واو، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل: أصله يتسنن من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة كـ"تقضي البازي"؛ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الخواء: خلو الوعاء، ويقال: خوت الدار تخوي، خواء، وخوى النجم، وأخوى: إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوى أبلغ من خوى. قوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير) بمرور الزمان، قال الزجاج: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يجوز بإثبات الهاء وإسقاطها، ومعناه: لم تغيره السنون، فمن قال: السنة من سانهت فالهاء من أصل الكلمة، ومن قال: سانيت فهي لبيان الحركة، ووجه القراءة على كل حال إثباتها والوقف عليها بغير وصل فيمن جعله من سانيت، ووصلها إن شاء أو وقفها على من جعله من سانهت. قال القاضي: إنما أفرد الضمير في (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد، وقيل لكونهما مما لم يتغيرا معاً كأنهما واحد. قوله: (وأصله يتسنن)، قال أبو البقاء: هو من قوله: (حَمَأٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26] فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء، كما قلبت في "تظنيت" ثم أبدلت الياء ألفاً ثم حذفت للجزم. قوله: (كـ "تقضي البازي") من قول العجاج: تقضي البازي إذا البازي كسر أوله: آنس خربان فضاء فانكدر

ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه، يعني: هو بحاله كما كانت، كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد اللَّه: (فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن)، وقرأ أبُيّ: (لم يسنه) بإدغام التاء في السين. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تفرّقت عظامه ونخرت، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن يراد: وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات: أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) فعلنا ذلك، يريد: إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل: أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير فكذبوه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخربان: جمع الخرب، وهو ذكر الحبارى، وانكدر، أي: أسرع وانقض. الجوهري: انقض الطائر: هوى في طيرانه، ونمه انقضاض الكواكب، ولم يستعملوا منه تفعل إلا مبدلاً، قالوا: تقضي فاستثقلوا ثلاث ضادات فأبدلوا من إحداهن ياء، كسر الطائر: إذا ضم جناحيه حتى ينقض. قوله: (ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ)) وجه آخر في تفسير (لَمْ يَتَسَنَّهْ)، يعني: لم يتغير، فعلى هذا، لم يتسنه، اشتقاقه من السنة، كاشتقاق استنوق من الناقة، لكنه مجاز من التغير من إطلاق السبب على المسبب، وعلى الأول: حقيقة، واشتقاقه كاشتقاق الصلاة من تحريك الصلوين، ولذلك علل الاشتقاق بقوله: "إن الشيء يتغير بمرور الزمان". قوله: ((لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم تمر عليه السنون) حمزة والكسائي: لم يتسن، بحذف الهاء في الوصل خاصة، والباقون بإثباتها في الحالين، أبو البقاء: أصل الألف واو، من قولك: أسنى يسني: إذا مضت عليه السنون وأصل سنة سنوة لقولهم: سنوات.

فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذها هذًّا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفاً، فقالوا: هو ابن اللَّه! ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير؛ فذلك كونه آية. وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب، فإذا حدّثهم بحديثٍ قالوا: حديث مئة سنة. (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ): هي عظام الحمار، أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، (كَيْفَ نُنْشِزُها): كيف نحييها. وقرأ الحسن: (ننشرها) من نشر اللَّه الموتى بمعنى: أنشرهم، فنشروا، وقرئ بالزاي بمعنى: نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعضٍ للتركيب. وفاعل (تَبَيَّنَ) مضمر، تقديره: فلما تبين له أن اللَّه على كل شيء قدير ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يهذها)، الجوهري: يهذ الحديث هذاً، أي: يسرده، والهذ: الإسراع في القطع. قوله: (فذلك كونه آية)، "فذلك": إشارة إلى قراءته التوراة عن ظهر قلبه، والضمير في "كونه": لعزير، وعلى الأول الآية هي إحياؤه بعد الموت وحفظ ما معه كما قال. قوله: (وقرئ بالزاي): الكوفيون وابن عامر، والباقون: بالراء، قال القاضي: (كَيْفَ) منصوب بـ "ننشز"، والجملة حال من العظام، أي: انظر إليها محياة. قوله: (وفاعل (تَبَيَّنَ) مضمر)، أي: هو من باب تنازع الفعلين، قال الإمام: وفيه تعسف، بل الوجه القوي: لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قلت: ومما يشد عضد هذا التأويل: أن قول القائل: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فحذف الأول؛ لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً. ويجوز: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعنى أمر إحياء الموتى. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما: (فلما تبين له) على البناء للمفعول. وقرئ: قال اعلم، على لفظ الأمر: وقرأ عبد اللَّه: (قيل اعلم) فإن قلت: فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه اللَّه؟ قلت: كان الكلام بعد البعث، ولم يكن إذ ذاك كافراً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رجوع منه من قوله أولاً: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) وترق من حضيض التردد والشك إلى مدرج علم اليقين، أي: فلما ظهر له آثار قدرة الله في إحيائه بعد إماتته، وعدم تغير طعامه وشرابه بعد مضي السنين المتطاولة ونشر عظام حماره، وزال ذلك الشك والاستبعاد، قال: أتيقن الآن أن الله على كل شيء قدير، استدلالاً بالأمر الخاص على العام، وما أحسن موقع التجريد في قراءة الأمر، جرد من نفسه شخصاً بعد مشاهدة تلك الآيات البينات، كأنه غيره ووبخه على استبعاده ذلك، وهذا التقرير مما يقوي أن المار كان مؤمناً، كما أن الأول ظاهر في أنه كان كافراً. قوله: (وقرئ: "قال اعلم") حمزة والكسائي: "قال اعلم"، بوصل الألف وجزم الميم في الوصل، ويبتدئان بكسر الألف على الأمر، والباقون: بقطع الألف في الحالين ورفع الميم على الإخبار، قال الزجاج: من قرأ: "اعلم"، كأنه يقبل على نفسه فيقول: اعلم أيها الإنسان أن الله على كل شيء قدير، والرفع على الإخبار. قال القاضي: الأمر مخاطبة النفس على التبكيت، وقلت: على التجريد والتوبيخ، وهذا ظاهر في أن المار كان مؤمناً. قوله: (كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً)، الانتصاف: لا نسلم امتناع ما ذكر، فإن الله خاطب إبليس بقوله: (فَأَخْرُجْ مِنْهَا) [الحجر: 34]، والكافرين بقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا

[(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)]. (أَرِنِي): بصرني. فإن قلت: كيف قال له: (أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ) وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و (بَلى): إيجاب لما بعد النفي، ومعناه: بلى آمنت. (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي): ليزيد سكوناً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون: 108]، وكذا قوله: (وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ) [البقرة: 174]، أي: بما يسرهم. وجوابه أعجب؛ لأن الإيمان إنما حصل بعد ما تبين له أمر الإماتة والإحياء، وكان قبل ذلك مكلماً بقوله: (كَمْ لَبِثْتَ) وكيت وكيت، وكان إذ ذاك كافراً. قوله: (كيف قال له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ )، يعني: أن قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بمعنى ما آمنت؟ لأن "لم" متى دخل على المضارع انقلب ماضياً. قوله: (من الفائدة الجليلة)، ويروى: الجلية، قيل: وهي أن يعلموا أنه إنما طلب ذلك للطمأنينة لا لأنه لم يؤمن، وقلت: الفائدة الجليلة هي أن يعلم أن في جبلة الإنسان الاختلاج والشك، وأن مزيله طلب الدلائل ومنح التوفيق من الله تعالى كقوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة: 257]، وما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: سؤال الخليل ليس عن شك في القدرة على الإحياء، ولكن عن كيفيتها، ومعرفة كيفيتها لا يشترط في الإيمان، والسؤال بصيغة "كيف" الدالة على الحال هو كما لو علمت أن زيداً يحكم في الناس، فسألت عن تفاصيل حمكه، فقلت: كيف يحكم؟ فسؤالك لم يقع عن كونه حاكماً، ولكن عن أحوال حكمه، ولذلك قطع النبي صلى الله عليه وسلم ما يقع في الأوهام من نسبة الشك إليه بقوله: "نحن أحق بالشك"، أي: نحن لم نشك، فإبراهيم أولى، فإن قيل: فعلى هذا كيف قيل له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ قلنا: هذه الصيغة في الاستفهام بكيف قد تستعمل أيضاً عند الشك في القدرة، كما تقول لمن ادعى أمراً تستعجزه عنه: أرني كيف تصنعه؟ فجاء قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، والرد ببلى لزوال الاحتمال اللفظي في العبارة ويحصل النص الذي لا يرتاب فيه. فإن قيل: قول إبراهيم: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يشعر ظاهره بفقد الطمأنينة عند السؤال؟ قلنا: معناه: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء بتصويرها مشاهدة فتزول الكيفيات المحتملة، وقلت: هذا تكلف، والقول ما سبق أن هذا رحمة من الله للعباد، وظاهر الحديث عليه، ولأن إزالة الشبهات ودفع الخواطر من صريح الإيمان، روينا عن مسلم وأبي داود، عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد وجدتموه؟ "، قالوا: نعم، قال: "ذلك صريح الإيمان". وفي أخرى: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". وعن مسلم، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتكلم به، قال: "ذلك محض الإيمان".

وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في (لِيَطْمَئِنَّ)؟ قلت: بمحذوفٍ، تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب. (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ): قيل طاؤوساً وديكاً وغراباً وحمامة، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وكسرها، بمعنى: فأملهنّ واضممهنّ إليك قال: وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا وقال: وَفَرْعٍ يَصيرُ الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ ... عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): بضم الصاد وكسرها)، قرأ حمزة بالكسر، والباقون بالضم. قوله: (ولكن أطراف الرماح تصورها)، أوله: وما صيد الأعناق فيهم جبلة الجوهري: الصيد، بالتحريك: مصدر الأصيد، وهو الذي يرفع رأسه كبراً، ومنه قيل للملك: أصيد، وأصله في البعير يكون به داء في راسه فيرفعه. والصور: الميل، والرجل يصور عنقه إلى شيء: إذا مال نحوه. قوله: (وفرع يصير الجيد) البيت، الفرع: الشعر، والوحف بالحاء المهملة: الشعر الكثير الأسود، والوحف: الجناح الكثير الريش، والليت، بالكسر والتاء فوقها نقطتان: صفحة

وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنه: (فصرّهن) بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء، من صره يصره ويصره؛ إذا جمعه، نحو ضره ويضره ويضره؛ وعنه: (فَصُرْهُنَّ) من التصرية؛ وهي الجمع أيضاً. (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً): يريد: ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى: على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل. وعن السدّي: سبعة؛ (ثُمَّ ادْعُهُنَّ) وقل لهن: تعالين بإذن اللَّه (يَاتِينَكَ سَعْياً) ساعياتٍ مسرعاتٍ في طيرانهن، أو في مشيهن على أرجلهن. فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك؛ ولذلك قال: (يأتينك سعياً). وروي: أنه أمر بأن يذبحها، وينتف ريشها، ويقطعها، ويفرّق أجزاءها، ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن اللَّه. فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العنق، وقنوان: جمع قنو وهو العنقود، والدوالح: المثقلات، وكل من حمل ثقيلاً فقد دلح به. قوله: (من التصرية) يقال: صريت الشاة تصرية: إذا لم تحلبها أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها. قوله: (ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال) يعني دل ثم على التراخي من حيث الزمان؛ لأن بين جمع الطيور وضمها إليه وذبحها ونتف ريشها وتفريق أجزائها وتخليط بعضها مع بعض وقسمتها أربعة أقسام ثم تفريقها على الجبال زماناً ممتداً، أو (ثُمَّ) ها هنا كالفاء في قوله: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ) [البقرة: 60]، وكذا لفظ كل ها هنا كما في قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]، أي: من كل شيء يليق بحالها، وإليه الإشارة بقوله: "من الجبال التي بحضرتك".

كل جثة إلى رأسها. وقرئ (جزؤاً) بضمتين و (جُزًّا) بالتشديد، ووجهه: أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف. [(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) 261]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "جزؤاً" بضمتين): عاصم في رواية أبي بكر، و"جزاً"، بالتشديد: حمزة عند الوقف خاصة. قوله: (إجراء للوصل مجرى الوقف)، ونحوه: مثل الحريق وافق القصبا وإنما قلنا: إنه حال الوصل لأن القوافي إذا حركت فإنما تحرك على نية وصلها. قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) الآيات، اعلم أن للبلغاء فناً يذهبون إليه دقيق المسلك لطيف المغزى، وهو أنهم إذا شرعوا في حديث ذي شجون له شعب وفنون شتى ولهم اعتناء بنوع منها أكثر من الآخر، فإذا اندفعوا وتعمقوا فيها لا يتسع لهم ولا يتمالكون أن يهملوا ذلك الأمر المعني بشأنه، فحيث وجدوا له مجالاً كيف ما كان أوردوه، ولامصنف أومى إلى هذا المعنى في آخر الشعراء حيث قال: ومثاله: أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه، والله جل سلطانه حين فرغ من بيان الأحكام وشرع في القصص تحريضاً على الجهاد وحثاً على الإنفاق في سبيله إشادة للدين وقمعاً للملحدين، قال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ... ) [البقرة: 244 - 245] الآية، ولما أن الإنفاق هو العمدة في الجهاد، ومنه فتح باب سائر العبادات،

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ): لا بد من حذف مضافٍ، أي: مثل نفقتهم كمثل حبةً، أو: مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو اللَّه، ولكن الحبة لما كانت سبباً أُسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل: أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعبٍ لكل واحدةٍ سنبلةٌ. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عينى الناظر. فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المُغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير. فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلاتٍ على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) [يوسف: 43]؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله تعالى: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع متعاورةً مواقعها. (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ): أي: يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين، أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو رأس الخيرات وأس المبرات، كرر ذكره مراراً، وذلك أنه لما قص حديث طالوت وجالوت ونبذاً من أحوال الأنبياء تقريراً للجهاد تأسياً بهم، رجع إلى حديث الإنفاق بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) [البقرة: 254]، ثم أتى بوصف ذاته الأقدس بالمطالب العالية الشريفة وبقصة خليله عليه السلام، فكر راجعاً إلى قضية الإنفاق قائلاً: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ) الآية، ثم لما استوفى حقه من البيان ختم السورة بخاتمة سنية، وما ذلك إلا أن للإنفاق عند الله خطباً جليلاً وخطراً عظيماً، والله أعلم. قوله: (أن تخرج ساقاً)، الراغب: النبت: لما له نمو في أصل الخلقة، يقال: نبت الصبي والشعر والسن، ويستعمل النبات فيما له ساق وما ليس له ساق، وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام: إذا رهق كأنه صار ذا نبتة، وفلان في منبت خير، كناية عن الأصل، وقال: هذه الآية متعلقة بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً)، وما بينهما

[(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)]. المنّ: أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم: وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَيَّ صَنِيعَةً ... وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ وفي "نوابغ الكلم": صنوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها: طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزل إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتراضات مرغبة في قرضه، وحث على قناعة هي أس الجود، وإرشاد لمن يستقرض من الناس، وبين في هذه الآية أن قرضه هو: الإنفاق في سبيله. قوله: (المن: أن يعتد على من أحسن إليه)، الراغب: المن على ضربين، أحدهما: ما يوزن به والأكثر مناً بالتخفيف، والثاني: قدر الشيء ووزنه، ومنه المنة، وهو على ضربين أيضاً، أحدهما: اسم للعطية، لكونها ذات قدر بالإضافة إلى سائر الأفعال، لأن الجود أشرف فضيلة، وثانيهما: اسم لقدر العطية عند معطيها واعتداده بها، وهو المنهي عنه، فإنه مما يبطل الشكر ويمحق الأجر، وقيل: تعداد المنة من ضعف المنة. قوله: (أسدى). أسدى فلان فلاناً، أي: أعطاه عطية، والصنيعة: ما اصطنعت إلى أحد من خير. قوله: (طعم الآلاء). والآلاء: النعم، واحدها: إلي، والألاء- بفتح الهمزة على وزن فعال-: شجر حسن المنظر مر الطعم، أي: العطاء مع المن أمر من طعم الألاء، و"نوابغ الكلام" كتاب صنفه جار الله. قوله: (ما أزل إليه) من قولهم: أزللت إليه نعمة، أي: أعطيته.

ومعنى (ثم): إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله: (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت: 30]. فإن قلت: أي فرقٍ بين قوله: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وقوله فيما بعد (فلَهُمْ أَجْرُهُمْ) [البقرة: 274]؟ قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط، وضمنه ثمة، والفرق بينهما من جهة المعنى: أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى (ثُمَّ): إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن)، الانتصاف: وعندي فيه وجه آخر، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف به، وإرخاء الطول في استصحابه، فلا يخرج بذلك عن الإشعار ببعد الزمن، ومعناه في الأصل: تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناه المستعار: دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، ومثله: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30]، أي: داموا على الاستقامة دواماً متراخياً، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، كذا ها هنا، أي: يدومون على تناسي الإحسان وترك الامتنان، وقريب منه أو مثله السين تصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه، (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: 99]، وقد قال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) فليس لتأخير الهداية سبيل، فتعين حمله على تنفيس دوام الهداية وتمادي أمدها، ولعل الزمخشري أشار إلى هذا في موضعه، وما ذكرته ها هنا في (ثُمَّ) أقرب من ذلك الموضع. قوله: (وطرحها عار عن تلك الدلالة)، يعني بالدلالة: أن الثاني مع الفاء مسبب عن الأول. وقلت: مجيء الجملة بدون الشرائط وفيها ما يصح للسببية إيذان بأن الرابط معنوي، فيكون أبلغ، قال القاضي: لعله لم يدخل الفاء إيهاماً بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا، وكيف بهم إذا فعلوا! وتحقيقه أن في تضمين الكلام معنى الشرط تعليقاً للكلام، وفي عرائه عن ذلك تحقيق للخبر، على منوال قوله:

([قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)]. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ): ردّ جميل، (وَمَغْفِرَةٌ): وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو: نيل مغفرة من اللَّه بسبب الرد الجميل، أو: وعفو من جهة السائل؛ لأنه إذا ردّه ردّا جميلا عذره. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً)، وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة؛ لاختصاصه بالصفة. (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذي، (حَلِيمٌ) عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخطٌ منه ووعيدٌ له، ثم بالغ في ذلك بما أتبعه (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال المنافق ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول وإنما بنيت الجملة على التحقيق لأن هذه الآية واردة في البعث على الإنفاق في سبيل الله لرفع منار المسلمين وإشادة الدين القويم، ومن ثم خص بذكر سبيل الله وكررها وضعاً للمظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية، بخلافه في تلك الآية. قوله: (وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة)، هذا يصح في المعطوف عليه، لكن لا يصح في المعطوف، وهو (وَمَغْفِرَةٌ)؛ لأنه غير موصوف، ولكونه مخصصاً في نفسه؛ لأن استعمال المغفرة مسبوق بوجدان ما يثقل على المسئول من السائل، جعل كأنه موصوف، ولهذا حين قدره خصصه بما يليق به المقام، أو لأنه معطوف على المخصص، ثم إن العفو إما أن يكون من الله تعالى، وهو إذا رد المسئول السائل رداً جميلاً، وإما من السائل وهو لأمرين: إما لأن المسئول عنه عنفه وزجره فيعفو عنه، أو رده رداً جميلاً فعذره، ولا يستقيم على

الذي ينفق ماله (رِئاءَ النَّاسِ) لا يريد بإنفاقه رضاء اللَّه ولا ثواب الآخرة، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان: بحجرٍ أملس عليه تراب. وقرأ سعيد بن المسيب: (صفوان) بوزن كروان. (فَأَصابَهُ وابِلٌ): مطر عظيم القطر. (فَتَرَكَهُ صَلْداً): أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، ومنه: صلد جبين الأصلع؛ إذا برق. (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) كقوله: (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان: 23]، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال، أي: لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. فإن قلت: كيف قال: (لا يَقْدِرُونَ) بعد قوله: (كَالَّذِي يُنْفِقُ)؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس، أو الفريق الذي ينفق، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان، فكأنه قيل: كمن ينفق. [(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 265]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثاني لسياق الآيات، لأنه تعالى لما قال: (لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) أتبعه قوله: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ)، أي: خير للمصدق، والعفو الصادر عن السائل على المسئول بسبب عنفه وزجره كيف يكون خيراً للمسئول؟ والأولى أن يسند العفو أيضاً إلى المسئول؛ لأن الكلام سيق له، المعنى: إذا صدر عن السائل بسبب الرد ما يثقل عليه يعفو عنه ولا يزجره، ويؤيده قول الإمام: إن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك، فربما حمله ذلك على بذاء اللسان، فأمر بالعفو عن ذلك والصفح عنه. وعلى هذا يصح جعل "مغفرة" مبتدأ لتخصيصه، أي: مغفرة منه. قوله: (ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال): عطف على قوله: "كإبطال

(وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ): وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقل طمعها في اتباعه لشهواتها وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن يراد: وتصديقاً للإسلام، وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل اللَّه، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المنافق الذي ينفق ماله"، فإن الكاف حينئذ في محل النصب على المصدر، قال القاضي: (رِئَاءَ): مفعول له، أو: حال بمعنى مرائياً، أو: مصدر، أي: إنفاق رياء. قوله: (علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه)، وقوله: (وَتَثْبِيتاً) على هذا كالتقرير بمعنى: ابتغاء مرضات الله. الراغب: بين الله تعالى أن المنفق ماله في سبيل الله ينبغي أن يكون قاصداً فيما أوجبه الله على الناس من الزكاة والإنفاق ابتغاء مرضاة الله، وطلب التوجه للوصول إليه، وتثبيت النفس ورياضتها لأداء الأمانات وبذل المعونات والتسمح لأبواب المصالح، فإن النفوس ما لم ترض لم تسمح، إذ هي مجبولة على الشح والكسل، وبذل الصدقة وفعل الخير يطهره ويزكيه، وهذان المعنيان، أعني: ابتغاء وجه الله وتثبيت النفس، وإن اختلفا في العبارة فهما واحد، وحق الإنسان أن يقصد ذلك في جميع ما يفعله من العبادات، فأما أن يطلب شكر مخلوق، ومباراة نظير، وطلب نفع دنيوي، وقضاء شهوة، واتقاء معرة، فليس ذلك بمرتضى، وجمع (أَنْفُسِهِمْ) جمع قلة للتنبيه على أن ذلك الفعل لا يكاد يوجد إلا في قليل من الناس، كقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي

و (من) على التفسير الأوّل للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه، وحرك من نشاطه، وعلى الثاني؛ لابتداء الغاية، كقوله تعالى: (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 109]. ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، وتعضده قراءة مجاهد: (وتبييناً من أنفسهم). فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه: أن من بذل ماله لوجه اللَّه فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها؛ (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف: 11]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وعلى أنه قل ما ينفك عمل من رياء وإن قل، ولذلك جعل الفاصلة قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: لا يخفى عليه شيء من أسرار العباد. قوله: (و (مِنْ)، على التفسير الأول: للتبعيض)، فيكون مفعولاً به للمصدر، أي: إذا تحمل هذا البعض من النفس خلاف ما هي مجبولة عليه يتأتى من سائرها سائر العبادات على سهولة ويسر، وإليه الإشارة بقوله: "فقد ثبت بعض نفسه"، إلى قوله: "ثبتها كلها"، وفيه أيضاً أن الواجب على النفس التثبت في كل ما كلفت به من مشاق، فإذا ثبتت على بذل المال، الذي هو أشق التكاليف، سهل عليها التثبت في سائرها، كما ينبئ عنه أول كلامه، قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وقوله: "على سائر العبادات" متعلق بقوله: "وليثبتوا" على معنى التضمين، ضمن التثبيت معنى التمكن والاستعلاء، أي: ليتمكنوا تثبيت بعضها على سائر العبادات. قوله: (ويحتمل أن يكون المعنى): عطف على قوله: "ويجوز أن يراد"، ومن: للابتداء أيضاً، يعني: يحملون أنفسهم على الإنفاق لأجل الثبات في الإسلام حتى يثابوا عند الله، أو يظهر ثباتهم فيه عند المسلمين، فالتثبيت بمعنى التصديق للإسلام على سبيل الكناية، لأن من أنفق بعد إسلامه صدق بإنفاقه إسلامه، فإن الاستقامة بعد قول المؤمن (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] مصدق لما قاله.

والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند اللَّه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ)؛ وهي البستان، (بِرَبْوَةٍ): بمكانٍ مرتفع، وخصها؛ لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً (أَصابَها وابِلٌ): مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء) ذكر في هذا التشبيه طريقين وقد رفيهما مضافاً محذوفاً؛ لأن ذوات المنفقين لا يحسن أن يوقع فيها التشبيه لأنه لا مناسبة بينهما وبين الجنة، فيقدر في طريق الأول النفقة ليكون الأمر الذي يشترك فيه الطريقان الزكاء، وهو عقلي، وفي التشبيه الثاني الحال، ليكون الوجه منتزعاً من عدة أمور متوهمة، فيكون تشبيهاً تمثيلياً، ولابد في هذا الوجه من بيان تلك الأمور لئلا يشبه العقلي بالوهمي، ومن ثم قال: "أو مثل حالهم عند الله بالجنة ... " إلخ، ويجوز أن يكون التشبيه على منوال قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ومن هذين التشبيهين "كأن قلوب الطير" يعثر على الفرق بين التمثيلي والعقلي، قال صاحب "المفتاح": والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظور فيه إلى التأمل لالتباسه في كثير من المواضع بالعقلي الحقيقي لاسيما المعاني التي ينتزع منها، فذكر المصنف المعاني ليتميز التمثيلي من العقلي، فالعقلي هو: أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، والتمثيلي: انتزاع الحالة المتوهمة من الأمور المتعددة. قوله: ((ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر)، أي: تثمره، "وبسبب" متعلق بقوله: (فَأَتَتْ)؛ لأنه مسبب عن قوله تعالى: (أَصَابَهَا وَابِلٌ).

بسبب الوابل، (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها. أو مثل حالهم عند اللَّه بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ، وكما أن كل واحدٍ من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرةً كانت أو قليلة، بعد أن يطلب بها وجه اللَّه، ويبذل فيها الوسع؛ زاكية عند اللَّه، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. وقرئ: (كمثل حبة)، و (بربوةٍ) بالحركات الثلاث، و (أكلها) بضمتين. [(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)]. الهمزة في (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) للإنكار. وقرئ: (له جنات)، و (ذريةٌ ضعاف). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: المراد بالضعف: المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [المؤمنون: 27]، وقيل: أربعة أمثاله، ونصبه على الحال، أي: مضاعفاً. قوله: ((فَطَلٌّ) فمطر ضعيف)، قال القاضي: أي: فيصيبها طل، أو: فالذي يصيبها أو فطل يكفيها. قوله: (وقرئ: كمثل حبة) بالحاء والباء الموحدة، وهي شاذة. قوله: (و (بِرَبْوَةٍ)) أي: وقرئ: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بالحركات الثلاث؛ عاصم وابن عامر: بالفتح، والباقون: بضم الراء، والكسر: شاذ. قوله: (و (أُكُلَهَا)، بضمتين). الجماعة إلا نافعاً وابن كثير وأبا عمرو.

والإعصار: الريح التي تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه اللَّه، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطةً فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنتعشهم؛ فهلكت بالصاعقة. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه سأل عنها الصحابة فقالوا: اللَّه أعلم. فغضب وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس رضي اللَّه عنه: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال: قل يا ابن أخى ولا تحقر نفسك. قال: ضرب مثلاً لعملٍ. قال: لأي عمل؟ قال: لرجل عُنى بعمل الحسنات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإعصار: الريح التي تستدير)، الراغب: الإعصار أصله مصدر أعصر سمي به الريح، والعصر مصدر عصرت العنب، وسمي آخر النهار ومدة من الزمان عصراً كأنه مدة عصرت فجمعت، والمعصر: سحاب ذات عصر للمطر، والمرأة فوق الكاعب: معصر، لكونها ذات عصر، أي: زمان التمتع بها، قال: مطيات السرور فويق عشر ... إلى عشرين ثم قف المطايا قوله: (وعن عمر رضي الله عنه، أنه سأل عنها الصحابة). الحديث مخرج في "صحيح البخاري". قوله: (لعمل) أي: لصاحب عمل. قوله: (عني) أي: اهتم وصرفت عنايته إليها، "أغرق أعماله": أضاعها بما ارتكب من المعاصي. قوله: (هذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله) لا يبتغي: حال من فاعل

ثم بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. وعن الحسن رضي اللَّه عنه: هذا مثلٌ قلّ واللَّه من يعقله من الناس؛ شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم واللَّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "يعمل" أو مفعوله، قال القاضي: وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق، فجعل سعيه هباءً منثوراً. وقلت: جعل المشبه حال المنفق أوفق لتأليف النظم؛ لأن هذه الآية مقابلة لقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ)، وله أن يقول: دلالته عليه على سبيل الإدماج لا ينافي ذلك لكن قوله: أشبههم، ينافيه. قوله: (شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته)، روي "افقر"، منصوباً ومرفوعاً، فالنصب: على أن يكون ظرفاً لقوله: "ضعف جسمه"، و"ما": مصدرية، والوقت مقدر والمضاف محذوف، أي: ضعف جسمه زمان أفقر أزمنته إلى جنته، على أن إسناد أفقر إلى الزمان نحو إسناد "صائم" في قوله: "نهاره صائم" إلى النهار. والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة لموصوف محذوف، المعنى: ضعف جسمه زماناً هو أفقر أزمنته إلى جنته، والإسناد أيضاً مجازي، وقيل: "أفقر": خبر "شيخ"، والجملة التي ساقها بيان لقوله: "مثل"، وفي الجملة في كلام الحسن ما يعقب به الكلام مقدر؛ لأن التقدير: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه وحصل في زمان هو أفقر ما كان إلى جنته فهلكت بالصاعقة تلك الجنة، فبقي متحيراً، وكذا التقدير: "أن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، فإذا كان يوم القيامة وجد تلك الأعمال محبطة فيتحسر عند ذلك" يدل عليه قوله تعالى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ).

فإن قلت: كيف قال: (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ثم قال: (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)؟ قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار؛ تغليباً لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات، ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها، كقوله: (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) [الكهف: 34] بعد قوله: (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) [الكهف: 32]. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ)؟ قلت: الواو للحال لا للعطف، ومعناه: أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن قلت: كيف قال: (جَنَّةٌ)؟ )، وجه السؤال أن النخيل والأعناب نوعنا من أنواع الأشجار المثمرة وداخلان تحت قوله: (لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فما وجه اختصاصهما بالذكر ثم إتباعهما بقوله: (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)؟ أجاب عنه بجوابين، أحدهما: أنه من باب التتميم على منوال الرحمن الرحيم، ذكر أولاً: ما هما أفضلا الجنس وأكملاه نفعاً، وأراد بهما جميع الجنس بالتغليب، ثم أردفهما بما يشتمل على الجنس ليكون كالتتمة والرديف لهما، ألا ترى كيف قال في (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): لما قال: الرحمن تناول جلائل النعم وعظائمها، أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها، وقال ها هنا: "ثم أردفهما" ذكر كل الثمرات صيانة للكلام عن توهم غير الشمول. وثانيهما: أنه من باب التكميل، فيكون ذكرهما من إطلاق أعظم الشيء على الشيء كله، فعلم من هذا: أن له جنة كثيرة الأشجار والأثمار ولم يعلم أن له فيها منافع أخر غيرهما فقيل له: (فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ليعلم أن له غيرهما، يدل عليه تنظيره بقوله: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) [الكهف: 34]، وفسره بقوله: "أي: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما" والله أعلم. قوله: (علام عطف قوله: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ)؟ ) يعني: أن الواو تستدعي معطوفاً عليه (أَنْ تَكُونَ) لا يصح أن يعطف عليه لكونه مضارعاً، وهذا ماض، وأجاب: أن الواو

وقيل يقال: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)]. (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ): من جياد مكسوباتكم، (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ) من الحب والثمر والمعادن وغيرها. فإن قلت: فهلا قيل: وما أخرجنا لكم؛ عطفاً على (ما كَسَبْتُمْ) حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت: معناه: ومن طيبات ما أخرجنا لكم، إلا أنه حذف؛ لذكر الطيبات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليست للعطف، بل للحال، وصاحبها: (أَحَدَكُمْ)، وقد: مقدرة، ويجوز أن تكون عاطفة على (أَنْ تَكُونَ) على تأويل الماضي؛ لأن التمني هو: طلب حصول ما لا يمكن حصوله، والماضي والمضارع سيان في ذلك، فكأنه قيل: لو كانت له جنة وأصابه الكبر، ونحوه في التقدير: قوله تعالى: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون: 10]، كأنه قيل: "تصدقت وكنت". قوله: (من جياد مكسوباتكم)، الراغب: الطيب يقال تارة باعتبار الحاسة، وباعتبار العقل أيضاً، والخبيث نقيضه، والأظهر أن المعني به ها هنا المعقول الذي ها هنا هو الحلال، والحقيقة: الطيب من الكسب: ما ليس فيه ارتكاب محظور واكتساب محجور، وتخصيص المكسوب لأن الإنسان بما يكسبه أضن به مما يرثه، وتخصيص (لَكُمُ) تنبيه أن المقصود بإيجاد هذه الأشياء نفع الإنسان ليبلغه إلى سعادة الدارين، ويجوز أن يتضمن مع ذلك: أن الذي تجب فيه الزكاة هو ما قصد به قوام الإنسان. قوله: (فهلا قيل: وما أخرجنا لكم؟ ) يعني: لو لم يترك لفظة "من" في (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا) ليكون عطفاً على ما كسبتم فيدخل المخرج من الأرض في حكم الطيبات؛ لأن المطلوب من

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ): ولا تقصدوا المال الرديء (مِنْهُ تُنْفِقُونَ): تخصونه بالإنفاق، وهو في محل الحال. وقرأ عبد اللَّه: (ولا تأمموا)، وقرأ ابن عباس: (ولا تيمموا) بضم التاء، ويممه وتيممه وتأممه سواء في معنى قصده. (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ): وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ): إلا أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه؛ إذا غضّ بصره. ويقال للبائع: أغمض أي: لا تستقص كأنك لا تبصر، وقال الطرمّاح: لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَلِلضَّيْـ ... ـمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالإِغْمَاضِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النفقة الطيبات، لقوله: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ)، والآن هو عطف على (مِنْ طَيِّبَاتِ)، فلا يدخل في حكمها؟ وأجاب: أن المضاف مقدر وهو الطيبات لوقوعه مقابلاً لقوله: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) فاستغنى ذلك عن ذكره، وفائدته الإيجاز مع التنبيه على استقلال كل من إنفاق طيبات مكسوبهم ومن إنفاق طيبات المخرج لهم في القصد. قوله: (وهو في محل الحال)، قال القاضي: ينفقون: حال مقدرة من فاعل (تَيَمَّمُوا)، والضمير في (مِنْهُ) للمال، أي: ولا تقصدوا الرديء من المال، ويجوز أن يتعلق (مِنْهُ) بـ (تُنْفِقُون)، ويكون الضمير للخبيث، والجملة: حال منه. قوله: (كأنك لا تبصر): إشارة إلى أن قوله: (إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا) استعارة تبعية واقعة على سبيل التمثيل، شبه حالة من تسامح في بيعه، ولا يستقصي في أخذ العوض، بحالة من رأى شيئاً يكرهه فيغمض عنه عينه. قوله: (لم يفتنا بالوتر) البيت. يقال: فاتني فلان بكذا، أي: سبقني، الجوهري: الموتور: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وتراً وترة، وكذلك وتره حقه، أي:

وقرأ الزهريّ: (تغمضوا)، وأغمض وغمض بمعنى، وعنه: (تغمضوا) بضم الميم وكسرها من غمض يغمض ويغمض. وقرأ قتادة: (تغمضوا) على البناء للمفعول بمعنى: إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. وقيل: إلا أن توجدوا مغمضين. وعن الحسن: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره؛ فنهوا عنه. [(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)]. أي: يعدكم في الإنفاق الْفَقْرَ ويقول لكم إنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا. وقرئ: (الفقر) بالضم، و (الفقر) بفتحتين. والوعد يستعمل في الخير والشر. قال اللَّه تعالى: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج: 72]. (وَيَأمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نقصه، يقول: لم يفتنا قوم عند طلب الثأر، بل ندركهم وننتقم منهم، والحال أن بعض الرجال يرضون بالإغماض عن بعض حقهم لضعفهم. قوله: (يعدكم في الإنفاق الفقر)، الراغب: المشهور عند العامة أن الفقر: الحاجة، وأصله: كسر الفقار، من قولهم: فقرته، نحو كبدته، وبهذا النظر سمي الحاجة والداهية فاقرة، والفقر أربعة: فقد الحسنات في الآخرة، وفقد القناعة في الدنيا، وفقد المقتنى، وفقدها جميعاً، والغنى بحسبه، فمن فقد القناعة والمقتنى فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ومن فقد القناعة دون القنية فهو الغني بالمجاز الفقير في الحقيقة، ومن فقد القنية دون القناعة فإنه يقال له: فقير وغني وقد ورد: "ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب"، فقوله: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ) قيل: فقر الآخرة، وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا نشور فلا ينفق. قوله: (الوعد يستعمل في الخير والشر)، قال الفراء: يقال: وعدته خيراً، ووعدته شراً،

ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب: البخيل. (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ) في الإنفاق (مَغْفِرَةً) لذنوبكم، وكفارة لها، (وَفَضْلًا): وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو: وثواباً عليه في الآخرة. [(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإن أدخلوا الباء في الشر جاؤوا بالألف. قوله: ((وَفَضْلاً): وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم). واعلم أن الآية فيها متقابلان: أحدهما جلي والآخر خفي، والجلي قوله: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)، ومن ثم فسر الأول بقوله: "يعدكم في الإنفاق الفقر"، والثاني بقوله: "وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم"، وأما الخفي فقوله: (وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، وقوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً)، وكما أن الأمر بالفحشاء إغراء برذيلة البخل، كذلك الوعد بالمغفرة حث على التمحيص عن الرذائل، ولهذا فسر الأول بقوله: "ويغريكم على البخل"، والثاني بقوله: "مغفرة لذنوبكم"، والذنب في هذا المقام هو: البخل، كما أن الفحشاء كذلك؛ لأن الكلام في الحث على الإنفاق والردع عن الإمساك، وأي رذيلة في المرء أردى من البخل! وإليه أومى صلوات الله عليه بقوله: "السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، ويؤيده تذييل الكلام بقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ): يوفق للعلم والعمل به. والحكيم عند اللَّه: هو العالم العامل. وقرئ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بمعنى: ومن يؤته اللَّه الحكمة، وهكذا قرأ الأعمش. و (خَيْراً كَثِيراً) تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتي أي خير كثير. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي: في معنى الإنفاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحكيم عند الله هو: العالم العامل)، كذا عن القاضي، قال الإمام: الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فقول إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء: 83] إشارة على العلم، ثم قوله: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83] إشارة إلى العمل، وقول عيسى عليه السلام: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ) [مريم: 30] إشارة إلى العلم، ثم قوله: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) [مريم: 31] إلى العمل، وقال تعالى لموسى عليه السلام: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا) [طه: 14] مشيراً إلى العلم، ثم قال: (فَاعْبُدْنِي) مشيراً إلى العمل، ثم عم جميع الأنبياء بقوله: (أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا) [النحل: 2] مريداً به العلم، وبقوله: (فَاتَّقُونِ) [النحل: 2] العمل، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم، ورجل حكيم: إذا كان ذا حجى ولب وصلابة رأي، فعيل بمعنى فاعل، ويقال: أمر حكيم، أي: محكم، فعيل بمعنى مفعول، فالحكمة لا تحصل إلا بموهبة الله ومتابعة الأنبياء والاستقامة عليها، إذ هي مأخوذة من مشكاة النبوة المقتبسة من أنوار القدس، وأن التفكر والعلم لا يفيد النفس استعداد قبولها ابتداء بل إن الله عز شأنه بفيضه الأقدس يجود بالاستعداد لأنفس الأنبياء وخواص متابعيهم فيفيض الحكمة عليهم، وفي قول المصنف: "الحكماء: العلام العمال" على المبالغة، بعد قوله: "والحكيم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الله هو: العالم العامل"، تنبيه على أن قوله: (أُوْلُوا الأَلْبَابِ) مظهر وضع موضع المضمر، وأن العاقل الكامل المتناهي هو الذي بالغ واجتهد في الجمع بين العلم والعمل وأتقن فيهما ورسخ بهما قدمه، وأما قوله: "والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق" إشارة إلى بيان التوفيق والنظم بين الآي، وأن المنفق في سبيل الله هو العالم الرباني والحكيم المحق، ومن فقد ذلك فقد حرم أن يسمى حكيماً، وبيانه- والعلم عند الله-: أن الله عز شأنه لما بالغ في أمر الإنفاق حين شرع في بيانه بضرب الأمثال والرجوع إليه مرة بعد أخرى كما سبق، أتى بعد ذلك بما عسى أن يمنع المكلف من الإنفاق من تسويل الشيطان وإغوائه النفس الأمارة خوف الفقر والإعدام، وتزيينه المعاصي والفواحش، فقال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، وقابل الخصلتين بما يقابلهما من الحسنتين بقوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)، ثم كمله بما هو العمدة فيه وهو قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المشتملة على سعة الإفضال ووفور العلم ليكون تمهيداً لذكر ما هو أجل المواهب وأسنى المطالب، وهو الحكمة، ليكون حثاً على ما تضمنت الآي من معنى الإنفاق، فعند ذلك تنبه الطالب لأمر خطير فاضطر إلى السؤال بلسان الحال: ليت شعري، هل أحد يتصدى لهذه المنقبة الشريفة والمنزلة الرفيعة؟ فنودي من سرادقات الجلال: من خصه الله تعالى بالحكمة ووفقه للعلم والعمل، ثم ذيل ذلك بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) تعريضاً لمن لا يتعظ بهذا البيان الشافي، المعنى: لا يذكر ذلك إلا من عرف الحكمة ورسخت قدماه فيها، لا من لا يرفع لها رأساً، فإنه في عداد الأنعام بل هم أضل سبيلاً، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) إيماء إلى معنى قوله صلوات الله عليه: "مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت بمكانها"، أخرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.

[(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)]. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في سبيل اللَّه أو في سبيل الشيطان، (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) في طاعة اللَّه أو في معصيته (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) لا يخفى عليه، وهو مجازيكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي، (مِنْ أَنْصارٍ): ممن ينصرهم من اللَّه ويمنعهم من عقابه. [(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)]. "ما" في "نعما" نكرة غير موصولةٍ ولا موصوفة. ومعنى (فَنِعِمَّا هِيَ): فنعم شيئاً إبداؤها. وقرئ بكسر النون وفتحها ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فنعم شيئاً إبداؤها) قال ابن جني في "الدمشقيات": قوله تعالى: (فَنِعِمَّا هِيَ) منصوبة لا غير لأنها ليست موصولة، والتقدير: نعم شيئاً إبداؤها، فحذف الإبداء وأقيم المضاف إليه مقامه، ألا ترى إلى قوله: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم والتذكير يدل على ما ذكرنا، واستعملت ما هنا غير موصولة ولا موصوفة لما فيها من الشياع. قوله: (وقرئ بكسر النون وفتحها)، أي: قرأ: "نعما" بالكسر مع إسكان العين: أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وقالون عن نافع. ومع كسرها: ابن كثير، ونافع برواية ورش، وعاصم في رواية حفص. وبالفتح مع كسر العين: الباقون. قال أبو البقاء: إسكان العين والميم مع الإدغام بعيد لما فيه من الجمع بين الساكنين، وقيل: إن الراوي لم يضبط القراءة؛ لأن القارئ اختلس كسر العين فظنه إسكاناً.

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ): وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ): فالإخفاء خير لكم. والمراد الصدقات المتطوّع بها، فإنّ الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل؛ لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل، والمتطوّع إن أراد أن يقتدى به كان إظهاره أفضل. (ونكَفِّر) قرئ بالنون مرفوعاً، عطفاً على محل ما بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأٍ محذوف، أي: ونحن نكفر، أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة؛ ومجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده؛ لأنه جواب الشرط. وقرئ: (ويكفر) بالياء مرفوعاً والفعل للَّه؛ أو للإخفاء، و (تُكفر) بالتاء مرفوعاً ومجزوماً، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء): عطف تفسيري لقوله: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ). قوله: (حتى إذا كان)، غاية العلة مع المعلول، وهي المجاهرة لنفي التهمة، وقوله: "والمتطوع": عطف على المزكي، ومعناه مقدر، وتقديره: وإنما كانت المسارة بالتطوع أفضل لعدم الرياء، حتى إذا كان المراد الاقتداء به كان إظهاره أفضل، فيكون من باب: علفتها تبناً وماء بارداً. قوله: ("ونكفر" قرئ بالنون مرفوعاً)، نافع وأبو عمرو وابن كثير، وبالياء: ابن عامر وحفص. قوله: (أي: ونحن نكفر)، فالجملة معطوفة على جملة قوله: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وهو مثل الأول، ويجوز أن يكون (وَيُكَفِّرُ) جملة من فعل وفاعل مبتدأة، أي: منقطعة منفصلة

والفعل للصدقات، وقرأ الحسن رضي اللَّه عنه بالياء والنصب بإضمار "أن"، ومعناه: إن تخفوها يكن خيراً لكم، وأن يكفر عنكم. [(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)]. (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ): لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب، (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ): يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه، فينتهى عما نُهي عنه. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ): من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ): فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم. (وَما تُنْفِقُونَ): وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه اللَّه ولطلب ما عنده، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى اللَّه. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من خبر الجزاء، فتكون معطوفة على جملة الشرط والجزاء، المعنى: ليحصل منكم إبداء الصدقات وإخفاؤها، ومنا تكفير ذنوبكم. قوله: (والفعل للصدقات) أي: الإسناد يكون مجازياً. قوله: (يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه)، مذهبه، وأهل السنة على أن الهداية من الله وبمشيئته فيختص بها قوماً دون قوم. قوله: (وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله تعالى). (وَمَا تُنفِقُونَ): معطوف على قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أو: حال، قال القاضي: يجوز أن يكون حالاً، كأنه قال: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله، قلت:

ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. وقيل: حجت أسماء بنت أبى بكر رضي اللَّه عنهما فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها، فنزلت. وعن سعيد بن جبير: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين. وروي: أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم. وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق اللَّه لكان لك ثواب نفقتك. واختلف في الواجب: فجوز أبو حنيفة رحمة الله عليه، صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره. [(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) 273]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأوجه هذا؛ لأن قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) عطف على الجملة الشرطية مع الحال، وهي "ما تنفقوا"، يعني: النفقة الراجع نفعها إلى المنفق حين كانت خالصة لوجه الله هي التي توفى إلى صاحبها بالتمام والكمال من غير ظلم ونقص، وأما قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) فهو عطف على (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ)، وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) اعتراض. قوله: (وأن يكون على أحسن الوجوه) عطف على قوله: "إنفاقه" لا على "أن ترغبوا". قوله: (أن يرضخوا). الرضخ: العطاء القليل، الجوهري: الرضخ مثل الرضح، رضخت الحصى والنوى: كسرته، ورضخت له رضخاً وهو العطاء ليس بالكثير، وفي الحديث: "أمرت له برضخ". كانوا يكسرون النوى ويأخذون عليه الأجرة ويصرفونها في النفقة.

الجار متعلق بمحذوف، والمعنى: اعمدوا الفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء كقوله تعالى: (فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل: 12]، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: صدقاتكم للفقراء، (والَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هم الذين أحصرهم الجهاد، (لا يَسْتَطِيعُونَ)؛ لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ)؛ للكسب. وقيل: هم أصحاب الصفة؛ وهم نحو من أربع مئة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته- يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: وقف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة». (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ): مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة. (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من صفرة الوجه ورثاثة الحال. والإلحاف: الإلحاح وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الجار متعلق بمحذوف)، الراغب: قيل: هو بدل البعض من قوله: (فَلأَنفُسِكُمْ) أي: أهل دينكم، فصار الفقراء بعضهم، وقيل: متعلق بقوله: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي: ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلى الله، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء فلم يقصد به إلا وجه الله. قوله: (مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة)، الراغب: العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، وأصله

فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إنّ اللَّه تعالى يحبّ الحيىّ الحليم المتعفف، ويبغض البذىّ السآل الملحف»، ومعناه: أنهم إن سألوا سألوا بتلطفٍ ولم يلحوا. وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف جميعاً، كقوله: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ يريد نفى المنار والاهتداء به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفاف، والعفة، أي: البقية من الشيء، أو: مجرى العفف، وهو ثمر الأراك. قوله: (ويبغض البذيء). البذيء: البذاء بالمد: الفحش، فلان بذيء اللسان، والمرأة: بذيئة. قوله: (سألوا بتلطف ولم يلحوا) يحتمل أن يراد أن (إِلْحَافاً): منصوب على المصدر؛ لأن السؤال بالتلطف نوع منه أو على الحال. قوله: (على لاحب لا يهتدى بمناره)، تمامه من رواية الزجاج: إذا سافه العود الديافي جرجرا قال الزجاج: المعنى: ليس لها منار فيهتدى بها، وكذلك ليس من هؤلاء السؤال فيقع منه إلحاف. تم كلامه. اللاحب: الطريق الواضح، والسوف: الشم، والعود: الجمل المسن، والدياف: قرية يسكنها النبط، وهو زارع العرب، جرجرا، أي: صوت، وقيل: أوله: سدى بيديه ثم أج بسيره

[(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)]. (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة؛ لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقتٍ ولا حال. وقيل: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضى اللَّه عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينارٍ: عشرةً بالليل، وعشرةً بالنهار، وعشرةً في السرّ، وعشرة في العلانية. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: نزلت في علىّ رضى اللَّه عنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السدو: مد اليد نحو الشيء، والمراد: تذرع الناقة بيديها واتساع خطوها، وأج الظليم يأج أجاً: عدا، قال الإمام: القول الأول وهو: أن يسألوا بتلطف ولم يلحوا ضعيف؛ لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال بقوله: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ)، ثم قال: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، وذلك ينافي صدور السؤال عنهم. يريد أنه من باب التقسيم الحاصر؛ لأن الناس من بين عارف بأحوالهم وجاهل بها، فإذا انتفى شعورهما انتفى السؤال بالكلية. وقلت: هذا مقام يفتقر إلى فضل بسط ومزيد بيان. واعلم أن الشيء الذي يراد نفيه: إما أن ينفى مطلقاً أو مع التأكيد، بأن ينفى مع وصفه، كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفي البيع وحده وأن عنده كتاباً إلا أنه لا يبيعه، أو نفيهما جميعاً وأن لا كتاب عنده ولا كونه مبيعاً، ذكره في حم المؤمن، وما نحن بصدده من القبيل الثاني، لوجود عدم السؤال من القرينة السابقة؛ لأنها دافعة لدليل الخطاب، كما أن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران: 130] دافع دليل خطابه خصوص السبب، إذ

وقيل: نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل اللَّه. وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية. [(الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) 275 - 276]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لو ذهبنا إلى دليل الخطاب لزم التناقض بين السابق واللاحق، وهو نوع من أنواع الكنايات، وفائدة انضمام هذه القرينة مع الأولى ومجيء الإلحاف المنفي فيها: المبالغة والتوكيد في نفي السؤال، فهي كالتذييل أو التتميم، ولها طريقان، أحدهما: جيء بها مشتملة على نفي التابع بالمتبوع ليؤذن بأن المتبوع بلغ في الانتفاء إلى درجة يصح جعله دليلاً على نفي الغير، فيلزم بذلك نفيه على سبيل القطع والبت، قال المصنف في قوله تعالى: (وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ): الفائدة في ذكر الصفة ونفيها هي أن تضم الصفة مع الموصوف ليقام انتفاء الموصوف في مقام الشاهد على انتفاء الصفة، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. وثانيهما: أتى بالقرينة الثانية متضمنة للتابع والمتبوع ليكون انتفاء التابع ذريعة إلى انتفاء المتبوع بالطريق الأولى، وهذا إنما يتأتى فيما فيه الوصف في الدرجة القصياء في بابه كالإلحاح فيما نحن فيه، فنقول: ليس لهم سؤال في حالة الاضطرار، وانتفاؤه في غيرها بالطريق الأولى، أي: لو وجد منهم سؤال لم يكن إلا على ذلك التقدير؛ لأن المضطر له ذلك، وأولئك لا يسألون أيضاً هذا السؤال عند الاضطرار، فأفاد أنهم يشرفون على الهلاك ولا يسألون، فظهر من هذا قوة إيراد الإمام، اللهم إلا أن يقال: إن المراد إثبات السؤال على الفرض والتقدير ومن ثم جاء بـ "إن"، التي للشك، وليس بقوي أيضاً، وقال أبو البقاء: (لا يَسْأَلُونَ): حال، ويجوز أن يكون مستأنفاً، و (إِلْحَافاً): مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه (يَسْأَلُونَ)، فكأنه قال: لا يلحفون، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون ملحفين.

(الربا) كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها؛ تشبيهاً بواو الجمع. (لا يَقُومُونَ) إذا بعثوا من قبورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ)، أي: المصروع. وتخبط الشيطان من زعمات العرب؛ يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والخبط: الضرب على غير استواءٍ كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس: الجنون، ورجل ممسوس. وهذا أيضاً من زعماتهم، وأن الجنيَّ يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل، معناه: ضربته الجنّ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. فإن قلت: بم يتعلق قوله: (مِنَ الْمَسِّ)؟ قلت: بـ (لا يقومون)، أي: لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع، ويجوز أن يتعلق بـ (يقوم)، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من زعمات العرب). قال الجبائي: لأن حقيقة المس والصرع من الشيطان باطل؛ لأن قدرته ضعيفة لا يقدر على مثل ذلك، ولقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [إبراهيم: 22 ي، وقال القفال: الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان فخوطبوا على ما تعارفوا. الانتصاف: هذا من تخبيط الشيطان لمن ينكر، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من وجود الجن وتعرضهم للإنسان. قوله: (ورأيتهم لهم في الجن قصص). قصص: مبتدأ، و"لهم": خبره، والجملة: حال إن كان "رأى" بمعنى: أبصر، ومفعول ثان إن كان بمعنى: علم.

أي: كما يقوم المصروع من جنونه، والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه اللَّه في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض. (ذلِكَ) العقاب بسبب قولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا). فإن قلت: هلا قيل: إنما الربا مثل البيع؛ لأنّ الكلام في الربا لا في البيع؛ فوجب أن يقال: إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهماً بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهماً بدرهمين! قلت: جيء به على طريق المبالغة؛ وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع، وقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص؛ لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال اللَّه وتحريمه. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ من اللَّه وزجر بالنهي عن الربا (فَانْتَهى): فتبع النهى وامتنع، (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤخذ بما مضى منه؛ لأنه أخذ قبل نزول التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به. (وَمَنْ عادَ) إلى الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مخبلين)، النهاية: الخبل، بسكون الباء: فساد الأعضاء، يقال: خبل الحب قلبه: إذا أفسده. قوله: (يوفضون)، الجوهري: ألوفض: العجلة، وأوفض واستوفض: أسرع. قوله: (على طريق المبالغة). هذا يسميه ابن الأثير في البيان بالطرد والعكس؛ لأن حق المشبه به أن يكون أعرف بجهة التشبيه وأقوى، فإذا عكس صار المشبه أقوى من المشبه به. وهو المراد بقوله: "إنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل".

وهذا دليل بين على تخليد الفساق. وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقى، أو لأنها في معنى الوعظ. وقرأ أبيٌّ والحسن: (فمن جاءته). (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا): يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعودٍ رضي اللَّه عنه: الربا وإن كثر إلى قلّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا دليل بين على تخليد الفساق) يعني: أن قوله: (الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا) عام في الكفار والفساق، وكذا قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، وكذا (وَمَنْ عَادَ)، وأن قوله: (فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وَمَنْ عَادَ) مترتب عليه، فوجب أن يدخلوا في حكم هذا الوعيد. الانتصاف: مفعول (وَمَنْ عَادَ) محذوف، ولا نسلم أن المراد العود إلى الربا، بل عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد حله والاحتجاج عليه بقياس في معرض النص، ومن فعل ذلك كفر. قال الإمام: المراد: ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً، فعلى هذا قوله: (فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مخصوص بهؤلاء، أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه، وهذا التقدير مشترك الإلزام؛ لأن تخصيص الخلود لهؤلاء على ما ذهبتم يفيد أن حكم غير هؤلاء من الفساق غير هذا فيلزمكم خلاف الظاهر أيضاً. وقلت: ويقوي قول صاحب "الانتصاف": أن الضمير في (فَانتَهَى) و (عَادَ) راجع إلى مجموع آكلي الربا والقائل باستحلاله، ولأن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) إلى قوله: (وَلا تُظْلَمُونَ) وارد في المؤمنين، وهو مقابل لهذه الآيات، فوجب حملها على الكفار ليصح التضاد والتقابل، فيكون قوله: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) مجرى على ظاهره، فلا يحمل على التغليظ كما ذهب إليه المصنف، ويؤيده وضع المظهر، وهو (كَفَّارٍ) موضع ضمير (وَمَنْ عَادَ) إشعاراً بأن العائد إلى الاستحلال مبالغ في الكفر عامة، ولذلك أوثر صيغة "فعال". قوله: (وعن ابن مسعود: الربا وإن كثر إلى قل)، والمذكور في "مسند الإمام أحمد بن حنبل":

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة، ويبارك فيه. وفي الحديث: «ما نقصت زكاة من مال قط». (كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) تغليظ في أمر الربا، وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)]. أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها. وروي: أنها نزلت في ثقيف، وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا. وقرأ الحسن: (ما بقي) بقلب الياء ألفاً على لغة طيئ، وعنه: (ما بقي) بياءٍ ساكنة، ومنه قول جرير: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "فإن عاقبته تصير إلى قل"، وفي الحديث: "ما نقصت زكاة من مال قط"، روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، إن كنت لحالفاً عليهن: لا ينقص مال من صدقة، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا رفعه الله بها عزاً، ولا يفتح عند باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر".

هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمُ ... مَاضِى الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن صح إيمانكم، يعني: أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو الخليفة فارضوا) البيت، قوله: "ما رضي" بياء ساكنة، ماضي العزيمة: أي: مجد في الأمور، والجنف: الميل. قوله: (يعني أن دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به)، يريد أن قوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط جزاؤه ما دل عليه، قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا) جيء به مؤكداً للأمر بالتقوى، ثم الظاهر أنه إن قدر: يا أيها الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم، يكون المعنى: اعلموا أن دليل ثباتكم على إيمانكم امتثال ما أمر الله به، وترك الربا من ذلك، وإن قدر: يا أيها الذين آمنوا حقيقة، يكون المعنى: اعلموا أن دليل ثباتكم على الإيمان امتثال ما أمرتم به من ذلك، ويؤيد الثاني أن هذه الآية واردة في المؤمنين الخلص لأنها مقابلة لقوله: (الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا)، وهي في الكفار كما سبق، وأما قوله تعالى: (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فمن باب التغليظ. قوله: (من ذلك) هو بيان "ما أمرتم به"، والمشار إليه بقوله: "ذلك" الأمران، أعني: (اتَّقُوا)، و"ذروا"، المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن كنتم صادقين في الإيمان فاعلموا أن دليل صدقكم وثباتكم امتثال ما أمرتم به من التقوى وترك الربا. الراغب: سماهم مؤمنين في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لإقرارهم بالإيمان، ثم بين بقوله: "إن كنتم مؤمنين" أن من شرط الإيمان التزام أحكامه، أي: إن كنتم مؤمنين فلابد من التزام ذلك، وقال مقاتل: معنى (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): إذ كنتم مؤمنين، ووجهه أن "إن" مترددة فيما يتحقق وقوعه وفيما لا يتحقق، وإذ قال فيما كان معلوماً وقوعه فبين أن "إن" ها هنا لم تكن لوقوع شبهة في إيمانهم. وقلت: وسيجيء تمام تقريره في سورة الممتحنة.

(فأذَنُوا بِحَرْبٍ): فاعلموا بها، من أذن بالشيء؛ إذا علم به. وقرئ: (فآذنوا): فأعلموا بها غيركم، وهو من الأذن وهو الاستماع؛ لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن: (فأيقنوا) وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت: هلا قيل: بحرب اللَّه ورسوله! قلت: كان هذا أبلغ؛ لأن المعنى: فأذنوا بنوعٍ من الحرب عظيم عند اللَّه ورسوله. وروي: أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يديْ لنا بحرب اللَّه ورسوله. (وَإِنْ تُبْتُمْ)، من الارتباء. (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) المديونين بطلب الزيادة عليها، (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان منها. فإن قلت: هذا حكمهم إن تابوا فما حكمهم لو لم يتوبوا؟ قلت: قالوا: يكون مالهم فيئاً للمسلمين. وروى المفضل عن عاصمٍ: (لا تُظْلَمون ولا تَظْلِمون). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ)) ساكنة الهمزة مفتوحة الذال قراءة العامة سوى حمزة وأبي بكر فإنهما قرآ ممدودة مكسورة الذال، أي: فأعلموا بها غيركم. قوله: (لا يدي لنا)، أي: لا طاقة لنا، النهاية: ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان، أي: لا طاقة لي به؛ لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليد، فكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه. قوله: (يكون مالهم فيئاً للمسلمين)، هذا إنما يصح إذا كان الخطاب مع الكفار المستحلين للربا، وهم الذين قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، وليس كذلك؛ لأن الخطاب مع المؤمنين لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) كما سبق، فحكمهم إن كانوا ذوي الشوكة حكم الفئة الباغية في أن مالهم لا يكون فيئاً، كما فعل علي رضي الله عنه، وإن لم يكونوا كذلك عزروا إلى أن يتوبوا.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ): وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار. وقرأ عثمان رضي اللَّه عنه: (ذا عسرة) على: وإن كان الغريم ذا عسرة، وقرئ: (ومن كان ذا عسرة). (فَنَظِرَةٌ): فالحكم، أو: فالأمر نظرة؛ وهي الإنظار. وقرئ: (فنظرة) بسكون الظاء. وقرأ عطاء: (فناظره) بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب وباقل، أي: ذو عشب وذو بقل؛ وعنه: (فناظره)؛ على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة وياسره بها. (إِلى مَيْسَرَةٍ) إلى يسار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة). قال الإمام: الفرق بين كان إذا كانت تامة وبينها أن تكون ناقصة، أن التامة بمعنى حدث ووجد الشيء، والناقصة بمعنى وجد موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيد عالماً فمعناه: حدث موصوفية زيد بالعلم في الزمان الماضي. الراغب: قيل: هي ناقصة، أي: "وإن كان ذو عسرة غريماً لكم"، فحذف لدلالة الكلام عليه، وهذا أجود؛ لأن كان التامة أكثر ما يتعلق بها الأحداث دون الأشخاص نحو: كان الخروج، كقولك: اتفق الخروج، ولا تقول: كان زيد واتفق زيد. قوله: (على طريق النسب)، أي: يجعل النظر حرفة لنفسه وعادته حثاً عليها، روينا عن مسلم والدارمي، عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنظر معسراً أو وضع عنه، أنجاه الله من كرب يوم القيامة".

وقرئ بضم السين، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله: وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا وقوله تعالى: (وَأَقامَ الصَّلاةَ) [النور: 37]. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة: 237]. وقيل: أريد بالتصدق الإنظار؛ كقوله صلى اللَّه عليه وسلم: «لا يحل دين رجلٍ مسلمٍ فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة». (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خيرٌ لكم فتعملوا به، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بضم السين)، أي: ميسرة: نافع، والباقون بالفتح. قوله: (وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا)، أوله: بان الخليط بسحرة فتبددوا الخليط: الذي يخالطك في ماله وذات يده، وهو بمعنى الجمع عد الأمر، أي: عدة الأمر، فحذف الهاء عند الإضافة، قيل: ليس هذا المصراع منه لأنه من وزن آخر، وقيل: أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا، انجرد السير: إذا امتد وطال. قوله: (وقيل: أريد بالتصدق: الإنظار)، قال الإمام: هذا القول ضعيف؛ لأن الإنظار قد علم مما قبل، فلابد من حمله على فائدة جديدة. ويؤيده ما روينا في حديث أبي قتادة عن مسلم: "أو وضع عنه". قوله: (فيؤخره) روي نمصوباً، قيل: بالرفع أجود للمبالغة أي: فإنه يؤخره.

وقرئ: (تصدّقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء. (تُرْجَعُونَ) قرئ على البناء للفاعل والمفعول، وقرئ: (يرجعون) بالياء على طريقة الالتفات، وقرأ عبد اللَّه: (تردّون)، وقرأ أبيّ: (تصيرون إلى الله). وعن ابن عباس: أنها آخر آيةٍ نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المئتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً، وقيل: أحداً وثمانين، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَابَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَابَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (تَصَدَّقُوا)، بتخفيف الصاد): عاصم، والباقون: بتشديدها. قوله: ("ترجعون"، على البناء للفاعل): أبو عمرو، والباقون: على البناء للمفعول، و"يرجعون" بالياء: شاذ. قوله: (أنها آخر آية نزلت) عن البخاري، عن ابن عبا: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وعن الدارمي وابن ماجة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن آخر آية نزلت آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.

أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)]. (إِذا تَدايَنْتُمْ): إذا داين بعضكم بعضاً. يقال: داينت الرجل؛ عاملته (بِدَيْنٍ) معطياً أو آخذاً، كما تقول: بايعته؛ إذا بعته أو باعك. قال رؤبة: دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى! وأي حاجةٍ إلى ذكر الدين كما قال: "داينت أروى"، ولم يقل: بدين؟ قلت: ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله (فَاكْتُبُوهُ)؛ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (داينت أروى) البيت، أروى: اسم المحبوبة، والمطل: مدافعة الدين. قوله: (لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين)، وفيه إشكال، إذ من الجائز أن يقال: فاكتبوها، والضمير لمصدر المداينة، وأجاب الإمام: أن المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين، وهو باطل بالاتفاق، فجيء بالدين ليصير المعنى: إذا تعاملتم بدين كما قدره المصنف، فلو رجع الضمير إلى مصدر تداينتم لزم المحذورات.

فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ. فإن قلت: ما فائدة قوله: (مُسَمًّى)؟ قلت: ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: أنه لما عقب تداينتم بقوله: (فَاكْتُبُوهُ) ذكر لفظ الدين ليبين أنه الذي حث على كتبه، وكتبته واجبة عند الربيع وبعضهم، وقيل: هو في السلم خاصة، وحقيقة الأمر حث على غاية ما يكون في ذلك من الاحتياط، فإن الكتاب خليفة اللسان، واللسان خليفة القلب، قال أيضاً: جمع في قوله: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) بين اللفظين، وقدم لفظة "الله" ليؤذن بأن مراقبة ذاته أشرف من اعتبار التربية والإنعام، كأنه قيل: إن لم تلاحظوه فلاحظوا نعمه اللازمة. وقال القاضي: وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إن التداين يمكن أن يستعمل في المجازي كما في بيت رؤبة، فذكر دفعاً لتوهم المجاز، فيكون ذكره تحقيقاً لأن يكون ذلك في التعامل بالدين، وقلت: معنى كلامه على أن المقصود من ذكر الدين التأكيد، ليكون على وزان قولك: قبضته بيدي ورأيته بعيني لئلا يتوهم المعنى المجازي. قوله: (فلم يكن النظم بذلك الحسن)، وذلك أن المراد بالتداين إما: بيع الدين بالدين، فحينئذ لم يتجاوب آخر الكلام أوله، أو أن أصل الكلام كما قدره: "إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه"، فإذا حذف (بِدَيْنٍ) لم يكتب مؤدى تداينتم: تعاملتم إلا بالتكلف، فلا يحسن ذلك الحسن، ولأنه يفوت غرض التكرير بعود الضمير. وقال صاحب "الفرائد": إنما ذكر (بِدَيْنٍ) ليعلم أن الكتابة مندوبة بأي دين كان، قليلاً أو كثيراً. قوله: (أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال)، وذلك أن التنكير فيه يدل على الشيوع، فجيء بالاسم الحامل له ليدل على العموم ولو لم يذكر لم يفد هذا المعنى.

كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج؛ لم يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم، وقال: لما حرم اللَّه الرّبا أباح السلف. وعنه: أشهد أن اللَّه أباح السلم المضمون إلى أجلٍ معلومٍ في كتابه، وأنزل فيه أطول آية. (بِالْعَدْلِ) متعلق بـ (كاتب) صفة له، أي: كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالماً بالشروط، حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها ديناً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لعدم التسمية) أي: التعيين؛ لأن مفهوم (إِلَى أَجَلٍ) شامل للأشهر والسنين والحصاد والدياس، فجيء بالمسمى ليدل على المعين، فلو دخل فيه مثل الدياس لبقي على ما كان ولم يفد المسمى شيئاً، يقال: داس يدوس، وهو أن يدق الطعام ليخلص البر من التبن. الانتصاف: الحصاد مضبوط بالعرف، وأجاز مالك البيع إلى الحصاد، والمعتبر زمن وقوع ذلك لا وقوعه. الإنصاف: هذا بعيد؛ لأن زمن الحصاد لا يتحقق بيوم معين وإن تحقق في فصل وشهر. قوله: ((بِالْعَدْلِ) متعلق بـ (كَاتِبٌ))، المراد بالتعلق: أن يكون متمماً لما تتعلق به صفة، قال أبو البقاء: هو متعلق (وَلْيَكْتُبْ)، أي: ليكتب بالحق، ويجوز أن يكون: وليكتب عادلاً، وقيل: هو متعلق بـ (كَاتِبٌ) أي: كاتب موصوف بالعدل أو مختار. قوله: (وفيه) يشير إلى أن الكلام مسوق لمعنى ومدمج فيه معنى آخر، يعني: دل إشارة

(وَلا يَأبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب، وهو معنى تنكير (كاتب)، (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ): مثل ما علمه اللَّه كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص: 77]، أي: ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللَّه بتعليمها. وعن الشعبي: هي فرض كفاية. و (كما علمه اللَّه) يجوز أن يتعلق بـ (أن يكتب)، وبقوله: (فليكتب) فإن قلت: أي: فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بـ (أن يكتب)؛ فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له: (فَلْيَكْتُبْ)، يعنى فليكتب تلك الكتابة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النص وتقييد الكاتب بالعدل على إدماج معنى الفقاهة؛ لأن مراعاة العدل والسوية من الأمور الخطيرة فلا يتمكن منها إلا الفقيه الكامل العالم بكتابة الشروط والصكوك. قوله: (وقيل: هو كقوله تعالى: (وَأَحْسَنُ)): عطف على قوله: "مثل ما علمه الله كتابة الوثائق"، ويجوز على هذا التفسير أن يحمل الكاتب الثاني على الأول، على أن كرر "كاتب" ليناط به من زيادة لم تنط به أولاً، وهو معنى الاستحماد على ما أولى من نعمة التعليم، وهو المراد من قوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وفيه إشعار بتعظيم أمر الكتابة، وعلى الأول يحمل على غيره، وهو الأصل لأن النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى فيحمل الكاتب الثاني على الجنس؛ لأن الأول نوع منه مقيد بصفة العدالة، وإلى الجنس إلإشارة بقوله: (ولا يمتنع أحد من الكتاب). قوله: (هي فرض كفاية). قال الزجاج: هذا أدب من الله تعالى وليس بأمر حتم كما قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2]. وقال القاضي: (فَاكْتُبُوهُ) ظاهر في الوجوب؛ لأنه أوثق وأدفع للنزاع، والجمهور على أنه استحباب.

لا يعدل عنها؛ للتوكيد. وإن علقته بقوله (فليكتب)؛ فقد نُهي عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال: لغتان قد نطق بهما القرآن: (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) [الفرقان: 5]. (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ): من الحق (شَيْئاً). والبخس: النقص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للتوكيد) يتعلق بقوله: "ثم قيل له: (فَلْيَكْتُبْ) " يعني: نهى أولاً عن الإباء عن الكتابة المتصفة، ثم أمر بالكتابة المطلقة بقوله: (فَلْيَكْتُبْ)، فيحمل على المقيد تأكيداً. قوله: (ثم أمر بها مقيدة). قيل: إنما لم يقل في هذا الوجه: للتوكيد؛ لأن النهي عن امتناع مطلق الكتابة لا يدل على الأمر بالكتابة المخصوصة، فخصص بالكتابة الشرعية حيث لم يدل عليه النهي فلا يكون للتأكيد، ويمكن أن يقال: إن التأكيد إنما يحصل من التكرير، فإذا نهى عن امتناع مطلق الكتابة دخل في النهي امتناع الكتابة الشرعية ضمناً، ثم أمر بها صريحاً، كان أقوى مما أمر أولاً مقيداً؛ لأن الشيء بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب. قوله: (وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق). الحصر مستفاد من تعليق الحكم بأحد وصفي الذات لأنه عدول عن المديون إلى الذي عليه الحق؛ لأن المديون هو الأصل لقوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ)، وليست الفائدة إلا ما ذكره، ونحوه: "مطل الغني ظلم"، ولأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، والأصل نفي علة أخرى، ومن ثم علل الحصر بقوله: "لأنه هو المشهور على ثباته في ذمته"، ومعنى الاختصاص الذي يعطيه ضمير الفصل في هذه العلة نحو معنى تقديم الخبر على المبتدأ في تلك العلة، وهو (عَلَيْهِ الْحَقُّ)، والحاصل: أن العدول من المديون إلى الذي عليه الحق للحصر، وتقديم الخبر علة الحصر، هذا على أصولنا ظاهر، والمصنف كثيراً يميل إلى العمل

وقرئ (شيا)، بطرح الهمزة: وشيا، بالتشديد سَفِيهاً محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف، (أَوْ ضَعِيفاً): صبياً، أو شيخاً مختلاً. _أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ): أو غير مستطيع للإملاء بنفسه؛ لعيّ به أو خرس، (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيهاً أو صبياً، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمانٍ يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى: (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) فيه أنه غير مستطيع بنفسه، ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ): واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين (مِنْ رِجالِكُمْ): من رجال المؤمنين، والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالمفهوم في كتابه هذا، وعلى هذا تقع الفاء في قوله: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) في حجره، وفي تكرير (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ووضعه موضع المضمر إشعار بمزيد اعتبار الوصف. قوله: (و"شياً" بالتشديد): حمزة وهشام عند الوقف. قوله: (مختلاً)، الجوهري: الخل: الرجل النحيف المختل الجسم. قوله: (أو ترجمان): عطف على "وكيل لا وصي"، ولقائل أن يقول: فسر السفيه بالمحجور عليه، والضعيف بالصبي والشيخ المختل وغير المستطيع بمن له العي والخرس، ثم خص الوصي بالسفيه والصبي، والوكيل والترجمان بغير المستطيع، وترك الشيخ المختل مهملاً، والجواب: أن الضعيف لما اشتمل على الصبي والشيخ، وأدخل القسم الأول منه في حكم الوصي، ينبغي أن يدخل الثاني منه في حكم الوكيل، وإنما لم يذكره لظهوره. قوله: (فيه أنه غير مستطيع بنفسه) يعني: أدمج في سياق الكلام معنى التأكيد بأن أكد الضمير الفاعل المستكن بالمرفوع لرفع التجوز. قوله: ((مِنْ رِجَالِكُمْ) من رجال المؤمنين)، الراغب: قال بعضهم: تقتضي هذه الإضافة الإيمان والحرية والبلوغ والذكورة، وتقتضي (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) العدالة.

وعن علي رضى اللَّه عنه: لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتىّ أنها جائزة. ويجوز عند أبي حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعضٍ على اختلاف الملل. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا): فإن لم يكن الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ): فليشهد رجل وامرأتان. وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبي حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ): ممن تعرفون عدالتهم. (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما): أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق، إذا لم يهتد له، وانتصابه على أنه مفعول له، أي: إرادة أن تضل. فإن قلت: كيف يكون ضلالها مراداً للَّه تعالى؟ قلت: لما كان الضلال سبباً للإذكار، والإذكار مسبباً عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه. وقرئ: (فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. و (فتذاكر). وقرأ حمزة: (إن تضل إحداهما) على الشرط (فتذكر) بالرفع والتشديد، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشهادة النساء)، أي: شهادة النساء مقبولة عند الشافعي رضي الله عنه في الأموال فقط، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه فيما عدا الحدود والقصاص. قوله: (وقرأ حمزة: "إن تضل") أي: بكسر الهمزة، والباقون: بفتحها، "فتذكر" برفع الراء: حمزة مشدداً، وابن كثير وأبو عمرو: بنصبها مخففاً، والباقون: بالنصب على التشديد، قال

كقوله: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) [المائدة: 95]، وقرئ: (أن تضل إحداهما) على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير: (فتذكر) فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر. (إِذا ما دُعُوا) ليقيموا الشهادة ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزجاج: فمن كسر فالكلام على الجزاء، والمعنى: إن تنس إحداهما تذكرها الذاكرة فتذكر، وقال: وزعم سيبويه والخليل والمحققون: أن المعنى: استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى، قال سيبويه: فإن قيل: فلم جاز (أَنْ تَضِلَّ) وإنما أعد هذا للإذكار؟ فالجواب عنه: أن الإذكار لما كان سببه الإضلال جاز أن يذكر (أَنْ تَضِلَّ)؛ لأن الإضلال هو السبب الذي به وجب الإذكار، قال: ومثله: أعددت هذا أن يميل الحائط فأدعمه، وإنما أعددته للدعم لا للميل، ذكر الميل لأنه سبب الدعم، كما ذكر الإضلال لأنه سبب الإذكار، وهذا هو البين. تم كلامه. قال أبو البقاء: معنى المثال: لأدعم بالخشبة الحائط إذا مال، فكذلك الآية، معناها: لأن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. قوله: ((وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ))، أي: من عاد فهو ينتقم، المعنى: فهي تذكر إحداهما، والضمير المحذوف: للشهادة، أي: فالشهادة تذكر تذكرها إحداهما الأخرى والأولى أن الضمير للذاكرة و (إِحْدَاهُمَا): مظهر وضع موضع المضمر، وهذا مطرد في جميع المواضع التي يذكر فيها الشرط فيرفع جزاؤه مع الفاء.

وقيل: ليستشهدوا. وقيل لهم: شهداء قبل التحمل، تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة: كان الرجل يطوف الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. كني بالسأم عن الكسل، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث: "لا يقول المؤمن كسلت"، ويجوز أن يراد: من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتاباً، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في (تَكْتُبُوهُ) للدين، أو الحق، (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) على أي حالٍ كان الحق من صغرٍ أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب، و (أن يكتبوه) مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته. (إِلى أَجَلِهِ): إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته (ذلِكُمْ) إشارة إلى) أن تكتبوه)؛ لأنه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب (أَقْسَطُ): أعدل، من القسط، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ): وأعون على إقامة الشهادة (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا): وأقرب من انتفاء الريب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الحواء العظيم)، الجوهري: الحواء: جماعة بيوت من الناس مجتمعة، والجمع الأحوية. قوله: (كني بالسأم عن الكسل)، يعني: أراد أن يقول: لا تكسلوا أن تكتبوا صغيراً أو كبيراً، فقال: لا تسأموا؛ لأن من لا يشرع في الشيء لا يقال له: مل، بل يقال: كسل، وإنما عدل لأن لفظ الكسل مما يوحش لأنه من صفات النمافقين، ويجوز أن يحمل الملال على حقيقته لكن إذا كثرت مدايناته. قوله: (من القسط)، الجوهري: القسط، بالكسر: العدل، تقول منه: أقسط الرجل فهو مقسط، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42]، والقسوط: الجور، والعدول

فإن قلت: مِمَّ بني أفعلا التفضيل؟ أعني: أقسط وأقوم. قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط، وأقوم من قويم. وقرئ: (ولا يسأموا أن يكتبوه) بالياء فيهما. فإن قلت: ما معنى (تِجارَةً حاضِرَةً)؟ وسواء أكانت المبايعة بدينٍ أو بعينٍ فالتجارة حاضرة، وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت: أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم: تعاطيهم إياها يداً بيد، والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد، فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ: (تجارة حاضرة) بالرفع على "كان" التامّة. وقيل: هي الناقصة على أنّ الاسم (تجارة حاضرة)، والخبر (تديرونها)؛ وبالنصب على: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب: بَنِى أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا ... إذَا كانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الحق، وقد قسط يقسط قسوطاً، قال الله تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن: 15]. النهاية: المقسط العادل، يقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسط: إذا جار، فكأن الهمزة في أقسط للسلب. قوله: (على طريقة النسب) قيده به لئلا يتوهم أنه اسم فاعل من القسوط. قوله: (وقرئ: "تجارة حاضرة"، بالرفع): عاصم قرأ بالنصب، والباقون بالرفع. قوله: (بني أسد)، البيت. البلاء بالفتح: القتال، يقال: أبلى فلان بلاء حسناً: إذا قاتل

أي: إذا كان اليوم يوماً. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً، ناجزاً أو كالئاً؛ لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع، يعني: التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك: هي عزيمة من اللَّه ولو على باقة بقل. (وَلا يُضَارَّ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقاتلة محمودة، واليوم الأشنع: اليوم الذي ارتفع شره، ويقال لليوم الشديد: ذو الكواكب، يقال في التهديد: لأرينك الكواكب ظهراً، يقول: هل تعلمون مقاتلتنا يوم الحرب إذا كان يوماً مظلماً ترى الكواكب فيها ظهراً لانسداد عين الشمس بغبار الحرب؟ قوله: (وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل)، الجوهري: الباقة من البقل: حزمة منه. قال القاضي: الأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة، وقيل: إنها للوجوب، ثم اختلف في إحكامها ونسخها، وكرر لفظة الله في الجمل الثلاث، يعني: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة: لتعظيم شأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية. وقلت: إن الأول على ظاهره؛ لأنه مذكور بعد قوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: لا تفعلوا واتقوا الله واحذروا عقابه، والثاني: من وضع المظهر موضع المضمر للتفخيم، يعني: كيف لا يتقونه والحال أنه بجلالته وعظمته يعلمكم ولم يكل على الغير، ثم قال: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: من شأنه أن يعلم المعلومات كلها فيعلم تقواكم وفسقكم وشكركم لأداء نعمة التعليم، وكفرانكم فيجازيكم بها، فهذا تذييل للتهديد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: إن قيل: كيف قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كرر لفظة الله ثلاث مرات متواليات، وقد استكرهوا ذلك لولا شرف لفظ الله، كقول الشاعر: فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل: سلط على هذا البيت شاة ترعى منه النوى، وقول الآخر: بجهل كجهل السيف والسيف منتضى ... وحكم كحكم السيف والسيف مغمد واعلم أن التكرير المستحسن هو: كل تكرير يقع على طريق تعظيم الأمر أو تحقيره في جمل متواليات، كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى واحد ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وهذا ظاهر في الآية والبيتين، فإن قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) حث على التقوى، (وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ): تذكير بنعمته، (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): تعظيم له عز وجل ومتضمن للوعد والوعيد، فلما قصد تعظيم كل واحد من هذه الأحكام أعيد لفظة الله، وأما البيت الثاني فهو جملة واحدة؛ لأن قوله: "كجهل السيف" نعت لقوله: "بجهل"، وكذا: والسيف مغمد: حال من قوله: كحكم السيف،

والدليل عليه قراءة عمر رضى اللَّه عنه: (ولا يضارر) بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس رضى اللَّه عنه: (ولا يضارر) بالإظهار والفتح، والمعنى: نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويُلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد. وقرأ الحسن: (ولا يضار) بالكسر. (وَإِنْ تَفْعَلُوا) وإن تضارّوا (فَإِنَّهُ) فإنّ الضرار (فُسُوقٌ بِكُمْ)، وقيل: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتم عنه (عَلى سَفَرٍ): مسافرين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيت الأول كرر "جذ النوى" و"قطع النوى" وهما في معنى واحد. قوله: (أو النهي عن الضرار بهما) عطف على قوله: "نهى الكاتب والشهيد" يعني: النهي فيقوله: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحمل: إما على نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة، وعن التحريف، أو على نهي المشهود له عن تعجيل الكاتب والمنع من مؤونة الشاهد إذا دعي من بلد آخر، قال الزجاج: والأول أبين، لقوله: (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)، فإن الفسق أشبه بالتحريف وبالكذب من تعجيل الكاتب أو منع مؤونة الشاهد. قوله: (وقيل: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتم عنه): عطف على "وإن تضاروا"، والثاني أبلغ؛ لأن مثل هذا الفعل غالباً يجيء كناية عن أفعال شتى وكيفيات متعددة كما سبق في قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة: 24] أن الفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة، ألا ترى أن الرجل يقول: ضربت زيداً وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالاً، فتقول: بئس ما فعلت.

وقرأ ابن عباس وأبيّ رضي اللَّه عنهما: (كتاباً)، وقال ابن عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة؟ . وقرأ أبو العالية: (كتباً). وقرأ الحسن: كتاباً، جمع كاتب (فرهان) فالذي يستوثق به رهن. وقرئ: (فرُهن) بضم الهاء وسكونها، وهو جمع رهن، كسقف وسقف، و (فرهانٌ). فإن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر، وقد رهن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم درعه في غير سفر؟ قلت: ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن مجاهد والضحاك: أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذاً بظاهر الآية، وأما القبض فلا بدّ من اعتباره، وعند مالكٍ: يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً): فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به. ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أرأيت؟ ) أي: أخبرني إن وجدت الكاتب، أي: إذا وجدت الكاتب ولم تجد ما به تتم الكتابة من الدواة والصحيفة وغيرهما هل تجوز المداينة بلا رهن! وأما إذا لم تجد كتاباً يلزم الارتهان بأي شيء فقد من هذه الأشياء، أراد بهذا أن قراءته أرجح لأن كتاباً: مصدر كتب، يقال: قد كتبت كتباً وكتاباً وكتابة، وهو لا يحصل إلا بعد استجماع الشرائط. قوله: (و (فَرِهَانٌ)) أي: قرئ: (فَرِهَانٌ)، قرأ بها الجماعة إلا ابن كثير وأبا عمرو فإنهما قرآ "فرهن" بضم الراء والهاء بغير ألف، ورهان: جمع رهن، نحو حبل وحبال، قال القاضي: المعنى: فالذي يستوثق به رهان، أو: فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان. قوله: (وأما القبض فلابد من اعتباره، وعند مالك: يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض)، الانتصاف: لا خلاف بين مالك والشافعي في صحة الرهن بالإيجاب والقبول،

وقرأ أبٌيّ: (فإن أومن) أي: آمنه الناس. ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله. (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدّي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمي الدين أمانة وهو مضمون؛ لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياءٍ، فتقول: "الذئتمن"، أو "الذيتمن". وعن عاصم أنه قرأ: (الذتمن) بإدغام الياء في التاء قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما مالك يرى لزومه بالعقد، وعند الشافعي: لا يلزم إلا به، لكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام، فلو عري عن القبض وأنكر الغرماء لم يختص به عند الشافعي، ولم ينتفع بذلك عند مالك، بل له أسوة الغرماء للتهمة، ويشترط مالك بقاء الرهن مقبوضاً بيد المرتهن طوعاً، لو عاد على يد الراهن بعارية أو إجارة أو وديعة خرج من الرهن، دليله أن الرهن في اللغة هو: الدوام، وأنشد أبو علي: فالخبز والدهن لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب قوله: (وسمي الدين أمانة، وهو مضمون) يعني: إنما سمي الدين أمانة والحال أن الدين مضمون، والأمانة غير مضمونة، لما بين هذا الدين الخاص وبين الأمانة مشابهة من حيث إن ائتمان الدائن المديون بترك الارتهان منه كائتمان المودِعِ المودَع بترك طلب الوثيقة منه. قوله: (وعن عاصم أنه قرأ: الذتمن)، وهي شاذة، ومعنى قوله: "ليس بصحيح" أن المنسوب إليه من إدغام الياء في التاء ليس بصحيح، لأنه ليس بصحيح على قانون التعدية.

لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عاميٌّ، وكذلك "ريا" في "رؤيا". (آثِمٌ) خبر "إن". و (قَلْبُهُ) رفع بـ (آثم) على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع (قلبه) بالابتداء. و (آثم) خبر مقدّم، والجملة خبر "إن". فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فَإِنَّهُ آثِمٌ)! وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؟ ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكانٍ فيه؛ ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه) يعني: أسند الفعل إلى القلب لدفع توهم المجاز، فصرح بالجارحة التي هي سببه، وهو المراد بقوله: "إذا أردت التوكيد تقول: هذا مما أبصرته عيني"، ونحوه قوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) [الأنعام: 38]. قوله: (ولأن القلب هو رئيس الأعضاء)، هذا المجاز من باب إطلاق بعض الشيء على كله، ولما كان الشرط في صحة المجاز أن يكون هذا البعض أصل الشيء قال: "فقد تمكن الإثم من أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه". قوله: (والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد) مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". أخرجه الشيخان، عن النعمان بن بشير. قوله: (ولئلا يظن)، هذا جواب آخر بحسب المتعارف بين الناس، فإن الكاتم وإن كان

وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه؛ ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب! فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: أكبر الكبائر: الإشراك باللَّه لقوله تعالى: (فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة: 72]، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة. وقرئ: (قلبه)، بالنصب، كقوله: (سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130]، وقرأ ابن أبى عبلة: (أثم قلبه) أي: جعله آثماً. [(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 284]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشخص بجملته لكن اشتهر وتعورف بين الناس أن الكتمان من فعل اللسان وحده، وإن من أمسك لسانه عن الشهادة قيل في حقه: إنه كتم الشهادة، تعلق الإثم به فأريد دفع هذا الظن البين خطؤه فقيل: (آثِمٌ قَلْبُهُ)، ويدل على الإنكار إيقاع قوله: (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) جزاء للشرط، كأنه قال: ظن الناس أن اختصاص الذنوب باللسان سبب للإخبار بأن يقال: إنه آثم قلبه. قوله: (وليعلم) يحتمل أن لا يكون وجهاً آخر، بل هو تأكيد لقوله: (لئلا يظن) على آخره، وهو من باب قوله: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]. قوله: (ولأن أفعال القلوب) هذا وجه آخر في الجواب، ومبناه على الكناية، وتقريره أن عظم الذنب بحسب المحل الصادر منه، فلما كان القلب أعظم خطراً في الإنسان كان الذنب الصادر منه أعظم، وعلى هذا الطاعة الصادرة منه كالإيمان والمحبة وغيرهما،

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعني: من السوء (يحاسبكم به اللَّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ): لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمر، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس؛ لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: أنه تلاها، فقال: لئن آخذنا اللَّه بهذا لنهلكنّ. ثم بكى حتى سمع نشيجه، فذكر لابن عباس، فقال: يغفر اللَّه لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ) [البقرة: 286] ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويشهد لهذه الكناية قوله: "فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب". قوله: (مما أظهر منه)، قيل: الضمير المستتر عائد إلى "من" في "من استوجب"، والمحذوف: إلى "ما"، وفي "منه": إلى "السوء"، ومنه: بيان لما أظهر، وقلت: من في "مما أظهر" متعلق بقوله: (فَيَغْفِرُ)، "وما" فيه: موصولة، أي: فيغفر لمن يشاء من الذي أظهره المكلف من السوء أو أضمر منه، ويجوز أن يتعلق "من" بالتوبة، وقوله: "لمن استوجب المغفرة بالتوبة" مبني على مذهبه. قوله: (حتى سمع نشيجه)، الجوهري: نشج الباكي ينشج نشيجاً: إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. قوله: (قد وجد المسلمون منها- أي: من الآية- مثل ما وجد)، فنزلت: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، روينا عن مسلم، عن أبي هريرة قال: لما نزلت: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ) الآية، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)؟ بل قولوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فلما

وقرئ: (فيغفر ... ويعذب) مجزومين؛ عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشاً، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقرأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله تعالى في أثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى قوله: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) إلى آخرها. وقد أخرجه الأئمة عن علي وابن عباس وابن عمر بنحو من هذا، ورواية أبي هريرة أكمل وأطول. وقوله: (وقرئك "فيغفر ... ويعذب"): عاصم وابن عامر: برفعهما، والباقون: بجزمهما. قوله: (لاحن مخطئ) يعني أن الراء في حكم حرفين، فإنك إذا وقفت عليها يعثر لسانك بما فيه من التكرير والقوة وبما في اللام من الضعف، وإدغامها فيها يبطل التكرير. قال الزجاج: إن أبا عمرو أدغم الراء في اللام، وما أظنه قرأها إلا بعد ما سمعها، وقال صاحب "الكواشي": لا يجوز تخطئة الرواة أصلاً، لأنه إذا حكم بتخطئتهم في هذا الحرف جاز خطؤهم في غيره، فإذن لا اعتماد عليهم، وكيف يجوز أخذ القرآن من غير ضابط! ولو نقل شعر آحاد العرب من غير ضابط لاستقبح، وجاز إدغام الراء مع ما فيها من القوة والتكرار في اللام مع ما فيها من الضعف؛ لأن الراء لما سكنت ضعفت فصارت كالميت الذي لا اعتداد به، والدليل

ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله: مَتَى تَاتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِى دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلًا وَنَاراً تَأجَّجَا ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأنّ التفصيل ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه إتباعهم ضمة الذال ضمة الميم في "منذ" فصارت اللام المتحركة بالنسبة إلى الراء الساكنة قوية. وأيضاً، فإن المدغم لا يدغم حتى يبدل ما قبل المدغم فيه، فعلى هذا إنما أدغم لام في لام. قوله: (متى تأتنا تلمم بنا) البيت: تلمم، أي: تنزل، وهو بدل من "تأتنا"، والحطب الجزل: القوي الغليظ، تأجج، أي: اشتعل، قيل في "تأججاً" ثلاثة أوجه: أن يجعل الألف للتثنية وهي ضمير الحطب والنار، وغلب الحطب، وأن يكون للحطب، وأن يكون للنار في تأويل الشهاب، يقول: إنهم يوقدون غلاظ الحطب لتقوى نارهم، فينظر الضيفان من بعد فيقصدونها. قوله: (ومعنى هذا البدل: التفصيل) إلى آخره، نقل المصنف أكثر عبارة ابن جني من "المحتسب" في هذا الموضع، ونحن نحكي خلاصة كلامه، قال: "جزم هذا على البدل من (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصل فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض كضربت زيداً رأسه، والاشتمال كأحب زيداً عقله، ونحو هذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ

أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل، أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيداً رأسه، وأحب زيداً عقله، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فِيهِ مُهَاناً) [الفرقان: 68 - 69] "؛ لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام، وعليه قول القائل: رويداً بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غداً خيلي على سفوان تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يدا الحدثان فأبدل "تلاقوا جياداً" مع ما اتصل به من قوله: "تلاقوا غداً خيلي"، ثم جعل هذا البدل بتمامه مبدلاً منه لقوله: "تلاقوهم" مع المعطوف عليه، وهو قوله: "فتعرفوا" إلى آخره، وقال: "إذا حصلت فائدة البيان لم يبال أمن نفس البدل كانت أم مما اتصل به، فضلة أم معطوفاً عليه، فإن أكثر الفوائد إنما يجتنى من الألحاق والفضلات، نعم، وما أكثر ما تصلح الجمل وتتممها، ولولا مكانها لوهت فلم تستمسك، ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما، لتمت، وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره أو: معه أو: بسببه أو: لتكرمه أو: فأكرمته أو نحو ذلك، فصحت المسألة بعود الضمير على المبتدأ من الجملة". تم كلام ابن جني. قوله: (أوضح من المفصل). هذا لفظ ابن جني، قيل: وكان من حق الظاهر أن يقول: أوضح من المجمل أو الإجمال، لكن جعل ما وقع فيه ولأجله التفصيل مفصلاً. قوله: (فهو جار مجرى بدل البعض من الكل). قيل: إن أريد بقوله: (يُحَاسِبْكُمْ) معناه

[(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)]. (وَالْمُؤْمِنُونَ) إن عطف على (الرسول)؛ كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في (كل) راجعاً إلى الرسول والمؤمنين، أي: كلهم آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين ووقف عليه؛ وإن كان مبتدأ؛ كان الضمير للمؤمنين ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحقيقي فيكون قوله: "يغفر" بدل الاشتمال، كقولك: أحب زيداً علمه، وإن أريد به المجازاة فيكون قوله: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) بدل البعض، كقولك: ضربت زيداً رأسه، وقلت: إن الضمير المجرور في (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) يعود على (مَا فِي أَنفُسِكُمْ)، وهو مشتمل كما ذكر على الخاطر السوء وعلى ما يخفيه الإنسان من الوساوس، وحديث النفس. والغفران والعذاب إنما يردان على ما اعتقده وعزم عليه من السوء لا على حديث النفس، فبهذا الاعتبار هو بدل البعض من الكل، وهذا معنى قول ابن جني: وإذا حصلت فائدة البيان لم يبال أمن نفس المبدل كانت أم مما اتصل به، إلى آخره، وإن محاسبتهم مستتبعة إما الغفران أو العذاب وملتبسة بهما، فبهذا الوجه هو بدل الاشتمال. قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ)، قال الزجاج في نظم هذه الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل فرض الصلاة والزكاة، والطلاق والحيض والإيلاء، والجهاد، وأقاصيص الأنبياء عليهم السلام، والدين، والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وتصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين لجميع ذلك، أي: صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذا المؤمنون، يريد أنها كالخاتمة للسورة، والفذلكة لها للتأكيد. قوله: (وإن كان مبتدأ؛ كان الضمير للمؤمنين). قال أبو البقاء: "المؤمنون" معطوف على (الرَّسُولُ)، فيكون الكلام تاماً، وقيل: "المؤمنون" مبتدأ، و (كُلٌّ) مبتدأ ثان، والتقدير: كل

ووحد ضمير (كل) في (آمن) على معنى: كل واحدٍ منهم آمن، وكان يجوز أن يجمع، كقوله: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل: 87]، وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن أو الجنس، وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها؛ لم يخرج منه شيء. وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. (لا نُفَرِّقُ) يقولون: (لا نفرق)، وعن أبي عمروٍ: (يفرق) بالياء على أن الفعل لـ (كل)، وقرأ عبد اللَّه: (لا يفرقون). و"أَحَدٍ" في معنى الجمع، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهم، و (آمَنَ) خبر المبتدأ الثاني والجملة: خبر الأول. وقال السجاوندي: (كُلٌّ): ابتداء، ولو كان توكيداً لقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ) لقيل: كلهم، وقلت: الوجه الأول أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول؛ لأن الرسول حينئذ يكون أصلاً في حكم الإيمان بما أنزل إليه، والمؤمنون تابعون كما مر في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة: 127]، ويلزم على الوجه الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول لكون الجملة اسمية ومؤكدة، وعلى أسلوب التقوي مع إفادة الاستقلال في الحكم، قال القاضي: إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال. قوله: (وقرأ ابن عباس: "وكتابه")، وهي قراءة حمزة والكسائي، قال الزجاج: قيل لابن عباس في قراءته، فقال: "كتابه" أكثر من "كتبه"، ذهب به إلى اسم الجنس نحو: كثر الدرهم في أيدي الناس. قال صاحب "التقريب" حاكياً عن مراد المصنف: إن الجنس يطلق على جميع أفراد الجمع ولا ينعكس، فذاك أكثر، ثم قال: وفيه نظر، وقلت: مراد المصنف من كلامه أن تناول الواحد حين يراد به الجنس أكثر من تناول الجمع إذا أريد به الجنس؛ لأن "كتابه" يدل على

كقوله تعالى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة: 47]؛ ولذلك دخل عليه "بين". (سَمِعْنا): أجبنا. (غُفْرانَكَ) منصوب بإضمار فعله. يقال: غفرانك لا كفرانك، أي: نستغفرك ولا نكفرك. وقرئ: (وكتبه ورسله) بالسكون. [(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَانا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) 286]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يعلمه كل أحد أنه كتابه ومسمى به، فلا يخرج منه شيء يسمى كتابه، وأن "كتبه" تدل على ما يعلمه كل أحد أنه كتبه على سبيل الجمعية ومسمى به، ويمكن أن يخرج منه كتاب أو كتابان، وهذا هو المراد من قول صاحب "المفتاح": استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وتبين ذلك بأن ليس يصدق: لا رجل في الدار، لنفي الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: لا رجال في الدار، فإن قلت: ليس كذلك؛ لأنا إذا سمعنا قوله تعالى: (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) لم يتبادر إلى الذهن سوى الاستغراق والشمول، قلت: قد بينا أن الاستغراق الداخل على الجمع: إرادة الجموع حقيقة، وإرادة الأفراد مجاز، يؤيده ما روى صاحب "الانتصاف" عن إمام الحرمين: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظه، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب. قوله: ((فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة: 47]) فإن قوله: (مِنْ أَحَدٍ) لو لم يكن في معنى الجمع لقيل: حاجز دون (حَاجِزِينَ)، كما يقال: ما من رجل عالم، ولا يقال: ما من رجل عالمين.

والوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي: لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته، كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة: 185]؛ لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبي عبلة: (وسعها) بالفتح. (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ): ينفعها ما كسبت من خير، ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به؛ كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير؛ وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أي: لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دون مدى الطاقة) أي: لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويسهل عليه ويكون أدون وأدنى مما له القدرة عليه، كما إذا كان في قدرته أن يصلي ستاً فأوجب خمساً، فالواجب دون مدى طاقته، فقوله: "لأنه كان" تعليل لقوله: "ويتيسر عليه دون مدى الطاقة"، وهو تفسير لقوله: "يتسع فيه طوقه". قوله: (في الاكتساب اعتمال)، قال في "الأساس": الرجل يعتمل لنفسه ويستعمل غيره ويعمل رأيه ويتعمل في حاجات الناس، أي: يتعنى ويجتهد، أنشد سيبويه: إن الكريم وأبيك يعتمل ... إذ لم يجد يوماً على من يتكل أي: إن لم يعلم. الراغب: الكسب مما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، والاكتساب

فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة ثم استجلب به مضرة، والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره، ولهذا قد يتعدى إلى مفعولين فيقال: كسبت فلاناً كذا، والاكتساب لا يقال إلا فيما استفاده لنفسه، وكل الاكتساب كسب وليس كل كسب اكتساباً، نحو: خبز واختبز، وشوى واشتوى. قال السجاوندي: اكتسبت من شر، والافتعال للالتزام أو للانكماش، والنفس تنكمش في الشر وتتكلف في الخير، وقال في الحسنة: (كَسَبَتْ) ليحقرها العامل في عينيه، وفي السيئة: (اكْتَسَبَتْ) تهويلاً للتنفير. وقال صاحب "الفرائد": خص الكسب بالخير والاكتساب بالشر تنبيهاً على أن الكسب: ما يفعله الإنسان ويجوز أن يتعدى إلى غيره، والاكتساب: ما يفعله لنفسه كالاتخاذ والاقتطاع فلا يتعدى إلى غيره، أي: خيره متجاوز عنه وشره مقصور عليه، وهو موافق لقول السجاوندي: والافتعال للالتزام، وقول ابن الحاجب: كسبت معناه: أصبت، واكتسبت معناه: التصرف في تحصيل ذلك الفعل وظهور ما يقتضيه، ومن ثم قال الله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) تنبيهاً على أن الثواب بأدنى ملابسة للمثاب عليه، والعقاب إنما يكون بعد تبين المعاقب عليه وظهوره أحسن طباقاً، لقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)؛ لأن قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) رافعة لحكمها ومسهلة لمشقتها، وفيها أن التكليف ليس على الطاقة بل دون مداها رحمة ورأفة بالعباد، ثم قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) امتنان آخر وتنبيه على أن جانب الرحمة أرجح من جانب العذاب، ولا يستقيم هذا إلا على هذا القول، وعليه كلام المصنف. قوله: (النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ )، أي: متجاوز

ألا ترى إلى قوله: (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف: 63]، والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان؟ ولأنهم كانوا متقين اللَّه حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل اللَّه لاستدامته ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنهما عقلاً بناءً على مذهبه، وأجاب من وجوه، الأول: أنه مجاز من باب إطلاق المسبب على السبب، والثاني أنه من وادي قول: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وإليه أشار بقوله: "كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان"، والثالث: أنه على أسلوب قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6] كما صرح به. قوله: (حق تقاته)، الجوهري: التقاة: التقية، يقال: اتقى تقية وتقاة. قوله: (لاستدامته) ولعمري هذا تكلف، وقد مر في حديث مسلم عن أبي هريرة: أن هذه الآية ناسخة لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)، فكما أن الخطرات والوساوس محلها النفس، كذلك معدن النسيان والخطأ النفس، فلم يكن النسيان والخطأ متجاوزاً عنهما عقلاً بل نقلاً. الانتصاف: لا يرد السؤال؛ لأن رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان

والاعتداد بالنعمة فيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرف بالسمع لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، فلعل رفعهما كان إجابة لهذه الدعوة، وقد جاء أنه قال عند كل دعوة: قد فعلت، وإنما المعتزلة يذهبون إلى استحالة المؤاخذة بذلك عقلاً؛ تفريعاً على التحسين والتقبيح، والسؤال وارد عليهم. الراغب: الخطأ على ضروب، أحدها: ما لا يحسن إرادته ويفعله، وهذا هو الخطأ التام من كل وجه المأخوذ به الإنسان، والثاني: أن يريد ما يجوز فعله ولكن وقع منه خلاف ما أراد، فيقال: أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ"، وقوله: "من اجتهد فأخطأ فله أجر"، والثالث: أنه يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه، فهذا مذموم لقصده محمود على فعله، وجملة الأمر أنه يقال لمن أراد شيئاً فاتفق منه خلافه: إنه أخطأ، وإذا وقع منه كما أراده: أنه أصاب، ويقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراده إرادة لا تحسن: أخطأ، ولهذا يقال: أصاب الخطأ فأخطأ الصواب وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، فإذا هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق تأمله، وهي مشكلة جداً. قوله: (والاعتداد بالنعمة فيه) يعني: إذا كانت النعمة الحاصلة خطيرة ربما يذكرها ويردد ذكرها اعتداداً بها واعتناء بشأنها، كقوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، روينا عن أحمد بن حنبل، عن أبي رجاء، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز، وقال إن

والإصر: العبء الذي يأصر حامله، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاقّ؛ من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك. وقرئ: (آصاراً) على الجمع. وفي قراءة أبيّ: (ولا تحمل علينا) بالتشديد. فإن قلت: أي: فرق بين هذه التشديدة والتي في (وَلا تُحَمِّلْنا)؟ قلت: هذه للمبالغة في "حمل عليه"، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين. (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات النازلة بمن قبلنا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". قوله: (وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب) أي: من جلد الخف والفروة. قوله: (هذه للمبالغة في "حمل عليه"، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين)، يريد أن التضعيف إذا كان لنقل باب إلى باب آخر ليفيد فائدته لم يكن فيه مبالغة، وأما إذا لم يرد تلك الفائدة كانت مبالغة، وقريب منه ما ذهب إليه صاحب "المثل السائر": أن المعنى إنما يزيد إذا كان هناك نقل كما في قتل وقتل، وأما إذا لم يكن نقلاً، كما في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) [النساء: 164] لم يزد، إذ ليس في "كلم" نقل، فدل على حصول الكلام معه لا للتكثير منه.

طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل: المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف، وهذا تكرير لقوله: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (طلبوا الإعفاء)، الجوهري: يقال: أعفني من الخروج معك، أي: دعني منه، واستعفاه من الخروج معه وسأله الإعفاء، يعني: طلبوا من الله تعالى بقولهم: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً) أن لا يكلفهم بالتكاليف الشاقة، ثم طلبوا الإعفاء بقوله: (وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) عما نزل بالأولين من العقوبات على تفريطهم، وإنما حمله على العقوبات كي لا يلزم التكرار؛ لأن معناهما واحد، والذي يدل على المقدر قوله: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً)؛ لأن التفريط فيه سبب للمعاقبة. وقوله: (وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع) عطف على قوله: "ما نزل عليهم". فإن قلت: هل هذا إلا تكرير لقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)؟ قلت: لا؛ لأن قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) خاص لما سبق أنه ناسخ لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ) الآية؛ كرامة لهذه الأمة المرحومة، ورفعاً لما كان شاقاً عليهم من المؤاخذة بحديث النفس، ثم أرشدهم إلى أن طلبوا منه ما كان شاقاً على الأمم السالفة من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك بقوله: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً)، ثم أرشدهم إلى طلب رفع الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف على سبيل العموم، فالتشديد في (وَلا تُحَمِّلْنَا) للتكثير؛ ليناسب العموم كرامة إلى كرامة، فعلى هذا يكون تكريراً، وفائدته تعليق الزيادة عليه من قوله وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع: (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا) الآية.

(مَوْلانا): سيدنا ونحن عبيدك، أو ناصرنا، أو متولي أمورنا. (فَانْصُرْنا) فمن حق المولى أن ينصر عبيده، أو: فإنّ ذلك عادتك، أو: فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة: قد فعلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: فإن قيل: ما الفرق بين العفو والغفران والرحمة؟ وما وجه هذا الترتيب؟ قيل: العفو: إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران: ستر الذنوب وكشف الإحسان الذي يعطى به، والرحمة: إفاضة الإحسان عليه، وقد علم أن الثاني أبلغ من الأول، والثالث من الثاني. قوله: ((مَوْلانَا) سيدنا) أي: أنت سيدنا ونحن عبيدك فانصرنا، فمن حق المولى أن ينصر عبيده ولا يخذلهم، أو: أنت ناصرنا فانصرنا، فإن ذلك عادتك، أو: أنت متولي أمورنا فانصرنا فإن ذلك من أمورنا التي عليك توليها بسبب الوعد، فهو من باب القول بترتب الحكم على الوصف المناسب لكن بالفرق بين هذه الاعتبارات؛ لأن النسبة بين السيد والعبد قوية، فكما أن السيد عليه رعاية العبد كذلك العبد يحتاج إلى رعاية سيده، فالنسبة بين الجانبين قوية، ولهذا قال: "ونحن عبيدك"، فمن حق المولى أن ينصر عبيده، وإن النسبة بين الناصر والمنصور ليست مثل الأولى، لكن من اتصف بصفة النصرة فعليه أن ينصر المظلومين، لكن لا يجب عليه أن ينصر كلهم، فقوة النسبة بين الناصر والمنصور ليست مثل الأولى لكن من جانب الناصر، وغليه الإشارة بقوله: "فإن ذلك عادتك"، يعني: هذه الصفة ذاتية منك وأن النسبة بين من يحتاج إلى قيم يقوم بأحواله ويفتقر إلى متول يتولى أموره وبين مولاه قوتها من جانب العبد، ولهذا قال: "فإن ذلك من أمورنا التي عليك توليها".

وعنه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبيٌّ قبلي»، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنزل اللَّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل». فإن قلت: هل يجوز أن يقال: قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة؟ قلت: لا بأس بذلك، وقد جاء في حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من آخر سورة البقرة»، و «خواتيم سورة البقرة»، و «خواتيم البقرة». وعن عليّ رضي اللَّه عنه: خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش. وعن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال: من هاهنا- والذي لا إله غيره- رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة». ولا فرق بين هذا وبين قولك: سورة الزخرف، وسورة الممتحنة، وسورة المجادلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أوتيت خواتيم سورة البقرة)، الحديث مخرج في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن أبي ذر. قوله: (من قرأ الآيتين)، الحديث أخرجه الشيخان، عن أبي مسعود البدري. قوله: (أنزل الله آيتين)، الحديث أخرجه الدارمي، عن جبير بن نفير مع تغيير في الألفاظ. قوله: (وعن عبد الله بن مسعود)، الحديث مخرج في "الصحيحين".

وإذا قيل: قرأت البقرة لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]، وعن بعضهم: أنه كره ذلك، وقال: يقال: قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة. عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة"، قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولن تستطيعها البطلة)، الحديث مخرج في "صحيح مسلم"، عن أبي أمامة الباهلي، كذلك قوله: "اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"، ورواه الدارمي عن بريدة. قال مولاي الإمام المغفور [له] بهاء الدين القاشي رحمه الله: البطلة: جمع باطل، إما بمعنى صاحب البطالة، أي: لا يستطيع قراءة ألفاظها وتدبر معانيها والعمل بأوامرها ونواهيها أصحاب البطالة والكسالة، أو: البطلة: السحرة، أي: لا يقدر السحرة على الإتيان بمثلها، فمن أتى به لا يكون ساحراً، أو: المراد أنها من المعجزات التي لا يقدر الساحر أن يعارضها بالسحر، بخلاف المعجزات المحسوسة، فإنه قدي مكن للساحر أن يحاول معارضتها بالسحر. وقلت: يمكن أن يراد بالبطلة: السحرة الموحدون من أصحاب البيان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً". تمت السورة

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية وهي مئتا آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين (الم * اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ *1 ـ 4) (ميمْ) حقها أن يوقف عليها كما وقف على (ألف لامْ)، وأن يبدأ ما بعدها كما تقول: واحدْ اثنان. وهي قراءة عاصم، وأما فتْحُها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت؛ للتخفيف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة آل عمران مدنية وهي مئتا آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وأما فتحها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت؛ للتخفيف)، اجتمعت القراء على فتح الميم، وأما قراءة عاصم، وإن كان من الأئمة، فشاذة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو علي: إن القراءة بسكون الميم ساقطة، إلا ما نقل عن يحيى، عن أبي بكر، عن عاصم. قال الزجاج: قال بعضهم: هذه الحروف مبنية على الوقف، فيجب بعدها قطع ألف الوصل، فالأصل (الم* اللَّهُ) بالسكون، ثم طرحت فتحة الهمزة على الميم وسقطت الهمزة، كما تقول: واحد اثنان، وإن شئت: واحد اثنان، فألقيت كسرة الهمزة على الدال، وقال الآخرون: لا يسوغ أن ينطق بثلاثة سواكن، فلابد من فتحة الميم لالتقاء الساكنين، وهذا القول صحيح. وقال أبو علي: لا يجوز أن تكون الحركة للهمزة؛ لأن الهمزة حكمها أن تجتلب في الابتداء إذا احتيج إلى التلفظ بحرف ساكن دون الصلة والإدراج، فإذا اتصل الساكن المجتلب له الهمزة بشيء قبلها استغني عنها فتحذف، وإن كان المتصل به الساكن متحركاً بقي على حركته، نحو: ذهب ابنك، وإن كان حرفاً ساكناً غير لين، أو مضارعاً للين، حرك، نحو (وَعَذَابٌ* ارْكُضْ) [ص: 41 ـ 42] و (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا) [الجن: 18] ونحو ذلك، فكذلك الهمزة في اسم الله من قوله: (الم* اللَّهُ) إذا اتصل بما قبلها: لزم حذفها كما لزم إسقاطها فيما ذكرناه، فإذا لزم حذفها لزم حذف حركتها أيضاً؛ لأنك لا تجد هذه الهمزة المجتلبة في موضع ملغاة وحركتها مبقاة، وإذا لزم حذفها من حيث ذكرنا: لم يجز إلقاؤها على الحرف الساكن، ويدل على امتناع قول من زعم أن الحركة للنقل: أن هذه الهمزة في الابتداء في التوصل إلى النطق بالساكن نظير الهاء التي تلحق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للوقف لتبين الحركة وإثباتها، فكما أن الحرف الذي تجتلب له الهاء في الوقف إذا اتصل بشيء بعده لم تتبين حركته بها لقيام ما يتصل به مقامها ساكناً كان أو متحركاً، كذلك يلزم أن تحذف الهمزة إذا اتصل ما اجتلبت لسكونه بشيء قبله، وإثباتها في الوصل خطاً كما أن إثبات الهاء في الوصل خطاً. واعلم أن المصنف ها هنا خالف سيبويه والزجاج وأبا علي وقوله في "المفصل" أيضاً، واختار أن الفتح لنقل الحركة لا لالتقاء الساكنين، وأورد كلام أبي علي سؤالاً على نفسه، وهو قوله: لا تجد هذه الهمزة المجتلبة في موضع ملغاة، وحركتها مبقاة، بقوله: كيف جاز إلقاء حركة الهمزة على الميم وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها؟ واستدل بقوله: لأن ثبات حركتها كثباتها، يعني: أن الحركة قائمة مقام الهمزة، فكأن الهمزة باقية، وأجاب: أن الميم ها هنا، وإن اتصلت بما بعدها صورة لكنها في حكم الانفصال لنية الوقف عليها، فكأن الهمزة ساقطة صورة باقية معنى، ثم أتى بسؤال وجواب آخر لوجه المنع من الحمل على مذهب سيبويه، وزعم أن الحركة لالتقاء الساكنين، وذلك أن أمر التقاء الساكنين في باب الوقف على التوسع والتساهل، والقول بالحركة خروج عن حكم الوقف، بخلاف النقل، ولأنه لو وجب التحريك لهذه العلة لوجب تحريك الميم في لام وفي ميم لالتقاء الساكنين، ولم يتوقف على ملاقاة ساكن آخر، وهو حرف التعريف في زعمكم. ثم أورد ما أورده الزجاج سؤالاً على نفسه، وهو قوله: لا يسوغ أن ينطق بثلاثة سواكن، فلابد من فتحة الميم لالتقاء الساكنين، بأن قال: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم، يعني: إنما لم يحركوا الميمين في ألف لام ميم لإمكان النطق بهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما النطق بالساكن الثالث فغير ممكن، وأجاب: بأنا لا نسلم أن العلة عدم إمكان النطق، فإنهم حركوا الساكن في موضع كان يمكنهم النطق [به] كواحد اثنان، ساكن الدال مع سقوط الهمزة لالتقاء الساكنين، كما في أصيم ومديق، ولما لم يسكنوا الدال مع إمكان التلفظ، بل حركوا، دل على أن الحركة للنقل لا لالتقاء الساكنين، ثم أورد سؤالاً آخر، وهو أن الحركة لو لم تكن لالتقاء الساكنين فما وجه قراءة من كسر الميم؟ قال ابن الحاجب: لا وجه لكسرها إلا البناء؛ لأنها لما جردت عن التركيب فقد فُقِدَ منها مقتضي الإعراب، فإذا فُقِدَ منها المقتضي وجب البناء إذ لا متوسط، فإذا كان كذلك وجب الحكم بالبناء، وإذا وجب ذلك، وقد رأينا العرب أسكتته، حكمنا بصحة البناء على السكون وإن كان قبلها ساكن؛ لأنه حرف مدولين، وأجاب المصنف عنه: أن هذه قراءة غير مقبولة، وسيجيء بيانه. وقال ابن الحاجب: من جعل السكون سكون وقف أجرى الوصل في: (الم* اللَّهُ) مجرى الوقف، فتكون الميم باقية على نية السكون، والهمزة باقية على نية الثبات مبتدأ بها، وجاز أن يعطى أيضاً أحكام الوصل لفظاً، بدليل جواز قولهم: ثلاثة أربعة، فإنه نقل لحركة الهمزة إلى الهاء، وإجراء الوصل مجرى الوقف قبل ذلك، وإلا لم تقلب تاء التأنيث هاء، قال: والذي حمله على هذا أمران: أحدهما: استبعاد البناء على السكون مع سكون ما قبل الآخر لما يؤدي إلى اجتماع الساكنين في غير الوقف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: مجيئها مفتوحة الميم، ولو كانت حركتها لالتقاء الساكنين لأتت مكسورة، وفي ذلك تعسف؛ لأن الأسماء إذا جردت عن التركيب وجب بناؤها، فيكون السكون في هذه المواضع سكون بناء، وأيضاً، فيما ذكره حمل ما اجتمع عليه القراء على الوجه الضعيف؛ لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة. وقلت: لابد للمصنف من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، لما سبق في الفواتح: أن هذه الأسماء معربة، وأن سكونها سكون وقف لا بناء، وحقق القول فيه وبيَّن وجه ضعف القول بالبناء، ومن ثم افتتح هذه السورة بقوله: "ميم حقها أن يوقف عليها كما وقف على ألف لام، وأن يبدأ بما بعدها"، وأتى بقراءة عاصم مستشهداً لذلك. وقد مر أيضاً أن نحو (الم) رأس آية بلا خلاف، ثم إنها إن جعلت اسم سورة فالوقف عليها؛ لأنها كلام تام كما ذكره صاحب "المرشد" والكواشي، وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعاً للعصا أو تقدمةً لدلائل الإعجاز، فالواجب أيضاً القطع

فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام؛ فلا تثبت حركتها؛ لأنّ ثبات حركتها كثباتها؟ قلت: هذا ليس بدرج؛ لأنّ (ميم) في حكم الوقف والسكون والهمزة في حكم الثابت، وإنما حذفت تخفيفاً، وألقيت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره قولهم: واحد اثنان، بإلقاء حركة الهمزة على الدال. فإن قلت: هلا زعمت أنها حركة لالتقاء الساكنين؟ قلت: لأنّ التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف؛ وذلك قولك: هذا إبراهيم وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم، لالتقاء الساكنين. ولما انتظر ساكن آخر. فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم، لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا. قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن: أنه كان يمكنهم أن يقولوا: واحدْ اثنان، بسكون الدال مع طرح الهمزة، فيجمعوا بين ساكنين، كما قالوا: أصيم، ومديق. فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وليست لالتقاء الساكنين. فإن قلت: فما وجه قراءة عمرو بن عبيد بالكسر؟ قلت: هذه القراءة على توهم التحريك لالتقاء الساكنين، وما هي بمقبولة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والابتداء بما بعدها، تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه، فإذاً القول بنقل الحركة هو المقبول؛ لأن فيه إشعاراً بإبقاء أثر الهمزة المؤذن بالابتداء والوقف، ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين، وإنما خالف ما في "المفصل" لأنه مختصر "كتاب سيبويه"، فهو كالنقل منه، وهذا الكتاب مبني على الاجتهاد، والله أعلم. قوله: (أصيم ومديق) أصيم: تصغير أصم، مديق: تصغير مدق، وهو ما يدق فيه الشيء، اجتمع في مديق ساكنان أحدهما ياء التصغير، والثاني أول حرف التضعيف، وأما سكون الأخير فللوقف.

التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ: اسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ووزنهما بتَفعَلةٍ وإفعِيلْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يغتفر التقاء الساكنين فيما أولهما مدة كأصيم ومديق دون غيرهما كواحد اثنان. وأجيب: أن هذا قيد للمطلق، فإنهم اغتفروا التقاء الساكنين في الوقف مطلقاً، وقيل: تشبيه ذلك بأصيم ومديق غير صحيح؛ لأنه لو كان وقف في واحد اثنان كما زعم لكان على الدال لا على الثاء، فكيف جاز التقاء الساكنين؟ وأجيب: أن وجه الشبه: مجرد الجمع بين الساكنين، سواء كان بين كلمتين أو كلمة واحدة، لقوله: فيجمعوا بين ساكنين، والمقصود أن علة الحركة ليست عدم إمكان النطق. قوله: (ووزنهما بتفعلة وإفعيل)، قال الزجاج: اختلف النحويون في "التوراة": قال الكوفيون: هي من: وريت بك زنادي، فالأصل تورية، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتفعلة لا يكاد يوجد في كلامهم، وقال بعضهم: تفعلة، مثل: توصية، ولكن قلبت إلى تفعلة، كما يجوز في توصية توصاة، وهذا ليس يثبت. وقال البصريون: أصلها فوعلة، وهي في الكلام كثير مثل الحوقلة، والدوخلة، وكل ما

إنما يصحُّ بعد كونهما عربيَّين. وقرأ الحسنُ: (الأنجيل)، بفتح الهمزة، وهو دليلٌ على العُجمة؛ لأن "أفعيل" بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب. فإن قلت: لم قيل: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ)، (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)؟ قلت: لأن القرآن نزل منجماً، ونزل الكتابان جملة. وقرأ الأعمش: (نزَل عليك الكتابُ) بالتخفيف ورفع "الكتاب". (هُدىً لِلنَّاسِ) أي: لقوم موسى وعيسى. ومن قال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا فسره على العموم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت فيه: فوعلت فمصدره فوعلة، فأصلها وورية قلبت الواو الأولى تاء كما في تولج من ولجت، والياء قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وإنجيل: إفعيل من النجل، وهو الأصل. وقيل: الذي يدل على أنهما عربيان دخول اللام فيهما. قوله: (إنما يصح بعد كونهما عربيتين) فيه بحث سبق في طالوت، فليراجع. قوله: (لأن القرآن نزل منجماً)، الراغب: خص الكتاب بالتنزيل لأمرين، أحدهما: أن هذا الكتاب لما كان حكمه مؤبداً والتنزيل بناء مبالغة، خص بها، تنبيهاً على هذا المعنى، وليس كذلك حكم الكتابين، والثاني: أن هذا الكتاب نزل شيئاً فشيئاً والكتابين جملة. قوله: (نحن متعبدون) يقال: تعبد الله الخلق، أي: استعبدهم، والتعبد: التنسك.

فإن قلت: ما المراد بالفرقان؟ قلت: جنس الكتب السماوية؛ لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل، أو الكتب التي ذكرها، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة: وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من كتبه، أو من هذه الكتب، أو أراد الكتاب الرابع؛ وهو الزبور، كما قال: (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء: 163] وهو ظاهر؛ أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح؛ من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من كتبه أو من هذه الكتب) نشر لما سبق من قوله: جنس الكتب أو الكتب التي ذكرها، فعلى الأول من باب عطف العام على الخاص، كقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) [الأعراف: 54]، ذكر أولاً الكتب الثلاثة ثم عم الكتب كلها ليختص المذكور بمزيد شرف، وعلى الثاني: من باب عطف الصفة على الموصوف على سبيل التجريد، جرد من الكتب معنى كونها تفرق بين الحق والباطل، ثم عطف عليها كما سبق في أول البقرة. قوله: (كما قال: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) [النساء: 163]) وجه الشبه أن قوله: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) جيء به بعد ما ذكر كتباً منزلة على الأنبياء كما هو ها هنا، وذلك قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) أو أن الكتب المنزلة المشهورة أربعة: الفرقان، والتوراة، والإنجيل، والزبور، فلما ذكرت الثلاثة علم أن المذكور بعدها الزبور، والدليل على كونه من الكتب المنزلة قوله تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً). قوله: (أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح)، ولا يبعد أن يحمل هذا على قوله في تفسير قوله: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) [البقرة: 53]: هو كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة، ونحوه قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً) [الأنبياء: 48].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال في "تفسيره": وأتينا به ضياء، أخرجه مخرج التجريد حيث جاء بالباء، نحو: رأيت بك أسداً، على أسلوب قولك: مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة، ويمكن أن يريد بقوله: أو كرر ذكر القرآن ... إلى آخره: أن الكتاب أطلق أولاً على القرآن ليثبت له الكمال؛ لأن اسم الجنس في مثل هذا المقام إذا أطلق على فرد من أفراده يكون محمولاً على القرآن ليثبت كماله وبلوغه إلى حد هو الجنس كله، كأن غيره ليس منه كما لو قلت لمن وهبت له كتاباً وأنت تريد به الامتنان عليه: لقد منحتك الكتاب، أي: الكتاب الكامل في بابه، ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) [البقرة: 13]، واللام للجنس، والمراد: المؤمنون مكا تقرر في قوله تعالى: (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ) [البقرة: 1 ـ 2] ثم اقترن بوصف من أوصافه لتتميم معنى الكمال وتوكيده؛ لأن من شأن الكتب السماوية أن تكون فارقة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والحلال والحرام، فينتهي بذلك الوصف غايته، وإليه الإشارة بقوله: تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله، ولو صرح أولاً باسم القرآن واقترن به الوصف لم يكن كذلك، ولهذا كان الوجه الثاني دون هذا الوجه. قال القاضي: إنما كان تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله من حيث إنه تشاركه التوراة والإنجيل في كونه وحياً منزلاً، ويتميز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل. قال صاحب "الانتصاف": وفيه وجه آخر، وهو أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة كما قال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1]، و: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدخان: 3]، ومن سماء الدنيا منجماً في ثلاث وعشرين سنة، وأما بقية الكتب فلا يقال فيها إلا: أنزل، وهذا أوجه وأظهر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: لعله ذهل عن دقة المعنى ومال إلى أن تكرير القرآن لإناطة معنى زائد وهو التنزيل مرة والإنزال أخرى، وذهب عنه أن المقام مقام المدح وتعظيم الكتاب لا بيان إنزاله وتنزيله. قال الإمام: الوجوه المذكورة كلها ضعيفة، أما حمل الفرقان على الزبور فبعيد؛ لأن المراد من الفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل، أو بين الحلال والحرام، وليس في الزبور إلا الموعظة، وأما حملة على القرآن فبعيد أيضاً لما يلزم من العطف المغايرة، ولا مغايرة حينئذ، وأما حمله على هذه الكتب فبعيد أيضاً لما يلزم منه عطف الصفة على الموصوف، والمختار عندي أن المراد بالفرقان: المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب: أي: أنزل الكتب وأنزل معها ما هو يفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة. وقلت: هذا الذي ذكره الإمام هو على مقتضى الظاهر، وعلماء هذا الفن يهجرون سلوك هذا الطريق، وإذا سنح لهم ما يخالف الظاهر لا يلتفتون إلى الظاهر، ويعدونه من باب النعيق، ومن ثم قال المصنف: وهو الزبور، وهو ظاهر، يعني أن هذا الوجه محمول على ظاهر العطف، لا أنه أظهر الوجوه وأقواها. وأما قوله: ليس في الزبور إلا الموعظة، فجوابه: أن الموعظة أيضاً فارقة من حيث إنها زاجرة عن ارتكاب المناهي داعية إلى الإتيان بالأوامر، صارفة عن الركون إلى الدنيا، هادية إلى النزوع إلى العقبى، فارقة لما يزلف إلى رضا الله عما يوجب سخط الله.

تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله. (بِآياتِ اللَّهِ) من كتبه المنزلة وغيرها. (ذُو انْتِقامٍ) له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (5 ـ 6) (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْء) في العالم، فعبر عنه بالسماء والأرض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم)، هذه المبالغة إنما يفيدها إيراد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد ذكر التوحيد وذكر إنزال الكتب الفارقة بين الحق والباطل، ثم توكيده بـ (إِنَّ)، وإيقاع قوله: (كَفَرُوا) صلة للموصول، وبناء (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) عليه، ثم تذييل المذكور بقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) المشتمل على إعادة اسم الذات المقرون بصفة العزة، وإضافة "ذي" إلى الانتقام، كنحو قوله تعالى: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر: 28]، ومجيئه نكرة، والتنكير للتعظيم. قال القاضي: النقمة: عقوبة المجرم، والفعل منه نقم بالفتح والكسر، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيماً للأمر وزجراً عن الإعراض عنه. قوله: ((لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ) في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض) يعني أن الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: لا يخفى عليه شيء في العالم، فكنى عنه بقوله: (لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، لأن مؤداهما واحد، لأن العالم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم السماء والأرض وما فيهما عرفاً.

فهو مطلع على كفر من كفر، وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه. (كَيْفَ يَشاء) من الصور المختلفة المتفاوتة. وقرأ طاوس (تصوّركم)، أي صوّركم لنفسه، أولتعبده، كقولك: أثلت مالاً، إذا جعلته أثلة، أي: أصلا، وتأثلته، إذا أثلته لنفسك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف: "العالم: اسم لكل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض" كما سبق في "الفاتحة"، وسبيل هذه الكناية سبيل قولك في الكناية عن الإنسان: هو حي مستوي القامة عريض الأظفار، وإنما اختير تلك العبارة على الظاهر ليدل على مزيد تصوير جزئيات العلم ودقائقه وخفاياه، ليكون الكلام أدل على الوعيد وأنه تعالى يعاقبهم على النقير والقطمير، ويجازيهم على كفرهم بكتب الله كتاباً غب كتاب، وعلى تكذيبهم لآياته آية بعد آية، ولهذا قال: فهو مطلع على كُفر من كفَر، وهو مجازيهم عليه، ونحوه قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور: 63 ـ 64]. قال المصنف: "إن جميع ما في السماوات والأرض مختصة به خلقاً وملكاً وعلماً، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها"؟ فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ) بما قبله؟ قلت: قد مر أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [إبراهيم: 47] تذييل وتأكيد لإيجاب إنزال العذاب على الكافرين بكفرهم، وأنه لا مانع له عن ذلك، فجيء بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) تتميماً لذلك وإيذاناً بأنه يعاقبهم على القليل والكثير، والنقير والقطمير. قال القاضي: إنما عبر عن العالم بالسماء والأرض لأن الحس لا يتجاوزهما، وقدم الأرض ترقياً، ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها، وهو كالدليل على كونه تعالى حياً، وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ) كالدليل على قيوميته.

وعن سعيد بن جبير: هذا حجاج على من زعم أنّ عيسى كان ربًّا، كأنه نبه بكونه مصورًا في الرحم على أنه عبدٌ كغيره، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على اللَّه. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَاوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) 7]. (مُحْكَماتٌ): أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان رباً)، نقل الإمام عن محمد بن إسحاق: أن من ابتداء السورة إلى آية المباهلة نزلت في النصارى حين قدم وفد نجران. وقلت: يمكن أن يكون الخطاب عاماً، وإيراد هذا الوصف بين الأوصاف لأن يدمج فيها على سبيل التعريض الاحتجاج على النصارى، وإلى التعريض الإشارة بقوله: نبه بكونه مصوراً في الرحم على أنه عبد كغيره، وتقريره أن يقال: لا شك أن من كان إلهاً يكون عالماً بما في العالم لا يخفى عليه شيء فيه كلياً كان أو جزئياً، وقادراً على كل مقدور، ومنه أنه (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) وأنتم أيها النصارى تزعمون أن عيسى كان رباً؛ لأنه وجد بغير أب، ولكنكم تقرون أنه كان مصوراً في الرحم، فإذاً لا فرق بينه وبين سائر العباد في هذا المعنى، فيلزم أن يكون عبداً كسائر العباد، وإذا كان كذلك لا يكون رباً فيخفى عليه ما لا يخفى على الرب، فقوله: "كغيره": صفة لقوله: عبد، وكذا كان يخفى عليه، صفة أخرى عطف على الصفة. قوله: (بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه)، قال الزجاج: "المعنى: أحكمت في الإبانة، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى التأويل"، الراغب: "المحكم قد وصف به القرآن على وجهين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: عام في جميعه، نحو: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) [هود: 1] و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) [يونس: 1]، يعني بذلك المحكم نحو: بناءٌ محكم، وعقد محكم. والثاني: ما وصف به بعض الكتاب، وهو المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) [آل عمران: 7]، وهو ما لا يصعب على العالم معرفته لفظاً أو معنى. وقيل: ما لا يحتاج العالم في معرفته إلى تكلف نظر، وعكسه المتشابه. والكلام في أقسام المحكم والمتشابه مشكل ولابد من إيراد جملة ينكشف بها ذلك، فنقول وبالله التوفيق: الكلام في المتشابه على قسمين: أحدهما: ما يرجع إلى ذاته، والثاني: ما يرجع إلى أمر ما يعرض له، والقسم الأول على ضروب: أحدها: ما يرجع إلى جهة اللفظ مفرداً، إما لغرابته، نحو: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) [عبس: 31]، أو لمشاركة الغير، نحو اليد والعين، أو مركباً: إما للاختصار، نحو: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]، أو للإطناب، نحو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، أو لإعلان اللفظ، نحو: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ) [المائدة: 107] الآية. وثانيها: ما يرجع إلى المعنى، إما من جهة دقته كأوصاف الباري عز وجل، وأوصاف القيامة، أو من جهة ترك الترتيب ظاهراً، نحو: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) [الفتح: 25]. وثالثها: ما يرجع إلى اللفظ والمعنى معاً، وأقسامهـ بحسب تركب بعض وجوه اللفظ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع بعض وجوه المعنى - نحو: غرابة اللفظ مع دقة المعنىـ ستة أنواع، لأن وجوه اللفظ ثلاثة، ووجوه المعنى اثنان، ومضروب الثلاثة في اثنين ستة. والقسم الثاني من المتشابه، وهو ما يرجع إلى ما يعرض اللفظ، وهو خمسة أنواع. الأول: من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، والثاني: من طريق الكيفية كالوجوب والندب، والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، والرابع: من جهة المكان كالمواضع والأمور التي نزلت فيها، نحو: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189]، وقول: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة: 37] فإنه يحتاج في معرفة ذلك إلى معرفة عادتهم في الجاهلية. الخامس: من جهة الإضافة، وهي الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد، كشروط العبادات والأنكحة والبيوع". تذييل: وقد يقسم المتشابه والمحكم بحسب ذاتهما إلى أربعة أقسام: الأول: المحكم من جهة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 151] إلى آخره.

(مُتَشابِهاتٌ): مشتبهات محتملات. (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي: أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها، وتردّ إليها، ومثال ذلك: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: 103]، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة: 23]، (لا يَامُرُ بِالْفَحْشاء) [الأعراف: 27]، (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [الإسراء: 16]. فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكما! قلت: لو كان كله محكمًا لتعلق الناس به؛ لسهولة مأخذه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثاني: متشابه من جهتهما، كقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) [الأنعام: 125] الآية. الثالث: متشابه في اللفظ محكم في المعنى، كقوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) [الفجر: 22]. الرابع: متشابه في المعنى محكم في اللفظ، نحو: الساعة والملائكة، هذا تلخيص كلامه. قوله: (أي: أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها)، وذلك أن العرب تسمي كل جامع يكون مرجعاً لشيء أماً. قال القاضي: والقياس أمهات الكتاب، وأفرد على أن الكل بمنزلة واحد، أو على تأويل: كل واحدة. قوله: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام: 103])، مثال للمحكم عنده، وعندنا متشابه يحمل على المحكم الذي هو (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 23]، وتأويلها: أي: لا تحيط به الأبصار، أو جميع الأبصار لا تدركه، وقوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) مثال للمتشابه عنده، مؤول بأنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم.

ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة اللَّه وتوحيده إلا به. ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من النظر والاستدلال): بيان "ما" في: "عما يحتاجون فيه"، والحاصل أن إيراد المتشابه في التنزيل باعث على تعلم علم الاستدلال؛ لأن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة علم الاستدلال، فتكون حاملة على تعلمه، فتتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون، فكان كالشيء النافق، بخلافه إذا لم يوجد فيه المتشابه فلم يحتج إليه كل الاحتياط فيتعطل ويضيع ويكون كالشيء الكاسد، ولذلك قال: لعطلوا الطريق، وحاصله أن هذه الداعية أقوى الدواعي. قال الإمام: إن النظر بسبب المتشابه يفتقر في تعلمه إلى الاستعانة بدليل العقل، فيتخلص عن ظلمة محض التقليد. قوله: (من الابتلاء والتمييز) أي: أن اشتماله عليه يطمع كل محق ومبطل أن يخوض فيه ليجد ما يقوي به مذهبه، فإذا بالغ المحق في ذلك وصارت المحكمات مفسرة للمتشابهات خلص الحق من الباطل، ومن مل يبالغ فيه يبقى في باطله. روينا عن الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون القرآن فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل الكتاب يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه". قال السجاوندي: العقل مبتلى باعتقاد حقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادات، فالحكيم إذا صنف كتاباً ربما أجمل فيه إجمالاً ليكون موضع جثو المتعلم لأستاذه، والملوك تكثر في أمثلتهم علامات لا تدركها العقول، وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف

ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند اللَّه، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام اللَّه ولا اختلاف؛ إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح اللَّه عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوّة في إيقانه. (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم أهل البدع (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة، وما استأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع جثو العقول لبارئها استسلاماً واعترافاً بقصورها والتزاماً، وبهذا ظهر أن الوقف على قوله تعالى: (إِلاَّ اللَّهَ) هو الوجه. قوله: (والعلوم الجمة)، قال الإمام: إن اشتماله عليهما يفتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وهي موقوفة على تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم الأصولين. وأقول: سيما علم المعاني والبيان. قوله: (أن لا مناقضة) مفعول المعتقد، "وإذا رأى" مع جوابه خبر (أن)، والضمير في "بينه" راجع إلى ما يتناقض، ومن خواص لفظ البين أن لا يقع إلا في متعدد، وما يتناقض متعدد باعتبار المعنى. قوله: ((الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم أهل البدع)، الراغب: الزيغ: الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، ومنه: زاغت الشمس عن كبد السماء، وزاغ البصر والقلب، وزاغ وزال متقاربان، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان عن حق إلى باطل.

(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم، (وَابْتِغاءَ تَاوِيلِهِ): وطلب أن يؤوّلوه التأويل الذي يشتهونه (وَما يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا اللَّه وعباده الذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكنوا، وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله (إلا اللَّه)، ويبتدئ (والراسخون في العلم يقولون)، ويفسرون المتشابه: بما استأثر اللَّه بعلمه، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته، كعدد الزبانية ونحوه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه)، الراغب: التأويل من الأول أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو: رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران: 7]، وفي الفعل كقول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ) [الأعراف: 53] أي: بيانه الذي هو غايته المقصودة منه. قوله: (أي: لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله)، الانتصاف: لا يجوز إطلاق الاهتداء على الله تعالى لما فيه من إيهام سبق جهل وضلال جل الله تعالى عن ذلك، لأن اهتدى مطاوع هدى، ويسمى من يجدد إسلامه مهتدياً، وانعقد الإجماع على امتناع إطلاق الألفاظ الموهمة عليه تعالى، فإذا أنكر على القاضي حده مطلق العلم بكونه معرفة

والأوّل هو الوجه، و (يقولون) كلام مستأنف موضح لحال الراسخين، بمعنى: هؤلاء العالمون بالتأويل (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)، أي: بالمتشابه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، أي: كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودخول علم الله فيه، فهذا أولى أن ينكر، وأظنه سها فنسب الاهتداء إلى الراسخين في العلم وغفل عن شمول ذلك الحق جل جلاله. قوله: (والأول هو الوجه)، واعلم أن الإمام اختار الوجه الثاني، واستدل عليه بوجوه: أحدها: أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل الدليل على أن الظاهر غير مراد، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة، وفي المجازات كثرة، وترجيح البعض لا يمكن إلا بالتراجيح اللغوية، وذلك لا يفيد اليقين، والمسألة يقينية، ولهذا لما سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] قال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وقال الإمام: هذه الحجة قاطعة في المسألة، والقلب الخالي عن التعصب يميل إليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: أن ما قبل الآية، وهو قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) دل على أن تأويل المتشابه مذموم، وما بعدها، وهو قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) إنما يحسن إذا قلنا: إنهم آمنوا بما عرفوا على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله. وثالثها: أن معنى الرسوخ إنما يتم إذا قلنا: إنهم علموا أن مراد الله غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا علمه إلى الله وعلموا أنه الحق والصواب، ولم يزعزعهم عن الصراط عدم علمهم بالمراد بالتعيين. ورابعها: أن الابتداء من قوله: (يَقُولُونَ) والوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لم يحسن ذلك الحسن إذا ابتدئ من قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، ويوقف على (إِلاَّ اللَّهُ)، عرف ذلك من رزق ذوقاً. قال صاحب "المرشد": لا إنكار لبقاء معنى في القرآن استأثر الله بعلمه، فالوقف على (إِلاَّ اللَّهُ) على هذا تام. وحكى عن مصحف ابن مسعود: (ويقول الراسخون في العلم آمنا) وقال: لا يكاد يوجد في التنزيل "أما" وما بعدها رفع إلا ويثنى أو يثلث، كقوله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ) [الكهف: 79]، (وَأَمَّا الْغُلامُ) [الكهف: 80]، (وَأَمَّا الْجِدَارُ) [الكهف: 82] الآيات. فالمعنى: وأما الراسخون، فحذف "أما"؛ لدلالة الكلام عليه. فإن قيل: فيلزم على هذا أن يجاء في الجواب بالفاء، وليس بعد (وَالرَّاسِخُونَ) الفاء. فجوابه: إن "أما" لما حذفت ذهب حكمها الذي يختص بها، فجرى مجرى الابتداء والخبر. قال صاحب "المرشد": هذا وجه جيد. وقال ابن الحاجب: أما مجيء المتعدد في "أما" فكثير؛ ولذلك قال بعضهم: إنه لازم، وحمل عليه قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على معنى: وأما الراسخون فيقولون: آمنا به. وهذا وإن كان محتملاً في هذا الموضع إلا أن الظاهر خلافه في غيره، كقوله القائل: أما أنا فقد فعلت كذا، ويسكت ولا إشكال في صحة مثل ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: في قوله: "محتملاً" إغفال للنظم، إذ ليس للاحتمال مجال، لأن الآية من باب الجمع والتقسيم والتفريق، أما الجمع فقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)، والتقسيم قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)، وقوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، والتفريق: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) الآية، فلابد من جعل (وَالرَّاسِخُونَ) قسيماً له، لأن التقسيم حاصر، وكان من الظاهر أن يقال: فأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، فوضع موضع ذلك: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وإنما وضع: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) موضع "يتبعون" المحكم لإيثار لفظ (الرَّاسِخُونَ) على (المهتدون) في الابتداء، لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد الاهتداء والتتبع التام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب في سبيل الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق إرشاداً للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8] شاهداً على أن (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مقابل لقوله: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، وكذا (يَقُولُونَ) وما يتصل به مقابل لـ "يتبعون" وما يتعلق به، فكأنه قيل: فأما الزائغون فيتبعون المتشابه، وأما الراسخون فيتبعون المحكم ويردون المتشابه إلى المحكم بقدر وسعهم، وإلا فيقولون: كل من المحكم والمتشابه من عند الله، ثم جيء بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) تذييلاً وتعريضاً بالزائغين ومدحاً للراسخين، يعني من لم يتذكر ولم يتعظ ويتبع هواه ليس من أولي الألباب، ومن ثم قال الراسخون: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) خضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني واستعاذوا به من الزيغ النفساني، وأما قوله: أما أنا فقد فعلت كذا ويسكت، فلا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجه له بعد إقراره بأن (أما) وضع للتفصيل، لأنه إن أراد استقلاله بنفسه وأنه لم يتعلق بكلام سابق يدل معه على التفصيل فيكون (أما) غير موضوع له، وإن تعلق ودل، وهو الواجب، فقد حصل المرام، على أن الذوق السليم والطبع المستقيم شاهدان بأن هذا ليس كلاماً ابتدائياً. فإن قلت: هل يجب معه الواو ليكون معطوفاً على ذلك المقدر؟ قلت: لا، ويؤيده ما روينا في "صحيح البخاري"، عن أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن منه صلوات الله عليه، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. الحديث. فكأنه قال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فممن خصه الله بالمغفرة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست كهيئته فأصلي أبداً. الراغب: الأظهر من الآية الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، وما قال بعضهم: لو جاز أن يخاطبنا ولم يعرفنا مراده لجاز أن يخاطبنا بكلام الزنج والروم! فالجواب عنه: أن كلام الروم والزنج لا يعلم المراد منه مجملاً ولا مفصلاً، والمتشابه يعلم منه المراد مجملاً، ولأن كل آية فسرها المفسرون على أوجه فمعلوم أن المراد لا يخرج منه، على أنه لم يمتنع أن يكلفنا الله تلاوة أحرف لا نعرف معناها فيثيبنا على تلاوتها، كما يكلفنا أفعالاً لا نعرف وجه الحكمة فيها، فالتلاوة فعل يختص باللسان. فإن قيل: لم خص الراسخين بأنهم يقولون: آمنا به؟ قيل: لأن معرفة ما للإنسان سبيل إلى معرفته، ومعرفة ما لا سبيل له إلى معرفته، ومعرفة ما لا سبيل له إلى معرفته هي من علوم الراسخين، لأن الحكماء هم الذين يميزون بين ما يمكن علمه وما لا يمكن أن يعلم،

كل من متشابهه ومحكمه من عند اللَّه الحكيم الذي لا يتناقض كلامه، ولا يختلف كتابه. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل، ويجوز أن يكون (يَقُولُونَ) حالاً من الراسخين، وقرأ عبد اللَّه: (إن تأويله إلا عند اللَّه). وقرأ أبىّ: (ويقول الراسخون). (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) 8 - 9] (لا تُزِغْ قُلُوبَنا): لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وأرشدتنا لدينك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما الذي يدرك إن طلب، وما الذي لا يدرك، وعلى أي غاية يجب أن يقف طالب العلم، وأي مكان يتجاوزه، وهذا من أشرف منزلة العلماء الراسخين. قوله: ((بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) وأرشدتنا لدينك) هذا على أن الهداية بمعنى الدلالة الموصلة إلى البغية، وقوله: "بعد إذ لطفت بنا" على أن يكون بمعنى الدلالة المجردة، والمقابل الحقيقي على التقديرين: الإضلال، كما فسره في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] لكن لما لم يكن موافقاً لمذهبه قال: لا تبتلنا أي: لا تختبرنا اختباراً يكون سبباً للزيغ، أو لا تمنعنا ألطافك يكون سبباً للضلال، ونسي قوله: إن سبب السبب سبب. وقال القاضي: (لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) من مقال الراسخين، وقيل: هو استئناف، أي: لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى إتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه على الحق، وإن شاء أزاغه".

أو: لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا. (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً): من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة. وقرئ: (لا تزغ قلوبنا)، بالتاء والياء ورفع القلوب، (جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ)، أي: تجمعهم لحساب يوم، أو لجزاء يوم، كقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن: 9]. وقرئ: (جامع الناس)، على الأصل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: أهل السنة يدعون بهذه الدعوة غير محرفة، لأن الهدى والزيغ مخلوقان لله تعالى، والمعتزلة يزعمون أن العبد يخلق الزيغ لنفسه فيحرفون الدعاء عن موضعه. الراغب: (لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لا تمنعنا التوفيق، فجعل منع التوفيق إزاغة للقلوب لأدائه إليها إشارة إلى ما قيل: أقطع ما يكون المجتهد إذا خذله التوفيق، وإياه قصد من قال: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده والهبة: تمليك الشيء غيره من غير ثمن، فنبه بقوله تعالى: (وَهَبْ لَنَا) أن حق العبد أن لا يلتفت إلى شيء من العمل وطلب العوض به، بل يرجو رجاء المفاليس الطالبين للتفضل والهبة لا العوض، وإنما قال: (مِنْ لَدُنْكَ) لأنه لما كانت الهبة على ضربين: هبة عن عوض، وهبة لا عن عوض، نبه بقوله: (هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ) أن هذه الهبة اعتراف أن بتفضله يدرك ما لا يدرك في الدنيا والآخرة، نحو قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43]. قوله: (أو لجزاء يوم، كقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن: 9]، قال القاضي: نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة، فإنها المقصد والمآل.

(إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) معناه: أنّ الإلهية تنافي خلف الميعاد، كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله، والميعاد: الموعد. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)) قرأ علي رضي اللَّه عنه: (لن تغني) بسكون الياء، وهذا من الجدّ في استثقال الحركة على حروف اللين. (مِنَ) في قوله: (مِنَ اللَّهِ) مثله في قوله: (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم: 28]. والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة اللَّه أو من طاعة اللَّه (شَيْئاً)، أي: بدل رحمته وطاعته وبدل الحق. ومنه (ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ) .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن الإلهية تنافي خلف الميعاد) يريد أن هذه الخاتمة تذييل لما سبق، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: "إنك لا تخلف الميعاد"، ثم إن ربنا لا يخلف الميعاد، فوضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، وخص باسم الذات، وجعله محكوماً عليه، وجعل عدم خلف الميعاد محكوماً به ليكون من باب الإشعار بالعلية، ولهذا مثل بقوله: إن الجواد لا يخيب سائله. قوله: (ومنه: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد")، روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي، عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". النهاية: الجد: الحظ والسعادة والغنى، أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.

أي: لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ: 37]. وقرئ: (وقود)، بالضم بمعنى: أهل وقودها. والمراد بالذين كفروا: من كفر برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وعن ابن عباس: هم قريظة والنضير. (الدأب): مصدر دأب في العمل: إذا كدح فيه، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله، والكاف مرفوع المحل تقديره: دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم، ويجوز أن ينتصب محل الكاف ب (لن تغنى)، أو ب (الوقود)، أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو توقد بهم النار كما توقد بهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباس: هم قريظة والنضير) فالتعريف في (الَّذِينَ كَفَرُوا) على هذا للعهد، وعلى الأول للجنس. قوله: (فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله)، قال في "الأساس": دأب الرجل في عمله: اجتهد فيه، ومن المجاز: هذا دأبك، أي: شأنك وعملك، وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) [إبراهيم: 33]، ويقال للملوين: الدائبان. الراغب: الدأب: العادة التي عليها يدوم صاحبها، وهو أخص من العادة، ومنه أدأب في سيره، قال الفراء: الدأب: لزوم الحال التي فيها. قوله: (أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك أو: توقد بهم). هذا نشر لقوله: أن ينتصب محل الكاف بـ (لَنْ تُغْنِيَ) أو بالـ (وَقُودُ) من حيث اللفظ، وقوله: "دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم": تقرير وجه الرفع، ثم قوله: يقول: "إنك لتظلم الناس"، إلى قوله: "كما حورف أبوه"، مثالان لهذين التقديرين على النشر أيضاً.

تقول: إنك لتظلم الناس كدأب أبيك، تريد كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم، وإنّ فلانا لمحارف كدأب أبيه، تريد كما حورف أبوه. (كَذَّبُوا بِآياتِنا) تفسير لدأبهم ما فعلوا وفعل بهم، على أنه جواب سؤال مقدّر عن حالهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: في الآية أن الضمير في (عَنْهُمْ) راجع إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، والمراد بالكفر: الشرك؛ وهو الظلم، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، كأنه قيل: لن تغني عن الذين ظلموا وأشركوا كما لم تغن عن أولئك، وأن الموقود بالنار يبقى محارفاً كما شقي وحورف أولئك. قوله: (لمحارف). الجوهري: رجل محارف بفتح الراء، أي: محدود محروم، وهو خلاف قولك: مبارك، وقد حورف كسب فلان، أي: شدد عليه في معاشه. فمعنى توقد بهم النار، أي: مصيرهم إلى سوء الخاتمة، شبهوا بالمحارف المحروم الذي شدد عليه معاشه في خيبة السعي والعاقبة الوخيمة. قوله: (على أنه جواب سؤال مقدر) متعلق بقوله: "تفسير لدأبهم" أي: فصل قوله: (كَذَّبُوا) عن الكلام السابق، على طريقة الاستئناف، ليكون تفسيراً لدأبهم، هذا على تقدير أن يكون الكاف مرفوع المحل وأن التقدير: دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم، وذلك أن المشبه حينئذ معنى مجموع الآية السابقة مما فعل هؤلاء الكفرة من الكفر والتكذيب، وما فعل بهم من تخييب سعيهم وإيقاد النار بهم، لأن المشار إليه بقوله: (هَؤُلاءِ): المار ذكرهم، والمشبه به: حال فرعون من الطغيان وما لحقه من تبعته من إهلاكه، ووجه الشبه قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)، ونحوه قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 59].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ليس بمتصل بآدم، وإنما هو تبيين قصته، فإذا قلت: مثلك مثل زيد، أردت أنك تشبهه في فعل ثم تخبر بقصة زيد تقول: فعل كذا وكذا، والتشبيه تمثيلي، يعني قوله: دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وموقعه من الكلام السابق موقع التذييل التشبيهي، كقول الشاعر: وأشد ما لاقيت من ألم الهوى ... قرب الحبيب وما إليه سبيل كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول وأما على أن ينتصب محل الكاف، فالوجه أمر واحد؛ لأن التشبيه إما واقع في عدم الإغناء، كما قال: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ)، كما لن تغني عن أولئك، أو في الإيقاد المعني بقوله: أو توقد بهم كما توقد بهم، والوجه على التقديرين عقلي ظاهر لم يحتج إلى البيان، فيكون قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ): استئنافاً على بيان الموجب، فإنه تعالى لما أخبر أن أموالهم التي جمعوها، وأولادهم الذين تكاثروا بهم، لم تغن عنهم شيئاً، كما لم تغن عمن قبلهم، أو أخبر أن النار أوقدت بهم كما أوقدت بمن قبلهم، اتجه لقائل أن يسأل: لم أفعل بهم؟ أي: بآل فرعون ومن قبلهم، ذلك؟ فأجيبوا: لأنهم كذبوا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم، ولما كان معنى الدأب: الحال والشأن، وأنك تعلم أن التشبيه الواقع في الحال والقصة لا يكون إلا في الأمور المنتزعة المتوهمة، ولم يستقم ذلك إذا كان الوجه أمراً واحداً،

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هم مشركو مكة، (سَتُغْلَبُونَ)، يعني: يوم بدر وقيل: هم اليهود. ولما غلب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم بدر قالوا: هذا واللَّه النبيّ الأميّ الذي بشرنا به موسى، وهموا باتباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكوا. وقيل: جمعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع. فقال: يا معشر اليهود! احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنى نبي مرسل. فقالوا: لا يغرّنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوله بقوله: كدأب أبيك، يريد كظلم أبيك أولاً، وبقوله: إن فلاناً لمحارف، كدأب أبيه، يريد: كما حورف أبوه ثانياً، والوجه هو الأول وعليه النظم. قال الإمام: معنى الآية أنه: كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال، فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك من القتل والسبي وسلب الأموال، ويكون قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) الآية [آل عمران: 12] كالدلالة على ذلك، وكأنه تعالى بين أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل، ثم يصيرون إلى دوام العذاب فسينزل بمن كذب بمحمد صلوات الله عليه هذان الأمران. قوله: (شكوا) إنما شكوا لأنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر أمره، ولا ينقطع عن قريب، فقالوا: لو كان هو النبي الأمي المبشر به لظهر أمره، ولما انقطع عن قريب، ولم يعلموا أن الله تعالى سينصره ويظهر دينه، ولما علموا وتيقنوا عاندوا. قوله: (فنزلت) يعني قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ)، الفاء في فنزلت متعلق بالروايتين المختصتين باليهود، وتقريره على الرواية الأولى، وهي قوله: فلما كان يوم أحد

وقرئ: (سيغلبون ويحشرون)، بالياء كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) [الأنفال: 38]، على: قل لهم قولي لك: سيغلبون فإن قلت: أي فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء: الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون، وهو الكائن من نفس المتوعد به، والذي يدل عليه اللفظ: ومعنى القراءة بالياء: الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه؛ كأنه قال: أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شكوا، فنزلت، يعني: قل لليهود: لا تشكوا في أني أنا النبي الأمي المبشر به في التوراة إن غلبت بعد الظفر، فإن الحرب سجال، فإن كانت الدائرة يوم أحد علينا فتكون بعد ذلك عليكم، فستغلبون وتحشرون، وعلى الثانية ظاهر، ذكر الواحدي، عن ابن عباس، أن الخطاب بقوله: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) لليهود، وعن مقاتل: أنه للمشركين. قوله: (وقرئ: "سيغلبون ويحشرون" بالياء) فيهما: حمزة والكسائي، وبالتاء الفوقانية الباقون. قوله: (والذي يدل عليه اللفظ) عطف على قوله: الكائن أو على نفس المتوعد به، ومن: بيانية، واللام في المتوعد: بمعنى الذي، والضمير في به: راجع إلى اللام، ولفظة هو: راجع إلى معنى سيغلبون. قوله: (سيغلبون) بالياء التحتانية هو عين ما تكلم به الله تعالى، ونفس ما توعد به، وهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الذي يدل عليه لفظ (سَتُغْلَبُونَ) بالتاء الفوقانية، الذي نقله صلوات الله عليه في قول الله تعالى. والحاصل أن القراءة بالتاء الفوقانية تدل على أن الأمر متوجه إلى إيصال معنى اللفظ إلى الكفار، وبالياء تدل على أن الأمر متوجه إلى إيصال اللفظ بعينه. فإن قلت: كيف جعل المصنف القراءة بالياء التحتانية أصلاً، وبالتاء فرعاً؟ ولم لا يجوز العكس، على أن الواحدي في "الوسيط" لم يفرق بينهما، ونقل عن الفراء أنه يجوز في مثل هذا التاء والياء: لأنك تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، و: إنك قائم. قلت: لا ارتياب أن هذا وعيد وتهديد للكفار، وقد علم في غير موضع أن الوعيد والتهديد إذا عدل عن مخاطبة المهدد والموعد ولم يجعل [محلاً] للخطاب بعداً له، كان أبلغ، كقوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116] وقوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) [التكوير: 8]. وأيضاً، في نفس التركيب الأول تأكيد وتقرير ليس في الثاني، لأنه على الحكاية يقتضي أن يقال ابتداء: سيحشرون، ثم يؤمر بأن يحكي اللفظ بعينه اهتماماً به، بخلاف الثاني. وأما قوله: قل لعبد الله: إنه قائم، فيحتمل وجهين. أحدهما: الحكاية للتقرير والتأكيد كما سبق. وثانيهما: أن يراد مؤدى معناه، وهو أنك قائم، والأول آكد وبمقام المبالغة أنسب، فظهر من هذا أن قوله: "سيغلبون ويحشرون" بالياء التحتانية على سبيل الحكاية أبلغ وآكد من الخطاب والمقام له أدعى، فكان جعله أصلاً في الاعتبار أولى.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَايَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصار) 13] (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الخطاب لمشركي قريش (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ) الخطاب لمشركي قريش)، واستدل المصنف عليه بقراءة نافع: "ترونهم" بالتاء الفوقانية، وفيه نظر، لأنه على هذا التقدير لا يستقيم أن يكون الضمير في (مِثْلَيْهِمْ) للمشركين اللهم إلا أن يقال: التفت فيه كما قدر مثلي فئتكم، لكن ليس موضعاً للالتفات. نعم، هذه القراءة تدل على الوجه الثاني، أي: ترونهم مثلي عدد المسلمين. وقال الواحدي: (قَدْ كَانَ لَكُمْ) يخاطب الذين ذكرهم في قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)، ونقل عن ابن عباس: أن المخاطبين بقوله: "سيغلبون" يهود المدينة، وعن مقاتل: مشركو مكة، وقال القاضي: الخطاب بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ) إذا كان لمشركي مكة ينبغي أن يكونوا غير من خوطبوا بقوله: (سَتُغْلَبُونَ)، يعني يوم بدر، لما يؤدي إلى أن يقال: أيها المشركون، إنكم ستغلبون يوم بدر، واعتبروا بما جرى عليكم يوم بدر على ما يقتضيه النظم، وإذا كان

يوم بدر (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ): يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ست مائة ونيفاً وعشرين، أراهم اللَّه إياهم مع قلتهم أضعافهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مدداً لهم من اللَّه، كما أمدّهم بالملائكة، والدليل عليه قراءة نافع: (ترونهم)، بالتاء، أي: ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال: 44]؟ قلت: قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وقوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئوُلُونَ) [الصافات: 24]. وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال: 66] بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال: 65] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لليهود لا يستقيم عليه قراءة (تَرَوْنَهُمْ) بالتاء، والأقرب أن يراد بقوله: (سَتُغْلَبُونَ) غير الذين أريدوا بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ) وأن لا يراد بقوله: (سَتُغْلَبُونَ) يوم بدر، سواء كان المخاطبون مشركي قريش أو يهود، إلا أن يكون الثاني خطاباً للمسلمين مستأنفاً منقطعاً عما قبله امتناناً عليهم، ويساعده قراءة نافع. قوله: (لافوهم) صح بالفاء، أي: خالطوهم، قال في "الأساس": لف الكتيبة بالأخرى، وجاؤوا من لف ولفيف، وهم الأخلاط، وفي بعض النسخ: بالقاف، والأول أنسب. قوله: (وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين)، هذا معطوف على قوله: "يرى

ولذلك وصف ضعفهم بالقلة؛ لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف، وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم، وقراءة نافع لا تساعد عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشركون المسلمين"، وعلى هذا لا يرد السؤال، لكن قراءة نافع لا تساعد عليه، إذ لا يستقيم أن يكون المعنى: ترون أيها المسلمون المشركين مثليهم، لأن المقدر: مثلي المسلمين، إلا أن يكون التفاتاً. الانتصاف: الخطاب على قراءة نافع للمسلمين، أي: ترونهم يا مسلمون، ويكون الضمير في (مِثْلَيْهِمْ) أيضاً للمسلمين، وهو لفظ غيبة، والمعنى: ترون أيها المسلمون المشركين مثليهم، أي: مثليكم، وفيه التفات في جملة واحدة، وهو وإن كان فصيحاً لكن غالب ما يأتي في جملتين، وها هنا (مِثْلَيْهِمْ) مفعول لـ (تَرَوْنَهُمْ)، وهو كما لو قلت: أظنك يقوم، بالياء للغيبة، ولم يكن بذلك إلا أنه لازم على أحد وجهيه المقدمين، فإن قراءة نافع تقديرها: ترون يا مشركون المسلمين مثلي عددهم أو مثلي فئتكم الكافرة، فعلى الثاني يلزم الخروج من الخطاب إلى الغيبة في جملة واحدة. قوله: (ولذلك وصف ضعفهم) أي: لما قرر من مقاومة الواحد الاثنين بعدما كلفوا مقاومة الواحد العشرة، وصف ضعف المشركين بالقلة؛ لأن الضعف قليل بالإضافة على عشرة الأضعاف، يريد في سورة الأنفال في قوله: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) [الأنفال: 44]. قوله: (إلى عشرة الأضعاف) قيل: عرفه؛ لأن المراد المعهود في قوله: (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال: 66]، ولو قال: تسعة الأضعاف، لكان أحسن؛ لأن العشرة تسعة أضعاف الواحد، لأن ضعف الواحد اثنان، وضعفا الواحد ثلاثة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال في "المغرب": فإذا وصى الميت: أعطوا فلاناً ضعف ما يصيب ولدي، يعطى مثله مرتين، ولو قال: ضعفي ما يصيب ولدي، فإن أصابه مئة يعطى ثلاث مئة. وعن أبي عبيدة في قوله تعالى: (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب: 30] أي: تعذب أعذبة. قلت: وفي "المغرب" أيضاً: أن الأزهري أنكره وقال: هذا الذي يستعمله الناس، وأما الحذاق فقالوا: إنها تعذب مثلي عذاب غيرها، لأن الضعف في كلامهم: المثل. ويؤيده قول المصنف في قوله تعالى: (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) [البقرة: 265] "ضعفين: مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل". وقول الراغب: الضعف من الألفاظ المتضايفة، كالنصف والزوج، وهو تركب زوجين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته، ضممت إليه مثله فصاعداً، قال بعضهم: ضاعف أبلغ من ضعف، ولهذا قرأ أكثرهم: (يُضَاعَفْ) [الأحزاب: 30]، وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] فالمضاعفة على قضية هذا القول تقتضي أن تكون عشر أمثالها. وقيل: ضعفت، بالتخفيف، ضعفاً، فهو مضعوف، فالضعف: مصدر، والضعف: اسم كالثني والثني، فضعف الشيء هو الذي يثنيه، ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد

وقرأ ابن مصرف: (يرونهم)، على البناء للمفعول بالياء والتاء، أي يريهم اللَّه ذلك بقدرته. وقرئ: (فئة تقاتل وأخرى كافرة)، بالجرّ على البدل من فئتين، وبالنصب على الاختصاص، أو على الحال من الضمير في (التقتا)، (رَايَ الْعَيْنِ) يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) كما أيد أهل بدر في تكثيرهم في عين العدوّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومثله، نحو أن يقال: ضعف العشرة، فذلك عشرون بلا خلاف، وإذا قلت: أعطه ضعفي واحد، فإن ذلك اقتضى الواحد ومثليه، وذلك ثلاثة؛ لأن معناه: الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافاً، فإذا لم يكن مضافاً فقلت: الضعفين، قيل: ذلك يجري مجرى الزوجين في أن كلاً منهما يزاوج الآخر، فلا يخرجان عن الاثنين، بخلاف ما إذا أضيف الضعفان إلى واحد فيثلثهما، نحو: ضعفي الواحد. قوله: (وبالنصب على الاختصاص) أي: على المدح، يعني: اذكر فئة لا يخفى شأنها، وهي التي تجاهد في سبيل الله، وعلى هذا "وأخرى كافرة" منصوبة على الذم؛ لأنها مقابلة لها ومعطوفة عليها. قوله: (أو على الحال من الضمير في (الْتَقَتَا))، قال أبو البقاء: ويقرأ "فئة" بالنصب فيهما على أن يكون حالاً من الضمير في (الْتَقَتَا)، تقديره: التقتا مؤمنة وكافرة، و"فئة"، و"أخرى"، على هذا: توطئة للحال. يريد: أن لفظة "فئة"، ولفظة "أخرى" في القرآن موطئتان للحال، والحال هي: مؤمنة وكافرة، كقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2]، وعبر بقوله: (تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عن قوله: "مؤمنة" لأنه مقابل لقوله: "كافرة".

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) 14 ـ 17]. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) المزين هو اللَّه سبحانه وتعالى؛ للابتلاء، كقوله: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) [الكهف: 7]. ويدل عليه قراءة مجاهد: (زين للناس)، على تسمية الفاعل. وعن الحسن: الشيطان، واللَّه زينها لهم؛ .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المزين هو الله سبحانه وتعالى للابتلاء)، قال القاضي: لأنه الخالق للأفعال والدواعي، ولعله زينه ابتلاء أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله، ولأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع. وقلت: الأول يناسب المقام، لقوله تعالى: (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [آل عمران: 14] وقوله: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) [آل عمران: 15]، وتسمية المذكورات بالخير على زعم طالبيها، ونحوه قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 32]. الراغب: أصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده، وذلك في الدنيا ضربان: صادقة وكاذبة، فالصادقة: ما يختل البدن من دونه، كشهوة الطعام عند الجوع، والكاذبة: ما لا يختل من دونه، وقد يسمى المشتهى شهوة، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) يحتمل الشهوتين، وقوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) [مريم: 59] من الشهوات الكاذبة، ومن المشتهيات المستغنى

لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها (حُبُّ الشَّهَواتِ) جعل الأعيان التي ذكرها شهوات؛ مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها. والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات؛ لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، وقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) ثم جاء التفسير؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنها، وقوله تعالى في صفة الجنة: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ) [الزخرف: 71] من الصادقة. قوله: (جعل الأعيان التي ذكرها شهوات) يعني حين أوقع الشهوات مبهماً أولاً ثم بين بالمذكورات، علم أن الأعيان هي عين الشهوات، كأنه قيل: زين حب الشهوات التي هي النساء، فجرد عن النساء شيء يسمى شهوات، وهي نفس الشهوات، نحو: في البيضة عشرون رطلاً حديداً، كأنه قيل: هذه الأشياء خلقت للشهوات وللاستمتاع بها لا غير، لكن المقام يقتضي الذم، ولفظ الشهوة عند العارفين مسترذل، والتمتع بها نصيب البهائم، وهو المراد من قوله: "والوجه أن يقصد تخسيسها". قوله: (من اتبعها) متعلق بقوله: "مذموم"، مفعول أقيم مقام الفاعل، و"شاهد على نفسه بالبهيمية" بدل من قوله: "مذموم من اتبعها"؛ لأن "شاهد" مستند إلى ضمير من اتبعها. قوله: (وقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ))، قيل: هذه الجملة مستأنفة، وليست بها؛ لأن الجملة المستأنفة المقرونة بالعاطفة لا تكون إلا معترضة أو مذيلة، وهذه ليست كذلك، بل هي معطوفة على قوله: "جعل الأعيان"، ويكون قوله: "والوجه أن يقصد"، كالإضراب عن قوله: "جعل"، ثم بنى الكلام على الثاني وقال: " (زُيِّنَ) أي: جعل الأعيان نفس الشهوات مبالغة، لا بل قصد تخسيسها، وسماها شهوات"، يعني سماها شهوات ابتداء تخسيساً لها.

ليقرر أوّلا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها وأدلّ على ذم من يستعظمها، ويتهالك عليها، ويرجح طلبها على طلب ما عند اللَّه. والقنطار: المال الكثير. قيل: ملء مسك ثور، وعن سعيد بن جبير: مائة ألف دينار. ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مئة رجل قد قنطروا، و (المقنطرة) مبنية من لفظ القنطار؛ للتوكيد كقولهم: ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حبه). الضمير راجع إلى اللام في "المزين" لأنها موصولة، أي: الذين زين لهم. قوله: (ما هو إلا شهوات لا غير) من التراكيب التي منعها صاحب "المفتاح"، وقال: لا يصح: ما زيد إلا قائم لا قاعد، ولا: ما يقوم إلا زيد لا عمرو، والسبب أن "لا" العاطفة من شرط منفيها أن لا يكون منفياً قبلها بغيرها من كلمات النفي. وقيل في العذر: ليست "لا" في قوله: "لا غير" للعطف، بل هو لمجرد النفي، وقوله: "لا غير" صفة لـ "شهوات"، أي: ما هو إلا شهوات موصوفة بأنها ليست غير الشهوات، أي: موصوفة بأنها شهوات صرفة. وقلت: هذا الغدر إن صح في هذا المقام فكيف يصح في قوله في النساء: "ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا إحساناً لا إساءة"، إذ لا يجوز فيه إلا العطف؛ لأن اسم "لا" المفرد لا يكون منصوباً أبداً، بل إذا كان مضافاً أو مشبهاً به، والحق جوازه على تأكيد ما هو منفي قبلها. قوله: (والقنطار: المال الكثير)، الراغب: القنطرة من المال: مقدار ما فيه عبور الحياة، تشبيهاً بالقنطرة، وذلك غير محدود القدر، وإنما هو بحسب الإضافة كالغنى، فرب إنسان يستغني بالقليل، وآخر لا يستغني بالكثير، ولما قلنا: اختلفوا في حده، فقيل: أربعون أوقية، وقال الحسن: ألف ومئتا دينار، إلى غير ذلك، كاختلافهم في حد الغنى، (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) أي: المجموعة قنطاراً قنطاراً، كقولهم: دراهم مدرهمة، ودنانير مدنرة.

و (الْمُسَوَّمَةِ): المعلمة، من السومة وهي العلامة؛ أو المطهمة؛ أو المرعية، من أسام الدابة وسوّمها (وَالْأَنْعَامِ): الأزواج الثمانية. (ذلك) المذكور (مَّتَاعُ الحياة الدنيا)، (لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات) كلام مستأنف، فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل صفته كيت وكيت، ويجوز أن يتعلق اللام ب (خير)، واختص المتقين؛ لأنهم هم المنتفعون به، وترتفع (جنات) على: هو جنات، وتنصره قراءة من قرأ (جنات) بالجرّ على البدل من (خير) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو المطهمة)، الأساس: جواد مطهم: تام الحسن، ورجل مطهم. قوله: (هل أدلكم على رجل عالم؟ عندي رجل)، قوله: "عندي رجل" مثال لقوله: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)، فيكون "رجل عالم" نظير (بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ)، وذلك يوهم أن (مِنْ ذَلِكُمْ) صفة لـ "خير"، وليس به. قال أبو البقاء: (مِنْ ذَلِكُمْ) في موضع نصب بـ "خير"، أي: بما يفضل ذلك، ولا يجوز أن يكون صفة لـ "خير"؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضاً لما زهدوا فيه من الأموال ونحوها. قوله: (وترتفع (جَنَّاتٌ) على هو جنات)، وهو نحو قوله تعالى: (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ) [الحج: 72]. قوله: (وتنصره قراءة من قرأ "جنات" بالجر على البدل)؛ لأن جنات حينئذ بيان للخير كما أن قوله: "هو جنات": تفسير له، قال أبو البقاء: هو: صفة لخير، و (خَالِدِينَ): حال مقدرة من ضمير (اتَّقَوْا)، والعامل الاستقرار، أو من الهاء في (تَحْتِهَا).

(والله بَصِيرٌ بالعباد) يثيب ويعاقب على الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم؛ فلذلك أعدّ لهم الجنات. (الذين يَقُولُونَ) نصب على المدح، أو رفع، ويجوز الجرّ صفة للمتقين، أو للعباد، والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وخص الأسحار؛ لأنهم كانوا يقدّمون قيام الليل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم، فلذلك أعد لهم الجنات)، يعني العباد، مظهر أقيم موضع المضمر لتلك العلة، ويمكن أن يقال: والله بصير بالعباد المتقين وبما يصلحهم ويرديهم، وأن إيثار الآخرة على الدنيا وزينتها خير لهم، فلذلك أنبأهم بما هو خير لهم، والأنسب أن يجعل قوله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ) الآية وارداً على المدح تربية لمعنى وضع المظهر موضع المضمر، ويعضد هذا الوجه ما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء"، أخرجه الترمذي عن قتادة. وعن البخاري ومسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" الحديث. وإنما خص الماء في الحديث الأول بالذكر تشبيهاً لطالب الدنيا بالمستسقي. قوله: (وقد مر الكلام في هذا) أي: في أول البقرة عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

فيحسن طلب الحاجة بعده (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] وعن الحسن: كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار، هذا نهارهم، وهذا ليلهم. (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [18 - 19] شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد، كسورة الإخلاص، وآية الكرسي وغيرهماـ بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك واحتجاجهم عليه (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10])، وعن ابن عباس: هذه الكلم لا تقبل ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة إلا إذا اقترن بها العمل الصالح، والكلم الطيب: كل ذكر من تهليل وتكبير وتسبيح وقراءة قرآن واستغفار، وها هنا العمل الصالح الذي يرفع الاستغفار بالأسحار هو: قيام الليل. قوله: (شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة)، الباء في "أفعاله" كالباء في "كتبت بالقلم"، والباء في "بشهادة" متعلقة بـ "شبهت". قوله: (وكذلك إقرار الملائكة) أي: وكذلك شبه إقرار الملائكة وأولي العلم بالتوحيد واحتجاج الملائكة وأولي العلم على التوحيد بشهادة الشاهد في البيان، فالباء في "بذلك": متعلق بالإقرار، لا بـ "شبهت"، كما ظن، لدلالة تعلق الجار والمجرور، أعني: "عليه"، بقوله:

والعمل على السوية فيما بينهم، وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله: (وَهُوَ الحق مُصَدّقًا) [البقرة: 91]، فإن قلت: لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز. قلت: إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس، كما جاز في قوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) [الأنبياء: 72] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "واحتجاجهم"، وأن الضمير واسم الإشارة راجعان إلى شيء واحد وهو التوحيد، وعطف قوله: "بما أوحى" على "أفعاله" ليؤذن بأن الشهادة من الله إما فعلي أو قولي، وأتى بقوله: "وكذلك إقرار الملائكة" على التفريع والتشبيه، ليعلم الفصل بين الشهادتين، والفرق بين الدلالتين، فإن شهادة الله: نصب الأدلة وإنزال الوحي، وشهادة الملائكة وأولي العلم: الإقرار بالتوحيد والاحتجاج عليه، ولهذا فصل الله تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم من شهادته بالمفعول وهو قوله: (أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، فالمشبه: دلالة الله على التوحيد بالفعل والقول، وإقرار الملائكة وأولي العلم واحتجاجهم، والمشبه به: شهادة الشاهد، ووجه الشبه: البيان والكشف؛ لأنه شامل للمعاني، وهو أيضاً عقلي، فالاستعارة مصرحة تبعية لأن الطرف المذكور هو المشبه به، وهو فعل. قوله: (والعمل على السوية فيما بينهم) أي: في معاملاتهم من التعادل في الأخذ والعطاء والوزن والكيل، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]. قوله: (حال مؤكدة منه) أي: من فاعل (شَهِدَ) لقوله فيما بعد: قد جعلته حالاً من فاعل (شَهِدَ).

أن انتصب (نافلة) حالا عن يعقوب. ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً جاز؛ لتميزه بالذكورة، أو على المدح. فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك: الحمد للَّه الحميد، "إنا معشر الأنبياء لا نورث" إنا - بني نهشلـ لا ندعي لأب قلت: قد جاء نكرة كما جاء معرفة، وأنشد سيبويه فيما جاء منه نكرة قول الهذلي: وَيَاوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطْلٍ وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن انتصب (نَافِلَةً) هو فاعل لـ "جاز". قوله: (إنا معشر الأنبياء لا نورث)، والرواية عن الأئمة: "لا نورث، ما تركناه صدقة". قوله: (إنا بني نهشل لا ندعي لأب) تمامه: عنه ولا هو بالأبناء يشرينا المعنى: إنا، أعني بني نهشل، ندعي: من الدعوة، وعنه: يتعلق به، يقال: ادعى فلان في بني هاشم: إذا انتسب إليهم، وادعى عنهم: إذا عدل بنسبته عنهم، كما يقال: رغب فيه وعنه، وقوله: "لأب" أي: لأجل أب، شريته يجيء بمعنى بعته، أي: إنا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره، وهو لا يرغب عنا فيتبنى غيرنا ويبيعنا به، فقد رضي كل منا بصاحبه. قوله: (ويأوي إلى نسوة) الضمير في "يأوي": للصائد، وعطل: جمع عاطل،

فإن قلت: هل يجوز أن يكون صفة للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟ قلت: لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. فإن قلت: قد جعلته حالا من فاعل (شهد)، فهل يصح أن ينتصب حالا عن (هو) في: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)؟ قلت: نعم؛ لأنها حال مؤكدة، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقولك: أنا عبد اللَّه شجاعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لا حلي عليهن، شعثاً: جمع شعثاء، وهي التي لا تسرح شعرها ولا تغسله، ومراضيع: يحتمل أن يكون جمع "مرضاع": وهي كثيرة الإرضاع، وأن يكون جمع "مرضع"، والسعالي: جمع سعلاة، وهي أخبث الغيلان، ونصب "شعثاً" على الترحم بفعل مضمر، أو على الذم، وأتى بالواو ليدل على كمال ذمها وسوء حالها، كأنه قيل: ويأوي إلى نسوة عطل وأذم شعثاً، وفي تخصيص مراضيع تتميم للذم، ومن ثم قيل: فلانة تأكل من ثدييها. قوله: (والحال المؤكدة لا تستدعي) أي: الحال المؤكدة لا توجب أن يكون عاملها مستقراً في الجملة التي الحال زيادة في فائدتها، بل إن كان في الجملة عامل جاز، كقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ)، وإن لم يكن فيها عامل، كقولك: أنا عبد الله شجاعاً أيضاً: جاز، وظهر من هذا أن الحال المؤكدة ليس بلازم أن يكون مجيئها على إثر جملة عقدها من اسمين لا عمل لهما فيها كما في "المفصل"؛ لأن ذلك شرط، فحذف عاملها على سبيل الوجوب.

وكذلك لو قلت: لا رجل إلا عبد اللَّه شجاعاً، وهو أوجه من انتصابه عن فاعل (شهد)، وكذلك انتصابه على المدح. فإن قلت: هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة اللَّه والملائكة وأولي العلم كما دخلت الوحدانية؟ قلت: نعم إذا جعلته حالاً من (هو)، أو نصباً على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد اللَّه والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائمٌ بالقسط. وقرأ عبد اللَّه: (القائم بالقسط)، على أنه بدل من (هو)، أو خبر مبتدأٍ محذوف، وقرأ أبو حنيفة: (قيما بالقسط) (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): صفتان مقرّرّتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعنى: أنه العزيز الذي لا يغالبه إلهٌ آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله، فإن قلت: ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم هذا التعظيم؛ حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة، والبراهين القاطعة، وهم علماء العدل والتوحيد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: (قَائِماً) حال من (هُوَ)، والعامل فيه معنى الجملة، أي: يفرد قائماً، وقيل: هو حال من اسم الله أي: شهد لنفسه بالوحدانية، وهي حال مؤكدة على الوجهين. قوله: (وهو أوجه) أي: جعل (قَائِماً) حالاً من (هُوَ) أوجه، قال صاحب "التقريب": وهو أوجه، أي: من انتصاب (قَائِماً) عن فاعل (شَهِدَ) ومن انتصابه على المدح عنه للقرب، ولكون القيام بالقسط مشهوداً عليه كالتوحيد، وللاستغناء عن عذر تنكير المدح، وإنما يكون مشهوداً عليه إذا جعل حالاً من (هُوَ) أو نصباً على المدح أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهدوا أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط، وظاهر كلام المصنف أن انتصابه على المدح أوجه من أن يكون حالاً من فاعل (شَهِدَ) لدخوله في حكم أنه من شهادة الله والملائكة وأولي العلم.

وقرئ: (أنه) بالفتح، و (إِنَّ الدِّينَ) بالكسر على أنّ الفعل واقع على (أنه) بمعنى: شهد اللَّه على أنه، أو: بأنه، وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدتها أن قوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) توحيد، وقوله: (قائِماً بِالْقِسْطِ) تعديل، فإذا أردفه قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند اللَّه، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (إِنَّ الدِّينَ) بالكسر) أي: قرئ بالكسر، قرأها الجماعة إلا الكسائي فإنه قرأها بالفتح، قال القاضي: من فتح جعله بدلاً من (أَنَّهُ): بدل الكل إن فسر الإسلام بالإيمان، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة، ومن كسر (إنه) وفتح "أن" أوقع الفعل على الثاني وجعل بينهما اعتراضاً، أو أجرى (شَهِدَ) مجرى "قال" تارة، ومجرى "علم" أخرى، لتضمنه معناهما. قوله: (جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى) أي: مذيلة معترضة، على أسلوب قوله تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125]، وإنما كانت مذيلة لأن الشهادة بالوحدانية وبالعدل والعزة والحكمة هي أس الدين وقاعدة الإيمان، ولاشك أن الدين أعم من الاعتقاد الذي هو التصديق، ثم إن التذييل صدر بـ (إِنَّ) وخصص بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) وهو كناية عن رفعة المنزلة، ثم التعريف في الخبر، الذي هو (الإِسْلامَ)، جاء لقصر المسند على المسند إليه، قال أبو البقاء: (عِنْدَ اللَّهِ): ظرف، والعامل فيه (الدِّينَ) وليس بحال؛ لأن "إن" لا تعمل في الحال. قوله: (فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين) يريد أن قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) يدل على إثبات التوحيد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) على العدل، وأن قوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان مقررتان لهما، وأن قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) جملة مؤكدة لما سبق، ومعناه معناه، فلزم على هذا أن يكون الدين عند الله دين من يقول بالعدل والتوحيد، ويلزم من المفهوم أن دين مخالفيهم لا يكون من الدين في شيء. وقلت: إنما نشأت هذه الجسارة من تأويله قوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) بما اشتهاه، فإنه فسر العزيز بقوله: "الذي لا يغالبه إله آخر" ليدل على التوحيد، وحمل الحكيم على: "الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله" ليدل على العدل، فتكونان صفتين مقررتين لما سبق، فهلا حملهما على ما تقتضيه اللغة والمقام لينظر: هل يكون دين الإسلام سوى مذهب السنة والجماعة؟ وذلك أنه تعالى لما ذكر التوحيد والتعديل، وأردفهما على وجه التكميل والتوكيد معنى العزة والحكمة، ليدل قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) على التوحيد الصرف، و (قَائِماً بِالْقِسْطِ) على أنه تعالى يجري الأمور كلها على الاستقامة والسداد، وقوله: (الْعَزِيزُ) على أنه هو القوي القادر على كل شيء، الغالب الذي لا يغلبه شيء، فيفيد معنى أنه يفعل ما يشاء فلا يتصرف في ملكه أحد، وقوله: (الْحَكِيمِ) على أنه هو المحكم لخلق العالم، العالم بلطفه غوامض العلوم التي تخفى على الغير فلا يقف على أسرار حكمته أحد، جاء بقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ـ كما قالـ مؤكداً لما سبق ليؤذن أن الإسلام هو مذهب أهلا لسنة والجماعة حقيقة، والأسلوب واللغة يساعدان هذا التقرير. أما الأسلوب فإنه كرر قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ليناط به ما لم ينط به أولاً، وهو معنى (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فلو حمل الوصفان على ما يدل على الزيادة مع التأكيد، من غير تعسف وتأويل بعيد، كان أولى مما حملا على مجرد التأكيد على أن المقام مع الأول كما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما اللغة فقد ذكر الأزهري في "شرح أسماء الله الحسنى" أن العزيز هو: الممتنع الذي لا يغلبه شيء، من: عز يعز، بكسر العين: إذا غلب، والفاعل: عاز وعزيز، قال الله تعالى: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23] أي: غلبني، فهو عام في معنى الغلبة، وتخصيصه بأن لا يغالبه إله آخر لا دليل عليه، والحكيم: المحكم لخلق الأشياء، كما قالوا: عذاب أليم، أي: مؤلم، والحكيم أيضاً: من كان عالماً بغوامض العلم مستنبطاً للطائف المعاني. وذكر المصنف في آخر المائدة: "العزيز: القوي القادر على الثواب والعقاب، والحكيم: الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب". وقال الإمام: وقد خاض صاحب "الكشاف" ها هنا في التعصب للاعتزال، وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وعلى أن من أجاز الرؤية أو ذهب إلى الجبر، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً، فما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي وقاطع، وأما حديث الجبر فالخوض فيه منه خوض فيما لا يعنيه؛ لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله تعالى جهلاً فقد اعترف بهذا الجبر، فمن أين هو والخوض في هذه المباحث! ثم قال: معنى كونه (قَائِماً بِالْقِسْطِ): قائماً بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير، أي: يجريه على الاستقامة، فالعدل منه ما يتصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين، أما المتصل بباب الدنيا فانظر أولاً في كيفية خلقه الإنسان وأعضاءه حتى

وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدّى إليه؛ كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين اللَّه الذي هو دين الإسلام، وهذا بين جلي كما ترى! وقرئا مفتوحين، على أن الثاني بدل من الأوّل، كأنه قيل: شهد اللَّه أن الدين عند اللَّه الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بيانا صريحاً؛ لأن دين اللَّه هو التوحيد والعدل. وقرئ الأوّل بالكسر والثاني بالفتح، على أن الفعل واقع على (إنّ)، وما بينهما اعتراض مؤكد، وهذا - أيضاـ شاهد على أن دين الإسلام هو العدل والتوحيد، فترى القراآت كلها متعاضدة على ذلك. وقرأ عبد اللَّه: (أن لا إله إلا هو) وقرأ أبي: (إن الدين عند اللَّه للإسلام)، وهي مقوية لقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية. وقرئ: (شهداء للَّه)، بالنصب على أنه حال من المذكورين قبله، وبالرفع على: هم شهداء للَّه. فإن قلت: فعلام عطف على هذه القراءة (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)؟ قلت: على الضمير في (شهداء)، وجاز لوقوع الفاصل بينهما. فإن قلت: لم كرر قوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)؟ قلت: ذكره أوّلا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره ثانياً بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ترى عدل الله فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح، والغنى والفقر، والصحة والسقم، وطول العمر وقصره، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله تعالى. وأما ما يتصل بالدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط. قوله: (وقرئ: "شهداء لله"، بالنصب على أنه حال من المذكورين) أي: من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ)، فعلى هذا: (وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ) مبتدأ، والخبر محذوف، أي: هما كذلك، واعترض بين الحال وصاحبها. وعلى قراءة الرفع مختصان بالشهادة لا غير، وهذا أقرب، لأن أغلب تلك الصفات، بل الكل مختصة بالإنسان.

كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين؛ ولذلك قرن به قوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)؛ لتضمنهما معنى الوحدانية والعدل. (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ): أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلافهم: أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل، (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أنه الحق الذي لا محيد عنه، فثلثت النصارى، وقالت اليهود عزير ابن اللَّه، وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش، لأنهم أمّيون، ونحن أهل الكتاب، وهذا تجويز للَّه، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي: ما كان ذلك الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسداً بينهم وطلبا منهم للرياسة وحظوظ الدنيا، واستتباع كل فريق ناسا يطؤون أعقابهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين)، يعني: أثبت التوحيد على الاختصاص له أولاً بدلالة (لَا) و (إِلَّا)، وقرن به صفة العدل لا على الاختصاص، ثم كرر كلمة التوحيد لتدل على اختصاصه بالصفتين؛ لأن الضمير المرفوع فيها راجع إلى ذلك الموصوف بالصفتين، فيحصل من رجوع الضمير تخصيص العدل أيضاً، انظر إلى هذا التعسف، والعدول عن الصراط السوي. قوله: (فثلثت النصارى، وقالت اليهود: عزير ابن الله) بيان لتركهم التوحيد، و"قالوا: كنا أحق ... " إلى آخره: بيان لتركهم العدل، وإليه الإشارة بقوله: "وهذا تجوير لله"، والمجموع بيان قوله: "تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل"، وفيه لف ونشر. قوله: (يطؤون أعقابهم)، الأساس: فلان موطأ العقب: كثير الأتباع، ووشى رجل بعمار ابن ياسر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال: اللهم إن كان كذباً فاجعله موطأ العقب.

لا شبهة في الإسلام. وقيل: هو اختلافهم في نبوّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، حيث آمن به بعض وكفر به بعض. وقيل: هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء، فمنهم من آمن بموسى، ومنهم من آمن بعيسى. وقيل: هم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام حين احتضر استودع التوراة سبعين حبراً من بني إسرائيل، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن واختلف أبناء السبعين بعدما جاءهم علم التوراة بغياً بينهم وتحاسداً على حظوظ الدنيا والرياسة. وقيل: هم النصارى، واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد اللَّه ورسوله. (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) 20] (فَإِنْ حَاجُّوكَ) فإن جادلوك في الدين (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي: أخلصت نفسي وجملتي للَّه وحده لم أجعل فيها لغيره شركاً بأن أعبده وأدعوه إلها معه، يعنى أن ديني دين التوحيد، وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا شبهة في الإسلام) عطف على "حسد"، أي: ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً لا شبهة، وهذا التركيب أيضاً مما منعه صاحب "المفتاح"، والكلام فيه ما سبق في قوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) [آل عمران: 14]. قوله: (وقيل: هو اختلافهم): عطف على قوله: "واختلافهم". قوله: (وقيل: هم اليهود) عطف على قوله: "أهل الكتاب من اليهود والنصارى". قوله: (الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت) كلاهما روي بلفظ المضارع من نسخة المصنف، والسماع بلفظ الماضي في اللفظتين.

وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه، ونحوه: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران: 64]، فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو حق اليقين الذي لا لبس فيه، فما معنى المحاجة فيه؟ ! (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف على التاء في (أسلمت)، وحسن للفاصل، ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"، فيكون مفعولا معه. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ): من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ): والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب: (أَأَسْلَمْتُمْ) يعنى: أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو دفع للمحاجة)، الفاء: نتيجة، وحاصل المعنى: أنه أوقع (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ) جزاء للشرط وجواباً عن محاجتهم على سبيل الإنكار والتقريع، يعني: إن جادلوك بأن يقولوا: إن ما جئت به دين غريب وبديع، وما سمعنا به في آبائنا الأولين فأخبرهم ووبخهم بقولك: إن الذي جئت به هو التوحيد، وهو الدين القديم الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام، لقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131]، و (وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) [الأنعام: 79]، وكذا جميع الأنبياء عليهم السلام، فلم يقولون: إنه بديع؟ ! وإلى الإنكار الإشارة بقوله: "فما معنى المحاجة فيه؟ ! " والضمير في (حَاجُّوكَ) لأهل الكتاب، بدليل قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، وارتباط (فَإِنْ حَاجُّوكَ) بالفاء به، وإن هذه المحاجة لبغيهم وحسدهم، وأما قوله: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) فهو عطف على الجملة الشرطية، والمعنى: فإن حاجك أهل الكتاب فرد محاجتهم بذلك، فإذا أفحمتهم عمم الدعوة وقل للأسود والأحمر: (أَأَسْلَمْتُمْ) أي: جاءكم ما وجب عليكم قبوله من الدين القويم، دين أبيكم إبراهيم؟ (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا)، ودليل العموم انضمام الأميين المعني به المشركون مع أهل الكتاب، فعلى هذا قوله: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عطف على الجملة الشرطية.

وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته: هل فهمتها لا أم لك؟ ! ومنه قوله عزّ وجل: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 91] بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف؛ لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلى الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان، وكذلك في: (هل فهمتها) توبيخ بالبلادة وكلة القريحة، وفي: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 91] بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا): فقد نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى ومن الظلمة إلى النور، (وَإِنْ تَوَلَّوْا) لم يضروك؛ فإنك رسول منبه، ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) 21 - 22] .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يتوقف إذعانه للحق) من الإسناد المجازي. قوله: (وللمعاند بعد تجلي الحجة) خبر، والمبتدأ قوله: "ما يضرب أسداداً"، على أن "ما": مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف، أي: ما يضرب به. قوله: (أسداداً) جمع سد، الأساس: سد الثلمة فانسدت، وضرب بينهما سد وسد، وضربت الأسداد.

وقرأ الحسن: (ويقتلون النبيين)، وقرأ حمزة: (ويقاتلون الذين يأمرون)، وقرأ عبد اللَّه: (وقاتلوا) وقرأ أبيّ: ([و] يقتلون النبيين، والذين يأمرون)؛ وهم أهل الكتاب قتل أولوهم الأنبياء، وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا، وكانوا حول قتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين لولا عصمة اللَّه. وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: قلت يا رسول اللَّه، أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال: "رجل قتل نبياً، أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر" ثم قرأها، ثم قال: "يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مئة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهم أهل الكتاب): الضمير في قوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) لأهل الكتاب، أي: إسناد (يَقْتُلُونَ) إلى الموجودينـ مع أن فعل القتل صدر من أسلافهمـ لرضاهم به، فهو من وضع المستقبل موضع الماضي لإرادة الاستمرار فيما مضى وفيما سيجيء، فإنهم لما كانوا راضين بفعل أوليهم فكأنهم قتلوهم، ولما كانوا حول قتل النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم يقتلونه، كما تقول: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، أي: هذا دأب اليهود وعادتهم التي استمروا عليها أباً عن جد، والضمير في "قتلوا أتباعهم" لـ "أولوهم"، أي: قتل أولوهم أتباع الأنبياء من الذين يأمرون بالمعروف، وإنما كرر الفعل ليشير إلى أن ما في التنزيل من تكرير (يَقْتُلُونَ) ووضع "القسط" موضع "المعروف" دلالة على رفعة منزلة الآمرين بالمعروف، وأن مراتبهم بعد مراتب الأنبياء، ودافعهم دافع الأنبياء، وأنهم المتخلقون بأخلاق الله، لما فيه رمز إلى معنى قوله: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18] مع اشتماله على معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الآمر بالعدل والاستقامة ناه عن الجور والميل، ومن ثم صرح في الحديث الذي رواه، عن أبي عبيدة، بقوله: "أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر"، ثم قرأها.

فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار". (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)؛ لأنّ لهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، فإن قلت: لم دخلت الفاء في خبر (إن)؟ قلت: لتضمن اسمها معنى الجزاء، كأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم بمعنى: من يكفر فبشرهم، و"إنّ" لا تغير معنى الابتداء، "فكأنّ دخولها كلا دخول، ولو كان مكانها "ليت" أو "لعل" لامتنع إدخال الفاء؛ لتغير معنى الابتداء. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ *فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [23 - 25] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتضمن اسمها معنى الجزاء) أي: ألشرط، قال الزجاج: إنما جاز دخول الفاء في خبر إن للموصول، فإن صلته بمنزلة الشرط، كأن "إن" لم تذكر، فالكلام على الابتداء فلا يجوز: إن زيداً فقائم، ولا: ليت الذي يقوم فيكرمك، لأن التمني مزيل لمعنى الابتداء، وقال القاضي: منع سيبويه إدخال الفاء في خبر "إن" كـ "ليت" و"لعل"، ولذلك قيل: الخبر (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، كقولك: زيد فافهم رجل صالح. وقال صاحب "الفرائد": عدم جواز دخول الفاء بعد دخول "ليت" و"لعل" لانتفاء معنى الخبرية، فإن الكلام بعد دخولهما لم يبق محتملاً للصدق والكذب، بخلافه بعد دخول "إن"، وفي دخول الفاء على الخبر ها هنا بعد دخول "إن" على المبتدأ إشارة لطيفة، وهو أنهم إن بقوا على ما كانوا عليه وأصروا عليه من الارتضاء بما فعل المقدمون منهم، والعزم على ما هموا به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فبشرهمـ لأنهم مستحقون للتبشيرـ بذلك، وإن رجعوا عن ذلك وأسلموا، لم يستحقوا ذلك وكانوا كسائر المؤمنين، ولا تحصل الإشارة بدون الفاء.

(أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ): يريد أحبار اليهود، وأنهم حصلوا نصيبا وافراً من التوراة. و"من" إما للتبعيض وإما للبيان؛ أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة، وهي نصيب عظيم (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ) وهو التوراة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ فقال: "على ملة إبراهيم"، قالا: إنّ إبراهيم كان يهودياً، قال لهما: "إنّ بيننا وبينكم التوراة، فهلموا إليها" فأبيا، وقيل نزلت في الرجم، وقد اختلفوا فيه .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"من": إما للتبعيض، وإما للبيان) تفصيل وقع بين متعلقيه، فقوله: وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة على تقدير أن تكون "من" للبيان، والتنكير في (نَصِيباً) للتكثير، والتعريف في (الْكِتَابُ) للعهد، والمعهود: التوراة، وقوله: "أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح" على أن تكون (مِنَ) للتبعيض، والتنكير في (نَصِيباً) للتعظيم؛ لأن التوراة وإن كانت بعضاً من الكتب لكنها حصة عظيمة القدر، ونحوه في الأسلوب قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الروم: 23] أي: منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فصل بالقرينتين الأخيرتين بين الأوليين، ثم اللام إما للجنس إذا أريد الكتب المنزلة، أو للعهد إذا أريد اللوح، ومن ثم قال: "أو من اللوح"، ويجوز أن يقال: إن قوله: "ومن: للتبعيض، وإما للبيان" متعلق بقوله: "وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة"، أما البيان فكما سبق، وأما التبعيض فالمراد من النصيب الوافر: ما فهموا من معانيه وكدحوا في الدراية فيه، والأول هو الوجه؛ لأن المقام يقتضي تعيير اليهود وتوبيخهم وأنهم مع وفور علمهم وحصولهم على النصيب العظيم يرتكبون هذا الأمر الذي يأنف منه كل جاهل غبي. قوله: (وقيل: نزلت في الرجم) عطف من حيث المعنى على قوله: "دخل مدارسهم فدعاهم"، أي: اختلف النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في أن إبراهيم كان يهودياً أم حنيفاً مسلماً؟ واختلف النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في أن الزاني المحصن هل يرجم أو يسخم وجهه؟ وقوله: "وعن

وعن الحسن وقتادة: كتاب اللَّه: القرآن؛ لأنهم قد علموا أنه كتاب اللَّه لم يشكوا فيه (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب اللَّه واجب، (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم. وقرئ: (ليحكم) على البناء للمفعول. والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم: وأنهم دعوا إلى كتاب اللَّه الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراةـ ليحكم بين المحق والمبطل منهم، (ثم يتولى فريق منهم) وهم الذين لم يسلموا؛ وذلك أنّ قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يقتضي أن يكون اختلافا واقعا فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (ذلِكَ) التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحسن وقتادة: كتاب الله: القرآن"، عطف على قوله: "إلى كتاب الله، وهو التوراة"، وقوله: "والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف" عطف على قوله: "وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي: كان الاختلاف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، أو بين أهل الكتاب من الذين أسلموا ومن الذين لم يسلموا، وإنما كان هذا أولى الوجوه لأن الضمير في قوله: (لِيَحْكُمَ) للتوراة، وفي (بَيْنَهُمْ) لأهل الكتاب، وإنما تحكم التوراة بينهم إذا وقع الاختلاف والمخاصمة بينهم، يؤيده إيقاع قوله: وذلك أن قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) تعليلاً لكون هذا الوجه أوجه. قوله: (وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم) إشارة إلى أن قوله: (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) جملة معترضة على رأيه، أو تذييل على رأي الأكثر، وأياً ما كان فهي مؤكدة لمعنى ما سبق لا حال كما ذكره القاضي، نعم إنما يكون حالاً إذا لم يفسر بأنهم قوم عادتهم الإعراض.

كما طمعت المجبرة والحشوية. (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، كما غرت أولئك شفاعة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كبائرهم. (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) فكيف يصنعون؟ فكيف تكون حالهم؟ وهو استعظام لما أعدّ لهم وتهويل لهم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه والمخلص منه، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل، وتطمع بما لا يكون، وروي: أنّ أوّل راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم اللَّه على رؤوس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يرجع إلى كل نفس على المعنى؛ لأنه في معنى كل الناس كما تقول: ثلاثة أنفس، تريد ثلاثة أناسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما طمعت المجبرة والحشوية) تعصب بارد، وقياس من غير جامع؛ لأن الذي وقع فيه الكلام هو الإعراض عما يحكم به كتاب الله لأجل تمسكهم بما ليس في كتاب الله من افترائهم على الله من تلقاء أنفسهم، وأهل الحق لا يعدلون عن دليل النص من الكتاب والسنة حين يدعون إليه إلى آرائهم كمخالفيهم، فلا يدخلون تحت هذا الحكم. قوله: (فكيف تكون حالهم؟ )، قال الزجاج: وهذا الحذف جار في الكلام، تقول: أنا أكرمك وأنت لم تزرني، فكيف إذا زرتني! أي: فكيف يكون إكرامي إياك إذا زرتني. قوله: ((وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يرجع إلى كل نفس)، يعني: ذكر الضمير وجمعه باعتبار معنى النفس، كما اعتبر في قولهم: ثلاثة أنفس بتأويل الأناسي؛ لأن الظاهر ثلاث أنفس، ومثله ما ذكره في البقرة في قوله: (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) إلى قوله (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة: 48] يعني: ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة، والتذكير بمعنى العباد والأناسي، كما تقول: ثلاثة أنفس. فقوله: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) توكيد لمعنى قوله: (وَوُفِّيَتْ

(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [26 - 27] الميم في (اللَّهُمَّ) عوض من "يا"؛ ولذلك لا يجتمعان، وهذا بعض خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) وتذييل للآية ودلالة على القسط التام والعدل الوافي، كقوله تعالى: (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس: 54]، وتهديد عظيم لهؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله فتولوا وأعرضوا بسبب افترائهم على الله، وإيذان بأن ذلك خسار في العاقبة ودمار، أي: كيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم من صفته أن تقام فيه موازين القسط، ويجازى فيه على النقير والقطمير، كقوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 8 ـ 9]. قوله: (والميم في (اللَّهُمَّ) عوض من: "يا"، ولذلك لا يجتمعان)، قال السجاوندي: والميم عوض "يا"، شدد، بخلاف ميم "قم"، لأنه عوض حرفين، كما شدد نون "ضربتن"؛ لأنه عوض حرفين في "ضربتموا"، ولا يصح نصب (مَالِكَ) على الصفة؛ لأن الميم المشددة بمنزلة الأصوات، فلا توصف، فالتقدير: يا مالك، وقال الزجاج: زعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه قد ضمت إليه الميم، وما بعده منصوب بالنداء، والقول عندي أنه صفة، فكما لا تمتنع الصفة مع "يا"، فلا تمتنع مع الميم.

وبدخول حرف النداء عليه وفيه لام التعريف، وبقطع همزته في (يا اللَّه)، وبغير ذلك، (مالِكَ الْمُلْكِ) أي: تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تعطى من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) النصيب الذي أعطيته منه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح؛ لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد (اللهم)، ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف، نحو: حيهل، فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف. وقلت: هو ضعيف، فإن نحو "سيبويه" و"خالويه" يوصف مع انضمام اسم الصوت. قوله: (وبغير ذلك)، قيل: كتفخيم لامه، وكاختصاصه بالله، فلا يطلق على غيره. قوله: (تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك)، فيه نوع تجوز، قال الراغب: الملك هو: التصرف بالأمر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الإنسان، ولهذا يقال: ملك الناس، ولا يقال: ملك الأشياء، والملك ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك تولى أو لم يتول، فمن الأول: (الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) [النمل: 34]، ومن الثاني: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة: 20] فجعل النبوة مخصوصة والملك فيهم عاماً، فإن معنى الملك ها هنا هو القوة التي بها يترشح للسياسة، لأن جعلهم كلهم متولين للأمر خلاف الحكمة ومنافيها، كما قيل: لا خير في كثرة الرؤساء، قال تعالى: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ). فالملك: ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، والملك كالجنس له، فكل مُلْكٍ مِلْكٌ وليس كل مِلك مُلكاً، والأظهر في الآية أنه يعني الملك الحقيقي، لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 247] فأضافه إلى نفسه تعظيماً، وملكه المطلق هو الملك الإلهي الذي لا جور فيه، ولهذا قرنه بالعز والذل، ونبه

فالملك الأوّل عام شامل، والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل. روي: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) أن الملك في الحقيقة له، وما لغيره عارية مستردة، ولم يعن بإعطاء الملك: سياسة العامة فقط، بل ملك الإنسان على قواه وهواه، وقد قيل: لا يصلح لسياسة الناس من لا يصلح لسياسة نفسه، وقيل لبعضهم: من الملك؟ فقال: من ملك هواه. قوله: (بعضان من الكل) هذا المعنى قد تكرر؛ لأن لام الجنس إذا دخلت على المفرد صلحت لأن يراد بها جميع الجنس، وأن يراد بها بعضه، بحسب القرائن، فالملك الأول مطلق شامل في جنسه؛ لأن الملك الذي تقع عليه مالكيته تعالى ليس ملكاً دون ملك، بخلاف الثاني والثالث، لأنهما حصتان من الجنس لتقييدهما بالإيتاء والنزع، ولأن المراد نزع الملك من العجم والروم وإيتاؤه المسلمين، ويحتمل الجنس، أي: أنت مالك حقيقة الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فتعطيه من تشاء وتنزعه ممن تشاء، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن (تُؤْتِي الْمُلْكَ) إلى آخره بيان على سبيل الاستئناف لقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) فيدخل في هذا العام ما أجري الكلام له، وهذا أبلغ مما ذهب إليه. قوله: (وأمنع من ذلك) أي: من أن يغلبوا. ويكون ملكهم للمسلمين.

وروي: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدّعتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما خط الخندق عام الأحزاب)، الحديث مروي في "سنن النسائي" عن رجل من لاصحابة، وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن البراء بن عازب، مع اختلاف. قوله: (عام الأحزاب)، النهاية: الأحزاب: الطوائف من الناس، جمع حزب، بالكسر، قال ابن الجوزي: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير خرج نفر من أشرافهم إلى مكة فألبوا قريشاً ودعوهم إلى الخروج، ثم أتوا غطفان وسليماً، وتجهزت قريش وجمعوا، وكانوا أربعة آلاف، وخرجت معهم بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة، فجميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب. قوله: (فأخذ المعول) قيل: الفاء فصيحة، أي: فمضى سلمان فأخبره صلى الله عليه وسلم فأتى وأخذ المعول فضربها، وفيه نظر، لأن الواو في قوله تعالى: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) [يوسف: 47] إلى قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ) ـ[يوسف: 50] أي: فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها، وقال الملكـ مثل هذه الفاء، وهي لا تسمى فصيحة، فكذا هذه الفاء، والتحقيق ما أسلفناه.

وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون، وقال: "أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب"، ثم ضرب الثانية فقال: "أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم"، ثم ضرب الثالثة فقال: "أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمّتي ظاهرة على كلها، فأبشروا"، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا! فنزلت. فإن قلت: كيف قال (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة؛ فقال (بيدك الخير) تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك؛ ولأن كل أفعال اللَّه تعالى من نافع وضارّ صادر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لابتيها)، النهاية: اللابة: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها: لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب، وألفها منقلبة عن واو، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين. قوله: (لكأن مصباحاً) اللام فيه جواب القسم. قوله: (قصور الحيرة). النهاية: الحيرة بكسر الحاء: البلد القديم بظهر الكوفة، شبه انضمام بعضها إلى بعض مع بياضها وصغرها بأنياب الكلاب. قوله: (ولأن كل أفعال الله) إلى قوله: (فهو خير كله)، قال القاضي: ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات، والشر مقضي بالعرض، إذ لا يوجد شر إلا ويتضمن خيراً. الراغب: أراد بالخير الخير والشر، وسماها خيراً لأنه ليس في العالم شر خالص، كما أن فيه خيراً خالصاً، وذلك أن ما هو شر لكذا هو خير لكذا، فالخير والشر يصدق عليهما الوصف بالخير من هذه الجهة، ولا يصدق عليهما الوصف بالشر، ولو قال: بيده الشر، لم يدخل فيه الخير.

عن الحكمة والمصلحة؛ فهو خير كله، كإيتاء الملك ونزعه. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحيّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب؛ دلالة على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده؛ فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم، ويؤتيه العرب ويعزهم، وفي بعض الكتب المنزلة: أنا اللَّه ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم لهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كما تكونوا يولى عليكم" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دلالة على أن من قدر) مفعول له لقوله: "ثم ذكر قدرته"، يعني: لما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يجيب عن قول الكفار: هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم بقوله: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية، أتى بجملة مستأنفة مشتملة على بيان الموجب، وذكر فيها ما يثبت به ذلك الوعد، وهو قدرته الباهرة في الآفاق والأنفس، وفي التصرف فيهما من حال الليل والنهار، ومن حال إخراج الحي من الميت، ومن فيضان جوده فيهما بتخصيص الرزق الواسع بمن يشاء، ليشير به إلى سهولة إنجاز هذا الوعد، وإذا كان مالك الملك والمعطي والمانع والرزاق هو الله، فأنتم أيها المؤمنون لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. قوله: (وفي بعض الكتب المنزلة: أنا الله ملك الملوك) الحديث، رواه أبو نعيم الأصفهاني في كتاب "حلية الأولياء" عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تغيير يسير في الألفاظ. قوله: (كما تكونون يولى عليكم) أوله: "أعمالك عمالكم".

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) 28] نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرّر ذلك في القرآن: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]، (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة: 50]، (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ... الآية [المجادلة: 22] والمحبة في اللَّه والبغض في اللَّه باب عظيم، وأصل من أصول الإيمان (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى: أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين؛ فلا تؤثروهم عليهم، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ): ومن يوال الكفرة فليس من ولاية اللَّه في شيء، يقع عليه اسم الولاية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم)، روينا عن الترمذي، عن معاذ بن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل بيانه". قوله: (مندوحة)، الأساس: ندحت المكان ندحاً: وسعته، ولك في هذه الدار منتدح: متسع، ولك عنه مندوحة: أي: سعة. قوله: (يقع عليه اسم الولاية) صفة لقوله: (شَيْءٍ) المذكور في الكتاب، وفيه إشارة إلى أن (مِنَ) في التنزيل بيانية، و (فِي شَيْءٍ) خبر "ليس"، قال أبو البقاء: التقدير: فليس في شيء من دين الله في موضع نصب على الحال، لأنه صفة النكرة قدمت عليها.

يعني أنه منسلخ من ولاية اللَّه رأساً، وهذا أمر معقول؛ فإنّ موالاة الوليّ وموالاة عدوّه متنافيان، قال: تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي صدِيقُكَ! لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً): إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه، وقرئ: (تقية)، قيل للمتقى تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير؛ لمضروبه، رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالقة ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: سلب ذوات من يوالي الكافرين عن أن يكونوا مستقرين في شيء من المكان الذي هو من ولاية الله، فيلزم كناية أنهم منسلخون من ولاية الله رأساً كما قال: إنه منسلخ من ولاية الله رأساً، وإنما قدرنا مكاناً، لأن (فِي شَيْءٍ) ظرف مكان ها هنا. قوله: (تود عدوي) البيت قبله: فليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني في المغايب النوك: الحمق، بعازب أي: ببعيد، يقول: إن الصديق الصدوق من يكون صديقاً لصديق صديقه، ومبغضاً لبغيض صديقه، ويراعي الأخوة بظهر الغيب، لا برأي العين. قوله: (أمراً يجب اتقاؤه) وضع موضع (تُقَاةً) ليشير إلى أنه مصدر أقيم مقام المفعول به، لقوله بعيد هذا: "وينتصب (تُقَاةً) أو (تقية) على المصدر"، و (مِنْهُمْ): حالٍ، و (مِنَ): ابتدائية. قوله: (والمراد بتلك الموالاة) أي: الموالاة المستثناة. قوله: (مخالقة)، قال في "الأساس": وله خلق حسن وخليقة، وهي: ما خلق عليه من طبيعته، وتخلق بكذا، وخالق الناس ولا تخالفهم، الجوهري: يقال: خالص المؤمن وخالق الفاجر.

ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قشر العصا، كقول عيسى عليه الصلاة والسلام: كن وسطا وامش جانباً (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قشر العصا) من بيان زوال المانع، قال "الميداني": قشرت له العصا، يضرب في خلوص الود، أي: أظهرت له ما كان في نفسي، ويقال أيضاً: اقشر له العصا، أي: كاشفه وأظهر له العداوة، فعلى هذا "من" متعلق بالمانع، وهذا أقرب إلى مراد المصنف. قوله: (كن وسطاً وامش جانباً) أي: ليكن جسدك مع النسا وقلبك في حظيرة القدس. قوله: (وعيد شديد). قال القاضي: وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح، وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه: عقاب يصدر منه، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة. وقال الإمام: والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال: (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ) لم يفد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه، ومعلوم أن الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه. وقلت: إنما كان وعيداً شديداً للتحذير الواقع عن النفس وإيقاع قوله: (إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ) الآية [آل عمران: 29]، الدال على العلم الشامل والقدرة الكاملة بياناً له، والمراد بالبيان التعليل؛ لأن تلخيص المعنى: لا تتعرضوا لسخط الله بموالاة أعدائه، لأنه تعالى عالم بكل شيء، يعلم سركم وعلنكم وقصدكم في الموالاة، وقادر على كل شيء، يقدر على عقوبتكم لما تعرضتم له.

ويجوز أن يضمن (تَتَّقُوا) معنى "تحذروا" وتخافوا؛ فيعدى ب (من) وينتصب (تُقاةً) أو (تقية) على المصدر، كقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [سورة آل عمران: 102] (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (29) (إنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوه) من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى اللَّه (يَعْلَمْهُ) ولم يخف عليه، (و) هو الذي (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لا يخفى عليه منه شيء قط، فلا يخفى عليه سركم وعلنكم (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) ٌ فهو قادر على عقوبتكم. وهذا بيان لقوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28]؛ لأنّ نفسه ـ وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ـ متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها؛ فكان حقها أن تحذر وتتقى؛ فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يضمن (تَتَّقُوا) معنى "تحذروا") عطف على قوله: "إلا أن تخافوا من جهتهم". قوله: (فإن ذلك مطلع عليه) بفتح اللام، أي: فإن الجسارة على القبيح والتقصير عن الواجب مطلع عليه، لأن الله تعالى يعلم ما في صدوركم، فلاحق بصاحبه العقاب لأن الله على كل شيء قدير، أو: فإن الذي وصف بصفة العلم والقدرة مطلع، بكسر اللام، على ما تخفون في أنفسكم، فإذا كان كذلك فلاحق بمن فعله العقاب، فالضمير في "لاحق" به راجع إلى "أحد". قوله: (فوكل همه بما يورد ويصدر) يعني: صرف همته في موارده ومصادره أن يراعى

ونصب عليه عيوناً، وبث من يتجسس عن بواطن أموره؛ لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن! اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) 30] (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب ب (تودّ)، والضمير في (بينه) لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً. ويجوز أن ينتصب (يَوْمَ تَجِدُ) بمضمر نحو: اذكر، ويقع على (ما عملت) وحده، ويرتفع (وَما عَمِلَتْ) على الابتداء، و (تَوَدُّ) خبره، أي: والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في جميع أحواله، قال في "الأساس": وكلته بالبيع، ومن المجاز: وكل همه بكذا، وهو موكل برعي النجوم، وكلني إلى كذا: دعني أقم به. قوله: (لأخذ حذره): جواب "لو". قوله: (العالم الذات) هذا إشارة إلى مذهبه. قوله: (ويقع على (مَا عَمِلَتْ) وحده) أي: (تَجِدُ) على (مَا عَمِلَتْ) الأولى. قال أبو البقاء: (مَّا) في (مَا عَمِلَتْ): موصولة، والعائد محذوف، وهي منصوب المحل مفعول أول، و (مُحْضَراً) المفعول الثاني، والأشبه أن يكون (مُحْضَراً) حالاً و (تَجِدُ) هيا لمتعدية إلى مفعول واحد، و (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) مثل الأولى معطوفة عليها، و (تَوَدُّ) على هذا: حال، والعامل: (تَجِدُ).

ولا يصح أن تكون (ما) شرطية؛ لارتفاع (تودّ) فإن قلت: فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد اللَّه: (ودّت)؟ قلت: لا كلام في صحته، ولكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى؛ لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يصح أن تكون (مَّا) شرطية، لارتفاع (تَوَدُّ)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لمجيء قوله: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم وقال أبو البقاء: إنها شرطية، وارتفع (تَوَدُّ) على إرادة الفاء، أي: فهي تود، ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف، لأن الشرط ها هنا ماض، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الجزم والرفع. نقل الإمام عن الواحدي أنه يجوز أن تكون (مَّا) شرطية، وإلا كان يلزم أن تجزم (تَوَدُّ) وترفع، ولم يقرأ أحد إلا بالرفع، وكان هذا دليلاً على أن (مَّا) ها هنا بمعنى: الذي. وقلت: ويؤيده أن القراء لما أجمعت على الرفع، فلو حمل على الشرط وكان الجزم مختاراً، لزم أنهم أجمعوا على غير المختار، من غير ضرورة، ولو حمل على الابتداء والخبر لم يلزم ذلك ويحصل المقصود من إرادة الثبات، فكان هذا أولى. قوله: (لأنه حكاية الكائن) أي: الواقع، فلا مناسبة للشرط والجزاء، وإخبار الله عن الآتي بمنزلة الواقع الثابت، كقوله تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) [إبراهيم: 21] وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44].

وأثبت لموافقة قراءة العامّة. ويجوز أن يعطف (وَما عَمِلَتْ) على (ما عَمِلَتْ)، ويكون (تَوَدُّ) حالًا، أي: يوم تجد عملها محضراً وادّة تباعد ما بينها وبين اليوم، أو عمل السوء (محضراً)، كقوله تعالى: (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف: 49] يعنى مكتوبا في صحفهم يقرءونه ونحوه (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]. والأمد المسافة كقوله تعالى: (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف: 38] وكرّر قوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ليكون على بالٍ منهم لا يغفلون عنه. (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) يعنى: أن تحذيره نفسه، وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يعطف) معطوف على قوله: "يرتفع"، والحاصل أنه يجوزـ على تقدير "اذكر"ـ في (وَمَا عَمِلَتْ) وجهان، أحدهما: أن يرتفع بالابتداء، و (تَوَدُّ) خبره. والثاني: أن يكون معطوفاً على (مَا عَمِلَتْ). قلت: ويجوز أن يكون (تَوَدُّ) استئنافاً كان قابلاً لما ألقي إليه الجملة الأولى: سائل: ما حال الناس في ذلك اليوم الهائل؟ أجيب: (تَوَدُّ)، ويشهد للتهويل قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة: 6]. قوله: (أو عمل السوء) عطف على اليوم، و" (مُحْضَراً) " منقطع عما قبله مبتدأ، خبره: "كقوله". قوله: (على بال منهم) أي: ذكر، النهاية: وفي حديث الأحنف: نعي فلان، فما ألقى له بالاً، أي: ما استمع إليه ولا جعل قلبه نحوه.

دعاهم ذلك إلى طلب رضاه، واجتناب سخطه. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لعلمه وقدرته، مرجوّ لسعة رحمته كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) [فصلت: 43]. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [31 - 32]. محبة العباد للَّه مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره، ورغبتهم فيها، ومحبة اللَّه عباده: أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم، والمعنى: إن كنتم مريدين لعبادة اللَّه على الحقيقة (فَاتَّبِعُونِي) حتى يصحّ ما تدعونه من إرادة عبادته ـ يرض عنكم ويغفر لكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً) عطف على قوله: "يعني أن تحذيره نفسه"، فعلى الأول (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) تذييل للكلام الأول أو تتميم له، وهو المراد من قوله: "إن تحذير نفسه من الرأفة العظيمة بالعباد"، وعلى الثاني تكميل، إذ لو اقتصر على التحذير وحده لأوهم مجرد الوعيد والتهديد، فكمل بالثاني ليجمع بين صفتي القهارية والرحمة تحريضاً على الإنابة، وإليه الإشارة بقوله: كقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) [فصلت: 43]. قوله: (محبة العباد لله مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها) يريد أن قوله: (تُحِبُّونَ اللَّهَ) استعارة تبعية: شبهت إرادة نفوس العباد اختصاص الله بالعبادة ورغبتهم فيها بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلاً لا يلتفت إلى الغير ولا يرغب إلا فيه. وفي كل قيد من القيود فائدة، سيما قوله: "رغبتهم فيها"، لأنك كم ترى من يختص شخصاً بالخدمة، وقلبه في غاية النفار والرغبة عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الحب أصله من الحب، وبه شبه حبة القلب، وحببته، يقال على وجهين، أحدهما: أصبت حبة قلبه نحو: كبدته، قال الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها وأصبته بحبة القلب نحو: رمحته، وعنته: أصبته بالعين، فقولك: حببته وأحببته هو في اللفظ فعل وفي الحقيقة انفعال، لأن المحب منفعل للمحبوب، فإذا استعمل في الله فقيل: أحب الله فلاناً فليس إلا على سبيل الفعل، والمعنى: أصاب تعالى حبة قلبه فجعلها لنفسه مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله. والمحبة: إرادة ما تراه أو تظنه خيراً، وهي أربعة أضرب بحسب أغراض الناس في أمورهم: اللذة، والنفع، والخير المحض، والمركب من اللذة والنفع، وكل محبة ينقطع سببها انقطعت بانقطاعه، ولما كانت الشهوة البدنية والمنافع الدنيوية منقطعة فالحب الذي يجلبانه منقطع لا محالة بانقطاعهما، ولما كان الخير المحض باقياً كان الحب الذي يجلبه باقياً ببقائه. وقال القاضي: المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدرك فيه بحيث تحب ما يقربه إليه، والعبد إذا علم أن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ): جواب الأمر، أي: يرض عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم، فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه. عبر عن ذلك بالمجاز على طريق الاستعارة أو المقابلة. وقال الإمام: اتفق المتكلمون على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث والمنافع، فيستحيل تعلقها بذات الله وصفاته، فإذا قيل: إن العبد يحب الله فمعناه: يحب طاعته وخدمته، أو يحب ثوابه وإحسانه، وأما محبة الله للعبد فهي عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه، وأما العارفون فقد قالوا: العبد قدي حب الله لذاته، وأما حب طاعته وثوابه فدرجة نازلة. والقول الأول ضعيف، وذلك أنه لا يمكن أن يقال في كل شيء: إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر فلابد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته، فإذا سمعت أخبار رستم وإسفنديار في شجاعتهما مال القلب غليهما مع أنا نقطع أن محبتهما معصية، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته، وأكمل الكمالات لله تعالى، فيقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته. وقال صاحب "الفرائد" بعدما حكى نحواً من هذا المعنى: وهذا أبلغ أنواع الحب، فعلى هذا: حب العبد لله حقيقة، بل المحبة الحقيقية مستحقة لله؛ إذ كل ما يحب من المخلوقات فإنما يحب لحصول أثر من آثار جوده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الذي ذهب إليه الإمام ومن تبعه يساعده المقام؛ لأنه سبحانه وتعالى لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) الآيات، تعلق قلب العبد بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت، والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بالنهي للمؤمنين عن موالاة أعدائه، وحذر عن ذلك غاية التحذير، حيث كرر فيه: (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ) ونبه على وجوب استئصال تلك الموالاة بقوله: (إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) الآية، وأكد ذلك الوعيد الشديد، وذلك قوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) الآية، زاد ذلك التعلق أقصى غايته، فاستأنف قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)، كأنه تعالى يشير إلى أن عبيدي لم يتمالكوا أنفسهم عند ذلك بأن لا يسألوا: بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة ربنا؟ فقيل لهم: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا، إذ كل طريق سوى طريقه مسدود. وأما ذكر غفران الذنب بعد حصول محبته فللتخلية للتحلية، المعنى: إن أردتم تشريف محبتي، والوصول إلى دار كرامتي، فعليكم متابعة حبيبي، لتصقل إرادة محبتي نفوسكم عن صدأ الذنوب وشوائب العيوب، فتستعدوا لإشراق تجليات الأنوار. اللهم أسعدنا بتبوؤ مقعد الصدق في دار القرار. فعلى هذا قوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) من عطف الخاص على العام، لأن إرادة المحبة جامعة للخيرات كلها، والمهم الأولى بحسب الوقت: التخلية، وفيه أن محبة الله من العبد موقوفة على المتابعة، وكذلك محبة العبد من الله مسببة عن المتابعة، فهي الواسطة الحقيقية لا غير. وقال الإمام: خاض صاحب "الكشاف" في هذا المقام في الطعن في أولياء الله، وكتب ها هنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش، فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله، فكيف اجترأ على كتبه ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله المجيد! ونسأل الله العصمة والهداية.

وعن الحسن: زعم أقوام على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنهم يحبون اللَّه، فأراد أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله، فهو كذاب، وكتاب اللَّه يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبة اللَّه ويصفق بيديه مع ذكرها ويطرب وينعر ويصعق فلا تشك في أنه لا يعرف ما اللَّه؟ ولا يدرى ما محبة اللَّه؟ وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة، فسماها اللَّه بجهله ودعارته، ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصوّرها، وربما رأيت المنىَّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته، وحمقى العامة على حواليه قد ملؤوا أردانهم بالدموع لما رققهم من حاله، وقرئ: (تحبون)، (ويحببكم) و (ويحبكم)، من حبه يحبه، قال: .... أُحِبُّ أبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ وَأَعْلَمُ أنّ الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ وَوَاللَّهِ لَوْلَا تَمْرُهُ ما حَبَبْتُهُ ... وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمُشْرِق (فَإِنْ تَوَلَّوْا): يحتمل أن يكون ماضياً، وأن يكون مضارعاً بمعنى: فإن تتولوا، ويدخل في جملة ما يقول الرسول لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما الله؟ ) أي: ما جلاله وعظمته؛ لأن ما إذا استعمل في ذوي العلم حمل على السؤال عن الوصف، ومنه الحديث: "ويحك! أتدري ما الله؟ " قاله لأعرابي. قوله: (أردانهم). الجوهري: الردن، بالضم: الكم، والجمع: أردان. قوله: (أحب أبا ثروان) ... الأبيات. عبيد ومشرق: ابنا الشاعر، وفي البيتين إقواء، لاختلاف حركات الروي، يقول: أحب هذا الرجل لأجل تمره، ولولا تمره ما حببته ولا كان أقرب إلي من ولدي، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها.

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [33 - 37] (آلَ إِبْراهِيمَ): إسماعيل وإسحاق وأولادهما. (وآلَ عِمْرانَ): موسى وهرون ابنا عمران بن يصهر، وقيل: عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان، وبين العمرانين ألف وثمان مئة سنة. و(ذُرِّيَّةً) بدل من آل إبراهيم وآل عمران (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) يعنى أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض: موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من فاهث، وفاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق. وكذلك عيسى ابن مريم بنت عمران بن ماثان بن سليمان بن داود بن إيشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق. وقد دخل في آل إبراهيم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وقيل (بعضها من بعض) في الدين، كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة 67]. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعلم من يصلح للاصطفاء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال الإمام والقاضي: وبه استدل على فضلهم على الملائكة. قوله: (كقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)) يعني: (مِنْ) فيها: اتصالية، أي: بعضها متصل بالبعض في الدين، وعلى الأول: متصل بالنسب.

أو يعلم أنّ بعضهم من بعض في الدين. أو (سميع عليم) لقول امرأة عمران ونيتها، و (إِذْ) منصوب به. وقيل: بإضمار "اذكر". وامرأة عمران هي امرأة عمران بن ماثان، أمّ مريم البتول، جدّة عيسى عليه السلام، وهي حنة بنت فاقوذ. وقوله: (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) على أثر قوله: (وَآلَ عِمْرانَ) مما يرجح أنّ عمران هو عمران بن ماثان جدّ عيسى، والقول الآخر يرجحه أن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر. فإن قلت: كانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون، ولعمران ابن ماثان مريم البتول، فما أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبى مريم التي هي أخت موسى وهارون؟ قلت: كفى بكفالة زكريا دليلاً على أنه عمران أبو البتول؛ لأن زكريا بن آذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد، وقد تزوّج زكريا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى ابني خالة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبو البتول)، النهاية: التبتل: الانقطاع عن النساء وترك النكاح، وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم، وبها سميت مريم وسميت فاطمة رضي الله عنها لانقطاعهما عن نساء الزمان فضلاً وديناً وحسباً، وقيل: لانقطاعهما عن الدنيا إلى الله تعالى. قوله: (فكان يحيى وعيسى ابني خالة) قيل: كلام المصنف يدل على أن إيشاع ومريم بنتا عمران، لكن مريم من حنة، وإيشاع من غيرها، لما ذكر أن حنة كانت عاقراً إلى أن عجزت، وإيشاع كانت أكبر سناً من مريم لما سيجيء، ثم قال بعيد هذا: فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فتكون إيشاع أخت مريم وخالتها. قيل في العذر: لا يبعد أن عمران تزوج أم حنة فولدت إيشاع فكانت حنة ربيبته، ثم تزوج حنة بعد ذلك بناءً على أنه كان جائزاً في شريعتهم، فولدت مريم، فتكون إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها أيضاً، وهو يوافق قوله بعد هذا: "رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة"، فذكر أن حنة أخت إيشاع، فتكون إيشاع وحنة أختين من الأم، وكذا يوافق قوله: فقد كانت أختها كذلك، وفي نسخة المعزي: عندي أختها بدل: خالتها، وهو ظاهر. وبعدها: أمها بدل: أختها في الموضعين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو يقتضي أن تكون حنة أم إيشاع، وهو يخالف ما ذكر من أنها كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت، مع أن إيشاع أكبر سناً من مريم، وإنما قلنا: إنها كانت أكبر سناً لأنها كانت تحت زكريا عليهم السلام حين اقترع الأحبار في مريم. وقلت: الظاهر ما رواه محيي السنة في "المعالم": أن زكريا وعمران زوجا أختين، وكانت إيشاع بنت فاقوذا أم يحيى عند زكريا، وحنة بنت فاقوذا أم مريم عند عمران، وعليه ينطبق قول المصنف أولاً: "روي أنهاـ أي: حنةـ كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت"، إلى قوله: "فحملت بمريم". وقوله ثانياً: "أنا أحق بها، عندي خالتها". وثالثا: "رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها"، إلى قوله: "وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك". وأما الحديث الذي روينا عن الشيخين: "فإذا أنا بابني الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا"، وما ذكره المصنف ها هنا: "وكان يحيى وعيسى ابني خالة"، وفي سورة مريم: "قيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا"، فتأويله ما ذكره صاحب "التقريب": والحقيقة أن يحيى وأم عيسىـ وهي مريمـ ولدا خالة؛ لأن إيشاع أم يحيى، وحنة أم مريم: أختان، والغرض أنه كان بين يحيى وعيسى عليهما السلام هذه الجهة من القرابة، وكان عيسى ابن بنت خالة يحيى فأطلق عليه ابن الخالة؛ لأن ابن بنت الخالة كابن الخالة، إطلاقاً مجازياً عرفياً، وكثيراً ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، ولكونه مربوباً عندها، هذا وجه التوفيق، تم كلامه. ولعل المصنف نظر إلى ظاهر الحديث فبنى كلامه: "وقد تزوج زكريا بنته إيشاع أخت مريم عليه"، ثم أتى بالروايات الثلاث على ما هي عليه فوقع في الاختلاف. وأما تعبير المعزي أولاً: أنا أحق بها، عندي أختها بدل: خالتها، وثانياً: مثل ولد أمها حنة بدل: ولد أختها، فلتصحيح الكلام الأول، وهو قد تزوج زكريا بنته إيشاع أخت مريم، إلا أنه غيرهما بناءً على أنه وجد رواية صحيحة، والله أعلم بحقيقة الحال.

روي أنها كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت، فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً له، فتحرّكت نفسها للولد وتمنته، فقالت: اللهم إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل (مُحَرَّراً) معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يدَ لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء، وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم. وروى أنهم كانوا ينذرون هذا النذر، فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل. وعن الشعبي (مُحَرَّراً) مخلصاً للعبادة، وما كان التحرير إلا للغلمان، وإنما بنت الأمر على التقدير، أو طلبت أن ترزق ذكراً (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الضمير ل (ما في بطني)، وإنما أنث على المعنى؛ لأن ما في بطنها كان أنثى في علم اللَّه، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. فإن قلت: كيف جاز انتصاب (أُنْثى) حالا من الضمير في (وضعتها) وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟ قلت: الأصل: وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحال وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في: "من كانت أمّك" لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) [النساء: 176] وأمّا على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر؛ كأنه قيل: إني وضعت الحبلة أو النسمة أنثى. فإن قلت: فلم قالت: (إني وضعتها أنثى) ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علي نذراً شكراً)، "شكراً": مفعول له، و"أن أتصدق": بدل من قوله: "نذراً". قوله: (وما كان التحرير إلا للغلمان) من تتمة كلام الشعبي، وقوله: "وإنما بنت الأمر على التقدير"، كلام المصنف، أي: على تقدير العرف والعادة، أي: إن كان ذكراً كان محرراً، وكنت عن الذكر بهذه العبارة، وهو المراد بقوله: "أو طلبت أن ترزق ذكراً". قوله: ((فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ)) لما كان الخبر مثنى جاز تثنية الاسم، وإن لم يسبق إلا المفرد، وهو قوله: (وَلَهُ أُخْتٌ). قوله: (فلم قالت: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)؟ ) يعني: إذا كان علم اللطيف الخبير محيطاً بما

وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسراً على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها، فتحزنت إلى ربها؛ لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكراً، ولذلك نذرته محرّراً للسدانة. ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال اللَّه تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه، ومعناه: واللَّه أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا؛ فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) على خطاب اللَّه تعالى لها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وضعت، فأي فائدة في قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لأن الإخبار إما للفائدة أو لازمها كما ذهب إليه صاحب "المفتاح". قلت: هذا على مقتضى الظاهر، وربما تجعل الأخبار ذريعة إلى الامتنان أو التهديد، أو على إظهار التحسر كما نحن بصدده. قوله: (وما أرادت) إذا فعل بعضهم فعلاً لا يعلم غرضه يقال: ما أردت إلى هذا؟ أي: أي شيء وأي معنى دعاك إلى هذا؟ ففيه تضمين معنى "دعا"، ولهذا عدي بـ "إلى". قوله: (بقدر ما وهب لها منه) الضمير المرفوع في "وهب" راجع إلى "ما"، والمجرور إلى أم مريم، والمجرور في "منه": راجع إلى الموضوع، و"من": بيان "ما"، ثم في وضع "ما" في "ما وهب" في موضع "من" لإرادة الإبهام والوصفية تفخيم للموهوب وتعظيم له، كقولهم: سبحان ما سخركن لنا، وإليه الإشارة بقوله: "والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور". قوله: (على خطاب الله لها) فعلى هذا لا يكون قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) تجهيلاً لأم مريم، بل نفياً لعلمها، لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يعرف أسرار الله في

أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم اللَّه من عظم شأنه، وعلوّ قدره. وقرئ: (وضعت). بمعنى: ولعلّ للَّه تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر؛ تسلية لنفسها. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)؟ قلت: هو بيان لما في قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من التعظيم للموضوع والرفع منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها، واللام فيهما للعهد. فإن قلت: علام عطف قوله (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ)؟ قلت: هو عطف على (إني وضعتها أنثى)، وما بينهما جملتان معترضتان، كقوله تعالى: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) [الواقعة: 76] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كل شيء، وإنما كان على الأول تجهيلاً؛ لأنه تعالى حينئذ يحكي حالها لغيرها ويشكو عنها تحسرها وحزنها على الموضوع، المعنى: اسمعوا قولها وانظروا إلى تحسرها تحقيراً للمولود العظيم الشأن، فاحكموا بجهلها بذلك. قوله: (وقرئ: "وضعت"): ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، والباقون (وَضَعَتْ) بسكون التاء إخباراً عن الله تعالى، وعلى الأول: من كلام أم مريم. قوله: (هو بيان لما في قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) وذلك أن قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) وارد على تفخيم المولود وفضله على الذكر، يعني: أنه قد تعورف بين الناس فضل الذكر على الأنثى، والله هو الذي اختص بعلمه الشامل فضل هذه الأنثى على الذكر، فكان قوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) بياناً لما اشتمل عليه الأول من التعظيم. قوله: (واللام فيهما للعهد)، أما التي في (الأنْثَى) فمعهود بقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)، وأما التي في الذكر فبقولها: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)؛ لأن المحرر لم يكن إلا غلاماً، أو طلبت أن ترزق ذكراً. قوله: ((وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)) [الواقعة: 76] لأن التقدير: (فَلا أُقْسِمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75]، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 77]، فاعترض بين القسم والمقسم به قوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) كما اعترض (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الموصوف والصفة. فإن قلت: قد ظهر أن قوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) بيان لقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)، وفي التشبيه أيضاً دلالة على تعظيم الأنثى على الذكر، وهذا إنما يصح على قراءة (وَضَعَتْ) على الغيبة، لأنه من كلام الله، وأما على التكلم فلا يستقيم؛ لأنه حينئذ من كلام أم مريم، لاسيما وقد ذهب المفسرون إلى أن قوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) على القراءتين من كلام أم مريم، ومرادها تعظيم الذكر على الأنثى، لأن الذكر يصح استمراره على خدمة بيت المقدس ومجاوريه، بخلاف الأنثى لمانع الحيض وإلحاق الريبة والتهمة وسائر العوارض. قلت: على هذا يحمل الكلام على التحسر على الحرمان، ومعنى (مَا) في (بِمَا وَضَعَتْ): التحقير، المعنى: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) والله أعلم بالشيء الذي وضعت، فإنه غير صالح لما نذرت له لنقصانه، فإني طلبت ما يصلح للسدانة، وليس ما طلبت من المحرر مثل هذه الموهوبة؛ لأنها لا تصلح لذلك، ومع ذلك إني غير مأيوسة من فضل ربي أن يتقبل مني هذه بدل ذلك، (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) لذلك، (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ليحميها الله من شر التهمة والريبة، فاستجاب الله دعاءها وترحم على حرمانها حيث تقبلها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) كما قال، فرضي بها في النذر مكان الذكر، ولم يكن قبل ذلك مشروعاً، فالفاء في (فَتَقَبَّلَهَا) طبقت المفصل.

فإن قلت: فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت: لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذه لها ولولدها من الشيطان وإغوائه؟ وما يروى من الحديث: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخاً من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها» فاللَّه أعلم بصحته. فإن صح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التقرب والطلب) قيل: هما متوجهان من حيث المعنى إلى قوله: "إليه"، وإلى قوله: "وأن يعصمها". وقلت: الأولى أن يجرى التقرب على الإطلاق ليكون كالتوطئة لما بعده، وأن يضمن الطلب معنى التوسل لتعديته بـ "إلى"، يعني: جعلت هذا الاسم وسيلة إلى الله في طلب عصمتها، والذي يؤيد أن التسمية كانت وسيلة في طلب العصمة إتباع الله تعالى هذا الطلب بطلب الإعاذة لها على سبيل الحكاية عن لسانها، فكان تعقيبها: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لقولها: (إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) كالبيان والتفسير له، وإليه الإشارة بقوله: "ألا ترى كيف أتبعته؟ ". قوله: (وما يروى من الحديث) يعني: المراد من قوله: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) طلب الإعاذة لها ولولدها من إغواء الشيطان لا من المس كما ذهب إليه المفسرون مستشهدين بهذا الحديث، إذ هو غير معلوم الصحة، وعلى تقدير صحته فيجوز أن يكون معناه الإغواء لا غير. قوله: (فالله أعلم بصحته، فإن صح)، أقول: لا وجه لهذا الشك، فإن الحديث أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، عن أبي هريرة، واتفقا على صحته.

فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 40 - 41]، واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه؛ كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: طعن القاضيـ يعني عبد الجبار، وهو من أكابر المعتزلةـ في هذا الخبر فقال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز، ولأنه لو تمكن من هذا لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضاً، لم خص عيسى عليه السلام دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد النخس لدام أثره. ثم قال الإمام: إن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر الصحيح. الانتصاف: الحديث مدون في الصحاح فلا يعطله الميل إلى نزعات الفلاسفة، والانتصار بقول ابن الرومي سوء أدب يجب أن يجتنب عنه. وقلت: قوله: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه" كقوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر: 4] في أن الواو داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق، فيفيد الحصر مع التأكيد، فإذاً لا معنى لقوله: "كل من كان في صفتهما"، ولا يبعد اختصاصهما بهذه الفضيلة من دون الأنبياء، وأما قوله: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 40] فجوابه أي: بعد أن يمكنه الله من المس، مع أنه تعالى يعصمهم من الإغواء، وأما الشعر فهو من باب حسن التعليل فلا يصلح للاستشهاد. قوله: (فيستهل صارخاً) منصوب على المصدر، كقولك: قم قائماً.

ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي: لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو؛ فكلا! ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) فرضي بها في النذر مكان الذكر. (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء كالسعوط واللدود، لما يسعط به ويلد، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما تؤذن الدنيا) البيت بعده: وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يهدد تؤذن، أي: تعلم، آذنني: أعلمني، يقول: بكاء الطفل ساعة الولادة لما يعلم أن الدنيا موضع المحن ومقر الفتن، وإلا فما يبكيه والحال أنه قد نجا من ضيق البطن والرحم وانتقل إلى موضع هو أفسح وأرغد منه؟ قوله: ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا): فرضي بها) فسر القبول بالرضى. الجوهري: تقبلت الشيء وقبلته قبولاً، بفتح القاف، وهو مصدر شاذ، والمعنى: فتقبلها بوجه حسن، وذلك أن من يهدي إلى أحد شيئاً يرجو منه قبول هديته بوجه حسن، فشبه النذر بالإهداء ورضوان الله عنها بالقبول، والقبول الحسن على هذا: اختصاص الله لها بإقامتها مقام الذكر؛ على ما سبق أن التحرير لم يكن إلا للغلمان. قوله: (واللدود). النهاية: اللدود، بالفتح، هو: ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم، ولديدا الفم: جانباه.

وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمّها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. وروى أن حنة حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رءوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والسعوط: هو الدواء يصب في الأنف. قوله: (أو بأن تسلمها) عطف على قوله: "بإقامتها"، وهو داخل تحت الاختصاص. الجوهري: سلمت إليه الشيء فتسلمه، أي: أخذه. قوله: (للسدانة) السادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام، والجمع: السدنة. قوله: (روي أن حنة) إلى آخره: بيان تسلمها. قوله: (وصاحب قربانهم) القربان: مصدر من قرب يقرب، وكانوا يتقربون بالبقر والغنم إلى الله تعالى، بأن يجعلوها متعرضة لنار تنزل من السماء وتأكلها، كما قال تعالى: (حَتَّى يَاتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَاكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران: 183]، وصاحب القربان: من يتولى هذا الأمر من المتقرب، وكان قربان هذه الأمة الدماء، وفي الحديث: "صفة هذه الأمة في التوراة: قربانهم دماؤهم". قوله: (عندي خالتها) هذه رواية المصنف، وكذا في "معالم التنزيل"، وفي رواية: "عندي

فقالوا: لا، حتى نقترع عليها! فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتكفلها. والثاني: أن يكون مصدراً على تقدير حذف المضاف بمعنى: فتقبلها بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص. ويجوز أن يكون معنى (فتقبلها): فاستقبلها، كقولك: تعجله بمعنى: استعجله، وتقصاه بمعنى استقصاه، وهو كثير في كلامهم، من استقبل الأمر إذا أخذه بأوّله وعنفوانه. قال القطامي: وَخَيْرُ الأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أختها" كذا في "المطلع"، وكتب الصمصام في حاشية كتابه: أن خالتها أصح، وهذا مشعر بأن الرواية "عندي أختها" أيضاً صحيحة. قوله: (وهو الاختصاص) أي: الاختصاص المذكور، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر، أو بأن تسلمها. قوله: (ويجوز أن يكون معنى (فَتَقَبَّلَهَا): فاستقبلها) عطف على قوله: فرضي بها، يعني: معنى (فَتَقَبَّلَهَا): فرضي بها في النذر، أو معناه: فاستقبلها، أي: فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. الراغب: قوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) قيل: معناها: قبلها، وقيل: معناه: تكفل بها، وقبول الله تعالى أعظم كفالة في الحقيقة، وإنما قيل: فتقبلها بقبول حسن، ولم

ومنه المثل: «خذ الأمر بقوابله»، أي فأخذها في أوّل أمرها حين ولدت بقبول حسن (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها. وقرئ: (وكفلها) بوزن: وعملها، (وَكَفَّلَها زكَرِيَّا) بتشديد الفاء ونصب (زكرياء)، والفعل للَّه تعالى بمعنى: وضمها إليه وجعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها. ويؤيدها قراءة أبيّ: (وأكفلها)، من قوله تعالى: (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) [ص: 23]. وقرأ مجاهد: (فتقبلها ربها)، (وأنبتها)، (وكفلها)، على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب (ربها)، تدعو بذلك، أي: فاقبلها يا ربها، وربها، واجعل زكريا كافلاً لها. قيل: بنى لها زكريا عليه السلام محراباً في المسجد، أي: غرفة يصعد إليها بسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقل: بتقبل، للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة. قوله: (خذ الأمر بقوابله) أي: بمقدماته قبل أن يدبر ويفوت، وليس من العزم أن تمهله حتى يفوت منك ثم تعدو خلفه وتتبعه بعد الفوت. قال الميداني: الباء في "بقوابله" بمعنى في، أي: فيما يستقبلك منه، يقال: قبل الشيء وأقبل، يضرب في الأمر باستقبال الأمور. قوله: (مجاز عن التربية) أي: استعارة، فإن الزارع لم يزل يتعهد زرعه، بأن يسقيه عند الاحتياج ويحميه عن الآفات، ويقلع ما عسى أن ينبت فيه شوك لئلا يخنقه. قوله: (العائدة عليها)، الجوهري: العائدة: العطف والمنفعة، يقال: هذا الشيء أعود عليك من كذا، أي: أنفع. قوله: (وكفلها) بتشديد الفاء: الكوفيون، والباقون: بتخفيفها.

وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدّمها، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وروى أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (أَنَّى لَكِ هذا): من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فلا تستبعد. قيل: تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي اللَّه عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها، وقال: هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند اللَّه، فقال لها صلى اللَّه عليه وسلم: أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند اللَّه، إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب. فقال عليه الصلاة والسلام: "الحمد للَّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل"، ثم جمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علىّ بن أبى طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها. (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ) من جملة كلام مريم عليها السلام، أو من كلام رب العزّة عزّ من قائل (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير، لكثرته، أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل بحسب الاستحقاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فرجع بها إليها) أي: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم مصاحباً تلك الهدية إلى فاطمة رضي الله عنها.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [38 - 41] (هُنالِكَ) في ذلك المكان، حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت، فقد يستعار "هنا" و "ثم" وحيث للزمان. لما رأى حال مريم في كرامتها على اللَّه ومنزلتها، رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة على اللَّه، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك. وقيل لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر (ذُرِّيَّةً) ولداً، والذرية يقع على الواحد والجمع (سَمِيعُ الدُّعاءِ) مجيبه. قرئ: "فناداه الملائكة". وقيل: ناداه جبريل عليه السلام، وإنما قيل: الملائكة على قولهم: فلان يركب الخيل (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بالفتح على (بأن اللَّه)، وبالكسر على إرادة القول؛ أو لأن النداء نوع من القول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يستعار "هنا" و"ثم" و"حيث" للزمان)، قال الزجاج: (هُنَالِكَ) في موضع نصب؛ لأنه ظرف يقع في المكان وفي الأحوال، المعنى: ومن الحال دعاء زكريا ربه، كما تقول: من ها هنا قلت كذا، من هنالك قلت كذا، أي: من ذلك الوجه ومن تلك الجهة على المجاز قوله: (فلان يركب الخيل)، قال الزجاج: معناه: أتاه النداء من هذا الجنس، كما تقول: ركب فلان في السفن، أي: في هذا الجنس، وإنما ركب في سفينة واحدة. قوله: ((إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) بالفتح والكسر)، بالكسر: ابن عامر وحمزة، والباقون بالفتح،

وقرئ: (يبشرك)، "ويبشرك"، من بشره وأبشره، "ويبشرك"، بفتح الياء من بشره. ويحيى إن كان أعجمياً ـ وهو الظاهرـ فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل كيعمر. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) مصدّقا بعيسى: مؤمناً به. قيل: هو أول من آمن به، وسمى عيسى كلمة؛ لأنه لم يوجد إلا بكلمة اللَّه وحدها، وهي قوله: (كُنْ) من غير سبب آخر. وقيل: (مصدّقا بكلمة من اللَّه)، مؤمناً بكتاب منه. وسمى الكتاب كلمة، كما قيل: كلمة الحويدرة لقصيدته. والسيد: الذي يسود قومه، أي: يفوقهم في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه، وفائقا للناس كلهم في أنه لم يركب سيئة قط، ويا لها من سيادة! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حمزة والكسائي: "يبشرك" في الموضعين هنا، وفي سبحان والكهف: بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففاً، والباقون: بضم الأول وكسر الشين مشدداً. قوله: (ويا لها من سيادة) الضمير للسيادة، ومن: بيان لها، واللام: للاستغاثة، كأنه قيل: أيتها السيادة تعالي فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال التفخيم والإجلال، ويجوز أن يكون المنادى محذوفاً على نحو: يا لكما وللدواهي، المعنى: يا قوم تعجبوا لها. روي أن الفضل بن يحيى دخل على أبيه يتبختر فقال له: ما بقي الحكيم في طرسه؟ قال: لا أدري، قال: إن البخل والجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء والعلم، فيا لها من حسنة غطت على عيبين عظيمين، ويا لها من سيئة عفت على حسنتين كبيرتين.

والحصور: الذي لا يقرب النساء حصراً لنفسه أي: منعًا لها من الشهوات. وقيل: هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل: وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكاسِ نَادَمَنِى لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَأارِ فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو. وقد روي: أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت (مِنَ الصَّالِحِينَ) ناشئًا من الصالحين؛ لأنه كان من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين كقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). [البقرة: 130] (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حصراً لنفسه) أي: منعاً لها مع ميلها إلى الشهوات، ومن لم يكن له ميل إليها لا يسمى حصوراً، ولابد فيه من المنع؛ لأن السجن إنما سمي حصيراً لما أنه يمنع من الخروج. قوله: (وشارب مربح بالكأس) البيت، مربح، أي: يشتري الخمر بالربح. ولا فيها بسأار، أي: لا يبقي من الخمر بقية في الكأس، أدخل الباء في خبر "لا" لأنه بمعنى "ليس"، يقول: رب شارب مشتر للخمر بالربح ليس ممن لا يدخل في القمار ولا مبق في الكأس منها شيئاً عاشرني، وفي رواية: بسوار، من: ساور: إذا وثب، أي: ليس بمعربد. قال الزجاج: ويروى: ولا فيها بسأار، أي: نادمني وهو كريم ينفق على الندامى، والسوار: المعربد يساور نديمه، أي: يثب عليه، والحصور: الذي يكتم الشر، أي: يحبسه في نفسه. قوله: (ناشئاً من الصالحين) وعلى هذا "من": للابتداء، وعلى قوله: "أو كائناً من جملة الصالحين": للتبعيض. قوله: (كما قالت مريم) أي: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، استبعاداً من حيث العادة المستمرة لا إنكاراً.

(وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) كقولهم: أدركته السنّ العالية. والمعنى: أثر فيّ الكبر فأضعفني، وكانت له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون (كَذلِكَ)، أي: يفعل اللَّه ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر؛ أو: (كذلك اللَّه)، مبتدأ وخبر، أي: على نحو هذه الصفة: اللَّه، (ويفعل ما يشاء): بيان له، أي: يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات (آيَةً) علامة أعرف بها الحبل؛ لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر (قالَ آيَتُكَ) أَن لَّا تقدر على تكليم الناس (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)، وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر اللَّه، ولذلك قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)، يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدّة لذكر اللَّه لا يشتغل لسانه بغيره، توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: على نحو هذه الصفة) أي: على أن يرزقك ولداً وأنت شيخ وامرأتك عاقر، أي: هو الذي يفعل ما تحير به أوهام الخلق، ولذلك كان قوله: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) بياناً له. قوله: (من الأفاعيل) وهي جمع أفعولة، وهذا البناء مختص بما يتعجب منه. قوله: (ولذلك قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً)) أي: ولأن تخصيص الناس بالذكر دل على نفي الحكم عما عداه، قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي: خص ربك بالذكر، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات هذا المطلوب. قوله: (وهي من الآيات الباهرة): أي: قدرته على التكلم بذكر الله مع حبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة.

وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال. ومنتزعا منه (إِلَّا رَمْزاً) إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وأصله التحرّك. يقال: ارتمز: إذا تحرّك. ومنه قيل للبحر: الراموز. وقرأ يحيى بن وثاب: (إلا رمزاً) بضمتين، جمع رموز كرسول ورسل. وقرئ (رمزاً) بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم، وهو حال منه ومن الناس دفعة كقوله: مَتَى مَا تَلْقَنِى فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه)، لم يرد بالاشتقاق الاشتقاق الاصطلاحي، لأن قوله: "ومنتزعاً منه" تفسير له، يريد أن الجواب بعد انطباق معناه على معنى السؤال ينبغي أن يراعى فيه حسن المناسبة بين الألفاظ، قيل لأبي تمام: لم تقول ما لا يفهم؟ فقال: لم لا تفهم ما يقال؟ قال: كأنه عليه السلام لما سأل بقوله: (اجْعَل لِي آيَةً) أي: علامة لأتلقى هذه النعمة بشكرك، أجيب بأن آيتك أن لا تقدر على شيء من الكلام إلا على شكري. فإن قلت: ليس في سؤاله عليه السلام (رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً) ما يشعر به أنه طلب الآية من أجل الشكر؟ قلت: يقدر ذلك لما في الجواب من قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) دلالة عليه، كأن نبي الله لما بشر بيحيى مصدقاً طلب آية عليه مزيداً على النص طمأنينة ليتفرغ لأداء شكر تلك النعمة. قوله: (متى ما تلقني) البيت، ترجف، أي: تضطرب بشدة، ترجف: جزم جواباً للشرط، روانف: جمع رانفة، وهي: أسفل الألية، والمراد بالجمع التثنية، وهما رانفتا المخاطب،

بمعنى إلا مترامزين، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم. و "العشىّ": من حين تزول الشمس إلى أن تغيب. و "الْإِبْكارِ" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقرئ: و "الأبكار"، بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار. يقال: أتيته بكراً بفتحتين. فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟ قلت: لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمى كلامًا ويجوز أن يكون استثناء منقطعًا. (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [42 - 43] (يا مَرْيَمُ) روي: أنهم كلموها شفاها، معجزة لزكريا عليه السلام أو إرهاصًا لنبوّة عيسى (اصْطَفاكِ) أوّلا حين تقبلك من أمك ورباك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتستطارا: أصله تستطارن فقلبت النون ألفاً للوقف، وقيل: أصله تستطاران، وفردين: حال من ضمير الفاعل والمفعول. قوله: (الرمز ليس من جنس الكلام)، الزجاج: الرمز: تحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة، وفي اللغة: كل ما أشرت به إلى ما يبان بأي شيء أشرت، بفم أم بيد أم بعين، والرمز: الحركة. قوله: (أو إرهاصاً لنبوة عيسى) أي: تأسيساً وإحكاماً، من الرهص، وهو الساق الأسفل من الجدار، الأساس: ومن المجاز: أرهص الشيء: أثبته وأسسه، وكان ذلك إرهاصاً للنبوة، وذلك أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة، كإظلال الغمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم الحجر والمدر معه وغير ذلك، وعندنا يجوز أن يكون ذلك كرامة لها، وأن يكون إرهاصاً لعيسى، وعندهم إرهاصاً لعيسى أو معجزة لزكريا عليه السلام كما ذكره.

واختصك بالكرامة السنية (وَطَهَّرَكِ) مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود (وَاصْطَفاكِ) آخرا (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)؛ بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: هو دليل على جواز الكرامة للأولياء، وجعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه. قوله: (واختصك بالكرامة السنية) وهي أن خصها من عنده بالرزق، لأن المراد بقوله ها هنا: "تقبلك من أمك" قوله هناك: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا)، وبقوله: "رباك" قوله: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)، بقي قوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) فيحمل قوله: "واختصك بالكرامة السنية" عليه ضرورة. ما ألطف هذه الإشارة! وذلك أن اللام في قول زكريا: (أَنَّى لَكِ هَذَا) للاختصاص، وكان يكفيه أن يقول: أنى هذا؟ ثم جوابها: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) دليل على أن هذه الكرامة مختصة بها؛ لأن لفظ (عِنْدِ اللَّهِ) كناية عن الكرامة، نحو قوله تعالى: (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 55]، (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت: 38] إلى غير ذلك كما علم من كتابه، ثم بناؤه على الضمير مفيد للتقوي أو الاختصاص، نحو: هو عرف، وتخصيص اسم الذات مشعر بتعظيم الموهبة وأنها من الكرامة السنية، كما قال: "بالكرامة السنية"، كأنها قالت: اختصت هذه الكرامة السنية بي لا بغيري وأنها من الله لا من غيره، انظر هذه الكرامة السنية لأولياء الله، حيث أنكر أولاً أنه لا كرامة لها، ثم أقر بالاختصاص، ونص أنها كرامة، ووصفها بالسنية، أبى الله إلا إظهار الحق! قوله: (قرفك)، الجوهري: قرفت الرجل، أي: عبته، يقال: هو يقرف بكذا، أي: يرمى به ويتهم.

أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود؛ لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين، أي: في الجماعة أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع. (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (44] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم قيل لها: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)) يعني ذكر القنوت والسجود أولاً، والقنوت: أن يذكر الله قائماً، أو يركد في الصلاة، وأريد بهما الصلاة، فإنهم يطلقون معظم الشيء على الكل إيهاماً لكماله فيه، ثم أتى ببعض آخر وهو الركوع، وأريد به تلك الحقيقة أيضاً على تلك الطريقة، وقيده بفائدة زائدة ليؤذن أن كماله إذا كان مقيداً بها فهو من التكرار المعنوي لإناطة معنى زائد كما مر، ولما كان الأمر للصلاة أمراً للمصلي بصفتها، وهي أن يكون مع الجماعة لا نفسها، قال: ولتكن صلاتك مع المصلين، على أسلوب: لا أرينك ها هنا. قوله: (أو انظمي نفسك في جملة المصلين) معناه: اتصفي بصفة المصلين وكوني من زمرتهم وعدادهم، كقوله تعالى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) [الفجر: 29] أي: في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، وأما معنى الاختصاص في قوله: "ولا تكوني في عداد غيرهم"، فإنما يفيده معنى الكناية، لأن الأسلوب من قبيل قوله: فلان في عداد العلماء، أي: له مساهمة معهم في العلم، وأن الوصف كاللقب المشهود له. قال القاضي: قال: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) للإيذان بأن من ليس في صلاته ركوع ليس من المصلين.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعنى أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت: لم نفيت المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علمًا يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ)، [القصص: 44] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ)، [القصص: 46] (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) [يوسف: 102] (أَقْلامَهُمْ): أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم نفيت المشاهدة؟ ) تحرير السؤال أن مقتضى الظاهر أن يقال: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ) وما سمعت هذا النبأ من أحد ولا قرأته في كتاب، لأن هذا متوهم منه، فاحتيج إلى رفع التوهم لا المشاهدة، فإنها منتفية لاشك في انتفائها، فلا يحتاج إليه، فلم نفيت المشاهدة وترك ذلك؟ وخلاصة الجواب: أن المراد من نفي المشاهدة: إثبات الحجة والاحتجاج على أهل الكتاب بطريق التقسيم الحاصر، ولاشك أن عدم السماع والقراءة محقق عند اليهود، وقد علموا ذلك علماً يقينياً لاشك فيه، وإنما كانوا ينكرون الوحي فأردي إثبات المطلوب بطريق برهاني، فقيل: طريق العلم فيما أنبئكم به، إما السماع والقراءة، وإما الوحي والإلهام، وإما الحضور والمشاهدة، فالأولان منفيان عندكم، بقي الثالث، فنفى تهكماً بهم، وإنما خص هذه دون الأولى للتهكم لأنه لو نفى الأولى لم يكن من التهكم في شيء، لمجال الوهم فيه دونه.

وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركا بها. (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأنها؛ تنافسا في التكفل بها. فإن قلت: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) بم يتعلق؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه: (يلقون أقلامهم)، كأنه قيل: يلقونها ينظرون (أيهم يكفل)، أو ليعلموا، أو يقولون. (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَاكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) (الْمَسِيحُ) لقب من الألقاب المشرفة، كالصدّيق، والفاروق، وأصله: مشيحا بالعبرانية، ومعناه المبارك، كقوله: (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم: 31] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذكر الزجاج في البقرة نحوه، وأشرنا إليه في قوله: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة: 133]. قوله: (وقيل: هي الأقلام)، قال الزجاج: الأقلام ها هنا: القداح، جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة، وسمي السهم قلماً لأنه يقلم، أي: يبرى، وكل ما قطعت منه شيئاً فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به، وتقليم الأظفار.

وكذلك "عيسى" معرب من أيشوع، ومشتقهما من المسح والعيس، كالراقم في الماء! فإن قلت: (إِذْ قالَتِ) بم يتعلق؟ قلت: هو بدل من (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران: 42] ويجوز أن يبدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. فإن قلت: لم قيل: (عيسى ابن مريم) والخطاب لمريم؟ قلت: لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين. فإن قلت: لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت: لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل: (اسمه المسيح عيسى ابن مريم)؟ ، وهذه ثلاثة أشياء؛ الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومشتقهما)، وهو اسم فاعل من الاشتقاق، أي: الذي يشتقهما، وهو مبتدأ، والخبر: "كالراقم"، أي: لا شيء معه، أي: لا طائل تحته. قوله: (والعيس)، الجوهري: العيس، بالكسر: الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة. وهذا المجاز، نحو إطلاقهم المرسن على أنف الإنسان. قوله: (في زمان واسع) أي: الزمان الذي وقع فيه الاختصام زمان البشارة، كلاهما على طريق لقيته سنة كذا، مع أنه لم يلقه إلا في جزء من أجزاء السنة، فيكون قوله: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) إشارة إلى جميع ذلك الزمان، وكذا (إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ)، ويجوز أن يكون بدل اشتمال عن قوله تعالى: (إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) نحو قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ) [مريم: 16]. قوله: (وهذه ثلاثة أشياء؛ الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة)، الانتصاف: أراد بهذا السؤال هو أن المسيح إن أريد به التسمية فما موقع قوله: (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)؟ والتسمية لا توصف بالبنوة، وإن أريد المسمى لم يلتئم مع قوله: (اسْمُهُ)!

قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره؛ فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة (وَجِيهاً) حال من (كَلِمَةٍ) وكذلك قوله: (ومن المقربين)، (ويكلم)، (ومن الصالحين)، أي: يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة. والوجاهة في الدنيا: النبوّة والتقدم على الناس، وفي الآخرة: الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجواب الأول: (الْمَسِيحُ) خبر عن قوله: (اسْمُهُ)، والمراد التسمية، و (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ): خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عيسى ابن مريم، والضمير عائد إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعاً عن قوله: (الْمَسِيحُ). وقلت: هذا كلام لا طائل تحته، ومقصود المصنف أن مؤدى كل اسم تمييز المسمى من غيره، فكما يتأتى ذلك من عبارة واحدة نحو: عيسى، يتأتى من مجموع ألفاظ نحو قوله تعالى: (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، وقد سبق جواز التسمية ببيت واحد. فإن قيل: كيف قدم اللقب على الاسم ولم يضف الاسم إلى اللقب كما نص عليه في "المفصل"، وإذا اجتمع للرجل اسم غير مضاف ولقب: أضيف اسمه إلى لقبه، فقيل: هذا سعيد كرز؟ قلت: الجواب ما ذكره ابن الحاجب: ذكر اللقب مطلقاً، والمراد اللقب الذي هو غير صفة. قوله: (والوجاهة في الدنيا)، الزجاج: الوجيه: هو الذي له المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة، ولفلان جاه عند الناس.

وكونه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة، والمهد: ما يمهد للصبي من مضجعه؛ سمي بالمصدر. و(فِي الْمَهْدِ) في محل النصب على الحال (وَكَهْلًا) عطف عليه بمعنى: ويكلم الناس طفلاً وكهلاً، ومعناه: يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء. ومن بدع التفاسير: أن قولها: (رَبِّ) نداء لجبريل عليه السلام، بمعنى: يا سيدي (ونعلمه) عطف على (يبشرك)، أو على (وجيها) أو على (يخلق)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ونعلمه" عطف على (يُبَشِّرُكِ))، هذا على القراءة بالياء في (وَيُعَلِّمُهُ) ظاهر، وأما بالنون ففيه التفات وإيذان بأن هذه الكرامة من المنائح التي توجب أن يعظم موليها. فإن قلت: لا شك أن قوله: (يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) بيان لقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ)، وهو مبتدأ وخبر، أي: نحو هذه الصفة يخلق الله ما يشاء، فإذا عطف (وَيُعَلِّمُهُ) على (يَخْلُقُ) يكون بياناً أيضاً، فما وجهه؟ قلت: نعم، هو بيان، ووجهه أن المشار إليه جميع ما سبق في تلك البشارة، وما بعده تفصيل لذلك، والمعنى على نحو ما مر من كونه مبشراً بكلمة منه موجوداً بها، كذلك كل مخلوقاته موجود بها، فإنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، ومن كونه مبشراً بكونه وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، كذلك يقتضي أن يعلمه الكتاب والحكمة وكيْتَ وكيْتَ، ومن كونه مبشراً بأنه يكلم الناس في المهد وكهلاً، كذلك ينبغي أن يأمره بأن يقول لهم: أرسلت رسولاً ناطقاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ومن كونه من الصالحين، كذلك أوحينا إليه أن يقول: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) لأنه علامة يعرف بها أنه رسول كسائر

أو هو كلام مبتدأ، وقرأ عاصم ونافع: (ويعلمه)، بالياء. فإن قلت: علام تحمل (ورسولا)، (ومصدّقاً)، من المنصوبات المتقدّمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرسل، وأما معنى التنكير في قولها: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) فلتتميم معنى الاستبعاد الذي يعطيه قوله: (أَنَّى يَكُونُ)، أي: ما أبعد تصور ولد ما، فكيف بالموصوف؟ قوله: (أو هو كلام مبتدأ)، قال صاحب "المرشد": إذا قرئ "نعلمه" بالنون، الأجود أن يكون الوقف على (فَيَكُونُ) تاماً و"نعلمه": استئنافاً، وإذا قرئ بالياء يكون كافياً و (وَيُعَلِّمُهُ) عطفاً على قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ). وقلت: على الابتداء الكلام خارج من حيز البشارة وحديثها، وهي قصة مستقلة جيئت مستطردة، المعنى: ونعلمه الكتاب والحكمة ونبعثه إلى بني إسرائيل رسولاً ناطقاً بأني قد جئتكم، إلى قوله: (فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فلما أدى الرسالة توقفوا عنده، فلما أحس منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ وأما المعنى على العطف فهو: أن يقدر بعد قوله: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) قوله: ثم بعثه الله رسولاً إلى بني إسرائيل ودعاهم إلى عبادة الله وإلى صراط مستقيم، فلما لم يصدقوه وأبوا أن يعبدوا الله وأحس منهم الكفر قال: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) [آل عمران: 53] والفاء على التقديرين: فصيحة. قوله: (علام تحمل (وَرَسُولاً) (وَمُصَدِّقاً))، قال المصنف: المنصوبات قبل (رَسُولاً) و (مُصَدِّقاً) في حكم الغيبة، وهما في حكم التكلم لتعلق قوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) و (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) بهما، فلم يصح العطف؛ لأنك لا تقول: بعث الله عيسى مصدقاً لنا، ولكن مصدقاً هو، هذا ما نقل من الحواشي. ويمكن أن يوجه السؤال على طريقة أخرى، بأن يقال: على أي شيء يحمل (رَسُولاً) و (مُصَدِّقاً) من المنصوبات السابقة،

وقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) و (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) يأبى حمله عليها؟ قلت: هو من المضايق، وفيه وجهان: أحدهما أن يضمر له «وأرسلت» على إرادة القول تقديره: ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي. والثاني أن الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، وناطقاً بأني أصدق ما بين يدي وقرأ اليزيدي: (ورسول) عطفاً على كلمة (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، أصله: أرسلت بأني قد جئتكم، فحذف الجار وانتصب بالفعل، و (أَنِّي أَخْلُقُ) نصب بدل من (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ)، أو جرّ بدل من "آية"، أو رفع على: هي أنى أخلق لكم، وقرئ: (إني)، بالكسر على الاستئناف، أي: أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف، أي: في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير، (فَيَكُونُ طَيْراً): فيصير طيراً كسائر الطيور حياً طياراً، وقرأ عبد اللَّه: (فأنفخها) قال: كَالْهَبْرَقِىِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْمَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي (وَجِيهاً)، (وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ) (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ)؟ لأن قوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) يأبى حملها عليها؛ لأن تلك المنصوبات واقعة في كلام الملائكة وبشارتها لها من الله، وهما حكاية قول عيسى عليه السلام؟ وتحرير الجواب المذكور ما قاله القاضي: (وَرَسُولاً) (وَمُصَدِّقاً) منصوبان بمضمر على إرادة القول، تقديره: ويقول: أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمناً معنى النطق، فكأنه قال: وناطقاً بأني قد جئتكم. قوله: (كالهبرقي تنحى ينفخ الفحما) صدره: مولي الريح قرنيه وجبهته ويروى: روقيه وكلكله. والروق: القرن، والكلكل: الصدر، والهبرقي، بكسر الهاء: الحداد،

وقيل: لم يخلق غير الخفاش. الْأَكْمَهَ: الذي ولد أعمى، وقيل: هو الممسوح العين، ويقال: لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وروي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر (بِإِذْنِ اللَّهِ)؛ دفعاً لوهم من توهم فيه اللاهوتية. وروي أنه أحيا سام بن نوح وهم ينظرون، فقالوا: هذا سحر فأرنا آية: فقال يا فلان، أكلت كذا، ويا فلان، خبئ لك كذا. وقرئ: "تذخرون"، بالذال والتخفيف (وَلِأُحِلَّ): ردّ على قوله: (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتنحى: أي: انتحى واعتمد، البيت للنابغة يصف ثوراً أكب في كناسه يحفر أصل الشجر، كالحداد ينفخ في الفحم، أو يصفه وهو مستقبل الريح بقرنيه وجبهته ينفخ ويتنفس كالحداد الذي ينفخ في الفحم بالمنفاخ، واستشهد بأن الشاعر عدى فعل النفخ. قوله: (غير قتادة) "غير" يروى بالرفع على البدل، وبالنصب على الاستثناء. قوله: (قتادة بن دعامة السدوسي)، في "جامع الأصول": هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي البصري الأعمى، يعد في الطبقة الثالثة من تابعي البصرة، روى عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب والحسن البصري، دعامة بكسر الدال المهملة، وسدوس بفتح السين المهملة. قوله: ((وَلأُحِلَّ): رد) أي: متعلق به معطوف عليه، أي: ولأعلمكم ما أحل الله وما حرم، لأنه ليس لمخلوق تحليل الحرام وتحريم الحلال.

ويجوز أن يكون (مُصَدِّقاً) مردودا عليه أيضا، أي جئتكم بآية وجئتكم مصدقًا. وما حرم اللَّه عليهم في شريعة موسى: الشحوم، والثروب، ولحوم الإبل، والسمك، وكل ذي ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك. قيل: أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له. واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرئ (حرم عليكم) على تسمية الفاعل، وهو (ما بين يدىّ من التوراة)، أو اللَّه عزّ وجلّ، أو موسى عليه السلام؛ لأن ذكر التوراة دل عليه؛ ولأنه كان معلوماً عندهم. وقرئ: "حرم"، بوزن كرم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)؛ لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه: وقرئ بالفتح على البدل من (آيَةٍ). وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض، فإن قلت: كيف جعل هذا القول آية من ربه؟ قلت: لأنّ اللَّه تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: هو مقدر بإضمار، أو معطوف على معنى (وَمُصَدِّقاً)، كقولهم: جئتك معتذراً ولأطيب قلبك. قوله: ((مُصَدِّقاً) مردوداً عليه أيضاً)، قال أبو البقاء: (مُصَدِّقاً): حال معطوفة على قوله: (بِآيَةٍ) أي: جئتكم بآية ومصدقاً. قوله: (والثروب): جمع ثرب، وهو شحم رقيق قد غشي الكرش والأمعاء. قوله: (ما لا صيصية له). الصيصية: شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة، ومنه: صيصية الديك: ما يدفع به عن نفسه. قوله: (لأن الله تعالى جعله) أي: قوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، علامة، يعني الرسل

حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. ويجوز أن يكون تكريراً لقوله: (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من: خلق الطير، والإبراء، والإحياء، والإنباء بالخفايا، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قاطبة تواطأت على هذا القول، فكل من ادعى النبوة وقال بها كان رسولاً، قال القاضي: إنه دعوة الحق المجمع عليها بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر. قوله: (ويجوز أن يكون تكريراً) معطوف من حيث المعنى على قوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتي، واسم يكون ضمير يرجع إلى معنى قوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، (وَجِئْتُكُمْ) على "الأول" كرر ليعلق عليه معنى زائد، وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، وعلى الثاني كرر للاستيعاب، على منوال قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك: 4]، قال: لم يرد بالكرتين التثنية، ولكن التكرير، أيك كرة بعد كرة، ولهذا قال ها هنا: أي: جئتكم بآية بعد أخرى، فيقدر ما يناسب تلك الآيات السابقة من كونه مولوداً وجد من غير أب، وكونه يكلم الناس في المهد، ومن هذه الأجناس، وإليه الإشارة بقوله: "مما ذكرت"، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) على هذا إذا قرئ بكسر (إِنَّ): استئناف، وبفتحها: تعليل لقوله: (فَاعْبُدُوهُ) قدم للحصر، ولا يجوز أن يكون بياناً أو بدلاً كما في الوجه الأول، لأن هذا ليس من جنس ما سبق ولا يناسب التكرير، ويؤيد هذا التقرير قراءة عبد الله، لما أن جمع الآيات مناسب للتكرير من حيث المعنى ومن حيث إن قوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) لا يصح أن يكون بدلاً أو بياناً، بل كان استئنافاً أو تعليلاً، قال القاضي: إرادة التكرير هو الظاهر، ليكون الأول كتمهيد الحجة، والثاني كتقريبها إلى الحكم،

وبغيره من: ولادتي بغير أب، ومن كلامي في المهد، ومن سائر ذلك. وقرأ عبد اللَّه: (وجئتكم بآيات من ربكم)، فاتقوا اللَّه لما جئتكم به من الآيات، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه. ثم ابتدأ فقال: (إن اللَّه ربى وربكم). ومعنى قراءة من فتح: ولأنّ اللَّه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله: (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ..... فَلْيَعْبُدُوا) [قريش: 1، 3]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك رتب الحكم بالفاء، أي: فاتقوا الله لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة في المخالفة وأطيعوني فيما أدعوكم. ثم شرح في الدعوة بالقول المجمل، فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [آل عمران: 51] إشارة إلى الاعتقاد الحق ثم قال: (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى الأعمال الصالحة. ثم قرر ذلك بأن بين الطريق المشهود له بالاستقامة، وهو الجمع بين الأمرين بقوله: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51]، ونظيره قوله صلوات الله عليه: "قل: آمنت بالله ثم استقم". قوله: (وبغيره من ولادتي) قيل: هو عطف على "مما ذكرت"؛ لأنه بيان لقوله: (بِآيَةٍ) فكأنه قيل: جئتكم بما ذكرت لكم وبغيره، ولا يجوز العطف على "بالخفيات" لفظاً ومعنى. قوله: (كقوله: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش: 1])، قال: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا)، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، فحينئذ التقدير: وجئتكم بآية بعد أخرى شاهدة على صحة نبوتي فاتقوا الله وخافوا العقاب واتركوا العناد وأطيعوني، وإذ تركتم العناد وأطعتموني فاعلموا أني آمركم بعبادة من هو مالككم ومربيكم، ففيه إيجابه العبادة بواسطة النعمة التي بها تربيتهم وقوامهم.

ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن اللَّه ربى وربكم وما بينهما اعتراض. (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [52 - 54] (فَلَمَّا أَحَسَّ) فلما علم (منهم الْكُفْرَ) علماً لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس. و (إِلَى اللَّهِ) من صلة (أنصارى) مضمناً معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى اللَّه، ينصرونني كما ينصرني؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء، أي: من أنصارى ذاهباً إلى اللَّه ملتجئا إليه؟ (نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي: أنصار دينه ورسوله. وحواريّ الرجل: صفوته وخالصته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربي)، الظاهر أنه عطف على قوله: "معنى قراءة من فتح"، لأن المعنى: "وجئتكم بآية بعد أخرى"، أي: بدلالات واضحات متعاقبات على أن الله ربي وربكم فاعبدوه. قوله: (وما بينهما اعتراض) أي: على تقدير حذف الجارة، وكذا على البدل، والبيان اعتراض، وأما على التكرير فلا اعتراض. قوله: (مضمناً معنى الإضافة)، قال الزجاج: معناه: من أنصاري مع الله، و"إلى" إنما قاربت معنى "مع" لأنها إذا عبر عنها بها أفاد معناها، لا أن "إلى" بمعنى "مع"؛ لأن إلى: لانتهاء الغاية، ومع: لضم الشيء إلى الشيء، المعنى: من يضيف نصرته إياي إلى نصرته تعالى؟ ولما أن الحروف قد تتقارب في الفائدة ربما يظن الضعيف بعلم اللغة أن معناها واحد.

ومنه قيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن، قال: فَفُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا وَلَا تَبْكِنَا إلّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ وفي وزانه: الحوالي، وهو الكثير الحيلة. وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم؛ تأكيداً لإيمانهم؛ لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم. (مَعَ الشَّاهِدِينَ): مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون بالوحدانية. وقيل: مع أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم؛ لأنهم شهداء على الناس (وَمَكَرُوا): الواو لكفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، ومكرهم: أنهم وكلوا به من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ: أن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل، (وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكراً، وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقل للحواريات) البيت، معناه: قل للنساء الحضريات: يبكين على غيرنا، فلسنا ممن يموت على الفراش كأهل الحضر، بل نحن من أهل الحرب، ولا يبكي علينا إلا الكلاب اللواتي نشأن معنا في البدو. قوله: (غيلة) الغيلة بالكسر: الاغتيال، يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله. قوله: (أقواهم مكراً)، الراغب: المكر في الأصل: حيلة يجلب بها الإنسان إلى مفسدة، وقد يقال فيما يجلب به إلى مصلحة، اعتباراً بظاهر الفعل دون القصد، والحكيم قد يفعل ما صورته صورة المكر لكن قصده المصلحة لا المفسدة، وعلى هذا سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد: ويقبح من سواك الشيء عندي ... وتفعله ويحسن منك ذاكا

(إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)) [55 - 57] (إِذْ قالَ اللَّهُ) ظرف ل (خير الماكرين)، أو ل (مكر اللَّه)، (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: مستوفي أجلك. ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف أنفك لا قتيلا بأيديهم (وَرافِعُكَ إِلَيَّ): إلى سمائي ومقرّ ملائكتي، (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم وخبث صحبتهم. وقيل (متوفيك): قابضك من الأرض، من توفيت مالي على فلان: إذا استوفيته ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذا مكر الله قد يكون تارة فعلاً يقصد به مصلحة، وتارة جزاء المكر، وأخرى أن لا يقبح مكره عندهم، وذلك بانقطاع التوفيق وتزيين ذلك في أعينهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم، واستعملوه على غير ما يجب، فكأنه مكر بهم واستدرجهم من حيث لا يعلمون، وإليه الإشارة بقوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13]. قوله: (ومعناه: إني عاصمك) أي: قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) بمعنى مميتك، كناية تلويحية عن العصمة؛ لأن التوفي لازم لتأخيره إلى أجل كتب له، وتأخيره ذلك لازم لإماتة الله إياه حتف أنفه، وهو لازم لعصمته من أن يقتله الكفار. قوله: (توفيت مالي على فلان) ما: موصولة، أي: الذي لي على فلان، وإنما اعتبر هذه الوجوه لأن التوفي واقع بعد رفعه عليه السلام إلى السماء على ما يعلم من قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) إلى قوله: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء: 157]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بيني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبينه - يعني عيسىـ نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"، أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي، عن أبي هريرة. وكان من ضربان الدهر وحدثان الزمان، وقدر الله الغالب، أن توغل شقيق لي في بعض بلاد الإفرنجة تسمى ببندقة قلما يصل إليها المسلمون، واتفق له بحث مع بعض القسيسين فقال: هذه الآية موافقة لما نحن عليه ونعتقده، ولكن قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) مناقضة لها ومخالفة لما نقول به. وقلت: لا مناقضة بينهما، لأن مساق هذه الآية غير مساق تلك، وذلك أن قوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ) كما قال المصنف: ظرف لـ (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أو لـ (وَمَكَرَ اللَّهُ)، وقد عقب به قوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)، فكان المقام مظنة لاهتمام شأن النصرة والوعد بالاعتصام من مكايد الأعداء، فقيل: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: عاصمك ممن يريد المكيدة بك، بخلافه في تلك الآية، فإنها واردة لرد زعم اليهود ودعواهم الكاذبة: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النساء: 157] فوجب أن يقال: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) ويؤتى بحرف الإضراب في قوله: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ). فإن قلت: فلم عدل من "عاصمك" إلى (مُتَوَفِّيكَ)؟ قلت: ليؤذن بعصمة خارقة للعادة خارجة مما عليه المتعارف، فإن روح الله لما خاف معرة الأعداء وقتلهم إياه قيل له: لا تخف، فإنهم لن يقتلوك أبداً ولن يصلوا إلى متمناهم؛

وقيل: مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن: وقيل: متوفي نفسك بالنوم من قوله: (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها)، [الزمر: 42]، ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه: هم المسلمون؛ لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) تفسير الحكم قوله (فَأُعَذِّبُهُمْ ... ) (فنوفيهم أجورهم) وقرئ (فيوفيهم) بالياء ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأني أنا الذي مميتك وأدفع عنك شرهم وأجعل كيدهم في نحرهم، ولذلك أوقع الشبه على طالبه حتى قتلوه وأمد في حياته إلى آخر الزمان، هذا معنى قوله: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) على المسلمين الذين يتبعونه بعد نزوله من السماء، وينصره قوله: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) والله أعلم. قوله: (وقيل: مميتك في وقتك ... ورافعك الآن) هذا على الحذف لا الكناية. قوله: (ومتبعوه: هم المسلمون)، قال صاحب "الفرائد": من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم يسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة. قوله: (كذبوه وكذبوا عليه) لف، والنشر قوله: "من اليهود والنصارى"، وقوله: "تفسير الحكم" مبتدأ، و"قوله: (فَأُعَذِّبُهُمْ) " الخبر، وإنما قال: "تفسير الحكم" دون تفصيله، لأن التفصيل هو قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)، (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، وحكم الله هو تعذيب الكفار، وتوفية أجور المؤمنين، ومعنى الآية: فاحكم بينكم فيما كنتم تختلفون فيه من كتاب أنزلته، ورسول بعثته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، فاختلفتم فيه، فمنكم من آمن، ومنكم من كفر، فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، فالآية من باب الجمع والتقسيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: التعذيب في الآخرة يصح أن يكون تفسيراً للحكم الصادر في الآخرة، فما بال التعذيب في الدنيا؟ قلتـ والله أعلمـ: والذي يمكن أن يقال: إنه عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع وأخذ الزبدة من المجموع من غير اعتبار مفردات التركيب، كقوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) [هود: 107]. قال المصنف: هو كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وغير ذلك من كلمات التأبيد، أو المراد: مفهومهما اللغوي، أي: في الأول والآخر، أي: دائماً، أو أقحم في الدنيا والآخرة اهتماماً وغضباً عليهم؛ لأن قوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) بعد قوله: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وكذا قوله في قرينتها: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) دل على أن العذاب في الآخرة، وأصل الكلام: ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فأعذبهم فيوفيهم أجورهم، كما قال. فإن قلت: كيف فصلت الآية الأولى بقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) والثانية بقوله: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)؟ قلت: لعل القصد إلى دليل الخطاب وأن الله يحب المؤمنين، فعدل ليعرض بالكافرين وأن الله تعالى إنما خذلهم لأنه يبغضهم، فيا له من غضب قصد في مدح الغير ذم الغير! والقوم المغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم الذين كذبوا بعيسى، فعذبوا في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة عليهم، وفي الآخرة بما لا يدخل تحت الوصف. فإن قلت: ما معنى الخطاب في قوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) لأن الأصل مرجعهم نظراً إلى قوله: (الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) و (الَّذِينَ كَفَرُوا). قلت: يجوز أن يكون التفاتاً، إيذاناً بأن الرجوع لابد منه فشافههم بذلك؛ لأن الخطاب أدل في إثبات ما أجرى له الكلام.

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) 58] (ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبإ عيسى وغيره، وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ) و (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون (ذلك) بمعنى "الذي"، و (نتلوه) صلته، و (من الآيات) الخبر: ويجوز أن ينتصب (ذلك) بمضمر تفسيره (نتلوه)، "وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ": القرآن، وصف بصفة من هو سببه، أو: كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون (ذَلِكَ) بمعنى "الذي")، ولم يثبت "ذا" بمعنى "الذي" عند سيبويه إلا في قولهم: ماذا؟ وقد أثبته الكوفيون وأنشدوا: عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق أي: يا عدس، وهو في الأصل زجر للبغلة، فسماها به، وهو علم هنا، وإنما بني لأنه حكاية صوت، ويجوز أن يكون زجرها بذلك، ثم قال: ما لعباد، وهو اسم ملك، "ها ذا" الأولى أن تكتب منفصلة غير متصلة فرقاً بينه وبين اسم الإشارة، يريد: تحمله نفسه، أي: أنت طليق بعد أن صرت أسيراً، وبعضهم قال: "هذا"ـ في البيتـ على أصله، وهو اسم الإشارة، ومحله مرفوع بالابتداء، وطليق: خبره، وتحملين: حال، أي: وهذا طليق حال كونك حاملة له، وما ذكره الكوفيون ليس يثبت لخروجه عن القياس ولقلته. كله في "الإقليد". قوله: (وصف بصفة من هو سببه) وهو من الإسناد المجازي، كقوله: نهاره صائم، وليله قائم. قوله: (أو كأنه ينطق بالحكمة)، اعلم أن الضمير في قوله: (الْحَكِيمِ) العائد إلى الذكر، المراد به: القرآن إذا حمل على حقيقتهـ ولاشك أن نفس القرآن ليس بحكيمـ كان الإسناد مجازياً؛ لأن مسببهـ أي: منزلهـ حكيم، وإذا شبه القرآن لكثرة حكمه، بإنسان ذي

(إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 59] (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عند الله): إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم. وقوله: (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم عليهما السلام، أي: خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم، وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟ قلت: هو مثيله في أحد الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف؛ ولأنه شبه به في أنه وجد وجودًا خارجًا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حكمة، ثم خيل القرآن نفس الشخص، ثم أطلق القرآن على المتخيل ورمز بقوله: (الْحَكِيمِ) ـ وهو من روادف المشبه بهـ أن القرآن مكان الاستعارة، يكون استعارة مكنية، ولا تظنن أن قوله: "كأنه ينطق بالحكمة"، مشعر بأن التركيب تشبيه لذكر الطرفين، وهو القرآن المشبه، والحكيم المشبه به، فإن التحقيق ما ذكرت لك، وتبين لك من هذا أن الفاعل في الإسناد المجازي يمكن أن يكون مشبهاً على سبيل المكنية، وأن قول صاحب "المفتاح": الذي عندي هو نظم هذا النوع، أي: الإسناد المجازي، في سلك الاستعارة بالكناية، ليس من مخترعاته، بل هو قد قيل، وذهب إليه، وأن راميه خابط في الظلمات. قوله: (جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم عليهما السلام)، "ما" موصولة، صلتها: "شبه"، والظرف معموله، والضمير فيه راجع إلى الموصولة، أي: مفسرة للذي شبه عيسى بآدم لأجله، الجملة بيان لما يدل على وجه التشبيه بأخذ الزبدة والخلاصة التي يعطيها التركيب، وهي كونه وجد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من غير أب وأم، يعني: ما خلقت آدم إلا من تراب صرف، وليس شأنه شأن أولاده حيث خلقوا من أب وأم، وعلى هذا توجه السؤال المذكور وتوجيهه: كيف شبه عيسى بآدم عليهما السلام، وهو ليس نظيره فيما شبه به؟ وأجاب: لا نسلم أنه ليس مثله، إذ ليس بواجب في التشبيه أن يحصل الشبه من كل الوجوه، بل ربما يكفي مجرد وصف يشتركان فيه، لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ثم ترقى في الجواب وقال: "ولأنه شبه به"، يعني: لا نسلم أن الوجه ليس شاملاً للطرفين، فإن الوجه وهو كونهما وجدا خارجين عن العادة المستمرة شامل للطرفين، إذ الغرض من إيراد التشبيه بيان حال المشبه، وإليه الإشارة بقوله: "وهما في ذلك نظيران"، ثم ترك هذه المرتبة إلى أعلى منها، بأن قال: "ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب"، أي: الغرض من إيراد التشبيه إلحاق الناقص بالكامل، فالواجب أن يكون المشبه به أقوى في وجه الشبه، وها هنا كذلك. هذا كله على أن يكون التشبيه عقلياً. ويمكن أن يكون تمثيلياً بأن ينتزع الوجه من عدة أمور متوهمة، فإن قوله تعالى: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مشتمل على بدء الإنشاء وانتهائه، على أن القصد في إيراد الكلام أنه كيف يتصور في عيسى دعوى الإلهية؟ فإنه مثل آدم في كونه مخلوقاً من تراب، لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [فاطر: 11] أي: من أحقر الأشياء وأوضعها، وفي كونه منقاداً لحكمه داخلاً تحت كلمة التسخير، وهي: كن، كسائر المكونات. والآيات من أول السورة كما ذكرنا مسوقة للاحتجاج على النصارى، وعلى أسلوبه قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [البقرة: 116] على إرادة استعمال "ما" في "أولي العلم"، ممن عبد دون الله من الملائكة والمسيح وعزير، تحقيراً، ويؤيد هذا الوجه قول الزجاج: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ليس بمتصل بآدم إنما هو تبيين قصته، فإذا قلت: مثلك مثل زيد، أردت أنك تشبهه في فعله ثم تخبر بقصة زيد، فعل كذا وكذا، لأن اعتبار القصة والحالة في التشبيه أكثر ما يكون في قسم التمثيل منه.

وعن بعض العلماء: أنه أسر بالروم، فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له. قال: فآدم أولى؛ لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيى الموتى. قال: فحزقيل أولى؛ لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص. قال: فجرجيس أولى، لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم)، وجدت في بعض الروايات أنه أسر ثلاثون رجلاً من المسلمين، وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له: واصل، فأدخل على بطريق من البطارقة، فسأله شيئاً، فلم يرد عليه الشيخ، فقال له: ما لك؟ قال: كيف أجيبك وأنا أسير بين يديك، فإن أجبتك بما تهوى أسخطت ربي، وإن أجبتك بما لا تهوى تخوفت على نفسي، فأعطني عهد الله وميثاقه وما أخذ على النبيين أنك لا تغدر بي، وإذا سمعت الحق أذعنت له، قال: لك بذلك عهد وميثاق، فكلمه فأفحمه، وبلغ أمره إلى الملك فأرسل إليه فأحضره ودعا بعظيم النصارى، فلما دخل سجد له الملك ومن حوله، فسأله: من هذا؟ فقيل له: هذا الذي يأخذ النصارى دينهم منه، قال الشيخ: أما له من زوجة أو عقب؟ قال الملك: أخزاك الله! هذا أزكى من أن يقذر بالولد أو ينسب إلى النساء أو يدنس بالحيض، فقال: فأنتم تكرهون لأدناكم ذلك وتأخذكم العزة من ذكر الزوجة والولد له، وتزعمون أن رب العالمين سكن ظلمة البطن وضيق الرحم ودنس بالحيض؟ فسكت القس، ثم قال: أيها القس، لم عبدتم عيسى ابن مريم؟ أمن جهة أنه لا أب له، فهذا آدم لا أب له ولا أم، خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، فضموا آدم إلى عيسى حتى يكون لكم ربان، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أحيا الموتى فهذا حزقيل تجدونه في الإنجيل لا ننكره نحن ولا أنتم، مر بميت فدعا الله فأحياه حتى كلمه، فضموه غليهما حتى يكون لكم ثلاثة آلهة، ثم قال: أيها الملك، ما عاب أهل الكتاب على أهل الأوثان؟ قال: أنهم عبدوا ما عملوا بأيديهم، فقال: ها أنتم تعبدون هذه الصور التي في كنائسكم، فإن كانت في الإنجيل فلا كلام، فإن لم تكن فلم تشبهون دينكم بدين أهل الأوثان؟ قال الملك: صدق، هل تجدونه في الإنجيل؟ فقال القس: لا، فقال: فلم تشبهون ديني بدين أهل الأوثان؟ فأمر الملك بنقض الكنائس فجعلوا ينقضونها ويبكون، فقال القس: هذا شيطان

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ): قدّره جسداً من طين، (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي: أنشأه بشراً كقوله: (ثُمَّ أَنْشَاناهُ خَلْقاً آخَرَ). [المؤمنون: 14]، (فَيَكُونُ): حكاية حال ماضية. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) 60] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ): خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق كقول أهل خيبر: محمد والخميس. ونهيه عن الامتراء ـ وجل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يكون ممترياً ـ من باب التهييج؛ لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من شياطين العرب فأخرجوه من دياركم ولا تقتلوه ولا تقطروا قطرة من دمه في دياركم فتفسد عليكم، فأخرجوه إلى بلاد الإسلام، والله أعلم بالحقيقة. قوله: (محمد والخميس). النهاية: الخميس: الجيش، سمي به لأنه مقسوم خمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب، وقيل: لأنه يخمس الغنائم، ومحمد: خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا محمد. روينا في "صحيح البخاري"، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمدـ واللهـ والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". قوله: (من باب التهييج). المغرب: هاجه فهاج، أي: هيجه، وأثاره فثار، يتعدى ولا يتعدى، وهو خبر نهيه عن الامتراء، وما توسط بينهما اعتراض، ونحوه قوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [القصص: 87].

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) 61] (فَمَنْ حَاجَّكَ) من النصارى (فِيهِ) في عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)، أي: من البينات الموجبة للعلم (تَعالَوْا): هلموا. والمراد: المجيء بالرأي والعزم، كما تقول: تعال نفكر في هذه المسألة (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) أي: يدع كل منى ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة (ثُمَّ نَبْتَهِلْ): ثم نتباهل بأن نقول: بهلة اللَّه على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بالفتح، والضم: اللعنة. وبهله اللَّه لعنه وأبعده من رحمته، من قولك: أبهله إذا أهمله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي هذا الأسلوب فائدتان، إحداهما: أنه صلوات الله عليه إذا سمع مثل هذا الخطاب تحرك منه الأريحية فيزيد في الثبات على اليقين. وثانيهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب الفظيع على أمر عظيم فينزجر عما يورث الامتراء؛ لأنه صلوات الله عليه وسلم بجلالته إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره؟ وإلى هذين المعنيين الإشارة بقوله: "لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره". قوله: ((مِنْ الْعِلْمِ) أي: من البينات الموجبة للعلم) أي: اللام في (الْعِلْمِ) للعهد، وهو تلخيص الدليل الموجب لأن عيسى مخلوق من مخلوقاته وليس بابن له، ولا تفاوت بينه وبين آدم المخلوق من التراب المكون بكلمة التسخير، ويدل على أن البينة الموجبة للعلم ذلك قوله تعالى: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) يعني: إذا عاندوا للحق بعد ذلك لم يبق إلا الدعوة إلى الملاعنة وتعجيزهم بالمباهلة التي تستأصلهم من سنخهم، فقوله: (الْحَقُّ) وقوله: (الْعِلْمِ) معبران عن تلخيص الدليل.

وناقة باهل: لا صرار عليها، وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. روى: «أنه لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: واللَّه لقد عرفتم يا معشر النصارى ـ أنّ محمداً نبيٌ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، واللَّه ما باهل قوم نبيًّا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا صرار عليها)، صررت الناقة: شددت عليها الصرار، وهو خيط يشد فوق الخلف والتودية لئلا يرضعها ولدها، والتودية: واحدة التوادي، وهي الخشبات التي تشد على خلف الناقة إذا صرت، والخلف، بكسر الخاء: حلمة ثدي الناقة. قوله: (للعاقب). النهاية: جاء السيد والعاقب، همام ن رؤسائهم وأصحاب مراتبهم، والعاقب يتلو السيد. قوله: (بالفصل من أمر صاحبكم)، يعني به ما يشير إليه قوله تعالى: (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي: فصل بينكم وبين اليهود؛ حيث قلتم: عيسى ابن الله وثالث ثلاثة، وقالوا: هو ساحر كذاب. و (قَوْلَ الْحَقِّ): هو عيسى، وإنما سمي به؛ لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها؛ وهي قوله: "كن" من غير واسطة أب. قوله: (فإن أبيتم إلا إلف دينكم)، الاستثناء مفرغ؛ لأن في "أبى" معنى النفي، يعني: إن لم تقبلوا دين الإسلام ولم ترغبوا في شيء إلا إلف دينكم فصالحوا محمداً على شيء وانصرفوا سالمين إلى أهاليكم، يعني: إن باهلتم معه هلكتم، وإن ناصبتم الحرب فلم تقدروا عليه، وفيه أن دينه حق، والواجب عليكم ترك ما ألفتم به من الدين الباطل. قوله: (فوادعوا الرجل)، النهاية: الموادعة: المتاركة، أي: يدع كل واحد منهما ما هو فيه، يقال: توادع الفريقان: إذا أعطى كل واحد منهما الآخر عهداً أن لا يغزوه.

فأتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشى، وعليٌّ خلفها وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا» فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهًا لو شاء اللَّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبق على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا. قال: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا، قال: «فإنى أناجزكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفي حلة؛ ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أسقف)، النهاية: هو اسم سرياني لرؤساء النصارى وعلمائهم، وقال: والسقف والسقيفي: مرتبة يلونها من قبل الملوك. قوله: (ولا يبق) بغير ياء في نسخة المصنف، وقيل: الصواب بإثباتها لأنه معطوف على "فتهلكوا" وهو منصوب وليس بمجزوم، لأن الفاء في جواب النهي تنصب، وفيه نظر، لجواز أن يكون من باب (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون: 10]. وحديث المباهلة روى مختصراً منه أحمد بن حنبل عن ابن مسعود، وروى أيضاً عن ابن عباس: لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً. قوله: (فإني أناجزكم)، الجوهري: والمناجزة في الحرب: المبارزة والمقاتلة، وفي المثل: المحاجزة قبل المناجزة.

ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللَّه نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا» وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب: 33] فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه؛ حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء؛ لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب؛ لتمنعهم من الهرب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خرج وعليه مرط مرحل)، الحديث رواه مسلم، المرط: الكساء، والمرحل: الموشى المنقوش الذي فيه صور الرحال. قوله: (ليتبين الكاذب منه ومن خصمه) أي: يظهر من نسب إلى الكذب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خصمه، هذا معنى المباهلة لما سبق من قوله: "بأن يقول: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم". قوله: (لذلك) اللام متعلق بقوله: "تعريض"، وذلك إشارة إلى المباهلة، "ولم يقتصر": عطف على "استجرأ"، و"بكذب خصمه" يتعلق بـ "ثقته"، و"على ثقته": عطف على "على ثقته". قوله: (الظعائن)، الجوهري: الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، و: الهودج أيضاً، كانت فيه امرأة أو لم تكن.

ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس؛ لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم؛ وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) 62 ـ 63] (إِنَّ هذا) الذي قص عليك من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)، قرئ بتحريك الهاء على الأصل، وبالسكون؛ لأن اللام تنزل من "هو" منزلة بعضه؛ فخفف كما خفف عضد، و "هو" إما فصل بين اسم (إن) وخبرها، وإما مبتدأ و (القصص الحق) خبره، والجملة خبر (إن)، فإن قلت: لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ. و (من) في قوله: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) بمنزلة البناء على الفتح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حماة الحقائق) جمع حقيقة، وهي ما يحق على الرجل أن يحميه. قوله: (قرئ بتحريك الهاء) أي: "لهو". بالسكون: قالون وأبو عمرو والكسائي، والباقون: بالتحريك. قوله: (و (مِنْ) في قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ) بمنزلة البناء على الفتح)، فإن قلت: فعلى هذا الفتح هو الأصل، وقد قال ابن الحاجب: وإنما بني المفرد معه لما تضمنه من معنى الحرف؛ لأن معناه: ما من رجل. وأجيب: أن هذا إحدى علتين في بناء اسم "لا"، ذكرهما صاحب "الإقليد"، إحداهما: هذه التي ذكرها ابن الحاجب. والثانية: أن "لا" معناها النفي،

في: (لا إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) في إفادة معنى الاستغراق، والمراد: الردّ على النصارى في تثليثهم (فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ): وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله: (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كالاستفهام، في أنهما يتشبثان بمضمون الجملة لا بالاسم وحده، ألا ترى أنك إذا قلت: هل خرج زيد؟ فاستفهامك عن التباس خروج في زمان ماض بزيد، لأنك لا تجهل الخروج في زمان ماض حادثاً على الإطلاق ولم تجهل أيضاً زيداً، بل جهلت التباس ذلك الخروج به، وكذا إذا قلت: ما خرج زيد، فالنفي متشبث بمضمون الجملة على ما سبق، ولا في "لا رجل أفضل منك" يفيد النفي الذي من شأنه أن يتشبث بالاسم المنفي لا بمضمون الجملة، وهو النفي على معنى الاستغراق، لأنه غير متصور في غير الاسم المنفي في الجملة، وهي في إفادتها هذا المعنى كلام التعريف في نفس الرجل. ولما خصت "لا" في هذا المقام بحكم أحبوا أن ينصبوا للاختصاص لتنفصل هذه الحالة من سائل حالاتها التي لم تنزل فيها منزلة حرف يحدث في الاسم وحده معنى، فبنوا الاسم المنفي لأن هذا الحكم مما يدل على فرط امتزاج الحرف بالاسم، وإنما لم يبن "الرجل"، واللام نازلة منزلة الجزء من الاسم لأن البناء للتمييز، ولا حاجة هنا للتمييز؛ لأنه ليس للام حالة تزول فيها عن صفة الامتزاج بالاسم، فيحتاج إلى النصب، بخلاف "لا"، فإنها تارة تفيد النفي المتشبث بمضمون الجملة لا غير، وأخرى تفيد النفي المتعلق بالاسم، كأن المصنف اختار هذا التعليل وبنى عليه كلامه، هذا وإنما ألحق الأصل بالفرع ها هنا لأن الفرع اشتهر بين الناس كثرة استعمال حتى صار أصلاً في الاعتبار، كالدابة في العرف العام في ذوات الأربع. قوله: (والمراد: الرد على النصارى)، يعني تقصيص إيجاد عيسى بكلمة "كن" تستلزم التوحيد، وقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ) تذييل وتقرير لمعناه، فلا رد أبلغ من هذا. قوله: (وعيد لهم بالعذاب المذكور) يعني في إتيان صفة العلم بعد التولي وعيد لهم، وفي

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [64 - 68] (يا أَهْلَ الْكِتابِ) قيل: هم أهل الكتابين. وقيل: وفد نجران. وقيل: يهود المدينة (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ): مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير "الكلمة" قوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعنى: تعالوا إليها حتى لا نقول: عزيز ابن اللَّه، ولا المسيح ابن اللَّه؛ لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكر المفسدين تنبيه على اختصاص ذلك الوعيد بما في تلك الآية، فاللام في (الْمُفْسِدِينَ) للعهد، يعني: فإن تولوا فإن الله يعذبهم العذاب الذي تعورف واشتهر في حق المفسدين، وهو العذاب المضاعف. قال القاضي: وضع (الْمُفْسِدِينَ) موضع الضمير ليدل على أن التولي على الحجج، والإعراض عن التوحيد إفساد للدين، والاعتقاد المؤدي إلى فساد النفس بل فساد العالم. قوله: (بعضنا): خبر "أن" و"بشر مثلنا": بدل منه أو خبر بعد خبر، وعلى الوجهين الخبر معرفة والاسم نكرة، وإن صح من حيث المعنى، وتخصيص الاسم لأن التقدير أن عزيراً بعضنا والمسيح بعضنا، لكن الظاهر أن "بعضنا": خبر مبتدأ محذوف والجملة: خبر "أن".

ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع اللَّه، كقوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) [التوبة: 31]، وعن عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول اللَّه، قال: "أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ " قال: نعم. قال: "هو ذاك". وعن الفضيل: لا أبالى أطعت مخلوقاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة. وقرئ (كلمة) بسكون اللام. وقرأ الحسن (سواء) بالنصب بمعنى استوت استواء، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي: لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما. اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون؛ حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين فيه، فقيل لهم: إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا) يريد: فإن تولوا عن الاتفاق معكم على كلمة التوحيد، وهي (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وهو دين الأنبياء كلهم بعد أن عرضتم عليهم ذلك، فاعلموا أنهم إنما أبوا للعناد؛ لأنه لزمتهم الحجة، فقولوا لهم: إذا عرفتم ذلك من أنفسكم أنصفوا وأقروا بأنا لسنا مثلكم، وأنا على ذلكم الدين وهو دين الإسلام، وهو من أسلوب التعجيز. قوله: (ويجوز أن يكون من باب التعريض) لأنهم إذا شهدوا أن المسلمين مسلمون فقد عرضوا بأنفسهم بأنهم ليسوا كذلك.

وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة، (أَفَلا تَعْقِلُونَ)، حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال، (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ)، "ها" للتنبيه، و"أنتم" مبتدأ و "هؤلاء" خبره، (وحاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعنى: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما نطق به التوراة والإنجيل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى) يعني: قصد باسم الإشارة وهو (هَؤُلاءِ) تحقير شأنهم وتركيك عقولهم، كقولها: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس قوله: (جادلتم (فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما نطق به التوراة والإنجيل)، قال الإمام: (فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لم يقصد بالعلم حقيقته، وإنما أراد: هب أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به البتة؟ ويمكن أن يقال: إن قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) متصل بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً). ونوع آخر من النعي على قبائحهم، يعني: هب أنكم أشركتم بتأويل باطل وقلتم:

(فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم. وعن الأخفش: (ها أنتم) هو أأنتم على الاستفهام، فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام: التعجب من حماقتهم. وقيل (هؤُلاءِ) بمعنى "الذين"، و (حاجَجْتُمْ) صلته، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ): علم ما حاججتم فيه (وَأَنْتُمْ) جاهلون به، ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، واتبعتم رؤساءكم وجعلتموهم أرباباً لكم فيما تأتون وتذرون، ثم ادعيتم أن ذلك عن علم منكم، وحاججتم المسلمين به لأنهم ما وقفوا على نصوص كتابكم، فكيف تحاجون فيما الشاهد يشهد بكذبكم والنص ينادي بزوركم؟ أو المقصود من إثبات العلم لهم إرخاء العنان معهم، يعني: من حماقتكم أنكم عمدتم إلى مسائل مما نطق به الكتابان وألقيتم على الناس مماراة ومجادلة، فلم تأتون بما ليس فيهما وهو أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، وتجادلون به المؤمنين باطلاً، سمى الأول مجادلة لأنهم لم يريدوا بتلك المسائل إثبات حق أو إماطة شبهة، بل نفس المجاراة والمماراة، وهي مذمومة على ما جاء في "سنن الترمذي"، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في وسط الجنة". قوله: ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ): علم ما حاججتم فيه)، فإن قلت: لم زيد علم؟ قلت: ليس الكلام في التهديد وأن الله تعالى يعلم محاجتهم فيجازيهم على عنادهم، بل في إزالة الجهل وبيان حقية المجادلة وبطلانها، ولذلك أتبع ذلك بقوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) الآية. قوله: (ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم) يعني: جيء بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً) على سبيل الاستئناف بياناً لما اختلفوا فيه، فإنه تعالى بعد ما بين أن ليس عندهم علم

وما كان إلا (حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، كما لم يكن منكم. أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى؛ لإشراكهم به عزيراً والمسيح (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ): إن أخصهم به وأقربهم منه، من الولي: وهو القرب (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده (وَهذَا النَّبِيُّ) خصوصا، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمته. وقرئ: (وهذا النبيَ)، بالنصب عطفاً على الهاء في (اتبعوه)، أي: اتبعوه واتبعوا هذا النبي، وبالجر عطفاً على (إبراهيم) ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن إبراهيم على أي ملة كان، وأثبت بأنه هو المختص به بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، اتجه لسائل أن يقول: بين لنا ما ذلك العلم الذي اختص الله به في شأن إبراهيم؟ فقيل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً) الآية. قال القاضي: (مُسْلِماً): منقاداً لله تعالى، وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام وإلا لاشترك الإلزام. وقلت: قوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وارد استئنافاً لبيان الموجب، يعني: إذا نظرتم بعين الإنصاف عرفتم أن المحبة لا تصح بمجرد الدعوى، بل باتباع الهدى والاتصاف بسمة المحبوب، فمن شاهدتم فيه هذه المخيلة فهو أولى به، وفي مجيء اسم الإشارة وعطفه على (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) مزيد تميز وتعين واختصاص، ومن ثم قال: (وَهَذَا النَّبِيُّ) خصوصاً (وَالَّذِينَ آمَنُوا)، وهو كقوله تعالى: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98]. قوله: (أو أراد بالمشركين: اليهود) فعلى هذا هو من وضع المظهر موضع المضمر، للإشعار بالعلية، وهذا أيضاً ينصر قول المصنف: إن المراد من قوله: (مُسْلِماً) أنه عليه السلام على ملة الإسلام، أي: التوحيد. قوله: (وبالجر عطفاً على "إبراهيم") والمعنى على هذا: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [69 - 71] (وَدَّتْ طائِفَةٌ) هم اليهود، دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية، (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم؛ لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. أو: وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم. (بِآياتِ اللَّهِ): بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها: أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوّة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وغيرها. وشهادتهم: اعترافهم بأنها آيات اللَّه. أو: تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) نعته في الكتابين. أو تكفرون بآيات اللَّه جميعاً (وأنتم تعلمون) أنها حق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذين آمنوا للذين اتبعوا إبراهيم، فهو من المبالغة بمنزل، كأنه قيل: لا فرق بين دين هذا النبي وأصحابه وبين دين إبراهيم، فكل من ادعى أنه متبع إبراهيم فإن أول شيء يجب عليه متابعة هذا النبي وأصحابه، لأن دينهم التوحيد، وفيه تعريض بأنهم حين أعرضوا عن الإسلام وتولوا، ظهر أنهم ما اتبعوا ملة إبراهيم ولا كانوا من التوحيد في شيء، فوقع قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) تذييلاً لهذا المعنى أحسن موقع، كقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ). قوله: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها حق) فعلى هذا "تشهدون": مجاز عن مطلق المعرفة والعلم، لأن الشاهد إنما يشهد على علم، ولهذا قال الجوهري: الشهادة: خبر قاطع. الراغب: الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة، إما ببصر أو بصيرة، ثم يعبر بها عن المعرفة المقتضية لصحة ما يدعي، وإن كان المدعى عليه منكراً بلسانه، كقولك لخصمك: أنت تشهد أن الأمر بخلاف ما تذكره.

قرئ (تَلْبِسُونَ) بالتشديد، وقرأ يحيى بن وثاب: (تَلْبِسُونَ) بفتح الباء، أي: تلبسون الحق مع الباطل، كقوله: "كلابس ثوبي زور"، وقوله: إذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن قوله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) حال مقررة لجهة الإشكال، وتتميم لمعنى التوبيخ في (لِمَ تَكْفُرُونَ)، فإن فسر "آيات الله" بالتوراة والإنجيل فالمناسب أن يحمل (تَشْهَدُونَ) على الاعتراف، وإن فسر بالقرآن ودلائل نبوة رسول الله فالمناسب: وأنتم تشهدون نعته، أي: تعاينون من المشاهدة المعاينة، وإن فسر بجميع آيات الله فالمناسب: وأنتم تعلمون ليؤذن بأن تلك الآيات بلغت في الوضوح والظهور منزلة المشاهد المحسوس، وأنهم مع ذلك عاندوا وكابروا، وفيه أن العالم المعاند لا يذعن للحق أياً كان. قوله: (كلابس ثوبي زور) الحديث من رواية مسلم والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن امرأة قالت: يا رسول الله، أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور". النهاية: يعني ثوبي ذي زور، وهو الذي يزور على الناس بأن يتزيا بزي أهل الزهد ويلبس لباس أهل التقشف رياء، أو أنه يظهر أن عليه ثوبين وإنما هو ثوب واحد، قال الأزهري: هو أن يخيط كُمَّاً على كُم. قوله: (إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا)، أوله: فلا أب وابناً مثل مروان وابنه الابن: عبد الملك، ولفظ "هو": كناية عن الأب الذي هو مروان؛ لأن مجد الأب مجد الابن دون العكس، عطف الابن على الأب باعتبار اللفظ حيث جعله منصوباً منوناً، ويجوز رفعه

[(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 72 ـ 74] (وجْهَ النَّهارِ): أوّله. قال: مَنْ كانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَاتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ والمعنى: أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار، (وَاكْفُرُوا) به في آخره لعلهم يشكون في دينهم، ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم، فيرجعون برجوعكم. وقيل: تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار من غير اعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك المنعوت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باعتبار العطف على المحل، فإن موضع "لا" وما بعده: رفع بالابتداء، والنصب أشهر لأن العطف على اللفظ أكثر، وقيل: هذا الأسلوب مجاز لأنه جعل المجد رداء لنفسه، ويمكن أن يكون كناية، نحو قولهم: الكرم بين برديه، والمجد بين ثوبيه. قوله: (من كان مسروراً) البيت، وبعده: يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار حواسراً: مكشوفات الرؤوس والوجوه، وكانت عادتهم مستمرة في الندبة على القتيل أنهم لا يندبون القتيل أو يدرك ثأره، يقول للأعداء المنابذين: من كان مسروراً يظهر الشماتة بقتل مالك فليأت نساءنا أول النهار يجد ما كان محرماً من الندبة والبكاء.

وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم. وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة، قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة، وصلوا إليها في أوّل النهار، ثم اكفروا به في آخره، وصلوا إلى الصخرة، ولعلهم يقولون: هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون (وَلا تُؤْمِنُوا) متعلق بقوله: (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ)، وما بينهما اعتراض. أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب اللَّه مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين؛ لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين؛ لئلا يدعوهم إلى الإسلام (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على (أن يؤتى). والضمير في (يحاجوكم) ل (أحد)؛ لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أنّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند اللَّه تعالى بالحجة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلا تُؤْمِنُوا) متعلق بقوله: (أَنْ يُؤْتَى)) أي: (أَنْ يُؤْتَى) متصل به معمول له بواسطة الجار، والإيمان على هذا: بمعنى الإقرار، صرح به الواحدي؛ لأنهم كانوا يصدقون بباطنهم أن ما عليه المسلمون حق، لكن كانوا ينكرونه بألسنتهم، وما كانوا يقرون به، فأمروا بالثبات عليه، ونقل صاحب "المرشد"، عن أبي علي: من قدر الباء جعل الفعل بمعنى الاعتراف، ومن لم يقدره جعله متعدياً بنفسه، ومعناه: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد. وعلى الوجهين هو مفعول (وَلا تُؤْمِنُوا)، ولهذا قال المصنف: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، والجملة المتوسطة اعتراض كما قال. وقوله: "أو يتم الكلام عند قوله: (إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ". وجه آخر مقابل للوجه المذكور، يعني: لا يكون (أَنْ يُؤْتَى) متصلاً به، والإيمان على هذا هو المتعارف المشهور، لقوله: "ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر"، فحينئذ لا يكون قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) اعتراضاً، بل يكون أمراً

فإن قلت: فما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه: أنّ الهدى هدى اللَّه، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام، كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم ويبين تعكيس رأيهم ويفضحهم ويظهر ما أرادوا بهذا القول، يعني أن الذين أسلموا منكم إنما هدايتهم من الله، ومن كانت هدايته بتوفيق الله لا تضره حيلكم ومكركم، وذلك أن في إيقاع الخبر نفس المبتدأ دليلاً على كمال ذلك الشيء في نفسه، أي: هو الهدى الكامل الذي يستحق أن يسمى هدى، ومن يهد الله فلا مضل له، لكن الذي قلتم ودبرتموه إنما فعلتم لأنهم جمعوا بين الفضيلتين وحازوا الحسنتين فحسدتموهم، وهو المراد بقوله: "يعني أن ما بكم من الحسد والبغي ... دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم". قال المصنف في الحاشية: القولان، أعني: (هُدَى اللَّهِ) وقوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)، داخلان في حيز "قل"، كأنه قيل: قل لهم هذين القولين، ومعناه: أكد عليهم أن الهدى: ما فعل الله من إيتاء الكتاب غيرهم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا، كأنه قيل: إن الهدى هدى الله، وقل: لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم، وكدتم ما كدتم، تم كلامه. يقال: امتعض من كذا: غضب عنه، وقيل: أوجعه وشق عليه. قوله: (فما معنى الاعتراض) الفاء فيها شائبة الإنكار، يعني: الاعتراض ينبغي أن يؤكد معنى الكلام المعترض فيه، فأين المعنى المذكور فيه وهو إسلام الكافر وثبات المسلم فيه، أم أين التطبيق؛ لأن الأول كلامهم والثاني كلام الله؟ وأجاب: أن قوله: (هُدَى اللَّهِ) مطلق محتو على جميع أنواع الهداية، ووجه تطبيقه على الكلام السابق هو أن الكلام السابق سيق لمعنى (وَلا تُؤْمِنُوا) أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، لأن المسلمين إذا سمعوا ذلك يزيدهم ثباتاً في دينهم، وأن المشركين إذا علموا ذلك رغبوا في دين الإسلام، ثم إنه تعالى حكى عنهم كلامهم بعينه على سبيل التوبيخ والإنكار، وضم معه قوله: (قُلْ إِنَّ

وكذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يريد الهداية والتوفيق. أو يتمَّ الكلام عند قوله: (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار (إلا لمن تبع دينكم) إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم؛ ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله: (أَنْ يُؤْتى) معناه: لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعنى: أن ما بكم من الحسد والبغي ـ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب ـ دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) لمزيد التوبيخ والإنكار، المعنى: إن الهدى هدى الله، وهداية الله شاملة لأن يلطف بالمشركين حتى يسلموا، وأن يزيد في ثبات المسلمين على الإسلام حتى يستقيموا عليه، وإذا كان كذلك لم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي: منعكم وإخفاؤكم، وقوله: "تصديقكم" مفعول "زيكم"، وهو مثل قوله قبيل هذا: "أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا". الأساس: انزوت الجلدة في النار: تقبضت، يقال: أسمعه كلاماً فانزوى له ما بين عينيه. قوله: (يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد) هذا الوجه أحسن التئاماً من الأول وأوفق نظماً، فيكون قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) كالتوطئة للجواب، أعني قوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) الآية، وقوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) تقريراً له، فالفضل هو ما حسدوه من الإيتاء وأظهروا البغي لأجله، والرحمة في (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) هو عين الفضل، أقيمت مقام المضمر، يدل عليه التذييل بقوله: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، فإذاً الكلام في الوحي وأنه المؤتى والفضل والرحمة، وفيه إشارة إلى أن الوقوف على حقائق كلامه المجيد الذي خص به خواص عباده الموصوفين بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 12] نهاية الكمال وغاية الإفضال. الراغب: الاختصاص: انفراد بعض الشيء بما لا يشاركه غيره.

والدليل عليه قراءة ابن كثير: (أأن يؤتى أحد) بزيادة همزة الاستفهام؛ للتقرير والتوبيخ، بمعنى: إلا أن يؤتى أحد. فإن قلت: فما معنى قوله (أو يحاجوكم) على هذا؟ قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل عليه قراءة ابن كثير) أي: على أن قوله: (أَنْ يُؤْتَى) ليس مفعولاً لقوله: (وَلا تُؤْمِنُوا) لأن قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) قلتم ذلك، مصدر بهمزة الإنكار، وهو استئناف كلام داخل تحت حيز "قل" مقولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهمزة مزيدة لتأكيد الإنكار، وإليه الإشارة بقوله: "بزيادة همزة الاستفهام للتقرير"، أي: التأكيد. قال صاحب "المرشد": وكان ابن كثير يقرأ: "آن يؤتى أحد" بالمد، والوقف حينئذ على قوله: (إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وقف تام، وكذا على قوله: (هُدَى اللَّهِ) و (أَنْ يُؤْتَى) في موضع رفع على الابتداء، وخبره محذوف، أي: أأن يؤتى مثل ما أوتيتم تقرون به أو تذكرونه وتعترفون به؟ ويجوز أن يكون في موضع نصب بفعل مضمر، أي: أتذكرون أن يؤتى، أو: أتشيعون. ذكر الوجهين أبو علي. قوله: (فما معنى قوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) على هذا؟ ) يعني: إذا تم الكلام عند قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وابتدئ من قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)، كيف يستقيم عطف (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) على (أَنْ يُؤْتَى) كما كان مستقيماً على الأول، لأنه كان من جملة كلام اليهود؟ والجواب: أنه على الأول كان من عطف المفعول على المفعول، كما قال: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتَى). وقدر صاحب "المرشد": أو بأن يحاجوكم، وقال: يكون (أَنْ يُؤْتَى) وما عطف عليه مفعولاً لقوله: (وَلا تُؤْمِنُوا)، والآن هو من عطف العلة على العلة لمعلل مقدر، واللام مثلها في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8] وأو

من محاجتهم لكم عند ربكم. ويجوز أن يكون (هُدَى اللَّهِ) بدلا من (الهدى)، و (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) خبر (إن)، على معنى: قل إن هدى اللَّه (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم) حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. وقرئ: (إن يؤتى أحد)، على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم. ويجوز أن ينتصب (أَنْ يُؤْتى) بفعل مضمر؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ بمعنى الواوـ لتنويع، كما في قوله تعالى: (عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات: 6]، وإليه الإشارة بقوله: "ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم"، أي: لما يترتب عليه كما يترتب وجود أمر على أمر يكون الثاني مطلوباً بالأول، ومن محاجتهم: بيان "ما"، والضمير في "يتصل" لـ "ما"، وفي "به" للتدبير. قوله: ((هُدَى اللَّهِ) بدلاً من (الْهُدَى)، و (أَنْ يُؤْتَى) خبر (إِنَّ))، المعنى: أن الهدى الحقيقي هو أن يعطى المسلمون مثل ما أعطيتم من الحجة حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوكم بالحجة، و (أَوْ) على هذا بمعنى: إلى أن، لا للعطف. قوله: (وقرئ: "إن يؤتى"). قال صاحب "المرشد": وهي قراءة الأعمش، وهو حكاية يحتمل أن تكون عن المسلمين وأن تكون عن اليهود، والوقف على (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وعلى الحكاية عن المسلمين أحسن؛ لأنك إن جعلته حكاية عن اليهود كان التقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم لأنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ففي أن يؤتى بعض التعلق بأول الكلام. قوله: (ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم) من باب نفي الشيء بنفي لازمه، كقوله: لا ترى الضب بها ينجحر قوله: (وأن ينتصب ... بفعل مضمر) فعلى هذا (أَنْ يُؤْتَى) مترتب على قوله تعالى: (قُلْ إِنْ

يدل عليه قوله: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) كأنه قيل: قل إن الهدى هدى اللَّه، فلا تنكروا ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، لأن قولهم (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (76) عن ابن عباس (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطارٍ): هو عبد اللَّه بن سلام؛ استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه. و (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينارٍ): فنحاص بن عازوراء؛ استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه. وقيل: المأمونون على الكثير النصارى، لغلبة الأمانة عليهم. والخائنون في القليل اليهود، لغلبة الخيانة عليهم (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً): إلا مدّة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلاً عليه بالمطالبة والتعنيف، أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقرئ (يؤده) بكسر الهاء والوصل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) يريد: لما أنكر اليهود أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا ردوا بقوله: (إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)، يعني: تحجرتم على الواسع؟ كما أن الله هداكم كذلك يهدي من يشاء. قوله: (يا صاحب الحق) إشارة إلى أن المخاطب في قوله: (مَا دُمْتَ) كل من كان له حق على غريم، فهو من الخطاب العام، على نحو قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته قوله: ((يُؤَدِّهِ): بكسر الهاء والوصل) رواية ورش وابن كثير وابن ذكوان عن ابن

وبكسرها بغير وصل، وبسكونها. وقرأ يحيى بن وثاب: تئمنه، بكسر التاء. و (دمت) بكسر الدال من دام يدام (ذلِكَ) إشارة إلى ترك الأداء الذي دلّ عليه (لم يؤدّه)، أي: تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، أي: لا يتطرّق علينا عتاب وذم في شأن الأميين؛ يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم، والإضرار بهم؛ لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون: لم يجعل لهم في كتابنا حرمة. وقيل: بايع اليهود رجالاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس لكم علينا حق؛ حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال عند نزولها: كذب أعداء اللَّه ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر. وعن ابن عباس: أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عامر، وبغير وصل: قالون وهشام، وبالسكون: أبو عمرو وأبو بكر وحمزة. قال الزجاج: هذا الإسكان الذي حكي عن هؤلاء غلط، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ولا تسكن في الوصل، وإنما تسكن في الوقف لأنها حرف خفي يبين في الوصل نحو: ضربته وضربتها، وقيل: إنما قرؤوا باختلاس الكسرة وظنه الراوي سكوناً، وإنما جاز السكون في الوقف خاصة، يريد بالوصل: الإشباع، وسكونها إجراء الوصل مجرى الوقف. قوله: (فلما أسلموا) أي: فلما أسلم قريش تقاضوا اليهود، فقالت اليهود: ليس لكم علينا حق. قوله: (تحت قدمي) مثل لإبطال الشيء، ومنه الحديث: "ألا إن كل دم ومأثرة تحت قدمي هاتين" أراد إخفاءها وإعدامها وإذلال أمر الجاهلية ونقض سنتها. في "النهاية".

قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أكل أموالهم إلا بطيبة أنفسهم، (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بادعائهم أن ذلك في كتابهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون (بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي: بلى عليهم سبيل فيهم. وقوله: (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) جملة مستأنفة مقرّرة للجملة التي سدّت (بلى) مسدّها، والضمير في (بعهده) راجع إلى (من أوفى)، على أنّ كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى اللَّه في ترك الخيانة والغدر، فإنّ اللَّه يحبه. فإن قلت، فهذا عام يخيل أنه لو وفي أهل الكتاب بعهودهم، وتركوا الخيانة لكسبوا محبة اللَّه. قلت: أجل؛ لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا اللَّه في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على اللَّه وتحريف كلمه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى اللَّه تعالى، على أن كل من وفى بعهد اللَّه واتقاه فإنّ اللَّه يحبه، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء. فإن قلت: فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى (من) قلت: عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير. وعن ابن عباس: نزلت في عبد اللَّه بن سلام وبحيرا الراهب ونظرائهما من مسلمة أهل الكتاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للجملة التي سدت (بَلَى) مسدها) وهي قوله: "بلى عليهم سبيل فيهم". قوله: (وعن ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام) يعني قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) الآية. قوله: (وبحيرا الراهب) جاء على صيغة المكبر مقصوراً، وعلى المصغر ممدوداً، ورواية المعزي على المكبر، وأما حديثه فقد أورده الترمذي ورزين، عن علي بن أبي طالب، عن أبيه، أنه حدثه قال: خرجنا إلى الشام في أشياخ من قريش، وكان معي محمد صلوات الله عليه، فأشرفنا على راهب فنزلنا، فخرج إلينا الراهب، وكان قبل ذلك لا يخرج إلينا، فجعل يتخللنا حتى جاء، فأخذ بيد محمد صلوات الله عليه وقال: هذا سيد العالمين، فقيل له: وما علمك بما

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) 77 ـ 78]. (يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بعَهْدِ اللَّهِ): بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدّق لما معهم. (وَأَيْمانِهِمْ) وبما حلفوا به من قولهم: واللَّه لنؤمنن به ولننصرنه (ثَمَناً قَلِيلًا): متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك. وقيل: نزلت في أبى رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيىّ بن أخطب، حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأخذوا الرشوة على ذلك. وقيل: جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين، فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول اللَّه؟ قالوا: نعم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقول؟ قال: أجد صفته ونعته في الكتاب المنزل، وأنكم حين أشرفتم لم يبق شجر ولا حجر إلا خر له ساجداً، وأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع طعاماً فأتانا به، وكان محمد صلوات الله عليه في رعية الإبل، فجاء وعليه غمامة تظله، فلما دنا وجد القوم قد سبقوه إلى شجرة، فجلس في الشمس، فمال فيء الشجرة عليه وضحوا هم في الشمس. الحديث بتمامه مذكور في "جامع الأصول". قوله: "ضحوا هم"، هم: تأكيد الفاعل، نحو قوله تعالى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) [المطففين: 3]، قال الزجاج: منهم من يجعل "هم" تأكيداً لما في "كالوا". وسقوط الألف من ضمير الجمع على خلاف القياس. قوله: (ممتارين) أي: طالبين الميرة. النهاية: الميرة: الطعام ونحوه مما يجلب للبيع، يقال: مارهم يميرهم: إذا أعطاهم الميرة.

قال: قد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم اللَّه خيراً كثيراً، فقالوا: لعله شبه علينا فرويداً حتى نلقاه. فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته، ثم رجعوا إليه، وقالوا: قد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا، ففرح ومارهم. وعن الأشعث بن قيس: نزلت فىّ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «شاهداك أو يمينه» فقلت إذن يحلف ولا يبالى، فقال «من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقى اللَّه وهو عليه غضبان» وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. والوجه أن نزولها في أهل الكتاب. وقوله: (بِعَهْدِ اللَّهِ) يقوّى رجوع الضمير في (بعهده) إلى اللَّه (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شاهداك أو يمينه) أي: عليك شاهداك، أو عليه يمينه. قوله: (من حلف على يمين) سمى المحلوف عليه يميناً، وقد سبق فيه كلام عند قوله: (عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ) [البقرة: 224]. قوله: (يستحق بها مالاً): صفة يمين، وكذا قوله: "هو فيها فاجر"، الحديث أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن ابن مسعود، مع تغيير يسير. قوله: (والوجه أن نزولها في أهل الكتاب)؛ لأن سياق الآية وسياقها فيهم. قوله: ((بِعَهْدِ اللَّهِ) يقوي رجوع الضمير في (بِعَهْدِهِ) إلى الله) يعني: في الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى)، وتقريره: أن المعاهد في الأول من أوفى، والمعاهد عام يحتمل أن يكون الله وغيره بخلافه في الثاني، وأما بيان النظم فإن أهل الكتاب لما قالوا: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) بمعنى: لا يتطرق إلينا عتاب، ولا ذم من الله إذا حسبنا أموال الأميين وألحقنا بهم الضرر؛ لأنهم ليسوا على الدين الحق، أجيبوا بقوله: (بَلَى) أي: عليكم سبيل فيهم لأنكم على الباطل، حيث لا توفون بعهد الله، وتشترون به ثمناً قليلاً، وأنهم على الحق لأنهم الموفون بعهد الله المتقون الذين أحبهم الله، فجيء بهذه الآية سادة

تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه (وَلا يُزَكِّيهِمْ): ولا يثنى عليهم. فإن قلت: أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. (لَفَرِيقاً) هم كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف وحيىّ بن أخطب وغيرهم (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسد هذا المعنى، ثم عقبت بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) كالبيان لذلك المبهم، فأوجب ذلك عود الضمير إلى الله تعالى. قوله: (ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر) يعني: كان في بدء استعماله فيمن يجوز عليه النظر، وهو الإنسان، عبارة عن الاعتداد والإحسان؛ لأن من اعتد بالغير التفت إليه، وإنما كان كناية لأنه لا ينافي إرادة حقيقته، ثم كثر استعماله في هذا المعنى حتى صار علماً لهذا المعنى، ثم جاء في حق الله لمجرد معنى الإحسان من غير أن يكون ثمة نظر بناءً على مذهبه، وهذا التجريد لمعنى الإحسان وارد على سبيل المجاز عن الشيء الذي وقع كناية عنه في الإنسان، وهو عدم الاعتداد. وعندنا: يجوز أن يطلق النظر على الله تعالى بالحقيقة كما يليق بجلاله، وبيان المجاز: أنه شبهت حالة معاملة الله مع هؤلاء الناقضين للعهد بحالة معاملة من لا يكلم صاحبه ولا ينظر إليه بجامع عدم الاعتداد وقطع الإحسان، ثم استعمل هنا كما كان مستعملاً هناك. قوله: (يفتلونها بقراءته عن الصحيح). الأساس: فتلته عن حاجته: صرفته، فانفتل، وانفتل عن الصلاة، ولوى الشيء فالتوى، وبلغوا ملتوى الوادي: منحناه، وكلمته فالتوى رأسه. قوله: (إلى المحرف) أي: يفتلون الألسنة في القراءة لتصير الصحيحة محرفاً ويحسب المسلمون أن المحرف من التوراة فيلتبس عليهم الأمر، كما قال تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) [البقرة: 42].

وقرأ أهل المدينة: يلوّون، بالتشديد، كقوله: (لووا رؤسهم) [المنافقون: 5]، وعن مجاهد وابن كثير: (يلون). ووجهه: أنهما قلبا الواو المضمومة همزة، ثم خففوها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في: (لتحسبوه) قلت: إلى ما دلّ عليه (يلوّون ألسنتهم بالكتاب) وهو المحرف. ويجوز أن يراد: يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب، وقرئ: ليحسبوه بالياء، بمعنى: يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من الكتاب (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تأكيد لقوله: (هو من الكتاب)، وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودلالة على أنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله اللَّه تعالى على موسى كذلك لفرط جرأتهم على اللَّه وقساوة قلوبهم ويأسهم من الآخرة. وعن ابن عباس: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد: يعطفون). المغرب: استعطف ناقته، أي: عطفها، بأن جذب زمامها ليميل رأسها. والمراد به: الإيهام في الكلام، أي: كانوا يوهمون المسلمين أن ذلك من نفس الكتاب ومن ثم قال: "بشبه الكتاب"، والضمير في (لِتَحْسَبُوهُ) راجع إلى هذا المضاف المحذوف، والفرق أنهمـ على الأولـ كانوا يتركون النص ويقرؤون ما بدلوا به، ولهذا قال: "يفتلونها بقراءتها عن الصحيح إلى المحرف" بحرف المجاوزة؛ لأن من فتل عن الصلاة الصحيحة خرج إلى ضدها، وعلى هذا (يَلْوُونَ): كناية عن الخلط الذي هو لازم اللبس والاشتباه. قوله: ((هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تأكيد لقوله: (هُوَ مِنْ الْكِتَابِ)). الراغب: إن قيل: ما فائدة (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) بعد قوله: (مِنْ الْكِتَابِ) قيل: الأول تعريض، والثاني تصريح

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) 79 ـ 80]. (ما كانَ لِبَشَرٍ) تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى. وقيل: إنّ أبا رافع القرظي والسيد من نصارى نجران قالا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال معاذ اللَّه أن نعبد غير اللَّه، أو أن نأمر بعبادة غير اللَّه! فما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني؛ فنزلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهم بالكذب، أي: يكذبون تعريضاً وتصريحاً أو تلاوة وتأويلاً، وفي هذا دلالة على أن إيهام الكذب قبيح كالتصريح، وفائدة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بعد ما تقدم ذكره أن كلا الأمرين كذب: لي الألسنة، وقولهم: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تشنيع عليهم وأنهم غير معذورين بوجه، إذ قد يعذر الإنسان في بعض ما يظنه. قوله: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ) تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى)، يعني: لما فرغ من ذكر بعض قبائح اليهود، وهو تحريفهم كتاب الله، وتغيير صفة رسول الله صلوات الله عليه، وحط منزلته عن مرتبة النبوة، رجع إلى تكذيب معتقد النصارى وغلوهم في رسول الله عيسى ورفع درجته إلى الألوهية، ليريك إفراط أهل الكتاب وتفريطهم. قوله: (أن نأمر بغير عبادة الله)، قال المصنف: "نأمر بعبادة غير الله" أحسن طباقاً، لما سبق في المتن، لأن الكلام لم يقع في نفيهم عن أنفسهم الأمر بغير عبادة الله، بل بعبادة غير الله، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن نعبد غير الله"، ولم يقل: أن نفعل غير عبادة الله؟ قيل: هذه الحاشية تدل على أن رواية الحديث: أن نأمر بغير عبادة الله، والمصنف يقول: "أن نأمر بعبادة غير الله" أحسن طباقاً، وقلت: الرواية عن محيي السنة في "معالم التنزيل": "فقال: معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله".

وقيل: قال رجل: يا رسول اللَّه، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: "لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللَّه، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله" (وَالْحُكْمَ): والحكمة، وهي السنة ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "الوسيط": ما كان لبشر أن يجمع بين هذين: بين النبوة وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله، فإذاً المصنف وجد الرواية كما ذكرها مترددة من الراوي، فلم تطوع له نفسه، لفصاحته، أن يقبله، لنبو المقام عنه، فذكر ما ذكر وكان على ما ذكر لله دره! ولناصر الرواية الأخرى أن يقول: إن قولهم: أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً، يحتمل أنهم توهموا الشركة في العبادة بين الله وبين رسول الله، فنفى ذلك على الوجه الأبلغ، أي: معاذ الله أن نأمر بغير عبادة الله، يعني: أمره مقصور بالأمر بعبادة الله لا يتجاوز إلى غير عبادته فكيف آمر بعبادتي؟ قوله: (والحكمة، وهي السنة)، فسر الحكم بالسنة لأنه تالي الكتاب، روينا عن أبي داود، عن ابن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة"، قال صاحب "الجامع": السنة القائمة هي: الدائمة المستمرة التي العمل بها متصل لا يترك، والفريضة العادلة هي: التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها. وقال التوربشتي: وقيل: المراد بالعادلة: المستنبطة عن الكتاب والسنة، وتكون هذه الفريضة وإن لم ينص عليها في الكتاب والسنة معدلة بما أخذ منهما.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ): ولكن يقول: كونوا، والربانىّ: منسوب إلى الرب، بزيادة الألف والنون كما يقال: رقبانى ولحياني، وهو الشديد التمسك بدين اللَّه وطاعته. وعن محمد ابن الحنفية: أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن عبد الله بن عروة: الفريضة العادلة: ما اتفق عليه المسلمون، أي: الحكومة المبينة المقدرة على منهاج العدل، وأولى ما يوصف بهذه الصفة الإجماع، إذ لا يتقدمه شيء بعد الكتاب والسنة. قوله: (الرباني: منسوب إلى الرب). الراغب: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) يعني: ولكن نقول: كونوا ربانيين حكماء أولياء الله، فقد قيل: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله في الأرض ولي، وقيل: كونوا متخصصين بالله تخصيصاً تنسبون إليه وتوصفون بعامة أوصافه، نحو: الجواد والودود والرحيم، وقيل: كونوا متخصصين بالله كالذين وصفوا بقوله: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به" الحديث، أو: كونوا متخصصين بالله غير ملتفتين إلى الوسائط. قوله: (رقباني) أي: منسوب إلى الرقبة، الجوهري: رجل أرقب بين الرقب، أي: غليظ الرقبة، ورقباني أيضاً على غير قياس. الزجاج: إنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، كما قالوا لذي الجمة الوافرة: جماني. قوله: (اليوم مات رباني هذه الأمة)، روى ابن عبد البر في "الاستيعاب": مات ابن عباس

وعن الحسن (ربانيين): فقهاء علماء. وقيل علماء معلمين. وكانوا يقولون: الشارع الرباني: العالم العامل المعلم (بِما كُنْتُمْ) بسبب كونكم عالمين، وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي قوّة التمسك بطاعة اللَّه مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها: وقرئ: (تعلمون) من التعليم. و (تعلمون) من التعلم. (تَدْرُسُونَ): تقرءون. وقرئ (تدرسون)، من التدريس. و (تدرسون) على أن أدرس بمعنى درّس كأكرم وكرّم وأنزل ونزَّل. و(تدرّسون)، من التدرّس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير، وكان ابن الزبير أخرجه من مكة، فخرج إلى الطائف ومات بها وهو ابن سبعين سنة، وقيل: إحدى وسبعين، وصلى عليه محمد بن الحنفية وكبر عليه أربعاً، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة. قوله: (العالم العامل)، قال الزجاج: العالم إنما ينبغي أن يقال له: عالم إذا عمل بعلمه، وإلا فليس بعالم، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]. قوله: (وقرئ: (تَعْلَمُونَ) من التعليم): ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، والباقون بالتخفيف، من العلم، وأما "تعلمون" من التعلم فشاذ، والقراءات المذكورة في (تَدْرُسُونَ) كلها شواذ سوى الأولى.

ويجوز أن يكون معناه ومعنى "تدرسون" بالتخفيف: تدرسونه على الناس، كقوله: (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) [الإسراء: 106]، فيكون معناهما معنى "تدرسون" من التدريس. وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من اللَّه في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع؛ حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه أن من علم) يعني: أدمج فيه هذا المعنى وأشير إليه؛ لأن المعنى الذي سيقت له الآيات هو ما يقال: لا يصح ولا يستقيم للبشر أن يمنح الكتاب ويرزق الحكم والنبوة ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله، ولكن الواجب عليه أن يقول: كونوا عباد الله وحده، فعدل عنه إلى قوله: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ليستقيم ترتب الحكم على تلك الصفة، لأن الرباني، أي: المتمسك بالدين والطاعة المعتصم بحبل الله المتين، لا يكون إلا عالماً عاملاً معلماً كما قال، فالمعنى المدمج: إيجاب طلب العلم على كل أحد من عباد الله ثم العمل به ثم إرشاد الناس إلى الطريق المستقيم، وإليه ينظر ما روي: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ثم عدل في الدرجة الثانية من ظاهر قوله: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) فدرسوا وعلموا إلى ما عليه التلاوة، لينبه على أن لا يجعل العلم والعمل ذريعتين للتفوق والتدريس وأن يكون المقصود الأولي منهما ذلك، بل يجعلان سببي العمل ومصححي النسبة بينهم وبين ربهم. روينا عن الترمذي، عن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه، أدخله الله النار".

وقرئ: (وَلا يأمُرَكُمْ) بالنصب عطفا على: (ثُمَّ يَقُولَ)، وفيه وجهان: أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة؛ لتأكيد معنى النفي، في قوله: (ما كانَ لِبَشَرٍ) والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه اللَّه وينصبه للدعاء إلى اختصاص اللَّه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له، ويأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً)، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بى. والثاني: أن يجعل «لا» غير مزيدة، والمعنى: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه اللَّه، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء. والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد أخرجه ابن ماجه، عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وإليه الإشارة بقوله: "من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع". قوله: ("لا" مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: (مَا كَانَ)). وهذه الزيادة كزيادة الهمزة في قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر: 19]. قال الزجاج: جاءت الهمزة مؤكدة لمعنى الإنكار بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر للطول. قوله: (ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة)، قيل: فسر (وَلا يَامُرَكُمْ) بـ "ينهاكم"، وقلت: الكلام في هذا الوجه رد لقول النصارى: أنتخذك رباً؟ بعدما نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الملائكة وعزير والمسيح. والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه خاصة، ولا يأمر بعبادة أمثاله من الملائكة والأنبياء، وهو وهم سواء في عدم الاستحقاق فيلزم أن يقال: التقدير: لا أجمع بين الأمر بعبادة نفسي وبين النهي عن عبادتهم.

وتنصرها قراءة عبد اللَّه: (ولن يأمركم). والضمير في (وَلا يَامُرَكُمْ) و (أَيَامُرُكُمْ) للبشر. وقيل "لله"، والهمزة في (أَيَامُرُكُمْ) للإنكار (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتنصرها قراءة عبد الله: ولن يأمركم)، قيل: لأنه لا يمكن أن يكون (يَامُرَكُمْ) عطفاً على (يَقُولَ) لامتناع دخول "أن" الناصبة على "لن"، والحق أن العلة ما ذكره صاحب "المرشد": وجه رفع (لا يَامُرَكُمْ) والوقف على (تَدْرُسُونَ) أنها جاءت منقطعة، ومعناها: ولا يأمركم الله، وحجته ما روي عن ابن مسعود: (ولن يأمركم)؛ لأنه يدل على الانقطاع، فوجب رفعه على الاستئناف، وتقريره أن "لن" في النفي بمنزلة "إن" في الإثبات، في كونهما يقعان في ابتداء الكلام. قال المصنف في قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة: 24] (وَلَنْ تَفْعَلُوا) اعتراض، و"لا" و"لن" أختان لنفي المستقبل، إلا أن في "لن" توكيداً وتشديداً، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في "أنا مقيم" و"إني مقيم". فالآية على هذه القراءة وعلى الرفع تذييل وتوكيد للكلام السابق، فإنه صلوات الله عليه لما أجاب عنهم بأنه لا ينبغي لنبي أن يأمر بعبادة نفسه عمم الحكم وزاد في التأكيد، كأنه قال: لا ينبغي لنبي أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه ويأمر البتة بعبادة غير الله من الملائكة والنبيين. قوله: ((بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين)، يعني: هذه الفاصلة ترجح قول من قال: إن قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ) رد لقول من قال من المسلمين: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ على قول من قال: القائل أبو رافع القرظي والسيد.

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) 81 ـ 83]. (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فيه غير وجه: أحدها أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك. والثاني أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول: ميثاق اللَّه، وعهد اللَّه، كأنه قيل: وإذ أخذ اللَّه الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويجوز أن يقال للنصرانيين رداً لقولهما: أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً؟ معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله وكيت وذيت، (أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): منقادون مستعدون لقبول الدين الحق، إرخاء للعنان واستدراجاً. قوله: (من أخذ الميثاق على النبيين بذلك) أي: بما في الآية من قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخره. قال صاحب "المرشد": وقد أجاز بعض أهل المعاني الوقف عند قوله: (النَّبِيِّينَ)، ثم أمرهم الله تعالى بعد ذلك فقال لهم: قولوا للأمم عني: مهما أوتكم من كتاب وحكمة ورسول لتؤمنن به، وهذا وجه صالح على أن يكون الضمير في (آتَيْتُكُمْ) للأمم، ويجوز أن يكون الضمير للأنبياء، كأنه أوجب على كل نبي إن جاءه رسول بعده أن يؤمن به ويصدقه وينصره، أي: أيها الرسل إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به لأجله. قوله: (إضافته إلى الموثق) أي: الفاعل، وعلى الأول كانت الإضافة إلى الموثق عليه، وهم النبيون، ويجوز أن يكون المعنى: وإذ أخذ الله على الناس ميثاقاً مثل ميثاق النبيين، أي: ميثاقاً

والثالث: أن يراد ميثاق أولاد النبيين؛ وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف. والرابع: أن يراد أهل الكتاب، وأن يرد على زعمهم؛ تهكما بهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد؛ لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. وتدل عليه قراءة أبيّ وابن مسعود: (وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غليظاً، ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة، وعليه قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى التعليل لأدنى ملابسة، كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم جيء بقوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) إلى آخره بياناً لذلك. الراغب: الصحيح أن العهد مأخوذ من الفريقين من الرسل والمرسل إليهم، وخص الأنبياء بالذكر لكونهم الرؤوس والأمة تبع لهم، ولذلك خص النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المخاطبة التي تشاركه فيها أمته، نحو: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]، ولأنه إذا أخذ الميثاق على الأنبياء فقد أخذ على أممهم لمشاركتهم أنبياءهم في عامة ما شرع لهم. قوله: (وأن يرد على زعمهم تهكماً بهم)، وبيانه: أنه تعالى عهد إليهم أنه مهما جاءهم رسول مصدق لما معهم يؤمنوا به وينصروه، وهم ما وفوا بذلك العهد ونقضوا الميثاق، بل عكسوا، كما قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87]، ولما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه وقالوا: نحن أحق بالنبوة منه، فقيل فيهم تعييراً وتهكماً: وإذ أخذ الله ميثاق هؤلاء النبيين الزاعمين أنهم أحق بالنبوة، وكذا وكذا، وهذا كمن ائتمنته على شيء وهو خائن به، ثم ادعى بعد ذلك أنه أمين، فقلت له: يا أمين، اذكر حين استودعتك ذلك الشيء وعهدت إليك بحفظه.

واللام في (لَما آتَيْتُكُمْ) لام التوطئة؛ لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف؛ وفي (لتؤمنن) لام جواب القسم، و «ما» يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و (لتؤمنن) سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعاً، وأن تكون موصولة بمعنى: للذي آتيتكموه لتؤمنن به. وقرئ: (لما آتيناكم) وقرأ حمزة: (لما آتيتكم). بكسر اللام ومعناه: لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به، على أن «ما» مصدرية، والفعلان معهاـ أعني (آتيتكم) و (جاءكم) في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ اللَّه ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لام التوطئة) هي من قولهم: وطؤ الموضع يوطأ وطأة: صار وطيئاً، ووطأته أنا توطئة، فهذه اللام كأنها وطأت طريق القسم، أي: سهلت تفهم الجواب على السامع، وهي اللام التي تدخل على الشرط بعد تقدم القسم لفظاً أو تقديراً ليؤذن أن الجواب له، لا للشرط، كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك، ولو قلت: أكرمك، أو: فإني أكرمك وما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز، قاله ابن الحاجب. قوله: (وأن تكون موصولة) واللام أيضاً موطئة لما في الموصولة وصلتها من معنى الشرط، على أن المصنف يجوز أن تدخل الموطئة على غير الشرط كما صرح به في سورة هود في قوله: (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود: 111]، وقال: اللام في (لَمَّا): موطئة للقسم، و (مَا): مزيدة. قوله: (وقرئ: "لما آتيناكم")، هي قراءة نافع. قوله: (على معنى: أخذ الله ميثاقهم) إلى آخره: تكرير لتقرير المعنى وبسط لما سبق، مما يدل عليه إجمالاً، وهو قوله: "ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به".

لأجل أني آتيتكم الحكمة وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. ويجوز أن تكون «ما» موصولة. فإن قلت: كيف يجوز ذلك والعطف على (آتيتكم) وهو قوله (ثُمَّ جاءَكُمْ) ـ لا يجوز أن يدخل تحت حكم الصلة، لأنك لا تقول: للذي جاءكم رسول مصدق لما معكم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاصل: أن أخذ الميثاق وارد على شيء له موجبان، أحدهما: قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ) يعني: أنكم أهل كتاب وعلم تعرفون أمارات النبوة وشواهد على صدق من ادعاها، سيما وذكره مسطور في كتابكم، وثانيهما: قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ)، وتقريره أن يقال: إن أصوله موافقة لأصولكم في التوحيد، ومع هذا هو مصدق للتوراة والإنجيل وأنهما من عند الله، فعلى هذا قوله: "لأجل أني آتيتكم"، تعليل لقوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) لا لأخذ الميثاق فيجتمع عليه القسم، والسببان للتوكيد. قوله: (كيف يجوز ذلك؟ ) أي: كيف يسوغ أن تكون (ما) موصولة على القراءتين وعطف قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ) على (آتَيْتُكُمْ) مانع؛ لأن مثل هذا العطف يستدعي الموافقة بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، والموصولة تستدعي الراجع من صلتها، وليس في قوله: (جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) من راجع، وأجاب: أن (مَا مَعَكُمْ) و (مَا آتَيْتُكُمْ) شيء واحد، فصح العطف، فكأنه قيل: وجاءكم رسول مصدق له. قال أبو البقاء: (لِمَا مَعَكُمْ) في موضع الضمير، قال السجاوندي: فكأنه قال: مصدق أو مصداق له، كما أن معنى قوله: (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90]: لا يضيع أجرهم، لأن المحسن من يتقي ويصبر.

قلت: بلى؛ لأنّ "ما معكم" في معنى "ما آتيتكم"، فكأنه قيل: للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرأ سعيد بن جبير «لما» بالتشديد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ومما يختص هذا الموضع من الفائدة الإشعار بوجوب الإيمان به، فإن مجيئه أيضاً لأجلكم ولأجل تصديق كتابكم، و (مِن) في قوله: (مِن كِتَابٍ) مبينة، ولهذا لم يقدر موقعها كما قدره بالبعض في (لِمَا) بالكسر و (لَمَّا) بالتشديد، ويشعر كلامه أن السؤال إنما يرد إذا جعلت (مَا) موصولة. قال مكي: فإذا كانت "ما" للشرط لم تحتج الجملة المعطوفة إلى عائد كما لم تحتج إليه المصدرية، ولذلك اختاره الخليل وسيبويه لما لم يريا في الجملة الثانية عائداً جعلا "ما" للشرط، وهذا تفسير المازني وغيره لمذهب الخليل وسيبويه. قوله: (وقرأ سعيد بن جبير: "لما" بالتشديد)، قال ابن جني: قرأ الأعرج "لما" بفتح اللام وتشديد الميم، و"آتيناكم" بألف قبل الكاف، وفي هذه القراءة إغراب؛ لأن "لما" في اللغة على أوجه: تكون حرفاً جازماً، تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ) [آل عمران: 142]، وظرفاً كقوله تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) [القصص: 22]، وبمعنى: إلا في قولهم: أقسمت عليك لما فعلت، أي: إلا فعلت، ولا وجه لواحدة منهن في هذه الآية، وأقرب ما فيه أن يراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمن ما آتيناكم، وهو يؤيد القراءة العامة (لَمَا آتَيْتُكُمْ)، فزاد "من" على مذهب أبي الحسن في الواجب فصارت: لمن ما، فلما التقت ثلاث ميمات حذفت الأولى للثقل، فبقي "لما" مشدداً كما ترى، هذا أوجه ما فيها إن صحت الرواية بها.

بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول مصدّق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته. وقيل: أصله لمن ما، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات؛ وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم؛ فحذفوا إحداها فصارت لما. ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى (إِصْرِي): عهدى. وقرئ: (أصري)، بالضم. وسمى إصراً؛ لأنه مما يؤصر، أي يشدّ ويعقد، ومنه الإصار، الذي يعقد به. ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر كعبر وعبر، وأن يكون جمع إصار. (فَاشْهَدُوا) فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) من إقراركم وتشاهدكم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا توكيد عليهم، وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة اللَّه وشهادة بعضهم على بعض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسمي إصراً: لأنه مما يوصر، أي: يشد)، الراغب: الإصر: العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب والخيرات، قال تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، والإصار: الطنب والأوتاد التي يعمد بها البيت. قوله: (كعبر وعبر)، الجوهري: جمل عبر أسفار وجمال عبر أسفار، وناقة عبر أسفار، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، مثل: الفلك، أي: لا يزال يسافر عليها، وكذلك عبر أسفار بالكسر، والعبر أيضاً بالضم: الكثير من كل شيء. قوله: ((وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ) من إقراركم وتشاهدكم (مِنْ الشَّاهِدِينَ))، قيل: الصواب: أنا معكم من الشاهدين، وإنما هذا تفسير لما في سورة اقترب: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء: 56]. وقلت: بل هو تفسير لقوله: (وَأَنَا مَعَكُمْ) لما أنه سبحانه وتعالى لما حكى حكاية أخذ الميثاق مع النبيين وتوكيده معهم، وأراد أن يقررهم عليه ويشهدهم بذلك مزيداً للتأكيد،

وقيل: الخطاب للملائكة. (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق والتوكيد (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي: المتمردون من الكفار، دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين اللَّه يبغون؛ ثم توسطت الهمزة بينهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال لهم بعد ذلك: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ) على ذلك الميثاق عهدي؟ (قَالُوا أَقْرَرْنَا)، أي: أقررنا وأخذنا على الميثاق العهد، ثم قال الله تعالى: (فَاشْهَدُوا) على ذلك الإقرار (وَأَنَا مَعَكُمْ) على ذلكم من إقراركم وتشاهدكم (مِنْ الشَّاهِدِينَ). فإن قلت: قوله تعالى: (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ) يقتضي أنه تعالى شاهد معهم على ذلك الإقرار فحسب، فكيف قال: من إقراركم وتشاهدكم؟ قلت: و (مَعَكُمْ) ليس متعلقاً بالشاهدين، بل هو مع (مِنْ الشَّاهِدِينَ) خبران لـ "أنا"، لإرادة معنى الرقيب والمهيمن في الشاهدين، ولذلك ترك لفظ (مَعَكُمْ) في التقدير، وعليه أحد وجهي ما ذكره في قوله تعالى: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) [الشعراء: 15] وضمير الجمع لموسى وهارون وعدوهما، فظهر من هذا الفرق بين الشهادتين، فإن شهادة الله معبرة عن كونه تعالى رقيباً ومهيمناً عليهم وعلى جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء، فيجب التحذير منه، وشهادتهم عبارة عن التشاهد وأن يشهد بعضهم على بعض. قوله: (وقيل: الخطاب للملائكة) أي: بقوله: (فَاشْهَدُوا). قوله: (والمعنى: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون؟ ) تحريره: فمن أعرض عن ذلك الميثاق والتوكيد فيه فاعلموا أنه الكامل في الفسق، المتوغل في الكفر، المعقب لفسقه الشرك، ولا ينبغي له ذلك بعدما علم من أخذ الميثاق أن العالمين منقادون له، مستسلمون لما يراد منهم.

ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره (أيتولون فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) وقدم المفعولـ الذي هو "غير دين اللَّه"ـ على فعله لأنه أهم من حيث إنّ الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل. وروي: أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم»، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت: وقرئ: (يبغون)، بالياء: و (ترجعون)، بالتاء وهي قراءة أبى عمرو، لأنّ الباغين هم المتولون، والراجعون جميع الناس؛ وقرئا بالياء معا، وبالتاء معا طَوْعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه، (وَكَرْهاً): بالسيف، أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام؛ كنتق الجبل على بنى إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت؛ (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا باللَّه وحده) [غافر: 84]. وانتصب (طوعًا وكرهاً) على الحال، بمعنى طائعين ومكرهين. (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (84 - 85) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل) تعليل لوجوب تقدم المفعول على الفعل للاهتمام، يعني: أن المقام يقتضي إنكار اتخاذ المعبود من دون الله، ليكون الدين كله لله، بدليل قوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [آل عمران: 83] فوجب لذلك التقديم. قوله: (وقرئا بالياء معاً وبالتاء معاً): بالياء التحتاني: حفص، والفوقاني: الباقون. قوله: (والإشفاء على الموت) أي: إشرافه عليه.

أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان؛ فلذلك وحد الضمير في (قُلْ) وجمع في (آمَنَّا). ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالا من اللَّه لقدر نبيه. فإن قلت: لم عدّي (أنزل) في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت: لوجود المعنيين جميعا؛ لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر. ومن قال: إنما قيل (عَلَيْنا) لقوله: (قُلْ)، و (إلينا) لقوله (قُولُوا) [البقرة: 136] تفرقة بين الرسل والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسف! ألا ترى إلى قوله: (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة: 68]، وَ (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [النساء: 105]؟ وإلى قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمرن: 72]. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ): موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتها ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ)، يعنى التوحيد وإسلام الوجه للَّه تعالى (دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). (مِنَ الْخاسِرِينَ) من الذين وقعوا في الخسران ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيما تقدم من مثلها) يعني في البقرة، وهو قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) [البقرة: 136]. قوله: (فقد تعسف)، الأساس: الركاب يعسفن الطريق، أي: يخبطنه على غير هداية. قوله: (لا نجعل له شريكاً في عبادتها) أي: في عبادة أنفسنا له. قوله: (وإسلام الوجه لله) هو تفسير للتوحيد. ولما عقب بقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً) قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ـ والمراد به التوحيد، مؤكداً بتقديم المتعلق على المتعلق، وتعقيب الجملة قوله: (آمَنَّا) أي: صدقنا بأنه إلهنا ومعبودنا وأسلمنا أنفسنا له لا نجعل له شريكاً، كقول بني يعقوب عليه السلام: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133]ـ يجب أن يفسر الإسلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بما يطابقه من التسليم وتفويض الأمر إلى الله، لا الإسلام المتعارف، ومن ثم قال: يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى. قال القاضي: واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام، إذ لو كان غيره لم يقبل. وأجيب: أنه ينفي قبول كل دين يغايره، لا قبول كل ما يغايره. وقلت: والذي عليه النظم أن الإسلام هو: التوحيد كما سبق، والتعريف فيه للعهد الخارجي التقديري، وكان مشتملاً على الإيمان بالله وكتبه ورسله مقيداً بالاستسلام فينبغي أن يحمل الإسلام على ذلك، ولأن (دِيناً) تمييز وتبيين للإسلام، والدين مشتمل على التصديق والأعمال الصالحة، فالإسلام كذلك؛ لأن المبين لا يكون على خلاف المبين، وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران: 19]، وتعريف الخبر فيه ينفي غير الإسلام أن يكون ديناً، كما أن عدم القبول فيما نحن بصدده ينفيه، و"إن" لتأكيد الإثبات، كما أن "لن" لتأكيد النفي؛ فحق لذلك قول السلف الصالح. الراغب: في الآية قولان، أحدهما: أن الإسلام: الاستسلام إلى الله وتفويض الأمر إليه، وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان وفي كل شريعة، والدين في اللغة: الطاعة، وفي التعارف: وضع إلهي ينساق به الناس إلى النعيم، فبين تعالى أن من تحرى طاعة وانسياقاً إلى النعيم من غير الاستسلام له على ما يأمره به ويصرفه فيه فلن يقبل منه شيء من أعماله، وهو في الآخرة من الخاسرين. والثاني: أن المراد بالإسلام: شريعة محمد صلوات الله عليه، فبين أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة الله من غير متابعته فغير مقبول منه، وهذا الوجه داخل في الأول؛ لأنه علم من الاستسلام الانقياد لأوامر من صحت نبوته وظهر صدقه.

مطلقًا من غير تقييد للشياع. وقرئ: (ومن يبتغ غير الإسلام) بالإدغام. (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 86 ـ 89] (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً): كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف؛ لما علم اللَّه من تصميمهم على كفرهم، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مطلقاً من غير تقييد)، إما بجعل المتعدي منزلة اللازم، أي: هم من أهل الخسران من غير قصد إلى شيء دون شيء، وإما بأن يقصد به التعميم والامتناع عن أن يقصر على ما يذكر معه، وعليه كلام المصنف، ولكن الأول هو الظاهر؛ لأن المراد أن المعرض عن الإسلام فاقد النفع لإبطاله الفطرة السليمة والنفع الحقيقي الذي هو دين التوحيد. قال مكي: (فِي الآَخِرَةِ) متعلق بما دل عليه الكلام، أي: هو خاسر في الآخرة من الخاسرين، ولا يحسن تعلقه بالخاسرين لتقدم الصلة على الموصول، إلا أن تجعل اللام للتعريف لا بمعنى: الذي، ذكر قريباً منه ابن الحاجب سنورده إن شاء الله تعالى في "سورة يوسف". قوله: (وقرئ: "ومن يبتغ غير [الإسلام] " بالإدغام) رواها السوسي عن أبي عمرو. قوله: (وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم)، هذا العلم هو الذي يهدم قاعدة الاعتزال! قوله: (ودل على تصميمهم بأنهم) فاعل دل: ضمير الله، أي: دل الله على تصميمهم بقوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) الآية.

وبعدما شهدوا بأن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة وهم اليهود كفروا بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به؛ وذلك حين عاينوا ما يوجب قوّة إيمانهم من البينات: وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم طعمة ابن أبيرق، ووحوح بن الأسلت، والحارث بن سويد بن الصامت. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَشَهِدُوا)؟ قلت: فيه وجهان: أن يعطف على ما في (إيمانهم) من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، كقوله تعالى: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون: 10]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علام عطف قوله: (وَشَهِدُوا)؟ ) إذ لا يجوز أن يكون معطوفاً على (كَفَرُوا)؛ لأنه لا يساعده المعنى. قوله: ((فَأَصَّدَّقَ)) موضعه جزم، ولهذا صح عطف قوله: (وَأَكُنْ) عليه، سأل سيبويه الخليل عن قوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي) [المنافقون: 10] الآية، قال الخليل: جزم (وَأَكُنْ) لأن الفعل الأول يكون مجزوماً حين لا فاء فيه فهو من قبيل العطف على المحل، وهو في كلامهم سائغ شائع، كأنه قيل: أخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين. الراغب: تقديره: بعد إيمانهم وأن شهدوا، فيكون "أن" مقدراً نحو قولها: للبس عباءة وتقر عيني لكن في الفعل أظهر لانتصاب "تقر".

وقول الشاعر: لَيْسُوا مُصْلِحِينَ ....... وَلَا ناعِبٍ ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار «قد» بمعنى: كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي): لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر العظيم والارتداد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليسوا مصلحين) أوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، نعب الغراب: صاح، يقول: هم مشائيم لا يصلحون حال قبيلة ولا ينعب غراب قبيلتهم إلا بالبين، وناعب: جر عطف على محل "مصلحين"، أي: ليسوا بمصلحين ولا ناعبن وحق الظاهر: ناعباً، كأن الشاعر قدر أن الباء في مصلحين موجودة لأنها تدخل في خبر ليس كثيراً ثم عطف عليه المجرور. قوله: (المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم) بعد قوله: "ليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم" إعلام بأن قوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل لما سبق، وقد دخل الأولون في هذا العام دخولاً أولياً، ثم جيء بـ (أُوْلَئِكَ) ليؤذن بأن ما يرد عقيبه جدير بالمذكورين قبله لاكتسابهم تلك الرذائل. قال أبو البقاء: (أُوْلَئِكَ): مبتدأ، و (جَزَاؤُهُمْ): مبتدأ ثان، و (أَنَّ) واسمها وخبرها،

(وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا أو: ودخلوا في الصلاح. وقيل: نزلت في الحارث بن سويد بعد أن ندم على ردّته، وأرسل إلى قومه: أن سلوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية، فأقبل إلى المدينة فتاب، وقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم توبته. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (91) (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول اللَّه بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، ازديادهم الكفر أن قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة تافقنا بإظهار التوبة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ) ـ خبر "جزاء"، أي: جزاؤهم اللعنة، ويجوز أن يكون (جَزَاؤُهُمْ) بدلاً من (أُوْلَئِكَ) بدل الاشتمال. قوله: ((وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا، أو دخلوا في الصلاح)، هذا الثاني أبلغ، لأنه من باب قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف: 15]. قوله: (الجلاس)، قال المصنف: بالتخفيف، وقيل: بالتشديد. قوله: (ريب المنون) وهو حوادث الدهر.

فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب، فما معنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر؛ لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم. فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين (لَنْ تُقْبَلَ) بغير فاء، وفي الأخرى: (فَلَنْ يُقْبَلَ)؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء. وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم. فإن قلت: فحين كان المعنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) بمعنى الموت على الكفر؛ فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم؟ ) وحاصل السؤال: أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور المسببية وأجاب بالفرق، وذلك أن المرتد قد يرجى منه الرجوع إلى الإيمان، فلا يترتب عليه عدم قبول التوبة، بخلاف المائت على الكفر، فإن عدم قبول الفدية مترتب على الموت حالة الكفر لا محالة، والحاصل: منع السببية في الأولى لجواز تخلف الثاني عن الأول، وتقريره: أن التي عريت عن الفاء واردة على الكناية، وجعل الموصولة مع صلتها ذريعة إلى تحقيق الخبر، كقوله: إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول والتي حليت بها موجبة، كقولك: إن الذين آمنوا فلهم جنات النعيم. والفرق أن الصلة على الأول منبهة على تحقيق الخبر ملوحة إليه، فيكون كالأمارة عليه، فإن الكفر بعد الإيمان والتمادي فيه عناد، وليس بموجب لعدم قبول التوبة، فحقق الخبر للتغليظ، بخلاف الموت على الكفر، فإنه موجب للدمار والهلاك البتة، فإخلاء الفاء ثمة وإدخالها هناك لذلك.

لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر! فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية؟ أعني أن كني عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة؛ وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التغليظ في شأن أولئك الفريق) يعني: وضع قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) موضع "مائتون على الكفر داخلون في زمرة الكافرين"، ليكون أردع وأخوف، فإن قلت: في قوله: "الفائدة فيها جليلة وهي التغليظ"، تعسف، إذ من الجائز حمله على التغليظ ابتداء كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ) [آل عمران: 97] بمعنى: ومن لم يحج. قلت: إذاً تفوت فائدة التصوير التي تعطيه الكناية، على أن الكناية لابد منها؛ لأن التركيب من باب تحقيق الخبر كما سبق، ولأن قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) تكرير من حيث المعنى لما سبق ليناط به حكم آخر، وهو قوله: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً). قوله: (وإبراز حالهم في صورة الآيسين) بيان لفائدة الكناية، وذلك أنا لكناية أبلغ من التصريح لما فيها من تصوير حال المكنى عنه وتخييل معناه، فإنك إذا قلت: فلان جواد، لم يكن كما إذا قلت: كثير الرماد، لأن في تصوير صفة الجود بكثرة الرماد وكثرة إحراق الحطب وكثرة الطبائخ وكثرة تردد الضيفان زيادة روعة للجود وتفخيماً له. كذلك في إبراز حال هؤلاء في صورة الآيسين من الرحمة استحضاراً لحالهم وهم في صورة المائلين بين يدي الجبار، وقد تجلى بصفة القهارية ناكسي رؤوسهم قائلين: ربنا أسرفنا في أمرنا فاغفر لنا ذنوبنا، مردودين بـ (اخْسَئُوا)، فإن توبتكم غير مقبولة، وأعذاركم غير مسموعة، فتجد عند ذلك في نفسك ما لا تجد لو قيل: مائتون على الكفر.

ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة؟ (ذَهَباً) نصب على التمييز. وقرأ الأعمش: (ذهب)، بالرفع؛ ردا على (ملء)، كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال. فإن قلت: كيف موقع قوله: (وَلَوِ افْتَدى بِهِ)؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) [الزمر: 47]، والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد: مثل ضربه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رداً على (مِلْءُ)): أي بدلاً من (مِلْءُ)، قاله القاضي، كأنك تقول: فلن يقبل من أحدهم ذهب، والتنوين فيه للتكثير، كقوله تعالى: (إِنَّ لَنَا لأَجْراً) [الأعراف: 113]. قوله: (كيف موقع قوله: (وَلَوْ افْتَدَى بِهِ)؟ ) يعني أن الضمير في (بِهِ) راجع إلى قوله: (مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً) فيرجع حاصل الكلام إلى: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً إذا افتدى به، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً فإنه يتم المقصود بدونه، فما وجهه؟ وأجاب عنه بوجوه، أحدها: أن الكلام وارد على اللفظ وعلى المعنى معاً، فيجعل ملء الأرض ذهباً بمعنى ما دل عليه (افْتَدَى بِهِ)، وهو الفدية؛ لأن قوله: (مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً) عين الفدية، فيعتبر اللفظ بحسب عود الضمير في (بِهِ)، والمعنى بحسب وقوعه موقعه وإفادته المبالغة المقصودة، فكأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. قوله: (ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله) لابد من تقدير كلام ليستقيم المعنى، وهو أن يقال: ولو افتدى به وبمثله، أو: افتدى به وزاد عليه مثله.

و: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد: مثله، و: لا هيثم الليلة للمطيّ و: قضية ولا أبا حسن لها، تريد: ولا مثل هيثم، ولا مثل أبى حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت؛ وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر؛ فكانا في حكم شيء واحد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و: لا هيثم الليلة للمطي) تمامه: ولا فتى إلا ابن خيبري في "لا هيثم" وجهان، أحدهماـ وعليه النحويونـ: لا مثل هيثم، و"مثل" لا يتعرف بالإضافة مذكوراً، فلأن لا يتعرف محذوفاً أجدر، وثانيهما: أن العلم متى اشتهر في معنى ينزل منزلة الجنس الدال على ذلك المعنى كما في قولهم: لكل فرعون موسى، فمعنى لا هيثم: لا راعي جيد الرعي للإبل، فإن هيثم كان مشهوراً بالرعي، ولذا جاز دخول "لا" عليه. قوله: (وقضية ولا أبا حسن)، يراد به علي رضي الله عنه، فإنه كان مشهوراً بالقضاء، روى البخاري عن عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي. وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب"، عن إسماعيل، قال: قلت للشعبي: إن مغيرة حلف بالله ما أخطأ علي في قضاء قضى به قط، فقال الشعبي: لقد أفرط.

وأن يراد: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به، ولو افتدى به ـأيضاً ـلم يقبل منه. وقرئ: (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً) على البناء للفاعل، وهو اللَّه عزّ وعلا، ونصب "ملء". و (مل لرض) بتخفيف الهمزتين. (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) 92] (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) لن تبلغوا حقيقة البرّ، ولن تكونوا أبراراً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان قد تصدق به ولو افتدى به)، وهو قول الزجاج: أي: عمل من الخير وقدم مثل ملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره، وكذلك لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه، فأعلم الله تعالى أنه لا يثيبهم على أعمالهم ولا يقبل منهم الفداء من العذاب. قوله: (بتخفيف الهمزتين) أصله (مِلْءُ الأَرْضِ) ألقيت حركة همزة "أرض" على لام التعريف حين خففت، كما في (الْخَبْءَ) [النمل: 25] ومثله، وحذفت همزتها فصار: "ملء لارض"، لأن همزة الوصف حذفت على القياس، ثم حذفت همزة (مِلْءُ) بعد إلقاء حركتها على اللام، فصار: "مل لرض". قوله: (لن تبلغوا حقيقة البر)، النهاية: البر، بالكسر: الإحسان، والبر، بالفتح: من أسماء الله تعالى: العطوف على عباده ببره ولطفه. ثم التعريف في (الْبِرَّ) إذا حمل على الجنس، كان التركيب كناية عن كون عامله باراً، ولهذا أوقع قوله: "ولن تكونوا أبراراً"، تفسيراً لقوله: "لن تبلغوا حقيقة البر"، وأوقع "لن تبلغوا حقيقة البر" تفسيراً لقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ)، فيكون كناية؛ لأن نيله البر يدل

وقيل: لن تنالوا بر اللَّه وهو ثوابه (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها، كقوله: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267]، وكان السلف رحمهم اللَّه إذا أحبوا شيئا جعلوه للَّه. وروي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول اللَّه. إن أحبّ أموالى إليّ بيرحى، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على البلوغ إليه، والبلوغ إليه يدل على كون فاعله باراً، ومثله قول الخنساء: وما بلغت كف امرئ متناولاً ... من المجد إلا والذي نال أطول أي: أنه ماجدٌ فاق كل ماجد. وإذا حمل التعريف على العهد كان المراد بالبر الثواب المعهود من عند الله، وهو الجنة، كقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]. قال محيي السنة: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) يعني: الجنة، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، والقول الأول: مذهب الحسن. قوله: (لما نزلت جاء أبو طلحة) الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما من الأئمة. "بيرحاء": النهاية: هذه اللفظة كثيراً ما تختلف ألفاظ المحدثين فيها، فيقولون: بيرحاء بفتح الباء وكسرها، وبفتح الراء وضمها، والمد فيهما والقصر. وهي: اسم مال وموضع بالمدينة، وقال الزمخشري في "الفائق": إنها فيعلى، من: البراح، وهي الأرض الظاهرة. والمروي من الأئمة المذكورين أنها كانت مستقبل المسجد. النهاية: بخ بخ: كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء، وتكرر للمبالغة، وهي مبنية على السكون، فإن وصلت جررت ونونت فقلت: بَخٍ بَخٍ، وربما شددت.

فضعها يا رسول اللَّه حيث أراك اللَّه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح - أو: مال رائحـ وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: افعل يا رسول اللَّه فقسمها في أقاربه. وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل اللَّه، فحمل عليها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أسامة بن زيد، فكأن زيداً وجد في نفسه، وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أما إن اللَّه تعالى قد قبلها منك. وكتب عمر رضي اللَّه عنه، إلى أبى موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن اللَّه تعالى يقول: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي ائتني بخير إبلى فجاء بناقة مهزولة. فقال: خنتني، قال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وقرأ عبد اللَّه: (حتى تنفقوا بعض مما تحبون). وهذا دليل على أنّ «من» في: (مِمَّا تُحِبُّونَ) للتبعيض. ونحوه: أخذت من المال. و (من) في (مِنْ شَيْءٍ) لتبيين (ما تنفقوا)، أي: من أي شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فَإِنَّ اللَّهَ عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مال رائح) يقال لضيعة الإنسان إذا كانت قريبة من بلده: رايح، أي: يروح نفعه وثوابه إليه، ويروى: مال رابح بالباء، أي: ذو ربح، كقولك: لابن وتامر. قوله: (فكأن زيداً وجد في نفسه) أي: شق عليه، النهاية: في الحديث: "فلا تجد علي" أي: فلا تغضب. قوله: (سبي جلولاء) قيل: جلولاء، بالجيم: أرض بقرب فارس، ويوم جلولاء: يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 93 ـ 94] (كُلُّ الطَّعامِ) كل المطعومات، أو كل أنواع الطعام. والحل: مصدر. يقال: حل الشيء حلا، كقولك: ذلت الدابة ذلا، وعزّ الرجل عزاً، وفي حديث عائشة اللَّه عنها: كنت أطيبه لحله وحرمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل المطعومات، أو كل أنواع الطعام)، اعلم أن لفظة "كل" تقتضي تعدداً في مدخولها، والطعام: اسم لما يؤكل، كالشراب: اسم ما يشرب، فإن حمل التعريف فيه على الاستغراق لم يحتج إلى تقدير، وإن حمل على غيره فلابد من تقدير مضاف. قوله: (وفي حديث عائشة: كنت أطيبه لحله وحرمه) وفي رواية لمسلم: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت بيدي"، وفي رواية للنسائي: "لحله وحرمه وحين يريد أن يزور البيت". النهاية: يقال: حل المحرم يحل حلالاً، وأحل يحل إحلالاً: إذا أحل له ما حرم عليه من محظورات الحج، ورجل حل من الإحرام، أي: حلال، والحلال: ضد الحرام، ورجل حلال، أي: غير محرم ولا متلبس بأسباب الحج. الحرم، بضم الحاء وسكون الراء: الإحرام بالحج، وبالكسر: الرجل المحرم، يقال: أنت حل وأنت حرم، والإحرام: مصدر أحرم الرجل يحرم إحراماً: إذا أهل بالحج أو العمرة، أو باشر أسبابهما وشروطهما.

ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال اللَّه تعالى: (لا هنّ حلٌّ لهم) [الممتحنة: 10]. والذي حرم إسرائيل ـ وهو يعقوب عليه السلام ـ على نفسه: لحوم الإبل وألبانها وقيل: العروق، كان به عرق النسا، فنذر إن شفي أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه، فحرّمه. وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من اللَّه؛ فهو كتحريم اللَّه ابتداء. والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعي عليهم في قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) إلى قوله تعالى (عَذاباً أَلِيماً) [النساء: 160 - 161]، وفي قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) إلى قوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام: 146] , ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أشارت عليه الأطباء)، الجوهري: أشار إليه باليد: أومأ، وأشار عليه بالرأي، قال القاضي: احتج بالآية من جوز للنبي أن يجتهد، وللمانع أن يقول: وذلك بإذن من الله، فهو كتحريمه ابتداء. قوله: (وهو رد على اليهود ... حيث أرادوا براءة ساحتهم) يعني: لما شنع عليهم في قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) [النساء: 160] قالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، قيل لهم: كذبتم، بل كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا طعاماً واحداً، والتوراة شاهدة بذلك، وما حرم عليكم ما حرم إلا لبغيكم وظلمكم.

وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم؛ كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة اللَّه عليهم بالبغي، والظلم، والصدّ عن سبيل اللَّه، وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم (قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها): أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بزعمه أن ذلك كان محرما على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات. (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 95] (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) تعريض بكذبهم كقوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام: 146]، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجحود): معطوف على "براءة ساحتهم". قوله: (واشمأزوا)، النهاية: اشمأز، أي: انقبض وتجمع، وهمزته زائدة، يقال: اشمأز يشمئز اشمئزازاً. قوله: (امتعضوا)، أي: غضبوا، يقال: معض من شيء سمعه، وامتعض: إذا غضب وشق عليه.

أي: ثبت أن اللَّه صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وهي ملة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب اللَّه لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها اللَّه لإبراهيم ولمن تبعه. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)) (وُضِعَ لِلنَّاسِ) صفة ل (بيت)، والواضع هو اللَّه عز وجلّ، تدل عليه قراءة من قرأ: (وُضِعَ لِلنَّاسِ) بتسمية الفاعل، وهو اللَّه. ومعنى وضع اللَّه بيتا للناس، أنه جعله متعبداً لهم، فكأنه قال: إن أوّل متعبد للناس الكعبة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) وهي ملة الإسلام) المعنى: أن بغيكم هو الذي أوقعكم في فساد دينكم بأن حرفتم التوراة، وفي فساد دنياكم حيث حرم عليكم الطيبات، فاتركوا البغي وارجعوا إلى الحق وكونوا على دين إبراهيم الذي ليس فيه شيء من ذلك، ثم انظروا بعين الإنصاف أن ما عليه محمد صلوات الله عليه والمؤمنون: هل فيه ذانك الفسادان أم هو عين دين إبراهيم؟ فلو قيل: فاتبعوا ملة المسلمين لم يكن كذلك، فالكلام وارد على الكناية الإيمائية، ففي قوله: "دينكم ودنياكم لف"، وما بعدهما: نشر، كما بينه. قوله: (فكأنه قال: إن أول متعبد للناس الكعبة) يعني: وضع (بَيْتٍ) موضع المتعبد، ووضع (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) موضع الكعبة، ليدل بالبيت على تشريفه، فإن المراد بيت الله، ولا يكون بيت إلا للعبادة، وبقوله: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) على تعظيم ما وضع فيها، وأن الموضوع مما

وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس، فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة». وعن علىّ رضي اللَّه عنه أن رجلا قال له: أهو أوّل بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يلتبس على أحد، كأنه قيل: للذي يزدحم الناس فيه، أو: الذي يدق عنق من قصده، وفي بناء (وُضِعَ) على ما لم يسم فاعله إشعار بتعظيم واضعه. قوله: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أول مسجد وضع للناس) الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي ذر. قوله: (جرهم): هم حي من اليمن، قال محمد بن إسحاق: جرهم هم الذين تولوا أمر البيت بعد نابت بن إسماعيل عليه السلام، وكانوا في خفض عيش ورخاء وسعة، ثم بغوا فسلط الله تعالى عليهم كنانة وخزاعة فنفوهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا حزناً شديداً، فقال عمرو بن الحارث الجرهمي: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ملكنا فعززنا وأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بالإنسان تجري المقادر قوله: (العمالقة)، وهم قوم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، والله أعلم.

وعن ابن عباس: هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان. وقيل: هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السماوات (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) البيت الذي ببكة، وهي علم للبلد الحرام: ومكة وبكة: لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء، ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة. وعن قتادة: يبك الناس بعضهم بعضا، الرجال والنساء يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة، كأنها سميت ببكة؛ وهي الزحمة، قال: إذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ الأَكَّهْ فَخَلِّهِ حَتَّى يَبُكَّ بَكَّهْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقال له: الضراح)، النهاية: الضراح: بيت في السماء حيال الكعبة، ويروى "الضريح"، وهو: البيت المعمور، من: المضارحة: المقابلة، والمضارعة، ومن رواه بالصاد المهملة فقد صحف، والذي صح أن البيت المعمور في السماء السابعة، روينا عن البخاري ومسلم والنسائي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: "ثم عرج بنا إلى السماء السابعة"، وفيه: "فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور". قوله: (مغمطة ومغبطة) أغبطت عليه الحمى: دامت. قوله: (كأنها سميت ببكة، وهي الزحمة) ينبغي أن يجعل هذا من تتمة كلام قتادة؛ لئلا يلزم التكرار. قوله: (إذا الشريب أخذته) الشريب: الذي يشرب معك ويسقي إبله مع إبلك، وهي

وقيل: تبك أعناق الجبابرة أي تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه اللَّه تعالى. (مُبارَكاً): كثير الخير لما يحصل لمن حجه، واعتمره وعكف عنده، وطاف حوله؛ من الثواب وتكفير الذنوب، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف؛ لأن التقدير للذي ببكة هو، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)؛ لأنه قبلتهم ومتعبدهم (مَقامُ إِبْراهِيمَ) عطف بيان لقوله (آياتٌ بَيِّناتٌ). فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللَّه ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) النحل: 120]. والثاني: اشتماله على آيات؛ لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعيل بمعنى مفاعل، مثل: نديم وأكيل، الجوهري: الأكة: شدة الحر، وبك فلان يبك بكة، أي: زحم، يقول: إذا ضجر الذي يورد إبله مع إبلك لشدة الحر انتظاراً فخله حتى يزاحمك، وبكة: اسم بطن مكة، سميت بذلك لازدحام الناس. قوله: (وحفظه مع كثرة أعدائه) إلى (ألوف سنة)، قال صاحب "الجامع": كان بين مولد إبراهيم عليه السلام وبين الهجرة ألفان وثمان مئة وثلاث وتسعون سنة، وعلى ما يوجبه تاريخ اليهود ألفان وأربع مئة واثنتان وثلاثون سنة.

ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قبل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما. ونحوه في طىِّ الذكر قول جرير: كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلَاثاً فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة". وقرأ ابن عباس وأبىّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة: (آية بينة)، على التوحيد. وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويطوى ذكر غيرهما)، قال القاضي: كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وأن كل جبار قصده بسوء قهره كأصحاب الفيل، والجملةـ أي قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) ـ مفسرة للـ (هُدىً) أو حال أخرى. قوله: (كانت حنيفة) البيت. يقول: هذه القبيلة أثلاث: ثلث من العبيد، وثلث من الموالي، فكره أن يذكر الخالص منهم لأنه يهجوهم. قوله: (حبب إلي من دنياكم) الحديث من رواية النسائي عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة"، فعلى هذا لا يكون من الباب،

فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى، لأن قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) دلّ على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، من دخله كان آمنا؛ صحّ؛ لأنه في معنى قولك: فيه آية بينة، أمن من دخله. فإن قلت: كيف كان سبب هذا الأثر؟ قلت: فيه قولان: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى يغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقى أثر قدميه عليه. ومعنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) معنى قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67] وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة: 126]، وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضي اللَّه عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبى حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم؛ لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا» وعنه عليه الصلاة والسلام «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: وقف رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة، فقال «يبعث اللَّه من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى رواية المصنف: "قرة عيني" ليس بمعطوف على المذكورين، وإنما هو ابتداء كلام، كأنه لما ذكر الأولين أعرض عنهما فقال: ما لي وللدنيا.

بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر"، وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مئتي عام» (من استطاع) بدل من (الناس). وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وكذا عن ابن عباس وابن عمر، وعليه أكثر العلماء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة)، الحديث أخرجه ابن ماجة عن ابن عباس، قال القاضي: هذا يؤيد قول الشافعي: إن الاستطاعة بالمال، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه، وقال أبو حنيفة بمجموع الأمرين. الراغب: الطوع: الانقياد، ويضاده الكره، والطاعة مثله، وأكثر ما يقال في الائتمار فيما أمر، وقد طاع له يطوع، وأطاعه يطيعه، والتطوع في الأصل: تكلف الطاعة، وفي العرف: التبرع بما لا يلزم كالتنفل، والاستطاعة: استفالة من الطوع، وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً، وهو عند المحققين اسم للمعاني التي بها يتمكن الإنسان مما يريده من إحداث الفعل، وهي أربعة: بنية مخصوصة للفاعل، وتصور للفعل، ومادة قابلة لتأثيره، وآلة إن كان الفعل آلياً كالكتابة، فإن الكاتب يحتاج إلى الأربعة، ولذلك يقال: فلان غير مستطيع للكتابة: إذا فقد واحداً منها، ويضاده العجز. ومتى وجد هذه الأربعة فهو مستطيع مطلقاً، ومتى فقدها فهو عاجز مطلقاً، وإلا فهو مستطيع من وجه وعاجز من وجه، ولأن يوصف بالعجز أولى، والاستطاعة أخص من القدرة، قال عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، وهي تحتاج إلى هذه الأربعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الاستطاعة: الزاد والراحلة".

وعن ابن الزبير: هو على قدر القوّة. ومذهب مالك: أن الرجل إذا وثق بقوته؛ لزمه. وعنه: ذلك على قدر الطاقة، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد، وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع. وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في (إِلَيْهِ) للبيت أو للحج. وكل مأتىّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد، ومنها قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعنى: أنه حق واجب للَّه في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه (من استطاع إليه سبيلا)، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيان لما يحتاج إليه من الآلة، وخصه بالذكر دون الآخر، إذ كان معلوماً من حيث العقل ومقتضى الشرع أن التكليف من دون الآخر لا يصح، وقد يقال: فلان لا يستطيع كذا لما يصعب عليه فعله، وذلك يرجع إلى افتقاد الآلة أو عدم التصور، وعلى هذا الوجه قال (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً) [الكهف: 67]، وقال تعالى: (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [الكهف: 101]. والله أعلم. قوله: (وكل مأتى إلى الشيء) أي: كل ما تأتي به إلى الشيء من الأسباب، فهو سبيل إليه. قوله: (أنواع من التوكيد)، زاد القاضي على الوجوه: أنه ذكره بصيغة الخبر وأبرزه في الصورة الاسمية، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن، وبين صرف المال والإقبال على الله تعالى. وقلت: الذي يحتمل من الوجوه أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر على المبتدأ الدلالة على أنها عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها، وأن في

ومنها قوله: (وَمَنْ كَفَرَ) مكان "ومن لم يحج" تغليظا على تارك الحج؛ ولذلك قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»، ونحوه من التغليظ «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إقامة المظهرـ وهو قوله: (الْبَيْتِ) ـ مقام المضمر بعد سبقه منكراً لمبالغة في وصفه أقصى الغاية، كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب، وكذا في ذكر (النَّاسِ) بعد ذكره معرفاً الإشعار بعلية الوجوب، وهي كونهم ناساً، وفي تذييل (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) ـ لأنها في المعنى تأكيدـ الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة، وهو النعمة العظمى، وأن مباشرة مستأهل بأن الله سبحانه وتعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضاً كاملاً كما كان ساخطاً على تاركه سخطاً عظيماً، ولهذا عقب بالآيات قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)، والمراد بها ملة الإسلام، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات، والعود إلى ذكرهم بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة. قوله: (من مات ولم يحج) الحديث أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه مع تغيير يسير. وقوله: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر)، رواه أحمد بن حنبل.

ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: (عَنِ الْعالَمِينَ) وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة؛ ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود؛ فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم، فقال، إن اللَّه كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه، فنزل (وَمَنْ كَفَرَ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن لم يقل: عنه) "أن": هي المخففة من الثقيلة، وهو عطف على قوله: "قوله: (عَنْ الْعَالَمِينَ) " على التأكيد، أي: قال: كذا ولم يقل: كذا، وقوله: "وما فيه من الدلالة": عطف عليه أيضاً، لكن على التفسير والبيان، نحو: أعجبني زيد وكرمه. وتلخيصه: أنه تعالى وضع المظهر موضع المضمر وأتى به عاماً وخص بالذكر (الْعَالَمِينَ) ليتناول العام هذا المتمرد الخاص على سبيل الكناية الإيمائية، وهو المراد من قوله: "من الدلالة على الاستغناء ببرهان"، ويدل التخصيص بالذكر على الاستغناء الكامل، وهو على عظم السخط، على الكناية التلويحية، وإليه الإشارة بقوله: "يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط"، فقوله: "ولأنه يدل على الاستغناء" عطف على قوله: "لأنه إذا استغنى". قوله: (خمس ملل) وهم الذين ذكرهم الله تعالى في: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج: 17].

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» وعن ابن مسعود رضي الله عنه: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت «1». وعن عمر رضي اللَّه عنه: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا. وقرئ (حج البيت) بالكسر. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)) (وَاللَّهُ شَهِيدٌ): الواو للحال. والمعنى: لم تكفرون بآيات اللَّه التي دلتكم على صدق محمد صلى اللَّه عليه وسلم؟ والحال أن اللَّه شهيد على أعمالكم، فمجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قبل أن يمنع البر جانبه) أي: يتعذر عليكم قطع البر إما لعدم الأمن أو غيره. قوله: (نفقت)، الجوهري: نفقت الدابة تنفق نفوقاً، أي: ماتت. قوله: (ما نوظروا) أي: ما أمهلوا، وترك المناظرة عبارة عن الإعجال بالعقوبة.

قرأ الحسن: (تصدّون)، من أصدّه (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) عن دين حق علم أنه سبيل اللَّه التي أمر بسلوكها، وهو الإسلام، وكانوا يفتنون المؤمنين، ويحتالون لصدّهم عنه، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم. وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب؛ ليعودوا لمثله. (تَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لها اعوجاجاً وميلا عن القصد والاستقامة. فإن قلت: كيف تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت: فيه معنيان: أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنّ فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علم أنه سبيل الله): يريد أنه تعالى وضع سبيل الله موضع دين الإسلام؛ دلالة على أنهم يعلمون أن دين الإسلام هو سبيل الله ولكنهم معاندون، وإليه أشار بقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل. قوله: ((تَبْغُونَهَا عِوَجاً): تطلبون لها اعوجاجاً)، قال الزجاج: يقال: أبغني كذا، أي: اطلبه لي، بكسر الهمزة وبفتحها: أعني على طلبه. الانتصاف: في تقدير الجار مع ضمير المفعول نقص من حيث المعنى، والأحسن جعل الهاء من (تَبْغُونَهَا) مفعولاً، و (عِوَجاً): حال وقع موقع الاسم مبالغة، كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس العوج، وفيه نظر؛ إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون (عِوَجاً) هو المفعول به؛ لأنه مطلوبهم؛ فلابد من تقدير الحال. قوله: (فيه معنيان) على المعنى الأول: الاستفهام في قوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) للإنكار والتقريع، ولهذا قال: إنكم تلبسون على الناس، وعلى الثاني: للاستبعاد والتوبيخ،

وبتغييركم صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن وجهها، ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أنها سبيل اللَّه لا يصدّ عنها إلا ضال مضل، أو (وأنتم شهداء) بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ): وعيد، ومحل (تبغونها) نصب على الحال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (100) قيل: مرَّ شأس بن قيس اليهودي، وكان عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارة بقوله: "وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم"، وينصره قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) لأنه حال مقررة لجهة الإشكال، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) ومن ثم قال: "وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر". قوله: (يوم بعاث) بضم الباء والثاء المثلثة، النهاية: هو يوم مشهور، وفيه حرب بين الأوس والخزرج، وبعاث: هو اسم حصن للأوس، وبعضهم يقوله بالغين المعجمة، وهو تصحيف.

وكان الظفر فيه للأوس. ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا، وقالوا: السلاح السلاح! فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللَّه بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم؟ "، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان من خبره ما رواه ابن الأثير في "الكامل"، أن قريظة والنضير، جددوا العهود مع الأوس على المؤازرة والتناصر، واستحكم أمرهم، فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت واحتشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، والتقوا ببعاث، وهي من أموال قريظة، وعلى الأوس حضير والد أسيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان، فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً، ثم إن الأوس وجدت مس السلاح، فولوا منهزمين، فلما رأى حضير ذلك نزل وطعن قدمه وصاح: واعقراه! والله لا أعود حتى أقتتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعطفوا عليه، وأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج سهم فقتله، وانهزمت الخزرج، فوضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائح: يا معشر الأوس، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب، فانتهوا عنهم، وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج، ثم جاء الإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله. قوله: (أتدعون الجاهلية؟ )، النهاية: في الحديث: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " وهو قولهم: يا لفلان! كانوا يدعون بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث الشديد، وفي حديث زيد بن أرقم: فقال قوم: يا للأنصار! ، وقال قوم: يا للمهاجرين! ، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوها؛ فإنها منتنة".

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أوّلا وأحسن آخراً من ذلك اليوم. (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) 101]. (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ): معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب. والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن آيات اللَّه وهي القرآن المعجز (تُتْلى عَلَيْكُمْ) على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم غضة طرية، وبين أظهركم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم! (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم (فَقَدْ هُدِيَ) فقد حصل له الهدى لا محالة ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه): عطف على قوله: "ومن يتمسك بدينه"، يعني: إما أن يقدر ها هنا مضاف بأن يقال: ومن يعتصم بدين الله، أي: يتمسك به، على الاستعارة، أو لا يقدر، فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إلى الله تعالى، وعلى الأول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ): معطوف على (وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي: كيف تكفرون والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بأن من تمسك بدين الله فقد هدي! وعلى الثاني تذييل لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)؛ لأن مضمونه: أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون شرورهم ومكايدهم، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع شرورهم فلا تطيعوهم، أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه! وهو المراد بقوله: "حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكائدهم"، فعلى الأول (وَمَنْ يَعْتَصِمْ) جيء لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي، كقوله: (وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ)، وعلى الثاني: للحث على الالتجاء، ويحتمل على الأول التذييل، وعلى الثاني الحال أيضاً. قوله: (فقد حصل له الهدى لا محالة)، وذلك لمجيء فعل الماضي مع "قد"، قال الجوهري:

كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصلا، ومعنى التوقع في «قد» ظاهر؛ لأنّ المعتصم باللَّه متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) 102 ـ 103]. (حَقَّ تُقاتِهِ): واجب تقواه وما يحق منها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قد: جواب لما يفعل، وزعم الخليل أن هذا لمن ينتظر الخبر، تقول: قد مات فلان، ولو أخبره وهو لا ينتظره لم يقل: قد مات فلان، وإنما يصدق (فَقَدْ هُدِيَ) إذا وجد المتوقع، وهو المعتصم بالله، منتظراً للهدى، فإذا حصل الهدى فقيل له: فقد هدي، ولو لم يحصل لم يقل ذلك، ولهذا قال: "لا محالة". قوله: (واجب تقواه وما يحق منها) أي: (حَقَّ) هنا من: حق بمعنى: وجب وثبت، أي: الذي ثبت ووجب من التقاة، و"من" في "منها": بيان ما يحق، أي: اتقوا الله التقاة التي تجب وتحق له. قال القاضي: هو استفراغ الوسع في القيام بالمواجب والاجتناب عن المحارم، وقيل: أن ينزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها، وأصل تقاة: وقية، فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤدة وتخمة، والياء ألفاً. الراغب: الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، والتقوى: جعل الشيء في وقاية مما يخاف، وفي الشرع: حفظ النفس مما يؤثم، وذلك بترك المحظور، وذلك بترك بعض المباحات لما روي: "الحلال بيّن والحرام بيّن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم، ونحوه (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] يريد: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا. وعن عبد اللَّه: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى وروي مرفوعا. وقيل: هو أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقى اللَّه عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16])، وكذا عن القاضي، وروى الزجاج بخلافه، وهو أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) منسوخ بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وقال الكواشي: ولما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ فنزل (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ولعل مخالفة المصنف لأجل الاحتراز أنه لا يجوز التكليف بما لا يطاق ابتداء بناءً على العدل، ولهاتين الآيتين، أسوة بقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) فإنها ناسخة لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ). قوله: (وروي مرفوعاً) الحديث المرفوع هو: ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب الحافظ: المرفوع: ما أخبر به الصحابي عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله.

والتقاة: من اتقى كالتؤدة من اتأد. (وَلا تَمُوتُنّ) َ معناه: ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ: لا تأتني إلا وأنت على حصان، فلا تنهاه عن الإتيان، ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان. قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالتؤدة)، الجوهري: أتأد في مشيه، وهو افتعل، من التؤدة، واصل التاء في "اتأد" واو، يقال: اتئد في أمرك، أي: تثبت. قوله: (ولا تكون على حال سوى حال الإسلام) وقد سبق تقريره في "البقرة". قوله: (قولهم: اعتصمت بحبله) كان من المقتضى أن يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) استعارة، لكن مراده أن هذه الاستعارة فاشية في كلامهم غير مختصة بالقرآن. قوله: (والاعتصام) هو معطوف على "الحبل"، والباء في "بالعهد": متعلق بـ "وثوقه". قوله: (أو ترشيحاً): معطوف على الاستعارة المقدرة في المعطوف، أي: يجوز أن يكون الاعتصام استعارة لوثوقه بالعهد، أو ترشيحاً "لاستعارة الحبل بما يناسبه"، والباء متعلق بـ "ترشيحاً" ولا يجوز أن يكون عطفاً على المذكورة؛ لأن قوله: لاستعارة الحبل بما يناسبه يأباه. الأساس: كل ما عصم به الشيء فهو عصام وعصمة، وعلق القربة بعصامها، وهو حبل يجعل في خربتيها، أي: عروتيها، ومن المستعار: أمر أعصم، وأنا معتصم بفلان ومستعصم بحبله.

والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم باللَّه ووثوقكم به، ولا تفرقوا عنه، أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده، وهو الإيمان والطاعة، أو بكتابه؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم "القرآن حبل اللَّه المتين" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاصل أنَّ قوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) إما استعارة تمثيلية، بأن شبهت الحالة بالحالة لجامع ثبات الوصلة بين الجانبين كما سبق مراراً، واستعير لحالة المستعار له ما يستعمل في المستعار منه من الألفاظ، فقيل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)، وإما استعارتان مترادفتان، فاستعارة الحبل لعهده مصرحة أصلية: تحقيقية أو تخييلية، والقرينة: الإضافة، واستعارة الاعتصام لوثوقه بالعهد وتمسكه به مصرحة تبعية تحقيقية، والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية، وهو المراد بقوله: "وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد"، وإما أن تكون الاستعارة في الحبل على طريقة التخييل أو التحقيق، ويكون الاعتصام ترشيحاً لها، والقرينة: إضافة الحبل إلى الله تعالى، وإما أن تكونا استعارتين غير مستقلتين، بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية، لأن المكنية مستلزمة للتخييلية. قوله: (والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم بالله)، وقوله: (أو واجتمعوا على التمسك بعهده): نشر لما لف من التقديرين: التمثيلية وغيرها. قوله: (أو بكتابه) معطوف على "بعهده"، فتقدير الكلام: يجوز أن يكون الحبل استعارة لعهده أو لكتابه، على طريقة اللف، وحذف لدلالة النشر عليه. قوله: (لقول النبي صلى الله عليه وسلم)، الحديث مختصر من "سنن الترمذي"، عن الحارث الأعور.

لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم. (وَلا تَفَرَّقُوا): ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضا ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يخلق عن كثرة الرد) ليس في "كتاب الترمذي"، وذكره صاحب "الجامع" عن ابن عمر. وأخلق يتعدى ولا يتعدى، يقال: أخلق الثوب، وأخلقته أنا. والرد: التكرار والترديد في القراءة. قوله: (متدابرين)، النهاية: لا تدابروا، أي: لا يعط كل واحد منكم أخاه دبره، فيعرض عنه ويهجره. قوله: (أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق) عطف على قوله: "ولا تتفرقوا عن الحق"، وعلى الأول النهي وارد على التفرق في الدين بواسطة الاختلاف بينهم، وهو المشاقة والمجادلة، وعلى الثاني النهي وارد على التفرق على الإطلاق، والمراد: النهي عن المجادلة والمشاقة التي هي سبب التفرق في الأبدان المؤدي إلى التفرق في الأديان، ومرجع النهي على الوجهين إلى الاختلاف المؤدي إلى التفرق في الدين، لكن الأول من إطلاق المسبب على السبب، والثاني من الكناية التلويحية، ولما كان أصل الفساد إنما ينشأ من التحدث كما قال نصر بن سيار: فإن النار بالعودين تصلى ... وإن الحرب أولها كلام

ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها، مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام. كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف اللَّه بين قلوبهم بالإسلام. وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا إِخْواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم، وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في اللَّه: وقيل: هم الأوس والخزرج، كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت الحروب مئة وعشرين سنة إلى أن أطفأ اللَّه ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ): وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر. (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها): بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتبر في الوجهين ذلك المعنى. قوله: (مما يأباه جامعكم): بيان ما يكون، وقوله: "وهو إتباع الحق"، تفسير للجامع والمؤلف. قوله: (مشفين)، النهاية: لا يكاد يقال: أشفى إلا في الشر، ومنه حديث سعد: مرضت مرضاً أشفيت على الموت، أي: أشرفت عليه، الجوهري: شفا كل شيء: حرفه. قوله: (والضمير للحفرة)، الانتصاف: هو كقولك: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها، فالمنة من الإنقاذ منها أتم، والكون على الشفا يستلزم الهوي غالباً، فمن عليهم بإنقاذهم من الحفرة التي هي موقع الهوي، أي: كنتم صائرين إليها لولا الإنقاذ الإلهي، وأبو علي رأى في "التعاليق" تأنيث المذكر بإضافة المؤنث من الضرورات، ورأيت في "الإيضاح" بخلافه.

وهو منها، كما قال: كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو، إلا أنها في المذكر مقلوبة، وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة: الجانب والجانبة. فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها. (كَذلِكَ): مثل ذلك البيان البليغ (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): إرادة أن تزدادوا هدى ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو منها) أي: الشفا من الحفرة، أي: متصل بها، قيل: المضاف لا يكتسي من المضاف إليه التأنيث إلا إذا كان بعضاً منه، نحو "تلتقطه بعض السيارة" [يوسف: 10]، أو فعله، نحو: أعجبتني مشي هند، أو صفته نحو: أعجبتني حسن هند، ولا يجوز: أعجبتني غلام هند. قوله: (كما شرقت صدر القناة من الدم)، أوله: ويشرق بالقول الذي قد أذعته شرقت بالماء، كما يقال: غصصت باللقمة. أذعته: أفشيته، يقول: يشرق بالقول الذي أفشيته وأظهرته للناس كما أن القناة عند الطعن تشرق بالدم، أنث شرقت لإضافة الصدر إلى القناة.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) 104]. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ): "من" للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات؛ ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته؟ وكيف يباشر؟ فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على مَن الإنكار عليه عبث، كالإنكار على أصحاب المآصر والجلادين وأضرابهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) "من" للتبعيض)، الانتصاف: وفي تنكير (أُمَّةٌ) دليل على قلتهم، ومن هذا الأسلوب: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18] تنكير (نَفْسٌ) دليل على قلة الناظر في معاده. الإنصاف: ويحتمل إرادة تعظيمها لنظرها في معادها، وقد سبقت نظائره، وكذلك (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 12]. قال القاضي: خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل، حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً، ولكن يسقط بفعل بعضهم، هذا معنى تعليل المصنف: "لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات". قوله: (المآصر) أي: السجون، الجوهري: يقال: أصره يأصره أصراً: حبسه، والموضع: مأصر ومأصر، والجمع: مآصر، والعامة تقول: مياصر.

وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمّة تأمرون، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ). [آل عمران: 110]، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس، قال: "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم للَّه وأوصلهم للرحم" وعنه عليه الصلاة السلام: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللَّه في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه» وعن علي رضي اللَّه عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. ومن شنئ الفاسقين وغضب للَّه، غضب اللَّه له. وعن حذيفة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محبباً في جيرانه، محموداً عند إخوانه، فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به؛ إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندباً فندب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى: وكونوا أمة) أخرج من الكل الأمة، فيكون من باب التجريد، وقال الزجاج: المعنى: ولتكونوا كلكم أمة، "من" دخلت لتخص المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة، وأنشد الزجاج: أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر يسألها، أي: الرغائب من غيره ويعطي الذي يحتاج إليها، وفيه أنه جواد مطاع، الظلامة: ما يطلبه عند الظالم، النوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. والدليل على أن المأمورين كلهم قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ). قوله: (ومن شنئ الفاسقين) أي: أبغضهم.

وأما النهي عن المنكر فواجب كله؛ لأنّ جميع المنكر تركه واجب؛ لاتصافه بالقبح. فإن قلت: ما طريق الوجوب؟ قلت: قد اختلف فيه الشيخان؛ فعند أبى علي: السمع والعقل، وعند أبى هاشم: السمع وحده. فإن قلت: ما شرائط النهي؟ قلت: أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح؛ لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا، لأن الواقع لا يحسن النهي عنه، وإنما يحسن الذم عليه والنهى عن أمثاله، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد في منكراته، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر؛ لأنه عبث. فإن قلت: فما شروط الوجوب؟ قلت: أن يغلب على ظنه وقوع المعصية؛ نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة. فإن قلت: كيف يباشر الإنكار؟ قلت: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب؛ لأنّ الغرض كف المنكر. قال اللَّه تعالى: (فأصلحوا بينهما)، ثم قال: (فقاتلوا) [الحجرات: 9]، فإن قلت: فمن يباشره؟ قلت: كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار؛ لأنه معلوم قبحه لكل أحد. وأما الإنكار الذي بالقتال، فالإمام وخلفاؤه أولى؛ لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها. فإن قلت: فمن يُؤمر ويُنهى؟ قلت: كل مكلف، وغير المكلف إذا همَّ بضرر غيره مُنع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعوّدوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها. فإن قلت: هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه؟ قلت: نعم يجب عليه؛ لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد اللَّه يقول: لا أقول ما لا أفعل. فقال: وأينا يفعل ما يقول! ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم، فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا يأمر أحد) نصب على التمني الذي اشتمل عليه جملة قوله: "ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم"، المعنى: تمنى الشيطان منكم حصول هذه الكلمة لئلا يأمر أحد بالمعروف.

فإن قلت: كيف قيل: (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)؟ قلت: الدعاء إلى الخير عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص؛ إيذانا بفضله، كقوله: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). [البقرة: 238]. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 105 ـ 107]. (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا): وهم اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة، وهي كلمة الحق. وقيل: هم مبتدعو هذه الأمة، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية وأشباههم. (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) نصب بالظرف وهو (لهم)، أو بإضمار اذكر، وقرئ: (تبيض) و (تسود)، بكسر حرف المضارعة، و (تبياض) و (تسوادّ)، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحشوية)، وهم طائفة يجوزون أن يخاطب الله الناس بالمهمل. قوله: (وقرئ: "تبيض" و"تسود" بكسر حرف المضارعة)، قال الزجاج: إنما كسروا ليتبين أنها من قولك: ابيض واسود، في الماضي، وقرأ بعضهم: "تبياض" و"تسواد"، وهو جيد في العربية إلا أنها خلاف المصحف، وأنا أكره ذلك.

فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودّت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ باللَّه وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله. (أَكَفَرْتُمْ): فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم. والظاهر أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه. وعن عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسودّ وجوه بني قريظة والنضير. وقيل هم المرتدون. وقيل: أهل البدع والأهواء، وعن أبى أمامة: هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال: كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال: بل سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غير مرة. قال: فما شأنك دمعت عيناك، قال: رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام فكفروا، ثم قرأ هذه الآية، ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضكم منهم كثيراً. فأعاذك اللَّه منهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والظاهر أنهم أهل الكتاب) يعني: قوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) مطلق، بل مجمل فيمن كفر بعد الإيمان يحتمل المرتد وأهل الكتاب وجميع الكفار كما ذكر، لكن قرائن السياق قامت على ترجيح الثاني، وذلك قوله في الآيات السابقة: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ)، ثم قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وانتصاب (يَوْمَ تَبْيَضُّ) من (لَهُمْ)، ثم قوله بعد الفراغ من حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ). قوله: (وعن أبي أمامة). الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة، عن أبي غالب.

وقيل: هم جميع الكفار؛ لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين أشهدهم على أنفسهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172]. (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ): ففي نعمته، وهي الثواب المخلد، فإن قلت: كيف موقع قوله: (هُمْ فِيها خالِدُونَ) بعد قوله: (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ)؟ قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: (هم فيها خالدون) لا يظعنون عنها ولا يموتون. (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 108 ـ 109]. (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ): الواردة في الوعد والوعيد، (نَتْلُوها عَلَيْكَ) ملتبسة (بِالْحَقِّ) والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين)، فيأخذ أحداً بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ): ففي نعمته، وهي الثواب المخلد)، إنما فسر الرحمة بالجنة لأنها مقابلة لقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) ومقارنة لقوله: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قال القاضي: عبر عن الجنة والثواب المخلد بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله، وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم، ولكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين، أي: أن الكلام من اللف والنشر، لكن على غير ترتيب، بناءً على تلك النكتة. قوله: ((وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً) فيأخذ أحداً بغير جرم) إلى آخره، قال القاضي: يستحيل تصور الظلم منه تعالى؛ لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله، لأنه المالك على الإطلاق كما قال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ).

ونكر ظلمًا وقال: (لِلْعالَمِينَ) على معنى: ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه. فسبحان من يحلم عمن يصفه بإرادة القبائح والرضا بها. (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) 110 ـ 111]. «كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فسبحان من يحلم): كلمة تعجب، أي: ما أحلمه حيث ينسبون إليه القبيح والظلم مع أنه لا يستعجلهم بالعذاب! وفيه تشنيع على أهل السنة؛ لما يلزم من مذهبهم إثبات القبائح والظلم على الله تعالى على زعم المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الله تعالى مريد المعاصي ثم يعذبهم على ذلك، وهو قبيح؛ لما يلزم منه أن يكون الله ظالماً. وجوابه: أنه يفعل ما يشاء، ويتصرف في ملكه كيف يشاء ولا مجال للعقل في أفعاله، مع أن قوله: "والرضا بها" محل نظر؛ لأنهم لا يقولون به؛ لقوله تعالى: (وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: 7]. قوله: ("كان" عبارة عن وجود شيء في زمان ماض)، الراغب: "كان" في كثير من وصف الله تعالى تنبئ عن معنى الأزلية، قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب: 40]، وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصف له هو موجود فيه فتنبيه أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك، ومنه قوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) [الإسراء: 67]، (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54]، وإذا استعمل في الزمان الماضي فقد يكون المستعمل فيه باقياً على حاله، وقد يكون متغيراً، ولا فرق بين أن يكون الزمان المستعمل فيه قد تقدم تقدماً كثيراً، وبين أن يكون قد تقدم بآن واحد.

وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ. ومنه قوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 96] ومنه قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)، كأنه قيل: وجدتم خير أمّة. وقيل: كنتم في علم اللَّه خير أمّة. وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمّة موصوفين به (أُخْرِجَتْ) أظهرت، وقوله (تَامُرُونَ) كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم. (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً باللَّه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن الحاجب في "الأمالي": لا يصح التعلق بالأفعال الناقصة، لأنها لم يقصد بها في التحقيق نسبة حدث محقق إلى فاعلها، ومعنى قولنا: حدث محقق: أنه لم يرد أن زيداً ثبت، وإنما أريد أن القيام المنسوب إلى زيدـ وهو خبرهـ ثبت، وذلك حاصل لو لم تذكر كان، وإنما قصد بالإتيان بها على المبتدأ والخبر، وتقييد الخبر معنى بالنسبة إلى المبتدأ مع بقائه مخبراً عنه على ما كان عليه في الابتداء، ولذلك توهم كثير من النحويين أنه لا دلالة لها على الحدث أصلاً، وإنما وضعت للدلالة على مجرد الزمان، فلذلك لم تأت عاملة في شيء غير الاسم والخبر. قوله: (ولا على انقطاع طارئ)، قال الإمام: "كان" إذا كانت ناقصة، كانت عبارة عن وجود شيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، فلا تدل على انقطاع طارئ، يعني: ليس معناه أنه كان على تلك الصفة ثم ما بقي على ما كان، وعليه يبتنى قوله: "كنتم في علم الله"، أو: "كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة". قوله: (كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة) أي: ترك العاطف ليكون الكلام الأول كالمورد للسؤال عن موجب ما سيق له الحديث، فيجاب بالآتي ويعاد بصفة من استؤنف عنه الحديث لبيان الموجب. قوله: (جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله) يعني: ذكر الإيمان بالله وأريد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به؛ لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له: إيمان، إذا آمن بالله على الحقيقة، وحقيقة الإيمان بالله: أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به، فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله في شيء، والمقام يقتضيه لكونه تعريضاً بأهل الكتاب، وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به، ويدل على مكان التعريض قوله تعالى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)، ولاشك أنهم كانوا مؤمنين بالله وموافقين للمؤمنين في بعض الشرائع، لكنهم لما تركوا بعض الإيمان، كأنهم لم يؤمنوا! وأيضاً، المقام مقام مدح للمؤمنين وكونهم خير الناس؛ لأن قوله: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) عطف على (تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، وهو كلام مستأنف بيَّن به أن المؤمنين خير أمة في ماذا؟ فينبغي أن يكون هو أيضاً تعليلاً للخيرية، وأن يندرج تحته جميع ما يجب الإيمان به ليكون معتداً به صالحاً لأن يتمدح به، فلو خرج بعض الإيمان لم يكن مدحاً. قال القاضي: إنما أخر، أي: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وحقه التقديم؛ لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله وإظهاراً لدينه. وقلت: يعني إنما أخر ليكون تلويحاً إلى مكان التعليل، فإنه حينئذ من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود وتفويض الترتب إلى الذهن، ولو قدم لم يتنبه لتلك النكتة. ثم قال: واستدل بهذه الآية أن الإجماع حجة، لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر، إذ اللام فيهما للاستغراق، فلو اجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. وقلت: ويجوز أن يراد بتقديم الأمر بالمعروف على الإيمان: الاهتمام، وأن سوق الكلام لأجله، وذكر الإيمان كالتتميم، ويجوز أن يجعل من باب قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] تنبيهاً على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر شيء مما اشتمل عليه الإيمان بالله، لأنه من وظيفة الأنبياء.

لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول لله أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن باللَّه (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النسا: 150 - 151] والدليل عليه قوله تعالى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) مع إيمانهم باللَّه (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه؛ لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين. (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) المتمرّدون في الكفر. (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً): إلا ضرراً مقتصراً على أذى، بقول من طعن في الدين، أو تهديد أو نحو ذلك (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ): ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لكان لهم من الرياسة) "لهم": خبر "كان"، والاسم: "ما هو خير"، و"مما آثروا": متعلق بخير، و"من الرياسة والأتباع": بيان ما آثروا، والمعنى: بما هو خير الإيمان أي: لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه، كما قدره أولاً. قوله: (بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين)، لعل المراد به قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد: 28] أي: الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ): نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ)، أي: أجرين، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد" الحديث، أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وفيه تثبيت لمن أسلم منهم؛ لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهي بهم، وتوبيخهم وتضليلهم، وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله: (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)! قلت: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت: لو جزم لكان نفى النصر مقيداً بمقاتلتهم، كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها، وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة، لا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتوبيخهم وتضليلهم) في نسخة المعزي: "وتوبيخهم"، بالرفع: عطف على: "وفيه تثبيت"، وفي نسخة الصمصام بالجر: عطف على "التلهي"، والضمير في "توبيخهم وتضليلهم وتهديدهم" عائد إلى "من أسلم"، والباء في "بأنهم" متعلق بقوله: "تثبيت"، وعلى تقدير الرفع: الضمير في الثلاثة للكفار، والباء متعلق بقوله: "تهديدهم"، والجر ليس بالوجه، لأنه لا معنى لتعلق "بأنهم" بتهديدهم، إلا أن يقال: إنه متعلق بتثبيت أيضاً، والتضليل: هو النسبة إلى الضلال، والحاصل: أن الآية الأولى سيقت لبيان أن أهل الكتاب فرقتان، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، وجيء بقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) الآية؛ مستطرداً لذكرهم، يعني: أن شأن أهل الكتاب مع المؤمنين قاطبة محاولة الإضرار التي لا طائل تحتها في المآل، وقصد المقاتلة التي الدبرة فيها عليهم. وأدمج فيه إما تثبيت من أسلم منهم وحده إذا روي "توبيخهم" بالجر، وإما توبيخ من تمرد في الفسق مع تثبيت من أسلم إذا روي بالرفع، والإشارة إلى الإدماج بقوله: "فيه".

وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فما معنى التراخي في (ثمَّ)؟ قلت: التراخي في المرتبة؛ لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار. فإن قلت: ما موقع الجملتين، أعني (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) و (لَنْ يَضُرُّوكُمْ)؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان؛ فإنّ من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار)، الانتصاف: هذا من الترقي: وعدهم بتولية عدوهم الأدبار عند المقاتلة، ثم ترقى فوعد أنهم لا ينصرون مطلقاً، وزيد في الترقي بدخول "ثم" بتراخي الرتبة، كأنه قال: ثم ها هنا ما هو أعلى في الامتنان أنهم لا ينصرون البتة. قوله: (وعلى ذكر فلان): حال، أي: والحال أن القائل مشتمل كلامه على ذكر شخص، كما إذا كان عمرو في حكاية زيد بأنه يصلح له أن يفعل كذا، ثم سنح له كلام آخر لزيد، فقال: فإن من شأنه كيت وكيت، وكذا أنه عز شأنه أورد ذكر أهل الكتاب وأنهم إن آمنوا كان خيراً لهم، وأن منهم المؤمنين وأكثرهم متمردون، استطرد حكاية حالهم مع المسلمين وطعنهم في دينهم ومقاتلتهم معهم، وذلك لما رأى من التفات خاطر المسلمين. أما بيان النظم فهو أن قوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ) وما يتصل به، إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) عطف على جملة أحوال المؤمنين من قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) على سبيل التقابل، ألا ترى كيف وصف بعضهم الذين امتازوا منهم وانخرطوا في زمرة المؤمنين بقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) بما وصف المؤمنين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله واليوم الآخر؟ فإذا المراد بالإيمان بالله: الإيمان المعتبر عند المؤمنين، لا إيمانهم، لأنهم لا يؤمنون بالله حق الإيمان ولا باليوم الآخر كما سبق في أول البقرة، والمراد بالخير في قوله: خيراً لهم مما هم: ما هو عليه المسلمون، وبالشر: ما هو عليه اليهود، لأن (خَيْراً) يقتضي المفضل والمفضل عليه، ولهذا قال: لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه، وما هو عليه المؤمنون: هو تعاطي مكارم الأخلاق، والعزة والنصرة والفتح في البلاد، وحسن الأحدوثة في الدنيا، والزلفى عند الله في العقبى، وما عليه اليهود: مزاولة رذائل الأخلاق من المكر والخديعة والدهاء، وضرب الذلة والمسكنة عليهم في الدنيا، واستحقاق غضب الله ونكاله في العقبى، فقوله: (مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ) تفصيل لأصنافهم، وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) إلى قوله: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)، وقوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ) الآية، تفصيل لأحوال الطائفتين منهم، وإنما أعاد ذكر الطائفة المؤمنة منهم بقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) ثم رتب عليه بيان أحوالهم لطول الكلام، وخص من أحوال الفسقة ما اختص بالمؤمنين من قوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) لأن الخطاب مع المؤمنين، فذكر من دغلهم وخبثهم ما أرادوا بالمؤمنين من الأذى على سبيل الاستئناف، لأن "لن" في النفي، واستعماله في جواب منكر نظيرة "إن" في الإثبات، فظهر أن قوله: (تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) كلمة جامعة حائزة لجميع أنواع الخيرات دنيا وعقبى، ولذلك علل خيرية هذه الأمة بها على سائر الأمم وفاقت عليها بها. وفيه: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعلى مناصب من له العزة والسلطان من الأنبياء والمرسلين والخلفاء الراشدين، لا من ضربت عليهم الذلة والمسكنة، والله أعلم.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) 112]. (بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين، أو متمسكين، أو ملتبسين بحبل من اللَّه وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل اللَّه وحبل الناس، يعنى ذمّة اللَّه وذمّة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو استثناء من أعم عام الأحوال)، وعزي إلى المصنف أنه قال: الاستثناء من أعم العام نحو قولك: ما رأيت إلا زيداً، والمراد بأعم العام: ما لا أعم منه، وهو الشيء، كأنك قلت: ما رأيت شيئاً إلا زيداً، فهذا الاستثناء يقع في جميع مقتضيات الفعل، أعني: فاعله ومفاعيله وما شبه بها، فقولك: "إلا زيداً" مستثنى من أعم عام المفعول به، وكذلك: ما لقيته إلا راكباً: استثناء من أعم عام أحواله، وما ضربته إلا تأديباً، مستثنى من أعم عام أعراضه، والإضافة في قوله: "من أعم عام الأحوال" مثل إضافة "حب زمانه" إلى من لا زمان له، وإنما له المضاف الذي هو الحب لا غير، كما تقول: "ابن قيس الرقيات" بإضافة "قيس" إلى "الرقيات"، في أن الغرض إضافة "الابن" إلى "الرقيات"؛ لأن قيساً ما شبب بالرقيات، وإنما المشبب بهن ابنه، ولا طريق إلى ذلك إلا بذكر المضاف والمضاف إليه جميعاً. قوله: (يعني ذمة الله وذمة المسلمين)، الراغب: إنما أعاد ذكر الحبل وفصل ولم يقل: بحبلين؛ لأن الكافر يحتاج إلى حبلين، أي: عهدين: عهد من الله، وهو أن يكون من أهل الكتاب، وإلا لم يكن مقراً على دينه بالذمة، ثم يحتاج إلى حبل من الناس، أي: أمان وعهد يبذلونه، والناس ها هنا خاص بالمسلمين.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) استوجبوه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ): استوجبوه)، الراغب: أصل البواء: مساواة الأجزاء في المكان، خلاف النبو الذي هو: منافاة الأجزاء، يقال: مكان بواء: إذا لم يكن نابياً بنازله، وبوأت له مكاناً: سويته، وبوأت الرمح: هيأت له مكاناً ثم قصدت الطعن به، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ويستعمل البواء في مراعاة التكافؤ في المصاهرة والقصاص، فيقال: فلان بواء فلان: إذا ساواه، وقوله تعالى: (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ) [الأنفال: 16] أي: حل مبوأ، أو معه غضب الله، أي: عقوبته. وقوله: (بِغَضَبٍ): في محل الحال، نحو: خرج بسيفه. واستعمال "باء" تنبيه أن مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله، فكيف غيره من الأمكنة! ونظيره: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]، وقوله تعالى: (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة: 29] أي: تقيم بهذه الحالة، قال الشاعر: أنكرت باطلها وبؤت بحقها وقول من قال: "أقررت بحقها" فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ. والباءة: كناية عن الجماع. وحكي عن خلف الأحمر أنه قال في قولهم: حياك الله وبياك، أصله: بوأك منزلاً، فغير لازدواج الكلام كما غير جمع الغداة في قولهم: آتيه بالغدايا والعشايا.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة اللَّه وغضبه. (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب اللَّه، أي: ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات اللَّه وقتلهم الأنبياء. ثم قال: (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أي: ذلك كائن بسبب عصيانهم للَّه واعتدائهم لحدوده؛ ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط اللَّه، وأنّ سخط اللَّه يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح: 25]، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) [النساء: 161]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يضرب البيت على أهله) أي: شبهت المسكنة بالقبة تشبيهاً بليغاً، ثم أخلت المسكنة في جنسها، ثم خيلت أنها هي، ثم جعلت تلك القبة المتخيلة مضروبة عليهم كما تضرب الخيمة على أهلها، فهم ساكنون فيها، ففي الكلام استعارة مكنية، ويدل عليه قوله: "كما يضرب البيت على أهله"، لأن الاستعارة مسبوقة بالتشبيه، وقد سبق تمام تقريره في البقرة، وليس بكناية كما ذهب إليه وهم أكثر الناس، وأنه من باب قوله: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج قوله: (ليعلم أن الكفر) إلى قوله: (وأن سخط الله يستحق بركوب المعاصي) قلت: دلالة الآية أن ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله سببهما الكفر بآيات الله، وسبب ذلك اعتداؤهم وعصيانهم، وليس فيه أن سخط الله بمجرد ركوب المعاصي. نعم، إنها تؤدي إلى ذلك في بعض الأحوال، قال القاضي: الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر، والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [113 - 116] الضمير في (لَيْسُوا سواء) لأهل الكتاب، أي: ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) كلام مستأنف لبيان قوله: (لَيْسُوا سَواءً) كما وقع قوله: (تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران: 110] بياناً لقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)، (أمّة قائمة): مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أما قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح: 25] فمن باب التعريض، وكذا قوله: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) [النساء: 161]؛ لأنها نازلة في اليهود تخويفاً للمسلمين لئلا يتصفوا بصفة الكفرة واليهود ومنعاً لهم بارتكابها، وهذه الآية ها هنا محمولة على أحد الوجهين المذكورين في البقرة، وهو أن لفظة (ذَلِكَ) غير مكررة، وإذا جعل مكرراً كما سبق في البقرة، كان التقدير: ذلك الضرب بسبب عصيانهم وتعديهم حدود الله مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) مستقيمة) قال الزجاج: حقيقة معنى (قَائِمَةٌ): مستقيمة، ذكرها الأخفش، أي: ذو أمة قائمة، والأمة: الطريقة، من أممت الشيء: إذا قصدته. المعنى: لا يستوي الذين قتلوا الأنبياء بغير حق والذين يتلون آيات اللهم وهم ذوو طريقة مستقيمة.

لأنه أبين لما يفعلون، وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة العشاء؛ لأن أهل الكتاب لا يصلونها. وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه: أخر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: "أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللَّه في هذه الساعة غيركم"، وقرأ هذه الآية. وقوله (يَتْلُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) في محل الرفع: صفتان ل (أمّة)، أي: أمّة قائمة تالون مؤمنون، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات اللَّه بالليل ساجدين، ومن الإيمان باللَّه؛ لأن إيمانهم به كلا إيمان؛ لإشراكهم به عزيراً، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر؛ لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات؛ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه أبين) أي: المذكور من التلاوة مع السجود وتخصيص الوقت على سبيل الكناية الإيمائية، والتعبير به عن التهجد أبين مما لو قال: أمة يتهجدون، لما في ذكرهما وذكر الليل تصوير تلك الحالة في أحسن صورة، فكأنه دعوى الشيء بالبرهان. قوله: (وعن ابن مسعود) الحديث. أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وقريب منه عن البخاري. قوله: (من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين) هذا التقدير يؤذن بأن قوله تعالى: (وَهُمْ يَسْجُدُونَ): حال من الضمير في (يَتْلُونَ)، وقوله فيما سبق: "بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود"، مشعر بالعطف، ولعل الذي عليه التعويل، لتكثير التصوير وتصحيح المعنى: العطف. قوله: (كلا إيمان) وهو كما سبق في أول الكتاب، وإلا كان فعلاً كلا فعل، قيل: "لا" ليست بنافية للجنس؛ لأنها لو كانت للجنس لما تم الكلام بهذا القدر.

لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها ـ والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيهـ لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به، وآثر الفور على التراخي. (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما وصفوا به (مِنَ) جملة (الصَّالِحِينَ): الذين صلحت أحوالهم عند اللَّه، ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم. ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين. (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) لما جاء وصف اللَّه عز وعلا بالشكر في قوله: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن: 17] في معنى توفيه الثواب ـ نفي عنه نقيض ذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم)، وهو من قوله تعالى: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) [الأحقاف: 15]، اعلم أن الصلاح هو: وجود الشيء على حال استقامته وكونه منتفعاً به، وإنما فسر (الصَّالِحِينَ) ها هنا بهذه المعاني لأنه موجب للصفات المذكورة من قبل، والإيذان بالإيجاب توسيط أولئك؛ لأنه أعلم أن ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه ما يوجبه، فالتعريف في (الصَّالِحِينَ) للجنس، أي: الكاملين فيه، وعلى الوجه الآتي: للعهد. قوله: ((فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)) قال المصنف: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) تعريض بكفرانهم نعمته، وأنه تعالى لا يفعل مثل فعلهم، وجيء به على لفظ المبني للمفعول لأمرين: لتنزيهه عن إسناد الكفران إليه، كقوله تعالى: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن: 10]، وليأتي به على لفظ الكبرياء والعظمة، نحو: (قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) [هود: 44]. قوله: (نقيض ذلك) يعني: لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الكفران؛ لأنه ليس لأحد عليه نعمة حتى يكفره، لكن لما وصف سبحانه وتعالى بالشكور في تلك الآية، والشكور: مجاز عن توفية الثواب، نفى عنه سبحانه وتعالى على سبيل المشاكلة الكفران الذي هو مجاز عن تنقيص الثواب.

فإن قلت: لم عدي إلى مفعولين و"شكر" و"كفر" لا يتعديان إلا إلى واحد، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان، فكأنه قيل: فلن تحرموه بمعنى: فلن تحرموا جزاءه. وقرئ (يفعلوا)، و (يكفروه)، بالياء والتاء (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) بشارة للمتقين بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى. (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [117] الصرُّ: الريح الباردة، نحو: الصرصر، قال: لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ نَكْبَاءَ صِرً بِأصْحَابِ الْمَحَلَّات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ (يَفْعَلُوا) و (يُكْفَرُوهُ) بالياء والتاء)، بالياء التحتانية: حمزة والكسائي وحفص، والباقون بالتاء. قوله: (بشارة للمتقين .. ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى) يعني: في إيراد العلم بعد الأعمال المذكورة بشارة؛ لأن الله تعالى إذا علم منهم أحوالهم ومجاهدتهم فيما لا يضيع أجرهم فيوفيهم بأحسن ما عملوا، وفي وضع (الْمُتَّقِينَ) موضع المضمر إشعار بالعلية وإيذان بأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى. قوله: (لا تعدلين أتأويين) البيت: لا تعدلن: لا تسوين، والأتاوي: الغريب البعيد الدار، والنكباء: الريح الشديدة، والصر: الريح الباردة، والمحلات: الماعون مثل: الفأس والقدر والدلو وغيرها، يقول: لا تسوين الغرباء الفقراء الذين لا منزل لهم ولا ديار تكنهم من البرد والرياح بأصحاب الديار والمنازل والأثاث، روى الجوهري: "لا يعدلن" بالياء، على ما لم يسم فاعله، و"الأتاويون" بالرفع.

كما قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة: وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَأ الْ جِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ فإن قلت: فما معنى قوله: (كمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)؟ قلت: فيه أوجه: أحدهما: أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرّة بمعنى: فيها قرة صرّ، كما تقول: برد بارد على المبالغة. والثاني: أن يكون الصر مصدراً في الأصل، بمعنى البرد فجيء به على أصله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يغلب الخصم) البيت، ترثي ليلى صاحبها توبة بن الحمير، وقيل: الصواب: "يغلب" و"يملأ" بالياء؛ لأن ما قبله: كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد، ولم يطلع على المتغور وأجيب أن الالتفات أبلغ. لم ينخ، من: أناخ البعير، والألد: الشديد الخصومة، والجفنة: القصعة، والجمع جفنات وجفان، والسديف: قطع السنام، تعدد مناقبه في الندبة. قوله: (فما معنى قوله: (كَمَثَلِ رِيحٍ)) يعني: إذا كان الصر بمعنى الريح الباردة فكيف معنى قوله: (فِيهَا صِرٌّ)، إذ يصير المعنى: ريح فيها ريح باردة؟ قوله: (فوصف بها القرة) أي: هي صفة موصوف محذوف وصف بها للمبالغة، وهو من الإسناد المجازي، كقولهم: جد جده. قوله: (قرة)، النهاية: القر: البرد، ويوم قر، بالفتح، أي: بارد. قوله: (على أصله) أي: الصر في الأصل: مصدر بمعنى البرد مطلقاً، ثم سمي به الريح الباردة، فلمح هنا الأصل.

والثالث: أن يكون من قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي اللَّه كاف وكافل. قال: وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]) أي: أنه من باب التجريد، انتزع من الريح الباردة شيء يسمى صراً، والصر هو الريح نفسه. قوله: (وفي الرحمن للضعفاء كافي)، أوله: لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي أنهن من الضعاف مخافة أن يذقن السم بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صافي وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف ولولاهن قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف قائله رجل من بني تيم اللات بن ثعلبة، ندب للخروج مع أبي بلال بن مرداس، فمنعته الشفقة على بناته، أي: إن حبي الحياة وتخلفي عن الغزو لهؤلاء البنات لأني إن قتلت لم يبق من يكسب لهن، فعرين وجعن، ونبت عين من يتزوجهن عنهن، ولولاهن سومت مهري للغزو، أي: جعلت عليه علامة، والرنق: كدر الماء، من كرم عجاف، يقال: رجل كرم، وقوم كرم، ونسوة كرم. الانتصاف: هذا الوجه أحسن الوجوه؛ لأنك إذا قلت مثلاً: ففي عمرو بعد الله كاف،

شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناسـ لا يبتغون به وجه اللَّهـ بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى اللَّه مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضاع عنهم؛ لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث قوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكان نكرة مجردة من القيود المشخصة المخصصة، ثم جعلت عمراً المعين محلاً له، وشخصت المطلق المجرد بهذا المعين، وهي طريقة صحيحة، إذ المطلق بعض المقيد. قوله: (الذي حسه) أي: استأصله، النهاية: في الحديث: "حسوهم" أي: استأصلوهم قتلاً، وحس البرد الكلأ: إذا أهلكه واستأصله. قوله: (وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم). إنما قدر الوجوه لأن قوله: (مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ) فيه شيوع يحتمل المذكورات. قوله: (فضاع عنهم؛ لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله). "ما أنفقوا": مفعول "لم يبلغوا"، وهو مترتب على الوجهين الأخيرين لا الأول لما كان يحصل لهم من حسن الثناء وجميل الذكر، والوجه هو الأول، وهو أن يكون في المكارم والمفاخر؛ لأن قوله: (فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تعريض بأن النفقة لم تكن لوجه الله وطلب مرضاته، أي: جعلوا مكان النفقة وظرفها هذه الهناة الحقيرة التي تشاهد، وأبوا أن تكون في مرضاة الله فتكون كحبة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)، ولذلك خاب سعيهم وبطل عملهم (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً). قوله: (وشبه بحرث قوم): عطف على قوله: "شبه ما كانوا ينفقون" على طريقة التتميم وإعادة اللفظ لإناطة معنى آخر، يعني: ما اكتفى بتشبيه النفقة بالزرع الذي ذهب حطاماً،

فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ [فإن قلت: فلم قال: ظلموا أنفسهم، ولم يقتصر بقوله: أصابت الحرث أو أصابت حرث قوم؟ قلت: لأن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب على الكلية حتى لا يبقى منه شيء، وحرث الكافرين هو الذي يذهب على الكلية لا منفعة لهم فيه، لا في الدنيا ولا في الأخرة، فأما حرث المسلم فلا يذهب على الكلية؛ لأنه وإن كان يذهب صورة إلا أنه لا يذهب معنى؛ لما فيه من حصول الأعواض لهم في الآخرة، والثواب بالصبر على الذهاب]، فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض؛ حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح. قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة: 17]، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بل خص الزرع بأن يكون لقوم ظالمين، ليكون أبلغ في القصد، لأن الإهلاك إذا كان عن سخط كان أشد وأبلغ، ثم إذا أخذ مع التشبيه معنى: (وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ليكون تتميماً آخر للمشبه به، على أن يكون (وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ) معطوفاً على مقدر هو استئناف كلام، المعنى: بلغ هلاك أهل الحرث واستئصالهم إلى حد إذا شهد الناظر إلى أحوالهم يقول مترفقاً: هؤلاء المرحومون حملوا ما لا يد لهم عليه، فقد ظلموا، فيجاب: بأنه ما حملهم الله ما لا طاقة لهم عليه وما ظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون، يبلغ بالتشبيه إلى حد يناطح السماك في المبالغة لما علم في موضعه أن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلاً كان أدخل في القبول وأبلغ في الاعتبار، وأما إذا جعل تتميماً للمشبه فلم يكن كذلك، وإلى الوجهين الإشارة بقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ) الضمير للمنفقين أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم. قوله: (الذي مر في تفسير قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) [البقرة: 17])، وهو أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد، وإنما شبهت قصتهم بقصته، فكذلك ها هنا: لم يشبه النفقة بالريح، وإنما شبهت حالة نفقتهم في قلة جدواها وضياعها بالحرث الذي ضربته الصر وأهلكته.

ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، وهو الحرث. وقرئ: (تنفقون)، بالتاء. (وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ): الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم اللَّه بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد) أي: يكون من التشبيه المركب العقلي الذي يؤخذ فيه الزبدة والخلاصة من المجموع، وهو المراد بقوله: "مثل إهلاك ما ينفقون" إلى آخره، والوجه: قلة الجدوى والضياع، ويجوز أيضاً أن يكون من التشبيه المفرق الذي يتكلف لكل واحدٍ واحدٍ من المشبه به شيء يقدر شبهه في المشبه، فشبه إهلاك الله بإهلاك الربح، وما ينفقون بالحرث، وما في غضب الله من جعل أعمال المرائين هباء منثوراً كما في الريح الباردة من حس الزرع وجعله حطاماً، وعليه الوجه الأخير. الانتصاف: وفي لفظ السؤال سوء أدب، وهو أن الكلام غير مطابق للغرض، والواجب أن يقال: ما وجه مطابقته؟ ولو أورد هذا اللفظ على إمام معتبر بحضرته لتلطف في إيراده، مع أنه قد يكون ذلك الاعتراض محققاً لا جواب عنه، فلم لا يتأدب مع عالم السر وأخفى في كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! ثم يرد عليه جوابه الثاني بأن السؤال باق على تقدير إهلاك ما ينفقون، إذ لا يشبه المصدر بالاسم الذي هو الربح المهلكة، وتقديرهـ والله أعلمـ: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابتهم ريح فيها صر فأهلكته، لكن خولف ذلك لفائدة جليلة، وهو تقديم الأهم وهي الريح التي هي مثل العذاب، تهديداً واعتماداً على الأفهام الصحيحة. وقلت: أما مؤاخذته عليه في اللفظ المؤذن بسوء الأدب فليس بذاك؛ لأن مراده من سؤاله أن كلام الله غير مطابق للغرض الذي ذكرته، وهو قولك: "شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم بزرع حسه البرد"، فالإنكار متوجه إلى نفسه، وأما قوله: إذ لا يشبه المصدر

حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أي: وما ظلمهم اللَّه بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد: ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالاسم الذي هو الريح، فخطأ، فإنه قدر المضاف في الطرفين، والمعنى: بإهلاك الله ما ينفقونه، وأما الذي استنبط من الوجه فمنحول من قول المصنف: "شبه ما كانوا ينفقون بالزرع الذي حسه البرد"، والسؤال وارد على تصحيح ذلك المعنى. قوله: (ولكن أنفسهم يظلمونها هم)، فإن قلت: هل في زيادة "هم" فائدة؟ قلت: نعم، ففي المشهورة تقديم المفعول يؤذن بالاختصاص، وفي الشاذة: لما وقع المنصوب اسم "لكن" بطل التقديم وذهب معنى الاختصاص ولكن انقلب إلى تقوي الحكم، فأشار بهذه الزيادة إلى أن الظالمين هم لا غيرهم. قوله: (على إسقاط ضمير الشأن) أي: لا يجوز حذف ضمير الشأن في "لكن" وأخواتها إلا في الشعر، كقوله: إن من لام في بني بنت حسا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب تقديره: إنه من لام، وقوله: ألمه: جزاء الشرط، وهو مع الشرط خبر "إن"، واسمها ضمير الشأن، وكقول المتنبي: وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) 118 ـ 119] بطانة الرجل ووليجته: خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره ثقة به، شبه ببطانة الثوب، كما يقال: فلان شعاري. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «الأنصار شعار، والناس دثار» (مِنْ دُونِكُمْ) من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز تعلقه بـ: (لا تتخذوا)، وب (بطانة) على الوصف، أي بطانة كائنة من دونكم مجاورة لكم (لا يَالُونَكُمْ خَبالًا) يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين، والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال: الفساد (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ): ودّوا عنتكم، على أنّ «ما» مصدرية. والعنت: شدّة الضرر والمشقة. وأصله انهياض العظم بعد جبره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بشقوره) أي: بأموره وحاجاته. الجوهري: يقال: أخبرته بشقوري، كما يقال: أفضيت إليه بعجري وبجري. قوله: (الأنصار شعار، والناس دثار)، قاله صلى الله عليه وسلم حين فتح حنيناً، في حديث طويل أخرجه الشيخان عن عبد الله بن زيد بن عاصم. النهاية: الشعار: الثوب الذي يلي الجسد، لأنه يلي شعره، والدثار هو: الثوب الذي يكون فوق الشعار، أي: أنتم الخاصة والبطانة، والناس العامة والدثار. قوله: (انهياض العظم) أي: انكساره.

أي: تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)؛ لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وفي قراءة عبد اللَّه (قد بدأ البغضاء). (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة أولياء اللَّه ومعاداة أعدائه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ما بين لكم، فعملتم به. فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت يجوز أن يكون (لا يَالُونَكُمْ خَبَالًا) صفة للبطانة، وكذلك (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم. وأما (قَدْ بَيَّنَّا) فكلام مبتدأ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتحاملهم عليها)، الأساس: تحاملت الشيء: حملته على مشقة. قوله: (أن ينفلت من ألسنتهم) مفعول "لا يتمالكون"، أي: لا يتماسكون انفلات ما يعلم به بغضهم، يعني: أنهم ضابطون أنفسهم مما في صدورهم من الغيظ جداً لكن ينفلت أحياناً من ألسنتهم ما يعلم منه شيء مما انطوت عليه ضمائرهم. قوله: (أن يكون (لا يَالُونَكُمْ) صفة [للبطانة]، وكذلك (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ). سأل عن مواقع الجمل وهي أربعة، وذكر في الجواب مواقع الثلاث وترك موقع قوله: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): إما لظهورها أنها صفة مثلها؛ لأنها توسطت بين الصفتين، أو أنها حال من الواو في (لا يَالُونَكُمْ)، و"قد" معها: مقدرة و"ما": مصدرية، أي: لا يألونكم خبالاً وادين عنتكم، وأما إيثار الماضي على المضارع هنا فكإيثاره في قوله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 2]. قوله: (مستأنفات كلها على وجه التعليل) قيل: يريد أن الكل جواب عن السؤال عن النهي، والأحسن أن يجري الكل مستأنفات على الترتيب، كأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة؟

"ها" للتنبيه. و"أَنْتُمْ" مبتدأ، و (أُولاءِ) خبره، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب. وقوله: (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) بيان لخطئهم في موالاتهم؛ حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء. وقيل (أُولاءِ) موصول، (تُحِبُّونَهُمْ) صلته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأجيب: لأنهم لا يقصرون في إفساد أمركم، فقيل: ولم يفعلون ذلك؟ فأجيب: لأنهم يبغضونكم، ولما كان كل من ذلك مترتباً على الآخر صح أن يقال: مستأنفات، على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. قوله: (بيان لخطئهم) يعني: لما قال: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ) أي: أنتم هؤلاء المشاهدون، تحقيراً لشأنهم وازدراء بحالهم لما شوهد منهم ما يجب تخطئتهم به، بين ما به استحقوا هذا التحقير فقال: (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ)، قال القاضي: (تُحِبُّونَهُمْ): خبر ثان أو خبر لـ (أُوْلاءِ)، والجملة خبر (أَنْتُم)، كقولك: أنت زيد تحبه، أو: حال والعامل فيها معنى الإشارة، وقال أبو البقاء في "البقرة": (هَؤُلاءِ): على تقدير حذف المضاف، أي: أنتم مثل هؤلاء، و (تَقْتُلُونَ): حال، ويعمل فيها معنى التشبيه. ويمكن أن يكون (وَتُؤْمِنُونَ): عطفاً على (تُحِبُّونَهُمْ) أي: أنتم هؤلاء الخاطئون في موالاتهم، لأنكم تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بكتابهم ولا يؤمنون بكتابكم، فقد أخطأتم حيث واليتموهم في الدين والدنيا ولا يوالونكم فيهما. وأما تأليف النظم فهو أنه تعالى لما نهى المؤمنين أن يتخذوا المنافقين بطانة وعلله بما أسند إليهم من إرادة الخبال وودادة العنت وإظهار البغضاء وإخفاء الضغن والإحن، ثم قال: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) توبيخاً للمؤمنين وأنهم إن لم يرجعوا من ذلك ولم ينتبهوا من رقدة الغفلة، كانوا كمسلوبي العقول، عقب ذلك بقوله: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ) تنبيهاً لهم على الثبات على الغفلة بعد تلك البيانات الشافية، المعنى: ها أنتم بعدما تلونا

والواو في (وَتُؤْمِنُونَ) واو للحال، وانتصابها من "لا يحبونكم"، أي: لا يحبونكم، والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونحوه (فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَما تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء: 104]، ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري: فَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئَاماً أَذِلَّةً يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُؤُوسَ الْأبَاهِمِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليكم ما تلونا هؤلاء المشاهدون ثابتين على غفلتكم وخطاياكم تحبونهم، ولا يحبونكم، مع أنكم تؤمنون بكتابهم كله ولا يؤمنون بشيء من كتابكم؛ ما غيرتم من أحوالكم شيئاً ولا أثر فيكم ذلك التحذير، ولا نجح فيكم ذلك الوعظ البليغ. قوله: (أي: لا يحبونكم، والحال أنكم تؤمنون بكتابهم) يريد أنها حال مقررة لجهة الإشكال، كقولهم: أتحسن إلى هؤلاء وإنهم يحاولون مضرتك؟ فعلى هذا يقدر "إنكم" ليصح إيقاع المضارع حالاً مع الواو، ويجوز أن لا يقدر، والجملة تكون معطوفة على "تحبون، "، أي: تجمعون بين المحبة والإيمان وكيت وكيت. قوله: (ونحوه: (فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ)) أي: مثله في تقييد الحكم بحال تختص بالمؤمنين، وتنتفي عن أعدائهم، يعني: قيد محبة المؤمنين بالإيمان بكتابهم كله وعدم إيمان أهل الكتاب بشيء من كتاب المؤمنين، وإليه الإشارة بقوله: "وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم"، كما قيد (تَالَمُونَ) برجاء المؤمنين ثواب الله وعدم رجاء الكافرين الثواب. قوله: (فأقتل أقواماً لئاماً) البيت، الأباهم: أصله الأباهيم، فحذفت الياء تخفيفاً، يقول: أقتل الأعداء اللئام الأذلة، الذين يعضون أناملهم من الغيظ.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ): دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به. والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم؛ من قوّة الإسلام، وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ): فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء، وما يكون منهم في حال خلوّ بعضهم ببعض، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها. فإن قلت: فكيف معناه على الوجهين؟ قلت: إذا كان داخلا في جملة المقول فمعناه: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا، وقل لهم: إنّ اللَّه عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم؛ وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أنّ شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان خارجا فمعناه: قل لهم ذلك ـيا محمدـ ولا تتعجب من إطلاعى إياك على ما يسرون فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك؛ وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الحنق والبغضاء وما يكون منهم): بيان لما في الصدور، وذلك أن "ذات": عام، وإنما يتخصص بحسب ما أضيف إليها لاقتضاء المقام، وها هنا لما انطوت صدور المنافقين على الحنق والبغضاء خصصها بهما. قوله: (قل لهم ذلكـ يا محمدـ ولا تتعجب)، فإن قلت: كيف فسر في الوجه الأول: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) بقوله: "أخبرهم"، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بقوله: "وقل لهم"، وفي هذا الوجه أتى بـ "قل" في موضعه؟ قلت: لأن الكلام على الأول وارد على توبيخ المنافقين، وأنه صلوات الله عليه مأمور بأن يواجههم ويكافحهم بقوله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ليعلموا أن الله تعالى أطلع نبيه صلوات الله عليه على ما كانوا عليه من أنهم إذا خلوا أظهروا الغيظ الكامن، ويخبرهم أيضاً بأن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما يسرونه بينهم، فيجازيهم عليه مزيداً للتوبيخ وترقياً من الأدنى إلى الأغلظ، وعلى الثاني: الكلام جار على تعجيب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: إني مطلعك على خبثهم وسوء دخيلتهم، فقل لهم: موتوا بغيظكم، ولا تتعجب من هذا فإني أعلم ما هو أخفى منه.

ويجوز أن لا يكون ثمَّ قول، وأن يكون قوله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران: 119]، أمراً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بطيب النفس، وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد اللَّه أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام، وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك. (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) 120] الحسنة: الرخاء، والخصب، والنصرة، والغنيمة، ونحوها من المنافع. والسيئة: ما كان ضدّ ذلك. وهذا بيان لفرط معاداتهم؛ حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير، ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت: المس مستعار لمعنى الإصابة؛ فكان المعنى واحداً، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن لا يكون ثم قول): أي: لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بتبليغ هذا الأمر إليهم، بل يكون مأموراً بتطييب النفس بالاستبشار بوعد الله بالنصرة على سبيل الكناية، وهذا أبلغ مما إذا قيل ابتداء: حدث نفسك بطيب النفس وإرغام الأعداء؛ لأن هذا القول إنما يقال إذا حصل موجبه من النصرة وإعزاز الدين وإذلال الكفرة، ونحوه قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131] حيث قال: "ومعنى قال له: أسلم: أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية على المعرفة والإسلام، فقال: (أَسْلَمْتُ) أي: فنظر وعرف". قوله: (كيف وصفت الحسنة بالمس؟ ) هذا سؤال وارد على فقدان المطابقة بين القرينتين ظاهراً، يعني: من حق التقابل بين الفقرتين التوافق بين الكلمتين، فكيف خولف بينهما؟ وأجاب: أن الموافقة حاصلة من حيث المؤدى وأصل المعنى، بشهادة الآيات، ونقل في "الحواشي" عن المصنف أنه قال: وإنما جمع المس والإصابة لافتنان الكلام؛ لأنه أفصح وأحسن،

ألا ترى إلى قوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) [التوبة: 50]، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: 79]، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج: 20 - 21]. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم (وَتَتَّقُوا) ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو: وإن تصبروا على تكاليف الدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا على تقدير سؤال آخر، يعني: هب أن التوافق حاصل بين القرينتين في أصل المعنى، فما فائدة الاختلاف بينه وبين الآيات المستشهدة؟ وأجاب: أن الاختلاف للافتنان في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب، ولو قال: لاقتضاء المقام والتنبيه على الخطأ العظيم للمخاطبين كما سبق في قوله: (هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) فإنه يقتضي عنفاً شديداً وتعييراً بليغاً، ولذلك استعير لجانب الحسنة المس، وذكر في السيئة الإصابة ليدل على الإفراط الشديد والتفريط البليغ، وليس كذلك في سائر الآيات، لكان أحسن، وإلى هذا المعنى أشار صاحب "الانتصاف" حيث قال: يمكن أن يقال: المس أقل تمكناً من الإصابة، وهو أقل درجاتها، أي: إن تصبك حسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم، وإن تتمكن منكم المصيبة وتنتهي الحد الذي يرثي عندها الشامت فهؤلاء لا يرثون ولا يرجعون عن حسدهم، بل يفرحون ويسرون. الإنصاف: هذا حسن لكن يحتاج الجواب عن الآية التي استشهد بها الزمخشري (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) [النساء: 79]، وهو ذكر جواباً عاماً. وقلت: الجواب ما ذكرناه من أن التخصيص بحسب المقام وإخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، والذي ينصر قول صاحب "الانتصاف" مجيء الفرح بمعنى البطر مقابلاً للسوء، قال الجوهري: الفرح أيضاً: البطر، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76]. قوله: (أو: وإن تصبروا على تكاليف الدين) وذلك أن الصبر على مكابدة أعداء الله

ومشاقه وتنقوا اللَّه في اجتنابكم محارمه؛ كنتم في كنف اللَّه؛ فلا يضركم كيدهم. وقرئ (لا يَضِركُمْ) من ضاره يضيره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التجاء إلى كنف الله، فيورث النصرة، وكف ضررهم والصبر على مشاق التكاليف يورث الزلفى من جناب الله والأمان من عذابه الدنيا والآخرة. قوله: (كنتم في كنف الله فلا يضركم) فيه إشعار بأن قوله: (لا يَضُرُّكُمْ) ليس بجزاء تحقيقاً، بل الجزاء محذوف وهو مسبب عنه، الأساس: هم في أكناف الحجاز: في نواحيه، ومن المجاز: حرك الطائر كنفيه: جناحيه، وتقول: في حفظ الله وكنفه. قوله: (وقرئ: لا يَضِركُمْ) بكسر الضاد وتخفيف الراء: نافع وابن كثير وأبو عمرو، على أنه جواب الشرط، والباقون بالضم، والفتح شاذ، قال مكي: من شدد وضم الراء احتمل أن يكون مجزوماً على جواب الشرط، ولكنه لما احتاج إلى تحريك المشدد أتبعه ضمة ما قبله، وقيل: هو مرفوع على إضمار الفاء أو على نية التقديم قبل (وَإِنْ تَصْبِرُوا)، نحو: إنك إن يصرع أخوك تصرع فرفع "تصرع" على نية التقديم. والأول أحسنها، وقد حكي عن عاصم أنه قرأ بفتح الراء مشددة، وهو أحسن من الضم، ومن خفف جزم الراء جواباً وهو من: ضاره يضيره، وحكى الشافعي: يضوره، فيجب جواز ضد الضاد، وقال صاحب "الكشف" أبو إسحاق: جعله مجزوماً وبناه على الضم كما يبنى على الفتح نحو: لم يرد، فالضمة عنده بناء لا إعراب، وكأنه هو الوجه، وقال: وقياس سيبويه أن يكون على التقديم والتأخير.

و (يضركم) على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد، كقولك: مدّ يا هذا؛ وروي المفضل عن عاصم (لا يَضُرُّكُمْ) بفتح الراء، وهذا تعليم من اللَّه وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك (إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ) من الصبر والتقوى وغيرهما (مُحِيطٌ) ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه. (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون) 121 ـ 122] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك)، نظم الشافعي رضي الله عنه المعنى: إذا ما شئت إرغام الأعادي ... بلا سيف يسل ولا سنان فزد في مكرماتك فهي أعدى ... على الأعداء من نوب الزمان وأما تنزيل هذا المعنى على الآية فهو أن قوله: (لا يَضُرُّكُمْ) وقع جزاء لصبرهم وتقواهم، ولا يستقيم ذلك المعنى على ظاهره، لكن مفهوم قوله: (لا يَضُرُّكُمْ) بعد ذكر الصبر والتقوى يؤذن أن القوم إنما حاولوا الإضرار بسبب الحسد لاشتمال المقام عليه، والحاسد إنما يتغيظ بما يتصور في المحسود من صفة الكمال، ولا كمال في الإنسان أكمل من الاكتساء بلباس الصبر والتزيي بزي التقوى، ولما علم أن غيظ الحاسد لا يؤثر إلا فيه وأن غائلة ضرره راجعة إليه قيل: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي: يرجع ضرره إليهم.

(وَ) اذكر (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) بالمدينة؛ وهو غدوّه إلى أحد من حجرة عائشة رضي اللَّه عنها. روى: أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار النبي صلى اللَّه عليه وسلم أصحابه ودعا عبد اللَّه بن أبىّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال عبد اللَّه وأكثر الأنصار: يا رسول اللَّه، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو اللَّه ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم: يا رسول اللَّه، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب؛ لا يرون أنا قد جبنا عنهم. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "إني قد رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي، فأوّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم"، فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم اللَّه بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته؛ فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والوحي يأتيه، وقالوا: اصنع يا رسول الله. ما رأيت، فقال: "لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل"، فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة، .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في ذباب سيفي) أي: طرفه الذي يضرب به، النهاية: وفي الحديث: "رأيت أن ذباب سيفي كسر، فأولته أنه يصاب رجل من أهلي، فقتل حمزة". قوله: (لأمته)، النهاية: اللأمة مهموزة: الدرع، وقيل: السلاح، ولأمة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفاً.

وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال يمشى على رجليه، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القدح؛ إن رأى صدراً خارجا قال: "تأخر"، وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمّر عبد اللَّه بن جبير على الرماة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأصبح بالشعب)، الجوهري: الشعب، بالكسر: الطريق في الجبل، وشعبت الشيء: فرقته، وشعبته: جمعته، وهو من الأضداد. الراغب: الشعب من الوادي: ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف، فإذا نظرت من الجانب الذي يتفرق أخذت في وهمك واحداً يتفرق، وإذا نظرت إليه من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا، فلذلك قيل: شعبت الشيء إذا فرقته، وشعبته: إذا جمعته. قوله: (كأنما يقوم بهم القدح)، النهاية: هو السهم الذي كانوا يستقسمون به، أو الذي يرمى به عن القوس. أراد أن يقول: كأنما يقومهم بالقدح، أي: يسوي صفوفهم تسوية السهم، فقلب وقال: كأنما يقوم بهم القدح، كقوله: عرضت الناقة على الحوض، مبالغة في التقويم، ويجوز أن يكون تجريداً، أي: يسوي صفوفهم تسوية السهم. قوله: (في عدوة) العدوة: شط الوادي. قوله: (وأمر عبد الله بن بجير) على المصغر والباء مقدم على الجيم، ورواية البخاري

وقال لهم: «انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ): تنزلهم. وقرأ عبد اللَّه للمؤمنين، بمعنى: تسوي لهم وتهيئ. (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ): مواطن ومواقف، وقد اتسع في "قعد وقام" حتى أجريا مجرى "صار". واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه قوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر: 55]، (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) [النمل: 39]: من مجلسك وموضع حكمك. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عليم) بنياتكم وضمائركم (إِذْ هَمَّتْ) بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأبي داود عن البراء: عبد الله بن جبير، قال صاحب "الجامع": هو عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري، جبير: بضم الجيم والباء الموحدة. قوله: (وقال لهم: انضحوا عنا بالنبل) أي: ادفعوا، النهاية: أنه صلى الله عليه وسلم قال للرماة يوم أحد: "انضحوا عن الخيل، لا نؤتى من خلفنا"، أمرهم بالثبات، يقال: نضحوهم بالنبل: إذا رموهم. قوله: (عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) قيل: لم يقل: عمل سميع عليم؛ لأن الصفة المشبهة لا تكون في الأفعال المتعدية، ويلزم منه أن ينتصب مفعولاً به، كأنه قيل: والله يعلم إذ همت طائفتان، ويمكن أن يقال: إن قوله: (إِذْ هَمَّتْ) إذا أبدل من (وَإِذْ غَدَوْتَ) تبقى الصفتان على إطلاقهما فيحملان على الأصل، والذهاب إلى أنهما صفتان مشبهتان، وإذا جعل معمولاً لهما وجب أن يذهب إلى أنهما اسما الفاعل على المبالغة، وأما معنى قوله: "عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) " فهو أن الأصل في العمل الفعل، وأنهما إن عملا لما فيهما من معناه، قال في قوله: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم: 39]: "ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة

والطائفتان: حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ألف، وقيل في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل عبد اللَّه بن أبيّ بثلث الناس وقال: يا قوم، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ ! فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري فقال: أنشدكم اللَّه في نبيكم وأنفسكم، فقال عبد الله: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الحيان باتباع عبد اللَّه، فعصمهم اللَّه فمضوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه: أضمروا أن يرجعوا، فعزم اللَّه لهم على الرشد فثبتوا. والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً وضارب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه". قوله: (أنشدكم الله)، الجوهري: نشدت فلاناً أنشده نشداً: إذا قلت له: نشدتك الله، أي: سألتك بالله، كأنك ذكرته إياه. قوله: (أضمروا أن يرجعوا) أي: عزموا وقصدوا، يدل عليه قوله: "والظاهر أنها ما كانت إلا همة"، أي: لم تكن عزماً ولا قصداً. قوله: (فعزم الله لهم على الرشد)، النهاية: في حديث أم سلمة: فعزم الله لي أي: خلق لي قوة وصبراً. قوله: (أنها ما كانت إلا همة)، أي: ما كانت تلك الخطرة إلا ما لا تخلو النفس عنه من حديث النفس.

كما قال عمرو بن الأطنابة: أَقُولُ لَهَا إذَا جَشَأتْ وَجَاشَتْ: مَكَانَكِ تُحْمَدِى أوْ تَسْتَرِيحِى حتى قال معاوية: عليكم بحفظ الشعر، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين، فما ثبت منى إلا قول عمرو بن الأطنابة. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، واللَّه تعالى يقول (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) ويجوز أن يراد: واللَّه ناصرهما ومتولي أمرهما، فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على اللَّه! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أقول لها: إذا جشأت) البيت، وقبله في رواية اليميني: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذ الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت ... البيت: أبت لي قبول الضيم والبلاء، من أبلى في الحرب: إذا أظهر بأسه وجلادته، والمشيح من: شاح الرجل: جد في الأمر، وجشأت، أي: تحركت، وجاشت القدر: إذا غلت، وكل شيء يغلي فهو يجيش، حتى الهموم والغصة في الصدر، مكانك: أي: الزمي مكانك حتى تغلبي فتحمدي، أو تقتلي فتستريحي من نصب الدنيا. الإطنابة، بكسر الهمزة وسكون الطاء المهملة والنون والباء الموحدة. يخاطب نفسه على التجريد. قوله: (ويجوز أن يراد: والله ناصرهما) عطف على قوله: "ما كانت إلا همة"، يعني: لا يجوز

فإن قلت: فما معنى ما روي من قول بعضهم عند نزول الآية: واللَّه ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا اللَّه بأنه ولينا؟ قلت: معنى ذلك: فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء اللَّه وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها ـ لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم ـ كانت سببًا لنزولها. والفشل: الجبن والخور. وقرأ عبد اللَّه: واللَّه وليهم كقوله: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). [الحجرات: 9] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن تكون عزيمة بل تكون حديث نفس، لأن الله تعالى يقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) والله تعالى لا يكون ولي من عزم خذلان الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعة عدوه عبد الله بن أبي بن سلول، ويجوز أن تكون عزيمة كما قال ابن عباس، ويكون قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) جملة حالية مقررة للتوبيخ والاستبعاد، أي: لم وجد منهما الفشل والجبن وتلك العزيمة، والحال أن الله سبحانه وتعالى بجلالته وعظمته هو الناصر يدل على التوبيخ قوله: "فما لهما تفشلان"، وعلى الأول كانت جملة معطوفة على الجملة السابقة، أخبر الله تعالى أنه كان منهم الفشل ومن الله الولاية، وإليه الإشارة بقوله: "وقد أخبرنا الله بأنه ولينا". الراغب: الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية: النصرة، والولاية: تولي الأمر، وقيل: هما واحدة كالدلالة والدلالة، وحقيقته تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك، وكل واحد منهما يقال في معنى الفاعل، أي: الموالي، وفي معنى المفعول، أي: الموالى، ويقال للمؤمن: هو ولي الله، ولم يرد: مولاه، ويقال: الله ولي المؤمن ومولاه. قوله: (ما روي من قول بعضهم عند نزول الآية)، وهو جابر بن عبد الله، قال: فينا نزلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)، أخرجه البخاري ومسلم. قوله: ما يسرني أنها لم تنزل، أي: ما يسرني عدم نزول الآية، والمفهوم: أن نزولها سره لما حصل لهم الشرف وثبتت الولاية، ودل ذلك على أنه سرتهم تلك الهمة، وأما رواية المصنف: "ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به" فمعناه: أن همتهم سرتهم لما نزل بسببها توقيع الولاية، وفي كلام المصنف إشعار بأن لك الهمة ما كانت عزيمة، وقول ابن عباس مرجوح. وقلت: وكلام ابن عباس رضي الله عنه مبني على التوبيخ كما مر، وينصره قوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يأبى إلا أن يكون تعريضاً وتغليظاً في هذا المقام، وكذا (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مشتمل على تشديد عظيم، يعني: فاتقوا الله في الثبات معه، ولا تضعفوا، فإن نعمته، وهي نعمة الإسلام، لا يقابل شكرها إلا ببذل المهج وبفداء النفس والنصرة له والشهادة في سبيله، فاثبتوا معه لعلكم تدركون شكر هذه النعمة، أو: فاتقوا الله في الثبات معه والنصرة له ليحصل لكم نعمة الظفر، فتشكرونها، فوضع الشكر موضع النعمة إيذاناً بكونها حاصلة، وإليه الإشارة بقوله: "فوضع الشكر موضع الإنعام"، وكل هذه التشديدات لا ترد على حديث النفس. وأما قول جابر: نحن بنو حارثة وبنو سلمة، وامتيازه إياهما عن الغير، فلا يستقيم إلا على العزيمة، وقوله: وما يسرني أنها لم تنزل، إنما يحسن إذا حملت على العزيمة، ليفيد المبالغة، فهو على أسلوب قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) [التوبة: 43].

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) 123 ـ 127] أمرهم بألا يتوكلوا إلا عليه، ولا يفوّضوا أمورهم إلا إليه، ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة. والأذلة: جمع قلة والذُّلان: جمع الكثرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل): عطف على قوله: "أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه"، وفيه إشارة إلى بيان النظم، فإن قوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) تذييل للكلام السابق وتعريض بما صدر عن بعضهم من الفشل والخور؛ لأن قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الآية تذكير للأصحاب قلة صبرهم ومخالفة أمر رسولهم وتركهم المركز، وهو متصل بقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) بدليل قوله في قصة بدر: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) يعني: عليكم بالصبر والتقوى، واذكروا ما جرى عليكم يوم أحد حين عدمتم الصبر والتقوى، وما منحتم يوم بدر حين صبرتم واتقيتم الله من الظفر والنصرة، هذا هو المراد من قوله: "ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل". قوله: (والأذلة: جمع قلة)، قال الزجاج: الأذلة: جمع ذليل، والأصل في فعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء، نحو ظريف وظرفاء وشريك وشركاء، لكن فعلاء اجتنبت في التضعيف، فلو قيل: في جليل وقليل، جللاء وقللاء، لاجتمع حرفان من جنس واحد، فعدل به إلى أفعلة، نحو: جريب وأجربة، وقفيز وأقفزة.

وجاء بجمع القلة؛ ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا. وذلتهم: ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب؛ وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرس واحد. وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوّهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة. وبدر: اسم ماء بين مكة والمدينة، كان لرجل يسمى بدراً؛ فسمي به (فَاتَّقُوا اللَّهَ) في الثبات مع رسوله صلى الله عليه وسلم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. أو لعلكم ينعم اللَّه عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له (إِذْ تَقُولُ) ظرف ل (نصركم)، على أن يقول لهم ذلك يوم بدر، أو بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) على أن يقوله لهم يوم أحد. فإن قلت. كيف يصح أن يقول لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا، حيث خالفوا أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والشكة)، الجوهري: الشكة، بالكسر: السلاح، يقال: رجل شاك السلاح وشاك في السلاح، والشاك السلاح، وهو اللابس التام. قوله: (كيف؟ ) السؤال وارد على أن يكون (إِذْ تَقُولُ) بدلاً، أي: كيف يقول لهم يوم أحد: ألن يكفيكم إمداد ربكم بثلاثة آلاف؟ وأجاب: أن الكلام وارد على الوعد ومقارن بالشرطية، كأنه قيل: ألن يكفيكم ثلاثة آلاف إن صبرتم كما في بدر، بلى يكفيكم الله، إن زدتم على الصبر التقوى يزدكم في الإمداد، نحوه قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة: 112] أي: (بَلَى): رد لقولهم، ثم يقع (مَنْ أَسْلَمَ) كلاماً مبتدأ، ويكون (مَنْ) متضمناً معنى الشرط، وجوابه: (فَلَهُ أَجْرُهُ). قوله: (حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال للرماة، وكانوا خمسين رجلاً: "إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم"، فهزمهم الله، أي: المشركين، فقال الرماة: الغنيمة، ظهر أصحابكم، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين.

فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت؛ وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر اللَّه. ومعنى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ): إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وإنما جيء ب"لن" الذي هو لتأكيد النفي؛ للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوّهم وشوكته كالآيسين من النصر. و (بَلى): إيجاب لما بعد "لن"، بمعنى: بل يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رواه البخاري وأحمد وأبو داود، عن البراء، تخطفنا الطير، أي: تسلبنا وتطير بناء، وهو مبالغة في الهلاك. قوله: (ولو تموا) يقال: تم على الأمر: استمر عليه. قوله: (ومعنى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ): إنكار أن لا يكفيهم)، الكواشي: أدخل همزة الاستفهام على النفي توبيخاً لهم على اعتقادهم أنهم لا ينصرون بهذا العدد، فنقلته إلى إثبات الفعل على ما كان عليه مستقبلاً فقال: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ). قوله: (كالآيسين من النصر)، وذلك أن "لن" فيها معنى رد إنكار منكر، قال: "تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك، قلت: لن أقيم غداً"، نزلهم، لإياسهم من النصر، منزلة المنكرين.

ثم قال (إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) يمددكم بأكثر من ذلك العدد (مسوّمين) للقتال. (وَيَاتُوكُمْ) يعنى: المشركين (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا): من قولك: قفل من غزوته، وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة رضي الله عنه: الأمر على الفور لا على التراخي. وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم قال: (إِنْ تَصْبِرُوا))، ويروى: (وإن تصبروا وتتقوا) بالواو، قيل: أتى بالعاطف مع أنه ليس في التنزيل ليؤذن بأنها مرادة، وإن لم تكن ملفوظة، إذ المعنى: بلى يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف، وإن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بأكثر من ذلك. قلت: هذا غير مرضي، فإن التنزيل إن اقتضى العاطف فلا يجوز تركها، ولكن هذا ابتداء وعد واستئناف كلام آخر وارد على الشرط والجزاء مقيد بقيد الصبر والتقوى والزيادة في المدد وسرعة الظفر، والكلام السابق وارد على الرد على ما اعتقدوه وإنكار أن لا يكفيهم الإمداد بهذا العدد، فيكون كالتوطئة للوعد، ولهذا قال: "ثم قال: إن تصبروا" بـ "ثم" ليدل على أن بين الكلامين تراخياً من حيث المعنى، فإذاً لا مجال لتوسيط الواو. وقال القاضي: (بَلَى): إيجاب لما بعد "لن"، أي: بلى يكفيكم، ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثاً عليهما وتقوية لقلوبهم. تم كلامه. وإذا لم يكن الكلام الأول كالتوطئة لم يصح قوله: "قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم"، وعلى ما قال الزاعم: المعنى: إن لم تصبروا يمددكم بثلاثة آلاف، وإن صبرتم واتقيتم يمددكم بخمسة آلاف. قوله: (قفل) أي: رجع، "ولا تعريج": ولا إقامة، "لا ريث": لا بطء. قوله: (فاستعير للسرعة)، الراغب: الفور: شدة الغليان، ويقال ذلك في النار نفسها

ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث، والمعنى: أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد: أنّ اللَّه يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم. وقرئ (منزلين) بالتشديد. ومنزلين بكسر الزاي، بمعنى: منزلين النصر؛ و (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو وكسرها، بمعنى: معلمين. ومعلمين أنفسهم أو خيلهم. قال الكلبي: معلمين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا هاجت، وفي القدر والغضب، قال تعالى: (وَهِيَ تَفُورُ* تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ) [الملك: 7 ـ 8]، وفلان من الحمى يفور، والفوارة: ما تقذف به القدر من فورانها، وفوارة الماء سميت تشبيهاً بغليان القدر، ويقال: فعلت كذا من فوري، أي: في غليان الحال، وقيل: سكون الأمر، قال تعالى: (وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) [آل عمران: 125]. قوله: (وقرئ: "منزلين" بالتشديد): ابن عامر، والباقون: بالتخفيف، وبالتخفيف مع كسر الزاء: شاذ. قوله: (و (مُسَوِّمِينَ))، أي: وقرئ: (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو: ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، وبفتحها: الباقون. قوله: (الكلبي: معلمين) صح بكسر اللام عن نسخة المصنف.

بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض من نواصي الدواب وأذنابها. وعن مجاهد: مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة: كانوا على خيل بلق. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء، فنزلت الملائكة كذلك، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لأصحابه «تسوّموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت» (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ) الهاء ل (أن يمدكم). أي: وما جعل اللَّه إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة، ولكن ذلك مما يقوي به اللَّه رجاء النصرة والطمع في الرحمة، ويربط به على قلوب المجاهدين الْعَزِيزِ الذي لا يغالب في حكمه (الْحَكِيمِ) الذي يعطى النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم)، في كتاب "الوفا"، عن ابن الجوزي، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك. قوله: (ليهلك طائفة منهم) فسر الطرف بالطائفة، وجعلها من الإشراف بحسب التركيب والمقام، أما التركيب فإن التنكير في (طَرَفاً) للتفخيم، وأما المقام فإن المقطوع طرفهم صناديد قريش، قال في "الأساس": وهو من أطراف العرب، أي: من أشرافها، وأهل بيوتاتها. وقيل: تخصيص ذكر الطرف من حيث إن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته، ولاشك أن يوم بدر هو فتح الفتوح، وفيه فل شوكة المشركين، وطلوع تباشير الظفر للمؤمنين، ومن ثم روي "هذا يوم له ما بعده".

وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم. (أَوْ يَكْبِتَهُمْ): أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة. (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ): غير ظافرين بمبتغاهم، ونحوه (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب: 25] ويقال: كبته بمعنى كبده؛ إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة. وقيل في قول أبى الطيب: لِأَكْبِتَ حَاسِداً وَأرِى عَدُوًّا هو من الكبد والرئة. واللام متعلقة بقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ) أو بقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 128 ـ 129]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأكبت حاسداً وأري عدواً)، تمامه: كأنهما وداعك والرحيل "كأنهما"، أي: الحاسد والعدو، "وأري" بياء خالصة، يريد به الضرب على الرئة، واللام في "لأكبت" متصل بما قبله، وهو: رويدك أيها الملك الجليل ... تأن وعده مما تنيل وجودك بالمقام ولو قليلاً ... فما فيما تجود به قليل أي: أمهل سيرك وأخره واجعل ذلك مما تعطيه، قوله: وجودك، أي: وجد جودك بالمقام، أي: بالإقامة، ولو فعلته قليلاً، ويجوز: ولو جوداً قليلاً، يعني: أن ما كان من جهتك فهو كثير وإن قل، ثم شبه الحاسد والعدو بوداعه وارتحاله، لأنهما ينكيان في قلبه ويوجعانه.

(أَوْ يَتُوبَ) عطف على ما قبله، و (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض، والمعنى: أنّ اللَّه مالك أمرهم، فإما يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل: (أو يَتُوبَ) منصوب بإضمار «أن» و «أن يتوب» في حكم اسم معطوف ب"أو" على (الأمر)، أو على (شيء)، أي: ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عطف على ما قبله) أي: على قوله: (يَكْبِتَهُمْ) أي: ليكبتهم أو يتوب عليهم، و"أو" للتنويع لا للترديد. قوله: (أي: ليس لك من أمرهم شيء)، هذا على تقدير العطف على "الأمر"، فهو من عطف الخاص على العام، أي: أمورهم كلها لله تعالى وليس لك من أمورهم شيء، لا من التوبة ولا من التعذيب. قوله: (أو: ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم)، هذا على تقدير العطف على "شيء"، وهو أيضاً من عطف الخاص على العام، أي: ليس لك من أمورهم شيء: لا أمر التوبة ولا أمر التعذيب، والفرق بين الوجهين: هو أنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلوات الله عليه بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة، وعلى الثاني: سلب نفس التوبة والتعذيب منه، يعني: لا تقدر أن تجبرهم على التوبة ولا أن تمنعهم عنها، ولا تقدر أن تعذبهم ولا أن تعفو عنهم، فإن الأمور كلها بيد الله، والمعنى مع الأول كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يقال: إن التعريف في الأمر للجنس، والمعنى: ليس لك من الأمور الإلهية شيء، وهي إما أن يهلكهم الله في الدنيا، أو يتوب عليهم فيثيبهم في الآخرة ويفلحوا، أو يمهلهم إلى أن يعذبهم فيها، وإنما أنت منذر،

وقيل: (أو) بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب اللَّه عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم. وقيل: شجه عتبة ابن أبى وقاص يوم أحد، وكسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وسالم مولى أبى حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم، فنزلت. وقيل: أراد أن يدعو اللَّه عليهم فنهاه اللَّه تعالى؛ لعلمه أن فيهم من يؤمن. وعن الحسن: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ): بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالما. وإتباعه قوله (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) تفسير بين ل (من يشاء)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب. "أو" للعهد، والإشارة باللام إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ " وسلب الفلاح عنهم يؤذن بالموت على الكفر، وسبب النجاة في الآخرة، وذلك ليس إليك. ويدخل هذا المعنى في الوجه الأول دخولاً أولياً. قوله: (وقيل: شجه)، الحديث من رواية الشيخين والترمذي، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته"، وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟ " فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) الآية. سلت الدم، أي: أماطه. قوله: (وإتباعه) هو مبتدأ مضاف إلى الفاعل، وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) مفعول أول، و (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ): مفعول ثان، وقوله: "تفسير" خبر المبتدأ، يعني: لما ذكر الله تعالى: (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) بعد قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) علم ما المراد بقوله: (مَنْ يَشَاءُ) يعني: (مَنْ يَشَاءُ) في الموضعين مطلق، قيد الأول بالتائبين والثاني بالظالمين. وقلت: هذا لعمري تعويج عن المحجة، وتعريج عن المستقيم، وفسر للقرآن بالرأي، ومفسره داخل تحت وعيد قوله صلوات الله عليه: "من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ". أخرجه الترمذي وأبو داود. والحق الذي لا محيد عنه: أن هذا معاتبة من الله لرسوله صلوات الله عليه على تعجيله في القول برفع الفلاح عن القوم يوم أحد، كما أن قوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) معاتبة على أصحابه رضوان الله عليهم، وتعيير لهم بالفشل، ويدل على أن هذا معاتبة ما روينا أنه قال حين كسر رباعيته وشج في وجهه: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ " أي: لن يفلحوا أبداً، فرد بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)، كيف تستبعد الفلاح وبيد الله أزمة أمور ما في السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؟ وليس لك من الأمر إلا التفويض والرضا بما قضى، فهؤلاء إن استوجبوا العذاب بما فعلوا بك فبمشيئة الله لا بمشيئتك، وإن استحقوا الغفران بأن يتوب عليهم فبإرادته سبحانه وتعالى لا بإرادتك، فقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) تأكيد لقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) وتذييل له، وقوله: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) تقرير معنى التذييل على سبيل الاستئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، فالغفران والتعذيب عامان لا يخصصان. نعم، يدخل هؤلاء فيه دخولاً أولياً، وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تتميم مناد على أن جانب الرحمة راجح على جانب العذاب، وفي قوله: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) تتميم لأمر التعذيب وإدماج لرجحان المغفرة، يعني: سبب التعذيب كونهم ظالمين، وإلا فالرحمة مقتضية للغفران، انظر إلى

وأنهم المتوب عليهم، أو الظالمون، ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات اللَّه فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون على ابن عباس من قولهم: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *) 130 ـ 132]. (لا تَاكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً): نهى عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه؛ كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل؛ فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا النظم الأنيق والترتيب السوي، وأعجب بمن يفككه بالتقديم والتأخير ويقول: "يتصامون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء" عفا الله عنه. قال القاضي: قوله: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) صريح في نفي وجوب التعذيب، والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له، والله غفور رحيم لعباده، فلا تبادر إلى الدعاء عليهم. قوله: (نهي عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه) الباء: صلة "توبيخ"، أي: وبخهم به، يريد أن قوله: (أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) قيد للنهي بحسب ما كانوا عليه، لا للنهي مطلقاً، ليستدل بالمفهوم على أن الربا بدون القيد جائز، ولهذا قال: "كان الرجل منهم إذا بلغ الدين .. " إلى آخره، نهاهم أولاً عن الربا، ثم وبخهم على التضعيف، ثم نعى عليهم بالمضاعفة، فدل على النعي بالتنكير في توبيخ. قال مكي: (أَضْعَافاً): حال، أي: مضاعفاً، و (مُضَاعَفَةً): نعته.

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) كان أبو حنيفة رحمه اللَّه، يقول: هي أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد اللَّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وقد أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله. ومن تأمّل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على اللَّه تعالى، وفي ذكره تعالى «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع ـ وإن قال الناس ما قالوا ـ ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا اللَّه، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: هي أخوف آية في القرآن)، يعني: كان من مقتضى الظاهر أن يقال: واتقوا النار التي أعدت لآكلي الربا، فوضع موضعه (لِلْكَافِرِينَ) تغليظاً على المؤمنين، أي: هذه الصفة مؤدية إلى الكفر لأنها مما لا يكتسي بها إلا الكافرون، أو تعريضاً بهم، أي: هذه الصفة من صفات الكافرين فلا تتصفوا بها. قال القاضي في قوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ): تنبيه على أن النار بالذات معدة للكفار وبالعرض للعصاة. قوله: (وقد أمد ذلك بما أتبعه) أي: أتبعه إياه، فحذف المفعول الثاني، وهو عائد إلى ذلك، يريد أن قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تتميم لذلك المعنى ومبالغة فيه؛ لأن (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) مطلق صالح لكل ما يسمى طاعة، نحو: فلان يعطي ويمنع إما بإجراء المتعدي مجرى اللازم، وإما بحذف المفاعيل، أي: لم يقل في أي شيء أطاعوهما لئلا يقتصر على المذكور، وإليه الإشارة بقوله: "بتوفرهم على طاعته". قوله: (وفي ذكره تعالى) خبر، والمبتدأ: "ما لا يخفى"، وقوله: "وإن قال الناس ما قالوا" اعتراض، وفي كلامه تعصب لمذهبه، فيقال: ما المانع عن حمل "لعل" على القطع مجازاً كما

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) 133 ـ 137] في مصاحف أهل المدينة والشام (سارعوا) بغير واو. وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبىّ وعبد اللَّه: (وسابقوا). ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي: عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد: 21] والمراد وصفها بالسعة والبسطة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكرت في أول "البقرة"؟ فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: عسى ولعل، فإذا عثروا على ذلك لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب، سيما وقد عقب بالترغيب البليغ، وهو: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) الآيات. قوله: ("سارعوا" بغير واو): نافع وابن عامر، قلت: الفصل للاستئناف، كأنه قيل: كيف نطيعهما؟ فقيل: سارعوا إلى ما تستحق به المغفرة بالإسلام والتوبة والإخلاص، وكل ما يتقرب به إلى جنة هذه صفتها، والوصل على أنه عطف تفسيري.

فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه. وخص العرض؛ لأنه في العادة أدنى من الطول؛ للمبالغة، كقوله: (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن: 54]. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه: كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ): في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليلـ كما يحكي عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أنها تصدّقت بحبة عنبـ أو في جميع الأحوال؛ لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف. وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان، وافتتح بذكر الإنفاق؛ لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص؛ ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال؛ للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها، وكظم البعير: إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم» من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللَّه قلبه أمنا وإيماناً» وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أن خادماً لها غاظها فقالت: للَّه درّ التقوى، ما تركت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بأوسع ما علمه الناس): تنبيه أن ذلك مما لا يقاس بشيء، ولكن ذهب فيه إلى المذهب المتعارف، على نحو قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) [هود: 107]. قوله: (كقوله تعالى: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن: 54]) قال: من ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من الإستبرق فما ظنك بالظهائر؟ قوله: (إذا لم يجتر)، الجوهري: اجتر البعير: من الجرة، وكل ذي كرش مجتر. قوله: (من كظم غيظاً)، الحديث من رواية الترمذي وأبي داود وابن ماجة، عن سهل ابن سعد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله

لذي غيظ شفاء. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. وروي «ينادى مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على اللَّه فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل، فخلاه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إن هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم اللَّه، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ): يجوز أن تكون اللام للجنس؛ فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورين. وأن تكون للعهد؛ فتكون إشارة إلى هؤلاء (وَالَّذِينَ): عطف على المتقين، أي: أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله: (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون (والذين) مبتدأ خبره (أولئك) (فاحِشَةً) فعلة متزايدة القبح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء". النهاية: كظم الغيظ: تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه. قوله: (لذي غيظ شفاء) جعلت رضي الله عنها الانتقام شفاء للغيظ تنبيهاً على أن الغيظ مرض، لأنه عرض نفساني يجده الإنسان عند غليان دم قلبه، تريد أن المتقي إذا كظم غيظه لا يمرض قلبه فلا يحتاج على التشفي، أي: لا غيظ له حتى يتشفى بالانتقام، كقوله تعالى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) [البقرة: 273]. قوله: ((وَالَّذِينَ) مبتدأ)، قال أبو البقاء: (الَّذِينَ): مبتدأ، و (أُوْلَئِكَ): مبتدأ ثان، و (جَزَاؤُهُمْ): ثالث و (مَغْفِرَةٍ): خبر الثالث، والجميع خبر (الَّذِينَ)، و (ذَكَرُوا): جواب (إِذَا)، و (مَن): مبتدأ و (يَغْفِرُ): خبره، و (إِلاَّ اللَّهُ) فاعل (يَغْفِرُ) أو: بدل من المضمر فيه، وهو الوجه، لأنك إذا جعلت (اللَّهُ) فاعلاً احتجت إلى تقدير ضمير، وقال القاضي: (مَن) استفهام بمعنى النفي.

(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): أي: أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة: الزنا، وظلم النفس: ما دونه؛ من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل: الفاحشة: الكبيرة. وظلم النفس: الصغيرة (ذَكَرُوا اللَّهَ): تذكروا عقابه، أو وعيده، أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ): فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجلاله الموجب للخشية والحياء منه)، وأحسن منه قول السجاوندي رحمه الله: (ذَكَرُوا اللَّهَ): ذكروا جماله فاستحيوا، أو جلاله فهابوا، وأنشدوا: أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله قوله: ((وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) وصف لذاته بسعة الرحمة)، اعلم أن المصنف سلك بهذا التركيب في هذا المقام مسلكاً عجيباً، وخرج به تخريجاً غريباً قلما تذهب إليه الأذهان إلا من ريض نفسه في علم البيان وتمرن في الأصول، فنقول: المصنف ساق كلامه أولاً في بيان ما يقتضي التركيب من الخواص بدلالة عبارته من جهة المولى، ثم ثنى إلى بيان ما يقتضيه بدلالة إشارته من جهة العبد، أما الأول فعلى وجوه: أحدها: دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه هذا المقام من معنى الغفران الواسع، وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار، بأن لم يقل: وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له، كأنه قيل: هل تعرفون أحداً يقدر على عفو الذنوب كلها صغيرها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكبيرها، سالفها وغابرها، غير من وسعت رحمته كل شيء؟ وفي نقيضه قال صاحب "المفتاح": في قراءة (من فرعون) على الاستفهام: من فرعون، هل تعرفون من هو في فرط عتوه وشدة شكيمته وتفرعنه، ما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله؟ . ويعضد ما قلناه قوله في آخر هذه السورة في قوله: (لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران: 158]: "لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون". وثانيها: تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره، فإنه اعترض بين المبتدأ والخبر ثم بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: فاستغفروا، ولم يصروا، للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كما وجد الاستغفار لم يتخلف عنه الغفران، وهو المراد بقوله: "وقرب المغفرة". وثالثها: الإتيان بالجمع المحلى بلام التعريف إعلاماً بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له. ورابعها: دلالة الحصر بالنفي والإثبات على أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وذلك أن من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرماً وفضلاً. وخامسها: إسناد غفران الذنوب إلى نفسه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار، وتنصل عبيده يدل على وجود ذلك قطعاً إما بحسب الوعد عندنا أو العدل عندهم، وفي ذكر العدل بعد الفضل لطيفة، وأما النظر من جهة العبد باعتبار دلالة إشارة النص، وهو المراد بقوله: "وفيه تطييب النفوس"، إلى آخره، ففيه وجوه أيضاً. أحدها: أن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييباً للنفوس. وثانيها: أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة

لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه؛ وجب العفو والتجاوز. وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتحرك نشاطه ويهز عطفه فلا يتقاعد عنها، ومن ثم لم تمكث توبة وحشي رضي الله عنه عند سماع (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر: 53] وإليه الإشارة بقوله: "وبعث عليها". وثالثها: أن في ضمن معنى الاستغراق قلع الإياس والقنوط، ولهذا علل سبحانه وتعالى النهي عن الإقناط في قوله: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً). ورابعها: أطلقت الذنوب وعممت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس، وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران، وأن الذنوب وإن جلت فعفوه أعظم. وخامسها: أن الاسم الجامع في تركيب قوله: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضاً مع شهادة أداة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزاً ليس أحد فوقه ليرد عليه حكمه، وكونه حكيماً يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه على رأي المصنف، وإليه ينظر قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، قال المصنف: " (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القوي القادر على الثواب والعقاب (الْحَكِيمُ) الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب". قوله: (والتنصل)، الجوهري: التنصل: التبرؤ من الذنب، يقال: تنصل فلان من ذنبه: إذا تبرأ منه.

وردع عن اليأس والقنوط؛ وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم، والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة. وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه (وَلَمْ يُصِرُّوا) ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (وهُمْ يَعْلَمُونَ): حال من فعل الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها والوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غير مستغفرين) هو حال من الضمير في (يُقِيمُوا)، والجملة تفسير لقوله: (وَلَمْ يُصِرُّوا). قوله: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة) أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إلا أن أبا داود قال: "ولو فعله"، والترمذي: "ولو عاد". قوله: (وحرف النفي منصب عليهما معاً) يريد أن هؤلاء المستغفرين إذا صدر عنهم ذنب في أثناء توبتهم تداركوا بالاستغفار، وإن صدر عن السهو والغفلة لا يضرهم ولا يخرجهم عن حكم قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ)؛ لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح، وفيه أن من أصر على الذنوب وهو عالم بها ولا يتلافى بالاستغفار خارج من هذا الوعد، وإليه الإشارة بقوله: "وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين". وقال الإمام: يجوز أن يكون المراد من قوله: (يَعْلَمُونَ) العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز من الفواحش، فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث".

وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون، وتائبون، ومصرّون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرّين، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد كابر عقله، وعاند ربه)، قال صاحب "الفرائد": دلت الآية على أن غير المصر يجب في الحكمة أن تغفر ذنوبه ويدخل الجنة، وأما المصر فالآية تدل على أن لا تغفر ذنوبه ولا يدخل الجنة، ومن عدم الدليل لا يلزم عدم المدلول، أراد بهذا إثبات مذهبه الذي هو أن العاصي المصر يبقى في النار خالداً، من غير دليل، فالمكابرة والمعاندة من جانبه، وقال القاضي: ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاءً لهم أن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم. وقلتـ والله أعلمـ: قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمران: 131 ـ 132] خطاب لآكلي الربا من المؤمنين ردعاً لهم عن الإصرار إلى ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين، وتحريضاً على التوبة والمسارعة إلى نيل درجات الفائزين من المتقين والتائبين، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى؛ لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر وترهيب، وكان أصل الكلام أن يقال: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وارغبوا في الجنة التي أعدت للمتقين، فبين بالآيات معنى المتقين للترهيب والترغيب، ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثاً لهم في الانخراط في سلكهم، ولابد من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفاً بهؤلاء، وجميع الفوائد التي ذكرها في قوله: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) تدخل في المعنى، فعلم من هذا أن دلالة مفهوم قوله: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ كما قالـ مهجور؛ لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين، والله أعلم.

قال (أَجْرُ الْعامِلِينَ) بعد قوله: (جَزاؤُهُمْ)؛ [آل عمران: 87] لأنهما في معنى واحد، وإنما خالف بين اللفظين؛ لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون. وروى أنّ اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: «ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟ ! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا كما يقول المبطلون)، قال صاحب "الفرائد": هذا مآل مذهبه، وهو أن الجزاء واجب على الله تعالى من غير دليل؛ لأن الآية إنما تدل على أن العاملين يجازون بعملهم، فأما الوجوب على الله فغير مستفاد منها أصلاً، وقال القاضي: كفاك فارقاً بين القبيلين أنه فصل آيتهم، أي: قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) بأن بين أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله لأنهم حافظوا على حدود الشرع وتخطوا إلى التخصيص بمكارمه، وفصل آية هؤلاءـ أي: الذين إذا فعلوا فاحشةـ بقوله: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 136]؛ لأن المتدارك للتقصير كالعامل لتحصيل ما فوت على نفسه، وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة. وقلت: مآل كلام القاضي أن اختصاص ذكر الأجر لمقتضى المقام وإلا فلم خولف بين الجزاءين والمتقون أيضاً عاملون؟ ثم في قوله: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) وجوه من المحسنات، أحدها: أنها كالتذييل للكلام السابق فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد، وثانيها: في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء، وحذف ضمير الجزاء لأن الأصل: ونعم جزاؤهم هو إيجاب إنجاز هذا الوعد، وتصوير صورة العمل والعمالة تنشيطاً للعامل، وثالثها: في تعميم (الْعَامِلِينَ) وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني.

وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن: يقول اللَّه تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد: تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إنّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِى عَلَى اليَبَسِ والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، يعنى المغفرة والجنات. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يريد ما سنه اللَّه في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب: 61 - 62]، (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً*سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) [الفتح: 22 - 23]. (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 138 ـ 139]. (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ): إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شهر بن حوشب)، في "الجامع": هو تابعي شامي سكن البصرة. قوله: (ترجو النجاة) البيت قبله: ما بال نفسك ترضى أن تدنسها ... وثوب نفسك مغسول من الدنس أي: ما بالك ترضى بدنس نفسك ولا ترضى بدنس ثوبك؟ ومنه ما روي: عبدي، طهرت منظر الخلق سنين، وما طهرت منظري ساعة.

يعني: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يعنى: أنه مع كونه بيانا وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم)، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن تلك الآيات واردة في الترهيب والترغيب لآكلي الربا، لأن المخاطبين بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) هم الذين سبق خطابهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا)، وذلك أنه تعالى بعد ما حذرهم عن النار المعدة للكافرين، وأمرهم بالمسارعة إلى نيل درجات الفائزين، بين لهم سوء عاقبة من كذب الأنبياء في ترهيبهم وترغيبهم، أي: إنذارهم وبشارتهم؛ لأنهم ما بعثوا إلا لهما، فعلى هذا قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) إشارة إلى ما لخص للمخاطبين من الترهيب والترغيب والبحث، وقوله: (قَدْ خَلَتْ) إلى قوله: (وَلا تَهِنُوا) كالتخلص من قصة آكلي الربا التي استطردت لذكر المحاربة إلى ما أجرى الكلام له من مجاهدة الكفار، وهذا أولى من جعلها معترضة؛ لأنها توجب أن تجعل الآيات كلها موافقة لها، لأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه بأن يقال: إن تلك الآيات دلت على الترهيب والترغيب، وهذه الآية دلت على الترهيب، ومعنى الترهيب راجع إلى الترغيب بحسب التضاد، كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعد من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي، وذلك تعسف. قوله: (مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين) إشارة إلى أن المراد بالناس: المكذبون المخاطبون بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ)، لا الذين سبق ذكرهم، والأولى أن يراد به الجنس، أي: بيان لجميع الناس، لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه.

ويجوز أن يكون قوله: (قَدْ خَلَتْ) جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين، ويكون قوله: (هذا بَيانٌ) إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين. (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا): تسلية من اللَّه سبحانه لرسوله صلى اللَّه عليه وسلم وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد، وتقوية من قلوبهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد)، هذا يؤذن أن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) إلى آخر الآيات مستطردة بين القصة، وسلوك طريقة النظم فيها صعب، ولهذا قال الإمام: من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمته على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي، والترغيب والتحذير، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا)، فعلى هذا تكون الآية ابتداء كلام لا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال: يحتمل أن يكون متصلاً بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوا على العساكر فيتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم الله تعالى عن ذلك؟ . والذي نقولـ والعلم عند اللهـ: إنه تعالى لما عاتب رسوله صلوات الله عليه بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أتبعه قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً) بمعنى أنك ما بعثت أن تتصرف في الأمور الإلهية كما سبق في موضعه، ولكنك عبد مبعوث للإنذار والبشارة، وهؤلاء الكفار أمرهم في التوبة أو التعذيب إلى مالكهم، وما كان عليك سوى الإنذار، فقد أنذرتهم وبذلت وسعك فيه، ففوض أمورهم إلى الله: إن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم، وانثن بالإنذار إلى أصحابك

يعني: ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، أي: لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا، ولا تبالوا به، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب؛ لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو: وأنتم الأعلون شأنا؛ لأنّ قتالكم للَّه ولإعلاء كلمته، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر؛ ولأنّ قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار. أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة، أي: وأنتم الأعلون في العاقبةَ، (إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات: 173]، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالنهي، يعني: ولا تهنوا إن صح إيمانكم، على أن صحة الإيمان توجب قوة القلب، والثقة بصنع اللَّه، وقلة المبالاة بأعدائه؛ أو ب (الأعلون)، أي: إن كنتم مصدّقين بما يعدكم اللَّه ويبشركم به من الغلبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أمر عظيم ارتكبوه وهو محاربتهم مع الله في أمر الربا، قال الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279]، فأرهبهم بالنار ليحترزوا عن الربا، ورغبهم في الجنة وأمرهم بالاعتبار والنظر في عاقبة المكذبين، وبين لهم البيان الشافي، ثم مع ذلك كله لا يكن منك ولا من أصحابكم ضعف ووهن في الجهاد، ولا يورثنكم ما أصابكم حزناً في هذه الوقعة؛ لأن حالكم أعلى من حال الكفرة، لأن قتالكم: لله ولإعلاء كلمته، وقتالهم: للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر، والله أعلم. قوله: ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ): متعلق بالنهي) أي: تتميم له كالتعليل، لأن الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصحابة الكرام تسلية لما أصابهم يوم أحد، فلا جائز أن يجري على حقيقة الشرط. قال المصنف في قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) إلى قوله: (إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً) [الممتحنة: 1]: " (إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق بـ (لا تَتَّخِذُوا) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي"، أيك لأجل أنكم أوليائي"، إذ المجاهد من الصحابة لا يكون إلا ولياً، ثم قال: "وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف". وسيجيء الكلام فيه في "الممتحنة" مستقصى إن شاء الله تعالى.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) 140 ـ 141]. قرئ: (قرح) بفتح القاف وضمها، وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح: الجراح، وبالضم ألمها. وقرأ أبو السمال (قرح) بفتحتين. وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد. والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال، فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه (فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَما تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء: 104] وقيل: كان ذلك يوم أحد، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: كيف قيل (قَرْحٌ مِثْلُهُ) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت: بلى كان مثله، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ). [آل عمران: 152] (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) تلك مبتدأ، و (الأيام) صفته. و (نُداوِلُها) خبره، ويجوز أن يكون (تِلْكَ الْأَيَّامُ) مبتدأ وخبراً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (قَرْحٌ)) بضم القاف: حمزة والكسائي وأبو عمرو، وبفتحها: الباقون. قوله: (هو بالفتح: الجراح)، الجوهري: الجراح: جمع جراحة بالكسر. قوله: (فكيف قيل: (قَرْحٌ مِثْلُهُ)؟ )، هذا السؤال وارد على أن ذلك جرى يوم أحد.

كما تقول: هي الأيام تبلي كل جديد. والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة. (نداولها): نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كقوله، وهو من أبيات "الكتاب": فَيَوْماً عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا وَيَوْماً نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي الأيام) قيل: هي: ضمير مبهم فسر بقوله: الأيام، ومثله: ربه رجلاً، وليس ضمير الشأن قال أبو البقاء: (تِلْكَ): مبتدأ، و (الأَيَّامُ): خبره، و (نُدَاوِلُهَا): حال، والعامل فيها معنى الإشارة، ويجوز أن تكون (الأَيَّامُ) بدلاً أو عطف بيان، و (نُدَاوِلُهَا): الخبر. والمبتدأ والخبر، هو الوجه، فتلك إشارة إلى شيء مبهم لا يدرى ما هو؟ فيفسر بالأيام، وقريب منه قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78]. قال المصنف: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده، وأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك. قوله: (نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء)، الراغب: الدَّولة والدُّولة واحدة، وقيل: الدولة بالضم: في المال، وبالفتح: في الحرب والجاه، وقيل: الضم: اسم الشيء الذي يتداول بعينه، قال تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7]، والفتح: المصدر، يقال: تداول القوم كذا، أي: تناولوه من حيث الدولة. قوله: (فيوماً علينا) البيت، وقبله: فلا وأبي الناس لا يعلمون ... فلا الخير خير ولا الشر شر

ومن أمثال العرب: "الحرب سجال". وعن أبى سفيان: أنه صعد الجبل يوم أحد، فمكث ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول، والحرب سجال. فقال عمر رضي اللَّه عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذا وخسرنا. والمداولة مثل المعاورة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نساء: من سيء فلان: أصيب بسوء، أي: حزن، ومنه قوله تعالى: (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك: 27] ولا: لتأكيد القسم، أي: أقسم بأبي البشر، وهو آدم عليه السلام. قوله: (الحرب سجال)، قالا لميداني: المساجلة إنما تكون من جري أو سقي، وأصله من السجل: الدلو فيها ماء قل أو كثر، ولا يقال لها ذلك وهي فارغة، وقال أبو سفيان يوم أحد بعدما وقعت الهزيمة على المسلمين: يوم بيوم، والحرب سجال، والحديث على غير ما رواه المصنف في "صحيح البخاري"، و"مسند أحمد بن حنبل"، و"سنن أبي داود"، عن البراء بن عازب. قوله: (ابن أبي كبشة)، النهاية: كان المشركون ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي كبشة، وهو رجل من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان، شبهوه به، وقيل: إنه كان جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، فأرادوا أنه نزع في الشبه إليه. قوله: (فقد خبنا إذاً وخسرنا): تهكم منه. قوله: (والمداولة مثل المعاورة)، النهاية: يقال: تعاور القوم فلاناً: إذا تعاونوا عليه بالضرب واحداً بعد واحد.

وقال: يَرِدُ المِيَاهَ فَلَا يَزَالُ مُدَاوِلا فِي النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّلٍ وَسَمَاعِ يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعلل محذوفًا، معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فاللَّه عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرد المياه)، قبله: فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني محبرة إلى القعقاع محبرة، أي: قصيدة حسنة غراء، ومعناه: لأهدين إلى هذا الرجل قصيدة غراء متداولة بين الناس يتمثلون بها وينشدونها في القبائل، ولأنهم كانوا ينزلون عند المياه قال: يرد المياه، وفي المثل: أسير من شعر، لأنه يرد الأخبية ويلج الأندية. قوله: (وإلا فالله عز وجل لم يزل عالماً) أي: الواجب أن يحمل على التمثيل، فإنه عن لم يحمل عليه يلزم ذلك المحذور، وذلك باطل؛ لأن الله عز وجل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها، فالفاء فصيحة. قوله: (وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء)، قال الزجاج: المعنى: ليقع ما علمناه غيباً مشاهدة للناس ويقع منكم، وإنما تقع المجازاة على ما علمه الله من الخلق وقوعاً، لا على ما لم يقع، وقال أيضاً في قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ) [آل عمران: 154]

وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات. والثاني أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، (وليعلم اللَّه). وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة؛ ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أنّ للَّه في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ): وليكرم ناسا منكم بالشهادة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ليختبره بأعمالكم؛ لأنه قد علمه غيباً فيعلمه شهادة، لأن المجازاة تقع على ما علم مشاهدة، أعني: على ما وقع من عامليه، لا على ما هو معلوم منهم. قوله: (موجوداً منهم الثبات) الثبات: مفعول أقيم مقام الفاعل، لقوله: "موجوداً". قوله: (وفعلنا ذلك) "ذلك": إشارة إلى قوله: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) [آل عمران: 140]، فالمعلل مذكور، وإحدى العلل محذوفة على عكس الأول، وفائدة الحذف: التعميم. فإن قلت: فلم قدر المعلل في الوجه الأول متأخراً؟ قلت: ليفيد ضرباً من التخصيص، أي: ما فعلت تلك المداولة إلا لمثل هذه الأغراض، فإن أفعال الله عندهم معللة بالغرض، وعند أهل السنة هذا من باب التمثيل. قوله: (وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت)، أي: سلطناهم عليكم لرفع درجاتكم، ولأن الأيام دول ولاستدراجهم ونحوها، وليتميز الثابتون عن المتزلزلين. قوله: (للإيذان بأن المصلحة): تعليل للحذف، وقوله: "ليسليهم": تعليل لمضمون الجملة، وهو الحذف للإيذان. قوله: (وليكرم ناساً منكم بالشهادة) كنى بالاتخاذ عن الإكرام؛ لأن من يتخذ شيئاً يتخذه لينتفع به أو يتزين به، كقوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 41]؛ لأن الشهيد مقرب حاضر في حظيرة القدس.

يريد المستشهدين يوم أحد. أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم من الشدائد، من قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: واللَّه لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين في سبيل اللَّه، الممحصين من الذنوب. والتمحيص: التطهير والتصفية. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ويهلكهم، يعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]) يريد أن قوله: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) من باب قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وذلك أن قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) علة لقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، ولا تكونون وسطاً، أي: خياراً، حتى تكونوا أصحاب عزم وصبر كما قال ها هنا بما يبتلي به صبركم من الشدائد. قوله: (فللتمييز والاستشهاد والتمحيص) يفهم منه أن المعطوفات سوى (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، فإنهـ كما قالـ اعتراض منسوق بعضها على بعض على نسق واحد، وقد ذهب إلى أن "ليعلم" معلله مقدر، والنظم يستدعي أن يكون قوله: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) مع معطوفه "عطفاً على "ليعلم" مع معطوفه على طريقة قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ). قال المصنف: بعض الواوات ضمت شفعاً إلى شفع [و] وتراً إلى وتر، لذل كرر حرف التعليل؛ دلالة على الاستقلال، وأعيد (الَّذِينَ آمَنُوا) ليعلق به تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين بعدما علق به تمييز المؤمنين واستشهادهم وبغض الظالمين، وأن يكون قوله: (وَلِيَعْلَمَ) عطفاً من حيث المعنى على قوله تعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)؛ لأنه تذييل لقوله: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) على نحو قولهم: حدثت الحوادث، والحوادث جمة، وفيه شائبة من التعليل لمقام التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم عما أصيبوا يوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحد، يعني: لا يكن في صدوركم حرج مما أصبتم؛ فإن ذلك شأننا وسنتنا في الأولين من الأنبياء السالفة والأمم الخالية، فلكم فيهم أسوة حسنة؛ وليتميز الثابت على الإيمان ممن نكص على عقبيه؛ ولتصفية المؤمنين وتطهيرهم مما آثروا عرض الدنيا على الآخرة، حيث أخذوا الفدية من أسارى بدر وتركوا أئمة الكفر أحياء؛ وأن الله تعالى يريد أن يحق الحق ويمحق الباطل باستئصالهم، فقوله ها هنا في معنى التمييز، كما في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) الآية؛ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. فإن قلت: على ما ذكرت ما معنى عطف قوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ) على "يعلم"؟ وكيف عطل (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) على (وَيَتَّخِذَ) مع اختلافهما: فعلية واسمية؟ قلت: (وَيَتَّخِذَ) مع معطوفه عطف على "يعلم" عطف المفصل على المجمل، كما عطف قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) الآية [البقرة: 74]، على قوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)؛ بياناً له، وإنما حسن عطف الاسمية على الفعلية؛ لما يراد من الأولى: التجدد، ومن الثانية: الاستمرار، كأنه قيل: ليحدث بذلك التمييز كرامة أوليائه الذين ثبتوا بالشهادة ويستمر على المتزلزلين بغضه، ففيه معنى التصديق، كأنه قيل: إن الله يحب الثابتين على الإيمان الذين عرج بهم على منازل الصديقين والشهداء، ولا يحب المتزلزلين الذين ظلموا على أنفسهم بالنكوص على أعقابهم، على ما تقرر في قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [الروم: 45] أنه من باب الطرد والعكس، وعلى هذه الوتيرة وردت القرينة اللاحقة. قال الإمام: قوبل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة لطيفة. انتهى كلامه. فقد تبين من هذا التقرير أن الواو في (وَتِلْكَ الأَيَّامُ) استئنافية، وفي (وَلِيَعْلَمَ) عطف معنوي، وفي (وَيَتَّخِذَ) بياني، وفي (وَلِيُمَحِّصَ) عطف شفع على شفع، وفي (والله لا يحب)، (وَيَمْحَقَ) عطف وتر على وتر، والله أعلم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) 142] (أَمْ) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ) يعني ولما تجاهدوا؛ لأنّ العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة؛ لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم اللَّه في فلان خيراً، يريد: ما فيه خير حتى يعلمه. و"لما" بمعنى "لم"، إلا أن فيها ضربا من التوقع فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما، تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه)، وهو نوع من الكناية، أي: حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم مجاهدة قط، ودخل فيه من جاهد بسيفه ويده ولسانه، وبيان الكناية أن كل معلوم يقتضي علماً من الله تعالى البتة، فإذا نفى العلم ينتفي المعلوم لا محالة، قال القاضي: والقصد في أمثاله ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه، بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان. الانتصاف: التعبير عن نفي العلم خاص بعلم الله، إذ يلزم من عدم تعلقه بوجود شيء إعدام ذلك الشيء، ولا كذلك علم المخلوقين، فلا يعبر عنه بذلك لعدم اللزوم، فظهر من كلام الزمخشري جواز ذلك مطلقاً؛ لأنه قال في قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]: عبر عن نفي المعلوم بنفي العلم؛ لأنه من عناده أراد أن علمه لا يعزب عنه شيء، وفيه نظر. قوله: (و"لما" بمعنى "لم"، إلا أن فيه ضرباً من التوقع)، قال الزجاج: فإذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه: لما يفعل، وإذا قيل: فعل فلان، فجوابه: لم يفعل، وإذا قيل: لقد فعل،

وقرئ: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ) بفتح الميم. وقيل أراد النون الخفيفة: و"لما يعلمن" فحذفها. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار "أن" والواو بمعنى الجمع، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فجوابه: ما فعل، كأنه قال: والله لقد فعل، فقال المجيب: والله ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل، يريد ما يستقبل، فجوابه: لا يفعل. وإذا قيل: سيفعل، فجوابه: لن يفعل. قوله: (وقيل: أراد النون الخفيفة، أي: ولما يعلمن، فحذفها)، قيل: مثاله قول الشاعر: إذا قال: قدني قال: بالله حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا على رواية فتح اللام والياء في لتغني، وقيل: الرواية الصحيحة بكسر اللام، إذ لا تحذف النون الخفيفة من مثله إلا بشرط ملاقاة الساكن، والصواب جوازه من غير الشرط. قال: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس أصله: "اضربن" فحذفت النون الخفيفة وأبقيت فتحة الباء. قوله: (كقوله: لا تأكل السمك وتشرب اللبن)، قال أبو البقاء: والتقدير: أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ويقرب عليك هذا المعنى أنك لو قدرت الواو بمعنى "مع".

وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو (ويعلم) بالرفع على أنّ الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون. (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) 143]. (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته. (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، أي: رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت: كيف يجوز تمنى الشهادة، وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهله إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ اللَّه وتنفيقاً لصناعته. ولقد قال عبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه عنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: رأيتموه معاينين مشاهدين)، ونحوه قوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25] في كونه حالاً مؤكدة. قال الزجاج: المعنى: فقد رأيتموه وأنتم بصراء، كما تقول: قد رأيت كذا وليس في عينيك علة، أي: قد رأيته رؤية حقيقية، ففيه توكيد.

حين نهض إلى مؤتة، وقيل له ردكم اللَّه: لكِنَّنِى أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا أو طَعْنَةً بِيَدَىْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِى ... أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدَا (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) 144]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مؤتة) بالهمزة: موضع قتل فيها جعفر بن أبي طالب. النهاية: هي موضع من بلد الشام، مهموز. الاستيعاب: كانت هذه الغزوة في سنة ثمان من الهجرة. قوله: (ردكم الله) أي: ردكم الله سالمين إلى أهلكم. قوله: (ذات فرغ) أي: واسعة، تقذف الزبد، أي: الدم الذي له زبد من كثرته، الحران: العطشان، والحران: ذو الحرقة، مجهزة: صفة طعنة، أي: مسرعة القتل، والمجهز هو: الذي يكون به رمق، جهزت عليه: إذا أسرعت قتله. الأبيات مذكورة في "الاستيعاب"، ومعنى قوله: حتى يقولوا إذا مروا: ليس للرياء والسمعة، كما جاء في الحديث الصحيح: "قاتلت حتى قيل: جريء"، فإن ساحته بريئة منها، بل قاله ليتأسى به ويقتفى أثره.

لما رمى عبد اللَّه بن قمئة الحارثي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته، وشج وجهه، أقبل يريد قتله، فذب عنه صلى اللَّه عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمداً. وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل. وقيل: كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤوا، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يدعو: «إليّ عباد اللَّه» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول اللَّه، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين؛ فنزلت. وروي: أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد اللَّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ: يا قوم، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حيٌ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه؛ ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما رمى عبد الله بن قمئة) مخالف لما سبق عند قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)، فإنه ذكر أنه عتبة بن أبي وقاص، وهذا الذي ذكره ها هنا أصح لما جاء في كتاب "الوفا" لابن الجوزي أنه ابن قمئة. قوله: (ثم شد بسيفه) أي: حمل وصال، الراغب: الشد: العقد القوي، شددت الشيء: قويت عقده، قال تعالى: (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) [الإنسان: 28]، وشد فلان واشتد: إذا أسرع،

وعن بعض المهاجرين: أنه مرّ بأنصاري يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل، فقال: إن كان قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم. والمعنى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه؛ لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه (أَفَإِينْ ماتَ): الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب) أي: قوله: "فإن مات" مسبب عن جملة قوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ) وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة (رَسُولٌ)، فدخلت همزة الإنكار بين المسبب والسبب لإعطاء مزيد الإنكار الذي يتضمنه قوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، وذلك أن التركيب من باب القصر القلبي، لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمداً صلوات الله عليه ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم، بل حكمه على خلاف حكمهم، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكمه حكم من سبق من الأنبياء في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه، ثم عقب الإنكار بقوله: "فإن مات"، وادخل الهمزة لمزيد ذلك الإنكار، يعني: إذا علم أن أمره أمر الأنبياء السالفة فلم عكستم الأمر؟ فإن لم يجعل ذلك العلم سبباً للثبات فلا أقل من أن لا يجعل سبباً للانقلاب، وإليه الإشارة بقوله: "يجب أن يكون سبباً للتمسك لا للانقلاب". وقال الزجاج: ألف الاستفهام دخلت على حرف الشرط، وفي الحقيقة داخلة على الجزاء، كما أنك إذا قلت: هل زيد قائم؟ فإنما تستفهم عن قيامه إلا أنك أدخلت "هل"

والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله، وبقاء دينهم متمسكاً به، يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى اللَّه عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67] قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة، ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذلالهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الاسم ليعلم الذي استفهمت عن قيامه من هو؟ وكذا قولك: ما زيد قائماً: إنما نفيت القيام ولم تنف زيداً؛ ليعلم من الذي نفي عنه القيام، كذلك ها هنا، المنكر: انقلابهم على أعقابهم لا الموت، وإن دخلت الهمزة عليه، فتقرير المصنف ها هنا تلخيص كلام الزجاج، يعني: حكمه حكم سائر الأنبياء المتقدمة في أنه إذا مات أو قتل يجب إتباع دينه، فإن مات أو قتل لم كان منكم النكوص؟ وأما كلام صاحب "المفتاح" أن التركيب من باب القصر الإفرادي، أي: محمد مقصور على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك، يعني أنهم أثبتوا له صفة الرسالة والخلد استعظاماً لهلاكه، فقصر على صفة الرسالة فحديث خارج من مقتضى المقام وبمعزل عن موجب النظم، ويؤيده قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، كما قال: إنه تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس) يعني: إن سلم أنهم علموا أنه تعالى

والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإسلامه (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) يعني: فما ضر إلا نفسه؛ لأن اللَّه تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعصمه من الناس ألبتة، لكن لم لا يجوز أن حمل العصمة على غير القتل من الإضلال وغيره؟ قوله: (إلا ما كان من قول المنافقين) استثناء منقطع، ويجوز أن يكون من باب قوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس قوله: (ويجوز أن يكون على وجه التغليظ): عطف على قوله: "ما ارتد أحد من المسلمين"، أي: يجوز أن ينسب الارتداد إلى المسلمين تغليظاً، كقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) تعظيماً لما صدر عنهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه. الأساس: كشف عنه الثوب وكشفه، وانكشف، ورجل أكشف: لا ترس معه. وقلت: ومن ثم سمي الترس جنة، كأنها تستر صاحبه عما يصيبه من العدو. قوله: (وإسلامه) من أسلمه: إذا خذله، والمصدر مضاف إلى المفعول، أي: غادروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد الكفار. قوله: (فما ضر إلا نفسه) جعلهم كأنهم زعموا أنهم يضرون الله ورسوله لا أنفسهم، أو يضرون أنفسهم معه، فإذا انقلبوا رجعت المضرة إلى من يضرونه، فرد عليهم بـ "لن" في قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ)، أي: لا يضرون الله شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم.

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) الذي لم ينقلبوا، كأنس بن النضر وأضرابه، وسماهم شاكرين؛ لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة اللَّه، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن له الله فيه تمثيلاً؛ ولأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسماهم شاكرين) إشارة إلى مجاز في الكلام، أي: وضع الشاكرين موضع الثابتين على الإسلام تسمية للشيء باسم سببه، إذ أصل الكلام: ومن ينقلب على عقبيه يكن كافراً لنعمة الله التي أنعم عليه بالإسلام، فيضر نفسه حيث كفر نعمة الله، والله يجزيه ما يستحقه، ومن ثبت عليه يكن شاكراً لتلك النعمة والله يجزيه الجزاء الأوفى! ولم يذكر ما يجزي به ليدل على التعميم والتفخيم، ففي الكلام تعريض، وإليه أشار بقوله: " (الشَّاكِرِينَ): الذين لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه". قوله: (المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله)، يعني: ليس لأحد تأخير أجله ولا تقديمه، بل ذلك بمشيئة الله، فاستعير للمشيئة الإذن على التمثيل، بأن شبه حال من يحاول ما يتوصل به إلى موته من طلب تسهيله لا يجد إلى ذلك سبيلاً إلا بتيسير الله، بحال من يتوخى الوصول إلى قرب من هو محتجب عنه ولا يحصل مطلوبه إلا بإذن منه وتسهيل الحجاب له، ونحوه قوله في تفسير قوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم: 1]: أي: تسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، ومعنى هذا الوجه قريب من معنى قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم" [البقرة: 234] على بناء الفاعل، وفيه أن الموت مقطوع حصوله وأن أسبابه متآخذة، حتى إن الذين يفر منه فهو في الحقيقة طالبه.

ملك الموت هو الموكل بذلك فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من اللَّه. وهو على معنيين: أحدهما: تحريضهم على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك، واقتحم المعارك. والثاني: ذكر ما صنع اللَّه برسوله عند غلبة العدوّ والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل. (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) 145]. (كِتاباً) مصدر مؤكد؛ لأن المعنى: كتب الموت كتابا. (مُؤَجَّلًا): موقتًا، له أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد. (نُؤْتِهِ مِنْها)، أي: من ثوابها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذه الآية موقعها موقع التذييل للكلام السابق، فأخرجت مخرج المثل، فنسبتها إلى المؤمنين: التحريض والتشجيع على القتال والجهاد، ومن ثم قيل: إذا كانت الأبدان للموت أنشئت .. فقتل امرئ في الله بالسيف أجمل وإليه الإشارة بقوله: "تحريضهم على الجهاد" إلى آخره، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم: الوعد بالحفظ وتأخير الأجل، وهو المراد بقوله: "ذكر ما صنع ... من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل". قوله: (نهزة)، الأساس: وانتهز الفرصة: اغتنمها، وهذه نهزة فاختلسها، قيل: هي مفعول له من المصدر، وهو الإسلام، أو: حال من ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، والمختلس: المستلب.

(وَسَنَجْزِي) الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة اللَّه، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد. وقرئ: (يؤته). (وسيجزي)، بالياء فيهما. (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) 146 ـ 148]. قرئ: (قاتل). و (قتل). و (قتل)، بالتشديد. والفاعل (ربيون)، أو ضمير النبي. و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)، حال عنه بمعنى: قتل كائنا معه ربيون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَسَنَجْزِي): الجزاء المبهم) إشارة إلى أن ما جوزوا به غير مذكور، فيعم جميع ما يصح أن يجزى به، وهو مقابل لقوله: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ)، المعنى: من يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنزيده في الآخرة من الجزاء ما لا يدخل تحت الحصر، كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا) [الشورى: 20]. قوله: (قرئ: (قَاتَلَ)): ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، والباقون "قتل"، وبالتشديد: شاذ. قال أبو البقاء: (وَكَأَيِّنْ) الأصل فيه: "أي" التي هي بعض من كل أدخلت عليها كاف التشبيه وصارا في معنى "كم" التي للتكثير، وموضع "كأي": رفع بالابتداء، ولا تكاد تستعمل إلا وبعدها "من"، والخبر: (قَاتَلَ)، وفيه ضمير النبي، وهو عائد على "كأي"، لأن "كأي" في معنى نبي، والجيد أن يعود الضمير إلى لفظ (كَأَيِّنْ)، فإن قيل: لو كان كذلك لأنثت، فقلت: قتلت؟ قيل: هذا محمول على المعنى، لأن المعنى: كثير من

والقراءة بالتشديد تنصر الوجه الأوّل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرجال قتل، فعلى هذا (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) في موضع الحال من الضمير في (قَاتَلَ)، ويجوز أن يكون (قَاتَلَ) في موضع جر صفة لـ (نَبِيٍّ)، و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ): الخبر، كقولك: كم من رجل صالح معه مال. قوله: (والقراءة بالتشديد تنصر الوجه الأول)، وهو أن يكون الفاعل (رِبِّيُّونَ). قال أبو البقاء: فعلى هذا لا ضمير في الفعل لأجل التكثير، والواحد لا تكثير فيه، كذا ذكره ابن جني. وقلت: قال ابن جني: "قتل" بالتشديد: قراءة قتادة، وفيها دلالة على أن من قرأ من السبعة: (قتل) أو (قَاتَلَ)، فإن (رِبِّيُّونَ) مرفوع في قراءته بـ (قُتِلَ) أو (قَاتَلَ)، ولي مرفوعاً بالابتداء ولا بالظرف الذي هو معه، ألا ترى أنه لا يجوز كم نبي قتل مشددة التاء على "فعل"، فلابد أن يكون (رِبِّيُّونَ) مرتفعاً بـ "قتل"، وهذا واضح، فإن قلت: فهلا جاز "فعل"، أي: قتل نبي، حملاً على معنى كم؟ قيل: لما انصرف عن اللفظ إلى المعنى لم يحسن العود من بعد إلى اللفظ، وقد قال تعالىـ كما تراهـ: (مَعَهُ) ولم يقل: معهم، فافهم ذلك. وقلت: يريد أن الشيء إذا انصرف عن اللفظ إلى المعنى لم يحسن بعد ذلك العود إلى اللفظ، فإن الضمير في (مَعَهُ) مفرد رجع إلى (وَكَأَيِّنْ) من حيث المعنى لأنه في معنى نبي، ولم يحسن بعد ذلك أن يقال: إن الضمير (قَاتَلَ) راجع إلى (وَكَأَيِّنْ) من حيث اللفظ؛ لأن "قتل"، بالتشديد، يقتضي متعدداً، و"كأين" لفظه متعدد، ولا يجوز ذلك، والظاهر الوجه الثاني، وهو اختيار الزجاج.

وعن سعيد بن جبير رحمه اللَّه: ما سمعنا بنبيّ قتل في القتال. والربيون: الربانيون. وقرئ بالحركات الثلاث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "المرشد": من قرأه (قتل) بالتخفيف فله وجهان: أحدهما: أن يكون الفعل واقعاً على النبي، أي: كم من نبي قتل ومعه ربيون كثير فما وهنوا بعد قتله، ولكنهم ثبتوا على الحق، وهذا وجه يختاره كثير من أهل العلم، والزجاج، وإنما قيل للمسلمين هذا لأنهم لما توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل انكسرت قلوب بعضهم وضعفوا. وثانيهما: أن الفعل واقع على "الربيون"، كأنه قيل: كم من نبي قتل ربيون معه، فما وهن من بقي منهم وما ضعفوا، أي: ما فتروا وما جبنوا عن قتال عدوهم. وقلت: الوجه الأول أقرب إلى معنى التعريض الذي ذكره المصنف. الراغب: قيل: (قَاتَلَ) مسنداً إلى ضمير النبي، (و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ): استئناف في موضع الحال، وقال الحسن: ما قتل نبي في حرب قط، وقال بعضهم ما قال الحسن: وإن صح فإنه لا ينفي أنه قتل في غير حرب، وقيل: مسنداً إلى (رِبِّيُّونَ) أي: قتل جماعة منهم فمل يهن الباقون، ومن قرأ (قَاتَلَ) فيحتمل الوجهين، والوهن: ضعف من حيث الخلق أو الخلق، والفرق بين الوهن والضعف أن الوهن: اختلال يعتري الإنسان، ويضاده الشدة، والضعف: اختلال ينقصه وتضاده القوة، والاستكانة: الخشوع والتضرع للمخافة. والقتل: إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال: قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة، يقال: موت، قال تعالى: (أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قوله: (ما سمعنا بنبي قتل في القتال) استشهاد لأن الفاعل (رِبِّيُّونَ). قوله: (وقرئ بالحركات الثلاث): الكسر: للسبعة، والفتح والضم شاذان.

فالفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب. وقرئ: (فَما وَهَنُوا) بكسر الهاء. والمعنى: فما وهنوا عند قتل النبي (وَما ضَعُفُوا) عن الجهاد بعده، (وَمَا اسْتَكانُوا) للعدوّ. وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد اللَّه بن أبيّ في طلب الأمان من أبى سفيان. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم، مع كونهم ربانيين؛ هضما لها واستقصاراً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما كان قولهم إلا هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين) إشارة إلى أن هذا المعنى كالتتميم، والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف فيهم، وذلك من إفادة الحصر وإيقاع "أن" مع ذلك الفعل اسماً لـ "كان"، قال في قوله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [النور: 51]: "وعن الحسن: (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) بالرفع والنصب أقوى؛ لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لـ "كان" أوغلهما في التعريف، وأن يقولوا: أوغل في التعريف؛ لأنه لا سبيل عليه في التنكير، بخلاف قول المؤمنين، فكان هذا من قبيل "كان" في قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم: 35] ". وقال صاحب "المطلع": معنى قوله: "بخلاف قول المؤمنين"، أن قول المؤمنين إن اختزل عنه الإضافة يبقى منكراً، بخلاف (أَن قَالُوا). وقال أبو البقاء: اسم "كان" ما بعد "إلا"، وهو أقوى من أن يجعل خبراً، والأول اسماً، لوجهين: أحدهما: أن (أَن قَالُوا) يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، وكذا عن ابن جني.

والدعاء بالاستغفار منها مقدّما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدوّ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع وأقرب إلى الاستجابة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أن ما بعد (إِلَّا) مثبت، والمعنى: كان قولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) دأبهم في الدعاء. وقلت: كأن المعنى: ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول، وكأن غير هذا القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع "أن" مع الفعل اسماً لـ (كَانَ)، وتحقيقه ما ذكره صاحب "الانتصاف"، قال: فائدة دخول كان المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديه جهة فعله عموماً باعتبار الكون، وخصوصاً باعتبار خصوصية المقام، فهو نفي مرتين. وقلت: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة (أَن قَالُوا)، واعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة، حصل لك ما قصدته، ولو عكست ركبت المتعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً واعتمد على ما بعد (إِلَّا) في الوجه الثاني. الراغب: الفرق بين الذنب والإسراف من وجهين. أحدهما: أن الإسراف حقيقة: تجاوز الحد في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير. والثاني: أن الذنب: التقصير وترك الأمر حتى يفوت ثم يؤخذ بالذنب، فالذنب إذاً مقابل للإسراف وكلاهما مذمومان، والمحمود هو العدالة. قوله: (أقرب) روي مرفوعاً خبراً، لقوله: "والدعاء بالاستغفار"، وقوله: "ليكون" متعلق بالدعاء، والأولى أن يكون "أقرب" منصوباً خبراً لقوله: "ليكون"، وليكون خبراً لقوله: "والدعاء"؛ لأن المعنى عليه.

(فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر، وخص ثواب الآخرة بالحسن؛ دلالة على فضله وتقدّمه، وأنه هو المعتدّ به عنده (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). [الأنفال: 67] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَاواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى 149 ـ 151]. (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال علىّ رضي اللَّه عنه: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم، وعن الحسن رضي اللَّه عنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما له ويوما عليه. وعن السدي: إن تستكينوا لأبى سفيان وأصحابه وتستأمنوهم (يَرُدُّوكُمْ) إلى دينهم. وقيل: هو عامّ في جميع الكفار، وإنّ على المؤمنين أن يجانبوهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن تستكينوا لأبي سفيان) الاستكانة: الخضوع، وأصله: استكن، من السكون، قال القاضي: لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة، أو استكون، من الكون؛ لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له. قوله: (وقيل: هو عام): معطوف على قوله: "قال علي رضي الله عنه: نزلت في قول المنافقين".

ولا يطيعوهم في شيء، ولا ينزلوا على حكمهم ولا على مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم. (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)، أي: ناصركم، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته. وقرئ بالنصب على: بل أطيعوا اللَّه مولاكم (سَنُلْقِي) قرئ بالنون والياء. و (الرُّعْبَ) بسكون العين وضمها. قيل: قذف اللَّه في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة. وقيل: ذهبوا إلى مكة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعلم أن التعريف في قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا حمل على العهد، فالمخاطبون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم المراد بالذين كفروا إما المنافقونـ وإليه الإشارة بقوله: "نزلت في قول المنافقين"ـ أو أهل الكتابـ وهو الذي رواه عن الحسنـ أو المشركون، وهو الذي رواه عن السدي، وإذا حمل على الجنس فالمخاطبون: جماعة المسلمين في جميع الأزمنة، كما أن الكفار عام في اليهود والمنافقين والمشركين، وهو المراد بقوله: "وأن على المؤمنين أن يجانبوهم". قوله: (ولا على مشورتهم)، الراغب: المشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شرت العسل وأشرته: استخرجته، والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه. قوله: (و (الرُّعْبَ): أي: وقرئ: (الرُّعْبَ) بسكون العين: كلهم سوى ابن عامر والكسائي فإنهما قرآ بالضم. قوله: (قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة) يوجب أن يكون هذا الوعد أي: قوله: (سَنُلْقِي) بعد القتال، ويؤيده قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا) الآية، لأن هذا الكلام مسوق لتسلية المؤمنين والمنع من أن يطيعوا الكفار فيما كانوا يوقعونهم في الشبه في الدين بسبب ما أصيبوا يوم أحد، وهي أنه لو كان نبياً حقاً لما غلب، وغير ذلك، وقوله بعد ذلك: "ويجوز أن يكون الوعد قوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) فلما فشلوا تنازعوا لم يرعبهم"، يوجب أن يكون قبل القتال، فأي الوجهين أقرب إلى النظم؟

فلما كانوا ببعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى اللَّه الرعب في قلوبهم فأمسكوا. (بِما أَشْرَكُوا) بسبب إشراكهم، أي: كان السبب في إلقاء اللَّه الرّعب في قلوبهم إشراكهم به (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً): آلهة لم ينزل اللَّه بإشراكها حجة. فإن قلت: كأن هناك حجة. حتى ينزلها اللَّه فيصح لهم الإشراك؟ قلت: لم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم؛ لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم عليه حجة، وإنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا، كقوله: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الأول، ولذلك قال: "ويجوز"؛ لأن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) من تتمة المعاتبات من لدن قوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) [آل عمران: 123] وقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران: 128]، وقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران: 144]، وهلم جراً إلى ما نحن بصدده تسلية لقلوب المؤمنين، فأوجب ذلك أن يجري قوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وعداً عاماً لهم، مزيداً للتسلي، فيدخل فيه هذا الرعب الخاص دخولاً أولياً. ويدل على عمومه تعليله بقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) وبقوله: (وَمَاوَاهُمْ النَّارُ)، يعني: أنهم محقوقون بأن يخذلوا ويخيبوا؛ لأنهم أعداء الله، وأن الله تعالى قدر أن تكون عاقبتهم وخيمة، و (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11]، ألا ترى كيف عقب الوعد قوله: (بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران: 150]، وعقب قوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ) [آل عمران: 152] هذا الوعد ليؤذن بأن الذي جرى عليكم يوم أحد من الوهن والإصابة أمر على خلاف ما أنتم تستأهلونه؟ وذلك لمخالفتكم الأمر، وإلا كان أصل أمركم على النصر والظفر؛ لأن الله مولاكم وناصركم. قوله: (ولا ترى الضب بها ينجحر)، أوله: لا تفزع الأرنب أهوالها

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) 152 ـ 154]. (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ): وعدهم اللَّه النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ) [آل عمران: 125] ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ليس بها أرنب ليفزع أهوالها، وليس بها ضب يدخل الجحر، يصف مفازة خالية من الحيوان. قوله: (بشرط الصبر والتقوى)، يعني: المراد بقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ) هو الوعد بالنصر المقيد بالصبر والتقوى في تلك الآية، وهي: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) الآية [آل عمران: 125]، فلما لم يوجد الشرط، وهو الصبر، فقد المشروط، وهو النصر، فالآية على هذا متصلة بتلك الآية، وهي متصلة بقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران: 120] وقد سبق تقريره، وما بينهما من الآيات مناسبة للقصة، وقوله: "وقيل: لما رجعوا": بيان لسبب نزول الآية.

فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل: لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللَّه النصر؟ فنزلت. وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. يحسونهم أي يقتلونهم قتلا ذريعاً، حتى إذا فشلوا؛ والفشل: الجبن وضعف الرأي؛ وتنازعوا، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فممن ثبت مكانه عبد اللَّه بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، ونفر أعقابهم ينهبون، وهم الذين أرادوا الدنيا، فكرّ المشركون على الرماة، وقتلوا عبد اللَّه بن جبير رضي اللَّه عنه، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دبورا وكانت صبا، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وهو قوله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ): ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضل عليهم بالعفو، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) إشارة إلى تطبيق الآية على الوجهين. قوله: (يحسونهم، أي: يقتلونهم)، قال الزجاج: تستأصلونهم قتلاً، يقال: حسهم القاتل يحسهم حساً: إذا قتلهم. قوله: (فممن ثبت) تفصيل لمجمع محذوف، أي: فثبت بعضهم ونفر بعضهم، فممن ثبت مكانه: عبد الله بن جبير، وممن نفر: أعقابهم. قوله: (عبد الله بن جبير)، وفي بعض الحواشي: بجير، وسبق أن الصحيح جبير.

سواء أديل لهم أو أديل عليهم؛ لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة. فإن قلت: أين متعلق (حَتَّى إِذا)؟ قلت: محذوف تقديره: (حتى إذا فشلتم) منعكم نصره. ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم اللَّه وعده إلى وقت فشلكم (إِذْ تُصْعِدُونَ)، نصب ب (صرفكم)، أو بقوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) منعكم نصره)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن "منعكم" ليس متعلق (حَتَّى) لأدائه إلى كون زمان الفشل غاية لمنع النصر، فالتحقيق أن (حَتَّى) متعلق بـ (صَدَقَكُمُ): إما جارة و (إِذَا): للظرفية المجردة، أي: إلى زمان فشلكم، أو عاطفة تبتدأ بعدها الجملة، فـ (إِذَا): للشرطية ويقدر له جواب وهو: منعكم نصره. والجواب أن السؤال ليس أن (حَتَّى) غاية ماذا، لما سبق في قوله: إنه غاية (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) حيث قال: "والمسلمون على آثارهم يحسونهم، أي: يقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى إذا فشلوا"، بل السؤال عن جواب (إِذَا)، ولذلك ضمها مع (حَتَّى)، أي: الجواب: "منعكم" ولاً يقتضي الجواب؛ لأنه غاية الوعد بالنصر، و (إِذَا) بمعنى الوقت، و (حَتَّى) هي الجارة، والسؤال وارد على ذلك التقدير، لأنه يقتضي تقدير الشرط لا الظرف؛ لأن الكلام في الامتنان على المسلمين بالنصر والوعد بالظفر والغلبة، فلا يجوز أن يقال: وعدكم الله بالنصر إذ تحسونهم حتى إذا انتهى بكم الحس إلى الفشل؛ إذ لا يعلم منه انقطاع النصر، فلابد من تقدي ر"منعكم"، بأن يقال: حتى إذا فشلتم منعكم النصر، ولذلك فسر (حَتَّى) بـ "إلى حين" كان غاية النصر؛ لحصول المعنى مع عدم التقدير. قوله: (إلى وقت فشلكم)، اعلم أن "حتى" إما أن تكون حرف جر بمنزلة "إلى" لانتهاء الغاية، نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أي: إلى رأسها، أو تكون حرف عطف، نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أي: ورأسها، أوي ستأنف بها الكلام نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أي: حتى رأسها مأكول، و"حتى" هذه لا يجوز أن تكون عاطفة؛ لأنها تجمع

أو بإضمار «اذكر» والإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد فيه. يقال: صعد في الجبل، وأصعد في الأرض. يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة: وقرأ الحسن رضي اللَّه عنه: تصعدون، يعنى في الجبل، وتعضد الأولى قراءة أبيّ: (إذ تصعدون في الوادي). وقرأ أبو حيوة: (تصعدون)، بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم وقرأ الحسن: (تلون)، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها. وقرئ: يصعدون، ويلوون بالياء. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) كان يقول «إلىّ عباد اللَّه، إلىّ عباد اللَّه، أنا رسول اللَّه، من يكرّ فله الجنة» (فِي أُخْراكُمْ): في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أوّلهم وأولاهم، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين الأول والثاني في الحكم الذي ثبت للأول، مثل "ثم" في المهلة، ومعطوفها جزء من متبوعه ليفيد قوة أو ضعفاً، وهي هنا متعذرة، فبقي أن تكون حرف جر أو حرف ابتداء، فإن كان الثاني فلابد أن تكون "إذا": شرطية، وجوابها محذوفاً وهو متعلق "حتى إذا"، ليكون الواقع بعد "حتى" الابتدائية جملة، وإن كان حرف جر، فتكون "إذا" ظرفية مجرورة، نحو قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) [الليل: 1]. قوله: (أو بإضمار "اذكر") يعني: اذكر إذ تصعدون، قيل: فيه إشكال، إذ يصير المعنى: اذكر يا محمد إذ تصعدون، وقيل: الصواب أن تقدير "اذكر" على قراءة "يصعدون" بالياء، ويمكن أن يقال: ليس مراده أنه منصوب بإضمار "اذكر" صيغة أمر الواحد، بل المراد أنه منصوب بما ينتصب به أمثاله من لفظ الذكر بحسب ما يطابق الموقع، فيقدر "اذكروا"، وإنما أفرد إذا الغالب في أمثال هذه المواضع الإفراد، ويجوز أن يكون من باب قوله: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]. قوله: (وقد ذكرنا وجهها) أي: في قوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) [آل عمران: 78] قبل هذا، وهو أن الواو المضمومة قلبت همزة ثم خففت.

(فَأَثابَكُمْ) عطف على (صرفكم)، أي: فجازاكم اللَّه (غَمًّا) حين صرفكم عنهم وابتلاكم بسبب (غم) أذقتموه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعصيانكم له، أو: (غماً) مضاعفا، (غما) بعد غم، وغما متصلا (بغم)، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر. (لِكَيْلا تَحْزَنُوا): لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (غَمّاً) متصلاً (بِغَمٍّ) تفسير لقوله: " (غَمّاً) بعد غم" على أن التكرير للاستيعاب، نحو قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك: 4] ولذلك عدد أشياء كثيرة، فقوله: "من الاغتمام": بيان لقوله: " (غَمّاً) متصلاً (بِغَمٍّ)، وقوله: "والجرح" وما يتبعه: عطف على "ما أرجف"، "ومن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم": بيان "ما أرجف". قوله: (بما أرجف به)، الأساس: رجف البحر: اضطرب، ومن المجاز: أرجفوا في المدينة بكذا، أي: أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم، وهذا من أراجيف الغواة. قوله: (وظفر المشركين) قيل: ولو قال: وغلبة المشركين كان أحسن؛ لأن الظفر للمؤمنين. قوله: ((لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لتتمرنوا على تجرع الغموم ... فلا تحزنوا)، يعني: كنى عن قوله: لتتمرنوا بقوله: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) أي: جازاكم غماً متضاعفاً لتتمرنوا على تجرع الغموم وتأتلفوا بها، فلا تحزنوا على كل شيء؛ لأن العادة طبيعة خامسة، ولابد من هذا التأويل؛ لأن المجازاة بالغم بعد الغم سبب للحزن لا لعدمه، وقد قال الله تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ). قوله: (وتضروا) يقال: ضري بكذا، أي: غري به وأولع، النهاية: يقال: ضري بالشيء يضرى ضراوة فهو ضار: إذا اعتاده.

ويجوز أن يكون الضمير في: (فَأَثابَكُمْ) للرسول، أي فآساكم في الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم، (فأثابكم غما) اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره: وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم؛ لئلا (تحزنوا على ما فاتكم) من نصر اللَّه، (ولا) على (ما أصابكم) من غلبة العدو. وأنزل اللَّه الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. وعن أبي طلحة رضي اللَّه عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. وما أحد إلا ويميل تحت حجفته. وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبيرعن أبيه عن جده، قال: والله إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النعاس ليغشانا بعد الغم والكرب الذي كنا فيه، إذ سمعت معتب بن قشير أخا بني عمرو بن عوف، وما أسمعها منه إلا كالحلم، يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. وعن الزبير رضي الله عنه: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم، والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فآساكم)، الجوهري: آسيته مالي مؤاساة، أي: جعلته إسوتي فيه، وقال: ثاب الرجل يثوب ثوباً وثوباناً بعد ذهابه، وثاب الناس: اجتمعوا وجاؤوا، وكذلك الماء إذا اجتمع في الحوض، ومثاب الحوض: وسطه الذي يثوب إليه. ولعل "أثابكم" بمعنى: آساكم، من قولك: ثاب الماء: إذا اجتمع في الحوض. قوله: (ولم يثربكم)، الجوهري: التثريب: كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوم، يقال: لا تثريب عليك. قوله: (وعن الزبير)، وفي كتاب صدر الأئمة: وعن ابن الزبير، وعن محيي السنة: قال عبد الله بن الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأمنة: الأمن. وقرئ (أمنة) بسكون الميم، كأنها المرة من الأمن. و (نُعاساً) بدل من (أمنة). ويجوز أن يكون هو المفعول، و (أمنة) حالاً منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين، بمعنى: ذوى أمنة، أو على أنه جمع آمن، كبار وبررة (يَغْشى) قرئ بالياء والتاء ردا على النعاس، أو على الأمنة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ضياء الدين أخطب الخطباء: الصواب: وعن الزبير، هكذا صح عند أصحاب التواريخ وأرباب المغازي؛ لأن ابن الزبير في رواية الواقدي ولد بعد عشرين شهراً من الهجرة، وغزوة أحد كانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة. وفي "جامع الأصول": عبد الله بن الزبير بن العوام أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة أول سنة من الهجرة. قوله: (و (أَمَنَةً): حالاً منه)، قال أبو البقاء: والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة؛ لأن النعاس ليس هو الأمن بل هو الذي حصل الأمن. قوله: ((يَغْشَى) قرئ بالياء والتاء): حمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. قوله: (رداً على النعاس أو على الأمنة) يعني: فاعل (يَغْشَى) بالياء: ضمير (نُعَاساً) صفة له، وبالتاء: ضمير (أَمَنَةً) صفة لها.

(طائِفَةً مِنْكُمْ): هم أهلُ الصدق واليقين و (طائِفَة): ٌ هم المنافقون (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ): ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى اللَّه عليه وسلم والمسلمين، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان؛ فهم في التشاكي والتباثّ (غَيْرَ الْحَقِّ): في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللَّه غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون باللَّه ظن الجاهلية. و (غير الحق): تأكيد ل (يظنون)، كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما بهم إلا هم أنفسهم) هذا الحصر يعلم من المعنى؛ لأن من كان مهتماً بشأن نفسه في تلك الحالة الفظيعة لا يلتفت إلى الغير، ولأن قوله: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) صفة لـ (طَائِفَةً)، وهو مقابل لقوله تعالى: (نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)، فلا تخلو الحال حينئذ من هذين الأمرين، ولهذا قدر المصنف (طَائِفَةً مِنْكُمْ): "هم أهل الصدق واليقين، و (طَائِفَةً) هم المنافقون قد أهمتهم"، التقدير: قد أنزل عليكم نعاساً يغشى طائفة منكم لأنهم أهل الصدق واليقين، ولم يغش طائفة أخرى لما قد أهمهم هم أنفسهم فهم مستغرقون في هم أنفسهم لا تنزل عليهم السكينة؛ لأنها وارد روحاني لا يتلوث بهم. قوله: ((غَيْرَ الْحَقِّ)) يفهم منه أن هناك ظناً غيره، نحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) [البقرة: 46]، هذا هو الظن الحق الذي يجب أن يظن به، فإن الظن قد يستعمل في الاعتقاد الحق أيضاً، فعلى هذا هو مصدر لقوله: (يَظُنُّونَ) لأنه نوع منه. قوله: (و ((غَيْرَ الْحَقِّ) تأكيد لـ (يَظُنُّونَ)) على تقدير حذف عامله، أي: يظنون بالله ظن الجاهلية يقولون قولاً غير الحق، كقولك: هذا زيد غير ما تقول، معناه: هذا زيد أقول قولاً غير ما تقول، وقولك: هذا القول لا قولك، أي: قولي لك هذا القول، لا أقول قولك، هذا التأكيد في الحقيقة تأكيد للحكم لتكريره.

و (ظن الجاهلية) كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد أهل الجاهلية، أي: لا يظنُّ مثل ذلك الظنِّ إلا أهل الشرك الجاهلون باللَّه. (يَقُولُونَ) لرسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يسألونه: (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) معناه: هل لنا معاشر المسلمين من أمر اللَّه نصيب قط؟ يَعنون النصر والإظهار على العدو (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ولأوليائه المؤمنين، وهو النصر والغلبة (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]، (وإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات: 173] (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) معناه: يقولون لك فيما يظهرون: (هل لنا من الأمر من شيء) سؤال المؤمنين المسترشدين، وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون في أنفسهم، أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم: (إن الأمر كله للَّه): (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، أي: لو كان الأمر كما قال محمدٌ: إن الأمر كله للَّه ولأوليائه وأنهم الغالبون؛ لما غُلِبْنا قط، ولما قُتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) يعنى من عَلِمَ اللَّهُ منه أنه يُقتلُ ويُصْرَع في هذه المصارع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال بعض الشارحين للمفصل: هذا يؤكد فعلك لا قولك، فإن قولك: "هذا عبد الله حقاً" جملة خبرية تحتمل الصدق والكذب، وقولك: "حقاً" بمنزلة قولك: حق ذلك حقاً، أي: ثبت ما حكمت بأن المشار إليه عبد الله. وقال ابن الحاجب: (غَيْرَ الْحَقِّ) و (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ): مصدران، أحدهما: للتشبيه والآخر: توكيد لغيره، والمفعولان محذوفان، أي: يظنون أن إخلاف وعده حاصل. قوله: (حاتم الجود، ورجل صدق) من إضافة الاسم إلى المصدر، وكان الأصل حاتم الجواد ورجل صادق على الصفة، ثم أضيف الموصوف إلى الصفة لزيادة التخصيص، ثم لما أريد مزيد مبالغة جعلت الصفة مصدراً، نحو: رجل عدل، فالإضافة بمعنى اللام، ولا بد من تقدير موصوف ليستقيم المعنى، ولهذا قال: "يريد الظن المختص بالملة الجاهلية".

وَكُتِبَ ذلكَ في اللوحِ لم يكنْ بُدُّ من وجوده، فلو قعدتم في بيوتكم (لَبَرَزَ) من بينكم (الَّذِينَ) علم اللَّه أنهم يُقتلون (إِلى مَضاجِعِهِمْ)، وهي مصارعهم ليكون ما علم اللَّه أنه يكون. والمعنى أن اللَّه كتب في اللوح قتْلَ من يُقتلُ من المؤمنين، وكتَبَ مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما يُنكبونَ به في بعْضِ الأوقات تمحيص لهم، وترغيبٌ في الشهادة، وحِرْصُهم على الشهادة مما يحرّضهم على الجهاد، فتحصل الغلبة. وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء؟ يعنون: لم نملك شيئًا من التدبير؛ حيث خرجْنا من المدينة إلى أحد، وكان علينا أن نقيمَ ولا نبرح، كما كان رأي عبد اللَّه بن أبيّ وغيْره، ولو ملكْنا من التدبير شيئاً لما قُتلنا في هذه المعركة، قل: إن التدبير كله للَّه، يريد: أن اللَّه عز وجل قد دبَّر الأمرَ كما جرى، ولو أقمتُم بالمدينةِ ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتْلِ من قُتِلَ منكم. وقرئ: (كتب عليهم القتال) (وكتب عليهم القتل)، على البناء للفاعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يكن بد من وجوده) أي: من وجود أنه يقتل، ويجوز أن يرجع الضمير إلى من، أي: لابد من وجود من علم الله منه أنه يقتل. قوله: (وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء؟ ) عطف على قوله: "هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب؟ " فعلى هذا، الاستفهام بمعنى الإنكار، وإليه الإشارة بقوله: "لم نملك شيئاً من التدبير"، وعلى الأول: سؤال استرشاد لكن على النفاق. قوله: (قل: إن التدبير كله لله) جعل المصنف (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) جواباً لقوله: (هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)، وجعل الأمر في السؤال والجواب شيئاً واحداً، وحيث جعل الأمر بمعنى النصر أعاد في الجواب النصر، وحيث جعل بمعنى التدبير أعاد التدبير في الجواب، وذلك أن المعرف باللام إذا أعيد لم يكن غير الأول.

ولبرِّز، بالتشديد وضم الباء (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ): وليمتحن ما في صدورِ المؤمنينَ من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك. أو فعل ذلك لمصالح جمةٍ وللابتلاء والتمحيص. فإن قلت: كيف مواقع الجمل التي بعد قوله: (وطائفة)؟ قلت: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة ل (طائفة). و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى، أو حالٌ بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظانّين. أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها. و (يَقُولُونَ) بدل من (يظنون). فإن قلت: كيف صحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظن؟ قلت: كانت مسألتهم صادرة عن الظنّ، فلذلك جازَ إبداله منه. و (يخفون) حال من (يقولون). و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذوي الحال. و (يَقُولُونَ) بدل من (يُخْفُونَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ): صفة لـ (طَائِفَةً)، و (يَظُنُّونَ): صفة أخرى)، قال صاحب "التقريب": فيه نظر، لأنه لم يبق لـ (طَائِفَةً) خبر، فينبغي أن يقدر له خبر نحو: وثم، أو: ومنهم طائفة، أو يجعل (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة وأحد الأفعال بعده خبراً، وقالوا: الأولى قول الزجاج: وجائز أن يرتفع، أي: (طَائِفَةً) على أن يكون الخبر (يَظُنُّونَ)، و (أَهَمَّتْهُمْ): نعت (طَائِفَةً)، أي: طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون، قال سيبويه: المعنى: وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، وهذه واو الحال. وقلت: الحق ما سبق: أن الخبر محذوف يدل عليه قوله: (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)، أي: طائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق، لم يغشهم النعاس، فعلى هذا الواو للعطف، وفائدة عطف الجملة الاسمية على الفعلية: الإيذان بحدوث الأمن لأولئك، واستمرار الخوف على هؤلاء. قوله: (كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر؟ ) توجيه السؤال: أن مسألة الأمر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي قوله: (هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)، ظاهرها سؤال مسترشد، وفي الحقيقة سؤال منكر كما سبق، وقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ): إخبار عن الظن الباطل، فبينهما اختلاف، فكيف صح أن يقعا بدلا ًومبدلاً منه؟ وأجاب: أن سؤالهم ذلك لما نشأ من الظن الفاسد، صح الإبدال، إذ لولا الظن الفاسد لما أظهروا الاسترشاد وأبطنوا النفاق، فكان قولهم: هل لنا من الأمر شيء لذلك بدل اشتمال من قوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ). وقريب منه قول صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: معنى سؤالهم الإنكار، فكأنهم يقولون: ما لنا من الأمر شيء، لأنه ليس قصدهم فيما سألوا أن يبين لهم، فكأنه قيل: يظنون وينكرون. ووجدت في الحواشي: بيان تقدير السؤال وهو أن يقال: إن قوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا): تفسير لـ (يَظُنُّونَ)، وترجمة له، والاستفهام لا يكون ترجمة للخبر، لا يصح أن يقال: أخبرني زيد قال لي: لا تذهب؟ وكذلك كل ما لا طباق فيه، كما لو قال: نهاني قال لي: اضرب، أو أمرني قال لي: لا تضرب. قلت: هذا ليس بشيء؛ لأن الجواب لا ينطبق عليه، على أن البدل هو (يَقُولُونَ)، والسؤال مقول، على أن صاحب "المفتاح" جعل قوله تعالى: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [طه: 120] بياناً لجملة قوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ)، والبدل في الحقيقة بيان كما سبق مراراً، وأيضاً ناقص، حيث قال: والاستفهام لا يكون ترجمة للخبر، وعلام بنى كلامه؟ على عدم الطباق بين الأمر والنهي، وعكسه يجوز أن يقال: نهاني قال لي: لا تضرب، أو: أمرني قال لي: اضرب، وإحدى الجملتين إخباري والأخرى إنشائي، وقيل أيضاً: في قوله: "كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار؟ " نظر، إذ لم تقع المسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظن، بل وقع الإخبار عن المسألة بدلاً من الإخبار بالظن، إذ (يَقُولُونَ): بدل من (يَظُنُّونَ).

والأجودُ أن يكونَ استئنافًا. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) 155]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ما سأل هذا السؤال إلا بعد أن قال: "و (يَقُولُونَ): بدل من (يَظُنُّونَ) "، أي: كيف يصح ذلك الإبدال ومقول القول مسألة عن الأمر، والبدل إنما هو الكلام بجملته؟ قوله: (والأجود أن يكون استئنافاً) قيل: أي قوله: (يُخْفُونَ) لئلا يعترض بين الحال وذي الحال شيء. وقلت: لا يخلو الضمير في قوله: "أن يكون استئنافاً" من أن يرجع إلى قوله: (يُخْفُونَ)، أو إلى (يَقُولُونَ) الثاني، فإن كان الأول فمورد السؤال قوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) وحده، فكأن سائلاً سأل عند هذا القول: هل سألوا ذلك سؤال المسترشدين كالمؤمنين أم لا؟ فقيل: لا، لأنهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون، وإن كان الثاني فمورد السؤال جملة قوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) مع الحال، وتقريره: ما ذلك القول الذي كانوا يخفون في هذا القول؟ فأجيب: يقولون: أي: يقولون في أنفسهم، قولاً معناه: لو كان لنا من الأمر من شيء ما قُتلنا ها هنا، ويدل على هذا التأويل قوله فيما سبق: "وهم فيما يبطنون على النفاق يقولون في أنفسهم"، وفيه إثبات الكلام النفسي، فكانت الجملة المعترضة توكيداً لهذا النعي عليهم، وأنت تعلم أن المعترضة مما يزين الكلام، فكيف يقال: لئلا يعترض بين الحال وذي الحال شيء؟ فقوله: (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) على التفسير الأول: تذييل، وعلى الثاني: اعتراض، فظهر أن الأجود أن يكون الاستئناف من قوله: (يَقُولُونَ)؛ لأنه إملاء فائدة، ويجوز أن يكون استئنافاً بعد استئناف.

(اسْتَزَلَّهُمُ) طلب منهم الزَّلل ودعاهم إليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ): طلب منهم الزلل). اعلم أن تأويل هذه الآية من المعضلات، والتركيب من باب الترديد للتعليق، كقول الشاعر: لو مسها حجر مسته سراء لأن قوله: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ): خبر (إِنَّ)، وزيدت "إن" للتوكيد وطول الكلام، و"ما": لتكفها عن العمل، وأصل التركيب: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان وليهم بسبب اقتراف الذنوب، كقولك: إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، ثم قوله: (اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ): ما أن يراد به ذنوب اقترفوها قبل التولي، فصارت تلك الذنوب سبباً لهذا التولي، فيكون من باب إطلاق السبب على المسبب، يدل عليه قوله: "كانوا أطاعوا الشيطان ... حتى تولوا"، ونحوه: إن الذي أعطاك إنما أكرمك لأنه جواد وأنت مستحق، أو أن يراد به هذا الذنب الخاص، وهو التولي يوم أحد، فهو المراد من قوله: "وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي"، فالمعنى: إن الذين انهزموا يوم أحد إنما ارتكبوا هذا الذنب لما تقدمت لهم الذنوب، والوجوه الآتية مترتبة على هذا الوجه بحسب تفسير (بَعْضِ مَا كَسَبُوا)، فإن أريد به: اقتراف الذنوب، كان المعنى: إن الذين انهزموا إنما انهزموا لأنهم اقترفوا ذنوباً قبل ذلك، وإليه الإشارة بقوله: "لأن الذنب يجر إلى الذنب"، وإن أريد به قبول ما زين لهم الشيطان، كان المعنى: إن الذين انهزموا إنما انهزموا لأنهم قبلوا ما زين لهم الشيطان من الهزيمة، وعلى هذا التقدير: "ما زين لهم الشيطان" هو تركهم المركز، يعني أنهم إنما انهزموا لما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ثباتهم على المركز، وإن أريد به التذكير

(بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من ذنوبهم، ومعناه: أنّ الذين انهزموا يوم أُحُدٍ كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبًا؛ فلذلك منعتهم التأييدَ وتقويةَ القلوبِ حتى تولَّوْا. وقيل: استزلالُ الشيطان إياهم هو التولّي، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم؛ لأنّ الذنب يجرّ إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفاً فيها. وقال الحسنُ رضي اللَّهُ عنه: استزلّهم بقبول ما زيَّن لهم من الهزيمة. وقيل: (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا): هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالثبات فيه. فجرَّهم ذلك إلى الهزيمة. وقيل: ذكَّرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاءَ اللَّه معها، فأخَّروا الجهاد حتى يُصلحوا أمرهم، ويجاهدوا على حال مرضية. فإن قلت: لم قيل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا)؟ قلت: هو كقوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). [المائدة: 15]، ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالمعنى: إن الذين تولوا إنما تولوا لأن الشيطان ذكرهم مقارفة الذنوب التي تقدمت لهم، فلذلك كرهوا لقاء الله، والتركيب على التقادير من باب تحقيق الخبر، كقوله: إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول وليس من باب أن الصلة علة للخبر، كقولهم: إن الذين آمنوا لهم درجات النعيم؛ لأن قوله: (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) يأباه التحقيق. قوله: (فلذلك منعتهم) أي: لأجل أنهم أطاعوا الشيطان واقترفوا ذنوباً منعتهم التأييد جزاء لهم على طاعة الشيطان. قوله: (وتكون لطفاً فيها) أي: تكون الطاعة الأولى سبباً لمنح التوفيق على الطاعة الثانية. قوله: (وقيل: ذكرهم تلك الخطايا): عطف على قوله: "وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت". قوله: (هو كقوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة: 15])، قيل: يعني: بما كسبوا،

(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارِهم (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للذنوب، (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة .... (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) 156 ـ 158]. (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ)، أي: لأجل إخوانهم، كقوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)، [الأحقاف: 11] ومعنى الأخوّة: اتفاق الجنس أو النسب. (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها. (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبعض زائدة كما أن "عن" زائدة في قوله: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، والأشبه أن يقال: هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا، فإنكم تستحقون به عقوبة أزيد منها، لكنه تعالى من عليكم بفضله وعفا عن كثير وأخذ ببعض ما كسبتم، يبين ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر: 45]، ولذلك ذيله بقوله: (أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فالتشبيه بين الآيتين بحسب المفهوم، لا في زيادة اللفظ. قوله: (والله غفور)، وفي بعض النسخ: (أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ)، وعليه التلاوة. قوله: (جمع غاز)، قال الزجاج: (غُزًّى) جاء على القصر، وفعل: جمع فاعل، نحو: ضارب وضرب وشاهد وشهد، ويجمع على فعال، نحو: ضارب وضراب، وغزاء يجوز ولكن لم يقرأ به.

كعاف وعفى، كقوله: عُفَّى الحِياضِ أُجُونُ وقُرِئ بتخفيفِ الزاي على حذف التاء من غزاة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: والقياس: غزاة، كقاض وقضاة، ولكنه جاء على "فعل" حملاً على الصحيح نحو: شاهد وشهد. قوله: (عفى الحياض أجون) أوله: على كالختيف السحق يدعو به الصدى ويروى: ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى الصوى: الأعلام من الحجارة. ويروى: له قلب عفى الحياض أجون النهاية: الختيف، بالخاء المعجمة والتاء المنقوطة من فوق: نوع غليظ من أردى الكتان، السحق: الثوب البالي، وقلب: جمع القليب، وهي البئر العادية القديمة، والأجون: المياه المتغيرة. يصف مفازة اندرست سبيلها كما بلي هذا النوع من الثياب، وعفت حياضها وأجن ماؤها. قوله: (وقرئ بتخفيف الزاي)، قال أبو البقاء: فيه وجهان، أحدهما: أن أصله غزاة

فإن قلت: كيف قيل: (إِذا ضَرَبُوا) مع (قالُوا)؟ قلت: هو على حكاية الحال الماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض فإن قلت: ما متعلق (ليجعل)؟ قلت: (قالوا)، أي: قالوا ذلك واعتقدوه؛ ليكون (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فحذفت الهاء تخفيفاً؛ لأن التاء دليل الجمع، وقد حصل ذلك من نفس الصيغة. وثانيهما: أنه أراد قراءة الجماعة فحذف إحدى الزاءين كراهية التضعيف. قوله: (كيف قيل: (إِذَا ضَرَبُوا)؟ ) أي: القياس أن يقال: إذ ضربوا، لأن "إذا" مختصة بالاستقبال، والجملة واردة على صيغة المضي فناسب "إذ". قوله: (على حكاية الحال الماضية) يعني: كان قولهم ذلك مقيداً في ذلك الزمان بهذا القيد، فاستحضر الآن أيها المخاطب تلك الحال لأنها مستمرة، وينصره ما قال الزجاج: (إِذَا) ها هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعاً، والأصل الماضي، تقول: أتيتك إذ قمت، والمعنى: إذا ضربوا في الأرض شأنهم هذا أبداً، ونحو: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضرب صبر. قوله: (كقولك: حين يضربون في الأرض) يعني: معنى قوله: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ) معنى حين يضربون في الأرض، ومؤداه مؤداه، قال أبو البقاء: يجوز "إذا" أن يحكى بها حالهم فلا يراد بها المستقبل، فعلى هذا يجوز أن يعمل فيها (قَالُوا) وهو للماضي، ويجوز أن يكون (كَفَرُوا) و (وَقَالُوا) ماضيين، ويراد بهما المستقبل المحكي به الحال، فالتقدير: يكفرون ويقولون لإخوانهم. قوله: (ليكون (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)) لما كان إيقاع الحسرة مترتباً على قولهم، من غير أن يكون الثاني مطلوباً بالأول، شبه بأمر مترتب على أمر يكون الأول غرضاً في الثاني على التهكم، ثم استعير لترتب المشبه كلمة الترتب المشبه به وهي اللام.

على أنّ اللام مثلها في: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص: 8]؛ أو (لا تكونوا)، بمعنى: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله اللَّه حسرة في قلوبهم خاصَّة ويصون منها قلوبكم. فإن قلت: ما معنى إسناد الفعل إلى اللَّه تعالى؟ قلتُ: معناه: أنّ اللَّه عزَّ وعلا عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغمَّ والحسْرةَ في قلوبهم، ويُضيِّق صدورَهم عقوبةً، فاعتقادُه فعلُهم وما يكون عنده من الغمِّ والحسرة وضيق الصدر فعلُ اللَّه عزَّ وجلَّ كقوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام: 125] ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النهى، أي: لا تكونوا مثلهم، ليجعل اللَّه انتفاء كونِكم مثلَهم حسرة في قلوبهم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون ذلك إشارة): عطف على قوله: "بمعنى لا تكونوا مثلهم"، أي: يتعلق (لِيَجْعَلَ) بقوله: (لا تَكُونُوا) على أن يكون ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد، أو يكون إشارة إلى ما دل عليه النهي. وتلخيص الوجوه الثلاثة هو: أن التعليل في الوجه الأول دخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والمعنى: لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وفي الثاني: العلة خارجة عن جملة المشبه به، لكن القول والمعتقد داخلان فيه، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، وفي الثالث: الكل خارج منه، والمعنى: ما قدر، أي: لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، وقوله: (وَقَالُوا): ابتداء كلام عطف على مقدرات شتى كما تقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم، ودل على العموم قوله: "لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون، ومضادتهم، مما يغمهم ويغيظهم"، وسيجيء مثل هذا القطع والابتداء بعيد هذا في قوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ).

لأنّ مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون، ومضادّتهم مما يَغمُّهم ويغيظُهم. (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ردٌّ لقولهم. أي: الأمر بيده، قد يحيى المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد كما يشاء. وعن خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبرٍ إلا وفيه ضربةٌ أو طعْنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العَيْر، فلا نامت أعينُ الجبناء! (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تكونوا مثلهم. وقُرِئ بالياء، يعنى الذين كفروا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فما وجه اتصاله بالتشبيه، وما تلك المقدرات؟ قلت: لما وقع التشبيه على عدم الكون عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم، أي: بأنهم أعداء الدين؛ لم يقصروا في المضادة والمضارة، بل فعلوا كيت وكيت، وقالوا: كذا وكذا! ونظير موقعه موقع قوله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 2] من قوله: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1]. قوله: (قد يحيي المسافر) أراد تحقيق قولهم: الشجاع موقى، والجبان ملقى. قوله: (وعن خالد بن الوليد أنه قال عند موته) على آخره مذكور في "الاستيعاب"، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خالداً فقال: "نعم عبد الله وأخو العشيرة وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين". قوله: (وقرئ بالياء): قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: "يعملون" بالياء التحتانية.

(لَمَغْفِرَةٌ) جوابُ القسم، وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرْط، وكذلك (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ). كذَّبَ الكافرينَ أوّلًا في زعمهم: أن من سافرَ من إخوانِهم أو غزا لو كان في المدينة لَمَا مات، ونهى المسلمين عن ذلك؛ لأنه سبب التقاعد عن الجهاد، ثم قال لهم: ولئنْ تمَّ عليكم ما تخافونَه من الهلاك بالموتِ أوالقتْلِ في سبيل اللَّه، فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرَّحمة بالموتِ في سبيل اللَّه خيرٌ مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: خير من طِلاعِ الأرض ذهبة حمراء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لَمَغْفِرَةٌ): جواب القسم، وهو ساد مسد جواب الشرط)، فاللام في قوله: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ): موطئة للقسم، وقوله: "ولئن تم عليكم ما تخافونه"، إلى قوله: "فإن ما تنالونه". بيان لمعنى القسم مع الشرط وجوابه، وفيه إيذان بأن الجزاء مضمن معنى الإعلام والتنبيه. قوله: (من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله)، قدم "الموت" على "القتل"، والتلاوة على العكس؛ لأن سياق كلامه على ما عليه المتعارف أن الهلاك بالموت أكثر منه بالقتل، يدل عليه قوله: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ)؛ لأن المحشور الميت أكثر من المقتول، وإنما قدم في التنزيل القتل في قوله: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ) لأن الكلام في الرد على من قال: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، وفي بيان عدم المساواة بينهما، لأن المطلوب من المؤمنين الشهادة والإنفاق في سبيل الله، يعني: هلاككم في سبيل الله لنيل المغفرة والفوز بالثواب سبب لأن تخبروا أن ذلك الهلاك الجالب للمغفرة خير من الحياة التي هي موجب جمع المال، فوضع قوله: (مِمَّا يَجْمَعُونَ) موضع حياتكم، استهجاناً لما عليه الإنسان من الكدح في جمع المال وجعله قصارى مباغيه من الحياة الدنيوية، وفي توكيد التركيب بالقسم تتميم لهذه الدقيقة. قوله: (طلاع الأرض)، الجوهري: طلاع الشيء: ملؤه، قال الحسن: لأن أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً، قال الأصمعي: طلاع الأرض: ملؤها. قوله: (ذهبة حمراء)، الجوهري: الذهب معروف، وربما أنث، والقطعة منه: ذهبة.

وقُرِئَ بالياءِ، أي يجمعُ الكفّار (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) لَإلى اللَّه الرحيم الواسع الرحمة، المثيب العظيم الثواب تحشرون. ولوقوع اسم اللَّه تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به، شأن ليس بالخفي. قرئ (مُتُّمْ) بضم الميم وكسرها، من مات يموت ومات يمات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بالياء): حفص: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. قوله: (شأن ليس بالخفي) وهو ما ذكره لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب، وإنما كرر هذه المعاني لما أن اسم الذات الجامع لمعاني الأسماء الحسنى كما نقلنا عن الأزهري والمالكي في أول الكتاب، تتجلى لكل مقام بما يناسبه، وهذا مقام من بذل مهجته لوجهه تعالى فوصل إلى مقام تجلي الرحمة والثواب العظيم، فكان على ما قاله ولله دره، والحرف وإن دخل على الحرف صورة، فهو على التحقيق دخل على الجملة عن المصنف. قوله: (وقرئ: (مُتُّمْ) بضم الميم): ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: حيث وقع، وتابعهم حفص على الضم في (متُّ) و (مُتُّمْ) في هذه السورة خاصة، والباقون: بكسر الميم. قال صاحب "الكشف": (مُتُّمْ) بالكسر والضم لغتان، من كسر قال: أصله: موت، فنقلت الكسرة من الواو إلى الميم، كما في: خاف وخفت، وأصله: خوفت، وهاب هبت، وأصله: هيبت، ومن ضم قال: أصله: موت، مثل: قال، في أن أصله: قول، فكما تقول: قلت، قل: مت.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) 159]. «ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أنّ لِينَه لهم ما كان إلا برحمةٍ من اللَّه. ونحوه (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة: 13]، ومعنى الرحمة: ربطه على جاشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ما": مزيدة للتوكيد والدلالة) لابد من تقدير محذوف ليصح الكلام؛ لأن الحصر مستفاد من تقديم الجار والمجرور على العامل، والتوكيد من زيادة "ما"، فالمعنى: "ما" مزيدة للتوكيد، والجار والمجرور مقدم للدلالة، فهو من باب اللف التقديري. قوله: (ربطه على جأشه) بالهمز، الجوهري: يقال: فلان رابط الجأش، أي: شديد القلب، كأنه يربط نفسه عند الفرار لشجاعته. قوله: (ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق) يعني: أفاد قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) في هذا المقام فائدتين: إحداهما: ما يدل على شجاعته، وثانيتهما: ما يدل على رفقه، وهو من باب التكميل، قال: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب وقد اجتمع فيه صلوات الله عليه هاتان الصفتان يوم أحد، حيث ثبت حتى كر إليه أصحابه مع أنه شج وكسر رباعيته ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار، بل آساهم في الغم كما قال: (فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ)، وهو المراد بقوله: "ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق"، وفيه أن هذه الآيات: من ها هنا إلى قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ) مرتبط

حتى أثابهم غمًّا بغم وآساهم بالمباثة بعدما خالفوه وعصَوْا أمَره وانهزموا وتركوه. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) جافيًا (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ): لتفرّقوا عنك حتى لا يبقى حولَكَ أحدٌ منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يختص بحق اللَّه؛ إتماما للشفقة عليهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يعنى: في أمرِ الحرْبِ ونحوِه مما لم ينزل عليك فيه وحْيٌ لتستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسِهم، والرفع من أقدارهم. وعن الحسن رضي اللَّه عنه: قد علم اللَّه أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده. وعن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: «ما تشاور قومٌ قطُّ إلا هُدوا لأرشد أمرهم»، وعن أبى هريرة رضي اللَّه عنه: ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، وقيل: كان ساداتُ العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقَّ عليهم فأمر اللَّه رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بمشاورة أصحابه؛ لئلا يثقُلَ عليهم استبدادُه بالرأي دونهم. وقرئ: (وشاورهم في بعض الأمر) (فَإِذا عَزَمْتَ): فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضها ببعض، فإن قلت: جعل الله تعالى الرحمة من الله علة للينه صلوات الله عليه مع أصحابه، وقد فسرها بأمرين، وثانيهما ظاهر المدخل في العلية، فبين وجه الأول؟ قلت: الشجاع الحقيقي من ملك نفسه عند الغضب كما جاء في صحاح الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، فربط الله جأشه سبب لكسر سورة الغضب الموجب لغلظة القلب، والحمل على اللين، فاعجب بشدة هي في الحقيقة لين! قوله: (بالمباثة) البث: إظهار الحال والحزن، الجوهري: أبثثتك سري، أي: أظهرته لك. قوله: ((فَظّاً): جافياً)، الزجاج: الفظ: الغليظ الجانب السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظاً.

فإنّ ما هو أصلح لك لا يعلمُه إلا اللَّه لا أنتَ ولا من تُشاور. وقُرِئ (فَإِذا عَزَمْتُ) بضم التاء، بمعنى: فإذا عزمتُ لك على شيءٍ وأرشدتُك إليه فتوكّل علي ولا تُشاوِرْ بعدَ ذلكَ أحداً. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَاتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَاواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 160 ـ 162]. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما خذلكم يوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) وهذا تنبيه على أن الأمر كله للَّه، وعلى وجوب التوكل عليه. ونحوه (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). [فاطر: 2] (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد خذلانه، أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان، تريد: إذا جاوزته. وقرأ عبيد بن عمير: وإن يخذلكم، من: أخذله إذا جعله مخذولا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من بعد فلان، تريد: إذا جاوزته)، الجوهري: بعد نقيض قبل، وهما اسمان يكونان ظرفين إذا أضيفا، وأصلهما الإضافة. فقول المصنف (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد خذلانه، وارد على الزمان، لكن بحذف المضاف، وأما قوله: "من بعد فلان تريد: إذا جاوزته"، فوارد على المكان، ومن ثم قيل: تقول: جئت بعد فلان ومن بعد فلان بمعنى واحد، ولكن إذا جئت بـ "من" كأنك تتعرض بالابتداء، أي: موضع ابتداء المجيء.

وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من اللَّه تعالى، والتأييد، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان (وَعَلَى اللَّهِ) وليخصَّ المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه؛ ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجاء في "المغرب": قوله، أي: قول محمد: وإن كان ليس بالذي لا بعد له، يعني: ليس بنهاية في الجودة، وكأنه رحمه الله أخذه من قولهم: هذا مما ليس بعده غاية في الجودة والرداءة، وربما اختصروا فقال: ليس بعده، ثم أدخل عليه "لا" النافية للجنس واستعمله استعمال الاسم المتمكن. قوله: (وفيه ترغيب في الطاعة .. وتحذير من المعصية)، هذا القول بعد قوله: "وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله" إشارة إلى أن عبارة النص دلت على أن الأمر كله لله، وعلى وجوب التوكل عليه، وأن إشارة النص دلت على أن الله تعالى لا ينصر ابتداءً بل ينصر بسبب تقدم الطاعة، ولا يخذل إلا بعد استحقاق المكلف الخذلان بسبب المعاصي، بناءً على مذهبه. وأما تقدير الآيات على مذهب أهل السنة: فإن قوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) تذييل للكلام السابق وتوكيد له، وفيه إشارة إلى أن المكلف إذا علم أن الأمر كله لله رجع في جميع ما سنح له من المطالب والمآرب إليه سبحانه وتعالى، فإذا لابد من تحري رضا مولاه وتقدم الوسيلة بين يدي المآرب، ولا يحصل الرضا إلا بالاحتراز عن المعاصي، ولا تنجح المطالب إلا بتقدم الوسيلة، ولا وسيلة للعباد سوى العبادة والطاعة، فصح قوله: فيه ترغيب وتحذير. ثم إن الآية السابقة واردة في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقصود منها إظهار الشفقة على المؤمنين والرفع من أقدارهم، ومذيلة بالأمر بالتوكل المعلل بالمحبة، وهذه في وصف الله تعالى، والمقصود أيضاً راجع إليهم، ومذيلة بالأمر بالاختصاص بالتوكل إيذاناً بأن عمدة الأمر هو التوكل. قوله: (لعلمهم أنه لا ناصر سواه) يعني: وضع "المؤمنون" موضع الضمير؛ للإشعار بأن صفة الإيمان هي المقتضية لاختصاص الله بالتوكل، وفيه تعريض بأن من لم يتوكل على الله تعالى لم يكن من كمال الإيمان في شيء .....

يقال: غلّ شيئًا من المغنم غلولا، وأغلّ إغلالًا، إذا أخذه في خفية. يقال: أغلّ الجازر: إذا سرق من اللحم شيئًا مع الجلد. والغل: الحقد الكامن في الصدر، ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم «من بعثناه على عمل فغلّ شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه». وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: «هدايا الولاة غلول» وعنه «ليس على المستعير غير المغل ضمان» وعنه «لا إغلال ولا إسلال» ويقال: أغله إذا وجده غالًا، كقولك: أبخلته وأفحمته. ومعنى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) وما صحّ له ذلك، يعنى أن النبوة تنافي الغلول، وكذلك من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأوّل؛ لأن معناه: وما صح له أن يوجد غالًا، ولا يوجد غالًا إلا إذا كان غالًا. وفيه وجهان: أحدهما أن يبرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من ذلك وينزه، وينبه على عصمته بأن النبوّة والغلول متنافيان؛ لئلا يظن به ظانّ شيئًا منه وألا يستريب به أحد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غير المغل) هو صفة المستعير. قوله: (ولا إسلال)، النهاية: الإسلال: السرقة الخفية، يقال: سل البعير وغيره في جوف الليل: إذا انتزعه من بين الإبل، وهي السلة، وأسل، أي: صار ذا سلة، وإذا أعان غيره عليه، ويقال: الإسلال: الغارة الظاهرة. قوله: (من قرأ على البناء للمفعول): ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (أَنْ يَغُلَّ) بفتح الياء وضم الغين، والباقون: بضم الياء وفتح الغين. ولما كان معنى هذه القراءة على سبيل الكناية راجعاً إلى القراءة الأولى قال: "فهو راجع إلى معنى الأول" وإن كانت أبلغ.

كما روي: أنّ قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض المنافقين: لعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخذها. وروي: أنها نزلت في غنائم أحد، حين ترك الرماة المركز، وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: (ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى) فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفاً، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: (بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم). والثاني: أن يكون مبالغة في النهي لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على ما روي: أنه بعث طلائع فغنمت غنائم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر) مخالف لما رواه في سورة الأنفال: عن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل، فنزعه الله من أيدينا وجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، ولعله أراد بالغنائم الأنفال، وأن المراد ما قال أيضاً فيها: "النفل: ما ينفله الغازي، أي: يعطى زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو: فلكم نصفه، أو ربعه". قوله: (والثاني: أن يكون مبالغة في النهي) يعني: أجرى الخبري مجرى الطلبي مبالغة، الانتصاف: يشهد لورود هذه الصيغة نهياً مواضع من التنزيل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) [الأنفال: 67]، (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 113]، (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) [الأحزاب: 53].

فقسمها ولم يقسم للطلائع؛ فنزلت. يعنى: وما كان لنبيّ أن يعطى قومًا ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمي حرمان بعض الغزاة «غلولًا» تغليظًا وتقبيحًا لصورة الأمر، ولو قرئ: (أَنْ يَغُلَّ) من أغل، بمعنى غل، لجاز (يَاتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنصاف: يعارضه ورود هذه الصيغة للامتناع العقلي كثيراً: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم: 35]، وكذا: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) [النمل: 60]. قوله: (لم يقسم للطلائع)، النهاية: هم القوم الذين يبعثون ليطلعوا طلع العدو كالجواسيس، واحدهم: طليعة، وقد تطلق على الجماعة، والطلائع: الجماعات. قوله: (تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر)، الانتصاف: هذا مخالف لعادة لطف الله برسوله صلى الله عليه وسلم في التأديب ومزجه باللطف، (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) بدأه بالعفو، فما كان للزمخشري أن يعبر بهذه العبارة. وقلت: قد جاء أغلظ من ذلك بناء على التهييج والإلهاب، نحو قوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] أو التعريض: (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] قال: كنى عن مباشرة النساء بالرفث استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختياناً. قوله: (بالشيء الذي غله بعينه) أي: لا يؤول قوله: (يَاتِ بِمَا غَلَّ) بما احتمل من وباله وإثمه، بل يجري الكلام على حقيقته كما جاء في الحديث، والحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك"

كما جاء في الحديث «جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» وروى: «ألا لا أعرفنّ أحدكم يأتي ببعير له رغاءٌ وببقرة لها خُوارٌ وبشاةٍ لها ثًغاءٌ، فينادى: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من اللَّه شيئًا فقد بلغتك» وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسكٍ، فتليت عليه الآية، فقال: إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. ويجوز أن يراد: يأتي بما احتمل من وباله وتبعته وإثمه فإن قلت: هلا قيل: ثم يوفى ما كسب، ليتصل به! قلت: جيء بعامّ دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت؛ لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه؛ علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي: يعدل بينهم في الجزاء، كلٌّ جزاؤه على قدر كسبه. (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) 163 ـ 164]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث، وعن الترمذي وأبي داود: "فوالذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" الحديث. قوله: (لا أعرفن) من باب قولهم: لا أرينك ها هنا. قوله: (إذن أحملها طيبة الريح) لابد أن يكفر القائل؛ لأنه إما قالها تهكماً أو استخفافاً وقلة مبالاة بالمطلوب، أو تحقيراً للذنب، ولا ينبغي أن يذكر أمثال هذه الهنات في تفسير كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قوله: (فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت). قلت: لأن الكناية أبلغ من التصريح؛ لأنها كدعوى الشيء بالبينة.

(هُمْ دَرَجاتٌ) أي: هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات كقوله: أَنَصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَرِيهِمْ رِجَالِى أمْ هُمُو دَرَجُ السُّيُولِ وقيل: ذوو درجات، والمعنى: تفاوت منازل المثابين منهم، ومنازل المعاقبين، أو التفاوت بين الثواب والعقاب. (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ): عالم بأعمالهم ودرجاتها فمجازيهم على حسبها. (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): على من آمن مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من قومه، وخص المؤمنين منهم؛ لأنهم هم المنتفعون بمبعثه (مِنْ أَنْفُسِهِمْ): من جنسهم، عربيا مثلهم. وقيل: من ولد إسماعيل، كما أنهم من ولده، فإن قلت: فما وجه المنة عليهم في أن كان من أنفسهم؟ قلت: إذا كان منهم كان اللسان واحداً، فسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه، وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنصب للمنية) البيت، النصب: رفعك شيئاً تنصبه قائماً مثل الغرض والهدف، تعتريهم أي: تصيبهم وتلحقهم، المعنى: كأن رجالي لكثرة ما يموتون غرض للموت. قال الزجاج: أي: هم ذوو درج، أو هم درج السيول، على الظرف، أي: في درج. الجوهري: قولهم: خل درج الضب، أي: طريقه. قوله: ((وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) عالم بأعمالهم)، النهاية: وفي أسماء الله تعالى البصير، وهو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وباطنها وخافيها بغير جارحة، والبصر عبارة في حقه عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات، وقال الأزهري: البصير في صفة العباد هو المدرك ببصره الألوان، وسمع الله وبصره لا يكيفان ولا يحدان، والإقرار بهما واجب كما في وصف نفسه.

كقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44] وفي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقراءة فاطمة رضي اللَّه عنها: من أنفسهم، أي: من أشرفهم؛ لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى اللَّه عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي اللَّه عنها ـ وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر: الحمد للَّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معدّ وعنصر مضر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44]) أي: شرف ونباهة، كقوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص: 1]. قوله: (الحمد لله) الخطبة مذكورة في كتاب "الوفا" لابن الجوزي، رواه عن أبي الحسين ابن فارس، وتمامه فيه: "فإن كان في المال قل، فالمال ظل زائل، ولهو حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل". الضئضئ: الأصل، النهاية: يقال: ضئضئ صدق وضؤضؤ صدق: العنصر، بضم العين وفتح الصاد: الأصل، وقد تضم الصاد، والنون زائدة عند سيبويه؛ لأنهل يس عنده فعلل بالفتح.

وجَعَلَنا حَضَنةَ بيته، وسُوّاس حرمه، وجَعَل لنا بيتاً محجوجًا وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد اللَّه من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو - واللَّه ـ بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل. وقرئ: (لمن منّ اللَّه على المؤمنين إذ بعث فيهم). وفيه وجهان: أن يراد لمن منّ اللَّه على المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم، فحذف لقيام الدلالة، أو يكون إذ في محل الرفع كـ "إذا" في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائمًا، بمعنى لمن منّ اللَّه على المؤمنين وقت بعثه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجعلنا حضنة بيته)، النهاية: في الحديث: "أنه خرج محتضناً أحد ابني بنته" أي: حاملاً له في حضنه، والحضن كالجنب، جعل الكعبة كالولد: يحتاج في خدمتها إلى الحاضنة. قوله: (وسواس حرمه)، النهاية: أي: متولي أمره كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه. قوله: ("إذ" في محل الرفع، كـ "إذا" في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً)، اعلم أن في قوله: "اخطب ما يكون الأمير قائماً"، مذاهب: أحدها: مذهب البصريين، وتقديره: أخطب ما يكون الأمير حاصل إذا كان قائماً، حذف متعلق الظرف على القياس؛ لأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ أو نحوه حذف متعلقه إذا كان عاماً. وثانيها: مذهب الكوفيين، وتقديره: أخطب ما يكون الأمير قائماً حاصل. والثالث: مذهب بعضهم أن "ما" في هذه المسألة: ظرفية، فالتقدير: أخطب أوقات الأمير وقت قيامه؛ ضرورة أن "أفعل" لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له، والخبر إذاً نفس الظرف فلا يحتاج إلى حاصل، وإنما جعلوه ظرفاً لكثرة وقوع "ما" المصدرية ظرفاً،

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِه) بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر ونجاسة سائر الجوارح بملابسة المحرمات وسائر الخبائث، وقيل: ويأخذ منهم الزكاة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ): القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ): من قبل بعثة الرسول. (لَفِي ضَلالٍ) إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال (مُبِينٍ) ظاهر لا شبهة فيه. (أَوَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) 165 ـ 168]. (أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ): يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم، (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. و (لَمَّا) نصب ب (قلتم)، و (أَصابَتْكُمْ) في محل الجرّ بإضافة (لَمَّا) إليه وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. و (أَنَّى هذا) نصبٌ، لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع، فإن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمصنف اختار ها هنا هذا المذهب، وتقرير معنى هذا الوجه: أنه إذا جعلت أوقاته خطباً فقد جعل الرجل خطيباً على المبالغة، كقولهم: نهاره صائم، فالإسناد مجازي، ومآل معنى الآية على ما ذهب إليه: على الكناية؛ لأن وقت البعث إذا جعل منة لأجل المبعوث فبأن يجعل المبعوث أجل امتناناً على المؤمنين كان أحرى. قوله: (علام عطفت الواو هذه الجملة؟ )، قال الزجاج: الواو في (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ)

قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) [آل عمران: 152]، ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ: (أنى هذا): من أين هذا، كقوله تعالى: (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران: 37] لقوله: (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [آل عمران: 37]، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حرف نسق دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة، ونحوه قول القائل: تكلم فلان في كذا، فيقول القائل: أوَهو ممن يقول؟ . وقلت: المعطوف عليه إن كان ما مضى فالهمزة داخلة بين المعطوف والمعطوف عليه للطول مزيداً للإنكار، ولابد إذاً من إنكار في الكلام السابق، ومضمون المعطوف عليه وهو جملة قوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ) الآية، أكان من الله الوعد بالنصر على أعدائكم بشرط الصبر والتقوى، فلما فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم أمر الرسول صلوات الله عليه، ونفر أعقابكم يريدون الدنيا، وأصابكم الله بما أصابكم و (قُلْتُمْ) حين أصابكم ذلك: (أَنَّى هَذَا)؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أنتم السبب فيما أصابكم. قوله: (ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف) وتقديره: أفعلتم كذا، أي: الفشل والتنازع والعصيان أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أصابتكم مصيبة قلتم: أنى هذا؟ فالهمزة حينئذ دخلت على صدر الكلام. قوله: (لقوله: (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)): تعليل لتفسير (أَنَّى هَذَا)، و (أَنَّى لَكِ هَذَا) [آل عمران: 37]، فقوله: من أين، على طريقة النشر، يعني معنى قولهم: (أَنَّى هَذَا): من أين هذا؟ ليطابقه جوابه (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، ولو قيل: معناه: كيف هذا؟ لم يطابقه؛ لأن السؤال عن الحال لا يجاب بالظرف، وكذا معنى (أَنَّى لَكِ هَذَا): من أين لك هذا ليطابق جواب مريم (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [آل عمران: 37].

والمعنى: أنتم السبب فيما أصابكم، لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز، وعن علىّ رضي اللَّه عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدرٍ قبل أن يؤذن لكم، (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى، (وَما أَصابَكُمْ) يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين (فـ) هو كائن (بإذن الله) أي: بتخليته، استعار الإذن لتخليته الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم؛ لأنّ الإذن مخل بين المأذون له ومراده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم)، أي: المسلمين من الكفار: عطف تفسيري على قوله: "استعار الإذن لتخليته الكفار"، وقد مر كيفية استعارة الإذن في هذه السورة. فإن قلت: ذكرت أن الإذن مستعار لتيسير الأمور من تسهيل الحجاب، وبينت أن من قضى عليه الموت كأنه يستوفي مدة أجله ويطلب من الله تيسير ذلك، فما وجهه ها هنا؟ قلت: لما بنى التكليف على الاختيار والابتلاء، استعير ها هنا الإذن لتخلية الكفار وغلبتهم على المسلمين، فكأن التكليف يستدعي التخلية ويطلب التيسير للابتلاء. وقوله: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ): عطف على محذوف يدل عليه قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي: ما أصابكم يوم التقى الجمعان فبتيسير الله لابتلاء المؤمنين والمنافقين، وليقع ما علمناه غيباً مشاهداً للناس، فيترتب عليه الجزاء. ويؤيده تقديره فيما سبق في قوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)، والثاني: أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليها، ومعناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وقال فيه أيضاً: وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء، فعلى هذا يكون قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) وعيداً للمنافقين، وطوى وعد المؤمنين ليفيد ضرباً مبهماً من الوعد، فقوله: " (وَلِيَعْلَمَ) وهو كائن" معناه: وليعلم الذي أصابكم يوم التقى الجمعان حال وجوده ليجازي عليه، وهو المعني بقولنا: ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء. قوله: (لأن الإذن مخل) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة، هو تعليل للاستعارة.

(وَلِيَعْلَمَ): وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء (وَقِيلَ لَهُمْ) من جملة الصلة، عطف على (نافقوا)، وإنما لم يقل فقالوا؛ لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال، كأنه قيل: فماذا قالوا لهم؟ فقيل: قالوا: لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على: (نافَقُوا)، ويكون (وَقِيلَ لَهُمْ) كلامًا مبتدأ، قُسم الأمرُ عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، وبين أن يقاتلوا ـ إن لم يكن بهم غم الآخرة ـ دفعًا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما لم يقل: فقالوا) أي: في قوله تعالى: (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً) أي: لِمَ لم يجيء بالرابط بين متعلقي صلة الموصول؟ إذ التقدير: قيل لهم: تعالوا قاتلوا، فقالوا: لو نعلم قتالاً لقاتلنا. وأجاب: أن الربط المعنوي قائم، وهو الاستئناف على الجواب والسؤال. قوله: (ويكون (وَقِيلَ لَهُمْ): كلاماً مبتدأ). لما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم في الآيات، وبين أن الدائرة إنما كانت للابتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين، وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله من إصابة المؤمنين كائن لا محالة، أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة، وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام، والنفاق على هذا مطلق متعارف، وعلى أن يكون (وَقِيلَ لَهُمْ): عطفاً على (نَافَقُوا) يكون بياناً له، وأنه نفاق خاص أظهروه في ذلك المقام حيث قالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ)، وإليه الإشارة بقوله: "وجحدوا القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم". قوله: (قسم الأمر) شروع في تفسير قوله: (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) إلى آخره. قوله: (ودغلهم)، الأساس: الدغل: نحو الغيل والشجر الملتف، ومن المجاز: اتخذ الباطل دغلاً، ومنه: دغل فلان، وفيه دغل، أي: فساد وريبة.

وذلك ما روي: أن عبد اللَّه بن أبيّ انخزل مع حلفائه، فقيل له، فقال ذلك. (أَوِ ادْفَعُوا) العدوّ بتكثيرِكم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا؛ لأنّ كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. وعن سهل بن سعد الساعدي ـ وقد كف بصره: لو أمكننى لَبِعتُ دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: (أَوِ ادْفَعُوا) أراد أكثر سوادهم. ووجه آخر؛ وهو أن يكون معنى قولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا): لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا (لَاتَّبَعْناكُمْ): يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى الهلكة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (انخزل مع حلفائه)، الأساس: كلمته فخجل وانخزل في مشيته: استرخى، وأقدم على الأمر ثم انخزل عنه، أي: ارتد وضعف. قوله: (لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً) أي: ليس ما تدعونا إليه من جنس القتال، وإنما هو من جنس التهلكة، وهو من باب إخراج نوع من جنس وإدخاله في جنس آخر بالادعاء والمبالغة، كما إذا رأيت إنساناً تشجع وفاق أقرانه في الإقدام قلت لصاحبك: إذا أردت أسداً فعليك بفلان، وإنما هو أسد وليس آدمياً، بل هو أسد، وإليه الإشارة بقوله: "ولا يقال لمثله: قتال، وإنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة"، وعلى الوجه الأول يراد بـ (قِتَالاً) نوع منه، أي: هذا الذي تدعونا إليه من القتال لا طاقة لنا به لضعفنا وشوكة العدو، ولذلك عرف القتال في قوله: "فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأساً"، وعلى الثاني: المنفي القتال، وعلى الأول: القدرة عليه؛ لأن التقدير: لو نحسن قتالاً تدعوناً إليه لاتبعناكم، يقال: فلان لا يحسن القتال، أي: لا يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان، وعليه كلام القاضي: لو نحسن قتالاً لاتبعناكم، وإنما قالوه دغلاً واستهزاء.

لأنّ رأي عبد اللَّه كان في الإقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج، (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) يعنى: أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا؛ تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان؛ لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين. (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ): لا يتجاوز إيمانُهم أفواههم ومخارج الحروف منهم، ولا تعي قلوبهم منه شيئًا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تباعدوا بذلك عن الإيمان ... واقتربوا من الكفر) هذا يشعر بأن (أَقْرَبُ) عمل في الكفر وفي الإيمان، قال أبو البقاء: اللام في "الكفر" و"الإيمان" متعلقة بـ ((أَقْرَبُ)، وجاز أن يعمل فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف؛ لأن "أفعل" يدل على معنيين: على أصل الفعل، وعلى زيادته؛ فيعمل كل واحد من الطرفين بمعنى غير الآخر، فتقديره: يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان، واللام على بابها، وقيل: هي بمعنى "إلى"، قال السجاوندي: (لِلْكُفْرِ) أي: لأهله، أو إليه، يلازم الكفر كل منهم كأنه قريب له يحنو عليه. قوله: (لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم) مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، الحديث أخرجه أبو داود عن أنس وأبي سعيد.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من النفاق، وبما يجرى بعضهم مع بعض من ذمّ المؤمنين، وتجهيلهم، وتخطئة رأيهم والشماتة بهم، وغير ذلك؛ لأنكم تعلمون بعض ذلك علماً مجملًا بأمارات، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته. (الَّذِينَ قالُوا) في إعرابه أوجه: أن يكون نصباً على الذمّ، أو على الردّ على (الذين نافقوا)، أو رفعا على: هم (الذين قالوا)، أو على الإبدال من واو (يكتمون)، ويجوز أن يكون مجروراً بدلا من الضمير في (بأفواههم) ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والترقوة: العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، وذلك أن الهمزة والهاء مخرجهما من أقصى الحلق قريب من الترقوة. والرمية: الصيد المرمي، يقال: بئس الرمية الأرنب، أي: بئس الشيء مما يرمى الأرنب، وإنما جاءت بالهاء لأنها صارت في عداد الأسماء. قوله: (وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته). هذا معتقد المحقين المحققين دون مذهب المبطلين المذممين، فإنهم ينسبون العلم المجمل إلى الله تعالى والمفصل إلى المخلوقين. قوله: (أو على الرد) أي: البدلية، وإنما قال: "على الرد"؛ لأنه أتبع إعرابه إعراب ذلك، وهو منصوب على أنه مفعول (وَلِيَعْلَمَ). قوله: (هم الذين نافقوا)، وفي نسخة: "هم (الَّذِينَ قَالُوا) "، والتنزيل مطابق لهذا وهو الأصح. قوله: (من واو (يَكْتُمُونَ)) المعنى، والله أعلم: بما يكتم الذين قالوا. قوله: (بدلاً من الضمير في (بِأَفْوَاهِهِمْ)) أي: يقولون بأفواه الذين قالوا لإخوانهم، فيكون من باب التجريد، قال الشاعر: دعوت كليباً دعوة فكأنما ... دعوت به ابن الطود أو هو أسرع

أو (قلوبهم)، كقوله: عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حَاتِمُ (لِإِخْوانِهِمْ): لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد، أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار. (وَقَعَدُوا) أي: قالوا وقد قعدوا عن القتال: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه: قل: إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلًا وهو القعود عن القتالـ فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً. يعنى: أن ذلك الدفع غير مغن عنكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو (قُلُوبُهُمْ))، المعنى: ما ليس في قلوب الذين قالوا، فهو أيضاً تجريد على نحو قوله تعالى: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ) [فصلت: 28]. قوله: (على جوده)، أوله: على حالة لو أن في القوم حاتماً على جوده: حال من ضمير الاستقرار، أي: لو أن حاتماً مستقر في القوم، أي: كائناً على جوده، "حاتم" بالجر؛ لأن القوافي كلها مجرورة، وهو: بدل من الهاء، من جوده: بدل المظهر من المضمر نحو: مررت به أبي زيد. قبله: فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم الصرائم: جمع الصرمة، وهي القطيعة من الإبل. قوله: (فجدوا) بالتخفيف: أمر من وجد، الجوهري: وجد مطلوبه يجده وجوداً.

لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بُدَّ لكم مِنْ أن يتعلق بكم بعضها. روي: أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره؛ لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجهٌ آخرُ: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعُونا. وقعدوا ما قتلوا، يعنى: أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مُقاتِلين. وقوله: (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ): استهزاء بهم، أي: إن كنتم رجالا دفاعين لأسبابِ الموت، فادرؤوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما أنكرتم أن يكون السبب غيره)، قيل: "ما" في "ما أنكرتم": مصدرية، وهو معطوف على مقالتكم، ويجوز أن تكون استفهامية إنكارية كقوله: "فما يدريكم؟ " أي: لم تخصون السبب بما تذكرون وتنكرون غيره. قوله: (ووجه آخر): عطف على قوله: "معناه: إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً، وهو القعود عن القتال"، وهو مبني على مفهوم قولهم: على ما قدره: "لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا"، وهذا على لفظه، والسؤال، وهو قوله: "فقد كانوا صادقين"، وارد على الأول، وحاصله: أن كونهم دافعين القتل عن أنفسهم حاصل، والحاصل لا يعلق به شيء، وتلخيص الجواب: أن التعليق وارد على خلاف مقتضى الظاهر، لأن الكلام مبني على إنكار حصرهم سبب النجاة في القعود وجزمهم فيه، بدليل قوله: "وما أنكرتم أن يكون السبب غيره"، وفيه تسليم أن قعودهم كان سبباً للنجاة، يدل عليه قوله فيما سبق: "إن دفعتم القتل، الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة"،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه شائبة من الاعتزال ومنع القدر، والذي يقتضيه النظم أن قولهم: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، متصل بقوله: (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ)، وذلك أنهم حين جبنوا وقعدوا ما اكتفوا بذلك، بل ثبطوا المؤمنين بأن قالوا: إن ما أنتم متوجهون فيه ليس بقتال بل إلقاء للنفس إلى التهلكة، وإنا لو (نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ)، وحين سمعوا بالمقتولين يوم أحد قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا) في أن ذلك كان إلقاء للنفس إلى التهلكة، (مَا قُتِلُوا)، فقيل لهم: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أن القتال إلقاء للنفس إلى التهلكة، وأن القعود سبب النجاة، يعني أن الموت والقتل سيان في أنكم لا تقدرون على دفع كل واحد منهما، وأن القعود لم يكن دفعاً للقتل كما قال تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ). قال الإمام: هذا الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا بالاعتراف بالقضاء والقدر، فإن القتل والموت سيان حينئذ، وأما إذا قلنا: إن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين القتل والموت ظاهراً، وهذا يفضي إلى فساد الدليل، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله وقدره. وتقريره: أن قوله: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ) رد لقولهم: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، فلو لم يجعل القتل كالموت لم يصح الرد، أي: لا فرق بين القتل والموت في أنكم غير قادرين على دفعه لكونهما من قضاء الله وقدره. الراغب: القتل: إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال: قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال: موت، قال تعالى: (أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) 169 ـ 171]. (وَلا تَحْسَبَنَّ) الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو لكل أحد. وقُرئ بالياء على: ولا يحسبنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو: ولا يحسبنّ حاسبٌ. ويجوزُ أن يكونَ (الَّذِينَ قُتِلُوا) فاعلًا، التقدير: ولا يحسَبَنَّهم الذين قُتِلوا أمواتًا، أي: ولا يحسَبَنَّ الذين قُتِلوا أنفُسَهم أمواتًا. فإن قلتَ: كيف جازَ حذفُ المفعول الأوّل؟ قلتُ: هو في الأصل مبتدأٌ، فحُذِفَ كما حُذف المبتدأُ في قوله (أَحْياءٌ) والمعنى: هم أحياءٌ لدلالةِ الكلام عليهما. وقُرئ: (تحسبنّ) بفتح السين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بالياء على: ولا يحسبن): هشام وابن عامر. قوله: (كما حذف المبتدأ) وحذف أحد المفعولين في باب الحسبان مذهب الأخفش، خلافاً لسيبويه. قال صاحب "التحفة": وأجاز الكوفيون الاقتصار على الأول إذا سد شيء مسد الثاني، كما في باب المبتدأ، نحو: أقائم أخواك؟ وقال المالكي: إذا دل الدليل على أحدهما جاز حذفه. وقال المصنف في قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) [النور: 57] "والأصل: لا تحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كان لشيء واحد اقتنع بذكر الاثنين عن ذكر الثالث".

و (قُتِّلوا) بالتشديد، و (أحياءً) بالنَّصب على معنى: بل احسبْهم أحياءً (عِنْدَ رَبِّهِمْ) مقرّبون عنده ذَوُو زُلفى، كقوله: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ). [فصلت: 38]. (يُرْزَقُونَ) مِثْلَ ما يُرزَقُ سائرُ الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيدُ لكونِهم أحياءً، ووصفٌ لحالهِم التي هُمْ عليها من التنعُّم برِزْق اللَّه. (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): وهو التوفيقُ في الشَّهادة وما ساقَ إليهم من الكَرامةِ والتفضيل على غيرِهم، مِنْ كَوْنِهم أحياءً مقرّبين مُعجَّلا لهم رِزْقُ الجنَّة ونعيمُها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لما أُصِيبَ إخوانُكم بأُحدٍ جَعَلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طَير خُضرٍ تَدُورُ في أنهارِ الجنَّة وتأكُلُ مِن ثِمارِها وتأوي إلى قنَاديلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعلَّقة في ظِلِّ العَرْش» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"قتلوا" بالتشديد): ابن عامر. قوله: (ذوو زلفى) قيل: الخليل يكتب الألف عند ضمير الجماعة فرقاً بينه وبين سائر الواوات، وغيره لا يثبتها جرياً على القياس، فإن الخط مع اللفظ وليس في اللفظ ألف. قوله: (كقوله: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)) يعني: قوله: (عِنْدَ رَبِّهِمْ) كناية عن الزلفى والمكانة، نحو قوله تعالى: (فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ) [فصلت: 38] أي: فإن لم يمتثلوا ما أمروا به فدعهم، فإن الله عز وجل لا يعدم عابداً بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار. قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد") الحديث من رواية أحمد بن حنبل وأبي داود، عن ابن عباس، مذكور في مسندهما مع تغيير يسير، ومن رواية مسلم، عن مسروق، في "صحيحه"، قال الإمام التوربشتي: أراد بقوله: "أرواحهم في أجواف طير خضر" أن الروح الإنسانية المتميزة المخصوصة بالإدراكات، بعد مفارقتها البدن يهيأ لها طير أخضر، فتنتقل إلى جوفه ليعلف ذلك الطير من ثمر الجنة، فتجد الروح بواسطته لذة

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بـ) إخوانهم المجاهدين (الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي: لم يقتلوا فيلحقوا بهم، (مِنْ خَلْفِهِمْ): يريد الذين من خلفهم قد بَقُوا بَعدَهم وهُم قد تقدموهم. وقيل: (لم يلحقوا بهم)، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بدل من (الَّذِينَ)، والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين؛ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجنة وروح البهجة والسرور، ولعل الروح تحصل لها تلك الهيئة إذا تشكلت وتمثلت بأمر الله طيراً أخضر كتمثل الملك بشراً، وعلى أية حال كانت، فالتسليم واجب علينا لورود البيان الواضح على ما أخبر عنه الكتاب والسنة وروداً صريحاً، ولا سبيل إلى خلافه. وقلت: والله أعلم: في الآية تشبيه؛ لأن باب علمت وحسبت من دواخل المبتدأ والخبر، فالواجب حمل المفعول الثاني على الأول، ولا يصح ذلك في الآية إلا بالتشبيه نحو: حسبت زيداً أسداً، على أن بعض الأصحاب عد هذا الباب من أداة التشبيه، كأنه قيل: لا تحسبنهم كالأموات بل احسبنهم كالأحياء، ثم بين ما به شبهوا بهم بقوله: (يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ) فيكون حديث الطير بياناً لكيفية حياتهم وإيصال الرزق إليهم، وإلى التشبيه أشار المصنف بقوله: "مثل ما يرزق سائر الأحياء"، ومما يشد من عضد أن حكمهم خلاف حكم سائر الأموات ما روينا عن أبي داود والترمذي، عن فضالة بن عبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة". قوله: ((أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بدل من (الَّذِينَ))، أي: بدل الاشتمال، لأن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد إلى (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)، وقد ضم إليه السلامة من الخوف والحزن. قوله: (ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم) أي: يسرون بالبشارة بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا وهو أنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور وحزن فوات محبوب، فعلى هذا (يَسْتَبْشِرُونَ) بمعنى: يبشرون، الجوهري: وبشرت بكذا، بالكسر أبشر، أي: استبشرت به.

وهو أنهم يُبْعَثون آمِنين يومَ القيامة، بشَّرَهم اللَّهُ بذلك؛ فهم مُستبشِرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحْمادٌ لحالِ من يرى نَفْسَه في خيرٍ فيتمنّى مثله لإخوانِه في اللَّه، وبُشرى للمؤمنينَ بالفوزِ في المآب. وكُرّر (يَسْتَبْشِرُونَ) ليعلق به ما هو بيان لقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مِن ذِكْرِ النعمة والفضل، وأنّ ذلك أجرٌ لهم على إيمانِهم يجبُ في عَدْلِ اللَّه وحِكْمتِه أن يُحصَّلَ لهم ولا يُضيَّع. وقُرئ: (وَأَنَّ اللَّهَ) بالفتح عطفاً على النَّعمةِ والفضل، وبالكسر على الابتداء وعلى أنّ الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي. وتعضدها قراءة عبد اللَّه، واللَّه لا يضيع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: بشرت الرجل وأبشرته وبشرته: أخبرته بسار يبسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجر، وبين هذه الألفاظ فروق، فإن بشرته عام، وأبشرته نحو أحمدته وبشرته على التكثير، واستبشر: إذا وجد ما يبشره من الفرح. قال القاضي: الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس. قوله: (بيان لقوله: (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) يعني: كرر (يَسْتَبْشِرُونَ) ليعلق به قوله: (بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، وهو بيان وتفسير لقوله: (أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لأن الخوف: غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، والحزن: غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار مما فات منه، فمن كان متقلباً في نعمة من الله وفضل فلا يحزن أبداً، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة. قوله: (على أن الجملة اعتراض) أي: تذييل للآيات السابقة من لدن قوله: (لا تَحْسَبَنَّ

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) 172 ـ 174]. (الَّذِينَ اسْتَجابُوا): مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)، أو صفة ل (المؤمنين)، أو نصب على المدح. رُوي أنّ أبا سُفيان وأصحابَه لما انصرفوا مِنْ أُحدٍ فبَلَغوا الرَّوْحاءَ نَدمُوا وهموا بالرجوع، فبَلَغَ ذلك رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وفي ذكر المؤمنين إشعار بأن من وسم بسمة المؤمنين كائناً من كان، شهيداً مقرباً أو من أصحاب اليمين، فإنه تعالى لا يضيع أجره (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) [الزلزلة: 7]. قال القاضي: هو دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم، وذلك مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة. قوله: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا): مبتدأ، وخبره: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)) أي: الذين استجابوا مع ما في حيز الصلة: مبتدأ، وقوله: (أَجْرٌ عَظِيمٌ): مبتدأ ثان، و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا): خبره، والجملة: خبر المبتدأ الأول. قوله: (أو صفة لـ (الْمُؤْمِنِينَ)، أو نصب على المدح)، فعلى هذا يجب أن تكون "أن" المفتوحة مع ما بعدها معطوفة على النعمة والفضل، ويكون (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الآية، مستأنفة، أي: ما لهم حينئذ؟ فقيل: "لهم أجر عظيم". قوله: (ويريهم من نفسه وأصحابه قوة) أي: تجلداً.

وقال: (لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس)، فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى اللَّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت. و «من» في (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) للتبيين مثلها في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح: 29]؛ لأنّ الذين استجابوا للَّه والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، لا بعضهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من حضر يومنا) أي: وقعتنا، الأساس: ذكر في أيام العرب بكذا، أي: في وقائعها، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) [إبراهيم: 5]: بدمادمه على الكفرة. قوله: (حمراء الأسد) ليست هي بدراً الصغرى كما في الحواشي، قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": لما انصرفوا من أحد بات الناس يداوون جراحاتهم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أمر بلالاً فنادى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، وخرج فعسكر بحمراء الأسد وذهب العدو فرجع إلى المدينة، وسيجيء بعد هذا قصة بدر الصغرى عند قوله: "حتى وافوا بدراً". قوله: (فتحاملوا)، الأساس: تحاملت الشيء: حملته على مشقة. قوله: (و"من" في (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ): للتبيين)، فالكلام فيه تجريد، جرد من الذين استجابوا لله والرسول: المحسن والمتقي، قال القاضي: المقصود من ذكر الوصفين المدح لا التقييد؛ لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون.

وعن عروة بن الزبير قال: قالت لي عائشة رضي اللَّه عنها: «إن أبويك لمن الذين استجابوا للَّه والرسول. تعنى: أبا بكر والزبير. (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ): روى أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد: يا محمّدُ موعِدُنا موسم بَدْرٍ لقابلٍ إنْ شئت. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: إن شاء اللَّه فلمّا كان القابلُ خرج أبو سُفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران، فألقى اللَّه الرعب في قَلْبِه فبدا له أن يرَجِعَ، فلَقِيَ نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قَدِمَ معتمراً فقال: يا نعيم، إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي. أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم؟ ! فو اللَّه لا يفلت منكم أحد. وقيل: مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القبس يريدون المدينة للميرة، فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم، فكره المسلمون الخروج. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد"، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل ـ وقيل: هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله عليه حين ألقي في النارـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن أبويك لمن الذين استجابوا لله ... ، تعني: أبا بكر والزبير)؛ لأن أمه أسماء بنت أبي بكر، روينا عن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ) الآية، قالت لعروة: كان أبواك منهم؛ الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما، لما أصاب نبي الله ما أصاب يوم أحد فانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال: "من يذهب في أثرهم؟ "، فانتدب منهم سبعون رجلاً، فيهم أبو بكر والزبير.

حتى وافوا بدراً فأقاموا بها ثماني ليال، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة، فسمى أهل مكة جيشه جيش السَّويق. قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. فالناس الأوّلون: المثبطون، والآخرون: أبو سفيان وأصحابُه. فإن قلت: كيف قيل (النَّاسُ) إن كان نعيم هو المثبط وحده؟ قلتُ: قيل ذلك؛ لأنه من جنس الناس، كما يقال: فلان يركب الخَيْلَ ويلبس البُرود، وما له إلا فرس واحدٌ وبردٌ فَرد؛ أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه، ويَصِلون جَناح كلامِه، ويُثبِّطون مِثلَ تَثْبيطهِ. فإن قلت: إلام يرجعُ المستكنُّ في (فَزادَهُمْ)؟ قلت: إلى المقُولِ الذي هو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً؛ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جيش السويق)، قال ابن الجوزي: إن أبا سفيان قال: حرام أن ندهن حتى نثأر من محمد وأصحابه، فوصل إلى نحو المدينة فقتل رجلين وأحرق، ورأى أن يمينه قد حلت فهرب، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في أثرهم، فجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون يلقون جرب السويق، فيأخذها المسلمون، ولم يلحقوه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وسميت الغزوة غزوة السويق. قوله: (الأولون: المثبطون، والآخرون: أبو سفيان) يعني: في قوله تعالى: (قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يروى الآخرون، بكسر الخاء وفتحها، وكلاهما جائزان، الجوهري: الآخر بعد الأول، وهو صفة، تقول: جاء آخراً، أي: أخيراً، وبالفتح: أحد الشيئين، وهو اسم إلا أن فيه معنى الصفة. قوله: (ويصلون جناح كلامه) استعارة: شبه ما يصلونه من كلام بكلامه الذي يريد ترويجه عند المسلمين بقدح لا ريش له: فيوصل بالجناح ليكون سهماً مرسلاً، أو بطائر يريد الطيران فيضم إلى أجنحته ما يزيد به طيرانه.

أو إلى مصدر (قَالُوا)، كقولك: مَن صَدَقَ كان خيراً له؛ أو إلى (الناس) إذا أريد به نُعَيمٌ وَحْدَه. فإن قلت: كيف زادهم نُعَيمٌ أوْ مَقُولُه إيمانًا؟ قلتُ: لمّا لم يَسمَعُوا قولَه وأخْلصوا عنده النيَّة والعزمَ على الجهاد، وأظهَروا حَميّة الإسلام، كان ذلك أثبتَ ليَقينِهم وأقوى لاعتقادِهم، كما يزدادُ الإيقانُ بتناصُرِ الحُجج؛ ولأنّ خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. وعن ابن عمر: قلنا يا رسول اللَّه إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نَعمْ يزيدُ حتى يُدخِلَ صاحبه الجنّة. ويَنْقُصُ حتى يُدخِل صاحبَه النار». وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قُم بنا نزدَدْ إيمانًا. وعنه: لو وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ بإيمانِ هذه الأُمّة لرجَحَ به (حَسْبُنَا اللَّهُ) مُحْسِبُنا الله، أي: كافِيْنا. يقالُ: أحسبَه الشيءُ إذا كَفاه. والدليلُ على أنه بمعنى المُحسب: أنك تقول: هذا رجلٌ حَسْبُك، فتصف به النكرة؛ لأنّ إضافته لكونِه في معنى اسم الفاعل غيرُ حقيقة. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): ونعم الموكول إليه هو. (فَانْقَلَبُوا): فرجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ): وهي السلامة وحذر العدوّ منهم (وَفَضْلٍ): وهو الربح في التجارة، كقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ). [البقرة: 198]، (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ): لم يلقَوا ما يَسوءهم من كيد عدوّ (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) بجرأتهم وخروجهم (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ): قد تفضَّل عليهم بالتَّوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم، وإظهار لخطأ رأيهم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة)، هذا مبني على أن الإيمان ذو شعب، وكل طاعة تزيد فيه، وعلى الأول كان الإيمان عبارة عن التصديق، والمراد بالزيادة: الطمأنينة في اليقين وأن تظاهر الأدلة يقوي اليقين. قوله: (وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم)، يعني في عطف قوله: (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)

حيث حَرَموا أنفُسَهم ما فازَ به هؤلاء. وُروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم اللَّه ثواب الغزو ورضي عنهم. (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 175]. (الشَّيْطانُ) خَبَرُ (ذلكم)، بمعنى: إنما ذلك المثبط هو الشيطان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على قوله: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) على سبيل التكميل، وتذييل الآية بقوله: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) مع التصريح بالاسم الجامع، وإسناد (ذُو فَضْلٍ) إليه ووصفه بـ (عظيم)، إيذان بأن المخلفين فوتوا على أنفسهم أمراً عظيماً لا يكتنه كنهه، وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسراً ليس بعده. قوله: ((الشَّيْطَانِ): خبر (ذَلِكُمُ))، ذكر في الآية وجوهاً: أحدها: (الشَّيْطَانِ): خبر (ذَلِكُمُ)، والظاهر أن المشار إليه (النَّاسُ) المذكور أولاً في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، وهو نعيم بن مسعود، لقوله: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ) المثبط، والمراد بأوليائه: أبو سفيان وأصحابه، فيكون قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) على تقدير جواب سائل: لم قصرت الشيطنة فيه؟ وأجيب: بأنه يخوف المسلمين أبا سفيان وأصحابه خديعة ومكراً، وتخويفه قوله: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد. وثانيهما: أن يكون (الشَّيْطَانِ): صفة، و (يُخَوِّفُ): الخبر، وحينئذ يجوز أن يراد بالمشار إليه الناس المذكور أولاً، وهو نعيم، أو الثاني، وهو أبو سفيان، والمراد بتخويف أبي سفيان نداؤه عند انصرافه من أحد: يا محمد، موعدنا موسم بدر لقابل، ولما كان الوجه الأول أبلغ لمكان التخصيص بتعريف الخبر وموقع الاستئناف، وكان تخويف نعيم ظاهراً، اختص به. وثالثها: أن يكون المضاف محذوفاً، والمراد بالشيطان إبليس كما صرح به. وعلى هذه الوجوه المفعول الأول محذوف، والمراد بالأولياء أبو سفيان وأصحابه، ويدل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على هذا التقدير قراءة ابن عباس وابن مسعود، ويجوز أن يراد بالأولياء: القاعدون، والمفعول الثاني محذوف، والمراد بالتخويف: ما أوقع الشيطان في قلوبهم من الجبن والخور والرعب، وكأن أقرب الوجوه الوجه الأخير؛ لأنه قيل في حق السابقين غير القاعدين: (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فوضع موضع فما خافوا فزادهم إيماناً، وقال في حق هؤلاء القاعدين: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي)، وسموا أولياء الشيطان تغليظاً، ولذلك قرن به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مقابلاً لقوله: (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً). ثم إن أريد بالأولياء أبو سفيان وأصحابه والخطاب بقوله: (يخوفكم): المؤمنون الخلص، كان قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في معنى التعليل، فلا يقتضي الجزاء كما سبق. وإن أريد به المتخلفون كان المعنى: إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي، لأن الإيمان يقتضي أن يؤثروا خوف الله على خوف الناس، كما قال الإمام: المعنى: الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، وأما أولياء الله فهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره، وهذا قول الحسن والسدي. وقلت: النظم يساعد عليه، فإنه تعالى لما بين أن الذي أصاب المؤمنين يوم التقى الجمعان إنما أصابهم ليتميز المؤمن المخلص من المنافق، فقسمهم أقساماً بدأ بذكر المنافقين، ثم ثنى بذكر المؤمنين، وجعلهم طبقات، فذكر من استشهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، واستتبع مدحهم مدح الطبقة الثانية الذين لم يلحقوا بهم، فذكر من أوصافهم أنهم الذين استجابوا لله والرسول تعريضاً بالمتخلفين وأنهم الذين (قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً)، ولما فرغ من مدحهم التفت إلى الطبقة الثالثة، وقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ)، ثم ثلث بذكر الذين محضوا الكفر وواطأت قلوبهم ألسنتهم، فقال: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران: 176] مستطرداً لذكر أولياء الشيطان،

و (يخوّف أولياءه) جملةٌ مستأنَفة بيانٌ لشَيْطنتِه. أو (الشَيْطَانُ) صفةٌ لاسم الإشارة، و (يخوّفُ) الخبرُ. والمراد بالشيطانِ نُعيم، أو أبو سفيان. ويجوزُ أنْ يكونَ على تقدير حَذْف المُضاف، بمعنى: إنما ذلكم قول الشيطان، أي: قولُ إبليسَ لَعَنَه اللَّه (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) يخوّفكم أولياءَه الذين هم أبو سفيان وأصحابُه. وتدلُّ عليه قراءةُ ابنِ عباسٍ وابنِ مسعود: يخوفكم أولياءه. وقوله: (فلا تخافوهم). وقيل: (يخوّف أوليَاءَهُ): القاعدين عن الخروج مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: فإلامَ رَجَعَ الضَّميرُ في (فَلا تَخافُوهُمْ) على هذا التفسير؟ قلت: إلى (النَّاسَ) في قوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173]، (فَلَا تَخَافُوهُمْ) فتقعُدوا عن القِتالِ وتَّجبْنُوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم عاد إلى ما بدأ منه من قوله: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [آل عمران: 179] توكيداً وتقريراً، ولما أراد أن يذكر اليهود جعل قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [آل عمران: 180] تخلصاً إليه، ثم قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) [آل عمران: 181]، والله أعلم. قوله: (القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن: متعلق بالقاعدين، ومع: يتعلق بالخروج، فعلى هذا مفعوله الثاني محذوف، أي: يخوف أولياءه القاعدين (النَّاسُ)، وهم أبو سفيان وأصحابه، والضمير في (فَلا تَخَافُوهُمْ) راجع إلى (النَّاسُ) المذكور. قوله: (فإلام رجع الضمير؟ ) جاء في السؤال بالفاء للإنكار، يعني: أن الضمير في (فَلا تَخَافُوهُمْ) على الأول كان راجعاً إلى أولياء الشيطان، وهم أبو سفيان وأصحابه، وحين فسرت الأولياء بالمخلفين لا يصح ذلك؛ لأن الشيطان ما خوفهم أنفسهم فإلام يرجع الضمير؟ قوله: ((فَلا تَخَافُوهُمْ) فتقعدوا) فتقعدوا: قيل: ليس منصوباً بـ "أن"، ليكون جواباً للنهي، بل هو مجزوم بـ "لا" معطوف على (تَخَافُوهُمْ) بدليل قوله بعد ذلك: " (وَخَافُونِ)

(وَخافُونِ) فجاهِدوا مع رَسُولي، وسارِعُوا إلى ما يأمُرُكم به، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى: أنّ الإيمان يقتضى أن تُؤثرِوا خوف اللَّه على خوف الناس، (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ). [الأحزاب: 39]. (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) 176 ـ 178]. (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ): يَقَعُون فيه سريعاً، ويَرغَبون فيه أشدّ رَغْبة، وهم الذين نافَقُوا من المتخلِّفين. وقيل: هم قومٌ ارتدّوا عن الإسلام. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَلا يَحْزُنْكَ)؟ ومن حق الرسول أن يحزَنَ لنفاقِ من نافَقَ وارتِدادِ من ارتدّ؟ قلتُ: معناه: لا يحزُنوكَ لخوفِ أن يضرّوك ويُعينوا عليك، ألَا ترى إلى قوله: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً)، يعنى: أنهم لا يضرُّون بُمسارعتِهم في الكُفْر غيرَ أنفُسِهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فجاهدوا"، ويجوز أن يكون منصوباً، أي: لا يكن منكم خوف، فقعود عن القتال، كقوله تعالى: (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه: 81] على قراءة النصب، أي: لا يكن منكم طغيان فحلول غضب مني. قوله: ((وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً)) يروى بالياء والتاء، بالتاء الفوقانية: اقتباس، وبالياء التحتانية: استشهاد. قوله: (يقعون فيه سريعاً) يشير إلى أن (يُسَارِعُونَ) مضمن معنى: يقعون؛ لأن المسارعة تعدى بـ "إلى". قوله: (معناه: لا يحزنوك لخوف أن يضروك) يعني: ما أوقع فاعل (لا يَحْزُنْكَ) موصولة لتدل على علة النهي، بل أوقعه ليكني به عن إيصال المضرة، لأن من يرغب في

وما وَبالُ ذلك عائداً على غيرهم. ثمَّ بيَّن كيف يعودُ وَبالُه عليهم بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي: نصيباً من الثواب، (وَلَهُمْ) بدَلَ الثَّواب (عَذابٌ عَظِيمٌ)، وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكفر سريعاً غرضه مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم، يدل عليه إيتاء قوله: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) رداً وإنكاراً لظن الخوف، وإلى هذا المعنى أشار صاحب "المفتاح": ربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على الخطأ. قوله: (ثم بين كيف يعود وباله عليهم) يعني: أصل الكلام: لن يضروا الله شيئاً، بل أنفسهم يضرون، فوضع المفسر وهو قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، موضع المفسر المحذوف، وهو قوله: بل أنفسهم يضرون، وفيه أن الله خلق الخلق ليعبدوا فيربحوا وينالوا حظاً في الآخرة، فهؤلاء بدلوا ذلك الحظ بسبب المسارعة في الكفر بالعذاب العظيم، وأي مضرة أبلغ من ذلك؟ وإليه الإشارة بقوله: "وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه". قوله: ((وَلَهُمْ): بدل الثواب (عَذَابٌ عَظِيمٌ)) هذا ينبئ أن قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ) يدل على أن لكل أحد حظاً في الآخرة لولا أنه حرمه على نفسه بسبب الكفر والمعاصي، ويؤيده ما ذكر في "مريم" في قوله: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً) [مريم: 63]: "أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا"، وعليه: ما ورد في سؤال منكر ونكير، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أما المؤمن فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة". الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وفي رواية أبي داود: "فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له: هذا كان لك ولكن الله عصمك فأبدلك به بيتاً في الجنة" الحديث.

فإن قلتَ: هلّا قيل: لا يجعلُ اللَّهُ لهم حظاً في الآخرة! وأيُّ فائدةٍ في ذِكرِ الإرادة؟ قلتُ: فائدتُه الإشعار بأنّ الداعيَ إلى حِرمانِهم وتعذيبِهم قد خَلَصَ خُلوصاً لم يَبقَ معه صارفٌ قطُّ حين سارَعُوا في الكُفر، تنبيهاً على تَمادِيهم في الطُّغيان وبُلوغهم الغاية فيه، حتى إنّ أرحم الراحمين مُريدٌ أن لا يرحمهم. (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ): إمّا أن يكونَ تكريراً لذِكْرهم للتأكيدِ والتَّسجيلِ عليهم بما أضافَ إليهم، وإمّا أن يكونَ عامًّا للكفّار، والأوّلُ خاصًّاً فيمن نافَقَ من المتخلِّفين، أوِ ارتدّ عن الإسلام أوْ على العَكْس. و (شَيْئاً) نصبٌ على المَصدر؛ لأن المعنى: شيئًا من الضَّرر وبعض الضرر (الَّذِينَ كَفَرُوا) فيمن قرأ بالتاء: نصب، و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) بدلٌ منه، أي: ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خيرٌ لهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ ). السؤال والجواب مبني على مذهبه، والسؤال من أصله غير متوجه؛ لأنه عدول عن الظاهر، فإن قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ): استئناف لبيان الموجب، كأنه قيل: لم يسارعون في الكفر مع أن المضرة عائدة إليهم؟ فأجيب: بأنه تعالى يريد ذلك منهم، فكيف لا يسارعون؟ قوله: (إما أن يكون تكريراً لذكرهم) أي: هذه الآية والمتلوة قبلها سيان من حيث المعنى، فإن معنى (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) و (اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ) سواء، ألا ترى إلى قوله: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعاً ويرغبون فيه أشد الرغبة" لأن المشتري راغب في المشترى؟ و (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) مقابل لمثله، وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ) إلى آخره: تلخيص قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قوله: (أو على العكس) أي: الأول عام في الكفار، والثاني خاص في المنافقين، والأظهر أن يكون تكريراً لما سبق من بيان النظم. قوله: (فيمن قرأ بالتاء) أي: الفوقانية: حمزة، قال الزجاج: (وَلا تَحْسَبَنَّ) على القراءة بالتاء لم يجز عند البصريين إلا بكسر "إن"، المعنى: لا تحسبن الذين كفروا إملاؤنا خير لهم،

و «أن» مع ما في حيِّزه ينوبُ عن المفعولَين، كقولِه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) [الفرقان: 44]، وما مصدريةٌ، بمعنى: ولا تحسبنّ أنّ إملاءَنا خيرٌ، وكانَ حقُّها في قياسِ عِلْمِ الخطِّ أنْ تُكتَبَ مفصولةٌ. ولكنَّها وقعتْ في الإمامِ متَّصلةً؛ فلا تُخالَف، وتُتَّبَعُ سُنَّةُ الإمامِ في خطِّ المصاحف. فإن قلت: كيفَ صحّ مجيءُ البَدَلِ ولم يُذْكَر إلا أحدُ المفعولَيْن، ولا يجوزُ الاقتصارُ بفعلِ الحسْبانِ على مفعول واحد؟ قلتُ: صحّ ذلك مِنْ حيثُ إنّ التعويلَ على البَدَلِ والمُبدَلِ منه في حُكمِ المنَحَّى، ألا تَراكَ تقول: جعلتُ متاعَك بعضَه فوقَ بعضٍ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودخلت "أن" مؤكدة، وإذا فتحت صار المعنى: لا تحسبن الذين كفروا إملاءنا، وهو عندي: بدل من (الَّذِينَ)، المعنى: لا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأها خلق كثير، ومثل هذا البدل قول الشاعر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما أي: فما كان هلك قيس هلك واحد. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تجعل "أن" وما عملت فيه بدلاً من (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدل اشتمال، والجملة تسد مسد المفعولين. قال السجاوندي: هذا كقولك: لا تحسبن زيداً أن علمه نافع له، تلخيصه: لا تحسبن علم زيد نافعاً له، فلم ينصف من خطأ حمزة في قراءته. قوله: (جعلت متاعك بعضه فوق بعض). "بعضه": بدل من "متاعك"، و"فوق": ثاني مفعولي "جعل"، أي: جعلت بعض متاعك فوق بعض، قيل: وإنما لم يجعله مفعولاً ثانياً لكون التقدير كون الإملاء خيراً لهم، فلا يصح حمله على (الَّذِينَ كَفَرُوا)؛ لأنك لا تقول: إن

مَعَ امتناعِ سُكوتِك على "متاعك"! ويجوزُ أن يُقدّر مضافٌ محذوفٌ على: ولا تحسبنّ الذين كَفَروا أصحابَ أنّ الإمْلاءَ خيرٌ لأنفُسِهم. أوْ: ولا تحسبنّ حالَ الذين كَفَروا أنّ الإمْلاءَ خيرٌ لأنفُسِهم. وهو فيمن قرأَ بالياءِ رفعٌ، والفعلُ متعلِّق بأن وما في حيِّزه، والإملاء لهم: تَخلِيتُهم وشأنُهم، مُستعارٌ من: أمْلى لفَرَسِه إذا أرْخى له الطِّوَلَ ليَرْعى كيف شاء. وقيل: هو إمهالُهم وإطالةُ عُمرهم. والمعنى: ولا تحسبنّ أن الإمْلاءَ خيرٌ لهم من منعهم أو قطع آجالهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذين كفروا كون الإملاء خيراً لهم، على الابتداء والخبر، ويجوز ذلك على حذف المضاف، إما في الخبر أو في الابتداء لتصحيح الحمل، فيقال: الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم، أو: لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قوله: (وهو فيمن قرأ بالياء رفع) أي: (الَّذِينَ كَفَرُوا) رفع؛ لأنه فاعل (وَلا يَحْسَبَنَّ) على قراءة من قرأ بالياء التحتانية: القراء كلهم سوى حمزة. روى الزجاج عن المبرد أن من قرأ بالياء فتح "أن" وكانت تنوب عن الاسم والخبر، تقول: حسبت أن زيداً منطلق، ويقبح الكسر مع الياء؛ لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي، فهو يبطل عمله مع "إن"، كما يبطل مع اللام. قوله: (أرخى له الطول) الطول، بكسر الطاء: الحبل الذي يطول للدابة فترعى به. قوله: (والمعنى: ولا تحسبن أن الإملاء خير لهم من منعهم): بناءً على أن يراد بالإملاء تخليتهم وشأنهم، وقوله: (أو قطع آجالهم): بناءً على أن يراد بالإملاء الإمهال، ففي الكلام لف ونشر. قوله: (أو قطع آجالهم) بناءً على مذهبه، قيل: إن من مذهب المعتزلة أن الميت مقطوع الأجل.

(إَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة؛ لأنها كافةٌ دون الأُولى، وهذه جملةٌ مستأنفةٌ تعليل للجُملة قَبلَها، كأنّه قيل: ما بالُهم لا يَحسَبون الإملاءَ خيراً لهم، فقيل: (إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمً) ا. فإنْ قلتَ: كيفَ جازَ أنْ يكونَ ازديادُ الإثمِ غرضاً للَّه تعالى في إملائه لهم؟ قلتُ: هو علةٌ للإملاءِ، وما كلُّ علةٍ بغَرَض، ألا تَراكَ تقولُ: قعدتُ عن الغَزْوِ للعَجْزِ والفاقة، وخرجتُ من البلدِ لمخافةِ الشرِّ، وليسَ شيءٌ منها بغَرض لك. وإنّما هي عللٌ وأسباب، فكذلك ازديادُ الإثم جُعِلَ عِلةً للإمهالِ وسبباً فيه. فإن قلت: كيف يكونُ ازديادُ الإثم علةً للإمْلاء كما كانَ العَجز علةً للقُعودِ عن الحَرْب؟ قلتُ: لِما كانَ في عِلْمِ اللَّه المحيطِ بكلِّ شيء أنهم مُزدادُون إثمًا، فكأنَّ الإملاءَ وَقَع من أجلهِ وبسَبِبه على طَريقِ المَجاز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف يكون ازدياد الإثم؟ ) أي: لا يجوز القياس؛ لأن العجز علة للقعود وسببه، وهو مقدم عليه، ولا كذلك ازدياد الإثم، فإنه مسبب عن الإملاء ومؤخر عنه. قوله: (لما كان في علم الله المحيط) توجيهه: أنه قد سبق في علمه تعالى بأنهم مزدادون إثماً ولابد أن يقع الازدياد؛ لأن المعلوم تابع للعلم، وذلك الازدياد موقوف على حصول الإملاء والإمهال، والموقوف على الشيء لا يكون علة للشيء، فجعله علة مجازاً لما أن الموقوف على الشيء سبب حامل لتحصيل ذلك الشيء، فكأنه علة له، وهذا معنى قوله: "وكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه"، والعجب من المصنف وركوبه المتعسف وتركه الجادة المستقيمة، أما يعلم أن ما يقتضيه علم الله تعالى لابد من وقوعه؟ الانتصاف: بنى سؤاله على أن الإثم الواقع منهم خلاف الإرادة، فأعمل الحيلة بجعله سبباً وليس غرضاً. وقال القاضي: اللام في "ليزداد" عندنا: لام الإرادة، قال السجاوندي: إرادة زيادة الإثم جائزة عند أهل السنة، ولا يخلو عن حكمة.

وقرأَ يحيى بن وثابٍ بكَسر الأُولى وفتحِ الثانية. ولا يحسبنّ بالياءِ، على معنى: ولا يحسبنّ الذين كَفَروا أنّ إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله: (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام اللَّه عليهم بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت: فما معنى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) على هذه القراءة؟ قلت: معناه: ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثما معداً لهم عذاب مهين. (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) 179]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه) أي: معنى الاعتراض، وذلك أن قوله: "أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه": تأكيد لقوله: "إنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان"، لأن الإمهال للتوبة والدخول في الإيمان خير كله. قوله: (فما معنى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) على هذه القراءة؟ ) أي: قراءة يحيى بن وثاب، والفاء في السؤال للإنكار، لأن المعنى على تلك القراءة: إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً فيستحقوا لذلك العذاب؛ لأن قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) عطف على قوله: (لِيَزْدَادُوا إِثْماً)، فيكون الإملاء سبباً للعذاب، وعلى هذه القراءة سببه التوبة والدخول في الإيمان، الموجبان للثواب العظيم لا العذاب كما سبق، وأجاب: أن الواو للحال، والعلة مقيدة، أما قوله: "لزيادة الإثم وللتعذيب"، فتلخيص المعنى: لأنه قد ذهب على أن الواو للحال لا

اللام لتأكيد النفي، (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين، (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ): حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ: يميز. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير: يميز، من: أماز بمعنى ميز. فإن قلت: لمن الخطاب في: (أَنْتُمْ)؟ قلت: للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للعطف حينئذ، وهذه القراءة شاذة، ومع ذلك غير مخالفة لمذهب أهل السنة، وتقريرها: أنها جارية على البعث على التفكر والنظر، فالمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أن مطلق الإملاء في حقهم لأجل الازدياد في الإثم والانهماك في الشر فقط حتى يسارعوا في الكفر والإضرار بنبي الله فيهلكوا، بل قد يكون الإنظار للنظر المؤدي إلى الإنصاف، فيتداركهم الله بلطفه بالتوبة والدخول في الإسلام فيفلحوا، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53]، ونحوه قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ): إنهم إذا نظروا إلى هذا الكلام المنصف تركوا العناد وأنصفوا من أنفسهم. والفرق بين القولين: أن إملاء الله على قولهم مقصور على إرادة التوبة مراعاة للأصلح، وعلى قولنا: الإرادة كما تتعلق بالتوبة تتعلق بازدياد الإثم. قوله: (وقرئ: "يميز"): حمزة والكسائي، و"يميز" من: أماز، شاذة. قال الواحدي: في "يميز" قراءتان: التشديد والتخفيف، وهما لغتان، يقال: مزت الشيء بعضه من بعض، فأنا أميزه ميزاً، وميزته تمييزاً، ومنه الحديث: "من ماز أذى من الطريق فهو له صدقة". قوله: (للمصدقين جميعاً) فسر المؤمنين بالمصدقين؛ لأن الذي يترتب عليه التمييز هو ما اشتملت عليه الصدور من الإيمان: الحقيقي والمجازي، قال الواحدي: المعنى: ما كان ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المنافق بالمؤمن، والمؤمن بالمنافق.

كأنه قيل: ما كان اللَّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها ـ من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً ـ حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي: وما كان اللَّه ليؤتى أحداً منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع اللَّه فيخبر عن كفرها وإيمانها وَلكِنَّ اللَّهَ يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق، وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار اللَّه لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد: لا يترككم مختلطين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِبِ)؛ بأن يُكلفكم التكاليفَ الصَّعبةَ التي لا يصبرُ عليها إلا الخُلَّص الذين امتَحَنَ اللَّه قلوبَهم ـ كبذل الأرواحِ في الجِهاد، وإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ اللَّه، فيَجعل ذلك عياراً على عقائِدكم، وشاهداً بضمائرِكم، حتى يعلَمَ بعضُكم ما في قَلْب بعضٍ مِنْ طريقِ الاسْتِدْلال، لا مِن جهةِ الوُقوف على ذاتِ الصُّدور والاطِّلاع عليها، فإنّ ذلك مما استأثَرَ اللَّهُ به. وما كانَ اللَّه ليُطْلِعَ أحداً منكم على الغَيْبِ ومُضْمَرات القلوب حتى يعرفَ صحيحها من فاسِدِها مُطَّلعًا عليها (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيخبره ببعضِ المغيَّبات. (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) بأنْ تَقدِروه حقَّ قَدْرِه، وتعلموه وحدَه مطَّلعًا على الغُيوب، وأنْ تُنزلُوهم مَنازِلَهم؛ بأنْ تعلَموهم عباداً مُجتبينَ، لا يَعلمون إلا ما عَلَّمَهم اللَّه، ولا يُخبرُون إلا بما أخبرهم اللَّهُ به من الغُيوب، وليسُوا مِن عِلمِ الغَيْبِ في شيء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مطلعاً): حال من ضمير "أحداً" في "يعرف"، ولو روي بفتح اللام ليكون حالاً من "صحيحها": جاز. قوله: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) لف، وقوله: "بأن تقدروه"، وقوله: "وأن تنزلوهم": نشر، ويروى: "تقدروه" بكسر الدال وضمها، والكسر أصح.

وعن السُّديِّ قالَ الكافرون: إنْ كانَ محمدٌ صادقًا فليُخبرْنا مَن يؤمنُ منّا ومَن يكفُر. فنَزَلتْ. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) 180]. (وَلَا يَحسَبَنَّ) مَن قرأَ بالتاء قَدّر مُضافا محذوفًا، أي: ولا تَحْسِبنَّ بُخلَ الذين يَبْخَلون هو خيراً لهم. وكذلك من قرأَ بالياءِ وجَعَلَ فاعلَ (يَحْسَبَنَّ) ضميرَ رسولِ اللَّه، أو ضميرَ أحَدٍ، ومَن جَعَلَ فاعِلَه (الَّذينَ يَبْخَلُونَ) كانَ المفعولُ الأوّلُ عنده محذوفًا تقديره: ولا يحسبنَّ الذين يَبْخلون بُخْلَهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ والذي سوَّغ حَذْفَه دلالةُ (يَبْخَلُونَ) عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلا يَحْسَبَنَّ) من قرأ بالتاء): حمزة، والباقون: بالياء التحتانية. قال الزجاج: من قرأ بالياء: الاسم محذوف، المعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، وهو كما تقول: من كذب كان شراً له. وعن المصنف: إنما يجوز حذف أحد مفعولي "حسب" إذا كان فاعل "حسب" ومفعولاه شيئاً واحداً في المعنى، كقوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً) [آل عمران: 169] على القراءة بالياء التحتانية، أي: لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وإنما حذفت لقوة الدلالة، وما نحن بصدده ليس كذلك، فلابد من التأويل، وذلك أن الموصولة اشتملت على (يَبْخَلُونَ)، فالفاعل مشتمل على معنى البخل، فكأن الجميع في حكم معنى واحد، ولذلك حذف، وإليه الإشارة بقوله: "والذي سوغ حذفه دلالة (يَبْخَلُونَ) عليه".

و (هُوَ): فَصْل. وقرأَ الأعمشُ بغيرِ (هُوَ). (سَيُطَوَّقُونَ) تفسير لقوله: (هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)، أي: سيُلْزَمون وَبَالَ ما بَخلوا به إلزامَ الطَّوق، وفي أمْثالهم: تقلَّدها طَوقَ الحَمامة؛ إذا جاء بِهَنَةٍ يُسَبُّ بها ويُذَمُّ. وقيل: يُجْعَلُ ما بَخِلَ به من الزَّكاةِ حيةً يطوَّقُها في عُنقِه يومَ القيامة، تَنْهَشُه من قَرْنِه إلى قَدَمِه وتَنْقُرُ رأسَه وتقول: أنا مالُكَ. وعن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم في مانع الزكاة «يطوق بشجاع أقرَعَ» وروي "بشجاع أسود". وعن النخعي (سَيُطَوَّقُونَ): بطوقٍ من نار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (هُوَ): فصل)، قال الزجاج: زعم سيبويه أن "هو" ونحوه إنما يكون فصلاً مع الأفعال التي تحتاج إلى اسم وخبر، ولم يذكر الفصل مع المبتدأ والخبر. قوله: (تقلدها طوق الحمامة)، الميداني: الهاء كناية عن الخصلة القبيحة، أي: تقلدها تقلد طوق الحمامة، أي: لا تزايله ولا تفارقه حتى يفارق طوق الحمامِة الحمامةَ. قوله: (بهنة) أي: بفعلة قبيحة، النهاية: هنات: خصال شر، ولا تقال في الخير، واحدها: هنت، وقيل: هنة، تأنيث هن. قوله: (تنهشه)، الجوهري: نهشته الحية: لسعته، النهاية: النهس: أخذ اللحم بأطرف الأسنان، والنهش: بالشين المعجمة: الأخذ بجميعها. قوله: (يطوق بشجاع أقرع)، الحديث من رواية البخاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاة ماله مثل له ماله مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك".

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي: وله ما فيها مما يَتوارَثُه أهلُهما مِنْ مالٍ وغيرِه فما لهم يَبْخلون عليه بمُلْكِه ولا يُنفِقونه في سَبيله! ونحوُه قولُه: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7] وقرُئ: (بِما يَعْمَلُونَ) بالتاء والياء، فالتاءُ على طريقةِ الالتفات، وهي أبلغُ في الوَعيد، والياء على الظاهر. (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) 181 ـ 182]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: الأقرع: الذي لا شعر على رأسه، يريد حية قد تمعط جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره. الزبيبة: نكتة سوداء فوق عين الحية، وقيل: هما نقطتان مكتنفتان فاها. قوله: (أي: وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما)، قال الزجاج: أي: الله يغني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له. قوله: (وقرئ: (بِمَا يَعْمَلُونَ) بالياء والتاء): ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتانية، والباقون بالتاء، والقراءة بالتاء الفوقانية أبلغ لمكان الالتفات، مثاله ما ذكره في أول "البقرة"، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما: إن فلاناً من قصته كيت وكيت، ثم عدلت إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة، أوجدت فيه بمواجهته إياه، هازاً من طبعه [ما] لا يجده إذا استمررت على الغيبة.

قال ذلك اليهودُ حين سَمِعوا قولَ اللَّه تعالى: (مَّن ذَا الذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قرضاً حسناً) [البقرة: 245]، فلا يَخْلو: إمّا أن يَقولُوه عن اعتقادٍ لذلك، أو عن استهزاءٍ بالقرآن، وأيّهما كان فالكلمةُ عظيمةٌ لا تصدُرُ إلا عن متمرِّدين في كُفرِهم. ومعنى سَماعِ اللَّه له: أنه لم يَخْفَ عليه، وأنّه أعَدّ له كِفاءَه مِنَ العقاب (سَنَكْتُبُ ما قالُوا): في صحائفِ الحَفَظة. أو سنَحفَظُه ونثبته في عِلْمِنا لا نَنْساه كما يُثْبَتُ المكتوب. فإنْ قلتَ: كيف قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ثم قال: (سَنَكْتُبُ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأيهما كان)، روي مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على أن "كان" تامة، والنصب على أنها ناقصة، والاسم مضمر فيها، كقولهم: أياً كان وأياً ما كان، أي: ذلك أو المذكور. قوله: (ومعنى سماع الله) إلى آخره يشير إلى أن قوله: (سَمِعَ اللَّهُ) كناية تلويحية عن الوعيد؛ لأن السماع لازم العلم بالمسموع، وهو لازم للوعيد في هذا المقام، فقوله: "وأنه أعد له كفاءه": عطف تفسيري على قوله: "أنه لم يخف". قوله: (كيف قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ)؟ ) وجه السؤال: أن قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ماض فلا يطابقه قوله: (سَنَكْتُبُ) لأنه مستقبل، فلو قيل: "كتبنا"، لطابقه؟ وأجاب: أن المراد توكيد الكلام فابتدأ بالإخبار عن كونه ووجوده، وأكده بالقسمية، وثنى بالإخبار عن تحققه وثبوته فيما يستقبل، وأكده بالسين، وكلتا العبارتين معبرتان عن الوعيد، ألا ترى كيف قال أولاً: "وأنه أعد له كفاءه من العقاب"، وثانياً: " (سَنَكْتُبُ) على جهة الوعيد"، ثم لخص المعنيين بقوله: "لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه"، أي: ماضياً ومستقبلاً! وإلى هذا المعنى ينظر قول من قال: لها بين أحناء الضلوع مودة ... ستبقى لها ما ألفي الدهر باقيا وإتيان السين في (سَنَكْتُبُ) للمبالغة؛ لأن سين الاستقبال لتأكيد الفعل في الإثبات، كما أن "لن" لتأكيده في النفي. قال الخليل: "إن سيفعل" جواب "لن يفعل".

وهلّا قيل: ولقد كَتَبْنا؟ قلتُ: ذَكَرَ وُجودَ السَّماع أوّلًا مؤكَّداً بالقَسَم ثم قال: (سَنَكْتُبُ) على جهةِ الوَعيد، بمعنى: لنْ يفوتَنا أبداً إثباتُه وتَدْوينُه كما لن يفوتَنا قتلُهم الأنبياءَ. وجَعَلَ قَتْلَهم الأنبياءَ قرينةً له إيذانًا بأنّهما في العِظَم أخَوان، وبأنّ هذا ليس بأوّلِ ما رَكِبوه من العَظائم، وأنهم أُصلاءُ في الكفر ولهم فيه سوابقُ، وأنّ مَن قَتَلَ الأنبياءَ لم يُستبعَدْ منه الاجتراءُ على مثلِ هذا القول. ورُويَ: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كَتَبَ مع أبى بكرٍ رضي اللَّه عنه إلى يهود بني قينُقاع يَدْعُوهم إلى الإسلام وإلى إقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة، وأن يُقرِضُوا اللَّه قَرضاً حسناً، فقال فِنْحاصُ اليهوديُّ: إنّ اللَّه فقيرٌ حينَ سَأَلَنا القَرْض فلَطَمَه أبو بكرٍ في وجْهه، وقال: لولا الذي بَيْنَنا وبَيْنَكم مِنَ العَهْدِ لَضَربْتُ عُنُقَك فشَكاه إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجَحَدَ ما قاله؛ فنَزَلتْ. ونحوُه قولُهم (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]. (وَنَقُولُ ذُوقُوا): وننتقِمُ منهم بأن نقولَ لهم يومَ القيامة: (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي كلامه إيذان بأن المعطوف يكتسب من المعطوف عليه معناه بحسب اقتضاء المقام، وهو قوله: "لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه، كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء"، وأن المعطوف عليه أيضاً يكتسب من المعطوف معناه، وهو المراد بقوله: "بأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظائم" إلى آخره، وفي (سَنَكْتُبُ) التفات من الغيبة إلى التكلم، ووضع لضمير الجماعة مكان الواحد للتعظيم والتفخيم. قوله: (وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة: (ذُوقُوا)) أي: ونقول: عطف على (سَنَكْتُبُ)، والباء في "بأن نقول"، كالباء في كتبت بالقلم، أي: ننتقم منهم بواسطة هذا القول، ولن يوجد هذا القول إلا وقد وجد العذاب وألمه، فالكلام فيه كناية، والمعنى: لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه وننتقم منهم لأجل هذا القول وذلك القتل بأن نعذبهم يوم القيامة بالعذاب الحريق، ونقول بعد التعذيب: (ذُوقُوا).

كما أذقْتمُ المسْلمين الغُصَص. يقالُ للمُنتقَمِ منه: أُحْسُ، وذُقْ. وقالَ أبو سفيانَ لحمزةَ رضيَ اللَّهُ عنه: ذُقْ عُقَقُ. وقرأَ حمزةُ: (سيُكتَبُ)، بالياءِ على البناءِ للمفعول، (ويقول) بالياء. وقرأَ الحسَنُ والأعْرج: سيكتُبُ بالياءِ وتسميةِ الفاعل. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا (ذلِكَ): إشارة إلى ما تقدّمَ من عِقابِهم وذَكَرَ الأيدي؛ لأنّ أكثرَ الأعمالِ تُزاوَلُ بهنّ، فجعَلَ كلَّ عملٍ كالواقعِ بالأيدي على سبيلِ التغليب فإنْ قلتَ: فلِمَ عُطِفَ قولُه: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) على (ما قدّمت أيديكم)؟ وكيف جُعل كونُه غيرَ ظلامٍ للعبيد شريكًا لاجتراحِهم السيِّئاتِ في استحقاقِ التعذيب؟ قلتُ: معنى كونِه غيرَ ظلامٍ للعبيد: أنه عادلٌ عليهم ومن العدلِ أن يُعاقِبَ المسيءَ منهم ويثيب المحسن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "ذوقوا" كلمة تقال للذي يؤيس من العفو، أي: ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه. وقال القاضي: الذوق: إدراك المطعوم، ويستعمل على الاتساع لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره ها هنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال. وقلت: ناسب "ذق" في الاتساع للإدراك قوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) في الاتساع في مزاولة الأعمال. قوله: (ذق عقق) أي: ذق جزاء فعلك يا عاق، من: عق والده يعق عقوقاً. قوله: (فلم عطف قوله؟ ) وجه السؤال أن الجهة الجامعة بين المعطوف والمعطوف عليه واجب، وهي في قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) مفقودة؛

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَاتِيَنا بِقُرْبانٍ تَاكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) 183 ـ 184]. (عَهِدَ إِلَيْنا): أمَرَنا في التوراةِ وأوْصانا بأنْ لا نؤمِنَ لرسولٍ حتى يأتيَنا بهذه الآيةِ الخاصّة؛ وهو أن يُرِيَنا قُربانًا تَنْزِلُ نارٌ من السّماءِ فتأكلُه، كما كانَ أنبياءُ بني إسرائيلَ تلك آيتُهم، كان يُقَّرب بالقُربانِ، فيقومٌ النبيُّ فيدعو، فتنزلُ نارٌ من السماء فتأكلُه، وهذه دعوى باطلةٌ وافتراءٌ على اللَّه؛ لأن أكلَ النار القُربان لم يُوجِبِ الإيمانَ للرسولِ الآتي به إلا لكونِه آيةً ومُعجزة فهو إذنْ وسائرُ الآياتِ سواء فلا يجوزُ أن يعيِّنه اللَّهُ تعالى مِن بين الآيات، وقد ألزَمهم اللَّهُ أنّ أنبياءَهم جاؤوهم بالبيّناتِ الكثيرةِ التي أوجبتْ عليهم التصديق، وجاءوهم أيضًا بهذه الآيةِ التي اقترحُوها فلِمَ قَتَلوهم إنْ كانوا صادقينَ أنّ الإيمانَ يلزمُهم بإتْيانها وقُرئ (بِقُرْبانٍ) بضمَّتَيْن. ونظيرُه السُلُطان. فإن قلتَ: ما معنى قوله (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)؟ قلتُ: معناه، وبمعنى الذي قُلتموه مِن قولكم: قربانٌ تأكلُه النار. ومؤدّاه كقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة: 3] أي: لمعنى ما قالوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن الذي دل عليه المعطوف عليه استحقاق التعذيب لكونه تعليلاً لقوله: (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)، وهذا كيف يتصور في قوله: (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)؟ وأجاب: أن مفهوم الآية دل على أنه عادل، والعدل مستلزم لعقاب المسيء وإثابة المحسن، كأنه قيل: ذلك العذاب بسبب فعلكم وبسبب أن الله عادل لا يترك معاقبة المسيء، فحصلت الجهة الجامعة. قوله: (وبمعنى الذي قلتموه)، ومعناه: إراءتهم القربان والنار النازلة من السماء آكلة له، كأنه قيل: جاءتكم رسله بالبينات، وبهذه البينة خاصة، فهو من عطف الخاص على العام.

في مصاحفِ أهلِ الشام: (وبالزُّبر) وهي الصحف (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) التوراةُ والإنجيلُ والزَّبور. وهذه تَسْلِيةٌ لرسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من تَكْذيبِ قومِه وتكذيبِ اليهود. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) 185]. وقرأَ اليَزيديُّ: (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) على الأصْل، وقرأ الأعمشُ: (ذائقة الموتَ) بطَرْحِ التنوينِ مع النَّصب كقوله: وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إلّا قَلِيلَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("وبالزبر"؛ وهي الصحف)، قال القاضي: الزبر: جمع زبور، وهو الكتاب المقصور على الحكم، من زبرت الشيء: إذا حسنته، والكتاب في عرف القرآن: ما يتضمن الشرائع والأحكام، ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن. قوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلاً)، أوله: فألفيته غير مستعتب قبله: ذكرته ثم عاتبته ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلاً غير مستعتب، أي: غير راجع بالعتاب مني على قبح فعله، واستعتب وأعتب بمعنى، واستعتب أيضاً: طلب أن يعتب، والأصل: "ولا ذاكراً الله" بالتنوين فطرح مع نصب "الله"، فإنهم قد يحذفون التنوين عند ملاقاته ساكناً إما طلباً للخفة أو فراراً من التقاء الساكنين، والدليل على تقدير التنوين نصبه "الله"، فلو كان قصده إلى الإضافة لجره.

فإنْ قلتَ: كيفَ اتَّصل به قولُه (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ)؟ قلتُ: اتِّصالُه به على أنْ: كلُّكم تَموتون، ولا بُدّ لكم من الموت، ولا تُوفَّون أُجورَكم على طاعاتِكم ومعاصيكم عَقِيبَ مَوتِكم، وإنما توفَّونها يومَ قيامِكم منَ القُبور. فإنْ قلتَ: فهذا يوهِمُ نَفْي ما يروى: أنّ القَبْر روضةٌ من رِياضِ الجنّةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النار"؟ قلتُ: كلمةُ التَّوفية تُزِيلُ هذا الوهم؛ لأن المعنى: أنّ توفيةَ الأُجور وتَكْميلَها يكونُ ذلك اليومَ، وما يكونُ قبلَ ذلك فبَعْضُ الأُجور. الزَّحْزَحةُ: التَّنْحِيةُ والإبْعاد تكريرُ الزَّحِّ، وهو الجَذْب بعَجَلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اتصاله به على أن: كلكم تموتون)، وتمام تقريره: أنه سبق أن قوله: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصبير له على أذى قومه، يعني أن الرسل قاطبة كذبوا وأوذوا فصبروا حتى انكشف عنهم الكرب؛ لأن مشاق الدنيا ومتاعبها ونعيمها ولذاتها في وشك الزوال، وهو المعنى بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)، ثم جيء بقوله: (إِنَّمَا) الدالة على الحصر لما عسى أن يتردد في الخلد: هل يتلقى كل من الرسل والمكذبين جزاء ما عمل بعد الموت؟ فقيل: نعم، يجازون جزاء غير واف؛ بأن يكون القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وإنما يوفون أجورهم يوم القيامة جزاء وافياً، وإلى هذا المعنى ينظر قوله تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45 ـ 46] ثم جيء بالفاء التفصيلية بياناً للجزاءين في قوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، ومن زحزح عن الجنة وأدخل النار فقد خاب، وفيه رد لزعم من يزعم أن لا بعث ولا حشر، وأن الأرواح المفارقة بعد الموت إما في السعادة أو الشقاوة، والحديث أخرجه الترمذي عن أبي سعيد.

(فَقَدْ فازَ): فقد حَصَلَ له الفوزُ المُطلَق المُتناوِلُ لكلِّ ما يُفازُ به، ولا غايةَ للفوزِ وراءَ النَّجاةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه والعذابِ السَّرْمد، ونَيْلِ رِضْوانِ اللَّه والنَّعيمِ المُخلَّد. اللهمَّ وفِّقنا لِما نُدرك به عندك الفوزَ في المآب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «مَن أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النارِ ويُدْخَلَ الجنّةَ فلْتُدْرِكْه منيَّتُه وهو مؤمنٌ باللَّه واليومِ الآخر، ويأتي إلى الناسِ ما يُحِبُّ أنْ يؤتى إليه» وهذا شاملٌ للمُحافظة على حُقوقِ اللَّه وحُقوقِ العِباد. شَبَّهَ الدنيا بالمَتاع الذي يُدَلَّسُ به على المُسْتام ويُغَرُّ حتى يَشترِيَه ثُمَّ يتبيَّنُ له فَسادُه ورَداءتُه. والشيطانُ هو المدلِّس الغرُور. وعن سَعيدِ بن جُبَير: إنَّما هذا لِمَن آثَرَها على الآخرة فأمّا مَن طَلَبَ الآخرةَ بها فإنّها مَتاعُ بَلاغ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد حصل له الفوز المطلق)، أوقع (فَقَدْ فَازَ) المطلق جزاء للشرط المقيد للزحزحة عن النار وإدخال الجنة ليدل على أن حقيقة الفوز هذا وليس دونه فوز وإن سمي به، روينا عن الإمام أحمد والترمذي والدارمي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فاقرؤوا إن شئتم: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) ". قوله: (ما يحب أن يؤتى إليه)، الضمير المستتر في "يؤتى" راجع إلى "ما". الأساس: أتى إليه إحساناً: إذا فعله، أي: يحسن إلى الناس ما يحب أن يحسن إليه. قوله: (المستام)، أي: المشتري، المغرب: لا يسوم الرجل على سوم أخيه، أي: لا يشتري، وروي: لا يستام ولا يبتاع. قوله: (متاع بلاغ)، أي: يبلغ بالدنيا إلى الآخرة.

خوطب المؤمنون بذلك؛ ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون، لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه. (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) 186]. والبلاء في الأنفس: القتل، والأسر، والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال: الإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات؛ وما يسمعون من أهل الكتاب: المطاعن في الدين الحنيف، وصدّ من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص، ومن بني قريظة والنضير (فَإِنَّ ذلِكَ): فإن الصبر والتقوى 0 مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور، أي: مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم اللَّه أن يكون، يعنى: أنّ ذلك عزمة من عزمات اللَّه، لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما يسمعون) إلى آخره: عطف على قوله: البلاء أي: البلاء في الأنفس: القتل وما يرد عليها، وفي الأموال: الإنفاق وما يقع فيها، وفي الدين: المطاعن وما يسمعون، لكن غير العبارة فجعل "ما يسمعون" مبتدأ والخبر "المطاعن"، وعطف "صد" و"تخطئة" وما كان على الخبر. قوله: (من معزومات الأمور)، جعل المصدر في تأويل المفعول وجمعه لإضافته إلى الأمور، أو "مما عزم الله": معطوف على "ما يجب"، ويجوز أن يعطف على "معزومات". قوله: (عزمة من عزمات الله)، العزم يجيء لمعنيين: بمعنى الجد والصبر، وبمعنى الفريضة أيضاً، والمصنف حمل الآية على المعنيين.

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) 187]. (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ): واذكُر وقتَ أخذ اللَّه ميثاقَ أهلِ الكتاب. (لَتُبَيِّنُنَّهُ): الضمير ل (الكِتَابَ)، أُكد عليهم إيجابُ بيانِ الكتاب واجتنابُ كِتْمانه، كما يؤكَّد على الرَّجلِ إذا عُزم عليه وقيل له: آللَّه لتفعلنّ. (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ): فنَبَذُوا الميثاقَ وتأكيدَه عليهم، يعنى: لَم يراعُوه ولم يَلتفِتُوا إليه والنَّبْذُ وراءَ الظَّهر: مَثَلٌ في الطَّرْحِ وتَرْكِ الاعتداد، ونقيضُه جَعَلَه نَصْبَ عَينيه و: ألقاه بين عينيه، وكفى به دَليلًا على أنه مأخوذٌ على العُلماء أن يُبيِّنوا الحقَّ للناس وما عَلموه، وأن لا يَكتُموا منه شيئًا لغَرَض فاسد؛ من تَسهيلٍ على الظَّلمة، وتطيبٍ لنُفوسِهم. واستِجْلابٍ لِمَسارّهم، أو لجرّ منفعةٍ وحُطامِ دنيا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: في الحديث "خير الأمور عوازمها" أي: فرائضها التي عزم الله عليك بفعلها، المعنى: ذوات عزمها التي فيها عزم، وقيل: ما وكدت رأيك وعزمك عليه ووفيت بعهد الله فيه، والعزم: الجد والصبر، ومنه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ) [الأحقاف: 35]، ومنه: ليعزم المسألة، أي: ليقطعها. قوله: (النبذ وراء الظهر: مثل في الطرح وترك الاعتداد)، وأنشد الزجاج للفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيا علي جوابها أي: لا تتركها لا تعبأ بها، ويقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر.

أو لتقيَّةٍ مما لا دليلَ عليه ولا أَمارة، أو لبُخلٍ بالعِلْم، وغَيْرةٍ أن يُنْسَبَ إليه غيرهم. وعن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم «مَن كَتَمَ عِلْمًا عن أهْلِه أُلجِمَ بلِجامٍ مِنْ نار»، وعن طاووس: أنه قال: لوهْبٍ: إنِّي أرى اللَّه سوف يعذِّبُك بهذه الكُتب. وقال: واللَّه لو كنتَ نبيَّا فكَتمتَ العِلْمَ كما تكتُمُه لرأيتُ أنّ اللَّهَ سيُعذبك. وعن محمدِ بن كَعْبٍ: لا يَحِلُّ لأحدٍ من العُلماءِ أنْ يسكُتَ على عِلمِه ولا يحلُّ لجاهلٍ أن يسكُتَ على جَهْلِه حتى يَسأل. وعن علي رضى اللَّه عنه. ما أخذ اللَّه على أهل الجَهْل أن يتعلَّموا حتى أخَذَ على أهلِ العلمِ أن يُعَلَّموا: وقُرئ: (ليُبينُنَّه). (ولا يَكتمونه)، بالياء، لأنهم غَيَبٌ؛ وبالتاءِ على حكايةِ مُخاطبتِهم، كقوله: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ) [الإسراء: 4]. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 188]. (لا تَحْسَبَنَّ): خطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وأحد المفعولين (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والثاني (بِمَفازَةٍ) وقوله: (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مما لا دليل عليه): متعلق بتقية، أي: الاتقاء من شيء لا دليل ولا أمارة على اتقائه. قوله: (من كتم علماً عن أهله). الحديث من رواية أبي داود والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار". قوله: (وقرئ: ليبيننه) بالياء التحتانية: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بالتاء. قوله: ((فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ): تأكيد)، قال الزجاج: العرب تعيد إذا طالت القصة "حسبت" وما أشبهها إعلاماً أن الذي جرى متصل بالأول وتوكيداً، فتقول: لا تظنن زيداً إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظننه صادقاً، فتعيد "لا تظننه" توكيداً وتوضيحاً.

تقديره: لا تحسبنَّهم، فلا تحسبنَّهم فائزين. وقُرئ: (لا تحسبن). فلا تحسبنهم، بضمِّ الباء على خِطابِ المؤمنين؛ (ولا يحسبن). (فلا يحسبنهم)، بالياء وفتح الباء فيهما، على أنّ الفعل للرسول. وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمها في الثاني، على أن الفعل ل (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ)، والمفعول الأوّل محذوفٌ على: لا يحسبنَّهم الذين يَفرحون بمَفازة، بمعنى: لا يحسبنَّ أنفسُهم الذين يفرحون فائزين، و (فلا يحسبنهم)، تأكيدٌ. ومعنى (بِما أُوتُوا): بما فعلوا. و"أتى" و"جاء"، يُستعملان بمعنى "فعل". قال اللَّه تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا) [مريم: 61]، (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم: 27]، وتدل عليه قراءةُ أُبىّ: (يفرحون بما فعلوا). وقرئ: آتوا، بمعنى أعطوا. وعن علي رضي اللَّه عنه: بما أوتوا. ومعنى (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) بمنجاة منه. رُوى: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سأل اليهود عن شيءٍ مما في التوراة فكَتَمُوا الحقَّ وأخبروه بخلافه، وأرَوه أنهم قد صدقوه، واستحمدوا إليه، وفَرحوا بما فَعلوا، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم: أي: لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا ـ من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ـ ناجين من العذاب. ومعنى (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) بما أوتوه من علم التوراة. وقيل يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. (وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) من اتباع دين إبراهيم حيثُ ادَّعوا أن إبراهيمَ كان على اليهودية وأنهم على دينه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: المعنى: ولا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق بمنجاة من العذاب. قوله: ("فلا يحسبنهم" بالياء وفتح الباء)، قرأها: نافع وابن عامر، والباقون: بالتاء الفوقانية فيهما وفتح الباء.

وقيل: إنهم قومٌ تخلَّفوا عن الغَزْو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلما قَفَلَ اعتَذَرُوا إليه بأنّهم رأَوُا المصلحةَ في التخلُّف، واستَحْمَدوا إليه بتَرْكِ الخُروج. وقيل: هم المنافقون يَفْرَحون بما أتَوا مِنْ إظهارِ الإيمانِ للمسلمين ومُنافقتهم وتوصُّلهم بذلك إلى أغراضِهم، ويَستحمِدون إليهم بالإيمانِ الذي لم يَفْعَلوه على الحقيقة؛ لإبطانِهم الكُفر. ويجوزُ أن يكون شاملًا لكلِّ مَن يأتي بحَسَنةٍ فيفرحُ بها فرَحَ إعجابٍ، ويُحبُّ أن يحمدَه الناسُ ويُثنوا عليه بالديانةِ والزهدِ وبما ليس فيه. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) 189 ـ 191]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب)، يعني: إن فرح أنه موفق من الله فلا بأس به، روينا عن مسلم، عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمنين". وعن البخاري ومسلم والترمذي، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) الآية وتلا ابن عباس: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا) الآية، وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. استحمدوا إليه أي: طلبوا منه أن يحمدهم. الأساس: استحمد الله على خلقه بإحسانه إليهم وإنعامه عليهم.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهم. وهو (عَلَى كُلِّ شَيء قَديرٌ)، فهو يقدر على عقابهم (لَآياتٍ) لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته، (لِأُولِي الْأَلْبابِ): للذين يفتحون بصائرَهم للنَّظر والاستدلالِ والاعتبار، ولا يَنْظُرون إليها نَظَرَ البَهائم غافِلينَ عما فيها مِنْ عجائب الفِطَر. وفي النَّصائح الصِّغار: املأ عينَيك من زينةِ هذه الكواكب، وأجِلهما في جُملةِ هذه العجائب، متفكِّراً في قُدرةِ مقدّرها، متدبرا حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: قلت لعائشة رضي اللَّه عنها: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فبكت وأطالت، ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال: "يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إني لأحب قربك وأحب هواك، قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو يملك أمرهم)، فيه تهديد اليهود، والفاء جواب شرط محذوف، والمراد بالسماوات والأرض جميع العالم، أو التقدير: إذا كان الله مالك العالم، وهو من جملته، قادراً على كل شيء، وهم من مقدوراته؛ فيلزم أن يكون مالكاً لأمرهم وقادراً على عقابهم. قوله: (وأحب هواك) يعني: مهواك أي: ما تهواه من العبادة، أما الحديث فقد روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود، عن ابن عباس قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) ثم قام فتوضأ واستن فصلى، وفي رواية: ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته أو

في ثم قام يصلى، فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد اللَّه وأثنى عليه وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول اللَّه، أتبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً! ؟ ! ، ثم قال: ومالي لا أبكى وقد أنزل اللَّه علىّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ ! ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها". وروى: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمّلها» وعن علي رضي اللَّه عنه: أنّ النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد اللَّه ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت له أمّه: لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سجوده: "اللهم اجعل في قلبي نوراً وبصري نوراً، وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً وخلفي نوراً، وفوقي نوراً وتحتي نوراً، واجعلني نوراً". وفي رواية: ثم تلا هذه الآيات. قوله: (حقويه)، النهاية: الأصل في الحقو: معقد الإزار، وجمعه أحق وأحقاء، ثم سمي به الإزارة للمجاورة. قوله: (لاكها)، الأساس: لاك اللقمة يلوكها، ولاك الفرس اللجام، ومن المجاز: وهو يلوك أعراض الناس. قوله: (فعبدها فتى من فتيانهم فلم) أي: فعبد الله في تلك المدة فلم تظله أو فلم ير شيئاً، وقيل: الصواب أن لا يسكت عن متعلق "لم" دون "لما"، وفي بعض النسخ: فلم تظله.

فقال: ما أذكُر. قالت: لعلَّك نَظَرْت مرّةً إلى السماءِ ولم تَعتبِرْ قال: لعلّ. قالت: فما أُتيتَ إلا من ذاك (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ) ذكراً دائباً على أي حالٍ كانوا؛ من قيام وقُعود واضطجاع لا يُخلُّون بالذِّكر في أغلبِ أحوالهم. وعن ابن عمرَ وعُروةَ بنِ الزُّبير وجماعةٍ أنهم خَرَجُوا يومَ العِيدِ إلى المُصلى فجعلُوا يذكُرون اللَّه، فقال بعضُهم: أما قال اللَّه تعالى: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً) فقاموا يذكرون اللَّه على أقدامهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من أحبّ أن يَرتَعَ في رياضِ الجنة فليكثر ذكر اللَّه» وقيل: معناه يُصلُّون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعمران بن الحصين «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبٍ، تُومئ إيماءً» وهذه حجةٌ للشافعي رحمه اللَّه في إضجاع المريض على جنبِه كما في اللحد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذكراً دائباً)، الجوهري: يقال: دأب فلان في عمله: جد وتعب، دأباً ودؤوباً، فهو دئيب. قال أولاً: على كل حال وعلى أي حال ثم في أغلب أحوالهم، وذلك أن قوله: "لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم" جملة مؤكدة لقوله: "يذكرون الله ذكراً دائباً على كل حال"، ومفسرة له؛ لأن الكل يطلق على الأكثر، قال الله تعالى على لسان سليمان عليه السلام: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 16]، وفي حق بلقيس: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد كثرة قصاده، ورجوعه إلى غزارة في العلم. قوله: (لعمران بن الحصين)، الحديث أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما، وهذا الحديث حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعاً على جنبه الأيمن، مستقبلاً بمقاديم بدنه.

وعندَ أبي حَنيفةَ رحمَه اللَّه: أنه يستلقي حتى إذا وجد خفة قعد. ومحل عَلى جُنُوبِهِمْ نصبٌ على الحالِ عطفاً على ما قبلَه، كأنه قيل: قيامًا وقعوداً ومضطجعين (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)، وما يدلُّ عليه اختراعُ هذه الأجرامِ العظام، وإبداع صَنعتها وما دُبِّر فيها بما تكِلُّ الأفهامُ عن إدراكِ بعضِ عجائبِه على عِظَمِ شأن الصانع وكبرياء سلطانه. وعن سفيان الثوري: أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه، إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أنّ لك رباً وخالقاً، اللهمّ اغفر لي، فنظر اللَّه إليه فغفر له» وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على عظم شأن الصانع). عظم: بدل من الضمير المجرور في قوله: "وما يدل عليه"، بإعادة العامل، كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ) [الأعراف: 75]، والأولى أن لا يعطف "ما دبر" على "ما يدل عليه"، بل على "صنعتها" ويجعل "ما" في "ما دبر": موصولة، و"من" في "مما تكل": بيان "ما دبر"، لئلا يلزم الفصل بين البدل والمُبدل بالأجنبي فيؤدي إلى المعاظلة. قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى) إلى آخره، الرواية عن البخاري ومسلم وأبي داود، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لأحد أني قول: أنا خير من يونس بن متى"، وعن البخاري، عن أبي هريرة: "من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، ورواه أبو داود، عن أبي سعيد. فإن قلت: كيف الجمع بين هذه الأحاديث وبين ما جاء في فضائل سيد المرسلين، منها ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن الترمذي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" الحديث. قلت: الوجه ما قال صاحب "الجامع" أن قوله: "أنا سيد ولد آدم" إنما هو إخبار عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدث بنعمة الله عنده، وإعلام لأمته بذلك ليكون إيمانهم به على حسب ذلك، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في يونس عليه السلام فيحمل على سبيل الهضم وإظهار التواضع لربه، أي: لا ينبغي لي أن أقول: أنا خير منه؛ لأن الفضيلة التي نلتها كرامة من الله تعالى وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها، وإنما يجب علي الشكر عليها، وإنما خص يونس بالذكر لما قصه الله من قلة صبره على أذى قومه، فخرج مغاضباً ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. وقلت: وعلم من ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، معناه: تعصباً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا تخايروا بين الأنبياء"، رواه أبو داود عن أبي سعيد. والأوجه أن تحمل المخايرة على معنى الرسالة والنبوة، لقوله تعالى: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة: 285]، وأما قوله: "فإنه كان يرفع له في يوم مثل عمل أهل الأرض"، فلم أجده في الأصول.

فإنه كانَ يُرفَعُ له في كلِّ يومٍ مثلُ عَمَلِ أهلِ الأرض» قالوا: وإنما كان ذلك التفكُّر في أمر اللَّه الذي هو عمل القلب؛ لأن أحداً لا يقدِر أن يعملَ بجوارحِه في اليومِ مثلَ عملِ أهلِ الأرض. (ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) على إرادة القول، أي: يقولون ذلك. وهو في محل الحال، بمعنى يتفكرون قائلين. والمعنى: ما خلقته خلقاً باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين، وأدلة لهم على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، ولذلك وصل به قوله: (فَقِنا عَذابَ النَّارِ)؛ لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، كأنه قيل: ويتفكرون في مخلوقِ السمواتِ والأرض، أي: فيما خُلق منها. ويجوزُ أن يكون إشارةً إلى السموات والأرض؛ لأنها في معنى المخلوق، كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوقَ العجيب باطلًا. وفي (هَذَا) ضرب من التعظيم كقوله: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9] ويجوزُ أن يكونَ (بَاطِلًا) حالا من (هَذَا)، و (سُبْحَانَكَ) اعتراض للتنزيهِ من العَبَث، وأن يخلق شيئاً بغير حكمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك وصل): تعليل لتفسيره (مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) بما أدى إلى وجوب الطاعة واجتناب المعصية، يعني: دل قوله: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أن المقدر ما ذكر؛ لأن الفاء الفصيحة دلت على محذوف يرتبط معها تقديره: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) بل خلقته للدلالة على معرفتك، ومن عرفك يجب عليه أداء طاعتك واجتناب معصيتك؛ ليفوز بدخول جنتك ويتوقى به من عذاب نارك؛ لأن النار جزاء من يخل بذلك. قوله: (فيما خلق منها) "من" في "منها": بيان "ما". قوله: (وفي (هَذَا) ضرب من التعظيم) أي: لفظة (هَذَا)، وذلك أن المشار إليه به هو خلق السماوات والأرض، وكونهما خلقتا بحق، وما فيهما من بدائع فطرته وعجائب صنعه وحسن تدبيره مما تكل الأفهام عن إدراك بعضه، وهذه معان دقيقة لطيفة جعلت كالمحسوس المشار إليه بما يشار به إلى المدركات بالمشاعر.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) 192 ـ 194]. (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) فقد أبلغت في إخزائه. وهو نظير قوله (فَقَدْ فَازَ) [آل عمرن: 185]، ونحوه في كلامِهم: مَن أدرَك مَرعى الصَّمّان فقد أدْرَك، ومن سَبَقَ فلانًا فقد سَبَق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد أبلغت في إخزائه)، الراغب: خزي الرجل: لحقه انكسار إما من نفسه أو من غيره، فالأول هو الحياء المفرط، ومصدره: الخزاية، ورجل خزيان وامرأة خزياء، وجمعه: خزايا، وفي الحديث: "اللهم احشرنا غير خزايا ولا نادمين". والثاني: يقال: هو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ورجل خز، قال تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا) [المائدة: 33]. وأخزى: يقال منهما، وقوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) يحتملهما. قوله: (وهو نظير قوله: (فَقَدْ فَازَ)) يعني في الإطلاق، وأن الجزاء والشرط متحدان معنى. قال ابن الحاجب في "الأمالي" في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] وضع قوله: (فَمَا بَلَّغْتَ) في موضع أمر عظيم، أي: فإن لم تفعل فقد ارتكبت أمراً عظيماً، ونحوه قولك: إذا جئت إلي فقد جئت إلى حاتم، أي: إلى رجل كريم. قوله: (من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك) أي: أدرك مرعى ليس بعده مرعى، الصمان: جبل.

(وَما لِلظَّالِمِينَ) اللامُ إشارةٌ إلى من يُدخَلُ النار، وإعلامٌ بأنّ مَنْ يُدخلُ النارَ فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها. تقول: سمعتُ رجلًا يقولُ كذا، وسمعتُ زيداً يتكلّم، فتُوقعُ الفعلَ على الرّجل وتَحذِفُ المسموع؛ لأنك وصفْتَه بما يُسْمَع، أو جعلْتَه حالًا عنه فأغناك عن ذِكْرِه، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكنْ منه بدٌّ، وأن يُقال سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قولَه. فإن قلتَ: فأيُّ فائدةٍ في الجمْع بينَ المنادِى وينادي؟ قلتُ: ذُكِرَ النداءُ مُطلقاً ثم مقيَّداً بالإيمان تفخيمًا لشأنِ المنادي؛ لأنه لا منادي أعظمُ من منادٍ يُنادي للإيمان، ونحوُه قولك: مررتُ بهادٍ يَهدي للإسلام، وذلكَ أنّ المنادي إذا أُطلِقَ ذَهَبَ الوهْم إلى منادٍ للحربِ، أو لإطفاءِ النائرةِ، أو لإغاثةِ المكروبِ، أو لكفايةِ بعضِ النوازلِ، أو لبعضِ المنافع، وكذلك الهادي قد يُطلَقُ على مَنْ يَهْدي للطريقِ ويَهْدي لسدادِ الرّأيِ وغيرِ ذلك، فإذا قلتَ: ينادى للإيمانِ، ويهدى للإسلامِ، فقد رَفَعْتَ من شأنِ المُنادى والهادي وفخمته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها)، قال القاضي: لا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة؛ لأن النصرة: دفع بقهر. قوله: (وأن يقال: سمعت) عطف على المضمر المجرور في "لم يكن منه بد"، والجار في التقدير معاد، لأن حذف الجار مع أن وأنَّ قياس شائع، أي: ولولا الوصف أو الحال لم يكن بد من أن يقال: سمعت كلام فلان. قوله: (لأنه لا منادي أعظم): بيان أن المقام مقام التفخيم، وقوله: "وذلك": إشارة إلى كيفية حصول التفخيم وتحقيق حصوله. قوله: (النائرة)، المغرب: يقال: بينهم نائرة، أي: عداوة وشحناء، وإطفاء النائرة عبارة عن تسكين الفتنة، وهي فاعلة، من "النار".

ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، أوندَبَه له وإليه، وناداه له وإليه، ونحوُه: هداه للطّريقِ وإليه، وذلك أنّ معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاصِ واقعانِ جميعاً، والمنادي هو الرسول (أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 108]، (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل: 125] .. وعن محمّدِ بن كعْب: القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً) أي: حاصلان؛ لأن من انتهى إلى الشيء اختص به، قال في قوله: (يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد: 2] و (يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [لقمان: 29]: "يعني: الانتهاء والاختصاص؛ كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، فمعنى (يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يبلغه وينتهي إليه، و (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) معناه: يجري لإدراك أجل". قوله: (والمنادي هو الرسول) صلى الله عليه وسلم، عن البخاري والترمذي، عن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مائدة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المائدة، فقالوا: أولوها يفقهها، فقال بعضهم: عن العين نائمة والقلب يقظان، فالدار: الجنة، والداعي: محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. وفي رواية الترمذي: فالله هو الملك، والدار: الإسلام، والبيت: الجنة، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل مما فيها. قوله: (وعن محمد بن كعب: القرآن) عن الإمام أحمد بن حنبل، عن النواس بن سمعان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على

(أَنْ آمِنُوا)، أي: آمِنوا، أو بأنْ آمِنوا. (ذُنُوبَنا): كبائرَنا. (سَيِّئاتِنا): صغائرنا. (مَعَ الْأَبْرارِ): مخصوصينَ بصُحْبَتِهم، معدودين في جملتهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه"، ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة: محارم الله، والستور المرخاة: حدود الله، والداعي على رأس الصراط: هو القرآن، وأن الداعي من فوقه: هو واعظ الله في قلب كل مؤمن. هذا رواية رزين عن ابن مسعود. قوله: ((أَنْ آمِنُوا) أي: آمنوا، أو بأن آمنوا) الأول على أن "أن" مفسرة؛ لأن في (يُنَادِي لِلإِيمَانِ) معنى القول، والثاني: على أن "أنْ" مصدرية، قال أبو البقاء: "أنْ" مصدرية وصلت بالأمر، المعنى: ينادي للإيمان بأن آمنوا. قوله: ((ذُنُوبَنَا): كبائرنا، (سَيِّئَاتِنَا): صغائرنا) خولف بين معنييهما ليكون من باب التتميم للاستيعاب كقوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 3]، أو لأن المناسب بالذنب الكبائر لأنه مأخوذ من الذنوب وهو الدلو الملآن. الأساس: تذنب علي فلان: تجنى وتجرم، وأصبت من ذنوبك، وهي ملاء الدلو من الماء. ولأن الشرك يسمى ذنباً ولا يسمى سيئة، ولأن الغفران مختص بفعل الله، والتكفير قد يستعمل في فعل العبد، يقال: كفر عن يمينه، ولأنها مقابلة للحسنة لقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] ولاشك أنها صغائر. قوله: (مخصوصين بصحبتهم). الاختصاص مستفاد من استعمال التوفي مع الأبرار،

والأبرار: جمع برّ أو بارّ، كرَب وأرْباب، وصاحِب وأصحاب (عَلى رُسُلِكَ): "على" هذه صلةٌ للوعد، كما في قولِك: وعدَ اللَّهُ الجنَّة على الطاعة. والمعنى: ما وعدتَنا على تصديقِ رُسلِك. ألا تراه كيفَ أُتْبِعَ ذِكْرَ المنادي للإيمانِ وهو الرسول وقوله: (ءَامَنَّا) وهو التصديق. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف، أي: ما وعدتنا مُنزَلًا على رسلِك، أو مَحْمولًا على رَسُلِك؛ لأن الرسل مُحَملون ذلك؛ (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) [النور: 54] وقيل: على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل: النُّصرة على الأعداء. فإن قلتَ: كيفَ دَعَوُا اللَّه بإنجاز ما وعد واللَّه لا يخلف الميعاد؟ قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، وهو بابٌ من اللجأ إلى اللَّه والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم السلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه، واللجأ الذي هو سيما العبودية. (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) 195]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذلك أن التوفي مع الأبرار محال، لأن بعضاً منهم تقدم وبعضاً لم يوجد، فالمراد: الانخراط في سلكهم على سبيل الكناية، فإنه إذا كان منخرطاً في سلكهم لا يكون مع غيرهم. قوله: (ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادي للإيمان؟ ) يعني: الدليل على أن "على" صلة الوعد والمضاف المقدر التصديق: أنه تعالى لما قال: (مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ) والمراد بالمنادي: الرسول وبالإيمان: التصديق لتعديته بالباء، أتبعه قوله: (مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، كأنه قيل: إنا سمعنا رسولاً يدعو الناس إلى التصديق فصدقناه، فإذا كان كذلك فآتنا ما وعدتنا من الأجر على ذلك التصديق.

يقال استجاب له واستجابه. فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (أَنِّي لا أُضِيعُ) قرئ بالفتح على حذف الياء، وبالكسر على إرادة القول. وقرئ: لا أضيع، بالتشديد (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى): بيان ل (عَامِلٍ). (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي: يجمع ذكوركم وإناثكم أصلٌ واحد، فكل واحد منكم من الآخر، أي: من أصله، أو كأنه منه لفَرطِ اتصالكم واتحادِكم. وقيل المرادُ: وصلةُ الإسلام. وهذه جملةٌ معترضةٌ بُيّنت بها شِركةُ النساء مع الرجال فيما وعد اللَّه عباده العاملين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلم يستجبه عند ذاك مجيب)، أوله: وداع دعا: يا من يجيب إلى الندا أي: رب داع دعا: هل من مجيب إلى الندا؟ أي: هل أحد يمنح المستمنحين؟ فلم يستجبه أحد. قوله: (أي: يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد) يريد أن (مِن) في (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ): اتصالية كما جاء: "ما أنا من دد ولا الدد مني"، ثم الاتصال إما بحسب أن أباكم آدم، فهو المراد بقوله: "يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد"، وإما بسبب محبتكم وخلتكم فهو المراد بقوله: "لفرط اتصالكم واتحادكم"، ولما كان الاتصال في هذا الوجه ليس على الحقيقة قال: "كأنه منه"، أي: كأن كل واحد من الآخر، وإما باعتبار الأخوة في الإسلام فهو المراد بقوله: "المراد: وصلة الإسلام".

ورُوي: أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول اللَّه، إني أسمعُ اللَّه تعالى يذكرُ الرّجالَ في الهجْرةِ ولا يذكرُ النساء؛ فنزلت (فَالَّذِينَ هاجَرُوا): تفصيل لعمَلِ العاملِ منهم على سبيلِ التعظيم له والتفخيم، كأنه قال: فالذين عَمِلوا هذه الأعمالَ السنيّة الفائقة، وهي المهاجَرَةُ عن أوطانِهم فارّين إلى اللَّه بدينهم من دار الفتنة، واضطرّوا إلى الخروج من ديارهم التي وُلدوا فيها ونشؤوا بما سامهم المشركون من الخسف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي أن أم سلمة قالت) الحديث رواه الترمذي. قوله: (تفصيل لعمل العامل منهم)، واللام في "العامل" للعهد، والمجمل هو العمل المضاف إلى عامل، وكان من حق الظاهر أن يقال: فالمهاجرة حكمها كذا، وتحمل مشقة الجلاء عن الأوطان كذا، وتحمل أذى الكفار والمجاهدة في سبيل الله بالقتال كذا، لأن تفصيل العمل هذا، فعدل منها إلى إعادة ذكر العامل بالموصول وإيقاع الأعمال صلة لها ليدل على العامل وعلى العمل مزيداً لتقرير تلك الأعمال وتصويراً لتلك الحالة السنية، تعظيماً للعامل وتفخيماً لشأنه، ثم في بناء الخبر، وهو قوله: (لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)، على المسند إليه الموصول مع إرادة القسم، وتكرير اللام في (وَلأدْخِلَنَّهُمْ): إشعار بأن هذه الكرامة لأجل تلك الأعمال الفاضلة والخصائل النابهة، وأن لابد من تحقيق كل من هذين الوعدين، على سبيل الاستقلال. قوله: (واضطروا إلى الخروج): عطف على قوله: "عملوا هذه الأعمال السنية"، وفيه إيذان بأن قوله: (وَأُخْرِجُوا)، والأفعال المذكورة بعده: عطف على قوله: (هَاجَرُوا) عطف المفصل على المجمل تفصيلاً لعمل العامل، فالمراد بقوله: (هَاجَرُوا) المهاجرة من جميع المألوفات، فيدخل فيه المهاجرة عن الشرك والأوطان والنفس والمال والأهل والأولاد، ولذلك قال: "فارين إلى الله بدينهم"، والمراد بقوله: (وَأُخْرِجُوا): الهجرة المتعارفة، وهي الخروج من الديار، ولو قيل: والذين عملوا جميع هذه الأعمال السنية الفائقة وأخرجوا وأوذوا وقاتلوا

(وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) من أجله وبسببِه، يريدُ سبيل الدين (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا): وغزوا المشركين واستشهدوا. وقرئ: وقتلوا، بالتشديد. وقتلوا وقاتلوا ـ على التقديم ـ بالتخفيف والتشديد. وقتلوا، وقتلوا، على بناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول. وقتلوا، وقاتلوا، على بنائهما للفاعل (ثَواباً) في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويباً (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقتلوا، أفاد هذا المعنى. وينصره قول القاضي: المعنى: فالذين هاجروا الشرك والأوطان والعشائر للدين. وقول صاحب "التقريب": (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا): تفصيل للمهاجرة والفرار بالدين من بين الأعمال. قوله: ((فِي سَبِيلِي): من أجله وبسببه) أي: من أجل سبيلي في هذه، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) [العنكبوت: 69]. قوله: (على التقديم): حمزة والكسائي، قالا لقاضي: الواو لا توجب الترتيب، والثاني أفضل، أو لأن المراد: لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا، وشدد ابن كثير وابن عامر (قُتِلُوا) للتكثير. قوله: (بمعنى: إثابة أو تثويباً)، قال أبو البقاء: (ثَوَاباً): مصدر، وفعله دل عليه الكلام، لأن تكفير السيئات إثابة، فكأنه قيل: لأثيبنكم ثواباً، الثواب بمعنى الإثابة، وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير الجنات، أي: مثاباً بها، أو من ضمير المفعول في (وَلأدْخِلَنَّهُمْ)، أي: مثابين.

لأن قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ) (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى. لأثيبنهم. و (عِنْدَهُ) مثل، أي: أن يختص به وبقدرته وفضله، لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه، كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته، وهذا تعليم من اللَّه كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرّع؟ وتكرير (رَبَّنا) من باب الابتهال، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة، من احتمال المشاق في دين اللَّه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من باب الابتهال)، النهاية: هو التضرع والمبالغة في السؤال. قوله: (وإعلام بما يوجب حسن الإجابة) هو عطف على قوله: "تعليم"، والمشار إليه بلفظة "وهذا"، المذكور من قوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ) إلى قوله: (حُسْنُ الثَّوَابِ). وأما بيان الابتهال والمبالغة في السؤال فهو أنه قرن بكل من (رَبَّنَا) الوسيلة إلى إجابة الدعاء، فعلق بالأولى قوله تعالى: (مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) وقد تقرر أن المراد به المعرفة والإتيان بالطاقة والاجتناب عن المعصية، وبالثانية قوله: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، وفيه مبالغة في الاستعاذة، وبالثالثة قوله: (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)، وأي وسيلة أسنى من الإجابة بالإيمان! وبالرابعة قوله: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)، فرتب طلب الحاجة على الوسيلة، وقد اشتمل على: التخلية عما لا ينبغي من تكفير الذنوب والسيئات، والتحلية بما ينبغي من الانخراط في سلك الأبرار، وبالخامسة الوعد على لسان الرسول، وهو كالختم؛ لأن الوعد واجب الوفاء من الكريم على لسان الصادق، والمراد بقوله: "ما يوجب حسن الإجابة" قوله: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الآية، يعني ختم الابتهال بذكر الأعمال ليؤذن أن الإجابة إنما كانت بسبب أنهم أتوا بتلك الأعمال السنية، وفيه إشارة إلى أن لام التعليل في قوله تعالى: (أَنِّي لا أُضِيعُ) مقدر، وينطبق عليه قول الحسن: إلا أنه أتبع ذلك، يعني أنه تعالى أخبر أنه استجاب لهم لكن بشرط رافع الدعاء، أي: العمل الصالح، وهو قوله: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) الآية، وإنما سمى العمل برافع الدعاء لقوله تعالى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

والصبر على صعوبة تكاليفه، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه، بالعمل بالجهل والغباوة. وروي عن جعفر الصادق رضي اللَّه عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات (ربنا)، أنجاه اللَّه مما يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية. وعن الحسن: حكي اللَّه عنهم أنهم قالوا خمس مرات: (ربنا) ثم أخبر أنه استجاب لهم، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد من تقديمه بين يدي الدعاء. (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) 196 ـ 197]. (لا يَغُرَّنَّكَ): الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو لكل أحد، أي: لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه بالعمل بالجهل) مذهبه، ولا ارتياب أن الثواب مترتب على العمل، لكن الكلام في إيجابه لما روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله" قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" وفي رواية أخرى لأبي هريرة: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة". قوله: (والمضطرب) قيل: هو من قولهم: ضرب في الأرض: إذا سار لابتغاء الرزق، والاضطراب في الأمور: التردد والمجيء والذهاب في أمور المعاش. الأساس: ومن المجاز: فلان ضرب المجد: يجمعه، وقد ضرب مناقب جمة، واضطربها: حازها، قال الكميت: رحب الفناء اضطراب المجد رغبته ... والمجد أنفع مضروب لمضطرب

ودَرْكِ العاجل، وإصابةِ حظوظِ الدنيا، ولا تغترَّ بظاهرِ ما ترى من تبسُّطهم في الأرض، وتصرُّفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون وبتدهقنون. عن ابن عباس: هم أهل مكة، وقيل: هم اليهود. وروي أن أناسًا من المؤمنين كانوا يَرَوْن ما كانوا فيه من الخصبِ والرَّخاء ولين العَيش فيقولون: إن أعداءَ اللَّه فيما نرى من الخير، وقد هلَكنا من الجُوع والجَهد! فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: أن مِدرِة القوم ومتقدّمهم يخاطبُ بشيء، فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً، فكأنه قيل: لا يغرَّنكم. والثاني: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان غير مغرورٍ بحالهم فأكَّد عليه ما كانَ عليه وثُبِّتَ على التزامِه، كقوله: (وَلا تَكُوننْ ظَهِيراً الْكافِرِينَ) [القصص: 86]، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14]، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم: 8]، وهذا في النهي نظير قولِه في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء: 136]، وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب، وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب؛ لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمُنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ: لا يغرنك بالنون الخفيفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويتدهقنون)، النهاية: الدهقان، بكسر الدال وضمها: رئيس القرية ومقدم أصحاب الزراعة، وهو معرب، ونونه أصلية لقولهم: تدهقن الرجل، وله دهقنة، وقيل: النون زائدة، وهو من الدهق: الامتلاء. قوله: (من تنزيل السبب منزلة المسبب). السبب: تقلبهم في البلاد، والمسبب: التباس الغرور به، فنهي تقلبهم لينتفي غروره به، يعني: لا تغتر بسبب تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالمال والمنال، فإن ذلك في وشك الزوال، يعني: لا تكن بحيث إن شاهدت ذلك وقعت في الغرور، وهو على منوال: لا أرينك ها هنا، فإن حصول المخاطب في ذلك في ذلك المكان سبب لرؤية المتكلم إياه فيه، فنهى نفسه عن رؤيته هناك لينتهي المخاطب عن حضوره فيه.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ): خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك متاعٌ قليل، وهو التقلُّب في البلاد، أراد قلَّته في جَنْبِ ما فاتَهم من نعيم الآخرة، أو في جَنْبِ ما أعدَّ اللَّهُ للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليلٌ في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ما الدّنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجْعلُ أحدُكم أصبَعَه في اليمِّ فلينظرْ بِمَ يَرجع». (وَبِئْسَ الْمِهادُ): وساء ما مهدوا لأنفسهم. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) 198]. النُزْل والنُزُل: ما يُقامُ للنّازل. وقال أبو الشَّعْراء الضَّبِّيّ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرهِفَاتِ لَهُ نُزْلَا وانتصابُه: إمّا على الحال من (جَنَّاتٌ) لتخصصِها بالوصْف والعاملُ الّلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما الدنيا في الآخرة). الحديث رواه مسلم والترمذي عن مستورد بن شداد، مع تغيير يسير، يعني: ليست الدنيا في جنب الآخرة إلا كذا وكذا. قوله: (وكنا إذا الجبار) البيت. الجبار: الملك المتسلط، ضافنا: أي: نزل بنا ضيفاً، والباء في "بالجيش" للتعدية أو للمصاحبة، يقول: إذا جعل الجيش ضيفاً لنا، أو: إذا صار مع الجيش ضيفاً لنا. والمرهفات: السيوف الباترات، جعل المرهفات نزلاً على التهكم. قوله: (والعامل اللام) أي: الجار والمجرور، أعني: (لَهُمْ)، لأنه قوي بالاعتماد على المبتدأ، فعمل في (جَنَّاتُ)، على أنها فاعلة فتعمل في الحال؛ لأن العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، أو ارتفاع (جَنَّاتُ) بالابتداء، و (لَهُمْ) الخبر، و (نُزُلاً) حال مما في الظرف من الضمير.

ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مصدرٍ مؤكِّد، كأنه قيل: زرقًا، أو عطاءً. (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ) من الكثير الدائم (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلَّب فيه الفجارُ من القليل الزائل. وقرأ مسلَمةُ بنُ محارِبٍ والأعْمش (نُزُلًا) بالسكون. وقرأ يزيدْ بن القعقاع: لكنّ الذين اتقوا، بالتشديد. (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) 199]. (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) عن مجاهد: نزلت في عبد اللَّه بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب. وقيل: في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثينَ من الحَبَشة، وثمانيةٍ من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسْلموا. وقيل: في أصْحَمةَ النّجاشيِّ مَلِكِ الحَبَشة، ومعنى أصْحمة: عطية، بالعربية. وذلك أنه لمّا ماتَ نعاه جبريلُ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: (اخرجوا فصلّوا على أخٍ لكم ماتَ بغير أرضكم)، فخرج إلى البقيع ونَظَرَ إلى أرضِ الحبشة، فأبصَرَ سريرَ النجاشيّ وصلى عليه واستغفر له: فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْجٍ نصرانيّ لم يَرَه قطّ وليسَ على دينه، فنزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصحمة النجاشي)، قال صاحب "جامع الأصول": النجاشي، بفتح النون وتخفيف الجيم وبالشين المعجمة: لقب ملك الحبشة، فالذي أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أصحمة، أسلم قبل الفتح ومات قبله أيضاً، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه خبر موته ولم يره. قيل: إنما قال: "أبصر سرير النجاشي"، لأن الصلاة لا تجوز على الغائب عند الحنفية. قوله: (على علج)، النهاية: العلج: الرجل من كفار العجم وغيرهم، والأعلاج: جمعه، ويجمع على علوج أيضاً.

ودخلت لامُ الابتداءِ على اسم «إنّ» لفصْلِ الظرْفِ بينهما كقولهِ: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ). [النساء: 72]. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل (يُؤْمِنُ)؛ لأن من يؤمن في معنى الجمع. (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) كما يفعل من لم يُسلم من أحبارِهم وكبارِهم. (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، أي: ما يختص بهم من الأجر، وهو ما وعدوه في قوله: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص: 54]، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد: 28]. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)؛ لنفوذِ علمه في كل شيء، فهو عالمٌ بما يستوجبُه كلُّ عاملٍ من الأجر. ويجوز أن يُراد: إنما تُوعدون لآتٍ قريبٌ بعد ذكر الموعد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد: إن ما توعدون لآت) يريد أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) إما كناية عن قرب الموعد فيكون كالتكميل لقوله: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فإنه في معنى الوعد، ولذلك قال بعد ذكر الموعدـ أي: الوعدـ: كأنه قيل: لهم أجرهم عند ربهم عن قريب. قال القاضي: المراد من قوله: (سَرِيعُ الْحِسَابِ): أن الأجر الموعود سريع الوصول، فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء. وإما تعليل له على سبيل التذييل، يعني أن يجزيهم بما عملوا لأنه تعالى سريع الحساب، ولم يكن سريعاً للحساب إلا وهو عالم بالمحسوب الذي هو أعمال العباد، وإذا علم ذلك يوفي ما يستأهله العامل من الأجر؛ لأنه عادل متفضل كريم لا يضيع عنده عمل عامل من ذكر أو أنثى، فعلى هذا هو كناية تلويحية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) 200]. (اصْبِرُوا) على الدينِ وتكاليفِه (وَصابِرُوا) أعداءَ اللَّه في الجهاد، أي: غالِبُوهم في الصّبْرِ على شدائدِ الحرْب، لا تكونوا أقلَّ صبراً منهم وثباتًا. والمصابرةُ: بابٌ من الصَّبْر ذُكِرَ بعْدَ الصَّبْرِ على ما يجبُ الصَّبر عليه؛ تخصيصًا لشدّته وصعوبته. (وَرابِطُوا): وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصِّدين مُستعدينَ للغزْو. قال اللَّه تعالى: (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تخصيصاً) أي: ذكر تخصيصاً؛ لأن المصابرة نوع خاص من الصبر، كأنه قيل: اصبروا على ما يجب الصبر عليه، وخصوا الصبر مع أعداء الله لأنه أصعب، فيكون من باب قوله: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98]. ثم قوله: (وَرَابِطُوا) أخص من مطلق المصابرة؛ لأنه أرهب للأعداء، قال تعالى: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ) [الأنفال: 60]، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الرباط أفضل من الجهاد؛ لأنه حصن دماء المسلمين، والجهاد سفك دماء المشركين، وحصن دماء المسلمين أفضل من سفك دماء المشركين. واعلم أن هذه خاتمة شريفة منادية على ما اشتملت عليه السورة من التحريض على الصبر في تكاليف الله، والحث على المصابرة مع أعداء الله، والبعث على التقوى في جنب الله، ولذلك افتتحت السورة بذكر الكتب المنزلة على أنبياء الله لتكون الفاتحة مجاوبة للخاتمة، فإن كتب الله ما نزلت إلا للحث على التقوى، والصبر على التكاليف، والمصابرة مع الكفار، والمرابطة في سبيل الله، وشحنت السورة بقصتي بدر وأحد، وأطنبت فيما يتصل بهما من المكابدة والمشقة وتعيير من عدم الصبر، وكرر فيها ذكر الصبر والتقوى كما سبق بيانه.

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من رابطَ يومًا وليلةً في سبيل اللَّه كان كعِدْلِ صيامِ شهرٍ وقيامِه، لا يُفْطِرُ، ولا يَنْفَتِلُ عن صلاتِه إلا لحاجة». وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «مَنْ قرأَ سورةَ آلِ عمرانَ أُعطىَ بكلِّ آيةٍ منها أمانًا على جِسْرِ جهنم». وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأَ السورةَ التي يُذْكَرُ فيها آلُ عمرانَ يومَ الجمعةِ صلَّى اللَّهُ علَيه وملائكتُه حتى تُحجَبَ الشمس». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من رابط يوماً وليلة في سبيل الله) الحديث من رواية مسلم والترمذي والنسائي، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رابط يوماً في سبيل الله كان له كأجر صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً جرى له مثل ذلك من الأجر، وأجري عليه الرزق، وأمن من الفتان"، أي: المنكر والنكير. الراغب: ربط الفرس: شده بالمكان للحفظ، ومنه ربط الجيش، وسمي المكان الذي خص بإقامة حفظة فيه: رباطاً، والرباط: مصدر ربطت ورابطت، والمرابطة كالمحافظة، قال تعالى: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ) [الأنفال: 60]، والمرابطة: ضربان: مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابط النفس البدن، فإنها كمن أقيم في ثغر وفوض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مخل به، وذلك كالمجاهدة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من الرباط انتظار الصلاة". وفلان رابط الجأش: إذا قوي قلبه، وقال تعالى: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) [القصص: 10]، فذلك إشارة إلى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح: 4].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الحديث من رواية مسلم، ومالك، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به لدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلك الرباط"، وفيه معنى ما يروى: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"؛ لإتيان اسم الإشارة الدال على بعد المشار إليه القريب في مقام التعظيم، وإيقاع "الرباط" المحلى بلام الجنس خبراً لاسم الإشارة، كقوله تعالى: (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ) [البقرة: 1 ـ 2] أي: المذكور هو الذي يستحق أن يسمى رباطاً، كأن غير ذلك لا يستأهل أن يسمى بهذا الاسم بالنسبة إليه؛ لما فيه من قهر أعدى عدو الله: النفس الأمارة بالسوء، وقمع شهواتها. ثم التكرير في الإيراد لدفع زعم من يتوهم أن ذلك من قبيل التجوز والمبالغة، وما في الآية أن يحمل على عموم المجاز ليكون من الجوامع لكونه خاتمة للسورة وفذلكة لمعانيها، والله أعلم. تمت السورة والحمد لوليه، والصلاة على نبيه

سورة النساء

سورة النساء مدنية، وهي مئة وست وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) 1]. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا بني آدم (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ): فرَّعكم مِن أصلٍ واحد، وهو نفسُ آدمَ أبيكم. فإن قلتَ: علام عطف قوله: (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النساء مدنية، وهي مئة وست وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (علام عطف قوله) يعني أن قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء: 1] دخل فيه حواء وغيرها من بني آدم؛ لأن المعنى: أنشأكم منها وفرعكم، فعلى أي شيء يعطف (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)؛ لئلا يلزم التكرار؟ وأجاب بقوله: إن الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إن كان عاماً فهو ليس بمعطوف على (خَلَقَكُمْ) لئلا يلزم التكرار؛ بل هو معطوف على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محذوف بياناً وتفصيلاً لكيفية خلقهم، فإنه قد علم خلق الجميع من قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، ففسر وكشف بقوله: "أنشأها وخلق منها زوجها .. وبث منهما". وإن كان الخطاب خاصاً وأريد بـ " النَّاسُ " الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون عطفاً على (خَلَقَكُمْ)، ولا يلزم التكرار أيضاً؛ إذ المراد بالثاني غير الأول، فالمعطوفان على الأول داخلان في حيز الصلة، فلا يكون (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) مستقلاً بنفسه، وعلى الثاني: مستقل في الدلالة؛ لأنه عطف على نفس الصلة؛ وإليه الإشارة بقوله: (رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) غيركم"، وعلى الأول التفات من الخطاب في قوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا)؛ لاتحاد المفهومين بخلاف الثاني؛ لاختلافهما؛ لأن المخاطبين غير الغيب. قال صاحب "التقريب": "وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعاً للتكرار، ويحتمل أن يعطف على (خَلَقَكُمْ) من غير تخصيص بـ (النَّاسُ) ولا تكرار؛ إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منها، ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعاً". وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إن الواو في (وَخَلَقَ) واو الحال، أي: خلقكم من نفس واحدة وقد خلق منها زوجها، فلا يحتاج إلى الإضمار والتخصيص. وقال القاضي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ): خطاب يعم بني آدم، (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عطف على (خَلَقَكُمْ)؛ أي: (خَلَقَكُمْ) من شخص واحد (وَخَلَقَ مِنْهَا) أمكم حواء من ضلع من أضلاعها، أو على محذوف تقديره: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) خلقها (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، وهو تقدير لخلقهم من نفس واحدة، (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) بيان لكيفية تولدهم منها. والمعنى: ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء؛ إذ الحكمة تقتضي أن تكون أكثر، وذكر (كَثِيراً) حملاً على الجمع.

قلتُ: فيه وَجْهانِ: أحدُهما أن يُعطَفَ على محذوفٍ، كأنه قيلَ: مِن نفْسٍ واحدةٍ أنشأَها أو ابتدَأَها، وخَلَقَ منها زوجَها، وإنما حُذِفَ؛ لدلالةِ المعنى عليه. والمعنى: شَعَّبَكم مِن نفْسٍ واحدةٍ هذه صِفتُها، وهي أنه أنشأَها مِن تُرابٍ وخَلَقَ زوجَها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت - والله أعلم -: نبين أولاً مقصود المصنف على وجه يعلم منه أي الأقوال أولى بالقبول، أما الوجه الثانيـ وهو أن يكون (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) عطفاً على (خَلَقَكُمْ) ـ فمبني على قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21] لفظاً ومعنى، ويساعد عليه في هذا المقام قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)؛ لأن مثل هذه المخاطبات مختصة بالعرب. وأما الوجه الأول فمبني على ترتيب الحكم على الوصف المناسب؛ لأنه يستدعي العموم في الناس، والشيوع فيه، وإضمار ما يفوق الحصر من ابتداء كونه تراباً إلى انتهاء تعلق الروح بالجسد؛ لأن الكلام سيق للتقوى، وللتنبيه على اقتدار عظيم وامتنان متبالغ، كأنه قيل: يا بني آدم اتقوا ربكم العظيم الشأن ذا القدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، الذي ظهرت آثار قدرته، وتبينت سوابغ نعمته في إنشائكم من هذا المخلوق الفرد العجيب الشأن، الجامع لكمالات الدين والدنيا، وهذا مما لا يخفى عليكم، وظهر من هذا التقرير أن هذا الوجه أبسط وأبين للفوائد المتكاثرة إملاء، ويدخل فيه من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً؛ فهو بالتلقي والقبول أجدر، وعلم أن إرادة الإبهام والتفسير وكذا التقييد بالحال، لا يدخل في المقصود وإن صح من جهة الإعراب؛ لأنه إذا عطف بياناً لزم منه قصور البيان عن المبين؛ لأنه لا يعلم من قوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) بيان كيفية خلقة آدم المبهمة في قوله: (نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) كما بينه المصنف بقوله: "أنشأها من تراب" فضلاً عن تفصيله، فإذا جعل حالاً والمراد العموم كما قال صاحب "الفرائد"؛ دفعه قوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً).

حوّاءَ من ضِلَعٍ من أضلاعِها (وَبَثَّ مِنْهُما) نوعَي جنسِ الإنس؛ وهما الذُّكورُ والإناث، فوَصَفَها بصفةٍ هيَ بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيّةِ خَلْقِهم منها. والثاني: أن يُعطَف على (خَلَقَكُم)، ويكون الخطابُ في: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للذين بُعِثَ إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. والمعنى: خَلَقَكم مِن نفسِ آدم؛ لأنهم من جُملة الجنسِ المفرَّع منه، وخَلَقَ منها أُمَّكم حوّاء (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) غيركم من الأمم الفائتة للحَصْر. فإنْ قلتَ: الذي يَقتضِيه سَدَادُ نظْمِ الكلامِ وجزالتُه أن يُجاء عَقِيبَ الأمرِ بالتقوى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حواء من ضلع من أضلاعها)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والدارمي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيراً، خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج". قوله: (فوصفها) الفاء للتعقيب، مثلها في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] أي: أراد أن يصفها بصفة وهي أنه أنشأها من تراب .. إلى آخره، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم، فيكون قوله: "أنشأها من تراب" داخلاً في التفصيل، وهو بيان ابتداء حاله. وقوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) بيان لغاية أمره مما يتعلق بالتوالد والتناسل وما يتوسط بينهما من سائر الأحوال الغريبة، فهو مقصود مراد؛ لأن الإضمار في أمثال هذه المقامات مؤذن بأن التقرير غير واف بالمقصود، وفي تخصيص الذكر بقوله: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) دون اسمه عليه السلام إشعار بتصوير الأطوار والأحوال. قوله: (لأنهم من جملة الجنس المفرع منه) أي: من آدم؛ فصح أن يقال: خلقكم من نفس آدم وإن وجدت الوسائط. قوله: (الذي يقتضيه سداد النظم) إلى آخره، توجيهه: أن الأصل في ترتيب

بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبعث عليها، فكيفَ كانَ خَلقُه إياهم مِن نفْسٍ واحدةٍ على التفصيل الذي ذَكَرَه موجِبًا للتقوى وداعيًا إليها؟ قلت: لأنّ ذلك مما يدلُّ على القُدرةِ العظيمة. ومَن قَدرَ على نحوِه كانَ قادراً على كلِّ شيء، ومن المَقْدُوراتِ عِقابُ العُصاة، فالنظرُ فيه يؤدِّى إلى أن يُتَّقى القادرُ عليه ويُخشى عقابُه؛ ولأنه يدل على النعمةِ السابقةِ عليهم، فحقهم أن يتَّقُوه في كُفرانِها والتفريطِ فيما يلزمُهم مِنَ القيامِ بشُكرها؛ أو أرادَ بالتقوى تَقْوى خاصةً؛ وهي أن يتَّقُوه فيما يتَّصِلُ بحفظِ الحُقوقِ بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربَّكم حيث جعلكم صنواناً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكم على الوصف أن يكون ذلك الوصف مما له صلاحية العلية؛ وها هنا خلقهم من نفس واحدة، كيف يصح أن يكون علة لقوله: (اتَّقُوا)، وأجاب أولاً: أن الحكم هو الاتقاء من المعاصي والكفر، ومرجع الوصف إلى إثبات العقاب الزاجر من المليك القادر. وثانياً: أن الحكم هو الاتقاء من كفران النعم، ومرجع الوصف إلى إظهار النعمة؛ لأن من قدر على إيلائها قدر على إزالتها. اعلم أنه قال أولاً: "أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها"، وذكر بعده "موجباً للتقوى وداعياً" بالواو للمبالغة، يعني: تقرر عند علماء الأصول أن الترتيب على الوصف إما أن يكون موجباً أو باعثاً على الندب، وليس ها هنا من الأمرين شيء. قوله: (أو أراد بالتقوى تقوى خاصة) عطف من حيث المعنى على قوله: "لأن ذلك مما يدل عليه القدرة"؛ لأن الوجهين السابقين مشتملان على إرادة تقوى عامة من الكفر والمعاصي في جميع ما يجب أن يتقى، ومن كفران النعمة في سائر نعم الله؛ وهذه في نعمة مختصة بما يتصل بحفظ حقوق ذوي الأرحام فقط، وعلى هذا لا يرد السؤال؛ لأن المذكور موجب للحكم بلا تأويل، و"تقوى" غير منصرفة؛ لأن ألفها للتأنيث. قوله: (جعلكم صنواناً). النهاية: "الصنو: المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق

مفرَّعةً مِن أرومةٍ واحدة فيما يجبُ على بعضِكم لبعض، فحافظُوا عليه، ولا تَغْفُلوا عنه. وهذا المعنى مُطابقٌ لمعاني السُّورة. وقُرئ: (وخالقٌ منها زوجَها. وباثٌّ منهما)، بلفظِ اسمِ الفاعل، وهوَ خبر مبتدأ محذوف تقديرُه: وهو خالقُ (تَساءَلُونَ بِهِ) تتساءلون به، فأُدغمتِ التاءُ في السِّين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحد"، وكذا الأرومة، بوزن الأكولة: الأصل، وفي حديث عمير بن أفصى: "أنا من العرب في أرومة بيانها". قوله: (وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة) هذا يوهم أن الوجهين الأولين غير مطابقين، لكن مراده أن دلالته على معنى السورة بالمطابقة من حيث الخصوص؛ وذلك أن السورة مشتملة على ذكر ذوي الأرحام والعصبات كلها، ودلالة الوجهين عليه باللزوم؛ لأن الاتقاء من العقاب يوجب الاجتناب عن جميع المنكرات، ومنها قطع الرحم، والاحتراز عن كفران النعم كلها يوجب الاحتراز عن كفران نعمة الرحم؛ وينصر هذا الوجه الأخير ما رويناه عن مسلم وأحمد والدارمي عن جرير: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه قوم مجتابي النمار أو العباءة، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة؛ فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام، ثم خطب، فقال: " (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) " الحديث. النهاية: مجتابي النمار، أي: لابسيها، يقال: اجتبيت القميص والظلام، أي: دخلت فيهما، وكل شيء قطع وسطه فهو مجوب ومجوَّبٌ، وبه سمي جيب القميص، والنمار: جمع نمرة، وهي: كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، كأنها أخذت من لون النمر، وتمعر، أي: تغير.

وقُرئ: (تَسَاءَلُونَ) بطَرْحِ التاءِ الثانية، أي: يَسألُ بعضُكم بعضًا باللَّهِ وبالرَّحِم، فيقول: باللَّهِ وبالرَّحم أفعَل كذا على سبيلِ الاستعطاف، وأُناشِدُك اللَّهَ والرَّحم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [قوله]: ((تَسَاءَلُونَ))، قرأ الكوفيون: بتخفيف السين، والباقون: بتشديدها، قال الزجاج: "أصله تتساءلون، فحذفت التاء الثانية تخفيفاً؛ لأن اجتماع التاءين مستثقل، والكلام غير ملبس". قوله: (على سبيل الاستعطاف)، قال ابن الحاجب: القسم جملة إنشائية تؤكد بها جملة أخرى؛ فإن كانت خبرية فهو القسم لغير الاستعطاف، وإن كانت طلبية فهو للاستعطاف. وقال المصنف في قوله تعالى: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) [القصص: 17]: " (بِمَا أَنْعَمْتَ): يجوز أن يكون قسماً، أي أقسم بإنعامك علي، وأن يكون استعطافاً، أي: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي". وقلت: فالاستعطاف يستفاد من اللفظ الذي يشعر بالعطف والحنو، ومعنى الاستعطاف ها هنا مأخوذ من لفظ (الله) و (الرحم)، فإن القرابة موجبة للتعطف والرأفة؛ يؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا: "واتقوا الله الذي تتعاطفون بإذكاره وبإذكار الرحم". قوله: (وأناشدك الله والرحم)، يقال: نشدتك الله والرحم نشدة، وناشدتك الله، أي: سألتك بالله والرحم، وتعديه إلى المفعولين؛ إما لأنه بمنزلة: دعوت، حيث قالوا: نشدتك بالله والله كما قالوا: دعوته بزيد وزيداً، أو لأنهم ضمنوه معنى: ذكرت، ومصداق هذا قول حسان: نشدت بني النجار أفعال والدي ... إذا العان لم يوجد له من يوازعه

أو تسألون غيركم باللَّه والرحم، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع، كقولك: رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ: تسألون به. مهموزاً وغير مهموز. وقرئ (وَالْأَرْحامَ) بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين: إما على: واتقوا اللَّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ذكرتهم إياها. وأنشدتك بالله: خطأ، الموازعة: المناطقة والمكالمة. قوله: (أو تسألون غيركم بالله) يريد: يجوز أن يكون التساؤل من جانب واحد، كما استعملوا تفاعلون موضع تفعلون، واللام في "للجمع" تتعلق بقوله: "فقيل"، قال المصنف: سمعت من العرب: تباصرته بمعنى: أبصرته. قوله: (رأيت الهلال وتراءيناه)، عبر بهما عن شيء واحد، وجواز الثاني لاعتبار الجمعية التي يعطيها اللفظ دون المعنى إرادة للمبالغة كما سبق في قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ) [البقرة: 9] بمعنى يخدعون. قوله: (وتنصره قراءة من قرأ "تسألون")، أي: ينصر الوجه الثاني، وهو أن يراد بـ (تَسَاءَلُونَ): تسألون غيركم؛ لأنها صريحة فيه. قوله: (وقرئ: (وَالأَرْحَامَ) بالحركات الثلاث): بالجر: حمزة، والباقون: بالنصب، وأما الرفع فشاذ.

والأرحام، أو أن تُعطف على محلِّ الجارِّ والمجرور، كقولك: مررتُ بزيدٍ وعَمراً، وتنصرُه قراءةُ ابنِ مسعود: (تساءلون به وبالأرحام)، والجرّ على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد؛ لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد؛ فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال، فلما اشتدَّ الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدًا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال؛ لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها قول الشاعر: فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (متصل كاسمه) هو كقولك للمسمى بـ "شجاع": هو شجاع كاسمه، وقيل: لا زال كاسمه مسعوداً. قوله: (لتكرره) يعني اجتمع اتصالان؛ أحدهما: أنه ضمير متصل، وثانيهما: أن الجار والمجرور والمضاف مع المضاف إليه كشيء واحد، فصارت الهاء كحرف من الكلمة، فلا يجوز العطف، بخلاف المنصوب؛ لأنه لم يتكرر الاتصال. قال الزجاج: المخفوض كالتنوين في الاسم، فقبح أن يطف باسم يقوم بنفسه على ما لا يقوم بنفسه، قال المازني: كما لا تقول: مررت بزيد و"ك"، فكذلك لا تقول: مررت بك وزيد. وأنشد سيبويه: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب قال المصنف: (وقد تمحل)، أي: تكلف وتعسف؛ لأنه إن ارتفع قبح العطف، لكن لزم قبح آخر وهو إضمار الجار، قال السجاوندي: يقال: كيف أصبحت؟ فتقول: خير، أي: بخير، ولو قيل: بأي حال أصبحت؟ فتقول: خير، كان أحسن، فجاز أن تحمل عليه لغة القرآن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإلا فقولهم: فاذهب فما بك والأيام من عجب؛ ضرورة شعر لا تحمل عليه لغة القرآن. ومعنى البيت: قد كنت مهجوراً مبعداً، فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا، وليس هذا جزاء الإحسان، ثم عذره وقال: إني أعرف شيمة الزمان، وغدر أبنائه، فاذهب؛ فما بك من عجب ولا بالأيام أيضاً. وقال الحريري في "درة الغواص": فإن قيل: كيف جاز العطف على المضمرين: المرفوع والمنصوف بغير تكرير، وامتنع العطف على المضمر المجرور إلا بالتكرير؟ فالجواب عنه: أنه لما جاز أن يعطف ذانك الضميران على الاسم الظاهر في مثل قولك: قام زيد وهو، وزرت عمراً وأباك؛ جاز أن يعطف الظاهر عليهما، ولما لم يجز أن يعطف المضمر المجرور على الظاهر إلا بتكرير الجار في مثل قولك: مررت بزيد وبك؛ لم يجز أن يعطف الظاهر على المضمر إلا بتكريره أيضاً، نحو: مررت بك وبزيد، وهذا من لطائف علم العربية، ومحاسن الفروق النحوية. وقال المالكي في "الشواهد": الجواز أصح من المنع؛ لضعف احتجاج المانعين وصحة استعماله نظماً ونثراً، وشواهدها كثيرة ذكرناها. وأما قراءة حمزة فقد اجتمع عليها: ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والنخعي والأعمش ويحيى بن وثاب وأبو رزين، ومن مؤيدات الجواز: قوله تعالى: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 217]، فجر المسجد بالعطف على الهاء المجرورة بالباء لا بالعطف على (سَبِيلِ)؛ لاستلزامه العطف على الموصول؛ وهو "الصد" قبل تمام صلته؛ لأن (عَنْ سَبِيلِ) صلة له؛ إذ هو متعلق به، و (وَكُفْرٌ) معطوف على "الصد"، وذلك يجوز بالإجماع، فإن عطف على الهاء؛ خلص من ذلك فحكم برجحانه، وأجاز الفراء أن يكون (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) معطوفاً على (لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) [الحجر: 20].

والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو: والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً، وكانوا يتساءلون بذكر اللَّه والرحم، فقيل لهم: اتقوا اللَّه الذي خلقكم، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام فلا تقطعوها. أو: واتقوا اللَّه الذي تتعاطفون بإذكاره وبإذكار الرحم. وقد آذن عز وعلا ـ إذ قرن الأرحام باسمه ـ أن صلتها منه بمكان، كما قال: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء: 23]، وعن الحسن: إذا سألك باللَّه فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأرحام كذلك)، قال المصنف: إنه لما علم واشتهر بدليل الاستقراء والقياس لم يخف على أحد أنه لابد منه؛ إما منطوقاً به، وإما مقدراً، والمقدر: إما مما يبقىبدليل قراءة النصب، وإما مما يتساءل به بدليل قراءة الجر. قوله: (والمعنى: أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً)، يعني: الكلام كله وارد على عرف المبعوث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على اختياره الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما في أول السورة، فقوله: "واتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الذي تناشدون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها"، معنى الآية بحسب نصب "الأرحام"، وقوله: "أو: واتقوا الله الذي تتعاطفون بإذكاره وبإذكار الرحم": بحسب جره؛ ومن ثم أعاد الجار في "بإذكار الرحم"، وترك معنى قراءة الرفع لعوده إلى أحد المعنيين. قوله: (وللرحم حجنة). النهاية: حجنة المغزل: صنارته، وهي المعوجة التي في رأسه. روينا عن الشيخين، عن أبي هريرة: "أن للرحم شجنة من الرحمن".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن أحمد بن حنبل وأبي داود والترمذي: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي". النهاية: شجنة، أي: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، [وأصل] الشجنة، بالكسر والضم: شعبة من غصن من غصون الشجرة. والتحقيق فيه: أن العرش منصة تتجلى عليه الصفة الرحمانية، لقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، ولما كان للرحم تعلق باسم الرحمن بسبب الاشتقاق؛ جعلها حجنة عند العرش الذي هو منصة الرحمن. وروينا عن الشيخين، عن أبي هريرة في رواية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى". الحديث. الجامع: الحقو: مشد الإزار من الإنسان، وقد يطلق على الإزار، ولما جعل الرحم شجنة من الرحمن استعار لها الاستمساك به، كما يستمسك القريب من قريبه، والنسيب من نسيبه. الراغب: ومعنى ذلك: أن الله تعالى لما جعل بين نفسه وبين عباده سبباً، كما أنه كتب على نفسه الرحمة بعباده، وأوجب عليهم في مقابلتها شكر نعمته، لما كان هو السبب

ومعناه ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: الرحم متعلقة بالعرش، فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت منه. وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا لنطفكم» فقال: يقول لأولادكم؛ وذلك أن يضع ولده في الحلال، ألم تسمع قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)؟ وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال، فلا يقطع رحمه ولا نسبه، فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة، ويجتنب الدعوة، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من اللَّه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول في وجودهم وخلق قواهم وقدرتهم وسائر خيراتهمـ كذا أيضاً جعل بين ذوي اللحمة بعضهم مع بعض شيئاً أوجب به على الأعلى التوفر على الأدون، وعلى الأدون توقير الأعلى؛ فصار بين الرحم والرحمة مناسبة معنوية، كما أن بينهما نسبة لفظية؛ ولهذا عظم شكر الوالدين فقرنه بشكره في قوله تعالى: (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان: 14] تنبيهاً أنهما السبب الأخير في الوجود. قوله: (أن يختار له الموضع الحلال) هذا كناية عن أن لا يكون هو زانياً؛ لقوله: "فلا يقطع رحمه، فإنما للعاهر الحجر". النهاية: العاهر: الزاني، وقد عهر يعهر عهراً وعهوراً: إذا أتى امرأة ليلاً للفجور، ثم غلب على الزنى مطلقاً، والمعنى: لا حظ للزاني في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش، أي: لصاحب أم الولد وهو زوجها أو مولاها، وهو كقول الآخر: له التراب، أي: لا شيء له. قوله: (ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة). النهاية: الدعوة في النسبـ بالكسرـ هو: أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشيرته، وكانوا يفعلونه، فنهي عنه وجعل الولد للفراش. يعني: بعد أن يصون نفسه عن الزنى ينبغي أن يتجنب موضع سوأتي الزانية؛ فإن الزانية ربما تزني فتلد فينسب إليه، لقوله: "الولد للفراش"، فلا يصح نسبه حقيقة فيكون دعياً، فقوله: "يجتنب الدعوة" كناية عن ألا تكون المرأة زانية، والمعنى مأخوذ مما روينا عن البخاري،

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَاكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) 2]. (الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم: الانفراد، ومنه: الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت: كيف جمع اليتيم ـ وهو فعيل كمريض ـ على يتامى؟ قلت: فيه وجهان: أن يجمع على يتمى كأسرى؛ لأنّ اليتم من وادي الآفات والأوجاع، ثم يجمع فعلى فعالي كأسارى؛ ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتيم مجرى الأسماء، نحو صاحب وفارس، فيقال: يتائم، ثم يتامى على القلب. وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار؛ لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسمَّوا به قبل أن يبلغوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن عائشة رضي الله عنها، كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك. فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي. فقام عبد بن زمعة وقال: أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراشه. فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، ثم قال لسودة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة. قوله: (فيقال: يتائم)، قال المصنف: أنشدني الشريف لبشر النجدي: أأطلال حسن بالبراق اليتائم ... سلام على أحجاركن القدايم حسن: امرأة، البراق: جمع برقة، وهي المكان الذي فيه حجارة ورمل وطين مختلطة.

مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يتيم أبى طالب، إمّا على القياس وإمّا حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعًا له. وأمّا قوله عليه السلام «لا يتم بعد الحلم» فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)؟ قلت: إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإيتائهم الأموال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استغنوا بأنفسهم عن كافل) على قوله: (زال) تفسير لقوله: "أن يبلغوا مبلغ الرجال"، أي: سموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا بلغوا زال عنهم هذا الاسم. وهذا التعريف بحسب العرف العام لا الشرع؛ لخروج حكم الحلم والسن من التعريف، ولهذا ما أوردوا قوله صلى الله عليه وسلم سؤالاً عليه. قوله: (تعليم شريعة لا لغة) أي: لم يرد بقوله: "لا يتم بعد الحلم" اليتم اللغوي؛ فإن المقام مقام تعليم الأحكام، لا تعليم اللغة، يعني أنه منقول شرعية؛ لأن الغالب على من احتلم الاهتداء لطريق صلاحه، فلا يكون كاليتيم الذي لم يستغن بنفسه عن كفالة كافل؛ ومن ثم ضم الرشد معه في قوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6]. قوله: (فما معنى قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)؟ ) الفاء تدل على إنكار، يعني: إذا كان معنى اليتم عدم البلوغ وصحة التصرف في الأموال والاستغناء عن الكفالة؛ فكيف قيل: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)؟ وأجاب بجوابين؛ أحدهما: أن اليتامى على ظاهره، والإيتاء على خلاف الظاهر، والثاني: عكسه.

أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاه السوء وقضاته، ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة؛ وإما أن يراد الكبار؛ تسمية لهم يتامى عل القياس، أو لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها، على أن فيه إشارة إلى أن يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يؤل عنهم اسم اليتامى والصغار. وقيل: هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال، فمنعه عمه، فترافعا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: ويقوي الأول قوله بعد آيات: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ) [النساء: 6]، والآية الأولى لحفظها عليهم، والثانية للإيتاء الحقيقي عند البلوغ والرشد، ويؤيده ما يعقبه: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) [النساء: 2] تأديباً للوصي ما دام المال في يده، وعلى الوجه الآخر يكون معنى الآيتين واحداً، فالأولى مجملة، والثانية مبينة بالإيناس والبلوغ. قوله: (أن لا يطمع فيها) أي: المراد من الأمر بالإيتاء رفع الطمع على سبيل الكناية؛ لأن الإيتاء إنما يتأتى إذا بقي المال ولم يهلك، وإنما يسلم من الهلاك إذا لم يتصرف فيه تصرف الملاك، ولا يتصرف في مال الغير إلا الطامع فيه. قوله: (غير محذوفة) أي: منقوصة، الأساس: فرس محذوف: مقطوع الذنب، وزق محذوف: مقطوع القوائم. قوله: (على أن فيه إشارة) يعني سموا باليتامى وإن لم يكونوا يتامى مجازاً؛ لاعتبار معنى لطيف وهو أن يؤخر الإيتاء عن البلوغ، ويسمى هذا الفن في الأصول بإشارة النص، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر، وإليه الإشارة بقوله: "على أن فيه إشارة".

الرسول، نعوذ باللَّه من الحوب الكبير. فدفع ماله إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره"؛ يعنى جنته، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل اللَّه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ثبت الأجر، ثبت الأجر وبقي الوزر، قالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا أنه ثبت الأجر كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل اللَّه؟ فقال: ثبت أجر الغلام، وبقي الوزر على والده (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ): ولا تستبدلوا الحرامـ وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، وما أبيح لكم من المكاسب ورزق اللَّه المبثوث في الأرضـ فتأكلوه مكانه؛ أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامىـ بالأمر الطيب؛ وهو حفظها والتورع منها. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، منه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار، قال ذو الرمّة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلما قبض ألفوا ماله أنفقه) أي: فلما مات الغلام، وجد الناس أن الغلام أنفق ماله في سبيل الله. قوله: (ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده) يعني جمع والده المال: إما من الحرام فعليه الظلامة، وإما من الحلال فعليه تبعة الحساب والوزر إن منع من حقوق الله شيئاً، هذا على تقدير الثاني مجمع عليه، وأما على الأول فمختلف فيه بناءً على أن الولد هل هو غاصب أيضاً أم لا؟ فعلى مذهب الشافعي: لا يثبت الأجر ما لم يرده إلى من غصب منه، أو يستحل منه. قوله: (فتأكلوه) جزم عطف على "تستبدلوا"، أو نصب جواباً للنهي. قوله: (اختزال أموال اليتامى). النهاية: وفي الحديث: "يريدون أن يختزلونا من

فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ أراد: ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل: هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدي: أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وهذا ليس بتبدل، إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصلنا"، أي: يقتطعونا ويذهبوا بنا منفردين، فعلى هذا ليس الاستبدال في المعين كما في الأول، يعني: لا تتركوا حفظ مال اليتيم إلى اختزاله. قوله: (فيا كرم السكن) البيت، السكن: أهل الدار، تحملوا: ارتحلوا، واستبدلته أي: من البقر والظباء، والمستخلف: مجرور على تقدير المضاف، واللام بمعنى الذي، والعائد محذوف، تأويله قوله: "ويا لؤم ما استخلفته". قوله: (أن يجعل شاة) أن يعطي عند الإنفاق شاة مهزولة مثلاً، ويحاسب عليه بالشاة السمينة. قوله: (وهذا ليس بتبدل وإنما هو تبديل). الجوهري: تبديل الشيء: تغييره وإن لم يأت ببدل، واستبدل الشيء بغيره وتبدله: إذا أخذه مكانه. الأساس: بدل الشيء: غيره، وتبدلت الدار بأنسها وحشاً واستبدلت، فمعنى التبديل: التغيير، وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده، وترك ما عنده، هذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء: تغييره وإن لم يأت ببدل، ومعنى التبدل: الاستبدال، والاستبدال: طلب البدل، فكل تبدل تبديل، وليس كل تبديل تبدلاً، فقوله: "ولا تستبدلوا الحرامـ وهو مال اليتامىـ بالحلالـ وهو مالكم"، وقوله: "أو: ولا تستبدلوا الأمر الخبيثـ وهو اختزال أموال اليتامىـ بالأمر الطيب وهو حفظها" ليس فيهما أخذ شيء

(وَلا تَأكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ): ولا تنفقوها معها. وحقيقته: ولا تضموها إليها في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم؛ قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم اللَّه من مال حلال ـ وهم على ذلك يطمعون فيها؛ كان القبح أبلغ والذم أحق؛ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإعطاء شيء بدله، بل هو طلب شيء ليس عنده وترك ما عنده؛ يدل عليه قوله: "وما أبيح لكم من المكاسب"، فعلى هذا قوله: "إلا أن يكارم صديقاً له" استثناء متصل من قوله: "إنما هو تبديل"، فتقدير الكلام أن يقال: جعل شاة مهزولة مكان سمينة تبديل؛ لأنه أخذ شيء وإعطاء شيء آخر، وليس بتبدل الذي هو ترك شيء بدله، كما سبق، إلا أن يحمل قول السدي على المكارمة، بأن يكون لليتيم شاة سمينة في ذمة صديق الولي، فيأخذ منه عجفاء مكان السمينة مكارمة له؛ فيصح على هذا معنى التبدل. ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله: "مكان سمينة من مال الصبي"، قال الزجاج: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)، معناه: لا تأكلوا مال اليتيم بدلاً من مالكم، وكذلك "لا تأكلوا أيضاً أموالهم إلى أموالكم"، أي: لا تضيفوا أموالهم في الأكل إلى أموالكم. قوله: (لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى ... كان القبح أبلغ والذم أحق)، الانتصاف: طريق البلاغة الترقي بالنهي عن الأدنى تنبيهاً على الأعلى، وها هنا أعلى درجات النهي أن يأكل ماله وهو غني، وأدناها أكلها وهو فقير، فيقال: ما وجه وروده على عكس القانون؟ وجوابه: أن أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته. وفي النهي عن الأعلى فائدة جليلة لا توجد في النهي عن الأدنى؛ فالمنهي عنه متى كان أقبح كانت النفس منه أنفر، والأكل من الغني أقبح، فإذا استبشع المنهي عنه دعاه ذلك إلى الإحجام عنه، وعن أكل ماله مطلقاً. ويحقق هذا تخصيص النهي بالأكل، مع أن وجوه الانتفاع به محرمة؛ فإن العرب كانت تذم الإكثار من الأكل، وتعيب على من جعل ذلك دأبه، بخلاف سائر الملاذ،

ولأنهم كانوا يفعلون كذلك؛ فنعي عليهم فعلهم وسمع بهم، ليكون أزجر لهم. والحوب: الذنب العظيم؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن طلاق أم أيوب لحوب» فكأنه قيل: إنه كان ذنبًا عظيمًا كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء، وهو مصدر حاب، حوبًا. وقرئ: (حابًا). ونظير الحوب والحاب: القول والقال. والطرد والطرد. (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا) 3]. ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير؛ خاف الأولياء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فخص النهي بالأكل لكونه أقبح الملاذ؛ حتى إذا نفرت النفس بمقتضى الطبع، جر ذلك إلى النفور عن أخذ مال اليتيم بباقي الملاذ، ومثله (لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران: 130]. ولا يوجد مثل هذه المراعاة إلا في الكتاب العزيز، فالنهي إن خص بالأدنى فللتنبيه على الأعلى، وإن عكس فللتدرب على الانكفاف عن القبيح مطلقاً من الانكفاف عن الأقبح. قوله: (وسمع بهم). النهاية: يقال: سمعت بالرجل تسميعاً وتسمعة: إذا شهرته ونددت به، وسمع فلان بعمله: إذا أظهره ليسمع"، الجوهري: التسميع: التشنيع. قوله: ([إن] طلاق أم أيوب لحوب) هو من باب التغليظ. قوله: (ولما نزلت الآية في اليتامى، وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير؛ خاف الأولياء)، فسر هذه الآية بوجوه ثلاثة، وقدر الشرط والجزاء على ما يعطيه الوجه من المعنى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أولها: "إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء، فقللوا عدد المنكوحات". وثانيها: "إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا [الزنى]، فانكحوا ما حل لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات". وثالثها: "إن خفتم ألا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم". قال صاحب "الانتصاف": هذا أظهر، والآية معه مكملة لبيان حكم اليتامى، وأمر بالاحتياط وأن في غيرهن متسعاً، ويؤيده (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) الآية [النساء: 127] فتتطابق الآيتان، وعلى التأويلين لا يطابقان. ولأن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول فلأن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى، وأما الثاني فلأن الزنى محرم كما أن الجور على اليتامى محرم، وكم من محرم يشاركهما في التحريم، فلا خصوصية تربط الجواب كخصوصية الثالث، فإن ظاهر قوله: (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أنه توسعة عليهم، كأنه قيل: إن خفتم نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع، وعلى الأول هو تضييق، كأنه قيل: إن خفتم من الجور في اليتامى فخافوا الجور في النساء، واحتاطوا في عدد النمكوحات؛ فينافي التوسعة، ووجه الإشعار بالتوسعة إطلاق (مَا طَابَ)، ثم مجيء قوله: (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) بياناً لما وقع إطلاقه، فلو أريد التضييق لكانت البداية بالتقييد أنسب، ولما خاف في التوسعة الميل قيل: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). قلت: هذا تقرير لا مزيد عليه، ولهذا أتى بقوله: (مِنْ النِّسَاءِ)، فإن قلت: فما فائدة ذكر (مِنْ النِّسَاءِ) في هذه الآية وفي قوله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ) [النساء: 22] فإن النكاح إنما يقع على النساء؟ قلت: هو من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب ترغيباً وتحذيراً؛ ومن ثم أوثر بالوصف على من

أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثماني والست، فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها؛ فخافوا -أيضاًـ ترك العدل بين النساء؛ فقللوا عدد المنكوحات؛ لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب؛ لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب منه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل: كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضناً بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف ـ لضعفهن وفقد من يغضب لهن ـ أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: أيامى، والأصل: أيائم ويتائم. وقرأ النخعي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الآيتين، فـ (مِنَ): إما تبعيضية، أو ابتدائية. والتعريف في (النِّسَاءَ) لاستغراق الجنس، كأنه قيل: فاختاروا من بين سائر النساء للنكاح الطيبات المستلذات منهن توسعة لكم، ولا تختصوا من بين سائر النساء الممقوتات عند الله تعالى؛ لأن لكم عن عيبهن سعة من بين سائر النساء، تهجيناً له وتقبيحاً، ولو لم يذكر (مِنْ النِّسَاءِ) لم نعد هذه الفائدة؛ ومن ثم عقبه قوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22]. ويجوز أن تكون بيانية على التجريد؛ لقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) [الحج: 30] ونظيرهما في التوسعة قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) بعد قوله: (َكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا) [البقرة: 35]. قوله: (كما قيل: أيامى، والأصل: أيائم). الأيم في الأصل: التي لا زوج لها بكراً كانت

(تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة، مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد: 29] يريد: وإن خفتم أن تجوروا. (ما طابَ) ما حلّ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو ثيباً، مطلقة كانت أو متوفى عنها زوجها. المغرب: رجل أيم أيضاً، وقد آمت أيمة، قال: كل امرئ ستئيم منـ ... ـه العرس أو منها يئيم وعن محمد: هي الثيب، لقوله صلوات الله عليه: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها". قوله: ("تقسطوا" بفتح التاء على أن "لا" مزيدة)؛ وذلك أن القسط، بالكسر: العدل، تقول منه: أقسط الرجل فهو مقسط؛ فعلى هذا "لا" غير مزيدة، والقسوط: الجور، وقد قسط يقسط قسوطاً. فـ "لا"ـ على هذاـ مزيدة. قوله: (وقيل: (مَا) ذهاباً إلى الصفة). اعلم أنه قد تقرر أن "ما" لا تستعمل في ذوي العقول، فإذا استعملت فيهم أريد الوصف، نحو قوله: "سبحان ما سخركن لنا"، وتخصيصه بحسب المقام، والذي يقتضي هذا المقام من الوصف، وهو ما يشعر به نفي الحرج والتضييق كما ينبئ عنه الوجه الثالث، واختاره صاحب "الانتصاف"، فالمعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في يتامى النساء؛ لما في تزوجهن مع كلفة حق الزواج ومراعاة حقوق اليتامى من القيام في أموالهن، وجبران قلوبهن بسبب اليتم، فانكحوا الموصوفات

ومنه قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون: 6]. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن أعدادٍ مكرَّرة، وإنما مُنِعَتِ الصَّرف؛ لما فيها من العدلين: عَدْلِها عن صِيَغِها، وعَدْلِها عن تكرُّرِها، وهي نَكِراتٌ يُعرّفن بلام التعريف. تقول: فلان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بغير ذلك لينتفي ذلك الحرج، وتطيب به نفوسكم، فأسند (طَابَ) إلى الضمير الراجح إلى (مَا) المفسر بـ (النِّسَاءَ)، وهذا التفسير وتفسير المصنف يدوران مع تأويله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172] لما أريد بالطيبات المستلذات تارة والحلال أخرى، والأول أرجح لاقتضاء المقام، ولما أن الأمر بالنكاح لا يكون إلا في الحلال فوجب الحمل على شيء آخر. قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 3] ويروى: "أيمانهم"، وجاء في سورة "قد أفلح": (أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون: 6]، قال: لم يقل: من ملكت؛ لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث، فعلى هذا فيه تحقير لشأنهن، وهو على خلاف ما أجري له الكلام. قوله: (عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها). قال الزجاج: إنه معدول عن التكرير، وعن التأنيث. وقال أبو البقاء: إنها نكرات لا تنصرف للعدل والوصف، وهي بدل من (مَا)، وقيل: حال من (النِّسَاءِ) ". وقال القاضي: إنها غير مصروفة للعدل والصفة؛ فإنها بنيت صفات، وإن كانت أصولها لم تبن لها، وقد استقصينا البحث فيه في "فاطر".

ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعًا أربعًا. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في (مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ)؟ (قلتُ): الخطابُ للجميعِ، فوَجَبَ التكريرُ ليصيبَ كلَّ ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال ـ وهو ألف درهم ـ درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون "أو"؟ قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة: أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع؛ وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلَّت عليه الواو. وتحريره: أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم: وثلث وربع، على القصر من ثلاث ورباع. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا): بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها (فَواحِدَةً): فالزموا، أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسًا؛ فإنّ الأمر كله يدور مع العدل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أطلق للناكح) أي أبيح، المغرب: التركيب يدل على الحل والانحلال، منه: أطلقت الناقة من العقال، ورجل طلق اليدين: سخي، وفي ضده: مغلول اليدين. قوله: (كل ناكح) روي بالنصب على أنه مفعول "ليصيب"، وفاعله: "ما أراد من العدد".

فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فَواحِدَةً) بالرفع على: فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء، من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري أنهنّ أقل تبعة، وأقصر شغبا، وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة: من ملكت (ذلِكَ) إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم: عال الميزان عولا، إذا مال. وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيًا حكم عليه حاكم فقال له: أتعول علىّ؟ وقد روت عائشة رضي اللَّه عنها عن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «ألا تعولوا: أن لا تجوروا» والذي يحكى عن الشافعي رحمه اللَّه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا يكثر عيالكم، فوجهه: أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأينما وجدتم العدل فعليكم به)، هذا تورية إلى مذهبه الذي سماه العدل. قوله: (شغباً)، الجوهري: الشغب بالتسكين: تهييج الشر، ولا يقال: شغب. وشغبت عليهم، بالكسر، أشغب شغباً: لغة ضعيفة فيه. قوله: (من المهائر): هي الحرائر، واحدتها: المهيرة، وهي الكثيرة المهر، الأساس: أمهر المرأة أعطاها المهر، وله مهائر وسراري. قوله: (ما يصعب عليه)، قيل: "عليه": حال من فاعل "المحافظة"، أي: محافظة الشخص

وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من فِيْ أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا. وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العيّ، من كلام الشافعي» رضي الله عنه، شاهداً بأنه كان أعلى كعبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ راكباً على ذلك الأمر أو ملتبساً معه، وفيه تعسف، والوجه أن "عليه": صلة "يصعب". في "الأساس": صعب عليه الأمر وتصعب واستصعب، وفي "الصحاح": واستصعب عليه الأمر: صعب. المعنى: وفي كثرة العيال ما يصعب على الرجل المحافظة معه على حدود الورع، فـ "ما" موصولة بالجملة، والعائد محذوف، والضمير المجرور عائد إلى "من"، ويؤيد هذا الوجه ما روي عن نسخة المصنف: "ما يصعب عليهم". قوله: (أعلى كعباً) مثل لاطلاعه على علوم العربية، وكونه ذا حظ وافر فيها، وهو إما أن يكون من قولهم: "رتب رتوب الكعب في المقام الصعب"، أي: أنه أشد ممارسة لعلوم العربية وأثبت في مزالقه، أو من قولهم: "أعلى الله كعبه"، و"ذهب كعب القوم": إذا ذهب جدهم وشرفهم. النهاية: في حديث قيلة: لا يزال كعبك عالياً، أي: لا تزالين شريفة عالية على من يعاديك. وفي "جامع الأصول": مناقب الشافعي رضي الله عنه أكثر من أن تعد، وفضائله أكثر من أن تحصى: إمام الدنيا، وعالم الأرض شرقاً وغرباً، جمع له الله له من العلوم

وأطول باعًا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمفاخر ما لم يجمع لإمام قبله ولا بعده، وانتشر له من الذكر ما لم ينتشر لأحد سواه، قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كان الشافعي كالشمس للنهار، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما عوض؟ توفي بمصر سنة أربع ومئتين وله أربع وخمسون سنة. قوله: (وأطول باعاً) مثل لكثرة تناوله، وعموم تعاطيه، هذا تعصب للإمام الشافعي ورد على من خطأه، قال أبو بكر الرازي: وقد خطأه الناس بأنه خالف المفسرين، وبأنه لو قيل: أن لا تعيلوا، لكان تفسيره مستقيماً. وقال صاحب "الإيجاز": إنما يقال من كثرة العيال: أعال يعيل إعالة، ولم يقولوا: أعال يعول. وقال صاحب "النظم": قال في أول الآية: فإن خفتم ألا تعدلوا فالأحسن ألا تجوروا؛ مراعاة للمطابقة. والمصنف أجابهم بحرف واحد وهو أن معناه: لا تجوروا، لكنه على سبيل الكناية، وهذا إنما يتمشى إذا قلنا بالفرق بين الحرائر والإماء في العزل، وظاهر مذهب

وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت: كيف يقل عيال من تسرّى، وفي السراري نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك؛ لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسري، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهنّ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي على التسوية، وأن المراد بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) [النساء: 3] ما تقرر من قبل: كان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج فلا يقوم بحقوقهن، ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل فيهن لكثرتهن؛ فقللوا عدد المنكوحات من غيرهن، ثم نزل درجة أخرى بقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 3]. وأما وجه المطابقة؛ فإن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، فبالنظر إلى التصريح تحصل المطابقة، وبالنظر إلى الكناية تحصل المطابقة مع المبالغة التي تعطيه تصوير قول القائل: كثرة العيال فضيحة الرجال، وعلى هذا الوجه وقع السؤال: كيف يقال: عال من تسرى؟ وقريب من هذه المطابقة قوله تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة: 64] جواباً عن قولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، إذا أريد بغل الأيدي حقيقته؟ قال المصنف: "الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز". وأما وجه التقرير على أن يجرى (أَلاَّ تَعُولُوا) على حقيقته، فكما قرره صاحب "الانتصاف" وآثرناه على الوجوه، وهو ظاهر مكشوف، وذكر في "الروضة": لا يحرم، أي: العزلـ في الزوجة على المذهبـ سواء الحرة والأمة، بالإذن وبغيره، وقيل: يحرم في الحرة. قوله: (وفي السراري). الجوهري: هي جمع السرية، وهي الأمة التي بوأتها بيتاً، وهي فعلية: من السر والإخفاء، وهو الجماع، وضمت سينه لأن الأبنية قد تتغير في النسبة.

فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوّج، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاووس: (أن لا تعيلوا)، من أعال الرجل: إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه اللَّه من حيث المعنى الذي قصده. (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) 4]. (صَدُقاتِهِنَّ): مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ: (صَدُقاتِهِنَّ) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف (صَدُقَاتِهِنَّ). وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ: (صدقتهن)، بضم الصاد والدال على التوحيد، وهو تثقيل صدقة، كقولك في ظلمة: ظلمة (نِحْلَةً) من: نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. ومنه حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نحلتك جداد عشرين وسقاً). المغرب: الجد في الأصل: القطع، ومنه جد النخل: صرمه، أي: قطع ثمره جداداً فهو جاد، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه نحل عائشة جداد عشرين وسقاً، والسماع: جاد عشرين، وكلاهما مؤول، إلا أن الأول نظير قولهم: هذه الدراهم ضرب الأمير، والثاني: نظير (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [الحاقة: 21]. والمعنى: أنه أعطاها نخلاً يجد منه مقدار عشرين وسقاً من التمر. وقلت: وفي "الجامع": عن مالك في "الموطأ"، قالت عائشة رضي الله عنها: نحلني أبو بكر جاد عشرين وسقاً من مال الغابة، فملا حضرته الوفاة، قال: والله يا بنية، ما من الناس أحب إلي غنى منك بعدي، ولا أعز علي فقراً بعدي منك، وغني كنت نحلتك جاد عشرين، ولو كنت جددته واحترزته لكان لك، وغنما هو اليوم مال الوارث. الحديث.

بالعالية. وانتصابها على المصدر؛ لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أي: أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أي: آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أي: منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من اللَّه: عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا: أي: يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنها مفعول له ويجوز أن يكون حالاً من الصدقات، أي: دينا من اللَّه شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئًا لك النافجة؛ لمن تولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك، أي تعظمه. الضمير في: (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك، كما قال اللَّه تعالى: (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روي عن رؤبة أنه قيل له في قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "وسقاً". النهاية: الوسق، بالفتح: ستون صاعاً وهو ثلاث مئة وعشرون رطلاً، وفيه خلاف، والأصل فيه: الحمل، وكل شيء وسقته: حملته. قوله: (بالعالية). النهاية: العوالي: هي الأماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد على ثمانية. قوله: (أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم) أي: نحلة، مصدر للنوع وضعت موضع الإيتاء. قوله: (ناحلين) فالمصدر بمعنى اسم الفاعل، وقوله: "طيبي النفوس" تفسير ناحلين. قوله: (وقيل: نحلة من الله) معطوف على "منحولة". قوله: (النافجة). الأساس: ومن المجاز قولهم: هنيئاً لك النافجة، وهي البنت؛ لأنه كان يأخذ مهرها فينفج ماله، أي: يوسعه ويعظمه، ومنه النفاجة للبنة القميص؛ لأنها توسعه.

كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ فقال: أردت: كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق؛ لأنك لو قلت: وآتوا النساء صداقهنَّ، لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10]؛ لأنه في الأصل: أصدّق مجزوماً فلما جاء بالفاء نصبه فعطف، وأكن على أصل أصدق؛ لأن الفاء عارض كأنه قيل: أصدق و (نَفْساً) تمييز، وتوحيدها؛ لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى: فإن وهبن لكم شيئًا من الصَّداق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه في الجلد توليع البهق) مضى تمامه وشرحه في "البقرة" عند قوله: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) [البقرة: 68]. قوله: (فهو كقوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون: 10]. الانتصاف: في تنظيره به نظر؛ فإن المراعى ثم الأصل هو الجزم، وتقدير الأصل وإعطاؤه حكم الموجود حسن، ولا كذلك إفراد "الصداق" المتقدم، فليس بأصل بل الأصل الجمع، وقد يأتي الإفراط فيه على جهة الاختصار والاستغناء عن الجمع، ولا يراد أنهم راعوا ما ليس بأصل في قوله: بدالي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلاً إلا أنها توطنت بهذا الموضع، وكثر دخولها فيه، فصارت كالأصل. الإنصاف: والإفراد أصل في الآية؛ لأن المراد: وآتوا كل واحدة من النساء صداقها، والجمع فرع على الإفراد.

وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم (فَكُلُوهُ) فأنفقوه. قالوا: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفسا، وعن الشعبي: أن رجلا أتى مع امرأته شريحًا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها، فقال الرجل: أليس قد قال اللَّه تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة؛ لأنهنّ يخدعن. وحكي أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقًا كان لها عليه، فلبث شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة بها نفسها، فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها (فَلَا تَاخُذُوا مِنهُ شَيْئًا) [النساء: 20]؟ ! اردد عليها. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه كَتَبَ إلى قُضاتِه: إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم اللَّه به في الآخرة» وروي: أن أناسًا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتجافت عنه نفوسهن) إشارة إلى التضمين، قال القاضي: جعل العمدة طيب النفسن وعداه بـ (عَن)؛ لتضمين معنى التجافي والتجاوز. قوله: (من شكاسة أخلاقكم). الجوهري: رجل شكس، أي: صعب الخلق. قوله: (الآية التي بعدها) يعني قوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء: 20]. قوله: (يتأثمون). النهاية: قال: تأثم فلان؛ إذا فعل فعلاً خرج به من الإثم، كما يقال: تحرج: إذا فعل ما يخرج به من الحرج، وفي التركيب تضمين، أي: يمتنعون عن أن يرجع أحدهم تأثماً.

منهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فقال اللَّه تعالى: إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة؛ فكلوه سائغًا هنيئًا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط، حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل: (فَإِن طِبنَ)، ولم يقل: فإن وهبن، أو سمحن؛ إعلامًا بأنّ المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل: (فَإِن طِبنَ لَكُمْ عَن شَيءٍ مِنْهُ)، ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثًا لهنَّ على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد: لا يجوز تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعي: لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة. ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد؛ فيكون متناولًا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله؛ لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدًا. الهنيء، والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته. وقيل هو ما ينساغ في. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعثاً لهن على تقليل الموهوب) لدلالة (شَيْءٍ) منكراً تنكير تقليل عليه. قوله: (ويجوز أن يكون تذكير الضمير) يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: "يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات، وهو الصداق"، والمراد به على ذلك الوجه: جنس الصداق من حيث هو هو، وعلى هذا: المراد: البعض الشائع المتناول لكل بعضن ولو أنث الضمير بقي الجنس على إطلاقه فتناول ظاهره الصداق كله، ويظهر بهذا التأويل إرادة البعث على تقليل الموهوب؛ وذلك أن الضمير إذا رجع إلى الصداق الواحد فشيء منه قليل، ولا كذلك إذا رجع إلى الجنس؛ لأن شيئاً من الجنس يحتمل كل الصداق، قال أبو البقاء: (فَكُلُوهُ)، الهاء تعود على (شَيْءٍ)، وفي (مِنْهُ) على المال؛ لأن الصدقات مال. قوله: (لأن بعض الصدقات) هو تعليل قوله: "لتناول ظاهره". قوله: (والمريء: ما يحمد عاقبته). قال الزجاج: يقال مع هناني: مراني، فإذا لم تذكر

مجراه. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء»؛ لمروء الطعام فيه، وهو انسياغه، وهما وصف للمصدر، أي: أكلا هنيئًا مريئًا، أو حال من الضمير، أي: كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على (فَكُلُوهُ) ويبتدأ هَنِيئاً مريئًا) على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: هنأ مرأ، وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) 5] السُّفَهاءَ: المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هنأني قلت: أمرأني بالألف، وحقيقته أن معنى: مرأني؛ تبينت أنه استهضم وأحمد مغبته، فكذا معنى أمرأني: أنه قد انهضم وحمدت مغبته. قوله: (وهما وصف للمصدر). قال أبو البقاء: (هَنِيئاً): مصدر جاء على "فعيل"، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: أكلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء، أي: مهنأ، أي: طيباً، و (مَرِيئاً) مثله، والمريء: فعيل بمعنى مفعل، تقول: أمرأني الشيء: إذا لم تستعمله مع هناني، فإن قلت: هناني ومراني لم تأت بالهمزة في مراني؛ لتكون تابعة لهناني. قوله: (ولا يدي لهم) أي: لا قدرة ولا طاقة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان؛ لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليد، وكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه، كذا في "النهاية"، واللام مزيدة لتأكيد معنى الإضافة، كما في قولهم: لا غلامي لك. قوله: (وأضاف الأموال إليهم) أي: إلى الأولياء، هذا سؤال وارد على قوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ) [النساء: 5]، والمال ليس لهم، بل هو للسفهاء، وأجاب: أن الأموال

جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29]، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) [النساء: 25]، الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). (جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً): أي: تقومون بها وتنتعشون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هنا عبارة عن الشيء الذي به يتم قوام أمر الناس، وفيه وجوه معايشهم، فهو على هذا لا يختص به أحد دون أحد. وقال الزجاج: معنى (أَمْوَالَكُمْ): الشيء الذي به قوام أمركم، وإليه الإشارة بقوله: "لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم"، ونحوه قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء: 29]، فليس المراد النهي عن قتل نفسه؛ بل عن قتل غيره، أي: لا تقتلوا ما يقال له: النفس وينسب إليكم، وكذا قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 25] أي: من جنس ما ملكته أيدي الناس؛ لأن المراد الإذن بالتزوج بأمة الغير وهي ليست مملوكة للمتزوج. قوله: ((قِيَاماً)) أي: يقومون بها، قال أبو البقاء: (قِيَاماً): مصدر قام، والياء بدل من الواو؛ أبدلت منها لما أعلت في الفعل لكسرة ما قبلها، أي: [التي] جعل الله لكم سبب قيام أبدانكم، أي: بقائها. وقلت: إنما أضاف الأموال إليهم في قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 2] ولم يضف إليهم ها هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم؛ ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما، فإن تسميتهم يتامى هناك وإن لم يكونوا كذلك يناسب قطع الطمع؛ فيفيد المبالغة في رد الأموال إليهم، فاقتضى ذلك أن يقال: (أَمْوَالَهُمْ)، وأما الوصف ها هنا فهو السفاهة؛ فناسب ألا يختصوا بشيء من المالكية؛ لئلا يتورطوا في الأموال، فكذلك لم تضف أموالهم إليهم، وأضيفت إلى الأولياء، وفيه بيان جدوى المال، وأنه تعالى جعله مناطاً للمنافع الدنيوية

ولو ضيعتموها لضعتم، فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ: (قِيَمًا)، بمعنى قياماً، كما جاء "عوذا" بمعنى "عياذا". وقرأ عبد اللَّه بن عمر: (قوامًا)، بالواو. وقوام الشيء: ما يقام به، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن؛ ولأن أترك ما لا يحاسبني اللَّه عليه، خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان ـ وكانت له بضاعة يقلبها ـ: لولاها لتمندل بى بنو العباس. وعن غيره ـ وقيل له: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأخروية، يتعيشون به وينفقونه في سبيل الله، وذم من ضيعه في غير وجهه روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لي: "إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة"، قال: فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال؛ ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح". قوله: (لضعتم) أي: لهلكتم، الجوهري: ضاع الشيء يضيع ضيعة وضياعاً بالفتح، أي: هلك. قوله: (وقرئ: "قيماً" بمعنى: قياماً) قرأها نافع وابن عامر. قال أبو البقاء: إنه مصدر، مثل: الحول والعوض، وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها، كما صحت في العوض والحول، ولكن أبدلوها ياء حملاً على قيام، وعلى اعتلالها في الفعل، أو يكون الأصل قياماً فحذفت الألف كما حذفت في خيم، ويقرأ (قواماً) بكسر القاف وبالواو، وهو مصدر قاومت قواماً، مثل لاوذت لواذاً، أو إنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر. قوله: (لتمندل). الأساس: ندل المال وغيره: نقله بسرعة، ومنه المنديل، وتندلت بالمنديل:

إنها تدنيك من الدنيا، قال: لئن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا؛ فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك. (وَارْزُقُوهُمْ فِيها): واجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا؛ حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمسحت به. كنى به عن الابتذال. وقيل: هو مأخوذ من الندل؛ وهو الوسخ؛ لأنه يندل به، ويقال: تندلت بالمنديل، قال الجوهري: ويقال: تمندلت، أيضاً. قوله: (في جنازة)، ويروى: في ختارة. الأساس: هو ختار، وهو من أهل الختر، وهو أقبح الغدر. وفي "نوابغ الكلم": رب من هو محتار وهو عند الله مختار، والأولى أنسب بالمقام للمبالغة، كأنهم قالوا: إن تشييع الجنازة من فروض الكفاية، والاكتساب من فروض العين. قوله: ((وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا)) "في" هذه كما في قوله تعالى: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه: 71]، فجعل الأموال أنفسها ظروفاً للرزق، فيلزم أن يكون الإنفاق من الربح لا من المال الذي هو الظرف؛ فلو قيل: "منها" لكان الإنفاق من نفس المال، ويؤيد هذا التأويل ما روى الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال: "ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". وأخرجه أيضاً صاحب "شرح السنة" عنه.

وقيل: هو أمرٌ لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحدٍ من السُّفهاء قريب أو أجنبي، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده .. (قَوْلًا مَعْرُوفاً) قال ابن جريج: عدّة جميلة، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظًا. وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل: عافانا اللَّه وإياك، بارك اللَّه فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قولٍ أو عملٍ، فهو معروف. وما أنكرته ونفرت منه لقبحه، فهو منكر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "الموطأ" عن مالك: بلغه أن عمر بن الخطاب، قال: اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة. قوله: (وقيل: هو أمر لكل أحد) عطف على قوله: "والخطاب للأولياء"، فعلى هذا الإضافة في (أَمْوَالُكُمْ) على حقيقتها. قال القاضي: والوجه الأول هو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، وقيل: نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً، وهو أوفق لقوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً). قوله: (قال ابن جريج: عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم)، هذا على أن يكون الخطاب للأولياء. قوله: (وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً)، هذا على أن يكون الخطاب لكل واحد.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَاكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) 6]. (وَابْتَلُوا الْيَتامى): واختبروا عقولهم، وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف، قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم رشداً - أي: هداية؛ دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم؛ لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصودٌ به وهو التوالد والتناسل. والإيناس: الاستيضاح؛ فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد، فالابتلاء عند أبي حنيفة وأصحابه: أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد: التهدي إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس: الصلاح في العقل، والحفظ للمال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكل ما سكنت إليه النفس) مبتدأ، وقوله: "فهو معروف" الخبر، والفاء لتضمنه معنى الشرط. قوله: (رشداً أي: هداية). الراغب: الرشد والرشد: خلاف الغي، يستعمل استمال الهداية، قال تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) [البقرة: 256]، (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6]. وقال بعضهم: الرشد بالفتح أخص، يقال في الأمور الدنيوية والأخروية بالضم، وبالفتح يقال في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما. قوله: (الاستيضاح فاستعير للتبيين). الجوهري: استوضحت الشيء: إذا وضعت يدك على عينك تنظر هل تراه؟ ثم استعير لاستعمال الفكر في تبين المعنى استعارة محسوس لمعقول، كما استعار له الذوق حيث قال: "وذوقوا أحوالهم"، أي: تبينوا أحوالهم في الرشد تبيناً ظاهراً مكشوفاً كالمحسوس.

وعند مالك والشافعي: الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد: الصلاح في الدين؛ لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت: فإن لم يؤنس منه رشدٌ إلى حدّ البلوغ؟ قلت: عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ينتظر إلى خمس وعشرين سنة؛ لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه: لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت: ما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد؛ وهو الرشد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند مالك والشافعي: الابتلاء: أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين)، الانتصاف: مذهب مالك أنه لا يدفع إليهم شيء إلا بعد البلوغ، وهو أحد قولي الشافعي، والآخر يوافق ما قاله الزمخشري، وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أن في كيفية ذلك عند الشافعي وجهين: قيل: يباشر العقد بنفسه، وقيل: يساوم ويقرر الثمن، والولي يباشر العقد، والرشد عند مالك في المال، وعند الشافعي في الدين والمال، وحجة من أجاز الابتلاء قبل البلوغ أنه جعل البلوغ غايته؛ فيكون قبله ضرورة مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها. قوله: (مخايله) جمع مخيلة. النهاية: المخيلة: موضع الخيل، وهو الظن، كالمظنة، والمخيلة: السحابة الخليقة بالمطر، وفي الحديث: كان إذا رأى في السماء اختيالاً تغير لونه، والاختيال: أن يخال فيها المطر. قوله: (فإن لم يؤنس منه رشد) شرط جزاؤه: كيف الحكم؟ أو: كيف يصنع؟

في التصرف والتجارة، أو طرفًا من الرشد ومخيلة من مخايله؛ حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت: كيف نظم هذا الكلام؟ قلت: ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جعل غاية للابتلاء، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، كالتي في قوله: فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَهَ أشْكَلُ والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية؛ لأن (إِذَا) متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط (بَلَغُوا النِّكَاحَ) وقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابًا للشرط الأول الذي هو (إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ)، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما زالت القتلى) البيت، مج الماء من فيه، أي: رمى به، ومجاج المزن: مطره، والأشكل: بياض وحمرة قد اختلطا، كأنه قيل: قد أشكل عليك لون الماء، أهون الماء أو الدم؟ قوله: (فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى) إلى آخره. الانتصاف: قرر بذلك مذهب أبي حنيفة في سبق الابتلاء، والظاهر خلاف ذلك؛ لأن الغاية مركبة. قال القاضي: "إن" الشرطية جواب (إِذَا) المتضمنة معنى الشرط، والجملة غاية الابتلاء، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم؛ بشرط إيناس الرشد منهم، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد، خلافاً لأبي حنيفة. وعليه ظاهر كلام المصنف؛ ولهذا جيء بقوله: "واستحقاقهم" بالجر عطفاً على قوله: "بلوغهم"؛ فدخل الاستحقاق في غاية الابتلاء.

وقرأ ابن مسعود: (فإن أحستم) بمعنى أحسستم، قال: أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْه شُوسُ وقرئ: (رشداً)، بفتحتين. و (رشداً)، بضمتين (إِسْرافاً وَبِداراً): مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها، وتقولون: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: قال أولاً: "حتى هذه هي التي تقع بعدها الجمل"، و"إذا" متضمنة معنى الشرط، ثم قدر "إذا" ظرفية، و"حتى" جارة بمنزلة "إلى"؛ حيث قال: "إلى وقت بلوغهم". قلت: هو في بيان تقرير الآية وتحرير المعنى، لا في تقدير الإعراب؛ ولهذا جعل الفاء مع الجملة الشرطية في قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6] بمنزلة قوله: "بشرط إيناس الرشد". قوله: (أحسن به فهن إليه شوس). أوله: خلا أن العتاق من المطايا قبله: فباتوا يدلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هاد غموس قائله: عبد الباقي يصف قوماً يسيرون في المفازة ويسوقون الإبل، والأسد يطلب فريسته منهم، والعتاق بكسر العين: النجيبات من الإبل، والغموس بالغين المعجمة: القوي الشديد، وشوس: جمع أشوس وهو الذي ينظر بمؤخر عينه، وأحسن: أصله أحسن، حذفت السين الأولى وألقيت حركتها على الحاء. قوله: (ومبادرين كبرهم) متعلق بـ "مبادرين"، أي: بداراً أن يكبروا. قوله: (تفرطون في إنفاقها) هو معلول قوله: "أو لإسرافكم"، "وتقولوا: ننفق" معلول

ننفق كما نشتهي قبل أن تكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيراً؛ فالغنى يستعف من أكلها ولا يطمع، ويقتنع بما رزقه اللَّه من الغنى إشفاقا على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدراً محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف، مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله»، فقال: أفأضربه قال: «مما كنت ضارباً منه ولدك». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "ومبادرتكم كبرهم". وإنما عدل عن الفعل في الثاني إلى القول؛ ليؤذن بأنه أقبح وأشنع من الأول مع أنه مستلزم للإسراف أيضاً، وكذا يفهم منه الجمع بين الفعل والقول في مقام الذم، ولا ينعكس. قوله: (على ما في ذلك من الاختلاف) أي: الاختلاف الذي سيجيء في قوله: "عن محمد بن كعب: ينزل نفسه منزلة الأجير فيما لابد منه ... وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدى" وغير ذلك. قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له) ورواية الحديث عن أبي داود وابن ماجة والنسائي، عن عبد الله بن عمرو: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، قال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل". النهاية: غير متأثل، أي: غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل، أي: مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء: أصله.

وعن ابن عباس: أنّ وليّ اليتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتلوط حوضها، وتهنأ جرباها، وتسقيها يوم وردها؛ فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه: يضرب بيده مع أيديهم؛ فليأكل بالمعروف، ولا يلبس عمامة فما فوقها. وعن إبراهيم: لا يلبس الكتان والحلل، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وعن محمد بن كعب: يتقرّم تقرّم البهيمة، وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدّ منه. وعن الشعبي: يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه: كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي. وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدّى. وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب، وأخذ القوت، ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حلّ. وعن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: إنى أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة والى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت» واستعف أبلغ من عفّ؛ كأنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتلوط حوضها) أي: تطينها وتصلحها، وأصله من اللوط، وهو اللصوق، ويقال: الولد ألوط بالقلب، أي: ألصق وأعلق، كذا في "النهاية". قوله: (وتهنأ جرباها) هنأ البعير: طلاه بالهناء، وهو القطران. قوله: (ولا ناهك) أي: مستقص متبالغ فيه. قوله: (يضرب بيده)، أي: يأكل الوصي منه كما يأكلون. قوله: (يتقرم تقرم البهيمة) أي: يأخذ شيئاً قليلاً. الجوهري: قرم الصبي والبهم قرماً وقروماً، وهو أكل ضعيف في أول ما تأكل البهيمة، وأولاد الضأن اسم للمذكر والمؤنث. قوله: (و"استعف" أبلغ من "عف")؛ لأنه من باب التجريد، كأنه يطلب من نفسه زيادة العفة، كاستنوق الجمل؛ فعلى هذا لا يرد عليه قول صاحب "الانتصاف" وهو بعيد؛ لأن تلك متعدية وهذه قاصرة، والظاهر أن هذه فيما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى.

طالبٌ زيادة العفة (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعي عليه صدق مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه؟ وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة، فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة (وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً): أي: كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبًا؛ فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) 7 ـ 8]. (الْأَقْرَبُونَ) هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم. (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل (مِمَّا تَرَكَ) بتكرير العامل، و (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصبت على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيبًا مفروضًا مقطوعًا واجبًا لا بدّ لهم من أن يحوزوه، ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) [النساء: 11] كأنه قيل: قسمة مفروضة. روى أن أوس بن الصامت الأنصاري ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يستاثر به). روي منصوباً ومرفوعاً؛ النصب على أنه عطف على "يحوزوه" أي: لابد من الحوز وعدم اختصاص الطائفة، والرفع على جملة قوله: "ولابد لهم". قال القاضي: في الآية دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه. قوله: (روي أن أوس بن صامت الأنصاري)، وفي "معالم التنزيل": عن محيي السنة: نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري، وذكر ما ذكره المصنف، ثم قال: فقام رجلان هما ابنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عم الميت ووصياه: سويد وعرفجة، فأخذا ماله، ثم ساق الحديث إلى آخر ما في الكتاب، وكذا في "الوسيط"، وليس فيهما ذكر الفضيخ، وذكر في "الاستيعاب": أن أوس بن الصامت الأنصاري أخا عبادة بن الصامت بقي إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وكذا في "الجامع". وأما أوس بن ثابت ففي "الاستيعاب" قيل: إنه قتل يوم أحد، وقيل: إنه توفي في خلافة عثمان، والأول أصح. وروى أبو داود والترمذي، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواف، فجاءت المرأة بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا ثابت بن قيس، قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان أبداً إلا ولهما مال، قال: "يقضي الله في ذلك"، قال: ونزلت سورة النساء (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء: 11]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمهما: "أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك". النهاية: استفاء: جعله فيئاً له، الأسواف: موضع بالمدينة، وكان يومئذ معروفاً، وأما الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين فلم أجد له ذكراً سوى في الحاشية أنه موضع بالمدينة، فيه يفضخون البسر، أي: يعصرون، وأما أم كجة فقال صاحب "الاستيعاب": أم كجة وقع ذكرها في كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه" لهبة الله، وذكرها ابن المقرح في "كتاب القصص والأسباب".

ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات، فزوي ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهنّ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فجاءت أم كجة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال: «ارجعي حتى أنظر ما يحدث اللَّه " فنزلت، فبعث إليهما «لا تفرّقا من مال أوس شيئًا فإنّ اللَّه قد جعل لهنّ نصيبا) ولم يبين حتى تبين فنزل (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) [النساء: 11] فأعطى أم كجة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم. (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي: قسمة التركة، (أُولُوا الْقُرْبى): ممن لا يرث (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الضمير لما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان أهل الجاهلية لا يورثون) إلى آخره. لما أراد الله تعالى إبطال هذا الحكم، وقمع هذه الهناة؛ أعاد قوله تعالى: (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) [النساء: 7] فترك الاختصار حيث عدل من قوله: "وللأولاد نصيب" فأذن باستقلال كل من الرجال والنساء في حوز الميراث، وأن لا تفاوت بينهما فيه، ثم أكد ذلك بقوله: (نَصِيباً مَفْرُوضاً)، أي: قسمة مفروضة مقطوعة لابد لهم من أن يحوزوه. قوله: (وذاد عن الحوزة). الجوهري: الحوزة: الناحية، وحوزة الملك: بيضته. النهاية: في الحديث: "بيضتهم"، أي: مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، وبيضة الدار: وسطها ومعظمها. قوله: (فرضخوا لهم). النهاية: الرضخ: العطية القليلة، والفاء فيه عاطفة، والمعطوف عليه "حضرهم"، وهو جواب "إذا".

بالشيء من رثة المتاع، فحضهم اللَّه على ذلك تأديبًا من غير أن يكون فريضة قالوا: ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار، كما لغيره من الحقوق، وروى أن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر رضي اللَّه عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضي اللَّه عنها حية، فلم يدع في الدار أحداً إلا أعطاه، وتلا هذه الآية. وقيل: هو على الوجوب. وقيل: هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير: أن ناسًا يقولون: نسخت؛ واللَّه ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس. والقول المعروف: أن يلطفوا لهم القول ويقولوا: خذوا بارك اللَّه عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين، يعنيان الورق والذهب؛ فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قالوا لهم قولا معروفا، كانوا يقولون لهم: بورك فيكم. (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) 9]. (لو) مع ما في حيزه صلة ل (الَّذِينَ). والمراد بهم: الأوصياء؛ أمروا بأن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من رثة المتاع). الجوهري: الرثة: السقط من متاع البيت من الخلقان، والجمع: رثث. قوله: (وعن سعيد بن جبير: أن ناساً يقولون: نسخت). رواية البخاري عن ابن عباس تمامه: هما واليان: وال يرث وذاك الذي يرزق، ووال لا يرث، وذاك يقول بالمعروف، ويقول: لا أملك لك أن أعطيك. قوله: (يقولون لهم: بورك فيكم) أي: فيما أعطيناكم ليكون كالجبران لقلوبهم؛ إذ لا يسهل عليهم أن يخرجوا من الأرضين والرقيق شيئاً.

يخشوا اللَّه فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى، ويشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافًا وشفقتهم عليهم، وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم، ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى: وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من اللَّه شيئا، فقدم مالك، فيستغرقه بالوصايا، فأمروا بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا، ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم) الفاء فيه كالفاء في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]. قوله: (خوفهم على ذريتهم .. وشفقتهم عليهم) نشر لما لف عند قوله: "فيخافوا ويشفقوا"، أي: فيخافوا خوفهم ويشفقوا شفقتهم. قوله: (وأن يقدروا ذلك) المشار إليه: (لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 9]، وهو عطف على "يخشوا" على سبيل البيان. قال أبو البقاء: (مِنْ خَلْفِهِمْ) يجوز أن يكون ظرفاً لـ (تَرَكُوا)، أو حالاً من (ذُرِّيَّةً)، و (خَافُوا) جواب (لَوْ) ومعناه: إن. قوله: (وليخشوا على اليتامى من الضياع) أمر الأوصياء أولاً بالخشية من التورط في أكل أموال اليتامى، وثانياً: بالتحرج عن حفظها تأثماً، فضيعوا لذلك، وقد ألمح إلى الوجهين في قوله تعالى: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء: 2]. قوله: (وقيل: هم الذي يجلسون إلى المريض) عطف على قوله: "والمراد بهم الأوصياء". قوله: (ويجوز أن يتصل بما قبله) أي: بقوله: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء: 8] فهو أمر للورثة، وعلى الوجه الأول متصل بقوله:

من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين، وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين؛ هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت: ما معنى وقوع (لَوْ تَرَكُوا) وجوابه صلة ل (الذين)؟ قلت: معناه: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا، وذلك عند ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا)، وقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ) استطراد لذكر قوله: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 6]، وعلى هذا أيضاً هو عطف على قوله: "والمراد بهم الأوصياء"، أي: الآية متصلة بقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) [النساء: 7]، ويكون المأمور بقوله: (وَلْيَخْشَ) الأوصياء والذين يجلسون، أو متصلة بقوله: (وَإِذَا حَضَرَ) والمأمور به الورثة. قوله: (معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم) يعني: في إيقاع (لَوْ) مع جوابهـ وهو (خَافُوا) ـ صلة للموصول مزيد تقرير للخشية، كأنه قيل: وليخش الذي حقه الخشية، والأصل: وليخش الوصي أو من حضر المريض أو الوارث، فعدل إلى المذكور ليتصور تلك الحالة الصعبة ويستحضرها في نفسه فيرتدع، وإليه الإشارة بقوله: "وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ " ولو لم يعدل من هذا لفات هذا المطلوب. قال القاضي: وفي ترتيب الأمر على المذكور إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه، وبعث على الترحم، وتهديد للمخالف. الانتصاف: إنما أوجب الزمخشري إضمار "شارفوا" في قوله: "وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً" لقوله: (خَافُوا عَلَيْهِمْ)، والخوف يكون قبل تركهم إياهم، وإلا كان يلزم تقديم الجواب على الشرط، وهو كقوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) [الطلاق: 2] أي: شارفنه، وفائدته التخويف بالحالة التي لا مطمع معها في الحياة ولا الذب عن الذرية الضعاف.

احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل: لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَىَّ حُبًّا ... بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ أُحَاذِرُ أَن يَرَيْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِي وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِى وقرئ: (ضعفاء). (وضُعافى)، (وضَعافى). نحو: سُكارى وسكارى. والقول السديد من الأوصياء: أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم ب يا بنيّ ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لسعد: «إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» وكان الصحابة رضي اللَّه عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لقد زاد الحياة) البيتين، فاعل "زاد": "بناتي"، "أنهن": يروى بالفتح على إضمار اللام، وبالكسر على الاستئناف والتعليل، "رنقاً" أي: ماء كدراً. قوله: (ومن الجالسين) إشارة إلى التفسير الثاني، أي: "الذين يجلسون إلى المريض". قوله: (فتجحف). المغرب: جحفه واجتحفه وأجحف به: أهلكه وأستأصله. النهاية: أجحفت بهم الفاقة، أي: أفقرتهم الحاجة وأذهبت أموالهم. قوله: (مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص)، والحديث من رواية الشيخين وغيرهما: قال سعد: يا رسول الله، إني قد بلغ مني الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟

وأن الخمس أفضل من الربع والربع من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين. (إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) 10]. (ظُلْماً) ظالمين، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته، (فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن ذرهم عالة يتكففون الناس". قوله: (وأن الخمس أفضل) منصوب بفعل مضمر، والجملة معطوفة على "يستحبون"، أي: يستحبون ألا تبلغ الوصية الثلث، ويرون أن الخمس أفضل. قوله: (ومن المتقاسمين) عطف على قوله: "من الأوصياء"، وهو إشارة إلى التفسير الثالث. قوله: (ظالمين أو على وجه الظلم) أي: هو حال أو تمييز، قال أبو البقاء: (ظُلْماً): مفعول له، أو مصدر في موضع الحال. قوله: ((فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم) أي: وضع هذا مكان ذلك، وفائدة المبالغة: كأنه جعل بطونهم مكان النار ومستقرها، والدليل على أن المراد ملء بطونهم قولهم: في بطنه، أي: بعض بطنه، وفيه: أنا لمراد بالظلم ما مر في قوله تعالى: (وَلا تَاكُلُوهَا إِسْرَافاً) إلى قوله: (فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] أي: ما يسد الجوع ويواري العورة.

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ومعنى يأكلون نارًا: ما يجرُّ إلى النار، فكأنه نارٌ في الحقيقة. وروى: (أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا). وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها (سَعِيرا) ً ناراً من النيران مبهمة الوصف. (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) 11]. (يُوصِيكُمُ اللَّهُ): يعهد إليكم ويأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم بما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كلوا في بعض بطنكم تعفوا) مضى تمامه وشرحه. قوله: ("وسيصلون" بضم الياء وتشديد اللام وتخفيفها) بالتخفيف: ابن عامر وأبو بكر، وبالتشديد شاذ. قال القاضي: يقال: صلي النار، أي: قاسى حرها، وصليته: شويته، وأصليته وصليته: ألقيته فيها، والسعير: "فعيل" بمعنى مفعول، من "سعرت النار": إذا ألهبتها. قوله: ((يُوصِيكُمْ اللَّهُ) يعهد إليكم). الراغب: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل فيه مقترناً بوعظ، من قولهم: أرض واصية: متصلة النبات، ويقال: أوصاه

هو العدل والمصلحة، وهذا إجمال تفصيله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فإن قلت: هلا قيل: للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر؟ قلت: ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله، كما ضوعف حظه لذلك، ولأنّ قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر، وقولك: للأنثيين مثل حظ الذكر، قصد إلى بيان نقص الأنثى، وما كان قصداً إلى بيان فضله، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووصاه، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضاً. قوله: (ولأن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) جواب آخر، والفرق: أن التقديم على الأول جار على سنن تقديم الأفضل، ولاشك في فضل الذكر، وذكر حظه تابع لذكره، وإلى هذا المعنى أشار بقوله: "كما ضوعف حظه" أي: قدم ذكره لفضله كما ضوعف حظه لفضله، وعلى الثاني: بخلافه؛ لأنك تجعل ضعف الحظ علة لفضل الذكر، ونقصانه لنقصان الأنثى، فإنك إذا قلت: للذكر ضعف حظ الأنثى لفضلهـ كان أدل على فضل الذكر من قولك: للأنثى نصف حظ الذكر لنقصانها؛ لأن كمال الفضل أن يفضل على من له فضل، لا على الناقص. وإليه الإشارة بقوله: "وما كان قصداً إلى بيان فضله كان أدل .. " إلى آخره، فالأفضلية على الوجه الأول تعلم من دليل خارجي، وعلى الثاني من نفس التركيب، وعليه الحديث الوارد في فضل هذه الأمة: "فقال أهل الكتابين: أي رب، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً! قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: هو فضلي أوتيه من أشاء"، أخرجه البخاري والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله: (ولأنهم كانوا يورثون) يريد: إنما قدم الذكور لأن الكلام كان فيهم؛ لأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فجيء بالإنكار على وفق اهتمامهم وتسليم ادعائهم، يعني:

فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان، فكأنه قيل: للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أي: إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع: أنه أتبعه حكم الانفراد، وهو قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) والمعنى: للذكر منهم، أي: من أولادكم، فحذف الراجع إليه؛ لأنه مفهوم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. (فَإِنْ كُنَّ نِساءً): فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً ليس معهن رجل، يعنى: بنات ليس معهن ابن. (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) يجوز أن يكون خبراً ثانياً ل كان وأن يكون صفة ل (نساء)، أي: نساء زائدات على اثنتين (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً): وإن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هب أن الذكور أولى كما يزعمونه، أما كفاهم أن ضوعف لهم نصيب البنات؟ وهو كالقول بالموجب. قوله: (مع إدلائهن من القرابة). المغرب: أدليت الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه أدلى بالحجة: أحضرها، وفلاني دلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل. قوله: (فكأنه قيل: للذكر الثلثان) يعني: مفهوم الآية يؤدي إلى أن الابن صاحب الفرض، وليس كذلك. قوله: (والمعنى: للذكر منهم)، قال أبو البقاء: الجملة، أي: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء: 11] في موضع نصب بـ "يوصي"؛ لأن المعنى: يفرض لكم، أو يشرع في أمر أولادكم.

كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى (فَلَهَا النِّصْفُ) وقرئ: واحدة بالرفع على "كان" التامّة والقراءة بالنصب أوفق لقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ) بالضم. والضمير في (تَرَكَ) للميت لأنّ الآية لما كانت في الميراث، علم أن التارك هو الميت. فإن قلت: قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت: وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوقٌ للأمرين جميعًا، فلذلك صح أن يقال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً): فإن قلت. هل يصح أن يكون الضميران في (كنّ) و (كانت) مبهمين، ويكون (نساء) و (واحدة) تفسيراً لهما، على أن كان تامة؟ قلت: لا ابعد ذلك. فإن قلت: لم قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) ولم يقل: وإن كانت امرأة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "واحدة" بالرفع على "كان" التامة)، بالرفع: نافع، والباقون بالنصب، والقراءة بالنصب أنسب، ليتطابق المعطوف والمعطوف عليه، وهو قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً)؛ لأن "كان" حينئذ ناقصة. قوله: (وقرأ زيد بن ثابت: النصف) وهو شاذ، قال المصنف: الضم في النصف لغة أهل الحجاز، وهذا أقيس؛ لأنك تقول الثمن والعشر. قوله: (مبهمين) أي: غير منصرفين إلى شيء سبق، بل إنما للإجمال والتفصيل كضمير الشأن، وتكون "كان" فيهما تامة. قوله: (لم قيل: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً)؟ ) توجيه السؤال: كيف قيل: (وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً) فإنه غير مطابق لقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) بل المطابق: وإن كانت امرأة، أو فإن كن ثنتين أو ثلاثاً فصاعداً، وتلخيص الجواب: أن الغرض في قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً): خلوصهن إناثاً؛

قلت: لأنّ الغرض ثمة خلوصهن إناثا لا ذكر فيهنّ ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وبين انفرادهن، وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها. فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن، وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما؟ وما باله لم يذكر؟ قلت: أما حكمهما فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة، لقوله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فأعطاهما حكم الواحدة، وهو ظاهر مكشوف؛ وأما سائر الصحابة فقد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه قسيم لقوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ليعلم حكم اجتماعهن مع الذكور أولاً، ثم انفرادهن إناثاً ثانياً، ولابد من النص على خلوصهن نساء، وفي قوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً) الغرض: بيان العدد ليعلم الحكم حال وحدتها، يعني: إذا لم يقترن معها غيرها؛ فوجب النص على العدد، والحاصل: أن معنى الإناث على الأول مقصود بالذكر، والعدد تابع، وعلى الثاني بالعكس؛ ولهذا غير العبارتين. قوله: (فابن عباس أبي تنزيلهما منزلة الجماعة .. ، فأعطاهما حكم الواحدة). الانتصاف: أجرى ابن عباس التقييد بالصفة على ظاهرها من مفهوم المخالفة. قال الزجاج: وأما ما ذكر عن ابن عباس أن البنتين بمنزلة البنت فهذا لا أحسبه صحيحاً عنه؛ لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع، والواحد خارج عن الاثنين. وقيل: علته أيضاً أنه كما قال: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)، قال أيضاً: (وَإِنْ كَانَتْ

أعطوهما حكم الجماعة، والذي يعلل به قولهم: أن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)، فإن كان الأول يأبى دخول الاثنين في حكم الجماعة؛ فكذلك الثاني، وقلت: قوله: "أبى تنزيلهما منزلة الجماعة" لقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) وبين قوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً)؛ لأن خبر الأول موصوف بصفة مؤكدة وهي (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)) لدفع ما عسى أن يتوهم متوهم أن (نِسَاءً) قد يراد بها الاثنتان، ولا كذلك خبر الثاني وهو (وَاحِدَةً)؛ فإنه عار عن القيد، فالأولى يأبى إلحاق الاثنين به، والثاني لا يمنع، ثم نقول: ليس حكم الاثنين حكم الجماعة للصارف، وليس ثم ما يدل على حكمهما ظاهراً، ولا يمنع حكم الواحدة من الإلحاق به، فوجب الإلحاق، وإليه الإشارة بقوله: "فأعطاهما حكم الواحدة"، ثم قال: "وهو ظاهر مكشوف" والفاء في "فأعطاهما" مؤذنة بهذا التقرير. قوله: (والذي يعلل به قولهم) إلى آخره: قيل: فيه نظر؛ لأنه ذكر قبل هذا أن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء: 11]، بيان حال الاجتماع لا الانفراد، أي: إذا اجتمع الذكر والأنثيان، وإذا كان التقدير كما ذكر فكيف يصح أن يقال: علم منه أن للذكر حينئذ الثلثين، فإنه ليس له الثلثان. وأيضاً، فحال الانفراد مخالف لحال الاجتماع، والجواب عنه: أن كلامه مبني على دلالة إشارة النص وعبارته؛ لقوله: "وإن كان مسوقاً"، يعني قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، "وإن كان مسوقاً لبيان حظ الذكر، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين كان كأنه مسوق للأمرين جميعاً". قال البزدوي: إشارة النص: هو العمل بما يثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه. وروى الزجاج، عن المبرد، [وكذا] عن ابن إسحاق القاضي أنه قال: في الآية دليل على أن للبنتين الثلثين؛ لأنه إذا قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ

قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر؛ وذلك أن الذكر كما يجوز الثلثين مع الواحدة، فالأنثيان كذلك يجوزان الثلثين، فلما ذكر ما دلّ على حكم الأنثيين قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) على معنى: فإن كن جماعة بالغاتٍ ما بلغن من العدد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) وكان أول العدد الذكر والأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث؛ فقد بان أن للبنتين الثلثين، فأعلم الله تعالى أن ما فوق البنتين لهن الثلثان. قولت: اعتبر القاضي في كلامه فائدة الفاء في قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)، وكذا المصنف بقوله: "فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قيل: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) "؛ لأن ترتيب الفاء، ومفهوم الوصف في قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) مشعران بذلك، كأنه تعالى لما قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء: 11] علم منه بحسب الظاهر وعبارة النص حكم الذكر مع الأنثى حال الاجتماع، وفهم بحسب إشارته حكم الثنتين؛ لأن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالاثنتان كذلك تحوزان الثلثين، فأراد أن يعلم حكم الزيادة على الثنتين، فقال: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)، فقول المصنف: "أريد حال الاجتماع لا الانفراد" محمول على عبارة النص، وقوله: "قد دل على أن حكم الأنثيين حكم الذكر" محمول على إشارته، وينصر هذا التأويل ما روينا عن أحمد بن حنبل والترمذي وأبي داود وابن ماجة، عن جابر: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما يوم أحد معك شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: "يقضي الله في ذلك"، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: "أعط لابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك". ولو لم يكن في الآية ما يدل على حكم الأنثيين، وأن لهما الثلثين؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: "أعط لابنتي سعد الثلثين"، بعد قوله: "يقضي الله في ذلك".

فلهن ما للأنثيين؛ وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن؛ ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل: إن البنتين أمس رحمًا بالميت من الأختين؛ فأوجبوا لهما ما أوجب اللَّه للأختين، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحما منهما. وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها ـ أيضا ـ مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان (وَلِأَبَوَيْهِ) الضمير للميت، و (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل من (لِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل: أنه لو قيل: ولأبويه السدس؛ لكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: إن البنتين) عطف على قوله: "والذي يعلل به قولهم" يعني: فقد أعطوهما حكم الجماعة: إما بطريقة الاستنباط من الآية، أو القياس على الأختين أو على البنت مع أخيها؛ بيانه ما قال الإمام: إنه تعالى ذكر في الآية حكم الواحدة من البنات، وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم الثنتين، وقال في شرح ميراث الأخوات: (إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) [النساء: 176] وها هنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والاثنتين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرات، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملاً من وجه، ومبيناً من وجه؟ فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما؛ لأنهما أقرب منهما، ولما كان نصيب البنات الكثيرات لا يزداد على الثلثين وجب ألا يزداد نصيب الأخوات على ذلك؛ لأن البنت أشد اتصالاً من الأخت، فوجب ألا يكون حكمها أضعف. قوله: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) بدل من (لأبَوَيْهِ) بتكرير العامل)، الانتصاف: الأولى أن يقدر المبتدأ، والمعنى: لأبويه الثلث، ثم يفصل بقوله: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ). ودل التفصيل على المبتدأ المحذوف، ويستقيم على هذا جعله من بدل التقسيم، كقولك: الدار لثلاثة: لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولبكر ثلثها، ولا يستقيم هذا إذا لم يقدر المبتدأ.

ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان؛ لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: فهلا قيل: ولكل واحد من أبويه السدس! وأي فائدة في ذكر الأبوين أوّلا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت: لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدًا وتشديدًا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير. و (السدس): مبتدأ، وخبره: (لِأَبَوَيْهِ). والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف، وكذلك الثلث، والربع، والثُّمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك: فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عُصِّبَ مع إعطاء السُّدس. فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد ثم حكمهما مع عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث! وأي فائدة في قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ)؟ قلت: معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ)؛ لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس. والمعنى: أن الأبوين إذا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("السدس" بالتخفيف). قال الزجاج: يجوز تخفيف هذه الأشياء لثقل الضم، ومن زعم أن الأصل التخفيف فثقل فخطأ؛ لأن الكلام مطلوب منه التخفيف. قوله: (لا ثلث ما ترك إلا عند ابن عباس)، الانتصاف: مذهب ابن عباس أن الإخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه مع وجود الأب، فيقيد قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) [النساء: 11] الاحتراز مما لو كان معهما إخوة فلها السدس، كأنه قال: إن لم يكن له إخوة فلأمه الثلث، وإن كانوا فلها السدس، وابن عباس لا يرى التقييد بعدم الزوجين؛ لأن ثلث الأم عنده لا يتغير بهما.

خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعًا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كَمَلا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام الرافعي: إن الشيخ أبا حاتم القزويني لما حكى مذهب ابن عباس في زوج وأبوين، وهو أن للأم الثلث كاملاً؛ قال: وبه قال شيخنا، يعني أبا الحسين ابن اللبان. قوله: (ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين)، قال الزجاج: فلما أعلمنا الله تعالى أن للأم الثلث علمنا أن للأب الثلثين، فلما دخل عليهما داخل وأخذ نصف المال؛ دخل النقص عليهما جميعاً، وأيضاً إنه تعالى قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) [النساء: 11] وها هنا لم يرثه أبواه فقط، وورثه معهما الغير، فرجع ميراث الأم إلى ثلث ما يبقى. قوله: (فطار للزوج)، صح بالطاء غير المعجمة، أي: أعطي نصيبه من غير نزاع ولا افتقار إلى فكر وروية، ويفهم منه أن نصيب الأبوين محتاج فيه إلى نظر واستدلال؛

للأب؛ حازت الأم سهمين والأب سهمًا واحدًا، فينقلبُ الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين؟ (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ): الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب؛ فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس. وعنه: أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم. فإن قلت: فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لئلا ينعكس الحكم؛ ولهذا قال: "فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين"، النهاية: في حديث أم العلاء الأنصارية: اقتسمنا المهاجرين، وطار لنا عثمان بن مظعون، أي: حصل نصيبنا منهم عثمان. قوله: (الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة) أي: من غير نظر إلى حقيقته في الكمية بأن أقل الجمع ثلاثة أو اثنان، بل إلى مجرد معناه، قال في "البقرة": "اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد"، وقال محيي السنة: معنى الجمع: ضم الشيء إلى الشيء، فهو صادق على اثنين فما فوقه. قوله: (الذي حجبوا عنه) ويروى: "الذين"، وقيل: هو أصح، وهو بدل من فاعل "يأخذون". قوله: (وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق) أي: في هذا المقام ما يوجب الحمل على الجمعية المطلقة، وهو أن الأكثرين من الصحابة أجمعوا على إثبات الحجب في الأخوين، كما في الثلاثة، سوى ابن عباس، روي أنه احتج على عثمان رضي الله عنهما: الأخوان كيف يردان الأم من الثلث إلى السدس، والله تعالى يقول: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء: 11]،

وقرئ: (فلإمّه)، بكسر الهمزة اتباعًا للجرّة: ألا تراها لا تُكسر في قوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون: 50]؟ (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل: قسمة هذه الأنصباء كلها من بعد وصية يوصى بها. وقرئ (يُوصِي بِها) بالتخفيف والتشديد. و (يُوصِي بِها) على البناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأخوان ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد قضاء قضي به ومضى في الأمصار ذكره. هذا ما ذكره في "الشرح الكبير". وقال الزجاج: قال جميع أهل اللغة: إن الأخوين جماعة؛ لأنك إذا ضممت واحداً إلى واحد فهما جماعة. وحكى سيبويه أن العرب تقول: قد وضعا رحالهما، يريدون رحليهما، وما كان في الشيء منه واحد فتثنيته جمع أيضاً؛ لأن الأصل إنما هو الجمع؛ قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4]. قوله: (وقرئ: "فلإمه" بكسر الهمزة) قرأها حمزة والكسائي، وأكثر القراء بالضم. قال الزجاج: والضم أكثر القراء، فإذا كان ما قبل الهمزة غير كسر فالضم لا غير، لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) [المؤمنون: 50]، وإذا كان مكسوراً كقوله: (فِي أُمِّهَا رَسُولاً) [القصص: 59] (فَلأُمِّهِ السُّدُسُ) [النساء: 11] فجاز الكسر للاستثقال، وليس في كلامهم مثل "فعل" بكسر الفاء وضم العين، فلما اختلطت اللام بالاسم شبه بالكلمة الواحدة؛ فأبدل من الضمة كسره. قوله: ((يُوصِي بِهَا) بالتخفيف) قراءة السبعة، والتشديد: شاذة، "و (يوصى بها) على البناء للمفعول مخففاً" ابن كثير وابن عامر وأبو بكر.

للمفعول مخففًا: فإن قلت: ما معنى (أو)؟ قلت: معناها الإباحة، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت: لم قدّمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض؛ كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين؛ فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدِّين؛ بعثًا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناها الإباحة) كذا عن الزجاج، قيل: فيه نظر؛ لأنه مخالف لما في "المفصل": "أو" في الخبر للشك، وفي الأمر للتخيير والإباحة، وجوابه: أن الخبر ها هنا في معنى الأمر؛ لما سبق أن معنى (يُوصِيكُمْ اللَّهُ): يعهد إليكم ويأمركم (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم؛ ولهذا مثله بقوله: "جالس الحسن أو ابن سيرين"، ويؤكده قوله بعد ذلك: "ولذلك جيء بكلمة (أَوْ) للتسوية بينهما في الوجوب". قوله: (لم قدمت الوصية على الدين والدينُ مقدم؟ 9 الانتصاف: وفيه عندي وجه، وهو أن الآية ما جاءت على ترتيب الواقع شرعاً؛ فإن المبدوء به الدين ثم الوصية ثم الوراثة، ولو أسقطت ذكر (بَعْدِ) فقلت: أخرجوا الميراث والوصية والدين، لم يكن ورود السؤال، وفيه نظر؛ لأن الآية واردة في حكم الميراث أصالة؛ لأنها بيان لقوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ) [النساء: 7] كما سبق، فكان ذكر الوصية والدين كالاستطراد، وذكر (مِنْ بَعْدِ) أمارة عليه؛ فكأنهما حكم واحد في كونهما مقدمين على الميراث، والظاهر تقدم الدين على الوصية فيرد السؤال.

في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله: (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) أي: لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمّن أوصى منهم أمّن لم يوص؟ يعنى: أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعًا وأحضرُ جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا؛ ذهابًا إلى حقيقة الأمر؛ لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلًا قريباً في الصورة، إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باقٍ، فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: إن الابن) قيل: هو معطوف من حيث المعنى على قوله: (لا تَدْرُونَ)، والتحقيق أن يقال: هو عطف على "قيل" مقدراً هناك، وقيل: الأصح أنه معطوف على قوله: "ثم أكد ذلك ورغب فيه". وقلت: الظاهر أنه عطف على جملة قوله: "يعني أن من أوصى ببعض ماله" إلى آخره؛ لأن المراد بالنفع في قوله: (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) على هذا ثواب الآخرة مطلقاً، وعلى الثاني: النفع مختص بالشفاعة، وعلى الوجه الآتي، وهو قيل: فرض الله النفع مختص بالدنيا بوضع الأموال في مواقعها. وأما قوله: "وقيل: الأب تجب" عطف على الوجه الثالث، وتنزيله منه تنزيل الوجه الثاني على الأول فليتدبر. وأما قضية التأكيد فهي أن تجعل الجملة معترضة، والمعترضة تؤكد معنى الكلام السابق، والسابق في أمر الوصية، لا في الرفع إلى الجنة، ولا في النفقة؛ ومن ثم قال: "وليس شيء من الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له". قال القاضي: هو اعتراض لأمر القسمة، وذلك أن قوله: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وقوله: (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) كلام في حق المتوالدين، أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم؛ فتحروا فيهم ما وصاكم الله به، ولا تعمدوا

فيرفع، وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه، سأل أن يرفع ابنه إليه، فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعًا. وقيل: قد فرض اللَّه الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل: الأب تجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجًا فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له؛ لأن هذه الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم. (فَرِيضَةً) نصبت نصب المصدر المؤكد، أي: فرض ذلك فرضاً. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها. (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى تفضيل بعض وحرمانه. وهذا يقرب من قول من قال: قد فرض الله الفرائض ... إلى آخره، وهذا أحسن؛ لأن حسن موقع الاعتراض أن يكون أعم من المعترض فيه فلا يختص بأمر الوصية وحده كما اختاره المصنف. قوله: (وقيل: الأب تجب عليه النفقة)، "عليه" متعلق بـ "تجب"، و"على الابن" بقوله: "النفقة"، والضمير المرفوع في قوله: "ما اعترض بينه" عائد إلى "الاعتراض"، والمجرور إلى "ما"، أي: حق الاعتراض أن يؤكد الكلام الذي اعترض عليه هو بين ذكر الكلام ويناسبه.

الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) 12]. (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) منكم أو من غيركم، جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج، كما جعلت كذلك بحق النسب، والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) يعنى: الميت. و(يُورَثُ) من: ورث، أي: يورث منه وهو صفة ل (رَجُلٌ). و (كَلالَةً) خبر (كَانَ)، أي: وإن كان رجل موروث منه كلالة، أو يجعل (يُورَثُ) خبر (كَانَ)، و (كَلَالَةً) حالا من الضمير في (يُورَثُ). وقرئ (يورث) و (يورّث) بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، و (كَلَالَةً) حال أو مفعول به. فإن قلت: ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج، كما جعلت كذلك بحق النسب). قال القاضي: هكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم، والمعتق والمعتقة. قوله: (من: ورث، أي: يورث منه) يعني: هو من الثلاثي لا من المزيد. المغرب: ورث أباه مالاً يرث وراثة، وهو وارث، والأب والمال كلاهما موروث ومنه: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" وأورثه مالاً: تركه ميراثاً له. قوله: (على البناء للفاعل) أي: يورث رجل الوارث المال، فحذف المفعولين إلا أن يقال: إن (كَلالَةً) مفعول "يورث". قوله: (و (كَلالَةً) حال أو مفعول به) فإن قلت: لمَ لمْ يجز على هذا أن يكون (يُورَثُ) صفة رجل، و (كَلالَةً) خبر (كَانَ) كما سبق؟ قلت: لا يجوز؛ لأن التركيب حينئذ مشابه لباب التنازع؛ لأن "كان" الناقصة تستدعي خبراً، و (يُورَثُ)

ثلاثة أقسام: على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم: (ما ورث المجد عن كلالة)، كما تقول: ما صمت عن عىّ، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى: فَآلَيْتُ لا أرثي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [تستدعي] مفعولاً به، ولما كانت الكلالة أقرب إلى (يُورَثُ)؛ فالأفصح إعماله فيه فلا يبقى لـ (كَانَ) خبر، ولا يصح أن يقدر (كَلالَةً) مثل المذكور، ولأن (كَلالَةً) إذا كانت مفعولاً به فالرجل حينئذ: من ليس بوالد ولا ولد، وإذا كانت خبراً لـ (كَانَ) فالرجل: من لم يخلف ولداً (ولا والداً)؛ فهذا خلف، فعلم أن (كَانَ) إذا كانت تامة جاز ذلك، وبه قال أبو البقاء: (كَانَ) هي تامة، و (رَجُلٌ): فاعلها، و (يُورَثُ): صفة له، و (كَلالَةً): حال من الضمير في (يُورَثُ)، والكلالة على هذا: اسم للميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً. قوله: (على من لم يخلف ولداً ولا والداً) إلى آخره، وقيل: الكلالة على الوجهين الأولين: اسم عين، وعلى الثالث: اسم معنى، قال أبو البقاء: قيل: الكلالة: اسم للمال الموروث؛ فعلى هذا تنتصب (كَلالَةً) على المفعول الثاني لـ (يُورَثُ) كما تقول: ورث زيد مالاً، وأحد المفعولين محذوف، والتقدير: يورث أهله مالاً. قوله: (ومنه قولهم) أي: من أن الكلالة تطلق على القرابة، و"عن" في الأمثلة كـ "عن" في قوله: ينهون عن أكل وعن شرب قوله: (فآليت لا أرثي لها من كلالة)، تمامه: ولا من حفاً حتى تلاقي محمدا

فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد؛ لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوى قرابتي، ويجوز أن تكون صفة، كالهجاجة والفقاقة للأحمق. فإن قلت: فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟ قلت: على أنها مفعولٌ له، أي: يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره لأجلها، فإن قلت: فان جعلت (يُورَثُ) على البناء للمفعول من أورث، فما وجهه؟ قلت: الرجل حينئذٍ هو الوارث لا الموروث. فان قلت: فالضمير في قوله: (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) إلى من يرجع حينئذ؟ قلت: إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "لا أرثي"، أي: لا أرحم، والضمير في "لها": للناقة، "ولا من حفاً" أي: من وجى، قيل: إن الأعشى مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة فيها هذا البيت، وأقبل إلى مكة ونزل على عتبة، فسمع به أبو جهل فلم يزالوا يغوونه حتى صدوه، فمات باليمامة كافراً. قوله: (فاستعيرت للقرابة) هذا يدل على أن المنقولات الاصطلاحية كلها استعارات، يدل عليه ما شرطوا من وجود العلاقة المناسبة، وهي التشبيه، وفيه شرط آخر وهو الشهرة في المنقول إليه؛ ومن ثم لمي جعلوها من المجاز. قوله: (فإن جعلت (يُورَثُ) على البناء للمفعول) لما فرغ من تقرير معنى الثلاثي؛ شرع في تقرير المزيد. قوله: (إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته) فالتقدير: إن كان رجل وارث يورث من جهة الكلالة، وله أخي رث معه؛ فيرث كل واحد منهما من الميت السدس، وكذا إن كان بدل الأخ الأخت، وحكم المرأة الوارثة مع أخيها أو أختها كذلك، قال القاضي: واكتفى بحكمه

وعلى الأول إليهما. فإن قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم؛ لأنك إذا قلت: السدس له، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير؛ فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضي اللَّه عنه: أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه منه بريء. الكلالة: ما خلا الولد والوالد. وعن عطاء والضحاك: أنّ الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن جبير: هو الوارث. وقد أجمعوا على أنّ المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبىّ: وله أخ أو أخت من الأمّ. وقراءة سعد بن أبي وقاص• وله أخ أو أخت من أم). وقيل: إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أنّ للأختين الثلثين وأنّ للإخوة كل المال، فعلم هاهنا ـ لما جعل للواحد السدس، وللاثنين الثلث، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما، ويمكن أن يقال: إن الضمير راجع إلى الرجل، وإلى المرأة، ويكون حكم كل واحد من أخيه أو أخته وأخيها أو أختها حكم كل واحد؛ لاستواء إدلائهما إلى الميت، ولا يبعد أن يجرى على التغليب. قوله: (وعلى الأول) أي: على أن قوله: (يُورَثُ) من ورث، أي: يورث منه، والضمير في "غليهما" للأخ والأخت، والتقدير: إن كان رجل يورث منه من جهة الكلالة وله أخ يرثه، أو أخت ترثه؛ فلكل من الأخ والأخت السدس. قوله: (وقد أجمعوا على أن المراد أولاد الأم) أي: في هذه الآية، يدل عليه ما بعده.

ولم يزادوا على الثلث شيئاً ـ أنه يعني بهم الإخوة للأم، وإلا فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات وغيرهم (غَيْرَ مُضَارٍّ): حال، أي: يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته، وذلك أن يوصى بزيادة على الثلث، أو يوصى بالثلث فما دونه، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه اللَّه تعالى. وعن قتادة: كره اللَّه الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن: المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) مصدر مؤكد، أي: يوصيكم بذلك وصية، كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) [النساء: 11]، ويجوز أن تكون منصوبة ب (غَيْرَ مُضَارّ)، أي: لا يضار وصية من اللَّه وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو: وصية من اللَّه بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأخياف). الجوهري: الأخياف من الخيف، وهو اختلاف إحدى العينين، يقال: فرس خيفاء: إذا كان إحدى عينيها زرقاء والأخرى سوداء، وإخوة أخياف: إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى، والأعيان: هم أولاد الأب والأم، وأعيان القوم: أشراف القوم، وأولاد العلات: أولاد الرجل من نسوة شتى، سميت به لأن أباهم نهل ثم عل، ومنه حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. أخرجه الترمذي وابن ماجة. قوله: (وينصر هذا الوجه) أن تكون (وَصِيَّةً) منصوبة بـ (غَيْرَ مُضَارٍّ)؛ لأن

(غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) بالإضافة (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بمن جار أو عدل في وصيته (حَلِيمٌ) عن الجائر لا يعاجله، وهذا وعيد. فإن قلت: في: (يُوصي) ضمير الرجل إذا جعلته الموروث، فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟ قلت: كما عملت في قوله تعالى: (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) [النساء: 11]؛ لأنه علم أن التارك والموصي هو الميت. فإن قلت: فأين ذو الحال فيمن قرأ (يُوصَى بِهَا) على ما لم يسم فاعله؟ قلت: يضمر يوصي فينتصب عن فاعله؛ لأنه لما قيل (يُوصَى بِهَا) علم أن ثم موصيا، كما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) [النور: 36] على ما لم يسمّ فاعله؛ فعلم أن ثمَّ مسبحا؛ فأضمر يسبح فكما كان (رِجَالٌ) [النور: 36] فاعل ما يدل عليه (يُسَبّحُ)، كان غَيْرَ مُضَارٍّ) حالًا عما يدل عليه (يُوصَى بِهَا). (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قراءة الحسن: (غير مضار وصية من الله) بالإضافة من إضافة العامل إلى المعمول. قال أبو البقاء: في قراءة الحسن: (غير مضار) وجهان، أحدهما تقديره: غير مضار أهل وصية، أو ذي وصية؛ فحذف المضاف، والثاني تقديره: غير مضار وقت وصية، فحذف، وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب منه قولهم: هو فارس حرب، أي: فارس في الحرب، فالتقدير: غير مضار الورثة في وقت الوصية. قوله: (فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟ ) يعني: إذا جعل (يُورَثُ) من: ورث، أي: يورث فيه؛ يكون فاعل (يوصي) ضمير الموروث فيستقيم المعنى، وأما إذا جعل من أورث على بناء المفعول فلا يصح؛ لأن الموصي الموروث لا الوارث، وأجاب: أضمر فيه ضمير الموروث ولا يكون من الإضمار قبل الذكر؛ لأنه علم أن التارك والموصي هو الميت.

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) 13 ـ 14]. (تِلْكَ): إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث، وسماها حدوداً؛ لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين؛ لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق (يُدْخِلْهُ) قرئ بالياء والنون، وكذلك (يُدْخِلْهُ ناراً) وقيل: (يُدْخِلهُ)، و (خَالِدينَ) حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب (خَالِدينَ) و (خَالِداً) على الحال. فان قلتَ: هل يجوزُ أن يكونا صفتين ل (جَنَّاتٍ) و (نَاراً)؟ قلت: لا؛ لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها. (وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَاتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) 15 ـ 16]. (يَاتِينَ الْفاحِشَةَ): يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها بمعنى. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح على ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالياء والنون). بالنون: نافع وابن عامر، وبالياء: الباقون. قوله: (فلابد من الضمير) وذلك أن الخلود ليس بفعل لها، وإنما هو فعل أهلها؛ فلو جعل صفة لجيء بالضمير ظاهراً، كما ذكره في المتن، ولما لم يظهر علم أنه حال. قال القاضي: هي حال مقدرة، كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً.

كثير من القبائح (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ): قيل: معناه: فخلدوهن محبوساتٍ في بُيوتكم، وكانَ ذلك عقوبتهن في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ... ) الآية [النور: 2]، ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ؛ لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن في البيوت، بعد أن يحددن؛ صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا): هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح. وقيل: السبيل هو الحد؛ لأنه لم يكن مشروعًا ذلك الوقت. فإن قلت: ما معنى (يَتَوفَّاهُنَّ المَوتُ) ـ والتوفي والموت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فخلدوهن محبوسات في بيوتكم)، فسر "أمسكوهن" بمعنى الحبس، ثم وضع "خلدوهن" مكان "أحبسوهن" باستعانة قوله: (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) حيث جعل الموت غاية للإمساك في البيوت. قوله: (ويوصى بإمساكهن في البيوت)، ومنه ما روى أبو داود والنسائي، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي امرأة لا ترد يد لامس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلقها"، فقال: إني أحبها، وهي جميلة، قال: "فأمسكها إذاً". النهاية: قيل: معنى "لا ترد يد لامس": إجابتها لمن أرادها، وخاف النبي صلى الله عليه وسلم إن هو أوجب عليه طلاقها أن تتوق نفسه إليها فيقع في الحرام، وقيل: معناه: أنها تعطي من ماله من يطلب منها، وهذا أشبه. قال أحمد: لم يكن ليأمره بإمساكها وهي تفجر. وقلت: إذا حمل الحديث على معنى الآية لم يحتج إلى مثل هذا التأويل البعيد.

بمعنى واحد، كأنه قيل: حتى يميتهن الموت! قلت: يجوز أن يراد حتى يتوفاهنَّ ملائكة الموت، كقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النحل: 28]، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [النساء: 97]، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة: 11]، أو حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن. (وَالَّذانِ يَاتِيانِها مِنْكُمْ): يريد الزاني والزانية (فَآذُوهُما): فوبخوهما وذمّوهما وقولوا لهما: أما استحييتما، أوما خفتما اللَّه! (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) وغيرا الحال (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) واقطعوا التوبيخ والمذمة، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب. ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود العاثرين على سرهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد. (فَإن تَابَا) قبل الرفع إلى الإمام (فَأَعرِضُوا عَنْهُمَا) ولا تتعرضوا لهما. وقيل: نزلت الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى يتوفاهن ملائكة الموت) فهو من الإسناد المجازي، كقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4] أي: أصحابها. قوله: (أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن) وعلى هذا فهو استعارة تبعية أو مكنية: جعل الموت كالشخص المتوفي، والتوفي كأخذ الرجل حقه، على التخييلية. قوله: (ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود) عطف على قوله: "فوبخوهما"، والمخاطبون الحكام، أو كل واحد، أي: واللذان يأتيانها منكم أيها المؤمنون فوبخوهما وذموهما، أو: واللذان يأتيانها من جنسكم ومما يتصل بكم أيها الشهود فهددوهما بالرفع إلى الحكام. وفي الكلام حذف، أي: (فَآذُوهُمَا): خطاب لكل واحد، ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود. قوله: (وهذه في اللواطين). قال الإمام: هذا القول اختيار أبي مسلم الأصفهاني، واحتج بأن قوله: (وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ) [النساء: 15] إشارة إلى النسوان، وقد ذكر فيها (مِنْ نِسَائِكُمْ)، وقوله: (وَاللَّذَانِ) إشارة إلى الرجال، ومذكور فيها (مِنكُمْ)، وعلى

وقرئ: (واللذانّ) بتشديد النون. (واللذانّ): بالهمزة وتشديد النون. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) 17 ـ 18]. (التَّوْبَةُ) من: تاب اللَّه عليه؛ إذا قبل توبته وغفر له، يعنى إنما القبول والغفران ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التقدير لا يحتاج إلى النسخ. وقال القاضي: هذه الآية سابقة على الأول نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد. قوله: (وقرئ: "واللذان" بتشديد النون): ابن كثير، والقراءة الأخرى: شاذة، ونظيرها: الذأبة والشأبة. قوله: ((التَّوْبَةُ) من: تاب الله عليه). الجوهري: تاب إلى الله توبة نصوحاً ومتاباً، وقد تاب الله عليه، أي: وفقه لها، وتحقيقه: أن العبد إذا أذنب أعرض الله عنه، وإذا تاب ورجع إلى الله أقبل الله عليه بقبول توبته. وقوله: (عَلَى اللَّهِ) متعلق بمحذوف وهو: "واجب". روى الإمام عن القاضي أنه قال: يجب على الله قبول التوبة عقلاً، ولأن "على" كلمة الوجوب، ولأنه لو حمل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله: (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) فرق، ولو حمل ذلك على الوجوب، وهذا على الوقوع؛ ظهر الفرق. ثم قال الإمام: إنه تعالى وعد بقبول التوبة، فإذا وعد شيئاً لابد أن ينجز وعده؛ لأن الخلف في وعده محال، ولما كان ذلك شبيهاً

واجب على اللَّه تعالى لهؤلاء. (بِجَهالَةٍ): في موضع الحال، أي: يعملون السوء جاهلين سفهاء؛ لأنَّ ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل. وعن مجاهد: من عصى اللَّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته (مِنْ قَرِيبٍ): من زمانٍ قريب. والزمان القريب: ما قبل حضرة الموت، ألا ترى إلى قوله: (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فبين أنّ وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقي ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن النخعي: ما لم يؤخذ بكظمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالواجب قيل: وجب على الله، مجازاً. فقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) إعلام بأن الله يقبل التوبة على سبيل التفضل، وقوله: (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إخبار بأن الله تعالى سيفعل ذلك. أو أن قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) معناه: إنما الهداية إلى التوبة والإرشاد إليها، وقوله: (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إخبار بقبول التوبة، هذا هو الجواب على السؤال الآتي. وأما قول المصنف: "كما يجب على العبد بعض الطاعات" قياساً على أنه تعالى يلام على الترك؛ فقياس من غير جامع. الانتصاف: هذا مما تقشعر منه الجلود، ومن لطف الله تعالى أن حاكي البدعة ليس بمبتدع، ووجهه عندنا: أن الله تعالى وعدنا قبول التوبة بشروطها، ووقوع الموعود به واجب لصدق الخبر، فكل ما ورد من صيغ الوجوب فهو منزل على وجوب صدق الوعد، وقولنا: صدق الخبر واجب، كقولنا: وجود الله واجب. قوله: (ما لم يؤخذ بكظمه). الكظم، بفتحتين: مجرى النفس. الجوهري: أخذت بكظمه أي: بمخرج نفسه. الراغب: يقال: أخذ بكظمه، والكظوم: احتباس النفس، ويعبر به عن السكوت،

وروى أبو أيوب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إنّ اللَّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وعن عطاء: ولو قبل موته بفواق ناقة. وعن الحسن: أنّ إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال تعالى: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. فإن قلت: ما معنى (مِنْ) في قوله: (مِنْ قَرِيبٍ)؟ قلت: معناه التبعيض، أي: يتوبون بعض زمان قريب؛ كأنه سمي ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً، ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. فإن قلت: ما فائدة قوله (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بعد قوله: (إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ) لهم؟ قلت: قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) إعلامٌ بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات، وقوله: (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) عدةٌ بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلامٌ بأن الغفران كائن لا محالة كما يعد العبد الوفاء بالواجب. (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ) عطفٌ على (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)؛ سوّى بين الذينَ سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم؛ لأنّ حضرة الموت أول أحوال الآخرة؛ فكما أنّ المائتَ على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت؛ لمجاوزة كل واحد منهما أوان التكليف والاختيار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقولهم: فلان لا يتنفس: إذا وصف بالمبالغة في السكوت. قوله: (وروى أبو أيوب) الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما. غرغر المريض: إذا ترددت روحه في حلقه. قوله: (بفواق) قال في "الفائق": هو ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً.

(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ) في الوعيد، نظير قوله: (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد؛ ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. فإن قلت: مَنِ المراد ب (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)؛ أهم الفساقُ من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد الكفار، لظاهر قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ)؛ وأن يراد الفساق؛ لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) وارداً على سبيل التغليظ كقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران: 97] وقوله: «فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا» «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر»؛ لأن من كان مصدقًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من المراد بـ (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)؟ ) فإن قلت: هذا السؤال مستدرك؛ لأنه ذكر أن قوله: " (وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ) عطف على (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ) "، وقال: "سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت وبين الذين ماتوا على الكفر"؛ فعلم منه أن الذين يعملون السيئات هم الفساق، والذين يموتون وهم كفار هم الكفار؟ قلت: لا، لأن قوله: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) لا توقيت فيه، فكما صح أن يكون السياقـ وهو قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) ـ قرينة للقيد لذلك السياق، وهو قوله: (وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ) [النساء: 15]، وقوله: (وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ) [النساء: 16]، فلما تعارضا تساقطا. وقلت: وليس كذلك؛ لأن قوله: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ) قسيم لقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) [النساء: 17] فدلت الآية الأولى على أن توبة المؤمن إنما تقبل قبل غرغرة الموت، والثانية [على] أنها غير مقبولة عندها؛ يشهد لذلك قوله: (مِنْ قَرِيبٍ) [النساء: 17] وقوله: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ). قوله: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر) أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده".

ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة؛ حاله قريبة من حال الكافر؛ لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَاتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) 19]. (يَا أَيُّهَا الَّذينَ) كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم، فزجروا عن ذلك: كان الرجل إذا مات له قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة، ألقى ثوبَه علَيها وقال أنا أحقُّ بها من كلّ أحد، فقيل (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي: أن تأخذوهنَّ على سبيل الإرثِ كما تُحاز المواريثُ وهن كارهات لذلك: أو مكرهات. وقيل: كان يمسكها حتى تموت، فقيل: لا يحل لكم أن تمسكوهنّ حتى ترثوا منهنَّ وهنّ غير راضيات بإمساككم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قلب مصمت)، الأساس: صمت الرجل وأصمت وأصمته وصمته. وقفل مصمت: قد أبهم إغلاقه. وقال: ومن دون ليلى مصمتات المقاصر قوله: (كان الرجل إذا مات له قريب) وما عطف عليه، وقوله: "وكان الرجل إذا تزوج"، وقوله: "وكانوا يسيئون معاشرة النساء"، وقوله: "وكان الرجل إذا طمحت عينه"، وقوله: "وكانوا ينكحون روابهم" بيان وتفصيل لما أبهم وأجمل بقوله: "وكانوا يبلون النساء بضروب من البلايا"، والمعطوفات على الترتيب تفسير للآيات المتلوات، أولها قوله: (لا يَحِلُّ لَكُمْ) [النساء: 19] إلى آخر الآية، إلى قوله: (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) الآية [النساء: 22]. قوله: (حتى ترثوا منهن) معنى قوله تعالى: (أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ) [النساء: 19]، يجوز حمله على: يرثوا أنفسهن كما يأخذون المواريث، أو على: أن يرثوا أموالهن.

وكان الرجل إذا تزوّج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر، لتفتدي منه بمالها وتختلع، فقيل: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ). والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضَّلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه. (إِلَّا أَنْ يَاتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وهي النشوز، وشكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، أي: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. وتدل عليه قراءة أبىّ: إلا أن يفحشن عليكم. وعن الحسن: الفاحشة: الزنا، فإن فعلت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. وقيل: كانوا إذا أصابت امرأت فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وعن أبي قلابة ومحمد بن سيرين: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها. وعن قتادة: لا يحل أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه، يعنى: وإن زنت. وقيل: نسخ ذلك بالحدود. وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وهو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه: عضلت المرأة بولدها) الراغب: العضلة: كل لحم في عصب، ورجل عضل: مكتنز اللحم، وعضلته: شددته بالعضل المتناول من الحيوان نحو عصبته، وتجوز به في كل منع شديد، قال تعالى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232]، وعضلت الدجاجة ببيضها والمرأةب ولدها: إذا تعسر خروجهما، وداء عضال: صعب البرء، والعضلة: الداهية المنكرة. قوله: (فربما كرهت) تفسير لقوله تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا)، وهو علة لقوله: "فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس" وهو الجزاء، والحاصل أن قوله: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) وقع في التنزيل جزاء لقوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ)، لكنه علة للجزاء المحذوف، المعنى: فإن

النفس ما هو أصلح في الدين، وأحمد وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك، ولكن للنظر في أسباب الصلاح. (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَاخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) 20 ـ 21]. وكان الرجل إذا طمحت عينه إلى استطراف امرأة، بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها؛ ليصرفه إلى تزوّج غيرها. فقيل: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) الآية. والقنطار: المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته. ومنه القنطرة؛ لأنها بناء مشيد. قال: كَقَنْطَرَةِ الرُّومِىِّ أقْسَمَ رَبُّهَا لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّي تُشَادَ بِقِرْمِدِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)، يتبين هذا بعيد هذا عند قوله: "فإن قلت: من أي وجه صح قوله: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) جزاء للشرط؟ ". قوله: (إلى استطراف امرأة) الأساس: استطرفت شيئاً وأطرفته: أخذته طريفاً، وهذه طرفة من الطرف للمستحدث المعجب. وامرأة طرفة: لا تثبت على زوج، تستطرف الرجال. قوله: (بهت التي تحته) الأساس: بهته بكذا وباهته به: رماه بالبهتة، وهي البهتان. قوله: (والقنطار: المال العظيم) الانتصاف: هو تنبيه بالأدنى على الأعلى، ومعنى قوله: (وَآتَيْتُمْ) أي: وكنتم آتيتم؛ إذ إرادة الاستبدال في الظاهر بعد إيتاء المال. قوله: (كقنطرة الرومي) البيت، ربها، أي: صاحبها، لتكتنفن، أي: تكتنفها

وعن عمر رضي اللَّه عنه أنه قام خطيباً فقال: أيها الناس لا تغالوا بصدق النساء، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند اللَّه لكان أولاكم بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأةٌ فقالت له: يا أمير المؤمنين؛ لِمَ تمنعنا حقًا جعله اللَّه لنا واللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً)، فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعونني أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه علىّ حتى تردّ علىّ امرأة ليست من أعلم النساء! والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه؛ لأنه يبهت عند ذلك، أي: يتحير. وانتصب (بُهْتاناً) على الحال، أي: باهتين وآثمين، أو على أنه .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعلة، من اكتنفوا به أي: أحاطوا به، تشاد أي: ترفع، القرمد: الآجر، شبه الناقة في تراصف عظامها وتداخل أعضائها بقنطرة، أي: قصر لرجل رومي، أو القنطرة المعروفة. قوله: (وعن عمر رضي الله عنه: أنه قام خطيباً) إلى قوله: (اثنتي عشرة أوقية) مذكور في "سنن الترمذي" و"أبي داود" وغيرهما، وليس في الروايات الفصل الأخير، يعني: فقامت ... إلى آخره. قوله: (من اثنتي عشرة أوقية) الجوهري: الأوقية في الحديث: أربعون درهماً، وكذلك كان فيما مضى؛ فأما اليوم فيما يتعارفه الناس فالأوقية: وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم. قوله: (أي: باهتين) أي: رامين إياهن بالبهتان، "وآثمين": تفسير قوله: (إِثْماً

مفعول له، وإن لم يكن غرضاً، كقولك: قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقًا غليظاً، أي: بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يومًا قرابة، فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل: هو قول الوليّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب اللَّه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوان في أيديكم؛ أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُبِيناً). قال الزجاج: البهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه، وهو حال موضوعة موضع المصدر. وقلت: البهتان: الباطل هنا بمعنى الظلم والإثم والفعل الباطل، لا قذف البريء، فيكون قوله: (وَإِثْماً مُبِيناً) عطفاً تفسيرياً لـ (بُهْتَاناً). قوله: (والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة) الراغب: الميثاق الغليظ هو: ما قال صلى الله عليه وسلم: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله". قوله: (أي: بإفضاء بعضكم إلى بعض) الراغب: أفضى فلان إلى فلان، أي: وصل إلى فضاء منه، أي: سعة غير محظورة، فمن الفقهاء من جعل ذلك عبارة عن الخلوة حصل معها المسيس أو لم يحصل، ومنهم من جعله كناية عن المسيس، وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد، ونبه أن المهر بإزاء ذلك المعنى، وقد نلتموه منهن، فال حق لكم إذاً عليهن. قوله: (استوصوا بالنساء) روينا عن الترمذي وابن ماجة، عن عمرو بن الأحوص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا فاستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، وليس تملكون

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) 22]. وكانوا ينكحون روابهم، وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم، ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له: المقتي. ومن ثم قيل (وَمَقْتاً) كأنه قيل: هو فاحشة في دين اللَّه بالغةٌ في القبح، قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء، على (أَن ترثوا) بمعنى الوراثة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهن غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" الحديث، قيل: "استوصى" مطاوع "أوصى"، كأنه قال: أوصيكم بالنساء خيراً فاقبلوا وصيتي فيهن، الاستيصاء: قبول الوصية. المغرب: وفي حديث الظهار: "استوصي بابن عمك خيراً"، أي: اقبلي وصيتي فيه. النهاية: العاني: الأسير، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو، وهو عان، والمرأة عانية، وجمعها: عوان، أي: أسرى أو كالأسرى، وهو مرفوع على أنه خبر "إن". قوله: (روابهم) الرواب: جمع الرابة، الجوهري: والرابة: امرأة الأب. قوله: (على ما يجمع القبحين) أي: العقلي والشرعي، مذهبه. قوله: (وقرئ: "لا تحل لكم"، بالتاء) وهي شاذة. قوله: ((أَنْ تَرِثُوا) بمعنى الوراثة) وفي بعض النسخ: "على أن (تَرِثُوا) "، والمراد: أن توجيه القراءة بالتاء: أن يكون (تَرِثُوا) بمعنى الوراثة؛ لأن (أَن تَرِثُوا) في موضع رفع

و (كَرْهًا) بالفتح، والضم، من الكراهة والإكراه. وقرئ (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) من أبانت بمعنى تبينت أو بينت، كما قرئ (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الياء وفتحها. و (يجعل الله) بالرفع، على أنه في موضع الحال: (وآتيتم إحداهن) بوصل همزة (إحْدَاهُنَّ)، كما قرئ (فَلَثْمَ عليه) [البقرة: 173]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاعل "تحل"، وفي أكثر النسخ: "على (أَنْ تَرِثُوا) بمعنى الوراثة"، والمعنى على ما مر، و"أن" مقدرة، وعلى القراءة بالياء: على أن (أَن تَرِثُوا) بمعنى الإرث. قال أبو البقاء: (النِّسَاءِ) هو المفعول الأول بمعنى الموروثات، فكانت العرب في الجاهلية ترث نساء آبائها وتقول: نحن أحق بنكاحهن. قوله: (و (كَرْهاً) بالفتح والضم) بالضم: حمزة والكسائي، والباقون: بفتحها. قال أبو البقاء: وهما لغتان بمعنى، وقيل: الفتح بمعنى الكراهية؛ فهو مصدر، والضم: اسم المصدر، وقيل: الضم بمعنى المشقة. قوله: ((مُبَيِّنَةٍ) بفتح الياء وكسرها) بالفتح: ابن كثير وأبو بكر، والباقون: بكسرها. قال أبو البقاء: في هذه القراءة وجهان، أحدهما: أنها هي الفاعلة؛ أي: تبين حال مرتكبها، والثاني: أنه من اللازم، يقال: بان الشيء وأبان وتبين، واستبان وبيَّن، بمعنى واحد. قوله: ((ويجعلُ الله) بالرفع، على أنه في موضع الحال)، قيل: فلا حاجة إذن إلى الواو؛ لأنه مضارع مثبت، إلا أن يقال: لو لم تذكر الواو لالتبس بأن يكون صفة لقوله: (شَيْئاً) كقوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر: 4] قلت: هذا مخالف لمذهبه؛ لأنه يجوز إدخال الواو بين الصفة والموصوف، فكذلك جوز ها هنا إدخال الواو في

فإن قلت: (تَعْضُلُوهُنَّ)، ما وجه إعرابه؟ قلت: النصب عطفا على (أَن تَرِثُوا). و (لَا) لتأكيد النفي، أي: لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساءَ ولا أن تعضلوهن. فإن قلتَ: أي فرق بين تعدية ذهب بالباء، وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدي بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف: 5] وأما الإذهاب: فكالإزالة. فإن قلت: (إِلَّا أَنْ يَاتِينَ) [النساء: 19] ما هذا الاستثناء؟ قلت: هو استثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو: ولا تعضلوهنّ لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. فإن قلت: من أي وجه صح قوله: (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) جزاء للشرط؟ قلت: من حيث أنّ المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهنَّ مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه. فإن قلت كيف استثني (مَا قَدْ سَلَفَ) مما نكح آباؤكم؟ قلت: كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله: .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المضارع إذا وقع حالاً، وإن خالف المفصل. قال فخر المشايخ: وقد جاء مع الواو، كقوله تعالى: (أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 44] فإن قيل: لم لا يجوز: وأنتم تنسون أنفسكم؛ فتكون الجملة اسمية؟ يقال: لا يستقيم هذا المعنى فيما نحن بصدده إلا على التعسف، بأني قال: أصله: والله يجعل فيه خيراً، ثم حذف المبتدأ وأظهر الفاعل في "يجعل". قوله: (فمعناه: الأخذ والاستصحاب): قال الحريري في "درة الغواص": اختلف النحويون هل بين حرفي التعدية فرق أم لا؟ فقال: الأكثرون هما بمعنى واحد، وقال أبو العباس المبرد: بل بينهما فرق، وهو أنك إذا قلت: أخرجت زيداً، كان بمعنى: حملته على الخروج، وإذا قلت: خرجت به، فمعناه: أنك خرجت واستصحبته معك؛ والقول الأول أصح بدلالة قوله تعالى: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة: 17]، وقد مر الكلام فيه في البقرة.

ولا عيبَ فيهم يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 23]. معنى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ): تحريم نكاحهن؛ كقوله: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء: 22]؛ ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. وقرئ (وبنات الأخت) بتخفيف الهمزة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا عيب فيهم) للنابغة، تمامه: ....... غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فلول: جمع فل، وهو كسر في حده، يعني: إذا لم يكن العيب إلا الشجاعة، وهي من أخص أوصاف المدح؛ فإذاً لا عيب فيهم. قوله: ("وبنات الأخت" بتخفيف الهمزة) رواية ورش عن نافع، نقلت حركة همزة "أخت" إلى لام التعريف وحذفت الهمزة.

وقد نَزَّل اللَّه الرضاعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أمّا للرضيع، والمراضعة أختًا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد وُلد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدّته، وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه، ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّج أخت ابنه من الرضاع؛ لأن المانع في النسب وطؤه أمَّها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع؛ والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع؛ لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. (مِنْ نِسائِكُمُ) متعلقٌ بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل، حلال له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) الحديث، أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه. قال القاضي: استثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح؛ فإن حرمتهما في النسب بالمصاهرة دون النسب. تم كلامه. وقيل: يلحق بهما الحفدة، كما لو أرضعت أجنبية ولد ولدك: لم تحرم عليك، فلو كانت من النسب لحرمت؛ لأنها زوجة ابنك أو بنتك، وكذا الجدة كما لو أرضعت أجنبية ولدك ولها أم؛ فإنها جدة الولد من الرضاع ولم تحرم، ولو كانت من النسب لحرمت؛ لأنها أمك أو أم زوجتك.

(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يتعلق بهن وبالربائب غير مبهمتين جميعاً؛ وإما أن يتعلق بهن دون الربائب فيكون حرمتهن غير مبهمة، وحرمة الربائب مبهمة، فلا يجوز الأوّل؛ لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين، خلاف معناه مع الآخر؛ ألا تراك أنك إذا قلت: وأمّهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فقد جعلت «من» لبيان النساء، وتمييز المدخول بهنّ من غير المدخول بهنّ. وإذا قلت "وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ" فإنك جاعل «من» لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من خديجة، وليس بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان! ولا يجوز الثاني؛ لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به، ما لم يعترض أمر لا يرد، إلا أن تقول: أُعلِّقه بالنساء والربائب، وأجعل «من» للاتصال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إما أن يتعلق) لم يرد به تعلق المعمول بالعامل؛ بل أراد به التقييد، يشهد له قوله: "غير مبهمتين" أي: مطلقتين. الإبهام: الإطلاق والإرسال، أي: غير مقيدتين بالدخول، وهذا مذهب بعض الصحابة وقراءتهم كما سيأتي. قوله: (فإنك جاعل "من" لابتداء الغاية) قيل: هذا على خلاف ما في "المفصل": أن معنى الكل راجع إلى ابتداء الغاية، ويندفع بأن "من" الابتدائية مجردة لها، وغيرها متضمنة لها، مع ما يختص به. وقلت: "من" البيانية تقتضي اتحاد الثاني بالأول، والابتدائية توجب إنشاء الأول من الثاني فبينهما تناف. قوله: (ما لم يعترض أمر) أي: الأصل أن يعلق بالأقرب، إلا أن يعترض صارف قوي لا يرد، وهذا مبني على أن المعطوفات المستعقبات للقيد هل يتعلق ذلك القيد بالأخير أم بالمجموع؟ ففيه الخلاف المشهور. قوله: (إلا أن تقول: أعلقه بالنساء والربائب) الاستثناء منقطع، ولابد فيه من تقدير

كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67]. فإنى لست منك ولست منى ما أنا من ددٍ ولا الدد منى: وأمهات النساء متصلات بالنساء؛ لأنهنّ أمهاتهنّ كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن؛ لأنهنّ بناتهنّ. هذا وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مضاف؛ أي: أعلقه بأمهات النساء والربائب؛ لاستقامة المعنى، ولأن الكلام سابقاً ولاحقاً وارد في الأمهات والربائب، أما سابقاً: فقوله: "هل يصح أن يتعلق بقوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) "، وأما لاحقاً فقوله: "وأمهات النساء متصلات بالنساء". قوله: (فإني لست منك ولست مني) للنابغة، أوله: إذا حاولت في أسد فجوراً قوله: (ما أنا من دد). النهاية: الدد: اللهو واللعب وهي محذوفة اللام، ولا يخلو من أن يكون ياء، كقولهم: "يد" في "يدي"، أو نوناً كقولهم في "لدن": "لد"، ومعنى التنكير في الأول الشياع، أي: ما أنا في شيء من اللهو، والتعريف في الثاني للعهد، كأنه قال: ولا ذلك النوع مني، وإنما لم يقل: ولا هو مني؛ لأن التصريح أبلغ. قوله: (هذا وقد اتفقوا) "هذا": فصل الخطاب، أي: يصح ما قلت على قوانين النحويين، ولكن الإجماع يدفعه. الانتصاف: في الفرق بين الأم تحرم بالعقد وبين البنت لا تحرم إلا بالدخول سر؛ فالمتزوج بالبنت لا يخلو من محاورات ومراجعات تقع بينه وبين أمها بعد العقد وقبل الدخول، فحرمت بالعقد لينقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة المحرم، ولا كذلك عكسه؛ إذ لا يحصل مظنة خلطة الربيبة إلا بالدخول. تم كلامه.

النساء مبهم دون تحريم الربائب، على ما عليه ظاهر كلام اللَّه تعالى وقد روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه قال «لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها» وعن عمر وعمران بن الحصين رضي اللَّه عنهما: أن الأم تحرم بنفس العقد. وعن مسروق: هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل اللَّه. وعن ابن عباس: أبهموا ما أبهم اللَّه، إلا ما روى عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: أنهم قرءوا: وأمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وألطف منه ما يعزى إلى الإمام: أن البنت إذا أبدلت بالأم وأوثرت عليها لم يلحقها المشقة والغيرة ما يلحق البنت إذا أوثرت الأم عليها؛ لشفقة الأم وحنوها، وأنشد في المعنى لأبي الطيب: إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد فإن قلت: كيف يستقيم قولك: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) متصلات بـ (نِسَائِكُمْ)؟ قلت: على أن يكون حالاً، أي: متصلات بـ (نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)؛ فيكون قيداً للمطلق؛ لأن اتصالهن بهن سبب لقيدهن. وأما الزجاج فلم يجوز مثل هذا النحو، أي: أن يكون (مِنْ نِسَائِكُمْ) متعلقاً بالأمهات والربائب، وإن كانت اتصالية، قال: لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون "الظريفات" نعتاً لهؤلاء ولهؤلاء، والجيد أن أمهات نسائكم من تمام التحريمات المبهمات، والربائب هن اللاتي يحللن إذا لم يدخل بأمهاتهن فقط دون أمهات نسائكم. قوله: (إلا ما روي عن علي)، قيل: استثناء من قوله: "اتفقوا"، وقلت: التقدير: اتفق آراء العلماء على التحريم بناءً على القراءة المشهورة، لكن رويت قراءة مخالفة لها عن الصحابة، وهي شاذة؛ فلا يعمل بها وتترك المشهورة.

عباس يقول: واللَّه ما نزل إلا هكذا، وعن جابر روايتان، وعن سعيد بن المسيب عن زيد: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها، كره أن يخلف على أمّها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. أقام الموت مقام الدخول في ذلك، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة؛ لأنه يربهما كما يربُّ ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما. فإن قلت: ما فائدة قوله (فِي حُجُوركُم)؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يخلف على أمها) أي: يتزوج الأم بعد موت البنت. الأساس: يقال: مات عنها زوجها فخلف عليها فلاناً: إذا تزوجها بعده. قوله: (ربيباً وربيبة) "فعيل" بمعنى مفعول؛ لحقه التاء لأنه صار اسماً. قوله: (ما فائدة [قوله: ] (فِي حُجُورِكُمْ)؟ ) يعني: قد تقرر في العرف أن الربائب: ولد الزوجة سواء رباهن الزوج أو لا، وهن محرمات عليه إذا دخل بأمهاتهن مطلقاً، فالكلام مستغن عن ذكر (فِي حُجُورِكُمْ) فأي فائدة فيه؟ وأجاب عنه بجوابين، أحدهما: أنه وإن استغني عنه ظاهراً لكن في ذكره نكتة لطيفة، وهي الإشارة إلى حسن التعليل وتصوير ما ينفر الرجل من إرادة نكاحهن تتميماً لمعنى التحريم، يعني: كيف يتصور من العقل نكاح من بصدد الاحتضان، وحكم التقلب في الحجور الذي هو مظنة لتربية الأولاد وأفلاذ الأكباد، وخلاصته: أنه جعل صلة الموصول ذريعة إلى استهجان نكاحهن، وتعليلاً للتحريم، وقوله: "خليقة بأن تجروا" مؤذن بأن التعليل ليس حقيقياً، ونحوه ما مر قبيل هذا: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 9]. قال المصنف: " (لَوْ) مع ما في حيزه: صلة للذين أمروا بأن يخشوا الله تعالى فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى"، قال: "وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة". وحاصل هذا الوجه يعود إلى أن التقييد بالصفة لا يدل على نفي الحكم

أو لكونهن بصدد احتضانكم، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمّهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة، وجعل اللَّه بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. وعن علي رضي اللَّه عنه: أنه شرط ذلك في التحريم، وبه أخذ داود. فإن قلت: ما معنى (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)؟ قلت: هي كنايةٌ عن الجماع، كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب، يعنى أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية واللمس. ونحوه يقوم مقام الدخول عند أبي حنيفة. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له فقال: إنها لا تحلّ لك. وعن مسروقٍ أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته، وقال: أما إني لم أصِبْ منها إلا ما يُحَرِّمها على ولدي من اللمس والنظر. وعن الحسن في الرجل يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها: أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء وحماد بن أبي سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأةٍ فلا ينكح أمّها ولا بنتها. وعن الأوزاعي: إذا دخل بالأم فعرّاها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عما عداها؛ لأن شرط تلك الدلالة أن يكون لذكر الصفة فائدة أخرى سوى التخصيص. وذهب علي رضي الله عنه على أنه شرط، وهو الوجه الثاني في الجواب. قوله: (أو لكونهن بصدد احتضانكم) مبني على قوله: "وإن لم يربهما"، وقوله: "كأنكم في العقد" خبر "وأنهن"، واستغنى عن العائد إلى اسم "إن" بقوله: "على بناتهن"؛ لأنه في معنى عليهن، أيك على الربائب، فأقيم المظهر مقام المضمر، وقوله: "لاحتضانكم" إلى آخره تعليل مقدم لكون هذا العقد كالعقد على البنات، و"إذا دخلتم" ظرف "لاحتضانكم". قوله: (وعن علي رضي الله عنه أنه شرط ذلك) عطف على قوله: "فائدة التعليل"، أي: فائدته أنه لابد من الحضانة لتحرم، وإلا لم تحرم.

فلا يحلّ له نكاح ابنتها. وعن ابن عباس وطاووس وعمرو بن دينار: أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ دون من تبنيتم. وقد تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة، وقال عزّ وجلّ (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب: 37]. (وَأَنْ تَجْمَعُوا) في موضع الرفع عطف على المحرمات، أي: وحرّم عليكم الجمع بين الأختين. والمراد حرمة النكاح، لأنّ التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين، فعن عثمان وعلي رضي اللَّه عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرّمتهما آية، يعنيان هذه الآية وقوله: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء: 3]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن التحريم لا يقع إلا بالجماع قال القاضي: ويؤثر ما ليس بزنى، كالوطء بشبهة أو ملك يمين. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: لمس المنكوحة ونحوه كالدخول. وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس، يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: فإن لم يكن كذلك بدل قوله: (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) مع أنه أخصر؛ فعدل إليه دفعاً لإرادة المجاز أو الكناية، فيقال حينئذ: لا تجوز العبارة عنه بالجماع ولا باللمس ونحوهما، فعلى هذا كلام الأوزاعي أظهر والله أعلم. قوله: (أميمة) بيان "عمته"، الاستيعاب: زينب بنت جحش أمها أميمة بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة، وقيل: في سنة ست. قوله: (فعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية)، عن الإمام مالك في "الموطأ"، عن قبيصة بن ذؤيب، أن رجلاً سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل: هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع

فرجح على التحريم، وعثمانُ التحليل. (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله: (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك. فخرج من عنده فلقي رجلاً من الصحابة فسأله عنه فقال: أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحداً فعل ذلك إلا جعلته نكالاً. قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (وعثمان) أي: رجح عثمان رضي الله عنه جانب التحليل لقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 24] وقوله تعالى: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المعارج: 30]. قال القاضي: قول علي أرجح؛ لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك. وقيل: الاحتياط الترك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، ولأنه ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام على الحلال. قوله: (ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)) يريد أن الاستثناء منقطع، وتحقيقه ما ذكره أبو البقاء في الآية السابقة: (مَا) في (مَا قَدْ سَلَفَ) مصدرية، والاستثناء منقطع؛ لأن النهي للمستقبل، وما سلف ماض فلا يكون من جنسه، وهو في موضع نصب، ومعنى المنقطع أنه لا يكون داخلاً في الأول، بل في حكم المستأنف، وتقدر "إلا" فيه بـ "لكن"، أي: لا تتزوجوا من تزوجه آباؤكم، لكن ما سلف من ذلك فمعفو عنه، نحو قولك: ما مررت برجل إلا بامرأة، أي: لكن بامرأة، والغرض منه بيان معنى زائد؛ لأن قولك: ما مررت برجل صريح في نفي المرور برجل ما، غير متعرض لإثبات المرور بامرأة أو نفيه، فإذا قلت: بامرأة، كان إثباتاً لمعنى مسكوت عنه غير معلوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالكلام الأول نفيه ولا إثباته. فإن قلت: لم فرق المصنف بين هذا الاستثناء حيث جعله منقطعاً وبين ما سبق حيث جعله من باب "ولا عيب فيهم"؟ قلت: لاقتضاء المقام، والفرق بين نكاح الأمهات، والجمع بين الأختين، واستدعاء كل من التعليلين؛ أعني قوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22] وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 23] ما يقتضيه من المعنى؛ فإن التعليل بالغفران والرحمة يستدعي كلاماً متضمناً للذنب والخطأ؛ ولذلك قال: "ما مضى مغفور، بدليل قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) "، كأنه قيل: حرم عليكم الجمع بين الأختين؛ لأنه خطأ وذنب، ومن يفعل ذلك يؤاخذ به، لكن ما قد سلف فإنه مغفور غير مؤاخذ به؛ لأن الله تعالى كان غفوراً رحيماً. والتعليل بالفاحشة والمقت وسوء السبيل يوجب تأويل الكلام السابق بما ينبئ عن المبالغة في القبح والفحش، وأن المنهي عنه مما ينبغي ألا يوجد أصلاً، وأنه مناف لحال المؤمنين وأصحاب المروءة وأرباب التمييز، وذلك لا يتم إلا بجعل التركيب من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح، وإليه الإشارة بقوله: "والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته"، ويؤيده ما روينا عن الترمذي وأبي داود وابن ماجة والدارمي والنسائي، عن البراء قال: بيناأنا أطوف يوماً على إبل ضلت بي، رأيت فوارس معهم لواء دخلوا بيت رجل من العرب فضربوا عنقه، فسألت عن ذنبه فقالوا: عرس بامرأة أبيه وهو يقرأ سورة النساء: (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ) [النساء: 22]. وما قاله القاضي: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) استثناء من معنى اللازم للنهي،

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) 24]. (وَالْمُحْصَناتُ) القراءة بفتح الصاد. وعن طلحة بن مصرف: أنه قرأ بكسر الصاد، وهنّ ذوات الأزواج؛ لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزويج، فهنّ محصِنات ومحصَنات. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو استثناء منقطع، ومعناه: لكن ما قد سلف فإنه لا مؤاخذة عليه لا أنه مقرر، وإن كان كلاماً حسناً، لكن عز المرام بمنازل، وعز اقتضاء المقام بمراحل، والقول ما قالت حذام. قوله: (لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج فهن محصِنات ومحصَنات). الراغب: الحصن جمعه: حصون، قال الله تعالى: (مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) [الحشر: 2] وتحصن: إذا اتخذ الحصن مسكناً، ثم تجوز في كل تحرز، ومنه: درع حصينة؛ لكونها حصناً للبدن، وفرس حصان؛ لكونه حصناً لراكبه، ومن هذا قال الشاعر: إن الحصون الخيل لا مدر القرى ويقال: حصان للعفيفة ولذات حرمة، قال تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) [النساء: 25] أي: تزوجن، وأحصن: زوجن، والحصان في الجملة: المحصنة إما بعفتها أو تزوجها أو بمانع من شرفها وحريتها، يقال: امرأة محصن: إذا تصور حصنها من نفسها، والمحصن: إذا تصور حصنها من غيرها. قوله تعالى: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)

(إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد: ما ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الكفر فهنّ حلال لغزاة المسلمين وإن كنّ محصنات. وفي معناه قول الفرزدق: وَذَاتُ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِى بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [النساء: 25] وبعده: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ)، ولهذا قيل: المحصنات: المزوجات، تصوراً أن زوجها هو الذي أحصنها، والمحصنات بعد قوله: (حُرِّمَتْ) بالفتح لا غير، وفي سائر المواضع: بالكسر والفتح؛ لأن اللواتي حرم التزوج بهن المزوجات دون العفيفات، وفي سائر المواضع يحتمل الوجهين. قوله: (ولهن أزواج في دار الكفر) فيه تفصيل، فعلى مذهب أبي حنيفة: أن المسبيات إنما تحل إذا أحرزن من دار الكفر إلى دار الإسلام. وقال الشافعي: تحل بمجرد السبي، وعلى مذهب أبي حنيفة: لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح، ولم تحل للسابي. قال القاضي: وإطلاق الآية حجة عليه. قوله: (وذات حليل) البيت، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج، "لمن يبني بها": من: بنى الرجل بأهله: إذا نزل بها. روي أنه سئل الحسن وعنده الفرزدق: ما تقول فيمن يقول: لا والله، وبلى والله؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك؟ فقال الحسن: ما قلت؟ فقال: قلت: فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم

(كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) مصدر مؤكد، أي: كتب اللَّه ذلك عليكم كتابًا، وفرضه فرضًا، وهو تحريم ما حرّم. فإن قلت: علام عطف قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ)؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب (كِتابَ اللَّهِ)، أي: كتب اللَّه عليكم تحريم ذلك، وأحلّ لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: (كتب اللَّه عليكم وأحلّ لكم). وروي عن اليماني: (كتب اللَّه عليكم)، على الجمع والرفع، أي: هذه فرائض اللَّه عليكم. ومن قرأ (وَأُحِلَّ لَكُم) على البناء للمفعول فقد عطفه على (حُرِمَتْ) [النساء: 23]. (أَنْ تَبْتَغُوا): مفعول له بمعنى: بين لكم ما يحلّ مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم (بِأَمْوالِكُمْ) التي جعل اللَّه لكم قياما في حال كونكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ؛ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والأموال: المهور وما يخرج في المناكح. فإن قلت: أين مفعول (تَبْتَغُوا)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال الحسن: أحسنت، ثم قال: ما تقول فيمن سبى امرأة ولها حليل؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي؟ وأنشد: وذات حليل .. البيت، فقال الحسن: أحسنت، كنت أراك أشعر؛ فإذا أنت أشعر وأفقه. قوله: (التي جعل الله لكم قياماً) "قياماً": ثاني مفعولي "جعل"، والمفعول الأول ضمير الأموال الراجع إلى الموصول، أي: التي جعلها الله. قوله: (والأموال: المهور وما يخرج في المناكح) قال القاضي: واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المهر لابد أن يكون مالاً، ولا حجة فيه؛ ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلاً خطب الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا معك من القرآن؟ "، قال: معي سورة كذا وكذا، عددهن، قال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن".

قلت: يجوز أن يكون مقدّراً؛ وهو النساء، والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون (أَنْ تَبْتَغُوا) بدلًا من (وَراءَ ذلِكُمْ). والمسافح: الزاني، من السفح وهو صبّ المنىّ. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحينى وماذينى من المذي (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ): فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهنّ (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) عليه، فأسقط الراجع إلى «ما» لأنه لا يلبس، كقوله: ((إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17] بإسقاط منه. ويجوز أن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل)، "وكأنه": عطف على "أن لا يقدر" على سبيل البيان، وإنما كان أجود لأنه إذا لم يقدر له مفعول يبقى مطلقاً معطى معنى التصرف، فيتناول إعطاء مهور الحرائر، وأثمان السراري، والإنفاق عليهن، وغير ذلك من سائر التصرفات، ويكون المعنى: بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن تبتغوا بما أوليناكم من الأموال التي جعل الله لكم قياماً في معايشكم في حال الصلاح دون الفساد. وفيه مع الترغيب في الحلال والتنفير عن الحرام الإشعار بأن التمتع بالمال إنما يكون معتداً به إذا أنفق على العيال، وأن الغرض الأول منه الإنفاق عليهم. روينا عن مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينار تنفقه في سبيل الله، ودينار تنفقه في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار تنفقه على أهلك، أعظمها أجراً الذي تنفقه على أهلك". وعند أبي داود والنسائي، عن أبي هريرة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً بالصدقة، فقال رجل: عندي دينار، قال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على ولدك"، قال: عندي آخر، قال: "تصدق به على زوجتك أو زوجك"، قالك عندي آخر، قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي آخر، قال: "أنت أبصر". قوله: (ويجوز أن يكون (أَنْ تَبْتَغُوا) بدلاً) عطف على قوله: " (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعولٌ له".

«ما» في معنى النساء، و «من» للتبعيض أو البيان، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في (بِهِ)، وعلى المعنى في: (فَآتُوهُنَّ)، وأجورهن مهورهن؛ لأن المهر ثواب على البضع. (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو وضعت موضع إيتاء؛ لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد، أي: فرض ذلك فريضة (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"من" للتبعيض) المعنى: فما استمتعتم به بعض النكوحات، وعلى أن يكون بياناً؛ المعنى: فما استمتعتم به اللاتي هن المنكوحات. وقدر الزجاج: فما نكحتموه منهن، و"ما"ـ على أن يكون في معنى النساءـ يراد به الوصف لا غير، والذي يقتضيه المقام من التأويل: أن يجرى على كونها مستلذات وشهوات، كقوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ) [آل عمران: 14]، كما يقتضي "ما" في (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 25] أن يجرى على المملوكية والمالية. قوله: (ويرجع الضمير إليه) أي: إلى "ما" على اللفظ في (بِهِ)؛ لأنه مفرد لفظاً، وعلى المعنى في (فَآتُوهُنَّ)؛ لأن "ما" بمعنى النساء. قوله: (على البضع). النهاية: البضع يطلق على عقد النكاح والجماع معاً، وعلى الفرج. قوله: (أو مصدر مؤكد) والفرق بين هذا والأول أن هذا منصوب بفعل مقدر بمعناه، والأول منصوب بفعل مذكور من غير لفظه. قوله: (تحط عنه) أي: عن الزوج من المهر؛ بيانُ "ما".

وقيل فيما تراضيا به من مقام أو فراق. وقيل: نزلت في المتعةِ التي كانت ثلاثة أيام حين فتح اللَّه مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتًا معلومًا ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا بثوبٍ أو غير ذلك، ويقضى منها وطره ثم يسرحها. سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. وعن عمر: لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجلٍ إلا رجمتهما بالحجارة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أباحها، ثم أصبح يقول: «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء: ألا إن اللَّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة» وقيل: أبيح مرتين وحرّم مرتين. وعن ابن عباس: هي محكمة، يعنى لم تنسخ، وكان يقرأ: (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى)، ويروى: أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام)، روينا عن البخاري ومسلم، عن سلمة ابن الأكوع، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها. قال أبو موسى: "لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عمرو مع جيش إلى أوطاس، فلقي دريد ابن الصمة فقتل دريداً"، أخرجه البخاري ومسلم. قوله: (وعن عمر رضي الله عنه: لا أوتى برجل)، وفي "معالم التنزيل": أن عمر رضي الله عنه، قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أجد أحداً نكحها إلا رجمته بالحجارة. قوله: (وقولي في الصرف)، أي: في ربا النقد دون النسيئة. المغرب: صرف الدراهم:

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 25]. الطول: الفضل، يقال: لفلانٍ على فلانٍ طول أي: زيادة وفضل، وقد طاله طولًا فهو طائل. قال: لَقدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أنَّنِي بَغِيضٌ إلَى كُلِّ امْرِئٍ غيْرِ طَائِلِ ومنه قولهم: ما حلا منه بطائل، أي: بشيء يعتد به مما له فضل وخطر، ومنه: الطول في الجسم؛ لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أمة. قال ابن عباس: من ملك ثلاث مائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء، وهو الظاهر، وعليه مذهب الشافعي رحمه اللَّه، وأمّا أبو حنيفة رحمه اللَّه فيقول: الغنىّ والفقير سواء في جواز نكاح الأمة، ويفسر الآية بأن من لم يملك فراش الحرّة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باعها بدراهم أو دنانير، واصطرفها: اشترى بها، وللدرهم على الدرهم صرف في الجودة والقيمة، أي: فضل. وقيل لمن يعرف هذا الفضل ويميز هذه الجودة: صراف وصيرفي، وأصله من الصرف: النقل؛ لأن ما فضل صرف عن النقصان، وإنما سمي بيع الأثمان صرفاً؛ إما لأن الغالب على عاقده طلب الفضل والزيادة، أو لاختصاص هذا العقد بنقل كلا البدلين من يد إلى يد في مجلس العقد.

على أن النكاح هو الوطء؛ فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: ومما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن النكاح هو الوطء)، هو: حال منا لضمير في "يفسر"، وسط الحال بين "من" وخبره، وإنما فعل كذلك لأن تفسير (ومن لم يستطع منكم طولاً) الآية بعدم ملك فراش الحرة مبني على أن النكاح هو الوطء، المعنى: من لم يستطع منكم أن يملك وطء الحرة وذلك عندما لا يكون تحته حرة؛ فإنه يجوز له نكاح الأمة، و (طَوْلاً): مفعول به بمعنى القدرة وهي فضل، كما أنا لنكاح قوة وفضل، وقوله: (أَن يَنكِحَ) بدل منه. قال أبو البقاء: (طَوْلاً) مفعول (يَسْتَطِعْ)، وقيل: هو مفعول له، وفيه حذف مضاف، أي: لعدم طول. و (أَن يَنكِحَ) فيه وجهان، أحدهما: هو بدل من (طَوْلاً) بدل الكل لأن الطول هو القدرة أو الفضل، والنكاح قوة وفضل، وثانيهما: أن يكون منصوباً بـ (طَوْلاً)، أي: ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات، من قولك: طلته، أي: نلته، ويجوز أن يقدر حرف الجر؛ أي: ومن لم يستطع وصلة إلى نكاح المحصنات. وقال الإمام: الأكثرون ذهبوا إلى أن الطول هو الغنى والفضل؛ لأن تأثير عدم الغنى في عدم القدرة على العقد أولى وأقوى من عدم القدرة على الوطء. وأيضاً أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة، وهذا الوصف يناسب هذا الحكم؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى التزوج، فإذا لم يقدر على الحرة بسبب كثرة مؤنتها وغلاء مهرها يؤذن له في نكاح الأمة، وإليه أشار المصنف بقوله: "وهو الظاهر"، وعليه مذهبا لشافعي رضي الله عنه. وقال المطرزي: الطول: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول، أي: زيادة وفضل، أي: ومن لم يستطع زيادة فيا لمال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة. وهذا تفسير قول

وسع اللَّه على هذه الأمّة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً. وكذلك قوله: (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهو مذهب أهل الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به، مع علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق، ولكنه أفضل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزجاج: إن الطول: القدرة على المهر. وقد قيل: هو الغنى فيصير إلى الأول، ومنهم من فسر الطول بكون الحرة تحته، وفيه نظر. ومحل (أَن يَنكِحَ) النصب أو الجر على حذف الجار أو إضماره، وهو "على" أو "إلى"، ونظيره: (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ) [الممتحنة: 10]. والإضمار قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي. وعن الشعبي: إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة فعداه بـ "إلى". وكذا عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير: لا يتزوج الأمة من لم يجد طولاً إلى الحرة. وأما قولهم: طول الحرة فمتسع فيه. تم كلامه. قوله: (وكذلك)، أي: كما أن قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) ظاهر فيما مر، كذلك قوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ) ظاهر في أنه لا يجوز نكاح الأمة. قوله: (بوصف الحرائر به)، أي: بالإيمان، يعني: واستشهدوا لدعواهم بوصف الحرائر في قوله تعالى: (أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فإن الوصف بالمؤمنات هنا ليس إلا لعلة الأفضلية اتفاقاً، وكذا في قوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ) قياساً عليه. والجواب: أن الأصل في أمثال هذه الصفات اعتبار فائدة التقييد بالصفة، وهو التخصيص، إلا أن يمنع مانع كما في (الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)، وهو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ

فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطًّا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5]، ولا مانع من الثاني، فوجب الحمل على التخصيص. وقال بعض الحنفية: فائدة تعليق الجواز بهذا الشرط مع أن النكاح يجوز بدونه: هي كراهة نكاح الأمة حال طول الحرة، قال: فإن نكاح الأمة وإن جاز حال الطول لكن المستحب لمن قدر على تزوج الحرة أن لا يتزوج الأمة، ويكره له ذلك؛ إذ هو شرط خرج على وفاق العادة لقوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور: 33]، (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء: 101]، (وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ) [النساء: 23]، وذلك أن الرجل لا يتزوج الأمة في الغالب إلا عند العجز عن نكاح الحرة، ويستنكف عن ذلك، فأخرج الله تعالى هذا الكلام على وفاق العادة. وقلت: بل الظاهر أن الوصف جار على المدح، وفيه تنبيه على تحري الأصوب فالأصوب وتوخي الأكمل والأفضل؛ وذلك أنه تعالى لما بين المحرمات من النساء وذكر منهن المحصنات من النساء، وكانت مطلقة محتملة للمؤمنات والكتابيات، أتبعه قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) الآية، يعني: الإيمان هو المطلوب الأولي، فطالبه طالب النسل للمعرفة والعبادة، وطالب مجرد قضاء الشهوة مذموم، فعليكم بالإيمان حيث كان، إلا أن الحاكم الاضطرار إلى قضاء الشهوة؛ فلا ينبغي التجاوز عن المنصوص عليها في نحو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) [المائدة: 5]، والذي يؤيد أن هذه الصفة جارية على المدح قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [النساء: 25]، وتفسيره: "وحق المؤمنين ألا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب".

وقوله: (مِنْ فَتَياتِكُمُ) أي: من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم، وهم المخالفون في الدين. فإن قلت: فما معنى قوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ)؟ قلت: معناه: أن اللَّه أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيسٌ بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي: أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ): اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن. ويحتج به لقول أبي حنيفة: أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن؛ لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأرقاؤكم متواصلون)، يريد أن (مِنْ) في قوله تعالى: (مِنْ بَعْضٍ) للاتصال. قوله: (ويحتج به لقول أبي حنيفة: إن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن العاقد آذن في الاستحلال، فلعله المراد. وقال القاضي: واعتبار إذنهم لا إشعار له على ذلك. الانتصاف: فيحمل على الإذن للوكيل في العقد على أمته، فلا يلزم مباشرتها العقد. قوله: (واللز). الأساس: لز الشيء بالشيء: قرن به وألصق، فالتز به، ومن المجاز: لزه إلى كذا: اضطره، وجعلتكم لزازاً لفلان: لا تدعه يخالف.

فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: (وَءَاتُوهُنَّ)؟ قلتُ: لأنهنَّ وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهنَّ أداء إلى الموالي، أو على أن أصله: فآتوا مواليهنَّ، فحذف المضاف. ا (مُحْصَناتِ) عفائف. والأخدان: الأخلاء في السرّ، كأنه قيل: غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له (فَإِذا أُحْصِنَّ) بالتزويج. وقرئ: أحصن (نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي: الحرائر (مِنَ الْعَذابِ) من الحدّ كقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) [النور: 2]، و (يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) [النور: 8] ولا رجم عليهن؛ لأن الرجم لا يتنصف. (ذلِكَ) إشارةٌ إلى نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ) لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وقيل: أريد به الحدّ؛ لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيُحدَّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهن وما في أيديهن مال الموالي)، وقلت: الفائدة في الأمر بالأداء إليهن الدلالة على وكادة إيجاب مهور النساء لاسيما الحرائر؛ لأنها أجور لأبضاعهن، والسيد إنما يأخذ من جهة ملك اليمين؛ لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، لا من جهة أجور أبضاعهن صيانة من الوصمة. قوله: ((أُحْصِنَّ) بالتزويج) أي: جعلن أنفسهن بالتزويج في حصن الأمان، و (أحصن) أزواجهن، قال محيي السنة: لا فرق في حد المملوك بين أن يتزوج أو لم يتزوج عند الأكثرين، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوج؛ لأنه تعالى قال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ)، وروي ذلك عن ابن عباس وطاووس، ومعنى الإحصان عند الآخرين: الإسلام، والمراد من قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) التنبيه على أن المملوك وإن كان محصناً بالتزويج فلا رجم عليه، وإنما حده الجلد. قوله: (وقيل: أريد به الحد) عطف على قوله: "الإثم" أي: لمن خاف الحد.

فيتزوجها. (وَأَنْ تَصْبِرُوا) في محل الرفع على الابتداء، أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعففين (خَيْرٌ لَكُمْ)، وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت». (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) 26 ـ 28]. (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أصله: يريد اللَّه أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيتزوجها) الرواية بالرفع جواباً لشرط محذوف، أي: إذا كان كذلك فهو يتزوجها فيترتب على "خشي". قوله: (هلاك البيت) وأنشدوا: ومن لم يكن في بيته قهرمانة ... فذلك بيتـ لا أبالكـ ضائع قوله: (فزيدت اللام مؤكدة) قال صاحب "الفرائد": قيل: لا يبعد أن يكون مفعول (يُرِيدُ) محذوفاً للعلم به، كأنه قيل: يريد إيراد هذه الأحكام ليبين لكم، وكذا في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) [الصف: 8]، أي: يريدون كيدهم وعنادهم ليطفئوا، وقال: هذا أقرب إلى التحقيق؛ لأنه فعل متعد فلابد له من مفعول به. وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": يجوز: لزيد ضربت، وامتنع: ضربت لزيد؛ لأن المقتضي إذا تقدم كان أقوى منه إذا تأخر، والجواب: أن المقام إذا اقتضى التأكيد لابد من المصير إليه، وإذا كان المعنى على ما قال: "يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم" إلى آخره، فخلو الكلام عن التأكيد بعيد عن قضاء حق البلاغة. قال الزجاج: اللام في (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) كاللام في "لكي" في قوله:

لإرادة التبيين، كما زيدت في: "لا أبالك"؛ لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد اللَّه أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم؛ لتقتدوا بهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ): ويرشدكم إلى طاعاتٍ إن قُمتم بها كانت كفاراتٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أردت لكيما لا ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل وقال صاحب "اللباب": إن اللام في: شكرت لزيد، مكملة للفعل. والمراد من التكميل غير التعدية لجعله الباء المكملة قسيماً لباءا لتعدية في قوله: الباء للإلصاق، وإما مكملة للفعل في نحو: مررت بزيد. وقال الشارح: إذ معنى المرورـ وهو المجاوزةـ يقتضي متعلقاً، والباء تكميل لذلك المعنى، بخلاف التعدية، نحو: خرجت بزيد، فإن معنى الخروج لا يقتضي متعلقاً بل حصل اقتضاؤه المتعلق بحرف الجر فتلك هي المعدية. قوله: (يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم) فيه إشعار بتلفيق الآيات اللاحقة بالسابقة؛ فإن السوابق كانت في بيان النساء والمناكحات، واللواحق في بيان الأموال والتجارات، وهي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) [النساء: 29]، فهذه الآيات التي توسطت بينهما كالتخلص من باب إلى باب لجامع التبيين. قوله: (ويرشدكم إلى طاعات) إشارة إلى أن قوله: (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 26] من وضع المسبب موضع السبب، وذلك من عطف (وَيَتُوبَ) على قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على سبيل البيان، كأنه قيل: ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات، فوضع موضعه (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ). وإلى السبب الإشارة بقوله: "إن قمتم بها كانت كفارات لسيئاتكم فيتوب عليكم"، فقوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 27] وتفسيره إياه بقوله: "إن تفعلوا ما تستوجبون به" فجرى على هذه الطريقة؛ لأن قوله:

لسيئاتكم؛ فيتوب عليكم ويكفر لكم، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ): أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم، (وَيُرِيدُ) الفجرة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً): وهو الميل عن القصد والحق ـ ولا ميل أعظم منه ـ بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات، وقيل: هم اليهود، وقيل: هم المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهنّ اللَّه قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت. يقول تعالى: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخصّ (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً): لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 27] تكرير لقوله: (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 26] للتأكيد، وقد قوبل بقوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: 27]، وذلك هو الزيغ والميل عن الطريق القويم؛ فوجب أن يفسر المقابل بما يوافقه من الإرشاد إلى الصراط المستقيم، وإنما بني (وَاللَّهُ يُرِيدُ) على تقوي الحكم، وقدم الاسم، وفي المؤكد الفعل مقدم؛ ليفرق بين الإرادتين، أي: إرادة الله وإرادة الزائغين. قوله: (بمساعدتهم وموافقتهم) يتعلق بقوله: "وهو الميل"، وقوله: "ولا ميل أعظم منه" اعتراض. قوله: (ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء)، إن قيل: إن ظاهر الاستثناء يوجب حصول يأس الشيطان من قبل إتيان النساء؛ لأن التقدير: ما أيس الشيطان في الأزمنة الماضية أبد الأزمان إتيانه النساء؛ لأن "قط" بمعنى "لابد" للماضي من

فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى، وإن أخوف ما أخاف علىّ فتنة النساء. وقرئ: أن يميلوا بالياء. والضمير ب (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ)، وقرأ ابن عباس (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ) على البناء للفاعل ونصب الإنسان وعنه رضي اللَّه عنه: ثماني آياتٍ في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء: 31]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40]، و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء: 110]، (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ). [النساء: 147]. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) 29 ـ 30]. (بِالْباطِلِ): بما لم تبحه الشريعة من نحو: السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزمان، وهو فاسد. قلنا: بل المعنى: ما حصل للشيطان اليأس من إغواء بني آدم بمزاولة الحيل قط إلا أتى بهذه الحيلة؛ فهو استثناء مفرغ، ونظيره قولك: ما احتجت قط إلا زرتك، أي: لم يكن احتياجي ملتبساً بفعل من الأفعال إلا بزيارتك، هذا مما يدل عليه ظاهر التركيب، وهل زال ذلك الاحتياج أم لا؟ فلا يدل عليه إلا المقام، فإذا كان المقام مقام مدح دل على الزوال، وإلا فدل على خلافه، وما نحن بصدده يدل على الزوال لما قد قيل: "النساء حبائل الشيطان".

وعقود الربا. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) إلا أن يقع تجارة. وقرئ: (تجارة) على: إلا أن تكون التجارة تجارة (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) والاستثناء منقطع. معناه: ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض منكم. أو: ولكن تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقوله: (عَنْ تَراضٍ) صفة (لتجارة)، أي: تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر، لأنّ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها. والتراضي: رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى. وعند الشافعي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (تِجَارَةً)) عاصم وحمزة والكسائي. قوله: (والاستثناء منقطع) أي: على التقديرين. قال أبو البقاء: الاستثناء منقطع ليس من جنس الأول، وقيل: هو متصل؛ أي: لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة، وهذا ضعيف؛ لأنه قال: (بِالْبَاطِلِ)، والتجارة ليست من جنس الباطل. وفي الكلام حذف مضاف، أي: إلا في حال كونها تجارة، و (تجارة) بالرفع: على أن "كان" تامة، وبالنصب على أنها الناقصة، أي: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة تجارة، وقيل: التقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة. وأما المصنف فبنى على التغاير بين الكلامين: نفياً وإيجاباً، وقدر "لكن"، فقوله تعالى: (لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) يقتضي إيجاب الأمر بعد "لكن"، ولهذا قال: "ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض" أو أن قوله: (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) بدل بحسب المفهوم على أن عدم المراضاة منهي عنه؛ ومن ثم قدر: "ولكن كون تجارة عن تراض منكم غير منهي عنه"، فكأنه قيل: المنهي هو أن يكون التصرف بالباطل وعدم الرضا، لكن غير المنهي هو أن يكون التصرف بالحق وحصول المراضاة، هذا حاصل المعنى على التقديرين، لا بيان التقدير اللفظي. قوله: (بما تعاقدا عليه) قيل: يعني أن الرضا عند أبي حنيفة هو رضا المتعاقدين وقت الإيجاب والقبول حتى لا يؤثر الندم بعد ذلك وإن كانا في مجلس العقد، وعند الشافعي:

تفرّقهما عن مجلس العقد متراضيين (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ): من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. وعن عمرو بن العاص: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم. وقرأ علي رضي اللَّه عنه (وَلا تَقْتُلُوا) بالتشديد. (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً): ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل: معناه: أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم؛ ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم ـ يا أمة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرضا محمول على تفرقهما عن مجلس العقد متراضيين؛ فعلم أن التفرق الذي في الحديث "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" تفرق فعلي عند الشافعي، وقولي عند أبي حنيفة، بأن يتركا كلام البيع، ويشرعا في كلام آخر. قوله: (أو: لا يقتل الرجل نفسه) معطوف على "من كان من جنسكم"، وقول الحسن متفرع على الأول، وقول عمرو على الثاني. قوله: (ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم) قال القاضي: جمع الله تعالى في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة، كما أشار إليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً). قوله: (وقيل: معناه: أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم) إلى آخره، يريد أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل لقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)، ولما نظر إلى مجيء (وَلا تَقْتُلُوا) [النساء: 29] عقيب آيات التوبة، وهي قوله: (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26]، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 27] دعاه أن يحمل القتل على التوبة ويعلله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً). والوجه الأول، وهو قوله: (وَلَا

محمد ـ رحيمًا حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة. (ذلِكَ) إشارة إلى القتل، أي: ومن يقدم على قتل الأنفس (عُدْواناً وَظُلْماً) لا خطأ ولا اقتصاصًا. وقرئ (عُدْواناً) بالكسر، و (نُصْلِيهِ) بتخفيف اللام وتشديدها. و (نُصْلِيهِ) بفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير للَّه عز وجل، أو: ل (ذَلِكَ)؛ لكونه سبباً للصلي. (ناراً) أي: ناراً مخصوصة شديدة العذاب (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)؛ لأنّ الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه. (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) 31]. (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وقرئ: كبير ما تنهون عنه، أي: ما كبر من المعاصي التي ينهاكم اللَّه عنها والرسول. (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) نمط ما تستحقونه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) من كان من جنسكم من المؤمنين ليجمع بين حفظ النفس وحفظ المال في التوصية؛ لأن قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [النساء: 28] إلى قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [النساء: 34] كالاعتراض [بين حديث] النساء ونكاحهن والقيام عليهن؛ فيكون تأكيداً لمعنى التعليل في قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) [النساء: 24]، كما قررنا أن فيه إشعاراً بأن التمتع بالمال إنما يكون معتداً به إذا أنفق على العيال؛ ومن ثم ضم مع حفظ المال لأجل الإنفاق على العيال حفظ النفس، مزيداً لإرادة التحريض على طلب الإحصان والاجتناب عن السفاح، والله أعلم. قوله: (ونصليه: بفتح النون) قال ابن جني: هي قراءة إبراهيم والأعمش وحميد، يقال: صلاه يصليه: إذا شواه، فيكون منقولاً من صلي ناراً وصليته ناراً، نحو: كسي ثوباً وكسوته ثوباً، وأما قراءة العامة بضم النون فهو منقول من صلي أيضاً؛ إلا أنه منقول بالهمزة لا بالمثال، نحو: علم الخبر وأعلمته إياه.

العقاب في كل وقت على صغائركم، ونجعلها كأن لم تكن؛ لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها، على عقاب السيئات، والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما: إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على صغائركم) يتعلق بقوله: "من العقاب"، و"لزيادة الثواب" بقوله: "نمط"، و"على عقاب" بقوله: "لزيادة الثواب". المعنى: إن تجتنبوا الكبائر نمط من صغائركم بسبب زيادة الثواب الذي حصل لكم من اجتناب الكبائر على عقاب الصغائر، وهذا على القول بالموازنة على مذهبه، وهو أن العبد يستحق بسبب الطاعة الثواب، وبسبب المعصية العقاب، وتحصل بينهما الموازنة؛ فاستحقاق العقاب يحط بقدره من استحقاق الثواب، وبالعكس؛ فإن تساوى الاستحقاقان تساقطاً، وإن زاد أحدهما على الآخر بقي من الزائد شيء بعد الموازنة. قوله: (بإضافتهما: إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما) أي: الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان؛ فلابد من أمر آخر يقاس عليه، وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، أما الطاعة: فهي إذا كان العذاب المستحق بسببها أزيد من الثواب المستحق بسبب طاعة فعلها فهي كبيرة، وإلا فصغيرة؛ فكل ما يكفر بمثل الصلاة فهو من الصغائر، يدل عليه حديث أبي اليسر، روى الترمذي عنه أنه قال: أتتني امرأة تبتاع تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي البيت فأهويتها فقبلتها .. إلى قوله: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "أخلفت غازياً في سبيل الله بمثل هذا؟ " حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، وحتى ظن أنه من أهل النار، قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحى الله إليه: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114]، قال أبو اليسر: فأتيته فقرأ علي، فقال أصحابه: ألهذا خاصة أول لناس عامة؟ فقال: "بل للناس عامة". وما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كان كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". أخرجه الشيخان عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حمران. وكل ما يكفر بمثل الإسلام والهجرة فهو من الكبائر؛ لما روى مسلم عن عبد الرحمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله". وأما المعصية: فكل معصية يستحق فاعلها بسببها عقاباً أزيد من العقاب المستحق بسبب معصية أخرى؛ فهي كبيرة، وتلك صغيرة. وأما ثواب فاعلها: فهو أن فاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة؛ لما روي: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، وأنشد: لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... في السهو فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر وقال: زلة العالم زلة العالم، وفي الناس من لشرفه يؤاخذ على حديث النفس. وقال القاضي: واختلف في الكبائر، والأقرب أن الكبيرة: كل ذنب رتب عليه الشارع حداً أو صرح بالوعيد، وقيل: ما علم حرمته بقاطع، وقيل: صغر الذنوب وكبرها بالإضافة على ما فوقها وما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك، واصغر الصغائر حديث النفس، وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران، فمن عن له أمران منهما، ودعت نفسه غليهما بحيث لا يتمالك؛ فإن كفها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه من أصغرهما لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر، ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه صلوات الله وسلامه عليه في كثير من خطراته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلاً عن أن يؤاخذه؟ .

والتكفير: إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة. والإحباط: نقيضه، وهو إماطة الثواب المستحق بعقابٍ أزيد أو بندم على الطاعة. وعن علي رضي اللَّه عنه: الكبائر سبع: الشرك، والقتل، والقذف، والربا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. وزاد ابن عمر: السحر، واستحلال البيت الحرام. وعن ابن عباس: أن رجلًا قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة أقرب؛ لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. وروي إلى سبعين. وقرئ: يكفر، بالياء. و (مُدْخَلًا) بضم الميم وفتحها، بمعنى المكان والمصدر فيهما. (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكبائر سبع)، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنى، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وهذا هو المراد من قول القاضي: وما علم حرمته بقاطع. الزحف: الجيش الداهم الذي يرىـ لكثرتهـ كأنه يزحف، أي: يدب دبيباً، سمي بالمصدر. قوله: (والتعرب بعد الهجرة). النهاية: في الحديث: "ثلاث من الكبائر، منها: التعرب بعد الهجرة". وهو: أن يعود إلى البادية، ويقيم مع الأعراب، بعد ما كان مهاجراً، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد.

وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) 32]. (وَلا تَتَمَنَّوْا): نهوا عن التحاسد وعن تمني ما فضل اللَّه به بعض الناس على بعض من المال والجاه؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من اللَّه صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى: 27]، فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نهوا عن التحاسد)، جعل تمني ما فضل الله حسداً لدلالة (مَا)؛ لأن تمني ما فضل الله طلب عين ذلك الشيء، ولا يصح حصوله إلا بعد الزوال منه والانتقال إليه، وذلك هو الحسد؛ لأن الحسد: هو أن يرى لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه، وأما الغبطة: فهو أن يمنى أن يكون له مثله، ولا يتمنى زواله. فإن قلت: يحتمل أن يكون المنهي تمني ما لأخيه ومثله على تقدير المضاف، وتمني المثل من غير زوال ما لأخيه غير مذموم؟ قلت: اللفظ يحتملهما، لكن النهي عنه والأمر بقوله: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) فيه إعلام أن الأول مذموم والثاني محمود، وغليه الإشارة بقوله: "ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا الله من خزائنه التي لا تنفد"، وغنما قال في جانب الغبطة: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) دون: تمنوا من فضله ليريك أن التمني مذموم، والغبطة بلفظ التمني ملحق بالحسد، وأيضاً كما أن الحاسد في طلبه ذلك يروم ما لا يمكن حصوله، كقولهم: ليت الشباب يعود، كذلك المستمنح لفضل الله غير خائب البتة؛ لأن سائل الكريم لا يخيب. عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة في الإجابة"، رواه مسلم. قال القاضي: تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر، وتمني ما قدر له يكسب بطالة وتضييع حظ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضياع ومحال.

علماً بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له؛ ولا يحسد أخاه على حظه (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف اللَّه من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسباً له (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا اللَّه من خزائنه التي لا تنفد. وقيل: كان الرجال قالوا: إن اللَّه فضلنا على النساء في الدنيا: لنا سهمان ولهن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علماً بأن ما قسم له) قيل: "علماً" حال من ضمير "يرضى" أو مفعول له، ويجوز الوجهان من فاعل "قسم" أي: عليه أن يرضى بما قسم الله تعالى حال كونه تعالى عالماً بالمصلحة، أو لعلمه بها. قوله: (جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء ... كسباً له) يعني قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، جملتان مبينتان لقوله تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: لكل من الرجال والنساء نصيب من تلك القسمة التي قدرناها لهم، وهي تفضيل بعضهم على بعضن فوضع موضعه قوله: (مِمَّا اكْتَسَبُوا)، و (مِمَّا اكْتَسَبْنَ) مبالغة في وقوع المقدر، يعني: نحن قسمنا بينهم الفضل، فلابد أن يكتسبوا ما به ينالون تلك الفضيلة المقسومة، ولولا الفضل لم يوجد الكسب. وفي توخي كسب الخيرات، وتحري فعل المبرات دفع لزعم من ينكل على المقدر، ويتقاعد عن الكسب، وكذا في جعل الفضل مقدمة للكسب تلويح إلى أن الكسب لا يجدي؛ إذا لم يسبقه الفضل، وإنما عقب بهذه الآية قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ليؤذن أن الفضل لا يحصل بالتمني والحسد؛ بل بالاجتهاد في الطاعات وتحري الفاضلات من الأخلاق، والاجتناب عن المعاصي والرذائل. قوله: (وقيل: كان الرجال قالوا) عطف على قوله: "ما فضل الله به بعض الناس" المبين بقوله: "من الجاه والمال"، فكان تخصيص ذكر الرجال والنساء للتمثيل، وإلحاق ما لا يعلم بما علم، واشتهر نحوه في التمثيل قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور: 26] في أحد

سهم واحد، فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على الأعمال ولهنّ أجر واحد، فقالت أم سلمة ونسوة معها: ليت اللَّه كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فنزلت. (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) 33]. (مِمَّا تَرَكَ): تبيين ل (كل)، أي: ولكل شيء مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجهيه، وعلى الثاني الكسب محمول على كسب الطاعات وتحري المبرات، والحسد على المجاز كما ورد "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، فسمعه جار له، فقال: يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان؛ فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان؛ فعملت مثل ما يعمل". أخرجه البخاري عن أبي هريرة. فإن قلت: فكيف يصح خطابهن بقوله: (وَلا تَتَمَنَّوْا)؟ قلت: لا بأس أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً؛ إذ أكثر الأحكام وارد على هذا المنهج، فإن قلت: إذا كان مثل هذا الحسد محموداً كيف نهوا عنه؟ قلت: كان المتمنى أن يكتب عليهن الجهاد كما كتب على الرجال، وهذا متمنى غير جائز؛ لأنه تعالى كتب لكل من الرجال والنساء على حسب حاله واستعداده، ولكن استدركه بقوله: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)، أي: اسألوا الله ما يليق بحالكم وما يصلحكم، ألا ترى كيف ذيل بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)؟ قوله: (أي: ولكل شيء) يعني: المضاف إليه لـ "كل" محذوف وهو شيء، والمفعول الأول لـ (جَعَلْنَا) هو (مَوَالِيَ)، والثاني (وَلِكُلٍّ)، و (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف

من المال (جعلنا موالي) وراثا يلونه ويحرزونه؛ أو: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب (مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ)؛ على أن (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة ل"كل"، والضمير الراجع إلى "كل" محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل من خلقه اللَّه إنسانا من رزق اللَّه، أي: حظ من رزق اللَّه، أو: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أي: ورّاثا مما ترك، على أن «من» صلة موالي؛ لأنهم في معنى الورّاث، وفي: (تَرَكَ) ضمير كلّ، ثم فسر الموالي بقوله: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الوالدان والأقربون (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمانُكُمْ): مبتدأ ضمن معنى الشرط؛ فوقع خبره مع الفاء؛ وهو قوله (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ)، ويجوز أن يكون منصوباً على قولك: زيداً فاضربه. ويجوز أن يعطف على (الوَالِدَانِ)، ويكون المضمر في: (فَآتُوهُمْ) للموالي، والمراد بالذين عاقدت أيمانكم: موالي الموالاة؛ كان الرجل يعاقد الرجل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو صفة لـ "كل"، المعنى: وجعلنا لكل مال تركه الوالدان وارثاً يحوونه، وهو المراد بقوله: "ولكل شيء مما ترك" إلى آخره. قال السجاوندي: وفيه ضعف للفصل بين الموصوف والصفة؛ إذ يصير بمنزلة من يقول: لكل رجل جعلت درهماً فقير. قوله: (أو: ولكل قوم) فعلى هذا "لكل قوم" خبر، والمبتدأ متعلق (مِمَّا تَرَكَ)، وهو نصيب المقدر، و (جَعَلْنَا): صفة لـ "كل"، ومفعوله الأول محذوف وهو ضمير الموصوف، و (مَوَالِيَ) ثاني مفعوليه، المعنى: لكل من جعلناه وارثاً نصيب من التركة. قوله: (أو ولكل أحد جعلنا موالي)، فعلى هذا "لكل أحد": مفعول (جَعَلْنَا)، و (مَوَالِيَ) بمعنى الوارث، و (مِمَّا تَرَكَ): صلته، المعنى: جعلنا لكل موروث وارثاً حائزاً لتركته، ثم قيل: ومن الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. قال القاضي: وفيه خروج الأولاد؛ فإن الأقربين لا يتناولهم، كما لم يتناول الوالدين. قوله: (ويكون المضمر في (فَآتُوهُمْ) للموالي) فيدخل فيه "الذين عاقدت"، وعلى

فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأرى ثأرك، وحربى حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنه خطب يوم الفتح فقال: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» وعند أبي حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا؛ صح عنده، وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي، وقيل: المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت أيمانكم: عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عَقَدَتْ) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم. (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) 34]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجهين الأولين الضمير مختص بـ "الذين عاقدت"، وعلى هذا الوجه الفاء جزاء شرط مقدر، و"من": صلة (مَوَالِيَ)، أي: جعلنا لكل موروث وارثاً حائزاً لتركته، فقيل: من هم؟ قيل: (الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) والمعاقدون، ثم قيل: وإذا كان كذلك (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قوله: (وقرئ: "عقدت" بالتشديد) وهي شاذة، "والتخفيف": عاصم وحمزة والكسائي، والباقون: (عاقدت) بالألف. قوله: (بمعنى: عقدت عهودهم أيمانكم) فحذف العهود، وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، ثم حذف حذفه في القراءة الأخرى وهي: (عاقدت أيمانكم)، أي: عاقدتهم أيديكم. قوله: (عهودهم) أي: عهود الموالي، وهو مفعول (عَقَدَتْ) وفاعله (أَيْمَانُكُمْ).

(قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قوّما لذلك. والضمير في (بَعْضَهُمْ) للرجال والنساء جميعاً، يعنى: إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل اللَّه بعضهم ـ وهم الرجال ـ، على بعض ـ وهم النساء. وفيه دليل على أنّ الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسموا "قوماً" لذلك) الراغب: القوم: جماعة الرجال دون النساء؛ ولذلك قال تعالى: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) [الحجرات: 11]، قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء وفي عامة التنزيل: أريدوا به وبالنساء جميعاً، وحقيقته للرجال لما نبه عليه قوله عز وجل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ). قوله: (مسيطرين) أي: متسلطين. قوله: (وفيه دليل) يعني: في تعليل تسلط الرجال على النساء بالأمر والنهي بقوله: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ)، (وَبِمَا أَنفَقُوا) إدماج لمعنى الإمامة الكبرى، نحوه قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124]. قوله: (والحمالة) وهي الدية التي يتحملها الرجل، ويغرمها ويسعى في تحصيلها،

والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم (وَبِما أَنْفَقُوا): وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور والنفقات. وروي أنّ سعد بن الربيع ـ وكان نقيبا من نقباء الأنصار ـ نشرت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال: «لتقتصّ منه»، . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"القسامة" هي الأيمان، يقسم على الأولياء في الدم. النهاية: القسامة بالفتح: اليمين، كالقسم، وحقيقتها: أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يميناً، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية، وقد أقسم يقسم قسماً وقسامة: إذا حلف، وقد جاءت على بناء الغرامة والحمالة؛ لأنها تلزم أهل الموضع الذي يوجد فيه القتيل، وفي حديث الحسن: "القسامة جاهلية" أي: كان أهل الجاهلية يدينون بها، وقد قررها الإسلام. قوله: (أن سعد بن الربيع، وكان نقيباً من نقباء الأنصار). الاستيعاب: هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك الخزرجي الأنصاري، عقبي بدري، وكان أحد نقباء الأنصار، قتل يوم أحد شهيداً، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب يأتيه بخبره، قال: اذهب فأقرئه مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأني قد انفذت مقاتلي، واقرأ على قومي السلام وقل لهم: يقول لكم سعد: الله الله! وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، فوالله ما لكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.

فنزلت؛ فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «أردنا أمراً وأراد اللَّه أمرا، والذي أراد اللَّه خير»، ورفع القصاص. واختلف في ذلك، فقيل: لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها، ولكن يجب العقل. وقيل: لا قصاص إلا في الجرح والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا (قانِتاتٌ): مطيعات قائمات بما عليهنّ للأزواج، (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ): الغيب خلاف الشهادة، أي: حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهنّ حفظهن ما يجب عليهنّ حفظه في حال الغيبة، من الفروج والبيوت والأموال. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية وقيل (لِلْغَيْبِ): لأسرارهم (بِما حَفِظَ اللَّهُ): بما حفظهنّ اللَّه حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: «استوصوا بالنساء خيراً» أو بما حفظهنّ اللَّه وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمواجب الغيب) قيل: المواجب: جمع الموجب، والمراد بـ "موجب الغيب": ما يوجبه الغيب، أي: ما يجب المحافظة عليه في حال غيبة الزوج. قوله: (في مالها) أراد في مالك، ولما كانت هي المتصرفة فيه في حال الغيبة، وأنه مما ينفق عليها؛ كأنه مالها، نحو قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ) [النساء: 5] بعثاً لها على الحفظ، أي: ليحفظن حفظاً مثل حفظ أموالهن. قوله: (أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب) فسر الحفظ بوجوه ثلاث، أحدها: أنه مجاز، من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن الظاهر أن يقال: حافظات للغيب بسبب أن الله تعالى وصى الأزواج بحفظهن رعاية لحقهن؛ فهن قضين حق تلك النعمة بحفظ غيب الأزواج، وعلى هذا يجوز أن يكون مشاكلة لقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40]، والثاني: أنه حقيقة، أي: حافظات للغيب لأن الله تعالى حفظهن من أن يقعن في الذنب

وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة. وما» مصدرية. وقرئ (بِما حَفِظَ اللَّهُ) بالنصب على أنّ ما موصولة، أي: حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق اللَّه وأمانة اللَّه، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقرأ ابن مسعود: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ اللَّه فأصلحوا إليهنّ. نشوزها ونشوصها: أن تعصي زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج. (فِي الْمَضاجِعِ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعصمهن، فقوله: "وعصمهن" عطف تفسيري. وثالثها: أنه من باب الكناية، أي: أنهن حافظات للغيب لأن الله تعالى وعدهن الثواب عليه؛ ولذلك سعين في حفظ الغيب، كأنه قيل: احفظن الغيب حتى لا أضيع أجركن لما يلزم من عدم ضياعهن إيتاء أجورهن. قوله: (وقرئ: (بما حفظ الله) بالنصب على أن "ما" موصولة) قال أبو البقاء: "ما" على قراءة النصب بمعنى الذي، أو نكرة والمضاف محذوف، والتقدير: بما حفظ الله أو دين الله، وقال قوم: هي مصدرية، والتقدير: بحفظهن الله، وهذا خطأ؛ لأنه إذا كان كذلك خلا الفعل عن ضمير الفاعل؛ لأن الفاعل هنا جمع المؤنث، فكان يجب أن يكون بما حفظن الله، وقد صوب هذا القول وجعل الفاعل فيه للجنس، وهو مفرد مذكر، فلا يظهر له ضمير. قوله: (فالصوالح قوانت حوافظ للغيب ... فأصلحوا إليهن). الأساس: ومن المجاز: وأصلح إلى دابته: أحسن إليها وتعهدها. وفي هذه القراءة إيذان بأن الآية فيها إجمال وتفصيل، فالمجمل قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، وتفصيله: فالصالحات، وقوله: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)، وأن قوله: في هذه القراءة: "فأصلحوا إليهن" مقابل لقوله: (فَعِظُوهُنَّ)، يعني: قوموا عليهن، فاللاتي صلحت، فأحسنوا إليهن، واللاتي نشزت فعظوهن، واضربوهن. قوله: 0 ونشوصها). الجوهري: نشصت المرأة من زوجها، مثل نشزت، فهي ناشز

في المراقد، أي: لا تدخلوهن تحت اللحف، أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: (في المضاجع): في بيوتهن التي يبتن فيها. أى: لا تبايتوهن. وقرئ: (في المضجع)، و (في المضطجع)؛ وذلك لتعرّف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز. أمر بوعظهن أوّلا، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وناشص، ونشصت عن بلدي: انزعجت. الراغب: النشز: المرتفع من الأرض، ونشز فلان: إذا قصد نشزاً، ومنه: نشز فلان عن مقره، ويعبر عن الإحياء بالنشز والإنشاز لكونه ارتفاعاً بعد اتضاع، ونشوز المرأة: بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته وعينها إلى غيره. قوله: (أمر بوعظهن) جملة مستأنفة على سبيل البيان، لقوله: "وذلك لتعرف أحوالهن"؛ لأن المشار بها تلك المأمورات التي تضمنها قوله تعالى: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) على قوله: (وَاضْرِبُوهُنَّ). الانتصاف: الترتيب الذي أشار إليه الزمخشري غير مأخوذ من الآية؛ لأنها واردة بواو العطف، وإنما استفيد من أدلة خارجية. وقلت: ما أظهر دلالة الفاء في قوله: (فَعِظُوهُنَّ) عليه! وكذا قضية الترتيب في الرفق والنظم، فإن قوله: (فَالصَّالِحَاتُ) وقوله: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) تفصيل لما أجمل في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، كما سبق، أخبر الله تعالى بتفضيل الرجال على النساء، وقوامهم عليهن، ثم فصل النساء قسمين: إما أنهن قانتات صالحات يحفظن أزواجهن في الحضور والغيبة؛ فعلى الرجال الشفقة عليهن والنصيحة لهن، وإما أنهن ناشزات غير مطيعات؛ فعلى الرجال الترفق بهن أولاً بالوعظ والنصيحة، فإن لم ينجع الوعظ فيهن، فبالهجران والتفرق

وقيل: معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن، هجر البعير إذا شدّه بالهجار، وهذا من تفسير الثقلاء! وقالوا: يجب أن يكون ضربًا غير مبرِّح لا يجرحها ولا يكسر لها عظمًا ويجتنب الوجه، وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم: «علق سوطك حيث يراه أهلك»، وعن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضي اللَّه عنهما: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوّام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. ويروى عن الزبير أبيات منها: وَلَوْلَا بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا): فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في مضاجعهن ثانياً، ثم التأديب بالضرب؛ لأن المقصود الإصلاح والدخول في الطاعة؛ لقوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ)، فرتب الوعظ على الخوف من النشوز، فلابد من تقديمه على قرينيه، ومنه نبه على ترتيب قرينيه. قوله: (بالهجار). الأساس: الهجار: حبل يشد به يده إلى رجله، يخالف الشكال. قوله: (بعود المشجب). النهاية: المشجبـ بكسر الميم وفتح الجيمـ: عيدان تضم رؤوسها ويفرج بين قوائمها، وتوضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء. قوله: (ولولا بنوها حولها لخبطتها)، تمامه: كخبطة فروج ولم أتلعثم خبطت الشجر خبطاً: إذا ضربتها بالعصال يسقط ورقها، يتلعثم الرجل في الأمر: إذا تمكث فيه وتأنى. قوله: (والتجني) الجوهري: التجني: التجرم، وهو أن يدعي عليك ذنباً لم تفعله.

وتوبوا عليهنَّ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه، واعلموا أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم. ويروى أن أبا مسعود الأنصارى رفع سوطه ليضرب غلاما له، فبصر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فصاح به: أبا مسعود، للَّه أقدر عليك منك عليه، فرمى بالسوط وأعتق الغلام. أو: (إن اللَّه كان علياً كبيراً) وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجيء عليكم إذا رجع. (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) 35]. (شِقاقَ بَيْنِهِما) أصله: شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على طريق الاتساع، كقوله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ: 33] وأصله: بل مكر في الليل والنهار؛ أو على أن جعل البين مشاقًا والليلُ والنهارُ ماكرين، على قولهم: نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويروى: أن أبا مسعود الأنصاري) الحديث من رواية مسلم وأبي داود والترمذي: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: "اعلم أبا مسعود"، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اعلم أبا مسعود، الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فسقط من يدي السوط، فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار". قوله: (جعل البين مشاقاً). مشاقاً: اسم فاعل، نحو: مختار، ونحوه قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام: 94] برفع "بين".

(حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ): رجلا مقنعاً رضياً يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما، وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما؛ لأنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين، وتبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة وموجبات ذلك ومقتضياته، وما يزويانه عن الأجانب ولا يحبان أن يطلعوا عليه. فإن قلت: فهل يليان الجمع بينهما والتفريق إن رأيا ذلك؟ قلت: قد اختلف فيه، فقيل: ليس إليهما ذلك إلا بإذن الزوجين؛ وقيل: ذلك إليهما، وما جعلا حكمين إلا وإليهما بناء الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما. وعن عبيدة السلماني: شهدت علياً رضي اللَّه عنه وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال عليّ رضي اللَّه عنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رجلاً مقنعاً رضاً). الأساس: فلان لنا مقنع رضاً، أي: مقنع بقوله وقضائه، وشاهد مقنع، وشهود مقانع. قوله: (ذلك غليهما) قال القاضي: قال مالك: لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، قلت: وينصره تكرير ذكر الحكمين في التنزيل ومتعلقهما وإن لم يقل: حكمين من أهليهما، وهو أخصر. قوله: (وعن عبيدة السلماني) بفتح اللام في رواية الكتاب، وفي "جامع الأصول": هو جاهلي إسلامي، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، سمع أكابر الصحابة، واشتهر بصحبة علي رضي الله عنه. عبيدة: بفتح العين وكسر الباء الموحدة وسكون الياء، والسلماني: بفتح السين المهملة وسكون اللام والنون. قوله: (فئام من الناس) فئام: جماعة، ولا واحد له من لفظه، النهاية: الفئام مهموز: الجماعة الكثيرة.

للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما، فقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علىّ: كذب واللَّه لا تبرح حتى ترضى بكتاب اللَّه لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللَّه لي وعليّ. وعن الحسن: يجمعان ولا يفرقان. وعن الشعبي: ما قضى الحكمان جاز. والألف في (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) للحكمين، (وفي يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما) للزوجين؛ أي: إن قصدا إصلاح ذات البين، وكانت نيتهما صحيحة، وقلوبهما ناصحة لوجه اللَّه، بورك في وساطتهما، وأوقع اللَّه بطيب نفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة. وقيل: الضميران للحكمين، أي: إن قصدا إصلاح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كذب، والله لا تبرح) فيه التفات. قال الزجاج: على الحكمين أن يقصدا الإصلاح، وليس لهما طلاق ولا إقرار، وما فعل علي رضي الله عنه فهو فعل للإمام، وللإمام أن يفعل ما رأى فيه؛ فعلي وكلهما فيه وأولاهما ذلك. وفي "المعالم": أصح القولين: أن بعث الحكمين على رضاهما، فيتوقف التطليق على رضاه، والاختلاع بمالها على رضاها، وعليه أصحاب الرأي، لقول علي رضي الله عنهـ حين قال الزوج: أما الفرقة فلاـ: كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به؛ فثبت أن تقييد الأمر موقوف على رضاه. والقول الثاني: أن لا يتوقف على رضاهما كالحاكم يحكم على الخصمين بلا رضاهما، ومن قال بهذا قال: ليس المراد بقوله للرجل: "حتى تقر" أن رضاه شرط؛ بل معناه: أن المرأة رضيت بما في كتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، يعني: ليست الفرقة في كتاب الله؛ فقال علي رضي الله عنه: كذبت؛ حيث أنكرت وقلت: إن الفرقة ليست في كتاب الله؛ فإن قوله: (يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) يشتمل على الفراق وغيره؛ لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر؛ وذلك يكون تارة بالفراق، وتارة بصلاح حالهما في الوصلة. هذا معنى كلام "المعالم". قوله: (الضميران للحكمين). قال الإمام: وها هنا قسم رابع: وهو أن الأول للزوجين

ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق اللَّه بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد. وقيل: الضميران للزوجين، أي: إن يريدا إصلاح ما بينهما، وطلبا الخير، وأن يزول عنهما الشقاق يطرح اللَّه بينهما الألفة، وأبدلهما بالشقاق وفاقًا وبالبغضاء مودة. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً): يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين. (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63]. (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) 36]. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأحسنوا بهما إحسانا (وَبِذِي الْقُرْبى): وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما، (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى): الذي قرب جواره، (وَالْجارِ الْجُنُبِ): الذي جواره بعيد، وقيل الجار القريب: النسيب، والجار الجنب: الأجنبى، وأنشد لبلعاء ابن قيس: لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَداً ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجاوِرٌ جُنُبُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني للحكمين، أي: أن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين إصلاحاً حتى يعملا بالصلاح. وقال القاضي: وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه، أصلح الله مبتغاه. قوله: (وأحسنوا بهما). الأساس: أحسن على أخيه وأحسن به. قوله: (لا يجتوينا) البيت، أي: لا يكرهنا، من: اجتويت البلاد: إذا كرهتها.

وقرئ: (والجار ذا القربى)، نصبا على الاختصاص، كما قرئ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة: 238]؛ تنبيها على عظم حقه؛ لإدلائه بحق الجوار والقربى. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ): هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك؛ إما رفيقًا في سفر، وإما جاراً ملاصقاً، وإما شريكًا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب: المرأة (وَابْنِ السَّبِيلِ): المسافر المنقطع به، وقيل: الضيف، والمختال: التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يتحفى بهم، ولا يلتفت إليهم. وقرئ: والجار الجنب، بفتح الجيم وسكون النون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت)، "أو غير" عطف على المنصوبات. وقوله: "من أدنى صحبة" وصف له، ومن: ابتداء أو بيان، أي: غير ذلك كائناً أو حاصلاً من أدنى صحبة، يعني: في تقييد (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) تعميم معناه، وأريد به أصل الاستعمال لا المتعارف المشهور؛ لأنه لا يقال عرفاً: هو صاحب فلان، إلا إذا رافقه والتزمه، أو وافقه في مذهب؛ فهذا القيد نحو القيد (فِي الأَرْضِ) لـ (دَابَّةٍ) في قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ) [الأنعام: 38] ونظير لـ (طَائِرٍ) في قوله: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ). قوله: (المنقطع به) الجوهري: وانقطع به فهو منقطع به؛ إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو قامت عليه راحلته، وأتاه أمر لا يقدر أن يتحرك. قوله: (فلا يتحفى بهم ولا يلتفت إليهم) أي: لا يتلطف بهم ولا يرحمهم. قوله: (وقرئ: "والجار الجنب") أي: الجار ذي الجنب، أي: الملتصق داره بجنب

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) 37]. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ): بدل من قوله: (مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) [النساء: 36]، أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعاً عليه، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، كأنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دارك. الجوهري: قعدت إلى جنب فلان وإلى جانب فلان بمعنى، وهذه القراءة تنصر قول من قال: الجار القريب النسب والجار الأجنبي. قوله: (وأن يكون مبتدأ خبره محذوف)، فإن قلت: ما الفرق بين هذا، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف كما عليه الوجه الثاني؟ قلت: على الثاني يتصل بقوله: (مُخْتَالاً فَخُوراً) محكوم عليهم بأنهم هم الذين لا يحبهم الله، وهو أبلغ من البدل؛ لما يؤذن بأن البخل أخس أوصافهم، وهو الذي حملهم على أن تكبروا عن إكرام أقاربهم وأصحابهم، وأنهم معروفون مشهورون بكونهم مختالين فخورين؛ لما تقرر أن النصب أو الرفع على المدح أو الذم يقتضي أني كون الموصوف مشهوراً معروفاً، والصفة صالحة للمدح أو للذم. وعلى أن يكون مبتدأ خبره محذوف، والجملة منقطعة عما قبلها جيء بها مستطردة لحكاية من يمنع إحسانه عن الوالدين والأقربين، والوجه الاتصال؛ لأن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) تذييل لقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)، وقد رمز إليه تفسيره "المختال" بـ "التياه: الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه"، ثم لابد من انضمم قوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ليتم به المقصود، ولو جعل (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 38] عطفاً على (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ)؛ ليدخل معنى قوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء: 36] في معنى المذيلـ ليكمل النظم ويبلغ الغاية، ويؤيده قوله بعد هذا: " (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ)، قيل: نزلت في مشركي قريش". وقوله: "حيث حملهم على البخل والرياء" جعلهما وصفين لموصوف واحد، والواو

قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون، أحقاء بكل ملامة. وقرئ (بِالْبُخْلِ) بضم الباء وفتحها، وبفتحتين. وبضمتين، أي: يبخلون بذات أيديهم، وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتًا للسخاء ممن وجد. وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. قال: وَإن امْرَا ضَنَّتْ يَدَاهُ عَلَى امْرِئٍ بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توسطت بينهما؛ ليدل على أنهم جامعون بين وصفين كل واحد منهما مستقل في الرذالة، وأيضاً، المرائي لا يكون إلا فخوراً؛ فكان الذهاب إلى العطف على (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) واتصاله بقوله: (كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) أحرى، فإن قلت: هل يجوز في الموصول الأول القطع للاستئناف؟ قلت: لا يحسن ذلك الحسن؛ لأنه لا يخلو من أن يكون استئنافاً بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث أو صفته، والأول ظاهر البطلان؛ لأن "الذي" وضع وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، والثاني يوجب أن يكون الموصوف بحيث ينبئ عن الوصف؛ ليكون ذريعة لبيان الموجب ليصح التعليل به، كقوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 2 ـ 3]، ولا دلالة في قوله: (مُخْتَالاً فَخُوراً) على هذا الوصف، بل فيه ما يدفعه؛ لأن التياه الفخور أغلب ما يكون جواداً، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: (مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) ـ لما كان تذييلاً للكلام السابق أو استئنافاًـ تضمن معنى البخل الذي يعطيه قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) إلى آخره، وهذا لا يصير إليه صاحب ذوق. قوله: (قرئ: (بِالْبُخْلِ) بضم الباء): كلهم إلا حمزة والكسائي، وبفتحها وسكون الخاء: شاذ، وبفتحتين: حمزة والكسائي، وبضمتين: شاذ. قوله: (وإن امرأ ضنت يداه على امرئ) البيت، يداه: عبارة عن جملته، كقوله تعالى:

ولقد رأينا ممن بلى بداء البخل من إذا طرق سمعه أنّ أحدا جاد على أحد، شخص به، وحلّ حبوته، واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله وكسرت خزانته، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده. وقيل: هم اليهود، كانوا يأتون رجالًا من الأنصار يتنصحون لهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون؟ وقد عابهم اللَّه بكتمان نعمة اللَّه وما آتاهم من فضل الغنى والتفاقر إلى الناس. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إذا أنعم اللَّه على عبد نعمة أحب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) [المسد: 1]، قال: جعلت يداه هالكتين، والمراد هلاك جملته، الجوهري: قولهم: هذا كما قدمت يداك، وهذا ما جنت يداك، أي: جنيته أنت. يقول: إن امرؤ ضن على امرئ بسبب نائل غيره، لشديد البخل. قوله: (شخص به). الجوهري: يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به. قوله: (حل حبوته). النهاية: الاحتباء: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب ويجمعهما مع ظهره، ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين؛ فهو كناية عن الاضطراب والقلق والانزعاج؛ لأن المحتبي متمكن مطمئن ساكن. قوله: (وحسرة على وجوده) أي: وجود الجود، دل بقوله أولاً: "مقتاً للسخاء ممن وجد"، وآخراً: "وحسرة على وجوده" على أن السخاء عندهم مبغوض بالذات، كما أن البخل محبوب بالذات. قوله: (يتنصحون) أي: يتشبهون بالنصحاء. قوله: (وقد عابهم بكتمان نعمة الله) أي: عابهم الله بقوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ) بكتمان نعمة الله، "والتفاقر إلى الناس"، والتفاقر: عطف على "كتمان" على سبيل التفسير. قوله: (إذا أنعم الله على عبد) الحديث مخرج في "مسند" الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

أن يرى نعمته على عبده». وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره، فنمّ به عنده، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه. وقيل: نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) 38 ـ 39]. (رِئاءَ النَّاسِ): للفخار، وليقال: ما أسخاهم وما أجودهم، لا ابتغاء وجه اللَّه. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (فَساءَ قَرِيناً) حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار (وَماذا عَلَيْهِمْ): وأي تبعة ووبالٍ عليهم في الايمان والإنفاق في سبيل اللَّه! والمراد الذم والتوبيخ، وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك، وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت! وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت باراً! وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزئة في العفو والبر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأي تبعة ووبال عليهم! ) قال الزجاج: "وماذا عليهم" يصلح أن يكون اسماً واحداً، المعنى: وأي شيء عليهم؟ ويجوز أن يكون "ذا" في معنى "الذي"، و"ما" وحدها اسماً. قوله: (ولا مرزئة في العفو). الأساس: ما رزاته شيئاً مرزئة ورزءاً: ما نقصته، وما رزأته زبالاً، أي: ما نلت من ماله شيئاً، ولا أصبت منه خيراً.

ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة. (وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً): وعيد. (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً 40 ـ 42]. الذرّة: النملة الصغيرة، وفي قراءة عبد اللَّه: مثقال نملة. وعن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب لكان ظلمًا، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة. (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً): وإن يكن مثقال ذرّة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافًا إلى مؤنث. وقرئ بالرفع على كان التامة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذم وتوبيخ) وإنما نشأ التوبيخ من تقاعد المخاطب على أمر فيه منفعته، وأنه لا غنى له عن فعله، ولا مانع يمنعه من تحصيله، وها هنا ذم الله سبحانه وتعالى البخلاء حين أبدل قوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) من قوله: (مُخْتَالاً فَخُوراً)، وأوعدهم بالعذاب المهين وسماهم كافرين، وذم المرائين بقوله: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) وأوعدهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار، ثم أتبع ذلك ما يحرضهم على الإيمان بالله والإنفاق، وأنهم لا يظلمون مثقال ذرة، ووعدهم باتصال أجر عظيم من لدن رب كريم، فوقع قوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)، (وَأَنفَقُوا) منبهاً لخطأ آرائهم، وتجهيلاً لهم وتوبيخاً على التواني والتقاعد، وأصل استعمال "ماذا عليك" أن يوقع في أمر يجب على المخاطب أن يفعله لما فيه نفعه ومصلحته، فيجعله المتكلم مظنة للوبال والتبعة إرخاء للعنان موبخاً له على التكاسل، كما تقول للمنتقم: ما ضرك لو عفوت؟ قوله: (أنث ضمير المثقال) أي: في (تَكُ) لكونها مضافاً إلى مؤنث، قال صاحب

(يُضاعِفْها): يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية. وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة: بلغني عنك أنك تقول: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «إن اللَّه تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: لا، بل سمعته يقول «إن اللَّه تعالى يعطيه ألفي ألفي حسنة»، ثم تلا هذه الآية. والمراد: الكثرة لا التحديد (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً): ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاءً عظيمًا وسماه (أَجْراً)؛ لأنه تابع للأجر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الفرائد": ولا يمكن أن يكون تأنيثه لتأنيث الخبر، وقال الزجاج: الأصل في (تَكُ): تكون، فسقطت الضمة للجزم، والواو لسكونها وسكون النون، وأما سقوط النون فلكثرة الاستعمال تشبيهاً بحروف اللين؛ لأنها ساكنة، فحذفت استخفافاً كما قالوا: لا أدر ولم أبل، والأجود: لا أدري ولم أبال. قوله: (لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت) يريد أن لابد من المضاعفة؛ لأن الحسنة إذا جوزيت بمثلها انقطعت ويلزم منها انقطاع الزمان، وإذا ضوعفت أديمت فيدوم الزمان بحسب المضاعفة إلى غير المتناهي؛ ولهذا قال: "المراد: الكثرة لا التحديد" وفيه بحث. قوله: (ويعط صاحبها من عنده) جعل (مِن لَّدُنْهُ) بمعنى: من عنده، قال الزجاج: "لدن" لا تتمكن تمكن "عند"؛ لأنك تقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدني صواب، وتقول: عندي مال عظيم، والمال غائب، ولدن: لما يليك لا غير. النهاية: "لدن": ظرف بمعنى: "عند"، إلا أنه أقرب مكاناً من "عند"، وأخص منه؛ فإن "عند" تقع على المكان وغيره، تقول: لي عند فلان مال، أي: في ذمته، ولا يقال ذلك في "لدن". قوله: (وسماه (أَجْراً) لأنه تابع للأجر) أي: هو مجاز عن التفضل؛ لأنه تعالى قال: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) ومضاعفة الحسنة هي الأجر؛ لأنها جزاء الحسنة، وقال بعده:

لا يثبت إلا بثباته. وقرئ: (يضعفها) بالتشديد والتخفيف، من أضعف وضعف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً)، فوجب حمله على معنى زائد على الأجر، وليس ذلك إلا التفضل؛ ولهذا قرن معه (مِن لَّدُنْهُ)، وهذا القيد أيضاً يوجب تقدير الثواب، وأنه بالاستحقاق لا بالتفضل، وتسمية التفضل بالأجر تسمية للشيء باسم مجاوره، وقلت: هذا التعسف إنما يصار إليه إذا قدر مضافاً، وفسر "يضاعفها" بـ: يضاعف ثوابها، وتأول القرآن بالرأي والمذهب، وأما إذا جعلت الحسنة بنفسها مضاعفة، ويترك (مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) على ظاهره ليعلم أن الأجر تفضل منه، وأنه من لدنه لا باستحقاق العمل؛ كما عليه مذهب أهل الحق، فأي حاجة لنا إلى ارتكاب تلك التعسفات! وكان لنا مخلصاً من تلك الورطات! ومما يدل على إمكان مضاعفة الحسنة نفسهاـ وإن لم يعلم كيفيتهاـ ما روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة عن طيبـ ولا يقبل الله إلا الطيبـ إلا أخذها الرحمن بيمينهـ وإن كانت تمرةـ فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه وفصيله"، الفلو: المهر الصغير، والمراد بتضاعفها أي: يكتب ثوابها مضاعفاً، ويثبت في صحف كرام الكاتبين، ثم يؤتي في الآخرة (مِن لَّدُنْهُ) ـ أي: من فضلهـ (أَجْراً عَظِيماً). وينصره ما رويناه في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها"، وفي رواية أخرى: "إلا أن يتجاوز الله عنها"، والعجب من القاضي وصاحب "التقريب" كيف قررا في هذا المقام كلام المصنف ولم ينبه عليه صاحب "الانتصاف". قوله: (وقرئ: "يضعفها" بالتشديد)، ابن كثير وابن عامر، والباقون: بالتخفيف.

وقرأ ابن هرمز: (نضاعفها) بالنون. (فَكَيْفَ) يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يشهد عليهم بما فعلوا، وهو نبيهم، كقوله: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة: 117]. (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ) المكذبين (شَهِيداً). وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة النساء على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى بلغ قوله: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فبكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: «حسبنا». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَكَيْفَ) يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم؟ ) يريد أن الإشارة بقوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) إلى جميع من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً هذه الآية ناظرة إلى فاتحة السورة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [النساء: 1]، وهي كالتخلص إلى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) [النساء: 43]، كما كان قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) [النساء: 26] إلى قوله: (أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 40] تخلصاً إلى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء: 29]. قوله: (وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة الساء)، روينا عن البخاري ومسلم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي القرآن"، ثم ساق الحديث إلى قوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)، قال: "حسبك الآن"، فالتفت فإذا عيناه تذرفان، وفي رواية مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: "شهيداً ما دمت فيهم "أو" كنت فيهم"، وهذا يدل على أن البكاء كان للإشفاق كما قال عيسى عليه السلام حين عوتب بقوله: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116]: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة: 117]. وروي عن المصنف أن هذا كان بكاء فرح، لا بكاء جزع؛ لأنه تعالى جعل أمته شهداء على سائر الأمم، وقال الشاعر: طفح السرور علي حتى إنه ... من فرط ما قد سرني أبكاني

(لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ): لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، وقيل: يودّون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، وقيل: تصير البهائم تراباً، فيودّون حالها. (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً): ولا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم، وقيل الواو للحال، أي: يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون اللَّه حديثاً. ولا يكذبون في قولهم: (واللَّهِ رَبِنَا مَا كُنَّا مُشركِينَ [الأنعام: 23]؛ لأنهم إذا قالوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما تسوى بالموتى). المغرب: وفي الحديث: قدم زيد بشيراً بفتح بدر حين سوينا على قرية، يعني: دفناها وسوينا تراب القبر، هذا يدل على أن الباء في (تُسَوَّى بِهِمْ) بمعنى "على"، كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ) [آل عمران: 75]، ويجوز أن تكون للسببية، أي: بسبب دفنهم، وعلى القولين الآخرين بمعنى "مع". قوله: (وقيل: الواو للحال) أي: في (وَلا يَكْتُمُونَ)، وهو على الأول عطف على قوله: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ)، قال صاحب "المرشد": الوقف على (الأَرْضُ) كاف وليس بحسن؛ لأن قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) داخل في التمني؛ لأن جوارحهم تنطق بما فعلوه من الشرك وسوء الأفعال، يتمنون أن الأرض لو سويت بهم، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً؛ لأن قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23] كذب كتمان؛ فإذا ظهر عليهم وشهدت جوارحهم ودوا أنهم لم يكذبوا ولم يكتموا الله حديثاً، فإن حمل (وَلَا يَكْتُمُونَ) على الاستئنافـ لأن ما عملوا ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه ولا يكون داخلاً في التمنيـ حسن الوقف. قوله: (ولا يكذبون) وهو عطف على قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) على سبيل البيان والتفسير؛ لأن المعني بالكتمان هو جحدهم شركهم؛ وذلك أدى إلى أن ختم على أفواههم وتكلمت جوارحهم بتكذيبهم فافتضحوا لذلك، وعنده تمنوا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يتفوهوا بالكذب.

ذلك وجحدوا شركهم، ختم اللَّه على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض: وقرئ: تسوى، بحذف التاء من تتسوى. يقال: سويته فتسوّى نحو: لوّيته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين، كقوله: (يَسَّمَّعٌونَ) [الصافات: 8]، وماضيه أسوى كأزكى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ (تسوى) بحذف التاء) حمزة والكسائي، وبإدغام التاء: نافع وابن عامر، والباقون: بضم التاء مخففاً. ***

[) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (]. روي أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (روي أن عبد الرحمن بن عوف)، روينا عن الترمذي وأبي داود، عن عليٌّ رضي الله عنه، قال: صنع لنا ابن عوفٍ طعاماً فأكلنا، وسقانا خمراً قبل أن تحرم فأخذت منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، قال: فخلطت، فنزلت: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارَى). اعلم أنه تعالى بعد ما أتم بيان أحكام ذوي الأرحام، وأطنب فيه وفيما يتعلق بها؛ أخذ في بيان شرع آخر من الأحكام التي تتعلق بالعبادة، وهي: إما أن تتعلق بالقلوب، أو بالجوارح، والأول: إما أن يختص بالله عز وجل، أو بالخلق؛ فالذي يختص بالله هو المراد بقوله: (واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36] والذي يتعلق بالخلق هو المراد بقوله: (وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وبِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْجَارِ) [النساء: 36]، ثم حث على التواضع والجود بذم الكبر والبخل بقوله: (إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء: 36]، (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [النساء: 37]، وذم الإنفاق الذي لا يكون لوجه الله، وقرنه بالكفر حيث قال: (والَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 38]، وبالغ في قلع الرياء وقمع الشرك الخفي حيث ترقى إلى نفي الشرك الجلي بقوله: (ومَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 39]، ثم حرض على الإخلاص في الإنفاق بقوله: (إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الآية [النساء: 40]، ثم أتى

رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت. فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها. ومعنى) لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ (لا تغشوها ولا تقوموا إليها، واجتنبوها، كقوله: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء: 32]، (لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [الأنعام: 151]. وقيل معناه: ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) وقيل: هو سكر النعاس وغلبة النوم، كقوله: ......... وَرَانُوا ... بِسُكْرِ سِنَاتِهِمْ كُلَّ الرُّيُونِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الأعمال ما يتعلق بالجوارح وخص بالصلاة التي هي أعظمها، وقدم ذكر ما هو متوقفٌ عليه من رفع الجنابة والحدث بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ). قوله: (ثملوا)، الجوهري: ثَمِلَ الرجل- بالكسر- ثَمَلاً: إذا أخذ فيه الشراب، فهو ثَمِلٌ، أي: نشوان. قوله: (كل الريون)، الرين والغين: ما يركب القلب، ران الرجل بالشراب وران الشراب بالرجل: إذا جعله رايناً، أي: ثقيلاً، والسنات: جمع سنة، وهي مقدمة النوم. قوله: ((رانوا)) من المصراع الأول، و ((بسكر)) من المصراع الثاني، ووجد في ((ديوان الطرماح)) ممن قصيدته: وركب قد بعثت إلى ردايا ... طلائح مثل أخلاق الجفون مخافة أن يرين النوم فيهم ... بسكر سناتهم كل الريون الردية: الناقة المهزولة. طلائح: جمع طليحة، وهي ناقةٌ جهدها السير وهزلها.

وقرئ: (سكارى) بفتح السين. (وسكرى) على أن يكون جمعاً، نحو: هلكى وجوعى، لأن السكر علة تلحق العقل. أو مفرداً بمعنى: وأنتم جماعةٌ سكرى، كقولك: امرأة سكرى وسكرى بضم السين كحبلى على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى بالفتح والضم. (وَلا جُنُباً): عطفٌ على قوله: (وَأَنْتُمْ سُكارى)؛ لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً، والجنب: يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب. (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ): استثناء من عامة أحوال المخاطبين، وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن السكر علة)، أي: باب فعلٍ للعلل والأمراض. قوله: (كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً)، فإن قلت: ما فائدة المخالفة بين الحالين؟ قلت- والعلم عند الله-: فائدتها: الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر منافٍ لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية، دل عليه الخطاب ب ((أنتم))؛ ولهذا قرنه بقوله: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب؛ ومن ثم رخص لهم بالأعذار. قوله: (والجنب يستوي) إلى آخره. من هذا يعلم أن كل اسمٍ يقع موقع المصدر يجري فيه ما ذكر، ولا تختص به المصادر، كرجلٍ عدلٍ وامرأةٍ عدل؛ ولهذا وصف الجنب بالجمع في قوله: ((بالجنب الذين لم يغتسلوا))، قال أبو البقاء: : والجنب يفرد مع التثنية، والجمع في اللغة الفصحى يذهب به مذهب الوصف بالمصادر، ومنه من يجمعه ويثنيه. قوله: (من عامة أحوال المخاطبين)، أراد بالمخاطبين: المجنبين، ولهم أحوالٌ جمةٌ ما عدا حال السفر، فنهوا عن قربا الصلاة إلا في حال السفر، يعني: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنبٌ على تقديرٍ من التقادير، وفي حالٍ من الأحوال إلا في حال السفر.

الحال والحال التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها، وهي حال السفر، وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالاً، ولكن صفة لقوله: (جُنُباً)، أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل، أي: جنباً مقيمين غير معذورين. فإن قلت: كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب: الذين لم يغتسلوا كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة) و ((إلا)) - على الصفة- بمعنى ((غير))، والفرق بين أن يكون حالاً وبين أن يكون صفةً هو أنه- على الحال- يفيد أنه لا يجوز قربان الصلاة في حال الجنابة قط؛ إلا أن يكون مسافراً؛ فدل الحصر على أن العذر غير متعدد، ثم مجيء قوله: (وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) يبطل معنى الحصر، بخلافه إذا جعل صفة، ويكون المعنى: لا تقربوا الصلاة جنباً مقيمين، فيحسن: (وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)؛ لجواز ترادف القيد. قال صاحب ((المفتاح)): إذا قلت: زيدٌ المنطلق، أو: المنطلق زيدٌ؛ لزم ألا يكون غير زيدٍ منطلقاً؛ ولذلك ينهى أن يقال: زيدٌ المنطلق وعمرو، بالواو، ولا ينهى: زيدٌ المنطلق لا عمرو. قوله: (كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ ) هذا السؤال واردٌ على مفهوم قوله: ((لا تقربوا الصلاة جنباً مقيمين غير معذورين))؛ لأن ضمير ((صلاتهم)) راجعٌ إليهم؛ فدل مفهوم الوصف على جواز قربان الصلاة للجنب عند طرآن السفر، وأجاب: أن ليس المراد بالجنب كل من أجنب، بل أريد: الجنب المقيم الواجد للماء؛ لقرينة (حَتَّى تَغْتَسِلُوا)، ولذلك قدر: ((غير مغتسلين حتى تغتسلوا)). المعنى: لا تقربوا الصلاة مع هذا القيد حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين، فإن الحكم حينئذٍ غير ما ذكر، وهو جواز قربان الصلاة مع كونه جنباً فاقداً للماء.

مغتسلين حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال: من فسر الصلاة بالمسجد: معناه: لا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه. وقيل إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد فرخص لهم. وروي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب إلا لعلي رضى اللَّه عنه، لأن بيته كان في المسجد. فإن قلت: أدخل في حكم الشرط أربعة؛ وهم: المرضى، والمسافرون، والمحدثون، وأهل الجنابة فبمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم؟ قلت: الظاهر أنه تعلق بهم جميعاً، وأنّ المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه؛ فلهم أن يتيمموا، وكذلك السفر إذا عدموه لبعده، والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج: الصعيد: وجه الأرض ترابا كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه؛ لو ضرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا كان الطريق فيه إلى الماء). هذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وجوز الشافعي رحمه الله للجنب عبور المسجد مطلقاً. قوله: (أو يمر به وهو جنبٌ لعلي رضي الله عنه). روينا عن الترمذي، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي، لا يحل لأحدٍ يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك))، وقال علي بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى الحديث؟ قال: لا يحل لأحدٍ يستطرقه جنياً غيري وغيرك. قوله: (الصعيد: وجه الأرض). قال الزجاج: قال الله تعالى: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) [الكهف: 107]، أعلم الله أن الصعيد يكون زلقاً، والصعدات: الطرقات، وإنما سمي

المتيمم يده عليه ومسح، لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبى حنيفة رحمة اللَّه عليه. فإن قلت: فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة: 6] أي: بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت. قالوا: إنّ «من» لابتداء الغاية. فإن قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض، قلت: هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صعيداً لأنها نهاية ما يصعد عليه من باطن الأرض، ولا أعلم بين أهل اللغة اختلافاً في أن الصعيد: وجه الأرض. واستدل الشافعي بأن التركيب يدل على الارتفاع والعلو، ولا يكون الارتفاع إلا من الغبار. قوله: (من المراء) المراء: المجادلة، وأصل استعماله في الشك، وقد أنصف المصنف من نفسه في هذه المسألة وهو حنفي! الانتصاف: ويحتمل أن تعود الهاء في (مِنْهُ) على الحدث المذكور، كما تقول: تيممت من الجنابة؛ وهي إما للتعليل، أو لابتداء الغاية. قلت: يبعد أن يترك اللفظ الصريح القريب ويعتبر البعيد المتأول، على أن قوله: (فَتَيَمَّمُوا) متسببٌ عن كونهم محدثين؛ لأنه جواب الشرط فلا يحتاج إلى تعليلٍ آخر، وعليه قول أبي العلاء: سطوت ففي وظيف الصعب قيدٌ ... بذاك وفي وتيرته عران إذا جعل المشار إليه الاستعصاء لا السطو؛ لئلا يلزم التكرار في التعليل.

(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً): كناية عن الترخيص والتيسير، لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر أن يكون ميسراً غير معسر. فإن قلت: كيف نظم في سلكٍ واحدٍ ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوظيف: مستدق الذراع، والصعب: نقيض الذلول، والوتيرة: حجاب ما بين المنخرين، والعران: العود الذي يجعل في وتيرة أنف البختي. قوله: (كنايةٌ عن الترخيص والتيسير) يريد أن قوله: (إنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًا غَفُورًا) كالتعليل بقوله: (وإن كُنتُم مَّرْضَى) إلى آخره، والعفو والغفران يستدعيان سبق جرم، وليس في ذلك الإعذار ما يشم منه رائحته؛ فلا يصح إجراؤه على ظاهره، فوجب العدول إلى الترخيص والتيسير، ويؤيده مجيء قوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة: 6] في مثل هذه الآية في المائدة، وفي تخصيص الوصفين إدماجٌ لشدة لإيجاب الطهارة في الصلاة، وأن أصل الأمر أن لا يؤتى بها إلا بالطهارة الكاملة؛ لأنها مثولٌ بين يدي جبار السماوات والأرض، وأن الترخيص بالطهارة بالتراب بابٌ من العفو والغفران، وإذا كان حال الطهارة الظاهرة إلى هذه المثابة، فما بال الطهارة الباطنة! ثم في مثل هذا التشديد في مقدمات الصلاة إيذانٌ بعلو منزلتها ورفعة مرتبتها، وكيف لا وهي أعظم العبادات التي ما خلقت الكائنات إلا لها! ومن ثم فصلت آية المائدة بقوله: (ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6] والله أعلم. قوله: (كيف نظم في سلكٍ واحد؟ ) أي: هذه المذكورات الأربعة أسبابٌ لأشياء مختلفة، فكيف جمعها بحرف النسق والجهة الجامعة مفقودة؟ وخلاصة الجواب: أن المسببات وإن اختلفت لكن جمعها حكمٌ واحد، وهو الرخصة في التيمم؛ لأن الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لجميع الأمة الذين وجب عليهم التطهر، وأعوزهم الماء لأعذار جمةٍ من المرض، والسفر، والخوف من العدو السبع، والحبس، وعدم آلة الاستقاء، وغير ذلك مما يدخل تحت هذا المعنى، وأقدمها في استحقاق الرخصة وأغلبها وقوعاً: السفر والمرض،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [فخصهما] بالذكر أولاً بقوله: (وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)، ثم عطف عليهما قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) على إرادة أنهما مشتملان على سائر ما يدخل تحت العذر على طريقة قوله: (ولَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المَثَانِي والْقُرْآنَ العَظِيمَ) [الحجر: 87] عطف القرآن- وهو مجموع التنزيل- على قوله: (سَبْعًا مِّنَ المَثَانِي) وهو الفاتحة؛ ليؤذن بتقدمها على مزيد شرفها؛ فعلى هذا (أَوْ) في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم) غير التي في قوله: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ)، لأنها عطفت على مجموع جنسٍ واحد، وهو على كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء على نوعيه، قال القاضي: ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدثٌ أو جنب، والحال المقتضية في غالب الأمر مرضٌ أو سفر، والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله، والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملاً؛ كأنه قيل: وإن كنتم جنباً: مرضى أو على سفر، أو محدثين جئتم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً. وقلت: هذا التفسير متفرعٌ على مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الملامسة على هذا بمعنى المس لا الجماع. روى مالكٌ عن ابن عمر، أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء. وعنه أيضاً، عن ابن مسعودٍ أنه كان يقول: من قبلة الرجل امرأته الوضوء. وبيان ذلك أن قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) عطفٌ من حيث المعنى على قوله: (جُنُبًا)، فلما ذكر المقتضي للترخص في المعطوف عليه- أعني المرض والسفر- استغنى عن ذكره في المعطوف؛ فحينئذٍ التقدير: لا تقربوا الصلاة وأنتم

بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم بالتراب، فخص أوّلاً من بينهم مرضاهم وسفرهم؛ لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء؛ لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. وقرئ: من غيط، قيل هو تخفيف غيط، كهين في هين. والغيط بمعنى الغائط. [(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً حتى تغتسلوا، ولا محدثين من الغائط أو اللمس حتى تتوضؤوا وإن كنتم مرضى أو على سفر، سواءٌ كنتم مجنبين أو محدثين فلم تجدوا ماءً فتيمموا، هذا أبعد من التعسف وأقرب إلى حسن النظم؛ لأن المقصود من الآية بيان النهي عن قربان الصلاة للموانع الثلاثة؛ أعني: السكر والجنابة والحدث، وبيان الترخص في المانعين الأخيرين عند طرآن العذر، ولا يلزم أيضاً التكرير في حكم المجنبين. قوله: (أو إرهاق) الجوهري: يقال: أرهقني فلانٌ إثماً حتى رهقته، أي: حملني إثماً حتى حملته له. قوله: (وقرئ: من غيط) قال أبو البقاء: وهي قراءة ابن مسعود، وفيه وجهان، أحدهما: هو مصدر يغوط، وكان القياس غوطاً فقلبت الواو ياءً وأسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، وثانيهما: أنه أراد الغيط فخفف، مثل: سيد وميت، والجمهور: الغائط، على فاعل، والفعل منه: غاط المكان يغوط: إذا اطمأن.

(أَلَمْ تَرَ) من رؤية القلب، وعدى بـ (إلى) على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟ (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظاً من علم التوراة، وهم أحبار اليهود (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ): يستبدلونها بالهدى، وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ: (أن يضلوا) بالياء؛ بفتح الضاد وكسرها. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم، ولا تستشيروهم (وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً) فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بهم فإن اللَّه ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم. [(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ )، وذلك أن فعل القلوب يتعدى بنفسه إلى مفعولين، وحيثما تعدى- ((إلى)) وجب أن يجعل بمعنى النظر، أو يضمن معنى الانتهاء. قال الزجاج: (أَلَمْ تَرَ) بمعنى: ألم تخبر؟ وقال أهل اللغة: ألم تعلم؟ : ألم ينته علمك إلى هؤلاء، ومعناه: اعرفهم. قوله: (ويُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا): السبعة، و (((أن يضلوا)) بالياء؛ بفتح الضاد وكسرها): شاذ، وهو من قولهم: ضللت الدار والمسجد: إذا لم تعرف موضعها. قوله: (ولا تستنصحوهم) أي: لا تقبلوا نصيحتهم.

غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)]. (مِنَ الَّذِينَ هادُوا): بيان لـ (لذين أوتوا نصيباً من الكتاب)؛ لأنهم يهود ونصارى، وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقوله: (وَكَفى بِاللَّهِ)، (وَكَفى بِاللَّهِ): جُمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض؛ أو بيان لـ"أعدائكم"، وما بينهما اعتراض أو صلة لـ (نصيراً) [النساء: 45]، أي: ينصركم من الذين هادوا، كقوله: (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهم يهودٌ ونصارى) يهودٌ صح بالتنوين، وإن كان فيه علميةٌ وتأنيث؛ لأنه أريد التنكير، وفي نسخةٍ بغير تنوين، قال المصنف: من الأسماء ما يتعاقب عليه التعريفان: التعريف باللام وبالعلمية، كاليهود والمجوس. قوله: (أو بيان ل ((أعدائكم)) وما بينهما اعتراض) بيانه: أن قوله تعالى: (واللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) [النساء: 45] بعد قوله: (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ) [النساء: 44] المشتمل على الفريقين: اليهود والنصارى، مشعرٌ بتهديدٍ عظيم، ووعيدٍ شديدٍ لبعضٍ منهم على سبيل الإبهام، فبين بقوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ذلك البعض المبهم، والآية تنظر إلى معنى قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى) [المائدة: 82]. وعلل العداوة على طريقة الاستئناف بقوله: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ) [المائدة: 13]، كأن سائلاً سأل: لم تفردت اليهود بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم دون النصارى؟ فقيل: لأنهم حرفوا اسمه ووصفه من التوراة وكتموا الحق وأخذوا على ذلك الرشى وأظهروا المسبة بقولهم: (رَاعِنَا) [البقرة: 104] إخفاءٍ لأمره، وحطا لمنزلته، ولما كان الكلام فيه تسليةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعدٌ على نصرته وقهر أعدائه؛ كان قوله: (وكَفَى بِاللَّهِ ولِيًا وكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) [النساء: 45] اعتراضاً ومؤكداً له، وفي تكرير الاعتراض دلالةٌ على الانتقام الشديد والتسلية التامة. قال الزجاج: (واللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ)، أي: هو أعرف بهم فيعلمكم ما هم عليه.

الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الأنبياء: 77]، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله: وَمَا الدَّهْرُ إلّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِى الْعَيْشَ أَكْدَحُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكَفَى بِاللَّهِ ولِيًا وكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) أعلمهم الله تعالى أن عداوة اليهود وغيرهم من الكفار لا تضرهم شيئاً؛ إذ ضمن لهم النصرة والولاية، وظهر بهذا التقدير ضعف قول صاحب ((الانتصاف)): إن المراد بتحريف الكلم ها هنا مثل قولهم: (غَيْرَ مُسْمَعٍ ورَاعِنَا)، ولم يقصد ها هنا تبديل الأحكام لقوله تعالى: (لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ)، وأما في المائدة فالظاهر أن المراد الأحكام وتبديلها كالرجم؛ لقوله عقبه: (إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) [المائدة: 41]، فظهر مناسبة (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) [المائدة: 41] في المائدة؛ لأنهم نقلوا الحكم عن موضعه الذي وضعه الله تعالى فيه، واستقر فيه؛ فصار بنقله كالغريب، ولا يوجد مثله في تحريف الكلم إلا على بعد، ولولا اشتمال لفظهم على السخرية لما عظم أمره. وقلت: والعجب أنه كيف ذهل عن قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء: 44] وهل الاشتراء والإضلال إلا في التبديل والتحريف وأخذ الرشى عليه؟ وكذا عطف (يَقُولُونَ) على (يُحَرِّفُونَ) يقتضي المغايرة. قوله: ((ونَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا))، قال المصنف: ((هو النصر الذي مطاوعه: انتصر)). الأساس: نصره الله على عدوه ومن عدوه، وانتصرت منه، ويجوز أن يكون مضمناً معنى انتقم. الجوهري: نصره الله على عدوه ينصره نصراً، وانتصر منه: انتقم. قوله: (وما الدهر إلا تارتان) البيت، الكدح: العمل والسعي والكسب، أي: الدهر قسمان: قسمٌ يموت فيه الشخص، وقسم يعيش فيه ولكن في تعب؛ يريد أنه لا راحة فيه.

أي: فمنهما تارة أموت فيها. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ): يميلونه عنها ويزيلونه؛ لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ): يميلونها عنها). الراغب: حرف الشيء: طرفه، وحروف الهجاء: أطراف الكلمة، وانحرف عن كذا وتحرف واحترف، والاحتراف: طلب حرفةٍ للمكتسب، والحرفة: الحالة التي يلزمها في ذلك نحو القعدة والجلسة، وتحريف الشيء: إمالته كتحريف القلم، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرفٍ من الاحتمال، يمكن حمله على الوجهين، قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ). قوله: (لأنهم إذا بدلوه) تعليلٌ لتأويل (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) بقوله: ((يزيلونه))؛ لأن حقيقته يحرفونه ويميلونه. المغرب: الحرف: الطرف، ومنه الانحراف والتحرف: الميل إلى الحرف، وفي التنزيل: (مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ) [الأنفال: 16]، أي: مائلاً له وأن يصير بحرفٍ لأجله، وهو من مكائد الحرب. ف (يُحَرِّفُونَ) إذا كان بمعنى ((يزيلون)) كان كناية؛ لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه. واختلاف التفسيرين بحسب اختلاف القول في فعل اليهود بتغيير التوراة. قال الإمام: وفي كيفية التحريف وجوه: الأول: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظٍ آخر، نحو تحريفهم ((أسمر ربعة)) عن موضعه ووضع ((آدم طوالٌ)) موضعه، ونظيره قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ) [البقرة: 79]، فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر؟ قلنا: لعل القوم كانوا قليلين وكذا العلماء فتواطؤوا على التبديل. الثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وجر اللفظ من

وضعها اللَّه فيها، وأزالوه عنها. وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم: «آدم طوال» مكانه، ونحو تحريفهم: «الرجم» بوضعهم «الحدّ» بدله. فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة: (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [المائدة: 41]؟ قلت: أمّا (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة اللَّه وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معناه الحق إلى باطلٍ بوجوه الحيل اللفظية؛ كما تفعله المبتدعة في زماننا. الثالث: أنهم كانوا يحرفون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقلت: يؤيد الأول ما روينا في ((صحيح البخاري)) عن عبد الله بن عباس، قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، لشتروا به ثمناً قليلاً! قوله: (طوال) الطوال بالضم: الطويل، يقال: طويلٌ وطوال، يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال محيي السنة: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)، (مَّوَاضِعِهِ) يعني: صفة محمدٍ صلوات الله عليه. وفي قوله: ((أسمر ربعةٌ)) نظرٌ؛ لأنه كان ربعةً من القوم، أبيض مشرباً بحمرة، رواه الترمذي عن إبراهيم بن محمدٍ من ولد علي. قوله: (هو قمنٌ) بالتحريك والكسر، أي: خليق. الجوهري: يقال: أنت قمنٌ أن تفعل كذا بالتحريك، أي: خليقٌ وجدير، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.

حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان. وقرئ: "يحرّفون الكلام" والكلم - بكسر الكاف وسكون اللام-: جمع كلمة؛ تخفيف كلمة. قولهم: (غَيْرَ مُسْمَعٍ) حال من المخاطب، أي: اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ، أي: اسمع منا مدعوا عليك بـ: لا سمعت؛ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنيان متقاربان) وذلك أن ((عن)) للمجاوزة و ((بعد)) نقيض قبل، والمجاوزة عن الشيء مسبوقٌ باستقباله والوصول إليه بعد أن يكون [ذلك] الشيء قارًّا في مكانه. ومعنى قوله: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) [المائدة: 41]: من بعد أن كان قارًّا في موضعه ثابتاً فيه لا ينبغي أن يزال عنه. نعم، الثاني أبلغ؛ لأن اقتضاء الاستقرار فيه من مقتضى ذلك الشيء، ولهذا قال: ((هو قمنٌ بأن يكون فيها))، وفي الأول: من أمرٍ خارجيٍّ وهو المراد بقوله: ((أوجبت حكمة الله وضعه فيها)). قوله: (تخفيف كلمة). قال المصنف: كما يقال: اللبن في جمع اللبنة تخفيف اللبنة. قوله: (وهو قولٌ ذو وجهين) وهو المسمى في البديع بالتوجيه، وهو: إيراد كلامٍ محتملٍ لوجهين مختلفين الذم والمدح. الراغب: السمع: قوةٌ في الأذن بها تدرك الأصوات، وفعله يقال له: السمع أيضاً، وقد سمع سمعاً، ويعتبر تارةً بالسمع عن الأذن، قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) [البقرة: 7]، وتارةً عن الطاعة؛ تقول: اسمع ما أقول لك، و: لم تسمع ما قلت، أي: لم تفهم، وقوله: (سَمِعْنَا وعَصَيْنَا) [النساء: 46] أي: فهمنا ولم نأتمر بك، وقوله: (واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) [النساء: 46] إما دعاءٌ للإنسان أو دعاءٌ عليه، فالأول نحو: أسمعك الله، أي: لا جعلك الله أصم، والثاني نحو: أسمعت فلاناً، إذا سببته، وروي أن أهل الكتاب كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ويوهمون أنهم يدعون له وهم يدعون عليه بذلك.

لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالاً على أنّ قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة؛ أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه: غير مسمعٍ جواباً يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئاً؛ أو اسمع غير مسمعٍ كلاماً ترضاه، فسمعك عنه نابٍ. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول "اسمع"، أي: اسمع كلاماً غير مسمع إياك؛ لأن أذنك لا تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح، أي: اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلاناً: إذا سبه. وكذلك قولهم (راعِنا) يحتمل: راعنا نكلمك، أي: ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانيةٍ كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا سخرية بالدين، وهزؤا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والإكرام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه لو أجيبت) تعليل قوله: ((يحتمل الذم)) أي: (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يحتمل الذم؛ لأنه لو أجيبت دعوتهم لكان أصم، فعلى هذا (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يجري مجرى اللازم واردٌ على الدعاء، ولهذا لم يقدر له معمولاً كما قدره في الوجوه الآتية. قوله: (ويجوز على هذا) أي: على أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه لجامع نبو السمع عن المسموع. واعلم أن قوله: (غَيْرَ مُسْمَعٍ) إما حالٌ من فاعل ((اسمع))، أو مفعولٌ به؛ وعلى الأول: إما هو من حذف المتعلق للتعميم، أو مُجَرى مجرى اللازم، وهو المراد من قوله: ((وأنت غير مسمع)) أو يقدر له معمولٌ إما جواباً أو كلاماً. ولما كان هذا المعنى الأخير موافقاً لتقدير المفعول به قرنه به. قوله: (يحتمل: راعنا نكلمك) إلى آخره، جملةٌ مستأنفةٌ على سبيل البيان لوجه التشبيه، أي: قولهم هذا أيضاً قولٌ ذو وجهين يحتمل إذا أريد (رَاعِنَا) نكلمك، والذم إذا كانت شبه كلمةٍ عبرانية. قوله: (فكانوا سخريةً) مسببٌ عن قوله، وهو قوله: (قولٌ ذو وجهين))، يعني: إذا كان هذا القول ذا وجهين فهم أهل سخرية، أو كانوا يكلمونه سخريةً واستهزاءً.

(لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ): فتلا بها وتحريفاً، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا)، و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع: لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً. فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا: (سمعنا وعصينا)؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. وقرأ أبيّ: (وأنظرنا)، من الإنظار وهو الإمهال. فان قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)؟ قلت إلى (أَنَّهُمْ قالُوا)؛ لأن المعنى: ولو ثبت قولهم: (سمعنا وأطعنا) لكان قولهم ذلك (خيراً لهم وَأَقْوَمَ) وأعدل وأسدّ، (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي: خذلهم بسبب كفرهم، وأبعدهم عن ألطافه، (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيماناً (قَلِيلًا)، أي: ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره، أو أراد بالقلة العدم، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: يفتلون بألسنتهم) إشارةً إلى أن (لَيًا) حالٌ من فاعل (يَقُولُونَ)، قال أبو البقاء والكواشي: (لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ) مفعولٌ له، أو مصدرٌ في موضع الحال، أي: لاوين ألسنتهم استهزاءً وكذلك (وطَعْنًا)، والأصل في ((ليّ)): لوي؛ فقلبت الواو ياءً وأدغمت. قوله: (ويجوز أن يقولوه) أي: سمعنا وعصينا. قوله: (لأن المعنى: ولو ثبت قولهم) يريد أنه ثبت في النحو أن الواقعة بعد ((لو)) في تأويل الفاعل للفعل المقدر؛ لأن ((لو)) لابد أن يليها الفعل. قال القاضي: وإنما يجب حذف الفعل بعد ((لو)) في مثل ذلك لدلالة ((أن)) عليه ووقوعه موقعه.

قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ أى عديم التشكي، أو (إلا قليلاً) منهم قد آمنوا. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)]. (أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها؛ فالمعنى: أن نطمس وجوها فننكسها، الوجوه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قليل التشكي للمهم يصيبه). تمامه: كثير الهوى شتى النوى والمسالك أي: هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فنٍّ واحد؛ بل يتجاوز إلى فنونٍ مختلفةٍ، صبورٌ على النوائب، لا يكاد يشتكي منها، واستعمل لفظ القليل وقصد به إلى نفي الكل، والمعنى على هذا: ليس لهم إيمانٌ إلا إيماناً يدل على أن لا إيمان لهم ألبتة، كقوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولَى) [الدخان: 56]. قوله: (أو (إلاَّ قَلِيلاً) منهم قد آمنوا) فعلى الأول (إلاَّ قَلِيلاً) مستثنىً من مصدر (يُؤْمِنُونَ)، وعلى هذا ((من)) فاعله. قوله: (والفاء للتسبيب) فيكون إرادة الطمس سبباً لردها على أدبارها، أي: أردنا أن نردها إلى أدبارها ففعلنا، فلا يكون الرد غير الطمس؛ ولهذا قال: ((فنجعلها على هيئة أدبارها)). قوله: (فالمعنى: أن نطمس وجوهاً) جزاءٌ لقوله: ((وإن جعلتها للتعقيب)).

إلى خلف، والأقفاء إلى قدّام؛ ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة؛ وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم، أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم، أو نردهم إلى حيث جاءوا منه، وهي: أذرعات الشام، يريد: إجلاء بنى النضير. فإن قلت: لمن الراجع في قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) قلت: للوجوه؛ إن أريد الوجهاء، أو لأصحاب الوجوه؛ لأن المعنى: من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى (الَّذِين َأُوتُوا الْكِتابَ) على طريقة الالتفات. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ): أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجهٌ آخر) عطفٌ على قوله: ((أي: نمحو تخطيط صورها))، يريد أن الطمس مشتركٌ بين محو الأثر وقلب الحقيقة. الأساس: طمس الأثر وانطمس، وطمسته الريح، وطمس على أموال آل فرعون، ذكره في قسم الحقيقة. والمعنى الثاني: لما لم يكن ظاهراً في الوجوه جعلها عبارةً عن الوجهاء، وفسر الطمس بتغيير أحوالهم وقلب العز إلى ذل؛ لذلك قال: ((فنسلبهم إقبالهم ونكسوهم صغارهم)). قوله: (أو نردهم) عطفٌ على قوله: ((فنسلبهم))، والفاء في ((فنسلبهم)) للتسبيب لا غير كما سبق؛ لأن معنى سلب إقبالهم ومعنى تغيير حال وجهائهم واحد، والفاء في ((نردهم)) المقدر قيل: يحتمل التعقيب أيضاً، على معنى أن يكون الإجلاء بعد تغيير أحوالهم، فيكون عقاباً غب عقاب، والتسبب أظهر لقوله بعده: ((فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام)). قوله: (وجوه قوم) فعلى هذا التنوين في قوله تعالى: (وجُوهًا) عوضٌ من المضاف إليه، وعلى الأول: للتفخيم؛ ولهذا قال: ((وجهائهم)). قوله: (على طريقة الالتفات) أراد الالتفات من الخطاب المستفاد من البدء في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) إلى الغيبة في قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ).

أصحاب السبت. فإن قلت: فأين وقوع الوعيد؟ قلت: هو مشروط بالإيمان، وقد آمن منهم ناس، وقيل: هو منتظر، ولا بدّ من طمسٍ ومسخٍ لليهود قبل يوم القيامة؛ ولأنّ اللَّه أوعدهم بأحد الأمرين؛ بطمس وجوه منهم، أو بلعنهم- فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم- أو إجلائهم إلى الشام، فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن، فإنهم ملعونون بكل لسان، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ؛ ألا ترى إلى قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) [المائدة: 60]. (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا): فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. [(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)]. فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو مشروطٌ بالإيمان) صح من الأصل، أي: بعدم الإيمان، كقوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا) [النساء: 176]، أي: كراهة أن تضلوا. قوله: (ولأن الله أوعدهم) جوابٌ آخر، يعني أنه تعالى جاء ب ((أو)) في قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) فلابد من وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، وإما اللعنة. ثم الطمس إن أريد به سلب الإقبال أو الإجلاء إلى الشام فقد حصلا، أما الإجلاء فلا ارتياب فيه، وأما سلب الإقبال فهو بضرب الجزية عليهم، وإن أريد طمس وجوههم على أدبارهم حقيقةً كما في الوجه الأول، فهو وإن لم يحصل؛ فقد حصل اللعن. قوله: (والظاهر) عطفٌ على قوله: ((أو نجزيهم بالمسخ)، والسؤال لا يرد على هذا؛ لأن اللعن واقعٌ، فإنهم ملعونون بكل لسان، وبين وجه الظهور بقوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ ... ) الآية [المائدة: 60] لأنه تعالى عطف (وجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والْخَنَازِيرَ) - وهو المسخ- على قوله: (لَّعَنَهُ اللَّهُ)؛ فالظاهر المغايرة بين المعطوفين.

قد ثبت أن اللَّه عزّ وجلَّ يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد ثبت أن الله تعالى يغفر الشرك لمن تاب) إلى آخره، توجيهه: أنه ثبت عند علماء أهل العدل أن حكم الشرك وما دونه من الكبائر سواءٌ في أنهما لا يغفران قبل التوبة ويغفران بعدها، فما وجه قوله: (لا يَغْفِرُ) و ((يغفر))؟ وما فائدة التقييد بقوله: (لِمَن يَشَاءُ)؟ وجه الجواب: أن فائدة التقييد أن يبين به عدم التوبة في الأول، والتوبة في الثاني. انظر إلى هذا التعسف حيث جعل الأمرين المتنافيين متوجهين إلى معنىً واحد، يراد به معنيان متضادان معاً! الانتصاف: عسر الآية بتفسيرها على مذهبه؛ لأنه إن كان المراد ((لمن لم يتب)) فيهما، فلم قيد ما دون الشرك؟ وإن كان المراد ((لمن تاب)) فلم أطلق الشرك؟ فتأولها كما ترى، على أن التوبة عندهم موجبةٌ للعفو؛ فلا يجوز تعليقها بالمشيئة. وقال القاضي: فيه تقييدٌ بلا دليل؛ إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من الوعد، ونقضٌ لمذهبهم؛ فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة، ووجوب الصفح بعدها، فالآية كما هي حجةٌ عليه. وقلت: أما المثال الذي ذكره وهو ((أن الأمير لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله))؛ فلا يصح للاستشهاد؛ لأنه يحتمل أن يراد به أن الملك حكيمٌ حازمٌ في أموره عازفٌ بما يفعله لا يعطي إلا من يستحقه ولا يمنع إلا من لا يستحقه؛ لأنه يضع الشيء في موضعه، وأن يراد أنه ذو جبروتٍ مستبدٌّ برأيه، ومتصرفٌ في ملكه كيف شاء أو أراد، على أن المقام يقتضي الثاني كما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) [آل عمران: 128]. الراغب: إن قيل لمَ لم يشترط في قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) التوبة؟ قيل: إن المشرك إنما يلزمه الاسم ما دام يلزمه الوصف؛ فإذا زال وصفه زال اسم الشرك

الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)؟ قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى قوله تعالى: (لِمَنْ يَشاءُ)، كأنه قيل: إن اللَّه لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أنّ المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب، ونظيره قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً) أي: ارتكبه وهو مفترٍ مفتعل ما لا يصح كونه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه؛ فإذا كان كذلك فالمشرك ما دام مشركاً لا يغفر له، ومن تاب زال عنه اسم الشرك، فإذاً التائب الذي يغفر له ليس هو المشرك، بل هو المؤمن في الحقيقة، ومتى أطلق عليه اسم المشرك فعلى اعتبار الماضي. وقوله: (أَن يُشْرَكَ بِهِ) موضعه النصب، أي: لا يغفر الشرك، وقيل: لا يغفر من أجل أن يشرك به، أي: لا يغفر من أجل الشرك شيئاً من الذنوب. تنبيه: إن الذنوب قد تغفر مع انتفاء الشرك كما قال: (إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]. قوله: ((فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا)، أي: ارتكبه) قال القاضي: أي: ارتكب ما يستحقر دونه الآثام، وهو إشارةٌ إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الآثام، والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل، وكذلك الاختلاق. وقلت: لا يعلم منه أنه مشتركٌ أو مجازٌ وحقيقةٌ. والظاهر من كلام المصنف أنه- أي: ارتكبه- استعارةٌ تبعية، شبه ما لا يصح كونه من الفعل بما لا يصح ثبوته من القول، ثم استعمل في الفعل ما كان مستعملاً في القول من الافتراء، وإليه الإشارة بقوله: ((مفتعلٌ ما لا يصح كونه)).

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)]. (الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ): اليهود والنصارى، قالوا: (نحن أبناء اللَّه وأحباؤه) [المائدة: 18]، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) [البقرة: 111]، وقيل: جاء رجال من اليهود إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأطفالهم، فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: "لا"، قالوا: واللَّه ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند اللَّه. فإن قلت: أما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «واللَّه إني لأمين في السماء أمين في الأرض»؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة؛ إكذاباً لهم، إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله تعالى) عطفٌ على ((زكى نفسه)) على سبيل البيان، كأن الذي ذكره هو حد التزكية، قال القاضي: التزكية: نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً. وقال الراغب: التزكية: إما بالفعل؛ وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهير بدنه، وذلك يصح أن ينسب إلى العبد، كقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، وإلى من يأمره بفعله، كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا) [التوبة: 103]. وإما بالقول؛ وذلك بالإخبار عنه بذلك، ومدحه به، ومحظورٌ على الإنسان أن يفعل ذلك بنفسه، لا بالشرع فقط؛ بل بمقتضى العقل أيضاً من غير داعٍ إلى ذلك، فالتزكية في الحقيقة هي: الإخبار عما ينطوي عليه الإنسان، ولا يعرف ذلك إلا الله؛ ولهذا قال: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ). قوله: (إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة) يعني أنه صلوات الله

من شهد اللَّه له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم. (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ): إعلام بأن تزكية اللَّه هي التي يعتدّ بها، لا تزكية غيره؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه ما قال ذلك افتخاراً؛ بل قاله إخباراً عما شرفه الله بتلك الكرامة، وردًّا لمن وصفه بخلاف ما وصفه الله تعالى إبلاغاً لما أوحي إليه، روينا عن البخاري ومسلمٍ وأبي داود والنسائي، عن أبي سعيدٍ في حديثٍ طويل، وفيه: بعث عليٌّ رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبيةٍ في تربتها؛ فقسمها بين أربعة، وفيه: فأقبل رجلٌ غائر العينين ناتئ الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد، اتق الله! فقال: ((فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني! ))، فسأل خالد بن الوليد قتله، فمنعه، وفي روايةٍ لمسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءًا! )). قوله: (إعلامٌ بأن تزكية الله هي التي يعتد بها) يعني: قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) كلامٌ واردٌ على الإضراب لما سبق، فوجب تنزيل ما قبل كلمة الإضراب على ما يصح أن يكون مضرباً عما بعدها، وهو إثبات تزكيةٍ منهم لأنفسهم لا يعتد بها؛ لأجل أنهم جاهلون عاجزون، كأنهم لما زكوا أنفسهم ادعوا أنهم عارفون بأحوال أنفسهم وأنها صالحةٌ للتزكية، لما فيها من الخلال المرضية، وأنهم قادرون أيضاً على استيفاء جميع ما يستحقونه من الثواب على ما لأجله زكوا أنفسهم، وهو العمل والطاعة والتقوى، فرد عليهم ذلك بأن قيل لهم: ليس كما تزعمون؛ بل الله هو وحده يزكي، ولا يزكي إلا من يشاء وأراده واصطفاه لذلك بأن وفقه لقمع رذائل النفس الأمارة، وهداه إلى العروج إلى مدارج الكمال ومعارج القدس، وأنه هو وحده قادرٌ على الوفاء بما يستأهلونه من الزلفى عنده والكرامات، فيوفيهم على النقير والقطمير، هذا على أن يجعل (ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) تكميلاً لقوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) وإليه لمح بقوله: ((يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم)).

لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى (يزكي من يشاء): يزكي المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي: الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم، ونحوه (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم: 32]. (كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) في زعمهم أنهم عند اللَّه أزكياء! (وَكَفى) بزعمهم هذا (إِثْماً مُبِيناً) من بين سائر آثامهم. [(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)]. الجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون اللَّه، والطاغوت: الشيطان. وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقالوا: أنتم أهل كتابٍ وأنتم أقرب إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا جعل تأكيداً لمعنى الإنكار والتعجب المتولد من الوعيد في قوله: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ)؛ كان تذييلاً له، وإليه الإشارة بقوله: ((يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم))، واتصال قوله: (انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ) بما قبله من حيث إنه تعالى لما عجبه صلوات الله عليه من تزكيتهم أنفسهم ونسبهم إلى الجهل والعجز؛ أمره بالتفكر في مآل [تلك] التزكية، وأنها تؤدي إلى الافتراء على الله، وادعاء أنهم مقربون عند الله ذوو زلفى؛ لأن المزكى من طهره الله من جميع الآثام ومحضه من الرذائل، واصطفاه لقربه، وهذا أعظم ما ينبئ عن الجهل والعجز؛ ولذلك قال تعالى: (وكَفَى بِهِ إثْمًا مُّبِينًا)، وأشار المصنف إليه بقوله: (((وكَفَى) بزعمهم هذا (إثْمًا مُّبِينًا) من بين آثامهم)). ثم إنه تعالى كرر كلمة التعجب، وهو قوله: (أَلَمْ تَرَ) لإناطة نوعٍ آخر من قبائح أهل الكتاب بها.

محمدٍ منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب:ماذا يقول محمد؟ قالوا يأمر بعبادة اللَّه وحده، وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني، وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلاً. [(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً* فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)]. وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شرّ خصلتين؛ يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة غيرهم فقال: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) على أن (أم) منقطعة، ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ثم قال: (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنتم أهدى سبيلاً) فيه إشعارٌ بأن قوله تعالى: (هَؤُلاءِ) وضع موضع (أَنتُمْ) ليميزه أكمل تمييز؛ فعلى هذا قوله: (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) معناه: أنهم يخاطبون غيرهم لأجل الذين كفروا، وأن سبيل هؤلاء ظهر ظهور المحسوس فلا يبقى مع أحدٍ فيه شكٌّ عناداً منهم، وتغطيةً للحق الواضح الجلي، ولعل الله تعالى وضع موضع قولهم الدال على الظلم قوله: (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إشعاراً بأنهم ظلموا في ذلك حيث وضعوا الذم موضع المدح. قوله: (وهما شر خصلتين) أي: إذا اعتبر الخصال خَصْلتَيْنِ خَصْلتَيْنِ، فهما شر كل خَصْلتَيْنِ خَصْلتَيْن، وأما إفراد ((شر)) فلجواز إفراده ومطابقته، والإفراد أخصر. قوله: (فقال: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ) يتعلق بقوله: ((وصف اليهود)) يعني: أراد أن يصفهم بالبخل فقال: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ)، وبالحسد فقال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ).

أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير؛ لفرط بخلهم، والنقير: النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك: إما ملك أهل الدنيا، وإما ملك اللَّه كقوله: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء: 100]، وهذا أوصف لهم بالشح، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن، ويجوز أن يكون معنى الهمزة في (أم) لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة، كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً. وقرأ ابن مسعود: (فإذاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لطباقه) الضمير ل ((هذا))، وقد أضاف إلى الفاعل، و ((نظيره)): مفعوله، وإنما كان أوصف لهم بالشح وأحسن لطباق القرآن؛ لأنه أعرق في بيان شحهم حيث جعل نصيبهم من الملك ما ليس شيءٌ أوسع منه، وهو ملك الله، ووصف منعهم لشيءٍ ليس شيءٌ أقل منه، وهو النقرة في النواة، فأعرق في طرفي الإفراط والتفريط. قوله: (الإنكار أنهم قد أوتوا) والفرق بين الوجهين أن الإنكار على الأول متوجهٌ إلى أن يكون لهم نصيبٌ من الملك فقط، أي: ليس لهم نصيب، فالفاء جزاءٌ لشرطٍ محذوف، يعني: إن قدر أن لهم نصيباً فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً، وإليه أشار بقوله: ((لو كان لهم نصيبٌ من الملك))، وعلى الثاني متوجهٌ إلى أن يكون لهم نصيب، وإلى أنهم لا يؤتون أحداً شيئاً؛ فالإنكار منصبٌ على الأمرين، يعني: أوتوا نصيباً من الملك ليشكروا وينفقوا في سبيل الله؛ فجعلوه سبباً للإمساك، كقوله تعالى: (وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]، فالفاء سببيةٌ، نحو اللام في قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا) [القصص: 8]. قوله: (وكانوا أصحاب أموالٍ وبساتين)، واستشهادٌ لإثبات الملك لهم، وهي جملةٌ حالية؛ فالهمزة على الثاني للإنكار والتقرير، ومعناه: لما كان، وعلى الأول للإنكار فقط، ومعناه: لم يكن.

لا يؤتوا)، على إعمال "إذن" عملها الذي هو النصب، وهي ملغاة في قراءة العامة، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيراً إذن. (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ): بل أيحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين؟ على إنكار الحسد واستقباحه! وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم اللَّه من النصرة والغلبة وازدياد العزّ والتقدّم كل يوم. (فَقَدْ آتَيْنا): إلزام لهم بما عرفوه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على إعمال ((إذن)) عملها الذي هو النصب، وهي ملغاةٌ في قراءة العامة)، قال الزجاج: وأما رفع (يُؤْتُونَ) فعلى معنى: فلا يؤتون الناس نقيراً إذن، ومن نصب قال: فإذن لا يؤتوا، وهو شاذ، والمصحف لا يخالف. قال سيبويه: ((إذن: في عوامل الأفعال بمنزلة ((أظن)) في عوامل الأسماء))، فإذا ابتدأت ((إذن)) وأنت تريد الاستقبال نصبت لا غير، تقول: إذن أكرمك، فإذا جعلتها معترضةً ألغيتها فقلت: أنا إذن أكرمك، فإن أتيت بها مع الواو والفاء قلت: فإذن أكرمُك، وإن شئت: فإذن أكرمَك، فمن نصب بها جعل الفاء ملصقةً بها في اللفظ والمعنى، ومن رفع ((أكرمُك)) جعل ((إذن)) لغواً، وجعل الفاء في المعنى معلقةً ب ((أكرمُك))، المعنى: فأكرمُك إذن، وتأويل ((إذن)): إذا كان الأمر كما ذكرت أو كما جرى. قوله: (كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيراً إذن) ولما كان ((إذن)) جواباً وجزاءً فلابد من السؤال، والسؤال هنا مقدر، فكأنه لما قيل منكراً: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ)، أي: ليس لهم ذلك ولا ينبغي، اتجه لسائلٍ أن يقول: فلو قدر أن يكون لهم نصيبٌ من الملك فماذا يكون حينئذٍ؟ فقيل: فلا يؤتون الناس نقيراً، ثم أقحم ((إذن)) توكيداً. قوله: (على إنكار الحسد) متعلقٌ بقوله: ((بل أيحسدون)) من حيث المعنى، يعني: ((أم)) منقطعةٌ بمعنى ((بل))، والهمزة واردةٌ على إنكار الحسد. قوله: ((فَقَدْ آتَيْنَا): إلزامٌ لهم بما عرفوه) فالفاء في (فَقَدْ) مثلها في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ ونَذِيرٌ) [المائدة: 19] وقول القائل:

إيتاء اللَّه الكتاب والحكمة. (آلَ إِبْراهِيمَ): الذين هم أسلاف محمد صلى اللَّه عليه وسلم وأنه ليس ببدع أن يؤتيه اللَّه مثل ما أوتي أسلافه. وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان. وقيل: استكثروا نساءه، فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ (فَمِنْهُمْ): فمن اليهود، (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي: بما ذكر من حديث آل إبراهيم. (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وأنكره مع علمه بصحته؛ أو: من اليهود من آمن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومنهم من أنكر نبوّته؛ أو: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر كقوله: ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا أي: إن صح ما قلتم من أن خراسان المقصد؛ فقد جئناه، وأين لنا الخلاص؟ فالمعنى: إن حسدتموه على إيتاء الكتاب والحكمة والملك؛ فقد علمتم أن ذلك ليس ببدع؛ لأن أسلافه قد أوتوا ذلك. قوله: (ما أوتي أسلافه) صح بالرفع؛ لأن ((أوتي)) مسندٌ إليه، ومفعوله الثاني محذوفٌ، أي: أوتي أسلافه إياه. قوله: (وقيل: استكثروا نساءه) ولا يبعد أن يعد هذا من بدع التفاسير لما يلزم من اختصاص الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران: 173] والمراد نعيم بن مسعود، كما يقال: فلانٌ يركب الخيل. وتأويل (يَحْسُدُونَ): يتعيبون؛ لأنهم ما حسدوه صلى الله عليه وسلم باستكثار النساء بل عابوه، وأبعد من ذلك تأويل قوله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54] بقوله: ((وقد كان لداود مئةٌ)) إلى آخره، والتفسير هو الأول.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد: 26]. [(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)]. (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أبدلناهم إياها. فإن قلت: كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعص؟ قلت: العذاب للجملة الحساسة، وهي التي عصت لا للجلد. وعن فضيل: يجعل النضيج غير نضيج. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «تبدّل جلودهم كل يوم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ) قبله: (ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبْرَاهِيمَ وجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ) [الحديد: 26]. هذا هو الوجه؛ لأن الفاء تفصيليةٌ لابد من سبق مجمل، وذلك هو قوله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ) [النساء: 54] لقوله: (وجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ)، وآل إبراهيم يدخل فيه المسلمون والمشركون واليهود والنصارى. قوله: (العذاب للجملة الحساسة) قال الإمام: المعذب هو الإنسان، والجلد ليس منه، بل هو كالشيء الملتصق به، فإذا جدد الله الجلد حتى صار سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيباً إلا للعاصي، وكذا عن القاضي والزجاج. وقلت: هذا مبنيٌّ على أن الإنسان غير البدن. قوله: (وعن فضيل: يجعل النَّضيج غير نَضيج) فالمغايرة في الصفة لا في الذات، كقولك: بدلت الخاتم قرطاً، والوجه ما قال الإمام أيضاً: أنه لا يسأل عما يفعل، بل إنه تعالى قادرٌ على أن يوصل إلى أبدانهم آلاماً عظيمةً من غير إدخالهم النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.

سبع مرّات». وعن الحسن: سبعين مرّة يبدّلون جلوداً بيضاء كالقراطيس (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ): ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك اللَّه أي: أدامك على عزّك وزادك فيه. (عَزِيزاً): لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين (حَكِيماً) لا يعذب إلا بعدل من يستحقه. [(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً* إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)]. ظَلِيلٌ: صفة مشتقة من لفظ الظلّ؛ لتأكيد معناه. كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك؛ وهو ما كان فيناناً لا جوب فيه، ودائماً لا تنسخه الشمس، وسجسجاً لا حرّ فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة، رزقنا اللَّه بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل! وفي قراءة عبد اللَّه: "سيدخلهم" بالياء. (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) الخطاب عامّ لكل أحد في كل أمانة. وقيل: نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار، وكان سادن الكعبة. وذلك: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيناناً) أي: كثير الأفنان منبسطاً متصلاً لا فرج فيه لالتفات الأشجار. قوله: (وسجسجاً). النهاية: وفي الحديث: ((ظل الجنة سجسج))، أي: معتدلٌ لا حر فيه ولا قر، ومنه حديث ابن عباس: ((هواؤها السجسج)). قوله: (سادن الكعبة). النهاية: سدانة الكعبة: خدمتها وتولى أمرها وفتح بابها وإغلاقه، يقال: سدن يسدن سدانة فهو سادنٌ، والجمع: سدنة.

وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال: لو علمت أنه رسول اللَّه لم أمنعه، فلوى علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يده، وأخذه منه وفتح، ودخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة، فنزلت، فأمر عليًّا أن يردّه إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعليّ: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال: لقد أنزل اللَّه في شأنك قرآناً، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً رسول اللَّه، فهبط جبريل وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً. وقيل هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل. وقرئ: (الأمانة) على التوحيد. (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ): «ما» إما أن تكون منصوبة موصوفة بـ (يعظكم) به، وإما أن تكون مرفوعة موصولة به، كأنه قيل: نعم شيئاً يعظكم به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلوى عليٌّ رضي الله عنه يده) فإن قلت: كيف لوى يده وهو على سطح الكعبة، والباب مغلقٌ وعليٌّ رضي الله عنه لم يتخلص إليه؟ قلت: في الكلام حذف، يعني: صعد عثمان سطح الكعبة من خوف دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، فقيل له: إنه مع عثمان، فدعاه فنزل وجاء، فطلب منه فامتنع وأبى ... إلى آخره. وفي ((معالم التنزيل)) ما يقارب من هذا المعنى، ومن هذا الأسلوب: قوله تعالى: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) [يوسف: 49 - 50] أي: فرجع إليه الرسول وأخبره بمقالة يوسف، وسمع الملك به، ونزع إليه وقال: إيتوني به. قوله: (موصولة به) أي: ب (يَعِظُكُم) أي: ((ما)) موصولةٌ صلتها (يَعِظُكُم)، قال أبو البقاء: (نِعِمَّا يَعِظُكُم): الجملة خبر (إنَّ)، و ((ما)) إما بمعنى الشيء معرفةٌ تامة و (يَعِظُكُم) صفة موصوفٍ محذوفٍ وهو المخصوص بالمدح، أي: نعم الشيء شيءٌ يعظكم به، ويجوز: نعم الشيء شيئاً يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أو ((ما)) بمعنى ((الذي)) وما بعدها صلتها، وهو فاعل ((نعم)) والمخصوص محذوف، أي: نعم الذي يعظكم به بتأدية الأمانة

أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعما يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وقرئ (نعما) بفتح النون. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً)]. لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل؛ أمر الناس بأن يطيعوهم، وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولي الأمر منكم: أمراء الحق؛ لأن أمراء الجور اللَّه ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على اللَّه ورسوله في وجوب الطاعة لهم، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين، ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحكم بالعدل، قيل: في كلامه نظر؛ لأنه قد تقرر أن فعل نعم إذا كان مظهراً التزم أن يكون محلىًّ بلام الجنس أو مضافاً إليه، خرجه في ((المفصل))، والجواب ما قال ابن الحاجب في قوله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) [البقرة: 90] جاز أن يكون ((ما)) بمعنى: الذي، وجاز أن تقع فاعله، لما فيها من الإبهام، كالمعرف باللام، أي: لام الجنس. قوله: (وقرئ: ((نعما)) بفتح النون): ابن عامرٍ وحمزة والكسائي؛ لأن أصله: ((نعم)) فأتى به على الأصل. قوله: (لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم) مذهبه، لما روينا عن مسلمٍ والدارمي، عن عوف بن مالك، عن

طاعة لي عليكم. وعن أبى حازم: أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)؟ قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)! وقيل: هم أمراء السرايا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة الله)). قوله: (وعن أبي حازم) الجامع: هو أبو حازمٍ سلمة بن دينارٍ المدني القاضي، من عباد أهل المدينة وثقاتهم والمشهور من تابعيهم، روى عنه مالكٌ والثوري وابن عيينة وغيرهم. قوله: (أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإن تَنَازَعْتُمْ)) يعني: الفاء في (فَإن تَنَازَعْتُمْ) متصلةٌ بالأخير، مستدعيةٌ لما ترتب عليه من جملةٍ بأن يقال: وأطيعوا أولي الأمر منكم إن لم تنازعوهم في شيءٍ من الحق بما كانوا على المنهج المستقيم، فإن تنازعتم فيه بانحرافهم عن العدل: فلا؛ ولذلك لم يعد ((أطيعوا)) كما أعاد في (وأَطِيعُوا الرَّسُولَ)؛ ليؤذن بأنه لا استقلال لهم في الطاعة استقلال الرسول، ألا ترى كيف عقب بقوله: (إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ) [النساء: 59] إلهاباً وتهييجاً؟ يعني: قضية الإيمان بالله، وبأن لا مصير إلا إليه؟ وأن لا حكم إلا له: أن لا يأخذكم في الله لومة لائم، وأن لا تجاملوهم بصدق الأمير، بل خاصموهم ونازعوهم وردوهم إلى الحق البحت والصدق المحض، وذلك خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً. قوله: (السرايا). النهاية: السرية: طائفةٌ من الجيش يبلغ أقصاها أربع مئة، تبعث إلى العدو، وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري أي: النفيس.

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من أطاعنى فقد أطاع اللَّه ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميرى فقد أطاعنى ومن يعص أميرى فقد عصاني». وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ): فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين، (فردّوه إلى اللَّه ورسوله)، أى: ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة أمراء الجور. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من أطاعني فقد أطاع الله)، الحديث رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة. قوله: (هم العلماء الدينون). روى محيي السنة، عن ابن عباسٍ وجابرٍ: أولو الأمر: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله: (ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]. وروى الدارمي عن عطاءٍ، أنه قال: (أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ): أولي العلم والفقه، وطاعة الرسول: إتباع الكتاب والسنة. قال القاضي: قوله تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ) أي: أنتم وأولو الأمر منكم (فِي شَيْءٍ) من أمور الدين، هذا يؤيد أن يراد بأولي الأمر: أمراء المسلمين؛ إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس، إلا أن يقال: الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات، أي: إن تنازعتم في شيءٍ فيرد العلماء إلى الكتاب والسنة. واستدل به منكرو القياس لأنه أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس. وأجيب بأن رد المختلف إنما يكون بالتمثيل والبناء على الكتاب والسنة، وهو القياس. وقال الزجاج: لا يخلو الرد من أحد الأمرين إما القياس، وإما أن يقولوا: الله ورسوله أعلم.

وقد جنح اللَّه الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولاً بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم، وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل. وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة، ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتابٍ ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند اللَّه ورسوله، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة. (ذلِكَ): إشارة إلى الرد، أي: الرد إلى الكتاب والسنة (خَيْرٌ) لكم وأصلح، (وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا): وأحسن عاقبة. وقيل: أحسن تأويلاً من تأويلكم أنتم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر). الأساس: ومن المجاز: هو مقصوص الجناح: للعاجز، وهو في جناح طائر: إذا وصف بالقلق والدهش، وركب جناحي نعامةٍ: إذا جد في الأمر وعجل. جعل الأمر بطاعة أولي الأمر بمنزلة الطائر الذي يحتاج في نهوضه للطيران إلى جناحين، وجعل أحد جناحيه أداء الأمانة والعدل، والآخر التمسك بالكتاب والسنة؛ فهو من الاستعارة المكنية المستلزمة للتخييلية، ووجه التشبيه هو افتقار ما به يقدر على سرعة المشي المطلوب، فكما أن الطائر يفتقر في طيرانه إلى الجناحين؛ فكذا الأمير في تنفيذ أمره يفتقر إلى هاتين الخصلتين؛ ولذا قيل: الدين والملك توأمان، وفيه إدماجٌ، لافتقار المتصدي لأمر الخلافة إلى هاتين الخصلتين. قوله: (بما لا يبقى معه شكٌّ) أي: في أنه لا يلزم طاعة أمراء الجور. قوله: (وأحسن عاقبةً). الأساس: ومن المجاز: طبخت الدواء حتى آل المنوان منه إلى منٍّ واحد، وتقول: لا تعول على الحسب تعويلاً فتقوى الله أحسن تأويلاً، أي: عاقبةً. قوله: (من تأويلكم أنتم) أي: رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة ليعلم الحكم بهما: أحسن من جهة الحكم من الرد إلى تأويلكم ليعلم الحكم من تأويلكم، وفيه أن الكتاب

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)]. روي أن بشراً المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقضى لليهودي، فلم يرضَ المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول اللَّه فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء اللَّه ورسوله، فنزلت. وقال جبريل: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أنت الفاروق". والطاغوت: كعب بن الأشرف، سماه اللَّه طاغوتاً لإفراطه في الطغيان، وعداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والسنة مقدمان على القياس والاجتهاد؛ ولذا أكد الضمير المجرور بالمرفوع تتميماً للمعنى، فالتأويل على حقيقةٌ. الأساس: أول القرآن وتأوله، وأول الحكم إلى أهله: رده إليهم. ذكره في الحقيقة. قوله: حتى برد). النهاية: أي: مات. قوله: (سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان). الأساس: فلانٌ طاغٍ باغٍ، وتمادى به الطغيان والطغوى، وأطغاه ماله. النهاية: الطاغوت: الشيطان، أو: ما يزين لهم أن يعبدوه من الأصنام، والطاغوت يكون واحداً وجمعاً.

أو على التشبيه بالشيطان، والتسمية باسمه؛ أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول اللَّه على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان، بدليل قوله: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ). وقرئ (بما أنزل)، و (ما أنزل) على البناء للفاعل. وقرأ عباس بن الفضل: (أن يكفروا بها) ذهاباً بالطاغوت إلى الجمع، كقوله: (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) [البقرة: 257]. وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام، على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفاً، كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية، كعافية، وكما قال الكسائي في: "آية": إن أصلها «آيية» فاعلة، فحذفت اللام، فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام، من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو على التشبيه) عطفٌ على قوله: ((لإفراطه في الطغيان)) من حيث المعنى، وقوله: ((أو جعل اختيار التحاكم)) عطفٌ على قوله: ((الطاغوت: كعب بن الأشرف))، يعني: الطاغوت، يجوز أن يراد به كعب بن الأشرف لطغيانه؛ سمي به إما مراعاةً لوجه التناسب بين الاسم والمسمى، أو على التشبيه بالشيطان واستعارة اسمٍ له كتسمية الرجل بالأسد؛ لما وجد فيه من الخداع [والجريرة] كالشيطان، وأن يراد به الشيطان نفسه، فيكون حكماً عامًّا فمن يختار التحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيه كعب بن الأشرف دخولاً أولياً، وينصر هذا الوجه إيقاع قوله: (وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) حالاً من الضمير المرفوع في (يَتَحَاكَمُوا) وإيراد قوله: (ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ) عطفاً على الحال، أو حالاً من الضمير المرفوع في (يَكْفُرُوا)، والشيطان مظهرٌ وضع موضع المضمر، وعلى الوجهين الأولين لا يلتئم هذا الالتئام؛ لأنهم إنما أمروا أن يكفروا بالشيطان لا بكعبٍ في قوله تعالى: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة: 256]. قوله: (وقرأ عباس بن الفضل). في ((أسماء الرجال)) للذهبي: هو عباس بن الفضل الأنصاري المقرئ بالموصل، ولي القضاء، وهو واهي الحديث.

تعال، فضمت فصار (تعالوا)، نحو تقدموا، ومنه قول أهل مكة: تعالي، بكسر اللام للمرأة، وفي شعر الحمداني: تَعَالِي أُقَاسِمْك الْهمُومَ تَعَالِي والوجه فتح اللام. (فَكَيْفَ) يكون حالهم؟ وكيف يصنعون؟ يعني أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمراً ولا يوردونه .. (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من التحاكم إلى غيرك، واتهامهم لك في الحكم. (ثُمَّ) حين يصابون فيعتذرون إليك، و (يَحْلِفُونَ) ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك (إِلَّا إِحْساناً) لا إساءة (وَتَوْفِيقاً) بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك، ولا تسخطاً لحكمك، ففرج عنا بدعائك، وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار عند حلول بأس اللَّه. وقيل: جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي شعر الحمداني) هو أبو فراسٍ سعيد بن حمدان يخاطب حمامةً قبله: أيا جارةً ما أنصف الهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي تعالي تري روحاً لدي ضعيفةً ... تردد في جسم يعذب بال أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ... ويسكت محزونٌ ويندب سال قوله: (ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك (إلاَّ إحْسَانًا) لا إساءةً) من التراكيب التي منعها صاحب ((المفتاح)). قوله: (وقيل: جاء أولياء المنافق) عطفٌ على قوله: ((فكيف يكون حالهم وكيف يصنعون؟ ))، فعلى الأول: الاستفهام في (فَكَيْفَ): تعجيبٌ للسامع من حال عجزهم عند الاعتذار، والثاني: استبعادٌ لما يصدر منهم من الأفعال التي كل واحدٍ منها أبعد وأنكر

وقد أهدره اللَّه، فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ): لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً): بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار. فإن قلت: بم تعلق قوله: (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ قلت: بقوله: (بَلِيغاً) أي: قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم، مؤثراً في قلوبهم، يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند اللَّه، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف؛ أو يتعلق بقوله: (قُلْ لَهُمْ) أي: قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الآخر، يعني: ألا ترى إلى مكابرتهم كيف تحاكموا إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم ثم علموا أن صاحبهم مهدر الدم جاؤوا يطلبون بدمه، والعاقل لا يفعل شيئاً مثل هذا الفعل. قوله: (نجم منهم النفاق وأطلع قرنه) مقتبسٌ من الحديث: ((الشمس تطلع بين قرني الشيطان))، قال خباب: ((هذا قرنٌ قد طلع)) أراد قوماً أحداثاً نبغوا بعد أن لم يكونوا، يعني القصاص. قوله: (وأنه لا فرق بينكم) عطفٌ على قوله: ((أن ما في نفوسهم))، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، وهو قريبٌ من قوله تعالى: (سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ) [آل عمران: 12] بالتاء والياء. قوله: (وما هذه المكافة؟ ) أي: المحاجزة عن الحرب. الأساس: كففته عن الشر، فكف عنه، فهو كافٌّ ومكفوف، كافوهم أي: حاجزوهم، وتكافوا: تحاجزوا.

وأنّ اللَّه يعلم ما في قلوبكم، لا يخفى عليه فلا يغني عنكم إبطانه، فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم، وداووها من مرض النفاق وإلا أنزل اللَّه بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشراً من ذلك وأغلظ؛ أو قل لهم في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم، مسارًّا لهم بالنصيحة؛ لأنها في السر أنجع، وفي الإمحاض أدخل (قولاً بليغاً): يبلغ منهم ويؤثر فيهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن الله يعلم ما في قلوبكم) عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: ((بليغاً))، فالبليغ: من البلاغة، ولهذا أتى بالكلام الشافي والبيان الوافي، قال الزجاج: يقال: قولٌ بليغ، وقد بلغ القول، وبلغ الرجل يبلغ بلاغةً، وهو بليغٌ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. الراغب: القول البليغ: إذا اعتبر بنفسه، فهو ما يجمع أوصافاً ثلاثةً: أن يكون صواباً، وطبقاً للمعنى المقصود به لا زائداً ولا ناقصاً عنه، وصدقاً في نفسه، وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق ويجد من المقول له قبولاً، ويكون وروده في الموضع الذي يجب أن يورد فيه. وعلى الأول، أي: إذا تعلق: (فِي أَنفُسِهِمْ) بقوله: (بَلِيغًا)، البليغ: من البلوغ والوصول؛ ولهذا قال: مؤثراً في قلوبهم، فجعل (أَنفُسِهِمْ) ظرفاً ليتمكن القول في قلوبهم تمكن المظروف في الظرف. قوله: (أو قل لهم في أنفسهم خالياً بهم) عطفٌ على قوله: ((قل لهم في معنى أنفسهم)) هذا الوجه مشتركٌ مع الوجه الثاني من حيث إن (فِي أَنفُسِهِمْ) متعلقٌ ب ((قل))، ومع الوجه الأول في التأثير، والفرق بين التأثيرين اختلاف الجهة، وهو أن المؤثر هناك إيقاع (أَنفُسِهِمْ) ظرفاً للقول، وها هنا النصيحة في السر. قوله: (ويؤثر فيهم) عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: ((يبلغ منهم)) يعني: يتمكن منهم من جهة الإبلاغ. النهاية: في حديث عائشة، قالت لعليٍّ رضي الله عنهما يوم الجمل: قد بلغت منا البلغين، بكسر الباء والغين المعجمة مع فتح اللام على الجمع، ومعناه قد بلغت منا كل المبلغ.

[(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)]. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ): وما أرسلنا رسولاً قط (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ): بسبب إذن اللَّه في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه؛ لأنه مؤدّ عن اللَّه؛ فطاعته طاعة اللَّه، ومعصيته معصية اللَّه. و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]. ويجوز أن يراد: بتيسير اللَّه وتوفيقه في طاعته. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالتحاكم إلى الطاغوت ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يراد بتيسير الله تعالى) فالباء في (بِإذْنِ اللَّهِ) على هذا كما في قولك: كتبت بالقلم، يعني: جرت سنة الله بأن يوفق الأمة علة طاعة نبيه، والمعنى على الأول: وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليظهر المعجزة، ويثبت النبوة، ثم يأتي للقوم بكتابٍ لإثبات الرسالة، وفيه مثل قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء: 59]، وهو المراد من قوله: ((أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه)). قوله: ((إذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ) بالتحاكم إلى الطاغوت) إشارةٌ إلى اتصال هذه الآية بقوله: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) إلى قوله: (يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ) [النساء: 60] وذلك أنه تعالى لما نعى عليهم نفاقهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وأن يهددهم بالقول البليغ، جاء بقوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ) [النساء: 64] للتعليل والتخلص إلى التوبة، يعني: لم يكن ذلك التشنيع والقول البليغ إلا لعصيانهم وترك التحاكم إليك، والانتهاء إلى الطاغوت، والصدور عما أنزله الله إلى الرسول، ولو أنهم مع هذا الظلم العظيم تابوا بأن يعتذروا إليك ويتوسلوا بشفاعتك إلى الله تعالى لتاب الله عليهم؛ لأنا ما أرسلناك لأمرٍ من الأمور إلا لتطاع ولا لتخالف قطعاً؛ ففيه تعظيمٌ لشأن متابعيه وتوبيخٌ عظيمٌ لمخالفيه، ثم رشح هذا التعظيم بالالتفات تتميماً لتعظيم جانبه، وتنبيهاً على علو

(جاؤُكَ) تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا، (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ) من ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مكانته، وفي قوله: ((إلى طريقة الالتفات)) إشعارٌ بأن هذا الأسلوب- وهو وضع المظهر موضع المضمر- من وادي الالتفات، وليس بالالتفات حقيقةً، كما دل وضع الرسول مكان ضميره على فخامة شفاعة الرسول؛ دل وضع اسم الله الجامع في قوله: (لَوَجَدُوا اللَّهَ) موضع ضميره، بحسب تجليه في هذا المقام على فخامة قبولها من جانب الله تعالى، قال في قوله تعالى: (ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان: 71] أي: ((فإنه تائبٌ إلى الله تعالى الذي يعرف حق التائبين، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين)). قوله: ((جَاءُوكَ) تائبين من النفاق) إلى قوله: (فاستغفروا): إذنٌ بأن ما بعد الفاء في (فَاسْتَغْفَرُوا) إما مسببٌ عن محذوف، وهو حالٌ عن فاعل (جَاءُوكَ)، أو متعقبٌ له؛ فعلى الأول الاستغفار غير التوبة، وعلى الثاني عينها كما في قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]. الراغب: استغفار الإنسان وتوبته يمكن أن يقال: هما في الحقيقة واحدٌ لكن اختلافهما بحسب اعتبارهما بغيرهما، فالاستغفار يقال إذا استعمل في الفزع إلى الله تعالى وطلب الغفران منه، والتوبة تقال إذا اعتبر بترك العبد ما لا يجوز فعله وفعل ما يجب، ولا يكون الإنسان طالباً في الحقيقة لغفران الله تعالى إلا بإتيان الواجبات وترك المحظورات، ولا يكون تائباً إلا إذا حصل على هذه الحالة. ويمكن أن يقال: الاستغفار مبدأ التوبة والتوبة تمام الاستغفار؛ ولهذا قال تعالى: (واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ) [هود: 90]. فإن قلت: هذا مخالفٌ لما ذهبت إليه أن الاستغفار متعقبٌ للتوبة. قلت: إذا اعتبر في التوبة الندم فقط فلا شك بتقدمها، وإذا اعتبر فيها المجموع لابد من تأخرها، وأما معنى ثم في قوله: (ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ) فلتفاوت الرتبة. قوله: (متنصلين). الأساس: أنصلت السهم: نزعت نصله، ونصلته: ركبت نصله،

بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك بردّ قضائك حتى انتصبت شفيعاً لهم إلى اللَّه ومستغفراً؛ (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً) لعلموه تواباً، أي: لتاب عليهم. ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيماً لشأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من اللَّه بمكان. (فَلا وَرَبِّكَ) معناه: فو ربك، كقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) [الحجر: 92]، و «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد: 29]؛ لتأكيد وجود العلم. و (لا يُؤْمِنُونَ): جواب القسم. فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر "لا" في (لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه؛ وذلك قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونصلته تنصيلاً، ومن المجاز: نصل بحقي صاغراً: أخرجه، وتنصل من ذنبه، وفي الحديث: ((من لم يقبل من متنصلٍ صادقاً أو كاذباً لم يرد على الحوض)). قوله: (يأبى ذلك استواء النفي والإثبات) يريد أن ((لا)) في: (فَلا ورَبِّكَ) جاءت لتوكيد معنى القسم، لا لتوافق ((لا)) في (لا يُؤْمِنُونَ)؛ لأن إثبات ((لا)) في القسم، سواءٌ كان الجواب منفيًّا أو مثبتاً جائز، فإن قوله تعالى: (إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة: 40] مثبت، وقد جيء بالقسم مؤكداً ب ((لا)) في قوله: (فَلا أُقْسِمُ)، فلو كان للتظاهر لما جاءت في المثبت، قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظر؛ إذ يحتمل أن يقال: إنه تأكيد النفي في المنفي فقط، بل وجه المنع أن ((لا)) حينئذٍ تتمة الجواب، فيلزم الفصل بين أجزاء الجواب بالجملة القسمية، فيقال: إن القسم لما اتحد مع الجواب اتحاد المفرد في قوله تعالى: (وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ) [النساء: 72] حتى اكتفى الجواب في إيقاعه صلةً للموصول اغتفر الفصل فيه، قال أبو البقاء: فيه وجهان، أحدهما: أن الأولى زائدة، وقيل: إن الثانية زائدة، والقسم معترضٌ بين النفي والمنفي، وثانيهما: أن ((لا)) لنفي مقدر، أي: فلا يفعلون، ثم قال: (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة: 38 - 40]. (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ): فيما اختلف بينهم واختلط، ومنه: الشجر؛ لتداخل أغصانه. (حَرَجاً): ضيقاً، أي: لا تضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكاً، لأنّ الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين. (وَيُسَلِّمُوا): وينقادوا ويذعنوا لما تأتي به من قضائك، لا يعارضوه بشيء، من قولك: سلم الأمر للَّه، وأسلم له، وحقيقة "سلم نفسه وأسلمها": إذا جعلها سالمة له خالصة. و (تَسْلِيماً): تأكيد للفعل بمنزلة تكريره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: أراد الزمخشري أنها لما زيدت حيث لا يكون القسم نفياً دلت على أنها إنما تزاد لتأكيد القسم؛ فجعلت كذلك في النفي، والظاهر عندي أنها هنا لتوطئة القسم، وهو لم يذكر مانعاً منه؛ إنما ذكر مجملاً لغير هذا، وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن دخولها على المثبت فيه نظر، فلم يأت في الكتاب العزيز إلا مع القسم بالفعل: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) [البلد: 1]، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ) [القيامة: 1]، (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75]، (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ) [الحاقة: 38]، ولم يأت إلا في القسم بغير الله، وله سرٌّ ثانٍ: أن يكون ها هنا لتأكيد القسم، وذلك أن المراد بها تعظيم المقسم به في الآيات المذكورة؛ فكأنه بدخولها يقول: إعظامي لهذه الأشياء المقسم بها كلا إعظام؛ إذ هي تستوجب فوق ذلك، وإنما يذكر هذا التوهم وقوع عدم تعظيمها فيؤكد بذلك ويفعل القسم ظاهراً، وفي القسم بالله الوهم زائلٌ فلا يحتاج إلى تأكيد، فتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلةً على قسمٍ مثبت، أما في النفي فكثير. قوله: (وحقيقة سلم نفسه له) يعني: ((سلم)) متعدٍّ إلى مفعولين أحدهما: بالواسطة، والآخر: بغير واسطة، فحذف الأول للإطلاق، والثاني لقرينة الكلام، ولذلك قدر ((ويذعنوا لما تأتي به من قضائك)). قوله: (و (تَسْلِيمًا): تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريره). قال الزجاج: المصادر المؤكدة

كأنه قيل: وينقادوا لحكمه انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم. قيل: نزلت في شأن المنافق واليهودي، وقيل: في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في شراجٍ من الحرّة كانا يسقيان بها النخل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمنزلة ذكرك الفعل ثانياً، كأنك إذا قلت: سلمت تسليماً فقد قلت: سلَّمتُ سلَّمت. قوله: (نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة) هذا خطأٌ، لما روينا عن البخاري ومسلمٍ وغيرهما، عن عروة بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج الحرة ... الحديث، إلى قوله: ((في صريح الحكم))، وجل جانب حاطبٍ أن يتكلم بما يتغير به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلحقه من الحفيظة ما لحقه، وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1] وأنه شهد بدراً والحديبية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية))، وأنه حليف الزبير بن العوام، ذكره في ((الاستيعاب))، وقال صاحب ((الجامع)): هو حاطب بن راشدٍ اللخمي، وهو حليف قريش، ويقال: إنه من مذحج، وقيل: هو حليف الزبير بن العوام، وقيل: هو من أهل اليمن، والأكثر أنه حليفٌ لبني أسد بن عبد العزى، وقلت: فلا خلاف إذاً أنه لم يكن أنصاريًّا. قوله: (شراج الحرة)، النهاية: الشرجة: مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والشرج جنسٌ لها، والشراج: جمعها، والحرة: أرضٌ ذات حجارةٍ سود، والجدر: المسناة، وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار.

فقال: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب حاطبٌ وقال: لأن كان ابن عمتك، فتغير وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك». كان قد أشار على الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، فلما أحفظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم، ثم خرجا فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصاري: قضى لابن عمته ولوى شدقه، ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل اللَّه هؤلاء يشهدون أنه رسول اللَّه ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم! وأيم اللَّه لقد أذنبنا ذنباً مرّةً في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه، وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما واللَّه إنّ اللَّه ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروي أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن كان ابن عمتك) أي: لأجل أن الزبير ابن عمتك حكمت له بأن يسقي أرضه قبلي، و ((أن)) مخففةٌ من الثقيلة، أم الزبير وهي: صفية بنت عبد المطلب بن هاشم. قوله: (ثم خرجا فمرا على المقداد ... ، فقال: قاتل الله هؤلاء) إلى آخره. هكذا في أكثر النسخ، وفي نسخةٍ معتمدة: ((ثم خرجا فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصاري: قضى لابن عمته ولوى شدقه، ففطن يهوديٌّ كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء)) إلى آخره. هذا هو الصحيح، وعليه التعويل، وكذا في ((معالم التنزيل))؛ لأن الرواية الأولى توهم أن المقداد كان يهوديًّا أسلم، وليس كذلك، فإن صاحبي ((الاستيعاب)) و ((الجامع)) ذكرا أنه كان كنديًّا، وقيل: قضاعيًّا، وقيل: حضرميًّا، وقيل: زهريًّا، والصحيح أنه بهراوي.

رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنّ من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي». وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه قال: واللَّه لو أمرنا ربنا لفعلنا، والحمد للَّه الذي لم يفعل بنا ذلك، فنزلت الآية في شأن حاطبٍ ونزلت في شأن هؤلاء. [(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)]. (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل، (ما فَعَلُوهُ إِلَّا) ناس (قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهذا توبيخ عظيم، والرفع على البدل من الواو في (فَعَلُوهُ)، وقرئ: (إلا قليلاً) بالنصب على أصل الاستثناء، أو على "إلا فعلاً قليلاً". (ما يُوعَظُونَ بِهِ) من اتباع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: لو أوجبنا عليهم) هذا تفسير قوله: (ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ)، قال الزجاج: حق ((لو)) أن تليها الأفعال إلا أن المشددة تقع بعدها؛ لأنها تنوب عن الاسم والخبر، تقول: ظننت أنك عالمٌ، أي: ظننت علمك، فناب هنا- أي: في هذه الآية- عن الفعل والاسم كما نابت هناك عن الاسم والخبر. قوله: (وقرئ: ((إلا قليلاً))، بالنصب): ابن عامر، وبالرفع: الباقون، قال أبو البقاء: بالرفع بدلٌ من الضمير المرفوع وعليه المعنى؛ لأن المعنى: فعله قليلٌ منهم، و (مِّنْهُمْ): صفة (قَلِيلٌ). قوله: (أو على: إلا فعلاً قليلاً) فعلى هذا الاستثناء مفرغ، و (مِّنْهُمْ): بيانٌ للضمير

ويحكم به؛ لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في عاجلهم وآجلهم، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لإيمانهم، وأبعد من الاضطراب فيه. (وَإِذاً): جواب لسؤال مقدرٍ، كأنه قيل:وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت؟ فقيل: وإذن لو ثبتوا (لَآتَيْناهُمْ)؛ لأن "إذن" جواب وجزاء، (مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً)، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في ((فعلوا))، كقوله تعالى: (لَيَمَسَّنَّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) [المائدة: 73] على التجريد، وعلى أصل الاستثناء (مِّنْهُمْ): للتبعيض، قال الزجاج: والنصب جائزٌ في غير القرآن على (مَا فَعَلُوهُ)، استثنى قليلاً منهم. وقلت: في كلامه إشعارٌ بأن النصب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه، وقال ابن الحاجب: لا بعد أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه، بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء على غير الأقوى. وقلت: بل يكون إجماعهم على قراءتهم دليلاً على أن ذلك هو القوي؛ لأنهم هم المتقنون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفتٍ إليه. قوله: (لأن ((إذن)) جوابٌ وجزاء) تعليلٌ للتقدير، يعني: لما قال تعالى: (لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتًا) اتجه لسائلٍ أن يسأل عن جزاء التثبيت على الإيمان فأوقع (إذًا لآتَيْنَاهُم) جواباً لهذا السؤال وجزاءً لتثبيت، واللام في (لآتَيْنَاهُم) جواب ل ((لو)) محذوفاً كما قدره، وفي هذا التقدير تكلفاتٌ شتى، إحداها: أنه لم يعلم أن المعطوف عليه لهذه الجملة- يعني (وإذًا لآتَيْنَاهُم) - ماذا؟ وثانيها: تقدير السؤال و ((نحن)) مستغنيً عنه، وثالثها: حذف ((لو))، والظاهر أنها معطوفةٌ على قوله: (لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) ليكون جواباً آخر لقوله: (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ)، كأنه قيل: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم في الدنيا، وأشد تثبيتاً في الدين، وإذاً لآتيناهم في الآخرة أجراً عظيماً تفضلاً من عندنا، لا وجوباً. هذا هو الوجه ذهاباً ومذهباً، ويؤيده ما قال المرزوقي في قوله:

(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 40] في أنّ لمراد العطاء المتفضل به من عنده، وتسميته أجراً؛ لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته، (وَلَهَدَيْناهُمْ): وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات. [(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً* ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً)]. الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم؛ كأبي بكرٍ الصديق رضى اللَّه عنه، وصدقوا في أقولهم وأفعالهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ إذن لقام: جواب ((لو))، كأنه أجيب بجوابين، وهذا كما تقول: لو كنت حراًّ لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار، وقال المرزوقي: واللام في ((لقام)) جواب يمينٍ مضمرة، والتقدير: إذن والله لقام. وأما قوله: (ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) بعد فعل (مَا يُوعَظُونَ) وتثبيت الإيمان والوعد بالأجر؛ فللدلالة على أن فعل الطاعات سببٌ لجلب التوفيق، وهو لاستزادة عملٍ يستجد توفيقاً إلى أن ينتهي السالك إلى مخدع القرب والانخراط في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم وفقنا لذلك بمنك وكرمك! قوله: (العطاء المتفضل به من عنده). الراغب: إنما قال: (مِّن لَّدُنَّا)؛ لأنه تعالى لا يكاد ينسب إلى نفسه من النعم إلا ما كان أجلها قدراً وأعظمها خطراً.

وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة؛ حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد اللَّه إلى اللَّه وأرفعهم درجات عنده (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا ترغيبٌ للمؤمنين في الطاعة حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد الله إلى الله تعالى وأرفعهم درجاتٍ عنده). الراغب: قيل: قسم الله تعالى عباده في هذه الآية أربعة أقسام، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض، وحث كافة الناس أن لا يتأخروا عن منزلٍ واحدٍ منهم: الأول: هم الأنبياء الذين تمدهم قوةٌ إلهية، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) [النجم: 12]. والثاني: الصديقون، وهم الذين يتأخرون عن الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد، وإياه عنى عليٌّ رضي الله عنه حيث قيل له: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد ربًّا لم أره! ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. والثالث: الشهداء، وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة حيث قال: كأني انظر إلى عرش ربي بارزاً، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((اعبد الله كأنك تراه)). الرابع: الصالحون، وهم الذين يعملون الشيء بالتقليد، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيدٍ في مرآة، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، أي: كن من الشهداء بما تكتسبه من العلم والعمل الصالح، فإن لم تكن منهم فكن من الصالحين.

فيه معنى التعجب؛ كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً! ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ: (وحسن) بسكون السين، يقول المتعجب: حسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك؛ بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق: كالصديق والخليط في استواء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيه معنى التعجب)، كقول القائل: وجارة جساسٍ أبأنا بنابها ... كليباً غلت نابٌ كليبٌ بواؤها قال المصنف: وفي فحوى هذا الفعل دليلٌ على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أغلى ناباً بواؤها- أي: كفؤها- كليب! قوله: (يقول المتعجب: حسن الوجه) أي: بسكون السين. الجوهري: وقد حسن الشيء، وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبرٌ، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم؛ لأنه يشبه في جواز النقل ب ((نعم)) و ((بئس))، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس، فسكن ثانيهما ونقلت حركته إلى ما قبله، وكذلك كل ما كان في معناهما. وقال الراغب: الحسن عبارةٌ عن كل مبهجٍ مرغوب إما عقلاً أو هوى أو حسًّا، والحسنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمةٍ تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة تضادها. والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر، يقال: رجلٌ حسنٌ وحسانٌ، وامرأةٌ حسناء وحسانةٌ، وأكثر ما جاء في التنزيل من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة، منه قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 18]. قوله: (والرفيق كالصديق). قال الزجاج: (رَفِيقًا) منصوبٌ على التمييز ينوب عن رفقاء، وقال بعضهم: لا يجوز أن ينوب الواحد عن الجميع إلا أن يكون من أسماء الفاعلين،

الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفرداً بين به الجنس في باب التمييز. وروي: أنّ ثوبان مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان شديد الحب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوماً وقد تغير وجهه، ونحل جسمه، وعرف الحزن في وجهه، فسأله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسول اللَّه ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشةً شديدةً حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وإن أدخلت الجنة كنت في منزلٍ دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبداً، فنزلت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلو قال: حسن القوم رجلاً، لم يجز عنده، ولا فرق بين ((رفيقٍ)) و ((رجل)) في هذا المعنى؛ لأن الواحد في التمييز ينوب عن الجماعة، وكذلك في المواضع التي لا تكون إلا جماعةً نحو قولك: هو أحسن فتىً وأجمله، المعنى: هو أحسن الفتيان وأجملهم إذا كان الموضع لا يلبس، كقوله: في حلقكم عظمٌ وقد شجينا أراد: في حلوقكم عظام. قوله: (إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم). الاستيعاب: هو أبو عبد الله ثوبان بن بجدد، من أهل السراة، والسراة: موضعٌ بين مكة واليمن، أصابه سبيٌ فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ولم يزل يكون معه إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فذاك) أي: فذاك الوقت الذي أخاف أني لا أراك، وروي: ((حين)) منصوباً. قوله: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ) الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).

حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين»، وحكي ذلك عن جماعةٍ من الصحابة. (ذلِكَ): مبتدأ، و (الْفَضْلُ): صفته، و (مِنَ اللَّهِ): الخبر، ويجوز أن يكون (ذلك): مبتدأ، و (الفضل من اللَّه): خبره، والمعنى: أنّ ما أعطي المطيعون من الأجر العظيم، ومرافقة المنعم عليهم من اللَّه؛ لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم، (وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) بجزاء من أطاعه؛ أو أراد أنّ فضل المنعم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ذَلِكَ): مبتدأ و (الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ): خبره). الراغب: هو كقولك: ذاك الرجل وهذا المال، تنبيهاً على كماله، فإن الشيء إذا عظم أمره يوصف باسم جنسه، وقوله: (مِنَ اللَّهِ) في موضع الحال، أو خبر مبتدأٍ مضمر. قوله: (أو أراد أن فضل المنعم) عطفٌ على قوله: ((والمعنى: أن ما أعطي المطيعون))، يريد أن المشار إليه بقوله: (ذَلِكَ الفَضْلُ): إما مضمون الآيات الثلاث من قوله: (وإذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 67] إلى قوله: (وحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69]، فيكون قوله: (ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ) الآية [النساء: 69] كالتذييل لقوله: (وإذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)؛ لأن الهداية إلى الصراط المستقيم هو السبب في المرافقة مع المنعم عليهم، يدل عليه إبدال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) من (الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) في الفاتحة، فيدخل في هذا المقام المطيعون الذين منحوا الأجر العظيم دخولاً أوليًّا، أو المشار إليه ما دل عليه قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) [النساء: 69]، فعلى هذا فائدة الإشارة التحريض على اكتساب ما اكتسبوه، والإيذان بالتجرد عما يشغلهم عن الله والتبتل إليه، والانقطاع عما سوى الله، وفائدته على الأول مزيد الامتنان عليهم، وأما قوله: (وكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا): بجزاء من يطع))، وثانياً: ((وكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) بعباده؛ فهو يوفقهم على حسب أحوالهم))، والوجه هو أن يكون المشار إليه مضمون الآيات الثلاث؛ لأن هذه الآية كالفذلكة لها مقررةٌ لمعناها ومقاصدها، قال في قوله تعالى: (فَصِيَامُ

عليهم ومزيتهم من اللَّه؛ لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه (وكفى باللَّه عليماً) بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)]. (خُذُوا حِذْرَكُمْ): الحذر والحذر بمعنى كالإثر والأثر، يقال: أخذ حذره: إذا تحفظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه؛ والمعنى: احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم، (فَانْفِرُوا) إذا نفرتم إلى العدوّ؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196]: وفائدة الفذلكة في كل حساب: أن يعلم العدد جملةً كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم، وهذا المعنى يهدم القاعدة التي بناها في تفسير الأجر اللدني في قوله: (وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40] وقوله: (وإذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) بالتفضل به من عنده وتسميته أجراً؛ لأنه تابعٌ للأجر من وجهين، أحدهما: تعرف الفضل، وهو خبر (ذَلِكَ) الدال على الحصر؛ فدل على دفع إرادة المجاز من الأجر اللدني، أي: ذلك هو الفضل لا شيءٌ آخر، وثانيهما: تعلق (مِنَ اللَّهِ) به، أي: ذلك من الله لا من العامل، والله أعلم: قوله: (جعل الحذر آلته) أي: استعار للسلاح الحذر بقرينة (خُذُوا) كقوله تعالى: (والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ) [الحشر: 9]، جعل الإيمان متبوأ بمنزلة الدار، يعني: أنهم متمكنون في الإيمان تمكن الرجل في الدار. قوله: (إذا نفرتم إلى العدو). النهاية: وفي الحديث: ((وإذا استنفرتم فانفروا))،

إما (ثُباتٍ): جماعاتٍ متفرّقةً سريةً بعد سرية، وإما (جَمِيعاً) أي: مجتمعين كوكبةً واحدة، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وقرئ: (فانفروا) بضم الفاء. [(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً* وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)]. اللام في: (لَمَنْ) للابتداء بمنزلتها في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ) [النحل: 18]، وفي (لَيُبَطِّئَنَّ) جواب قسم محذوف، تقديره: وإنّ منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن، والقسم وجوابه صلة "من"، والضمير الراجع منها إليه ما استكن في: (لَيُبَطِّئَنَّ)، والخطاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والاستنفار: الاستنجاد والاستنصار، أي: إذا طلب منكم النضرة فأجيبوا وانفروا خارجين إلى الإعانة، ونفير القوم: جماعتهم الذين ينفرون في الأمر. قوله: (ثُبَاتٍ): جماعات متفرقة). قال الزجاج: واحدته: ثبةٌ، قال سيبويه: ثبةٌ: تجمع ثبون وثبين في الرفع والنصب والخفض جمعت بالواو والنون؛ لأنهما جعلتا عوضاً من حذف آخر الكلمة. قوله: (كوكبةً واحدةً). الجوهري: كوكب الشيء: معظمه، وكوكب الروضة: نورها، وإيراده ها هنا مجاز؛ لأن القوم إذا اجتمعوا متوافقين متعاضدين فالرائي: إما العدو فيمتلئ خلده هيبةً، أو الولي فتقر عينه زينةً. قوله: (والقسم وجوابه صلة ((من)))، وبهذا يعلم أن الجملة القسمية مع جوابها خبرية، فلا يمتنع وقوعه صلةً للموصول، وقيل: الصلة بالحقيقة جواب القسم، والقسم كالتأكيد، قال ابن الحاجب في ((شرح المفصل)): القسم جملةٌ إنشائيةٌ يؤكد بها جملةٌ أخرى. وقال الزجاج: (من): موصولةٌ بالجالب للقسم، تقديره: وإن منكم لمن- أحلف والله- ليبطئن.

لعسكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمبطئون منهم: المنافقون؛ لأنهم كانوا يغزون معهم نفاقاً. ومعنى (لَيُبَطِّئَنَّ): ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد. وبطأ: بمعنى أبطأ، كغتم: بمعنى: أغتم؛ إذا أبطأ. وقرئ: (لَيُبَطِّئَنَّ) بالتخفيف يقال: بطأ عليَّ فلان وأبطأ عليَّ وبطؤ نحو: ثقل، ويقال: ما بطأ بك؟ ، فيعدى بالباء، ويجوز أن يكون منقولاً من بطؤ، نحو ثقل من ثقل، فيراد: ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو، وكان هذا ديدن المنافق عبد اللَّه ابن أبيّ، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد. (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ): من قتلٍ أو هزيمة. (فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ): من فتح أو غنيمة. (لَيَقُولَنَّ) وقرأ الحسن: (ليقولن) بضم اللام إعادةً للضمير إلى معنى (من)؛ لأن قوله: (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) في معنى الجماعة. وقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنحويون مجمعون على أن ((ما)) و ((من)) و ((الذي)) لا يوصلن بالأمر والنهي إلا بما يضمر معها من ذكر الخبر، وأن لام القسم إذا جاءت مع هذه الحروف فلفظ القسم وما أشبه لفظه مضمرٌ معها. قوله: (ويجوز أن يكون منقولاً) أي: متعديًا بالتثقيل، وهو عطفٌ على قوله: ((ومعنى (لَّيُبَطِّئَنَّ): ليتثاقلن)). قوله: (وقرأ الحسن: ((ليقولن))). قال ابن جني: قرأ الحسن: ((ليقولن)) بضم اللام على الجمع، أعاد الضمير على معنى ((من))، لا على لفظها التي هي قراءة الجماعة؛ وذلك أن قوله تعالى: (وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ) لا يعني به رجلاً واحداً، ولكن معناه: أن هناك جماعةً هذا وصف كل واحدٍ منهم، فلما كان جمعاً في المعنى أعيد الضمير إلى معناه دون لفظه، كقوله تعالى: (ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ) [يونس: 42]. الانتصاف: في هذه القراءة نكتةٌ غريبة، وهي العود إلى معنى ((من)) بعد الحمل على لفظها، وأنكر بعضهم وجوده في القرآن؛ لما يلزم من الإجمال بعد البيان، وهو خلاف

(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل الذي هو (لَيَقُولَنَّ) وبين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البلاغة؛ لأنه يؤدي إلى أن العود إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها، بل تناوله للمعنى المبهم، فوقوعه بعد البيان عسر، ومنهم من عد موضعين وهذه القراءة ثالثة. قوله: ((كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض)، قيل: هذا الاعتراض في غاية الجزالة؛ إذ يفيد أنهم يحسدونكم مما يصل إليكم من الخير، كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة، وقلت: التحقيق فيه: أن قولهم: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) طلبٌ لما لا يمكن حصوله، وهذا القول منهم يشبه قول من فاته مصاحبة من كان يرافقه ويصل إليه منه المبرات فأيس من ذلك، فكان قوله: (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي: مصاحبةٌ، مؤكداً لهذا المعنى، وإلى هذا المعنى ينظر قوله: ((لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر))، لكن إنما يحسن استعماله فيما إذا استعمل في مودةٍ صافية ومحبةٍ صادقة؛ إما تلهفاً وتحسراً على فوات المحبوب ومصافاته، قال: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر أو تعبيراً لمن نسي ذلك وانقلب إلى البغضاء والعداوة بعد تلك المصافاة. ولما لم يكن حال المنافقين من هذين الوصفين في شيءٍ قال: ((فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس؟ ))، أي: الاستعارة التهكمية، قال الإمام: إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولتهم بسبب أنه فاتته الغنيمة؛ فقبل أن يتم قوله: (ولَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ ... ) إلى قوله: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) ألقى في البين قوله: (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ)، والمراد التعجب، كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق، كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبينه مودةٌ ولا مخالطةٌ أصلاً.

مفعوله؛ وهو (يا لَيْتَنِي)؛ والمعنى: كأن لم تتقدم له معكم موادّة، لأن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن، والظاهر أنه تهكم؛ لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيف يوصفون بالمودّة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم. وقرئ: (فأفوز) بالرفع عطفاً على (كنت معهم)؛ لينتظم الكون معهم. والفوز معنى التمني؛ فيكونا متمنيين جميعاً، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، بمعنى فأنا أفوز في ذلك الوقت. [(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: قيل: قوله: (كَأَن لَّمْ تَكُن) اعتراضٌ متعلقٌ بالجملة الأولى وتقديره: قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة؛ فأخر ذلك، وذلك مستقبحٌ في العربية؛ فإنه لا يفصل بين بعض الجملة التي دخل في إثباتها، ويجوز أن يكون حكايةً عنهم، أي: ليقولن لمن ثبطهم: كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودة؛ حيث لم يستعينوا بكم ثم يقولون: يا ليتني كنت معهم، فيكون القول الأول منهم إثارةً للشر، والقول الثاني منهم إظهاراً للحسد، وقيل: في قوله: (قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ) منةٌ منه على قومه من المنافقين؛ إذ ثبطهم عن الخروج وأنه قد ظهر ثمرة نصيحته، وفي قوله: (يَا لَيْتَنِي) إيهامٌ للذين قالوا لهم: إن ذلك كان بإيثار الرسول لمن أخرجهم من دونهم. وفي الآيتين تنبيهٌ على أن عامة الناس لا يعتدون إلا أعراض الدنيا.

سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)]. (يَشْرُونَ): بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ: وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِى ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يَشْرُونَ) بمعنى: يشترون ويبيعون) والفاء في قوله: ((فالذين يشترون)) تفصيليةٌ، بدليل قوله: ((والذين يبيعون))، وقيل: هذا مبنيٌّ على جواز استعمال اللفظ المشترك في معنيين معاً، وهو مختلفٌ فيه، والجواب: أن التفصيل مبنيٌّ على تفسير (الَّذِينَ يَشْرُونَ) فإذا عبر به عن المبطئين كان بمعنى يشترون، وإذا عبر به عن الثابتين المخلصين كان بمعنى يبيعون، وهذا يدور على معنى الفاء في قوله: (فَلْيُقَاتِلْ) إن جعلت للتعقيب رجع المعنى إلى يشترون لأنها رابطةٌ لهذا المعنى بقوله: (وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ) الآية، فيكون تعييراً لهم بما يفعلون من النفاق والتثبيط، وذلك من وضع قوله: (الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) موضع الضمير، يعني: هلا قاتل هؤلاء المبطئون الذين أثروا الحياة الدنيا على الآخرة! وإليه الإشارة بقوله: ((وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق)). وإن جعلت جزاءً لشرطٍ محذوفٍ فالمعنى راجعٌ على يبيعون فإنه تعالى لما حرض المؤمنين على القتال بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعَاً) أتى بذكر المنافقين المبطئين، فقال: (وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ)، ثم قال: (فَلْيُقَاتِلْ) لئلا يؤثر فيهم تثبيطهم، يعني: إن صد هؤلاء عن القتال لمرض في قلوبهم وضعفٍ في نياتهم فقاتلوا أنتم أيها المخلصون، فوضع موضعه: (الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ)) للإشعار بالعلية، يعني: إن صد هؤلاء المبطئون فليقاتل البذالون أنفسهم في سبيل الله، الذين آثروا الحياة الباقية على هذه الفانية، واستبشاراً بما يحصل لهم من الفوز بالربح العظيم على بيعهم أنفسهم في سبيل الله، (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ) [التوبة: 111]، وقوله: (ومَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ) [النساء: 74] تذييلٌ؛ لأنه تأكيدٌ للتحريض. قوله: (وشريت برداً) البيت، بعده:

فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق، ويخلصوا الإيمان باللَّه ورسوله، ويجاهدوا في سبيل اللَّه حق الجهاد؛ والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صدّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون. ووعد المقاتل في سبيل اللَّه ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين اللَّه. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ): فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفاً على (سبيل اللَّه) أي: في سبيل اللَّه وفي خلاص المستضعفين، ومنصوباً على اختصاص، يعني: واختص من سبيل اللَّه خلاص المستضعفين؛ لأنّ سبيل اللَّه عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه. والمستضعفون: هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون اللَّه بالخلاص ويستنصرونه، فيسر اللَّه لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل اللَّه لهم من لدنه خير ولى وناصر؛ وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هامةً تشكو الصدى ... بين المشقر واليمامه وبرداً: اسم غلام القائل، باعه فندم على بيعه فتمنى الموت؛ لأن الهامة عندهم عبارةٌ عن الموت، ومن زعماتهم أن عظام الميتة تصير هامةً وتطير، وأن الرجل إذا قتل خرجت روحه من رأسه فتصيح: وافلاناه؛ إذا لم يطلب ثأره وأخذ ديته، والصدى: العطش، المشقر واليمامة: موضعان. قوله: (ونصرهم أقوى النصر). قال المصنف: لما صبروا جاء بالمهاجرين إليهم لحسن صبرهم، قال:

فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا، قال ابن عباس: كان ينصر الضعيف من القوي، حتى كانوا أعز بها من الظلمة. فإن قلت: لم ذكر الولدان؟ قلت: تسجيلاً بإفراط ظلمهم؛ حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم، ومبغضةً لهم لمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم، استنزالاً لرحمة اللَّه بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس، وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء. وعن ابن عباسٍ: كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان. ويجوز أن يراد بالرجال والنساء: الأحرار والحرائر، وبالولدان: العبيد والإماء، لأنّ العبد والأمة يقال لهما: الوليد والوليدة. وقيل للولدان والولائد: الولدان؛ لتغليب الذكور على الإناث، كما يقال: الآباء والإخوة. فإن قلت: لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها، فأعطي إعراب القرية؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل قوله: (كان ينصر الضعيف من القوي)، وقد سبق أن ((نصر)) إذا عدي ب ((من)) كان مضمناً معنى انتقم. قوله: (إرغاماً) نصب مفعولٍ له؛ لقوله: ((بلغ))، وحذف اللام؛ لأن ((بلغ أذاهم)) في معنى يؤذون، فيكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل. قوله: (ولأن المستضعفين) عطفٌ على قوله: ((تسجيلاً))، وإنما جاء باللام؛ لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل الذي هو: ذكر، المحذوف لدلالة قوله: ((لم ذكر الولدان)) لأجل بلوغ أذى المشركين إليهم أيضاً، ((ولأنهم كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم)) يعني: أن قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا) الآية، وقع صفةً للجمع فوجب لذلك أن يدخلوا في الحكم؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات؛ ولهذا قال: ((كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم؛ استنزالاً لرحمة الله تعالى)). قوله: (هو وصفٌ للقرية) قيل: إذا كانت الصفة فعلاً لنفس الموصوف تبعته في:

لأنه صفتها، وذكر؛ لإسناده إلى الأهل، كما تقول: من هذه القرية التي ظلم أهلها، ولو أُنث فقيل: الظالمة أهلها؛ لجاز، لا لتأنيث الموصوف، ولكن لأن الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت: هل يجوز: من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت: نعم، كما تقول: "التي ظلموا أهلها" على لغة من يقول: أكلونى البراغيث، ومنه: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء: 3] رغب اللَّه المؤمنين ترغيباً، وشجعهم تشجيعاً بإخبارهم أنهم إنما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير، والتثنية والجمع والإفراد، والإعراب، وإذا كانت فعلاً لما هو من سببه لم تتبعه إلا في التعريف والتنكير والإعراب، فلما كان الظالم صفةً للقرية، وفعل ما هو من سببها؛ تبعته في الإعراب والتعريف ولم تتبعه في التأنيث، وذكر لتذكير الفاعل وهو الأصل. الانتصاف: ها هنا نكتة؛ وهي أن الظلم ينسب في القرآن إلى القرية مجازاً: (وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ) [الطلاق: 8]، (وكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ) [القصص: 58]، (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ) [النحل: 112]، وها هنا نسب الظلم إلى أهلها؛ إذ المراد مكة، فرفعت عن نسبة الظلم إليها. قوله: (رغب الله المؤمنين ترغيباً وشجعهم تشجيعاً) وذلك من ترتب حكم المقاتلة في قوله: (فَقَاتِلُوا) على الوصفين، أعني قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله: (والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)، أي: من شأن المؤمنين أن يقاتلوا في سبيل الله فيكون الله ناصرهم ومقويهم، ومن شأن الكفار أن يقاتلوا في سبيل الشيطان فناصرهم الشيطان، وإذا كان كذلك فأنتم أيها المؤمنون ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وفي شأن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ ولم تقاعدتم عن حرب حزب الشيطان مع قيام موجب الظفر وخذلان العدو؟ وفي وضع المظهر- وهو الشيطان- موضع المضمر من غير لفظه السابق وهو الطاغوت، وتعليل المقاتلة معه بقوله: (إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا): مزيد تهييجٍ وتشجيع.

يقاتلون في سبيل اللَّه، فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا وليّ لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد اللَّه للكافرين أضعف شيءٍ وأوهنه. [(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)]. (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، أي: كفوها عن القتال؛ وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) بالمدينة كع فريق منهم؛ لا شكا في الدين، ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً من الإخطار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كع فريقٌ). النهاية: يقال: كع الرجل عن الشيء يكع كعًّا، فهو كاعٌّ: إذا جبن عنه وأحجم، فإن قلت: هذا يدل على أن فريقاً ممن كانوا يتمنون أن يؤذن لهم في القتال ما جبنوا، بل ثبتوا وقضوا ما كان عليهم، وشكر الله سعيهم، فإذاً ما معنى التوبيخ والتعجب في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)؟ كأنهم كانوا متجاوزين حد ما أمروا به مثل أولئك الفريق! قلت: نعم؛ إنما دخلوا في حكم أولئك لأنهم شاركوهم في طلب ما كفوا عنه، ودخلوا في زمرة الذين قيل فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ) [الحجرات: 1]، وإنما ذكر الفرقة التي جبنت دون الأخرى للتعيير، وأنهم ما وفوا بما تمنوا من طلبتهم وترك الممتثلين بما كتب عليهم؛ لأنهم وإن أخطؤوا في ذلك التمني، لكنهم صدقوا في ما عزم عليهم من القتال، فالأولون أخطؤوا خطأين، وهؤلاء خطأً واحداً. والفاء في (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ) فصيحةٌ؛ إذ التقدير: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ)، كيف تمنوا القتال؟ فلما كتب عليهم القتال جبن فريقٌ منهم، وإليه الإشارة بقوله: ((وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم)). وفي صلة الموصول- أعني قوله: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ) - معنى قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ) [الكافرون: 6]، ولذلك قال: ((كانوا مكفوفين عن قتال الكفار ما داموا بمكة)).

بالأرواح، وخوفاً من الموت. (كَخَشْيَةِ اللَّهِ): من إضافة المصدر إلى المفعول. فإن قلت ما محل (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في (يَخْشَوْنَ)، أي: يخشون الناس مثل أهل خشية اللَّه، أي: مشبهين لأهل خشية اللَّه، (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) بمعنى: أو أشد خشية من أهل خشية اللَّه. و (أشد) معطوفٌ على الحال. فإن قلت: لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر: يخشون خشية مثل خشية اللَّه، بمعنى: مثل ما يخشى اللَّه؟ قلت: أبى ذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)؛ لأنه وما عطف عليه في حكم واحد، ولو قلت: يخشون الناس أشد خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفرق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول: خشي فلانٌ أشد خشية، فتنصب "خشية"، وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشيةٍ فتجرّها، وإذا نصبتها لم يكن (أشد خشية) إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه، اللهم إلا أن تجعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبى ذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)؛ لأنه وما عطف عليه في حكم واحد). قال ابن الحاجب في ((الأمالي)): وفيه نظر، لم لا يجوز أن يكون (أَشَدَّ) منصوباً بفعلٍ مضمرٍ دل عليه (يَخْشَوْنَ) الأول؟ أي: يخشون الناس خشيةً مثل خشية الله، أو يخشون الناس أشد خشيةً، فتكون الكاف نعتاً لمصدرٍ محذوف، و (أَشَدَّ): حالاً، وهذا أولى؛ لأنها جرت الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه من أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل؛ لأن ذلك في المفردات وهذه جمل، ولأن قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200] لا يجوز فيه الحال، ولا يستقيم إلا على هذا، فينبغي أن يكون هذا مثله لموافقته في اللفظ. قوله: (لا تقول: خشي فلانٌ أشد خشيةً، فتنصب ((خشيةً))، وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشيةٍ فتجرها). قال أبو البقاء في قوله تعالى: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا): ((أفعل)) تضاف إلى ما بعدها إذا كان من جنس ما قبلها، كقولك: ذكرك أشد ذكرٍ، ووجهك أحسن وجهٍ، أي: أشد الأذكار وأحسن الوجوه، وإذا نصبت ما بعدها كان غير الذي قبلها،

الخشية خاشية وذات خشية، على قولهم جد جده، فتزعم أن معناه: يخشون الناس خشية مثل خشية اللَّه، أو: خشية أشد خشية من خشية اللَّه، ويجوز على هذا أن يكون محل (أَشَدَّ) مجروراً عطفاً على (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) تريد: كخشية اللَّه أو كخشيةٍ أشد خشية منها. (لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ): استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقتٍ آخر، كقوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون: 10]. (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) ولا تنقصون أدنى شيءٍ من أجوركم على مشاق القتال، فلا ترغبوا عنه، وقرئ: (ولا يظلمون) بالياء. [(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقولك: زيدٌ أفره عبداً، فالفراهة للعبد، لا لزيد، والمذكور قبل (أَشَدَّ) هو الذكر، والذكر لا يذكر حتى يقال: الذكر أشد ذكراً، وإنما يقال: أشد ذكرٍ بالإضافة؛ لأن الثاني هو الأول. والذي قاله أبو عليٍّ وابن جني وغيرهما: أنه جعل الذكر ذاكرًا على المجاز، كما يقال: زيدٌ أشد ذكراً من عمرو. وقال ابن الحاجب: إن أفعل التفضيل إذا ذكر بعده ما هو من جنسه وجب أن يكون محفوظاً؛ لأن الغرض نسبة شيءٍ إلى شيءٍ اشترك هو وهم في ذلك المعنى وزاد عليهم، وهو في هذا مخالفٌ لباب الإضافة من حيث إنه يجب إضافته إلى شيءٍ هو بعضه، فالتقدير: يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد، ف (أَشَدَّ) على هذا في موضع نصبٍ عطفاً على الكاف. ويجوز أن يكون: (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) على ظاهرها: نعتاً لمصدرٍ محذوف، فيكون (أَشَدَّ) من باب قولهم: جد جده؛ لأنه جعل للخشية خشيةً مبالغةً، فيكون ذكر (خَشْيَةً) بعد (أَشَدَّ) على معنى أنه للخشية. قوله: (استزادةٌ في مدة الكف) يعني: في (لَوْلا) معنى التمني والطلب، والمعنى: ليتنا أخرنا، فولد (لَوْلا) معنى السؤال.

هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً* ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً)]. قرئ: (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع وقيل: هو على حذف الفاء، كأنه قيل: فيدرككم الموت، وشبه بقول القائل: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع (أَيْنَما تَكُونُوا) وهو: أينما كنتم، كما حُمِلَ: ولا ناعب على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» وهو: ليسوا بمصلحين، فرفع كما رفع زهير: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من يفعل الحسنات الله يشكرها). تمامه: والشر بالشر عند الله مثلان وفي رواية: سيان، واستشهد بأنه على تقدير حذف الفاء، أي: فالله يشكرها. قوله: (وهو: أينما كنتم) فإن الشرط إذا وقع ماضياً يجوز في الجزاء الرفع والجزم؛ وإنما جاز الرفع لأن العامل لما لم يعمل (في القريب منه فلأن لا يعمل) في البعيد أولى. قوله: (كما حمل: ولا ناعبٍ) أي: في قول الشاعر: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها ((ولا ناعبٍ)): عطفٌ على محل ((مصلحين))؛ إذ التقدير: ليسوا بمصلحين، فإنه يوهم أن الباء في ((بمصلحين)) موجودةٌ، ثم عطف عليه مجروراً.

يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم)، أوله: وإن أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ قبله: هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فينظلم الخليل: الفقير، والخلة: الحاجة والفقر، أي: محتاج مختل، ويوم مسألة، أي: حاجة، قائله: زهير يمدح هرم بن سنان، يقول: لا يعتل إذا أتاه اخلي وسأله من ماله بعلةٍ حتى يحرمه، بل يقول: لا غائب مالي بل هو حاضر، ولا حرم أي: لا حرمان لك مني، رفع ((يقول)) وهو جزاء الشرط لما ذكرنا. وقد خاف ها هنا ما ذكره في آل عمران عند قوله: (ومَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ) [آل عمران: 30] قال: لا يصح أن تكون ((ما)) شرطية، لارتفاع (تَوَدُّ)، ولم يجعل هن رفع (يُدْرِككُّمُ) مانعاً على أنه أول الشرط بالماضي. الانتصاف: في قوله: ((حمل على ما يقع موقع (أَيْنَمَا تَكُونُوا) وهو: أينما كنتم)) نظرٌ، أما ((ولا ناعبٍ)) فلأن الباء اطرد دخولها في خبر ((ليس)) توطئةً فجاز الحمل عليه. وأما تقدير (أَيْنَمَا) في معنى كلامٍ آخر يرتفع معه (يُدْرِككُّمُ) فلم يشتهر ولم يوجد له نظير، وبيت زهيرٍ محمولٌ بنقل سيبويه على التقديم والتأخير، أي: يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرمٌ إن أتاه خليلٌ، كقول الشاعر: يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع فليس من قبيل: ولا ناعبٍ.

وهو قول نحوي سيبوي. ويجوز أن يتصل بقوله: (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، أي: ولا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم، أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ولا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم، أينما تكونوا في ملاحم حروبٍ أو غيرها)، فعلى هذا: ((أين)): ظرف (لا يُظْلَمُونَ)، و (يُدْرِككُّمُ): استئناف، وعلى الأول: (أَيْنَمَا): شرط، وجزاؤه (يُدْرِككُّمُ)، والجملة استئنافية. الانتصاف: هذا حجةٌ واضحةٌ عليه في أن القتل في المعركة لا يعارض الأجل المقدر. وقلت: قد مضى في آل عمران عند قوله تعالى: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 168] بيان مذهبه، وهو أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، وعلى هذا التفسير قوله: (يُدْرِككُّمُ المَوْتُ) تقريرٌ لمعنى قوله: (ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: 77]، على طريقة الطرد والعكس؛ لأن منطوق الأول على هذا التفسير: أن آجالكم مقدرةٌ لا تنقص وإن أقحمتم أنفسكم في الأخطار، ومفهومه: أنها لا تزيد وإن أحصنتموها في بروجٍ مشيدة الأقطار، وبالعكس في قوله: (يُدْرِككُّمُ المَوْتُ ولَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)، فمعنى قوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء: 77] على هذا أن التمتع في الدنيا إنما يكون في أزمنةٍ قلائل، وقوله: (ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)) تتميمٌ له. علم من الأول أن الحياة في وشك الزوال، ومن الثاني أنها مع ذلك مقدرة الآجال، والجملتان جوابٌ عن قولهم: (لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). وقريبٌ منه قوله تعالى: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ وإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 16]، وعلى أن يتم الكلام عند قوله: (ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) قوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) جاء على عمومه، والمراد من قوله: (ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)، لا ينقص من سعيكم في نصرة الدين وسائر أعمالكم، ويكون قوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)) ردعاً لهم على جبنهم وخوفهم من الناس لمحبة الدنيا، والركون إلى حطامها، وإيثارها على الجهاد الذي هو الحياة الأخروية، وهو كالتمهيد للجواب، يعني: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ)، وهو استئنافٌ لبيان أن جبنهم وخوفهم من الناس لا ينفعهم البتة؛ لأن الآجال مقدرة، لا ينفع الحذر إذا جاء القدر.

ثم ابتدأ قوله: (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، والوقف على هذا الوجه على (أينما تكونوا). والبروج: الحصون. (مشيدةٍ) مرفعة. وقرئ: (مُشَيَّدَةٍ) من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجصّ. وقرأ نعيم بن ميسرة: (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء؛ وصفاً لها بفعل فاعلها، مجازاً كما قالوا: قصيدةٌ شاعرة، وإنما الشاعر فارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبروج: الحصون. (مُّشَيَّدَةٍ): مرفعةٌ). الراغب: البروج: القصور، وسمي بروج النجوم لمنازلها المختصة بها، وقوله تعالى: (ولَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) يصح أن يراد بها بروجٌ في الأرض، وتكون إشارةً إلى ما قال الشاعر: ولو كنت في غمدان يحرس بابه ... أراجيل أحبوشٌ وأسود آلف إذاً لأتتني حيث كنت منيتي ... يحث بها هادٍ لإثري قائف وأن يراد بها (بروج النجوم)، ويكون لفظ المشيدة فيها على سبيل الاستعارة، وتكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسبب السماء بسلم قوله: (السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة). الراغب: الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة؛ ك ((الحيوان)) الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار، أو من الأسماء المختلفة كالعين، ولو أن قائلاً قال: الحيوان متكلم، والحيوان غير متكلم، وأراد بالأول الإنسان، وبالثاني الفرس والحمار: لم يكن مناقضاً؛ وكذا إذا قيل: العين في الوجه، والعين ليس في الوجه، وأريد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب، وكذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآية: إذا أريد بالحسنة والسيئة في الآية الثانية غير الذي أريد بهما في الآية الأولى. وقلت: ويمكن أن يقال: لما عقب (وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) بقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) بقوله: (وأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة؛ ولذلك غير العبارة في قوله: (وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) وقوله: (مَا أَصَابَكَ). قال الراغب: فإن قيل: ما الفرق بين قولك: هذا من عند الله، وهذا من الله؛ حتى قال في الأول: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) وقال في الثاني: (فَمِنَ اللَّهِ)؟ قيل: إن قوله: من عند الله أعم؛ فإنه قد يقال فيما كان يرضاه ويسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى، ولا يقال: هو من الله إلا فيما يرضاه ويأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه: إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان. فالنفس المذكورة في قوله تعالى: (إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53]، ومقتضى الآية كقوله: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا) [القصص: 89]، وقوله: (ومَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) الآية: [القصص: 90]. فإن قيل: إذا كان معنى الآية على ما ذكرت في أنه أريد به الثواب والعقاب؛ فهلا قال: ما أصابك من حسنة وسيئة فمن نفسك، إذا كان مقتضى ثوابه وعقابه فعل العبد؟ قيل: إنما نسب الله تعالى الحسنة إلى نفسه في الثواب تنبيهاً على أنه سبب الخيرات، ولولاه لما حصل بوجهٍ، فإنه يكسبه العبد بإرادةٍ من الله تعالى وأمرٍ وحثٍّ وتوفي، وأما السيئة وإن كانت بإرادةٍ من الله تعالى فليس بأمرٍ منه ولا حثٍّ ولا توفي، ومع ذك أدب بذلك عباده يراعوا فيما ينالهم من نعمته عليهم وينسبوا الحسنات إليه ويعملوا أنه سبب كل خيرٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آت، وأنه لولاه لما حصل منها شيء، وعلى هذا قول عليٍّ رضي الله تعالى عنه: لا تخش إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربك، وقال القاضي: الآيتان كما ترى لا حجة لنا فيهما ولا للمعتزلة. وأما الإمام فقد أطنب فيه كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، فاختار منها العموم، قال: قوله: (وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ) يفيد العموم في كل الحسنات من النعم والطاعات، (وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يفيد العموم في كل السيئات من البلايا والمعاصي، ثم قوله: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) صريحٌ في أن الجميع من الله، فكانت الآية دالةً على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله تعالى وهو المطلوب. وما اختاره المصنف من اختصاصهما بالنعمة والبلية أولى، والمقام له أدعى، لا سيما سبب النزول، ولفظة الإصابة إنما تستعمل فيما ذكر شائعاً ذائعاً، وفي الطاعة والمعصية نادراً، لكن يشكل بما أنه تعالى إنما نفى أن تكون الحسنة والسيئة المخصوصتان من عند غيره بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ)، ثم أثبت أن تلك الحسنة من الله والسيئة من نفس العبد، والتقصي منه إنما يحصل ببيان فائدة ذكر (عِندِ)، والتمييز بلفظة (هَذِهِ)، وليست إلا لاستقلال الاستناد، كأنه قيل: ليست هذه السيئة المشخصة إلا من تلقاء نفسك ومن قبلك، وليس لله تعالى فيها قضاءٌ ولا قدر، ونحوه قوله: (وعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]، أي: بغير واسطة تعليم معلم، قال في قوله تعالى: (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) [البقرة: 109]: ((تمنيهم ذلك من عند أنفسهم، ومن قبل شهواتهم، ولا من قبل التدين والميل مع الحق))، ألا ترى كيف أثبت ونفى، وكان يلزم منه تعدد الخالق كمذهب المجوس؟ ولما لم يكن قصد اليهود في الإيراد هذا- بل ما ذكره المصنف من قوله: ((أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك وما كانت إلا بشؤمك)) لكن لزم منه ذلك- رد الله تعالى عليهم بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) هذا المؤدي اللازم أولاً، لكونه أهم؛ لأنه ذبٌّ عما يلزم نسبته إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله تعالى من الشرك ظاهراً، ثم وبخهم وعنفهم حيث رتب عليه بالفاء قوله: (فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، وجاء باسم الإشارة تحقيراً، وخص الفقه بالذكر تسجيلاً عليهم بعدم الفطنة، أي: فما لهؤلاء الجهلة لا يفطنون ما يتفوهون من لزوم تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم، ثم استؤنف بما هو حقيقة الجواب قائلاً: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) على الخطاب العام، ليدخلوا فيه دخولاً أوليًّا مشتملاً على نوعٍ من الالتفات، أخبر عنهم أولاً على سبيل الغيبة في قوله: (وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا)، ثم جعلهم كالحاضرين المشاهدين في قوله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلاءِ) نعياً عليهم سوء مقالتهم إلى غيرهم، ثم صيرهم كالمخاطبين في قوله: (مَا أَصَابَكَ) مزيداً للتوبيخ على ما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إضافة الشؤم إليه، وأبرز الجواب على صورة القول بالموجب، قرر أولاً ما أرادوا من قولهم، ثم كر إلى إبطاله وقلعه من سنخه، أي: صدقت أيها القائل فيما قلت: هذه من عند الله، لكن كذبت فيما زعمت: هذه من عندك؛ بل هو من شؤم نفسك الخبيثة وتكذيبك الحق الجلي بقولك: إن محمداً ليس بمبعوثٍ إلى الكل، وإن بعثته مختصةٌ بالعرب، فظهر من هذا التقرير اختلاف جهتي نفي المشيئة وإثباتها من حيث الإيجاد والسبب، وإلى الأول يلمح قوله: ((فرد الله عليهم بقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) يبسط الأرزاق ويقبضها)) وإلى الثاني بقوله: ((لأنك السبب فيها)). ولما فرغ سبحانه وتعالى من رد القوم في الأمرين؛ شرع يسلي حبيبه صلوات الله عليه وسلامه مما أضافوا إليه من أن السيئة بسببك ومن قولهم: إنك لست بمبعوثٍ إلى الكل بقوله: (وأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)، فإنه دل بعبارة النص على ما قال المصنف: ((لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم))، ودل بإشارته بواسطة لفظ الإرسال والعموم وإيثار صيغة التعظيم وخطاب الرسول على معنى قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، يعني: كيف يتصور فيه السوء؟ وإنه رحمةٌ مهداةٌ للعالمين. وكفى بقوله تعالى: (وكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) على إرادة التسلي، والله تعالى أعلم بمراده من كلامه.

قال اللَّه تعالى: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168]. وقال: (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود: 114] والمعنى: وإن تصبهم نعمة من خصبٍ ورخاءٍ نسبوها إلى اللَّه، وإن تصبهم بليةٌ من قحطٍ وشدة أضافوها إليك، وقالوا: هي من عندك وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى اللَّه عن قوم موسى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف: 131]، وعن قوم صالح: (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) [النمل: 47]. وروي عن اليهود - لعنت - أنها تشاءمت برسول اللَّه؛ فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فردّ اللَّه عليهم بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح. (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فيعلموا أن اللَّه هو الباسط القابض، وكل ذلك صادر عن حكمةٍ وصواب. ثم قال: (ما أَصابَكَ) يا إنسان، خطاباً عاماً (مِنْ حَسَنَةٍ) أي: من نعمةٍ وإحسانٍ (فَمِنَ اللَّهِ): تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً وامتحاناً (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ): من بليةٍ ومصيبةٍ (فَمِن نَّفْسِكَ): لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك، (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: "ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ) يا إنسان، خطاباً عامًّا) يعني: أنه من باب قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا أي: الخطاب لعامته بحيث لا يختص بأحدٍ دون أحد. قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها: ((ما من مستلم))) الحديث من رواية البخاري ومسلمٍ وغيرهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مصيبةٍ تصيب المؤمن إلا كفر الله عنه بها، حتى الشوكة يشاكه)).

يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما يعفو اللَّه أكثر". (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا)، أي: رسولاً للناس جميعاً، لست برسول العرب وحدهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: شاكتني الشوكة: إذا دخلت في جسده. قوله: (أي: رسولاً للناس جميعاً) يريد أن تقديم (لِلنَّاسِ) على عامله وهو (رَسُولاً) يفيد في هذا المقام معنى القصر القلبي، وبيانه أن اللام في (لِلنَّاسِ) للاستغراق، وهو في مقابلة البعض؛ لأنه رد لزعم اليهود أنه مبعوثٌ إلى العرب خاصةً دون كل الناس، وإليه الإشارة بقوله: ((لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم)) أي: جميع أصناف الناس؛ لأن معنى القصر القلبي: رد المخاطب إلى إثبات ما ينفيه، ونفي ما يثبته من الحكم. والظاهر أن القائلين اليهود؛ لأنه تعالى لما رد عليهم ما قالوه في حقه صلى الله عليه وسلم: (وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ) بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ)، كما يدل عليه قول المصنف: ((روي عن اليهود- لعنت- أنها تشاءمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، فرد الله عليهم بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ)))، وكان ذلك أمراً يتعلق بالأمور الدنيوية، أتى برد آخر على ما يتعلق بالأمور الدينية استطراداً، وهو قوله تعالى: (وأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً). وإنما أوثر التعريف الاستغراقي على العهد والجنس؛ لأنه إذا جعل للعهد والمقام فقد أثبت بعثته إلى بعضٍ دون بعض، وإذا رد زعمهم أنه لم يبعث إليهم بل بعث إلى العرب فتنتفي بعثته عن العرب ويختص، وهو خلف. وأما الجنس فلا يصح أيضاً، لأن الكلام حينئذٍ مع جنس الناس وجنس الجن، ولا قائل: إنه لم يبعث إلى الإنس بل بعث إلى الجن. وأما قصر الإفراد فلا يصح أيضاً؛ لأنه لا يزعم أحدٌ من المخالفين أنه بعث إلى الجن والإنس، فيرد أنه مختصٌّ بالإنس. قال أبو البقاء: (رَسُولاً): حالٌ مؤكدة، أي: ذا رسالة، ويجوز أن يكون مصدراً، و (لِلنَّاسِ) متعلقٌ بـ (أَرْسَلْنَا).

أنت رسول العرب والعجم، كقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ: 28]، (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف: 158]. (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) على ذلك، فما ينبغي لأحدٍ أن يخرج عن طاعتك واتباعك. [(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)]. (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ)؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر اللَّه به، ولا ينهى إلا عما نهى اللَّه عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه طاعة اللَّه. وروي أنه قال: «من أحبنى فقد أحبّ اللَّه، ومن أطاعنى فقد أطاع اللَّه» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: (رَسُولاً): حالٌ قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل، والتعميم إن علق بها: رسولاً للناس. وإنما اختار المصنف هذا الوجه ليطابق المقام؛ لأن الكلام مع اليهود كما سبق؛ ولهذا استشهد بالآيتين الدالتين على العموم، على أن يكون (كَافَّةً) صفة مصدرٍ محذوف، أي: إلا رسالةً كافةً عامةً محيطةً بهم، وعلى أن يكون حالاً من الكاف، أي: جامعاً للناس في الإنذار على: وما أرسلناك إلا كافًّا للناس عن الكفر والمعاصي. قوله: ((فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله) إلى آخره. هذا التعليل يفيده لفظ (الرَّسُولَ)؛ لأنه من وضع المظهر موضع الضمير للإشعار بعلية إيجاب الطاعة له، يدل عليه السياق وهو قوله: (وأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)، والسياق وهو قوله: (ومَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، وكان من الظاهر: ومن تولى فقد عصى الله؛ بقوله: (فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، فوضع موضعه (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ليدل على المبالغة؛ لأن هذا الكلام إنما يخاطب به من ظن أنه حفيظٌ عليهم وعلى أن يردهم من العصيان إلى الطاعة، وهذا يبنى على أن القوم قد أوغلوا في العصيان.

غير اللَّه، ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت. (وَمَنْ تَوَلَّى) عن الطاعة فأعرض عنه، (فَما أَرْسَلْناكَ) إلا نذيراً لا حفيظاً ومهيمناً عليهم، تحفظ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، وتعاقبهم، كقوله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام: 107]. [(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً)]. (وَيَقُولُونَ) إذا أمرتهم بشيءٍ: (طاعَةٌ) بالرفع، أي: أمرنا وشأننا طاعة، ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعةً، وهذا من قول المرتسم: سمعاً وطاعةً، وسمعٌ وطاعةٌ. ونحوه قول سيبويه: وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد اللَّه وثناءٌ عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد اللَّه، ولو نصب حمد اللَّه وثناءً عليه كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها. (بَيَّتَ طائِفَةٌ): زورت طائفة وسوت (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) خلاف ما قلت وما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قول المرتسم). الأساس: ومن المجاز: رسمت له أن يفعل كذا فارتسمه، وأنا أرتسم مراسمك لا أتخطاها، ومنه: ارتسم: إذا دعا، كأنه أخذ بما رسم الله له من الالتجاء إليه. قوله: (زورت طائفةٌ) يروى بالراء والزاي بعد الواو، يقال: زورت في نفسي كلاماً ثم قلته، أي: دبرت، ومنه قول عمر رضي الله عنه: زورت في نفسي كلاماً أقوم به يوم السقيفة، فقام به أبو بكرٍ رضي الله عنه. ورواه أبو عبيدة بتقديم الزاي على الراء، وقد خطئ، وليس بخطأٍ؛ لأن المصنف ذكره في ((الفائق)) في كتاب الزاي، في سقيفة بني

أُمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة؛ لأنهم أبطلوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون، والتبييت: إما من البيتوتة؛ لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليلٍ، وإما من أبيات الشعر؛ لأن الشاعر يدبرها ويسويها. (وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ): يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد؛ أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك، فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ): ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) في شأنهم، فإنّ اللَّه يكفيك معرّتهم، وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ: (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام وتذكير الفعل؛ لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج. [(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)]. تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ساعدة حين اختلفت الأنصار على أبي بكر، فجاء أبو بكرٍ رضي الله عنه فما ترك شيئاً مما كنت زورته، قال أبو زيد: كلامٌ مزورٌ ومزوق أي: محسن، وقيل: مهياٌ مقوًّى. من قول ابن الأعرابي: الزور: القوة، وليس له زور، أي: قوة رأي. وفي ((النهاية)) في باب الزاي: في حديث عمر: كنت زورت في نفسي مقالةً، أي: هيأت وأصلحت. قوله: (معرتهم). النهاية: المعرة: الأمر القبيح المكروه والأذى، وهي مفعلةٌ من العر، وأصل المعرة: موضع العر، وهو الجرب. قوله: (وقرئ: ((بيت طائفةٌ)) بالإدغام): قرأ أبو عمروٍ وحمزة بإدغام التاء في الطاء، والباقون بفتح التاء من غير إدغام. قوله: (تدبر الأمر: تأمله)، قال المصنف: في قوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ) الآية،

في كل تأمل، فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه. (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً): لكان الكثير منه مختلفاً متناقضاً، قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغاً حدّ الإعجاز، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، وبعضه إخباراً بغيبٍ قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه، وبعضه دالاً على معنى صحيحٍ عند علماء المعاني، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوائد، منها: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد، وبطلان وقل من يقول: القرآن لا يفهم المراد بظاهره، وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، وفيها الدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها، وفيه نظر. الراغب: التدبر: النظر في دبر الأمور وتأملها، وأصله من الدبر، ومنه الدبور، وقد يقال ذلك في تأمل الشيء بعد حصوله، ومعرفة خيره من شره، وصلاحه من فساده، كقولك: تدبرت فيما فعل فلان فوجدته سديداً، وإلى هذا نظر المصنف في قوله: ((ثم استعمل في كل تأمل)). قوله: (دالاًّ على معنًى صحيحٍ عند علماء المعاني). إنما خص علماء المعاني؛ لأن جل التركيب التنزيلي وارد لا على مقتضى الظاهر، فمن لم يمارس هذا العلم وما منح الفضل الإلهي من سلامة فطرةٍ واستقامة طبيعةٍ وشدة ذكاءٍ وصفاء قريحة: بادر إلى بيان الاختلاف وإظهار التناقض، وإذا نظر صاحبه إليه استنبط من ذلك الاختلاف معاني تحرق منها الأوهام وتسلب بها العقول. قال السجاوندي: الاختلاف هو الذي يرجع به إليه عيب التناقض لا التجنس وبسط وجوه المعاني وتشعب الآراء في التفسير والتأويل، وهو برهان الكمال، واختلاف الجاهل فيه لا يؤثر في كماله كما لم يصر كذباً بتكذيب الجاهلين، وقد قال الله تعالى: (ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) [هود: 110].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وها نحن نبين لك بلسانهم ما تقتضيه الحال في هذا المقام؛ وهو أن ((لو)) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا دخلت على المثبت جعلته منفيًّا وبالعكس، فإذن المعنى: ما وجدوا في القرآن اختلافاً كثيراً؛ لأنه كان من عند الله، فمن ذهب إلى أن الوصف تخصيصٌ وإثبات للحكم فيما عدا المذكور؛ التزم الاختلاف في القليل، لكن غير مخل، كالناسخ والمنسوخ والمتشابه والعام والخاص ونحو ذلك. قلت: كلا، إنما يذهب إلى ذلك إذا لم يوجد للتخصيص فائدةٌ سواه، وها هنا الكلام في قومٍ مخصوصين في شأن البلاغتين؛ لأنهم تحدوا بهذا القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ومع ذلك تقاعدوا عن الإيمان به، فأنكر عليهم، وقيل في حقهم: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) الآية، وفائدة الوصف: أن الواجب من حيث الظاهر أن يجدوا اختلافاً كثيراً؛ لكونهم أكثر من حصى البطحاء ورمال الدهناء مع كونهم فرسان البلاغة لا يشق غبارهم في ميدان الطراد مع تهالكهم وحرصهم على الدفع بإظهار الاختلاف، فلما لم يظفروا بشيء منه؛ علم أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر، فوجب عليهم أن يتدبروا في ذلك، ويظهروا الإيمان به، نحو قوله تعالى: (لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) [آل عمران: 130]، وقوله: (ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ) [الإسراء: 31]. هذا وأما من جهة المعاني: فإن قولك: ما وجدوا في القرآن اختلافاً كثيراً؛ فمن باب قوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18]، وقول الشاعر: على لا حبٍ لا يهتدى بمناره فيحتمل أن لا يكون ثمة اختلافاً ولا كثرة، وأن يكون اختلافاً غير كثير؛ فدل على الأول اقتضاء المقام على ما سبق. ووجهٌ آخر؛ وهو أن يكون في الكلام حذف، أي: يتغافلون، وهم الذين لا يصطلي بنارهم في المعرفة والفطنة، فلا يتفكرون في هذا القرآن وأنه من عند الله؛ إذ ليس فيه اختلافٌ قط، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فما لهم لا يؤمنون به؟ ! فتكون الجملة الشرطية معطوفةٌ على هذا المقدر. والله أعلم.

وبعضه دالاً على معنى فاسدٍ غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزةً فائتةً لقوى البلغاء، وتناصر صحة معانٍ وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن قلت: أليس نحو قوله: (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف: 107]، (كَأَنَّها جَانٌّ) [النمل: 10]؛ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر: 92]، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) [الرحمن: 39]؛ من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلافٍ عند المتدبرين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس باختلافٍ عند المتدبرين). قال على الأول: إن العصا كانت عند انقلابها حيةً صغيرةً، ثم تزايد جرمها حتى صارت ثعباناً، فالجان أول حالها والثعبان مآلها، أو كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. وعلى الثاني: إن يوم القيامة يومٌ طويل، وفيه مواطن، فيسألون في مواطن ولا يسألون في أخر. الراغب: إن للإنسان هاديين: الشرع والعقل، أحدهما أصلٌ للآخر، فبين تعالى أن الذي أتاكم به من الشرع لو كان من عند غير الله لكان مقتضى العقل يخالفه، فلما لم يوجد بينه وبين العقل منافاةٌ علم أنه من عند الله، فإن قيل: فقد ورد في الشرع أشياء يقتضي العقل خلافها، قيل: كلا، فإن جميع ما ورد به الشرع لا ينفك من وجهين: إما شيءٌ يحكم به العقل لكونه حسناً، مثل: الاشتغال بعبادة الرب مطلقاً، أو يكون غير مهتدٍ إلى معرفته لا أنه يستقبحه، فبين الشرع حسنه، وذلك كأعداد الصلوات وهيئاتها وأركانها في كونها عبادةً على وجهٍ دون وجه، وأما أن يأتي الشرع بشيءٍ قد قضى العقل بكونه قبيحاً فليس بموجود، وبعض الناس يصور أشياء ينفر الطبع منها، كعاداتٍ جارية أو اعتقاداتٍ فاسدة؛ وذلك أنهم لم يفرقوا بينه وبين حكم العقل، وظنوا أن حكم العقل حكمٌ بضد الشرع كذبح البهائم.

[(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً* فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)]. هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم ناسٌ من ضعفة) أي: ((هم)) في (وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ)، وقوله: ((كانوا إذا بلغهم)) جملةٌ مبنيةٌ ومن ثم لم يجئ بالعاطف، فإن قلت: كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ قلت- والله أعلم-: إنه تعالى لما حرض المؤمنين على القتال بقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا) [النساء: 4]، وزاد التحريض ثانياً بقوله: (ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ) [النساء: 5]، وترقى فيه ثالثاً إلى قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [النساء: 6]، وربع بالتعيير لبعض من جبن عن القتال من المؤمنين، وبالغ في الرد عليه حتى بلغ إلى أن قال: إن الآجال مقدرةٌ والحذر لا يزيد في العمر، والاقتحام في المهالك لا ينقص منه، وكان حديثاً مناسباً للقضاء والقدر، فاستطرد ذكر المنافقين القائلين بما ينافي القدر، وأجاب عنهم: أن الكل بقضائه وقدره، وزجرهم ونسبهم إلى الجهل كما سبق، ثم أرشدهم إلى التفكر في النصوص الواردة في القرآن في ذلك بقوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ) [النساء: 82] عاد إلى حديث الذين كفوا وجبنوا وأمثالهم، وعيرهم بنوعٍ آخر حيث قال: (وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ)، ولما فرغ من حديثهم كر إلى التحريض في القتال قائلاً: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ) مزيداً لإلهاب المؤمنين؛ حيث خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطاب وبالأمر بالقتال، وختم به أمر المقاتلة والمعاملة مع أعداء الله، ولما أراد أن يأخذ في شرعٍ آخر، وهو حن المعاشرة مع أولياء الله- وهو قوله تعالى: (وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ) - جعل قوله: (مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً)

للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أمنٍ وسلامة، أو خوفٍ وخللٍ (أَذاعُوا بِهِ)، وكانت إذاعتهم مفسدة. ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللَّه وإلى أولي الأمر منهم وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور، أو الذين كانوا يؤمرون منهم؛ (لَعَلِمَهُ): لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ): الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول اللَّه وأولي الأمر على أمنٍ ووثوقٍ بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعارٍ فيذيعونه، فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر) وفوّضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه؟ وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تخلصاً إليه؛ لأن الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حقٌّ، ودفع بها شرٌّ، وجلب خير، (واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4]. قوله: (أو الذين كانوا يؤمرون منهم) عطفٌ على قوله: ((كبراء الصحابة)) أي: علماؤهم المجتهدون منهم، والوجهان مبنيان على تفسير قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59] على ما سبق. قوله: ((الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ): الذين يستخرجون تدبيره). الراغب: الاستنباط: خرج الشيء من أصله كاستنباط الماء من البئر، والجوهر من المعدن، وذلك كالإثارة في خرج التراب، واستعير للحديث، ومنه النبط، لاستنباطهم الأرض وعمارتها، والآية تقتضي أن لا يقدم الإنسان على ما لا يتحقق جواز الإقدام عليه، ولا يقول إلا عن بصيرة، وعلى ذلك قوله تعالى: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]. قوله: (وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين) عطفٌ على قوله: ((وقيل: كانوا يقفون

ذلك وبالاً على المؤمنين، (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر)، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع؛ هؤلاء المذيعون، وهم (الذين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر)) وهو عطفٌ على قوله: ((كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم)). اعلم أن ما ذاعت به ضعفة المسلمين مما يجب إخفاؤه: إما أن يكون من أسرار المؤمنين أو المنافقين، والأول: إما أن تكون الأسرار التي سمعوها في أمر المسلمين من غيرهم، أو سمعوها من الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر. أما المعنى على الوجه الأول: فهو أن الضعفة إذا سمعوا من أمر عساكر المسلمين شيئاً من الخير والشر أفشوا وأورث ذلك فساداً في أمر المؤمنين، فقيل لهم: لو سكتوا عن ذلك ولم يعلموا سوى الرسول والصحابة لتداركوا ذلك بحيث لا يؤدي إلى الفساد. وعلى الثاني: أنهم إذا وقفوا على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من الأمن أو الخوف أظهروها، وكان ذلك خللاً في أمورهم، ولو فوضوا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لدبروا وأصلحوا ذلك الخلل. وعلى الثالث: إذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المنافقين أراجيف في سرايا المؤمنين بادرت الضعفة إلى الإشاعة ولم يصبروا حتى ينظر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هل هو مما يذاع أم لا؟ ف ((من)) في (يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) على الوجهين الأولين: بيانيةٌ تجريدية، وعلى الثالث: ابتدائية؛ ولهذا قال في هذا الوجه: (((الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ) من الرسول وأولي الأمر، أي: يتلقونه ويستخرجون علمه من جهتهم))، فعلى هذا (الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ): الضعفة، وعلى الوجهين الأولين: المراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكبراء الصحابة، فيكون من وضع المظهر موضع المضمر للإشعار بالعلية، وفيه تنبيهٌ على علو منزلة المجتهدين. قوله: (هؤلاء المذيعون) فاعل ((لعلم))، وقوله: ((وفوضوه إليهم))، وقوله: ((وقالوا: نسكت)) كلاهما من عطف التفسير.

يستنبطونه) من الرسول وأولي الأمر، أي: يتلقونه منهم، ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السر وأذاع به، قال: أَذَاعَ بِهِ فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأذاع به). الانتصاف: في اجتماع الهمزة والباء نظر؛ لأنهما تتعاقبان، وهو الذي اقتضى الزمخشري أن يقول: ((فعلوا به الإذاعة)) ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة. الإنصاف: على الأول لا تجعل الهمزة للتعدية؛ بل ذاع وأذاع بمعنًى، ولا يمنع اجتماعهما مع الباء نحو: سرى به وأسرى به. وقلت: ويعضده قراءة من قرأ: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون: 20] بضم الباء، وسيجيء الكلام فيه. وقال أبو البقاء: الألف في (أَذَاعُوا) بدلٌ من ياء، يقال: ذاع الأمر يذيع، والباء زائدة، وقيل: حمل على معنى: تحدثوا به. الانتصاف: في هذه الآية تأديبٌ حسنٌ لمن يحدث بكل ما سمع وكفى به كذباً، وخصوصاً عن مثل الأعداء الناصبين. وقلت: نحوه في الحديث: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))، أخرجه مسلمٌ وأبو داود، عن أبي هريرة. قوله: (أذاع به في الناس) البيت، قبله:

ويجوز أن يكون المعنى: فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ: (لعَلِمَهُ) بإسكان اللام كقوله: فَإنْ أَهْجُهُ يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الْأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وإنباطه واستنباطه: إخراجه واستخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمنت على السر امرأ غير حازمٍ ... ولكنه في النصح غير مريب علياء: اسم موضع، والثقوب: ما ثقبت به النار. قوله: (فعلوا به الإذاعة) يريد أن قوله: (أَذَاعُوا) على باب قول الشاعر: .. يجرح في عراقبيها نصلي جعل لازماً، ثم عومل معه معاملة اللازم فعدي بالباء، المعنى: جعلوه موضعاً للإذاعة ومكانها؛ ولهذا قال: ((وهو أبلغ من أذاعوه)). وروي عن سيبويه: ظننت بك ذاك، أي: جعلتك مكاناً للظن. قوله: (فإن أهجه) البيت، يضجر: من ضجر الرجل بالشيء يضجر: إذا تبرم به، والبازل: الشاب من البعير، والأدم: البيض؛ وإنما خصها لأنها أرق جلوداً، يقال: أدبرت العير تدبر، أي: تقرح، صفحتاه، أي: جانبا ظهره وغاربه، يقول: إن أهجه يضجر كما يضجر من الدبر النوق. قوله: (فيما يعضل ويهم) نشرٌ للمعاني والتدابير.

(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) وهو إرسال الرسول وإنزال الكتاب والتوفيق، (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ): لبقيتم على الكفر (إِلَّا قَلِيلًا) منكم، أو: إلا اتباعاً قليلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ): لبقيتم على الكفر (إلاَّ قَلِيلاً) منكم، أو: إلا إتباعاً قليلاً)، الأول: استثناءٌ من فاعل ((اتبعتم))، والثاني من مصدره. الانتصاف: في قول الزمخشري نظر؛ إذ جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناءً على ظاهر الإعراب، ويفسد المعنى؛ إذ يلزم منه جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن إتباع الشيطان إلى معصيته؛ وليس لله تعالى عليه فضلٌ في ذلك معاذ الله منه؛ لأن لولا: حرف امتناعٍ لوجود، يدل على أن امتناع إتباع المؤمنين الشيطان في الكفر إنما كان لوجود فضل الله عليهم، فالفضل منع من إتباع الشيطان، فإذا استثنيت منها فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الإتباع عن البعض المستثنى وجعلتهم مستبدين بإتباع الإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله، كما تقول: لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلاً، فلا تجعل لمساعدتك أثراً في إبقاء القليل وإنما مننت عليه ببقاء تأثير المساعدة في أكثر ماله؛ ومن ثم أعاد القاضي أبو بكرٍ الاستثناء على ما قبل الجملة الأخيرة ثم اتخذها دليله في الرد على من جزم بعود الاستثناء إذا تعقب، حملاً إلى الجملة الأخيرة. وقال الإمام: ظاهر هذا الاستثناء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته، ومعلومٌ أن ذلك محال؛ فعند ذلك اختلف المفسرون، قيل: الاستثناء راجعٌ إلى قوله: (أَذَاعُوا)، فالتقدير: إذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً، فأخرج من هذه الإذاعة بعضهم، قيل: راجعٌ إلى قوله: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إلا القليل، قال الفراء والمبرد: القول الأول أولى؛ لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله، وقيل: الاستثناء متعلقٌ بقوله: (ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ)؛ لأن حرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى؛ فهذا القول لا يتمشى إلا إذا فسرنا الفضل والرحمة

لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بشيءٍ خاص، وفيه وجهان، الأول: وهو قول جماعة من المفسرين: إن المراد بفضل الله ورحمته إنزال القرآن وبعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المعنى: لولا بعثة محمدٍ وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله إلا القليل منكم، فإنهم ما تبعوا الشيطان وما كفروا، مثل قس ابن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل. وثانيهما: ما ذكر أبو مسلم، وهو أن المراد بفضل الله ورحمته النصرة والمعونة، المعنى: لولا حصول النصرة والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم، وهم أهل البصائر النافذة والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقًّا حصول الدولة في الدنيا، أو باطلاً الانكسار والانهزام؛ بل مدار الأمر في كونه حقًّا أو باطلاً على الدليل. وهذا أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق. وقلت: يشهد للقول الأول من هذين القولين قوله تعالى: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ) [النساء: 80] وقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ)، وللقول الثاني قوله تعالى: (وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ)، وبعده: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ). وأما كلام المصنف فلا يمكن تصحيحه لتقييده بالتوفيق. قوله: (لما ذكر في الآي قبلها تثبيطهم عن القتال) وهي قوله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ) [النساء: 77] الآيات، وسبيل هذه الآية والفاء في (فَقَاتِلْ) مع الآيات السابقة سبيل الفاء في قوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) [النساء: 74] مع ما قبله، وهو قوله تعالى: (وإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ ... ) الآية [النساء: 2]، لكن هذا الخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك مع المؤمنين كما سبق. وقال الزجاج: الفاء في (فَقَاتِلْ) جواب قوله: (ومَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية [النساء: 4]، ويجوز أن يكون متصلاً بقوله تعالى: (ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء: 5] أي: أي شيءٍ لكم في ترك القتال؟ (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فأمره بالجهاد ولو قاتل وحده؛ لأنه

قال: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إن أفردوك وتركوك وحدك (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ): غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ اللَّه هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول اللَّه اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا؛ فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده. وقرئ: (لا تكلف) بالجزم على النهي، و (لا نكلف) بالنون وكسر اللام، أي: لا نكلف نحن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضمن له النصر، وروي عن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه في الردة قال: لو خالفتني يميني جاهدتها بشمالي. الراغب: إن قيل: كيف قال: (لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ) وقد بعث لتكليف الناس؟ قيل: لم يعن بالتكليف الاستدعاء الذي رشح له؛ بل للتحريض وتحريض الناس على الخروج معه، ألا ترى أنه قال: (وحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ)؟ وهذه الآية تقتضي أن على الإنسان أن لا يني في نصرة الحق وإن تفرد. وقال بعض العارفين: من طلب رفيقاً في سلوك طريق الحق فلقلة يقينه وسوء معرفته، فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يعرج على رفيقٍ ولا يبالي بطول طريق، فمن خطب الحسناء لم يغله المهر. قوله: (غير نفسك وحدها) لم يرد به أن ((إلا)) هنا بمعنى: غير؛ بل إنها من الاستثناء المفرغ وفيه معنى الحصر؛ ولهذا أكده بقوله: ((وحدها)) أي: لا تكلف شيئاً إلا أن تقدم نفسك إلى الجهاد، وقوله: ((أن تقدمها للجهاد)) بيانٌ لقوله: ((غير نفسك)). قوله: (لم يلو على أحد). الأساس: ومر لا يلوي على أحد: لا يقيم عليه ولا ينتظره.

إلا نفسك وحدها. (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ): وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَاسَ الَّذِينَ كَفَرُوا): وهم قريش، وقد كف بأسهم، فقد بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عامٍ مخصبٍ فرجع بهم. (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاساً) من قريشٍ (وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) تعذيباً. [(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)]. الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه اللَّه، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمرٍ جائزٍ، لا في حدّ من حدود اللَّه، ولا في حق من الحقوق، والسيئة: ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروقٍ أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جاريةً فغضب وردها، وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها. وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم، لأنها في معنى الشفاعة إلى اللَّه. وعن النبي: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له؛ قال له الملك: ولك مثل ذلك» فذلك النصيب. والدعوة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد كف بأسهم) أتى بقوله: ((قد)) للتحقيق، مشيراً به إلى أن (عَسَى) استعمل للتحقيق. قال الزجاج: ((عسى)) في اللغة للطمع، والطمع والإشفاق من الله تعالى واجبٌ، كأنه قال: إن الله سيكف بأس الذين كفروا. قوله: (من دعا لأخيه) وفي روايةٍ لمسلم، عن أبي الدرداء، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبدٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل))، والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، قاله صاحب ((النهاية)). قوله: (فذلك النصيب) يريد أن معنى النصيب في قوله: (يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا)

على المسلم بضد ذلك. (مُقِيتاً): شهيداً حفيظاً. وقيل: مقتدراً، وأقات على الشيء قال الزبير بن عبد المطلب: وَذِى ضِغْنٍ نَفَيْتُ السُّوءَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مُقِيتَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا المذكور، وفيه أن معنى الكفل بضد ذلك؛ ولذلك قال: ((والدعوة على المسلم بضد ذلك)). الراغب: فإن قيل: فلم فرق بينهما في الحسنة: (نَصِيبٌ)، وفي السيئة: (كِفْلٌ)؟ قيل: يجوز أنه لما كان النصيب يقال فيما يقل ويكثر، والكفل لا يقال إلا في المثل، جاء في السيئة بلفظ الكفل؛ تنبيهاً على معنى المماثلة، وإشارةً؟ إلى ما قال: (ومَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا) [الأنعام: 160]، وقد قيل: الكفل أكثر ما يقال في الشيء الرديء، فنبه بلفظه على ذلك تنبيهاً على قوله: (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40]، فإن قيل: فقد قال: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ) [الحديد: 28] وليس ذلك بمذموم، قيل: إنه عنى ها هنا بالكفلين: الكفلين من رحمته يتكفلان به من العذاب، فضارع اللفظان والمعنيان مختلفان، فلما حث الله تعالى في الآية المتقدمة على تكليف ما أمره وتحريض المؤمنين ورجائه الظفر بالكفار، بين ها هنا أن من أعان غيره في فعلٍ حسنٍ فله نصيبٌ في ثوابه، وإن أعانه في فعلٍ سيئ فله كفلٌ منه. وقلت: في الآية حثٌّ على الشفاعة الحسنة في حق الإخوان رجاء الثواب؛ ولهذا قال الشاعر: ومن يفرد الإخوان فيما ينوبهم ... تصبه الليالي مرةً وهو مفرد قوله: (وذي ضغنٍ) البيت، الضغن: الحقد، يقول: رب ذي ضغنٍ علي كففت السوء عنه مع القدرة.

وقال السموأل: أَلِي الْفَضْلُ أَمْ عَلَيّ إذَا حُو ... سِبْتُ إنِّى عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ واشتقاقه من القوت؛ لأنه يمسك النفس ويحفظها. [(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)]. الأحسن منها أن يقول: وعليكم السلام ورحمة اللَّه، إذا قال: السلام عليكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألي الفضل أم علي) البيت، قبله: ليت شعري- وأشعرن- إذا ما ... قربوها منشورةً ودعيت وأشعرن: جملةٌ معترضة، قربوها منشورة: عبارةٌ عن الصحف، كقوله تعالى: (وإذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10] ودعيت: أي: حين يدعى كل أناسٍ بإمامهم، وقوله: ((إني على الحساب مقيت)) جملةٌ أخرى وقعت سادةً مسد معمولي ((ليت شعري))، وعلقت بهمزةٍ مقدرةٍ يدل عليها قوله: ((ألي الفضل)). قوله: (واشتقاقه من القوت). قال الزجاج: (مُّقِيتًا): مشتقٌ من القوت، يقال: قت الرجل أقوته قوتاً: إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت: اسم لذلك الشيء الذي يحفظ به النفس، والله الحفيظ؛ لأنه تعالى يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قوله: (الأحسن منها أن يقول: وعليكم السلام)، فسر التحية بالسلام لكونه سبباً للحياة، ثم عبر عنه بها عرفاً. الراغب: التحية من قولهم: حيا الله فلاناً، أي: جعل له حياةً، وذلك إخبارٌ ثم يجعل دعاءً، ثم يقال: وحيا فلانٌ فلاناً: إذا قال له ذلك وحكم به، كما يقال: أضللت فلاناً

وأن يزيد: وبركاته إذا قال: ورحمة اللَّه. وروي: أنّ رجلاً قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: السلام عليك، فقال: «وعليك السلام ورحمة اللَّه». وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه، فقال: «وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته»، وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، فقال «وعليك» فقال الرجل: نقصتنى، فأين ما قال اللَّه؟ وتلا الآية، فقال: "إنك لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله". (أَوْ رُدُّوها): أو أجيبوها بمثلها، ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله؛ لأن المجيب يرد قول المسلم ويكره، وجواب التسليمة واجب، وعن أبي يوسف رحمه اللَّه: من قال لآخر: أقرئ فلاناً السلام، وجب عليه أن يفعل. وعن النخعي: السلام سنة والردّ فريضة، وعن ابن عباس: الردّ واجب، وما من رجلٍ يمرّ على قومٍ مسلمين فيسلم عليهم ولا يردّون عليه، إلا نزع عنهم روح القدس، وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن جهراً، ورواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأرشدته، إذا حكمت بذلك. وأصل التحية من الحياة، ثم يقال لكل دعاءٍ: ((تحيةٌ))، لكون جميعه غير خارجٍ عن كونه حياةً أو سبب حياة: إما دنيوية وإما أخروية. وإن قيل: على أي وجهٍ جعل قولهم: ((السلام)) تحية الملتقيين؟ قيل: السلام والسلم واحد، بدليل قوله: (فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ) [الذاريات: 25]، ولما كان الملتقيان من الأجانب قد يحذر أحدهما الآخر؛ استعمل هذه اللفظة تنبيهاً من المخاطِب أني بذلت لك ذلك وطلبته منك، ونبه المجيب إذا قال: وعليك السلام على نحو ذلك، ثم صار ذلك مستعملاً في الأجانب والأقارب والأعادي والأصادق، تنبيهاً أني أسأل الله ذلك لك. قوله: (وجواب التسليمة واجب) ثم قوله: (والرد فريضة)، يدل على أن الفرض والواجب سيان. قوله: (نزع عنهم روح القدس). النهاية: أصل النزع: الجذب والقلع، ومنه نزع القوس: إذا جذبها، قيل: معناه: نزع التأييد والتوفيق والبركة، وروح القدس: جبريل، ومنه

الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. وعن أبي يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذرٍ في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي أن المستحب ردّ السلام على الطهارة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه تيمم لردّ السلام. قالوا: ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته، ولا يسلم على أجنبية، ويسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر، وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبي حنيفة: لا يُجهر بالرد. يعني: الجهر الكثير. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم»، أي: وعليكم ما قلتم؛ لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها لحسان: ((إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)). أي: إن شعرك الذي تنافح به عن الله وعن رسوله يلهمك الملك سبيله، نافح أي: دافع، والمنافحة والمكافحة: المدافعة والمضاربة. قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تيمم لرد السلام) عن أبي الجهيم قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: (ويسلم الماشي على القاعد) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير))، أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود. قوله: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب) عن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك))، أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.

وروي: «لا تبتدئ اليهوديّ بالسلام، وإن بدأك فقل: وعليك». وعن الحسن: يجوز أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة اللَّه؛ فإنها استغفار. وعن الشعبي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورووا عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم))، قال صاحب ((الجامع)): السام: الموت. قال الخطابي: عامة المحدثين يروون هذا الحديث بإثبات الواو في ((وعليكم))، وكان سفيان بن عيينة يرويه بغير واو، وقال: هو الصواب؛ لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه؛ لأن الواو تجمع بين الشيئين. وقلت: روينا في ((صحيح البخاري)) من عدة نسخ مقروءة، عن أنس بن مالكٍ رضي اله عنه، قال: مر يهوديٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وعليك))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما يقول؟ قال: السام عليك))، قالوا: يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: ((لا، إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)) في الموضعين بالواو، وقد تكرر أن بدخول الواو العاطفة قد تقطع عن ما عطفت عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام، فيقدر: عليك اللعنة وعليك الغضب وعليك السام ونحوها، يؤيده ما روينا أيضاً في ((الصحيح)) عن عائشة قالت: استأذن رهطٌ من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: ((يا عائشة، إن الله عز وجل رفيقٌ يحب الرفق بالأمر كله))، قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: ((قلت: وعليكم)) يريد- والله أعلم- أني قلت ما قلت وزدت عليه لكن بالرفق. قوله: (يجوز أن تقول للكافر: وعليكم السلام). الراغب: حق من يؤتى شيئاً أن يؤتي مثله وأحسن منه، والسلام ها هنا السلم، وهو أصله، قال: وهذا أمرٌ منه تعالى أن من

أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة اللَّه، فقيل له، فقال: أليس في رحمة اللَّه يعيش؟ وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم، وروي ذلك عن النخعي. وعن أبي حنيفة: لا تبدأه بالسلام في كتابٍ ولا غيره. وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى، ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي: يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها. [(اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)]. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ): إما خبر مبتدأ، وإما اعتراض، والخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ)، ومعناه: (اللَّه) - واللَّه - (ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بذل لكم السلام من الكفار- بأن يروم الدخول في الشرع- فابذلوا له، كقوله تعالى: (وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61] وأمره بأن يرد على باذلها مثلها، وذلك بأن يبذل له الأمان مما خافه أو أكثر منه، بأن يبين أن له ما له وعليه ما عليه من النصرة والموالاة. قوله: (وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام). روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه))، أخرجه مسلمٌ وأبو داود والترمذي. قوله: ((اللَّهُ) - والله- (لَيَجْمَعَنَّكُمْ)) فالقسم مع جوابه خبر (اللَّهُ)، تأويله ما مضى في قوله: (لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ) [النساء: 72].

أي: ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام، كالطلابة والطلاب، وهي: قيامهم من القبور، أو قيامهم للحساب، قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين: 6]. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)؛ لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب؛ وذلك أنّ الكذب مستقل بصارفٍ عن الإقدام عليه وهو قبحه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ليحشرنكم إليه)، قال أبو البقاء: (إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، قيل: التقدير: في يوم القيامة، وقيل: هي على بابها، أي: ليجمعنكم من القبور، فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً، أي: يجمعنكم مفضين إلى حساب يوم القيامة. والمصنف ما ذهب إلى الحال ولا إلى التضمين؛ بل سلك فيه طرق المجاز بحسب مقتضى التركيب، فإن القسم في قوله: ((والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة)) يوجب اضطرار الناس إلى أن يجتمعوا فيه، وهو معنى ((ليحشرنكم إليه)) أي: يضطركم إلى المحشر، قال في ((الأساس)): حشرت السنة الناس: أهبطتهم إلى الأمصار. قوله: (لأنه عز وعلا صادقٌ) تعليلٌ لمعنى المبالغة الذي يعطيه قوله: (ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وذلك من تخصيص اسمه الجامع، و ((من)) الاستفهامية وبناء أفعل لمطلق الزيادة، يعني أن من اسمه الله كيف يجوز عليه الكذب؟ لأنه كاملٌ في ذاته منزهٌ عن النقائص، والكذب نقيصةٌ فبينهما تناف. قوله: (مستقلٌّ بصارف). قال الجوهري: يقال: أقل الجرة: أطاق حملها. النهاية: وفي حديث العباس: ((فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع)). يقال: أقل الشيء يقله: إذا رفعه وحمله، وقال: الاستقلال بمعنى الارتفاع والاستبداد، فقوله: ((مستقلٌّ بصارف)) أي: مستبدٌّ بما يصرف القائل عن الإقدام عليه وهو قبحه، أي: قبحه وحده يصرف الكذاب عن التكلم به.

ووجه قبحه الذي هو كونه كذباً وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب؛ ليجرّ منفعةً أو يدفع مضرة، أو هو غنيٌّ عنه، إلا أنه يجهل غناه، أو هو جاهلٌ بقبحه، أو هو سفيهٌ لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره، ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء: أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال: لولا أني صادق في قولي: لا، لقلتها. فكان الحكيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجه قبحه) مبتدأ، والخبر: الموصول مع صلته، والضمير المرفوع في الصلة عائدٌ إليه، أو يقال: إن الموصول مقحم، كقراءة من قرأ: ((الذين من قبلكم))، قال: أقحم الموصول الثاني من الأول وصلته، وفي بعض النسخ: ((وجه قبحه هو كونه كذباً)) وهو الوجه، وقيل: ووجه قبحه، معطوفٌ على قوله: ((قبحه))، ودل الموصول على هذا؛ أي: الصارف هو قبحه ووجه قبحه أي: سبب قبحه، ثم وصف قوله: ((وجه قبحه)) بقوله: ((الذي ... )) إلى آخره، فكأنه أشار إلى أن قبح الكذب ذاتيٌّ، ففيه تعسف. قوله: (لو غرغرت لهواتُك)، وروي: ((لهَواتِك)) بالنصب على أنه مفعول، يقال: الراعي يغرغر بصوته، أي: يردده في حلقه. النهاية: اللهوات: جمع لهاتٍ، وهي لحماتٌ في سقف أقصى الفم، وإنما خصها بالذكر لأنه ما يتلذذ به الإنسان من المأكول والمشروب ينتهي إليها، قال ابن هانئ: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل وخص الغرغرة لإرادة الإكثار منه، ولعل هذا القائل ما أطرق سمعه ما روينا عن الترمذي، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلاً من نتن ما جاء به)).

الغني الذي لا يجوز عليه الحاجات، العالم بكل معلومٍ منزهاً عنه كما هو منزه عن سائر القبائح. [(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)]. (فِئَتَيْنِ) نصب على الحال، كقولك: مالك قائماً. روي أنّ قوما من المنافقين استأذنوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فِئَتَيْنِ) نصبٌ على الحال) قال القاضي: عامله (لَكُمْ) كقولك: ما لك قائماً، و (فِي المُنَافِقِينَ) حالٌ من (فِئَتَيْنِ) أي: متفرقين فيهم، أو من الضمير، أي: فما لكم تفترقون فيهم، ومعنى الافتراق يفيده قوله: (فِئَتَيْنِ)، قال أبو البقاء: يجوز أن يكون (فِي المُنَافِقِينَ)) حالاً من (فِئَتَيْنِ) أي: فئتين مفترقتين في المنافقين، فلما قدمه نصبه على الحال. وقال الزجاج: قال سيبويه: إذا قلت: ما لك قائماً؟ فمعناه: لم قمت؟ ونصب على تأويل: أي شيءٍ يستقر لك في هذه الحال؟ قوله: (باجتواء المدينة). النهاية: في حديث العرنيين: ((فاجتووا المدينة))، أي: أصابهم الجوى، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها، ويقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة. المغرب: عرنة: وادٍ بحذاء عرفات، وبتصغيرها سميت عرينة، وهي قبيلةٌ ينسب إليها العرنيون.

بعضهم: هم كفار. وقال بعضهم: هم مسلمون. وقيل: كانوا قوماً هاجروا من مكة ثم بدا لهم، فرجعوا وكتبوا إلى رسول اللَّه: إنا على دينك، وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وقيل: هم قوم خرجوا مع رسول اللَّه يوم أُحدٍ ثم رجعوا. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا بساراً. وقيل: هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه: ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقاً ظاهراً، وتفرقتم فيه فرقتين؟ وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم؟ (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ)، أي: ردهم في حكم المشركين كما كانوا. (بِما كَسَبُوا) من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين، واحتيالهم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو: (أركسهم) في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكسوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنا على دينك) حكاية ما كتبوا، لكن قوله: ((وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة)) لا يستقيم مع قوله: ((كانوا قوماً هاجروا من مكة))، إلا أن يقال: هاجروا من مكة إلى المدينة، ثم بدا لهم فرجعوا. قوله: (أغاروا على السرح) أي: النعم السارحة. النهاية: السرح: اسم جمعٍ وليس بتكسير ((سارح))، أو هو تسميةٌ بالمصدر مبالغة. قوله: (قتلوا يساراً). الاستيعاب: يسار: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نوبياً، وهو الراعي الذي قتله العرنيون الذين استاقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. قوله: ((أَرْكَسَهُم) أي: ردهم في حكم المشركين). الراغب: الركس والنكس: الرذل، والركس أبلغ؛ لأن النكس: ما جعل أسفله أعلاه، والركس: ما جعل رجيعاً بعد ما كان طعاماً، فهو كالرجس، يقال: أركسه وركسه، وأركس أبلغ، كما أن ((أسقاه)) أبلغ من ((سقاه)).

فيه لما علم من مرض قلوبهم. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا): أن تجعلوا من جملة المهتدين (مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ): من جعله من جملة الضلال وحكم عليه بذلك، أو خذله حتى ضلّ. وقرئ: (رَكَسَهم)، و (رُكِسوا فيها). [(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مَن جعَله مِن جُملةِ الضُّلاّل) مبنيُّ على تفسيرِ {أرّكَسَهُم} بقوله: "رَدَّهم في حُكم المشركين"، وقوله: "أو خَذَلَه حتَّى ضَلَّ" على تفسيرِه بقولهِ: أرّكَسَهُم} في الكُفر بأن خَذَلَهم"، فعلى الأول: {أرّكَسَهُم} مُطلق؛ ولذلك أدخَلَهم في زُمرةِ المشركين، وعلى الثاني: متعلقُهُ ما يُعْلَمُ من الإنكارِ في قولهِ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} أي: فِرقتَيْن، يقولون: أهم مؤمنونَ أم كافرون؟ ثم قولُه: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} إنكار بعدَ إنكار، وقولُه: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} تذييلٌ للتأكيد بقَلْعِ قاعدةِ بناءِ الاعتزالِ وبهَدْمِ بناءِ التفسيرين عليها، ألا ترى كيف أعادَ الاسمَ الجامعَ المفيدَ في هذا المقام معنى الجَبَروتِ مرَّتينِ وعدَلَ من خطابِ الجماعةِ إلى خطابِ العامِّ ليَدخُلَ فيه كلُّ من يتأَتَّى منهُ الوِجْدان، ومِن جُملتِهم الضُّلال! ونكَّر {سَبيلاً} أي: لا تجدُ أيُّها المخاطبُ أي سبيلٍ تريد بأي وجهٍ كان. قوله: (ورُكِسوا فيها) يعني: في قوله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91]، فإنه قُرئ هناك: "ورُكِسُوا فيها"، وإنما ذكره هاهنا لن كليهما بابُ الإفعال، وقُرِئ في القراءة الشاذة بالتفعيل مع أنهما من أصلٍ واحد، ولا يجوزُ أن يقال: قُرِئَ: "ورُكِسوا" فيها- أي: في هذه الآية - لفسادِ المعنى.

نَصِيراً* إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً* سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَامَنُوكُمْ وَيَامَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)]. (فَتَكُونُونَ): عطف على (تَكْفُرُونَ)، ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى: ودّوا كفركم فكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحةٍ هي للَّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكَوْنكُم معهم شَرعاً). النِّهاية: في الحديثِ "أنتُم فيه شَرَعٌ سواءٌ"، أي: مُتساوونَ لا فضلَ لأحدِكم فيه على الآخَر. قولُه: (فلا تتوَلَّوهُم وإن آمنوا حتَّى يُظاهِروا) تفسيرٌ لقوله: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، جعل {حَتَّى} غاية للمقدار، وهُو الإيمان؛ لأن الهجرة غيرُ نافعةٍ بدونِه، قوله: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} مسبب عن قوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، و {وَدُّوا} بدلٌ من قوله: {بِمَا كَسَبُوا} [النساء 88]، والكلام مصبوبٌ في قالبٍ واحد، يعني: ما لكم تختلفونَ في أمرِ أقوام منافقينَ؟ والحالُ أن اللهَ تعالى رَدَّهم في حُكم المشركينَ بسببِ ما كسبوا، وهُو وِدادتُهم كُفرَكم، وإذا كان كذلك فلا تختلفوا فيهم ولا تتولَّوْهم حتى يُهاجِروا في سبيل الله، أي: يَرجِعوا من جميع ذلك رُجوعاً كالمُهاجَرةِ منَ الأوطان، فإن توَلَّوا عن هذه المُهاجَرةِ فحُكمُهم حُكمُ المشركينَ بأن يُقتَلوا حيثُ وُجدوا، وبأن يُجانبوا مُجانبةً كُلِّية. ولا يُستبعَدُ حملُ المُهاجَرةِ على المُجانبة عنِ الذنوب والمخالفةِ لأمرِ الله؛ لما ورَدَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لسانهِ ويَدِه، والمُهاجِر مَن هجرَ ما نهى اللهُ عنه". أخرجَه البخاريُ وأبو داود، عن عبدِ الله بن عَمْرو.

ولرسوله، لا لغرضٍ من أغراض الدنيا، مستقيمةٍ ليس بعدها بداء ولا تعرّب. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحلّ والحرم، وجانبوهم مجانبةً كليةً، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم. (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ): استثناء من قوله: (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ)، ومعنى: (يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ): ينتهون إليهم ويتصلون بهم. وعن أبي عبيدة: هو من الانتساب، وصلت إلى فلانٍ واتصلت به: إذا انتميت إليه. وقيل: إن الانتساب لا أثر له في منع القتال، فقد قاتل رسول اللَّه بمن معه من هو من أنسبائهم. والقوم هم الأسلميون؛ كان بينهم وبين رسول اللَّه عهد؛ وذلك أنه وادع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الهجرة: تَرْكُ الشيءِ والإعراضُ عنه، مكاناً كان أو خليطاًن وسُمِّي القبيحُ منَ الكلامِ هُجْرا، وسُمِّي المُهاجِرُ، لتركه وطنه، وصار اسم مدحٍ في الإسلام، وسُمِّي مَن رفضَ فُضولاتِ شهواتِه: مُهاجراً. ثم إن المصنفَ وضعَ موضعَ {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} قوله: "يُقتلُونَ حيث وُجدوا"، وموضعَ {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} "جانبوهم مجانبة كلية" إلى آخره؛ بياناً لمعنى الاستمرار. وأما قولُه: "جانبوهم مجانبةً كلية" فإخراجٌ للكلامِ على غيرِ مقتضى الظاهر؛ إذ الظاهر "وتجانبون"؛ ليقعا خبرينِ للإيذانِ بشدةِ المجانبة، وذلك من تكرير قوله: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}؛ ومِن ثمَّ بالغَ فيه حيثُ قال: "مجانبةً كلية وإن بذلَوا لكُم الولايةَ والنصرةَ" يعني: لا يوجد منكم ولايةٌ لهم قط؛ فداوموا على العداوة. قوله: (ليس بعَدها بداءٌ ولا تعرُّب) مثل لترك التذبذب لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء، وبداء أي: نزول بالبادية، ولا تعرب، أي: عودٌ إلى العرب الذين يسكنون المدن. قوله: (استثناء من قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} أي: من الضمير في {فَخُذُوهُمْ}، لا من الضمير في {فَلا تَتَّخِذُوا} وإن كان أقربَ لأن اتخاذَ الوليِّ منهم حرامٌ.

وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح أَوْ جاؤُكُمْ لا يخلو من أن يكون معطوفاً على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم؛ أو على صلة (الذين)، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم. والوجه العطف على الصلة لقوله: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) بعد قوله: (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفي التعرض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ممسكينَ عن القتال، لا لكم ولا عليكم) تفسيرٌ لقوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} أي: لأجلكم. قوله: (والوجه العطفُ على الصِّلة) لقوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} يعني: مجيء قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} يشعر بأن السبب عن المنع عن التعرض لهم شيئان، أحدهما: اتصالهم بقوم معاهدين، وثانيهما: كفهم عن القتال بسبب إظهار أن قلوبهم تنقبض عن مقاتلتكم، فيكونُ قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} مقررا للسبب الثاني، يعني: إن جاؤوكم يريدون الإمساك عن القتال لا لكم ولا عليكم فإن تموا على هذا بأن اعتزلوكم وألقوا إليكم السَّلَمَ؛ فلا تتعرضوا لهم البتة. وإذا عطفَ على الصفة يبقى سببُ عدم التعرُّضِ واحداً، وهو أن يصلوا إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافِّينَ فلا يكون قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ} مقرراً لقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ}؛ لأن ذلك وصف لقول آخرين غير من ترتب عليه قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ}؛ لأنه مترتب على قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} ثم أورد السؤال وقال: "كل واحدٍ من الاتصالين له تأثير" إلى آخره، وهو ظاهر. قوله: (فقرر أن كفهم عن القتال) فاعله: مجيء قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ}، وعلى هذا قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} تقرير لحكم اتصالهم.

عنهم، وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحدٍ من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأنّ الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة (قوم)، ويكون قوله: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم! قلت: هو جائزٌ ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبيّ: (بينكم وبينهم ميثاق جاؤوكم حصرت صدورهم) بغير "أو"، ووجهه أن يكون: (جاؤُكُمْ)، بياناً لـ (يصلون)، أو بدلاً، أو استئنافاً، أو صفة بعد صفةٍ لـ (قوم). (حصرت صدورهم) في موضع الحال بإضمار "قد"؛ والدليل عليه قراءة من قرأ: (حصرةً صدورهم) و (حصرات صدورهم). و (حاصراتٍ صدورهم)، وجعله المبرد صفة لموصوف محذوفٍ على: أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم. وقيل: ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أظهرُ وأجرى على أسلوب الكلام)، وذلك أن قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَامَنُوكُمْ وَيَامَنُوا قَوْمَهُمْ} مشابه لقوله: {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}، وقد رتب عليه قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ} الآية، فالأولى جرى الكلام على أسلوب واحد وأن يترتب قوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} على قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ} حتى يكون المراد من قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} وقول: {أَوْ جَاءُوكُمْ} وقوله: {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ} هم الذين تولوا وأعرضوا عن الإيمان، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} جملة معترضة للامتنان على المؤمنين، وتعليل بأن حصر صدورهم ما كان إلا لقذف الله الرعب فيها. قوله: (أو جاؤوم قوماً حصرت صدورهم) فعلى هذا "قوماً" حال موطئة، كقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2].

هو بيان لـ (جاؤكم)، وهم بنو مدلج؛ جاءوا رسول اللَّه غير مقاتلين، والحصر: الضيق والانقباض. (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ): عن أن يقاتلوكم، أو كراهة أن يقاتلوكم. فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط اللَّه الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا لقذف اللَّه الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحةٍ يراها من ابتلاءٍ ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: (فلقتلوكم) بالتخفيف والتشديد. (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ): فإن لم يتعرضوا لكم، (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ)، أي: الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين، (فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا): فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم. (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ): هم قوم من أسدٍ وغطفان، وكانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم. (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها): قلبوا فيها أقبح قلبٍ وأشنعه، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ. (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ): حيث تمكنتم منهم. (سُلْطاناً مُبِيناً): حجةً واضحةً لظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم. [(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو بيان لـ {جَاءُوكُمْ} وذلك أن مجيئهم غير مقاتلين، و {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} في معنى واحد. قوله: (وهم بنو مدلج) بالضم، قيل: بنو مدلج: قبيلة من كنانة، وهم القافة. قوله: ({أُرْكِسُوا فِيهَا} قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه) الأساس. أركَسَه ورَكَسَه: قلبه على رأسه، وهو مركوسٌ منكوس.

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)]. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) [آل عمران: 161]، (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) [الأعراف: 89]. (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) ابتداءً غير قصاص (إِلَّا خَطَأً): إلا على وجه الخطأ. فإن قلت: بم انتصب (خطأ)؟ قلت: بأنه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالاً بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفةً للمصدر إلا قتلاً خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد؛ بأن يرمى كافراً فيصيب مسلماً، أو يرمى شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: (خطاءً) بالمد، و (خطاً) بوزن "عمىً" بتخفيف الهمزة. وروي أنّ عياش بن أبي ربيعة - وكان أخا أبي جهلٍ لأمّه - أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقفٌ حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه وهو في أُطم، ففتل منه أبو جهلٍ في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أُطُم). النهاية: الأطمُ بالضم: بناء مرتفع، وجمعه: آطامٌ. قوله: (ففتَلَ منه أبو جهل). النهاية: وفي حديث الزبير: فما زال يَفِتلُ في الذروةِ والغاربش حتى أجابته عائشةُ رضي الله عنها إلى الخروج، والغاربُ: مقدمُ السَّنام، والذِّروة:

على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ أمك، وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه وجلده كل واحدٍ مائة جلدة، فقال للحارث: هذا أخي فمن أنت يا حارث؟ للَّه عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم. وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياشٌ بظهر قباء، ولم يشعر بإسلامه، فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه؛ فنزلت. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه تحرير رقبة، والتحرير: الإعتاق، والحر والعتيق: الكريم؛ لأن الكرم في الأحرار، كما أن اللؤم في العبيد، ومنه: عتاق الخيل وعتاق الطير؛ لكرامها، وحرّ الوجه: أكرم موضعٍ منه، وقولهم للئيم: عبد، وفلان عبد الفعل، أي: لئيم الفعل. والرقبة: عبارة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعلاه، أي: لا زال يُخادعُها ويتلطَّفُها حتى أجابته. والأصل فيه أن الرجل إذا أراد أن يؤنس البعير الصعب ليزمه فينقاد له، جعل يمر يده عليه ويمسح غاربه ويفتل وبره حتى يستأنس ويضع عليه الزمام. قوله: (كتافُه) كتفت الرجلَ: شددت يديه إلى خلفٍ بالكتاف، وهو حبل. قوله: (فسحا عن المدينة) أي: بعدا. النهاية: وفي حديث أم زرع: وبيتها فساح، أي: واسع. قوله: (قباء). المُغرب: قُباءُ بالضم والمد: من قُرى المدينة، يُنَوَّنُ ولا يُنوَّن. قوله: (فأنحَى عليه) أي: أقبل عليه. الأساس: أنحى عليه باللوائم: إذا أقبل عليه، وأنحى عليه بالسوط والسيف.

عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت ولا تجزئ الصغيرةن وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار. {مسلمة إلى أهله}: مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء؛ يقضى منها الدين، وتنفذ الوصية، وإذا لم يبق وارثا فهي لبيت المال؛ لأن المسلمين يقومون مقام الورثة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وارث من لا وارث له)، وعن عمر رضي الله عنه: أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله، فقال: لا أعلم لك شيئا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم، فورثها عمر. وعن ابن مسعود: يرث كل وارث من الدية غير القاتل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن النسمة). النهاية: النسمةُ: النفس والروح، وكل دابة فيها روح فهي نسمة، وإنما يُراد الناس. قوله: (كانت على حكم الإسلام) أي: محكوماً عليها بالإسلام؛ وإن كانت صغيرة. قاله القاضي. قوله: (يعقلون عنه). المغُرب: عقلتُ القتيل: أعطيت ديته، وعقلت عن القاتل: لزمته ديته فأديتها عنه. النهاية: العقل: الدية، وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي: شدها في عقلها ليسلمها إليهم، فسميت الدية عقلاً بالمصدر.

وعن شريك: لا يقضى من الدية دين، ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فإن قلت): على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن، ففي ماله (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا): إلا أن يتصدقوا عليه بالدية، ومعناه: العفو، كقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) [البقرة: 237]، ونحوه: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 280]. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كل معروف صدقة». وقرأ أبيّ: (إلا أن يتصدقوا). فإن قلت: بم تعلق (أن يصدقوا) وما محله؟ قلت: تعلق بـ"عليه"، أو بـ (مسلمة)؛ كأنه قيل: وتجب عليه الدية، أو يسلمها إلا حين يتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: أجلس ما دام زيد جالساً، ويجوز أن يكون حالاً من (أهله)، بمعنى: إلا متصدقين. (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) من قومٍ كفارٍ أهل حرب؛ وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار، وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ، وليس على عاقلته لأهله شيء، لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ؛ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العاقلة). النهاية: هم العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يُعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة عاقلة، وأصلها: اسم فاعلة من العقل، وهي من الصفات الغالية. قوله: (بم تعلق {أَنْ يَصَّدَّقُوا}؟ ) إشارة إلى أن الاستثناء مفرغ، و"إلا" لغوٌ، كقولك: قرأت إلا يوم الجمعة. قوله: (تعلق بـ "عليه")، قيل: بـ "عليه" المحذوف عند قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، هذا باطل؛ لأن تحرير الرقبة حق الله لا يسقط بعفو الولي. نعم، يجوز أن تتعلق بـ"عليه" المقدر في قوله: {وَدِيَةٌ}؛ لأنها عطف على "تحرير"، وإليه أشار بقوله: "ويجب عليه الدية، أو يُسلمها إلا حين يتصدقون عليه". وإذا عُلِّق بـ {مُسَلَّمَةٌ} يكون عطف "دية" على "تحرير" من قبيل الانسحاب عطف مفرد على مفرد.

(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ) كفرةٍ لهم ذمة؛ كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين، وأهل الذمة من الكتابيين فحكمه حكم مسلم من مسلمين. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبةً، بمعنى: لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها؛ فعليه صِيامُ (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ): قبولاً من اللَّه ورحمة منه، من "تاب اللَّه عليه" إذا قبل توبته، يعني: شرع ذلك توبةً منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم، وخطب غليظ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فحكمه حكمُ مسلم من المسلمين) في وجوب الكفارة والدية، ولعل ذلك فيما إذا كان المقتول معاهداً وكان له وارث مسلم، قاله القاضي، وفيه نظرٌ. قوله: (شرع ذلك توبةً منه). قال القاضي: توبة: نصبٌ على المفعول له، أي: شرع ذلك توبة، أو على المصدر، أي: وتاب الله عليه توبة. قوله: (والإبراق والإرعاد). النهاية: في حديث ابني مليكة: إن أمنا ماتت حين رعد الإسلام وبرق، أي: حين جاء بوعيده وتهديده، يقال: رعد وبرق وأرعد وأبرق: إذا توعد وتهدد. روى شارح "الفصيح" عن أبي عمرو أنه احتج بقول الكميت: أرعد وأبرق ما تريد ... ـد فما عيدك لي بضمائر الراغب: البرقُ: لمعان السحاب، يقال: برق وأبرق وبرق، يقال في كل ما يلمع كسيف: بارق، وبرق يقال في العين إذا اضطربت وجالت من خوف، قال تعالى: {فَإِذَا

ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي: من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة. وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمولٌ منهم على الاقتداء بسنة اللَّه في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنبٍ ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلاً. وفي الحديث: «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل امرئ مسلم». وفيه: «لو أن رجلاً قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه». وفيه: «إن هذا الإنسان بنيان اللَّه، ملعون من هدم بنيانه». وفيه «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] وتصور من البرق ما يظهر من تخويفه فقيل: برق فلان وأبرق: إذا تهدد. قوله: (عن ابن عباس: أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة)، هو ما روينا عن الترمذي وابن ماجه والنسائي، عن ابن عباس، أنه سئل عن من قتل مؤمناً متعمدا ًثم تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، فقال ابن عباس: فأنى له التوبة وقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب أوداجه دماً فيقول: أي رب، سل هذا: فيم قتلني؟ " في قوله: "نبيكم" توبيخ للسائل. قوله: (لزوال الدنيا) الحديث رواه الترمذي وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (بشطر كلمة) الحديث أخرجه ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه،

القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللَّه». والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية، ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة؛ ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة؟ (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24]. ثم ذكر اللَّه سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى يقع من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل: قال سفيان: هو أن يقول في اقتل: اق. قوله: (أشعبيتهم وطماعيتهم) الثاني تفسير للأول، قال الميداني: أشعب: رجلٌ من المدينة يقال له: أشعب بن جبير، مولى عبد الله بن الزبير، وعن أبي عبيدة أنه اجتمع عليه غلمة يعاتبونه، وكان مزاحاً ظريفاً فآذاه الغلمة، فقال لهم: إن في دار فلان عرساً فانطلقوا إليه ثمة فهو أنفع لكم؛ فانطلقوا وتركوه، فلما مضوا قال: لعل الذي قلت حق فمضى في أثرهم فلم يجد شيئاً وظفروا به فآذوه. قوله: (ثم ذكر الله) قيل: هو عطف على الجملة المتقدمة من حيث المعنى، أي: ترك ذكر التوبة في هذه الآية مع الاحتياج إليها مانع عن الطمع، ثم ذكر التوبة في قتل الخطأ مع أنها غير محتاج إليها حسم للطمع؛ لأن معنى قوله: "والعجب ... " إلى آخره: هو أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} إلى آخره مانع عن الطمع. وقلت: هو عطف على قوله: "هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم" يعني: في هذه الآية من الدلالة على التهديد والوعيد ما بلغت غايتها حتى قال ابن عباس: إن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة، وتعاضدت فيها بالأحاديث، ثم في مقارنتها مع الآية السابقة المشتملة على التوبة مع أنها مستغنية عنها - حسم للأطماع وأي حسم، فعلى هذا الآية الأولى كالتتميم للثانية، ولفظة "ثم" في كلام المصنف مشعرة بأن دلالة الاقتران أبلغ من سائر ما ساعدت الآية من الأحاديث.

نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه؛ حسم للأطماع وأي حسم؟ ولكن لا حياة لمن تنادي! فإن قلت: هل فيها دليلٌ على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ) أي قاتل كان من مسلمٍ أو كافرٍ، تائبٍ أو غير تائبٍ، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن لا حياة لمن تنادي) أوله: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا قبله: ونار لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد قال أهل السنة: الله أكرم من أن يجمع من يوحده ومن يجحده في العذاب السرمد، وقد وعد بأنه يغفر ما دون الشرك، وإن رغم أنف من يتحجر الواسع! قوله: (فليأت بدليل مثله). قال الإمام: هذه الآية مخصوصة في موضعين، أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص، والثاني: أن يكون القتل العمد العدوان متداركاً بالتوبة، وإذا ثبت [دخول] التخصيص فيه في الصورتين بالاتفاق فنحن نخصص أيضاً فيما إذا حصل العفو، بدليل قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53]. وقال القاضي: الجمهور أن هذه الآية مخصصة بمن لم يتب؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] ونحوه، وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره، وروى أنه نزل في مقيس بن صبابة وجد أخاه قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته، فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مرتداً، أو المراد بالخلود: المُكثُ الطويل؛ فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم. والذي يمكن أن يُقال- والعلم عند الله - أن الذي يقتضيه نظم الآيات أن الآية من أسلوب التغليظ، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فإنه قال: {وَمَنْ كَفَرَ} أي: لم يحج، تغليظاً وتشديداً على تاركه. وقوله صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال". أخرجه البخاري ومسلم. وبيانه: أن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} دل على أن قتل المؤمن ليس من شأن المؤمن، ولا يستقيم منه ولا يصح له ذلك، فإنه إن فعل خرج عن أن يقال: إنه مؤمن، ثم استثنى من هذا العام قتل الخطأ تأكيداً ومبالغة، أي: لا يصح ولا يستقيم إلا في هذه الحالة، وهذه الحالة منافية لقتل العمد، فإذا لا يصح منه قتل العمد البتة، ثم ذيل هذه المبالغة تغليظاً وتشديداً بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، يعني: كيف يستقيم من المؤمن قتل المؤمن عمداً وأنه من شأن الكفار الذين جزاؤهم الخلود في النار وحلول غضب الله ولعنته عليهم، وإن شئت أن تحقق هذا المعنى فانظر إلى تفسيره لقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} إلى قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] وإلى ما لخصناه فيه، ثم إلى قوله في تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} إلى قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]: "كيف جعل ترك الزكاة من صفات

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكفار، أي: الكافرون هم الذين يتركون الزكاة"، فعلى المؤمن أن لا يتصف بصفتهم، وكتابه مشحون من هذا الأسلوب. والعجب أنه حمل قول ابن عباس في الآية على التغليظ والتشديد ونسي ذلك في الآية، لكن شغفه بمذهبه يدعوه إلى التناسي، والحق أنه إن صدر عن المؤمن مثل هذا الذنب فمات ولم يتب فحكمه إلى الله تعالى: إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ما يشاء ثم يخرجه إلى الجنة، روينا في "سنن أبي داود"، عن أبي مجلز: هي جزاؤه، فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل، قال الواحدي: والأصل في هذا أن الله تعالى يجوز أن يُخلف الوعيد وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة، وأنشد للأول: وإني وإن أوعدته ووعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فإذن لا مدخل لذكر التوبة وتركها في الآية، ولا يُفتقر لإخراج المؤمن من النار إلى دليل كما قال، ولا إلى تخصيص العام كما ذهب إليه الإمام، ولا إلى تفسير الخلود بالمكث الطويل كما قال القاضي، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}

(فَتَبَيَّنُوا)، وقرئ: (فتثبتوا)، وهما من التفعل بمعنى الاستفعال، أي: اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تتهوكوا فيه من غير روية. وقرئ: (السلم) و (السلام) وهما الاستسلام، وقيل: الإسلام. وقيل: التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام. (لَسْتَ مُؤْمِناً)، وقرئ: (مؤمناً) بفتح الميم، من آمنه، أي: لا نؤمنك، وأصله: أن مرادس بن نهيكٍ رجلاً من أهل فدك، أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقولٍ من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل، وقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبروا رسول اللَّه فوجد وجداً شديداً، وقال: "قتلتموه إرادة ما معه"، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول اللَّه استغفر لي، قال: "فكيف بلا إله إلا اللَّه"؟ قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي، وقال: "أعتق رقبة". (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا): تطلبون الغنيمة التي هي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تتهوكوا). النهاية: التهوك: التحير، وفي الحديث: "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ ". قوله: (فغزتهم سريةٌ ... كان عليها غالب بن فضالة)، وفي "الاستيعاب": أن مرداس ابن نهيك الفزاري كان يرعى غنماً، فهجمت عليه سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها أسامة بن زيد وأميرها سلمة بن الأكوع، ثم ذكر ما ذكره المصنف مع تغيير فيه. قوله: (عاقول من الجبل). الجوهري: العاقول من النهر والوادي والرمل: المعوج منه. قوله: (فكيف بلا إله إلا الله؟ ! ) أي: كيف تصنع لو خاصمتك هذه الكلمة؟

حطام سريع النفاد، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه. (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوّذ به من التعرض له لتأخذوا ماله. (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ): أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم. (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاماً فيه، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا: إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله وقد حرّمهما اللَّه. وقوله: (فَتَبَيَّنُوا) تكرير للأمر بالتبين؛ ليؤكد عليهم. (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك. [(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)]. (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرئ بالحركات الثلاث، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعليكم أن تفعلوا) تفسير لقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا}، أي: كذلك كنتم فمن الله عليكم، وإذا كان كذلك "فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم" من عدم تكشف حالكم وما تنجز بكم. قوله: ({غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} قُرئ بالحركات الثلاث) بالنصب: نافع وابن عامر والكسائي، والباقون بالرفع، وبالجر شاذ. وأما حديث زيد بن ثابت فرواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي.

فالرفع صفة لـ (لقاعدون)، والنصب استثناء منهم، أو حالٌ عنهم، والجرّ صفة لـ (المؤمنين). والضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرجٍ أو زمانةٍ أو نحوها. وعن زيد بن ثابت: كنت إلى جنب رسول اللَّه، فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، حتى خشيت أن ترضها، ثم سُري عنه فقال: "اكتب"، فكتبت في كتفٍ: (لا يَسْتَوِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فالرفع: صفة لـ {الْقَاعِدُونَ} لأن القاعدين غير معين، يعني: هو مثل قولهم: ولقد أمر على اللئيم يَسُبُّني. قال الزجاج: {غَيْرُ} صفة للقاعدين، وإن كان أصلها أن تكون صفة للنكرة، المعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غيرُ أولي الضرر، أي: الأصحاء والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين، والرفع أيضاً يجوز على الاستثناء، أي: لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين؛ لأن الذي أقعدهم عن الجهاد الضرر. وتبعه الواحدي في هذا الوجه. قوله: (أو حال عنهم). قال الزجاج: المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيدٌ غير مريض، أي: صحيحاً، ويجو الخفض صفة لـ {الْمُؤْمِنِينَ}. قوله: (فغشيته السكينة). النهاية: السكينة: الوقار والسكون، يريد ما كان يعرض له من السكون والغيبة عند نزول الوحي، وقيل: أراد به هاهنا الرحمة. قوله: (سُرِّى عنهُ). النهاية: أي: كُشِفَ عنه وأزيل، يقال: سَروتُ الثوب وسريتُه: إذا خلعته، والتشديد فيه للمبالغة، أي: أزيل عنه ما نزل به من بَرْحاءِ الوحي.

الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ)، فقال ابن أمّ مكتومٍ وكان أعمى: يا رسول اللَّه، وكيف بمر لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فغشيته السكينة كذلك، ثم قال: "اقرأ يا زيد" فقرأت: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، فقال: (غير أولى الضرر)، قال زيد: أنزلها اللَّه وحدها، فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ في الكتف. وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدرٍ والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم، والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9] أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن ضعة الجهل إلى شرفِ العلم. (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ): جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر؛ لكون الجملة بياناً للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صدع في الكتف) يقال: صدعت الرداء صدعاً: إذا شققته، والاسم: الصدع بالكسر، والصدع في الزجاجة، بالفتح. كانوا يكتبون في كتف الشاة لقلة القراطيس عندهم. قوله: (ليهاب به إلى التعلم). النهاية: أهبت بالرجل: إذا دعوته إليك، وفي حديث الدعاء: "وقويتني على ما أهبت به إليه من طاعتك"، وقيل: هو من: أهاب الراعي بغنمه، أي: صاح بها لتقف أو ترجع قوله: (عن ضعة). النهاية: هي الذم والهوان والدناءة، وقد وضُعَ ضعة فهو وضيع، والهاء عوضٌ من الواو المحذوفة. قوله: (والمعنى: على القاعدين غير أولي الضرر) قيل: فيه نظر، بل الصواب: على القاعدين أولي الضرر، يدل عليه قول الواحدي: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على القاعدين، يعني: من أهل العُذر درجة، وقوله أيضاً: أما المفضلون درجة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء. والحاصل أن المراد بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أن بين المجاهدين والقاعدين غير الأضراء بوناً بعيداً، وأن ليس بين المجاهدين والقاعدين الأضراء هذا البون، لكن بينهم تفاوت؛ فاحتاج هذا التفاوت إلى البيان، فبين بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ} في الموضعين هذا التفاوت، وكلتا الجملتين بيان، لا الجملة الأولى كما يشعر به كلام صاحب "الكشاف"، وفي كلامه اضطراب متناف! وقال صاحب "التقريب" بعد ما حكى كلام المصنف: المفضلون درجة من فضلوا على القاعدين الأضراء، ودرجات من فضلوا على المتخلفين بإذن، وفيه نظر؛ لأنه فسر القاعدين بغير أولي الضرر، وإنما يستقيم على تفسيره بالأضراء كما في "المعالم" و"اللباب". وقلت- والله أعلم-: إن كلام المصنف والواحدي إن أمعن النظر فيهما متوافقان، ولا مخالفة إلا في كلمات لا ضرر فيها. وأما قول المصنف: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} جملة موضحة لما نُفي من استواء القاعدين والمجاهدين" فالمراد منه أنه وما عطف عليه من قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ} الثاني كلاهما بيان وإيضاح للجملة الأولى، وهو قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ}، ولابد من التطابق بين البيان والمبيَّن، والمذكور في البيان شيئان وليس في المبين سوى ذكر {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، فالواجب أن يقدر ما يوافقه من قوله: لا يستوي القاعدون أولو الضرر وغير أولي الضرر، وهو من أسلوب الجمع التقديري؛ لدلالة التفضيل على المفضل، وعليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُجُورَهُمْ} إلى قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ} الآية [النساء: 172 - 173]، فعلى هذا قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} جملة موضحة، معناه: الكلام الذي ذُكر فيه هذا اللفظ، أي: فضل الله وهو مجموع الآيتين، وقوله: "والمعنى: على القاعدين غير أولي الضرر" معناه على من اشتمل عليه هذا الكلام مذكوراً ومقدراً، وهو على ما سبق منطوٍ على أولي الضرر (وغير أولي الضرر)، و"على" في قوله: "والمعنى: على القاعدين غير أولي الضرر" متعلق بهذا المقدر وهو مطلق فضل الله، لا المذكور في التنزيل أولاً وثانياً، أي: فضل الله المجاهدين على القاعدين أولي الضرر وغير أولي الضرر، وتحرير المعنى: مطلق فضل الله المجاهدين: جملة موضحة بناء على إطلاق قوله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، يدل عليه أنه لم يقيد قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} بأحد القيدين، أعني: {دَرَجَةً} و {دَرَجَاتٍ}، بل أورده مطلقاً ومبهماً؛ ومن ثم توجه عليه السؤال الذي أورده وأجاب عنه بالتفصيل، ولو كان الكلام مفصلاً كان السؤال الذي أورده وأجاب عنه بالتفصيل، ولو كان الكلام مفصلاً كان السؤال مستدركاً والفاء في قوله: "فمن هم" يدل على الإنكار، ويؤيد هذا القول ما روى البخاري والترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجون ليها. وفي رواية الترمذي: لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله؛ فهل لنا رخصة؟ فنزلت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} و {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: كرر تفضيل المجاهدين وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً، وتعظيماً للجهاد وترغيباً فيه. وقيل: الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر، والثاني ما جعل لهم في الآخرة. وهذا يوافق ما ذكره الراغب، وهو قوله: إن قيل: لم كرر الفضل وأوجب في الأول درجة وفي الثاني درجات وقيدها بقوله: {وَمِنْهُ} وأردفها بالمغفرة والرحمة؟ قيل: عني بالدرجة: ما يؤتيه في الدنيا من الغنيمة ومن السرور بالظفر وجميل الذكر، وبالدرجات: ما يُنجز لهم في الآخرة، ونبه بالإفراد في الأول والجمع في الثاني: أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير، وقيدها بقوله: {وَمِنْهُ} ليعظمها، وأردفها بالمغفرة والرحمة إيذاناً بالوصول إلى الدرجات بعد الخلاص من التبعات، وقيل: إن المغفرة تقال اعتباراً بإزالة الذنوب، والرحمة تقال اعتباراً بإيجاب التوبة وإدخال الجنة، والدرجات: هي المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة. وقلت: والذي تقتضيه البلاغة وسداد النظم هذا، وبيانه: أن قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} جملة موضحة لما نُفي" الاستواء فيه، والقاعدون على التقييد السابق من أن المراد به غير الأضراء فحسبن وإنما كرر {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} ليناط به من الزيادة ما لم يُنط به أولاً، فالفضل الأول: الظفر والغنيمة والذكر الجميل في الدنيا، والثاني: المقامات السنية والدرجات العالية والفوز بالرضوان والغفران في العقبى؛ يدل عليه قوله تعالى: {وَكُلاًّ} أي: وكل فريق من القاعدين غير أولي الضرر والمجاهدين {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} في الجنة، يعني: لهم الفضل في الدنيا ثم الجميع في الجنة؛ لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، وإنما التفاوت في الأجر الجزيل والدرجات العالية وفي الفوز بالرضوان، كما قال تعالى: {أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً}، ويعضده ما ورد في الحديث: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر". رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد.

(وَكُلًّا): وكل فريقٍ من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى)، أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم». وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم، وكانت أفئدتهم تهوي إلى الجهاد، وبهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا تفسيرٌ مبين موافقٌ للنظم ولا تعقيد فيه، ولا يحتاج أيضاً إلى جعل المجاهدين صنفين كما ينبئ عنه ظاهر كلامه: "أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا .. "إلخ، ويطابقه أيضاً سبب النزول المذكور في الكتاب عن زيد بن ثابت، وأخرجه أبو داود بتمامه وذكر البخاري طرفاً منه، وملائم لحديث الأضراء على ما روينا عن البخاري وأبي داود وابن ماجه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم"، قاله حين رجع من غزوة تبوك فدناً من المدينة، فالحديثان يؤذنان بالمساواة بين المجاهدين والأضراء، وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}، وكلام الزجاج: إلا أولو الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين، كذا في "المعالم". وعلى الجواب الذي أجاب به المصنف وذهب إليه الواحدي لا يلزم المساواة، فيلزم خلاف ما تقتضيه الصفة أو الاستثناء. قوله: (صحت نياتهم ونصحت جيوبهم) هو من باب قولهم: نهاره صائم وليله قائم، مبالغةً في غخلاصهم ونقاء سريرتهم عن الدخل، ويجوز أن يكون كناية، كقوله:

ما يمنعهم من المسير من ضررٍ أو غيره. فإن قلت: قد ذكر اللَّه تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجةً واحدةً فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، وأما المفضلون درجاتٍ فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف؛ اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية. فإن قلت: لم نصب (دَرَجَةً) و (أَجْراً) و (دَرَجاتٍ)؟ قلت: نصب قوله: (دَرَجَةً)؛ لوقوعها موقع المرة من التفضيل؛ كأنه قيل: فضلهم تفضيلة واحدة، ونظيره قولك: ضربه سوطاً، بمعنى: ضربه ضربةً، وأما (أَجْراً) فقد انتصب بـ"فضل" لأنه في معنى: أجرهم أجراً، و (درجات)، و"مغفرة"، "ورحمة" بدل من (أجراً)، ويجوز أن ينتصب (دَرَجاتٍ) نصب (درجة)، كما تقول: ضربه أسواطاً بمعنى: ضرباتٍ؛ كأنه قيل: وفضله تفضيلاتٍ، ونصب (أَجْراً عَظِيماً) على أنه حالٌ عن النكرة التي هي: درجات مقدمة عليها، وانتصب (مغفرة ورحمة) بإضمار فعلهما، بمعنى: وغفر لهم ورحمهم (مغفرة ورحمة). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تبينت بمنجاةٍ من اللوم بيتها قوله: (الأضراء) جمع ضرير. النهاية: في الحديث: جاء ابن أم مكتوم يشكو ضرارته، الضرارة هاهنا: العمى، والرجل ضرير، وهو من الضر: سوء الحال. الراغب: الضر: اسم عام لكل ما يضر الإنسان في بدنه ونفسه، وعلى سبيل الكناية عبر عن الأعمى بالضرير. وقال ابن عباس: {أُوْلِي الضَّرَرِ}: أهل العذر، وقد ذكر عامة ما أجمله هاهنا في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} الآية [النور: 61].

[(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً)]. (تَوَفَّاهُمُ) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: (توفتهم)؛ ومضارعاً، بمعنى: تتوفاهم، كقراءة من قرأ: (توفاهم) على مضارع وفيت؛ بمعنى: أن اللَّه يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ): في حال ظلمهم أنفسهم. (قالُوا) قال الملائكة للمتوفين: (فِيمَ كُنْتُمْ): في أي شيء كنتم من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({تَوَفَّاهُمْ} يجوز أن يكون ماضياً، كقراءة من قرأ: (توفتهم)، ومضارعاً، بمعنى: تتوفاهم). قال الزجاج: المعنى: إن الذين توفتهم الملائكة، وذُكر الفعل لأنه فعل جميع، ويجوز أن يكون استقبالاً، أي: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وحذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين. وقلت: إذا حُملَ {تَوَفَّاهُمْ} على المضارع يكون من باب حكاية الحال الماضية؛ ولذلك أوقع {قَالُوا} خبراً لـ {إِنَّ}. قال أبو البقاء: والعائد محذوفٌ، أي: قالوا لهم، ويجوز أن يكون {قَالُوا} حالاً من {الْمَلائِكَةُ}، و"قد" معه مقدرة، وخبر {إِنَّ}: {فَأُوْلَئِكَ}، ودخلت الفاء لما في {الَّذِينَ} من الإبهام المشابه للشرط، وأن لا يمتنع ذلك؛ لأنها لا تُغير معنى الابتداء. قوله: (في حال ظلمهم أنفسهم). قال الزجاج: والأصل: ظالمين أنفسهم، فحذفت النون استخفافاً، والمعنى على ثبوتها.

أمر دينكم؟ وهم ناسٌ من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت: كيف صح وقوع قوله: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) جواباً عن قولهم: (فِيمَ كُنْتُمْ) وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى (فِيمَ كُنْتُمْ): للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيءٍ من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: (كنا مستضعفين)؛ اعتذاراً مما وبخوا به، واعتلالاً بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أرادوا: أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة، وهذا دليلٌ على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب- والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر- أو علم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حين كانت الهجرة فريضة)، عن البخاري عن مجاهد قال: قلت لابن عمر: أريد أن أهاجر إلى الشام، فقال: لا هجرة بعد الفتح، أو قال: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جهاد ونية، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئاً وإلا رجعت. قوله: (لم يكونوا في شيء من الدين)، أي: من أمر الدين لا من أمر الجهاد ولا من الهجرة، ولا من نصر المؤمنين ولامن ترك الكفار إرغاماً لهم، كأنه قيل: في أي أمر كنتم من أمور الدين؟ يعني: لو تركتم الجهاد والهجرة والنصرة، قالوا: تركنا ذلك؛ لأنا لم نتمن منها لضعفنا. قوله: (والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، "وحقت": جواب "إذا". وقوله: "بلده" مُظهرٌ وُضع موضع المضمر الراجع إلى "بلد".

أنه في غير بلده أقوم بحق اللَّه، وأدوم على العبادة؛ حقت عليه المهاجرة، وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد». اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سبباً في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج؛ لفقرهم وعجزهم، ولا معرفة لهم بالمسالك. وروي: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن ضمرة- أو ضمرة بن جندب - لبنيه: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، واللَّه لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سريرٍ متوجهاً إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً فمات بالتنعيم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استوجبت) قيل: معناه: وجبت، وحقيقته: طلبت الجنة له الوجوب، ويروى: استوجبت، مجهولاً. قوله: (جندب بن ضمرة، أو ضمرة بن جندب) والصحيح في "الاستيعاب": جُندبُ ابن ضمرة الجندعي، لما نزلت {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} فقال: اللهم قد أبلغت في المعذرة والحجة ولا معذرة لي ولا حجة، ثم خرج وهو شيخ كبير فمات في بعض الطريق، فقالت الصحابة: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولاية هو أم لا؟ فنزلت الآية. قوله: (فمات بالتنعيم). المغرب: التنعيم: موضع قريب من مكة عند مسجد عائشة رضي الله عنها.

فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد فكأنهم كانوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين؟ ) تلخيصه: كيف أدخل الولدان في جملة الذين استثناهم من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} إلى قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ}؟ فالاستثناء يوهم أن الولدان داخلون في الوعيد دخول الرجال والنساء إذا استطاعوا واهتدوا؟ فأجاب عن السؤال بوجوه ثلاثة: أحدها: أن الاستطاعة والاهتداء إنما يُتصور في الرجال والنساء؛ لأنهم قد يكونون مستطيعين ومهتدين، وقد لا يكونون، وأما الولدانُ فلايتصور فيهم ذلك؛ إذ العجز متمكن فيهم لا ينفك عنهم، فكانوا خارجين من جملتهم في الوعيد ضرورة، فإذا لم يدخلوا فيه لم يخرجوا بالاستثناء. ويتوجه على هذا التقرير سؤال وهو: أنهم إذا لم يخرجوا بالاستثناء كيف قرنهم في جملة المستثنين؟ قالوا في الجواب: إنما قرنهم بهم ليبين أنا لرجال والنساء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، صاروا في انتفاء الذنب بمنزلة الولدان مبالغة؛ لأن المعطوف عليه يكتسب معنى المعطوف لمشاركتهما في الحكم، ويقرب منه ما ذكره في تفسير قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] في قراءة الجر، قال: "فعطفت الأرجل على الرؤوس لا لتمسح، لكنه لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها"، وقال أيضاً في قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181]: "جعل قتلهم الأنبياء قرينة لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم". وثانيها: أن الولدان وإن لم يكونوا داخلين حقيقة؛ فهم داخلون مجازاً، قال القاضي: إنما قرنهم بهم للمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها، وأن أقوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت.

يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلاً؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين، وقد لا يكونون كذلك، وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك؛ فلا يتوجه عليهم وعيد؛ لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكناً في الولدان لا ينفكون عنه، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة، هذا إذا أريد بالولدان الأطفال، ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء؛ فيلحقوا بهم في التكليف، وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت: الجملة التي هي (لا يَسْتَطِيعُونَ) ما موقعها؟ قلت: هي صفةٌ لـ (المستضعفين)، أو لـ (الرجال والنساء والولدان)، وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيءٍ بعينه، كقوله: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِى فإن قلت: لم قيل (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيقٌ لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى اللَّه أن يعفو عني، فكيف في غيره! [(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)]. (مُراغَماً): مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه؛ أي: يفارقهم على رغم أنوفهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: فعلى هذا المبالغة راجعة إلى وجوب الهجرة، وأنها خارجة عن حكم سائر التكاليف؛ حيث أوجبت على من لم يجب عليه شيء. قوله: ({مُرَاغَماً}: مهاجراً). قال الزجاج: معنى "مُراغم": مهاجر؛ لأن المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة، وإن اختلفت الكلمتان، قال:

والرغم: الذلّ والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب، يقال: راغمت الرجل: إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلةٍ تلحقه بذلك، قال النابغة الجعدي: كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزِ الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ وقرئ: (مرغماً). وقرئ (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله: مِنْ عَنَزِيّ سَبَّنِى لَمْ أضْرِبْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب ليس المُراغم إلا المضطرب في حال الهجرة، وإن كان مشتقاً من الرغام: التراب، فمعنى راغمت فلاناً: هجرته وعاديته. قوله: (كطود يُلاذ بأركانه) البيت، الطود: الجبل، يُلاذ: أي يلجأ، عزيز المراغم: صعب المسالك. قوله: (من عنزي سبني لم أضربه)، قبله: عجبت والدهر كثيرٌ عجبه. وعنزيٌّ: منسوبٌ إلى عنزة، وهي قبيلة. قال ابن جني: أراد "لم يُدركه" جزماً، غير أنه قوي الوقف على الكلمة فنَقَل الحركة من الهاء إلى الكاف؛ فلما نُقلت الضمة صار "يدركه" فحرك الهاء بالضم على أول حالها، ثم لم يعد إليها الضمة التي كان نقلها إلى الكاف عنها بل أقر الكاف على ضمها فقال: يدركه الموت. وأنشد محمد بن الحسن:

وقرئ: (يُدْرِكْهُ) بالنصب على إضمار "أن"، كقوله: وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ): فقد وجب ثوابه عليه. وحقيقة الوجوب: الوقوع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن ابن أحوص معروفاً فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر أي: فبلغه، ثم نقل الضمة من الهاء إلى الغين؛ فصار: فبلغه، ثم حرك الهاء بالضم وأقر ضمة الغين عليها بحالها فقال فبلغه؛ وذلك أنهم قد أكثروا نقل هذه الضم عن هذه الهاء، فإذا نُقلت إلى موضع قرت عليه وثبتت ثبات الواجب فيه فاعرفه. قوله: ("يدركه"، بالنصب). قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وهي على إضمار "أن"، ومن أبيات "الكتاب": سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا قال ابن جني: والآية على كل حال أقوى من ذلك لتقدم الشرط قبل المعطوف. وقيل: هو مثل أكرمني وأكرمك، أي: ليكن من إكرام وإكرام مني. المعنى: من يكن له خروج من بيته وأدركه الموت، والتقدير في البيت: سيكون ترك وإلحاق، وقيل: نصب "وألحق" ضعيف؛ لأنه ليس في جواب الأشياء الستة؛ وأجيب: أن فعل المضارع كالتمني والترجي. قوله: (فقد وجب ثوابه عليه) تلخيص معنى الجزاء، وقوله: "فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه" تحرير معناه وتقرير ما يؤدي إليه التركيب من المبالغة؛ لأن قوله:

والسقوط، (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [الحج: 36]، ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم اللَّه كيف يثيبه، وذلك واجب عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} مردوف قوله: "فقد علم الله كيف يثيبه"، كما أن قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] مقابل له؛ لأن معناه: لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجوداً ثابتاً، فأطلق العلم الخاص وأراد ثبوت المعلم الخاص وهو التمييز بين الثابت والناكص، وها هنا بالعكس؛ أطلق المعلوم الخاص وهو وقوع الأجر العظيم على العلم الخاص وهو العلم بكيفية الثواب، وهو من باب الكناية التي اللازم فيها مساوٍ؛ لأن العلم تابع للمعلوم والمعلوم كذلك، ثم في انضمام إقامة المظهر موضع المضمر في الجزاء وهو قوله: {عَلَى اللَّهِ} معه؛ لأن الأصل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} شبه الدلالة على أنه وقع أجر عظيم لا يُقادر قدره ولا يكتنه كنهه، ولا يعلم كيفية إثابته إلا من هو مسمى بذلك الاسم الجامع، فدل ذلك على أن العمل الذي هذا ثوابه أمرٌ عظيم وخطب جسيم، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن من هاجر له إحدى الحسنيين: إما أن يورث عدو الدين مذلة وهواناً بسبب مفارقته إياه واتصاله إلى الخير والسعة، وغما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم. قال الإمام: كأنه قيل: أيها الإنسان، إن كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة فلا تخف؛ فإن الله تعالى يمنحك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سبباً لرغم أنوف أعدائك ولسعة عيشك؛ وإنما قدم {مُرَاغَماً} على السعة؛ لأن ابتهاج الإنسان برغم العداء أشد من ابتهاجه بسعة عشه، وفيه أن من قصد طاعة ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة، كالمريض يعجز عما يفعله في حال صحته من الطاعة فيكتب له ثواب ذلك العمل. وأما الكلام في إيجاب الثواب

وروي في قصة جندب بن ضمرة: أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ثم قال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، فمات حميداً، فبلغ خبره أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان أتم أجراً. وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب؛ فنزلت. وقالوا: كل هجرة لغرض ديني من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرارٍ إلى بلدٍ يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب؛ فهي هجرة إلى اللَّه ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على اللَّه. [(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوَا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)]. الضرب في الأرض: هو السفر. وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبي حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ سير الإبل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الله تعالى فإنا لا نُنازع في الوجوب؛ لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق. وقال المصنف: إنما قيل: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ} لبيان أن الأجر إنما يستقيم إذا لم يحبط العمل، حتى جاء الموت. وقلت: ويمكن أن يقال: إن مقتضى الظاهر هو أن يقال: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ومات يُثبه؛ فوضع موضع مات: {يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} إشعاراً بمزيد الرضا عن الله تعالى؛ وأن الموت الهداية من الله تعالى؛ لأنه سبب الوصول إلى ذلك الأمر العظيم الذي لا ينال إلا بالموت؛ ثم عدل من العطف بالواو {ثُمَّ} تتميماً لهذه الدقيقة وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة.

ومشي الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه، فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ في يوم، قصر، ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام؛ لم يقصر. وعند الشافعي رضي الله عنه: أدنى مدة السفر أربعة بُرُدٍ مسيرة يومين. وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل، وإلى التخيير ذهب الشافعي رضي الله عنه. وروي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنه أتم في السفر. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: اعتمرت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي! قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: "أحسنت يا عائشة"، وما عاب عليّ. وكان عثمان رضي اللَّه عنه يتم ويقصر. وعند أبي حنيفة: القصر في السفر عزيمة غير رخصةٍ، لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومشى الأقدام على القصد)، الأساس: ومن المجاز: قصد في الأمر؛ إذا لم يجاوز فيه الحد ورضي بالتوسط؛ لأنه في ذلك يقصد الأسد. قوله: (أربعة بُردٍ)، النهاية: البريد: فرسخان، وقيل: أربعة. ومضى تفسيره مستقصى في أول البقرة. قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها) الحديث مذكور في "سسن النسائي"، قال القاضي: قول عمر رضي الله عنه: صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، إن صح فمؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء. وقول عائشة: أول ما فُرضت الصلاة فُرضت ركعتين، لا ينفي جواز الزيادة؛ فلا حاجة إلى تأويل الآية، فإنهم ألغوا الأربع فكان منة أن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر فيهما قصر ونقصان.

يجوز غيره. وعن عمر رضي اللَّه عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. فإن قلت: فما تصنع بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا)؟ قلت: كأنهم ألفوا الإتمام؛ فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح؛ لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ: (تقصروا) من أقصر، وجاء في الحديث إقصار الخطبة، بمعنى: تقصيرها؛ وقرأ الزهري (تقصروا) بالتشديد. والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة؛ وهو قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وأمّا في حال الأمن فبالسنة. وفي قراءة عبد اللَّه: (من الصلاة أن يفتنكم) ليس فيها (إِنْ خِفْتُمْ)، على أنه مفعول له، بمعنى: كراهة أن يفتنكم. والمراد بالفتنة: القتال والتعرّض بما يكره. [(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَاتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً* فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) 102 - 103]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة"، وهو قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ}). قال القاضي: أن يفتنكم شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت؛ ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وتظاهرت السنن على جوازه أيضاً في حال الأمن.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؛ حيث شرط كونه فيهم، وقال من رآها بعده: إن الأئمة نواب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كل عصر، قوّام بما كان يقوم به؛ فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف، فعليه أن يؤمّهم كما أمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها. والضمير في (فِيهِمْ) للخائفين. (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ): فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما معك، فصل بهم. (وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ): الضمير إمّا للمصلين وإمّا لغيرهم؛ فإن كان للمصلين، فقالوا: يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة، كالسيف والخنجر ونحوهما؛ وإن كان لغيرهم فلا كلام فيه. (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا) يعني: غير المصلين (مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسونكم. وصفة صلاة الخوف عند أبي حنيفة: أن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه الطائفة بإزاء العدو وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعة ويتم صلاته، ثم تقف بإزاء العدوّ وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءةٍ وتتم صلاتها، ثم تحرس وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءةٍ وتتم صلاتها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاجعلهم طائفتين فلتقم) أي: الفاء في {فَلْتَقُمْ} تفصيلية؛ بدليل عطف قوله: {طَائِفَةٌ أُخْرَى} عليه؛ فلابد من المجمل، وهو"فاجعلهم طائفتين". قوله: (يعني غير المصلين) أي: الفارغين من السجود الذاهبين إلى العدو، مع أنهم في الصلاة بعدُ. قوله: (فتؤدي الركعة بغير قراءة) وذلك أن الإمام قد قرأ في الركعة الثانية وهم كانوا في الصلاة وإن كانوا في وجه العدو، بخلاف الطائفة الأخرى؛ لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته؛ فلابد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية؛ إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ.

والسجود على ظاهره عند أبي حنيفة، وعند مالك: بمعنى الصلاة؛ لأن الإمام يصلي- عنده- بطائفةٍ ركعة ويقف قائماً حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب، ثم يصلي بالثانية ركعة ويقف قاعداً حتى تتم صلاتها ويسلم بهم. ويعضده: (وَلْتَاتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). وقرئ: (وأمتعاتكم). فإن قلت: كيف جمع بين الأسلحة وبين الحذر في الأخذ؟ قلت: جعل الحذر، وهو التحرّز والتيقظ، آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند مالك بمعنى الصلاة) أي: السجود بمعنى الصلاة. وكذا عند الشافعي؛ لقول أصحابه: والأولى بكل فرقة ركعة، لكن ينتظر الفرقة الثانية في التشهد ثم يسلم بهم كما فعله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، روينا عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة تجاه العدو، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، أخرجه البخاري ومسلم. وأما صورة صلاة الحنفية فعن ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: (ويعضده) أي: ويعضد قول مالك قوله تعالى: {وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} يعني نفي في هذه الآية عن الطائفة التي تقابل تلك الطائفة السابقة الصلاة؛ فينبغي أن يثبت لتلك الطائفة ما نُفي من هؤلاء وهي الصلاة، وما أتوا به صلاة، فوجب أن تُحمل السجدة على الصلاة

وجعلا مأخوذين، ونحوه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر: 9]. جعل الإيمان مستقراً لهم ومتبوأ لتمكّنهم فيه؛ فلذلك جمع بينه وبين الدار في التبوّء. (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ): فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر، أو يضعفهم من مرض. وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر؛ لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجُعِلا مأخوذين) يريد أنه تعالى نظم المعقول وهو الحذرُ بعد الاستعارة في سلك المحسوس وهو الأسلة في حم الأخذ، مبالغةً في الحذر، كما نظم الإيمان في سلك الدار في حكم التبوؤ لتمنهم فيه تمكنهم في الدار. قوله: (فيشدون عليكم شدة) الشدة بالفتح: الحملة الواحدة. الأساس: شدوا عليهم شدة صادقة. قوله: (كيف طابق الأمر بالحذر؟ ) يعني: مجيء قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} بعد الأمر بالحر إيذان بأن الأمر بالحذر معلل بهذه العلة، وليس كذلك؛ بل الأمر بالحذر مسبب عن اعتزاز العدو وغلبته، وأجاب أنه تعالى لما أمرهم بالحذر من العدو أوهمهم به غلبة العدو؛ لأن الحذر غالباً مسبب عن توقع مروه من جانب العدو، فأراد أن يبين أن هذا الأمر على خلاف المتعارف، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ليعلموا أن ذلك الأمر غير معلل بعلتهم، ونحوه قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] نهاهم أن يلقوا أنفسهم إلى التهلكة، وهو في الظاهر أمر بالإحجام عن الحرب؛ لكن المراد عكسه، ألا ترى إلى قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد؟ فالأمر بالحذر والنهي عن الإلقاء في التهلكة - في الحقيقة- راجعان إلى التحفظ في الأمور، والتيقظ في التدبير، وهو تعمد وقاية بأمر الجهاد، فإذا امتثلوا هذا النهي والأمر يثيبهم الله بأن يهين عدوهم ويحدهم ويبشرهم

قوله: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفي عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ اللَّه يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من اللَّه كما قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]. (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ): فإذا صليتم في حال الخوف والقتال (فَاذْكُرُوا اللَّهَ): فصلوها (قِياماً): مسايفين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليهم، فإذا الأمر والنهي معللان عن الوعد باعتزاز المؤمنين، وحاصله أن قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] من الكلام الذي له معنيان: قريب وبعيد، والمراد بعيد منهما، فإن قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} المعنى القريب منه: التحرز عن العدو بسبب شوكته وإعزازه والبعيد منه: القيام بأمر الجهاد وربط الجأش في القتال، وأريد منه هذا الثاني؛ ولذلك علل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}، يعني: إنما شرع الأمر بأخذ الحذر لإقامة الجهاد مع العدو، والتحفظ في الحرب؛ ليهين الله العدو وينصركم عليه. قوله: (واعتزازه). الأساس: تعزز لحم الناقة: اشتد وصلب، وأنا معتز ببني فلان ومستعز بهم، وقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]: قوينا. قوله: ({فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ}: فإذا صليتم)، فالقضاء إذن بمعنى الأداء؛ لمجيء قوله: {فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ} عقيبه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا اطمأننتم وأمنتم فاقضوا ما صليتم"، فالقضاء ليس بمعنيٍّ به في مذهب الشافعي رضي الله عنه، قال القاضي: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} أي: إذا أرتم أداء الصلاة واشتد الخوف فصلوها كيفما أمكن، {فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ} أي: سنت قلوبكم من الخوف؛ {فَأَقِيمُوا} أي: فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وأتوا بها تامة. وقال الأزهري: القضاء: على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكِم عمله وأُتم وخُتم أو أُدى أو أُوجب أو أُعلم أو أُنفذ أو أُمضي فقد قُضي، فالقضاء موضوع للقدر المشترك بين هذه المفهومات، وهو انقطاع الشيء في النهاية.

ومقارعين، (وَقُعُوداً): جاثين على الركب مرامين، (وَعَلى جُنُوبِكُمْ): مثخنين بالجراح. (فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ) حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج. (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً): محدوداً بأوقاتٍ لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حالٍ كنتم: خوف أو أمن. وهذا ظاهرٌ على مذهب الشافعي رحمه اللَّه في إيجابه الصلاة على المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء. وأما عند أبي حنيفة رحمه اللَّه فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: معناه: فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر اللَّه مهللين مكبرين مسبحين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإن ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مثخنين بالجراح). النهاية: الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه، يقال: أثخنه المرض، أي: أثقله ووهنه. قوله: (وهذا ظاهر على مذهب الشافعي)؛ وذلك أن الاستئناف بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} كالتعليل للأمر بإتيان الصلاة كيفما كان؛ ففيه تحديد للوقت وتعيينه، فيجب أن يكون وقت وجوبه حينئذٍ. قوله: (فإذا اطمأن فعليه القضاء) هذا ليس بالمذهب لقوله: وقضى المختلة دون عذر عام إلى قوله: أو مباح قتال. قوله: (وقيل: معناه: فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا) عطفٌ على قوله: "فإذا صليتم" فالفاعل الأول مثله في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54]؛ لأن الذكر حينئذٍ غير الصلاة، كما أن القتل غير التوبة لقوله: "فصلوها قياماً مسايفين" إلى آخره، وعلى هذا الذكر غير الصلاة، وهذا الوجه موافق لمذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لقوله: "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة فأتموها".

أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر اللَّه ودعائه واللجأ إليه. (فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ): فإذا أقمتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ): فأتموها. [(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَما تَالَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)]. (وَلا تَهِنُوا): ولا تضعفوا ولا تتوانوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ): في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم. ثم ألزمهم الحجة بقوله: (إِنْ تَكُونُوا تَالَمُونَ)، أي: ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى منهم بالصبر؛ لأنكم (تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة. وقرأ الأعرج: (أن تكونوا تألمون) بفتح الهمزة، بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون. وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَما تَالَمُونَ) تعليل. وقرئ: (فإنهم ييلمون كما تيلمون). وروي: أن هذا في بدر الصغرى، كان بهم جراح فتواكلوا. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً): لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به مما يصلحكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم ألزمهم الحجة) أي: للمسلمين، يعني: لما قال لهم: ولا تهنوا ولا تتوانوا في طلب القتال والتعرض للكفار؛ قطع معاذيرهم بقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَالَمُونَ} إلى آخره. قوله: {فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ} تعليل) أي: للنهي، يعني: لا تضعفوا لأجل الألم؛ لأنهم أيضاً يألمون، ومعكم ما يجب عليكم الصبر معه، هو رجاؤكم من الله إظهار دينكم على سائر الأديان والثواب في الآخرة، وعلى الأول جزاء للشرط. قوله: (فإنهم ييلمون) شاذ، كُسرت حرف المضارعة فانقلبت الهمزة ياء. قوله: (فتواكلوا) أي: فشلوا وضعفوا عن القتال. الأساس: وَكَلَ إليه الأمر وُكولاً،

[(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)]. روي: أنّ طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر سرق درعاً من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرقٍ فيه، وخبأها عند زيد بن السمين، رجلٍ من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها وما له بها علمٌ، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة! وشهد له ناسٌ من اليهود، فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي. فهمَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي. وقيل: هم أن يقطع يده. فنزلت. وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله. (بِما أَراكَ اللَّهُ): بما عرفك وأوحى به إليك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووكلته إلى الله وواكلته، وتواكلوا، وفلانٌ وكل ووكلة تكلة ومواكل: ضعيف يتكل على غيره. قوله: (روى أن طمعة بن أبيرق) القصة ذكرها الترمذي عن قتادة بن النعمان، وفيها اختلاف، وطعمة بفتح الطاء عن الصغاني، ورُوي بكسرها. قوله: (ليسرق أهله) أي: ليسرق متاع أهله، وقوله بعده: "ليسرق" بالتشديد، أي: يُنسب إلى السرقة، ونحوه: فسقته وفجرته: إذا نبته إلى الفسق والفجور. قوله: ({بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}: بما عرفك) يعني: أراك من الرأي الذي هو الاعتقاد، لا من العلم؛ لأنه يستدعي ثلاثة مفاعيل، قال أبو البقاء: الفعل: رأيت الشيء: إذا ذهبت إليه،

وعن عمر رضي اللَّه عنه: لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني اللَّه، فإنّ اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن ليجتهد رأيه؛ لأن الرأي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان مصيباً؛ لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف. (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً): ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء، يعني لا تخاصم اليهود لأجل بني ظفر، (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) مما هممت به من عقاب اليهودي. [(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً* وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً)]. (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ): يخونونها بالمعصية، كقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 187]، جُعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلماً لها؛ لأنّ الضرر راجع إليهم. فإن قلت: لم قيل (لِلْخائِنِينَ)؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو من الرأي، وهو متعد إلى مفعول واحد، وبعد الهمزة إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر محذوف، أي: أراكه، وقيل: المعنى علمك، وهو متعد إلى مفعولين أيضاً. قوله: (جعلت مصيبة العصاة خيانة منهم). الراغب: الخيانة والنفاق واحد، إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين، ثم يتداخلان، فالخيانة: مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الأمانة، يقال: خُنت فلاناً وخنت أمانة فلان، وعليه قوله تعالى: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27].

و (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)، وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين: أحدهما: أنّ بنى ظفرٍ شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع؛ ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط، ولا تجادل عنه. فإن قلت: لم قيل: (خَوَّاناً أَثِيماً) على المبالغة؟ قلت: كان اللَّه عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئةٍ فاعلم أن لها أخواتٍ. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن اللَّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة. (يَسْتَخْفُونَ): يستترون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمَ قيل: {خَوَّاناً أَثِيماً}؟ ) يعني: أن طعمة قد سرق هذه السرقة الواحدة، فكيف قيل له: {خَوَّاناً أَثِيماً} على المبالغة؛ وأجاب: من كانت تلك خاتمة حاله، وهي أن يسرق ثم يهرب ويرتد وينقب حائطاً فيسقط عليه فيقتله، لم يشك أنه قد أفرط في الخيانة؛ لأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده في أول مرة كما قاله عمر رضي الله عنه، ويمكن أن يحمل على مجرد المبالغة وأن تلك السرقة كانت عظيمة بالغة حدها حتى خوطب بسببها أفضل الخلق بقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}، نحوه سيجيء في الأنفال عند قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]. قال: "الظلام للتكثير لأجل العبيد، أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم". قوله: ({يَسْتَخْفُونَ}: يستترون) فإن قلت: فسر أولاً {يَسْتَخْفُونَ} بقوله: "يستترون {مِنَ النَّاسِ} حياءً"، وثانياً بقوله: "ولا يستحيون منه" فهل من فرق؟ قلت: لا؛ لأنه جعل العلة الغائبة في الأول الحياء لينبه على أن {يَسْتَخْفُونَ} في الثاني كناية عن الحياء، فاكتفى في الثاني بذلك إيجازاً، ويمكن أن يقال: إن الاستخفاء من الله تعالى مُحال؛ لاستواء الجهر والخفاء عنده؛ فجُعل مجازاً عن الحياء، وأما الناس فعلى خلافه، فيجوز أن يُحمل على الحقيقة تارة وعلى الكناية أخرى؛ فلذلك فرق بين التركيبين.

(مِنَ النَّاسِ) حياءً منهم وخوفاً من ضررهم، (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ): ولا يستحيون منه، (وَهُوَ مَعَهُمْ): وهو عالمٌ بهم مطلعٌ عليهم لا يخفى عليه خافٍ من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعيةً على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم- إن كانوا مؤمنين- أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح. (يُبَيِّتُونَ): يدبرون ويزوّرون، وأصله أن يكون بالليل، (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف ببراءته. فإن قلت: كيف سمي التدبير قولاً وإنما هو معنى في النفس؟ قلت: لما حدّث بذلك نفسه سمي قولاً على المجاز، ويجوز أن يراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته، وتوريكه الذنب على اليهودي. (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ): "ها" للتنبيه في "أنتم" و"أولاء"، وهما مبتدأٌ وخبر. و (جادَلْتُمْ) جملة مبينة لوقوع "أولاء" خبراً، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم تجود بمالك، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون "أولاء" اسماً موصولاً بمعنى "الذين"، و (جادلتم) صلته، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكفى بهذه الآية ناعية على الناس) يعني: أن هذه الآية وإن نزلت في شأن طعمة وبني ظفر، لكن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ فعلى العاقل أن يعتبر بمضمونها، لا سيما المؤمن يجتنب عن قلة الحياء وقلة خشية من علمه أنه في حضرته؛ فأوقع قوله: "إن كانوا مؤمنين" اعتراضاً بين الفعل ومعموله؛ تشديداً وتغليظاً. قوله: (وتوريكه الذنب) عطف على "الحلف". الأساس: ورك عليه السيف: حمل عليه، وورك عليه ذنبه. قوله: {جَادَلْتُمْ} ولم يقل: ها أنتم جادلتم؛ ليكون أفخم، فلو قيل: أنت تجود بمالك، لم يكن كما لو قيل: أنت حاتم تجود بمالك؛ فكانت الجملة المبينة كالتعليل. قوله: (ويجوز أن يكون "أولاء" اسماً موصولاً". قال الزجاج: "ها": للتنبيه في "أنتم"، وأعيدت في "أولاء"، والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم؛ لأن "هؤلاء" و"هذا" يكونان في الإشارة للمخاطبين في أنفسهم بمنزلة: الذين، وقد يكون لغير المخاطبين، كقوله:

والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم اللَّه بعذابه؟ وقرأ عبد اللَّه: (عنه)، أي: عن طعمة. (وَكِيلًا): حافظاً ومحامياً من بأس اللَّه وانتقامه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وهذا تحملين طليق أي: الذي تحملين. قوله: (والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه). قال الواحدي: الخطاب مع جماعة من الأنصار من قرابة طعمة جادلوا عنه وعن قومه. وقلت: فعلى هذا صح قول الكواشي: الخطاب في قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره؛ وذلك أن قوله: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} خطاب للجماعة عن مجادلة سابقة عنهم، والمذكور من قبل {وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ} فيجب حمله على ذلك، وعلى هذا ورد {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}، ولعله صلوات الله وسلامه خوطب بذلك؛ لأنه ما زجرهم ولا عنفهم كأنه جادل عنهم، ويعضده قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} إلى قوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وفي قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} إشارة إلى أن القرآن خُلق له صلوات الله عليه وتأديب من الله له. قوله: ({وَكِيلاً}: حافظاً). الوكيل حقيقة: هو من وُكِلَ إليه الأمر ثم استعير للحافظ؛ لأن الوكيل حافظ.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً): قبيحاً متعدّياً يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به، كالحلف الكاذب. وقيل: (ومن يعمل سوءاً) من ذنب دون الشرك، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة؛ لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه؛ أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. [(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)]. (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) أي: لا يتعدّاه ضرره إلى غيره، فليبق على نفسه من كسب السوء (خَطِيئَةً): صغيرة، (أَوْ إِثْماً): أو كبيرة، (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) كما رمى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً} من ذنب) عطفٌ على قوله: {سُوءاً}: قبيحاً"؛ لأن السوء لغة هو القبيح، قال في "الأساس": هو اسم جامع لكل آفةٍ وداء، يقال: ساء عمله وساءت سيرته، وأساء ما وُجِد منه. قوله: (مع العلم بما يكون منه) أي: مع أن الله تعالى عالم بما سيقع منه، وهو ما روى أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً، إلى آخر القصة. يعني أن الله تعالى كان عالماً بأنه لا يتوب ولا يغفر له ولا يرحمه، ومع ذلك قال في حقه: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}؛ لئلا يكون له حجة، وهي أن الله تعالى ما بعثني على التوبة حتى أتوب. قوله: (أو لقومه) أي: بُعِثَ لهم على الاستغفار والتوبة، لا لإلزام الحجة. قوله: ({خَطِيئَةً}: صغيرة). قال أبو البقاء: الهاء في {يَرْمِ بِهِ} تعود على الإثم، وفي عودها عليه دليل على أن الخطيئة في حكم الإثم، وقيل: تعود على أحد الشيئين المدلول عليه بـ {أَوْ}، وقيل: تعودُ على الكسب المدلول عليه بقول: {وَمَنْ يَكْسِبْ}.

طعمة زيداً، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً)؛ لأنه بكسب الإثم آثم، وبرمي البريء باهت، فهو جامع بين الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه: (ومن يكسب) بكسر الكاف والسين المشددة، وأصله: يكتسب. [(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)]. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) أي: عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ): من بني ظفر (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم؛ فقد روي: أن ناساً منهم كانوا يعلمون كنه القصة، (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)؛ لأن وباله عليهم، (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ)؛ لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في: (مِنْهُمْ) إلى الناس. ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه بكسب الإثم آثم وبرمي البريء باهتٌ) إشارة إلى أن في لفظ التنزيل لفظًّا ونشراً من غير ترتيب؛ لأنه أتى في التفسير بالترتيب، والأسلوب من باب تكرير الشرط والجزاء، نحو: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعي، فينبغي أن يحمل التنكير في قوله: {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} على التفخيم والتهويل؛ ومن ثم الدلالة على بُعد مرتبة البهتان من ارتكاب الإثم نفسه. قوله: (ويجوز أن يُراد بالطائفة بنو ظفر) عطف على قوله: "من بني ظفر"، و {طَائِفَةٌ

وقيل: الآية في المنافقين. [(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)]. (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ): من تناجي الناس (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ): إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدلٌ من (كثير)، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنْهُمْ} على الأول: بعضُ بني ظفر، على هذا: كلهم؛ لأنهم بعض الناس، والناس تحتمل الجنس والعهد. قوله: (وقيل: الآية في المنافقين) عطف على قوله: "من بني ظفر" أيضاً، أي: لهمت طائفة من المنافقين. الراغب: إن قيل: قد كانوا هموا بذلك فكيف قال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ}؟ قيل: في ذلك جوابان، أحدهما: أن القوم كانوا مسلمين، ولم يهموا بإضلال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك عندهم جواباً، والثاني: أن القصد إلى نفي تأثير ما هموا به كقولك: فلان شتمك وأهانك لولا أني تداركت؛ تنبيهاً على أن أثر فعله لم يظهر. قوله: (إلا نجوى من أمر بصدقة). الراغب: النجوى يقال للحديث الذي ينفرد به اثنان فصاعداً؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47]، وإذا جُعلت للقوم فـ {مَنْ}: مجرورٌ على البدل، أو منصوب على الاستثناء، وإن جعلتها للحديث فتقديره: إلا نجوى من أمر بصدقة، ولما كان التناجي مكروهاً في الأصل حتى قيل: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] صار ذلك من الأفعال التي تقبح ما لم يقصد به وجه محمود، كالمكر والخديعة؛ فبين تعالى أن النجوى لم تحسن ما لم تخص بها هذه الوجوه المستثناة، وخص هذه الثلاثة لأنها متضمنة للأفعال الحسنة كلها؛ وذلك أنه نبه بالصدقة على الأفعال الواجبة، فخُصت

قيام زيد؛ ويجوز أن يكون منصوباً على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقةٍ ففي نجواه الخير. وقيل: المعروف: القرض، وقيل إغاثة الملهوف، وقيل هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوّع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكونها أكثر نفعاً في إيصال الخير إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي الإحسان والتفضل، وبالإصلاح بين الناس على سياستهم وما يؤدي إلى نظم شملهم وإيقاع الألفة بينهم. قوله: (منصوباً على الانقطاع) أي: على الاستثناء المنقطع، قال أبو البقاء: يجوز أن يراد بالنجوى: القوم الذين يتناجون، ومنه قوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47]؛ فالاستثناء متصل: إما جراً بدلاً من {نَجْوَاهُمْ}، وإما نصباً على أصل الاستثناء. قوله: (هو عام في كل جميل). الراغب: يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعترف به: معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره: مُنكر؛ ووجه ذلك: أن الله تعالى ركز في العقول معرفة الخير والشر، كما رمز إليه بقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30] و {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138]، وعلى ذلك المعروف: ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، واطمئنانها إليه لمعرفتها به. وقلت: وإليه ينظر حديث وابصة بن معبد حين جمع صلى الله عليه وسلم أصابعه وضرب بها صدره، فقال: "استفت نفسك يا وابصة" ثلاثاً، "البر: ما اطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". أخرجه أحمد بن حنبل والدارمي.

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ما كان من أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ، أو ذكر اللَّه». وسمع سفيان رجلاً يقول: ما أشد هذا الحديث، فقال: ألم تسمع اللَّه يقول (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) فهو هذا بعينه، أو ما سمعته يقول (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 1 - 2] فهو هذا بعينه. وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوي فاعل الخير عبادة اللَّه، والتقرّب به إليه، وأن يبتغى به وجهه خالصاً، لأن الأعمال بالنيات. فإن قلت: كيف قال: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ)؟ قلت: قد ذكر الأمر بالخير؛ ليدل به على فاعله؛ لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كلام ابن آدم كله عليه لا له) الحديث مخرج في "سنن الترمذي" وابن ماجه. قوله: (فهو هذا بعينه) أي: لا تفاوت فيما يرجع إليه المعنى، لكن هذه الآية أخص من الحديث؛ لقوله: {مِنْ نَجْوَاهُمْ}، والحديث أخص من تلك الآية؛ لقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، وهو أعَمُّ من الكلام. قوله: (كيف قال: (إلا من أمر؟ ) تلخيص السؤال: أن قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} تذييل لقوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، فينبغي أن يكون مطابقاً للمذيل، ولا مطابقة بين أمر الفعل وفاعله ظاهراً، فأجاب بقوله: "قد ذكر الأمر بالخير". وخُلاصته: أنه لابد من التأويل؛ إما بأن يجعل القرينة الأولى كناية عن الفاعل ليحصل التطابق بالطريق الأولى، أو أن يجعل الكناية كناية عن الأمر لشموله وتناوله إياه، وبيان الأول: أنه تعالى لما رتب على إقدام أمر الخير قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] عُلِم أن فاعل ذلك أولى بأن يؤتي أجره، بل بأن يُضاعف ويعظم ثوابه.

فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال، وقرئ: يؤتيه، بالياء. [(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً* إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً* لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً* وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً* يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً* أُولئِكَ مَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)]. (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم، وهو دليل على أن الإجماع حجةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعبر عن الأمر بالفعل) فإن الفعل قد يُعبر به عن جميع الأفعال، فتقول: خلعت على زيد ومنحته جزيلاً وأكرمته وعظمته، فيقال لك: نعم ما فعلت، فكني بقوله: نعم ما فعلت، عن تلك الأفعال المذكورة اختصاراً، والجواب الأول أقرب إلى معنى قوله: {وَالْعَصْرِ}. قوله: (وقرئ: "يؤتيه"، بالياء): حمزة وأبو عمرو، والباقون: بالنون الفوقانية. قوله: (وهو دليل على أن الإجماع حجة) نقل الإمام عن الشافعي رضي الله عنه، أنه سُئل عن أي آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة؟ فقرأ القرآن ثلاث مئة مرة حتى وجد هذه الآية، فإن قيل: لا يُسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباعٌ لغير سبيل المؤمنين؛ لأنه لا يمنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجواب: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير؛ فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين، فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم؛ فوجب أن يكون متبعاً لهم. قال القاضي: إذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً كان اتباع سبيلهم واجباً؛ لأن ترك إتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم. وقلتُ: فإن قيل: الوعيد مرتبٌ على الكل، كقولك: إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت طالق؛ فأجيب أن الوعيد مرتبٌ على كل واحد من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن المشاقة وحدها مستقلة في اقتضاء الوعيد، فيكون ذكر اتباع غير سبيل المؤمنين لغواً. فإن قيل: إن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فلزم في المعطوف ذلك، فإذاً لم يكن في الإجماع فائدة؛ لأن الهدي عامٌ لجميع الهداية، ومنها دليل الإجماع، وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة. وأجيب: أن المراد بالهداية: الدليل على التوحيد والنبوة؛ فالمعنى: مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام، فيكون الإجماع مقيداً في الفروع بعد تبين الأصول. وقال الراغب: لا حجة في الآية على ثبوت الإجماع؛ لأن المراد بقوله: {الْمُؤْمِنِينَ} الإيمان لا ذووه، فكل موصوف عُلق به حكم، نحو أن يُقال: اسلك سبيل الصائمين والمصلين؛ يعني بذل الحث على الاقتداء بهم في الصلاة والصيام، لا في فعل آخر، وكذا إذا قيل: {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير. وقلت: المراد من {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} سبيل الجامعين لكل فضيلة ومنقبة؛ لأن ذكره هاهنا للمدح لا للعلة، وكونهم متبعين مقتدين بدليل قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، ويعضده قضية النظم؛ وذلك أن الطائفة الذين جادلوا عن طعمة هموا بأن يُزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق العدل مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، لولا أن تداركه فضل الله ورحمته بان أنزل عليه الكتاب والحكمة

لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة؛ لأنّ اللَّه عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول. (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى): نجعله والياً لما تولى من الضلال؛ بأن نخذله، ونخلي بينه وبين ما اختاره، (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ). وقرئ: (ونصله) بفتح النون من صلاه. وقيل: هي في طعمة وارتداده وخروجه إلى مكة. (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) تكرير للتأكيد، وقيل: كرّر لقصة طعمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلمه أمور الدين والشرائع؛ لوقع في ورطة العنت والمشقة. وليس ما فعل هؤلاء بمتابعة لسبيل المؤمنين؛ فإن سبيلهم التفادي عن مخالفة الرسول ومشاقته، والتجانب عما يُضاد الحق والعدل؛ لكن سبيل غير المؤمنين متابعة الشيطان الذي يدعوهم إلى عبادة الأوثان؛ ولذلك عقبه بقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيدا} تغليظاً، أي: ما يعبدون بعبادة الأصنام إلا شيطاناً؛ لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه؛ فعلى هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ} كالتذييل لقصة طعمة وقومه: فيدخل في هذا المقام كل ما فيه مُشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة سبيل المؤمنين بأي وجه كان. روينا عن الترمذي، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار". وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إما تأكيد للآية السابقة في هذه السورة المعادلة لها، أو كررت لتعلقها بخاتمة قصة طعمة وأصحابه ليكون كالتكميل بذكر الوعد بعد ما ذكر الوعيد الذي ضُمن في الآيات. الراغب: في قوله تعالى: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} إشارة إلى أن صغائر الأولياء أعظم

وروي: أنه مات مشركاً. وقيل: جاء شيخ من العرب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك باللَّه شيئاً منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة على اللَّه ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أني أعجز اللَّه هرباً، وإني لنادم تائب مستغفر، فما ترى حالي عند اللَّه؟ فنزلت وهذا الحديث ينصر قول من فسر (مَنْ يَشاءُ) بالتائب من ذنبه. (إِلَّا إِناثاً): هي اللات والعزى ومناة. وعن الحسن: لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه: أنثى بني فلان. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات اللَّه. وقيل: المراد الملائكة؛ لقولهم: الملائكة بنات اللَّه. وقرئ (أنثاً) جمع أنيثٍ أو أُناث، (ووثناً) و (أثناً) بالتخفيف والتثقيل جمع وثن، كقولك: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من كبائر العامة؛ وذلك أنه لا يُعذر العالم فيما يرتكبه كما يُعذر الجاهل؛ لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة بتركه للمعرفة؛ لأن العمل لا يلزم حتى يعرفه، والعالم يستحق العقوبة بترك معرفته وترك استعماله، وقصد تعالى بقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أن من لم يتبين له الهدي فقد يجعل الله له نوراً يهديه، ومن صار معانداً قطع عنه التوفيق، ويترك هو وهواه، وانقطاع التوفيق هو المعنى باللعن والطرد، وإليه أشار الشاعر بقوله: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجنى عليه اجتهاده قوله: (وقرئ: "أنثا" جمع أنيث أو أُناث، و"وُثْناً" و"أُثُناً"). قال أبو البقاء: ويُقرأ "أنُثاً"، مثل: رسل؛ فيجوز أن تكون صفة مفردة مثل: امرأة جُنبن وأن يكون جمع أنيث، كقليب وقلب. وقال الزجاج: "انثاً": جمع أناثٍ وإناثٍ وأنث، مثل: مثال ومُثُل،

أَسدٌ وأُسدٌ، وقلب الواو ألفا نحو «أُجوه» في "وجوه". وقرأت عائشة رضي اللَّه عنها: (أوثاناً). (وَإِنْ يَدْعُونَ): وإن يعبدون بعبادة الأصنام (إِلَّا شَيْطاناً)؛ لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه، فجعلت طاعتهم له عبادة، و (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ): صفتان بمعنى: شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة اللَّه، وهذا القول الشنيع. (نَصِيباً مَفْرُوضاً): مقطوعاً واجباً فرضته لنفسي، من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند: رزقه. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعين إلى النار (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة اللَّه للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك. وتبتيكهم الآذان: فعلهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"أُثُناً": جمع وثن، والأصل: وُثُن، والواو إذا ضُمت جاز إبدالها همزة نحو: {وَإِذَا الرُّسُلُ أوُقِّتَتْ} [المرسلات: 11]. قوله: (جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع)؛ وذلك أن الواو حين دخلت بين الصفتين أفادت مجرد الجمعية دون المغايرة. قال أبو البقاء: يجوز أن يكون {لَعَنَهُ اللَّهُ} مستأنفاً على الدعاء، أي: فعل ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود والتعبد؛ فعلى هذا {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ} جملة مستطردة، و {لَعَنَهُ اللَّهُ} معترضة، كقولهم للملوك في أثناء الكلام: أبيت اللعن. قوله: ({مَفْرُوضاً}: مقطوعاً واجباً). قال الزجاج: أصل الفرض: القطع، والفرضة: الثلمة تكون في النهر، والفرض في القوس: الحز الذي يُشد به الوتر، وفريضة الله: ما جعل الله على العباد أمراً حتماً عليهم قاطعاً.

بالبحائر؛ كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطنٍ وجاء الخامس ذكراً، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق اللَّه: فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب. وقيل: الخصاء، وهو في قول عامة العلماء مباحٌ في البهائم، وأما في بنى آدم فمحظور. وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم؛ لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقيل: فطرة اللَّه التي هي دين الإسلام. وقيل للحسن: إن عكرمة يقول: هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين اللَّه. وعن ابن مسعود: هو الوشم، وعنه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالبحائر). النهاية: كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يُركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يحلب لبنها إلا ضيف، وتركوها مسيبة لسبيلها وسموها سائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها وخلوا سبيلها وحرم منها ما حرم من أمها وسموها البحيرة، من: بحر: إذا شق أذنها. وحكى الزمخشري: بحيرة وبُحُر كصريمة وصُرم، وهي التي صُرمت أذنها، أي: قُطعت. قوله: (فقء عين الحامي). الفقء: القلع، والحامي: هو الفحل الذي طال مكثه عندهم، فإذا لقي ولد ولده حُمي ظهره فلا يُركب، ولا يُجز وبره، ولا يمنع من مرعى. قوله: (وقيل: فطرة الله التي هي دين الإسلام). الراغب: في الآية إشارة إلى أن كل ما جعله الله كاملاً بفطرته جعله الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره، وتغيير خلق الله هو: أن كل ما أوجده الله تعالى لفضيلة فاستعان الإنسان به في رذيلة فقد غير خلقه، وقد دخل في عمومه جعل الله للإنسان شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص؛ فاستعان به في السفاح واللواط، وكذا المخنث إذا نتف لحيته وتقنع تشبهاً بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان، ودخل في عمومه أيضاً كل ما حلله الله فحرموه أو حرمه فحللوه، وإلى هذه الجملة أشار المفسرون. قوله: (فقال: كذب عكرمة هو دين الله) يعني قوله: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً

"لعن اللَّه الواشرات والمتنمصات والمستوشمات المغيرات خلق اللَّه". وقيل التخنث. [(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)]. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا): مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، (وَمَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مَفْرُوضاً} يقتضي أن يفسر {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} بما هو أبلغ من الخصاء، فإذا المراد بتغيير الخلق ما أشار إليه الحديث النبوي: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يمجسانه". ولناصر قول عكرمة أن يقول: قول الشيطان: ولأضلنهم ولأمنينهم؛ دل على التغيير في الدين، وأُطلق ليشمل كل ما يصح فيه الإضلال والأماني، وقوله: لآمرنهم، إلى آخره؛ دل على التغيير في خلق الظاهر في النعام تارة وفي الإنسان أخرى، والله أعلم. قوله: (الواشرات). النهاية: الواشرة: المرأة التي تحد أسنانها وترقق أطرافها تتشبه بالشواب، كأنه من وشرت الخشبة بالميشار، غير مهموز. والمتنمصة والنامصة: التي تنتف شعور الوجوه. قال في "النهاية": وبعضهم يرويه "المنتمصة" بتقديم النون على التاء. والمتوشمة: من الوشم، وهو أن يغرز الجلد بغبرة ثم يُشى بكحل أو نيل فيزرق أثره. والمستوشمة: التي تطلب ذلك. قوله: (الأول مؤكد لنفسه)؛ لأن قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} يدل على الوعد؛ إذ الوعد هو الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه، "والثاني: مؤكد لغيره" نحو قولك: هو عبد الله حقاً، فقوله: "حقاً" يفيد معنى لم يُفد "هذا عبد الله" لا لفظاً ولا عقلاًن لكن الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق والكذب، فقولك: "حقاً" بقصر الجملة على أحد الاحتمالين، أي: أحق حقاً؟ فقولك: "حقاً" تأكيدٌ للمقدر لا للمذكور.

أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا): توكيد ثالث بليغ. فإن قلت: ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيه الباطلة لقرنائه بوعد اللَّه الصادق لأوليائه، ترغيباً للعباد في إيثار ما يستحقون به تنجز وعد اللَّه، على ما يتجرعون في عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان. [(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)]. في (لَيْسَ) ضمير وعد اللَّه، أي: ليس ينال ما وعد اللَّه من الثواب (بِأَمانِيِّكُمْ وَلا) بـ (أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ)، والخطاب للمسلمين؛ لأنه لا يتمنى وعد اللَّه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (توكيد ثالث بليغ)؛ وذلك أن الجملة تذييل للكلام السابق، والتذييل مؤكد للمُذيل. وأما المبالغة فمن الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجامع وبناء أفعل وإيقاع القول تمييزاً. وكل ذلك إعلام منه بأن حديثه صدق محض، وإنكار أن قول الصدق يتعلق بقائل آخر أحق منه. قوله: (معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة) إشارة إلى بيان النظم، يعني: كما أوقع قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} تذييلاً لقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} الآية، أوقع قوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} خاتمة لقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية؛ ليوازي بين الوعدين، ويقابل بين الترغيبين فيختار المؤمنون الأعمال الصالحة على ما يدعو إليه الشيطان بأمانيه الباطلة ومواعيده الكاذبة، فيتخلصوا من غصص إخلاف مواعيده بما يفوزوا به من إنجاز ما وُعدوا من الله تعالى الذي هو أصدق القائلين. ثم وازن بين قوله: {وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وبين قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} من جهة وضع المظهر موضع المضمر فيهما ومن النفي المستفاد من الاستفهام وما إلى غير ذلك ليتحقق المعارضة.

إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم؛ لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد اللَّه. وعن مسروقٍ والسدي: هي في المسلمين. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ليس الإيمانُ بالتمني)، فإن قلت: كيف الجمعُ بين هذا وبين قوله: "لأنه ايتمنى وعد اله إلا من آمن به"؟ والجواب: ما قاله الراغب المُنَى، كالقفا: التقديرُ، يقالُ: مَنَى لكَ، أي: قدَّرَ لك المُقدر، التمني: تقدير الشيء في نفسه وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له، قال تعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم: 24]، والمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء، ولما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار التمني كالمبدأ للكذب، فصح أن يُعبر عن الكذب بالتمني، وعلى ذلك ما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت. وأما قول المصنف: "لا يتمنى عد الله إلا من آمن به" فهو ينظر إلى قوله: وقد يكون عن روية وبناء على أصل. قوله: (ما وقر في القلب). النهاية: وقر في صدره، أي: سن فيه وثبت؛ من الوقار، وقد وقر يقر وقاراً، وفي الحديث: "لم يفضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكنه لشيء وقر في القلب".

من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ باللَّه، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظنّ باللَّه لأحسنوا العمل. وقيل: إنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله. فنزلت. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين؛ لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً؛ (لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) [مريم: 77]، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت: 50]، وكان أهل الكتاب يقولون: (نحن أبناء اللَّه وأحباؤه) [المائدة: 18]، (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) [البقرة: 80]، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك قبله. وعن مجاهد: إن الخطاب للمشركين. قوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)، وقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بعد ذكر تمنى أهل الكتاب نحو من قوله: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) [البقرة: 81]، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة: 82] عقيب قوله: (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} أولها: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. قوله: (ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك) يعني قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} [النساء: 117] وإقسام الشيطان: ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم. قوله: ({مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ} أراد أن نظم هذه الآية كنظم تلك الآية، ذكر هاهنا {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} وبعده: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، ثم قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ}، كما ذكر هناك {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [البقرة: 80]، وهو التمني، وبعده: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 82].

النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة: 80]. وإذا أبطل اللَّه الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل، وأن من أصلح عمله فهو الفائز، ومن أساء عمله فهو الهالك؛ تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأماني، وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح، ولكنه نصح لا تعيه الآذان ولا تلقى إليه الأذهان. فإن قلت: ما الفرق بين (من) الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، أراد: ومن يعمل بعض الصالحات؛ لأنّ كلاً لا يتمكن من عمل كل الصالحات؛ لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه، وكم من مكلفٍ لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة، وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال. والثانية لتبيين الإبهام في: (مَنْ يَعْمَلْ). فإن قلت: كيف خُصَّ الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الراجع في: (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال الصالحات وعمال السوء جميعاً. والثاني: أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالاً على ذكره عند الآخر؛ لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم؛ ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكنه نُصحٌ لا تعيه الآذان) تعريض بأهل السنة! لكنهم لا يقولون بوجوب الجزاء على ما عملوا، فكيف يلتفتون إلى مجرد الأماني؟ بل يرجون رحمته فضلاً منه؛ لا بالعمل كما جاء في الأحاديث الصحيحة. قوله: (والثانية لتبين الإبهام في {مَنْ يَعْمَلْ}. قال أبو البقاء: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} في موضع الحال من المستكين في {يَعْمَلْ}، و {مَنْ}: للبيان، أو: حالٌ من {الصَّالِحَاتِ}، و {مَنْ}: للابتداء، أي كائنة من ذكر أو أنثى، و {مِن} الأولى زائدة عند الأخفش، وصفة عند سيبويه. قوله: (ولأن ظلم المسيء) عطفٌ على قوله: "لأن كلا الفريقين"، والفاء في قوله: "فكان ذكره مستغني عنه" للنتيجة، وقيل: دليل ثالث على التخصيص.

أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه، وأما المحسن فله ثوابٌ، وتوابع للثواب من فضل اللَّه هي في حكم الثواب؛ فجاز أن ينقص من الفضل؛ لأنه ليس بواجب، فكان نفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل. [(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)]. (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): أخلص نفسه للَّه وجعلها سالمة له لا تعرف لها رباً ولا معبوداً سواه، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): وهو عامل للحسنات تارك للسيئات (حَنِيفاً): حالٌ من المتبع، أو من (إبراهيم)، كقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 135]؛ وهو الذي تحنف، أي: مال عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا): مجازٌ عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، والخليل: المخال، وهو الذي يخالك، أي: يوافقك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجاز أن يُنقص من الفضل؛ لأنه ليس بواجب)، وفيه بحث؛ لأن زيادة الثواب إذا لم تكن واجبة لم يقع في تخلفها الظلم. والجواب على مذهب أهل السنة: أن الثواب فضل، فهو كالواجب بسبب الوعد، ففي تخلفه خلفٌ في الوعد، فأطلق اللم وأريد خلف الوعد، أي: ولا ينقصون مما وُعدوا به شيئاً، وعلى مذهبه: أن الفضل لما جُعل في حكم الثواب أجرى عليه ما يجري على الثواب؛ مبالغة في الإلحاق، فقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} تذييل للكلام السابق عندنا، وعطفٌ على قوله: {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} عنده، أي: يدخلون الجنة جزاء لعمالهم ولا يظلمون نقيراً من فضل الله، الذي هو تابع للجزاء. قوله: (تُشبه كرامة الخليل) بعد قوله: "مجاز عن اصطفائه" إيذانٌ بأن المجاز من باب الاستعارة التمثيلية. قوله: (وهو الذي يُخالك، أي: يوافقك). الراغب: الخلل: انفراج الشيئين، يقال: خللته،

في خلالك، أو يسايرك في طريقك، من الخل؛ وهو الطريق في الرمل؛ أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله، أو يداخلك خلال منازلك وحجبك. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة اعتراضيةٌ لا محل لها من الإعراب، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: "وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ"، فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته؛ لأن من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أصبت خلله، فاستعير منه الخليل إما لتخلل كل واحد منهما قلب الآخر، كما قيل: الحبيب لوصول كل واحد منهما إلى حبة قلب الآخر، قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا أو لأنه تخلل أحوال الآخر، وعرف سرائره، أو لاعتبار افتقار كل واحدٍ منهما. وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} على الاعتبار الأخير، وهو افتقاره إلى الله تعالى في كل حال، وهذا الفقر أشرف غنى بل أشرف فضيلة يكتسبها الإنسان، ولهذا ورد: اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك. قوله: (في خلالك) أي: في خصالك. الأساس: هذه خلة صالحة، وفيه خلال حسنة، يعني: هو مأخوذ من هذه المعاني ثم استعمل في حق الله تعالى على سبيل الاستعارة، هذا وإذا جعل السبب في التسمية القصة الآتية فيكون من باب المشاكلة؛ لأن جوابه عليه الصلاة والسلام: بل من عند خليلي الله، في مقابلة قولها: من خليلك المصري كما سبق في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26]. قوله: (كنحو ما يجيء في الشعر) إشارة إلى قول امرئ القيس: ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا

بلغ من الزلفى عند اللَّه أن اتخذه خليلاً، كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته. ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها لم يكن لها معنى. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليلٍ له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال خليله: لو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الباء مزيدة في المرفوع، أي: هل أتاها بيقرة امرئ القيس؟ أي: موته أو انتقاله من بلد إلى بلد، وتملك: اسم أمه. قوله: (لم يكن لها معنى)؛ لأنه لا يخلو من أن يعطف على قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أو على صلة "من" أو على خبر الجملة الحالية {وَهُوَ مُحْسِنٌ}، لا يجوز الأول؛ لأن قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} اعتراض وتوكيد لمعنى قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وبيان أن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو؟ وليس في {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ذلك، على أن عطف الإخبارية على الإنشائية من غير جامع قوي يدعو إلى مُمتنع، ولا يجوز الثاني والثالث من له أدنى مسكة. فإن قلت: لم لا يجوز أن تكون الجملة استطرادية كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلى قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [فاطر: 12] عطف {وَمِنْ كُلٍّ} على أنه استطرادية؟ قلت: لا يجوز؛ لأن من شرط العطف في الاستطراد أن يكون للمعطوف نوع مناسبة بأصل الكلام، وهو {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ} الآية [النساء: 124]، وهي هاهنا مفقودة كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] على ما مر، ولا يحسن أن يكون حالاً لما يفوت من فائدة وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر الخُلة للتنصيص على أنه ممن يجب أن يُرغب في اتباع ملته؛ فتعين أن يكون اعتراضاً وتذييلاً؛ لما في اعتبارهما مظنة العلية، وبيان الموجب؛ أي: ومن أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم؛ لاصطفاء الله إياه وأنه الممدوح المستعد لخُلة الله لما فيه من غاية الكمالات البشرية. قوله: (في أزمةٍ). الأساس: ومن المجاز: أزم عيهم الدهر فأزمتهم أزمة، وسنة أزوم، عليه، ثم قيل: سنةٌ آزمةٌ: إذا أمسكت المطر.

كان إبراهيم عليه السلام يطلب الميرة لنفسه لفعلت، ولكنه يريدها للأضياف، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينةٍ فملئوا منها الغرائر حياء من الناس، فلما أخبروا إبراهيم عليه السلام ساءه الخبر، فحملته عيناه وعمدت امرأته إلى غرارةٍ منها فأخرجت أحسن حوّارى، واختبزت واستنبه إبراهيم عليه السلام، فاشتم رائحة الخبز، فقال: من أين لكم؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي اللَّه عز وجل، فسماه اللَّه خليلاً. [(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)]. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) متصل بذكر العمال الصالحين والصالحين، ومعناه: أن له ملك أهل السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم. (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)؛ فكان عالماً بأعمالهم فمجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها. [(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ببطحاء لينة). النهاية: البطحاء: الحصى الصغار. قوله: (فحملته عيناه) أي: غلبه النوم، من قولهم: حمل على قرنه حملة صادقة. قوله: (حواري) بالضم وتشديد الواو والراء المفتوحة. النهاية: وهو الخبز الذي نُخل مرة بعد مرة، من التحوير: التبييض. قوله: ({وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} متصل بذكر العمال، الصالحين والصالحات) يعني بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ} الآية، على أن ذكر أحد الفريقين يدل على ذكر الآخر؛ لأنهم مجزيون بأعمالهم كما سبق، ويكون كالتعليل لوجوب العمل؛ ولهذا جاء بـ "أن" في قوله: "أن له ملك أهل السماوات والأرض؛ فطاعته واجبة عليهم"، ويكون قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} اعتراضاً بين العلة والمعلول حثاً على الترغيب في العمل الصالح، وردعاً وزجراً عن المعاصي والكفر على أبلغ الوجوه.

فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)]. "ما يُتْلى": في محل الرفع، أي: اللَّه يفتيكم والمتلوّ (فِي الْكِتابِ) في معنى اليتامى، يعني قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء: 3]، وهو من قولك: أعجبني زيد وكرمه، ويجوز أن يكون "ما يُتْلى عَلَيْكُمْ" مبتدأ، و (فِي الْكِتابِ) خبره، على أنها جملة معترضة. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ؛ تعظيماً للمتلو عليهم، وأن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ما يُتلى": في محل الرفع). قال أبو البقاء: هو معطوف على اسم الله، أو على ضمير الفاعل في {يُفْتِيكُمْ}، وجرى الجار والمجرور مجرى التوكيد. وقال القاضي: وساغ العطف على الضمير المستكن للفصل، فيكون الإفتاء مسنداً إلى الله تعالى وإلى ما في القرآن، نحو: أغناني زيدٌ وعطاؤه. وعليه قول المصنف: "أعجبني زيدٌ وكرمه"؛ وذلك أن قوله: {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} بمنزلة: "أعجبني زيد"؛ جيء به للتوطئة والتمهيد، وقوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} بمنزلة: و"كرمه"؛ لأنه المقصود بالذكر. قوله: (تعظيماً للمتلو عليهم) مفعولٌ له لقوله: "المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ"، وإنما فسره في هذا الوجه باللوح المحفوظ لما يُذاق معه مع معنى التعظيم حلاوة حُسن النظام؛ إذ المعترضة من أسلوب التحاسين، ولو أريد به القرآن لتعطل من حلية التزيين وانخرط في سلك قول الشاعر: ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب

العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند اللَّه التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه اللَّه. ونحوه في تعظيم القرآن: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4]. ويجوز أن يكون مجروراً على القسم، كأنه قيل: قل: اللَّه يفتيكم فيهنّ، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم- أيضاً- لمعنى التعظيم. وليس بسديدٍ أن يعطف على المجرور في: (فِيهِنَّ)؛ لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى. فإن قلت: بم تعلق قوله: (فِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيان الاعتراض أن قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} بدل من قوله: {فِيهِنَّ} واعترض بين البدل والمبدل قوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ؛ فعلى هذا قوله: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} معناه: كلام الله- أي: القرآن- يفتيكم فيهن، ثم أكد هذا المعنى بأن قيل: ما يتلى عليكم ثابت مستقر في اللوح المحفوظ عند مليك عظيم الشأن، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] في شأنكم في أمر يفتيه كتابٌ هذا شأنه، فيكون من عظائم الأمور" تفسير لقوله: "تعظيماً للمتلو عليهم"، فيلزم من هذا التعظيم إيجاب مراعاتها والمحافظة عليها، ويفهم منه أن الإخلال بها وضع للشيء في غير موضعه، وفي هذا الوجه وفي أن يكون "ما يُتلى" مجروراً على القسم لا يكون في الآية ما يومئ إلى أن الفتوى في أي شيء هو. قال الإمام: الاستفتاء لايقع عن ذوات النساء؛ وإنما في حال من حالاتهن وصفة من صفاتهن، وتلك الحالة غير مذكورة في هذه الآية؛ فكانت الآية مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع فيه الاستفتاء. وقلت: ويكون التفصيل ما سبق في أول السورة من الآيتين كما سيجيء. قوله: (من حيث اللفظ والمعنى). أما اللفظ: فإنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وأما المعنى: فلأنه لا يستقيم أن يقال: يفتيكم في حق ما يتلى عليم، فغن قلت: لم لا يجوز أن يقال: الله يفتيكم في الكتاب بما يرويه المستفتي من قوله: {وَإِنْ

يَتامَى النِّساءِ)؟ قلت: في الوجه الأوّل هو صلة (يُتْلى)، أي: يتلى عليكم في معناهن، ويجوز أن يكون (فِي يَتامَى النِّساءِ) بدلاً من (فِيهِنَّ)؛ وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير. فإن قلت: الإضافة في (يَتامَى النِّساءِ) ما هي؟ قلت: إضافة بمعنى «مِنْ»، كقولك: عندي سحق عمامة. وقرئ: (في ييامى النساء) بياءين على قلب همزة "أيامى" ياءً. (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ)، وقرئ: (ما كتب اللَّه لهنّ)، أي: ما فرض لهن من الميراث، وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمةً عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها. (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ): يحتمل: في أن تنكحوهن لجمالهن، و: عن أن تنكحوهن لدمامتهن. وروي: أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3]؟ قلت: لا يجوز؛ لأن معنى {فِيهِنَّ}: في حقهن، وشأنهن يأباه للاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه. قال في "المُغرب": اشتقاق الفتوى من الفتى؛ لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، فالحادثة: هو السؤال عن خوف عدم القسط في حق اليتامى لقوله: "والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى" وبيانه بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}. قوله: (إضافة بمعنى "مِن" كقولك: عندي سحق عمامة). قال القاضي: هي إضافة الشيء إلى جنسه. وقال أبو البقاء: قال الكوفيون: التقدير: في النساء اليتامى، فأضاف الصفة إلى الموصوف.

لها قال: تزوجها فأنت أحق بها. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ): مجرورٌ معطوف على (يتامى). وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء، كقوله: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء: 2]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء) عطف على قوله: "أي: الله يفتيكم، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى"؛ إذ المراد بهم الأولياء؛ بدليل قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3]، وكان قوله: "وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه" إلى آخره، متفرعاً على ذلك التقدير، فيعلم منه أن الخطاب كان للأولياء والاستفتاء في شأن زواج اليتامى وتوريثهن؛ ولهذا قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، وعلى هذا الوجه الكلام في شأن أموالهن؛ لأن الأوصياء لا تصرف لهم إلا في الأموال؛ ولهذا استشهد بقوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]. فالحاصل أن الخطاب إذا جُعل للأولياء كان المعنىُّ به حكم الزواج والتوريث، فالمناسبة بالمتلو أن يكون قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا}، وإذا جُعل للأوصياء؛ كان الكلام في الأموال، فالمناسب بالمتلو أن يكون قوله: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}. وتحريره: أن هذه الآية واردة في بيان أنهم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوى مبهمة في شأن اليتامى، لا ندري أهي في شأن أزواجهن أو أموالهن؟ فلذلك احتملت الأمرين. وأما جواب الاستفتاء فقد سبق في الآيتين من أول هذه السورة؛ أحداهما: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية، وثانيتهما: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وفي كلامه إشعار بأن هذه الآيات مرتبطة بالآيات الواردة في أول السورة، فهي سابقة عليها بالرتبة؛ لأن جواب الاستفتاء قد أحيل إلى تلك الآيتين، والآيات المتخللة بين اللامين للامتنان في البيان. قال الإمام: إن عادة الله عز وجل في ترتيب هذا الكتاب الكريم واقعة على أحسن الوجوه، وهو أنه تعالى يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد

(وَأَنْ تَقُومُوا): مجرورٌ كـ (المستضعفين)، بمعنى: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوباً، بمعنى: ويأمركم أن تقوموا. وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والترغيب والترهيب، ويمزج بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعم إلهيته، ثم يعود على ما بدأ به تعالى من بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير؛ لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً بالوعد والوعيد، وهما لا يؤثران إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد. قوله: ({وَأَنْ تَقُومُوا} مجرورٌ كـ {الْمُسْتَضْعَفِينَ}). قال أبو البقاء: {الْمُسْتَضْعَفِينَ} عطف على المجرور في {يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}، وكذلك {وَأَنْ تَقُومُوا}، وهذا أيضاً عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد ذكره الكوفيون، ويجوز أن يكون منصوباً: عطفاً على موضع {فِيهِنَّ} أي: ويبين لكم حال المستضعفين، وبهذا التقدير يدخل في مذهب البصريين، والجيد أن يكون معطوفاً على {يَتَامَى النِّسَاءِ}. قوله: (بمعنى: ويأمركم أن تقوموا. وهو خطابٌ للأئمة) فيكون عطفاً على قوله: {يُفْتِيكُمْ}، يعني: يُفتي الأولياء والأوصياء بما أفتاهم، ويأمر الأئمة أن ينظروا إليهم ويتفقدوا حالهم ويستوفوا حقوقهم من الأولياء في الميراث، ولا يخلوا أحد يهتضمهم في معنى الزواج، فقوله: "أن يكون منصوباً" أي: منصوباً بالاتصال ونزع الخافض، والمعنى على الأول: قل الله يفتيكم أيها الأولياء في يتامى النساء أن لا تعضلوهن في النكاح وأن تقوموا لهن بالعدل والتسوية، أو: الله يفتيكم أيها الأوصياء في اليتامى بأن لا تتبدلوا الخبيث، وهو اختزال أموالهن بالطيب، وهو حفظها، وأن تقوموا فيها بالقسط، أي: لا إفراط في النفقة ولا تفريط فيها.

[(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)]. (خافَتْ مِنْ بَعْلِها): توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته. والنشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه، ونفقته، والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسب أو ضرب. والإعراض: أن يعرض عنها؛ بأن يقل محادثتها ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب؛ من طعنٍ في سنّ، أو دمامة، أو شيء في خَلقٍ أو خُلق، أو ملالٍ، أو طموح عينٍ إلى أخرى، أو غير ذلك. فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما. وقرئ: (يصالحا) و (يصلحا) بمعنى: يتصالحا، ويصطلحا، ونحو "اصلح": "اصبر" في "اصطبر". (يُصْلِحا): في معنى مصدر كل واحدٍ من الأفعال الثلاثة. ومعنى الصلح: أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يصالحا"). قال صاحب "التيسير": {أَنْ يُصْلِحَا}، بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام: الكوفيون، والباقون: بفتح الياء والصاد واللام مع تشديد الصاد وإثبات ألف بعدها. وقال أبو البقاء: (يصالحا) قرئ بتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله: "يتصالحا" فأبدلت التاء صاداً وأدغمت، و {صُلْحاً} على هذا واقع موقع "تصالح"، ويقرأ بتشديد الصاد من غير ألف، وأصله يصتلحا فأبدلت التاء صاداً وأدغمت فيها الأولى، وقرئ: "يصطلحا" بإبدال التاء طاء، و {صُلْحاً} عليهما في موضع "اصطلاح". والمصدر لم يتغير على القراءة، وإليه الإشارة بقوله: " {صُلْحاً} في معنى مصدر كل واحدٍ من الأفعال الثلاثة".

-كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها، وكما روي: أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت: لا تطلقني ودعني أقوم على ولدى وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلي! فأقرّها. أو تهب له بعض المهر، أو كله، أو النفقة فإن لم تفعل فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة؛ أو هو خير من الخصومة في كل شيء. أو: الصلح خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور. وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ (الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)، ومعنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما فعلت سودة بنت زمعة)، روينا عن الترمذي، عن ابن عباس: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت الآية. قوله: (ودعني أقوم) أي: أنا أقوم، على الاستئناف. قوله: (إن كان هذا يصلح) أي: هذا الذي أومأت إليه إن كان مما يصلح بيني وبينك ويرفع الخلاف الذي يقع بين الزوجين إذا فُقد ما يوافقها من المحبة والمباشرة وحسن المعاشرة؛ فهو أحب غليَّ، وعلى هذا حديث سودة رضي الله عنها. قوله: (خير من الخيور). قال المصنف: الخيور ورد في كلام فصيح فاقتديت به، وهو قياس واستعمال. قال القاضي: لا يجوز أن يراد به التفضيل، بل بيان أنه من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور. قوله: ({وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} قال الإمام: المعنى: أن الشح جُعِل كالأمر المجاور

إحضار الأنفس الشح: أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه، يعني أنها مطبوعة عليه. والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها وبغير قسمتها، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها. (وَإِنْ تُحْسِنُوا) بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة، (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة؛ (فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من الإحسان والتقوى (خَبِيراً) وهو يثيبكم عليه. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدمّ بنى آدم، وامرأته من أجملهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للنفوس اللازم لها، يعني أن النفس مطبوعة على الشحن وهذا معنى قول المصنف: "إن الشح قد جعل حاضراً لها لا يغيب عنها"، واللام في "لها" لضعف عمل اسم الفاعل. قال أبو البقاء: "حضر" متعد إلى مفعول واحد، نحو: حضر القاضي اليوم امرأة، وبالهمز إلى مفعولين: أحضرت زيداً الطعام، والمفعول الأول هاهنا {الأَنفُسِ}، أقيم مقام الفاعل. وأما معنى الاعتراض فهو أن قوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} تأكيد لما يحثهم الله تعالى على الصلح بقوله: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} وأن قوله: {وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} تأكيد لما في معنى الصلح بين الزوجين في هذا المقام؛ وذلك أن كلا من الزوجين يطلب ما تدعو إليه نفسه وإليه الإشارة بقوله: "إن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها وبغير قسمتها، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسها إذا رغب عنها". قوله: (وبغير قسمتها) أي: أن تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة، هذا رد إلى أول الكلام، وهو قوله: "أن تطيب نفساً عن القسمة، أو تهب له بعض المهر، أو كله". قوله: (وهو يثيبكم عليه) إشارة إلى أن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} جزاء لقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا}، وأن علم الله تعالى إذا تعلق بعمل العبد لابد أن يجزيه. قال القاضي: أقام كونه عالماً بأعمالهم مقام إثابته إياهم عليها الذي هو في الحقيقة

فأجالت في وجهه نظرها يوما ثم تابعت الحمد للَّه، فقال: مالك؟ قالت: حمدت اللَّه على أنى وإياك من أهل الجنة، قال: وكيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد اللَّه الجنة عباده الشاكرين والصابرين. [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)]. (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) ومحال أن تستطيعوا العدل بَيْنَ النِّساءِ والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]. وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه، فيعدل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جواب لقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} إقامة السبب مقام المسبب. قوله: ({وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} ومحال)، قوله: "ومحال" معنى قوله: "لن"، كما قال في "المص": {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]: تأكيد وبيان؛ لأن المنفي مناف لصفاته"، كقوله تعالى: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج: 73]، وإنما كان مُحالاً لأن العدل - وهو أن لا يقع ميلٌ البتة- متعذر؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جلالة شأنه يقسم بين نسائه ويعدل، ويقول: "هذه قسمتي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". قوله: (لأن تكليف ما لايستطاع داخل في حد الظلم) فيه لطيفة، وهي أن الأمر بالعدل هنا هو تكليف ما لا يُستطاع؛ فكان الأمر بالعدل بينهن ظُلماً، وفيه إشارة إلى مذهبه. قوله: (أنه كان يقسم بين نسائه) الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.

ويقول: «هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك»، يعني المحبة؛ لأن عائشة رضي اللَّه عنها كانت أحب إليه. وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغٌ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة، والنفقة، والتعهد، والنظر، والإقبال، والممالحة، والمفاكهة، والمؤانسة، وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة، هذا إذا كن محبوباتٍ كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن؟ ! (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ): فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضاً منها، يعني: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة، فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه ضرب من التوبيخ. (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ): وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال: هَلْ هيَ إلّا حَظَّةٌ أَوْ تَطْلِيقْ ... أوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن العدل بينهن) هو عطف على قوله: "ومحال أن تستطيعوا"، والحاصل أن المراد بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} إما أنه محال، أو أنه صعب. قوله: (مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه) تمثيل، أي: يحيط به إحاطة تامة كما يحيط المصبح بالعدو، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]. قوله: (وفيه ضرب من التوبيخ)، أي: في قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} لما يُفهم منه أن بعض الميل غير منهي عنه، وهو ما لا يدخل تحت الوُسع، فإن ما لا يُدرك له لا يُترك كله! يعني: إذا كان اجتناب كل الميل في حد اليسر فلم تفرطون في ذلك؟ وحين رخص لكم بعض الميل فلم لا تنصفون من أنفسكم وتقصرون في المأمور؟ قوله: (هل هي إلا حظة؟ ) قيل: الضمير للقصة، أي: لا تكون قصة هذه المرأة إلا

وفي قراءة أبيّ: (فتذروها كالمسجونة)، وفي الحديث: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل». وروي: أنّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بعث إلى أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضي اللَّه عنها: أإلى كل أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره. فقالت: ارفع رأسك! فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه! فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعاً. وكان لمعاذٍ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبرٍ واحد. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة، (وَتَتَّقُوا) فيما يستقبل، غفر اللَّه لكم. [(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً)]. وقرئ: (وإن يتفارقا) بمعنى: وإن يفارق كل واحدٍ منهما صاحبه (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا): يرزقه زوجاً خيراً من زوجه، وعيشاً أهنأ من عيشه. والسعة الغنى. والمقدرة: والواسع: الغنى المقتدر. [(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه الأشياء المذكورة، وقيل: التقدير: هل حالها إلا هذه الأمور؟ الحظة والحظوة: أن تحظو المرأة عند زوجها وأخيها، والصلف: ضد ذلك، وفي تقسيمه تعقيد. قوله: (من كانت له امرأتان) الحديث مُخرج في "سنن" أبي داود والترمذي. قوله: (ارفع رأسك) كناية عن التنبيه والاستيقاظ، أي: تفطن لما تفعل.

حَمِيداً* وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً* إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَاتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً)]. (مِنْ قَبْلِكُمْ): متعلق بـ (وصينا)، أو بـ (أوتوا). (وَإِيَّاكُمْ): عطفٌ على (الَّذِينَ أُوتُوا). و (الْكِتابَ): اسم للجنس يتناول الكتب السماوية. (أَنِ اتَّقُوا): بأن اتقوا، أو تكون (أن) المفسرة؛ لأنّ التوصية في معنى القول. وقوله: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ) عطف على (اتقوا)؛ لأنّ المعنى: أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإنّ للَّه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا) يؤذن أن قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} مقول للقول المحذوف، والجملة معطوفة على جملة {وَصَّيْنَا} مع معموله، ثم قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} عطف على {اتَّقُوا} مخالف لذلك، ويمكن أن يقال: إنه من باب قوله: علفتها تبناً وماءً بارداً إذ لا يجوز أن يقال: أمرناكم أن تكفروا فإن لله. فإن قلت: ولم كرر "أمرنا" وقد قال: {وَإِيَّاكُمْ} عطف على {الَّذِينَ}. وقال أبو البقاء: وحُكم الضمير المعطوف الانفصال. وقدر صاحب "الكشف": وصيناهم وإياكم؟ قلت: لينبه على أن العطف من باب التقدير لا الانسحاب؛ إيذاناً بتكرير الوصية وأنها توصية غب توصية على تكرير الأزمنة، ولم تكن توصية واحدة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من الأمم السالفة ووصيناكم، وينصره قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى: 13]. وقوله: "وأمرناهم بالتقوى" يؤذن أن {أَنْ} في قوله: {أَنْ اتَّقُوا} مصدرية وقد

والمعنى: إن للَّه الخلق كله، وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دخلت على الأمر، وهو جائز؛ قال في سورة يونس في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} [يونس: 105]: "وقد سوغ سيبويه أن يوصل "أن" بالأمر والنهي، وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل". قوله: (والمعنى: إن لله الخلق كله) هذا شروع في التفسير، وفي نظم التركيب وخاصيته. اعلم أن في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إثبات الصفة لله تعالى المقتضية أن يترتب عليها حكم له شأن، وقوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... } إلى آخره متضمن للأمر بالتقوى، والنهي عن الكفر، وهو صالح لأن يترتب على الوصف؛ لأنه مناسبه، لكن الواو التي في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} مانعة من الترتيب، والصفة داعية إلى أن المقتضي يجب أن يكون أكثر مما ذكر؛ فوجب تقدير معطوف عليه مرتب على الوصف بالفاء ليعطف {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} مانعة من الترتيب، والصفة داعية إلى أن المقتضي يجب أن يكون أكثر مما ذكر؛ فوجب تقدير معطوف عليه مرتب على الوصف بالفاء ليعطف {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} عليه؛ فيتم به الغرض، ومثله في هذا الاعتبار قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15]؛ لأن شكر نعمة العلم تقتضي أكثر من القول اللساني، ثم المناسب بعد ذلك أن يُنزل مطلق قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} مع ما فيه من معنى الاختصاص بتقديم الظرف وتكرير "ما" والجار والتعميم فيه على معنى يشتمل على المقدر والمذكور، والمصنف اعتبر كل هذه المعاني في تقديره؛ حيث قال: "إن لله الخلق، وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصي، يتقون عقابه ويرجون ثوابه"، ثم قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وقع جواباً لقوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} لبيان المبالغة في التوصية على ما يعطيه المعطوف مع المعطوف عليه من المعنى السابق؛ فيجب لذلك حمل {وَإِنْ تَكْفُرُوا} على الكفر بالله الذي هو كفرانٌ لتلك النعمة السابقة من ترك توحيده وعبادته وإماطة تقواه وحمل جوابه على معنى يطابقه، وذلك قوله: "فإن لله في سماواته وأرضه، من يوحده ويعبده ويتقيه" أي: يشكره ويحمده، ثم جاء بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} تذييلاً له.

فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصىّ. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب) من الأمم السالفة، ووصيناكم (أن اتقوا اللَّه) يعني: أنها وصية قديمة ما زال يوصي اللَّه بها عباده، لستم بها مخصوصين؛ لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة. وقلنا لهم ولكم: وإن تكفروا فإنّ للَّه في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده ويتقيه ويعبده، (وَكانَ اللَّهُ) مع ذلك (غَنِيًّا) عن خلقه وعن عبادتهم جميعاً مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم. وتكرير قوله: (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لما هو موجب تقواه؛ ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فظهر من هذا البيان تقييد قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في الموضعين بحسب المقامين، بقي الثالث فيُحمل على القدرة الكاملة المختصة به تعالى ليكون قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تذييلاً، والجملة كالتكميل لقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} وإن لم يذهب إليه فيضم معهما صفة المقدرة ويكون كالتخلص منها إلى قوله تعالى: {إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}، فإنه كما قال: "وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره" إن لم يتقوا ولم يشكروا. قال صاحب "النهاية": يقال: وكل فلان فلاناً: إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى: هو القيم والكفيل بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه. قال القاضي: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} راجع إلى قوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 13]، فإنه تعالى توكل بكفايتهما، وما بينهما تقرير لذلك. وقلتُ: ليس بذاك؛ لأن الآيات على ما سبق في بيان التوصية في التقوى والتمسك بالتوحيد، والاشتغال بالعبادة وكلة الأمور إلى موكلها والعزوف عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، وغير ذلك من الفنون المختلفة إلى خاتمة السورة، وكل من القرائن تذييل لما ذيل به ما مر، تعم الكل، تقرير لما سبق من مفتتح السورة.

لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله. (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ): يفنكم ويعذبكم كما أوجدكم وأنشأكم، (وَيَاتِ بِآخَرِينَ): ويوجد إنساً آخرين مكانكم، أو خلقاً آخرين غير الإنس، (وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ) من الإعدام والإيجاد (قَدِيراً): بليغ القدرة، لا يمتنع عليه شيءٌ أراده. وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره. وقيل: هو خطاب لمن كان يعادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من العرب، أي: إن يشأ يمتكم ويأت بناسٍ آخرين يوالونه. ويروى: أنها لما نزلت ضرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» يريد أبناء فارس. [(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً)]. (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا): كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة (فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ): فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما؟ ! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الخشية التقوى أصل الخير كله)، هذا تعليل للتقرير، أي: كرر موجب التقوى، وهو كونه مالكاً للسماوات والأرض؛ ليقرر موجبه وهو التقوى. قوله: (وقيل: هو خطابٌ لمن يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى الأول كان خطاباً عاماً تابعاً للكلام السابق، وتقرير المعنى التهديد والوعيد كما مر، وإنما قال: "بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده" لمجيء "قدير" على "فعيل"، ولتخصيص الاسم الجامع وإتيان {ذَلِكَ} والمشار إليه قريب، والجملة تذييل. قوله: (فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما؟ ) هذا التوبيخ والإنكار مستفاد من إيقاع قوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} جزاء للشرط، ولا يستقيم أن يقع جزاء إلا بتقدير الإخبار والإعلام المتضمن للتوبيخ والتقريع؛ لأن الجزاء ينبغي أن يكون مسبباً عن الشرط، بأن يُقال: إن من جاهد أو تعلم العلم أو انفق ماله أو عمل عملاً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يريدُ به الغنيمة أو الصيت أو الرياء يوجب أن يوبخ وينكر عليه بأني قال في حقه: ما هذه الدناءة والضعة؟ أرضيت بالخسيس الفاني وتركت الرفيع الباقي؟ مالك لا تريد بذلك وجه الله تعالى وطلب مرضاته ليمنحك ما تريده ويتبعه هذا الخسيس أيضاً راغماً أنفه؟ روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن زيد بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له". فالآية عامة تقتضي أكثر من المذكور، وإنما خصصنا المذكورات بالذكر تأسياً بالحديث المشهور، وهُو ما روينا عن مسلم والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول الناس يُقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأُتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت! ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت! ولكنك تعلمت ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت! ولكنك فعلت ليقال: هُو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار". وإنما خص المصنف المجاهد بالذكر لأنه أقدمهم؛ لأن بذل الروح والمال أقرب إلى الرياء.

لأن من جاهد للَّه خالصاً لم تخطئه الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا شيءٍ! والمعنى: فعند اللَّه ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)]. (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ): مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا (شُهَداءَ لِلَّهِ): تقيمون شهاداتكم لوجه اللَّه كما أمرتم بإقامتها، (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ): ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. فإن قلت: الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول: أشهد أن لفلانٍ على والديّ كذا، أو على أقاربي، فما معنى الشهادة على نفسه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن أراده، حتى يتعلق الجزاء بالشرط) يعني: لابد من تقدير هذا لبيان الربط؛ وذلك بتقدير الضمير العائد من الجزاء إلى الشرط، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} تذييل بمعنى التوبيخ، يعني: كيف يُرائي المرائي وإن الله سميع بما يهجس في خاطره ويسمع ما تأمره دواعيه، بصيرٌ بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك؟ قوله: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}: مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا). الراغب: أمر الله تعالى كل إنسان بمراعاة العدالة، ونبه بلفظ {قَوَّامِينَ} على أن ذلك لا يكفي مرة أو مرتين؛ بل يجب أن يكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً، وجعلهم شهداء لله؛ تعظيماً لمراعاة العدالة، وأنهم بالحفظ لها يصيرون من شهداء الله، وانتصاب {شُهَدَاءَ} على الحال لقوله: {قَوَّامِينَ} أو صفة لها، أو يكون {قَوَّامِينَ} حالاً و {شُهَدَاءَ} خبر كان.

قلت: هي الإقرار على نفسه؛ لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم؛ وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. (إِنْ يَكُنْ): إن يكن المشهود عليه (غَنِيًّا) فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه، (أَوْ فَقِيراً) فلا يمنعها ترحماً عليه، (فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما): بالغني والفقير، أي: بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها، لأنه أنظر لعباده من كل ناظر. فإن قلت: لم ثني الضمير في: (أَوْلى بِهِما)؟ وكان حقه أن يوحد؛ لأن قوله (إن يكن غنياً أو فقيراً) في معنى: إن يكن أحد هذين. قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لا إلى المذكور؛ فلذلك ثُني ولم يفرد، وهو جنس الغنيِّ وجنس الفقير، كأنه قيل: فاللَّه أولى بجنسي الغني والفقير، أي: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أُبي: (فاللَّه أولى بهم)، وهي شاهدة على ذلك. وقرأ عبد اللَّه: (إن يكن غنيٌ أو فقير) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى ما دل عليه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً}، لا إلى المذكور). قال أبو البقاء: اسم "كان" مضمر فيها دل عليه تقدم ذكر الشهادة، أي: إن كان الخصم أو كل واحد من المشهود عليه والمشهود له، وذلك أن كل واحد منهما يجوز أن يكون غنياً وأن يكون فقيراً، وقد يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين؛ فلما كانت الأقسام عند التفصيل على ذلك ولم تُذكر، أتى بـ {أَوْ} ليشمل على هذا التفصيل، فعلى هذا الضمير في {بِهِمَا} عائدٌ على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه لا على المذكور، وقيل: الضمير عائدٌ إلى ما دل عليه الكلام، والتقدير: فالله أولى بالغني والفقير، لدلالة الاسمين عليه. وخالصة مراد المصنف الذهاب إلى التعميم في الجنسين ليدخل في العموم المراد دخولاً أولياً. قوله: (هي شاهدة على ذلك)، أي: قراءة أُبيِّ شاهدة على أن المراد الجنس؛ لأن الجمع والمطلق يلتقيان في العموم؛ ولهذا فسر جنسي الفقير والغني بـ "الأغنياء والفقراء".

على «كان» التامة. (أَنْ تَعْدِلُوا) يحتمل العدل والعدول، كأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا): وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرئ: (وإن تلوا أو تعرضوا)، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها، (فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وبمجازاتكم عليه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)]. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا): خطاب للمسلمين. ومعنى (آمَنُوا): اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه. (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ): المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب. والدليل عليه قوله: (وَكُتُبِهِ). وقرئ: (وكتابه) على إرادة الجنس. وقرئ: (نزل) و (أنزل) على البناء للفاعل. وقيل: الخطاب لأهل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: {وَإِنْ تَلْوُوا} الجماعة إلا ابن عامر وحمزة. قال أبو البقاء: {وَإِنْ تَلْوُوا} يُقرأ بواوين الأولى منهما مضمومة، وهي من: لوى يلوي، وتُقرأ بواوٍ واحدة ساكنة، وفيه وجهان؛ أحدهما: أصله "تلووا" كالقراءة الأولى، إلا أنه أبدل الواو المضمومة همزة ثم ألقى حركتها على اللام، والثاني: أنه مِن: وَليَ الشيء، أي: وإن تتلوا الحكم أو تعرضوا عنه، أو: إن تتولوا الحق في الحُكم. قوله: ({نَزِّلَ} و {أُنزِلَ} قرأهما نافع وعاصم وحمزة والكسائي.

الكتاب، لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض. وروي: أنه لعبد اللَّه بن سلام، وأسدٍ وأسيدٍ ابني كعب. وثعلبة ابن قيس، وسلام بن أخت عبد اللَّه بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقالوا: يا رسول اللَّه، إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه الصلاة والسلام: «بل آمنوا باللَّه ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» فقالوا: لا نفعل، فنزلت، فآمنوا كلهم. وقيل: هو للمنافقين، كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً. فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب؛ فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله؛ ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيماناً به، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة؛ فلم يكن إيمانهم إيماناً، وهذا الذي أراد عز وجلّ في قوله: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء: 150 - 151]. فإن قلت: لم قيل: (نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) و (أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)؟ قلت: لأن القرآن نزل مفرّقا منجماً في عشرين سنةً بخلاف الكتب قبله. ومعنى قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن القرآن نزل مفرقاً [منجماً] في عشرين سنة]، والصحيح: في ثلاث وعشرين سنة، روينا عن البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين فمكث ثلاث عشرة سنة، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشراً، ثم توفى صلوات الله عليه وسلامه.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ) الآية: ومن يكفر بشيءٍ من ذلك (فَقَدْ ضَلَّ)؛ لأن الكفر ببعضه كفر بكله، ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعاً! [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)]. (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا): نفى للغفران والهداية، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي تعطيها اللام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن يكفر بشيء من ذلك) أي: من المذكور من قوله: {بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، يريد أن قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ} تذييل للكلام السابق وتأكيدٌ له؛ فيجب أن يكون جميع الكفر منفياً فيه ومنهياً عنه، كما أن المأمور في المذيل الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به، وإليه الإشارة بقوله: "ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعاً؟ " والضمير في "به" للمذكور، وليس به لما أنه لم يذكر فيه الإيمان بالملائكة واليوم الآخر. وأجيب أن الإيمان بالكتب المنزلة إيمانٌ بالملائكة الذين نزلوا بها- ولذلك كرر "نزَّلَ" - وإيمانٌ باليوم الآخر لاشتمال الكتب عليه. قوله: (على سبيل المبالغة التي تعطيها اللام). هذا يؤذن أن اللام زيدت في خبر "كان" لتأيد النفي على المذهب الكوفي، وطعن فيه أبو البقاء وقال في إعراب قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} [آل عمران: 179]: خبر {كَانَ} محذوف، أي: ما كان الله مُريداً لأن يذر، ولا يجوز أن يكون الخبر {لِيَذَرَ}؛ لأن الفعل بعد اللام ينتصب بـ "أن" فيصير التقدير: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما أنتم عليه، وخبرُ "كان" هو اسمها في المعنى، وليس المترك هو الله تعالى. وقال الكوفيون اللام زائدة والخبر هو الفعل، وهو ضعيف؛ لأن ما بعدها قد انتصب، فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة، وإن كان بـ "أن" ففاسد. وقال صاحب "الإقليد" في جواب سؤال مشتمل على هذا المعنى: قولك: لم أكن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأفعل، نفيٌ لقولك: ستفعل، فجيب أن يُضمر "أن" ليتمحض للاستقبال، وإنما التزم إضمارها؛ لأنها قد زيدت لتأكيد النفي، فقولك: لم أكن لأفعل آكد من: لم أكن أفعل، فمعنى الأول: لم أكن للفعل، وفيه نفي نفس الفعل، ومعنى الثاني نفي إيجاد الفعل، ونفي إيجاد الفعل لا يلزم منه نفي الفعل ولا ينعكس، فعُلم أن اللام زائدة، والزائدة مستلزمة للمستقبل، فناسب إضمارها. أما قوله: المصدر لا يقع خبراً عن الجثة. فجوابه: أن امتناع وقوع المصدر خبرا ًعن الجثة لعدم كونه دالاً بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان. والفعل المُصدر بـ "أن" يدل عليهما، فيجوز الإخبار به وإن لم يجز بالمصدر، ولا سيما وقد التزم إضمار "أنْ" فضلة ومنتظماً في نمط الفعل المحقق المتأول باسم الفاعل. ويؤيد ما ذكرت كل من الفارق إطباقهم عن آخرهم على الإخبار بالفعل المصدر بـ "أن" في خبر "عسى"، نحو: عسى زيدٌ أن يخرج، وإنما جوزوا ذلك مع امتناع استعمال المصدر موضع الفعل المُصدر بـ "أنْ" هنالك. والإخبار إذن بالفعل ودخول "أنْ"؛ يكون علماً على المستقبل؛ لأن "عسى" للإخبار بوقوع حادث في الزمان المستقبل مع رجاء، فلابد أن يكون علماً للاستقبال. وقلتُ: المبالغة على اختيار أبي البقاء أيضاً حاصلة؛ لأن اللام تستدعي مُقدراً هو عاملها، كما يقال: ما كان الله مريداً لأن يغفر لهم، فإذا نفيت إرادة الفعل لينتفي الفعل انتفاء للسبب لإرادة انتفاء المسبب؛ كان أبلغ من انتفاء الفعل ابتداء، قوله تعالى: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} [يونس: 18]. اعلم أنه قد مر في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} [النساء: 92] أن دخول كان للمبالغة في نفي الفعل الداخلة هي علية لتقدير جهة نفيه عموماً باعتبار الكون، وخصوصاً باعتبار الفعل المخصوص، فهو نفي مرتين، وزيد هاهنا اللام لمزيد إرادة التأكيد.

والمراد بنفيهما نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت، والمعنى: إنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه اللَّه، لأن قلوب أولئك - الذين هذا ديدنهم - قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردّة، وكان الإيمان أهون شيءٍ عندهم وأدونه؛ حيث يبدو لهم فيه كرّة بعد أخرى، وليس المعنى: أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم ولم يغفر لهم؛ لأنّ ذلك مقبول؛ حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمرٌ لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع، لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شرِّ حالٍ وأسمج صورة. وقيل: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى، ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيده تفسيره لقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] بقوله: "واللام لتوكيد النفي، أي: وما كان يستقيم أن نكون مهتدين لولا هداية الله". قوله: (ضربت بالكفر). النهاية: يقال: ضري بالشيء يضري ضراوة، أي: عادة ولهجا به لا يُصبر عنه. قوله: (حيث يبدو لهم) فاعل "يبدو" مصدره المضمر فيه، وهو: بداء، يقال: بدا لهم في هذا الأمر بداء، ممدود: نشأ له رأي. قوله: (وقيل: هم اليهود) عطف على قوله: "المعنى: إن الذين تكرر منهم الارتداد" أي: داوموا على ذلك الفعل؛ ولهذا قال: "حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى"، وعلى الثاني: التكرير للمعدود؛ ولهذا أتى بالإنجيل وعيسى، والتوراة وموسى.

[(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)]. (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ): وضع (بَشِّرِ) مكان: "أخبر" تهكما بهم. و (الَّذِينَ) نصبٌ على الذمّ، أو رفعٌ بمعنى: أريد الذين، أو: هم الذين. وكانوا يمايلون الكفرة ويوالونهم، ويقول بعضهم لبعض: لا يتم أمر محمدٍ فتولوا اليهود. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً): يريد لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8]. [(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً* الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كانوا يمايلون)، ويروي: يمالئون، الكفرة. النهاية: وفي حديث عمر رضي الله عنه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به، أي: تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا. قوله: (وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] استشهاد لإرادة العزة لأوليائه من قوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ}، والفاء في {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} للتعقيب، وهو تتميم لمعنى الإنكار، أي: يطلبون العزة عند الكفار بعد أن عرفوا أن العزة لله جميعاً. قال الزجاج: العزة: المنعة وشدة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عزاز. قال الأصمعي: العزاز من الأرض: الصلب ذات الحجارة، يُقال: يعز عليَّ أن تفعل، أي: يشتد. وأما قولهم: قد عز الشيء إذا لم يوجد، فتأويله: أنه صَعُب أن يوجد.

وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)]. (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) هي "أن" المخففة من الثقيلة، والمعنى: أنه إذا سمعتم، أي: نزل عليكم أنّ الشأن كذا، والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها، و (أن) مع ما في حيزها في موضع الرفع بـ (نزل) أو في موضع النصب بـ (نزّل) فيمن قرأ به، والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة، من قوله: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام: 68]؛ وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزئون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين له، وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة، وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم: إنكم إذاً مثل الأحبار في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نُزل عليهم بمكة) يعني: هذه الآية- وهي قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} - تذكار للمسلمين ما نزل عليهم بمكة من قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]، يعني: أنسيتم ما قد نزل عليكم بمكة أن إذا سمعتم المستهزئين يستهزئون بالقرآن فأعرضوا عنهم، فكيف تُجالسون الأحبار والمنافقين وهم يستهزئون بالقرآن؟ ! أما قوله: "والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة" فهو على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية؛ لأن الظاهر أن المنزل قوله: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} بعينه، لكن لما لم توجد بعينها ووُجد ما يناسبها في المعنى حُمل عليه. قوله: (وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون) شُروع في تفسير قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}، وقوله: "من الأحبار" بيانٌ للخائضين و"هم المنافقون" خبرُ

الكفر. (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ) يعني: القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت: الضمير في قوله: (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) إلى من يرجع؟ قلت: إلى من دل عليه (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها)، كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين، والراضي بالكفر كافر. فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين منافقين! قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان، وقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} تعليل للنهي؛ يعني: لا تقعدوا مع هؤلاء لأنكم إن قعدتم معهم تكونوا مثلهم كافرين؛ فعلى هذا في تفسيره إشكال؛ لأن هذا الاتصال يقتضي ألا يكون المخاطبون بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} المنافقين؛ لأن الذين نُهوا عن مجالسة المشركين بمكة عند خوضهم في القرآن واستهزائهم لم يكونوا منافقين؛ لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة وغلبتهم كانوا يهوداً كما عُلم من كتابه، وقوله: "كان الذين يُقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم: إنكم مثلهم" يستدعي أن يكونوا منافقين لا غير، بشهادة إيقاع "هم المنافقون" خبر كان، و"هم": ضمير فصل أو تأكيد، والوجه أن يكون الخطاب بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} مع المسلمين الذين كانوا يُقاعدون المشركين بمكة، ويُقاعدون المنافقين بالمدينة، وتشبيههم بالمنافقين للتغليظ والزجر والتوبيخ، وأن يراد بقوله: {جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ} الخائضون بالمدينة ومكة من المنافقين والكافرين، ويؤيد هذا التقرير قول الواحدي: وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن؛ فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وكذلك قول المصنف: "قيل: وذلك أن المشركين كانوا يخوضون" إلى آخره، وقال القاضي: {إِذاً} ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر؛ ولذلك لم يذكر بعدها الفعل. قوله: (فهلا كان المسلمون بمكة) إلى قوله: (منافقين) الظاهر أن تفسيره لقوله: {جَامِعُ

لعجزهم، وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم. (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ): إما بدل من (الذين يتخذون)، وإما صفة للمنافقين، أو نصب على الذم منهم. (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق. (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) مظاهرين، فأسهموا لنا في الغنيمة. (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ): ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم، ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ} على أن يُراد بالمنافقين المسلمون، والصحيح ما تقرر نهم الخائضون بالمدينة من المنافقين، والكافرون خائضون بمكة، وهذه الجملة كالتعليل للنهي السابق، أي: لا تقعدوا مع الفريقين؛ لأنكم إن قعدتم معهم تكونوا مثلهم منافقين كافرين مستحقين النار؛ لأن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً. قوله: ({الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ} إما بدلٌ من {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ}، وإما صفة للمنافقين)، والظاهر أن المراد بالمنافقين ما سبق في قوله: {بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ} لا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ}؛ لأنه ذهب إلى أنهم المسلمون، ولا في قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}؛ لأنه ذهب إلى أن المخاطبين بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} المنافقون، فلا يلتئم مع قوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}؛ لأن الخطاب حينئذ مع المؤمنين، ولذلك جعله بدلاً من {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ}. وعلى المختار: المخاطبون: المسلمون، فيصح الإبدال والوصف أو الذم من القريب، وإليه ذهب أبو البقاء تنبيهاً للمسلمين على الاحتراز من القعود معهم، وإنما خُصوا به دون الكافرين لأن أصل الكلام وارد فيهم، وذكر الكافرين تابع لذكرهم. قوله: (أو إخفاق). النهاية: الإخفاق: أن يغزو فلا يغنم شيئاً، وكذلك كل طالب حاجة، من الخفق، أي: التحرك؛ أي: صادفت الغنيمة خافقة غير ثابتة مستقرة. قوله: (ومرضوا) أي: فرطوا وقصروا وجبنوا.

عليكم، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم. وقرئ: (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار "أن"، قال الحطيئة: أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِى ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ فإن قلت: لم سمي ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيساً بحظ الكافرين؛ لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أوليائه. وأمّا ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنيءٍ، ولمظة من الدنيا يصيبونها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ونمنعكم"، بالنصب بإضمار "أنْ" فالتقدير: ألم يكن منا الاستحواذ والمنع؟ كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قوله: (لأن ظفر المسلمين أمر عظيم) إلى قوله: (وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء)، ولذلك ذيل الكلام بقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فجيء بـ"لن" المؤكدة، ونكر {سَبِيلاً} للتعظيم والتهويل، أي: تسلطاً تاماً كما للمسلمين عليهم. الراغب: حمل الفقهاء ذلك على الحكم، فقالت الشافعية: الإسلام يعلو ولا يُعلى، قالوا: ويقتضي ذلك أن لا يملك الكافر عبداً مسلماً ولا يصح شراؤه، وألا يُقتل مؤمن بكافر. واستدلت الحنفية على أن من ارتد انقطعت العصمة بينه وبين امرأته قبل انقضاء العدة، فلا يكون له عيها سبيل. قال القاضي: وهو ضعيف؛ لأن الآية لا تنفي أن يكون السبيل إذا عاد إلى الإيمان قبل مُضي العدة. قوله: (ولمظة). النهاية: اللمظة- بالضم -: مثل النكتة من البياض.

[(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)]. (يُخادِعُونَ اللَّهَ): يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر (وَهُوَ خادِعُهُمْ): وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع؛ حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة. ولم يخلهم في العاجل من فضيحةٍ وإحلال بأسٍ ونقمةٍ ورعبٍ دائم. والخادع: اسم فاعلٍ من خادعته فخدعته، إذا غلبته، وكنت أخدع منه. وقيل: يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون، فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين، فينادون: (انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد: 13]. (كُسالى) قرئ بضم الكاف وفتحها، جمع كسلان، كسكارى في سكران، أي: يقومون متثاقلين متقاعسين كما ترى من يفعل شيئاً على كرهٍ لا عن طيبة نفسٍ ورغبة. (يُراؤُنَ النَّاسَ): يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، (وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا): ولا يصلون إلا قليلاً، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من خادعته). رُوي عن المصنف أنه قال: هو من: فاعلته ففعلته، ولولا المانع الذي هو حزف الحلق لوجب ضم الدال في "يخدعهم"؛ لأن كل ما كان من باب المغالبة تضم العين في مضارعة إلا إذا منع مانع. قوله: (فينادون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، قال في تفسيره: {انْظُرُونَا}، أي: "انتظرونا؛ لأنهم يُسرع بهم إلى الجنة البروق الخاطفة"، أو: انظروا إلينا لنستضيء بكم. قوله: (قط) بالتشديد بمعنى: البتة، وبالتخفيف بمعنى: لا غيرن قاله المطرزي.

عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل أيضاً لأنهم ما وجدوا مندوحةً من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو: ولا يذكرون اللَّه بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قلت: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: فيها وجهان: أحدهما: أن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسانه. والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل، فيقال: راءى الناس، بمعنى: رأاهم، كقولك: نعمه وناعمه، وفنقه وفانقه وعيش مفانق. روى أبو زيد: رأت المرأة المرأة الرجل، إذا أمسكتها لترى وجهه. ويدل عليه قراءة ابن أبى إسحاق: يرؤونهم بهمزة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا ما يُجاهرون به) استثناء منقطع، و"ما" في "ما وجدوا": مصدرية، يعني: ما دام يحصل لهم سعة في أن لا يذكروا لا يذكرون. قوله: (ولكن حديث الدنيا) بالنصب على نزع الخافض وإضمار العامل، المعنى: لكن يستغرق بحديث الدنيا أوقاته، أو: لم يُسمع منه تهليلة ولكن يُسمع حديث الدنيا، ويروي حديث مرفوع. قوله: (كقولك: نعمه). النعمة بالفتح: التنعيم، ويقال: نعمه وناعمه فتنعم وتفنق، أي: تنعم، وفنقه غيره تفنيقاً وفانقه. قوله: (رأت المرأة) قال أبو زيد: رأيت الرجل ترئية: إذا أمسكت له المرآة لينظر فيها وجهه، عن الجوهري. قوله: (يرؤونهم)، وفي التلاوة: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}، فأضمر الشيخ.

مشدّدة: مثل: يرعونهم، أي: يبصرونهم أعمالهم ويراءونهم كذلك. (مُذَبْذَبِينَ): إمّا حال نحو قوله: (وَلا يَذْكُرُونَ) عن واو (يراءون)، أي: يراؤونهم غير ذاكرين (مذبذبين). أو نصب على الذم. ومعنى (مُذَبْذَبِينَ): ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم متردّدون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب: الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكريرٌ ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذُب عنه. وقرأ ابن عباس (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال، بمعنى: يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم، أو بمعنى: يتذبذبون، كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد اللَّه: (متذبذبين). وعن أبي جعفر: (مدبدبين) بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارةً في دبةٍ وتارةً في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة، والدبة: الطريقة، ومنها: دبة قريش. و (ذلِكَ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرعونهم) هو من باب التفعيل من الرعي، والغرض من إيراد ذكره تبيين كيفية التلفظ بقوله: "يروونهم" لا مراعاة المعنى. قوله: (يبصرونهم أعمالهم) تفسير لهذه القراءة. قوله: (يُرمي به الرجوان). الجوهري: الرجوان: حافتا البئر، فإذا قالوا: رُمي به الرجوان أرادوا أنه طُرح في المهالك. النهاية: الرجا، مقصور: ناحية الموضع، وتثنيته: رجوان، وجمعه: أرجاء. قوله: (أخذ بهم) مرفوع المحل لإسناد "أُخذ" إليه، أي: وُجدوا تارة في طريقة، وأخرى في طريقة، وفي إتيان "أُخذ" إيذان بالمشارفة. قوله: (دُبَّةُ قريش). النهاية: في حديث ابن عباس: "اتبعوا دُبَّةَ قريش، ولا تفارقوا الجماعة"، الدبة، بالضم: الطريقة.

إشارة إلى الكفر والإيمان (لا إِلى هؤُلاءِ): لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين، (لا إِلى هؤُلاءِ): ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً)]. (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ): لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء. (سُلْطاناً): حجة بينة، يعني: أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة ابن صوحان: أنه قال لابن أخٍ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن. [(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}: لا تتشبهوا)، إنما ذهب إلى التشبيه؛ لأن الكلام السابق واللاحق في المنافقين. قوله: ({سُلْطَاناً}: حجة). قال الزجاج: السلطان: الحجة، وإنما يقال للأمير: سُلطان؛ لأنه ذو الحجة، والعرب تؤنث السلطان وتذكره، ومن أنثها قال: إنها بمعنى الحجة، ومن ذكرها ذهب على معنى صاحب السلطان. قوله: (صعصعة بن صوحان). الجامع: هو تابعيٌّ من أصاب علي رضي الله عنه شهد معه مشاهده، وروى عنه الشعبي، هو صوحان بضم الصاد المهملة وبالحاء المهملة. قوله: (وخالق الكافر). النهاية: من تخلق للناس، أي: تكلف أن يُهر من خلقه خلاف ما ينطوي عليه.

(الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ): الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم. فإن قلت: لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت: لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق. (وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ) ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص، (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ): فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين. (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً) عَظِيماً فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت: مَن المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ، كقوله «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» ومنه قوله عليه صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الدَّرْكِ الأَسْفَلِ}: الطبق الذي في قعر جهنم). الراغب: الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة، ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سُميت هاوية، ويقال للحبل الذي يوصل به آخر ليدرك الماء: درك. قوله: (والوجه التحريك لقولهم: أدراك جهنم). قال الزجاج: الدرك بالحركة والسكون لغتان حكاهما أهل اللغة؛ إلا أن الاختيار الفتح لإجماع الناس عليها ولأن أحداً من المحدثين ما رواها إلا بالفتح، ولأن أفعالاً لا تكون جمع فعلٍ بالسكون إلا في الشذوذ، وإنما هو جمعُ فعل بالحركة. قوله: (ومداجاتهم). الجوهري: المداجاة: المداراة.

«ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». وقيل لحذيفة رضي اللَّه عنه: مَن المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان، ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً، يعنى الحجاج. [(ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً)]. (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ) يتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثأر، أم يستجلب به نفعاً، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل الملوك بعذابهم؟ وهو الغنيّ الذي لا يجوز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثلاث من كن فيه) الحديث مخرجٌ في "مسند أحمد بن حبنل". قوله: (ثلاث) مبتدأ، وقوله: "من كن فيه" إلى آخره: صفته، والخبر "من ذا" إلى آخره، والمضاف محذوف، أي: خصال من إذا. قوله: (على النفاق) أي: على أهله، ثم أفرد الضمائر اعتباراً باللفظ، نحو: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وابرز النفاق إبرازاً للأصل على المبالغة والاستعارة، المعنى: كان المنافقون في السالف مقهورين مرتدعين، فصاروا مرأسين قاهرين قد استباحوا دماء الناس، فكنى بقوله: "عمم وقلد" عن الترؤس والتسلط، لقولهم: العمائم تيجان العرب. قوله: (وهو مقروعٌ فيه) أي: مقهور. النهاية: تقول: أقرعته: إذا قهرته بكلامك، أو يكون بمعنى الردع، يُقال: قُرع الرجل: إذا ارتدع.

عليه شيء من ذلك. وإنما هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته، وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب. (وَكانَ اللَّهُ شاكِراً): مثيباً موفياً أجوركم، (عَلِيماً) بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكراً مبهماً، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يعاقب المسيء) بدلٌ من "هو"، أي: وإنما معاقبة المسيء أمرٌ أوجبته الحكمة. قوله: (وتعريضه للمنافع) يقال: عرضت فلاناً لكذا، أي: نصبته له، يعني: أن الله تعالى ما أراد إلا الخير والأصلح فخلق العباد ليعرضهم لما أراده، وفيه إيماء إلى إثبات رعاية الأصلح على المبالغة. قوله: (فيشكر شكراً مبهماً، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً)، ولخصه القاضي حيث قال: وإنما قدم الشكر لأن النظر يُدرك النعمة أولاً فيشكر شكراً مبهماً، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به، وكذا عن الإمام. وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن الإيمان لا يستدعي عرفان المؤمن به بذاته؛ بل يعارض، فكان حاصلاً حينما عرف الإنعام، فما أوجب الشكر أوجب الإيمان، فالجواب أن الواو لا توجب الترتيب. وقلت: أما الكلام الأول فلا بأس به، وأما الجواب فمنظور فيه، وحاشاً لمقتني علمي الفصاحة والبلاغة أن يرضى في كلام الله المجيد بمثل هذا القول؛ فإن في كل تقديم ما مرتبته التأخير لله تعالى أسراراً لا يعلم كنهها إلا هو، ألا ترى إلى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن: 1 - 3] كيف استلزم التقديم أن معرفة الغايات والكمالات سابقة في التقديم لاحقة في الوجود تنبيهاً على أن المقصود الأول من خلق الإنسان تعليم ما به يرشد إلى ما خُلق له من العبادة؟ وكذا أُشير بهذا التقديم إلى معرفة مرتبة أخرى من الشكر وموجبه. قال الشيخ العارف المحقق أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري: الشكر اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعم، ومعاني الشكر: معرفة النعمة، ثم قبول النعمة، ثم الثناء بها، ودرجاته ثلاث، إلى آخره، فلنقرر ذل بلسان أهل المعاني؛ وهو: أن المكلف في بدء الحال إذا نظر إلى ما عليه من نعمة الخلق والرزق والتربية تنبعث منه حركة إلى معرفة المالك المنعم. فهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم، فإذا شكر العبد هذا الشكر وفق لنعمةٍ أرفع من تلك النعمة؛ وهي المعرفة بأنه الواحد الأحد الصمد، الواسع الرحمة، المثيب المعاقب؛ فيسجد شكراً فوق ذلك ويضيف إلى الشكر القلبي الشكر بآداب الجوارح والنداء على الجميل، ويقول: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا هذا الذي عناه بقوله: "ثم شكر شكراً مفصلاً". وحاصله: أن الكلام فيه إيجازان؛ لأن الشكر المذكور في التلاوة شكرٌ مبهم، وموجبه نعمة سابقة مستتبعة لمعرفة مبهمة، والإيمان المذكور إيمان مفصل مستتبع لشكر مفصل غير مذكور، هذا وإن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} متصل بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله، وتهاونهم في شكر ما أوتوا، وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البُغية العظمى وهي الإسعاد بصحبة أفضل الخلق، والانخراط في زُمرة الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، فإذا {تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ} حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعدما كانوا في عداد أخبث الكافرين، وسوف ينالون مع المؤمنين الدرجات العالية، ويفوزون بالرضوان بعدما كانوا مستأهلين الدركات السفلى من النيران. ثم التفت تقريعاً لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة، وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية، وإلا فإن الله غني عن عذابهم فضلاً عن أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله: {إِنْ شَكَرْتُمْ} فذلكة لمعنى الرجوع من الإفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله تعالى: {وَآمَنْتُمْ} تفسير له وتقرير لمعناه، أي: وآمنتم الإيمان الذي هو حائزٌ لتلك الخلال الفواضل، جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان، وحقه التأخير في الأصل، إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله العظمى والكفر تابع له، فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف. ومن ثم ذيل الآية على سبيل التعليل بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}، أي: هل يجازي الشاكر إلا الشاكر إلا الشكور؟ قال الإمام: المراد من الشاكر في حقه تعالى: كونه مثيباً على الشكر، ومن كونه عليماً: أنه عالم بجميع الجزئيات، فلا يقع الغلط أصلاً، فيوصل الثواب كاملاً إلى الشاكرين. وقلت: ولما فرغ من إيراد بيان رحمته وتقرير إظهار رأفته، جاء بقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ

[(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً* إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)]. (لَّا مَنْ ظُلِمَ): إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه اللَّه جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) [الشورى: 41]. وقيل: ضاف رجل قوما فلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} تتميماً لذلك وتعليماً للعباد بالتخلق بأخلاق الله تعالى من الأغضاء عن الجاني والتعطف فيما بين الإخوان، وأوقع قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} جزاء للشرط متمماً للتميم، يعني أن الله تعالى مع كونه قادراً على الانتقام فإنه يعفو ويصفح، فأنتم أحق وأحرى به؛ لأنكم غير قادرين، كما قال: فعفوت عني عفو مقتدرٍ ... أحلت له نعمٌ فألفاها وإليه الإشارة بقوله: "يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم بسنة الله". انظر أيها المتأمل إلى عظيم حلم الله تعالى في حق العباد. ولنختم الكلام بما روينا عن البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي تسعى، فإذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ "، قلنا: لا والله، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها". يا واسع الرحمة والمغفرة أفض علينا شآبيب رحمتك وغفرانك، وسحائب فضلك ورضوانك. قوله: ({وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}) استشهاد لقوله: "أن يبدأ بالشتيمة فيُرد على الشاتم".

يطعموه، فأصبح شاكياً، فعوتب على الشكاية؛ فنزلت. وقرئ: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع، أي: ولكن الظالم راكب ما لا يحبه اللَّه فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعاً، كأنه قيل: لا يحب اللَّه الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو، ومنه: (قل لا يَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} مرفوعاً) عطفٌ على قوله: "للانقطاع". قوله: (على لغة من يقول)، أي: لغة بني تميم، وعليه قول الشاعر: عشية ما يُغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم أي: لا يغني إلا المشرفي. قوله: (ما جاءني زيدٌ إلا عمرو)، ونقل عن سيبويه أنه قال: أصل قولك: ما جاءني زيدٌ إلا عمرو: ما جاءني إلا عمرو، فهو استثناء مفرغ يلزم منه نفي المجيء عن كل من عدا عمراً، ثم أدخل فيه زيداً تأكيداً لنفي المجيء عن زيد، فقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ} تقديره: لا يحب الجهر بالسوء أحدٌ إلا الظالم، فأدخل لفظة {اللَّهُ} تأكيداً لنفي محبته، يعني: لله سبحانه وتعالى اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك، وكذا قوله: لا يعلم الغيب أحدٌ إلا الله، ثم أدخل {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل: 65] تأكيداً. قال صاحب "الانتصاف": وجه تنظير المصنف بالآية أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السماوات أو الأرض. وكلامه في هذا الفصل لا يظهر ولا يتحقق لي منه ما يسوغ مجاراته لانغلاق عباراته. وقلت: عليه أن ينظر في حل تركيبه في سورة النمل ليتحقق له.

مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: 65]. ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار بعد ما أطلق الجهر به، وجعله محبوباً، حثاً على الأحب إليه، والأفضل عنده، والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية. وذكر إبداء الخير وإخفاءه؛ تشبيباً للعفو، ثم عطفه عليهما؛ اعتداداً به وتنبيهاً على منزلته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذكر إبداء الخير) عطف على قوله: "حث على العفو"، وقوله: "بعدما أطلق" ظرف "حث"، والمراد بقوله: "أطلق الجهر به" إباحته على المظلوم، وبقوله: "جعله محبوباً" استثناؤه من قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ}، يعني: لما أراد أن يحُث الناس على العفو بعدما أباح الجهر وجعله محبوباً ذكر إبداء الخير وإخفاءه وجعله توطئة وتمهيداً لذكر العفو، ثم عطف العفو عليهما لأجل الحث على الأحب والأفضل عنده. قوله: (تشبيباً) أي: توطئة وتمهيداً من تشبيب القصيدة، وهو تزيينها بما يتقدم على التخلص إلى المدح من التغزل. الأساس: قصيدة حسنة الشباب، وهو التشبيب، وشبب قصيدته بفلانة. يريد أن إيقاع قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ} توطئة وتمهيداً لذكر العفو على طريقة قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] بمعنى: رسوله أحق أن رضوه، وذكر الله للدلالة على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى دلالة على أن للعفو مكاناً وسيطاً في معنى العزم على الخير وفعله، ويدل على أن إبداء الخير وإخفاءه توطئة، وأن معنى العفو هو المقصود بالذكر بصريح العفو في الجزاء ليرتبط الجزاء بالشرط، وفيه التنبيه على التخلق بأخلاق الله تعالى والترجي لعفو الله، يعني: جعل لكم العفو مع المقدرة شعاراً لأنفسكم سبباً لأن تنبهوا على أن الله يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فيعفو عنكم ما انفرط منكم فتحتاجون إلى عفوه. ولقد ألم به قوله صلوات الله عليه وسلامه لأبي مسعود الأنصاري حين ضرب غلامه: "لله أقدر عليك منك على هذا الغلام" الحديث، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي.

وأن له مكاناً في باب الخير وسيطاً. والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة اللَّه. [(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)]. جعل الذين آمنوا باللَّه وكفروا برسله، أو آمنوا باللَّه وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين باللَّه ورسله جميعا لما ذكرنا من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسيطاً) يقال: فلان وسيط في قومه: إذا كان أوسطهم نسباً وأرفعهم محلاً. قوله: (وجعل الذين آمنوا بالله وكفروا برسله) يريد أن قوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} عطف تفسيري على قوله: {يَكْفُرُونَ}؛ لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله؛ لأن من كفر برسل الله كفر بالله، كالبراهمة. وأما قوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} فعطف على صلة الموصول، والواو بمعنى "أو" التنويعية، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله ورسله، والآخرون فرقوا بين رسل الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود، ثم جمع بين كفر المشركين وكفر أهل الكتاب في قوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً}؛ وقد مر في البقرة في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة 196] أن الواو قد تجيء بمعنى "أو". قوله: (كافرين بالله ورسله جميعا) هو ثاني مفعولي "جعل"، وفي قوله: "لما ذكرنا من العلة" إشارة إلى قوله- في تفسير قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ} [النساء: 136]-: "لأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيمانا"، إلى قوله: "وهذا الذي أراده عز وجل في قوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} "، وبيان التعليل أن قوله:

سبيلا: أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}، أي طريقا وسطا في القراءة، وهو ما بين الجهر والمخافتة، وقد أخطؤوا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان، ولذلك قال: {أولئك هم الكافرون حقا}، أي: هم الكاملون في الكفر. و {حقا}: تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقا، أي: حق ذلك حقا، وهو كونهم كاملين في الكفر؛ أو هو صفة لمصدر الكافرين، أي: هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه. [{والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} 152] فإن قلت: كيف جاز دخول {بين} على {أحد} وهو يقتضي شيئين فصاعدا؟ قلت: إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً} واقع خبراً لـ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} {أُوْلَئِكَ} إذا وقع خبراً لموصوف سابق آذن بأن ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه تلك الخصال المعددة، فقد ظهر أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية [النساء: 36]، وما توسطت بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترضة أو مستطردة عند إمعان النظر. قوله: (هم الكاملون في الكفر) يدل عليه توسط الفصل بين المبتدأ والخبر المعرف بلام الجنس، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]، فجيء بقوله: {حَقّاً} لتأكيد مضمون الكمال، أي: قولي بأن هذا كفرٌ كامل حق لا باطل، وعلى تقدير أن يكون {حَقّاً} صفة للمصدر المؤكد للمسند يكون بمعنى: ثابتاً، واللام حينئذ للعهد، أي: هم الذين صدر منهم الكفر البتة، فقوله: "يقيناً لا شك فيه"، هو معنى المصدر المحذوف، وهذا أبلغ من الأول بحسب تأكيد الإسناد، والأول أبلغ من جهة إثبات الكمال.

أحداً، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بني فلان؟ وإلا بنات فلان؟ فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة، ومنه قوله تعالى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب: 32]. (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) معناه: أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخراً. [(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً* وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً* فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن إيتاءها كائنٌ لا محالة)، رُوي عن المصنف أنه قال: الفعل الذي هو للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته، فإذا دخل عليه "سوف" أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطى ما ليس فيه من أصله، فهو في مقابلة "لن"، ومنزلته من "يفعل" منزلة "لن" في "لا تفعل" لنفي المستقبل، فإذا وضع "لن" موضع "لا" أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل، فإذا كل واحدٍ من "سوف" و"لن" حقيقته التأكيد؛ ولهذا قال سيبويه: "لن تفعل" نفي "سوف تفعل".

روي: أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتابٍ من السماء جملةً كما أتى به موسى. فنزلت. وقيل: كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان أنك رسول اللَّه، وقيل: كتاباً نعاينه حين ينزل، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت- قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم- وفيما آتاهم كفاية. (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى): جواب لشرطٍ مقدرٍ معناه: إن استكبرت ما سألوه منك (فَقَدْ سَأَلُوُا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ)، وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى - وهم النقباء - السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم، ومضاهين لهم في التعنت. (جَهْرَةً): عياناً بمعنى: أرناه نره جهرة. (بِظُلْمِهِمْ): بسبب سؤالهم الرؤية، ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كتاباً نعاينه حين ينزل) على الأول. {مِنْ} في {مِنْ السَّمَاءِ}: بيان، والمراد به الكتاب السماوي كالتوراة والإنجيل والفرقان، وعلى الوجهين {مِنَ}: ابتداء، أي: كتاباً يُبتدأ نزوله من السماء. قوله: (وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت). الراغب: اقترحت الجمل: ابتدعت ركوبه، واقترحت كذا على فلان: ابتدعت التمني عليه، واقترحت بئراً: استخرجت ماء قراحاً. قوله: (وفيما آتاهم) حالٌ من فاعل "اقترحوا"، وكلام الحسن اعتراض. قوله: (إن استكبرت ما سألوه منك {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} كقولك: إن تعتد بإكرامك إياي الآن فاعتد بإكرامي إياك أمس، وفي إتيان الجزاء بالماضي إيذان بالإعلام بالتأسي للتسلي. قوله: (ولو طلبوا أمراً جائزاً لما سُموا ظالمين) جوابه أن معنى اللم: وضع الشيء في غير موضعه، وكونهم طالبين الرؤية على التعنت يكفي في إطلاق اسم الظلم عليهم.

كما سأل إبراهيم صلوات الله عليه أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالماً، ولا رماه بالصاعقة، فتبا للمشتبهة ورمياً بالصواعق. (وآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً): تسلطاً واستيلاءً ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه واحتبوا بأفنيتهم، والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطانٍ مبين! (بِمِيثاقِهِمْ): بسبب ميثاقهم، ليخافوا فلا ينقضوه. (وَقُلْنا لَهُمُ) والطور مطل عليهم: (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)، و (لا تعدوا في السبت)، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم: سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه، ثم نقضوه بعد. وقرئ: (لا تعتدوا). و (لا تعدّوا) بإدغام التاء في الدال (فَبِما نَقْضِهِمْ): فبنقضهم، «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت: بم تعلقت الباء، وما معنى التوكيد؟ قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) [النساء: 160]. على أنّ قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) [النساء: 160] بدلٌ من قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ). وأما التوكيد فمعناه: تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والطور مُطل عليهم). النهاية: في حديث صفية بنت عبد المطلب: فأطل علينا يهودي، أي: أشرف، وحقيقته: أوفى علينا بطلله، وهو شخصه. قوله: (أن يتموا عليه) أي: على قولهم: سمعنا وأطعنا. النهاية: تم على الأمر: استمر، وفي حديث معاوية: أن تممت على ما تريد. قوله: (و"لا تعدوا" بإدغام التاء في الدال): نافع. قوله: ({حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}) يذكر بعد الآيات الثلاث. قوله: (وأما التوكيد) إلى آخره، أي: معنى "ما" المزيدة للتوكيد مع تقدم المعمول على

لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قول: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها)، فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم (بل طبع اللَّه عليها بكفرهم)؟ قلت: لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العامل هو هذا؛ ولهذا قال: "تحقيق أن العقاب لم يكن إلا بنقض العهد" حيث جاء بأداة الحصر الدال عليها التقديم، ونبه على التوكيد بقوله: "تحقيق أن العقاب". قوله: (لم يصح هذا التقدير) وقد ذكر هذا التقدير أبو البقاء، وفسر صاحب "التقريب" كلام المصنف بقوله: أي: لا يتعلق بـ {طَبَعَ} مقدراً؛ لدلالة {بَلْ طَبَعَ} عليه؛ لأنه وارد لإنكار قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: لا تصل إليها الموعظة، أي: لم يخلقها الله تعالى مطبوعاً عليها غير قابلة للوعظ، فالطبع منتف حقيقة، فلا يقدر الطبع سبباً معللاً بالنقض. وفيه نظر؛ لأن {بَلْ طَبَعَ} دال على طبع عارض بكفرهم، فجاز أن يُقدر طبعٌ عارضٌ بنقضهم، فالطبعان متوافقان في العروض. وقلت: مرادف المصنف أن {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} متعلق بقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} رد وإنكار له، كما جاء صريحاً في البقرة: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، فلو قدر لقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} متعلقاً مثله يصير التقدير: فبما نقضهم وكفرهم وقولهم: قلوبنا غُلف طبع الله عليها {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فيكون رداً لهذا الكلام وإنكاراً له لا لقولهم: قلوبنا غلفٌن والمعنى عليه. هذا نظم لطيف، ولكن لا وجه للتشنيع، ولقوله: "وكمذهب المجبرة"؛ لأن لأهل السُّنة أن يقولوا: إنه تعالى إنما رد قولهم؛ لأنهم ادعوا أن قلوبهم في أوعية وأغشية، وأن ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه لا ينفذ فيها، فأضرب الله تعالى عن ذلك بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أي: بله ذلك! بل هو شيء أعظم منه وهو الطبع والختم؛ لأنهم أبطلوا

ردّ وإنكار لقولهم: (قُلُوبُنا غُلْفٌ)، فكان متعلقاً به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم: (قُلُوبُنا غُلْفٌ): أنّ اللَّه خلق قلوبنا غلفاً، أي: في أكنةٍ لا يتوصل إليها شيءٌ من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين: (وقالوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف: 20]، وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفاً غير قابلةٍ للذكر ولا متمكنةً من قبوله. فإن قلت: علام عطف قوله (بِكُفْرِهِمْ)؟ قلت: الوجه أن يعطف على: (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد. يجوز عطفه على ما يليه من قوله: (بِكُفْرِهِمْ). فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استعداداتهم بالكلية بالكفر بمحمد بعد وضوح البينات. وأيضاً، يجوز أن يُراد: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا}، أي: ليس كما ادعوا من أن قلوبهم أوعية العلم ما ذكر في البقرة. الانتصاف: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على الله حجة بخلق قلوبهم غير قابلة للحق ولا متمكنة منه، فكذبهم بأنه تعالى خلق قلوبهم على الفطرة، والإيمان من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وهو المعبر عنه بالتمكن، فقامت حجة الله عليهم، فالإنسان نفرق بين دخوله في الإيمان والطيران في الهواء بإمكان الأول دون الثاني فلله الحجة، فاتجه الرد عليهم لا من الوجه الذي زعمته المعتزلة من إثبات قدرة يخلقون بها وافق مشيئة الله أم لا؛ ولذلك قال عقيبه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] فرد عليهم ورد الأمور إلى المشيئة. قوله: (ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً؟ ) السؤال واردٌ على الجوابين، يعني: ذكرت أن قوله: "بكفرهم" في قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً} عطفٌ إما على {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أو على ما يليه من قوله: {بِكُفْرِهِمْ}، وكلاهما فاسدان لما يلزم منهما عطف الشيء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على نفسه. وأجاب أولاً بجواب مُجمل صالح للوجهين، ثم أتى لكل بجواب مفصل، فقال: "قد تكرر"، يعني: أن كل واحدة من الكفرات الثلاث لانضمامها إلى معنى أخرجها من مفهوم الأخرى، فقوله: {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} لما عقب قوله: {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} خُص بكفرهم بموسى عليه الصلاة والسلام، و"كفرهم" الثالث لما اقترن بقوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى} خُص بعيسى عليه الصلاة والسلام، و"كفرهم" الثاني لما وقع في حيز الإضراب وكان جواباً عن تعنتهم وقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، ومُذيلاً العطف، وإليه الإشارة بقوله: "قد تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فعطف بعض كُفرهم على بعض". وأما الجواب عن السؤال على قوله: "والوجه أن يعطف على {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} "؛ فهو أن "بكفرهم" الثالث مع ما عطف عليه من قوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ}، {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى}، عطف على قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} مع ما عُطف عليه من قولهم: {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ} وقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، فلا يلزم أيضاً المحذور؛ لأن للهيئة الاجتماعية اعتباراً غير اعتبار الأفراد، وأما على قوله: "ويجوز عطفه على ما يليه" فهو قوله: "أو {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ومعهم بين كفرهم" وهو من عطف المجموع على المفرد. هذا وإن اختياره أن يكون من عطف المجموع على المجموع لقوله: "والوجه أن يُعطف على {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} " لأنه مر فيما سبق أن قوله: " {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ردُّ وإنكار لقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه مستطرداً اهتماماً، وفيه أن قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أم القبائح المذكورة، وعلى الوجه الأخير يجوز أن يكون التوالي كلها مستطردة، وفي هذا الوجه إيذانٌ باستقلال المفرد استقلال المجموع. ولعمري إنه كذلك؛ إذ كفرهم بمحمد صلوات الله عليه وسلامه لا يوازيه كفر! وعلى الوجه المختار الواو الداخلة على قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} الثالث غيرُ الواوات السابقة واللاحقة؛ لأن تلك لعطف المفرد على المفرد، وهذه لعطف المجموع على المجموع.

على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ) وقوله: (بِكُفْرِهِمْ)؟ قلت: قد تكرّر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمدٍ صلوات اللَّه عليهم أجمعين. فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: فيجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات اللَّه، وقتل الأنبياء، وقولهم: قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم، وافتخارهم بقتل عيسى عاقبناهم. أو: بل طبع اللَّه عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية. فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء: 27]. ويجوز أن يضع اللَّه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم؛ رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيماً لما أرادوا بمثله، كقوله: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [الزخرف: 9 - 10]. روي: أنّ رهطاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو التزنية) أي: النسبة إلى الزنى. قوله: (ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح). الإنصاف: هذا وجهٌ حسنٌ واستشهادٌ جيد، فإنه تعالى قال في الزخرف عقيب ذلك: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52] إلى قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53]، فأول الكلام حكاية قول موسى، وآخره إخبار الله عن نفسه بالتكلم، وبعضهم يعده التفاتاً، وليس منه. وقلت: وقد ذكرنا أن الذي في "طه" التفات. قوله: ({خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]) إلى آخر الآية، وُضع موضع قولهم: الله فقط.

من اليهود سبوه وسبوا أمّه، فدعا عليهم: «اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي؛ فمسخ اللَّه من سبهما قردةً وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره اللَّه بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجلٌ منهم: أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلاً ينافق عيسى فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى، فرفع عيسى وألقي شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى. ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قد قتل وصلب. وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت: (شُبِّهَ) مسند إلى ماذا؛ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به، وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول، فالمقتول لم يجر له ذكر؟ قلت: هو مسندٌ إلى الجار والمجرور، وهو (لَهُمُ)، كقولك: خُيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول؛ لأنّ قوله: (إنا قتلنا) يدل عليه، كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه. (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ): استثناء منقطع؛ لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم، يعني: ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت: قد وصفوا بالشك، والشك: أن لا يترجح أحد الجائزين، ثم وصفوا بالظن، والظن: أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: كان رجلٌ ينافق عيسى)، وفي أكثر النسخ: "كان رجلاً" بالنصب، والأول هو الوجه، يعرف بالتأمل. قوله: (والشك أن لا يترجح ... ، والظن أن يترجح) تفسير للشيء بلازمه؛ لأن الشك هو الاعتقاد الذي لا يترجح معه أحد الجائزين.

لاحت لهم أمارة فظنوا، فذاك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فظنوا فذاك) وهو عطف على "إن لاحت"، "فذاك": جواب للشرط، أي: فذاك هو الظن، يريد أنهم من الشاكين الذين لا يترجح لهم أحد الجائزين قط لكن يحصل لهم أحياناً بما يلوح لهم من الأمارة والترجح بزعمهم، ثم إذا خفت الأمارة عادوا إلى التردد، وهذه الحالة أبلغ في التحير من مجرد الشك، وإليه الإشارة بقوله: "فذاك" الرجحان، أي: ليس برجحان لأنه لا ينقذهم من ورطة الشك إلا مزيد التحير، فقوله: {مِنْ عِلْمٍ} مبتدأ و {مِنْ}: زائدة لتأكيد النفي، والظرف المقدم خبر، و {بِهِِ}: حالٌ من الضمير المستكن في الظرف. وقيل يحتمل أن يكون التقدير: إنهم لفي شك في جميع الأوقات إلا وقت اتباع الظن؛ لظهور الأمارة إن لاحت لهمن وما لهم من علم قط، ويكون الاستثناء متصلاً مفرغاً. وقدم قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} على الاستثناء لأن المقصود من هذا الكلام نفي العلم عنهم. وقلتُ: هذا مبنيٌّ على جواز الاستثناء المفرغ في الكلام الموجب، نحو: قرأت إلا يوم كذا، ومنعه المصنف في سورة الأنبياء حيث قال: "إن أعمَّ العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه"، وقالوا: يجوز أن يقال: ما في الدار أحدٌ إلا زيدٌ، ولا يصح: كان في الدار إلا زيداً، أي: في الدار جميع الأشياء إلا زيدٌ، وقال في "التوبة" في قوله تعالى: {وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]: "كيف جاز أبي الله إلا كذا، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ وأجاب: قد أجرى "أبي" مُجرى "لم يُرد" لكونه مقابلاً لقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} " على أن المقام لا يقتضي إلا ما ذهب إليه المصنف كما شرحنا كلامه من إثبات الشك على التحقيق والمبالغة فيه؛ وذلك لمجيء إن واللام وتخصيص ذكر الاتباع، فإذا لم يرد بقوله: {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} المبالغة، فلم لم يقتصر على الظن ولم يقل: وما لهم بذلك من علم إلا الظن ولم يكتف في التفسير بقوله: "وإن لاحت لهم أمارة فظنوا" وأطنب بقوله: "فذاك"؟

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً): وما قتلوه قتلاً يقيناً، أو ما قتلوه متيقنين كما ادّعوا ذلك في قولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ). أو يجعل (يَقِيناً) تأكيداً لقوله: (وَما قَتَلُوهُ)، كقولك: ما قتلوه حقاً، أي: حق انتفاء قتله حقاً. وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبلغ فيه علمك، وفيه تهكم، لأنه إذا نُفي عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق، ثم قيل: وما علموه علم يقينٍ وإحاطة - لم يكن إلا تهكماً بهم. (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يُجعل {يَقِيناً} تأكيداً) عطفٌ على قوله: "ما قتلوه قتلاً يقيناً"، يعني: {يَقِيناً} يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، وأن يكون حالاً، وعلى التقديرين يعود المعنى إلى عدم تعين القتل منهم، قال الإمام: يعني أنهم شاكون في أنه هل قتلوه؟ ثُم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى؛ بل حين قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا؟ ويجوز أن يكون تأكيداً لقوله: "ما قتلوه" فيعودُ المعنى إلى تعيُّنِ عدم القتل. قال الإمام: أخبر الله تعالى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه يقيناً؟ ثم أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن اليقين حاصلٌ في أنهم ما قتلوه، وهذا الاحتمال أولى من الأول لقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}؛ لأنه إنما يصح هذا الإضراب إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل. وأما قول المصنف: "لم يكن إلا تهكماً" فمعناه: أن الله تعالى إذا نفى عنهم علم إحاطة؛ لزم بالمفهوم إثبات نوع من العلم، فلا يستقيم هذا مع قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}، إلا بأن يقال: إن هذا منفي أيضاً بالتهكم، فحينئذ يتكرر انتفاء العلم عنهم فيكون التكرير لتعليق قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} به. قوله: (قتلت الشيء علماً). قال الزجاج: تقول: أنا أقتل الشيء علماً، أي: أعلمه علماً. الأساس: ومن المجاز: قتلته علماً وخُبراً، ومنه: قتلت الخمرة، أي: مزجتها.

وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: 164]، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: 71]. والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحدٌ إلا ليؤمننّ قبل موته بعيسى، وبأنه عبد اللَّه ورسوله، يعني: إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه؛ لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها، يعني هذه الآية، وقال إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه، فلا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه، وقالوا: يا عدوّ اللَّه أتاك موسى نبياً فكذبت به، فيقول: آمنت أنه عبد نبىّ. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه اللَّه أو ابن اللَّه، فيؤمن أنه عبد اللَّه ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه، قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إليّ وقال: ممن؟ قلت: حدثني محمد بن عليّ بن الحنفية. فأخذ ينكت الأرض بقضيبه، ثم قال: لقد أخذتها من عينٍ صافية، أو من معدنها. قال الكلبي: فقلت له: ما أردت إلى أن تقول: حدثني محمد بن عليّ بن الحنفية. قال: أردت أن أغيظه، يعني بزيادة اسم عليّ؛ لأنه مشهور بابن الحنفية. وعن ابن عباس: أنه فسره كذلك، فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه، قال: وإن خرّ من فوق بيتٍ أو احترق أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. وتدل عليه قراءة أُبيّ: (إلا ليؤمننّ به قبل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنن به) أي: ليس من أهل الكتاب أحد يتصف بصفة ما إلا بأن يقال في حقه: والله ليؤمنن به؛ لأن الجملة القسمية الإنشائية لا تقع صفة إلا بالتأويل. قوله: (ما أردت إلى أن تقول) أي: ما أنهى إرادتك إلى قولك، كما تقول: أرغب على الله، أي: أنهى رغبتي إلى الله. قوله: (وتدل عليه قراءة أُبيٍّ) على أن المعنى: وما من اليهود والنصارى أحدٌ إلا ليؤمنن

موتهم) بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأنّ أحداً يصلح للجمع. فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم؛ بعثاً لهم وتنبيهاً على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم، وكذلك قوله: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً): يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن اللَّه. وقيل: الضميران لعيسى، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي: أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة، وهي ملة الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به على أن اللَّه يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل: الضمير في: (بِهِ) يرجع إلى اللَّه تعالى. وقيل: إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به قبل موته بعيسى؛ لأن هذا القارئ صرح بأن الضمير في موته للقوم، وفائدته ترجيح هذا القول على القول الآتي. قوله: (وقيل: الضميران لعيسى عليه الصلاة والسلام، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى) أي: حين نزوله. الانتصاف: يُبعده قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ظاهره التهديد، فكيف يهدد من آمن حين ينفع الإيمان؟ ويجوز أن لا يراد التهديد، كما قال في حق هذه الأمة: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41].

[(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً)]. (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) فبأي ظلم منهم. والمعنى: ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلمٍ عظيمٍ ارتكبوه، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظُلمٍ عظيم). الحصر مستفاد من تقديم الجار والمجرور على العامل، والتعظيم من التنكير. قوله: (وهو ما عدد لهم من الكفر والكبائر العظيمة). اعلم أنه قرر أولاً أن الباء في {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155]: إما يتعلق بمحذوف؛ أي: فعلنا بهم ما فعلنا، وغما مُتعلقٌ بـ {حَرَّمْنَا} على أن قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا} بدلٌ من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ}. قال أبو البقاء: وتكرار الفاء في البدل لطول الكلام. فقوله: "وهو ما عدد لهم من الكفر والكبائر" إشارة إلى أن البدل هو المختار، فيلزم أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعيسى عليه الصلاة والسلام أيضاً موجبات لتحريم الطيبات، وقد صرح الواحدي به حيث قال: وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: 146]، وعلى ما فسر المصنف الصد في هذا المقام لا يُفهم ذلك ولا يدفعه فهو مبهم؛ لكن يلزم ذلك من الإبدال، والظاهر إنما حرم عليهم ذلك في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام يدل عليه قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93]. قال المصنف: "وهو رد على اليهود وتكذيب لهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً}، وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية [الأنعام: 126]، فإنهم جحدوا ما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم ببغيهم وظُلمهم، وقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا، وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي واللم، فأراد أن يحاجهم على هذا، قال: {قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]، قال: "أراد أن يحاجهم بكتابهم من أن تحريم ما حرم عليهم حادثٌ بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم". وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، قال المصنف: "وما حرم الله عليهم في شريعة موسى من الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك"، وإذا تقدر ذلك؛ فالوجه أن يكون متعلق {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} "فعلنا بهم ما فعلنا" لتتخلص من هذه الورطة، وكذلك متعلق {وَبِصَدِّهِمْ}، ويكون قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} عطفاً على ذلك المقدر لاقتضائه معطوفاً عليه، وأقيم {لِلْكَافِرِينَ} مقام المضمر للإشعار بالعلية، والمقدر من نحو اللعنة وضرب الذلة والمسنة واستحقاق غضب الله وما أشبه ذلك ليجمع لهم نكال الدارين، وإنما ذكر معلول الوُسطى، وهو {حَرَّمْنَا}؛ لونه أخف من الآخرين، وأما الفاء في {فَبِظُلْمٍ} فغير الفاء في "فبنقضهم"؛ لأنها فصيحة، أي: وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً، فما لبثوا إلا ريثما نقضوا عهد الله؛ فبنقضهم وكذا وكذا فعلنا بهم ما فعلنا، وهذا متجه لأنه لما أتم قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وفُهم منها ظلمهم في حقه قال: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا} أي: لا غرو في ذلك من هؤلاء؛ لأن ديدن من هو متسم بقوله: {الَّذِينَ هَادُوا} وسمتهم: اللم، ألا ترى كيف حرم عليهم نبيهم

والطيبات التي حرّمت عليهم: ما ذكره في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام: 146]. وحرّمت عليهم الألبان، وكلما أذنبوا ذنبا صغيراً أو كبيراً حرّم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) ناسا كثيراً أو صدّاً كثيراً (بِالْباطِلِ): بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب. (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) يريد من آمن منهم، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه، (والراسخون في العلم): الثابتون فيه، المتقنون المستبصرون. (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني المؤمنين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكتابُهم طيبات الأطعمة لشؤم ظلمهم؟ ثم كرر عطف معاملتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصد عن دينه وكتمان ذكره وذكر كتابه إلى آخره على ما سبق عطف جملة على جملة، وبهذا يتخلص من القول بتكرير الفاء في البدل. ومنع صاحب "الكشف" في قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] قول من قال: إن التي بعد الفاء بدلٌ من الأولى، وقال: إنه قولٌ فاسد؛ لأنه لا تدخل الفاء بين البدل والمُبدل منه؛ ولهذا أفسدنا قول من قال فيما تقدم: إن قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا} بدلٌ من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء: 155] والله أعلم. قوله: ({بِالْبَاطِلِ}: بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب)، قال الواحدي: يعني ما أخذوه من الرشي في الحكم وغير ذلك. وقلتُ: هذا أولى؛ لأنه مطلق في كل باطل، وتقييده من غير دليل لا يجوز، على أن المقام يقتضي الإطلاق؛ لأن الإستدراك بقوله: {لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} إلى آخره يقتضي المبالغة والعموم في مقابله. وأيضاً، قوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} معناه: منعوا الناس من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيه التحريف دخولاً أولياً. قوله: ({الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الثابتون فيه). الراغب: الراسخ في العلم: هو الذي لا

منهم، أو "المؤمنون" من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. و (يُؤْمِنُونَ) خبره. و (الْمُقِيمِينَ): نصب على المدح - لبيان فضل الصلاة- وهو باب واسع، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل؛ كانوا أبعد همةً في الغيرة على الإسلام، وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب اللَّه ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل: هو عطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي: يؤمنون بالكتب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعترضه شبهة لتمكنه في معرفته وتحققه بها وكونه من الذين قال فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، فنبه أن الراسخين في اللم يعرفون معنى النبوة ويعتبرونه، فحيثما وجدوه تبعوه، ولما اقتص عن اليهود ما كان منهم وألزمهم المذمة، بين أن الراسخين لم يذهبوا مذهبهم. قوله: ({وَالْمُقِيمِينَ} نصبٌ على المدح ... وهو باب واسع)، أي: نصبٌ على الاختصاص. قال الزجاج: هذا باب يسمونه باب المدح، وقد بينوا فيه صحته وجودته، فإذا قلت: مررت بزيد الكريم، وأنت تريد أن تُخلص زيداً من غيره فالخفض حتى يتميز، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت الكريم، وإن شئت رفعته، وأنشدوا: لا يبعدن قومي الذين هم ... سُم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر قوله: (من أن يتركوا في تاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم) لا يريد أنهم وجدوا ثلمة

وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد اللَّه: "والمقيمون": بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي. [(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً)]. (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ): جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب. (وَرُسُلًا) نصب بمضمر في معنى: (أوحينا إليك)، وهو: "أرسلنا" ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأصلحوها إلا هذه، بل ما وجدوها أصلاً فيتركوها؛ كما وُصِفَ مجلسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تُثني فلتاتُه" أي: لا فلتات ولا انثناء، وقال: على لا حبٍ لا يُهتدى بمنارِهِ قوله: ({وَرُسُلاً} نصب بمضمر في معنى {أوحينا إليك} وهو "أرسلنا") يعني:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أوحينا" لا يجوز أن يعمل في "رُسُلاً"؛ لأنه تعدى بـ "إلى"، ويُمكن أن يقال: بالحذف والاتصال؛ لأن الكلام في الإيحاء لا في الإرسال، فعلى هذا {قَصَصْنَاهُمْ}، و {لَمْ نَقْصُصْهُمْ}: صفتان لـ {رُسُلاً}، وعلى أن يكون {قَصَصْنَاهُمْ} مفسراً للعامل يبقى {رُسُلاً} مطلقاً، وهو الوجه، مثله في قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4]، قال صاحب "المفتاح": رُسُلٌ وأي رسل؟ ! ذوو عددٍ كثير، وأولو آيات ونُذرٍ، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبرٍ وعزمٍ، وما أشبه ذلك. ومقام التسلية والنظم المعجز يقتضيان ذلك، وبيانه: أن قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ} مؤذنٌ بأن طلبهم هذا مما اغتم به حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك أوقع قوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} جواباً لشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، قال: وهو من أحاسن الحُذوفن ونحوه قول الشاعر: قالوا: خُراسان أقصى ما يُراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا أي: إن صح ما قلتم: إن خراسان المقصد فقد جئناه وأين لنا الخلاص؟ ومن ثم قدر: "إن استكبرت ما سألوه فقد سألوا موسى أكبر من ذلك"، ثم عد قبائحهم، ونعى عليهم غيهم وعنادهم، ولما فرغ من ذلك أتى بنوع آخر من التسلية متضمناً للاحتجاج، مخاطباً به حبيبه صلوات الله عليه وسلامه، وآثر صيغة التعظيم تعظيماً للوحي والمُوحى إليه قائلاً: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} أي: لك أسوةٌ بالأنبياء السالفة فتأس بهم، {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]؛ لأن شأن وحيك كشأن وحيهم، فبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أول نبيٍّ قاسى الشدائد من الأمة، وعطف عليه النبيين من بعده وخص منهم إبراهيم إلى داود عليه السلام تشريفاً لهم وتعظيماً لشانهم، وترك ذكر موسى عليه الصلاة والسلام ليُبرزه مع ذكرهم بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} على نمط أعم من الأول؛ لأن قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْك

و"نبأنا" وما أشبه ذلك. أو بما فسره (قصصناهم). وفي قراءة أبيّ: (ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل). وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب: أنهما قرءا: (وَكَلَّمَ اللَّهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم، وأن معناه وجرّح اللَّه موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ): الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت: كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل، وهم محجوجون بما نصبه اللَّه من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ} من التقسيم الحاضر مزيداً لشرفه واختصاصه بوصف التكلم دونهم، أي: رسلاً فضلهم واختارهم وآتاهم الآيات البينات والمعجزات الباهرات إلى ما لا يُحصى، وخص موسى بالتكليم؛ ولذلك اختير في {رُسُلاً} أن يكون مطلقاً، وثلث ذكرهم على أسلوب يجمعهم في وصف عام على جهة المدح والتعظيم سار في غيرهم، وهو ونهم مبشرين ومنذرين، وجعلهم حجة الله على خلقه طُرًّا لقطع معاذيرهم، فيدخل في هذا القسم كل من دعا إلى هدى وبشر وأنذر كالعلماء؛ فظهر من هذا التقدير طبقات الداعين إلى الله بأسرهم، فالآية بدلالة عبارتها صريحة في التسلية؛ لأن الخطاب بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مطابق لقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء: 153]، وقد سبق أن وروده للتسلية، وبدلالة إشارتها مبنية على الاحتجاج؛ ولذلك قال: "واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوي كشأن سائر الأنبياء". قوله: (ومن بدع التفاسير)، وإنما كان بدعاً لأن الكلام على ما سبق واردٌ في شان الوحي والكتاب المنزل؛ فلا يدخل فيه هذا المعنى. قوله: (الوجه أن ينتصب على المدح)، يعني: في نصب {رُسُلاً} وجهان؛ أحدهما: التكرير، وهو أن يعلق به ثانياً ما لم يعلق به أولاً من المعنى، وثانيهما: النصب على المدح، وأنت تعلمُ أن الشرط فيه أن يكون الممدوح مشهوراً معروفاً بصفات الكمال، ويكون هذا الوصف المذكور منتهى في بابه، فكم بين الاعتبارين! قوله: (وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة)

في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل اللَّه إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمي: (لكنّ اللَّه يشهد) بالتشديد. فإن قلت: الاستدراك لا بدّ له من مستدرك فما هو في قوله: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ)؟ قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء، وتعنتوا بذلك، واحتج عليهم بقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال: (لَكِنِ اللَّه يَشْهَدُ)، بمعنى: أنهم لا يشهدون، ولكن اللَّه يشهد. وقيل: لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)، قالوا: ما نشهد لك بهذا، فنزل: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ). ومعنى شهادة اللَّه بما أنزل إليه: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة: شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت: بم يجابون لو قالوا: بم يعلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: مذهبهم في التحسين والتقبيح يجرهم إلى إثبات أحكام الله تعالى بمجرد العقل من غير بعثة رسل، فيجبون ويحرمون ويبيحون، ومما أوجبوه النظر في أدلة التوحيد قبل الشرع، ومن تركه ترك واجباً واستحق العقاب وقامت عليه الحجة، فإذا تليت عليهم هذه الآية وشهدت عليهم أن الحجة إنما قامت على الخلق بالأحكام الشرعية حرفوا النص وقالوا: الرسل تتمم حجج الله وتنبه على ما يوجبه العقل قبل بعثتهم، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وربما أشكل هذا الفصل على من طالعه من كلام الزمخشري؛ لأن المعرفة والتوحيد طريقهما العقل لا النقل، لكن المعرفة متلقاة من العقل والوجوب متلقى من الشرع والنقل المحض. قوله: (من تبليغ ما حُملوه) حال من فاعل "منبهون" أي: الرسل منبهون على دليل العقل حال كونهم مصاحبين دليل النقل.

أن الملائكة يشهدون بذلك؟ قلت: يجابون بأنه يعلم بشهادة اللَّه؛ لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته؛ لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت: ما معنى قوله: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)، وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت: معناه أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه: أنزله ملتبساً بعلمه الخاص). اعلم أن هذا المقام مما يُحتاج فيه إلى تدقيق نظر لتفصيل الوجوه وامتياز بعضها من بعض، فقوله: {بِعِلْمِهِ} إما أن يُجري على المجاز، أو على الحقيقة، والجار والمجرور على الأول حالٌ من المفعول، ويحتمل أمرين في الثاني: أما المعنى على الوجه الأول فهو ما ذكره "أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره"، فالعلم على هذا مجاز من التأليف على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ، والعلاقة هي النسبة التي بين الفاعل والفعل؛ لأن الفاعل المتقن الحكيم لا يصدر منه إلا الفعل المحكم البديع، ولا ارتياب في أن مثل هذا العلم الخاص يصلح أن يشهد الله تعالى به على صحة الدعوى؛ ولهذا كان قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} بياناً للشهادة؛ حيث قال: "وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة"، ونحوه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]: "أي: فأتوا بسورة من مثل القرآن في البيان الغريب، وعلو الطبقة في حسن النظم". وعلى الوجه الثاني: الجار والمجرور: إما حال من الفاعل؛ فالمعنى "أنزله وهو عالمٌ بأنك أهل لإنزاله إليك" لأنك من أولي العزم لا تألوا جهداً في تبليغه، وإليه الإشارة بقوله: "وأنك مبلغه"، ويمكن أن يقال: أنزله وهو عالمٌ بأنك أهل لأن ينزل علي وأن يتحدى بمثل لونك رجلاً أمياً لم تقرأ الكتب وما باشرت العلماء على منوال {فَاتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] من مثل محمد، أي: ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أمياً، أو من المفعول، فالمعنى "أنزله ملتبساً بما علم من المصالح مشتملاً عليه"، فقوله: "مشتملاً عليه" بدل

وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان. وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة؛ لأنه بيان للشهادة، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل: أنزله وهو عالمٌ بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل: أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه. ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به، رقيبٌ عليه، حافظ له من الشياطين برصدٍ من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك كما قال في آخر سورة الجنّ، ألا ترى إلى قوله: (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) [الجن: 28]؟ والإحاطة بمعنى العلم. (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) وإن لم يشهد غيره؛ لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ) [الأنعام: 19]. [(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)]. (كَفَرُوا وَظَلَمُوا): جمعوا بين الكفر والمعاصي، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الحال، والضمير المجرور لـ "ما". مثله قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]. قوله: (ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به) تفسيرٌ آخر، وهو أنه ضمن العلم معنى الرقيب والحافظ وجعل الجار والمجرور حالاً من الفاعل، وقرينة التضمين قران العلم بشهادة الملائكة؛ لأنه حينئذ على وزان قوله في سورة الجن: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 27، 28]؛ ومن ثم قال: "رقيب عليه برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون"، وعلى هذين الوجهين {أَنزَلَهُ} لا يكون بياناً كما في الوجهين السابقين؛ بل يكون تكريراً لتعلق ما به عُلق. قوله: (أو كان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين) يريد أنه من باب قول حسان:

لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لا يلطف بهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء أي: ومن يمدحه فحذف الموصول. قوله: (لأنه لا فرق بين الفريقين). الإنصاف: عدل عن الظاهر لعقيدته، والآية تنبو عنه؛ لأنه جعل الكفر والظلم كليهما صلة فيلزم وقوع الفعلين جميعاً من كل واحد من أفراده، فإذا قلت: الزيدون قاموا فقد أسندت القيام لكل واحد، وكذلك إذا عطفت عليه، وقيل: لو كان المراد ما قال لقيل: الذين كفروا والذين ظلموا كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: 62]. وقلت: وأما قضية النظم فإن الاستدراك في قوله: {لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] مُنادٍ بأن الخطب قد بلغ الغاية وأن المنكرين قد جاوزوا حد العناد، ويؤيده قول المصنف: "لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] قال: {لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ} بمعنى أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد"، فدل هذا على أن الحجة أفحمتهم، ولم يبق في أيديهم سوى العناد ولبس طريق الحق والصد عن سبيل الله؛ لأنهم أهل الكتاب، فحينئذ اتجه لسائل أن يقول: فما حكم الله على أولئك البعداء؟ فقيل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً}، وكرر ذلك ليُناط به قوله: {لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} مزيداً لذلك النعي، ليؤذن بأنهم متعنتون مكابرون واضعون الشيء في غير موضعه مستوجبون لكل نكال وإهانة؛ ولذل عم الخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] تنبيهاً لهم على الحث في النظر وتعريضاً بأن أهل الكتاب ما تابعوا الحق وما التفتوا إلى الدليل وركبوا متن الباطل واللجاج، فإذا لا مدخل لحكاية أصحاب الكبائر في هذا النص.

فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم يوم القيامة طريقا إلا طريقها (يَسِيراً)، أي: لا صارف له عنه. [(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً)]. (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) - وكذلك (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) - انتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث، علم أنه يحملهم على أمر فقال: (خَيْراً لَكُمْ) أي: اقصدوا، أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم) هذا على أن الهدى هي الدلالة الموصلة إلى البُغية، وهي على سبيل التهكم من باب قوله: تحية بينهم ضربٌ وجيع وقوله: (أولاً يهديهم يوم القيامة) على أن الهداية مجرد الدلالة. قوله: (لا صارف له عنه) أي: لله تعالى عن ذلك، أي: عن عدم الغفران وعن الهداية إلى طريق جهنم. قوله: (أي: اقصدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم). قال الزجاج: اختلفوا في نصب {خَيْراً}، قال الكسائي: انتصب لخروجه من الكلام، يقال في الكلام التام: لتقومنخيراً لكن وانته خيراً لك، بالنصب، وفي الناقص يقال: إن تنته خيرٌ لك، بالرفع. وقال الفراء: انتصب

والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد. (لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ): غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته، حيث جعلته مولودا لغير رشدة، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها. (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ): وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بوزن السكيت. وقيل لعيسى: كلمة اللَّه) وكلمةٌ منه؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل: له روح اللَّه وروح منه لذلك؛ لأنه ذو روحٍ وجد من غير جزء من ذى روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنما اخترع اختراعاً من عند اللَّه وقدرته خالصةً. ومعنى (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ): أوصلها إليها وحصلها فيها (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأٍ محذوف، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم روح القدس: الحياة، فتقديره اللَّه ثلاثة وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ {انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} لأنه متصل بالأمر وهو من صفته، ألا ترى إلى قولك: انته هو خيرٌ لك، فلما أسقطت هو اتصل بما قبله؟ قال الزجاج لم يبين الفراء ولا الكسائي أنه من أي المنصوبات هو، وقال الخليل وجميع البصريين: هذا محمول على المعنى؛ لأنك إذا قلت: انته خيراً لك؛ فأنت تدفعه عن أمر وتدخله في غيره، كأنك قلت: انته وائت خيراً لك أو: ادخل فيما هو خيرٌ لك. قلت: كلام المصنف مبني على هذا المذهب! وقيل: التقدير: انتهوا يكن خيراً لكم. قوله: (اخترع اختراعاً). الأساس: اخترع الله الأشياء: ابتدعها من غير سبب، كأنه لم يجعل الأمر سبباً في الوجود؛ ولهذا أكده بقوله: "وقدرته خالصة"، وهي حالٌ من قدرته. قوله: (وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة) أي: إن لم تصح الرواية فتقديره: الآلهة ثلاثة: الله،

والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن اللَّه والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأنّ المسيح ولد اللَّه من مريم. ألا ترى إلى قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116]، (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) [التوبة: 30]. والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون: في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمّهاتها، وأن اتصاله باللَّه عز وعلا من حيث أنه رسوله وإنه موجود بأمره وابتداعه جسداً حياً من غير أب، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء، وقوله: (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ). وحكاية اللَّه أوثق من حكاية غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعيسى، وروح القدس. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، يعني: أنهم مستوون في الإلهية، ويقال في العرف عند إلحاق اثنين بواحد في وصف: هم ثلاثة، أي: إنهما شبيهان له. قوله: (والذي يدل عليه) يعني: حُكي عن النصارى المذهبان، والذي يدل عليه القرآن المذهب الثاني. قوله: (ويدل عليه قوله) أي: على أنهم يقولون في المسيح اللاهوتية والناسوتية؛ رده الله بـ {إِنَّمَا}، فإنه من القصر الإفرادي، نفي بقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أحد ما أثبتوه وهو اللاهوتية، وقصر الحكم على الآخر وهو الناسوتية بقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ}، وقوله: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} عطف على قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ}. قوله: (وحكاية الله أوثق) متعلق بقوله: "والذي يدل عليه القرآن" أي: والحال أن حكاية الله أوثق من حكاية غيره، أي: ما حكى الله عنهم من القول بالذوات دون الأقانيم، والجُمل التي توسطت بين الحال وعاملها معترضة. اعلم أن الحكيم الفاضل يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب "المنهاج في الطب" كان نصرانياً، وبعدما أسلم وحسن إسلامه صنف رسالة رداً على النصارى، وقال فيها: زعمت النصارى أن الله تعالى جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح

ومعنى (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ): سبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة ورفع النون، أي: سبحانه ما يكون له ولد، على أنّ الكلام جملتان. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ): بيانٌ لتنزهه عما نسب إليه، يعنى أنّ كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه؟ على أن الجزء إنما يصح في الأجسام، وهو متعالٍ عن صفات الأجسام والأعراض. (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) يكل إليه الخلق كلهم أمورهم، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه. [(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) 172]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القدس، فإنه واحد في الجوهر مختلف بالأقانيم، وقال بعضهم: إنها أشخاص وذوات، وقال بعضهم: إنها خواص، فإن أقنوم الأب الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وهي العلم وإنها لم تزل متولدة من الأب لا على سبيل التناسل، بل كتوليد ضياء الشمس عن الشمس، وأقنوم روح القدس هو الحياة، وأنها لم تزل فائضة من الأب والابن، واختلفوا في الاتحاد، فقالت اليعقوبية: إنها بمعنى الممازجة، كمُمازجة النار بالفحمة، فالجمرة ليست ناراً خالصة ولا فحمة، وهذا موافق لقولهم: إن الله تعالى نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً؛ ولذلك قالوا: المسيح جوهر من جوهرين، وأقنوم من أقنومين. وقلت: هذا هو القول باللاهوت والناسوت. وقال الحكيم: فظاهر قول نسطور: أن الاتحاد على معنى المساكنة؛ وأن الكلمة جعلته محلاً، ولذلك قالوا: جوهران، أقنومان، على غير ذلك من الأقوال، وإذا كان هذا الاختلاف ثابتاً في فرق النصارى منقولاً عنهم يصح حينئذ أن يُراد من قوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي: ولا تقولوا: وجوهر واحد، ثلاثة أقانيم، وأن يُراد من قوله: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] الذوات الثلاث، وأن يُراد بقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وقوله سبحانه: {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} القول باللاهوت والناسوت؛ وذلك أن الله تعالى حكى في كل مكان حكاية فرقة من فرقهم، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} [الصافات: 180].

(لَن يَسْتَنْكِفَ): لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة من نكفت الدمع. إذا نحيته عن خدك بإصبعك (ولَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ): ولا من هو أعلى منه قدراً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولن يذهب بنفسه عزة) كناية عن عدم التكبر؛ لأن المتكبر هو الذي يضع نفسه فوق منزلتها ويذهب بها عن طورها فلا ينقاد لأحد. الراغب: العبودية متضمنة للمذلة إذا اعتبرت بغير الله، وإذا اعتبرت بالله كانت مقر الشرف؛ فلهذا لا استنكاف منها، والاستكبار طلب التكبر بغير استحقاق، والتكبر قد يكون باستحقاق؛ وذلك إذا كان طلباً لعزة النفس والتلطف عن الأعراض الدنيوية، والفرق بينهما: أن الاستنكاف تكبر في تركه أنفة، وليس في الاستكبار ذلك. قوله: (ولا من هو أعلى منه قدراً). قال محي السنة: يستدل بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية؛ لأن الله ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلا إلى الأعلى؛ إذ لا يقال: لا يستنكف فلان من كذا ولا عبده، وإنما يقال: ولا مولاه. ولا حجة لهم فيه؛ لأنه لم يقل ذلك رفعاً لمقامهم على مقام البشر، بل رداً على الذين يقولون: الملائكة آلهة، كما رد على النصارى قولهم: المسيح ابن الله، ونحوه عن صاحب "الفرائد". وقال القاضي: الآية رد على عبدة المسيح والملائكة فلا يتجه ذلك وإن سُلم اختصاصها بالنصارى؛ لأن الكلام فيهم، فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة- وهم الكروبيون - على المسيح من الأنبياء؛ وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه. وقال صاحب "التقريب": المثال لا يصحح به الكُلِّي، لأنه إنما يدل لسبق العلم بزيادة البحر على حاتم، أما إذا قلت: لا يفعله زيدٌ ولا عمرو، لم يفهم التفضيل؛ فدلالتها على

وأعظم منه خطراً، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. فإن قلت: من أين دلّ قوله: (ولَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أنّ المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفضيل الملائكة تتوقف على معرفة أفضليتهم وبالعكس فيدور؛ ولأن الواو لا توجب الترتيب، ولأنه يدل على أن جميع الملائكة أفضل لأنها جمع معرف فيفيد العموم لا أن كل واحد أفضل وهو المطلوب، وإن ادعى أنه ذوقي وجداني فالوجدانيات لا يستدل بها على الخصم. وقلت: الجواب الصحيح أن يقال: إن قوله: "أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى" فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أرفع درجة؛ لأن هذا الرد غنما يتمشى معهم وينتهض للحجة عليهم إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، ودونه خرط القتاد! فكيف والنصارى يرفعون درجته إلى الإلهية؟ قوله: (وهم الملائكة الكروبيون). قال في "الفائق": الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، هم المربون، وكرب: إذا قرب، قال أمية بن أبي الصلت: كروبية منهم ركوع وسُجد قوله: (إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك)، هذا الحصر ممنوعٌ، وغايته أنه باب الترقي، وتقريره ما ذكره الإمام، قال: رُوي أن وفد نجران، وساق القصة بتمامها كما في الكتاب، وقال: معناه: أنكم إن استنكفتم عن أن يكون عيسى عبد الله، وتزعمون أنه ابن الله أو كما قالوا؛ بسبب أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات من إحياء الموتى؛ فإن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر، وقدرتهم على التصرف في هذا العالم أشد؛ وكيف لا وجبريل عليه الصلاة والسلام قلع مدائن لوط بريشة واحدة من جناحه؟ وأيضاً، إنكم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما تتخذون عيسى رباً وإلاها؛ لأنه وُجد بغير أب، فالملائكة أولى لأنهم وُجدوا بغير أب وأم، وإذا كانوا مع هذا لا يستنكفون فالمسيح أولى. وقلت: والذي يقتضيه النظم أن يكون الأسلوب من باب التتميم والمبالغة لا الترقي؛ وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إثبات للتوحيد على القصر، وتقرير لصفة الفردانية على الوجه الأبلغ؛ لأن المعنى: ما الله إلا واحد فردٌ في الإلهية لا شريك له فيها، ولا يصح أن يسمى غيره إلهاً، وأن قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إثبات لصفة المالكية والخالقية على الاختصاص أيضاً؛ وذلك بتقديم الظرف على المبتدأ، وفيه أن ما سواه مملوكه تحت تصرفه وتدبيره ومن جملته المسيح والملائكة وكل ما عُبِدَ من دون الله، وأن قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} إثبات لكمال قدرته على الاختصاص أيضاً، وبيان أن غيره غيرُ مستقل بنفسه وأن أموره موكولة إليه لا إلى غيره، ثم إنه تعالى لما قرر الفردانية والمالكية والقدرة التامة، كل ذلك على الاختصاص- أتبعه قوله: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} إلى آخر الآيات؛ بياناً وتذييلاً وتقريراً لاستحقاقه العبودية وإنكار أن أحداً يستنكف ويستكبر عن عبادته، المعنى: لا يستقيم بعد هذا التقرير أن يتصور أن أحداً يستكبر على الله ويستنكف عن عبوديته، المعنى: لا يستقيم بعد هذا التقرير أن يُتصور أن أحداً يستكبر على الله ويستنكف عن عبوديته: لا الذي تتخذونه أنتم أيها النصارى إلها لكمال فيه، ولا من اتخذه غيركم من الملائكة لقربهم من الله. وإنما قلنا: لكمال فيه؛ لأن في تصريح ذكر المسيح بعد سبق ذكره من قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} إشعاراً بالعلية. وأيضاً، قد تقرر أن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول؛ وإذا كان كذلك يحصل بين تخصيص ذر الروح وبين ذكر المقرب فرقٌ، وهذا هوا لجواب عن قوله الآتي: "ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين"، وبهذا البيان ظهر أن ذكر الملائكة المقربين للاستطراد- كما قال محيي السنة - لم يقل رفعاً لمقامهم على مقام البشر؛ بل رداً على الذين يقولون: الملائكة آلهة، كما رد على

وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجةً، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرةً بينة تخصيص المقرّبين؛ لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلةً. ومثاله قول القائل: وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ ... وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج: ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) [البقرة: 120] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النصارى، وتبين بقوله: {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} الآية، أن الكلام في العبودية ونفي الاستنكاف لا الأفضلية؛ لكونه تذييلاً للكلام السابق. قوله: (وما مثله ممن يجاود) البيت، أي: وما مثله حاتمٌ مما يجاود، وقيل: الصواب: وما مثله ممن يجاوده حاتم، أي: لا يقدر حاتم على مجاودة مثل الممدوح، وجاودت الرجل، من الجود، مثل: ما جدته من المجد، التج البحر: ارتفع. قوله: (فليذق مع هذه الآية) أي: ليجرب الفكر ليعلم أن الفرق بينهما في معنى الأفضلية. أما الموازنة بين الاثنين فهي أن قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة: 120] كلام واردٌ في انتفاء الرضا عن الفريقين على المبالغة؛ نفي الرضا أولاً عمن هو أبعدُ في الرضا وهم اليهود، ثم عمن هو أقرب إليه وهم النصارى، على معنى: لا يرضى عنك من هو أقرب إلى الرضا وهم النصارى، فكيف بمن هو أبعد منه؟ لقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: 82]. فالمعنى على زعمه: لن يستنكف الملائكة المقربون مع جلالتهم وقرب منزلتهم من أن يكونوا عبيداً لله، فكيف بالمسيح الذي هو دونهم؟ وقلت: قد مر أنه من باب التتميم لا الترقي.

حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى اللَّه عنه: عُبيداً للَّه، على التصغير. وروي: أن وفد نجران قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال: "ومن صاحبكم" قالوا: عيسى، قال: وأى شيء أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد اللَّه ورسوله، قال: "إنه ليس بعارٍ أن يكون عبداً للَّه". قالوا: بلى، فنزلت: أي: لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكافٍ لكان هو أولى بأن يستنكف؛ لأنّ العار ألصق به. فإن قلت: علام عطف قوله: (ولَا الْمَلائِكَةُ)؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يعطف على (المسيح) أو على اسم (يكون)، أو على المستتر في (عَبْداً)؛ لما فيه من معنى الوصف لدلالته على معنى العبادة، كقولك: مررت برجلٍ عبدٍ أبوه، فالعطف على (المسيح) هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحرافٍ عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد اللَّه هو ومن فوقه. فإن قلت: قد جعلت الملائكة وهم جماعة "عبداً" للَّه في هذا العطف، فما وجهه؟ قلت: فيها وجهان: أحدهما: أن يراد ولا كل واحدٍ من الملائكة، أو ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عباداً للَّه، فحذف ذلك لدلالة (عبد الله) عليه إيجازاً، وأمّا إذا عطفتهم على الضمير في (عَبْداً) فقد طاح هذا السؤال ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا تستنكفوا له) أي: لعيسى عليه الصلاة والسلام. قوله: (منه) أي: من أن يكون عبداً. قوله: (لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه) هذا على أن يكون عطفاً على اسم {يَكُونُ}، وإنما كان منحرفاً لأن إسناد عدم الاستنكاف حينئذ منه لا من الملائكة، والذي سيق له الكلام عدم استنكاف الملائكة أيضاً، قال صاحب "التقريب": وجود "لا" في المعطوف يستدعي العطف على المسيح؛ لأنه المنفي أولاً. قوله: (طاح) أي: سقط هذا السؤال؛ لأن {يَكُونُ} يدل على معنى العبادة، كأنه قيل: أن تعبد الله؛ لأن فعل الجماعة يوجد متقدماً عليها.

قرئَ: (فسنَحْشُرُهُمْ) بضم الشين وكسرها وبالنون. [(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)]. فإن قلت: التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصل على فريق واحد. قلت: هو مثل قولك: جمع الإمام الخوارج، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين، أحدهما: أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ). والثاني: وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب اللَّه. البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ): في ثواب مستحق وتفضل (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ): إلى عبادته (صِراطاً مُسْتَقِيماً): وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فسنحشرهم) القراءتان شاذتان، والمشهور بالياء وضم الشين. قوله: (والثاني، وهو أن الإحسان) حاصله أن قوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} وعيد للمستنكفين بالعذاب، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ} تفصيلٌ للعذاب، فصله بنوعي العذاب؛ أحدهما: النكال، وثانيهما: عذاب الحسرة وشماتة الأعداء، وحاصل الجوابين أن قوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} من اللف، إما على الحذف، أو على التضمين.

[(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)]. روي: أنه آخر ما نزل من الأحكام. كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع، فأتاه جابر بن عبد اللَّه فقال: إنّ لي أختاً فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ وقيل: كان مريضاً فعاده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إني كلالة، فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ): ارتفع (امرؤاً) بمضمر يفسره الظاهر، ومحل (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الرفع على الصفة لا النصب على الحال، أي: إن هلك امرؤ غير ذي ولد، والمراد بالولد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (روي أنه آخر ما نزل من الأحكام) روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن البراء قال: آخر آية نزلت آية الكلالة، وآخر سورة نزلت سورة براءة. وأما حديث جابر فرواه الشيخان وغيرهما، قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر رضي الله عنه وهما ماشيان، وفي رواية: وعندي سبع أخوات، فأفقت، فقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: "أحسن"، قلت: بالشطر؟ قال: "أحسن"، ثم خرج، وقال: "يا جابر، قد أُنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين"، وكان جابر يقول: أنزلت في هذه الآية. قوله: (لا النصب على الحال)؛ لأن ذا الحال نكرة غير موصوفة، فإن {هَلَكَ} مفسر للفعل المحذوف لا صفة. قوله: (والمراد بالولد الابن) إلى آخره، قيل: الأولى أن يُجرى الولد على عمومه ليشمل الابن والبنت؛ فإن الأخت مع وجود البنت الواحدة ترث بالعصوبة لا لخصوصية كون

الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى؛ لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم، لأنّ اللَّه تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبةً وقال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء: 110]، وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث مسوّى بينها وبين أخيها. (وَهُوَ يَرِثُها): وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها. (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ)، أي: ابن؛ لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت: الابن لا يسقط الأخ وحده، فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفي الولد؟ قلت: بين حكم انتفاء الولد، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النصيب نصفاً، ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}، فإن الثلثين إنما يجوزان بشرط عدم الولد لا بشرط عدم الابن فقط، والحاصل أنه تعالى فرض للأخت النصف عند عدم الولد، وهو مطرد لا إشكال في منطوقه، وأما إذا انتفى قيد عدم الولد فالحكم أيضاً ظاهر؛ لأنه إن كان له ابن وبنت فليس للأخت شيء، وإن كان له بنتان فليس لها النصف، وكذا إن كان له بنت؛ لأنها حينئذ ترث بالعصوبة كما قررنا. قوله: (وبالأخت التي هي لأب وأم أو لأب دون التي لأم) عطف على قوله: "بالولد الابن" يريد أن قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} وإن كان مطلقاً لكنه مقيد. قال الإمام: في الآية تقييدات ثلاثة؛ أحدها: أن ظاهرها يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد، فأما عند وجود الولد فلا، وليس كذلك؛ بل شرط كون الأخت بحيث تأخذ النصف أن لا يكون للميت ابن، فإن كان له بنت؛ فالأخت تأخذ النصف أيضاً، وثانيها: أن ظاهرها يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولدٌ ووالد، فإن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع، وثالثها: أن قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} يقتضي إطلاقها، وليس كذلك؛ بل الشرط أن لا تكون الأخت من الأم والأخ من الأم؛ لأن الله تعالى قد بين حكم كل واحد منهما.

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى عصبة ذكر) والأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة، ويجوز أن يدل حكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد؛ لأن الوالد أقرب إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد؛ ولأن الكلالة تنتاول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله: {فإن كانتا اثنتين}، {وإن كانوا إخوة}؟ قلت: أصله: فإن كان من يرث بالأُخُوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكورا وإنانا، وإنما قيل: {فإن كانتا} و (إن كانوا) كما قيل: من كانت أمك، فكما أنث ضمير (من) لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثني وجمع ضمير من يرث في {كانتا} و {كانوا}؛ لمكان تثنية الخبر وجمعه. والمراد بالإخوة: الإخوة والأخوات؛ تغليبا لحكم الذكورة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، ووجه النظر أن طريقة الأولوية غنما تحسن في الإثبات هنا، كما تقول: إذا ورث عند وجود الابن فلأن يرث عند وجود الأب أولى؛ لأنه أبعد عن الابن، وأما في النفي فلا؛ لأن الحك كما ثبت بانتفاء الصارف القوي لا يلزم أن يثبت بانتفاء الضعيف. وقلت: يمكن أن يقال: إن أصل الكلام: يستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم فيها إن امرؤ هل يورث كلالة، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء: 12]، ولا يخفى أن الكلالة هو: من لا يخلف أحد عمودي النسب - أعني الوالد والولد - فخص الولد بالذكر دلالة على انه الأولى في هذا المعنى من الأب ومراعاة جانبه أحرى. قوله: (تغليباً) هو مفعول له؛ لأن قوله: والمراد في معنى قولك: أراد بالإخوة؛ فهو فعلٌ لفاعل الفعل المعلل، فحذف اللام، ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً، أي: غلب حكم الذكورة تغليباً.

(أَنْ تَضِلُّوا) مفعول له. ومعناه: كراهة أن تضلوا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه كراهة أن تضلوا)، قال الإمام: قال البصريون: المضاف محذوف. أي: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، كقوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وقال الكوفيون: حرف النفي محذوف؛ أي: يبين الله لكم لئلا تضلوا، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا. وقال الزجاج: إن "لا" تُضمر؛ لأن حذف حرف النفي لا يجوز ولكن يراد للتوكيد، ويجوز حذف المضاف، وهو كثير. وقال الجرجاني صاحب "النظم": يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجتنبوها. الراغب: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: لترجعوا إلى كتابه إذا جهلتم فتعلموا منه، أي: يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم أن تُنجزوه إذا تُركتم وشأنكم، ومن تبين له الضلالة تبين له الحق؛ فإن معرفة أحدهما مضمن لمعرفة الآخر، ولا يتم من دونه، وقد قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}، بل هذا أبلغ من قولهم: يبين الله لكم أن لا تضلوا؛ لأن في معرفة الشر معرفة الخير، وليس في معرفة الخير المعرفتان جميعاً، فالإنسان إذا تُرك عن المزاجر والنواهي ولم يؤخذ بمقتضى العقل صار بالطبع بهيمة. وقلت: النظم مع صاحب النظم؛ لأن هذه الخاتمة ناظرة على الفاتحة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1]، فإن براعة الاستهلال دلت إجمالاً على أنهم كانوا على أمور يجب اجتنابها وضلالة أن يُتقى منها؛ ومن ثم فصلت أولاً بقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]؛ قال المصنف: "كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله تعالى ومع ذلك يطمعون فيها"، وثانياً: بقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]؛

عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ورث ميراثاً، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً، وبُرئ من الشرك، وكان في مشيئة اللَّه من الذين يتجاوز عنهم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "في الآية دليل على ضيق المسلك ووجوب الاحتياط"، وثالثاً: بقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5]؛ قال: "هو أمرٌ لكل أحد ألا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء"، ورابعاً: بقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء: 7]؛ قال: "كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح"، وخامساً: بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10]، وسادساً: بقوله: {وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 19] الآيات؛ قال: "كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم ... " إلى آخره، وثامناً: بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 39]، وعاشراً: بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وعاشراً: بقوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] ... وهلم جرا إلى هذه الغاية؛ ومن ثم رجع عوداً إلى بدء من حديث الميراث بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ}، فظهر أن التقدير: يبين الله ضلالكم لئلا تضلوا؛ فالعلة محذوفة والمفعول مذكور على خلاف تقدير الجمهور، والله أعلم. تمت السورة بحمد الله

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)]. يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه: (والموفون بعهدهم) [البقرة: 177]. والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، قال الحطيئة: قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمِ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المائدة مئة وثلاث وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (قومٌ إذا عقدوا عقداً) البيت، العناج في الدلو العظيمة: حبلٌ أو بطان يشد في أسفلها، ثم يشد بالعراقي فيكون عوناً وللأوذام، فإذا انقطعت الأوذام أمسكها العناج، فإذا كانت الدلو خفيفة فعناجها خيط يشد في إحدى آذانها إلى العرقوة، والكرب:

وهي عقود اللَّه التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها، والظاهر أنها عقود اللَّه عليهم في دينه من تحليل حلاله، وتحريم حرامه، وأنه كلام قدم مجملاً، ثم عقب بالتفصيل وهو قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ) وما بعده. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحبل الذي يُشد في وسط العراقي ثم يُثنى ثم يُثلث ليكون هذا يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير، والوذم: السيور التي بين آذان الدلو وأطراف العراقي، والعراقي: بفتح العين والراء والقاف مقصورة، والعرقوتان: الخشبتان اللتان تعرضان على الدلو كالصليب، يصف قومه بوفاء العهد، استعار للعهد عقد الحبل على الدلو، ثم رشح الاستعارة مرة بشد العناج وأخرى بشد الكرب؛ لأنهما للتوثيق والاحتياط، بوعده: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا قوله: (من مواجب التكليف)، الأساس: وجب البيع وأوجبته: ألزمته، وفعلت ذلك إيجاباً لحقك، وهذا أقل مواجب الأخوة، فعلى هذا المراد بوفاء العهود جميع ما ألزمه الله تعالى من التكاليف، ولا يختص بتحليل الحلال ولا بتحريم الحرام. قوله: (والظاهر أنها عقود الله [عليهم] في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه). قال الكواشي: ذكر هذه المقدمة ثم عقبها بالأحكام ليلتزموا العمل بها، كقولك للرجل: افعل ما آمرك به، ثم تذكر له ما تريده منه، وذلك أنه تعالى أمر المكلفين بوفاء العقود وأتى بقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} مفصولاً عنه على سبيل البيان، وعقبه بما هو مشتمل على تحريم الحرام وتحليل الحلال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الظاهر هو الأول، لأن "العقود" جمعٌ محلي باللام مستغرق لجميع ما يصدق عليه أنه عقود الله تعالى من الأصول والفروع، ولكن المذكور في السورة أمهاتها وأصولها منصوصاً. وسائر ما يستتبعه مفهوماً ومرموزاً، فقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] وقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، ثم كَرَّ إلى ذكر الصلاة وعلق به قرينتها التي هي الزكاة في قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} [المائدة: 12]، وأومأ إلى الحج بتعظيم شعائر الله في قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، وأما المعاملات فقد أدمج في قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] ما يمكن أن يستنبط منه بعض أحكامها، وكذا المناكحات في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]. هذا، وإن قسم الجراحات والحدود والجهاد والأطعمة والأشربة والحكومات وغيرها، السورة مملوءة منها مشحونة بها، ومن أراد أن يستوعب جميع ما يتعلق بربع الجراح فلا يعوزه ذلك نصاً وإشارة، ولأمر ما أخر نزول هذه السورة وفذلكت بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]. روينا عن الترمذي، عن عبد الله بن عمرو: آخر سورة أنزلت: المائدة.

البهيمة: كلّ ذات أربع في البرّ والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعنه، عن ابن عباس أنه قرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وعنده يهودي، فقال: لو أنزلت علينا هذه الآية لاتخذناها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة. ونحوه عند البخاري ومسلم، عن عمر رضي الله عنه. الراغب: العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضربٌ أوجبه العقل، وهو ما ذكر الله معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما ببديهة العقل وإما بأدنى نظر، دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف: 172]، وضرب أوجبه الشرع، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه، فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء، أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب، فالأول: واجب الوفاء؛ كالنذور المتعلقة بالقرب، نحو أن يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله، والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه، كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث: مستحب ترك الوفاء به، وهو ما قال صلى الله عليه سلم: "إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه"، والرابع: واجب ترك الوفاء به، نحو أن يقول: عليَّ أن أقتل فلاناً المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعةٌ وعشرون ضرباً، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجباً. قوله: (ومعناه البهيمة من الأنعام). قال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة، لأنه أبهم عن

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلا محرّم): ما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: 3]، أو (إلا ما يتلى عليكم) آية تحريمه. والأنعام: الأزواج الثمانية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يميز، فأعلم الله عز وجل أن الذي أحل لنا مما أبهم هذه الأشياء. الراغب: البهيمة: ما لا نطق له من الحيوان، ثم اختص في التعارف بما عدا السباع والطير، ثم استعملت في الأزواج الثمانية إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في لك الخيل والبغال والحمير، ووجه إضافتها إلى الأنعام كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]. قوله: ({إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} آية تحريمه) عطفٌ على قوله: "إلا محرم ما يتلى عليكم"، وإنما قدر ذلك لأنه لابد من المناسبة بين المستثنى والمستثنى منه في الاتصال، فلا يستقيم استثناء الآيات من البهيمة، فيقدر إما المضاف كما يقال: إلا محرم ما يتلى عليكم، أي: الذي حرمه المتلو، وإما الفاعل، بأن يقال: إلا البهيمة التي يتلى عليكم آية تحريمها، فقوله: "آية تحريمه" يشعر بأن الأصل هذا ثم حُذف المضاف الذي هو آية، وأقيم المضاف إليه مقامه وهو "تحريمه"، ثم حذف المضاف ثانياً وأقيم الضمير المجرور مقامه فانقلب الضمير المجرور مرفوعاً واستتر في {يُتْلَى} وعاد إلى {ما} كقوله: أسال البحار فانتحى للعقيق أي: أسال سُقيا سحابه. وقال أبو البقاء: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} استثناء متصل، والتقدير: أحلت لكم بهيمة النعام إلا الميتة، وما أهل لغير الله مما ذكر في الآية الثالثة من السورة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال محيي السنة: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: ما ذُكِر في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، وهذا هو المراد من قول المصنف: "إلا محرم ما يُتلى عليكم من القرآن من نحو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} ". انظر أيها المتأمل في نظم هذه الآيات، فإنها مدمج بعضها في بعض وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع، وذلك أنه تعالى لما أراد أن يشرع في عقد من العقود المعتبرة فيا لدين، وهو شرعية مناسك الحج، وتعظيم شعائر الله، على وجه يستتبع أحكاماً جمة، ذكر تحليل بهيمة الأنعام توطئة وتسبيباً لذكر تعظيم شعاره، واستثنى منها ما هي محرمة على الإبهام المستدعي للتفصيل والبيان، وجعل قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قيداً للتوطئة ليتخلص منها إلى المقصود بسببه مشتملاً على معنى رفع الحرج امتناناً، كما قال تعالى: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا نحرج عليكم، ثم أتى بما اجري له الكلام معظماً مفخماً، فكرر النداء والتنبيه، وذكر المؤمنين بعد استهلال السورة به اعتناء بشأن المتلو بعده وعم النهي في تحليل شعائر الله، واستطرد قصة حجاج اليمامة، ليشير به إلى أن الحيلولة بين الشعائر وبين المتنسكين بها وإن كانوا مخالفين بل مجرمين: تحليل لشعائر الله المنهي عنها، وأوقع ما كان موافقاً لمعنى القيد والتخلص من قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] اعتراضاً بين القصة ليكون إشارة وإدماجاً إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلاً من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوا لهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم؛ لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ. ولما فرغ من بيان ما أجري له الكلام أصالة شرع في بيان ما أجمل فيما أتى به، تمهيداً وتوطئة، وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وكما أورد ما كان متصلاً بالتوطئة في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى اعتراضاً في القصة؛ أورد ما هو متصل بالمقصود معنى اعتراضاً في التفصيل ليصير الأصل والفرع شيئاً واحداً، وذلك قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ} وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وإنما قلنا: إنه متصل بالمقصود لأن التعريف في {الْيَوْمَ} إشارة إلى ذلك اليوم الذي نهوا فيه عن تحليل شعائر الله وتعريض القاصدين، وأشار بالاعتراض الأول، وهو قوله: {إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] إلى معنى دقيق، وهو أن هذا يوم لكم اليد والسلطان على الناس فلا تخيفوهم وإن كانوا مجرمين؛ وإليه الإشارة بقوله: "ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم، وتعاونوا على العفو والإغضاء ولا تعاونوا على الانتقام والتشفي"، وبالاعتراض الثاني، وهو قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ} إلى قوله: {دِيناً} [المائدة: 3] إلى أن لا تخافوا الناس أيضاً وأبشروا بإكمال الدين الحنيفي وهدم منار الجاهلية كلها، ومنها إبطال مناسكهم. وعن محيي السنة، عن سعيد بن جبير وقتادة: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فلم يحج معكم مشرك، وإليه أشار المصنف بقوله: "وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وإن لم يحج معكم مشرك". وأبرز هذا الاعتراض في معرض الإيجاز الجامع، لأنه متضمن لجميع ما هو مفتقر إليه من أمور الدين من الأصول والفروع، وأمور الدنيا من الفتح والظفر والأمن من الأعداء على سبيل الإدماج، فاجتمع في هذا المقام أساليب جمة، فنذكر بعض ما يحضرنا الآن، منها: حسن المطلع، ضمن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} معنى براعة الاستهلال لاشتمال السورة مفتتحاً ومختتماً على العقود. ومنها: حُسن المطلب حيث جيء بـ"يا" الدالة على نداء البعيد وقرنت بحرف التنبيه تنبيهاً على أن المتلو بعدها معني به جداً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أنه أوقع الموصولة متصلة بصلة تحث على الوفاء بالعهد وإن من حق من اتصف بوصف الإيمان الوفاء بالعهد، ومنها: أنه خص العقد بالذكر ليؤذن بالالتزام التام، ثم ذيل الكلام بما يشد من عضد الطلب وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}، لأنه عزل به آمر العقل وداعي الهوى، ورفع به منصب النص ومتابعة الهدى. ومنها: التكرير، وهو: إعادة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 2] تأكيداً وتشديداً لتعظيم شعائر الله. ومنها: حُسن المخلص، والتسبيب، والإيهام، والتفصيل، والاعتراض، والإدماج، والإيجاز الجامع، والاستطراد على ما سبق بيانها. ومنها: التتميم، وهو: توخي المبالغة في النهي عن تعرض القاصدين مع كونهم مشركين وإن كانوا مجرمين. ومنها: عكس التغليظ، وهو وصف الكافرين بصفة المؤمنين من الوصف بابتغاء الفضل والرضوان وإن حصل في العدو المناوئ. ومنها: التكميل، وهو تعقيب {أَكْمَلْتُ} بـ {وَأَتْمَمْتُ}، وسيجيء بيان ثلاثتها. ومنها: التذييل، وهو قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]، لأن من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته، كما ذكره في سورة الفاتحة. ومنها: المطابقة: طابق بين قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} وبين قوله: {لا تُحِلُّوا} [المائدة: 2] بالنفي والإثبات تارة، وبينه وبين {حُرِّمَتْ} [المائدة: 3] بحسب التضاد أخرى. ومنها: المقابلة المعنوية، وهي في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وقيل: (بهيمة الأنعام): الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه. (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) نصب على الحال من الضمير في: (لَكُمْ) أي: أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد. وعن الأخفش أن انتصابه عن قوله: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). وقوله: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن (مُحلّى الصيد) كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون، لئلا نحرج عليكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: عطف الخاص على العام، عطف {الْقَلائِدَ} على {الْهُدَى}، ثم {الْهُدَى} على "الشعائر"، قال في سورة الحج: "الشعائر وهي الهدايا، لأنها من معالم الحج". قوله: (وقيل: {بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}: الظباء وبقر الوحش)، الراغب: لما علم في سورة الأنعام تحليل الأنعام نبه بقوله: {بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} على تحليل البهيمة الجارية مجرى الأنعام، فيكون لهذه الآية دلالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام؛ لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حلالاً، وعلى ذلك قول من قال: بهيمة الأنعام هي بقر الوحش والظباء. قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حال عن {مُحِلِّي الصَّيْدِ}، ومحلي: اسم فاعل مضاف إلى المفعول، وحذف النون للإضافة، والحالان متداخلان. قوله: (أحللنا لكم بعض الأنعام) وإنما صرح بالبعض نظراً على المعنى، وإلى ما الاستثناء أبقاه. قوله: (وأنتم محرمون) أي: داخلون في الإحرام أو في الحرم.

(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. و"الحُرم": جمع حرامٍ وهو المحرم. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)]. الشعائر: جمع شعيرة وهي: اسمُ ما أشعر، أي: جعل شعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار، والمطاف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام، والطواف والسعي والحلق والنحر. والشهر الحرام: شهر الحج. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعلم أنه حكمة ومصلحة) يريد أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تذييل للكلام السابق وتعليل لشرعية العقود والأحكام كلها، وفيه دلالة على أن إرادة العموم من قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} - وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف - هي الوجه، وأن أحكام الله تعالى تعبدية لا مجال للعقل فيها، ومن ثم عقبه بما يتعلق بمناسك الحج من مواقفه ومرامي الجمار، والمطاف والمسعى والأفعال التي تقف عندها العقول، وتتحير دونها الأوهام. الراغب: الحكم والحكمة من أصل واحد، إلا أنه إذا كان في القول قيل له: حُكمٌ وقد حَكم، وإذا كان في الفعل قيل له: حكمةٌ وحُكم وله حِكم؛ فإذا قلت: حكمت بكذا فمعناه: قضيت فيه بما هو حكمة، وإن كان يقال: حكم فلان بالباطل، بمعنى أجرى الباطل مجرى الحكمة، فحكم الله تعالى مقتض للحكمة لا محالة، فنبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} على أن

والهدي: ما أُهدي إلى البيت وتقرب به إلى اللَّه من النسائك، وهو جمع هديةٍ كما يقال: جديٌ في جمع جدية السرج. والقلائد: جمع قلادةٍ، وهي ما قلد به الهدي من نعلٍ أو عروةٍ مزادةٍ، أو لحاء شجرٍ أو غيره. وآمّوا المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدّون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. وأما (القلائد) ففيها وجهان: أحدهما: أن يراد بها ذوات القلائد من الهدي، وهي البدن، وتعطف على (الهدى) للاختصاص، وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدي، كقوله: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: 89] كأنه قيل: والقلائد منها خصوصاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يريده يجعله حكمة حثاً للعباد على الرضا به، فالله تعالى يحكم ما يريد، وحكمه ماض، ومن رضي بحكمه استراح في نفسه وهدي لرشده، ومن سخط نفذ حكمه واكتسب بسخطه سخط الله وإهانته، كما ورد: "من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب رباً سواي". قوله: (جدية السرج)، النهاية: الجدية: بسكون الدال: شيء يُحشى ثم يربط تحت دفتي السرج والرحلن ويجمع على جديات وجدي بالكسر.

والثاني: أن يُنهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى، على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها كما قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) [النور: 31] فنُهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها. (وَلَا آمِّينَ): ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ): وهو الثواب (وَرِضْواناً): وأن يرضى عنهم، أي: لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم. قيل: هي محكمة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها». وقال الحسن: ليس فيها منسوخ. وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضةً وليس فيها منسوخ. وقيل: هي منسوخةٌ. وعن ابن عباسٍ: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تعظيماً) مفعول له لقول مقدر، أي: قال الله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} الآية، تعظيماً لهم، وقوله: "استنكاراً أن يتعرض لمثلهم" عطف تفسيري لقوله: "تعظيماً لهم". روى محيي السنة أن هذه الآية نزلت في الحُطم شُريح بن ضُبيعة، دخل المدينة وحده، وخلف خيله خارج المدينة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إلام تدعو الناس؟ قال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة"، قال: حسنٌ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم، لعلي أسلم وآتي بهم، ثم خرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخل بوجه كافر، وخرج بوجه غادر"، فمر بسرح المدينة فاستاقه، فتبعوه فلم يدركوهن فلما كان العام القابل خرج حاجاً معه تجارة عظيمة، وقد قلدوا الهدي، فقال المسلمون: يا رسول الله، هذا الحطم قد خرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد قلد الهدي"، فقالوا: هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى الآية.

فنهى اللَّه المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله (لا تُحِلُّوا)، ثم نزل بعد ذلك (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28]، (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) [التوبة: 17]. وقال مجاهد والشعبي: (لا تُحِلُّوا) نسخ بقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5]. وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّ المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم، وأنّ الحج يقربهم إلى اللَّه، فوصفهم اللَّه بظنهم. وقرأ عبد اللَّه: (ولا آمي البيت الحرام) على الإضافة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وابتغاء الرضوان: بأن المشركين كانوا يظنون بأنفسهم أنهم على سداد من دينهم). وقلت: الفائدة في الذكر المبالغة في عدم التعرض، وفي تعظيم الوصف، كما قال: لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، يعني: انظروا على الوصف ولا تنظروا إلى من اتصف به، فعظموه أين وجدتموه وإن كان في عدو مناوئ، فإنه حقيق بالتعظيم، وهذا يُضاد التغليظ في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] حثاً للمسلمين على الاتصاف به، وتأليفاً لقلوب المخالفين، وفيه إشارة إلى أن الرغبة في الحج هي علامة الإيمان، وعنه أمارة الكفر. قوله: (ولا آمي البيت الحرام). قال أبو البقاء: {وَلا آمِّينَ}: ولا قتال آمين أو أذى آمين، وقرئ في الشواذ: "ولا آمي البيت" بحذف النون والإضافة، {يَبْتَغُونَ} في موضع الحال من الضمير في {آمِّينَ} ولا يجوز أن تكون صفة لـ {آمِّينَ}، لأن اسم الفاعل إذا وُصِفَ لم يعمل في الاختيار.

وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون، بالتاء على خطاب المؤمنين. (فَاصْطادُوا) إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقرئ: وإذا أحللتم، يقال حلّ المحرم وأحلّ. «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين. تقول: جرم ذنباً، نحو كسبه، وجرمته ذنباً، نحو: كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنباً، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حُميد بن قيس والأعرج) وفي نسخة: "الأعرج" بلا واو، وهو الأصح. في "جامع الأصول" قال: أبو صفوان حُميد بن قيس الأعرج المكي مولى لآل الزبير، ويقال: مولى لبني فزارة، سمع مجاهداً وعطاء، وروى عنه مالك والثوري. قوله: ("تبتغون" بالتاء على خطاب المؤمنين) وهذا أبلغ من الأول في الإنكار، لأنه تعالى أثبت للكفار الفضل الكائن من خالقهم ورازقهم، ثم أنكر على المسلمين ابتغاء ذلك، وفيه شمة من معنى الحسد، كما تقول: تُعارضني فيما رزقني ربي، ويظهر على الخطاب فائدة تخصيص الرب بالذكر. قوله: (إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم). قال الزجاج: ومثله: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت فادخلها، أي: إذا أديت أبيح لك دخولها. قوله: (وقرئ بكسر الفاء) أي: فاصطادوا، وقيل: كسر الفاء إمالة لإمالة ما بعده، نحو: "عماداً" على مذهب من يميله.

على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنباً. وعليه قراءة عبد اللَّه: (ولا يجرمنكم) بضم الياء، وأوّل المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني: (أَنْ تَعْتَدُوا). و (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة متعلق بالشنآن بمعنى العلة، والشنآن: شدّة البغض. وقرئ: بسكون النون، والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قومٍ لأن صدّوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه. وقرئ: (إن صدوكم) على «إن» الشرطية. وفي قراءة عبد اللَّه: (إن يصدوكم). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرِئَ بسكون النون) أي: : "شنآن": أبو بكر وابن عامر في الموضعين، والباقون: بفتحها. قوله: (لأن صدوكم) هو متعلق بقوله: "بُغضُ قوم" على التعليل "والاعتداء" مفعول "يُكسبنكم". تلخيص المعنى: لا يحملنكم على الاعتداء بُغض قوم تبغضونهم لأجل أن صدوكم عن المسجد الحرام. قال الواحدي: لا يحملنكم بُغض كفار مكة أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام أن تعتدوا على حُجاج اليمامة فتستحلوا منهم محرماً. قوله: (على "إن" الشرطية) ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بفتحها، وقيل: فيه ضعف من حيث إنهم لا يقدرون على الصد بعد فتح مكة، ويمكن أن يُحمل على الفرض والتقدير للمبالغة، وبيانه: أن قريشاً وصدهم إياكم يوم الحديبية كان عناداً وبغياً؛ لان من شأن البيت الحرام وتعظيم شعائر الله وحُرمتها أن لا يصد من يقصده، فصدهم ذلك في عدم الاعتداد كلا صد فحقه أن يُفرض كما يُفرض المحالات، قال صاحب "المفتاح" في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]: فيمن قرأ: (إن

ومعنى صدّهم إياهم عن المسجد الحرام: منع أهل مكة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروهٍ بهم. (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى): على العفو والإغضاء (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ): على الانتقام والتشفي، ويجوز أن يراد العموم لكل برّ وتقوىً، وكل إثمٍ وعدوانٍ، فيتناول بعمومه العفو والانتصار. [(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 3]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنتم)، بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف وتصوير أن الإسراف من العاقل في مثل هذا المقام واجب الانتفاء حقيق أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض. قوله: (ويجوز أن يُراد العموم لكل بر وتقوى)، وهذا أولى لتصير الآية من جوامع الكلم ويكون تذييلاً للكلام السابق، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] والعفو والإغضاء أيضاً، وفي النهي عن الإثم والعدوان عدم التعرض لقاصدي البيت الحرام دخولاً أولياً، وعلى الوجه الأول يكون عطفاً على {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} من حيث المعنى، لأنه من باب لا أرينك ها هنا، كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي البيت الحرام لأجل أن صدكم قريش عن البيت الحرام، وتعاونوا على العفو والإغضاء، ومن ثم قيل: الوقف على {أَنْ تَعْتَدُوا} لازم؛ لأن الاعتداء منهيٌّ عنه والتعاون

كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات؛ البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي: رفع الصوت به لغير اللَّه، وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه. (وَالْمُنْخَنِقَةُ): التي خنقوها حتى ماتت، أو انخنقت بسببٍ. (وَالْمَوْقُوذَةُ): التي أثخنوها ضرباً بعصا، أو حجرٍ حتى ماتت. (وَالْمُتَرَدِّيَةُ): التي تردّت من جبلٍ، أو في بئرٍ فماتت. (وَالنَّطِيحَةُ): التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على البر مأمور به. و"تقوى" أصلها "وَقْيا" من وقيت، فقلبت ياؤه واواً على قياس باب فعلى من الياء اسماً، ثم قُلبت واوُ الأولى تاء كما في قولك: تقي وهي غير منصرفة. قوله: (تموت حتف أنفها)، النهاية: الحتف: كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه، فإن جُرح تخرج من جراحته. قوله: (في المباعر) هي موضع البعر، وهي الأمعاء. قوله: (من فزدله) قال الميداني: الفصيد. دمٌ كان يُجعل في معي- من: فصد عرق البعير - ثم يُشوى ويطعم الضيف، النهاية: أصله فُصدَ له، فصار "فُزد له" بالزاي، ثم خفف بالزاي على لغة طييء، وأول من تكلم به حاتم، معناه: لم يُحرم من الضيافة من عُمل له الفصيد، وهذا مثلٌ، ومعناه: لم يُحرم من نال بعض حاجته وإن لم ينلها كلها.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) بعضه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ): إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح، وتشخب أوداجه. وقرأ عبد اللَّه: (والمنطوحة). وفي روايةٍ عن أبي عمرو: (السَّبُعُ) بسكون الباء. وقرأ ابن عباسٍ: (وأكيل السبع). (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) كانت لهم حجارةٌ منصوبةٌ حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها، تسمى الأنصاب، والنصب واحد. قال الأعشى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} بعضه) أي: وما أكل منه السبع فمات، قال القاضي: هذا يدل على أن جوارح الصيد إذا الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل. قوله: (إلا ما أدركتم ذكاته). قال الزجاج: التذكية: أن يدرك ما يباح أكله من الحيوان وفيه بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدرك ذكاته، وأصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن، والذكاء في الفهم، وهو أن يكون تماماً سريع القبول، وذكيت النار: تممت اشتعالها، فمعنى {مَا ذَكَّيْتُمْ}: أدركتم ذبحه على التمام، وقال القاضي: ومعنى {مَا ذَكَّيْتُمْ}: ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة، والذكاة شرعاً: قطع الحلقوم والمريء بمحدد. قوله: (وتشخب أوداجه)، النهاية: السيلان، وأصل الشخب: ما يخرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة لضرع الشاة، الأوادح: هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح، واحدها: ودجٌ بالتحريك.

وَذَا النَّصْبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعَاقِبَةٍ وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا وقيل: هو جمع، والواحد نصاب. وقرئ (النُّصُبِ) بسكون الصاد. (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ): وحُرِّم عليكم الاستقسام بالأزلام؛ أي: بالقداح، كان أحدهم إذا أراد سفراً، أو غزواً، أو تجارةً، أو نكاحاً، أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوبٌ على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، وبعضها غُفلٌ، فإن خرج الآمر مضى لطيته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عوداً. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قُسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل: هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذا النصب المنصوب لا تعبدنه) البيت. تمامه: لعاقبة والله ربك فاعبدا ولو لم يكن النصب واحداً لقال: المنصوبات أو المنصوبة، ولقال: ذي مكان ذا، ولقال: لا تعبدنها. قوله: (فاعبُدا) أصله فاعبد، فأبدل النون ألفاً. قوله: (غُفلٌ) أي: لاسمة عليها، النهاية: الأغفال: الأرض المجهولة التي ليس فيها أثرٌ تُعرف به. قوله: (مضى لطيته)، النهاية: فعلة من: طوى، وفي الحديث لما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب، قالوا: يا محمد، اعمد لطيتك، أي: امض لوجهك وقصدك. قوله: (أجالها عوداً) أي: عائداً، أو: أعادها عوداً.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ): الإشارة إلى الاستقسام، أو إلى تناول ما حرّم عليهم؛ لأنّ المعنى: حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره يالأزلام- لتعرف الحال- فسقاً؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال: (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: 65] واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي، ونهاني ربي، افتراءٌ على اللَّه، وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ ! والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم، فأمره ظاهر. (الْيَوْمَ) لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شاباً، وأنت اليوم أشيبُ، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا بـ"اليوم" يومك، ونحوه «الآن» في قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والكهنة والمنجمون بهذه المثابة). قال الزجاج: لا فرق بين ذلك وبين المنجمين، فلا يقال: لا أخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأنه دخول في علم الله تعالى الذي هو غيب، وهو حرام كالأزلام، والاستقسام بالأزلام فسق، والفسق: اسم لكل ما أعلم الله عز وجل أنه مخرج عن الحلال إلى الحرام، نقل الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" عن القاضي: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب، أحدها: أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا

الآنَ لمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى ... وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِى عَلَى لَجذَمِ وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة- وكان يوم عرفة- بعد العصر في حجة الوداع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بُعد في وجوده، ولكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، والثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف: وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعى معرفتها بها كالزجر بالطير والطرق بالحصا، وهذه الأضرب كلها سميت كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. قوله: (الآن لما ابيض مسربتي، وعضضت من نابي على جذم)، المسربة، بضم الراء: الشعر المستدق الذي يأخذ من الصدر إلى السرة، والجذم: الأصل، ويريد هنا أصل الأسنان، يقول: تحاتت أسناني من الكبير حتى عضضت على أصله، قال الميداني: يُضرب للمنجذ المحنك، أي: المُجرب. قوله: (وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة)، روينا عن الترمذي، عن عمر رضي الله عنه: أنزلت يوم عرفة، وفي رواية: بعرفات في يوم الجمعة. رواه أحمد بن حنبل في "مسنده" أيضاً.

(يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ): يئسوا منه أن يبطلوه، وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرّمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه، لأن اللَّه عز وجل وفى بوعده من إظهاره على الدين كله. (فَلا تَخْشَوْهُمْ) بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعد ما كانوا غالبين (وَاخْشَوْنِي): وأخلصوا لي الخشية. (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ): كفيتكم أمر عدوّكم وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد: إذا كفوا من ينازعهم الملك، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو: أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد. (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأخلصوا لي الخشية) دل على الخلوص ورود الأمر بعد النهي. قوله: (كفيتكم أمر عدوكم) يريد أن قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] جُملة مستأنفة لبيان موجب نهي الخشية، وهو بظاهره لا يدل على ذلك، فأولها بقوله: "كفيتكم أمر عدوكم" على سبيل الكناية، أي: لا تخشوهم واخشوني لأني كفيت شرهم، وجعلت اليد العليا لكم. قوله: (وقوانين القياس وأصول الاجتهاد)، قال الإمام: المرادُ بإكمال الدين: أنه تعالى بيَّن حُكم جميع الوقائع، بعضها بالنص، وبعضها بطريق يُعرف الحكم بها، وأمر بالاستنباط وتعبد المكلفين به، فكان ذلك بياناً في الحقيقة. قوله: ({وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بفتح مكة) متفرعٌ على قوله: "كفيتكم أمر عدوكم" على

وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأن لم يحجّ معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) بذلك، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التكميل؛ لما عُلم من الأول: زوال الخوف وحصول الأمن، ومن الثاني: الغلبة وقهر الأعداء، فإنه لما وصفهم بحصول الأمن وكفاية شر الأعداء رأى الوصف غير تام فكمل بالفتح والنصرة وقهر الأعداء. قوله: (أو أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع) متفرعٌ على قوله: "أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم"، والإتمام بمعنى التتميم الاصطلاحي، فإن قوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} دل بمفهومه على نعمة خطيرة فتنبه، وتممه بقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بذلك"، أي: بإكمال الدين، وقوله: "لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام". روى الإمام عن القفال أنه قال: الشرع أبداً كان كاملاً وإن الشرائع في كل وقت كانت كافية بحسب اقتضاء ذلك الوقت، لكن بحسب النسبة على بعضها كانت كاملة وأكمل، ولهذا كان يُزاد في كل وقت ويُنسخ، وأما في آخر زمان المبعث فإنه تعالى أنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، ولذلك قال تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، ويمكن أن يقال: إن الشرائع كانت كاملة في كل زمان بالنسبة إلى أهله، وكل من كان مكلفاً فيه، لكن كمالها بالنسبة إلى جميع المكلفين إلى آخر الزمان إنما حصل في ذلك اليوم. الراغب: قيل: إن الأديان الحق كلها جارية مجرى دين واحد، وكان قبل الإسلام في النقص

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين إفراط وتفريط بالإضافة إلى شريعتنا، وذلك على حسب ما كنت تقتضي حكمة الله تعالى في كل زمان، فكمله الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعله وسطاً مصوناً عن الإفراط والتفريط، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "مثلُ الأنبياء كرجل بني داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، وجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع تلك اللبنة" أخرجه البخاري والترمذي عن جابر، وزاد مسلم في حديثه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع تلك اللبنة جئت فختمت الأنبياء". قال الراغب: هذا هو الذي يقتضي أن تكون شريعته مؤبدة ولا تُنسخ ولا تغير، فالأشياء في التغيير والتنقل مالم تكمل، فإذا كمُلت فتغييرها فسادٌ لها، ولهذا قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32]. فإن قيل: كيف يقال: إن الأديان كلها ناقصة قبل المبعث وأن يكون دينه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك اليوم ناقصاً؟ قيل: الكامل والناقص من الأسماء المتضايفة التي تُقال باعتبار بعضها ببعض، كالصبي إذا اعتبر بالرجل فهو غير كامل، وإذا اعتبر بمن هو على سنه فهو كامل إذا لم يكن مؤوفاً، فكذلك دين الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اعتبر بأهل زمانهم كان كاملاً، وإذا اعتبر بدين النبي صلى الله عليه وسلم وزمانه لم يكن كاملاً، وليس النقصان المستعمل هو النقص المذموم، فلفظة ناقص تستعمل على وجهين. فإن قيل: كيف يقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} ودينه دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام حيث قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]؟ قيل: إن هذا الدين

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]، (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء: 92]. فإن قلت: بم اتصل قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ)؟ قلت: بذكر المحرّمات. وقوله: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو دين إبراهيم من حيث إنهما داعيان إلى الحق ومشتركان في الأصول، لكن الذي شُرع على لسان إبراهيم كان مبدأ الإسلام، وما شُرع على لسان محمد صلى الله عليه وسلم كان خاتمة الإسلام، ولهذا كان مؤبداً ناسخاً لفروع ما تقدم، وإليه أشار بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وهذا ظاهر لمن عرف قوانين الكلام. قوله: (اخترته لكم من بين سائر الأديان) يعني ضمن "رضى" معنى "اختار" لتعديته باللام دون "عن"، ودل الاختيار على المختار منه، وهو سائر الأديان. قوله: (وآذنتكم) عطفٌ على قوله: "اخترته"، وفيه إيذان إلى معنى الإدماج وإشارة النص، يعني: إنما خصصت الإسلام الذكر وأوقعت الدين تمييزاً عنه لأوذنكم بأنه هو الدين المرتضى دون غيره لما عرفتم من قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وإنما أوردت لفظ {لَكُمْ} لأعلمكم أني ما اخترت لغيركم هذا الدين، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وذلك لما عرفتم من قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92]. قال في تفسيره: "هذه إشارة إلى ملة الإسلام، أي: أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة". ومثل دلالة قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} على قوله: "إنه

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل. ومعناه: فمن اضطرّ إلى الميتة أو إلى غيرها (فِي مَخْمَصَةٍ): في مجاعةٍ (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ): غير منحرفٍ إليه، كقوله: (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة: 173] (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ): لا يؤاخذه بذلك. [(يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الدين المرضي وحده" بالاختصاص مع انضمام قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] دلالة قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، على أن مدة الحمل ستة أشهر. الراغب: نبه بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} على أن الإسلام هو الدين المرتضى على الإطلاق لا تبديل له ولا تغيير، وسائر الأديان قبله كان مرتضى وقتاً دون وقت، وعلى وجه دون وجه، ولقوم دون قوم، وهذا الدين بعد أن شُرع كان مرتضى في كل وقت، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسى: "لو كان حياً ما وسعه إلا اتباعي"، ولأجل ذلك قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. قوله: ({ذَلِكُمْ فِسْقٌ}: اعتراض) وكذلك ما بعده، وهي سبع جُمل، وفي هذا الاعتراض البليغ، وتقدم بيان تحريما المطعم على سائر الأحكام إيذانٌ باهتمام أمر المطعم، وأن قاعدة الأمر

في السؤال معنى القول؛ فلذلك وقع بعده (مَاذا أُحِلَّ لَهُمْ)، كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحلّ لهم؟ وإنما لم يقل:ماذا أحلّ لنا؛ حكاية لما قالوه، لأنّ (يسألونك) بلفظ الغيبة، كما تقول أقسم زيد ليفعلنّ. ولو قيل: لأفعلنّ وأُحِلَّ لنا، لكان صواباً. و(ماذا) مبتدأ، و (أُحِلَّ لَهُمْ) خبره كقولك: أي: شيء أحل لهم؟ ومعناه:ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم منها، فقيل: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي: ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأساس الدين مبني عليه، لأن به يتمكن المكلف من العبادة، ويؤيده ما روينا عن مسلم والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟ "، ومسلم لم يذكر الملبس، انظر إلى الحديث أيضاً كيف كر إلى قوله: "وغُذي بالحرام" بعد قوله: "ومطعمه حرام". قوله: (وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة)، الراغب: الطيب التام هو الذي يستلذ عاجلاً وآجلاً، وذلك هو الحلال الذي لا يعقب مأثماً.

(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على (الطيبات) أي: أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية، وجوابها (فَكُلُوا). والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تجعل {مَا} شرطية) عطفٌ على قوله: "وصيد ما علمتم فحذف المضاف"، فعلى الأول: {ما} موصولة، و {مِنْ الْجَوَارِحِ} بيانية، وعلى هذا: {ما} شرطية على تقدير المضاف أيضاً، رُوي عن المصنف أنه سُئل عنه وقيل: فإذن يبطل كونها شرطية؟ فقال: لا، لأن المضاف إلى الاسم الحامل لمعنى الشرط في حكم المضاف إليه، تقول: غلام من تضرب أضرب. وقال صاحب "اللباب": فإن تقدم أسماء الشرط الجار فالمعنى الموجب لها التصدر، فقدر قبله لاتحاده بها، فعلى هذا يكون تقدير غلام من تضرب أضرب: إن تضرب غلام زيد أضرب، وفيه بحث؛ لأنه ليس من مواضع وضع المظهر موضع المضمر في الجزاء- يعني قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وُضع موضع ضمير"صيد ما علمتم" لما دل ذلك على التعظيم والفخامة- لكن هو من التكرير الذي لا يُناط به حكم آخر من قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} الآية. ويُمكن أن يقال: إن السائل كأنه كان متردداً في حل ما أمسكه الضواري، فتقدم في الجواب {أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} وعطف عليه "صيد ما علمتم" اختصاصاً له، ثم زيد في المبالغة بأن جعل الجزاء عين الشرط، ويجوز أن لا يُقدر المضاف فتكون الجملة الشرطية معطوفة على جملة قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ}، فعلى هذا "أو تجعل" في الكتاب عطفٌ على قوله: " {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} عطفٌ على {الطَّيِّبَاتُ} ".

والمكلب: مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلباً. ومنه قوله عليه السلام «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مُكَلِّبِينَ) على الحال من (علمتم). فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بـ (علمتم) قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومُضريها بالصيد) التضرية: الإضراء، الأساس: سبعٌ ضار، وقد ضري بالصيد ضراوة، وأضرى الصائد الكلب والجارح، ومن المجاز: ضري فلان بكذا وعلى كذا: إذا لهج به، وأضريته وضريته وضريت عليه. قوله: (والتثقيف) الأساس: ومن المجاز: أدبه وثقفه، ولولا تثقيف، ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئاً، وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك؟ النهاية: غلام ثقف، أي: ذو فطنة وذكاء. قوله: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)، الحديث موضوع، وسيجيء الكلام عليه في سورة النجم.

مدرّبا فيه، موصوفا بالتكليب. و (تُعَلِّمُونَهُنَّ) حالٌ ثانيةٌ، أو استئناف. وفيه فائدة جليلةٌ: وهي أن على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله! (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) من علم التكليب، لأنه إلهام من اللَّه ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مُدرباً) من الدربة: التجربة، الأساس: درب بالأمر دُربة، وتدرب، وهو دربٌ به: عالم، وهو مجرب مُدرب. قوله: (اقتل أهله علماً) أي: أبلغهم، يقال: قتل أرضاً عالمها، أي: ذللها بالعلم، ورجلٌ مُقتل: مجرب. الأساس: ومن المجاز: دابة مقتلة: مذللة قد مرنت على العمل وقتلته خُبراً وعلماً. قوله: (أن يضرب إليه أكباد الإبل) أي: تُركب الإبل وتُضرب على أكبادها بالرجل، مقتبس من قوله صلوات الله وسلامه عليه: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة"، اخرجه الترمذي عن أبي هريرة، قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس، وكذا قال ابن عيينة. قوله: ({مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} من علم التكليب، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل، أو مما عرفكم الله أن تعلموه) إلى آخره، هذا الثاني أولى، فدلت الحال الأولى على أن معلم الكلب ينبغي أن يكون مدرباً في تلك الصفة، يعلم لطائف الحيل وطرق التأديب فيها كما عليه جملة الصيادين، ولا شك أن ذلك لا يتم إلا بالإلهام والعقل الذي منحه الله تعالى، والحال الثانية

أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره، وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه، وأن لا يأكل منه. وقرئ: (مُكَلِّبِينَ) بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيراً. والإمساك على صاحبه: أن لا يأكل منه، لقوله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم: «وإن أكل منه، فلا تأكل، إنما أمسك على نفسه» وعن علي رضي اللَّه عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أنه ينبغي أن يكون فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع "من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره، وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه، وأن لا يأكل منه"، وفيه إدماج لتلك الفائدة الجليلة التي ذكرها مع الإشارة إلى أن العالم وإن كان أوحدياً متبحراً في العلوم ينبغي أن يكون محدثاً ملهماً من عند الله تعالى، مجانباً مشارب علمه عن كدوره الهوى ولوث النفس الأمارة، مستعداً لفيضان العلوم اللدنية، مقتبساً من مشكاة الأنوار النبوية. والذي يؤيد هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن عدي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب، فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلبٌ من غيرها فلا تأكل". قوله: (أن تُعلموه) هو مفعول ثان لقوله: "مما عرفكم"، والضمير المنصوب في "تعلموه" عائد إلى "ما"، والمفعول الثاني محذوف، أي: مما عرفكم الله أن تعلموه الكلب، وقوله: "من اتباع" بيان "ما. قوله: (على نفسه) حالٌ، أي: مستعلياً ومستولياً عليها كما تقتضي طبيعته وجبلته، لا على

وفرق العلماء، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها تؤدّب بالضرب، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلاً، ولم يفرق بين إمساك الكل والبعض. وعن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم: إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم اللَّه عليه فكل. فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)؟ قلت. إما أن يرجع إلى (مما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى (وما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله. [(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)]. (وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم، ويستوي في ذلك جميع النصارى. وعن علي رضي اللَّه عنه: أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس. وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه. وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه: هم صنفان: صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة. وصنف لا يقرؤون كتاباً ويعبدون النجوم، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنفسكم، فعُلِم أن العقل لا استقلال له في أمور الدين، وأن العلوم الدينية المشوبة بهوى النفس لا اعتداد بها.

فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوس فقد سُنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد روي عن أبي المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر اسم اللَّه ويذبح، فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء. (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فلا عليكم أن تطعموهم، لأنه لو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. (والْمُحْصَناتُ): الحرائر، أو العفائف. وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق، وكذلك نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات؛ فعند أبي حنيفة: هن كالمسلمات، وخالفه الشافعي. وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات ويحتج بقوله (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ) [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد أكثر اللَّه المسلمات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات)، الراغب: وإذا سُئل عن ذلك يقرأ: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، ويقول في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: من الذين كانوا منهم وأسلموا، كقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]، وغيره حمل قوله: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] على أهل الأديان والمجوس، وأكد ذلك بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، والنكاح يقتضي المودة، كقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وقال من جوز التزوج بهن: إن المودة المنهي عنها هي المودة الدينية، وأما المودة الزوجية فهي غير محظورة.

وإنما رخص لهم يومئذٍ. (مُحْصِنِينَ): أعفاء. (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ): صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بشرائع الإسلام وما أحلّ اللَّه وحرّم. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)]. (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) كقوله: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه) [النحل: 98] وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه، في أن المراد إرادة الفعل. فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهي قصده إليه وميله وخلوص داعيته، فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر؛ أي: لا يقدران على الطيران والإبصار، ومنه قوله تعالى: (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ}: بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم) يريد أن قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ} إلى آخره كالتذييل والتأكيد لقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} تعظيماً لشأن ما أحله الله وما حرمه، وتغليظاً على من خالف ذلك. قوله: (الإنسان لا يطير) وضع "يطير"، الذي هو المسبب عن القدرة، موضع السبب الذي هو القدرة عليه، وهو الذي عناه بقوله: "فكما عُبر عن القدرة على الفعل بالفعل".

يعني: إنا كنا قادرين على الإعادة، كذلك عُبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك أن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام، ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم: كما تدين تدان؛ عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه. وقيل: معنى (قمتم إلى الصلاة): قصدتموها؛ لأنّ من توجه إلى شيءٍ وقام إليه كان قاصداً له لا محالة، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معنى {قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: قصدتموها) عطفٌ على قوله: " {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} كقوله: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] "، وقيل في الفرق: إن المعنى على الأول: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وقصدتموها، وعلى هذا: إذا أردتم الصلاة وقصدتموها، وفيه نظرٌ، لأن الإرادة هي القصد المخصوص لما فسرها بقوله: "وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه" بل المراد من القصد مطلق الميل من غير الداعية الخالصة التي تستلزم النية. وأيضاً يُفهم من إرادة القيام إلى الصلاة الأخذ في مقدمتها وشرائطها، ومن ثم عقبها بقوله: {فَاغْسِلُوا} وليس كذلك القصد إلى مُطلق الصلاة والأول أوجه. وقال القاضي: وفائدة هذه الطريقة التنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة. الراغب: ظاهر الآية يقتضي أن لا يجب في الوضوء النية، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة في النص تقتضي النسخ، ونسخ القرآن لا يجوز اتفاقاً بخبر الواحد وبالقياس، فلا يصح إذاً إثبات النية، وقال بعض الشافعية: بل الآية تقتضي إيجاب النية، لأن معنى قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ}: إذا أردتم، ولو لم يكن معناه ذلك لم يكن لذكره فائدة،

فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والخلفاء بعده، أنهم كانوا يتوضؤون لكل صلاة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال بعضهم: الآية تقتضي الترتيب، لأن الفاء في قوله: {فَاغْسِلُوا} تقتضي ترتب غسل الوجه على القيام، فإذا ثبت ترتب غسل الوجه على القيام ثبت في غيره؛ لأن أحداً لم يفصل، وليس ذلك بشيء، فإن الفاء وإن اقتضى الترتيب فإن مقتضى ذلك في الجملة لا في البعض، ولم يقتض ترتيب الأعضاء المأمور بغسلها بعضها على بعض، والأظهر أن الترتيب اقتضاه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به"، وفعله الذي فعله بياناً للآية، وقد رتب ثم قال: "هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاة إلا به". ويمكن أن يقال: والنظم أيضاً يقتضي الترتيب؛ لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالهم، فالأحوط مراعاة الترتيب. الانتصاف: قوله: "لان الفعل يوجد بقدرة القادر ... " إلى آخره يستقيم من السُّني والمعتزلي، السني يقول: الفعل يوجد بقدرة العبد مقارناً لها، والمعتزلي يقول: مخلوقاً بها. قوله: (وأن يكون للندب). قال صاحب "الفرائد": لا يجوز أن يكون للندب، لأن الإجماع مُنعقد على أن الوضوء للصلاة فرض، لأن الأمر للوجوب إلا لمانع، وقال: أما الجواب عن السؤال الذي أورده في "الكشاف" فهو أن يقال: تقدير الآية: وأنتم محدثون، بوجهين، أحدهما: أنه يستحيل بدون هذا التقدير أن يتفصى المكلف عن عهدة التكليف؛ لأنه إذا

وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "من توضأ على طهر كتب اللَّه له عشر حسناتٍ". وعنه عليه السلام: أنه كان يتوضأ لكل صلاةٍ، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه فصلى الصلوات الخمس بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه! فقال: «عمداً فعلته يا عمر» يعنى بياناً للجواز. فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملاً للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت: لا، لأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أراد القيام إلى الصلاة وجب عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأراد القيام إلى الصلاة وجب عليه مرة أخرى أن يتوضأ، وهلم جراً، وثانيهما: أن التيمم بدل من الوضوء، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، والبدل لا يمكن أن يكون مخالفاً للمبدل منه في السبب، وإلا لا يكون البدل بدلاً، فلما كان موجب التيمم عند عدم الماء حالة الحدث كان كذلك في الوضوء؛ لأنه إما سببٌ أو شرط. قوله: (من توضأ على طهر) الحديث أخرجه الترمذي عن ابن عمر. قوله: (فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه) الحديث رواه بريدة، وأورده مسلم وأبو داود والترمذي، وليس فيه أنه كان يتوضأ لكل صلاة. قوله: (الإلغاز والتعمية) لم يرد به الإلغاز المتعارف، وهو أن يطلق لفظة لها معنيان: قريبٌ وبعيد، ويراد بها البعيد غير مصحوبة بالقرينة، بل مراده أن اللفظ عند إرادة الحقيقة لا

وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض، ثم نسخ. و(إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحتاج إلى القرينة، وعند إرادة المجاز يفتقر إليها، فلا يُعلم المقصود قطعاً، ومن قال بالقدر المشترك، وهو رجحان الفعل على الترك، لا يلزمه الإلغاز. الانتصاف: قد أجاز ذلك الشافعي رضي الله عنه وغيره، ثم ما ذكره الزمخشري مبني على أن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، أما إذا قلنا: إنه بمجرد الطلب، وهو القدر المشترك، صح تناولهما، فللمحدثين وجوباً، وللمتطهرين ندباً. قوله: (وقيل: كان الوضوء) عطف على قوله: "يحتمل أن يكون". قوله: (كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فُرض ثم نُسخ)، قال القاضي: وهو ضعيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها"، وروينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن جبير بن نفير، قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه. وعن الترمذي، عن عبد الله بن عمرو، قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة. قوله: {إِلَى} تفيد معنى الغاية مطلقاً)، قال صاحب "الفرائد": ذكر صاحب "الكشاف"

لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره؛ لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء: 1] لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله: (إِلَى الْمَرافِقِ) و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في "المفصل"، أن "إلى" لا يدخل ما بعدها فيما قبلها، بخلاف "حتى"، وذكر هاهنا أن "إلى" لمطلق الغاية. وقلت: الذي ذكره في "المفصل": و"حتى" في معناه، إلا أنها تفارقها في أن مجرورها يجب أن يكون آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه. وقال أيضاً: إن من حق "حتى" أن يدخل ما بعدها فيما قبلها، وهذا لا يدل على أن حكم "إلى" ما ذكره، بل حكمها أعم كما ذكره في "الكتاب". وفي "الإقليد": و"إلى" مطلقة تستعمل في كل غاية. نعم، هو مما خالف فيه النحويون على ما ذكره ابن الحاجب: وقد جاءت "إلى" وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها، وجاءت ما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك، ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول، وعليه النحويون، ووجوب دخول المرافق في وجوب الغسل ليس من ظاهر الآية، وإنما حملُ ذلك من السنة. قوله: ) فأخذ كافة العلماء بالاحتياط، فحكموا بدخولها في الغسل، واخذ زفر وداود

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ): المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه، فقد أخذ مالكٌ بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية. وأخذ الشافعي باليقين، فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ما روى: أنه مسح على ناصيته. وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة. فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالمتيقن). وفي "الهداية": المرفقان والكعبان يدخلان في الغسل عندنا، خلافاً لزفر، وهو يقول: إن الغاية لا تدخل تحت المُغيا، كالليل في الصوم. ولنا: أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها، إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل، وفي باب الصوم لمد الحكم إليها، إذ اسم الصوم على الإمساك ساعة. وعني بالمتيقن: ما يقابل الاحتياط، وهو ما يفيده الخطاب بمنطوقه ولا زيادة عليه. قوله: (والمراد إلصاق المشح بالرأس). قال القاضي: والباء تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضي الاسيتعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحو رؤوسكم، فإنه كقوله: واغسلوا وجوهكم. قوله: (قرأ جماعة: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب): نافع وابن عامر واكسائي وحفص، والباقون: بالجر.

فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعطفت على الرابع)، وفي نسخة: "على الثالث"، وقيل: هذا أشبه بإيراد القرآن، ولكن لما كانت الأعضاء الثلاثة المغسولة عبارة عن الوجه واليدين والرجلين فالرابع هذا. وقلت: الرابع أحسن لإيراد الكتاب، لأنه جعل المغسول ثلاثة، فالرابع هو الممسوح ونحوه سبق في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17]، قال: "قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين، فما مرجعه في الثاني؟ " إلى الأول. وميل المصنف في عبارته إلى أن الجر على الجوار، قال ابن الحاجب: والخفض على الجوار ليس بجيد؛ إذ لم يأت في الكلام الفصيح، وإنما هو شاذ في كلام من لا يؤبه له من العرب. قال القاضي: والخفض على الجوار كثيرٌ في القرآن والشعر، كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]، {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجر في قراءة حمزة والكسائي، وقوله: "جُحر ضب خرب" وللنحاة باب في ذلك، وفائدته: التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلاً يقرب من المسح. وقال أبو البقاء: (وحور عين) على قراءة من جر، معطوف على قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18]، والمعنى مختلف، إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين، والجوار مشهور عندهم في الإعراب، والصفات، وقلب الحروف، والتأنيث، فمن الإعراب: ما ذكروا من الصفات، قوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]، وإنما العاصف الريح، ومن قلب

وقيل إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحروف: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، ومن التأنيث: ذهبت بعض أصابعه، ومنه قولهم: قامت هند؛ فلم يجيزوا حذف التاء إذا لم يفصل بينهما فإن فصلوا أجازوا، ولا فرق بينهما إلا المجاورة وعدم المجاورة. قوله: (وقيل {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}) عطف على قوله: "فعُطفت"، ويمكن أن يُجعل هذا جواباً عن قول ابن الحاجب، وذلك أن العطف على الجوار إنما يكون محذوراً إذا وقع الإلباس، وأما إذا انتهضت القرينة على توخي المراد وارتفع بها اللبس فلا بأس، كما أنه تعالى لما عطف الأرجل على الرؤوس وأوهم اشتراكاً في المسح استدرك ذلك بضرب الغاية في الأرجل ليؤذن أن حكمها حكم المغسولة مع رعاية الاقتصاد في صب الماء. وحمل الزجاج الجر على غير الجوار وقال: ويجوز "أرجلكم" بالخفض على معنى: فاغسلوا، لأن قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قد دل عليه، لأن التحديد يفيد الغسل كما في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد، كما قال في الرؤوس: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} من غير تحديد وتنسيق الغسل على المسح، كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً أي: حاملاً رمحاً، واختار صاحب "الانتصاف" هذا الوجه، وكذا ابن الحاجب في "الأمالي" ورد الأول، وقال: هذا الأسلوب، أي: عطف "أرجلكم" على "رؤوسكم" مع

وعن علي رضي اللَّه عنه: أنه أشرف على فتية من قريشٍ، فرأى في وضوئهم تجوزاً، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلاً، ويدلكونها دلكاً. وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إرادة كونه مغسولاً، من باب الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى ولكل واحد متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطفت متعلق المحذوف على المذكور حسب ما يقتضيه لفظه، حتى كأنه شريكه في أصل الفعل، كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً. وقلت: هذا الوجه والعطف على الجوار متقاربان في المعنى، لان صاحب المعاني إذا سئل عن فائدة إضمار قوله: حاملاً والاكتفاء بقوله: متقلداً دون العكس لابد أن يزيد على فائدة الإيجاز بأن يقول: إن الرمح صار في عدم الكلفة في حمله بمنزلة السيف، لا سيما إذا ورد مثل هذا التركيب في كلام الحكيم سبحانه وتعالى، وهنا سر أدق منه، وذلك أنه تعالى لما بين حد الأيدي راعى المطابقة بين الأيدي والمرافق بالجمع، وحين بين حد الأرجل وضع التثنية موضع الجمع، وأنت قد عرفت أن البلغاء إنما يعدلون عن مقتضى الظاهر إلى خلافه لنكتة، والنكتة هاهنا: أنه تعالى لما قرن الرجل مع الرأس الممسوح واهتم بشأنه، أخرجه بهذا المخرج لئلا يتوهم متوهم أن حكمه حكم الممسوح بخلاف المرفقين، كأنه قيل: يا أمة محمد، اغسلوا أيديكم إلى المرافق، ويعمد كل واحد منكم إلى غسل ما يشمل الكعبين من الرجل الواحدة. قوله: (تجوزا)، النهاية: "تجوزوا في الصلاة": خففوها وأسرعوا بها، والمراد بها هنا: التخفيف في الوضوء.

«ويل للأعقاب من النار»، وفي رواية جابر: «ويل للعراقيب». وعن عمر أنه رأى رجلاً يتوضأ، فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه. وعن عائشة رضي اللَّه عنها: لأن تقطعا أحب إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين. وعن عطاءٍ: واللَّه ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسح على القدمين. وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح. وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين. وروي عن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن: (وأرجلكم) بالرفع بمعنى: وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ (فَاطَّهَّرُوا) أي: فطهروا أبدانكم، وكذلك (ليطهركم)، وفي قراءة عبد اللَّه: (فأمّوا صعيداً). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويل للأعقاب من النار) الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبيه، قال: "ويل للأعقاب من النار"، وفي رواية: "ويلٌ للعراقيب من النار". قوله: (بمعنى: وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة) يعني دل على الإضمار قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا} أو {وَامْسَحُوا} فلا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جُعلت القرينة ما عُلم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسُمع منه واشتهر فيما بينهم، كما سبق عن عطاء: والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، كل هذا دافع لتفسير هذه القراءة

(ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) في باب الطهارة، حتى لا يرخص لكم في التيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ): وليُتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيثيبكم. [(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)]. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) وهي نعمة الإسلام (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أي: عاقدكم به عقداً وثيقاً، هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره، فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: "وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة" على الترديد؛ لا سيما العدول عن الإنشائية إلى الإخبارية كأنهم: سارعوا فيه وهو يخبر عنه كما مر مراراً. قوله: (أعوزكم) يقال: أعوزني المطلوب: أعجزني واشتد علي، النهاية: العوز، بالفتح: العدم، وهو سوء الحال. قوله: (وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه) المعنى: جعل الله نعمة الرخصة تتميماً لنعمة العزائم، ثم تمم بهما نعمة الإسلام، ويخلص إلى قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. النهاية: عوازم الأمور: فرائضها التي عزم الله عليكم، والعزائم: الجد والصبر. قوله: (على السمع والطاعة) عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن عُبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)]. عدّى (يَجْرِمَنَّكُمْ) بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدّى به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: المنشط: مفعل من النشاط، وهو الأمر الذي تنشط له وتؤثر فعله، وهو مصدر بمعنى النشاط، وروى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في "مسنده"، عن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه: وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، قال ابن الجوزي: كانت هذه المبايعة في العقبة الثانية في سنة ثلاث عشرة من النبوة، وأما العقبة الأولى ففي سنة إحدى عشرة، قال عبادة بن الصامت: فبايعناه بيعة النساء: أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وأما بيعة الرضوان: فقد روينا عن مسلم والترمذي والدارمي والنسائي، عن جابر، في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] قال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت، ولمسلم: سُئل جابر: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مئة، فبايعناه وعمر ىخذ بيده تحت الشجرة.

كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: (أَنْ تَعْتَدُوا) بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «من اتبع على مليءٍ فليتبع»؛ لأنه بمعنى: أحيل. وقرئ (شَنَآنُ) بالسكون. ونظيره في المصادر (ليان)، والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} بمعنى: على أن تعتدوا) يريد أن قوله: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ} لما عُدي هاهنا بـ "على" على تضمين "لا يحملنكم" يجوز أن يُعدى أيضاً في أول السورة عند قوله: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] بالتضمين وتقدير "على" لاستوائهما في تأدية المعنى، وكان مفعولاً ثانياً فيما سبق. قوله: (من أُتبع على ماليء فليتبع) أي: عدى "أتبع" بـ "على" لما تضمن معنى "أحيل"، وألا فالقياس "أتبع مليا" كقوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. النهاية: في حديث الحوالة: "إذا أتبع أحدكم على مليء فيتبع"، أي: إذا أحيل على قادر فليحتل، قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه "اتبع" بتشديد التاء، وصوابه بسكون التاء بوزن: "أكرم"، وليس هذا أمراً على الوجوب، وإنما هو على الرفق والأدب. قوله: (ونظيره في المصادر: ليان): والليان بالفتح: المصدر من اللين، نقول: هو في ليان من العيش، أي: في نعيم. الجوهري: ولواه بدينه لياً ولياناً، أي: مطله. قوله: (لا يحملنكم بغضكم للمشركين) وذلك أن الله تعالى لما فتح مكة أمر المسلمين بان لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل والحكم.

فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثله، أو قذفٍ، أو قتل أولاد أو نساءٍ، أو نقض عهدٍ، أو ما أشبه ذلك. (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى): نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل؛ تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل، وهو قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي: العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها، أو: أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها. وفيه تنبيهٌ عظيمٌ على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء اللَّه إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ): بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعداً فقيل: أي: شيء وعده لهم؟ فقيل: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: أقرب إلى التقوى) أي: أنتم متقون والعدل أنسب إليكم من غيركم، أو: أنتم طالبون للتقوى فاعدلوا فإنه سبب فيها ووسيلة إليها، وهو المراد من قوله: "لكونه لطفاً فيها". الراغب: إن قيل: كيف قال: {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} و"أفعل" إنما تقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية؟ وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من جملة العدالة، فما معنى قوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؟ قيل: إن "أفعل"- وإن كان كما ذكرت -وقد تستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعاً لكلامه وإظهاراً لتبكيته، فيقال لمن اعتقد مثلاً في زيد فضلاً، وإن لم يكن فيه فضل، ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمراً أفضل منه، فقال: اخدم عمراً هو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] وقد عُلم أن لا خير فيما يشركون. قوله: (كأنه قال: قدم لهم وعدا) يعني: لما كان قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} بياناً لقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على سبيل الاستئناف، وكان الواجب

أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء (وعد) مجرى "قال" لأنه ضرب من القول. أو يجعل (وعد) واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة، كما وقع (تركنا) على قوله: (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) [الصافات: 79] كأنه قيل: ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رعاية المطابقة بين البيان والمبين، وقد أتى في البيان باللام، فوجب أن يؤول المبين بما يشتمل عليها، ولذلك قال: "كأنه قيل: قدم لهم وعداً" ليون مورداً للسؤال المتضمن للام، وهو قوله: "أي شيء وعده لهم؟ ونظيره قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87]، قال الإمام: هذا محمول على المعنى، لأن معناه: لمن السماوات؟ فقيل: لله، ونحوه قول الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا قوله: (أو على إجراء {وَعَدَ} مجرى "قال" (. قال الزجاج: "وعد" بمنزلة "قال"؛ لأن الوعد لا ينعقد إلا بالقول. قوله: (واقعاً على الجملة) أي: هو مفعول به، أي: وعد هذا القول وهو قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةً}. قوله: (كما وقع "تركنا")، قال المصنف: هذه الكلمة، وهي {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، يعني: يسلمون عليه تسليماً ويدعون له، من الكلام المحكي، كقولك: قرأت {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور: 1]، قيل: لو لم يكن على الحكاية لكان القياس "سلاماً"؛ لأنه مفعول "تركنا"، أي: تركنا سلاماً عليه.

وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم، وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ)]. الْمُؤْمِنُونَ)]. روي أن المشركين رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً، وذلك بعسفان في غزوة ذي أنمار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول فقد وعدهم مضمونه) يريد أن هذه الآية تفيد ما أفاده قوله تعالى في الفتح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29]، وإن كان القصد هاهنا القول وهناك الموعود؛ لأن الكريم إذا نطق بالوعد لا يخلف وعده، وكان الموعود حاصلاً، ولهذه الطريقة فائدة زائدة، وهي استرواح السامع باللفظ مع توطين النفس بإنجازه، فيسهل عليه تحمل المشاق، ولذلك جاء قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] واسترواحاً عند حضور الموت. قوله: (ويستروحون إليه)، الجوهري: أراح الرجل: رجعت نفسه إليه بعد الإعياء، وأروح واستروح واستراح بمعنى، فيا لكلام لف ونشر بغير ترتيب. قوله: (أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا) قيل: "قاموا": حال، و"قد" مُقدرة، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولاً ثانياً.

فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون: صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فنزل جبريل بصلاة الخوف، وروي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الشيخان وعليّ رضي اللَّه عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفةٍ وهموا بالفتك به، وعمد عمرو بن جحاشٍٍ إلى رحىً عظيمةٍ يطرحها عليه، فأمسك اللَّه يده ونزل جبريل فأخبره، فخرج. وقيل: نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها، فعلق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سلاحه بشجرةٍ، فجاء أعرابي فسلّ سيف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: "اللَّه"، قالها ثلاثاً. فشام الأعرابي السيف فصاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه. يقال: بسط إليه لسانه: إذا شتمه، وبسط إليه يده: إذا بطش به. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة: 2] ومعنى بسط اليد: مدّها إلى المبطوش به. ألا ترى إلى قولهم: فلان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا كانوا أكبوا عليهم) أي: هلا كانوا، وهي كلمة التنديم، فالجملة مبينة لقوله: "ندموا"ن وقيل: أصله: ندموا على أن لا كانوا، فحذف "على" ثم أدغم النون في اللام. قوله: (وهموا بالفتك به)، النهاية: الفتك: هو أن يأتي صاحبه وهو غافل فيشد عليه فيقتله. قوله: (وقيل: نزل منزلاً تفرق الناس) نحوه رواه الشيخان عن جابر. قوله: (في العضاه)، النهاية: العضاه: شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عضة بالتاء. قوله: (فشام) شام السيف: سلها، وشامها: أغمدها، وهو من الأضداد.

بسيط الباع، ومديد الباع، بمعنى. (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ): فمنعها أن تمدّ إليكم. [(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)]. لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم اللَّه بالمسير إلى أريحاء أرض الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني كتبتها لكم داراً قراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به؛ توثقةً عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء، وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون، فرأوا أجراماً عظيمة وقوّة وشوكةً، فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم، وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوفنا، من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف، وكانا من النقباء. والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها، كما قيل له: عريف، لأنه يتعرفها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والنقيب: الذي يُنقب عن أحوال القوم). قال الزجاج: النقب: الطريق في الجبل، وإنما قيل: نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم، يقال: فلان حسن النقيبة، أي: جميل الخليقة، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عُمق، من ذلك نقبت الحائط، أي: بلغت في النقب آخره.

(إِنِّي مَعَكُمْ) أي: ناصركم ومعينكم. (وعَزَّرْتُمُوهُمْ): نصرتموهم ومنعتموهم من أيدي العدوّ. ومنه: التعزير: وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد. وقرئ: بالتخفيف، يقال: عزرت الرجل: إذا حطته وكنفته. والتعزير والتأزير من وادٍ واحدٍ، ومنه: لأنصرنك نصراً مؤزراً، أي: قوياً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو التنكيل والمنع). قال الزجاج: عزرتموه: نصرتموه، لأن العزر في اللغة: الرد، وعزرت فلاناً أي: أدبته، معناه: فعلت به ما يردعه عن القبيح، كما أن نكلت به معناه: فعلت به ما يجب أن يُنكل عن المعاودة، والناصر يرد عن صاحبه أعداءه، وهو يستلزم التعظيم والتوقير، ومن فسر التعزير بالتعظيم أراد هذا، قلت: فهو حقيقة في الرد والمنع، وكناية عن التعظيم والنصرة. وقال الراغب: التعزير: النصرة مع التعظيم، قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: 9]، والتعزير: ضربٌ دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول، فإنه تأديب والتأديب نصرة ما، لكن الأول: نصرة بقمع العدو عنه، والثاني: نصرة لقهره عن عدوه، فإن أفعال الشر عدو للإنسان، فمتى قمعته عنها فقد نصرته، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال: أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: "تكفه عن الظلم"، وقلت: الحديث من رواية البخاري والترمذي عن أنس، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره". قوله: (نصراً مؤزراً)، قاله ورقه بن نوفل، وهو ابن عم خديجة في حديث مشهور أخرجه الشيخان.

وقيل: معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثني عشر ملكاً يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. واللام في (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) موطئة للقسم، وفي (لَأُكَفِّرَنَّ) جواب له، وهذا الجواب سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم) عطف على قوله: "لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون". اعلم أن أخذ الميثاق هاهنا يحتمل معنيين، أحدهما: ميثاق الأمر بالجهاد والتأكيد فيه، فالنقباء على هذا نُقباء العسكر وعُرفاؤه، والمناسب أن تفسر {إِنِّي مَعَكُمْ} بقوله: "أي: ناصركم ومعينكم" و"عزرتموهم" بقوله: "منعتموهم ونصرتموهم"، وثانيهما: يحتمل العهد بالإيمان وتوثيق أمر التوحيد، فالنقيب على هذا: معلم الخير، والحاكم العدل، والمناسب بقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ} أن يقال: إني أوفقكم على الخير، وبقوله: عزرتموهم: وقرتموهم، كقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9]. فإن قلت: الإيمان بالرسل مقدم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فلم أخر ذكره في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} الآية؟ قلت: هذه الجملة، اعني قوله: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} كناية إيمائية عن المجاهدة ونصرة دين الله ورسله والإنفاق في سبيله، كأنه قيل: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله. يدل عليه قوله: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، قال: أي: "لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم"، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأوليين وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه الصلاة والسلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وينصر هذا حمل النقباء على نُقباء العسكر.

(بَعْدَ ذلِكَ): بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم. فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم) قيل: ينهي من ظن أن المراد بالوعد هاهنا الوعيد، لأن الشرط {لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ} إلى قوله: {قَرْضاً حَسَناً}، والوعد {لأكَفِّرَنَّ} إلى آخره، وانظر إليهم كم خبطوا في الحواشي؟ وكادوا يُضلون كثيراً بعد أن ضلوا، لولا أن الله تعالى أعطى القوس باريها! وقلت: لو أريد هذا المعنى لقيل: "بعد ذلك الشرط المعلق به الوعد العظيم"، كما قال القاضي، لأنه لا يقال: الشرط معلق بالجزاء معلق بالشرط، والحق أن الوعد العظيم هو قوله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ}، وأي وعد أعظم من ذلك؟ لأنه مشتمل على جميع ما يصح فيه الوعد من النصرة، وتكفير الذنوب، وإدخال الجنة، والغفران والرضوان، والرؤية وغيرها، وتعلق الشرط به، وهو قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمْ} إلى آخره، من حيث المعنى، كما تقول لصاحبك: أنا معنى في حقك جداً إن خدمتني لم أضيع سعيك، أفعل بك وأصنع بك وكيت وكيت، فالشرط مع الجزاء مقرر لمعنى الجملة الأولى، وحاصل معنى قوله: "الشرط المعلق بالوعد" يعود إلى الشرط المتعلق بالوعد، لأن المعنى الصحيح: ومن كفر بعد ذلك الميثاق، وذلك البعث، وقول الله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ لأن قوله: {وَقَالَ اللَّهُ} عطف على {أَخَذْ} على سبيل البيان والتوضيح؛ لأنه مشتمل على الشرط، وهو قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ} إلى آخره، وقد سبق في البقرة أن العهد: الموثق، وعهد إليه: إذا وصاه به، واستعهد منه: إذا اشترط عليه. وكرر فيه اسمه الجامع لمزيد التوكيد والتقرير، وأن وعداً وعده الله عز وجل لا خلاف فيه البتة، وأن من نقض ذلك العهد فقد ضل ضلالاً بعيداً.

قلت: أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى (لَعَنَّاهُمْ): طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وقيل: مسخناهم. وقيل: ضربنا عليهم الجزية. (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً): خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد اللَّه: (قسية) أي: ردية مغشوشة، من قولهم: درهم قسىّ وهو من القسوة لأنّ الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة، والقاسي والقاسح - بالحاء - أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرئ: (قسية) بكسر القاف للإتباع. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ): بيان لقسوة قلوبهم؛ لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على اللَّه وتغيير وحيه. (وَنَسُوا حَظًّا): وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ): من التوراة؛ يعني: أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أجل، ولكن الضلال بعده أظهر) اعتزال خفي، لأنه مبني على قاعدة الحسن والقبح العقلي. قوله: (وقرأ عبد الله: "قسية") بتشديد الياء من غير ألف، وكذا حمزة والكسائي، والباقون: بتخفيفها وبالألف. قوله: (أوقست قلوبهم وفسدت فحرفوا) عطف على قوله: " {يُحَرِّفُونَ}: بيان لقسوة قلوبهم"، وقوله: "لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى" تعليل لاتحاد معنى البيان والمبين، لأن معنى قولهم: قلوبهم قاسية، فيه نوع خفاء من حيث إن من قسا قلبه فعل أفعال أهل العناد، فأزال بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} الإبهام، نحوه قوله: " {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا

وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، وتلا هذه الآية. وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ} [البقرة: 8 - 9] لم يعطف {يُخَادِعُونَ} على ما قبله لكونه مبيناً له من حيث إنهم حين كانوا يوهمون بألسنتهم أنهم آمنوا وما كانوا مؤمنين بقلوبهم قد كانوا في حكم المخادعين، قاله صاحب "المفتاح"، فقوله: قد كانوا في حكم المخادعين مثل قول المصنف: "لا قسوة أشد من الافتراء"، وعلى الوجه الثاني: {يُحَرِّفُونَ} استئناف لبيان المقتضي وما حالهم بعد التحريف، ولذلك أتى بالفاء السببية في قوله: "فحرفوا" كأنه قيل: ما فعلوا إذاً؟ فقيل: يحرفون الكلم ونسوا حظاً مما ذكروا به، كما قال ابن مسعود: ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. وقلت: وفيه أن بركة الطاعة، والعمل بما علم موجبة لازدياد العلم، ما قيل: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، وأشار المصنف بقوله: "فحرفوا التوراة وزالت أشياء منها" إلى أن قوله: "نسوا"، من النسيان، وهو ماض عطف على {يُحَرِّفُونَ} وجاء على المضارع بمعنى الاستمرار ليناسبه، كما قال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر: 29]: "يُداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم"، وعلى الوجه الأول: أي: إذا كان نسوا بمعنى تركوا، يكون حالاً من فاعل {يُحَرِّفُونَ}، وقد: مُقدرة. قوله: (وقيل: تركوا نصيب أنفسهم) عطف على قوله: "وتركوا نصيباً جزيلاً"، فعلى

من الإيمان بمحمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم وبيان نعته. (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ) أي: هذه عادتهم وهجيراهم، وكان عليها أسلافهم، كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك، ينكثون عهودك، ويظاهرون المشركين على حربك، ويهمون بالفتك بك، وأن يسموك. (عَلى خائِنَةٍ) على خيانةٍ، أو على فعلةٍ ذات خيانةٍ، أو على نفسٍ أو فرقةٍ خائنةٍ. ويقال: رجلٌ خائنةٌ، كقولهم: رجلٌ راوية للشعر؛ للمبالغة. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول التنكير في قوله: {وَنَسُوا حَظّاً}، للتكثير والتعظيم، ولهذا قال: "إغفال حظ عظيم" يعني: نبذوا التوراة وراء ظهورهم ولم يعملوا بما فيها فكان إعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، وعلى الثاني: التنكير للنوع، والمتروك بعض ما فيها؛ وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنصيب بمعنى المفروض، ولهذا بينه بقوله: "مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم". قوله: (ويظاهرون المشركين على حربك) يعني: يوم الأحزاب "ويهمون بالفتك بك"، يعني يوم أتيت بني قريظة ومعك الشيخان وعلي، "وأن يسموك" يعني: يوم خيبر، والذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} الثاني جيء به مكرراً لإناطة قصد فتك اليهود بالرسول صلى الله عليه وسل ونجاته منهم به، ثم بيان نقضهم ميثاقهم قديماً وحديثاً واستحقاقهم لذلك اللعن وضرب الذلة والمسكنة، وجعل قلوبهم قاسية حتى حرفوا كتاب الله؛ ليجتنب المؤمنون عن مثل فعلهم، ويحفظوا عهد الله ومواثيقه، وقد سبق في الكتاب في إحدى الروايات أن سبب نزول الآية: إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة والشيخين وعلي ليعينوهم على الدية، وروى محيي السنة، عن مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار، أنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر ابن عمرو الساعدي، وهو احد النقباء يوم العقبة، في ثلاثين راكباً إلى بني عامر، فلقوا عامر ابن الطفيل فاقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه إلا عمرو بن امية الضمري وآخر لقيا رجلين من بني سُليم، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم موادعة، فانتسبا إلى بني عامر فقتلاهما، وقدم

حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مَضَلَّ الْأُصْبُعِ وقرئ: (على خيانة مِنْهُمْ). (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ): وهم الذين آمنوا منهم. (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بعث على مخالفتهم. وقيل هو منسوخ بآية السيف. وقيل: فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قومهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ودخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم على عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، وساق الحديث على نحو ما ساقه المصنف قبل هذا. وأما قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ} فقد أتى به تمهيداً وتوطئة لقوله: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} وتقريراً بأن اليهود دأبهم وديدنهم قديماً وحديثاً نقض العهود. ثم المناسب إلى النظم أن يحمل الميثاق على ميثاقهم بالإيمان والتوحيد، ويؤيده قوله بعيد هذا: "أي: مثل ميثاقهم بالإيمان بالله وبالرسل وبأفعال الخير"، والفاء في {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فصيحة، أي: أخذ الله ميثاقهم وأكده وكيت وكيت فما ثبتوا على الميثاق، وما التفتوا إلى تلك التشديدات ونقضوا الميثاق فبنقضهم لعناهم. قوله: (حدثت نفسك بالوفاء) البيت، قبله: أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بغمايتين إلى جوانب ضلفع قرين: اسم ضيف نزل على القائل وطمع في جاريته، ومُغل الأصبع: نصبٌ على النداء.

[(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)]. (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ): أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى، أي: مثل ميثاقهم بالإيمان باللَّه والرسل وبأفعال الخير، وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم بذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "خائنة" على المبالغة، لأن الشاعر يخاطب رجلاً يقول: لا تخن فتغل إصبعك في المتاع، أي: تدخلها للخيانة، وقيل: مُغل الأصبع: خائن اليد، يقول: لو رأيت فوارسي لخفت وما غدرت فطمعت في جاريتي، غمايتين: جبلين متناوحين، أي: متقابلين. قوله: (أو أخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم) يريد أن الضمير المضاف إليه في {مِيثَاقَهُمْ} لليهود على حذف المضاف لقوله: "أي: مثل ميثاقهم" ليستقيم المعنى، إذ لا يكون ميثاق النصارى غير ميثاق اليهود، أو للنصارى من غير حذف، فعلى الأول قد شبه أخذ ميثاق النصارى بأخذ ميثاق اليهود، والوجه أن يكون الضمير للنصارى لاختلاف العبارتين والحالتين، أتى في الأولى بالجملة القسمية، وهي {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} [المائدة: 12]، وعرى الثانية عن التوكيد، وقيل ثمة: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} مع "ما" المؤكدة إلى ذُكروا به، وهاهنا {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}. ثم انظر كم التفاوت بين جزاء النقيضين لتقف على تمام المراد، وذلك أن اليهود لما كانوا قوماً بهتاً شديدي الشكيمة جيء بما يدل على قوة الأمر ليؤذن بالقسر والقهر، ويؤيده قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]. قال المصنف: " {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} بالعمل على ما في التوراة، {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ}

فإن قلت: فهلا قيل: من النصارى؟ قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاءً لنصرة اللَّه، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار اللَّه، ثم اختلفوا بعد: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية. أنصارا للشيطان. (فَأَغْرَيْنا): فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق". وأما النصارى فلسهولة مأخذهم ولين جانبهم عرى ما نُسب إليهم عن التوكيد والتشديد، وينصره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] أي: كونوا مثلهم في القبول بنشاط قلب ووفور رغبة، وإنما قدم الجار والمجرور على العامل وأثرت الصلة والموصول على العبارة المختصرة، أي: النصارى، للتعريض بالمؤمنين ليثبتوا على عهودهم ولا ينسوا ما ذكرهم الله تعالى به، أي: لا يكونوا مثل هؤلاء المدعين المخصوصين من بين سائر المدعين بأخذ الميثاق منهم، ونسيانهم حظاً مما ذكروا به، وتلخيصه: كما أمرناكم في تلك الآية أن تكونوا مثلهم في تلك الخصلة نحذركم في هذه الآية أن تقفوا أثرهم في تلك الهناة، وإنما سميناهم مُدعين لقوله: "إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله"، والله أعلم. قوله: (فهلا قيل: من النصارى؟ ) يعني: ما فائدة العدول عن النصارى إلى الإطناب؟ وأجاب: أنه إنما عدل لتصور تلك الحالة في ذهن السامع وتقرر عنده أنهم ادعوا نُصرة دين الله، نحو قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23]، عدل عن اسمها زيادة لتقرير المُراودة. الانتصاف: لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم بنصرة الله، وبما يدل على أنهم لم يوفوا بما عاهدوا عليه من النصرة عدل عن قوله: من "النصارى" إلى قوله: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، فحاصل ما صدر منهم قولٌ بلا فعل.

ومنه الغراء الذي يلصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى المختلفين. وقيل: بينهم وبين اليهود، ونحوه. (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) [الأنعام: 129]، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 69]. [(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)]. (يا أَهْلَ الْكِتابِ): خطاب لليهود والنصارى. (مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) من نحو صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن نحو الرجم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه: الغراء)، الجوهري: هو ما يتخذ من السمك ليلصق به الشيء، إذا فتحت الغين قصرت، وغن كسرت مددت. قوله: ({نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}) هذا إذا أريد به التولية، قال المصنف: "نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس". قوله: ({أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً})، قال: "يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى". روى الواحدي عن الزجاج: قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} أي: صاروا فرقاً يكفر بعضهم بعضاً.

(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته مما لا بدّ من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يريد: القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافياً عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} مما تُخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية) إلى آخره، هذا يؤذن أن صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر الرجم مما اضطر إليهما لمصالح، وفيهما فوائد جمة، ولذلك لم يعف عنهما. قوله: (وصفته) وهو مبتدأ، والخبر: "مما لابد من بيانه"، "وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة" من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قوله: (لكشفه ظلمات الشرك) تعليل لتسمية القرآن بالنور، وقوله: "لإبانته" تعليل لوصفه بالمبين. قوله: (أو لأنه ظاهر الإعجاز) على أن {مُبِينُ} من: بان الشيء، وعن الواحدي، عن قتادة: {نُّورٌ}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار الزجاج، وما ذهب إليه المصنف أوفق لتكرير قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ} بغير عاطف، فعلق به أولاً: وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وثانياً: وصف الكتاب، وأحسن منه ما سله الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد، وهي النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدمن فقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} يرجع إلى قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}، أي: يهدي

(مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ): من آمن به (سُبُلَ السَّلامِ): طرق السلامة والنجاة من عذاب اللَّه أو سبل اللَّه. [(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. قولهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ معناه بت القول، على أن حقيقة اللَّه هو المسيح لا غير. قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدّى إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالبيان إلى طريق السلامة من اتبعه وتحرى مرضاة الله، وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يرجع إلى قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ}، وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يرجع إلى قوله: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ}، كقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وسيجيء تفسير هذه الآية في سورة النور. قوله: (بت القول على أن حقيقة الله هو) وذلك أن الخبر إذا عُرف باللام أفاد القصر سواء كان التعريف فيه عهداً أو جنساً، فإذا ضُم معه ضمير الفصل ضاعف تأكيده معنى القصر، فإذا صُدرت الجملة بـ"إن" بلغ الكمال في التحقيق. قوله: (كان في النصارى قوم يقولون ذلك)، الراغب: إن قيل: إن أحداً لم يقل: الله هو المسيح، وإن قالوا: المسيح هو الله، وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت، فيقولون: يصح أن يُقال: المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما يصح أن يقال: الإنسان هو

(فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً): فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً؟ (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ) من دعوه إلها من المسيح وأمّه، دلالةً على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف (مَنْ فِي الْأَرْضِ) على: (الْمَسِيحَ ... وَأُمَّهُ) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيوان وهو نبات لما كان مركباً منهما، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما رُوي عن محمد بن كعب القُرظي: أنه لما رُفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أن أحداً يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقالوا: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا الله؟ فقالوا: لان فقالوا: أتعلمون أن أحداً يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله إلا من هذا وصفه، أي: حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيدٌ، أي: حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}. قوله: (دلالة على أن المسيح) مفعول له، أي: قال الله تعالى هذا القول دلالة. قوله: (وأراد بعطف {مَنْ فِي الأَرْضِ}) عطف على جملة قولنا: قال الله تعالى هذا القول دلالة، وإنما أقيم المظهر موضع المضمر في قوله: {أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} وإن لم يقل: يهلكه إرادة الدلالة أنه عبدٌ مطيع؛ لأن المسيح هو الصديق، وعطف عليه أمه لمزيد الدلالة على أنه عبد مخلوق؛ لأن الخالق لا أم له، ثم عطف عليه: {مَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} إرادة الدلالة على أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما، وكل ذلك تتميمات يزيد الكلام بها مبالغة.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي: يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكرٍ كما خلق عيسى، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزةً له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده. [(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)]. (أَبْناءُ اللَّهِ) أشياع ابني اللَّه عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبى خبيب وهو عبد اللَّه بن الزبير «الخبيبون» وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء اللَّه. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك؛ ولذلك قال مؤمن آل فرعون: (لكم الملك اليوم) [غافر: 29]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى) إلى آخره، يريد أن قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} جاء هاهنا مبيناً لما هو المراد من قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بحسب اقتضاء المقام، يعني أن الله تعالى مالك العالم كله قهراً وتصرفاً وخلقاً لها على أنحاء مختلفة، فلا ينبغي لكم حين شاهدتم خلاف العادة في المسيح أن تقولوا: هو إله، أو نظرتم إلى أنه الواسطة في خلق الطير أن تقطعوا النسبة منا وتنسبوا إليه، هذا هو المراد من قوله: "فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المُجرى على يده". قوله: (أبي خبيب، وهو عبد الله بن الزبير)، وخبيب اسم ابنه، والخبيبان: عبد الله وابنه، فمن روى "الخبيبون" على الجمع يريدهما وأخاه مصعباً، قاله الجوهري. الإنصاف: قوله: في أصحاب أبي خبيب، فإنه جار على الانتساب حقيقة، ولو سثمي كل واحد منهم أبا خبيب لكان مثالاً صحيحاً، وفيه بحث.

(فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فإن صحّ أنكم أبناء اللَّه وأحباؤه، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياما معدودات على زعمكم؟ ولو كنتم أبناء اللَّه، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب، ولو كنتم أحباءه، لما عصيتموه ولما عاقبكم! (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) من جملة من خلقٍ من البشر، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ): وهم أهل الطاعة، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ): وهم العصاة. [(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 19]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: تأويله: نحن أشياع ابني الله، لا يلتئم مع قوله: "لو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب" ولا مع قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}، قلت: لما ادعوا أنهم أشياع ابني الله ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه كأنهم قالوا: نحن متصفون بهما، ولسنا من جنس عامة البشر المخلوقين، كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40]، وكذلك قالوا: نحن أبناء الله ونحن الملوك، فرد عليهم بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}، وبينه بقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عليهم، روى الواحدي عن ابن قتيبة: يعنون أنه تعالى من دبه وعطفه علينا كالأب المشفق. وقلت: أما اتصال هذه الآية بما قبلها فهو أنه تعالى لما أجاب عن قول القائلين في المسيح: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} بقوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [المائدة: 17] أتى بما يناسبها من حديث الغلاة من أهل الكتاب وادعائهم أنهم أبناء الله، وأجاب بما يقرب من ذلك الجواب، وهو قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، والله أعلم.

(يُبَيِّنُ لَكُمْ) إما أن يقدّر: المبين، وهو الدين والشرائع، وحذفه لظهور ما ورد الرسول لتبيينه. أو يقدّر: ما كنتم تخفون، وحذفه لتقدّم ذكره، أو لا يقدر ويكون المعنى: يبذل لكم البيان، ومحله النصب على الحال؛ أي: مبيناً لكم. (وعَلى فَتْرَةٍ) متعلق بـ (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحى. (أَنْ تَقُولُوا): كراهة أن تقولوا (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوفٍ، أي: لا تعتذروا فقد جاءكم. وقيل: كان بين عيسى ومحمد صلوات اللَّه عليهما خمسمائة وستون سنة. وقيل: ستمائة. وقيل: أربعمائة ونيف وستون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتقدم ذكره) وهو قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ} [المائدة: 15]. قوله: ({عَلَى فَتْرَةٍ} متعلق: بـ {جَاءَكُمْ}). وقال أبو البقاء: {عَلَى فَتْرَةٍ} في موضع الحال من الضمير في {يُبَيِّنَ لَكُمْ}، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في {لَكُمْ} و {مِنْ الرُّسُلِ}: نعت لفترة. وقال الإمام: يقال: فتر الشيء فتوراً: إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه، وسميت المدة التي بين الأنبياء "فترة" لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. الراغب: إن بعثة الأنبياء من ضرورات العباد التي لا يُستغنى عنها، فعامة الناس يجهلون جزئيات مصالحهم وكلياتها، وخاصتهم يعرفون كلياتها دون جزئياتها، ولا يمكنهم أن يعرفوا الكليات على التحقيق إلا بعد انقضاء كثير من عمرهم، فسهل الله السبيل عليهم بمن يهديهم إلى مصالحهم.

وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنةٍ، وألف نبي وبين عيسى ومحمد صلوات اللَّه عليهم أربعة أنبياءٍ، ثلاثة من بني إسرائيل، وواحدٌ من العرب: خالد بن سنان العبسي. والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي أحوج ما يكون إليه ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمةٍ من اللَّه، وفتح بابٍ إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خالد بن سنان العبسي). قال صاحب "الكامل في التاريخ": إن خالد بن سنان العبسي كان نبياً، ومن معجزاته أن ناراً ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمسحون، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرقها فطفئت وهو في وسطها، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيه: "ذلك نبي ضيعه قومه"، فأتت ابنته النبي صلى الله عليه وسلم فآمنت به. قوله: (أحوج ما يكونون إليه). أحوج منصوب على الظرفية بدلاً من قوله: "حين انطمست" و"ما": مصدرية، و"كان": تامة، أي: أحوج أوقاتهم، على أن إسناد الاحتياج إلى الوقت مجازٌ كما في: أخطب ما يكون الأمير قائماً، فأحوج الأوقات عبارة عن الوقت الذي كانوا فيه. قوله: (ليهشوا)، الجوهري: وقد هششت بفلان، بالكسر: أهش هشاشة: إذا خفقت إليه وارتحت له، ورجلٌ هش بش، ويناسب هذا المقام ما قال الإمام في"المعالم": إنه عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم مملوءاً من الكفر والضلالة، أما اليهود: فكانوا في المذاهب الباطلة في

[(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ* يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ* قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)]. (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ): لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه، وبعد الجبابرة ملكهم ولأنّ الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: كانوا مملوكين في أيدى القبط فأنقذهم اللَّه، فسمى إنقاذهم ملكاً. وقيل: الملك: من له مسكنٌ واسعٌ فيه ماءٌ جارٍ. وقيل: من له بيت وخدم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التشبيه والافتراء على الأنبياء، وتحريف التوراة، وأما النصارى: فقد قالوا بالتثليث والأب والابن والحلول والاتحاد، وأما المجوس: فأثبتوا إلهين: يزدان وأهرمن، وتحليل نكاح الأمهات، وأما العرب فانهمكوا في عبادة الأصنام، والفساد في الأرض، فلما بُعث صلوات الله عليه انقلبت الدنيا من الباطل إلى الحق، ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسنة بتوحيد الله، واستنارت العقول بمعرفة الله، ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى، وإذا كان لا معنى للنبوة إلا تكميل الناقصين في القوة: العلمية والعملية، ورأينا أنه حصل هذا الأثر بمقدم سيدنا محمد صلوات الله عليه أكثر مما ظهر بمقدم سائر الأنبياء، علمنا أنه سيدهم وقدوتهم. قوله: (من له بيت وخدم). روى البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجلٌ فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك

وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ): من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمي زمانهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماًن قال: فأنت من الملوك. الراغب: الملك ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك تولى أو لم يتول، فمن الأول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34]، ومن الثاني: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة: 20]، فجعل النبوة مخصصة والملك فيهم عاماً، فإن الملك هنا هو القوة التي ترشح بها للرياسة لا أنه جعل كلهم متولين للأمر، فذلك مناف للحكمة، كما قيل: لا خير في كثرة الرؤساء، وقال بعضهم: الملك: اسم لكل من يملك السياسة، إما في نفسه، وذلك بالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في غيره، سواء تولى ذلك أو لم يتول على ما تقدم، وقلت: يؤيد الأول ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "كلكم راع ولكم مسؤول عن رعيته" الحديث. قوله: (وقيل: أراد عالمي زمانهم) عطف من حيث المعنى على قوله: " {مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} من فلق البحر" يعني: إن جعلت {الْعَالَمِينَ} عاماً وجب تخصيص {مَا}، لئلا

(الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ): أرض بيت المقدس. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: الشام. وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. وقيل: سماها اللَّه لإبراهيم ميراثاً لولده حين رفع على الجبل، فقيل له: انظر فلك ما أدرك بصرك، وكان بيت المقدس قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين. (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ): قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح أنها لكم. (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ): ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً، وقيل: لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر، وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن يراد: لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم، وعصيانكم نبيكم: فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمة من الكرامة والفضل وغير ذلك، وإن خصصته بعالمي زمانهم، فـ {مَا} باقية على عمومها، إذ لا محذور، والتقدير قيل: أراد بـ {الْعَالَمِينَ}: عالمي كل زمان، وبالإيتاء: ما اختص ببني إسرائيل، وقيل: أراد به: عالمي زمانهم، وبالإيتاء: ما اشترك به غيرهم. قوله: (بعض الأردن)، الجوهري: هو اسم نهر وكورة بالشام. قوله: (أو خط في اللوح أنها لكم) عطف على قوله: "قسمها"، و"قسمها" و"سماها" واردان على أن {كَتَبَ} مجاز عنهما. الأساس: ومن المجاز: كُتب عليه كذا: قضي عليه، وكتب الله الأجل والرزق، وكتب على عباده الطاعة، وعلى نفسه الرحمة، وهذا كتاب الله أي: قدره، وسألني بعض المغاربة ونحن في الطواف عن القدر، فقلت: هو في السماء مكتوب وفي الأرض مكسوب، ومنه ما روينا في حديث القدر: "ثم يبعث الله ملكاً بأربع كلمات، بكتب: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد"، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود.

الجبار: «فعال» من: جبره على الأمر بمعنى: أجبره عليه، وهو العاتي الذي يُجبر الناس على ما يريد. (قالَ رَجُلانِ): هما كالب ويوشع (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) الله ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين، ويجوز أن تكون الواو لبني إسرائيل، والراجع إلى الموصول محذوف، تقديره: من الذين يخافهم بنو إسرائيل، وهم الجبارون، وهما رجلان منهم (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسامٌ لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أنه حين عد الأقوال الأربعة في تفسير الأرض المقدسة، كان من حقه أن يفسر بعده معنى {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} على الوجهين المذكورين في معنى {كَتَبَ} من أنه "خط في اللوح أو سماها" لكن أوقع في البين للاهتمام قولاً يفهم منه ترجيح القول الأول من الأقوال الأربعة، يشهد له قوله: "وكان بيت المقدس قرار الأنبياء"، وأولوية الوجه الأول من الوجهين المذكورين في تفسير {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يدل عليه قوله: "سماها الله لإبراهيم". وأما الجبل الذي رُفع عليه الخليل عليه السلام، فقد روى الإمام: أنه جبل لبنان، والله أعلم. الراغب: معنى {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: أوجبها عليكم، إن قيل: فقد كان يجب أن يقول: كتب الله عليكم على هذا، قيل: إنما ذكر {لَكُمْ} لمعنى لطيف، وهو أنه نبه أنه أوجب عليهم وجوباً يستحقون به ثواباً يحصل لهم، وذلك كقولك لمن يرى متأذياً بشيء أوجب، فيقال: هذا لك لا عليك؛ تنبيهاً على الغاية التي هي الثواب، وإذا قيل: كتب عليه فليس اللفظ يقتضي معنى الغاية التي هي الثواب، بل يقتضي مجرد الإيجاب والله أعلم. قوله: (عن العمالقة أجسام)، قال صاحب "الكامل": قال ابن إسحاق: هم أولاد عمليق

وقراءة من قرأ: (يخافون) بالضم شاهدةٌ له، وكذلك (أنعم اللَّه عليهما) كأنه قيل: من المخوفين. وقيل: هو من الإخافة، ومعناه: من الذين يخوفون من اللَّه بالتذكرة والموعظة. أو يخوّفهم وعيد اللَّه بالعقاب. فإن قلت: ما محل (أنعم اللَّه عليهما)؟ قلت: إن انتظم مع قوله: (من الذين يخافون) في حكم الوصف لـ (رجلان) فمرفوع، وإن جعل كلاماً معترضاً فلا محلّ له. فإن قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك، وقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) وقيل: من جهة غلبة الظن، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن لاوذ بن سام، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم: الكنعانيون، والفراعنة بمصر، وأن أهل البحرين وعمان منهم. قوله: (وقراءة من قرأ: "يخافون"، بالضم شاهدة له) أي: شاهدة لأن تكون الواو في {يَخَافُونَ} لبني إسرائيل؛ لما يلزم أن يكون الرجلان من العمالقة، وكذلك {أَنْعَمَ اللَّهُ}، لأن هذا القيد إنما يليق بمن أسلم من الكفار لا بمن هو مؤمن كما في الوجه السابق. قوله: (وقيل: هو من الإخافة) أي: يخافون بالضم، فعلى هذان المراد بالذين يخافون: بنو إسرائيل، وعلى الأول: العمالقة، فيكون مجهولاً من: خاف يخاف. قال أبو البقاء: يُقرأ (يُخافون) بضم الياء، وله معنيان، أحدهما: أنه من قولك: خيف الرجل، أي: خوف، والثاني: أن يكون المعنى: يخافهم غيرهم، كقولك: فلان مخوف، أي: يخافه الناس. قوله: (إن انتظم). انتظم متعدياً ولازماً. الجوهري: طعنه فانتظمه، أي: اختله.

وما تبينا من عادة اللَّه في نصرة رسله، وما عهدا من صنع اللَّه لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة. و (الباب): باب قريتهم. (لَنْ نَدْخُلَها) نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس. و(أَبَداً): تعليقٌ للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، و (ما دامُوا فِيها): بيان للأبد. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب، ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجيبني، تريد: معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة باللَّه ورسوله وقلة مبالاةٍ بهما واستهزاءً، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية اللَّه عز وجل جهرة، والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم. ويحكى أنّ موسى وهرون عليهما السلام خرّا لوجوههما قدّامهم لشدّة ما ورد عليهما، فهموا برجمهما، ولأمرٍ ما قرن اللَّه اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة: 82]. [(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَاسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) 25 - 26]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مَا دَامُوا فِيهَا}: بيان للأبد)، قال الشاعر: وأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وتنائيا قوله: "ما دمتما" بدل من "الدهر". قوله: (أريدا) بفتح الهمزة وكسر الراء، أمر من: أراد. قوله: (لوجوههما) قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].

لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هارون؛ (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ) لنصرة دينك (إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وهذا من البث والحزن والشكوى إلى اللَّه والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة، ونحوه قول يعقوب عليه السلام: (إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86]. وعن علي رضي اللَّه عنه: أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء ودعا لهما، وقال: أين تقعان مما أريد! وذكر في إعراب (وأخى) وجوهٌ: أن يكون منصوباً عطفاً على (نفسي) أو على الضمير في (إنى) بمعنى: ولا أملك إلا نفسي، وإن أخي لا يملك إلا نفسه. ومرفوعاً عطفاً على محل إن واسمها، كأنه قيل: أنا لا أملك إلا نفسي، وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه، أو على الضمير في (لا أملك)، وجاز للفصل. ومجروراً عطفاً على الضمير في (نفسي) وهو ضعيفٌ لقبح العطف على ضمير المجرور إلا بتكرير الجار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتنفس الصعداء) وهي التنفس البارد الطويل الممدود. قوله: (أو على الضمير في {إِنِّي} بمعنى: ولا أملك). قال أبو البقاء: المعنى: لا أملك إلا نفسي، ولا يملك أخي إلا نفسه. قوله: (ومجروراً عطفاً على الضمير في {نَفْسِي}. قال الزجاج: جائز أن يكون المعنى: لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا نفس أخي، لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو ملك طاعته.

فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق، ولم يطمئن إلى ثباتهما، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره. ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلاً لمن يوافقه. ويجوز أن يريد: ومن يؤاخينى على ديني؟ (فَافْرُقْ) فافصل (بَيْنَنا) وبينهم، بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم؛ ولذلك وصل به قوله: (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) على وجه التسبيب. أو: فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم، كقوله: (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11]. (فَإِنَّها): فإن الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ): لا يدخلونها ولا يملكونها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أما كان معه الرجلان المذكوران؟ ) أي: كيف قال: لا أملك إلا نفسي وأخي على الحصر، وكان معه كالبٌ ويوشع مطيعين متقين؟ قوله: (ولذلك وصل به قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} على وجه التسبيب)، يعني: لما دعا موسى عليه السلام بقوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} عقب سبحانه وتعالى ما يدل على استجابة دعائه بقوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}، ولا شك أن الحصول في التيه، والمنع من الدخول في الأرض المقدسة، من أشد البلاء، ولولا اشتمال دعائه على الدعاء عليهم لم يحسن هذا الترتيب، هذا إذا قدر أن موسى عليه الصلاة والسلام كان معهم في التيه وكان روحاً له وسلاماً لا عقوبة، وقوله: "أو فباعد بيننا وبينهم" هذا إذا قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معهم فيها كما سيجيء.

فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله: (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)؟ [المائدة: 21] قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد: كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: (فإنها محرمة عليهم). والثاني: أن يراد فإنها محرمةٌ عليهم أربعين سنةً، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب. فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل، وكان يوشع على مقدمته، ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء اللَّه، ثم قبض صلوات اللَّه عليه. وقيل: لما مات موسى بعث يوشع نبياً، فأخبرهم بأنه نبيّ اللَّه، وأن اللَّه أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء، وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها. والعامل في الظرف إما (مُحَرَّمَةٌ) وإما (يَتِيهُونَ)، ومعنى (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ): يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً. والتيه: المفازة التي يتاه فيها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا) يؤيد هذا الوجه عطف قوله: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} على قوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، فإنهم لما خالفوا النهي هذا خسروا وتاهوا، فقوله: " بشرط أن تجاهدوا" مستنبط من الجملة المنهية، وفي هذا العطف دلالة على جواز تقييد المطلق به فليتأمل. قوله: (والعامل في الظرف) أي: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} (إما {مُحَرَّمَةٌ} وإما {يَتِيهُونَ}) قال أبو البقاء: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} ظرف لـ {مُحَرَّمَةٌ}، فالتحريم على هذا مؤقت، و {يَتِيهُونَ} حال من الضمير المجرور، وقيل: هي ظرف لـ {يَتِيهُونَ}، فالتحريم على هذا غير مؤقت، وقال الزجاج: نصبه بـ {مُحَرَّمَةٌ} خطأ، لأنه جاء في التفسير أنها محرمة عليهم أبداً فنصبه

روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستةً فراسخ يسيرون كل يوم جادين، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم من حرّ الشمس، ويطلع لهم عمود من نورٍ بالليل يضيء لهم، وينزل عليهم المنّ والسلوى، ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله. فإن قلت: فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره وهم معاقبون؟ قلت: كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركاً لهم، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة. ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف، ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه. فإن قلت: هل كان معهم في التيه موسى وهرون عليهما السلام؟ قلت: اختلف في ذلك، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقاباً، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً، لا عقوبةً، كالنار .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ {يَتِيهُونَ}، قيل: عذبهم الله عز وجل بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سيارة لا يقر بهم القرار، إلى أن مات البالغون الذين عصوا الله، ونشأ الصغار وولد من لم يدخل في جملتهم في المعصية. قوله: (ثوب كالظفر). النهاية: وفي الحديث: "كان لباس آدم عليه الصلاة والسلام الظفر"، أي: شيء يشبه الظفر في بياضه وصفائه وكثافته. قوله: (عركاً لهم) من قولهم: عرك أذنيه، تأديباً. قوله: (ويثقب) أي: يتقدم ويستوي.

لإبراهيم، وملائكة العذاب. وروي أن هرون مات في التيه، ومات موسى بعده فيه بسنةٍ، ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهرٍ، ومات النقباء في التيه بغتة، إلا كالب ويوشع. (فَلا تَاسَ). فلا تحزن عليهم، لأنه ندم على الدعاء عليهم، فقيل: إنهم أحقاء - لفسقهم - بالعذاب، فلا تحزن ولا تندم. [(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ* مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)]. هما ابنا آدم لصلبه: قابيل وهابيل، أوحى اللَّه إلى آدم أن يزوّج كل واحدٍ منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل، واسمها إقليما، فحسد عليها أخاه وسخط فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً، فمن أيكما تقبل زوّجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بني إسرائيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمن أيكما ُقبل) قيل: الفاء جزاء شرط محذوف، والجملة من الشرط والجزاء جواب الأمر، أي: قربا قرباناً فإنكما إن تقربا قرباناً فمن أيكما قبل زوجها. قوله: (وقيل: هما رجلان من بني إسرائيل) عطف على قوله: "هما ابنا آدم لصلبه" أي: من

(بِالْحَقِّ): تلاوةً ملتبسةً بالحق والصحة، أو: اتله نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأوّلين، أو: بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد؛ لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبغون عليه، أو: اتل عليهم وأنت محق صادقٌ. و (إِذْ قَرَّبا) نصب بالنبأ، أي: قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت. ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ، أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت؛ على تقدير حذف المضاف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صُلبه، وقيل: "لصُلبه": بدل من "آدم"، واللام في "الصلبه" هي معنى الإضافة، أي: هما ابنا صلبه، وفيه نوع مجاز. قوله: (تلاوة ملتبسة بالحق)، قال صاحب "التقريب": الباء في {بِالْحَقِّ} إما للملابسة، أي: ملتبساً بالحق والصدق، وهو إما صفة للتلاوة، أو حال من النبأ، أو عن فاعل "اتل"، وإما للسببية، أي: اتل بالغرض الصحيح. وقلت: هذا تلخيص كلام المصنف! لكن ليس الباء في قوله: "بالغرض الصحيح" لتسبيب، بل هي صلة "ملتبساً"، لأن "بالغرض": عطف بالواو، وفي الأصح على "بالصدق"، يدل عليه قوله في "الأحقاف" في قوله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأحقاف: 3]: "إلا خلقاً ملتبساً بالحكمة والغرض الصحيح". واعلم أن "الحق" يجيء على معانٍ. الأساس: حق الله الأمر حقاً: أثبته وأوجبه، وهذا قول حق، وأحق الرجل: إذا قال حقاً وادعاه، وهو محق غير مبطل، ومن المجاز: كلام محقق، أي: محكم النظم، فقوله: "أو تلاوة ملتبسة بالحق والصحة" مبني على المجاز، لأن {بِالْحَقِّ} حينئذٍ: صفة للتلاوة، ومن حق التلاوة أن تكون على الصحة والاستحكام عُرياً عن الفساد، وقوله ثانياً: "نبأ ملتبساً بالصدق" مبني على قول: "هذا قول حق" لأن {بِالْحَقِّ} حينئذ: صفة للنبأ، ومن حق النبأ أن لا يتطرق إليه كذب بل يكون صدقاً محضاً، ومع ذلك لا يكون عبثاً باطلاً بل يكون لغرض صحيح، ونحوه قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران: 191] قال:

والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللَّه من نسيكة أو صدقة، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى؛ أي: يعطى. يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها؛ لأن "تقرّب" مطاوع "قرّب"، قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لمعرفتك". وقوله ثالثاً: "وأنت محق صادق" مبني على قوله: أحق الرجل: إذا قال حقاً وادعاه، وهو محق غير مبطل، لأن {بِالْحَقِّ} حينئذ: صفة للتالي، لأن الحال في الحقيقة وصف، فينبغي للنبي أن يكون صادقاً فيما يُنبئ عنه وأن يكون محقاً في نفسه، ولما كان جل الحكمة من إيراد القصص في هذا الكتاب الكريم تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهذيباً للأمة، والمشركون وأهل الكتاب كانوا يحسدونه، فجيء بهذه القصة المتضمنة لسوء مغبة الحاسد تقبيحاً لهم على حدسهم، وتصبيراً للرسول صلى الله عليه وسلم من شر كيدهم. قوله: (والقربان: اسم ما يتقرب به إلى الله تعالى). قال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر، وقد وقع هاهنا موقع المفعول به، والأصل: إذ قربا قربانين، ولم يثن للمح الأصل. وقال أبو علي: تقديره: إذ قرب كل واحد منهما قرباناً. قوله: (تقربوا قرف القمع)، النهاية: القرف: الوسخ، والقمع: الإناء الذي يُترك في رؤوس الظروف لتُملأ بالمائعات، وفي حاشية "الصحاح" بخط ابن الحبيب الكاتب من تصحيح الصاغاني: قال الأصمعي: حدثني أبو عمرو بن العلاء، قال سيف بن ذي يزن الحميري ين قاتل الحبشة: قد علمت ذات مْ نطع ... أتى إذا م موت نع أضربهم بذا مْ قلعْ ... اقتربوا قرف مْ قمع

فإن قلت: كيف كان قوله: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جواباً لقوله: (لَأَقْتُلَنَّكَ)؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل، قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى اللَّه التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيمٍ مختصرٍ جامعٍ لمعانٍ. وفيه دليل على أنّ اللَّه تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: أراد: ذات النطع فإذا الموت كنع، وبذا القلع، وقرف القمع، فأبدل من لام التعريف ميماً، وقوله: قرف القمع: أراد أنهم أوساخ أذلاء كالوسخ الذي يُقرف من القمع، ونصب "قرف" على النداء، قوله: كنع، أي: قرب، وقلع: سيف منسوب إلى مرج القلعة بالتحريك، وهو موضع بالبادية. قوله: (بكلام حكيم) أي: ذي حكمة، أي: وصف بصفة صاحبه، كقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2] أي: هذا الجواب واردٌ على أسلوب الحكيم لأنه تلقاه بغير ما يتطلب وبما هو أهم له من القتل، وإليه الإشارة بقوله: "وما لك لا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول". قوله: (فما أنعاه! )، الجوهري: فلان ينعي على فلان ذنوبه، أي: يُظهرها ويشهرها، والضمير يعود على قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} على تأويل القول، وهو منصوب، كزيد في قولك: ما أحسن زيداً، والفعل منسوب إليه، كذا قال ابن الحاجب في "شرح المفصل"، و"أعمالهم" أيضاً منصوب به لاقتضاء النفي مفعولاً، إذ الأصل الآية ناعية على العاملين أعمالهم.

العاملين أعمالهم! وعن عامر بن عبد اللَّه: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع اللَّه يقول: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ): قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من اللَّه؛ لأنّ الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت؛ قاله مجاهد وغيره. (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ): أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمي؛ على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلانٍ، وكتبت كتابته؛ تريد: المثل، وهو اتساع فاشٍ مستفيض، لا يكاد يستعمل غيره، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد كنتَ وكنتَ) أي: كنت عابداً صالحاً ونحوهما. قوله: (أن تحتمل إثم قتلى لك) تأويل لقوله: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي}، وليس بتفسيره، يعني أنه كناية عن إرادة تمكنه منه، قال تعالى: {بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} [الأنفال: 16] أي: حل مبوأ ومعه غضب الله، ونحوه قولك: تربع فلان في لحمه، ومنه ما ورد في "الصحيح": "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي"، وتأويلهم إياه بـ "أعترف"، وقال الشاعر: أنكرت باطلها وبؤت بحقها أي: أقررت بحقها. قوله: (المراد: بمثل إثمي؛ على الاتساع)، ومعنى الاتساع: أن ينسب إلى شيء ما لا تصح استقامته إلا بتقدير، نحو: ما مر في قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25]،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"أبو يوسف أبو حنيفة" و"قضية ولا أبا حسن"، وسبق قبيل هذا في قوله: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14]، على أن يراد ميثاق اليهود، وصحح بقوله: "بمثل ميثاقهم"، فلو أريد هاهنا بقوله: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي}: أن تحمل عين ما جنيته فيصح تصحيحه بقوله: "بمثل إثمي"، لكن تنظيره بقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] مشكل؛ لأنه فسره في فاطر بقوله: "إن كل نفس في القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس"، اللهم إلا أن لا يحمل قوله: "لاتؤخذ نفس بنفس" على التفسير، بل على أن مرجع المعنى إليه. وذكر القاضي المعنيين، قال: المعنى: إنما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي وإثمك ببسطك يدك إليّ، ونحوه: "المستبان .. " الحديث، ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته، وإرادة عقاب العاصي جائزة، وهاهنا معنى آخر رواه محيي السنة عن مجاهد: إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً. وفي "النهاية": في الحديث: "أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي" أي: ألتزم وأرجع وأقر، وأصل البواء: اللزوم، ومنه الحديث: فقد باء به أحدهما، أي: التزمه ورجع به.

ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم» على أنّ البادي عليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه، لأنه كان سبباً فيه، إلا أن الإثم محطوطٌ عن صاحبه، معفوّ عنه، لأنه مكافئ مدافع عن عرضه، ألا ترى إلى قوله: «ما لم يعتد المظلوم؟ » لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم. فإن قلت: فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله، فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت: هو مقدّرٌ، فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر، كأنه قال: إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك. وقيل: (بِإِثْمِي) بإثم قتلي (وَإِثْمِكَ): الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)؟ وإذا جاز أن يريده اللَّه، جاز أن يريده العبد، لأنه لا يريد إلا ما هو حسن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المستبان ما قالا). قال الصاغاني في "كشف الحجاب": الحديث أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة وأنس: "المستبان ما قالا، فهو على البادي حتى يعتدي المظلوم". "المستبان": مبتدأ، وقوله: "ما قالاه فعلى البادي" جملة شرطية خبر له، و"ما" في قوله: "ما لم يعتد المظلوم" في رواية الكتاب: مصدرية، فيها معنى المدة، وهي ظرف لمتعلق الجار والمجرور الذي هو خبر المبتدأ، المعنى: المستبان الذي قالا: استقر ضرره على الذي بدأ بالسب مدة عدم اعتداء المظلوم، أي: ما لم يتجاوز المظلوم حد ما سبه البادي، فإذا جاوز استقر ضرر ما قالا عليهما معاً. قوله: (وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد)، الانتصاف: فيه ما يدل على أن

والمراد بالإثم: وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: (لَئِنْ بَسَطْتَ ... ما أَنَا بِباسِطٍ)؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الكائنات ما لا يريده الله، وهو القبائح كلها، وهو الشرك الخفي، وإنما أراد إثم أخيه وعقوبته لأنه أراد: لا أعاقبك ولا أقتلك، ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين؛ إما إثمه بتقدير دفعه عن نفسه فيقتل أخاه، أو إثم أخيه، وكان غير مريد للأول، اضطر إلى الثاني، ولم يرد إثم أخيه بعينه، بل أراد ترك المدافعة، فيلزم منها ذلك، وهو كما يتمنى المسلم الشهادة فيتضمن ذلك أن يبوء الكافر بإثمه لكن لم يقصد إثم الكافر بعينه بل أراد بذل نفسه لله تعالى، وجاء إثم الكافر ضمناً. قوله: (أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع) أي: لا أفعل فعلاً يُشتق منه هذا الوصف، وهو أن يقال مثلاً: هو باسط اليد، فإن الفعل الصادر عن الشخص ملزوم كونه فاعلاً، فإذا انتفى اللازم لينتفي الملزوم على الكناية كان أبلغ وأدل على شناعة الفعل. الانتصاف: صيغة الفعل لا تُعطي إلا حدوث معناه من الفاعل لا غيرن أما اتصاف الذات به فذلك لما كان يعطيه اسم الفاعل عدل من الفعل إلى الاسم تغليطاً، إذ يصير ذلك كالسمة العلامة الثابتة. قلت: قصده أن يبالغ في الامتناع، ولو وجه على هذا لكان العكس أولى، إذ لا يلزم من نفي الاتصاف المذكور نفي الحدوث، وفي التركيب أيضاً تأكيد ومبالغة، لأن اللام في {لَئِنْ} موطئة للقسم و {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ} جواب القسم وسد مسد جواب الشرط.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ): فوسعته له ويسرته. من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: (فطاوعت) وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى "فعل"، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، و (له) لزيادة الربط، كقولك: حفظت لزيدٍ ماله. قيل: قتل وهو ابن عشرين سنةً، وكان قتله عند عقبة حراء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً): روي أنه أوّل قتيلٍ قتل على وجه الأرض من بني آدم، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فخاف عليه السباع، فحمله في جرابٍ على ظهره سنةً، حتى أروح وعكفت عليه السباع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ}: فوسعته له ويسرته). قال الزجاج: طوعت: فعلتن من الطوع، والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة، وطاع له كذا وكذا، أي: أتاه طوعاً. قوله: (و {لَهُ} لزيادة الربط)، وهو مثل قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، وقوله: حفظت لزيد ماله، أي: حفظت مال زيد. قوله: (حراء)، قال الخطابي: أخطؤوا فيه في ثلاثة مواضع، قالوا: حرى ففتحوا الحاء وهي مكسورة، وأمالوا في غير موضع الإمالة، لأن الراء قبل الألف مفتوحة كراشد، فإنه لا يجوز فيه الإمالة، ولا تجوز إمالته، لأن الراء قبل الألف مفتوحة، كما لا يجوز إمالة راشد ورافع، وقصروا الألف وهي ممدودة. قوله: (بالعراء) بالمد: الفضاء بلا سُترة.

فبعث اللَّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ). ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً! فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروي أنّ آدم مكث بعد قتله مئة سنةٍ لا يضحك، وأنه رثاه بشعرٍ! وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. (لِيُرِيَهُ): ليريه اللَّه، أو ليريه الغراب، أي: ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز. (سَوْأَةَ أَخِيهِ): عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال: يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رثاه بشعر)، وهو على ما رواه محيي السنة: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه الصبيح ورُوي عن ابن عباس أنه قال: من قال: إن آدم قال شعراً فقد كذب، إن محمداً صلوات الله عليه وسلامه والنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، لكن رثاه آدم بالسريانية فلم يزل يُنقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وهو اول من خط بالعربية، فنظر في المرثية فقدم وأخر وجعله شعراً عربياً. قوله: (يا لقوم للسوأة)، الأساس: ووقعت في السوأة السواء، قال أبو زبيد:

أي: للفضيحة العظيمة، فكنى بها عنها. (فَأُوارِيَ) بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أواري. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف. (مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه وتلمذه للغراب، واسوداد لونه، وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين. (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ): بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شراً: إذا جناه يأجله أجلاً، ومنه قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يهب حرمة النديم وحقت ... يا لقومي للسوأة السوآة الجوهري: السوأة السواء: الخلة القبيحة، وامرأة سواء: قبيحة. قوله: (أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف) قال المبرد: هذا من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر. قوله: (ولم يندم ندم التائبين)، الراغب: الندم والندامة: التحسر من تغير رأي في أمر فائت، قال تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ}، وأصله من منادمة الحزن له، والنديم والندمان والمنادم متقارب. قوله: (وقيل: أصله من: أجل شراً: إذا جناه). قال الحريري في "درة الغواص": معنى قولهم: فعلته من جرائك، أي: من جريرتك، كما أن معنى قولهم: من أجلك، أي: من كسبك وجنايتك، والعرب تقول: فعلته من أجلك بفتح الهمزة وكسرها، وفي الحديث: "أن امرأة دخلت النار من جراء هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". وأُنشد للحياني بالمد والقصر:

وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بَيْنِهِمْ ... قَدم احْتَرَبُوا فِى عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت: من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أي: من أن جررته بمعنى: جنيته، وذلك إشارةً إلى القتل المذكور؛ أي: من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ)، و (مِنْ) لابتداء الغاية، أي: ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك، ويقال: فعلت كذا لأجل كذا، وقد يقال: أجل، كذا، بحذف الجار وإيصال الفعل قال: أجل أنّ اللَّه قد فضلكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمن جراً بني أسد غضبتم ... ولو شئتم لكان لكم جوار ومن جراء ناصرتم عبيداً ... لقوم بعدما وُطيء الخُبارُ الخبار: الأرض اللينة. قوله: (وأهل خباء) البيت، رُوي "أهل" بالحركات الثلاث، أنا آجله: أي: جالبه وكاسبه، يقول: أهل خباء كانوا ذوي صلح وأمن قد وقعوا في الحرب عاجلاً، وأنا جالب عليهم ذلك الحرب وجانيه، يصف نفسه بأنه مهياج للفتنة. قوله: (من أن جنيت فعله وأوجبته) أي: فعلت كذا بسبب أن جنيت فعله وأوجبته. قوله: (من جراك)، الجوهري: فعلت ذلك من جراك وجرائك، أي: من أجلك، لغة في جراك بالتشديد. قوله: (أجل أن الله قد فضلكم) تمامه، أنشد الجوهري لعدي بن زيد يصف جارية: فوق من أحكأ صلباً بإزار

وقرئ: (من أجل ذلك) بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر: (من أجل ذلك) بكسر الهمزة، وهي لغةٌ، فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسرة الهمزة عليها. (بِغَيْرِ نَفْسٍ): بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص. (أَوْ فَسادٍ) عطفٌ على (نفسٍ) بمعنى: أو بغير فساد (فِي الْأَرْضِ) وهو الشرك، وقيل: قطع الطريق. (وَمَنْ أَحْياها): ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة، قتلٍ أو غرقٍ أو حرقٍ أو هدمٍ أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت: لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على اللَّه وهتكت حرمته، وعلى العكس، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: فضلكم بحسب وعفة، أحكأت العقدة وأحكيتها، أي: شددتها. قوله: (وقرئ: "من أجل ذلك") قرأها ورش عن نافع. قوله: (يُدلي بما يُدلي به الآخر) أي: يتوصل، النهاية: ومنه حديث استسقاء عمر رضي الله عنه: وقد دلونا به إليك مستشفعين به، يعني: العباس رضي الله عنه، وهو من الدلو؛ لأنه يتوصل به إلى الماء. الراغب: إن الناس لما كانوا كجسم واحد، ونسبة أحدهم إليه كنسبة أعضاء الجسم الواحد إليه، صار الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعي في إهلاكهم؛ كما أن اساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعي في إهلاك كله، صار قتل الواحد كقتل الناس.

فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأنّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما الفائدة في ذكر ذلك؟ ) أي: في ذكر المذكور من تشديد أمر قتل النفس وإحيائها، وإيراد التشبيهين؟ يُعلم ذلك من الجواب وبيان التصوير المستفاد من التشبيهين، هذا ما عليه كلام الناس، والأظهر أن يكون المشار إليه بذلك تنزيل الواحد منزلة الجماعة، والفاء شاهدة عليه، أي: أن تنزيل الواحد منزلة الجماعة خلاف الظاهر، فما الفائدة في ذلك؟ وكذا قوله في الجواب: "لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور" إلى آخره. فإن قلت: فما المشار إليه بذلك في التنزيل؟ قلت: قال الواحدي: القتل، أي: بسبب قتل قابيل أخاه فرضنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس وجب عليه القصاص، والظاهر أن المشار إليه تعظيم أمر القتل، وعن بعض المفسرين: وإنما ذكر بني إسرائيل دون الناس لأن الكتاب نزل عليهم بهذا ووجب عليهم، وكانت التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، وفي كلام المصنف: "المسفرون في القتل لا يبالون بعظمته" إيماء إلى هذا المعنى، وقلت: وفي تخصيص ذكرهم دون الناس إيذانٌ بأنهم أشد تمادياً في الطغيان، والمعني: بسبب هذه العظيمة وبغلتها كتبنا في التوراة تعظيم القتل وشددنا عليهم وأرسلنا رسلنا تتراً، وأنزلنا عليهم البينات توصية فيه لعلهم يرجعون، ثم إن كثيراً منهم بعد هذه التوكيدات لمجاوزون في القتل حده ولا يبالون بعظمته. قوله: (عظم ذلك) إشارة إلى المتصور، والضمير المستتر في "فثبطه" عائد إلى المتصور، أو إلى العظيم، والضمير المنصوب عائد إلى "المتعرض".

وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهدٍ: قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب اللَّه والعذاب العظيم، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً، أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازي ذلك، فيغفر لك به؟ كلا إنه شيءٌ سوّلته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحداً. (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات (لَمُسْرِفُونَ) يعني: في القتل لا يبالون بعظمته. [(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): يحاربون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً): مفسدين، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد، نزل منزلة: (ويفسدون في الأرض)، فانتصب (فساداً) على المعنى، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي: للفساد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومحاربة المسلمين في حكم محاربته) أي: محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه تمهيد بعد تمهيد، فذكر الله تعالى تمهيد لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيد لذكر المسلمين، لأن قطاع الطريق إنما يحاربون غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو لأن سعيهم في الأرض) أي: {فَسَاداً}، إما حال بمعنى: مفسدين، أو مفعول مطلق، لأن قوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ} بمعنى: يفسدون، لأن سعيهم في الأرض لم يكن غير الفساد.

نزلت في قوم هلال بن عويمرٍ، وكان بينه وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عهدٌ، وقد مرّ بهم قوم يريدون رسول اللَّه، فقطعوا عليهم. وقيل: في العرنيين، فأوحي إليه: أنّ من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أفرد القتل قتل، ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال ورجله لإخافة السبيل، ومن أفرد الإخافة نفى من الأرض. وقيل: هذا حكم كل قاطع طريقٍ، كافراً كان أو مسلماً. ومعناه: (أَنْ يُقَتَّلُوا) من غير صلب، إن أفردوا القتل (أَوْ يُصَلَّبُوا) مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ. قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه: يصلب حياً ويطعن حتى يموت (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) إن أخذوا المال، (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إذا لم يزيدوا على الإخافة. وعن جماعةٍ منهم الحسن والنخعي: أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريقٍ من غير تفصيلٍ. والنفي: الحبس عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: النفي من بلدٍ إلى بلدٍ لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً. وقيل: ينفى من بلده، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأوحي إليه: أن من جمع بين القتل) إلى آخره، وعلى هذا {أَوْ} في الآية للتنويع. قوله: (أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل)، قال شارح "البزدوي": نظر هذا القائل أن كلمة {أَوْ} للتخيير حقيقة، فيجب العمل بها إلى أن يقوم دليل المجاز، ولأن قطع الطريق في ذاته جناية واحدة، وهذه الجزية ذُكرت بمقابلتها فيصلح كل واحد جزاء له، فيثبت التخيير كما في كفارة اليمين، والجواب: لا يمكن القول بالتخيير هاهنا، لأن الجزاء على حسب الجناية ويزداد بزيادتها وينقص بنقصانها، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، فيبعد أن يُقال: عند غلظ الجناية يُعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظها، وذلك أن المحاربة تتفاوت أنواعها في صفة الجناية من تخويف، أو أخذ مال، أو قتل نفس، أو جمع بين القتل وأخذ المال، والمذكور في الآية أجزية متفاوتة في

وكانوا ينفونهم إلى دهلك؛ وهو بلدٌ في أقصى تهامة، وناصع؛ وهو بلدٌ من بلاد الحبشة. (خِزْيٌ): ذلّ وفضيحة. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا): استثناءٌ من المعاقبين؛ عقاب قطع الطريق خاصةً، وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال، فإلى الأولياء، إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا استوفوا. وعن علي رضى اللَّه عنه: أنه الحرث بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريق، فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)]. الوسيلة: كل ما يتوسل به؛ أي: يتقرّب من قرابةٍ أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى اللَّه تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. وأنشد للبيد: أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أمْرِهِمْ ... أَلَا كُلُّ ذّي لُبٍ إلىَ اللَّهِ وَاسِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معنى التشديد والغلظة، فوقع الاستغناء بتلك المقدمة عن بيان تقسيم الأجزية على أنواع الجناية نصاً، وهذا التقسيم يرجع إلى أصل لهم، وهو أن الجملة إذا قوبلت بالجملة ينقسم البعض على البعض، كما يقال لمن يسأل عن حدود الكبائر: هي جلد مئة، أو ثمانين، أو الرجم، أو القطع، يُفهم منه التقسيم والتفصيل لا التخيير، فكذا هاهنا، فظهر أن معنى الآية: أن جزاء المحاربين لا يخلو من هذه الأنواع: إما أن يُقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل، أو يُصلبوا مع القتل إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أفردوا الأخذ، أو ينفوا من الأرض إن أفردوا إخافة السابلة. قوله: (دهلك) غير منصرف، للعجمة والتأنيث. قوله: (أرى الناس لا يدرون) البيت، أوله.

[(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)]. (لِيَفْتَدُوا بِهِ): ليجعلوه فديةً لأنفسهم، وهذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجهٍ. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً، أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك». و(لو) مع ما في حيزه خبر (إن). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل المعنى: الناس لا يدرون ما هم فيه من خطر الدنيا وسرعة فنائها، فكل ذي لب يتوسل إلى الله بطاعة وعمل صالح، واسل: ذو وسيلة، نحو لابنٍ وتامر، أي: متقرب. قوله: (وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم) يعني قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} إلى آخر الآية إذا أخذته بجملته كان كناية عن لزوم العذاب لهم من غير نظر إلى مفردات التركيب. وقلت: ويمكن أن يكون كناية عن أن الوسائل حينئذ غير نافعة، فيكون وزان الآية مع قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وزان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. قوله: (يقال للكافر يوم القيامة) الحديث، رواه البخاري ومسلم مع تغيير يسير.

فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله: فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في: (مِثْلَهُ) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه؟ قلت: بما يستدعيه (لو) من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض. قرأ أبو واقدٍ: (أن يخرجوا) بضم الياء من (أخرج)، ويشهد لقراءة العامّة قوله: (بِخارِجِينَ). وما يروى عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم أن قوما يخرجون من النار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإني وقيار بها لغريب) قبله دعاك الهوى والشوق لما ترنحت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب تجاوبها ورق الحمام لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب أي: إني لغريب وقيار كذل، قيل: قيار: اسم جمله، وقيل: فرسه، وقيل: غلامه الأسود. قوله: (الواو في {وَمِثْلَهُ} بمعنى "مع") قال المصنف: جوزوا أن يقال جاءني زيد وعمرو، أي: مع عمرو. قلت: فعلى هذا {مَعَهُ} في التنزيل تأكيد.

وقد قال اللَّه تعالى: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال: ويحك، اقرأ ما فوقها. هذا للكفار؛ فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وفراهم، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده من بني عبد المطلب، وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحدٌ من أهل الدنيا، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية. [(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعضاده)، الأساس: ومن المجاز: هم أعضاد وأنضاد لغديده وأنصاره، وهم نضده وأنضاده: لأعمامه وأخواله. قوله: (وبرفعه إلى عكرمة، دليلين ناصين أن الحديث فرية)، "برفعه": عطف على "بما فيه"، يعني: أن عكرمة مولى لابن عباس، كيف ينقل هذا الكلام بهذه العبارة في حق مولاه؟ قال صاحب "الجامع": عكرمة كان مولى لابن عباس، أصله من بربر، أحد فقهاء مكة وتابعيها، قيل لسعيد بن جبير: هل أحد أعلم منك؟ قال: عكرمة؟ فيقال: إن أهل السنة ما نقلوها ولا يتمسكون بها، بل بالأحاديث الصحيحة المخرجة في كتب الأئمة المتقنين مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم، وبالتقديم المؤذن بالاختصاص في قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة: 167] كما سبق في البقرة، فلينظر هناك، وروينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن طلق بن حبيب قريباً مما رُوي من حديث عكرمة، قال:

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه، كأنه قيل: وفيما فرض عليكم السارق والسارقة؛ أي: حكمهما. ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط، لأنّ المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأنّ (زيداً فاضربه) أحسن من (زيدٌ فاضربه). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كل آية ذكر الله فيها خلود أهل النار، قال: فإن الذي قرأت هم أهلها المشركون، لكن قوماً أصابوا ذنوباً فعذبوا بها ثم أخرجوا، صُمتا - وأهوى بيديه إلى أذنيه - إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يخرجون من النار"، ونحن نقرأ ما تقرأ. قوله: (لأن "زيداً فاضربه" أحسن من "زيد فاضربه"). عن المصنف: "أن الفاء في قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره"، فعلى هذا يُقدر للمثال: زيداً أي شيء كان فلا تدع فاضربه؛ لأن كليهما لمعنى الشرط، وإنما كان أحسن؛ لأن الشرط يختص بالفعل، والمنصوب أدعى للفعل من المرفوع. وقال الزجاج: الجماعة أولى بالاتباع ولا أحب القراءة بالنصب، لأن اتباع القراءة سُنة، والذي يدل على أن الرفع أجود في: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: والاختيار أن يكون "السارق والسارقة" رفعاً بالابتداء، لأن القصد لا إلى واحدٍ بعينه وليس هو مثل: زيداً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاضربه، وإنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده، ومن زنى فاجلده، وقال شارح "اللباب" في قوله: وقائلة: خولان فانكح فتاتهم إن "خولان": مبتدأ، و"فانكح: خبره، وقد أدخل عليه الفاء، والتقدير: هؤلاء خولان فانكح، كما تقول: زيدٌ فليقم إليه، أي: هذا زيد، فدخول الفاء يدل على أن وجود هذه القبيلة علة لأن يتزوج منها ويتقرب إليها لحسن نسائها وشرفها. وقلت: رجع معنى قوله زيد فاضربه، بالرفع، إلى استحقاق زيد للضرب بما اكتسب ما يستوجبه، وإن ذلك معهود بين المخاطب والمتكلم، فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف المناسب مثل قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}، وليس كذلك: زيداً فاضربه، لأنه من باب الاختصاص مع التأكيد كما سبق في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] فصح قول المبرد: وليس هو مثل زيداً فاضربه. وقال صاحب "الفرائد": الأمر لا يصلح أن يكون خبراً، فيتأول إما بقوله: فمقول فيهما، أي: اقطعوا، أو أن المبتدأ لما كان متضمناً للشرط وأنه جواب له صح أن يكون خبراًن كأنه قيل: إن يسرقا فاقطعوا. قوله: (وفضلها سيبويه على قراءة العامة)، الانتصاف: الاستقراء يدل على أن العامة لا تتفق على غير الأفصح، وجدير بالقرآن ذلك، وسيبويه يُحاشي من اعتقاد ورود القرآن على غير الأفصح، وحمله على الشاذ، وهذا لفظ سيبويه ليُعلم براءته من ذلك، قال في باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وتلخيصه: أن من بني الاسم على فعل الأمر فذلك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النصب، أما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] فلم بُين على الفعل لكن على مثال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، ثم قال بعده: {فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15]، يريد سيبويه تمييز هذه الآية عما اختار فيه النصب بأنه في هذه الآية ليس الاسم مبنياً على الفعل بخلاف غيرها، ثم قال سيبويه: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول على هذا، وكذلك {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ثم جاء {فَاجْلِدُوا} بعد أن مضى فيهما الرفع، يريد سيبويه انه لم يكن الاسم مبنياً على الفعل المذكور بعده، بل بُني على محذوف، وجاء الفعل طارئاً عليه. قال سيبويه: وقد جاء: وقائلةٍ: خولان فانكح فتاتهم فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، كذلك {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أي: فيما فرض عليكم. وقد قرأ ناس: "والسارق والسارقة" بالنصب، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع. يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنياً على الفعل وغيرُ معتمدٍ على متقدم، فكان قوياً بالنسبة إلى الرفع حيث بنى الاسم على الفعل لا على الرفع حين يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، وقد سبق منه أنه يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، والتبس على الزمخشري، لأنه ظن أن الكل باب واحد، ألا تراه قال: "زيداً فاضربه، أحسن من: زيدٌ" رجح النصب مطلقاً، وسيبويه صرح أن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، وحققه بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما نه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير إضمار خبر، بل يرفعه بالابتداء والأمر خبره، فتلخيصه: أن النصب له وجه واحد على الفعل، والرفع على وجهين أضعهما بناء الكلام على الفعل، وأقواهما رفعه بخبر مبتدأ محذوف فتحمل القراءة المشهورة على القوي.

(أَيْدِيَهُما): يديهما، ونحوه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم: 4]، اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، وأريد باليدين اليمينان، بدليل قراءة عبد اللَّه: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم). والسارق في الشريعة: من سرق من الحرز. والمقطع. الرسغ. وعند الخوارج: المنكب. والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبي حنيفة، وعند مالك والشافعي رحمهما اللَّه ربع دينارٍ. وعن الحسن: درهمٌ. وفي مواعظه: احذر من قطع يدك في درهمٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف). قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع، لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما، عُلم أن للاثنين بطنين فقط، وأصل التثنية الجمع، لأنك إذا ثنيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد، وكان الأصل أن يقال في "رجلان": اثنا رجال، ولكن "رجلان" يدل على جنس الشيء وعدده، والتثنية يحتاج إليها للاختصار، فإذا لم يكن اختصار رد الشيء إلى أصله، فإذا قلت: قلوبهما، فالتثنية في "هما" قد أغنتك عن تثنية قلب فصار الاختصار هاهنا ترك تثنية قلب، وقال الشاعر: ظهراهما مثل طيور الترسين فجاء بالتثنية والجمع في بيت واحد. وحُكي عن سيبويه أنه قال: قد يُجمع المفرد الذي ليس منه شيء إذا أردت به التثنية، وحُكي عن العرب: وضعا رحالهما، يريد رحلي راحلتيهما، وقلت: فعلى هذا لا يستقيم تشبيه ما في الآية بقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] لأن لكل من السارق والسارقة يدين اثنتين، فيجوز الجمع وأن تقطع الأيدي جميعاً من حيث ظاهر

(جَزاءً) و (نَكالًا) مفعولٌ لهما. (فَمَنْ تابَ) من السرّاق (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ): من بعد سرقته (وَأَصْلَحَ) أمره بالتقصي عن التبعات؛ (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند أبي حنيفة وأصحابه. وعند الشافعي في أحد قوليه: تسقطه. (مَنْ يَشاءُ): من يجب في الحكمة تعذيبه، والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة؛ ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقط عن المسلم؛ لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة: 179]. فإن قلت: لم قدّم التعذيب على المغفرة؟ قلت: لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللغة، فحينئذ يُحتاج إلى تخصيص اليدين باليمينين، بدليل خارجي من نحو قراءة عبد الله كما في "الكشاف". قوله: (ولا يسقطه عن المسلم، لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين). قال الزجاج: التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإسلام، وأما توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا تدفع عنهم إقامة الحدود، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة، لأن في إقامة الحدود الصلاح للمؤمنين والحياة، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقيل: حق الله من الحد يسقط إن تاب قبل الظفر ولا يسقط بعده، وحق الآدمي كالقود فهو إلى الولي، وإن تاب بعد الظفر لم تقبل توبته ولا يسقط حده. قوله: (لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة)، يريد أن في الآية لفاً ونشراً، الانتصاف:

[(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)]. قرئ: (لا يحزنك) بضم الياء و (يسرعون)، والمعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين (فِي الْكُفْرِ) أي: في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيدِ للإسلام، ومن موالاة المشركين، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرّهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنده أن المغفور لهم هم: التائبون، والمعذبون: السراق، فلا تكون المغفرة تبعاً للمشيئة، بل المشيئة تابعة للتوبة، ونحن نعتقد أن المغفرة تابعة للمشيئة في حق غير التائب، فيدخل السارق في عموم قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وإن لم يتب، وإنما قدم التعذيب لأن السياق للوعيد. وقلت: الحق هذا، لأن قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل للكلام السابق من لدن قصة موسى، ومقابلته الجبارين، وقصة قابيل وهابيل، وأحكام قطاع الطريق، وتحريض المؤمنين على الجهاد، وقطع السراق، وقد يخلص به إلى نوع آخر من الكلام، كأنه قيل له: الحكم في ملكه كيف شاء منع أو أعطي، عذب أو عفا، وهو على كل شيء قدير. قوله: (والمعنى: لا تهتم) في تفسيره: {لا يَحْزُنْكَ} بقوله: "لا تهتم"، وتعليله بقوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "فإني ناصرك" نظرٌ، لأن النهي عن الحزن لم يكن لأنه خاف شرهم فحزن حتى يقال: "إني ناصرك وكافيك شرهم"، وإنما نُهي عن الحزن لأجل مسارعتهم في الكفر، ثم بين بقوله: {مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} بقوله: {وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} إلى آخر الآية على سبيل التعليل، حيث أوقع تلك الصفات صلات للموصولات، أي: سبب مسارعتهم في الكفر: النفاق وسماع الكذب وتحريف كتاب الله وتغيير أحكامه وكتمان نبوته، وذلك الذي أوقعه في الحزن، ألا ترى كيف أوقع {وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً} اعتراضاً مؤكداً لمعنى المعترض فيه؟ ومما يشد من عضد هذا التأويل ما روينا عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن ماجه، عن البراء، قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محممٌ مجلود، فدعاهم، فقال: "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ "، قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ " قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، فحده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه"، فأمر به فرُجم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] في الكفار كلها، وسيجيء الكلام فيه.

يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع فيه سريعاً، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه أسرع شيءٍ إذا وجدوا فرصةً لم يخطئوها. و (آمَنَّا) مفعول (قالوا)، و (بِأَفْواهِهِمْ) متعلق بـ (قالوا) لا بـ (آمنا)، و"مِنَ الَّذِينَ هادُوا" منقطعٌ مما قبله، خبرٌ لـ (سماعون)؛ أي: ومن اليهود قومٌ سماعون، ويجوز أن يعطف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) ويرتفع (سماعون) على: هم سماعون، والضمير للفريقين، أو للذين هادوا. ومعنى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ): قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على اللَّه، وتحريف كتابه، من قولك: الملك يسمع كلام فلانٍ. ومنه: (سمع اللَّه لمن حمده). (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ) يعني: اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتجافوا عنه؛ لما أُفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغٍ من العداوة، أي: قابلون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتهافتهم فيه)، النهاية: التهافت: من الهفت، وهو السقوط قطعة قطعة، وأكثر ما يستعمل التهافت في الشر. قوله: (أسرع شيء) قيل: هو حال، أي: حين وجدوا فرصة تساقطوا على الكفر مسرعين، وأفعل التفضيل يقعُ حالاً إذا كان مضافاً إلى النكرة، نحو: جاءني زيدٌ أحسن ما كان هو عليه، والصحيح أن الظرف، أعني "إذا"، معمول لقوله: "لم يخطئوها"، والجملة مبينة لما قبلها. قوله: ({سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: قابلون لما يفتريه الأحبار). قال الزجاج: الإنسان يسمع الحق والباطل، لكن يقال له: لا تسمع من فلان، أي: لا تقبل قوله، ومنه: سمع الله لمن حمده، أي: تقبل الله منه حمده.

من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. وقيل: سماعون إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه، بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، سماعون من رسول اللَّه لأجل قومٍ آخرين من اليهود وجهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل: السماعون: بنو قريظة، والقوم الآخرون: يهود خيبر. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ): يميلونه ويزيلونه (عَِنْ مَواضِعِهِ) التي وضعه اللَّه تعالى فيها، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك) يعني ذمهم أولاً: أنهم سماعون من أعداء الله، قائلون عمن يحرفون كتاب الله، ثم ذمهم ثانياً: أنهم سماعون من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا يقدرون أن ينظروا إليه فكنى بقوله: {لَمْ يَاتُوكَ} عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليه صلوات الله عليه لأنهم إذا لم يأتوه لم ينظروا إليه، ودل ذلك على شدة بغضهم له، وذلك على إفراط العداوة. قوله: (وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه) عطف على قوله: "قابلون لما يفتريه"، فعلى هذا صلة {سَمَّاعُونَ} في الموضعين محذوفة، واللام للتعليل، وعلى الأول صلة. الجوهري: قولهم: سمعك إليَّ، أي: اسمع مني، واستمعت له أي: أصغيت، يقال: تسمعت إليه وسمعت له كله بمعنى، وقرئ: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى} [الصافات: 8] مخففاً. قال الواحدي: أي: فريق سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ}، يعني يهود خيبر. قال الزجاج: هؤلاء عيون أولئك الغُيب. قوله: (فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع) معناه ما قال في سورة النساء:

(إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) المحرف المزال عن مواضعه (فَخُذُوهُ) واعلموا أنه الحق، واعملوا به، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) وأفتاكم محمدٌ بخلافه (فَاحْذَرُوا) وإياكم وإياه، فهو الباطل والضلال. وروي أن شريفاً من خيبر زنى بشريفةٍ وهما محصنان وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، وقالوا: إن أمركم محمدٌ بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال: "هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا"؟ قالوا: نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض! ورضوا به حكماً. فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أنشدك اللَّه الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أما {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمنٌ بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره". قوله: ({إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} المحرف المزال عن مواضعه) هذا ليس بمقول لهم، بل المصنف وضعه موضع مقولهم، كقوله تعالى: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157]؛ قال: "يجوز أن يضع الله تعالى الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح". قوله: (والتحميم) وهو تسويد الوجه، النهاية: وهو من الحممة، وهي الفحمة. قوله: (كتابه وحلاله وحرامه) عطف الخاص على العام، نحو: ملائكته وجبريل، وليس الحلال والحرام أشرف ما فيه، لكن مقام حكم الزنا وأن الزنا محرم يقتضي ذلك.

هل تجدون فيه الرجم على من أحصن"؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه، النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون، وأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده. (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ): تركه مفتوناً وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من لطف اللَّه وتوفيقه شيئاً. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ) أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم؛ لأنهم ليسوا من أهلها؛ لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع؛ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) [آل عمران: 86]. [(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) 42 - 43]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تركه مفتوناً وخذلانه)، والعجب أن قوله: {وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41] وقع اعتراضاً بين الإعلام بتحريفهم كتاب الله وبين التسجيل بأن ذلك لجل أنه تعالى لا يريد أن يُطهر قلوبهم؛ لأن لفظة {أُوْلَئِكَ} علمٌ بأن الذي يرد عقيبه هو الحامل لمن سبق على اتصافه بذلك الوصف، وموقع هذا الاعتراض بعد إعطاء معنى التوكيد: التعليل، لئلا يتوهم القدري خلاف ما عليه النص القاطع فيحرف كتاب الله ويسلك طريق المجاز، ومع ذلك يقول: "أولئك لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه؛ لأنهم ليسوا من أهلها؛ لعلمه أنها لا تنفع فيهم" نعوذ بالله من الزيغ!

السُّحْت: كل ما لا يحل كسبه، وهو من سحته: إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة، كما قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) [البقرة: 276] والربا بابٌ منه. وقرئ: (لِلسُّحْتِ) بالتخفيف والتثقيل. و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر، من: سحته و (السحت) بفتحتين و (السحت) بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوةٍ جعلها في كمه، فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وحُكي أن عاملاً قدم من عمله فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة وجعل يحدّثهم بما جرى له في عمله، فقال أعرابي من القوم: نحن كما قال اللَّه تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ). وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كل لحمٍ أنبته السحت فالنار أولى به». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لِلسُّحْتِ}، بالتثقيل والتخفيف): التثقيل: ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، والباقون: بالتخفيف. قوله: (العُراضة) وهي هدية القادم من سفره. النهاية: قالت امرأة معاذ وقد رجع من عمله: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهلهم؟ . قوله: (كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به) الحديث، أخرجه أحمد بن حنبل، عن جابر في "مسنده".

قيل: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مخيراً - إذا تحاكم إليه أهل الكتاب - بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاءٍ والنخعي والشعبي: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاءوا حكموا، وإن شاؤوا أعرضوا. وقيل: هو منسوخ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ). وعند أبي حنيفة رحمةُ اللَّه عليه: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وإن زنى منهم رجلٌ بمسلمةٍ، أو سرق من مسلم شيئاً أقيم عليه الحدّ. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم، وهو أعظم الحدود، ويقولون: إنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية. (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم) منع الحريري مثل هذا التكرير في "درة الغواص"، قال: يقولون: المال بين زيد وبين عمرو، بتكرير بين، فيوهمون فيه، والصواب: بين زيد وعمرو، كما قال تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66]، والعلة أن لفظة "بين" تقتضي الاشتراك ولا تدخل إلا على مثنى أو مجموع، كقولك: المال بينهما، والدار بين الإخوة، وأظن أن الذي أوهمهم لزوم تكريره مع الظاهر، وجوب تكريره مع المضمر في مثل قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، فقد وهموا فيه في المماثلة بين الموطنين، وهو أن المعطوف على الضمير المجرور من شرط جوازه تكرير الجار فيه، نحو: مررت بك وبزيد. قوله: ({فَلَنْ يَضُرُّوكَ}، لأنهم كانوا)، اعلم أن أصل الكلام: فإن جاؤوك فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وأن تُعرض عنهم، فلا تخف منهم، فإنهم لن يضروك شيئاً، فوضع "لن يضروك" موضع "لا تخف"، وإنما قدر "لا تخف": "لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه" إلى آخره.

والأهون عليهم، كالجلد مكان الرجم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه، فأمن اللَّه سربه. (بِالْقِسْطِ): بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم. (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ): تعجيبٌ من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ): ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم كما يدّعون، أو: وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم. فإن قلت: (فِيها حُكْمُ اللَّهِ) ما موضعه من الإعراب؟ قلت: إمّا أن ينتصب حالاً من (التوراة) وهي مبتدأٌ خبره "عندهم" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأمن الله سربه)، النهاية: فلان آمنٌ في سربه، بالكسر، أي: في نفسه، ويروى بالفتح، وهو المسلك والطريق، يقال: خل سربه، أي: طريقه، فعلى هذا كناية. قوله: (حالاً من {التَّوْرَاةَ}، وهي مبتدأ خبره "عندهم"). قال أبو البقاء: {كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} {كَيْفَ}: حال من ضمير الفاعل في {يُحَكِّمُونَكَ}، {وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ}: الجملة في موضع الحال، {التَّوْرَاةُ}: مبتدأ، و"عندهم": الخبر، ويجوز أن ترتفع {التَّوْرَاةُ} بالظرف، و {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أيضاً: حال، والعامل فيها ما في "عند" من معنى الفعل، و {حُكْمُ اللَّهِ}: مبتدأ أو معمول الظرف. وقلت: في الكلام أحوال متداخلة، وقول المصنف: "حالاً من {التَّوْرَاةُ} " أي: من الضمير في الخبر للتوراة.

وإما أن يرتفع خبراً عنها، كقولك: وعندهم التوراة ناطقةٌ بحكم اللَّه، وإمّا أن لا يكون له محل، وتكون جملة مبينةٌ؛ لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت: لم أنثت التوراة؟ قلت: لكونها نظيرة لموماة ودوداة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإما أن يرتفع خبراً عنها). قال صاحب "التقريب": {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ}: خبر للتوراة، و"عند": متعلق بالخبر مقدماً عليه، وفيه تعقيد. وقلتُ: ويمكن أن يقال: إن قوله: {التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} جملة في تأويل المفرد، يعني: عندهم هذه القضية، وفائدته أن هذا الحكم بين في التوراة غير مخفي، ولهذا قال: "ناطقة بحكم الله". قوله: (جملة مبينة، لأن عندهم) اللام مبينة، يعني: قوله: {عِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ} معناه: "عندهم ما يغنيهم"، وكذلك قوله: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} متضمن لهذا المعنى، ويحتمل أن يكون تعليلاً، وبيانه: أن قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ} إنكار عليهم وتعجب في تحكيمهم لمن لا يؤمنون به، و {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} إثبات لاستغنائهم عن التحكيم، ودل عليه تقديم الخبر، أي: الحكم الذي يريدونه منصوص فيها لا يحتاجون إلى كتاب آخر، وهو معنى قوله: "عندهم ما يُغنيهم"، وكان بياناً له بهذا التقدير أيضاً. فإن قلت: قوله: "وعندهم ما يغنيهم" يوهم أن ما في التوراة ثابت، وأنهم يستغنون به عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله في المثال: "فما تصنع بغيره؟ "، قلت: هذا إنما يقال في مقام التعجب وذم من يركب متن الباطل ويتعرج عن المنهج الواضح المستقيم ويسأل غير من يرشده إليه تعنتاً ولبساً للحق الجلي. قوله: (لموماة)، الجوهري: الموماة واحدة الموامي، وهي: المفاوز، أصلها: موموة، على فعللة، وهو مضاعف قلبت واوه ألفاً، وأما الدوداة فما وجدته في كتب اللغة، وفي "الحاشية": أنها أرجوحة الصبي.

ونحوها في كلام العرب. فإن قلت: علام عطف (ثم يتولون)؟ قلت: على (يحكمونك). [(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)]. (فِيها هُدىً) يهدى للحق والعدل (وَنُورٌ) يبين ما استبهم من الأحكام. (الَّذِينَ أَسْلَمُوا): صفةٌ أجريت على "النبيين" على سبيل المدح كالصفات الجارية على القديم سبحانه، لا للتفصلة والتوضيح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأنّ اليهودية بمعزلٍ منها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: صفة أجريت على "النبيين" على سبيل المدح ... لا للتفصلة والتوضيح)، الانتصاف: وفيه نظر، فلا يجوز مدح نبي على كونه رجلاً مسلماً؛ لأن النبوة أعظم من الإسلام، فالوجه: أن الصفة ذُكرت لتعظيم نفسها، وتنويه شأنها، إذا وُصف بها عظيم القدر، ومنه وصف الأنبياء بالصلاح، والملائكة بالإيمان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} إلى قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7]، وقد قيل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وقال: فلئن مدحت محمداً بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد ولولا حملها على هذا لخرجنا عن قانون البلاغة في الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على عكسها، ما قال المتنبي: شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها

وقوله: (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) منادٍ على ذلك. (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ): والزهاد والعلماء من ولد هارون، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ): بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فنزل عن الشمس إلى الهلال وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صناعته. وقلت: والذي يقضي العجب من هذا الفاضل قوله: إن الصفة ذُكرت لتعظيم نفسها وتنويه شأنها إذا وُصف بها عظيم القدر، وليست بصفة مدح، فيقال: إذا لم تكن صفة مدح فهل تكون للتي للتفصلة والتمييز، أو الكشف والتوضيح، أو للتقرير والتوكيد؛ إذ لا خامس! أو كيف يتسنى لك ما تقصد به من التعظيم والتنويه، وكونها مرغوباً فيها إذا لم تحملها على المدح وتقول: إذا كان النبيون مع جلالة قدرهم ورفعة منصبهم يتمدحون بوصف الإسلام فما بال الغير؟ فعند ذلك يحصل التنويه والتغريب، وإليه أشار صاحب "المفتاح" بقوله: لو أريد اختصاره لما انخرط في الذكر {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] إذ ليس أحدٌ من مصدقي حملة العرش يُرتاب في إيمانهم، ووجه حسن ذكره إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه. قوله: ({الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} منادٍ على ذلك) يعني: في وصف الأنبياء بكونهم مسلمين بعد ذكر التوراة تعريض باليهود وأنهم بعداء عن ملة الإسلام ودين الإسلام ودين الأنبياء، ثم في اقتران {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} بقوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا}، لإرادة أن الأنبياء المسلمين يحملون اليهود على أحكام التوراة تصريح فيما عرض به أولاً، والحاصل أن في كل من اللفظتين واختصاصه بالذكر رمزاً لى معنى وإشارة إلى دقيقة على سبيل الإدماج.

أي: بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل. و (مِنْ) في (مِنْ كِتابِ اللَّهِ) للتبيين. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ): رقباء كي لا يبدل؛ والمعنى: يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبيّ (للذين هادوا) يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {مِن} في {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} للتبيين)، وهذا لا يوافق تفسيره، وهو قوله: "بسبب سؤال أنبيائهم"، لأن "مِنَ" التبيينية تستدعي موصوله، وقد فُسر بما يُنبئ عن كونها مصدرية لكن مراده تلخيص المعنى. قوله: (وعيسى) معطوف على فاعل الحكم، وهو النبيون. قوله: ({لِلَّذِينَ هَادُوا} يحملونهم على أحكام التوراة)، الجوهري: حكم بينهم بحكم، أي: قضى، وحكم له وعليه، والمصنف أتى في كلامه بعلى، وهو موهم مبدل من اللام، وليس به، لأن اللام في {لِلَّذِينَ هَادُوا} بمعنى "لأجل" وليست بصلة، مثلها في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، قال المصنف: " {لِلَّذِينَ آمَنُوا}: لأجلهم"، ولا ارتياب بأن النبيين المسلمين إذا حكموا لأجل من يخالفهم إلى وصف اليهودية حملوهم على ما هم عليه من الحق، ولا يتركونهم أن يعدلوا عنه إلى هواهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حكم لأجل اليهود في الزانيين دعا ابن صوريا وقال له: "والذي أنزل عليكم الكتاب، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ " قال: نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرُجما عند باب مسجده، فرجع مآل المعنى إلى: حكم له، فاللام للعاقبة.

وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب اللَّه والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في: (اسْتُحْفِظُوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من اللَّه، أي: كلفهم اللَّه حفظه، وأن يكونوا عليه شهداء. (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ): نهيٌ للحكام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذلك حكم الربانيون) عطف على جملة قوله: "يحكم بأحكام التوراة النبيون"، وقوله: "كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" كالمستطردة. وقال أبو البقاء: الربانيون: مرفوع المحل بفعل محذوف، أي: ويحكم، هذا إذا علق {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} بـ {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} فقط، وإنما قال المصنف: "حكم" وفي التنزيل: {يَحْكُمْ} ليؤذن أن ما في التنزيل لحكاية الحال الماضية. قوله: (ويجوز أن يكون الضمير في {اسْتُحْفِظُوا} للأنبياء والربانيين والأحبار) عطفٌ من حيث المعنى على قوله: "بما سألهم أنبياؤهم"، وكان الضمير على الأول: للربانيين والأحبار، يعني: استحفظوا سؤال الأنبياء الأحبار والربانيين أن لا يُضيعوا أحكام الكتاب ولا يُهملوا شرائعه، وإليه الإشارة بقوله: "أن يحفظوه من التغيير والتبديل"، وإنما سماهم المصنف مسلمين في قوله: و"كذلك حكم الربانيون والأحبار المسلمون" لأنهم حينئذ خلفاء الأنبياء في ذلك المعنى، وإليه الإشارة بقوله: "الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود"، وعلى الثاني {اسْتُحْفِظُوا} معناه: كلفوا حفظه لئلا يُنسى، والمأمور إذن كلهم، والآمر الله عز وجل، و {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} على هذا الظاهر أن يكون بدلاً من {بِهَا} بإعادة الباء، قاله أبو البقاء. {وَكَانُوا}: عطف على {اسْتُحْفِظُوا}، وعلى الأول: الباء في {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} للسببية. قال أبو البقاء: في وجه آخر: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} مفعول به، أي: يحكمون بالتوراة

عن خشيتهم غير اللَّه في حكوماتهم وإدهانهم فيها، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطانٍ ظالمٍ، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء. (وَلا تَشْتَرُوا): ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه (ثَمَناً قَلِيلًا): وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرّف أحبار اليهود كتاب اللَّه، وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة، فهلكوا. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) مستهيناً به (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)، و (الظالمون) و (الفاسقون): وصفٌ لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات اللَّه بالاستهانة، وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما: أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب. وعنه: نعم القوم أنتم، ما كان من حلوٍ فلكم، ومن كان من مرّ فهو لأهل الكتاب، من جحد حكم اللَّه كفر، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالمٌ فاسقٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بسبب استحفاظهم ذلك، و"ما" بمعنى "الذي"، ومن ثم قال المصنف في الأول: "بسبب كونهم شهداء"، وفي الثاني: "وأن يكونوا عليه شهداء"، وقال صاحب "المفتاح": والمفعول المتعدي إليه بغير واسطة أصله التقديم على المتعدي إليه بواسطة، نحو: ضربت الجاني بالسوط. قوله: (وإدهانهم)، الأساس: ومن المجاز: أدهن في الأمر وداهن: صانع ولاين. قوله: (لخشية سلطان) ينازع فيه قوله: "إدهانهم وإمضائها". قوله: (ما كان من حلو فهو لكم) يعني: أيها المسلمون، إن الله تعالى لما أراد مدحكم التي بصفتكم التي هي الإسلام وأوقعها صفة مدح للأنبياء، وحين أراد ذم أهل الكتاب كفرهم وظلمهم وفسقهم. قوله: (من جحد حكم الله كفر) من كلام ابن عباس رضي الله عنه، روى الواحدي عن

وعن الشعبي: هذه في أهل الإسلام، و (الظالمون) [المائدة: 45] في اليهود، و (الفاسقون) [المائدة: 47] في النصارى. وعن ابن مسعود: هو عام في اليهود وغيرهم. وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتاً ببني إسرائيل، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوالبي، عن ابن عباس: من جحد شيئاً من حدود الله فقد كفر، ومن أقر بها ولم يحكم بها فهو ظالم فاسق. وقال طاووس: قلت لابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؟ قال: هو به كافر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. ومما يُقوي أن هذه الآيات نازلة في أهل الكتاب، الحديث الذي روينا في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] عن البراء. قوله: (وعن الشعبي: هذه في أهل الإسلام) عطف على قوله: "وصف لهم بالعُتو في كفرهم" وهو خبر قوله: {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ}، وكلام ابن عباس وارد على لك المعنى، فيلزم على قول الشعبي أن يكون المؤمنون أسوأ حالاً من اليهود والنصارى، ويمكن أن يقال: إن المسلمين إذا نُسب إليهم الكفر حُمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وُصف بالظلم والفسق أشعر بعتوهم في الكفر وتمردهم فيه، ثم الخطاب بقوله: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ} إن كان مع أهل الكتاب كما يؤدي إليه قول ابن عباس، والفاء جزاء شرط محذوف، أي: إذا استحفظتم أيها الأحبار كتاب الله فلا تخشوا الناس، وإن كان مع المسلمين كما يُنبئ عنه قول الشعبي فالفاء فصيحة، إذ المعنى حينئذ: أنتم أيها المسلمون حين تليت عليكم أخبار النبيين والربانيين والأحبار واستحفاظهم كتاب الله وما عرض باليهود الذين غيروا دين الله وبدلوا كتابه وحكموا بغير ما أنزل الله رغبة في الدنيا ورهبة عن الناس وعرفتم حالهم؛ فلا تكونوا مثلهم فتخشوا الناس وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً. قوله: (وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتاً ببني إسرائيل) الحديث من رواية أبي واقد

لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا؟ [(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)]. في مصحف أبيّ: (وأنزل اللَّه على بني إسرائيل فيها)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الليثي، في "جامع الأصول": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "والذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه الترمذي، وزاد رزين: "حذو النعل بالنعل والقُذة بالقُذة، حتى إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ ". قوله: (لتركبن) أي: تتبعن، النهاية: في الحديث: "فإذا عُمر قد ركبني" أي: تبعني وجاء على أثري؛ لأن الراكب يسير بسير المركوب، يقال: ركب أثره وطريقه: إذا تبعه، وقال الميداني: "حذو القُذة بالقُذة" أي: مثلاً بمثل، يُضرب في التسوية بين الشيئين، ومثله: حذو النعل بالنعل، والقُذة لعلها من القذ وهو القطع يعني به قطع الريشة المقذوذة على قدر صاحبتها في التسوية، وهي "فُعلة" بمعنى "مفعولة" كاللقمة والغُرفة. قوله: (في مصحف أبي: "وأنزل الله على بني إسرائيل فيها") يعني: في مصحفه بدل {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا}: "وأنزل الله على بني إسرائيل فيها".

وفيه: (وأن الجروح قصاص). والمعطوفات كلها قرئت منصوبةً، ومرفوعةً، والرفع للعطف على محل (أن النفس) لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس- إما لإجراء "كتبنا" مجرى "قلنا"، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك: النفس بالنفس مما يقع عليه الكتابة، كما تقع عليه القراءة، تقول: كتبت: (الحمد للَّه)، وقرأت: (سورة أنزلناها) [النور: 1]، ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: إن النفس بالنفس- بالكسر- لكان صحيحاً، أو للاستئناف، والمعنى: فرضنا عليهم فيها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه) أي: في مصحف أبي بدل {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}: (وأن الجروح قصاص). قوله: (والمعطوفات كلها قرئت منصوبة)، الكسائي: (والعين بالعين)، وما بعده بالرفع، ورفع ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو، (والجروح) فقط، والباقون كل ذلك بالنصب، قال الزجاج: والرفع على وجهين: أحدهما: العطف على موضع {بِالنَّفْسِ} والعامل فيها معنى وكتبنا عليهم: النفس بالنفس، أي: قلنا لهم: النفس بالنفس، ويجوز كسر "إن" ولا أعلم أحداً قرأ بها، وثانيهما: (رفعُ العين بالعين) على الاستئناف، ويجوز أن يكون عطفاً على المضمر في قوله: {بِالنَّفْسِ}، المعنى: أن النفس مأخوذة هي بالنفس، و (العين) معطوفة على"هي". قوله: (كما تقع عليه القراءة) يعني: يكون محل "إن النفس بالنفس" مرفوعاً على الحكاية، و"العين بالعين" معطوف عليه على هذا التقدير، وفيه بحث. قوله: (أو: للاستئناف) وهو عطف على قوله: "والرفع للعطف".

(أَنَّ النَّفْسَ) مأخوذةٌ (بِالنَّفْسِ): مقتولةٌ بها إذا قتلتها بغير حق، (وَ) كذلك (الْعَيْنَ) مفقوءةٌ (بِالْعَيْنِ)، و (الْأَنْفَ) مجدوعٌ (بِالْأَنْفِ)، (وَالْأُذُنَ) مصلومةٌ (بِالْأُذُنِ)، (وَالسِّنَّ) مقلوعةٌ (بِالسِّنِّ)، (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ): ذات قصاصٍ، وهو المقاصة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما؛ كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. (فَمَنْ تَصَدَّقَ) من أصحاب الحق (بِهِ) بالقصاص وعفا عنه (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). فالتصدق به كفارةٌ للمتصدق يكفر اللَّه من سيئاته ما تقتضيه الموازنة، كسائر طاعاته. وعن عبد اللَّه بن عمرو: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وقيل: فهو كفارةٌ للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق، سقط عنه ما لزمه. وفي قراءة أُبيّ: (فهو كفارته له) يعني: فالمتصدق كفارته له، أي: الكفارة التي يستحقها له، لا ينقص منها، وهو تعظيمٌ لما فعل، كقوله تعالى: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40]، وترغيب في العفو. [(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) 46 - 47]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: ما يمكن فيه القصاص) يعني: جاء قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} مطلقاً في استيفاء القصاص من كل ما يسمى جرحاً، لكنه مقيد فيما يمكن فيه القصاص وتُعرف المساواة كالمذكورات، وفيما لم تعرف المساواة المحكومة لا غير. قوله: (ما تقتضيه الموازنة) مذهبه. قوله: (فالمتصدق كفارته له) أي: فالمتصدق يصدقه له. قوله: (كقوله: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يعني كأن قوله: "فالمتصدق كفارته له" وعدٌ من الله تعالى

قفيته مثل: عقبته: إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلانٍ، وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء. فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت، هو محذوفٌ، والظرف الذي هو (عَلى آثارِهِمْ) كالسادّ مسدّه؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في (آثارهم) للنبيين في قوله: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) [المائدة: 44]. وقرأ الحسن: (الإنجيل) بفتح الهمزة فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية، كما خرج هابيل وآجر. (وَمُصَدِّقاً) عطفٌ على محل (فِيهِ هُدىً) ومحله النصب على الحال. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً) يجوز أن ينتصبا على الحال. كقوله: (مُصَدِّقاً) وأن ينتصبا مفعولاً لهما، كقوله: (وَلْيَحْكُمْ) كأنه قيل: وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل اللَّه فيه من الأحكام. فإن قلت: فإن نظمت "هُدىً" و"مَوْعِظَةً" في سلك (مصدقاً) فما تصنع بقوله: (وليحكم)؟ قلت: أصنع به ما صنعت بـ"هدى" و"موعظة" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤكداً بقوله: {لَهُ}، كما تقول: زيدٌ ماله له، فإن "له" تأكيدٌ لدفع توهم من يزعم أن المال الذي لزيد وبيده لغيره، كما أن "على" في قوله: {عَلَى اللَّهِ} تأكيد للوعد لما يقتضيه من الوجوب. قوله: (فأين المفعول الأول؟ ) إشارة إلى أن الأصل: فقفيناهم على آثارهم، كقولك: قفيته بفلان. قوله: (يجوز أن ينتصبا على الحال)؛ لأن ما تقدمهما من قوله: {مُصَدِّقاً}: حالٌ، ويجوز أن ينتصبا مفعولاً لهما؛ لأن ما تأخر فيهما من قوله: {وَلْيَحْكُمْ} مفعول له، فيكون التقدير: وللهدى والموعظة والحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام، آتيناه الإنجيل، وإنما فصل المصنف ببين التعليلين والثالث لوقوع الفصل في التنزيل بقوله: {لِلْمُتَّقِينَ}، ولينبه على أن الثالث ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل ومن ثم أتى باللام.

حين جعلتهما مفعولاً لهما، فأقدّر: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه آتيناه إياه. وقرئ: (وليحكم) على لفظ الأمر بمعنى: وقلنا ليحكم. وروى في قراءة أبى: (وأن ليحكم) بزيادة (أن) مع الأمر على أنّ «أن» موصولةٌ بالأمر: كقولك: أمرته بأن قم كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل. وقيل: إن عيسى عليه السلام كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) يردّ ذلك، وكذلك قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة: 48] ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن "أن" موصولة بالأمر) أراد بالموصول: ما لا يتم إلا بما بعده، نحو: أريد أن أفعل وجاءني الذي عرفته. قوله: (وكذلك قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}، الراغب: الشرعة والشريعة: الطريقة الظاهرة التي توصل إلى الماء، فهي للدين الذي يوصل إلى الحياة الأبدية كما سُمي به كناية الماء، والمنهاج: الطريق المستقيم، وقيل: الشرعة: إشارة إلى الدين وهو الشرع، والمنهاج إشارة إلى الدليل الذي يوصل إلى معرفته، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}: ديناً وسبيلاً. إن قيل: كيف قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فاقتضى ذلك أن لكل واحد من الأنبياء شريعة غير شريعة الآخر، وقال في موضع: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فذكر أنه شرع لجميعهم شريعة واحدة؟ قيل: الذي استوى فيه الشرائع هو

وإن ساغ لقائلٍ أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل اللَّه فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. [(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)]. فإن قلت: أي: فرق بين التعريفين في قوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وقوله: (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ)؟ قلت: الأول تعريف العهد، لأنه عنى به القرآن. والثاني تعريف الجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة: ويجوز أن يقال: هو للعهد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصول الإيمان والإسلام، أعني: التوحيد والصلاة والزكاة والصوم؛ فإن أصول هذه الأشياء لا ينفك منها شرع بوجه، فأما الذي ذُكر أنه تفرد كل واحد من الأنبياء بفروع العبادات من كيفياتها وكمياتها، فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل أحد، وعلى مقتضى الحكمة في الأزمنة المختلفة، ووجه آخر: أن الشرائع إذا اعتبرت بالشارع ومقتضى حمته يصح أن يقال: إن كلها واحدة، وكذا إذا اعتبرت بالغرض والقصد الذي هو مصلحة المشروع له، وإذا اعتبرت بذوات الأفعال فهي شرائع كثيرة، وعلى هذين النظرين، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] وقال في موضع آخر: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} [الرحمن: 29]. قوله: (لقائل أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة).قال القاضي: هذا خلاف الظاهر، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كان مستقلاً بالشرع.

لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق وإنما أريد نوع معلومٌ منه، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن. (وَمُهَيْمِناً): ورقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. وقرئ (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) بفتح الميم، أي: هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال: (لا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 42] والذي هيمن عليه اللَّه عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلدٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نوع معلوم منه، وهو ما أنزل الله من السماء سوى القرآن) وحاصل الوجه الأول يرجع إلى هذا؛ لأن {الْكِتَابَ} مطلق فيما يصح أن يقال له: كتابٌ، ولا ارتياب أن الكتب الباطلة غير محصورة، فلا يكون القرآن مصدقاً لها، فرجع إلى أن الكتب السماوية هي التي تستحق أن تسمى كتاباً لكمالها، وأن غيرها كأنها ليست بكتاب كما ذكره في قوله: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة 1، 2]. نعم، الفرق من حيث المبالغة. قوله: ("ومهيمناً عليه" بفتح الميم) فعلى هذا لا يكون فيه ضمير، والضمير في {عَلَيْهِ} يعود إلى الكتاب الأول، وعلى تقدير كسر الميم الضمير يعود إلى الكتاب الأول وفي {عَلَيْهِ} إلى الكتاب الثاني. قوله: (أي: هو من عليه). قال أبو البقاء: أصل مهيمن: ميمن، لأنه مشتق من الأمانة لأن المهيمن الشاهد، وليس في الكلام "همن" حتى تكون الهاء أصلاً. قوله: (والذي هيمن عليه)، الأساس: هيمن على كذا: إذا كان رقيباً عليه حافظاً، والله عز وجل مهيمن. قوله: (أو الحفاظ في كل بلد). قلت: هذا أيضاً من حفظ الله، وفي الحقيقة: الله هو الحافظ

لو حُرِّف حَرْفٌ منه، أو حركةٌ أو سكونٌ لتنبه عليه كل أحدٍ ولاشمأزوا رادّين ومنكرين. ضمن (وَلا تَتَّبِعْ) معنى: ولا تنحرف فلذلك عُدّي بـ"عن"، كأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيها الناس (شِرْعَةً) شريعةً. وقرأ يحيى بن وثابٍ: بفتح الشين. (وَمِنْهاجاً): وطريقاً واضحاً ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحده، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. قال المصنف: "وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخالف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغياًن فكان التحريف، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه". قوله: (لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم)، هذه الضوابط المذكورة هي التي يعول عليها في التضمين، حيث أوقع الفعل المضمن فيه حالاً، وأقام المضمن مقامه لتعم الفائدة، قال في الكهف: "الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع المعنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد". فإن قلت: هلا حمله على الحال ليكون المعنى: لا تتبع أهواءهم منحرفاً عما جاءك من الحق؟ قلت: المقام يستدعي ذم القوم، وهذا أدخل في الذم، كأنه نهى عن الانحراف عن الحق مطلقاً، ثم أتى بما ظهر أن ذلك الانحراف هو متابعة أهواء أولئك الزائغين؛ إيذاناً بأن أولئك أعلام في الانحراف عن الحق، وكذلك الحال، فإنه قيدٌ للفعل فيوهم أنه تجوز المتابعة إذا زال الانحراف، ويقرب منه قولك: "هل أدلك على أفضل الناس وأكرمهم؟ فلان، فإنه أبلغ من قولك: هل أدلك على فلان الأفضل الأكرم؟ " ذكره المصنف في سورة الفاتحة.

في الدين تجرون عليه. وقيل: هذا دليلٌ على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً): جماعة متفقةً على شريعةٍ واحدةٍ. أو ذوي أمةٍ واحدةٍ؛ أي: دينٍ واحدٍ لا اختلاف فيه، (وَلكِنْ) أراد (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا). قال الإمام: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخاً بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} الآية [المائدة: 44]، وتقريره: أنه تعالى قال: إن في التوراة هدى ونوراً، والمراد هدى ونور في أصول الشرع وفروعه، ولو كان الحكم غير معتبر بالكلية لما كان فيه هدى ونور، ولأن هذه الآية نزلت في مسالة الرجم فيجب أن تدخل الأحكام أيضاً في الهدى والنور. وقال أيضاً في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}: احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لم يلزمنا، لأنها تدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة، فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} إلى قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]؟ والجواب: أنا الثانية مصروفة إلى ما يتعلق بأصول الدين، والأولى بفروعه، وقال: الخطاب في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ}: للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم وسلامه، لأن الآيات السابقة اللاحقة فيهم، وقال: الشرعة: عبارة عن مطلق الشريعة، والمنهاج: عن مكارم الشريعة.

قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن اللَّه لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ): فابتدروها وتسابقوا نحوها. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ): استئنافٌ في معنى التعليل لاستباق الخيرات. (فَيُنَبِّئُكُمْ): فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل. [(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) 49]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أما الاستدلال بقوله: إن الله وصف التوراة بكونها فيها نور وهدى، ثم عقبه بقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} فدل على أن بعض أحكامها معتبر، فضعيف؛ لأنه يكفي في صدق كونها هدى أن يكون هدى قبل النسخ، وأما مسألة الرجم فإنه صلوات الله عليه وسلامه أمر أولاً بالرجم، ولما أبوا دعا بالتوراة تقريراً، وأما آية الرجم فقد ذكرناها في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس، عن عمر، وفي رواية ابن ماجه: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" مَا نَنسَخْ مِنْ آيَة. قوله: ({إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات)، يعني: هو جواب مع ما يعقبه بسؤال مورده {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} مع ما هو مترتب عليه بالفاء، يعني: أنه تعالى لما خاطب الأمم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم بقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي: شريعة بحسب ما تقتضيه الأوقات من المصالح؛ ليختبركم أيكم يعتقد أنها

فإن قلت: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) معطوفٌ على ماذا؟ قلت: على: (الْكِتابَ) في قوله: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة: 48] كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ «أن» وصلت بالأمر، لأنه فعلٌ كسائر الأفعال، ويجوز أن يكون معطوفاً على: (بِالْحَقِّ) [المائدة: 48] أي: أنزلناه بالحق وبأن احكم. (أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ): أن يضلوك عنه، ويستزلوك، وذلك أن كعب بن أسيدٍ وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيسٍ من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمدٍ نفتنه عن دينه؛ فقالوا له: يا محمد، قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدّقك، فأبى ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فنزلت. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم بما أنزل اللَّه إليك وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) يعني: بذنب التولي عن حكم اللَّه وإرادة خلافه فوضع (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) موضع ذلك، وأراد أنّ لهم ذنوباً جمةً كثيرة العدد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حكمة من الله تعالى وإن خفي عليه وجه الحكمة فيستبق إلى ما شرعه الله تعالى في كل وقت، ولا يتبع هواه، وأيكم يتبع هواه؟ اتجه لهم أن يسألوا: ما تلك الحكمة؟ ومتى تُعلم حقيقتها؟ فأجيبوا: إذا ما رجعتم إلى الله تعالى في دار الجزاء فيجازيكم إما بالثواب أو بالعقاب ليفصل بين المحق والمبطل وبين العامل والمفرط، وحينئذ تعلمون وجه الحكمة ولا تشكون فيه، مثاله: إذا قلت: فما ادري من المقبول منا ومن المردود عند الأمير؟ فيقال لك: إذا رأيت أنه خلع على فلان وعاقب فلاناً علمت المقبول والمردود ولا تشك فيه. قوله: (ويجوز أن يكون معطوفاً على {بِالْحَقِّ} أي: أنزلناه بالحق وبأن احكم). قلت: ولو جعله عطفاً على {فَاحْكُمْ} من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} كان أحسن.

وأنّ هذا الذنب - مع عظمه بعضها وواحدٌ منها، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه. ونحو "البعض" في هذا الكلام ما في قول لبيدٍ: أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا أراد: نفسه، وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفساً أي: نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يرتبط بعض النفوس حمامها)، أوله: تراك أمكنة إذا لم أرضها وقبله: أو لم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل جذامها تراك: ترتفع على الإتباع لـ "وصال" و"جذام"، أو يرتبط: مجزوم عطف على "أرضها" أي: الم تدر المحبوبة أني وصال عقد من يحاول مودتي، وقطاع لمن يقطع محبتي، وأني جوال الفيافي قطاع المهامه، وأني تراك أماكن إذا لم أرضها، أو: ألم يقدر أني أموت فيها؟ يعني: أنه مجتهد في الرحلة إذا لم تعق العوائق، والظاهر أن "أو" بمعنى "بل"، وقد جاء في "الصحاح": {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: بل يزيدون، وقال الزوزني: المعنى: إني لا أترك الأماكن اجتويها وأقليها، إلى أن أموت. قوله: (فكذلك إذا صرح بالبعض) يعني: كما وضع التنكير للتعليل الذي فيه معنى البعضية، وقد يُراد به في مثل قوله تعالى حكاية عن السحرة: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} [الأعراف: 113]

(لَفاسِقُونَ): لمتمرّدون في الكفر معتدون فيه، يعنى أنّ التولي عن حكم اللَّه من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر. [(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)]. (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) فيه وجهان: أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وروي أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» قال: فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت. والثاني: أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتابٍ وعلمٍ، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من اللَّه تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التكثيرُ، كما يُراد من "رب" وهو للتقليل في نحو قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] التكثير، كذلك حكم البعض، وهو استعارة تمليحية ضد التهكمية. قوله: (طلبوا إليه) أي: جاؤوا إليه وانتهوا أو توجهوا إليه طالبين. قوله: (أن يكون تعبيراً لليهود) وعلى الأول كان توبيخاً، أي: يريدون أن يحكموا كما حكم أولئك القوم. ولم يكن مفهوم الجاهلية منظوراً إليه بخلافه في الثاني ليصح التعبير بالجهل، ولذلك قال: "بأنهم أهل كتاب وعلم" وقدر المضاف في الأول: الأهل، وفي الثاني: الملة، كالرجل إذا سُمي بأحمد له اعتباران: مجرد العلمية تارة، ومع الوصف أخرى، ويجوز أن لا يُراد بالجاهلية المشركون، بل كل من نسب إلى الجهل بسبب ابتغائه غير حكم الله تعالى، كما قال الحسن: والحكم حكمان: حكم بعلم، فهو حكم الله، وحكم بجهل، فهو حكم الشيطان.

وعن الحسن: هو عامّ في كل من يبغى غير حكم اللَّه. والحكم حكمان: حكمٌ بعلمٍ، فهو حكم اللَّه، وحكمٌ بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية. وقرئ: (تبغون) بالتاء والياء. وقرأ السلمي: (أفحكم الجاهلية يبغون) برفع "الحكم" على الابتداء، وإيقاع "يبغون" خبراً، وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) [الفرقان: 41] وعن الصفة في: الناس رجلان، رجل أهنت، ورجل أكرمت. وعن الحال في «مررت بهندٍ يضرب زيد». وقرأ قتادة: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. اللام في قوله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) للبيان كاللام في: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ قتادة: أفحكم الجاهلية)، وقال أبو البقاء: يُقرأ بفتح الحاء المهملة والكاف والميم، وهو منصوب بـ {يَبْغُونَ}، أي: أحكم حكم الجاهلية. قوله: (اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [للبيان] كاللام في: {هَيْتَ لَكَ} أي: بيان لا صلة، وفي {هَيْتَ} ضمير مستتر هو فاعله، و {لَكَ} بيان للمهيت به. قال أبو البقاء: {لْقَوْمٍ} هو في المعنى عند قوم يوقنون، وليس المعنى: أن الحكم لهم، وإنما المعنى: أن الموقن يتدبر حكم الله فيحسن عنده، ومثله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77].

فإنهم هم الذين يتيقنون أن لا أعدل من اللَّه ولا أحسن حكما منه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ* وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)]. لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهى بقوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي: إنما يوالي بعضهم بعضاً لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم؟ ! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للموقنين، وقيل: هي على أصلها، أي: حكم الله للمؤمنين على الكافرين، وكذلك الآية لهم، أي: الحجة لهم، يقول المصنف: "هم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله" هو معنى قول أبي البقاء: إن الموقن يدبر حكم الله فيحسن عنده، أي: هم الذين ينتفعون به. قوله: (ولا أحسن حكماً منه) إشارة إلى أن الاستفهام في قوله: "من أحسن" للإنكار، والجملة حال مقررة لجهة الإشكال، والخطاب عام أي: أيبتغون حكم أهل الجاهلية؟ والحال أنه لا أحسن حكماً من الله لمن له إيقان بتدبير حكم الله تعالى ويعلم أنه لا أعدل من الله، قال أبو البقاء: {وَمَنْ أَحْسَنُ}: مبتدأ وخبرٌ، وهو استفهام في معنى النفي. قوله: (فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم) أي: فما يصنع من دينه خلاف دينهم مع موالاتهم ومصافاتهم؟

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ) من جملتهم، وحكمه حكمهم، وهذا تغليظ من اللَّه وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تراءى ناراهما»، ومنه قول عمر رضي اللَّه عنه لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم اللَّه، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم اللَّه، ولا تدنوهم إذ أقصاهم اللَّه. وروي أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعاً حينئذٍ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم اللَّه ألطافه ويخذلهم مقتاً لهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا تراءى ناراهما) روينا عن الترمذي وأبي داود، عن جرير بن عبد الله، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بنصف العقل، وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: "لا تتراءى ناراهما". النهاية: الترائي: تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم: إذا رأى بعضهم بعضاً، فإسناد الترائي إلى النارين، جاز من قولهم: داري تنظر إلى دار فلان، أي: تقابلها، يقال: ناراهما مختلفتان، هذه تدعو إلى الله وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يتفقان؟ والأصل في تراءى: تتراءى، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والمعنى: لا ينبغي لمسلم أن ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، ولكنه م المسلمين في دارهم.

(يُسارِعُونَ فِيهِمْ): ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرةٌ من دوائر الزمان؛ أي: صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم. وعن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه أنه قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنّ لي موالي من يهود كثيراً عددهم، وإني أبرأ إلى اللَّه ورسوله من ولايتهم وأُوالى اللَّه ورسوله فقال عبد اللَّه بن أُبيّ: إني رجلٌ أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ وهم يهود بنى قينقاع. (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ) لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) يقطع شأفة اليهود ويجلبهم عن بلادهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينكمشون في موالاتهم)، الجوهري: انكمش وتكمش: أسرع. قوله: (ودولة من دوله) عطف على "صرف من صروفه"، وهو تفسير للدائرة. الأساس: والدهر دول وعقب ونوب، والله يداول الأيام بين الناس مرة لهم ومرة عليهم. لم يفرق المصنف بين الدولة والدائرة، وفرق بينهما الراغب حيث قال: الدائرة: عبارة عن الخط المحيط، يقال: دار دوراناً، ثم عبر بها عن الحادثة، والدواري: الدهر الدائر بالإنسان، ولذلك قال الشاعر: والدهر بالإنسان دواري والدورة والدائرة: في المكروه، كما يقال: "دولة" في المحبوب، قال تعالى: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}. قوله: (شأفة اليهود)، الجوهري: الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، يقال في المثل: استأصل الله شأفته، أي: أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكي.

فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم، وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمرٌ، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل: (أو أمر من عنده): أو أن يؤمر النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم، فيندموا على نفاقهم. وقيل: أو أمرٍ من عند اللَّه لا يكون فيه للناس فعلٌ كبني النضير الذين طرح اللَّه في قلوبهم الرعب، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيلٍ ولا ركابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم)، الراغب: خص لفظ الإصباح لأمرين أحدهما: أنه لما كان أكثر محارباتهم وغاراتهم وقت الصباح كثر عباراتهم عن التعبيرات به، وعلى هذا قول الشاعر: يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا والثاني: أنه لما كان بالإصباح انحماء الظلمة وانتشار الأشعة وظهور ما كان بالليل مستتراً، خُص "فأصبحوا" تنبيهاً على زوال غمة الجهالة وظهور الخفاء، وعليه قولهم: بدا الصبح لذي العينين. قوله: ({أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}: أو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم) عطف على قوله: " {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} يقطع شأفة اليهود"، فعلى الأول: الأمر بمعنى الشأن، وعلى الثاني: واحد الأمور. قوله: (يوجف عليهم)، الجوهري: وجف الشيء، أي: اضطرب، وقال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ} [الحشر: 6] أي: ما أعلمتم، "فأعطوا بأيديهم" أي: انقادوا وذلوا.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قرئ بالنصب عطفاً على أن يأتى، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ، أى: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. وقرئ: (يقول) بغير واوٍ، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}: قرئ بالنصب عطفاً على {أَنْ يَاتِيَ} وهي قراءة أبي عمرو. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: "عسى الله أن يقول الذين آمنوا" لأن {أَنْ يَاتِيَ} خبر "عسى"، والمعطوف عليه في حكمه فيفتقر إلى ضمير يرجع إلى اسم "عسى" ولا ضمير في قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا}، فيصير كقولك: "عسى الله أن يقول الذين آمنوا"، قيل: هو محمول على المعنى لأن معنى "عسى الله أن يأتي بالفتح" ومعنى "عسى أن يأتي الله بالفتح" واحد، كأنه قال: "عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا"، كما قال: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10] أو أن يبدل {أَنْ يَاتِيَ} من اسم الله، كما أبدل {أَنْ أَذْكُرَهُ} من الضمير في قوله: {وَمَا أَنْسَانِي إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، أو يعطف على لفظ {أَنْ يَاتِيَ} على حذف الضمير، أي: ويقول الذين آمنوا به، أو يعطف على "الفتح" أي: عسى الله أن يأتي بالفتح وبأن يقول الذين آمنوا، وقريب من كل ذلك ما ذكره أبو البقاء. قوله: (على أنه كلام مبتدأ) المعنى: عسى الله أن يأتي بالفتح فيصير الكافرون نادمين ويقول الذين آمنوا تشفياً عن الغيظ: أهؤلاء الذين أقسموا كيت وكيت؟ قوله: (في ذلك الوقت) أي: وقت الفتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار المسلمين أو أمر من عنده. قوله: (وقرئ: "يقول" بغير واو) نافع وابن كثير وابن عامر.

على أنه جواب ٍقائل يقول:فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا؟ فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إمّا أن يقوله بعضهم لبعضٍ تعجباً من حالهم، واغتباطاً بما منّ اللَّه عليهم من التوفيق في الإخلاص (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا) لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار. وإمّا أن يقولوه لليهود، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة، كما حكى اللَّه عنهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر: 11]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إما أن يقوله بعضهم لبعض) قال القاضي: أن يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين، وتبجحاً بما من الله عليهم من الإخلاص. وقال الإمام: المؤمنون يقولون متعجبين من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة أهل الكتاب. أي: كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم إنهم معنا ومن أنصارنا، والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا؟ قوله: ({أَقْسَمُوا} لكم بأغلاظ الأيمان) وهو معنى قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، قال في سورة النور: "جهد يمينه: مستعار من جهد نفسه: إذا بلغ وُسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ شدتها ووكادتها"، وقد شرحناه هناك. قوله: (أن يقولوه لليهود، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة) قال تعالى: {أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11].

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ): من جملة قول المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول اللَّه عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)]. وقرئ (مَنْ يَرْتَدَّ) و (من يرتدد) وهو في الإمام بدالين، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل: بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} من جملة قول المؤمنين) كأن الحاضر لما شاهد فرط اغتباط المؤمنين وتعجبهم من حال المنافقين وسمع قولهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} سئل: فماذا تكلموا بعد هذا الكلام؟ فقال: قالوا: حبطت أعمالهم تعجباً إلى تعجبهم واغتباطاً إلى اغتباطهم. قوله: (قرئ: {مَنْ يَرْتَدِ} و"من يرتدد" بالفك: نافع وابن عامر، وغيرهما: بالإدغام، قال الزجاج: الفك هو الأصل، لأنه إذا سُكن الثاني من المضاعف ظهر التضعيف. قوله: (وهو الأسود العنسي) وفي حديث الرؤيا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام كأن في يدي سوارين، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي يقال لأحدهما: مسيلمة صاحب اليمامة،

وأخرج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه اللَّه على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة قوم مسيلمة، تنبأ وكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمدٍ رسول اللَّه، أمّا بعد: فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين»، فحاربه أبو بكر رضي اللَّه عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام، أراد في جاهليتى وإسلامى. وبنو أسدٍ قوم طليحة بن خويلدٍ، تنبأ فبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة، التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعرى في كتاب "استغفر واستغفري": ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعنسي صاحب صنعاء"، رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة، وفي "الجامع": العنسي بفتح العين وسكون النون: منسوب إلى عنس، وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن زيد ابن يشجب. قوله: (في كتاب "استغفر واستغفري") كتابٌ التزم في قصائده: استغفر واستغفري.

أمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ ... كَذَّابَةٌ فِى بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ وكندة قوم الأشعث بن قيسٍ، وبنو بكر بن وائلٍ بالبحرين قوم الحطيم بن زيدٍ، وكفى اللَّه أمرهم على يد أبي بكر رضي اللَّه عنه. وفرقةٌ واحدةٌ في عهد عمر رضي اللَّه عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه. (فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) قيل: لما نزلت أشار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال: «قوم هذا». وقيل: هم ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار. وقيل: سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: «هذا وذووه» ثم قال: "لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمت سجاح) أمت: بالتخفيف والتشديد من الأيمة والإمامة، الأساس: وقد آمت ايمة وتأيمت، ورجل أيم: طالت عزوبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الأيمة، يقال: هي أيم ما لها قيم. قوله: (ووالاها مسيلمة) أي: وافقها وتزوجها، وجبلة بن الأيهم مضت قصته في أول البقرة عند قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. قوله: (ووالاها مسيلمة) أي: وافقها وتزوجها، وجبلة بن الأيهم مضت قصته في أول البقرة عند قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. قوله: (لو كان الإيمان معلقاً بالثريا) الحديث، وقريب منه ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة.

(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة اللَّه لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله، وأمقتهم للشرع وأسوؤهم طريقةً، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها اللَّه، وفي مراقصهم عطلها اللَّه، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور، فتعالى اللَّه عنه علواً كبيراً، ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها: الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقةٌ. فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتي اللَّه بقومٍ مكانهم، أو بقومٍ غيرهم، أو ما أشبه ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما ما يعتقده أجهل الناس) عاد إلى التعصب البارد، وتحقيق القول في المحبة ما ذكره في آل عمران. قوله: (المفتعلة)، الأساس: هذا الكتاب مفتعل، أي: مختلق مصنوع، ويقال للشعر المبتدع الذي أغرب فيه قائله، ويقولون: أعذب الشعر ما كان مفتعلاً. قوله: (أين عنها؟ ) استفهام وقع صلة للموصول على تأويل: المقول في حق تلك الصعقات: أين عنها صعقة موسى؟ وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنه بحسب زعماتهم، أي: أن هذه أرفع شأناً منها، والثاني: بحسب زعم المصنف، أي: صعقة موسى أرفع شأناً منها.

(أَذِلَّةٍ): جمع ذليلٍ، وأما ذلول فجمعه: ذلل، ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه أنّ ذلولاً لا يجمع على أذلة. فإن قلت: هلا قيل: أذلةٍ للمؤمنين أعزةٍ على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف، كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله عز وجل: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] وقرئ: (أذلةً) و (أعزةً) بالنصب على الحال. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) يحتمل أن تكون الواو للحال؛ على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود - لعنت - فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه اللَّه لا يخافون لومة لائم قط ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والثاني: أنهم مع شرفهم) يعني استعير {عَلَى} بدل اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، وإلى المبالغة أشار بقوله: "خافضون لهم أجنحتهم" وهو مقتبس من قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وإنما قال: "مع شرفهم وعلو طبقتهم" ليؤذن بمعنى التكميل، فإنه لما قيل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أوهم أنهم أذلاء محقرون مصغرون، فكمل بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} بمعنى أنهم مع عزتهم وعلو طبقتهم متواضعون مبالغون فيه لمن يجب أن يتواضع له، نحوه قول الشاعر: جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألم فهم خفوف

وأن تكون للعطف على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل اللَّه، وأنهم صلابٌ في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكرٍ، أو أمرٍ بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة لا يزعهم قول قائلٍ، ولا اعتراض معترضٍ، ولا لومة لائمٍ يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنكار مُنكر) مجرور بدل من "أمر"، وقوله: "يشق عليه": صفة "لائم"، فإن قلت: أي فرق بين أن يكون قوله: {وَلا يَخَافُونَ} حالاً وبين أن يكون عطفاً، قلت: إذا جعل حالاً كان قيداً لـ {يُجَاهِدُونَ}، فيكون تعريضاً بمن يجاهد ولم يكن له حال كذلك، ومن ثم قال: "وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين"، وإذا جُعل عطفاً على تتميماً لمعنى {يُجَاهِدُونَ}، فيفيد المبالغة والاستيعاب، وإلى المبالغة الإشارة بقوله: "مضوا فيه كالمسامير المحماة". والعجب أن قوله: "المحماة" أيضاً تتميم لقوله: "مضوا فيه كالمسامير"، قال امرؤ القيس: حملت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان وقد ألم إلى معنى "الاستيعاب" بقوله: "لايزعهم قول قائل، ولا اعتراض معترض" وهلم جرا إلى قوله: "لا يخافون شيئاً قط". قوله: (لا يزعهم)، الجوهري: وزعته أزعه وزعاً: كففته. قوله: (يشق عليه) الظاهر أن الضمير في "عليه" راجع إلى كل واحد من هؤلاء، وفي "جدهم" إلى المجاهدين، أي: يصعب على كل واحد من القائل والمعترض واللائم جد هؤلاء المجاهدين في إنكارهم المنكر وصلابتهم في أمرهم بالمعروف، ويروي: "ويشق عليهم" وقيل: الضمير في "جدهم" عائد إلى اللائم والمعترض والقائل، فعلى هذا "يشق" لا يكون صفة "لائم" كما في الأول ولا يلتئم مع قوله: {لا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}.

واللومة: المرّة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان، كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. و (ذلِكَ): إشارةٌ إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة، والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة. (يُؤْتِيهِ) يوفق له (مَنْ يَشاءُ) ممن يعلم أنّ له لطفاً (واسِعٌ): كثير الفواضل والألطاف. (عَلِيمٌ): بمن هو من أهلها. [(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)]. عقب النهى عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ومعنى (إنما): وجوب اختصاصهم بالموالاة ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيها وفي التنكير مبالغتان) لأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات، لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم معها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوام، وهذا تتميم في تتميم، أي: لا يخافون شيئاً من اللوم من أحد من اللوام. قوله: (أن له لطفاً) أي: أن لطفاً نافع له، فقدم الظرف لكون الاسم نكرة، يعني: يوفق للمحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء الخوف من يعلم أن الألطاف المحصلة والمقربة تجدي فيه ونافع له، فخص العام بما يؤدي إليه مذهبه، وجعل المشيئة تابعة للطف والحكم، على العكس على مذهب أهل السنة، والمعنى: ذلك المذكور من منح الله وفضله، ليس لأحد فيه سعي، يختص بها من يشاء من عباده؛ لأنه تعالى فعال لما يريد، وأنه كثير الفواضل، عليم بكل الأشياء وإن خفي على الخلق وجه حكمته. قوله: (عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم) إشارة إلى أن اتصال قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، وما توسط بينهما من الآيات: يشد من أعضاد النهي.

فإن قلت: قد ذكرت جماعةٌ، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم اللَّه، فجعلت الولاية للَّه على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبعٌ. وفي قراءة عبد اللَّه: (إنما مولاكم). فإن قلت: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ) ما محله؟ قلت: الرفع على البدل من "الذين آمنوا" أو على: هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصل الكلام: إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة)، قال صاحب "الفرائد": ما ذكره بعيد عن قاعدة الكلام؛ لأنه جعل ما لا يستوي فيه الواحد والجمع جمعاً، وهو الولي، ويمكن أن يقال: التقدير: إنما وليكم الله، ورسوله والذين آمنوا أولياؤكم، فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفضل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه تعالى ولياً لهم بجعله إياهم أولياء ففي الحقيقة هو الولي فحسب، وقلت: مراد المصنف من قوله: "ثم نُظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين" غير ما قدره لا أن قوله: {وَلِيُّكُمْ اللَّهُ} جمع؛ لأنه هرب من هذا المعنى إلى التبعية، فكأنه قال: "إنما وليكم الله وكذلك رسوله والمؤمنون" لتصح التبعية، ففيه مع ما ذكره صاحب "الفرائد" رعاية حسن الأدب مع حضرة الرسالة؛ لأن ذكر المؤمنين بعد ذكر الرسول حينئذ لم يكن للتبعية بل لمجرد الأفضلية. قوله: (الرفع على البدل ... أو على: هم الذين ... ، أو النصب على المدح)، وإنما عدل عن الوصف لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، والوصف لا يوصف إلا بالتأول، ولذلك قال القاضي: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ} صفة لـ {الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه جرى مجرى الاسم.

وفيه تمييز للخلص من الذين آمنوا نفاقاً، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل. (وَهُمْ راكِعُونَ) الواو فيه للحال، أي: يعملون ذلك في حال الركوع، وهو الخشوع والإخبات والتواضع للَّه، إذا صلوا وإذا زكوا. وقيل: هو حال من (ويؤتون الزكاة) بمعنى: يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وإنها نزلت في عليّ كرم اللَّه وجهه حين سأله سائلٌ وهو راكعٌ في صلاته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تمييز للخلص من الذين): متعلق بتمييز، وقوله: "أو واطأت": عطف على "آمنوا"، ففي الكلام لف ونشر، فقوله: "تمييز للخلص من الذين آمنوا نفاقاً" وارد على أن يكون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ} بدلاً من "الذين آمنوا" تعريضاً بالمنافقين، وقوله: "أو واطأت" أي: تمييز لخلص من المؤمنين الذين واطأت قلوبهم ألسنتهم المفرطين في العمل، على أن يكون مدحاً مرفوعاً، أو منصوباً تعريضاً بالمفرطين من المؤمنين، والمعنى على الأول: لا يكون مؤمناً من آمن نفاقاً، وعلى الثاني: لا يكون ممدوحاً مقرباً عند الله من آمن ولم يضم معه العمل الصالح، إنما جعلناه تعريضاً لما قال: "تمييز"؛ لأن المدح لا يكون تمييزاً إلا على التعريض. قوله: (وإنها نزلت في علي رضي الله عنه)، نحوه روى صاحب "الجامع" عن رزين.

فطرح له خاتمه. كأنه كان مرجاً في خنصره، فلم يتكلف لخلعه كثير عملٍ تفسد بمثله صلاته. فإن قلت: كيف صح أن يكون لعليّ رضي اللَّه عنه واللفظ لفظ جماعةٍ؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع، وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً؛ ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها. [(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ)]. (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) من إقامة الظاهر مقام المضمر، ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاماً لكونهم حزب اللَّه. وأصل الحزب: القوم يجتمعون لأمر حزبهم، ويحتمل أن يريد بـ (حِزب اللَّه): الرسول والمؤمنين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مرجاً) أي: مضطرباً، المرج بالتحريك: مصدر قولك: مرج الخاتم في إصبعي بالكسر: إذا قلق، قاله الجوهري. قوله: (ليرغب الناسُ) يعني به تعظيم ذلك الفعل وأن لا يباشره من الناس إلا من يكون عظيماً ينزل منزلة الجماعة، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120] وأنه مما لا يختص به أحد دون أحد فيتسارع الناس فيه لنيل الكمال. قوله: (ولينبه على أن سجية المؤمنين) فيه تعظيم الفاعل، يعني: يجب على من اتسم بسمة الإيمان أن يتخلق بخلقه هذا رضي الله عنه ويجعله سجيته وعادته. قوله: (لزهر أمر)، الجوهري: لزه يلزه لزاً أي: شده وألصقه. قوله: (ويحتمل أن يريد بـ {حِزْبُ اللَّه}: الرسول والمؤمنين): عطف على قوله: " {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} من إقامة المظهر موضع المضمر"، يعني: أقيم {حِزْبُ اللَّه} موضع المضمر من غير

ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب اللَّه، واعتضد بمن لا يغالب. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)]. روي أن رفاعة بن زيدٍ وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فنزلت؛ يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة. وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار، وإن كان أهل الكتاب من الكفار إطلاقاً للكفار على المشركين خاصةً، والدليل عليه قراءة عبد اللَّه (ومن الذين أشركوا). وقرئ: (والكفار) بالنصب والجرّ. وتعضد قراءة الجر قراءة أُبيّ: (ومن الكفار). (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في موالاة الكفار وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقاً؛ لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين. (اتَّخَذُوها) الضمير للصلاة، أو للمناداة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لفظه السابق للإعلام بأنهم أعلام فيه، لما أن قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} متضمن لكونهم حزب الله مصرح به ليؤذن بأنهم مشاهير فيه، أو للإشعار بالعلية، والإعلام بأن كونهم غالبين لكونهم حزب الله، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، أو جُعل جزاء الشرط في معنى الشرط، كقوله: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعي، أي: من تولاهم فقد تولى من يحق له الولاية، وهو المراد بقوله: "فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب"، وعلى التقديرين: ذكرُ الله تمهيد وتوطئة. قوله: (وقرئ: {وَالْكُفَّارَ} بالنصب والجر)، الجر أبو عمرو والكسائي، والباقون: بالنصب

قيل: كان رجلٌ من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: «أشهد أنّ محمداً رسول اللَّه» قال: حرّق الكاذب، فدخلت خادمه بنارٍ ذات ليلةٍ وهو نائم فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقيل: فيه دليلٌ على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. (لا يَعْقِلُونَ): لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فدخلت خادمه)، الجوهري: الخادم واحد الخدم غلاماً كان أو جارية. قوله: (وقيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده)، وذلك أنه تعالى أخبر أن نداء الصلاة سبب لاتخاذهم إياها هزوا، وعلله بجهلهم، فدلت الآية على سبيل الإدماج وإشارة النص على ثبوته، ولقائل أن يقول: إن قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً} إخبار بحصول الاستهزاء عند النداء، والظاهر أن يكون الأذان قبل نزول الآية، والواقع كذلك؛ لأن الأذان شُرع بعيد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عُمر رضي الله عنهما، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون للصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك .. إلى قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، قم فناد بالصلاة"، والسورة كما سبق آخر سورة نزلت من القرآن. وفي قول المصنف: "لا بالمنام وحده" إشعار بأن الحديث غير مستقل، والظاهر أن الآية معاضدة للسنة، وأما حديث المنام فمما رويناه عن أبي داود، عن أبي عمير بن أنس، قال: اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل: انصب راية عند حضور الصلاة، فلم يعجبه، فذكر له القنع، وهو: شبور اليهود، فلم يعجبه، فذُكر له الناقوس فقال: "هو من

[(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)]. قرأ الحسن (هل تنقمون) بفتح القاف، والفصيح كسرها. والمعنى: هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) فإن قلت: علام عطف قوله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)؟ قلت: فيه وجوهٌ، منها: أن يعطف على (أن آمنا)، بمعنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النصارى"، فانصرف عبد الله بن زيد الأنصاري وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرِيَ الأذان في منامه، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آتِ فأراني الأذان، وكان عمر رضي الله عنه رآه قبل ذلك فكتمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ يا بلال فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعل"، فأذن بلال ... الحديث. النهاية: الشبور: البوق، وفسر أيضاً بالقنع، واللفظة عبرانية. قوله: ("هل تنقمون" بفتح القاف) إلى قوله: (هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان؟ )، قال الزجاج: {نَقَمُوا} [البروج: 8]- بالفتح والكسر- معناه: بالغت في كراهة الشيء، وأنشد لقيس الرقيات في المعنى: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وقلت: وفي الألفاظ النبوية: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً إذ أغناه الله"، أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، يعني: غناه أداه إلى كفران النعمة، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].

وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان! كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام، وأنتم خارجون منه! ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف؛ أي: واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها: أن يعطف على المجرور، أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان باللَّه وبما أنزل وبأنّ أكثركم فاسقون! ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع" أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم فاسقون! ويجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوفٍ، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات! ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا. وروي أنه أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نفرٌ من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: (آمنا بالله وما أنزل إلينا) إلى قوله: (ونحن له مسلمون) [البقرة: 136] فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام: ما نعلم أهل دينٍ أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم، فنزلت. وعن نعيم بن ميسرة: (وإنّ أكثركم) بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) بفعلٍ محذوف يدل عليه ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم)، قال أبو البقاء: هذا كقولك للرجل: ما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنك مُبغض، وإن كان قد لا يعترف بأنه مبغض. قوله: ("وإن أكثركم" بالكسر) وعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من ضمير {تَنقِمُونَ} أي: هل تنقمون منا إلا الإيمان والحال أنكم فاسقون، وفيه رائحة من معنى التعليل.

(هل تنقمون) أي: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوفٌ، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا. [(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ* وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ)]. (ذلِكَ): شارة إلى المنقوم، ولا بدّ من حذف مضاف قبله، أو قبل (من) تقديره: بشرّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه اللَّه، و (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) في محل الرفع على قولك: هو من لعنه اللَّه، كقوله تعالى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج: 72]، أو في محل الجر على البدل من "شرّ". وقرئ: (مَثُوبَةً) (ومَثْوَبةً) ومثالهما: مَشُورَة ومَشْوَرَة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولابد من حذف مضاف قبله) أي: قبل {ذَلِكَ}، وهو "المنقوم" أو قبل {مَنْ} أي: قبل {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}؛ لأن الإيمان المشار إليه غيرُ مطابق لقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} في معنى يشترك فيه لفظة "شر"، فيقدر: "الأهل" عند الإيمان أو "الدين" عند من لعنه الله، ليطابقه، فالمعنى: هل أنبئكم بشر من أهل الإيمان بزعمكم؟ هو من لعنه الله، أو: هل أنبئكم بشر من الإيمان بزعمكم؟ هو دين من لعنه الله. قوله: (في محل الرفع)، قال الزجاج: ومن رفع بإضمار "هو"، كأن قائلاً قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله.

فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ومنه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]. فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه اللَّه شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع) على طريقة الادعاء في المبالغة والتهكم، لا أن المثال من الاستعارة كالآية؛ لأن المشبه هو التحية والمشبه به الضرب، وهما مذكوران بخلافه في الآية، فإن المشبه فيها العقوبة والمشبه به المذكورة المثوبة. نعم، الآية المستشهد بها استعارة تهكمية. قوله: (من لعنه الله شرٌّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم)، فإن قلت: أليس هذا مشعراً بأن لفظة "شر" مستعمل بالنسبة إلى {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} بالحقيقة، وبالنسبة إلى أهل الإسلام بالمجاز؟ قلت: لا؛ لأنه تعالى جعل المفضل والمفضل عليه من جنس واحد على سبيل المبالغة، أحدهما: بالحقيقة، والآخر: بالادعاء على زعم الكفرة، ثم فضل أحدهما على الآخر جرياً على سنن إرخاء العنان، وكلام المصنف ومثله في الأسلوب جعل المال والبنين وسلامة القلب من جنس واحد، ثم استثنى أحد الجنسين من الآخر في قوله تعالى {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، وهو قريبٌ من القول بعموم المجاز.

(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلة (من) كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. وفي قراءة أبيّ: (وعبدوا الطاغوت) على المعنى. وعن ابن مسعودٍ: (ومن عبدوا). وقرئ: (وعابد الطاغوت) عطفاً على (القردة)، و (عابدي)، و (عباد)، و (عُبَّد)، و (عَبُد)، ومعناه: الغلوّ في العبودية، كقولهم: رجلٌ حذرٌ وفطنٌ للبليغ في الحذر والفطنة قال: أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ وَإنَّ أبَاكُمُو عَبْدُ و(عبد) بوزن: حطم، و (عبيد) و (عبد) بضمتين جمع عبيد، و (عبدة) بوزن: كفرة، و (عبد) وأصله عبدةٌ، فحذفت التاء للإضافة، أو هو كخدمٍ في جمع خادمٍ، و (عبد)، و (عباد)، و (أعبد)، و (عبد الطاغوت) على البناء للمفعول، وحٌذف الراجع بمعنى: وعبد الطاغوت فيهم، أو بينهم، و (عبد الطاغوت) بمعنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عبد الطاغوت) قرأ حمزة بضم الباء وكسر التاء، والباقون: بفتح الباء على صيغة الماضي ونصب التاء، وباقي القراءات شواذ، قال الزجاج: ضم الباء وخفض "الطاغوت" ليس بالوجه؛ لأن "عبداً" على فعل ليس من أمثلة الجمع لأنهم فسروه: خدم الطاغوت، ووجهه أن الاسم بُني على فعل، كرجل حذر، أي: حذور، أي: مبالغ في الحذر، بمعنى أنه بالغ في طاعة الشيطان، واللفظ واحد والمعنى جمع، كما تقول للقوم: منكم عبدُ العصا، أي: عبيد العصى. قوله: (أبني لبيني) وهو اسم امرأة. قوله: (فحذفت التاء للإضافة) مثل: أبو عُذرة، الأصل: عُذرية، فحذفت الياء كراهة اجتماع الزائد من الياء والمضاف إليه في عَجُزِ الكلمة.

صار الطاغوت معبوداً من دون اللَّه، كقولك: "أمر": إذا صار أميراً، و (عبد الطاغوت) بالجر عطفاً على (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ). فإن قلت: كيف جاز أن يجعل اللَّه منهم عُباد الطاغوت؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوه. والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به، كقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف: 19]. وقيل الطاغوت: العجل لأنه معبودٌ من دون اللَّه، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت. وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنه: أطاعوا الكهنة، وكل من أطاع أحداً في معصية اللَّه فقد عبده. وقرأ الحسن: (الطواغيت). وقيل: (وجعل منهم القردة): أصحاب السبت (والخنازير): كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير. وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. (أُولئِكَ) الملعونون الممسوخون (شَرٌّ مَكاناً) جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حكم عليهم بذلك ووصفهم به) أي: قال في حقهم: إنهم عبدة الطاغوت وسماهم به، هذا مذهبه، ويلزم منه استعمال لفظ المشترك في مفهوميه، لأنه في المعطوف عليه بمعنى "صبر"، وفي المعطوف بمعنى "سمى". قوله: (جُعلت الشرارة للمكان، وهي لأهله) وفيه وجهان؛ لأنه إذا نُظر إلى أن التمييز فاعل في الأصل؛ أي: شر مكانهم، كان إسناداً مجازياً، نحو: فلان يطؤهم الطريق، وإذا نظر

ليست في قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز. نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً، فأخبره اللَّه تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات اللَّه ومواعظك. وقوله: (بِالْكُفْرِ) و (بِهِ) حالان؛ أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وَقَدْ دَخَلُوا) (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) ولذلك دخلت (قَدْ) تقريباً للماضي من الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى المعنى في إثبات الشر للمكان، والمراد أهله، كان من الكناية، لأن المكان من حيث هو: لا يوصف بالشر، بل بسبب من حل فيه، فإذا وُصف به يلزم إثباته للحال فيه بالطريق البرهاني، ولما كان الانتقال من الملزوم إلى اللازم مجازاً، ومن عكسه كناية، قال: "أخت المجاز". قوله: (وكذلك قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا} {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} يعني: أنهما حالان أيضاً، فعلى هذا في الكلام حالان مترادفان، وكل واحدة منهما مشتملة على حال فتكونا متداخلتين. الانتصاف وفي تصدر الجملة الثانية بالضمير تأكيد لاتحاد حالتهم في الكفر، تقول: لقيت زيداً لما جاء من سفره وهو هو وعبد الحميد عبد الحميد. وقلت: ليس بذلك، بل هو من تقديم الفاعل المعنوي لإفادة الاختصاص، وخُصت القرينة الثانية به دلالة على [أن] حُكم غير المنافقين من الكفار خلاف ذلك، فإنهم إذا دخلوا كافرين خرجوا مؤمنين لما سمعوا من الذكر والموعظة الناجعة فيهم. قوله: (ولمعنى آخر): عطف على قوله: "ولذلك دخلت"، قال ابن الحاجب: قد يُسمى

وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متوقعاً لإظهار اللَّه ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالُوا آمَنَّا) أي: قالوا ذلك وهذه حالهم. [(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) 62 - 63]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حرف تقريب، ويُسمى حرف توكيد ويُسمى حرف تحقيق، وأما معنى التقريب فهو أنك إذا قلت: قد قام زيدٌ، كان دالاً على أن قيامه قريب من إخبارك، بخلاف: قام زيدٌ، وأما معنى التوكيد فهو أنه جواب قولك: هل فعل ولما يفعل، وأما معنى التوقع فكما ذكره الخليل: هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر، أي: إنما يُخبر بذلك من ينتظر الإخبار به في ظنك أو علمك، ومنه: قد قامت الصلاة. وقلت: ومن حق الظاهر أن يدخُل على ما يتوقعه المخاطب من الفعل والمتوقع هاهنا- كما قال- إظهار ما كتم المنافقون، لكن لما كان قوله: {قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] إخباراً عن نوع من نفاقهم وإظهاراً لخديعتهم "وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا من تذكيرك بآيات الله"، كان إظهاراً لما يتوقعه من كتمانهم، نحو: توقعك خروج الأمير من داره، فقيل لك: قد ركب الأمير. قوله: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله ما كتموه)، فإن قلت: إن "قد" موضوعة لتوقع مدخولها، وهاهنا مدخولها عين النفاق، فكيف قال: "لإظهار الله ما كتموه"؟ قلت: لاشك أن المتوقع ينبغي ألا يكون حاصلاً، وكونهم منافقين كان معلوماً عنده صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله: "إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم"، فيجب المصير إلى المجاز والقول بإظهار الله ما كتموه، أي: إظهار النفاق.

الإثم الكذب بدليل قوله تعالى: (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ). وَالْعُدْوانِ: الظلم. وقيل: الإثم: كلمة الشرك. وقولهم عزيز ابن اللَّه. وقيل: الإثم: ما يختص بهم. والعدوان: ما يتعداهم إلى غيرهم. والمسارعة في الشيء: الشروع فيه بسرعةٍ. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كلٍ عامل لا يسمى صانعاً، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإثم: الكذب بدليل قوله: {عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ}، الانتصاف: هذا الاستدلال لا يصح؛ لأن الإثم مقول يحتمل كونه كذباً وشركاً، وقلت: الظاهر الأول، ولذلك قال بعده: "وقيل: الإثم: كلمة الشر"، وبيانه: أن الإثم في قوله: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ} مطلق متأول لجميع المعاصي والمنهيات، وكان من حق الظاهر أن يُقال بعده: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عما تنازعوا فيه، فلما أعيد الإثم وخُص بالقول احتمل كلمة الشرك وقول الكذب أيضاً، فدل قرائن الكلام، وهو قولهم: آمناً، على أن المراد الكذب، فخُص به، كقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 - 10]. وليس في الكلام ما يُنبئ عن ذلك المعنى، فلا يُحمل عليه إلا بالتعسف، وإنما ترك العدوان في الثانية وخص الإثم بالقول - والعلم عند الله- ليؤذن بأن قول الكذب وأكل السحت أفحشها، وهما الأصل في العدوان لا سيما من العلماء، روينا عن الإمامين: مالك وأحمد رضي الله عنهما، عن مالك، عن صفوان رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: "نعم"، قلنا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: "نعم"، قيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: "لا". قوله: (جُمعوا آثم من مرتكبي المناكير). آثم: مفعولٌ ثانٍ لـ"جُعل"، أُفرد لأن أفعل التفضيل استعمل بـ "مِن".

ولا كل عملٍ يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالاً من المواقع، ولعمري إن هذه الآية مما يقذ السامع وينعى على العلماء توانيهم ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا كل عمل يُسمى صناعة حتى يتمكن فيه)، الراغب: الصُّنع أخص من العمل، كما أن العمل أخص من الفعل، وذلك أن الفعل يقال فيما كان من الحيوان وغير الحيوان، وبقصد وعن غير قصد، والعمل لا يُقال إلا ما كان من الحيوان وبقصد، والصنع لا يقال إلا ما كان من الإنسان بقصد واختيار وبعد فكرٍ وتحري إجادة، ولهذا يقال: رجلٌ صانع، أي: حاذق، وثوب صنيع، أي: مُجاد. قوله: (يقذ السامع)، الجوهري: وقذه يقذه وقذاً: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. هذا إذا رُوي "يقذ" بكسر القاف مخففة، ومن روى بضمها مشددة يكون من: قذه يقذه. الأساس: قذ الريش بالمقذ: حذف أطرافه، وسهمٌ مقذوذ: مريش، وقذه السهام يقذه، فقوله: "يقذ السامع" أي: يحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويردعه عن التواني في ذلك، فإن السهم إذا قُذ كان أصوب إلى الرمية، ومثله ما مر في آل عمران في قصة نعيم بن مسعود: "لم يخل ناس يضامونه ويصلون جناح كلامه". قوله: (وينعي على العلماء توانيهم) إشارة إلى أن {لَوْلا} للتحضيض، قال ابن الحاجب: "لولا" و"لوما" و"هلا" و"إلا": معناها الأمر إذا وقع بعدها المضارع، والتوبيخ إذا وقع بعدها الماضي، فإذا قلت: هلا تُسلم، فأنت حاض على ما وقع بعدها طالب له، وإذا قلت: هلا ضربت زيداً، فأت توبخ على تركه ذلك.

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. [(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)]. غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: استبعد من علماء أهل الكتاب عدم نهيهم عوامهم وسفلتهم عن المعاصي، وذم تارك النهي عن المنكر أقوى من مرتكبه؛ ولهذا قال في الأول: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفي الثاني: {يَصْنَعُونَ}، والأمر في الحقيقة كذلك؛ لأن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه؛ فإذا حصل ذلك ولم تزل المعصية يكون كمن شرب الدواء ولم يزل المرض، فدل ذلك على أن المرض صعب شديد. قوله: (غل اليد وبسطها: مجاز عن البخل والجود) هذا مخالف لما في طه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: "لما كان الاستواء على العرش مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة يد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواز أو بخيل". قلت: قد مر له في قوله تعالى: {لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77] أن أمثال هذه النسب بالنظر إلى من يصح إجراؤها عليه: كناية عن عدم المبالاة، وبالنظر على من لا يجوز عليه النظر: مجاز.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء: 29] ولا يقصد من يتكلم به إثبات يدٍ ولا غل ولا بسطٍ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعاقبان على حقيقةٍ واحدةٍ حتى أنه يستعمله في ملكٍ لا يعطي عطاءً قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يدٍ وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاءً جزيلاً لقالوا: ما أبسط يده بالنوال! لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله: جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه) يعني: سواء عند المتكلم أن يقول: فلان مغلول يده، وبين أن يقول: إنه بخيل، وكأن هذين اللفظين كالمترادفين وردا على معنى واحد وهو المنع من الإعطاء، ولما كانت الملازمة متساوية، أعني بين قوله: البخل وغل اليد، جاز استعماله تارة مجازاً وأخرى كناية بحسب مقتضى المقام. الانتصاف: هذا المجاز يُصور الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالباً، والصورة الحسية أثبت في الذهن من المعاني، والجود والبخل معنيان مثلا للحس، وقلت: قد أنصف وما أنصف صاحب "الانتصاف" حيث رد النبأ على التخييل والتصوير مطلقاً في كثير من المواضع من كتابه واستحسنه هاهنا، ولعل رده بحسب اللفظ لا المعنى. قوله: (جاد الحمى) البيت. جاد: من الجود، جاد المطر فهو جائد والجمع: جود، كصاحب وصحب، والوهاد: جمع الوهدة، وهي ما اطمأن من الأرض، والتلعة: ما ارتفع منها، وقال أبو عمرو: التلاع: مجاري ما ارتفع من الأرض إلى بطون الأودية.

ولقد جعل لبيد للشمال يداً في قوله: إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا ويقال: بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) عبارةٌ عن البخل. فما تصنع بقوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ومن حقه أن يطابق ما تقدمه، وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق اللَّه وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذ أصبحت بيد الشمال زمامها)، أوله: وغداة ريح قد كشفت وقرة والقرة، بالكسر: البرد، شبه الشمال ف تصرفها في القرة على حكم طبيعتها بالإنسان المتصرف لما يكون زمامه بيده، وأثبت لها على سبيل التخييل يداً - وهي من لوازم الإنسان - ليكون قرينة، وحكم الزمام في استعارته للقرة حكم اليد في استعارتها للشمال، فجعل للقرة زماماً ليكون أتم في إثباتها متصرفة، كما جعل للشمال يداً ليكون أبلغ في تصييرها متصرفة فوفى المبالغة حقها من الطرفين، والضمير في "أصبحت" و"زمامها" للقرة، وقيل: للغداة، والأول أظهر. قوله: (بسط اليأس كفيه). قال: وقد رابني وهن المُنى وانقباضها ... وبسط حديد اليأس كفيه في صدري

بَقِيتُ وَفْري وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أضْيَافِى بِوَجْهِ عَبُوسِ ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب اللَّه دابره، أي: قطعه، لأنّ السب أصله القطع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بقيت وفري وانحرفت عن العُلا) تمامه: ولقيت أضيافي بوجه عبوس وبعده: إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس "بقيت وفري وانحرفت عن العُلا": اللفظ لفظ الخبر، والمعنى معنى الدعاء، كقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، الوفر: المال الكثير، والعبوس: الكلوح عن الغضب، وشن الغارة وأشن: إذا فرقها على العدو من كل وجه، وابن حرب: معاوية بن أبي سفيان بن حرب، يقول: ادخرت مالي ولم أفرقه فيما يكتسب لي حمداً فعل البخلاء وزهدت في اكتساب المعالي إن لم أشُن على معاوية غارة لا تخلو يوماً من اختلاس نفوس. قوله: (والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز)، يعني: تُعتبر المطابقة في قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} مع قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} في إرادة الحقيقة في الثاني مع ملاحظة أصل المجاز في الأول، وهو غَلُّ اليد لا البخل الذي هو المراد منه الآن، لاستوائهما في التلفظ، كما أن "سب الله" من حيث اللفظ مطابق لقوله: "سبني"، على أن المراد من سب الله قطع الدابر، وهذا نوع من المشاكلة لطيف المسلك بخلافه في قول الشاعر:

فإن قلت: كيف جاز أن يدعو اللَّه عليهم بما هو قبيحٌ وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به: الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم، أو بما هو مسببٌ عن البخل والنكد من لصوق العار بهم، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)؟ قلت: ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه، وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبني المجاز على ذلك. وقرئ: (وَلُعِنُوا) بسكون العين. وفي مصحف عبد اللَّه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا فإنه وضع اطبخوا موضع خيطوا لمجرد مراعاة اللفظ دون المعنى. الانتصاف: والحق أن الله تعالى يدعو عليهم بالبخل، ودعاؤه عبارة عن خلق الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فإنه فيه فارس الفرسان. قوله: (المراد به: الدعاء بالخذلان). خلاصة الجواب: أنه يجوز أن يدعو عليهم بعدما يصدر منهم ما يوجبه، فإنه تعالى غنما يدعو عليهم بالخذلان إذا صدر عنهم الكفر والمعاصي وبلحوق العار إذا صدر عنهم بالخبل، وأما ابتداء فلا، هذا مذهبه. قوله: (والنكد)، الجوهري: رجل نكد: عسر، وكدت الركية: قل ماؤها.

(بل يداه بسطان) يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية سجح، وناقة صرح. (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ): تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن اللَّه تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا اللَّه في محمد صلى اللَّه عليه وسلم وكذبوه كف اللَّه تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء: يد اللَّه مغلولة، ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه. (وَلَيَزِيدَنَّ) أي: يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات اللَّه. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) فكلمهم أبداً مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً): كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من اللَّه على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سُجُح) بضم السين والجيم ثم الحاء المهملة، الجوهري: يقال: إذا سألت فأسجح، أي: سهل ألفاظك، "وناقة سُرح" ومنسرحة، أي: سريعة، يعني: جمع الخبر والمبتدأ مفرد على تصوير الكثرة فيه مبالغة على أسلوب قوله: ومعي جياعاً. قوله: (ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة) تقييد للمطلق، وهو {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، يعني: من مقتضى الحكمة ألا يؤدي بسط اليدين في العطاء إلى التبذير والإسراف والاصطناع إلى غير الهل، وهو شرط السخاء في الشاهد، وهذا تكميل لا تأكيد، كقوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب

وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث اللَّه عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم فطرس الروميّ، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضي اللَّه عنه لا تلقى اليهود ببلدةٍ إلا وجدتهم من أذل الناس. (وَيَسْعَوْنَ): ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كتبهم. [(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) 65 - 66]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتأكيد أن يقال: ينفق كيف يشاء لا يمنعه مانع ولا يكفه من الإنفاق نقص ولا إعدام، لا يبالي بكثرة العطاء، فالإنفاق على الإطلاق مستتبع للحكمة ومشتمل عليها، كما قال صلوات الله عليه وسلامه: "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما بيده" أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. سحاء: خبر بعد خبر، والليل: ظرف، يقال: سح يسح سحاً: هطل، ولما كان ينفق تأكيداً لقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فصله ولم يأت بالواو ولا قيده بها حالاً، قال أبو البقاء: {يُنفِقُ}: مستأنفٌ، فلا يجوز أن يكون حالاً من الهاء لأنها مضاف إليها، ولأن الخبر فاصل بينهما، ولا من اليدين، إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما. قوله: (فطرس الرومي) بالفاء والراء، كذا في الحاشية.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) مع ما عددنا من سيئاتهم (آمَنُوا) برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع المسلمين الجنة. وفيه إعلامٌ بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة اللَّه تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه إعلامٌ بعظم معاصي اليهود)، يعني: فيه إشارة إلى هذا المعنى على سبيل الإدماج، وذلك أنه تعالى لما عدد سيئاتهم وقبائحهم كان من حق الظاهر أن يُقال: ولو أن أهل الكتاب تابوا لكفرناها عنهم، فوضع موضع تاب: آمن، وصرح بذكر سيئاتهم إيذاناً بأن ليس لهم التنصل من تلك الذنوب العظام إلا بأن يدخلوا في الإسلام؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله، وفي قوله: {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إشارة إلى أن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم، ويؤيده ما روينا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، أخرجه مسلم. قوله: (هذا العمود)، قاله للفرزدق حين اجتمع مع الحسن في جنازة، فقال: ما أعددت لهذا المقام؟ قال: شهادة ألا إله إلا الله منذ كذا سنة، فقال له: هذا العمود فأين الأطناب؟ الفاء في "فأين الأطناب" كالفاء في "خولان فانكح"؛ على تأويل: هؤلاء خولان، يعني: هذه الكلمة مستدعية للأعمال الصالحة كما أن هذه القبيلة تستوجب أن تُنكح نساؤها لجمالها، شبه الإسلام بخيمة، وجعل عمودها: كلمة التوحيد، والأعمال الصالحة: الأطناب، فكما أن الخيمة

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ): أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من سائر كتب اللَّه، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم -وقيل: هو القرآن- لوسع اللَّه عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ): عبارةٌ عن التوسعة، وفيه ثلاث أوجهٍ: أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تقوم إلا بالعمود فكذا لا يستقيم الإسلام إلا بالشهادتين، وكما لم يرتفع العمود إلا بالأطناب، كذا الكلمة لا ترتفع إلا بالعمل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، والاستقامة فيها الأوتاد، والتشبيهات مفرقة، تحقيقه: إذا اعتبر مفرداتها مستقلة، وإذا انتزع المشبه من المجموع، كان تمثيلاً، وما في قول الحسن، الشطر الأول منه التشبيه لذكر الطرفين، والثاني: استعارة؛ لأن المشبه المتروك هو الأعمال. الانتصاف: لما اشترط في هذه الآية مجموع الإيمان والتقوى فالإجماع منا ومنه أن الإيمان يجب ما قبله، فلو مات رجل عقيب دخوله في الإيمان لكفرت عنه سيئاته ولدخل جنات النعيم، فدل على أن اجتماعهما ليس شرطاً؛ هذا إن كانت التقوى الأعمال، وإن كانت أصل وضعها في الخوف من الله، فهذا ثابت لكل مؤمن ولو قارف الكبيرة. قوله: ({لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: عبارة عن التوسعة) لام حسن مبين، لكن تأويله بالوجوه الثلاثة ضعيف، وذلك أن اختصاص الأكل من دون ذكر سائر المنافع لكونها أعظمها ومستتبع سائرها، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] ثم تكرير قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} لاستيعاب جميع الأحوال والأزمان، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] يوجب ألا يقتصر على المذكورات، ولهذا قال القاضي: لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا في حق من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالسالك العارف إذا قمع هوى النفس وانكمش من عالم الإدبار إلى معارج القدس معتصماً بحبل الله وسنة حبيب الله؟ فإنه تعالى يُفيض على قلبه سجال فضائله وسائب بركاته، فتكمن فيه كمون الأمطار في الأراضي فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه كلها، وفي تعليق الأكل من فوق على إقامة التوراة والإنجيل ومن تحت الأرجل، واختصاص {مِنْ} الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"؛ لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل بتلك البركات المنزلة وأقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل لهم من الله بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العمل والعلم يتناوبان إلى أن ينتهي السالك على مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع "تحت" دلالة على مزيد الثبات، وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولهذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشاداً له إلى معرفة طريقة أهل الله تعالى. فإن قلت: كيف تلتئم هذه الآية مع السابقة، وهي قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}؟ قلت: الآيتان واردتان على إظهار الشكوى، ناعيتان قبائحهم، فقيل أولاً: ولو أن أهل الكتاب آمنوا برسول الله وبما جاء به من المعجزات التي ثبتت بمثلها الرسالة كسائر الناس، وخافوا الله وتركوا العناد، لكفر الله عنهم تلك القبائح، ثم ثنى على الترك، أي: دعوا تلك الدلائل الباهرة! ولو أنهم عملوا بمقتضى ما عندهم من النصوص

وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم. (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ): طائفةٌ حالها أمم في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وقيل: هي الطائفة المؤمنة عبد اللَّه بن سلام وأصحابه وثمانيةٌ وأربعون من النصارى، و (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم! وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم. [(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) 67]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المتظاهرة وما ثبت عندهم من نعته صلى الله عليه وسلم وتركوا التحريف والتبديل، لوسع الله عليهم خير الدارين، ورُوعي فيهما مع معنى التنزيل الترقي أيضاً. قوله: (اليانعة الثمار)، الجوهري: ينع يينع: إذا نضج، ولم تسقط الياء في المستقبل لتقويها بأختها، وتهدلت أغصان الشجرة، أي: تدلت. قوله: (حالها أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: متوسط، قال ابن السكيت: الأمم: بين القريب والبعيد، وهو من المقاربة، وقال الإمام: الذين يكونون عدولاً في دينهم ليس فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. قوله: (و {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ليس الواو في نظم القرآن، وإنما هو من قول المصنف. قوله: (ما أسوأ عملهم) أي: كثيرٌ منهم يقول فيحقهم: ما أسوأ عملهم!

(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). جميع ما أنزل إليك، وأى شيءٍ أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً، ولا خائفٍ أن ينالك مكروهٌ. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ): وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) - وقرئ: (رسالاته) - فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤدّ منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعضٍ، وإن لم تؤدّ بعضها، فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها كذلك في حكم شيءٍ واحدٍ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغٍ، مؤمناً به غير مؤمنٍ به. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي. وروي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "بعثني اللَّه برسالاته فضقت بها ذرعاً، فأوحى اللَّه إليّ: إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت". فإن قلت: وقوع قوله: (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جميع ما أنزل إليك) إنما قدر المضاف لأنه صلوات الله عليه وسلامه كان مُبلغاً، فعلى هذا فائدة الأمر المبالغة والكمال، يعني: ربما أتاك الوحي بما تكره أن تُبلغه خوفاً من قومك، فبلغ الكل ولاتخف. الراغب: فإن قيل: كيف قال: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؟ وذلك كقولك: إن لم تُبلغ فما بلغت، قيل: معناه: وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك تكون في حكم من لم يُبلغ شيئاً تنبيهاً على أن تقصيرك في بعض ما أمرت به يحبط عملك. واستدل بهذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم لا يتم شيئاً مما أنزل الله، بخلاف ما قالت الشيعة: إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية، وعن بعض الصوفية: ما يتعلق به مصالح العباد وأمر بإطلاعهم عليه فهو منزه عن كتمانه، وأما ما يخص به من الغيب ولم تتعلق به مصالح أمته فله، بل عليه كتمانه.

قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر اللَّه في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً كان أمراً شنيعاً لا خفاء بشناعته. فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيءٍ وإن كان كلمةً واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: روى السلمي، عن جعفر في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه سراً إلى قلبه، ولا يعلم به أحدٌ سواه إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته، وقال الواسطي: ألقى إلى عبده ما ألقى ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه به، وما كان مخصوصاً به كان مستوراً، وما بعثه الله إلى الخلق كان ظاهراً. وإلى هذا يُنظر معنى ما روينا في "صحيح البخاري" عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم. قال البخاري: البُلعوم: مجرى الطعام. قوله: (إن لم تُبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع)، قال ابن الحاجب: الشرط والجزاء إذا اتحدا كان المراد بالجزاء المبالغة، فوضع قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} موضع أمر عظيم، أي: فإن لم تفعل فقد ارتكبت أمراً عظيماً. الانتصاف: قال: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ}، ولم يقل: وإن لم تبلغ ليتغايرا لفظاً وإن اتحدا معنى، وهو أحسن بهجة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذا من محاسن علم البيان. وقال الإمام: الجمهور على أن المراد من قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}: إن لم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تبلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها، وهذا ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض فلو قيل: إنه ترك الكل لكان كذباً، ولو قيل أيضاً: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل، لكان هذا أيضاً محالاً. وقال القاضي: معناه: أن كتمان بعضها يُضيع ما أُدي منها، كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض منه، أو يقال: إن لم تفعل كأنك ما بلغت شيئاً منها، كقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} من حيث إن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة واستجلاب العذاب. وقلتُ: والذي عليه كلام المصنف أنه صلوات الله عليه وسلامه كان مأموراً بتبليغ ما أنزل الله تعالى إليه، وهو إنما يكون ممتثلاً للأمر إذا لم يخالف شيئاً من المأمور به، وإليه الإشارة بقوله: "فلم تُبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات ولم تؤد منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس أولى من بعض بالأداء". ومن ثم شبه المسألة بالإيمان في قوله: "كما أن من لم يؤمن ببعضها كان من لم يؤمن بكلها"، وذكر في "النساء" أن إيمان أهل الكتاب ببعض الكتب لا يصح إيماناً به، لأن طريق الإيمان إنما هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به إيماناً لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه عُلم أنهم لم يعتبروا المعجزة، فلم يكن إيمانهم إيماناً، هذا هو المعنى بقوله في هذا المقام: "لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها". وفي تمثيل المسألة بالإيمان نكتة سرية، وهي كما أن على الرسول إبلاغ الكل كذا على المرسل إليه الإيمان بالله، والضمير في "منها" و"غيرها" راجعٌ إلى الرسالات. المُغرِب: يقال: فلان يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل، ودلى من السطح حبلاً، أي: أرسله فتدلى.

كما عظم قتل النفس بقوله: (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة: 32]. والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام: «فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك». (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ): عدةٌ من اللَّه بالحفظ والكلاءة. والمعنى: واللَّه يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات اللَّه عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات اللَّه، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل: نزلت بعد يوم أحدٍ، و (الناس): الكفار؛ بدليل قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما عظم) صفة مصدر محذوف من غير لفه، كأنه قال: عظم ترك تبليغ البعض تعظيماً مثل تعظيم قتل النفس. قوله: (في ذات الله) أي: في الله، عن البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة منهم خبيب الأنصاري، فأسر ولما خرج المشركون به من الحرم ليقتلوه، قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع قوله: (وقيل: نزلت بعد يوم أحد) عطف على قوله: "والله يضمن لك العصمة من أعدائك"، وعلى الأول: العصمة عامة في كل الأحوال، خاصة من حيث إرادة العصمة من

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)، ومعناه: أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وعن أنس: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحرس حتى نزلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القتل، وعلى الثاني: خاصة بحسب الزمان عامة في مقتضاها، يعني: أن الله تعالى لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك، لكن يشكل هذا بما استتب لليهود من تمكنهم من أن سموه، ولهذا فسروا قوله تعالى: {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} بقولهم: إنهم يبذلون جهدهم في قتله ولذلك سموه، ويمكن أن يقال: إن المعنى: يا أيها الذي تصدى لمنصب الرسالة وتبليغ ما أُنزل إليه، امض لشأنك وأد ما عليك ولا تهتم بأعدائك، فإنه تعالى ضمن لك العصمة من الهلاك بسبب تبليغ الوحي؛ لأنه لا يهدي القوم الكافرين إلى إطفاء نور الله تعالى لقوله تعالى: {وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، ففي وضع قوله: {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} موضع ضمير {النَّاسَ} وإن لم يقل: لا يهديهم إشعارٌ بذلك، ولم يكن تمكين اليهود مما أرادوا به من الهلاك يوم خيبر لأجل التبليغ، بل للذب عن البلاد والأموال والأنفس، وسبق في "البقرة" الحديث الوارد فيه في تفسير قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. الراغب: عصمة الأنبياء: حفظه إياهم أولاً: بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل والأخلاق، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم، وبالتوفيق. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت) الحديث أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، فعلى هذا التخصيص بحسب الزمان دون الأشخاص كما في الثاني، والمراد بالعصمة: سائر ما يرومه الأعداء من السوء.

فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمنى اللَّه من الناس". [(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَاسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)]. (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي: على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء. (فَلا تَاسَ): فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)]. (وَالصَّابِئُونَ) رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له: وَإلّا فَاعْلمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِى شِقَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلا فاعلموا) البيت، بعد: إذا جُزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسري في الوثاق الشقاق: العداوة، وسببه أن قوماً من آل بدر من الفزاريين جاوروا بني لأم من طييء، فعمد بنو لأم إليهم فجزوا نواصيهم وقالوا: مننا عليكم ولم نقتلكم، وحبسوهم، فقال بشر

أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل (إن) واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر. لا تقول: إن زيداً وعمرو منطلقان. فإن قلت: لم لا يصح والنية به التأخير، فكأنك قلت: إنّ زيداً منطلقٌ وعمروٌ. قلت: لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل (إن) واسمها: والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر، لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها "إن" في عملها، فلو رفعت (والصابئون) المنويّ به التأخير بالابتداء، وقد رفعت الخبر بـ (إنّ)، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن أبي خازم البيتين، أي: قد جززتم نواصيهم فاحملوا غرامة الجز إلينا وأطلقوا من أسرتم منهم، وإن لم تفعلوا فاعلموا أنا نظلمكم كما أنكم ظلمتمونا، وقدم أنتم للإيذان بأنهم أوغل في البغي؛ لأن بغي القاتل جزاء لبغيهم. قوله: (للعطف على محل {إنَّ} واسمها)، قال ابن الحاجب: وذلك أن موضع {إنَّ} وما عملت فهي الرفع، لكون المعنى لم يتغير، فجاء العطف لذلك، وأما سائر أخواتها فمخالفة لها في المعنى الذي من أجله صح العطف. قوله: (لأعملت فيهما) أي: في المبتدأ والخبر، ومعناه: أنه لو رُفع "الصابئون" بالابتداء بأن يكون عطفاً على محل {إنَّ} واسمها، لكان العامل في المبتدأ التجريد، وفي الخبر: {إنَّ}، فيلزم أن يكون العامل في المبتدأ غير العامل في الخبر، والواجب أن يكون الخبر مرفوعاً بما ارتفع به المبتدأ كما قرر، ولا يمكن تقدير عملين فيه بأن يقال: إنه مرفوع بـ"إن" والابتداء معاً، للقطع بأن اسماً واحداً لا يكون فيه رفعان، قال صاحب "الفرائد": لا يستقيم قوله في الجواب: "لأني إذا رفعته" إلى آخره؛ لأنه لما اعتبر التأخير وجب أن يكون العامل فيه وفي الخبر

فإن قلت: فقوله (والصابئون) معطوفٌ لا بد له من معطوفٍ عليه فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملةٌ معطوفةٌ على جملة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا .... ) إلى آخره، ولا محل لها، كما لا محل للتي عطفت عليها. فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الابتداء، وإنما لزم إعمال عاملين مختلفين إذا لم ينووا التأخير فيقال له: إن قولك: وجب أن يكون العامل فيه وفي الخبر الابتداء هذا إذا قُدر له خبر آخر كما اختار المصنف وحمل الآية عليه، لكن الكلام فيه أن يكون الخبر هو المذكور بعينه، نعم، رد عليه أن الآية ليست من قبيل: إن زيداً وعمرو منطلقان؛ لأن قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} صالح لكل المذكورين، فهو من قبيل إن زيداً وعمرو منطلق، قال ابن الحاجب: وليس قول من قال: إن زيداً وعمرو قائم من قبيل الممنوع؛ لأن قائم إما أن يُقدر خبراً عن "عمرو"، فيون خبر زيد مقدما، وإما أن يُجعل خبراً عن الاسم الأول وخبر الثاني محذوف، فعلى التقديرين لم يعطف إلا بعد مُضي الخبر، بخلاف: إن زيداً وعمرو منطلقان، فإن ذلك غير ممكن لتشريكهما جميعاً في خبر واحد، وقال أيضاً في شرح قول المصنف في "المفصل": فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتدأ بعد ما مضى الخبر، الكلام يحتمل أمرين، أحدهما: ما ذكره في "الكشاف": " {وَالصَّابِئُونَ}: رفع على الابتداء وخبره محذوف"، والآخر: أن قوله: فعلى التقديم والتأخير، أي: فعلى تقدير الخبر مقدماً على "الصابئون" وتقدير "الصابئون" مؤخراً عنه، ويصح في مثل هذا أن يعبر بالتقديم والتأخير، وهذا أولى لما يلزم فيه الحذف فقط، وفي ذلك الحذف وتغيير الموضع، ولأن مذهب سيبويه في قولك: زيد وعمرو قائم أن الخبر للثاني، وخبر الأول محذوف، واستدل على ذلك بقوله:

فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان، والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤا عن الأديان كلها، أي: خرجوا، كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم» تنبيهاً على أن المخاطبين أو غل في الوصف بالبغاة من قومه حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو «بغاة»؛ لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم مع كونهم أو غل فيه منهم وأثبت قدماً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والقول مختلف لأنه لو كان خبراً عن "نحن" لقال: راضون، هذا تلخيص كلامه. ونقل أبو البقاء عن سيبويه في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]: بأن {أَحَقُّ}: خبر "الرسول"، وخبر الأول محذوف، وهذا أقوى من عكسه؛ لأنه لا يلزم منه التفريق بين المبتدأ والخبر، فيقال: إن قول المصنف: "إنما يقال: تقديم وتأخير للمُزال لا للقار في مكانه": جواب عما عسى أن يتوهم متوهم مثل ما توهم ابن الحاجب في ذلك التقديم والتأخير، ولأنه يفوت على ذلك التقدير الغرض المطلوب من التقديم والتأخير، وهو الاهتمام، وأن الصابئين أشد غياً من هؤلاء، قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: هذا على حد قول من قال: ولا سابق شيئاً، وحق الكلام أن يقول: ولا سابقاً، لأنه بعد قوله: "بدا لي أني لست مدرك ما مضى"، ولكنه قال: ولا سابق؛ لأنه ساغ له أن يقول: لست بمدرك

فإن قلت: فلو قيل: "والصابئين وإياكم" لكان التقديم حاصلاً. قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم في شيءٍ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما مضى، فكأنه قال كذلك، فكذلك هاهنا كأنه قيل: الذين آمنوا والذين هادوا. ولا يلزم هاهنا إعمال عاملين مختلفين؛ لأن الخبر، وهو: {مَنْ آمَنَ} إلى آخره، جُعل خبراً لـ"الصابئون والنصارى"، وخبر {إنَّ} محذوف بدلالة المذكور بعده، وأما فائدة العدول عن النصب إلى الرفع فهي أن مظنة العفو والتجاوز في حق المنافقين وهم المعنيون بـ {الَّذِينَ آمَنُوا} على ما قيل، وفي حق اليهود، أبعد منها في حق الصابئين والنصارى؛ لأن عناد الفريقين واستهزاءهما أكبر، فوجب في حقهما أن يُذكرا في صدر الكلام، ولا يجب في الأخيرين. قلت: هذا الكلام مبني على أن "النصارى" معطوف على "الصابئون"، لا على {الَّذِينَ هَادُوا}، ولكن سياق الآية يأبى هذا التقدير؛ لأنها سيقت في شأن أهل الكتاب، وذكر "الصابئون" استطراداً، ويدل عليه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}، وكذا الآيات السابقة واللاحقة، وحين كان السياق في سورة الحج على العموم جيء بـ "الصابئين" منسوقاً نسق أخواته، وهاهنا "النصارى" عطف على {الَّذِينَ هَادُوا} لا على "الصابئون"؛ لأنهما مقصودان بالذكر متبوعان دونه فلابد من التزام التقديم. قوله: (ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام)، وذلك أن الاعتراض هو مما يتخلل في أثناء الكلام لتأكيد مضمون المعترض فيه، وهذا تأكيد لما يلزم من إيراد الكلام لا من مضمونه، ومن ثم قال: كان جارياً "مجرى الاعتراض"، وقلنا: إنه استطراد. الانتصاف: صدق الزمخشر، لكن يرد عليه أنه لو عطف "الصابئين" ونصبه كما قرأ

فإن قلت: كيف قال: (الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال: (مَنْ آمَنَ)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد بـ (الذين آمنوا): الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، وأن يراد بـ (من آمن): من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه. فإن قلت: ما محل (من آمن)؟ قلت: إما الرفع على الابتداء وخبره (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ثم الجملة كما هي خبر (إن) وإما النصب على البدل من اسم (إن) وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن كثير، لأفاد دخولهم في جملة المتوب عليهم، وفُهم من تقديم ذكرهم على "النصارى" ما يُفهم من الرفع، وهو أنهم أوغل في الكفر، وقد تيب عليهم، فالنصارى أولى، ويكون الكلام جملة واحدة مختصرة، والعطف إفرادي، فلم عدل إلى جعله جملتين؟ وجوابه: أنه لو عطفه ونصبه لم يحصل فهم الخصوصية لهؤلاء؛ لأن الأصناف كلها عطف بعضها على بعض عطف المفردات، وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد، وأما الرفع فيقطع عن العطف الإفرادي، وتختص بقية الأصناف بالخبر المذكور، وخبر هذا الصنف مفرد مستقل فيقيد المقصود السابق ذكره، ويفهم من تقديم الخبر من قوة الدلالة ما لا يفيده تأخيره. وأما قراءة ابن كثير - وإن كان هو من الأئمة - فشاذة بحمل النصب على الاختصاص، أي: أذكر، لئلا تكون مخالفة لقراءته المشهورة ولسائر الأئمة. قوله: (فيه وجهان)، والظاهر يوهم أنه جواب واحد، لكن المراد من الإيراد: أن {الَّذِينَ آمَنُوا} إن أريد به المنافقون يحمل قوله: {مَنْ آمَنَ} على من أخلص الإيمان، وإن أُريد به المؤمنون الخلص يحمل {مَنْ آمَنَ} على من ثبت على الإيمان، والجواب الأول أقرب إلى الغرض؛ لأن الذي سيقت الآية له التشديد على اليهود والنصارى، فإنهم مع ذلك إن آمنوا

فإن قلت: فأين الراجع إلى اسم (إن)؟ قلت: هو محذوفٌ، تقديره: من آمن منهم، كما جاء في موضع آخر. وقرئ: (والصابيون) بياء صريحةٍ، وهو من تخفيف الهمزة، كقراءة من قرأ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعملوا الصالحات فلهم الفوز العظيم، وذكر المنافقين والصابئين على المبالغة كما سبق، فإذن لم يكن لذكر المؤمنين المخلصين مدخل في الغرض والأسلوب، ولذلك أخره، ولأنهم إذا شركوهم في الخبر، وهو: {مَنْ آمَنَ} بمعنى ثبت على الإيمان، يلزم وجوب اشتراكهم في الخلوص في الإيمان في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وذلك بعيد، ولذلك جعل {مَنْ آمَنَ}: بدلاً من {الَّذِينَ آمَنُوا} وحده في وجه قوله: "على البدل من اسم {إنَّ} وما عُطف عليه أو من المعطوف عليه". قالوا: أراد أن {مَنْ آمَنَ} إما بدل من المجموع من المعطوف عليه والمعطوف، أو بدل من اسم {إنَّ} فحسب. قلتُ: إذا كان بدلاً من المجموع فالمعنى على ما سبق: أن الصابئين أشد غياً، وأما إذا كان بدلاً من اسم {إنَّ} وحده لزم أن يكون حكم {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى} حُكم {وَالصَّابِئُونَ} في الرفع والقطع، وتقدير الخبر على ما سبق في "الصابئون" وحده، كأنه قيل: إن الذين آمنوا من آمن منهم فلا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك، فحينئذ يخرج الكلام عن المقصود ويكون ابعد من اختيار صاحب "الفرائد"، وقيل: أراد بقوله: "أو من: المعطوف عليه" المعطوف ففيه ضمير يعود إلى اللام، والضمير المجرور عائد إلى اسم {إنَّ}، وليس بوجه حسن لما يلزم منه أن يكون بدلاً من المعطوف عيه. أيضاً، لما صرح المصنف في قوله تعالى: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] فحينئذ يلزم التكرار. قوله: (فأين الراجع؟ ) هذا على تقدير البدلية لا الخبر، لوجود الراجع من قوله: {عَلَيْهِمْ}.

(يستهزيون)، (والصابون) وهو من: صبوت؛ لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبيّ رضي اللَّه عنه: (والصابئين) بالنصب، وبها قرأ ابن كثيرٍ، وقرأ عبد اللَّه: (يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون). [(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)]. (لَقَدْ أَخَذْنا) ميثاقهم بالتوحيد (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا) ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم. (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) جملة شرطية وقعت صفة لـ (رسلاً) والراجع محذوف؛ أي: رسول منهم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ): بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع. فإن قلت: أين جواب الشرط، فإن قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخى أخاك أكرمت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت). قال صاحب "التقريب": إنما لم يحسن لأن محل تأثير الشرط هو الفعل، وبتقدم المفعول يبعد عن المؤثر، ولأنها تتوهم بادي الرأي بتقدم المفعول شبهها بالجملة الاسمية التي يجب فيها الفاء. وقلت: الظاهر أن المراد من السؤال برمته طلب المطابقة ومراعاة المناسبة بين الشرط والجزاء من حيث المعنى لا تصحيحه من جهة الإعراب، ومن ثم قال: "لا يحسن"، ألا ترى كيف ذهب أبو البقاء والقاضي إلى أن جواب الشرط: {كَذَبُوا}، وتقدير السؤال من وجهين:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن المذكور في الشرط رسول واحد؛ لأن قوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} بيان لقوله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} وتفصيل لصيغة الجمع، أي: كلما جاءهم رسول من الرسل، وفي المذكور فريقان منهم فلا مطابقة. وثانيهما: أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص ولا دلالة في الشرط عليه، والواجب المطابقة أيضاً. وأجاب عنه: أن الجواب محذوف والجملة مستأنفة على تقدير الجواب عن سؤال مورده الجملة الشرطية مع موصوفها، وذلك أن في إيقاع قوله: "كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ناصبوه" بعثاً للسامع على أن يقول: كيف كانت مناصبتهم معهم وهم جاؤوا تترى أشتاتاً؟ فقيل مجيباً: بذلوا جهدهم في تكذيب فريق، وانتهزوا فرصاً لقتل آخرين بما أمكن من الكيد، وأما تقديم المفعول في قوله: "فريقاً يقتلون" فللمحافظة على الفاصلة، وفي {كَذَّبُوا} للمطابقة بين القرينتين، نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في وجه، وعلى المثال لا تقتضي التقديم أصلاً. وقال صاحب "الانتصاف": يدل على حذف الجواب مجيئه ظاهراً في الآية التي هي توأمة هذه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، ولو قدر الزمخشري المحذوف بما ظهر في هذه فقال عوض ناصبوه: استكبروا، لكان أولى. وقلت: لو أتى به لاحتاج إلى تأويل الاستكبار بالمناصبة؛ لأن المقاتلة والتكذيب مسبوقان بالمناصبة، والمناصبة نتيجة الاستكبار وسبب عنه، فقدر المسبب تعليلاً للاعتبار، ألا ترى كيف جيء بالفاء الفصيحة في قوله: {فَفَرِيقاً}، أي: استكبرتم فناصبتموهم {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

قلت: هو محذوفٌ يدل عليه قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه، وقوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جيء بـ (يقتلون) على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. [(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) 71]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف ذكر المصنف في البقرة وجهين، حيث قال: "إنما لم يقل: وفريقاً قتلتم؟ لان المراد إما حكاية الحال الماضية أو الاستمرار، أي: فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلوات الله عليه وسلامه"، وقصر هاهنا على وجه واحد؟ قلت: خصص هذه الآية بحكاية حال أسلافهم لقرينة ضمائر الغيب، وترك تلك الآية على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين، ليكون توبيخاً للحاضرين وتعبيراً لهم بفعل آبائهم، ومن ثم عقب هذه الآية بقصة عيسى عليه الصلاة والسلام وبقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية [المائدة: 78]، وتلك بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، وبقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآيات [البقرة: 88 - 89]. قوله: (ناصبوه)، الأساس: ومن المجاز: نصبنا لهم حرباً، وناصبناهم مناصبة، وناصبت لفلان: عاديته نصباً.

قرئ: (ألا تكون) بالنصب على الظاهر، وبالرفع على: "أن" هي المخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يكون فتنة فخففت «أن» وحذف ضمير الشأن. فإن قلت كيف دخل فعل الحسبان على "أن" التي للتحقيق؟ قلت: نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم. فإن قلت: فأين مفعولاً "حسب"؟ قلت: سدّ ما يشتمل عليه صلة "أن" و"أنّ" من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من اللَّه فتنة، أي: بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة. (فَعَمُوا) عن الدين (وَصَمُّوا) حين عبدوا العجل، ثم تابوا عن عبادة العجل فـ (تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرةً ثانيةً ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {أَلاَّ تَكُونَ} بالنصب): كلهم سوى أبي عمرو وحمزة والكسائي، فإنهم قرؤوا بالرفع. قوله: (على الظاهر) أي: على "أن" في {أَلاَّ تَكُونَ} هي الناصبة للفعل. اعلم أن الفعل الواقع قبل "أن" لا يخلو من أن لا يحتمل سوى الشك نحو: طمعت أن تقوم، فلا يجوز في مدخولها إلا النصب، لأن المخففة من الثقيلة للتحقيق، والتحقيق ينافي الشك، أو أن لا يحتمل سوى اليقين فلا تكون ناصبة بل مخففة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20]، أو احتمل الوجهين كما في هذه الآية، فيجوز فيه الأمران. قوله: (ثم تابوا عن عبادة العجل فـ {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} كرة ثانية بطلبهم المحال). وأيضاً، عطف {وَحَسِبُوا} على {كَذَّبُوا} مؤذن أن هذا الحسبان متأخر عن التكذيب والقتل، ولا ارتياب أنهما تأخرا عن زمان موسى عليه الصلاة والسلام، ولعله يتشبث بأن الواو ليست للترتيب، والنظم غير منظور إليه، وقال الزجاج: من قرأ (ألا تكون

بطلبهم المحال غير المعقول في صفات اللَّه وهو الرؤية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتنة) بالرفع، فالمعنى: أنه لا تكون فتنة، أي: حسبوا فعلهم غير فاتن لهم، وذلك أنهم كانوا يقولون: نهم أبناء الله وأحباؤه فعموا وصموا، يعني أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولم يدبروا الآيات فصاروا كالأعمى والأصم، ثم تاب الله عليهم، أي: أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا فلم يؤمن أكثرهم فقيل: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحاً. قلت: يرد هذا القول ما سبق أن قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} وارد في حكاية حال أسلاف اليهود دون الحاضرين، و"حسبوا": عطف على قوله: {كَذَّبُوا} يعني: كذبوا وقتلوا وحسبوا أن لا بلاء ولا فتنة، والقول ما ذكره الإمام: أن قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما، فتاب الله عليهم فوقعت فترة فعموا وصموا، ويؤيده قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيات [المائدة: 17 - 19]، وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]. قوله: (بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله تعالى، وهو الرؤية): تخصيص من غير دليل، على أن فائدة الفاء في الأولى ومن ثم في الثانية لم تظهر، لعل عنده طلب الرؤية أعظم من عبادة العجل، فجيء بثم للتراخي في الرتبة، أو طلب الرؤية تأخر عن عبادة العجل بمدة مديدة، لكن الذي صرح به في قوله تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]: أن القوم كانوا معه عليه الصلاة والسلام في هذه المرة وأن طلب الرؤية كان لجلهم، وكانت عبادة العجل من المتخلفين حينئذ، لقوله تعالى: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} [طه: 85] فلا يصح إذن.

وقرئ: (عموا وصموا) بالضم على تقدير: عماهم اللَّه وصمهم؛ أي: رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته: إذا ضربته بالنيزك، وركبته: إذا ضربته بركبتك. (كَثِيرٌ مِنْهُمْ): بدلٌ من الضمير، أو على قولهم: أكلوني البراغيث، أو هو خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: أولئك كثير منهم. [(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَاواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)]. لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوبٌ كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله (فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) التي هي دار الموحدين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالنيزك)، الجوهري: هو رمح قصير، فارسي معرب، وقد تكلمت به الفصحاء، وقد نزكه: إذا طعنه. قوله: (أو فيما هو مختص به من صفاته)، هذا من حيث اللفظ كما في إطلاق "الرحمن" على غير الله، ومن حيث المعنى وصف الغير بمعرفة علم الغيب، قال في أول السورة: "الاستقسام هو: طلب ما قسم لشخص مما لم يقسم له بالأزلام"، وهو الإشراك بالله في علم الغيب، أو أن تُنسب الحوادث إلى الكواكب كما كانوا يقولونه: مطرنا بنوء كذا، وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22]، أو أن تنسب الأفعال إلى العباد، كما يقوله المعتزلة، لا كما يقوله أهل السنة: إن الله تعالى خالق الجواهر والأعراض حقيقة، فلا يقال: إن العبد خالق لأفعال نفسه حقيقة.

أي: حرّمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ): من كلام اللَّه على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما يقولوا على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام، على معنى: ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول. أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب اللَّه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يمنع المحرم) أي: حرم هنا: استعارة تبعية من المنع. قوله: ({وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} من كلام الله تعالى)، وقيل: صح هنا "كلام الله" بغير "من"؛ لأن ما تقدم ليس كلام الله، وفي الوجه الثاني: من قول عيسى عليه الصلاة والسلام بإثبات "مِن"؛ لأن ما تقدمه في القرآن من كلام عيسى. وقلت: وجود "مِن" وعدمها سواء في صحة المعنى؛ لأن قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} تذييل للكلام السابق، وعلى أن يكون تذييلاً لقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} كأن قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} أيضاً كلام الله حاكياً كلامه مقرراً لكلامه عز وجل، فنه تعالى لما نعى على النصارى قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في أنها كلمة شنعاء وقائلها كافر مبالغ في وضع الشيء غير موضعه أتى بقول عيسى عليه الصلاة والسلام بياناً لتبريه عنهم وخذلانه إياهم فذيله بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} تأكيداً، وإليه الإشارة بقوله: "رده وأنكره وإن كانوا معظمين له"، وإذا كان تذييلاً لكلام عيسى عليه السلام، وأنه عليه الصلاة والسلام لما سوى بينه وبينهم في العبودية بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} رداً لزعمهم أن الله هو المسيح، وعلله بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ} زيادة للتبري عنهم ذيله بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} مزيداً للتقرير، يعني أني بريء مما تقولون، ولا يصح لي أن أساعدكم

[(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَاكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)]. (مِنْ) في قوله: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) للاستغراق، وهي القدرة مع "لا" التي لنفي الجنس في قولك: لا إله إلا الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنصركم مع هذا الظلم؛ لأن العارف العالم لا يساعد أحداً على الظلم الفاحش والباطل البين بطلانه، والوجه الأول أبلغ؛ لأن في الجملة القسمية معنى التعجبن وقد قيدت بالحال المقررة لجهة الإشكال، وهي قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ}، كأنه قيل: ما أكفرهم، والحال أن عيسى عليه الصلاة والسلام وصاهم بخلافه وبالغ في الوصية وأكدها أبلغ تأكيد. قوله: ({مِنْ} في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} للاستغراق، وهي المقدرة مع "لا" التي لنفي الجنس في قولك: لا إله إلا الله). قال صاحب "الإقليد": إن إفادة "مِن" الاستغراقية الاستغراق لأنها تدخل لابتداء الجنس إلى انتهائه، فقولك: هل من رجل؟ تقديره: هل من واحد هذا الجنس إلى أقصاه؟ إلا أنه اكتفى بذكر "مِن" عن ذكر "إلى" لدلالة إحدى الغايتين على الأخرى، وإنما قيل: إن مثل "لا رجل" متضمن لمعنى "مِنَ" الاستغراقية؛ لأن "لا رجل في الدار" أبلغ في النفي من "لا رجل في الدار" بالرفع، ومن "ليس رجل في الدار"، ولا يمكن تقدير ما يكون به كذلك إلا بحرف مؤكد مثبت للاستغراق، فوجب تقدير "مِن"، ولو كانت "لا" مفيدة للاستغراق لذاتها لما جاز قولهم: لا رجل في الدار بل رجلان. فإن قلت: هذا مخالف لقوله في آل عمران: "ومن" في "ما من إله إلا الله" بمنزلة البناء على الفتح في قوله: "لا إله إلا الله" في إفادة معنى الاستغراق"، قلت: قد وجه هناك أن الفتح

والمعنى: وما إلهٌ قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له، وهو اللَّه وحده لا شريك له: و"من" في قوله: (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) للبيان كالتي في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج: 30]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجوز أن يكون فرعاً على "مِن"، وأن يكون كالأصل بنفسه، وإذا كان أصلاً جاز أن يُفرع عليه، وإذا كن فرعاً جاز أن يبلغ اشتهاره في الاستعمال بحيث يعكس معه الأمر كالصلاة في عرف الشرع واللغة. قوله: (وما إله قط في الوجود إلا إله). قال أبو البقاء: {مِنْ} زائدة، و {إِلَه} في موضع مبتدأ، والخبر محذوف، و {إِلاَّ اللَّهَ} بدل من {إِلَه}، وقال القاضي: ما في الوجود ذات مستحق للعبادة من حيث إنه مبديء جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة، وقال الإمام: في تفسير {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: قدر النحويون: لا إله في الوجود، وذلك غير مطابق للتوحيد الحق؛ لأن هذا نفي لوجود الإله الثاني، ولو لم يُضمر هذا الإضمار لكان "لا إله" نفياً لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود. وقلت: الإمام اختار مذهب التميمي، والمصنف لو ترك التقدير بقوله: "في الوجود" ليبقى مطلقاً فيتناول الوجود والإمكان وما يجري مجراهما، لكان أولى، وذكر في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]: "إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت واجب حق لازم وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد".

فإن قلت: فهلا قيل: وللكافرين عذابٌ أليمٌ؟ قلت: في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة، وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وفي البيان فائدةٌ أخرى، وهي الإعلام في تفسير (الذين كفروا منهم) أنهم بمكانٍ من الكفر، والمعنى: ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي: نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطني عشرين من الثياب؛ تريد: من الثياب خاصةً لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها "عشرون"، ويجوز أن تكون للتبعيض على معنى: ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم؛ لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي البيان فائدة أخرى، وهي الإعلام في تفسير {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أنهم بمكان من الكفر)، يعني: لما ذكر أولاً {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} على أن التعريف للجنس مبهماً ومعمماً ثم أوقع قوله: {مِنْهُمْ} تفسيراً للمبهم وتخصيصاً للعام، أفاد أنهم علم في الكفر وبمكان منه، قال في قوله تعالى: {أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 10 - 11]: "سجل عليهم الظلم بأن قدم {الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وترجمته: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} ". وقال في الفاتحة: "قولك: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان أبلغ من فلان الأفضل؛ لأنك ثنيت ذكره مجملاً أولاً ومفصلاً ثانياً، وأوقعت فلاناً تفسيراً للأكرم والأفضل، فجعلته علماً في الكرم والفضل". ويمكن أن يُقال: إنه من باب رأيت منك أسداًن فجرد من نفس النصارى الذين كفروا، فعُلم أنهم من جنس {الَّذِينَ كَفَرُوا}، مبالغة لكمال الكفر فيهم. قوله: (ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم) فالتعريف على هذا: للعهد، قال أبو البقاء: منهم: في موضع الحال، إما من {الَّذِينَ} أو من ضمير الفاعل في {كَفَرُوا}.

(أَفَلا يَتُوبُونَ): ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر، وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه، وفيه تعجب من إصرارهم (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لـ (رسول) أي: ما هو إلا رسولٌ من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، جاء بآياتٍ من اللَّه كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ اللَّه الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حيةً تسعى، وفلق بها البحر وطمس على يد موسى، وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي: وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدّقات للأنبياء، المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين، أحدهما نبي، والآخر صحابي، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه؟ ! ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: (كانا يَاكُلانِ الطَّعامَ) لأنّ مَنِ احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصابٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا يتوبون؟ ) فسر {أَفَلا يَتُوبُونَ} به للإيذان بأن الهمزة للإنكار، ولا: نافية، والفاء: عاطفة على محذوف، أي: أيصرون فلا يتوبون؟ ففيه معنى التعجب على الإصرار والتحضيض على التوبة. قوله: (ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما). قال القاضي: بين أولاً أقصى ما لهما من الكمالات، ودل على أنه لا يوجب لهما الألوهية؛ لأن كثيراً من الناس يشاركهما، ثم نبه على نقصهما، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات، وقلت: يمكن أن تكون

وأخلاطٍ وأمزجةٍ مع شهوةٍ وقرمٍ وغير ذلك؛ مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام. (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي: الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله؟ فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله: (ثم انظر)؟ قلت: معناه ما بين العجبين؛ يعني أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه. [(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]. (ما لا يَمْلِكُ) هو عيسى، أي: شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به اللَّه من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآية على منوال قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، رفع من شأنهما أولاً بأقصى ما لهما من الكمال، ثم جيء بالمطلوب، وهو إبطال إلهيتهما بأدنى ما لهما من النقصان لئلا يوحشهما إذا ووجها به ابتداء. قوله: (وقرم)، الجوهري: القرم، بالتحريك شدة شهوة اللحم، وقد قرمت إلى اللحم، بالكسر: إذا اشتهيته. قوله: (ولأن كل ما يستطيعه البشر) عطف على جملة قوله: "شيئاً لا يستطيع" من حيث المعنى، ومعلله محذوف، المعنى: لم تعبدون شيئاً لايستطيع أن يضركم ولا أن ينفعكم بمثل ما يملكه الله؟ أو: لم تعبدون ما لا يستطيع شيئاً من النفع والضر البتة؟ أي: العاجز؛ لأن كل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يستطيعه البشر فبإقدار الله وتمكينه، وإنما علل هذا الوجه دون الأول لأن عندهم البشر قادر على الأفعال، فأزال ذلك بقوله: "إن ذلك بإقدار الله تعالى وتمكينه". وأما الأول فاستغنى عنه بقوله: "وهذا دليل قاطع"، لاشتراكه في الوجهين، وعلى الأول: {مَا} في {مَا لا يَمْلِكُ} عامة في جميع الأشياء، نبه به على أن عيسى من جملة المخلوقين فلايصلح للإلهية، وأن يكون شريكاً لله؛ لأنه لا يضركم ولا ينفعكم بمثل ما يضركم به الله وينفعكم. قال القاضي: وإنما قال: {مَا}، نظراً إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس، ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية، وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع، وعلى الثاني: "ما" وصف جيء به تحقيراً؛ أي: أتعبدون من دون الله هذا الموصوف الذي لا يملك نفعاً ولا ضُراً؟ وعلى هذين الوجهين بني المصنف قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} على اللف والنشر حيث قال أولاً: " {هُو}: متعلق بـ {أَتَعْبُدُونَ} "، فيكون حالاً مقررة لجهة الإشكال تهديداً ووعيداً، وإليه الإشارة بقوله: "أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولون؟ "، وقال ثانياً: "أتعبدون العاجز؟ " فيون حالاً من معنى {لا يَمْلِكُ}، ولهذا قال: "أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم؟ " تعبيراً وتجهيلاً، ألا ترى كيف صرح بقوله: "العاجز" ليبرشدك بأن {مَا} يُراد بها الوصف. فإن قلت: هب أن قوله: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} دل على التهديد؛ لأن السامع العالم إذا سمع وعلم ما يفعله المجرم يجازيه عليه، فكيف دل على التعبير؟ قلت: إذا دل على القدرة كما قال: "ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر" جاء التعبير كقوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125]، ومثل هذين الوجهين سبق في البقرة عند قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 116].

والمنافع فبإقدار اللَّه وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئاً. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته. (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) متعلق بـ (أتعبدون)، أي: أتشركون باللَّه ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون؟ أو أتعبدون العاجز واللَّه هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر. [(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)]. (غَيْرَ الْحَقِّ) صفة للمصدر؛ أي: لا تغلوا في دينكم غلواً غير الحق؛ أي: غلواً باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوّان: غلوّ حق: وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية)؛ لأن الإله هو الضار النافع، وهما اللذان يصححان العبودية؛ لأن المكلف إنما يعبده ليدفع عنه الضر ويجلب له النفع دنيا وعقبى، والتكرير في الضر والنفع للاستيعاب كما في قوله: {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11]، ومن ثم قال: "وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء". قوله: ({غَيْرِ الْحَقِّ}: صفة للمصدر). قال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل، أي: لا تغلوا مجاوزين.

في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان اللَّه عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد)، الانتصاف: يعني بهم المعتزلة الذين غلوا في التوحيد، فجحدوا الصفات، وغلوا في العدل فجعلوا إرادة الحق جل جلاله مغلوبة بإرادة العبد، يعني بأهل البدع من عداهم، الذين أثبتوا الصفات ولم يثبتوا خالقاً سوى الله تعالى. وقلت: معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} ومعنى قوله في النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171] واحد، وقد قال المصنف: "غلت اليهود في حط المسيح من منزلته حيث جعلوه مولوداً لغير رشدة، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها"، والطريق القصد هو ما عليه المسلمون، كذلك القدرية يثبتون القدرة لغير الله مطلقاً، والجبرية يسلبون القدرة من الغير رأساً، وأهل السنة على الصراط المستقيم، وكذلك المعطلة لا يثبتون لله تعالى صفات، والمجسمون يشبهونه بالخلق، وأهل السنة اختاروا القصد والطريق السوي، فالمناسب أن يجعل {غَيْرَ الْحَقِّ}: مصدراً مؤكداً من حيث المعنى لا صفة للمصدر، لأن الغلو لا يكون حقاً. قال الراغب: الغلو: تجاوز الحد، من قولهم: غلا السهم وغلا السعر، ويستعمل في الإفراط دون التفريط، وكلاهما مذمومان، والخطاب لليهود والنصارى، فالنصارى غلوا في رفعه، واليهود في وضعه، وإنما جمع الهوى بينهما، على أنهم متفاوتو المراد في باطلهم.

وغلوٌّ باطلٌ: وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع. (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) ممن شايعهم على التثليث. (وَضَلُّوا) لما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ): حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه. [(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ* تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ* وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) 78 - 81]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَضَلُّوا}: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم). أسند {ضَلُّوا} أولاً إلى أسلافهم، وثانياً إلى أعقابهم لئلا يلزم التكرار فيكون الخاطبون غيرهم، وقال الراغب: فيه وجوه: الأول: اريد: قد ضلوا عن سواء السبل، فلما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، الثاني: أن الضال قد يعتقد أنه لا يضل غيره، وهو ضال بذلك، فبين الله تعالى أن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم غيرهم، كقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، والثالث: أن لله تعالى هاديين: العقل والرسول، والعقل مقدم على الرسول من حيث إنه بالعقل يهتدي إلى معرفة الرسول، فقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}: إلى ما أتى به الرسول.

نزّل اللَّه لعنهم في الزبور (عَلى لِسانِ داوُدَ) وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم آية؛ فمسخوا قردةً، ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم امرأة ولا صبيّ. (ذلِكَ بِما عَصَوْا) أي: لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ، إلا لأجل المعصية والاعتداء، لا لشيءٍ آخر، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) لا ينهى بعضهم بعضاً (عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). ثم قال: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) للتعجيب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم. فيا حسرةً على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيءٍ مع ما يتلون من كلام اللَّه وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فإن قلت: كيف وقع ترك التناهى عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا لأجل المعصية [والاعتداء] لا لشيء آخر). الحصر مستفاد من إيقاع اسم الإشارة استئنافاً والجار والمجرور خبراً له بعد إثبات اللعن والطرد لهم على المبالغة، كأن السامع لما وقف على ما فُعل بهم من اللعن والطرد على لسان نبيين معظمين، استعظم ذلك وتوهم أن له أسباباً شتى فقال: ما سبب ذلك الأمر الفظيع والخطب الهائل؟ فقيل: ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهو عدم التناهي عن المناكير. قوله: (وقلة عبثهم به) أي: عدم مبالاتهم، ما عبثت بفلان؛ أي: ما باليت به.

من قبل أنّ اللَّه تعالى أمر بالتناهى، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهى حسبما للفساد فكان تركه على عكسه. فإن قلت: ما معنى وصف المنكر بـ (فعلوه) ولا يكون النهى بعد الفعل؟ قلت: معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه، أو عن مثل منكرٍ فعلوه، أو عن منكرٍ أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر، ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكرٍ فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى وصف المنكر بـ {فَعَلُوهُ}؟ ) يعني: لا يصح أن يكون {فَعَلُوهُ} صفة لـ {مُنكَرِ}؛ لأن التناهي عن منكر قد سبق ومضى محال. قوله: (معناه: لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه). قال صاحب "الانتصاف": وفي توبيخهم إشعار بأنهم فعلوا المنكر، وبأنهم لم ينهوا عن أمثاله في المستقبل، ولولا زيادة {فَعَلُوهُ} لما صرح بوقوعها منهم، ودلت الآية على أن متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه؛ لأنه عبر عن ترك التناهي بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، فسماه بقوله: {لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ}، إلى قوله: {يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، وهو أبلغ؛ لأن الصنع أبلغ. ثم كلامه. ويجوز أن يجري {لا يَتَنَاهَوْنَ} على حكاية الحال الماضية لاكتنافه بالماضيين، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9]؛ تصويراً لتناهيهم في التواني عن التناهي عنالأفعال الشنيعة، وهي تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لينزجر السامع عن ارتكاب مثلها. قوله: (ويجوز أن يُراد) عطف على معنى قوله: "لا ينهى بعضهم بعضاً"، فوضع يتفاعلون

يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه. (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ): هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم. (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذمّ، ومحله الرفع، كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط اللَّه عليهم. والمعنى: موجب سخط اللَّه (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ) إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين (أَوْلِياءَ) يعني: إنّ موالاة المشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم، وإنّ إيمانهم ليس بإيمانٍ. (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ): متمرّدون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون باللَّه وموسى كما يدّعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون. [(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ* فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) 82 - 86]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضع يفعلون للمبالغة، كما سبق في {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}، كأنهم كانوا في ارتكابهم المناكير مع دواعيهم وآرائهم بمنزلة الأمر الراكب، وإلى المبالغة أشار بقوله: "بل يصبرون ويداومون". قوله: (وقيل: معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى): عطف على قوله: " {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ} إيماناً خالصاً"، والمراد بـ "النبي": محمد صلى الله عليه وسلم، وبـ"ما أنزل": القرآن، وعلى هذا المراد بـ "النبي": موسى، وبـ "ما أنزل": التوراة.

وصف اللَّه شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة: 96]، ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله». وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين (بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ}). وقلت: وفي وضع {مَا} الموصولة مع صلتها موضع "النصارى"؛ لأنه في مقابلة ذكر اليهود تتميم لذلك المعنى. فإن قلت: أي فرق بين هذا المعنى في هذا المقام وبينه في قوله تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]؟ قلت: ولا ارتياب أن المعاني تتفاوت بحسب تفاوت المقامات، فإن مقام المدح يقتضي أن يفسر بما ينبئ عن المدح وبالعكس، ولما كان ذلك المقام مقام نقض الميثاق، كان المعنى على التعبير والتأنيب، وأني قال: من الذين ادعوا على أنفسهم هذا الوصف الفاضل: أخذنا ميثاقهم فنسوا، وقد ذكرنا أن نسبة النسيان إليهم ونقص الميثاق إلى اليهود مراعاة لهذا المعنى، وهو سهولة مأخذهم وشدة شكيمة اليهود، ولكن في قول المصنف في ذلك المقام: "إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله" تسامح لما كان ينبغي له أن يقول: إنما حكى الله تعالى قولهم ذلك تعبيراً لهم وتذكيراً لما نسبوا إلى أنفسهم ثم نسوه، قال صاحب "الانتصاف": إنما قال: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} تعريضاً لشدة ضلالة اليهود في الكفر إذ قيل لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} الآية [المائدة: 21]، فقالوا: اذهب أنت

علماء وعباداً (وَأَنَّهُمْ) قومٌ فيهم تواضع واستكانةٌ، ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع شيءٍ وأهداه إلى الخير، وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة، وإن كان في راهبٍ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني، ووصفهم اللَّه برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشيّ رضي اللَّه عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب - حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وربك، وقالت النصارى: نحن أنصار الله، وأما التي مرت {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 14] فللتنبيه على أنهم ما وفوا بما عاهدوا عليه، وها هنا لبيان أنهم أقرب حالاً من اليهود. قوله: ({وَأَنَّهُمْ} قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم) تفسير لقوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}، وكان من الظاهر أن يُقال: بأن بعضهم قسيسين ورهباناً وكلهم متواضعون، فعدل إلى ما عليه التلاوة من إعادة "أن" والإتيان بالمضارع لمزيد التحقيق والدلالة على الاستمرار، وأنهم قوم عادتهم التواضع، نحو: فلان يقري الضيف. قوله: (وكذلك غم الآخرة) عطف على "أن العلم"، "والبراءة من الكبر"عطف على "غم الآخرة"، وذلك وصف لـ {قِسِّيسِينَ}، وذاك لـ "رهبانا"، وهذا لعامتهم، أي: فيه دليل بين على أن العلم وغم الآخرة والبراءة من الكبر أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله علىلفوز. قوله: (ما يحكى عن النجاشي) ستجيء قصته مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما في سورة التوبة عند قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة: 100].

والمشركون وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده -: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [مريم: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله: (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) [طه: 9] فبكى النجاشي، وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سورة يس، فبكوا. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟ قلت: بـ (عداوة) و (مودّة) على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات، وأدناها وجوداً، وأسهلها حصولاً. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب. فإن قلت: ما معنى قوله: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)؟ قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: دمعت عينه دمعاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم وصف العداوة والمودة بالأشد والأقرب) يريد أن هذا الوصف تتميم لذلك المعنى، على أن "أقرب" محمول على قرب الحال لا التفضيل؛ لأن اليهود ليسوا من المودة في شيء. قوله: (أو قصدت المبالغة) هذا يوهم أن الوجه الأول ليس فيه مبالغة، وكيف به وإنه من المجاز المرسل؟ لكن مراده أن الثاني أبلغ؛ لأنه من الإسناد المجازي، من قولك: نهر جار وطريق سائر. الانتصاف: هذه العبارة أبلغ العبارات، فأولها: فاض دمع عينه، وهو الأصل،

فإن قلت: أي: فرق بين "مِن" و"مِن" في قوله (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)؟ قلت: الأولى: لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه، والثانية: لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا. وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ (ترى أعينهم) على البناء للمفعول. (رَبَّنا آمَنَّا) المراد به إنشاء الإيمان، والدخول فيه. (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ): مع أمّة محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة. (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] وقالوا ذلك؛ لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك. (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ): إنكارٌ استبعادٌ لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام اللَّه عليهم بصحبة الصالحين: وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك، أو أرادوا: وما لنا لا نؤمن باللَّه وحده لأنهم كانوا مثلثين، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثانية: المحولة: فاضت عينه دمعاً، حول الفاعل تمييزاً مبالغة، والثالثة: فاضت عينه من الدمع فلم ينبه على الأصل كما في الثانية، بل أبزر به تعليلاً، وهذا أبلغ؛ لأن التمييز قد اطرد وضعه في هذا الباب موضع الفاعل، نحو: تصبب زيد عرقاً، واشتعل الرأس شيباً، وتفجرت الأرض عيوناً، والتعليل لم يعهد فيه ذلك، فيجوز: فاضت عينه من ذكر الله، كما تقول: فاضت من الدمع، وقد نبه المصنف بقوله: "من أجله وبسببه" على أن من الابتدائية سببيه. قوله: (وقيل: لما رجعوا). الضمير للوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند النجاشي.

وذلك ليس بإيمانٍ باللَّه، ومحل (لا نُؤْمِنُ) النصب على الحال، بمعنى: غير مؤمنين، كقولك مالك قائماً، والواو في (وَنَطْمَعُ) واو الحال. فإن قلت: ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي: شيء حصل لنا غير مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا ونطمع، لم يكن كلاماً، ويجوز أن يكون (وَنَطْمَعُ) حالاً من (لا نؤمن)، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون اللَّه، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفاً على (لا نؤمن) على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين، أو على معنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والواو في {وَنَطْمَعُ} واو الحال)، أي: ونحن نطمع؛ لأن المضارع المثبت لا يحتاج إليها. قوله: (مقيداً بالحال الأولى) فيعود المعنى: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين؟ أي: لِمَ لم نكن مؤمنين طامعين؟ وهو موافق للوجه الثاني في العطف كما سيأتي، وهو لـ "ما لنا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام". قوله: (ويجوز أن يكون {وَنَطْمَعُ} حالاً من {لاَّ نُؤْمِنَ})، فعلى هذا الوجه يكونان حالين متداخلتين كما كانتا على الأول مترادفتين، والمعنى: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين في حال الطمع؟ وتحريره: ما لنا لا نوحد الله ونطمع مع ذلك مصاحبة الصالحين. قوله: (وما لنا نجمع بين التثليث) إلى آخره، أي: أي شيء لنا نجمع بين عدم الإيمان والطمع؟ أو: لم لا نجمع بين الإيمان والطمع؟ قال صاحب "التقريب": فعلى الأول ورد المع على النفي، وعلى الثاني ورد النفي على الجمع.

وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. قرأ الحسن: (فآتاهم اللَّه). (بِما قالُوا): بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أي: اعتقاده وما يذهب إليه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)]. (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ): ما طاب ولذ من الحلال، ومعنى (لا تُحَرِّمُوا): لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا: حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً. وروي أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الكافر لا ينبغي له أن يطمع) تعليل لقوله: "لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام"، ويمكن أن ينزل على الوجوه بأسرها. قوله: (وتقشفا)، النهاية: التقشف: يبس العيش، وقد قشف يقشف، ورجل متقشف أي: تارك للنظافة والترفه. قوله: (وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة) إلى آخره، نحوه روينا عن البخاري ومسلم، عن أنس، قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، قال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن

فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفُرُش، ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رغب عن سنتي فليس مني"، وأما قوله: "إن لأنفسكم عليكم حقاً" فروى أحمد بن حنبل وأبو داود والدارمي، عن عائشة رضي الله عنها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون في حديث طويل: "إن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصُم وأفطر، وصل ونم". قوله: (في بيت عثمان بن مظعون)، قال صاحب "الجامع": هو أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي القرشي، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وكان حرم الخمر في الجاهلية، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهراً، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم وجهه بعد موته، ولما دفن قال: "نعم السلف هو لنا"، ودفن بالبقيع. قوله: (المسوح)، الجوهري: المسح: البلاس، والجمع أمساح ومسوح. والمذاكير: جمع الذكر على غير قياس، كأنهم فرقوا بين الذكر الذي هو العضو في الجمع وبين الذكر الذي هو خلاف الأنثى.

فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال لهم: "إني لم أؤمر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت. وروي أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ. وكان يعجبه الحلواء والعسل، وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة»، وعن ابن مسعود أن رجلا قال له: إنى حرمت الفراش فتلا هذه الآية، وقال: نَمْ على فراشك وكفر عن يمينك. وعن الحسن: أنه دُعي إلى طعام ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحيةً، فسأل الحسن: أهو صائمٌ؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد، أترى لعاب النحل بلباب البرّ، بخالص السمن يعيبه مسلمٌ؟ ! وعنه: أنه قيل له: فلانٌ لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدّي شكره، قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهلٌ، إن نعمة اللَّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. وعنه: إن اللَّه تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم. قال اللَّه تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [الطلاق: 7] ما عاب اللَّه قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه. (وَلا تَعْتَدُوا): ولا تتعدوا حدود ما أحل اللَّه لكم إلى ما حرّم عليكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان يعجبه الحلواء والعسل)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. قوله: (ولا تتعدوا). اعلم أن "لا تعتدوا" إما من المجاوزة، وإما من الظلم، قال الجوهري: التعدي: مجاوزة الشيء إلى غيره، يقال: عديته فتعدى، أي: تجاوز، وعدا عليه: من الظلم،

أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات، أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده على عقبه، أو أراد: ولا تعتدوا بذلك (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي: من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعدو عداء واعتدى عليه بمعنى، فعلى الأول فيه وجهان، أحدهما: لا تجاوزوا حدود ما عين الله لكم، يعني: من أحل الله له تناول الطيبات ينبغي أن يكون في حيزه، فإذا تجاوز عنه وقع في حيز ما حرمه عليه، كذا فسر قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} في البقرة [الآية: 229]، وقال: "من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهي أن يتعداه؛ لأن من تعداه وقع في حيز الباطل"، وثانيهما: لا تسرفوا؛ لأن الإسراف أيضاً تجاوز الحد، والمعنى ظاهر، وعلى أن يكون بمعنى الظلم فيه وجهان أيضاً: ألا يقدر للاعتداء متعلق ليكون مطلقاً فيتناول جميع ما يسمى اعتداء، ويدخل فيه هذا الاعتداء الخاص دخولاً أولياً لوروده عقيبه، وثانيهما: أن يُقدر ما يُنبئ عنه السياق، وإليه الإشارة بقوله: "ولا تعتدوا بذلك" أي: بتحريم الطيبات. قوله: (التي تسمى رزقاً)، يعني الحلال، فإن الحرام لا يسمى رزقاً عنده، قال القاضي: {حَلالاً} إما مفعول "كلوا"؛ و {مما}: حال منه تقدمت عليه، أو: حال من الموصول، أو: صفة لمصدر محذوف، وعلى الوجوه: لو م يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة. الراغب: الرزق: يقال لما يجعل غذاء، ويقال للعطية جميعاً، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] أي: ما تتغذى به، وقال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] أي: ما أعطيناهم، قال بعضهم: هذه الآية تقتضي أن الرزق يقع على الحرام

(حَلالًا): حالٌ مما رزقكم اللَّه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً؛ لأنه خص فقال: {مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}، فلولا أنه يتناولهما لما كان لتخصيصه فائدة، وقال مخالفه: {حَلالاً طَيِّباً}، انتصابه على أنه حال مؤكدة، كأنه قيل: كلوا مما رزقكم الله وهو حلال طيب. قوله: ({حَلالاً}: حال مما رزقكم الله)، وقال في البقرة [الآية: 168]: " {حَلالاً}: مفعول {كَّلُوا}، أو حال {مِمَّا فِي الأَرْضِ} "، لعل اختصاص الحال بهذا المقام دون ذلك المقام؛ لأن الخطاب هنالك عام يدل عليه مجيء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] بعده، وهاهنا خاص بالمؤمنين الذين ضيقوا على أنفسهم وتحرجوا من الحلال، فاقتضى لذلك حالاً مؤكدة، ولهذا أكد بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وبقوله: {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. وقلت: الأولى ما قاله أبو البقاء: أن {حَلالاً}: صفة مصدر محذوف، أي: أكلا حلالا، ليكون توسعة في الكل ورفعاً للتضييق، سيما إذا اعتبر معنى {طَيِّباً} معه، وذلك أن ورود هذا الأمر عقيب النهي عن التحريم للطيبات والتشديد فيه بقوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يقتضي ما يقابله من التوسعة. وبيان النظم ما أشار إليه الراغب، قال: لما ذكر حال الذين قالوا: إنا نصارى، ذكر أن منهم قسيسين ورهبانا، فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم، ورأى الله قوماً تشوفوا إلى حالهم وهموا أن يقتدوا بهم، نهاهم عن ذلك، وقوله

(وَاتَّقُوا اللَّهَ): تأكيدٌ للتوصية بما أمر به، وزاده تأكيداً بقوله: (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)، لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما نهى عنه. [(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 89]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا} يجوز أن يكون حكماً لما دل عليه قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} إلى تناول المحظورات، وأن يكون نهياً عن الطرفين في التفريط والإفراط وحملاً على القصد، فإن قيل: لَِم لم يقل: والله يبغض المعتدين، ليكون أبلغ؟ قيل: بل المذكور أبلغ؛ لأن من المعتدين من لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأن الله لا يحبه، وهو من لم يكن اعتداؤه كبيراً. قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: تأكيد للتوصية بما أمر به)؛ لأن الأمر بالتقوى أمر بالامتثال بجميع ما يجب أن يأتمر به المكلف ونهي عن جميع ما يجب أن يحترز منه، فمنه الأمر بأكل الحلال، أو {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك ما سبق في {وَلا تَعْتَدُوا}، ولأنه مثله في الإطلاق والتقييد، وكذا في ترتب هذا الحكم على قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} مزيد توكيد لذلك الأمر، يعني: اختصاص الله بإيمانكم يوجب الامتثال بما أمر به والانتهاء عما نهى عنهن ومن جملتها هذا المأمور، وإنما قدرنا الانتهاء ثانياً ولم يقدر المصنف، بل عدى الانتهاء الواحد تارة بـ"إلى"، وأخرى بـ"عن" صورة، ومراده بالثاني غير الأول؛ لأن الأول بمعنى الإفضاء، والثاني مطاوع نهاه فانتهى، فلابد من إضمار؛ لأنه ليس من قبيل: شهد لزيد على عمرو، ورغب عنه إليه، بل من باب قوله:

اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم: واختلف فيه، فعن عائشة رضي اللَّه عنها أنها سئلت عنه فقالت: هو قول الرجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه، وهو مذهب الشافعي. وعن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، وليس كما ظن، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه. و(بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ): بتعقيدكم الأيمان، وهو توثيقها بالقصد والنية. وروي أن الحسن رضي اللَّه عنه سئل عن لغو اليمين، وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد، دعني أجب عنك فقال: وَلَسْتُ بِمَاخُوذٍ بِلَغوٍ تَقُولُهُ ... إذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ وقرئ: (عقدتم) بالتخفيف، و (عاقدتم)، والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة؛ لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف. (فَكَفَّارَتُهُ): فكفارة نكثه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ متقلداً سيفاً ورمحا قوله: ("عقدتم"، بالتخفيف): حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم: بالتخفيف، وابن عامر: "عاقدتم"، وهو من فاعل بمعنى فَعَل. قوله: (فكفارة نكثه) يجوز أن يكون الضمير منه عائداً إلى العقد المدلول عليه بالفعل المتقدم، ويجوز أن يعود إلى الأيمان، قال صاحب "الكشف": ولم يقل: فكفارتها؛ لأن أفعالاً

والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة؛ أي: تسترها. (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ): من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر. وهو عند أبي حنيفة رحمه اللَّه نصف صاعٍ من برّ، أو صاعٌ من غيره لكل مسكينٍ، أو يغديهم ويعشيهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن كان جمعاً فهو في حم المفرد، كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66]، وقال المصنف في سورة النحل: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياس، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في {فِي بُطُونِهَا} في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع. قوله: ({مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ}: من أقصده؛ لأن منهم من يُسرف ... ، ومنهم من يُقتر)، الأساس: من المجاز: قصد في معيشته واقتصد، وقصد في المر: إذا لم يجاوز فيه الحد ورضي بالتوسط، وهو يحتمل أن يكون بياناً للنوع كما روى محيي السنة، عن عبيدة السلماني: الأوسط: الخبز والخل، والأعلى: الخبز واللحم، والأدنى: الخبز البحت، والكل مجز، أو للمقدار، كما قال القاضي: من أقصده في النوع أو القدر معاً، والذي ذكره المصنف: "وهو عند أبي حنيفة نصف صاع من بر، أو صاع من غيره" جامع لهما؛ لأن المراد من قوله: "من بُر أو غيره" بيان النوع، ومن قوله: "نصف صاع أو صاع" بيان المقدار، وهو القصد أيضاً.

وعند الشافعي رحمه اللَّه: مدّ لكل مسكينٍ. وقرأ جعفر بن محمدٍ: (أهاليكم) بسكون الياء. والأهالي: اسم جمعٍ لأهل: كالليالي في جمع ليلةٍ، والأراضي في جمع أرضٍ. وقولهم: (أهلون) كقولهم: (أرضون) بسكون الراء. وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف كما قالوا: رأيت معدي كرب تشبيهاً للياء بالألف. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ): عطفٌ على محل (مِنْ أَوْسَطِ). وقرئ: بضم الكاف، ونحوه: قدوةٌ في: قدوةٍ، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله ({أَوْ كِسْوَتُهُمْ}: عطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ})، ونقل في الحواشي عن المصنف: وجهه أن يكون {مِنْ أَوْسَطِ}: بدلاً من "الإطعام"، والبدل هو المقصود، ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحى، فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. وقال القاضي: محله النصب؛ لأنه صفة مفعول محذوف، أي: إن تطعموا عشرة مساكين طعاماً من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من {إِطْعَامُ}، {َوْ كِسْوَتُهُمْ}: عطف على {إِطْعَامُ} أو على {مِنْ أَوْسَطِ} إن جعل بدلاً. وقال صاحب "التقريب": قول صاحب "الكشاف": إنما يصح إذا كان محله مرفوعاً إما بدلاً من {إِطْعَامُ} على حذف موصوف، أي: إطعام من أوسط، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبراً بعد خبر، والأظهر أن {كِسْوَتُهُمْ}: عطف على {إِطْعَامُ}؛ لأن المشهور التخيير بين الخصال الثلاث وعدوا الكسوة منها، و {مِنْ أَوْسَطِ}: إما منصوب على صفة المصدر المقدر، أي: إطعاماً من أوسط، أو على المفعول بإضمار: أعني، أو على المفعول الثاني لـ {إِطْعَامُ}، أي: أن تُطعمهم من الأوسط، أو مرفوع كما سبق، ولعله إنما عدل عن الأظهر لأن الكسوة اسم ظاهر لا مصدر.

وأسوة في: إسوة، والكسوة: ثوبٌ يغطى العورة. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: كانت العباءة تجزئ يومئذٍ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إزارٌ، أو قميصٌ، أو رداءٌ، أو كساءٌ. وعن مجاهدٍ: ثوبٌ جامعٌ. وعن الحسن: ثوبان أبيضان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الراغب: والكساء والكسوة: اللباس، فلا يليق عطفه على المصدر، أو لأدائه إلى ترك ذكر كيفية الكسوة، وهو كونها أوسط، ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر، قال الزجاج في "تفسيره": والكسوة: أن يكسوهم نحو إزاره، أو يضمر مصدراً نحو: وإلباس الكسوة، وعلى الثاني بأن يقدر: أو كسوتهم من أوسط ما تكسون، فحذف لقرينة ذكرها في المعطوف عليه، أو بأن تُترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها إلى غيره، أي: غرما ذكر، وأيضاً، العطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ} لا يفيد هذا المقصود، وهو تقدير الأوسط في الكسوة، فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه، وهو غير سديد، تم كلام صاحب "التقريب". ويُمكن أن يقال: إنما يصار إلى البلد إذا اعتبر معنى المبدل، على نحو: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً، لا أن يُنحى معناه كما في الحواشي، ولأن أهل المعاني يعتبرون معنى المبدل وجوباً، والنحوي يقول: إن البدل ليس في حكم المنحى من جميع الوجوه، وكذا يوجبون ضمير المبدل في بدل البعض والاشتمال، فالتقدير: فكفارته إطعام من أوسط ما تطعمون أهليكم لعشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين من أوسط ما تكسون أهليكم، هذا وإن المصير إلى البدل يورث الكلام إبهاماً وتبيناً وتوكيداً وتقريراً بخلافه إذا خلا عنه. قوله: (وأسوة في: إسوة)، النهاية: الأسوة، بكسر الهمزة وضمها: القدوة، والمواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش.

وقرأ سعيد بن المسيب واليماني: (أو كأسوتهم) بمعنى: أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم وبينهم. فإن قلت: ما محل الكاف؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى: كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ): شرط الشافعي رحمه اللَّه الإيمان قياساً على كفارة القتل، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكافرة في كل كفارة سوى كفارة القتل. فإن قلت: ما معنى (أو)؟ قلت: التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الإطلاق، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) إحداها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) متتابعاتٍ عند أبي حنيفة رحمه اللَّه، تمسكاً بقراءة أُبيّ وابن مسعود رضي اللَّه عنهما "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وعن مجاهد: كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان ويخير في كفارة اليمين. (ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) ولو قيل: تلك كفارة أيمانكم، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء، أو لتأنيث الكفارة. والمعنى: (إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبى حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبي حنيفة ... ، ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث)، أي: بالحنث، كما إذا حلف أن يترك الصلاة، قال الإمام: الآية دلت على أن كل واحد من هذه الأشياء كفارة لليمين عند وجود الحلف، فإذا أداها قبل الحنث أو بعده

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ): فبروا فيها ولا تحنثوا أراد الأيمان التي الحنث فيها معصيةٌ، لأن الأيمان اسم جنسٍ يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل: احفظوها بأن تكفروها. وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها، ولا تنسوها تهاونا بها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجب أن يخرج عن العهدة. نعم، فيها أن تقديم الكفارة على اليمين غير جائز، ويؤيد هذا ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني والله - إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". قوله: (لأن الأيمان اسم جنس) تعليل لقوله: "أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية"، يعني: لما قيد المطلق بقوله: {وَاحْفَظُوا} علم خصوصية الأيمان، وأن المراد بها ما الحنث فيها معصية، وذلك ما يلزم من الحنث فيها تحليل حرام الله أو تحريم حلاله. واعلم أن حفظ الأيمان هو مراعاة حقها وتعظيم شأنها، فيتفرع عليها جميع ما ذكر، قال القاضي: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر، وقالوا: معنى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: أمر بترك اليمين بالكلية، وقال الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت الراغب: وجملة الأمر: أن الإنسان مندوب إلى أن لا يحلف، ومتى حلف على ألا يفعل فعلاً يجب أو يستحب أن يفعل فحقه ألا يحنث، ومتى حلف على ما يجب ألا يفعل أو يستحب

(كَذلِكَ): مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ): أعلام شريعته وأحكامه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)]. أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها تصدير الجملة بـ (إنما)، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه: قوله عليه الصلاة والسلام: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فحقه أن يحنث في يمينه ويكفر، ومتى حلف على ما يستوي فعله وتركه فإن شاء حنث وكفر، وإن شاء حفظ اليمين. قوله: (ويسهل عليكم المخرج منه) قيل: الضمير المجرور عائد إلى ما هو عبارة عن الحنث، وقوله: "فما يعلمكم" تقييد لمفعول {تَشْكُرُونَ} به، والظاهر أنه مطلق النعمة، وتقييده إنما يُعلم من مفهوم قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}؛ لأن هذه الخاتمة كالتذييل للكلام السابق، أي: تشكرون نعمة بياناته الشافية في أمور دينكم. قوله: (أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً) نصب على المصدر، نحو: ضربت أنواعاً. قوله: (ومنه قوله صلى الله عليه وسلم) أي: من باب قران الخمر بعبادة الأصنام، وليس بوجه آخر.

«شارب الخمر كعابد الوثن»، ومنها: أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج: 30]، ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها: أنه أمر بالاجتناب، ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبةً ومحقةً، ومنها: أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر اللَّه، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ)؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه جعلهما رجساً)، الراغب: النجس والرجس متقاربان، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجز والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالعقل، ولهذا فسر بالإثم والسخط. قوله: (من الصد عن ذكر الله)، الراغب: إن قيل: الذي يصد عن ذكر الله هوا لشرب الكثير دون القليل، كما قال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فيجب أن يكون هو المحرم، قيل: بل ذلك منهما، فإن القليل داعٍ إلى الكثير، وشُرب الكثير داع إلى ذلك.

إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك. ولذلك قال: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ). فإن قلت: لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا ثم أفردهما آخراً؟ قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين. وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، فوجب اجتنابه بأسره، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك باللَّه في علم الغيب، وبين من شرب خمراً أو قامر، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}) أي: ولأن المقدر: الشأن أو التعاطي أو ما يشبهه قال: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ليصح الحمل، قال أبو البقاء: إنما أفرد لأن التقدير: إنما فعل هذه الأشياء رجس. قال القاضي: إفراده لأنه خبر الخمر، وخبر المعطوفات محذوف، أو كأنه قال: نما تعاطي الخمر على الأول يلزم المبالغة، لأنه تعالى أمر بالاجتناب عن أعيانها، وإنما قال: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه. قوله: (وأشرك بالله في علم الغيب)، وفي الحاشية: أنه متعلق بقوله: "لا مباينة"، أي: لا فرق بين الشرك وشرب الخمر في علم الله تعالى، التحقيق أنه متعلق بقوله: "أشرك بالله"، والمراد به الأزلام، وذكر في أول السورة: "أن الاستقسام هو: طلب ما قسم للشخص مما لم يقسم له بالأزلام"، وهو الإشراك بالله في علم الغيب، وقال أيضاً: "إن الاستقسام بالأزلام دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب".

ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر. وقوله: (وَعَنِ الصَّلاةِ) اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل: وعن الصلاة خصوصاً. [(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)]. (وَاحْذَرُوا): وكونوا حذرين خاشين، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم أفردهما بالذكر): عطف على "ذكر الأنصاب والأزلام" يعني: أن الكلام إنما سيق لبيان تحريم الخمر والميسر، لا بيان النصاب والأزلام؛ لأن حرمتهما ضروري عند المسلمين، وإنما قرنهما معهما لتأكيد تحريمهما بناء على أن المعطوف عليه يكتسب من معنى المعطوف، وإليه الإشارة بقوله: "وكأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله، وبين من شرب الخمر أو قامر"، والذي يدل على أن ذكر الخمر والميسر هو الأصل، وذكر النصاب والأزلام تابع: إفراد ذكرهما بعد ذلك، وهو قوله {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}. قوله: (اختصاص للصلاة) هذا من باب قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] من حيث الاختصاص بالذكر ومن حيث التكرير؛ لأن تكرير {عن} في قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ} كتكرير {رَأَيْتُهُمْ}، وقال القاضي: خص الصلاة للإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر، وهو المراد من قوله: "وعن الصلاة خصوصاً". قوله: ({وَاحْذَرُوا}: وكونوا حذرين)، اعلم أن {وَاحْذَرُوا} مطلق، فاعتبر فيه الوجوه الثلاثة من كون معموله غير منوي تارة، وعاماً تارة، وخاصاً أخرى، فليتأمل.

إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد: واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر، أو في ترك طاعة اللَّه والرسول. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا) أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول؛ لأنّ الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم. [(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)]. رفع الجناح عن المؤمنين في أي: شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها إِذا (مَا اتَّقَوْا) ما حرم عليهم منها (وَآمَنُوا): وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثم ثبتوا على التقوى والإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم اللَّه من الطيبات. وقيل: لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول اللَّه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَآمِنُوا} وثبتوا)، وتكرير الثبات على الإيمان والتقوى مؤذن بأن التكرير في الآية ليس لتعليق ما علق بها مرة بعد أخرى على ما قررناه، بل لمجرد التأكيد، وقال القاضي: ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله تعالى، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قال صلى الله عليه وسلم في تفسيره، أو باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ والمنتهى والوسط، أو باعتبار ما يُتقى، فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب، والشبهات تحرزاً عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة. قوله: (وقيل: لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة): عطف على قوله: "رفع الجُناح عن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المؤمنين"، وعلى الوجه الثاني الآية عامة وردت في أمر خاص، فيدخل فيه من نزلت بسببه دخولا أولياً، وعلى الأول مطلق، فيدخلون فيه كسائر الناس، وعلى التقديرين الآية مقررة لمعنى التوسعة في قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88]؛ لأن معناه: اجمعوا بين أكل الطيبات والاحتراز عن المحظورات، ومعنى هذه الآية على ما فسره المصنف "رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومستهياتها إذا ما اتقوا ما حُرم عليهم"، فالمعنيات متقاربان، وقوله تعالى بعد ذلك: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] إرشادٌ إلى طريق إزالة الحنث بما عقدوه من الأيمان على ألا يزالوا صائمين قائمين، كما أوردناه في الحديث الوارد في بيان النزول لتلك الآية، أو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]، بيان للنهي عن بعض ما يجب أن ينتهي عنه، وهو الأصل في البواقي لتسميتهم الخمر بأم الخبائث، وهداية إلى بعض ما يجب أن يمتثل به، وهو أم العبادات والعمود والفارق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وعمود الصلاة"، ثم كان قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية، بمنزلة قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} في البقرة [الآية: 173]، لمجيئهما عقيب تحريم الطيبات رداً لزعمهم أن المستلذات من الأطعمة منخرطة في سلك المذكورات، فقصر التحريم عليها دونها، وقد سبق تمام تقريره هناك، وقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، تفصيل لما مر، إذ المعنى: ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات، وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مرات الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال،

فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت. يعني: أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي: شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، (ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا)، على معنى: أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به وعلى الأعمال الصالحات، لتحصل الاستقامة التامة فيتمكن بالاستقامة من الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج "أن تعبد الله كأنك تراه"، وهو المعني بقوله: {وَأَحْسِنُوا}، وبها تُمنح الزلفى عند الله ومحبته. {اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وفي هذا النظم مسحة من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك"، رواه الترمذي وابن ماجه. قوله: (فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون؟ )، روينا عن الترمذي، عن البراء، قال: مات رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُحرم الخمر، فلما حرمت، قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت. قوله: (على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة)، يعني: قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} عام، وقد ورد في هذا الوجه جواباً عن سؤالهم، وكان من الظاهر أن يُقال: ليس عليهم جناح في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، فعدل إلى ذكر الكلمة وبيان أوصافهم ليدل على رفع الجناح عنهم بالطريق البرهاني، وفيه أن من يكون له أمثال هذه الأوصاف الفاضلة لا جُناح عليه من المباحات، وإليه ينظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] فقد جمع في المثال، وهو: "ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً"، العموم والوصف.

ثناءً عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمرٌ مباحٌ -: ليس على أحدٍ جناحٌ في المباح إذا اتقى المحارم، وكان مؤمناً محسناً، تريد: أن زيداً تقيّ مؤمن محسنٌ، وأنه غير مؤاخذٍ بما فعل. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)]. نزلت عام الحديبية، ابتلاهم اللَّه بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم، فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم. (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ): ليتميز من يخاف عقاب اللَّه- وهو غائبٌ منتظرٌ في الآخرة فيتقى الصيد- ممن لا يخافه فيقدم عليه. (فَمَنِ اعْتَدى): فصاد (بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء، فالوعيد لاحق به. فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ)؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنةٍ من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيهٌ بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده، فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه وقرأ إبراهيم: (يناله) بالياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام)، الانتصاف: وردت مثل هذه الصيغة في الفتن العظيمة في قوله: {بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، بل هو إشارة إلى ما يقع به الابتلاء من هذه الأمور، فهو بعض من كل بالإضافة إلى مقدور الله تعالى، فإنه تعالى قادر على أن يبتليهم بأعظم وأهول منه ليبعثهم بذلك على الصبر، ويدل على ذلك أنه سبق الوعد به قبل حلوله لتوطين النفوس عليه، فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم، وإذا فكر العاقل وجد ما صرف عنه من البلايا أثر مما وقع فيه بأضعاف لا تقف عنده غايته، فسبحان اللطيف بعباده.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)]. (حُرُمٌ): محرمون؛ جمع حرام، كردح في جمع رداحٍ. والتعمد: أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد، أو قصد برميه غير صيدٍ فعدل السهم عن رميته فأصاب صيدا فهو مخطئٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في جمع رداح)، الجوهري: الرداح: المرأة الثقيلة الأوراد، والجفنة العظيمة، وكتيبة راح: ثقيلة السير لكثرتها. قوله: (أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله)، قيل: في هذا التعريف إشكال؛ لأن الترديد يوهم أنه تعريفان مستقلان، وليس به؛ لأن قوله: "أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه" ليس بمانع؛ لأنه إذا رمى غير صيد وأصاب صيداً وهو ذاكر لإحرامه، ينبغي أن يكون عمداً، وليس به، فإن قيل: قوله: "أن يقتله وهو ذاكر" يُراد به القصد، فلا يرد مثل هذه الصورة، يقال: مع التسليم يدخل فيه ما إذا لم يعلم أن ما قتله، ولأن الفاء في قوله: "فإن قتله وهو ناس" لتفصيل ما أُجمل في التعريف، والذي يقال في العُذر: إن "أو" هاهنا بمنزلة واو الجمع كما في قوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} [المرسلات: 5 - 6] وقوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113]، قال القاضي: واختلف في هذا النهي: هل يلغى حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب؟ ، وفي "الحاوي": ومذبوحه ميتة.

فإن قلت: فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فيمن تعمد فقد روى أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد، والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ). وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. وعن سعيد بن جبيرٍ: لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط العمد في الآية. وعن الحسن روايتان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر)، والصحيح أبو قتادة على ما رويناه عن البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي، عن أبي قتادة، قال: كنت في منزل في طريق مكة والقوم محرمون وأنا غير محرم، عام الحديبية، فأبصروا حمار وحش وأنا مشغول، فلم يؤذنوني، فأبصرته فقمت وركبت الفرس ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني إياهما، قالوا: لا والله! فنزلت فأخذتهما، فشددت على الحمار فعقرته فوقعوا فيه يأكلونه، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هل معكم منه شيء منه؟ " فناولته العضد فأكلها وهو محرم ... الحديث مختصر، وما وجدت حديث أبي اليسر في الأصول. قوله: (ويدل عليه) أي: على أن الخطأ مُلحق بالعمد، أن الخطأ لا يترتب عليه الوبال والانتقام ضرورة، فحين رتب عليه الوبال عُلم أنه ملحق بالعمد تغليظاً للحكم وتشديداً له. قوله: (وعن سعيد بن جبير) جواب آخر عن السؤال، يعني: إنما قيد بقوله: {مُتَعَمِّداً}

(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ): برفع (جزاء) و (مثل) جميعاً، بمعنى: فعليه جزاءٌ يماثل ما قتل من الصيد. وهو عند أبي حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً، فيعطى كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاعاً من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكينٍ يوماً، فإن فضل ما لا يبلُغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به. وعند محمدٍ والشافعي رحمهما اللَّه: مثله: نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبي حنيفة رحمه اللَّه. فإن قلت: فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله: (مِنَ النَّعَمِ) وهو تفسيرٌ للمثل، وبقوله: (هدياً بالغ الكعبة)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليؤذن أن المخطيء ليس عليه شيء، وهو مذهب داود، والأول: مذهب الجمهور، ودليلهم: قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}، ولا تسقط الحرمة بالخطأ والجهل، كما في حلق الرأس وضمان المال. قوله: (يُماثل ما قتل من الصيد)، الراغب: المثل يقع على الند الذي هو المماثلة في الجنس، وعلى الشبيه الذي يماثله في الكيفية، وعلى المساواة التي هي المماثلة في الكمية، وعلى المشاكلة التي هي الماثلة في الهيئة، فلما كانت المماثلة لا تختص، صار اللفظ مشتركاً، فاختلف فيه، واعتبر ابن عباس المماثلة في الخلقة، وإليه ذهب سعيد بن جبير وقتادة ومالك والشافعي رضي الله عنهم، واعتبر عطاء ومجاهد المماثلة في القيمة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهم، واللفظ بالأول أليق لقوله: {مِنْ النَّعَمِ}.

قلت: قد خير من أوجب القيمة بين أن يشتري بها هدياً، أو طعاماً، أو يصوم، كما خير اللَّه تعالى في الآية، فكان قوله: (مِنَ النَّعَمِ) بياناً للهدي المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير؛ لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً وأهداه، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزى بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد خير من أوجب القيمة)، يعني: من فسر قوله: {جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} بمعنى: جزاء يماثل ما قُتل من الصيد بالقيمة، لم يقتصر عليه، بل خير بأن يشتري بالقيمة هدياً أو طعاماً أو يصوم كما سبق، فالجزاء حينئذ أحد هذه الأشياء على التخيير، فكان قوله: {مِنْ النَّعَمِ} بياناً للهدي الذي هو أحد هذه الأشياء المرادة من قوله: {جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} والحاصل أن قوله: {جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} لما كان محتملاً لكل من الثلاثة على البدل، ولم يُعلم بعينه، فجيء بقوله: {مِنْ النَّعَمِ} بياناً لكون المراد به الهدي المشترى، وإنما كان من النعم بياناً لمثل ما قُتل، وهو كما قيلن وهو على ما ذهب إليه القيمة لا الحيوان، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، وهذا البيان مثل البيان الذي ذكره في قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} [يونس: 9]، قال: "قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} بيان لقوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} يعني: أن من هداه الله، أي: أقامه على الإيمان وسدده، سبب له الوصول إلى الثواب"، فكان قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} بياناً لمسبب قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ}، وهو: الوصول إلى الثواب، فكذا هاهنا {مِنْ النَّعَمِ}: بيان لمسبب قوله: {جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ}، وهو الهدى المشترى إذا فسر الجزاء بالقيمة. قوله: (على أن التخيير) أي: الجواب مع ما ذكرت: مع أن التخيير في الآية يطابق هذا التقدير وينبو عن تقدير الخصم هذه الخاتمة، كالتتميم للجواب.

إذا قوّم ونظر بعد التقويم: أي: الثلاثة يختار؟ فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير، فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذٍ ثم يخير بين الإطعام والصوم، ففيه نبوّ عما في الآية! ألا ترى إلى قوله تعالى: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كيف خير بين الأشياء الثلاثة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لا خفاء في تعسف هذا التقرير وارتكاب خلاف الظاهر مع عدم الفائدة، وأما قوله: "إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير" إلى آخره، فلا يُعرف هذا من مذهب الشافعي، والمنقول عن الأصحاب بخلافه، قال الإمام الرافعي رحمه الله: الصيد ينقسم إلى مثلي، ويعني به: ما له مثل من النعم، وإلى ما ليس بمثلي، أما الأول فجزاؤه على التخيير والتعديل، فيخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم، ولا يجوز أن يخرجه حياً، وبين أن يقوم المثل دراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم، ولكن يشتري بها طعاماً ويتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوماًن حيث كان، وأما غير المثلي، كالعصافير، فتُقدر قيمته ولا يتصدق بثمنها، بل يجعلها طعاماً، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مُد يوماً. وقال صاحب "الروضة": فحصل من هذا أنه في المثل مخير بين الحيوان والطعام والصيام، وفي غيره بين الطعام والصوم، هذا هو المذهب المقطوع به في كتب الشافعي والأصحاب. وقلت: الفرق بين قولي الإمامين: هو أن أبا حنيفة رضي الله عنه ارتكب المجاز في قوله تعالى: {مِثْلُ مَا قَتَلَ} حيث جعله القيمة كما سبق، وأصحاب الشافعي في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ} كما سبق عن الرافعي، فيخير بين أن يذبح مثله وبين ني قوم المثل دراهم، وروى الإمام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الشافعي رضي الله عنهما: تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد؛ لأن هذا عذر للمجاز، وبيان المجاز أن التخيير واقع بين الجزاء الذي هو المثل وبين كفارة طعام، والكفارة لا يجوز أن تكون دراهم لما بينت بقوله: {طَعَامُ}، فوجب التأويل، والقول بأن من قوم الصيد واشترى بقيمته طعاماً وتصدق به أو عدل الصوم بالطعام فقد كفر بقيمة المثل، وعليه ظاهر الآية؛ لأن {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على "جزاء"؛ لا على {مِثْلَ}، أو {عَدْلُ ذَلِكَ}: عطف على {طَعَامُ} لا على {كَفَّارَةٌ}، وفيه أن معرفة كمية الصيام موقوفة على معرفة كمية الأمداد، ومعرفة كمية الأمداد متوقفة على معرفة كمية قيمة المثل، فالثالث فرع للثاني، والثاني فرع للأول، وعليه ما روى الإمام عن الشافعي، أنه قال: إن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه، فعدل به كما عدل الصوم بالطعام، وهذا هو المراد من قول الرافعي: فجزاؤه على التخيير والتعديل، فحينئذ وقع التخيير بين ذبح المثل وبين أن يقوم المثل بالدراهم، ثم بين الإطعام وبين الصيام، فكأنه قيل: ومن قتله فعليه جزاء أو كفارة، والكفارة إما صدقة أو صيام. فعلى هذا التخيير في الآية ليس من باب: جالس الحسن أو ابن سيرين، بل من باب قولك: جالس السلطان أو الوزير أو العامي. ونقل الرافعي أيضاً عن أبي ثور قولاً عن الشافعي: إنها على الترتيب، وهو أضعف الروايتين عن أحمد، وهذا القول أدعى لاقتضاء المقام وأجرى على سنن البلاغة، ومن ثم فرق الله عز شأنه في العبارة بين هذه الآية وبين ما قبلها، وهي قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وذلك أن الجناية هاهنا هي هتك ما شرع الله تعالى لتعظيم شأن

وقرأ عبد اللَّه: (فجزاؤه مثل ما قتل)، وقرئ. (فجزاء مثل ما قتل) على الإضافة، وأصله: فجزاءٌ مثل ما قتل، بنصب "مثل" بمعنى: فعليه أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول: عجبت من ضربٍ زيداً، ثم: من ضَربِ زيدٍ. وقرأ السُّلمي على الأصل. وقرأ محمدُ بن مقاتلٍ: (فجزاءً مثل ما قتل) بنصبهما بمعنى: فليجز جزاءً مثل ما قتل. وقرأ الحسن: (من النعم) بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكعبة، فالواجب في الخبر رعاية الترتيب فيما يقرب إلى ما فوقه من الحيوان للتعظيم، وهو المراد من قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}، وإليه يُلمح قول الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز أن يخرجه حياً. ثم الإطعام؛ لأنه بدل منه، ولهذا شرط الشافعي أن يتصدق على مساكين الحرم، ولما كان الصوم لا يناسب هذا المعنى جعله فرعاً للفرع. انظر إلى هذه الأسرار اللطيفة وإلى تدقيق نظر الإمام الشافعي رضي الله عنه، واقطع بأنه كان محدثاً مُلهماً مؤيداً بتأييد الله وتسديده. قوله: ("فجزاء مثل ما قتل" على الإضافة)، قال الإمام: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {فَجَزَاءٌ} بالتنوين، و {مِثْلُ} بالرفع على أنه صفة لـ "جزاءٌ"، والباقون: على الإضافة، والمعنى على الأول ظاهر، وأما على الثاني فيجب التأويل؛ لأنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة؛ لأن المثل غير مقتول، إنما عليه جزاء المقتول، لأنه قتله، فهو كما تقول: أنا أكرم مثلك وتريد أنا أكرمك، فالتقدير: فجزاء ما قتل من النعم، على الكناية، فالقراءتان دلتا على مذهب الشافعي. وأيضاً، قراءة عبد الله بن مسعود: (فجزاؤه مثل ما قتل من النعم)، صريح فيما قلناه، وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه هي: أن لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل

(يَحْكُمُ بِهِ): بمثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ): حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليلٌ على أن المثل: القيمة، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن قبيصة: أنه أصاب ظبياً وهو محرمٌ فسأل عمر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يضمن بالقيمة، فوجب أن تُحمل الآية عليه ليشملها، فإن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد، والجواب: أن الممالة معلومة، والشارع أوجبها فوجب رعايتها بأقصى الإمكان وإن لم يمكن وجب الاكتفاء بالغير. تم كلام الإمام. وقال صاحب "الكشف": قال قوم: إنه إذا قرئ (فجزاء مثل ما قتل)، على تقدير: فجزاء مثل المقتول، لا يدخل تحته جزاء المقتول، ألا ترى إلى قول الشاعر: وقاك الله يا ابنة آل سعد ... من الأخوال أمثالي ونفسي فقال: أمثالي عطف عيه نفسي، ولو كان هو داخلاً في أمثالي لم يقل: ونفسي، ألا ترى أنهم قالوا في رجل قال لعبده: إن دخل داري هذه أحد فأنت حر، فدخل هو: لم يعتق؛ لأنه لما أضاف الدار إلى نفسه خرج عن الحكم المتعلق بدخول أحد. قوله: (وفيه دليل على أن المثل: القيمة؛ لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر)، أجاب الإمام: أن وجوه المشابهة بين النعم والصيد مختلفة، فلابد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف، ولهذا احتيج إلى الحكمين. قوله: (وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً) الحديث، نحوه روى مالك في "الموطأ"، وفيه

فشاور عبد الرحمن بن عوفٍ، ثم أمره بذبح شاةٍ، فقال قبيصة لصاحبه: واللَّه ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم، قال اللَّه تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن. وقرأ محمد بن جعفر: (ذو عدل منكم) أراد: يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة. وقيل أراد الإمام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دلالة ظاهرة على مذهب الشافعي، وكذا قوله: هدياً بالغ الكعبة، أي: يُساق إليها ويُنحر هناك؛ لأنه إما حال عن جزاء، أو بدل من مثل كما قدر، فتقييد المثل بها إذا كان نظيراً للصيد ظاهر؛ لأن الحال مؤكدة، وأما تقييد القيمة بها فبعيد، والهدي يصح تفسيراً للمثل إذا كان حيواناً لا قيمة؛ لأنها ليست منه، قوال الرافعي: إن المثل ليس معتبراً على التحقيق، فإنما هو على التقريب وليس معتبراً في القيمة بل في الصورة والخلقة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم حكموا في النوع الواحد من الصيد، بالنوع الواحد من النعم مع اختلاف البلاد وتفاوت الأزمان واختلاف القيم بسببها. قوله: (ضرباً بالدرة): حال، قال في قوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]: أي: فضربهم ضرباً، أو"ضرباً" بمعنى: ضارباً. قوله: (أنغمص الفُتيا)، النهاية: في حديث عمر لقبيصة: "أتقتل الصيد وتغمص الفتيا؟ "، أي: تحتقرها وتستهين بها، الفتيا: هي الفتوى، يقال: أفتاه في المسألة يفتيه: إذا أجابه، والاسم الفتوى والفتيا. قوله: (وقرأ جعفر بن محمد)، وفي بعض النسخ: "محمد بن جعفر"، والأول هو

(هَدْياً) حال عن (جزاء) فيمن وصفه بـ (مثل)؛ لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة، أو بدلٌ عن (مثل) فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جرّه، ويجوز أن ينتصب حالاً عن الضمير في (به). ووصف (هدياً) بـ (بالِغَ الْكَعْبَةِ) لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة: أن يذبح بالحرم، فأما التصدّق به: فحيث شئت عند أبي حنيفة، وعند الشافعي: في الحرم. فإن قلت: بم يرفع (كَفَّارَةٌ) من ينصب (جزاءً)؟ قلت: يجعلها خبر مبتدأ محذوفٍ، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة، أو يقدر: فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على "أن يجزي". وقرئ: (أو كفارة طعام مساكين) على الإضافة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصحيح، ذكر ابن جني في "المحتسب": ومن ذلك قراءة محمد بن علي وجعفر بن محمد "يحكم به ذو عدل منكم"، وقال: ولم يوحد "ذو" لأن الواحد يكفي في الحكم، لكن أراد معنى "مَنْ"، أي: يحكم به من يعدل، و"مَن" تكون للاثنين كما تكون للواحد، قال: نكن مثل من يا ذئب يصطحبان قوله: {هَدْياً}: حال عن "جزاء" فيمن وصفه بـ {مِثْلَ}) هذا إنما يستقيم على مذهب الأخفش، وهو أن يكون التقدير: فعليه جزاء مثل ما قتل هدياً، فهو: حال عن فاعل الجار والمجرور من غير اعتماد. قوله: (وقرئ: "أو كفارة طعام مساكين" على الإضافة) نافع وابن عامر، قال الإمام: إنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء: الهدي والطعام والصيام، حسنت الإضافة، فكأنه

وهذه الإضافة مبينة كأنه قيل: أو كفارةٌ من طعام مساكين، كقولك: خاتم فضةٍ، بمعنى خاتم من فضةٍ. وقرأ الأعرج: (أو كفارة طعام مساكينٍ) وإنما وحد لأنه واقعٌ موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: (أو عدل ذلك) بكسر العين، والفرق بينهما أن عدل الشيء: ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام، وعدله: ما عدل به في المقدار، ومنه عدلاً الحمل؛ لأن كل واحدٍ منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. و (ذلِكَ): إشارةٌ إلى الطعام (صِياماً) تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلاً. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمدٍ إلى الحكمين. (لِيَذُوقَ): متعلق بقوله: (فَجَزاءٌ) أي: فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) [المزمل: 16]: ثقيلاً. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل: كفارة طعام لا كفارة صيام، وإليه الإشارة بقوله: "وهذه الإضافة مبينة"، وأما قراءة الباقين: {كَفَّارَةٌ} بالتنوين فهو عطف على {فَجَزَاءٌ}، و {طَعَامُ مَسَاكِينَ}: عطف بيان. قوله: (واقع موقع التبيين) أي: التمييز، نحو: عشرون درهماً. قوله: (إن عدل الشيء: ما عادله من غير جنسه)، الراغب: العدالة والمعادلة لفظ يقتضي المساواة، ويستعمل باعتبار المضايفة، والعدل والعدل متقاربان، لكن العدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة، كالأحكام، على ذلك قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}، والعدل والعديل فيما يدرك بالحاسة، كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعدل هوا لقسط على سواء، وعلى هذا

(عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً. (وَمَنْ عادَ) إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهي (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) ينتقم: خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: فهو ينتقم اللَّه منه، ولذلك دخلت الفاء، ونحوه (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) [الحجر: 13]؛ يعني: ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على العائد، فعن عطاءٍ وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن: وجوبها، وعليه عامة العلماء. وعن ابن عباس وشريحٍ: أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر، وأنه لم يذكر الكفارة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روي: بالعدل قامت السماوات والأرض، تنبيهاً على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على خلاف مقتضى الحكمة، لم يكن العالم منتظماً. قوله: (ولذلك دخلت الفاء) يعني: "ينتقم": خبر مبتدأ محذوف، فهو جملة اسمية تحتاج إلى الفاء، ولو لم تكن خبر مبتدأ محذوف لم يحتج إلى الفاء؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً والجزاء مضارعاً جاز الرفع وترك الفاء. قوله: (تعلقاً بالظاهر وأنه لم يذكر الكفارة). قال الإمام: ودليله أنه أعظم من أن يكفر

[(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)]. (صَيْدُ الْبَحْرِ): مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل (وَطَعامُهُ): وما يطعم من صيده. والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه، وهو السمك وحده عند أبى حنيفة. وعند ابن أبي ليلى: جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده: أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه. (مَتاعاً لَكُمْ) مفعولٌ له، أي: أحل لكم تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء: 72] في باب الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالتصدق، بل الله ينتقم منه؛ لأن قوله: {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ} جزاء، والجزاء كاف، وكونه كافياً يمنع وجوب شيء آخر. قوله: (وعند ابن أبي ليلى: جميع ما يُصاد منه). قال القاضي: {صَيْدُ الْبَحْرِ}: ما صيد فيه مما لا يعيش إلا في الماء، وهو حلال كله، لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته"، وقيل: يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر، وقلت: الحديث رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إننا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".

لأن قوله: (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختص بالطعام كما أن (نافلة) حال مختصةٌ بـ (يعقوب)؛ يعني: أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم يأكلونه طرياً، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ: (وطعمه). و(صيد البر): ما صيد فيه، وهو ما يفرّخ فيه، وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء عند أبي حنيفة. واختلف فيه فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد، وهو قول عمر وابن عباسٍ، وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير: أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمه اللَّه، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه: لا يباح له ما صيد لأجله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ} ... مختص بالطعام)، لعل ذلك على التقدير الثاني، وهو "أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه"؛ لأن قوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ} حينئذ توطئة لذكر {وَطَعَامُهُ}: على طريقة: أعجبني زيدٌ وكرمه، فلا يتعلق به المفعول له، وأما على التقدير الأول فالظاهر أنه لا يختص بالطعام؛ لأن كلا من المعطوف والمعطوف عليه مقصودان بالذكر، ولذلك قُدر "وأحل لكم أكل المأكول منه". قال أبو البقاء: الضمير في {وَطَعَامُهُ} ضمير {الْبَحْرِ}، وقيل: ضمير الصيد، والمعنى: أباح لهم صيد البحر وأكل صيده، بخلاف صيد البر، و {مَتَاعاً}: مفعول له، وقيل: مصدر، أي: متعتم بذلك تمتيعا. قوله: (لتنائكم)، الجوهري: تنأت بالبلد تنوءا: إذا قطنته، وهم تناءة البلد، والاسم: التناءة.

فإن قلت: ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله: (صيد البر)؟ قلت: قد أخذ أبو حنيفة رحمه اللَّه بالمفهوم من قوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقرأ ابن عباسٍ رضي اللَّه عنه: (وحرّم عليكم صيد البرّ)؟ أي: اللَّه عزّ وجلّ. وقرئ (ما دُمْتُمْ) بكسر الدال، فيمن يقول دام يدام. [(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (الْبَيْتَ الْحَرامَ): عطف بيانٍ على جهة المدح لا على جهة التوضيح، كما تجيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم)، قيل: هذا استدلال ضعيف؛ لأن المفهوم عنده ليس بحجة، إلا أن يقال: ليس المراد هاهنا المفهوم المخالف، بل المراد ما يُعلم من الآية ويفهم منها، وقلت: يرده قوله: "فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين"، ولو أريد الاستدلال بظاهر الآية لكان من باب الاستدلال بعبارة النص، وهو العمل بظاهر ما سيق الكلام له، والأولى أنه خُص بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا توقفت الصحابة، روينا عن البخاري، عن أبي قتادة: فأحرموا ولم أحرم، فبصروا بحمار وحش، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فطعنته فأثبته فأكلنا منه، فقلنا: يا رسول الله، إنا صدنا حمار وحش، وإن عندنا فاضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا" وهم محرمون. قوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، كما تجيء

الصفة كذلك. (قِياماً لِلنَّاسِ): انتعاشاً لهم في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم. وعن عطاء ابن أبى رباح: لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ): الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه اللَّه تعالى. وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم. (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ): والمقلد منه خصوصاً، وهو البدن؛ لأن الثواب فيه أكثر، وبهاء الحج معه أظهر ذلِكَ إشارة إلى جعل الكعبة قياماً للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) كل شيءٍ، وهو عالمٌ بما يصلحكم وينعشكم ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصفة كذلك)، وذلك أن الأصل في الصفة تمييز الموصوف عن غيره وتخصيصه عما عداه، اللهم إلا إذا كان الموصوف معلوماً مشهوراً، فحينئذ يُعدل إلى المدح، ومن ثم أجرى صفات الله تعالى على المدح، وعلى هذا قول المصنف. قوله: (انتعاشاً لهم)، الجوهري: نعشه الله ينعشه نعشاً: رفعه، وانتعش العاثر: إذا نهض من عثرته، قال أبو البقاء: {جَعَلَ اللَّهُ} بمعنى: صير، {قِيَاماً}: حال. قوله: (ونهوضاً إلى أغراضهم): معطوف على "انتعاشاً" على البيان والتفسير، وقوله: "لما يتم" تعليل لقوله: "انتعاشاً ونهوضاً"، كما تقول: جعلت هذا الكتاب مشتملاً على معرفة الإعراب ليتم لمقتبسه الاحتراز عن اللحن في كلامهم. قوله: ({لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} كل شيء، وهو عالم بما يصلحكم وينعشكم): بيان لكيفية تعليل قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} لقوله ذلك، أتى بالعام ليندرج

مما أمركم به وكلفكم شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها. [(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)]. (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ): تشديدٌ في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحته هذا العلم الخاص، ويمكن أن يكون المعنى: إنما جعلنا الكعبة انتعاشاً لهم في أمر دينهم ودنياهم، أو ذكرنا حفظ حرمة الإحرام ليعلموا أنا نعلم مصالح دنياهم ودينهم فيستدلوا بهذا العلم الخاص على أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، ويعلموا أنه تعالى عالمٌ بما وراء ذلك كله. قال القاضي: ليعلموا أن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على حكمة الشارع وكمال علمه، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق. قوله: (تشديد): خبر {مَا عَلَى الرَّسُولِ}. قوله: (وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ)، قيل: هو عطف على "تشديد"، أي: تشديد في إيجاب القيام وإيذان أن الرسول، ففي الكلام حذف، وقلت: الوجه أن يكون عطفاً تفسيريا ًعلى "إيجاب القيام"، المعنى: أن حكمة بعثة الرسل هي ألا يكون للناس على الله حجة، فإن الله تعالى أرسله إليكم ليبلغ إليكم ما أرسل به من شرائعه، ولا سيما تعظيم شعائره وأعلام دينه، فبلغ وأنذر، فارتفع العذر وأزيحت العلة، وبقي الأمر من جانبكم، إن أطعتموه فاعلموا أن الله غفور رحيم، وإن عصيتموه فإن الله شديد العقاب، هذا هو المعنى بقوله: "تشديد في إيجاب

[(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)]. البون بين الخبيث والطيب بعيد عند اللَّه تعالى وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القيام بما أمر به"، ثم إيقاع هذه الجملة، أعني: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ}، معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذه التأكيدات في إثبات العلم تدل دلالة ظاهرة على أن جعل المشار إليه بقوله: "ذلك ما ذكره الله تعالى من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره" أولى من جعل الكعبة قياماً، بل كل ما ذكره الله من أول السورة، بل كل ما بلغه صلوات الله عيه وسلامه وما جاء به من الوحي وغيره ليدخل فيه ما تضمنته السورة بالطريق الأولى؛ لأن التأكيدات في إثبات العلم بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ثم التعميم بقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، ثم الوعيد والوعد بقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، ثم التخصيص بما أجرى هذه التشديدات لأجله من قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}، وتوسيط هذا الاعتراض، يدل على أن الخطب عظيم، وإلى هذا المعنى ينظر قول المصنف: "وأنا لرسول قد فرغ مما قد وجب عليه من التبليغ" إلى آخره. قوله: (لا يوازي النقصان [في الخبيث] وفوات الطيب)، يعني: لا يساوي بين كثرة الخبيث وفوات الطيب، فإن الكثرة قوبلت بالخبيث الذي في نفسها، وبفوات الطيب الذي هو خارج منها، فلن يغلب الواحد الاثنين. قوله: (وهو عام في حلال المال وحرامه)، الراغب: الخبيث هو: الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والطالح في الفعال، وأصله الرديء الدخلة الذي تظهر رداءته في الاختبار. ولهذا قال الشاعر:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد ومتى اعتبر الطيب بالخبيث فهو كالدائرة من النقطة بل كالشيء الذي لا قدر له بالمرئي، فبين الله تعالى أن الطيب وإن استقللتموه فهو خير من الخبيث وإن استكثرتموه حتى يعجبكم كثره، ونبه أن الاعتبار في الأشياء ليس بالقلة والكثرة، بل إنما ذلك بالجودة والرداءة، فالمحمود القليل خير من الذميم الكثير، ولهذا قيل: أقلل وأطب. إن قيل: كيف جعل الخبيث هاهنا كثيراً وقد جعله قليلاً في قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]؟ قيل: استكثاره للخبيث هو على نظر المغترين بالدنيا، واستقلاله هو ما عليه حقيقة الأمر، وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} ليس بخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل هو خطاب لكل مغتر، كقول الشاعر: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولأجل أن الخطاب عام من حيث المعنى، قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} بلفظ الجمع، والمعنى: استعملوا التقوى راجين أن تبلغوا الفلاح، تنبيهاً على أن التقوى هي التي يُبلغ بها الفلاح. وقلت: ينبغي تخصيص الجمع بعد تعميم الخطاب؛ يدل عليه الفاء في {فَاتَّقُوا اللَّهَ}، أي: لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك أيها المخاطب كثرة الخبيث، فإذا كان كذلك فقضية ذي اللب التمييز بينهما لتحري حصول الفلاح. الراغب: اللب: أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء

(فَاتَّقُوا اللَّهَ) وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل: وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ ... ولَا تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاء وَلَا نَصْرَا وكما قيل: لَا يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ... فَإنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ وقيل: نزلت في حجاج اليمامة، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنسان كلُب الشيء إلى القشور، وباعتباره قيل لضعيف العقل: يراعة، وقصبة، ومنخوب، وخاوي الصدر. قوله: (تكفح بها وجوه المجبرة)، المكافحة: مصادفة الوجه. الجوهري: كفحته كفحاً: إذا استقبلته كفة كفة، وقال الأصمعي: كافحوهم: إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس ولا غيره. قوله: (وكاثر بسعد) البيت من الحماسة، بعده: يروعك من سعد بن عمرو جسومها ... وتزهد فيها حين تقتلها خُبراً قوله: (لا يدهمنك) البيت لأبي تمام، دهمه أمر: إذا غشيه، والدهماء: الجماعة الكثيرة، جانس بين الكلمتين. وقلت: ما أكثر مكافحته مع أهل السنة والجماعة! ألا يردعه قوله صلوات الله وسلامه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه: "لا تجتمع أمة محمد على الضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار" أخرجه الترمذي؟ ألا يزجره قوله: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار"؟ أما ينبهه من الرقدة قوله: "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"؟ وما روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية"؟ والأحاديث المنقولة من الأئمة المتقنين فيه لا تحصى! أم كيف يتجاسر على تسمية من مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وعلى لسان حبيبه: "مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره" بالخبيث! . هذا، وإن الآية إن أجريت على العموم لتكون مبنية على إرادة العموم في قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ}، أو على الخصوص مبنية على خصوصه، ولا يدل على شيء مما ذكره، فتقدير الكلام على الأول: يا أيها الذين تدعون أنكم أرباب النهي وأصحاب العقول، انظروا بعد ما بلغتكم من بيان التوحيد ونفي الشرك، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق وقلع الرذائل: هل يستوي ما أدعوكم إليه وما أنتم عليه من اتباع دين آبائكم وقطع الأرحام والفساد في الأرض؟ فاستعملوا قواكم وابذلوا جهدكم في التمييز بين الحق والباطل، واتقوا الله وأنصفوا

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَلَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ* قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)]. الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعني قوله: (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَلَكُمْ) صفة لـ (لأشياء). والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من نفوسكم لعلكم تفوزون بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً، فعلى هذا: الكلام في الدعوة إلى مُتابعة الحق وطاعة الله ورسوله، وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} كالتتميم لعدم الاستواء، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} من باب إرخاء العنان والبعث على التفكير والحث على التدبر. ونحن نقول أيضاً: يا أمة محمد، هلموا إلى النظر والتفكر فيمن يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم، ومن ينكص على عقبيه ويتبع هواه الذي يُضله ولا يعمل بالأحاديث الصحيحة المروية عنه حتى يتبين الخبيث منا والطيب! . وأما تقرير الكلام على الثاني، وهو أن الآية نازلة في حجاج اليمامة كما قال: "وقيل: نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا"، وقال محي السنة: نزلت في شريح بن ضبيعة البكري وحجاج بكر بن وائل، وقد مضت القصة في أول السورة، وفيها: فلما كان العام القابل خرج، يعني شريحاً، في حجاج بكر بن وائل ومعه تجارة عظيمة، فهموا بهم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]، ففيه: النهي عن التعرض للمشركين القاصدين لزيارة حرم الله لغرض الدنيا، فسماه خبيثاً، وإذا كان التعرض لهم غير جائز في مثل ذلك المقام كيف جاز التعرض لأعراض المسلمين في تفسير كلام الله المجيد؟ تاب الله علينا وعليه.

تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال: يا رسول اللَّه، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّاتٍ، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم، واللَّه لو قلت: نعم؛ لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي، وهو ما دام الرسول بين أظهركم ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما روي عن سراقة بن مالك أو عكاشة)، روى أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، عن عي رضي الله عنه، قال: لما نزلت {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: "لا، ولو قلت: نعم، لوجبت"، فأنزل الله تعالى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية. قوله: (ويحك)، الجوهري: ويح: كلمة رحمة، وويل عكسه، وقال اليزيدي: هما بمعنى واحد، تقول: ويح لزيد وويل لزيد ترفعهما على الابتداء. قوله: (وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي) إلى آخره، تقريره يؤذن أن المعطوف عليه، وهو قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، كالتوطئة والبناء، والثانية كالتفسير للأولى، ولذلك قال: " {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}: صفة لـ {أَشْيَاءَ} "، وعم زمان الوحي حيث قال: "ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه"، قال محيي السنة:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} معناه: إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي، وليس في ظاهره شرح ما بكم إيه حاجة ومست حاجتكم إليه، فإذا سألتم عنها حينئذ تُبد لكم، وقرر هذا المعنى الإمام حيث قال: السؤال على نوعين، أحدهما: ما لم يجر ذكره في الكتاب والسنة بوجه ما فهو منهي عنه، وثانيهما: ما نزل به القرآن ولكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا يجوز السؤال، والفائدة في الذكر أنه تعالى لما منع السؤال أوهم أن جميع السؤال ممنوع، فذكر ذلك تمييزاً لهذا القسم ثم كلامه. فإن قيل: فإذن يرد سؤال عكاشة، لأن سأل بعد نزول آية الحج كما سيجيء في حديثه، يقال: ما أنكر عليه لسؤاله: أن الأمر يحتمل التكرار أو المرة في المراد منهما، بل لأنه ما تفكر في أن إفادة التكرار مما يصعب على الأمة سيما على سكان القاصية، والدين مبني على اليسر: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وكان ذلك مشهوراً عندهم كما روى الإمام، عن أبي ثعلبة الخُشني: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تتنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". قال الراغب: إن الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب: ضرب يجب السؤال عنه، وهو ما كلف الإنسان به وبه أمر، وإياه توجه أن أفتى الجريح بالاغتسال، فقال: "قتلتموه، هلا سألتموني عنه، شفاء العي السؤال"، وضرب يُكره أو يُحظر السؤال عنه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإياه توجه قوله صلى الله عليه وسلم: "اتركوني ما تركتم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء"، وضرب يجوز السؤال والسكوت عنه، وهو ما يستحب أن يحمد ولا يؤخذ به الإنسان إن بحث عنه واستكشف. وقال القاضي: الجملة الشرطية وما عطف عيها صفتان لـ {أَشْيَاءَ}، المعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم، وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال، وهو أنه مما يغمهم، والعاقل لا يفعل ما يغمه. وقلت: وهذا النوع عند علماء البيان يسمى بالكناية الإيمائية، فيفيد القطع بامتناع السؤال، وليس بوجه في الآية، وتقرير المصنف أقرب لما يفهم من دليل الخطاب، والتقييد بالوصف: أن هناك سؤالاً لا يغمهم وهو ما لا يتعلق بالتكاليف الشاقة والأمور التي إن ظهرت أوقعتهم في الحرج والضيق، هذا حسن لولا أن قوله: {تُبْدَ لَكُمْ} يقتضي أن يُخص كقوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]، ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أنس، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم وجوههم ولهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ فقال: "فلان"، فنزلت هذه الآية:

يُوحى إليه، تُبد لكم تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرّضون أنفسكم لغضب اللَّه بالتفريط فيها. (عَفَا اللَّهُ عَنْها): عفا اللَّه عما سلف من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها. (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ): لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت: كيف قال: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ثم قال: (قَدْ سَأَلَها) ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وفي رواية: فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخفوه في المسالة، فصعد ذات يوم المنبر، فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم"، فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يون بين ييدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت انظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعي إلى غير أبيه، قال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه، فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من الفتن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط"، قال قتادة: يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وقد روى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال فيه: فرجع عبد الله بن حذافة إلى أمه، فقال: ويحك! ما حملك على الذي صنعت؟ قالت: كنا أهل جاهلية وأهل أعمال قبيحة. أزموا: من أزم الإنسان: إذا أطرق ساكتاً من خوف. قوله: (وتؤمروا) عطف تفسيري على قوله: "تبد لكم".

ولم يقل: قد سأل عنها؟ قلت: الضمير في: (سَأَلَها) ليس براجع إلى (أشياء) حتى تجب تعديته بـ"عن"، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) يعني: قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين، (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أي: بمرجوعها أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (راجع إلى المسألة) أي: إلى المصدر لا إلى المفعول ليُحتاج إلى تعديته بـ "عَنْ". الراغب: {قَدْ سَأَلَهَا} يحتمل وجهين، أحدهما: أنه استخبار إشارة إلى نحو قول أصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله: "قد سألها" وبين قوله: "قد سأل عنها"، والثاني: أنه استعطاء، إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى والسائلين من صالح الناقة؛ فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها، وقوله: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي: كفروا ولم يعترفوا. واعلم أن الطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام ألفاظ متقاربة، ومرتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها؛ لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك، وفيما تطلبه من نفسك، والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك، فكل سؤال طلب، وليس كل طلب سؤالاً، والسؤال يقال في الاستعطاف، فيقال: سألته كذا، ويقال في الاستخبار فيقال: سألته عن كذا، وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر، وذلك أخص من السؤال، فكل استخبار سؤال وليس كل سؤال استخباراً، والاستفهام: طلب الإفهام، وهو أخص من الاستخبار، فإن قول الله تعالى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} [المائدة: 116] استخبار وليس باستفهام، وكل استفهام استخبار وليس كل استخبار استفهاماً، والاستعلام: طلب العلم، فهو أخص من الاستفهام، إذ ليس كل ما يفهم يعلم، بل قد يظن ويخمن، وكل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاماً. قوله: (بمرجوعها) أي: بما تؤول المسألة به وترجع إليه عند تحقيقها.

بسببها (كافِرِينَ)، وذلك أنّ بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. [(ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)]. كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أي: شقوها وحرّموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها، واسمها البحيرة، وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتى سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبداً قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعي. ومعنى (ما جَعَلَ): ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا (يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فلا ينسبون التحريم إلى اللَّه حتى يفتروا، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نُتجت الناقة خمسة أبطن)، المغرب: وقد نتجت الناقة نتجاً: إذا رُبي نتاجها حتى وضعت، فهو ناتج، وهو للبهائم كالقابلة للنساء، والأصل: نتجها ولداً، يثعدى إلى مفعولين، فإذا بُني للمفعول الأول قيل: نتجت ولداً: إذا وضعته. النهاية: يقال: نتجت الناقة: إذا ولدت فهي منتوجة، وأنتجت: إذا حملت فهي نتوج، ولا يقال: منتج بكسر التاء.

[(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)]. الواو في قوله: (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره: أحسبهم ذلك ولو كان (آباؤهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)؟ والمعنى: أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} واو الحال). قال أبو البقاء: وجواب "لو" محذوف، أي: أولو كانوا لا يعلمون يتبعونهم، وذهب الراغب إلى أن الواو للعطف والهمزة للتعجب من جهلهم، أي: أيكفيهم ذلك وإن كان آباؤهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم؟ وأشير بأنهم من جملة الفرقة الثالثة الذين وُصفوا فيما روي: الناس عالمٌ ومتعلم وحائر بائر لا يطيع مرشداً، وروي عن علي رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم ربانين ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع وأتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، ولم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق فيمتنعوا. وقوله: {لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} إشارة إلى أنهم هم الرعاع والأتباع. قوله: (الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي)، وفيه معنى قول الإمام والقاضي: التقليد المذموم هو أن المقلد لا يعرف بالدليل أن مقلده على الحق أو على الباطل، وأما من عرف اهتداء مقلده بالدليل فهو ليس بمقلد.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى. (لا يَضُرُّكُمْ) الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر: 8]، وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم، فهو مخاطبٌ به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه. وعن ابن مسعودٍ: أنها قرئت عنده فقال: إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة. ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم. فهي على هذا تسليةٌ لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه، وبسط لعذره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما هو بعض الضلال) أي: من تركهما مع القدرة فليس بمهتد. (بل هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم)، وذلك أن قيل في حق البعض: {مَنْ ضَلَّ}، وخوطب البعض بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وأثبت لهم الاهتداء بقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنما يكونون مؤمنين مهتدين إذا قاموا بمواجبهما من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقصروا فيهما، بل إنما يحسن هذا الخطاب إذا بذلوا جهدهم في ذلك وتحسروا على فوات الإنجاع في القوم، ولذلك استشهد بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، فمن نظر إلى ظاهر الآية وأمسك عن الأمر بالمعروف ابتداء دخل في زمرة من قيل في حقه: {مَنْ ضَلَّ}. قوله: (إن هذا ليس بزمانها) أي: هذا الزمان ليس بزمان العمل بمقتضى ظاهر الآية، وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الإمرة والحسبة اليوم مقبولة.

وعنه: ليس هذا زمان تأويلها. قيل: فمتى؟ قال: إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن. وعن أبي ثعلبة الخشني: أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيراً، سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنها فقال: "ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، ودع أمر العوام، وإنّ من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ كقبضٍ على الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله". وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، ولاموه، فنزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن أبي ثعلبة الخشني) بضم الخاء المعجمة والنون، الحديث بتمامه رواه الترمذي وابن ماجه. قوله: (عن ذلك) أي: عن العمل بمقتضى الآية، وقوله: سألت عنها، أي: عن الآية، أي: عن العمل بمقتضاها. قوله: (ائتمروا بالمعروف) أي: هموا به ولاتشاوروا فيه. النهاية: قيل لكل من فعل فعلاً من غير مشاورة: ائتمر، كأن نفسه أمرته بشيء فائتمر، أي: أطاعها. قوله: (شحاً مطاعاً). النهاية: الشح: أشد البخل مع الحرص، وفيه أن الشح من جبلة الإنسان، والكامل من لا يطيعه لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9]. قوله: (ودنيا مؤثرة) أي: مختارة على الآخرة. قوله: (كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت أباك) أي: نسبته إلى السفه. الراغب: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني أراكم تناولون هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} وقد عهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامنا هذا على هذه الأعواد وهو يقول: "إن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) عليكم: من أسماء الفعل، بمعنى: الزموا إصلاح أنفسكم، ولذلك جزم جوابه. وعن نافع: عليكم أنفسكم، بالرفع. وقرئ (لا يَضُرُّكُمْ) وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وتنصره قراءة أبي حيوة، لا (يضيركم) وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً، وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. والأصل: لا يضروكم. ويجوز أن يكون نهيا، ولا يضركم، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنهي عن المنكر عمهم الله بعقابه، وما بينكم وبين أن يعمكم الله بعقابه إلا أن تتأولوا هذه الآية على غير تأويلها"، وإنما المعنى: لاتقتدوا بآبائكم، واحفظوا أنفسكم، وإذا اهتديتم فليس عليكم من ضلال من خالفكم شيء، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119]. وقلت: حديث أبي بكر أخرجه الترمذي وأبوداود، عن قيس بن أبي حازم، ويعضده النظم، فإن قوله: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} يرمي إلى ذلك. قوله: (وعن نافع: "عليكم أنفسكم"، بالرفع) هي من طريق شاذة. قوله: (أن يكون خبراً مرفوعاً)، قال الزجاج: إعراب {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} الأجود أن يكون رفعاً على جهة الخبر، أي ليس يضركم من ضل، ويجوز أن يكون جزماً، أي: لا يضرركم، إلا أن الراء الأولى أدغمت في الثانية فضمت الثانية لالتقاء الساكنين، ويجوز على جهة النهي: "لا يضركم"، بفتح الراء وكسرها، وهذا نهي للغائب ويراد به المخاطبون، فإذا قلت: لا يضرركم كفر الكافر، معناه: لا تعدن أنت كفره ضرراً عليك.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ* فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَاتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)]. ارتفع (اثنان) على أنه خبر للمبتدأ الذي هو (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) على تقدير: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وأما زيادة التقرير فهو أن يقال: إن قوله تعالى: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} لا يخلو من أن يكون مجزوماً على جواب الأمر، فالمعنى: احفظوا أنفسكم والزموا صلاحها لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، أي: إذا حفظتموها لا يضركم من ضل، فإن لم تحفظوها بأن تصروا على ذكر مثالبهم يكن سبباً لأن تتضرروا بالملازمة عليها، أو أن يكون نهياً للضلال عن إيصال الضرر إلى المؤمنين على منوال قولهم: لا أرينك هاهنا، أو أن يكون خبراً مرفوعاً على تقدر سؤال، كأنه لما قيل لهم: الزموا أنفسكم واحفظوها عن أن تشتغلوا بمساوئهم قالوا: لِمَذا؟ فأجيبوا: لئلا يضركم ضلال من ضل، هذا وإن الظاهر: الزموا أنفسكم ولا تهتموا بشأنهم ولا تتأسفوا على ما فيه الفسقة من الفجور، فإنا لا نؤاخذكم بفعلهم كأنهم من فرط حرصهم وتهالكهم على صلاحهم حسبوا أنهم يتضررون بفسقهم، فرد عليهم، ولهذا ابتدأ بقوله: "كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو"، وعليه قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]. قوله: (الذي هو {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}) اتسع في "بين" وأضيف إليه المصدر، كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالرفع.

شهادة بينكم شهادة اثنين. أو على أنه فاعل (شهادة بينكم) على معنى: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان. وقرأ الشعبي: (شهادة بينكم) بالتنوين. وقرأ الحسن: (شهادة) بالنصب والتنوين، على: ليقم شهادة اثنان، (وإِذا حَضَرَ) ظرفٌ للشهادة، و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه، إبداله منه دليل على وجوب الوصية، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلمٌ ويذهل عنها. وحضور الموت: مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل (مِنْكُمْ): من أقاربكم. و (مِنْ غَيْرِكُمْ): من الأجانب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية)، قال الإمام: قالوا: قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} دليل على وجوب الوصية؛ لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت حين زمان الوصية، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين، وإنما تحصل هذه الملازمة حين وجوب الوصية. وقلت: والأظهر أن قول المؤلف: "وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها" عطف تفسيري على قوله: "وجوب الوصية"، ودلالة على أن الإبدال فيه للتأكيد والتقرير والثبوت دون الوجوب المتعارف، ولهذا اقتصر القاضي وصاحب "التقريب" على التفسير دون المفسر، حيث قالا: وفي إبداله منه تنبيه على أن الوصية مما ينبغي ألا يتهاون فيها، ولم يذكر لفظ الوجوب، ومثله في دلالة الإخباري المنظور فيه المبالغة على الوجوب قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]، قال: فيه معنى النهي، ولكن أبلغ وآكد من "لا ينكح".

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ): يعني: إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو [له] أصلح، وهم له أنصح. وقيل: (مِنْكُمْ): من المسلمين، و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الذمة. وقيل: هو منسوخٌ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر. وعن مكحولٍ: نسخها قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2]. وروي: أنه خرج بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاص وكان ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي أنه خرج بديل بن أبي مريم)، والصحيح: بُزيلُ بن أبي مريم بالياء المنقوطة من تحت والضم وفتح الزاي في "تاب الترمذي"، والذي جاء في "كتاب ابن أمير ماكولا": يزيل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص في "الجامع"، وفي "صحيح البخاري" والترمذي وأبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي في أرض ليس بها مسلم، فلما قدموا فقدوا جاما من فضة مخوصاً بذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وُجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتههما أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية.

من المهاجرين مع عدي بن زيد وتميم بن أوسٍ- وكانا نصرانيين- تجاراً إلى الشام، فمرض بديلٌ وكتب كتاباً فيه ما معه، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات ففتشا متاعه فأخذا إناءً من فضةٍ فيه ثلاث مئة مثقالٍ منقوشاً بالذهب، فغيباه، فأصاب أهل بديلٍ الصحيفة فطالبوهما بالإناء، فجحدا، فرفعوهما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؛ فنزلت. (تَحْبِسُونَهُما): تقفونهما وتصبرونهما للحلف، (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ): من بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وعن الحسن: بعد صلاة العصر أو الظهر؛ لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث بديلٍ أنها لما نزلت صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديّ وتميمٍ فاستحلفهما عند المنبر فحلفا، ثم وجد الإناء بمكة، فقالوا: إنا اشتريناه من تميم وعدي. وقيل: هي صلاة أهل الذمّة وهم يعظمون صلاة العصر. (إِنِ ارْتَبْتُمْ): اعتراضٌ بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيه ثلاث مئة مثقال) تجريد، نحو قولك: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي: هي نفسه هذا المقدار. قوله: (وتصبرونهما للحلف). النهاية: في الحديث: "من حلف على يمين صبراً"، أي: ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم.

وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما. وعن علي رضي اللَّه عنه: أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما. والضمير في (به) للقسم، وفي (كانَ) للمقسم له يعني: لا نستبدل بصحة القسم باللَّه عرضاً من الدنيا؛ أي: لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريباً لنا. على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء: 135]. (شَهادَةَ اللَّهِ) أي: الشهادة التي أمر اللَّه بحفظها وتعظيمها. وعن الشعبي أنه وقف على "شهادة" ثم ابتدأ "اللَّه" بالمدّ على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروي عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزةً الاستفهام، فيقول: اللَّه لقد كان كذا. وقرئ: (لملاثمين) بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون "من" فيها، كقوله: (عاد لولى). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد نُسخ تحليف الشاهدين)، قيل: الناسخ قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، والله أعلم. وقيل: أول من قاله قس بن ساعدة الإيادي. قوله: (أن هذه عادتهم في صدقهم)، والدلالة على العادة والتوكيد بقوله: "أبداً"، انضمام {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106] مع قوله: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} تتميماً ومبالغة، يعني: إذا لم يحلف لذي القربى فبالطريق الأولى ألا يحلف للغير أبداً، وهذا إنما يستقيم إذا أريد تحليف الشاهدين دون الوصيين، وذلك أن الشرطية، وهي قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} جيء بها لتأكيد المقسم به، أي: لم يكن من عادتنا أن نشتري به ثمناً ولو وُجد ذو قربى.

فإن قلت: ما موقع (تحبسونهما)؟ قلت: هو استئناف كلامٍ، كأنه قيل: بعد اشتراط العدالة فيهما، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما، فقيل: تحبسونهما فإن قلت: كيف فسرت (الصلاة) بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت: لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، أغنى ذلك عن التقييد، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه: إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز أن تكون اللام للجنس، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]. (فَإِنْ عُثِرَ): فإن اطلع (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي: فعلا مّا أوجب إثما، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين (فَآخَرانِ) فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي: من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي قصة بديلٍ: أنه لما ظهرت خيانة الرجلين، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما وأنّ شهادتهما أحق من شهادتهما: و (الْأَوْلَيانِ): الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما، وارتفاعهما على: هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل: الأوليان ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَإِنْ عُثِرَ}: فإن اطلع). الأساس: دابة بها عثار: لا تزال تعثر، وخرج متعثراً في أذياله، ومن المجاز: عثر على كذا: اطلع عله، وأعثره على كذا: أطلعه. اعلم أن هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب، قاله الزجاج، وقال الواحدي رحمه الله: روى عن عمر رضي الله عنه: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يُشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، فإن لم يجدهما، بأن كان في سفر، فآخران من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة، حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ، إن كان الإثنان شاهدين فنه لا يحلف الشاهدان، لا تعارض يمينهما يمين الوارث، وإن كانا وصيين تُرد اليمين على الورثة إما لظهور خيانة الوصيين، فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته، أو لتغيير الدعوى. وقلت: هذا تلخيص المعنى، وهو في غاية من الجودة، وأما حل مشكل الآية فقد أشار إليه المصنف بحيث لا مزيد عليه. قال أبو البقاء: قوله: {عَلَى أَنَّهُمَا}، قائم مقام الفاعل، و"آخران": فاعل فعل محذوف، أي: فليشهد آخران، و {يَقُومَانِ}: صفة "آخران"، و {مِنْ الَّذِينَ}: صفة أخرى لـ "آخران". قلت: فعلى هذا {الأَوْلَيَانِ}: خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة على تقدير سؤال، كأنه لما قيل: فإن عُلم أن الشاهدين قد خانا فيقم شاهدان آخران من الذين جُني عليهم فقيل: من هما؟ فأجيب: الحقان بالشهادة من أقرباء المجني عليه. وقال الزجاج: قيل: معنى: {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ} أي: فيهم، كما في قوله تعالى: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وقيل: استحق منهم كقوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2]، أي: منهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الكشف": أما ما يُسند إليه استحق فلا يخلو من أن يكون الإيصاء أو الوصية أو الإثم أو الجار والمجرور، وإنما جاز استحق الإثم لأن أخذه ثم فسُمي إثماً كما يسمى ما يؤخذ منك بغير حق مظلمة، قال سيبويه: الملمة: اسم ما أخذ منك، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر، وأما معنى {عَلَيْهِمْ} فيحتمل أن يكون بمنزلة على في قولك: استحق على زيد مال بالشهادة، أي: لزمه ووجب عليه الخروج منه؛ لأن الشاهدين لما عُثر على خيانتهما استحق عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك الولاية لها، فصار إخراجهما منها مستحقاً عليهما كما يستحق على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه، وأن يكون بمنزلة في، أي: استحق فيهم، وأن يكون بمنزلة من، أي: استحق منهم الإثم. وقلت: الحق أن يكون استحق مسنداً إلى الإثم، وأن يكون من باب المشاكلة والتضمين لقوله: "ومعناه: من الذين جُني عليهم"، والذي دعاه إلى هذا دعاه إلى هذا التأويل ابتناء قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} على قوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ}؛ لأن المعنى: إن كتمنا الحق كنا من الخائنين، ثم إن اطلع على أنهما قد خانا وجنيا على المشهود عليه واستحقا إثماً بذلك فآخران يقومان مقامهما بالشهادة، فكني عن قوله: "قد خانا وجنيا" بقوله: {اسْتَحَقَّا إِثْماً} ليُشاكل الكلام السابق وهو: {إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ}، يدل عليه قوله: "واستوجبا أن يقال: إنهما لمن الآثمين"، ثم عبر عن المشهود عليهم بقوله: "استحق عليهم الإثم" ليشاكل ما عبر به عن الجاني، وهو {اسْتَحَقَّا إِثْماً}؛ لأن الجاني إذا كُني عنه بأنه استحق الإثم فالمناسب أن يثكنى عن المجني عليه بقوله: استحق الإثم عليه، فقول المصنف: "من الذي جنى عليهم" تخليص المعنى وزُبدته.

وقيل: هما بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران). ويجوز أن يرتفعا بـ (استحق) أي: من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال. وقرئ: (الأوّلين) على أنه وصف لـ (الذين استحق عليهم) مجرورٌ، أو منصوبٌ على المدح. ومعنى الأولية: التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هما: بدل من الضمير في {يَقُومَانِ}. قال الزجاج: {الأَوْلَيَانِ}: في قول أكثر البصريين مرتفعان على البدل من الضمير في {يَقُومَانِ}، المعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين فيقسمان بالله. قوله: (ويجوز أن يرتفعا بـ {اسْتَحَقَّ}) أي: {الأَوْلَيَانِ}: يكون فاعل {اسْتَحَقَّ} لا "الإثمُ"، فعلى هذا {اسْتَحَقَّ} بمعنى: استوجب، ولابد من تقدير المضاف؛ لأن الواجب على أهل الميت أن يختاروا من بينهم شخصين من أقارب الميت موصوفين بالأولوية من غيرهم لاطلاعهم على حقيقة الحال، وإليه الإشارة بقوله: " {مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ} انتداب الأوليين". الجوهري: ندبه لأمر فانتدب له، أي: دعاه له، فأجاب. الأساس: رجل ندب: إذا نُدب لأمر خف له، وفلان مندوب لأمر عظيم وندب لكذا، وإلى كذا، فانتدب له. قوله: (وقرئ: "الأولين") أي: بالجمع: أبو بكر وحمزة، والباقون: {الأَوْلَيَانِ} على التثنية. قوله: (على أنه وصف لـ {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ})، المعنى: آخران يقومان من الذين جُني عليهم المقدمين على الأجانب، وقوله: "مجرور" صفةٌ "لوصف".

وقرئ: (الأولين) على التثنية، وانتصابه على المدح. وقرأ الحسن: (الأولان) ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي. وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك، فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة، لإنكارهم الشراء. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: (استحق عليهم الأوليان) على البناء للفاعل، وهم على وأبيّ وابن عباس؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "الأولين" بالتثنية، وانتصابه على المدح)، فعلى هذا هو جار على {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ}، لا على {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ} لعدم المطابقة، وإنما يجعله وصفاً كما في قراءة "الأولين"، لاختلافهما نكرة ومعرفة. قوله: (فوجه عندهم) أي: أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، فإن رد اليمين على المدعي غير سائغ عندهم، لكن قوله: "فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما تما، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة"، ليس في رواية البخاري والترمذي وأبي داود ما ينبئ عنه، وظاهر التنزيل يأباه؛ لأن ترتب الجزاء، وهو قوله: {فَآخَرَانِ}، على {فَإِنْ عُثِرَ}، ثم ترتبه على قوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ} مانع من تخلل هذا الأجنبي في البين، على أنه تعالى صرح بالرد والتعقيب في قوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وجعله قانوناً لمثل هذا الحكم، والله أعلم. قوله: (من قرأ {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ} على البناء للفاعل) قراها حفص، أي: حق ووجب عليهم افثم، حق واستحق بمعنى في "المعالم".

قلت: معناه: من الورثة الذين (استحق عليهم الأوليان) من بينهم بالشهادة أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين (ذلِكَ) الذي تقدم من بيان الحكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يجردوهما) قيل: هو مفعول {اسْتَحَقَّ}، والفاعل {الأَوْلَيَانِ}، وقلت: معنى هذا يعود إلى قوله: "استحق عليهم انتداب الأوليين"، و"من بينهم": حال من الفاعل، و"بالشهادة": متعلق بـ {الأَوْلَيَانِ}، أي: الأحقان بالشهادة، والواو في "ويظهروا" كالواو في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] في إفادة تعويل الترتيب إلى الذهن على مذهب صاحب "المفتاح"، أي: يشهدوا ويظهروا بهما. قوله: ({ذَلِكَ} الذي تقدم من بيان الحكم) وهو ما ذكر من رد اليمين أو تغيير الحكم على الاختلاف أجدر وأحرى أن يأتوا بالشهادة على وجه التحقيق، و {عَلَى وَجْهِهَا}: حال من الشهادة، أي: محققة، المعنى: أن من حق الشهادة أن تشهد على ما هي عليه أو أن تترك إذا لم تكن محققة مخافة أن يفتضح الشاهد إذا ظهر خلافها، أو "إلى" مقدرة قبل {أَنْ يَاتُوا}، والتقدير: ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه، وأقرب إلى خوف الفضيحة، فتمتنعوا من ذلك، فعلى هذا {أَوْ يَخَافُوا}: عطف على {أَنْ يَاتُوا}، فيكون من باب قوله: علفتها تبناً وماءً بارداً، والمعنى ما قاله الواحدي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أدنى إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت عليه، أو أقرب إلى أن ترد أيمان على أولياء الميت بعد أيمانهم فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم.

(أَدْنى) أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ): أن تكرّ أيمان شهودٍ آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل. (وَاسْمَعُوا) سمع إجابة وقبول. [(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)]. (يَوْمَ يَجْمَعُ) بدل من المنصوب في قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) [المائدة: 108] وهو من بدل الاشتمال، كأنه قيل: واتقوا اللَّه يوم جمعه، أو ظرف لقوله: (لا يَهْدِي) [ألمائدة: 108] أي: لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم. أو ينصب على إضمار اذكر. أو (يوم يجمع اللَّه الرسل) كان كيت وكيت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تكر)، ويروي "تكر" بغير "أن". الجوهري: يقال كره وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. قوله: (وهو من بدل الاشتمال). الانتصاف: يكون منصوباً مفعولاً به لا ظرفاً. الإنصاف: لا يتصور هاهنا بدل الاشتمال؛ لأنه لابد من اشتمال البدل أو المبدل منه على الآخر، وهاهنا يستحيل ذلك، وإنما يتم ذلك ببيان المضمر، فإن تقديره: واتقوا عذاب الله يوم، وحينئذ يصح البدل لاشتمال {يَوْمَ} على العذاب.

و (ماذا) منتصب بـ (أجبتم) انتصاب مصدره على معنى: أي إجابة أجبتم، ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم؟ فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد. فإن قلت: كيف يقولون: (لا عِلْمَ لَنا) وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهاراً للتشكى واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم؛ إذا اجتمع توبيخ اللَّه وتشكى أنبيائه عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على معنى: أي إجابة أجبتم؟ ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم؟ )، قال صاحب "المفتاح": أي: سؤال عما يميز أحد المتشاركين عن أمر يعمهما بقول القائل: عندي ثياب، فيقول: أي ثياب هي؟ فيطلب منه وصفاً يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية. فالمعنى: أي إجابة أجبتم: إجابة تصديق أو تكذيب، أو إجابة رد أو قبول، طاعة أو عصيان؟ ولو أريد السؤال عن مقولهم بمعنى: ما قالوا لكم؟ لقيل: بماذا، بإدخال الباء، قال القاضي: ماذا: في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم، فحذف الجار، والمصنف لم يلتفت إلى الثاني. قوله: (بما منوا به). الجوهري: منوته ومنيته: إذا ابتليته. قوله: (وأفت في أعضادهم). الأساس: فت في عضده: إذا كسر قوته وفرق أعوانه. قوله: (وسقوطهم في أيديهم)، الأساس: سقط في يده وأسقط وسقط على المبني للفاعل: ندم، وهو مسقوط في يده وساقط في يده: نادم.

ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصةً من خواصه نكبةً قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهاراً للشكاية، وتعظيماً لما حل به منه. وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. وقيل: معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به، لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن ينكب)، الأساس: نكب عنه ينكب ونكبت الريح: مالت عن مهاب الرياح، ومن المجاز: نكب في عدوه. قوله: (للشكاية)، الجوهري: شكوت فلاناً أشكوه شكاية وشكوى وشكاة بفتح الشين المعجمة: إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك. قوله: (وقيل: من هول ذلك اليوم)، ويروي: "هو من هول ذلك اليوم"، الضمير راجع إلى القول، وهو {لا عِلْمَ لَنَا}، أي: وقيل: هذا القول صدر منهم من هول ذلك اليوم، ثم استأنف بقوله: "يفزعون"، فكأنه قيل: ما بالهم تكلموا به وقد سئلوا عن شيء وأجابوا بما لم يطابق السؤال، فأجيب: لأنهم "يفزعون ويذهلون عن الجواب"، فقوله: "وقيل: هو من هول ذلك اليوم" معطوف على قوله: "يعلمون أن الغرض" أي: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه قائلين: {لا عِلْمَ لَنَا}، ويجوز أنهم يذهلون عن الجواب ويقولون: {لا عِلْمَ لَنَا}، ثم بعد ما ترجع إليهم عقولهم يجيبون بالشهادة على أممهم. قوله: (معناه: علمنا ساقط مع علمك)، هذا جواب آخر، على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنه جواب بإثبات العلم لله على طريقة يُعلم منها المقصود، وذلك قوله: "لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم".

وقيل: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين؟ وقرئ: (علام الغيوب) بالنصب على أنّ الكلام قد تم بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ) أي: إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره، ثم نصب (علام الغيوب) على الاختصاص، أو على النداء، أو هو صفةٌ لاسم "إنّ". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكيف يخفى عليهم أمرهم؟ ) رد واعتراض على القول اخير، وفيه إضمار، وذلك أنه تعالى لما سألهم بقوله: أي إجابة أجبتم، إجابة قبول أم رد، طاعة او عصيان؟ فقالوا: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، يعني: ما دمنا فيهم أجاب بعضهم إحابة طاعة وقبول، وبعضهم إجابة معصية ورد، فلما توفيتنا كنت أنت الرقيب عليهم، نحن لا نعلم ما كان منهم بعدنا: هل بدلوا وغيروا أم ثبتوا وداموا؟ لأن الحكم للخاتمة، وهذا لا يصح؛ لأن أمارات سوء الخاتمة لائحة من وجوههم وعيونهم، فكيف يقولون: نحن لا نعلم الخاتمة؟ قوله: (أي: إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره)، فالتركيب حينئذ من باب قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري قوله: (أو هو صفة لاسم "إن")، قيل: فيه نظر؛ لان اسم "إن" ضمير، والضمير لا يوصف. وأجيب أن النظر مدفوع؛ لأنه يذكر الأقوال المذكورة، وبعضهم جوز وصف الضمير، وهذا بناء على ذلك المذهب. الانتصاف: هو كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري الإنصاف: وقع في كلام الزمخشري أنه منصوب على النداء أو الاختصاص أو نعت لاسم

(إِذْ قالَ اللَّهُ) بدلٌ من (يَوْمَ يَجْمَعُ). والمعنى: أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "إن" وهو بعيد؛ لأن المضمرات لا توصف، واسم "إن" ضمير واحد. وفر صاحب "الانتصاف" من ذلك ولم ينبه عليه، وهو من المشكلات. وقلت: ولا ارتياب أن الكلام إذا قُطع عند قوله: {أَنْتَ}، كما صرح به وعقبه بقوله: "ثم نُصب" لم يكن لقوله: "علام الغيوب" تعلق إعرابي به، فلا وجه لجعله صفة نحوية، فيكون التقدير: يا علام الغيوب، على النداء، أو: اذكر علام الغيوب، على المدح، او: أعني علام الغيوب، على الوصف والتفسير. فإذن: الجملة الثانية بيان للجملة الأولى من حيث الصفة التي يستدعيها المقام، على طريقة: أنا أبو النجم، وأنت تعلم أن نحو هذا التركيب لا يفيد معنى بنفسه ما لم يستند إلى ما ينبئ عن وصف خاص، وها هنا لما قيل: {إِنَّكَ أَنْتَ}، يعني إنك أنت الموصوف بأوصافك، لم يُعلم أن الصفة التي يقتضيها المقام ما هي؟ فقيل: "علام الغيوب" للكشف والبيان، والبيان يدل عليه إيقاع قوله: "من العلم وغيره" بياناً لقوله: "بأوصافك المعروفة"، ليكون شاملاً لجميع الأصواف، فيحتاج حينئذ إلى تعيين ما يقتضيه المقام، وكذلك دل قوله: "وشعري شعري" على الوصف الذي يستدعيه "أنا"، أي: أنا ذلك المشهور بالبلاغة والفصاحة، وشعري هو البالغ في الكمال. قوله: ({إِذْ قَالَ اللَّهُ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ}، وقلت: ولما كان البدل كالتفسير للمبدل ولم يعلم من قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} هل السؤال عن تمييز أحد المتشاركين عن أمر يعمهما أو عن مقول الكافرين على تقدير الباء، كما قال القاضي، والذي عيه ظاهر كلام المصنف أن قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} مبهم في إجابة قبول أو رد، أتى بقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى آخر السورة بياناً وتفصيلاً لذلك المجمل، وأوضح أن السؤال على طريق التمييز وبيان أن

فكذبوهم وسموهم سحرةً، أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن اتخذوهم آلهةً، كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من البينات والمعجزات: (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف: 7] واتخذه بعضهم وأمه إلهين. (أَيَّدْتُكَ): قويتك. وقرئ (أيدتك) على: أفعلتك. (بِرُوحِ الْقُدُسِ): بالكلام الذي يحيا به الدين وأضافه إلى القدس، لأنه سبب الطهر من أو ضار الآثام، والدليل عليه قوله تعالى: (تُكَلِّمُ النَّاسَ) و (فِي الْمَهْدِ) في موضع الحال، لأنّ المعنى تكلمهم طفلاً وَكَهْلًا، إلا أن (في المهد) فيه دليلٌ على حدّ من الطفولة. وقيل روح القدس: جبريل صلوات الله عليه أيد به لتثبيت الحجة. فإن قلت: ما معنى قوله: (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجواب جواب رد لا قبول، ولهذا قال: "والمعنى: أنه توبيخ للكافرين يومئذ"، وختم الآية بقوله تعالى: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}، وهو الوجه الأول من الوجوه المذكورة في جواب سؤاله: "كيف يقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} وقد علموا؟ " ألا ترى كيف بين معنى التمييز بقوله: "فكذبوهم وسموهم سحرة، أو جاوزوا حد التصديق"، حيث ميز احتمال السؤال من التصديق والتكذيب بأحدهما وهو التكذيب؟ قوله: (أو جاوزوا حد التصديق): عطف على "فكذبوهم"، وقوله: "كما قال بعض بني إسرائيل" إلى آخره، نشر لهذين المعنيين. قوله: (والدليل عليه) أي: على أن المراد بروح القدس: الكلام: إيقاع قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} إما بياناً للجملة الأولى أو استئنافاً. قوله: (إلا أن {فِي الْمَهْدِ}) يعني كان المراد من قوله: {فِي الْمَهْدِ}: حال الطفولية، لكن في تخصيص ذكر المهد تتميم ومبالغة، ولهذا نكر قوله: "على حد من الطفولة"، ولو قيل: طفلاً، لم تكن تلك المبالغة؛ لأن الطفولية تنتهي وقت البلوغ لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ} [النور: 59].

معناه: تكلمهم في هاتين الحالتين، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء. (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة. وقيل الْكِتابَ: الخط. والْحِكْمَةَ: الكلام المحكم الصواب. (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) هيئةٍ مثل هيئة الطير. (بِإِذْنِي) بتسهيلي. (فَتَنْفُخُ فِيها) الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا من نفخه في شيء. وكذلك الضمير في (فتكون). (تُخْرِجُ الْمَوْتى): تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعني: اليهود حين هموا بقتله. وقيل: لما قال اللَّه تعالى لعيسى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه: تكلمهم في هاتين الحالتين) يعني: فائدة انضمام "كهلاً" مع {فِي الْمَهْدِ} هنا، فعلى هذا يكون الثاني تابعاً للأول، والأحسن ما في كلام الإمام أن الثاني أيضاً معجزة مستقلة؛ لأن المراد: يكلم الناس في الطفولة وفي الكهولة حين ينزل من السماء في آخر الزمان؛ لأنه حين رفع لم يكن كهلاً. قوله: (لأن المراد بهما جنس الكتاب): تعليل للتخصيص، يعني هو من باب عطف الخاص على العام لمزيد الفضل والشرف. قوله: (ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها)، يعني: في قوله: "هيئة مثل هيئة الطير"؛ لأن الثانية مشبهة بها، وهي من خلق الله، بل على الأولى المشبه؛ لأنها من تقديره ومن نفخه. قوله: (وقيل: لما قال الله لعيسى: {اذْكُرْ نِعْمَتِي}: عطف على قوله: " {إِذْ قَالَ اللَّهُ} بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ} "، فيكون هذا الخطاب في الدنيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي كلام المصنف لطيفة، وهي أنه تعالى من عليه بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}، وما كانت تلك النعمة نعمة دنيوية؛ لأنه كان يلبس حينئذ الشعر ويأكل الشجر. وفيه أن هذه النعمة أيضاً من التأييدات القدسية والمنح الإلهية، روي أن فتحا الموصلي رحمه الله رجع ليلة إلى بيته فلم يجد عشاء ولا سراجاً ولا حطباً، فأخذ يحمد الله تعالى ويتضرع إليه ويقول: إلهي، لأي سبب ووسيلة واستحقاق عاملتني بما تعامل به أنبياءك وأولياءك؟ وقضية النظم على هذا الوجه هو أنه تعالى لما خوف الشاهدين خصوصاً والناس عموماً بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108] بمعنى: واتقوه يوم جمعه الرسل وسؤاله إياهم: بـ {مَاذَا أَجَبْتُمْ} في الدنيا حين أرسلتم إلى القوم؟ وقول الرسل من الهيبة والذهول: {لا عِلْمَ لَنَا}، اتجه لسائل: ما ذاك السؤال والجواب في الدنيا لا علم لي بذلك؟ فقيل له: اذكر وقت بعثة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى القوم وتأييده بالمعجزات الباهرة، وجواب بعض القوم له: هذا سحر مبين، وبعضهم: ثالث ثلاثة، ليعلم ذلك السؤال والجواب، يدل على الأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}، و"من" في {مِنْهُمْ}: تبعيضية، وعلى الثاني قوله: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ}، ويدل على أن الوجه هو الأول قول عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}، قول الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} الآية [المائدة: 116]. وتقرير الكلام على هذا الوجه: اذكر أيها السائل ذلك الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يرسل عيسى عليه الصلاة والسلام، وحين أيده بالكتاب والحكمة وضم معه المعجزات، وأمره بدعوة القوم إلى الحكمة والعمل بما في الكتاب، فامتثل الأمر وادعى الرسالة وأظهر المعجزات القاهرة وأفحمهم، فأظهروا العجز، وقال بعضهم: إن هذا إلا سحر مبين، وقال

ولا يدخر شيئاً لغدٍ، يقول: مع كل يومٍ رزقه، لم يكن له بيتٌ فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات. [(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ* إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَاكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ* قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)]. (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ): أمرتهم على ألسنة الرسل. (مُسْلِمُونَ): مخلصون. من: أسلم وجهه للَّه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضهم: ثالث ثلاثة على منوال هذا، فأفسح في الوجه الأول وراعى فيه ما يستدعيه المقام من الكلام. قوله: (لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت) عقده المعري: سعد المسيح يسيح في الغبراء لا ... ولد يموت ولا بناء يخرب قوله: ({أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ}: أمرتهم)، قال الزجاج: وأنشدوا: الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنت وحي لها القرار فاستقرت

(عِيسَى): في محل النصب على إتباع حركة الابن كقولك: يا زيد بن عمروٍ، وهي اللغة الفاشية، ويجوز أن يكون مضموما كقولك: يا زيد بن عمرو. والدليل عليه قوله: أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّى خَمِرْ لأنّ الترخيم لا يكون إلا في المضموم. فإن قلت: كيف قالوا: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت: ما وصفهم اللَّه بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أمرها أن تقر فامتثلت. قوله: (في محل النصب) أي: الفتح؛ لأن حركته حركة بناء. قوله: (أن يكون مضموماً كقولك: يا زيد بن عمرو) قيل: هذه لغة قليلة. قوله: (أحار بن عمرو كأني خمر)، بعده: ويعدو على المرء ما يأتمر الخمر: الذي ضربه الخمار، وقيل: الخمر: نبت طيب ترعى فيه الأنعام ويلجأ إليه الناس إذا لم يجدوا طعاماً، ما يأتمر: من الائتمار، أي: مادام يمتثل الأمر، القائل يعابت الحارث ويقول: كأني ذلك النبت يأكلني كل أحد؛ لأني أوافقهم فيما يأمرونني. قوله: (لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم)، وذلك أن المفتوح مع ما بعده بمنزلة الاسم الواحد كالمركب فلا يُرخم منه، لأنه لو رخم آخر الأول لكان الحذف من الوسط وهو غير سائغ.

"إِذ قالوا" فإذن إنّ دعواهم كانت باطلةً، وإنهم كانوا شاكين، وقوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه: اتقوا اللَّه ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن دعواهم كانت باطلة، وأنهم كانوا شاكين)، قال الزجاج: يحتمل أنهم أرادوا أن يزدادوا تثبيتاً، كقوله صلى الله عليه وسلم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، وأن استنزال المائدة كان قبل علمهم أنه أبرأ الأكمه والأبرص، وأما قول عيسى عليه الصلاة والسلام: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فالمراد: لا تقترحوا الآيات ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، وقال الواحدي: لا يدل قولهم على الشك، هذا كما تقول لصاحبك: هل تستطيع أن تقوم؟ أي: هل يسهل عليه إنزال هذه المائدة؟ وقال محيي السنة: لم يكونوا شاكين في قدرة الله، ولكن معناه: هل ينزل أم لا؟ وقيل: {يَسْتَطِيعُ} بمعنى يُطيع، يقال: أطاع واستطاع بمعنى، كقولهم: أجاب واستجاب، معناه: هل يطيعك ربك بإجابة سؤالك؟ وفي الآثار: من أطاع الله أطاعه الله، وأجرى بعضهم على ظاهره. الانتصاف: هل تستطيع؟ : هل تفعل؟ تقول للقادر: هل تستطيع كذا؟ مبالغة في التقاضي، عبر عن المسبب بالسبب؛ لأن الاستطاعة من أسباب الإيجاد، ومنه تأويل أبي حنيفة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ} [النساء: 25] أي: ومن لم يملك، وحمل النكاح على الوطء،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجعل الاستطاعة نفس الملك، حتى إن القادر غير المالك عادم للطول، وكنت أستبعد احتمال اللفظ حتى وقفت على هذا القول عن الحواريين، وهو قول الحسن رحمه الله، ويقوي قول الزجاج والواحدي قوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا}، {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ}؛ ولأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل، وأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] ن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مدح الزبير بقوله: "إن لكل نبي حوارياً، وإن حواري الزبير بن العوام"، أخرجه الترمذي، عن جابر، وقال في الصف: "والحواريون: أصفياؤه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل: صفيه وخلصاؤه"، وقراءة الكسائي فإنه قرأ بالتاء وإدغام اللام فيها ونصب الباء، والباقون: بالياء ورفع الباء، أي: هل تستطيع سؤال ربك ما قال، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقلت: ويمكن أن تنزل تلك القراءة على هذه، و {هَلْ} مثلها في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان: 1] تقديره: قد يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة فاسأله حتى ينزل؟ فإن قلت: كيف يطابقه قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}؟ قلت: لها أسوة بقراءة الكسائي، وبالرد على إبراهيم منكراً عليه بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} في سؤاله: {كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فحينئذ يكون قولهم: {نُرِيدُ أَنْ نَاكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} مطابقاً لقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، والله أعلم.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة. وقرئ: (هل تستطيع ربك) أي: هل تستطيع سؤال ربك، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله. والمائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، وهي من مادّه: إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه. (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ): نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، أو نكون من الشاهدين للَّه بالوحدانية ولك بالنبوّة، عاكفين عليها، على أن (عليها) في موضع الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة)، وقلت: على التأويل الصحيح: واتقوا الله لأنكم مؤمنون، وسيجيء بيان أمثال هذا الشرط في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً} [الممتحنة: 1]. قوله: (وهي من مادة: إذا أعطاه)، روى الزجاج عن أبي عبيدة: أنها مفعولة، ولفظها فاعلة نحو: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، قال الزجاج: إنها فاعلة من ماد يميد: إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. قوله: (على أن {عَلَيْهَا} في موضع الحال) لا يخلو إما أن يكون حالاً من اسم "كان" على رأي من يجوز إعمال "كان" في الحال، كما مر في قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة: 94]، أو أن يكون حالاً من الضمير في الظرف الذي هو خبر "كان"، ولا يجوز الثاني لما يلزم من تقدم الحال على العامل المعنوي، فتعين الأول، قال ابن الحاجب: وقد اختلف في مثل: زيد في الدار قائماً، فجوز بعضهم تقديمه؛ لأن التقدير: استقر، أو: مستقر، وبعضهم يجعلون المقدر نسياً منسياً والظرف هو العامل في المعنى، وهو أرجح؛ لأنه لم يثبت مثل: زيدٌ قائماً في الدار، في فصيح الكلام، ولأنه إذا صار من قبيل المنسي صار في حكم العدم وصارت المعاملة مع النائب عنه، كذلك مذهب

وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الايمان والإخلاص. وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. وقرئ: (ويعلم) بالياء على البناء للمفعول. (وتعلم) (وتكون) بالتاء، والضمير للقلوب. (اللَّهُمَّ) أصله: يا اللَّه، فحذف حرف النداء، وعوضت منه الميم، و (رَبَّنا) نداء ثان. (تَكُونُ لَنا عِيداً) أي: يكون يوم نزولها عيداً. قيل: هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحققين في قولك: سقيا زيداً، أن "زيداً" معمول "سُقيا" لا الفعل المحذوف؛ لأنه في حكم المنسي، بخلاف قولك: ضرباً زيداً؛ لأن حكم الفعل باق، فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في {الشَّاهِدِينَ}؟ قلت: لا يجوز؛ لأن ما في حيز الصلة ومعمولها لا يتقدم على الموصول. قوله: (كدعواهم الإيمان)، قيل: كما أن دعواهم للإيمان والإخلاص كانت باطلة، كذلك دعواهم ما ذكروا من قوله: {نُرِيدُ أَنْ نَاكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} باطلة، ثم أجاب عن سؤال مقدر، وهو أنه إذا كانت دعواهم باطلة كدعوتهم، فلم سأل عيسى عليه الصلاة والسلام المائدة؟ ولم أجابه الله تعالى؟ فأجاب بأن ذلك لإلزام الحجة. قوله: (و {رَبِّنَا} نداء ثان). قال الزجاج: زعم سيبويه أن "اللهم" كالصوت، وأنه لا يوصف، وأن {رَبِّنَا} منصوب على نداء آخر، وقد سبق في سورة آل عمران في قوله: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الكلام فيه.

النصارى عيداً. وقيل: العيد: السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيدٍ، فكان معناه تكون لنا سروراً وفرحاً. وقرأ عبد اللَّه (تكن) على جواب الأمر، ونظيرهما (يَرِثُنِي) و (يَرِثْني). (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لنا) بتكرير العامل، أي: لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتى بعدنا. وقيل: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم. ويجوز للمتقدمين منا والأتباع. وفي قراءة زيد: (لأولانا وأخرانا) والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة. (عَذاباً) بمعنى تعذيباً، والضمير في: (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به، لم يكن بدّ من الباء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: العيد: السرور)، فعلى هذا الضمير يعود إلى "المائدة"، ولم يحتج إلى تقدير المضاف، قال أبو البقاء: يجوز أن يكون {لَنَا} خبر "كان"، ويكون {عِيداً}: حالاً من الضمير في الظرف، أو: حالاً من الضمير في "كان" على قول من يقول: إنها عامل في الحياة. قوله: (وقيل: يأكل منها آخر الناس) يريد أن التكرير في {لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} لرفع التفاوت بين قوم وقوم، يعني: لا تفاوت بين من يأكل أولاً ومن يأكل آخراً لإنزال الله البركة فيها، ولذا قدم المصنف آخر الناس على أولهم، ومثله في التكرير المعنوي قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62]، قال: "يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين". قوله: ({عَذَاباً} بمعنى: تعذيباً)، قال أبو البقاء: {عَذَاباً}: اسم المصدر الذي هو التعذيب، كالسلام بمعنى التسليم فيقع موقعه، ويجوز أن يكون مفعولاً به على السعة. قوله: (والضمير في {لا أُعَذِّبُهُ} للمصدر)، قال صاحب "الكواشي": المعنى: لا أعذب مثل تعذيب الكافر بالله وبعيسى- بعد نزول المائدة - أحداً من العالمين. وقال أبو البقاء:

روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ثم قال: اللهم أنزل علينا، فنزلت سفرةٌ حمراء بين غمامتين؛ غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مُثلةً وعقوبةً، وقال لهم: ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم اللَّه عليها ويأكل منها، فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم اللَّه خير الرازقين، فإذا سمكةٌ مشويةٌ بلا فلوسٍ ولا شوكٍ تسيل دسماً، وعند رأسها ملحٌ، وعند ذنبها خلٌ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفةٍ على واحدٍ منها زيتونٌ، وعلى الثاني عسلٌ، وعلى الثالث سمنٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجوز أن تكون الهاء للعذاب، وفيه وجهان: أن يكون على حذف حرف الجر، أي: لا أعذب به أحداً، وأن يكون مفعولاً به على السعة، ويجوز أن يكون ضمير المصدر المؤكد، نحو: ظننته زيداً منطلقاً ولا تعود الهاء على العذاب الأول، فإن قلت: {لا أُعَذِّبُهُ} صفة لعذاب، وحينئذ لا راجع من الصفة إلى الموصوف، قلت: لماوقع الضمير موقع المصدر والمصدر جنس عام، و {عَذَاباً}: نكرة، كان الأول داخلاً في الثاني نحو: زيد نعم الرجل. قوله: (ولا تجعلها مثلة وعقوبة)، أراد بالمثلة: العقوبة الغريبة مثل المسخ، قال في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17]: "لما في المثل من الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن"، ومنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة. النهاية: يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً: إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه وأذنه أو شيئاً من أطرافه، والاسم: المثلة.

وعلى الرابع جبنٌ، وعلى الخامس قديدٌ. فقال شمعون: يا روح اللَّه، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما، ولكنه شيءٌ اخترعه اللَّه بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم اللَّه ويزدكم من فضله: فقال الحواريون: يا روح اللَّه، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال: يا سمكة احيى بإذن اللَّه، فاضطربت ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشويةً، ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) قالوا لا نريد فلم تنزل. وعن الحسن: واللَّه ما نزلت، ولو نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة، لقوله: (وَآخِرِنا). والصحيح أنها نزلت. [(وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن: والله ما نزلت)، نقل القاضي عن مجاهد: أن هذا مثل ضربه الله تعالى لمقترحي المعجزات. قوله: (والصحيح أنها نزلت) أي: المائدة، لقوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ولما روينا عن الترمذي، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خُبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير".

(سُبْحانَكَ) من أن يكون لك شريك. (ما يَكُونُ لِي): ما ينبغي لي. (أَنْ أَقُولَ) قولاً لا يحق لي أن أقوله، (فِي نَفْسِي): في قلبي: والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل: ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {سُبْحَانَكَ} من أن يكون لك شريك)، فإن قلت: قوله: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لا يقتضي الشركة، بل يقتضي أنهم اتخذوهما إلهين من دون الله، على أنه يوهم إنكار الإفراد، ولأنهم لو اتخذوهما إلهين معه لكان جائزاً؛ لأنك إذا قلت: اتخذت فلاناً دوني حبيباً: جاز إنكار إفراده بالاتخاذ، وأجاب الراغب: أن قوله: "من دوني" يحتمل وجهين، أحدهما: إنكار اتخاذهما معبودين وعدم اتخاذه معبوداً، وذلك أنهم لما عبدوهما معه كان عبادتهما له غير معتد بها؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يعبد معه غيره، والثاني: أن دون هاهنا للقاصر عن الشيء، وهم عبدوا المسيح وأمه، فهما توصلا إلى عبادة الله كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فكأنه قيل: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ} متوصلين بنا إلى الله؟ {قَالَ سُبْحَانَكَ} متنزهين عن ذلك. قوله: (سلك بالكلام طريق المشاكلة)، يعني: لو لم تُقل: {مَا فِي نَفْسِي}، لم يجز أن يقال: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}؛ لأنه لا يجوز أن يُطلق على الله ابتداء اسم النفس، قال الزجاج: النفس في كلامهم لمعنيين، أحدهما: قولهم: خرجت نفس فلان، وفي نفس فلان أني فعل كذا، وثانيهما: جملة الشيء وحقيقته، تقول: فلان قتل نفسه، أي: ذاته، وليس معناه أن القتل وقع ببعضه، فمعنى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: ما أضمره ولا علم ما في حقيقتك وما عندك علمه، أي: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وقلت: ولابد من الإقرار بالمشاكلة؛ لأن "ما في النفس"- إن أريد المضمرات - فلا مطابقة من جانب الله، فيجب القول بالمشاكلة، وإن أريد ما في الحقيقة والذات فالمشاكلة من حيث

(فِي نَفْسِكَ) لقوله: (في نفسي). (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ): تقريرٌ للجملتين معاً، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحدٍ. [(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)]. (أن) في قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإدخال في الظرفية على أن لابد من القول به من جانب العبد؛ لأن المراد ما في الضمير؛ لقوله: {فِي نَفْسِي}: في قلبي، الراغب: ويجوز أيضاً أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه، فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فأعلم ما فيها، كقول الشاعر: لا ترى الضب بها ينجحر أي: لا ضب ولا جُحر بها، فيكون من الضب الانجحار. قوله: ({إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}: تقرير للجملتين معاً). قال القاضي: تقرير للجملتين باعتبار مفهومه ومنطوقه. وقلت: دل تصدر الجملة بإن، وتوسيط الفصل، وبناء المبالغة، والجمع المحلي باللام، أن شيئاً من الغيب لا يعزب عن علمه البتة. قوله: (في قوله: {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} إن جعلتها مفسرة) إلى آخره، قال صاحب "الفرائد" رحمه الله: قوله: "لم تخل من أن تكون بدلاً من {أَمَرْتَنِي بِهِ} أو من الهاء" مختل؛ لأن الوجه أن

والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير، لا تقول: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا اللَّه. ولكن: ما قلت لهم إلا اعبدوا اللَّه. وأما فعل الأمر، فمسند إلى ضمير اللَّه عز وجل. فلو فسرته بـ (اعبدوا اللَّه ربي وربكم)، لم يستقم لأن اللَّه تعالى لا يقول: اعبدوا اللَّه ربى وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم تخل من أن تكون بدلاً من (ما أمرتنى به) أو من الهاء في (به) وكلاهما غير مستقيم، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه. ولا يقال: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا اللَّه، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال. وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) مقام الهاء، فقلت: إلا ما أمرتنى بأن اعبدوا اللَّه، لم يصح، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: إن جعلتها موصولة بالفعل لم يخل من أن يكون بدلاً أو عطف بيان، فإن كان بدلاً لم يخل من أن يكون بدلاً من {مَا أَمَرْتَنِي} أو من الهاء في {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، وكذا إن كان عطف بيان للهاء، ثم أقول: تأويل القول لا يصح منه إذا كان في التقسيم قسم يصح، وهو أن يكون عطف بيان؛ لأن التأويل عند الضرورة، وفائدة التقسيم ثبوت الضرورة ليثبت جواز التأويل. قوله: (هو الذي يقوم مقام المبدل منه) غير سديد؛ لأنه قال في "المفصل": لا يجب ذلك؛ لأنك تقول في "زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً": إن "رجلاً صالحاً" بدل من "غلامه"، مع أنه لا يقوم مقامه؛ لأنك لو قلت: زيد رأيت رجلاً صالحاً، كان فاسداً. سلمنا، ولكن لم لا يجوز أن يكون بدلاً من {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، ويصح أن يقوم مقامه؟ قوله: (ولا يقال: ما قلت لهم إلا: أن اعبدوا الله، بمعنى: ما قلت لهم إلا عبادته؛ لأن العبادة لا تقال). قلت: لا نُسلم ذلك، ويمكن أن يقال معناه: ما قلت لهم إلا عبادته بالنصب، أي:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزموا عبادته، ويكون هو المراد من {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، وتكون الجملة وهي: الزموا عبادته: بدلاً من {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} من حيث إنها في حكم المفرد؛ لأنها مقولة، و {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} مفرد لفظاً وجملة. يعني سلمنا ولكن لم لا يجوز أن يكون بدلاً من الهاء مع أنه لم يصح أن يقال: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله؛ لما مر أنه يصح أني قال: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً بدل من غلامه، مع أنه لم يصح أن يقال: زيد رأيت رجلاً صالحاً، لعدم الراجع إلى المبتدأ، وقد ذكر مختصراً منه صاحب "التقريب". وقال القاضي: يجوز أن يكون {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ}: خبر مبتدأ محذوف، أو: مفعول مضمر، أي: هو، أو: أعني. وقلت: في قوله: "لم يستقم؛ لأن الله تعالى لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم" نظر لما لا يجوز أن عليه الصلاة والسلام نقل معنى كلام الله بهذه العبارة، كأنه قيل: قلت لهم شيئاً سوى قولك لي: قل لهم: اعبدوا الله كما سبق في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] على قراءة الياء التحتانية، وقد نص الزجاج أن {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من الهاء، و {أنِ}: موصولة بـ {اعْبُدُوا اللَّهَ}، ومعناه: إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله، ويجوز أن يكون موضعها نصباً على البدل من {مَا}، المعنى: ما قلت لهم شيئاً إلا أن اعبدوا الله، أي: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله، وهذا قريب من قول المصنف: "ما أمرتهم إلا بما أمرتني به بأن اعبدوا الله"؛ لأنه أيضاً وضع ذكرت موضع القول، قال المصنف: كان الأصل ما أمرتهم إلا بما أمرتني به، فوضع القول موضع الأمر نزولاً على قضية الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاًن ودل على الأصل بإقحام {أَن} المفسرة.

فإن قلت: فكيف يصنع؟ قلت يحمل فعل القول على معناه لأن معنى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ): ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به، حتى يستقيم تفسيره بـ (أن اعبدوا اللَّه ربي وربكم). ويجوز أن تكون (أن) موصولة عطف بيان للهاء لا بدلاً. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً): رقيباً كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة، وأنزلت عليهم من البينات، وأرسلت إليهم من الرسل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن تكون {أَن} موصولة عطف بيان للهاء)، قال في "الانتصاف": أراد بعطف البيان السلامة من طرح الأول وخلو الصلة من عائد، ولم يفصل في "المفصل" بين عطف البيان والبدل، إلا في مثل قوله: أنا ابن التارك البكري بشر وأنا المعتمد في عطف البيان الأول، والثاني موضح، وفي البدل المعتمد الثاني، والأول بساط له. قوله: ({وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}: رقيباً)، فإن قلت: إذا كان "الشهيد" بمعنى "الرقيب" لم عدل منه إلى "الرقيب" في قوله: {كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} مع أنه ذيل الكلام بقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؟ قلت: خولف بين العبارتين يميز بين الشهيدين والرقيبين، فكونه عليه الصلاة والسلام رقيباً ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم، بل هو كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول، وأنه تعالى هو الذي يمنع منع الإلزام بنصب الأدلة وإنزال البينات وإرسال الرسل.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك. (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ): القوى القادر على الثواب والعقاب (الْحَكِيمُ): الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصوابٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} بعد قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ن أليس من قبيل قول المصنف قبل هذا في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]: "لا علم لنا بما كان منهم بعدنا وأن الحكم للخاتمة"، فكيف رده هناك بقوله: "وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه"، كما سبق بيانه؟ قلت: ليس منه؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام في صدد التنصل والتبري عما نسب إليه من الكلمة الشنعاء وإثباتها فيهم، يدل عليه قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أي: "الذين عرفتهم عاصين وجاحدين لآياتك ومكذبين لأنبيائك"، كما قال، فأين هذا من ذلك؟ قوله: ({عِبَادُكَ}: الذين عرفتهم) جعل الإضافة في {عِبَادُكَ} بمنزلة التعريف باللام للعهد. الراغب: إن قيل: كيف قال: {عِبَادُكَ} و"العبد" أكثر ما يقال فيمن عبد لا فيمن ملك، وهم لم يعبدوا الله في الحقيقة، إذ قد عبدوا عيسى وأمه؟ قيل: بل "العباد" مستعمل مع الله، فيقال: الناس عباد الله ولا يقال: عباد الأمير إلا على التشبيه، و"العبيد" يقال في الله وفي غيره، ثم الناس كلهم يعبدون الله تسخيراً وقهراً وإن لم يعبدوه طوعاً، فإنهم إذا عبدوا غيره على أنه المنعم عليهم فهم يعبدون الله لأنه هو المنعم، وعلى هذا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93] ن فإن قيل: لو كانوا يعبدون الله بفعلهم لما ذموا؟ قيل: إنما يذمون بقصدهم فيما يفعلون؛ لأنهم يقصدون عبادة غير الله، والإنسان مثاب ومعاقب بنيته، ولهذا قال: "الأعمال بالنيات". وإن قيل: كيف قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، وجواب الشرط إنما يصح فيما يقع في

فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرمٍ في المعقول. بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوع الشرط، وقد عُلم أن هؤلاء عباده عذبهم أو لم يعذبهم؟ قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، وتقديره: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك، أي: من أمرتهم بعبادتك: تنبيهاً أنهم لم يعبدوك فاستحقوا عقابك، إن قيل: وكيف جاز أن يقول: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} فيعرض بسؤاله العفو عنهم مع علمه أنه تعالى قد حكم بأنه من شرك ابلله فقد حرم الله عليه الجنة؟ قيل: إن هذا ليس بسؤال، وإنما هو كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على ما يريد وعلى مقتضى حكمه وحكمته، ولهذا قال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تنبيهاً أنه لا امتناع لحد من عزته، فلا اعتراض في حكمه وحكمته، ولم يقل: "الغفور الرحيم" وإن اقتضاهما الظاهر، قال: أذنبت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل فإن غفرت ففضل ... وإن جزيت فعدل قوله: (لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول)، قال الإمام: غُفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة، قالوا: لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب، وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة، فوجب أن يكون حسناً، بل دل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه الصلاة والسلام. وقال القاضي: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح، فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب،

[(قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)]. قرئ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) بالرفع والإضافة، وبالنصب إما على أنه ظرف لـ (قال)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذات ليمنع الترديد والتعليق. الراغب: قيل: هذا ليس بسؤال، وإنما هو كلام الله تعالى على طريق إظهار قدرته على كل ما يريد وعلى مقتضى حكمه وحكمته، وتنبيه أنه تعالى جمع القدرة والحكمة، فهو قادر على أن يفعل أي المقتضيين أراد، أي: ولهذا قال: {أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقصد سؤال الغفران للكفرة منهم، وإلى نحو هذا قصد الشاعر بقوله: أذنبت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل فإن غفرت ففضل .. وإن جزيت فعدل الانتصاف: إنه لم يوافق السنة؛ فإنهم يجوزون العفو عن الكافر عقلاً، لكن السمع يمنع منه، ولا المعتزلة؛ إذ معتقدهم امتناعها على الله عقلاً لمناقضتها الحكمة. قوله: (وبالنصب إما على أنه ظرف لـ {قَالَ}). أبو البقاء: أي: قال الله تعالى هذا القول في يوم ينفع الصادقين صدقهم، والقول هو: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ}

وإما على أنّ (هذا) مبتدأٌ، والظرف خبرٌ، ومعناه: هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع (يوم ينفع). ولا يجوز أن يكون فتحا، كقوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) [الانفطار: 9] لأنه مضافٌ إلى متمكنٍ. وقرأ الأعمش: (يومٌ ينفع) بالتنوين، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) [البقرة: 48]. فإن قلت: ما معنى قوله: (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عملٍ، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجاء على لفظ الماضي على نحو {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]، وليس ما بعد {قالَ} على الحكاية في هذا الوجه كما في الوجه الآخر. قوله: (ولا يجوز أن يكون فتحاً كقوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ}). روى أبو البقاء عن الكوفيين: {يَوْمَ} في موضع رفع: خبر "هذا"، ولكنه بُني على الفتح لإضافته إلى الفعل، قال: وعندهم يجوز بناؤه وإن أضيف إلى معرف، وعندنا لا يجوز إلا إذا أضيف إلى مبنى، وأنشد الإمام للنابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقال: بُني لإضافته إلى الماضي، وكذلك قوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ} لإضافته إلى {لا}، وقياس الأسماء أن لا تضاف إلا إلى المفردات، فلما خولف في هذه السماء القياس المذكور، وأضيف إلى الجمل، كانت مؤولة بمصدرها فهو مفرد في المعنى، والمخالفة في الثاني أكثر، فلا يرتكب إلا عند الضرورة. قوله: (فليس بمطابق لما ورد فيه)، يعني: ورود الآية لا يطابق إرادة صدق المكلفين

لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم. وعن قتادة: متكلمان تكلما يوم القيامة، أمّا إبليس فقال: إنّ اللَّه وعدكم وعد الحق، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذباً، فلم ينفعه صدقه، وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه. [(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. فإن قلت: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء، فقيل: "ومن فيهنّ؟ " قلت: «ما» يتناول الأجناس كلها تناولاً عاماً، ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيدٍ: ما هو؟ قبل أن تعرف أعاقلٌ هو أم غيرهُ؟ فكان أولى بإرادة العموم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحاصل في الدنيا؛ لأن قوله: {يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في بيان شأن شهادة الله تعالى بصدق عيسى عليه الصلاة والسلام فيما يجيب به الله تعالى يوم القيامة، وهو قوله: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} [المائدة: 116] إلى قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، كأنه تعالى يقول: صدقت فيما أجبت به، وهذا لا يكون في الدنيا فكيف قال: {يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ولم يقل: "صدقت" ليطابق مقتضى الظاهر؟ وأجاب: أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما مهد عذره بتلك العبارات الفائقة البالغة في التبري عما يُنسب إليه ونزه الله التنزيه، قابله الله تعالى بالشهادة له بالصدق بما هو أبلغ مما أتى به في التنصل حيث عم المكلفين كلهم وعم أوقاتهم المختصة بالصدق كلها ليدخل عليه الصلاة والسلام في ذلك العام دخولاً أولياً. قوله: (فكان أولى بإرادة العموم)، يعني: المقام يقتضي العموم و"ما" أعم من غيرها، فكان أولى في الإيراد. وبيان المقام ما ذكره القاضي، قال: في الآية تنبيه على كذب النصارى

عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئاتٍ ورفع له عشر درجاتٍ، بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل: ومن فيهن تغليباً للعقلاء، وقال: {وَمَا فِيهِنَّ} اتباعاً لهم - غير أولى العلم - إعلاماً بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية، وإهانة لهم وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية؛ ولأن ما يُطلق متناولاً للأجناس كلها فهو أول بإرادة العموم، والله تعالى أعلم.

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية، وعن ابن عباس: غير ست آيات وهي مئة وستون آية وخمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأنعام مكية، وعن ابن عباس: غير ست آيات وهي مئة وخمس وستون آية بس الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله: كتبت تفسير هذه السورة بالطائف، عند قبر ابن عباس رضي الله عنهما.

"جَعَلَ" يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى: أحدث وأنشأ، كقوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى: صير، كقوله: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف: 19]. والفرق بين "الخلق" و"الجعل": أن "الخلق" فيه معنى التقدير. وفي "الجعل" معنى التضمين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي "الجعل" معنى التضمين)، ولهذا لا يتصور إلا بين شيئين، ومن ثم قال: "كإنشاء شيءٍ من شيء". الجوهري: "كل شيء جعلته في وعاءٍ فقد ضمنته". قال الراغب: "جعل: لفظ عام في الأفعال كلها، وهو أعم من "فعل"، ويتصرف على خمسة أوجه: أولها: يجري مجرى "صار" و"طفق"، فلا يتعدى. نحو: "جعل زيد يقول كذا". وثانيها: يجري مجرى "أوجد"، فيتعدى إلى واحد. قال تعالى: {وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ {[النحل: 78]. وثالثها: في إيجاد شيءٍ من شيء، وتكوينه منه. قال تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا {[النحل: 72]. ورابعها: في تصيير شيءٍ على حالةٍ دون حالة، نحو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا {[البقرة: 22]، و {جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً {[النحل: 81]، وقال: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا {[الزخرف: 3]. وخامسها: الحكم بالشيء على الشيء؛ حقاً، قال تعالى: {إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ {[القصص: 7]، أو باطلاً، قال تعالى: {ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ {[النحل: 57].

كإنشاء شيءٍ من شيء، أو تصيير شيءٍ شيئاً، أو نقله من مكانٍ إلى مكان، ومن ذلك: (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف: 189]، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)؛ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ: 8]، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص: 5] ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كإنشاء شيءٍ من شيء، أو تصيير شيءٍ شيئاً، أو نقله من مكانٍ إلى مكان): لف، وما بعده: نشر، فقوله: {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا {[الأعراف: 189]، {وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ {[الأنعام: 1] المثالان: نشر لقوله: "كإنشاء شيءٍ من شيء"؛ لأن حواء من ضلع آدم، كما أن الظلمات من تكاثف الأجرام. قال الإمام: "إن النور والظلمة لما تعاقبا كأنما تولد أحدهما من الآخر". وقوله: (وجعلناكم أزواجاً): مثال لتصيير شيءٍ شيئاً، وذلك أن كلاً من الزوجين يفتقر إلى الآخر في حالا الانفراد، وبعد انضمام أحدهما إلى الآخر يصيران زوجين. وقوله: ({أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا {[ص: 5]): مثال للنقل، وذلك أن الكفار كانوا قد حكموا بالشرك والتعدد في الإلهية، فلما جاء الإسلام أبطل حكمهم بالتعدد، وألزمهم حكم التوحيد، كأنه نقل الحكم من التعدد إلى الوحدة. فإن قلت: لم كرر المثال في القسم الأول، ولم يكتف بقوله: {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا {[الأعراف: 189] كما في التوالي؟ قلت: ليوقفك على أن قوله: {وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّور {[الأنعام: 1] من هذا القسم، وأنه المقصود في الإيراد.

فإن قلت: لم أفرد "النور"؟ قلت: للقصد إلى الجنس، كقوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة: 17]، أو لأن الظلمات كثيرة، لأنه ما من جنسٍ من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحدٍ وهو النار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للقصد إلى الجنس)، أي: على ما يعرف كل أحدٍ أن النور ما هو، وهو الكيفية الفائضة من نحو النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية له. وهو وإن كان مفرداً في اللفظ، لكنه متكثر بحسب حصوله في مطارحه، كالظلمات. ومن ثم أفرد "الملك"، مع تعدد المتنزلات، في قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا {[الحاقة: 17]. ونحوه قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني لم يرد لئيماً واحداً في زمانٍ واحد، بل لئاماً لا تنحصر في أزمنة لا تحصى، لأنه يصف نفسه بالحلم والأناة، وأنه دأبه وعادته. قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا {[الحاقة: 17]، أي: جنس الملك على جوانب أفق السماء. قوله: (أو لأن الظلمات كثيرة) إلى قوله: (بخلاف النور)، يعني: جمع {الظُّلُمَاتِ {لكثرة أسبابها، والأجرام الحاملة لها، وأفرد "النور" لإفراد سببه، وهو النار، كما قال: "فإنه من جنسٍ واحد". لكن أسباب النور أيضًا غير واحد، فإن النيرين والكواكب، وغيرها، أسباب شتى. وكذلك قال صاحب "التقريب": "والظلمة أكثر، إذ لكل جرمٍ ظلمة، وليس لكل جرمٍ نور، بل لكل نير". وقال الإمام: "إن النور هاهنا عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل السواد قليلاً قليلاً، وهي لها مراتب كثيرة؛ فلهذا عبر عن "الظلمات" بصيغة الجمع".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى الإمام عن الواحدي، عن ابن عباس: "الظلمات: ظلمة الشرك، والنفاق، والكفر. والنور: نور الإسلام". ونحوه على الحسن. وقال الإمام: "حمل اللفظ على الوجه الأول أولى؛ لأن النور والظلمة حقيقتان في هاتين الكفيفيتين المحسوستين، ولأنهما إذا قرنتا بذكر السماوات والأرض، لا يفهم منهما غير ذلك". قلت: والذي ينصر مذهب الحبر ابن عباس رضي الله عنه الاستعمال والنظم، أما الاستعمال: فإنه تعالى كلما ذكر لفظ "الظلمات" جمعاً، و"النور" مفرداً، أراد الضلالات والهداية. فمن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ {[البقرة: 257]. وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُورًا {، إلى قوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا {[الأنعام: 122]. وقال تعالى: {الّر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ {[إبراهيم: 1]، إلى غير ذلك. وقال القاضي: "الهدى واحد، والضلال متعدد"، قال تعالى: {وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ {[الأنعام: 153]. الراغب: "النور: يعبر به عن العلم والإيمان. والظلمة: عن ضديهما. ووجه ذلك أنه لما كان للإنسان بصران: الحاسة التي في الرأس، والبصيرة [التي] في القلب، فكما أن البصر لا يستغني في إدراك ما يدركه عن ضوء، كذلك البصيرة لا تستغني عن نور التوفيق والإيمان. ويقال لفقد البصرين: عمىً، ولفقدان النورين: ظلمة. وأعظمهما ضرراً فقد البصيرة. ولهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور {[الحج: 46]، فلم يعد فقد البصر عمىٍ بالإضافة إلى فقد البصيرة. وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ {يعني بذلك كلا النورين، وكلتا الظلمتين". وأما المعنى والنظم: فإن لفظة "ثم" الاستبعادية في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا {تقتضي أن يكون ما قبلها مما يوفى فيه جميع ما يزيل الشبهة عما بعدها من الكفر والعدول عن الحق إزالةً تامة، بحيث لا يبقي معه لأحدٍ متمسك يتشبث به، كقوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا {[السجدة: 22]. وذلك إنما يتم إذا حمل قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على نصب الأدلة على معرفة الله وتوحيده، وقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على وضع الشرائع، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، لبيان طرق الضلالات، والإرشاد إلى الطريق المستقيم. ومثله قرر المصنف في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ {[آل عمران: 18] حيث قال: "شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد بشهادة الشاهد في البيان والكشف". وتلخيص المعنى: أنه لم يبق بعد تلك البيانات الشافية، والدلائل الواضحة، حجة وتشبث للراكب على متن الضلال؛ فبعيد من الناظر المهتدي، بعد ذلك، ألا ينخلع من ضلاله وكفره، مع ذلك هؤلاء يعدلون به ما لا يقدر على شيءٍ من ذلك.

فإن قلت: علام عطف قوله: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)؟ قلت: إما على قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، على معنى: أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلق؛ لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته، وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: (إنما قدم الظلمات على النور، لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها. جاء في الحديث: أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم رش عليهم من نوره". وقلت: الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل، والترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذٍ، فمن أصابه من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل". وفي رواية الترمذي: "فلذلك أقول: جف القلم بما هو كائن". قوله: (وإما على قوله: {خَلْقِ السَّمَوَاتِ {. يعني أن الكفر يصح أن يحمل على معنى الشرك تارة، وعلى كفران النعمة أخرى، ويحسب هذين المعنيين يدور معنى {يَعْدِلُونَ {على هذا من العدول، والباء صلة {كَفَرُوا {على حذف المضاف، أي: كفروا بنعمة ربهم، وإليه الإشارة بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا {به، أي: بالله {يَعْدِلُونَ {عن الحق، فيكفرون نعمته. وفي قوله: "إن الله حقيق بالحمد على ما خلق" معنى ترتب الحكم على الوصف. وإنما ترك متعلق {يَعْدِلُونَ {على هذا ليقع الإنكار على نفس الفعل، وحقيقة العدول.

على معنى: أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا جعل بمعنى الشرك، يجب أن يعطف على {خَلَقَ السَّمَوَاتِ {، لأن كفرهم بتسويتهم الأصنام بخالق السموات والأرض، كقوله تعالى حكايةً عن قول الكفار يوم القيامة: {تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ {[الشعراء: 97 - 98]. و {يَعْدِلُونَ {على هذا بمعنى: "يسوون"، ليستقيم معنى الشرك، والباء متعلق به. وإليه الإشارة بقوله: "خلق ما خلق" إلى آخره. وإلى الوجهين ينظر معنى الحديث الذي أورده المصنف في البقرة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ {[البقرة: 172]، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني والجن والإنس في نبأٍ عظيمٍ: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري". وعلى الوجهين قوله: {رَبِّهِمْ {مظهر أقيم مقام المضمر، للعلية. وعلى الأول معناه: التربية، وعلى الثاني: المالكية والقهر، و {الْحَمْدُ {على الأول: محمول على الشكر اللساني، وعلى الثاني: الثناء على الجميل. قال صاحب "الانتصاف": في العطف على قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ {نظر؛ لأن العطف على الصلة يوجب الدخول في حكمها. ولو قلت: الحمد لله الذي الذين كفروا بربهم يعدلون؛ لم يستقم. ويحتمل أن يقال: وضع الظاهر موضع المضمر تفخيماً، ونظيره: {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ {[آل عمران: 81] فيمن جعلها موصولةً لا شرطية. يريد أن "ما" في قوله تعالى: {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ

ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت: فما معنى (ثم)؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام: 2] استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ {[آل عمران: 81] إذا جعلت موصولةً لابد من راجعٍ في الصلة، فينبغي أن يجعل "ما معكم" في موضع الضمير الراجع، أي: مصدق له. وقلت: ليس بذلك، لأنه من باب عطف حصول مضمون الجملتين، لقوله: "إنه خلق ما خلق، ثم هم يعدلون به". يعني: حصل من الله عز وجل خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور للمكلفين، ليعرفوه، ويوحدوه ويعبدوه، فحصل منهم عكس ذلك، حيث سووا معه غيره، نحو قوله تعالى: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ {[الواقعة: 82]، فموقعه الفاء في الظاهر، فجيء بـ {ثُمَّ {للاستبعاد، ولأنه ليس من موضع وضع المظهر موضع المضمر، لأنه ابتداء كلام الكفار، على أنه لو قيل: ثم الكافرون والمشركون، كان ظاهراً أيضاً. فإن قلت: {الحّمْدُ {هو: الثناء على الجميل، من نعمةٍ أو غيرها، فما معنى هذا الترتيب؟ قلت: معناه بيان فضله، وكمال حلمه ورحمته، كأنه قيل: ما أحلمه! وما أرحمه! لما يصدر منه تلك الفضائل والإنعام، وتقابل بذلك الكفر والكفران، ولا يصب عليهم العذاب صبا! كما في قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا {[الفرقان: 6]. قوله: (يعدلون به)، الأساس: "لا عدل له: لا مثل له. وما يعدلك عندي شيء: أي ما يشبهك". قوله: (وكذلك {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {استبعاد). يعني: ذيل كلا من الآيتين بكلمة "الاستبعاد" بحسب ما تقتضيه من المعنى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما الآية الأولى: فلما تضمنت دلائل الآفاق من الأجرام والأعراض، ذكر منها أعظمها جرماً في النظر، وأشملها تناولاً للأعراض، ليدخل في الأول سائر الأجسام، من الكبير والصغير، وفي الثاني جميع الأعراض: الظاهرة والخفية. ولهذا فسره الزجاج بالليل والنهار، والقاضي بالضلال والهداية. والدليل على الاستيعاب: الجمع في أحد المكررين، والإفراد في الآخر، لأن في ذكر "الأرض" و"النور" مفردين، واقترانهما بالجمعين، إشعاراً بإرادة الجنسية في الإفراد، والاستغراق في الجمع. وفي ذكر "الخلق" و"الجعل" إشارةً إلى استيعاب الإنشاءين. ثم إن الله تعالى بعد هذا الكلام الجامع، والبيان الكامل، نعي على الكفار بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {[الأنعام: 1] يعني: انظروا إلى هؤلاء الكفار، مع ظهور هذه الأدلة كيف يتركون عبادة خالق الأرض والسماوات، ويشتغلون بعبادة الحجارة والموات! وإليه الإشارة بقوله: "استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته". وأما الآية الثانية، فلما اشتملت على دلائل الأنفس، ذكر فيها المبدأ والمنتهي تصريحاً، ولوح إلى ما يتوسطهما تلويحاً: ذكر خلقهم من طين، ونص على الأجلين، وعبر بـ {ثُمَّ {دلالةً على أطوار ما في النشء من النطفة، والعلقة، والمضغة المخلقة وغير المخلقة، والنشء حياً،

[(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)]. (ثُمَّ قَضى أَجَلًا): أجل الموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ): أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل: ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم الطفولة، والشباب، والشيخوخة، إلى الموت. ونبه بذكر الامتراء، والعدول من الغيبة في قوله: {بِرَبِهِمْ {، إلى الخطاب في قوله: {أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {على التنبيه عن رقدة الغفلة والجهالة، وأن دلائل الأنفس أقرب الدلائل وأدق، وهي التي يضطر معها الناظر إلى المعرفة التامة. وتلخيص المعنى: أن دلائل الآفاق موجبة لإزالة الشرك وإثبات التوحيد، فناسب أن يستبعد منهم الشرك مع وجودها، وأن دليل الأنفس مقتضٍ لحصول الإيمان، فناسب أن يستبعد منهم الامتراء. قوله: (وقيل: الأجل الأول: ما بين أن يخلق)، وعلى هذا: الأجل عبارة عن جميع المدة. وعلى الأول عن آخرها. وإنما لم يؤخذ بهذه الأقوال لأنه لم يرتبط قوله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {بما قبله كما ينبغي أن يكون.

فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره. فلم جاز تقديمه في قوله: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [البقرة: 221]. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولي عبدٌ كيس، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع، ودلائل التوحيد وما يتصل بها. انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه، ومآله إلى قوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفًا {[الأنعام: 78 - 79]. وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله عليه بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ {[الأنعام: 90] بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد، ولجة بحر التوحيد! ثم تفكر في قوله: {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ {[الأنعام: 162 - 163] كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان من له تحت كل سورةٍ من كتابه كريم، بل كل آيةٍ وكلمةٍ، أسرار ينفد دون نفاد بيانها الأبحر! قوله: (الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد). هذا السؤال غير واردٍ على القياس اللغوي، لأنهم إنما يوجبون تقديم الظرف إذا لم يكن المبتدأ مخصصاً، كما سبق في الكتاب. وعليه كلام صاحب "المفتاح" حيث قال: "ولا يجب التقديم على المنكر إذا كان موصوفاً. قال تعالى: {وأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ {[الأنعام: 2]. ولكن وارد على استعمال الفصحاء فإنهم أوجبوا التقديم ولو كان مخصصاً"، ولهذا قال: "الكلام السائر".

وما أشبه ذلك؛ فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأي أجلٍ مسمى عنده! تعظيماً لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه عن صاحب "المثل السائر". ورد في التنزيل: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ {[ص: 23]. فلفظة: {لي {مقدمة جاءت حسنة، وإذا جاءت منقطعةً لا تجيء لائقة، كقول المتنبي: تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فلا يقول لشيءٍ: ليت ذلك لي وإذا خولف الاستعمال، وأزيل من مقره، دل على الاهتمام بشأنه، والاعتناء بذكره، فيحمل التنكير فيه على التعريف والتعظيم. فقال: "وأي أجل مسمىٍ عنده"، ليؤذن بالفرق بين الأجلين. ومن ثم أتم معنى التخصيص بتعظيم قوله: {عِندَهُ {وحسن كذلك أن يوقف على {أَجَلاً {. قال صاحب "المرشد": وحسن الوقف على قوله: {أَجَلاً {ليفصل بينه وبين الآخر، وهو البعث والنشور. قوله: (وأي أجل مسمى عنده): بيان لمعنى التنكير والتهويل فيه، لا أن الكلام متضمن لمعنى الاستفهام كما ظن: قال المصنف في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ {[البقرة: 5]: "نكر {هُدًى {ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه، كأنه قيل: على أي هدى". فظهر من هذا الفرق بين قول صاحب "المفتاح": ولا يجب التقديم على المنكر إذا كان موصوفاً، وبين قول صاحب "الكتاب": (أوجبه أن المعنى: وأي أجلٍ مسمى عنده! تعظيماً)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه نظر إلى القياس النحوي، والمصنف إلى استعمال الفصحاء، كما بينا أن المراد ها هنا تعظيم هذا الأجل، للفرق بين الأجلين، وما يكون معظماً مفخماً لابد أن يكون مهتماً بشأنه، والاهتمام موجب للتقديم. وهو المراد بقوله: (فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم". وقال صاحب "الانتصاف": التعظيم لا يوجب التقديم. وقد ورد: {وعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ {[الزخرف: 85]. والمراد: تعظيمها. وقال صاحب "الإنصاف": "ولو مثل بقوله: {ولَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ {[المؤمنون: 62] كان أحسن، لأنه نكرة موصوفة، و {عِلْمُ السَّاعَةِ {معرفة". وقلت: أما تنظير صاحب "الانتصاف" فبعيد المرمى لفظاً ومعنىً، أما اللفظ فلما ذكر، وأما المعنى فلأن ذلك المقام يقتضي الاختصاص والحصر لا التعظيم، أي: عنده علم الساعة لا عند غيره. ونحو قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ {[الكافرون: 6]. وأما التنظير الآخر فإنه وارد على مقتضي الاستعمال، ولا موجب لإزالته عن مفره، إذ موجب التقديم في تلك الآية الفرق بين الأجلين، ولا يراد ها هنا الفرق بين الكتاب وغيره، يعلم ذلك مما سبقه من قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وهُمْ لَهَا سَابِقُونَ* ولا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا ولَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ {[المؤمنون: 60 - 62]. قال القاضي: والاستئناف به لتعظيمه، ولذلك نكر، ووصف بأنه {مُسَمٍّى {، أي: مثبت

[(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)]. (فِي السَّماواتِ) متعلق بمعنى اسم "الله"، كأنه قيل: وهو المعبود فيها، ومنه قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف: 84]، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له: "الله" فيها، لا يشرك به في هذا الاسم، ويجوز أن يكون (اللَّهُ فِي السَّماواتِ) خبراً بعد خبر؛ على معنى: أنه الله، وأنه في السموات والأرض، بمعنى أنه عالمٌ بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معين، لا يقبل التغيير، وأخبر عنه بأنه "عند الله"، ولا مدخل لغيره فيه بعلمٍ ولا قدرة، ولأنه المقصود ببيانه. قوله: ({فِي السَّمَوَاتِ {متعلق بمعنى اسم "الله"). قال الزجاج: لو قلت: "هو زيد في المدينة"، لم يجز، إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيداً قد يدبر أمر المدينة. ونقل أبو البقاء عن أبي علي أنه قال: لا يجوز أن يتعلق باسم "الله"، لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله، كالعلم. ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًا {[مريم: 65]. والمصنف اختار مذهب الزجاج، وزاد عليه في الاعتبار، وأول التركيب على وجوه؛ أحدها: جعل اسم "الله" مشتقاً من "أله يأله": إذا عبد. فالإله: فعال في معنى المفعول، أي: المألوه، وهو المعبود. ثم تصرف فيه، فصار "الله" كما سبق. هذا هو المراد من قوله: "وهو المعبود فيها".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثانيها: جعل معنى شهرته في الإلهية عاملاً في الظرف. قال: هو كما تقول: "هو حاتم في طيء"، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به، كأنك قلت: "هو جواد في طيء". ومنه قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري أي: أنا ذلك المشهور في الفصاحة، وشعري هو المعروف بالبلاغة. وهو الذي عناه بقوله: >وهو المعروف بالإلهية". وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {فِي السَّمَوَاتِ {: حال مؤكدة، أي: وهو الله معروفاً في السموات والأرض، كقولك: "هو زيد معروفاً في العالم"ز وقال المالكي: لا تكون الحال المؤكد بها خبر جملة جزآها معرفتان جامدتان، إلا بلفظٍ دال على معنىً لازم، أو شبيه باللازم، في تقدم العلم، والعامل فيها: "أحقه" أو "أعرفه". وهذا أولى من قول الزجاج: العامل هو الخبر لتأويله بمسمى، ومن قول ابن خروف: "إن العامل هو المبتدأ" لتضمنه معنى التنبيه. وثالثها: أن يكون رداً للمشركين في إثبات إلهٍ غيره. قال الزجاج: والمعنى: هو المتفرد في التدبير في السموات والأرض، خلافاً للقائل المخذول بأن المدبر فيهما غيره. وإليه الإشارة بقوله: "المتوحد بالإلهية فيها".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب: وفائدة قولك: "أنا زيد"، أو: "هو زيد" الإخبار عما كان يجوز أنه متعدد، بأنه واحد في الوجود. وهذا إنما يكون إذا كان المخاطب قد عرف مسميين في ذهنه، أو أحدهما في ذهنه، والآخر في الوجود، فيجوز أن يكونا متعددين. فإذا أخبر المخبر بأحدهما عن الآخر، كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة. ورابعها: أن يكون مأخوذاً من قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًا {[مريم: 65]. وهو المراد من قوله: "وهو الذي يقال له: "الله" فيها، لا يشرك به في هذا الاسم". وهو اختيار أبي علي. وخامسها: ألا يكون {فِي السَّمَوَاتِ {متعلقاً بالاسم، وذلك بأن يكون خبراً بعد خبر، وهو المراد من قوله: "أنه الله، وأنه في السموات". أما قوله: "أن يكون {اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ {خبراً بعد خبر" فمعناه أنهما خبران متعاقبان؛ لأن قوله: {فِي السَّمَوَاتِ {وحده خبر بعد خبر، لا كليهما. قال صاحب "الفرائد": إذا كان خبراً بعد خبر، كان معناه أنه عالم بما فيها، كقوله تعالى: {وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {[الحديد: 4] أي: بالعلم والقدرة. فإذا جاز هذا فأي ضرورةٍ في ما ذكر من التقديم البعيد؟ أي: كأن ذاته فيها. قلت: الضرورة بيان فائدة العدول عن إثبات العلم، إلى هذه العبارة، والإشعار بأنها من باب الكناية، وأن علمه الكامل شامل لما ظهر فيها وما بطن. ومن ثم فصل قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ ويَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ {بياناً موضحاً لهذه الجملة. وعلى هذا قوله تعالى: {وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {الآية [الحديد: 4].

فإن قلت: كيف موقع قوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريراً له؛ لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وكذلك إذا جعلت (في السموات) خبراً بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ؛ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبر ثالث. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب. [(وَما تَاتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ* فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. (مِنْ) في (مِنْ آيَةٍ) للاستغراق، وفي (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) للتبعيض، يعني: وما يظهر لهم دليلٌ قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلا فهو كلام مبتدأ)، أي: وإن لم يرد بقوله تعالى: {وهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ {[الأنعام: 3] المتوحد بالإلهية فيها، وأنه الله، ولا أنه عالم بما فيها، فكان كلاماً مبتدأ مستأنفاً، لأنه على التقديرين تأكيد وتقرير لمعناهما، كما قرره، بقي أن يراد: هو المعبود فيها، أو هو المعروف، أو هو الذي يقال له: الله فيها. فهو على هذه الوجوه استئناف. وبيان السؤال على الأول أنه لما قيل: هو المعبود فيها، اتجه لسائلٍ أن يسأل: فما شأنه مع عابده حينئذ؟ فأجيب: يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم ما يكسبون، فيجازيهم على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وعلى الثاني والثالث: السؤال: بماذا عرف فيهما؟ وما وصفه فيهما؟ فقيل: وصفه فيهما بالعلم الشامل الكلي والجزئي، كما سبق في آخر "المائدة"، في قوله تعالى: {إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ {[المائدة: 109]. قال المصنف: " (علام الغيوب) قرئ بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله: {إنَّكَ أَنتَ {، أي: إنك موصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره".

(إلا كانوا عنه معرضين): تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب. (فَقَدْ كَذَّبُوا) مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آيةٍ وأكبرها، وهو الحق، (لَمَّا جاءَهُمْ) يعني: القرآن الذي تحدّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه، (فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْباءُ) الشيء الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن، أي: أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأي: شيءٍ استهزؤوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته. [(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مردود على كلامٍ محذوف)، أي: شرطٍ محذوف، ونحوه قول الشاعر: قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا أي: إن صح ما قلتم من أن خراسان المقصد، فقد جئنا، وأين لنا الخلاص؟ قوله: (أو عند ظهور الإسلام). فإن قلت: اتصال قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم {بما قبله على أن المراد بالأنباء في قوله: {فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {ظاهر، لمناسبة الاعتبار بنزول العذاب على الأمم السالفة بالتهديد والوعيد. فما وجه اتصاله به إذا أريد به ما قال: "عند ظهور الإسلام"؟

مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها، ونحوه: أرّض له، ومنه قوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف: 84]، (أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) [القصص: 57]، وأمّا "مكنته في الأرض": فأثبته فيها. ومنه قوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف: 26]، ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم؛ من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا. و(السماء): المظلة؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: معناه: فسوف يأتيهم أنباءُ القرآن، ومن نزل عليه عند تباشير الظفر، ونصرة الله الإسلام، وقهر أعداء الدين، وغلبة أوليائه، أولم يروا كم أهلكنا من قبلهم من المكذبين، ونصرنا الأنبياء وضعفة المؤمنين على من هم أشد من هؤلاء! قوله: (ولتقارب المعنيين جمع بينهما). يعني: قوله: "مكن له في الأرض"، وقوله: "مكنته في الأرض" بعد التفرقة بينهما من حيث اللفظ والمعنى منزلان منزلة معنىً واحدٍ في إعطاء معنى الكتابة، ويجمعهما كون الموصوف بهما في منعةٍ من الرجال، والسعة في الأموال والمآل والأحوال. وإليه الإشارة بقوله: "لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة، والسعة، والاستظهار". وتحريره: أن كونهم ثابتين في الأرض يدل على أنها جعلت مكاناً لهم، وهو يدل على كونهم في الاستظهار بأسباب الملك، في غايةٍ من الكمال. ويعضده قوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا* إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ {، ثم بينه بقوله: {وآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا* فَأَتْبَعَ سَبَبًا {[الكهف: 83 - 85]. قوله: (لأن الماء ينزل منها إلى السحاب). يعني: قال تعالى: {وأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا {

أو السحاب أو المطر. و"المدرار": المغزار. فإن قلت: أي: فائدةٍ في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً، ويخرب بلاده منهم؛ فإنه قادرٌ على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس: 15]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الأنعام: 6]، وإنما المرسل هو السحاب، لأن الماء ينزل من المظلة إلى السحاب. قوله: (والمدار: المغزار). قال الزجاج: {مِّدْرَارًا {: أي داراً ذات غيثٍ كثير. و"مفعال" من أسماء المبالغة، كقولهم: "امرأة مذكار": إذا كانت كثيرة الولادة للذكور. وكذلك "مثنات" من الإناث. قوله: (إنشاء قرنٍ آخرين بعدهم). قال الزجاج: القرن: أهل كل مدةٍ كان فيها نبي، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قوله: (ويخرب بلاده منهم). ضمن "خرب" معنى "أخلى"، وعداه بـ"من"، أي: أخلى الله تعالى بلاده منهم، فهي خربة. قوله: (كقوله تعالى: {ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا {[الشمس: 15]). يعني: وزان قوله تعالى: {وأَنشَانَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {[الأنعام: 6]، وزان قوله: {ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا {[الشمس: 15] في كونه تقريراً للكلام السابق، وتتميماً لمعنى عدم المبالاة. كأنه قيل: فأهلكناهم بذنوبهم، وما خفنا

[(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ* وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)]. (كِتاباً): مكتوباً، (فِي قِرْطاسٍ): في رق، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا: سكرت أبصارنا، فيبقى لهم علة. لقالوا: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعناداً للحق بعد ظهوره. (لَقُضِيَ الْأَمْرُ): لقضي أمر هلاكهم، (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقباهم، وذلك أن المتسلط على تخريب الديار، وقلع الآثار، إنما يخاف من عقبى الأمر إذا لم يقدر على إنشاء مثل ما خربه ودمره، وأما من هو قادر على إنشاء مثله، فلا يخاف عقباها. قال: "فلا يخاف عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقبٍ من الملوك، فيبقي بعض الإبقاء". قوله: (ولم يقتصر بهم على الرؤية): عطف على محذوف، يعني: ضم مع قوله تعالى: {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ {، قوله: {فَلَمَسُوهُ {، ولم يقتصر على الرؤية، للتتميم والمبالغة. قوله: (لقالوا: {إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {) إنما أتي بالضمير، وفي التنزيل: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا {ليؤذن أن قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا {مظهر وضع موضع المضمر للعلية. قوله: (سكرت أبصارنا) أي: حبست من النظر، على المجاز. كذا في "الأساس". قوله: (لقضي أمر هلاكهم). قال الزجاج: "أي: لتم إهلاكهم. و"قضى" على ضروب، ومرجعها إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه".

إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، وهي آيةٌ لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [الأنعام: 111]- لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملك، فيجب إهلاكهم، وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى (ثُمَّ): بعد ما بين الأمرين؛ قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر؛ لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة. (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً): ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا - لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمدٍ ملك! وتارةً يقولون: (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون: 33]، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن). فإن قيل: هذا يؤذن أن هذه الآية أبين من سائر المعجزات، مثل: انشقاق القمر، وفلق البحر، وإحياء الموتى، قلت: نعم، لأنه أراد بقوله: "لأنهم إذا عاينوا الملك": الملك المطلوب، والآية المقترحة، ولا ارتياب أنه لا شيء أبين منها في إزاحة العلل، وأيقن لنزول العذاب. ولذلك أتي بقوله: "كما أهلك أصحاب المائدة" مستشهداً به، لأنها أيضاً كانت مقترحة، فأهلكوا بالمسخ. قوله: (لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف)، يعني: إذا نزلت الملائكة، اضطروا إلى الإيمان، وقاعدة التكليف الاختيار. هذا في حق الكفار عند نزول العذاب بعد الإنذار، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا {[غافر: 85]. وأما المؤمنون إذا رأوا الملائكة، فيزيد إيمانهم، {ومَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ ولِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ {[آل عمران: 126]. قوله: (وتارة يقولون). اعلم أن "تارة" مقتضية مقارنتها، وهي محذوفة، إذ التقدير:

(لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت: 14]- (لَجَعَلْناهُ رَجُلًا): لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم، (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ): ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، ... .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنهم تارة كانوا يقولون: لولا أنزل على محمدٍ ملك، وتارةً يقولون: {مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ {[المؤمنون: 24]، فأوجب ذلك أن يجعل الضمير في قوله: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا {لما يقال له: الرسول، سواء كان مبعوثاً إليهم لما قالوا: {مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ {[المؤمنون: 24]، أو إلى من هو مبعوث إليهم لما قالوا: لولا أنزل على محمدٍ ملك. فلذلك فسر الضمير بالرسول المطلق في قوله: "ولو جعلنا الرسول ملكاً"، وعلله بقوله: "لأنهم كانوا يقولون" إلى آخره. فقوله تعالى: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ {: عطف على: {ولَوْ نَزَّلْنَا {، فأردف الجواب بجواب آخر، أعم منه، قلعاً لشبههم من سنخها. قال القاضي: " {ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا {: جواب ثانٍ إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراحٍ ثان، فإنهم تارةً يقولون: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {، وتارة يقولون: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً {[فصلت: 14] ". وما ذهب إليه المصنف أقضى لحق البلاغة، لاشتمال الجواب على المطلوب، وعلى غيره. قوله: (في صورة دحية). قال صاحب "الجامع": "دحية: بكسر الدال وسكون الحاء

فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان: هذا إنسانٌ وليس بملك، فإن قال لهم: الدليل على أني ملكٌ أني جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطقٌ بأني ملك لا بشر، كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو ليس الله عليهم. ويجوز أن يراد: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ حينئذٍ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة، وقرأ ابن محيصن: "ولبسنا عليهم"، بلامٍ واحدة. وقرأ الزهري: "وللبسنا عليهم ما يلبسون"، بالتشديد. [(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المهملة، كذا يرويه أكثر أصحاب الحديث، وأهل اللغة، وقال الأمير أبو نصر بن ماكولا: هو بالفتح"، وهو الذي كان ينزل جبريل عليه السلام في صورته. قوله: (ويجوز أن يراد: وللبسنا عليهم حينئذٍ)، اعلم أن {مَّا {في قوله: {مَّا يَلْبِسُونَ {: إما موصولة، والعائد محذوف، وهو مفعول {ولَلَبَسْنَا {، كما ذكره أبو البقاء. وعليه الوجه الأول في الكتاب، ومن ثم قدر "حينئذٍ" بعد تمام الكلام. والمراد باللبس: الخلط في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. المعنى: لخلطنا عليهم الذي يخلطونه على أنفسهم، في كون الرسول ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً. هذا على مذهب أهل السنة ظاهر، دون مذهبهم، ولهذا أول اللبس بالخذلان، حيث قال: "خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو لبس الله عليهم".

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه، (فَحاقَ) بهم: فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به. [(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)]. فإن قلت: أي: فرق بين قوله: (فَانْظُروا) وبين قوله: (ثُمَّ انْظُرُوا)؟ قلت: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله: (فَانْظُروا)، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو مصدرية، وهو مفعول مطلق، والكلام فيه تشبيه، وحينئذ لبس الله غير لبسهم. ولهذا كرر الظرف، حيث قال أولاً: "حينئذٍ"، وثانياً: "الساعة". والمراد باللبس: الكفر في أمر آيات الله، وهو ما يعلم من قوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {[الأنعام: 7]. وإليه الإشارة بقوله: "في كفرهم بآيات الله البينة". قوله: (حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به). يعني أن قوله: {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {من باب إطلاق السبب على المسبب، لأن المحيط بهم هو العذاب، لا المستهزأ به، ولما كان سبباً له وضع موضعه للمبالغة. قوله: (أي فرقٍ بين قوله: {فَانظُرُوا {)، أي: في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا {[آل عمران: 137].

فمعناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بـ (ثم)، لتباعد ما بين الواجب والمباح. [(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)]. (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال تبكيت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إباحة السير في الأرض للتجارة ... ، وإيجاب النظر). يريد: الأمر على الأول واحد مقيد، وعلى الثاني شيئان: فالأول مباح، والثاني واجب، بدلالة {ثم {. قال صاحب "التقريب": "إنما لم يحمل على التراخي، وعدل إلى المجاز، إذ واجب النظر في آثار الهالكين حقه ألا يتراخي عنه السير". وقلت: يمكن أن يأمرهم بالسير أولاً، وبالنظر ثانياً على الوجوب، ويكون الثاني أعلى رتبة، لأن الكلام مع المنكرين، كما تقول: "توضأ ثم صل"، والآية مع الفاء متضمنة للتنبيه على الغفلة، أو للتوبيخ على التغافل، ومع "ثم" للتعبير على التواني والتقاعد. وإلى الأول الإشارة بقوله: "ولا تسيروا سير الغافلين". الراغب: "قيل: حث على السياحة في الأرض بالجسم، وقيل: على إجالة الفكر، ومراعاة أحواله، كما روي في وصف الأنبياء عليهم السلام: أبدانهم في الأرض سائرة، وقلوبهم في الملكوت جائلة". قوله: (سؤال تبكيت)، الأساس: "ومن المجاز: بكته بالحجة، أي: غلبه. وبكته: ألزمه ما عيي بالجواب عنه".

و (قُلْ لِلَّهِ) تقريرٌ لهم، أي: هو الله، لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره، (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي: أوجبها على ذاته؛ في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيءٍ بقوله: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيجازيكم على شرككم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: إذا سئلوا عن قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ {[الأنعام: 12]، لا محيد لهم إلا أن يقولوا: لله، {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ {[لقمان: 25]. قوله: (و {قُل لِّلَّهِ {: تقرير)، قيل: أي إلجاء إلى الإقرار. الجوهري: "تقرير الإنسان بالشيء: حمله على الإقرار به"، والأولى أن يكون من تقرير الشيء: إذا جعل في مكانه. الجوهري: "قررت عنده الخبر حتى استقر". أي: قرر الجواب لأجلهم، فكأن قوله قولهم، لأنه لا خلاف بينه وبينهم. وهذا هو المراد من قوله: "لا خلاف بيني وبينكم". قال الإمام: "أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال أولاً، وبالجواب ثانياً. وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع". قوله: (أوجبها على ذاته؛ في هدايتكم إلى معرفته) إلى آخره. قال القاضي: " {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {: التزمها فضلاً وإحساناً. والمراد بالرحمة: ما يعم الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استئناف وقسم للوعيد في إشراكهم وإغفالهم النظر، أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، أو في يوم القيامة. و"إلى" بمعنى: في". وقال الزجاج: يجوز أن يكون تمام الكلام: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {، ثم استأنف {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {، ويجوز أن يكون {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {بدلا من {الرَّحْمَةَ {، وفسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة. والإمهال: الرحمة. وقلت: تفسير الرحمة بالعموم أولى، لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب كتاباً، فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي"، وفي رواية: "غلبت غضبي". والحمل على الاستئناف أقضى لحق البلاغة، وذلك أن للكفار - عند ذلك السؤال المبكت، والجواب المقرر المسكت - أن يزعموا: ما بال هذا العزم القوي والتشديد فيه؟ فيقال لهم: لأنكم ما خلقتم سدى، ما خلقكم الله إلا لرحمته، تعرفونه، وتعبدونه، وتفعلون ما تستأهلون به رحمته، لأنه واسع الرحمة، والله يدعو إلى دار السلام. ويؤيده قول محيي السنة: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {: استعطاف منه للمتولين عنه إلى الإقبال عليه، وإخبار بأنه رحيم بالعباد، ولا يعجل العقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة.

وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) نصبٌ على الذم، أو رفع؛ أي: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت: معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إن القوم لما كانوا ممن طبع على قلوبهم، لهم أن يقولوا عند الأمر بالتكليف، وترك العبادات، وأنهم خلقوا ليعملوا فيجازوا به: ليس الأمر كذلك، بل {نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْر {[الجاثية: 24]. فوبخوا عند ذلك بقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {[المؤمنون: 115]. وإدخال لام القسم دل على الترقي في الإنكار، كقول الرسل: {إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ {[يس: 16] في الكرة الثانية. قوله: (معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى). قال الإمام: هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان. وذلك عين مذهب أهل السنة. وقال صاحب "الفرائد": "ويمكن أن يقال: من أضاع رأس المال، لم يحصل له الربح. ورأس المال هو نفس الحياة، والربح الإيمان، فإذا أضاعها فيما لا يعنيه فقد أهلكها، فلم يحصل له الربح". هذا أقرب إلى أصول المعتزلة. كما أن قول المصنف عين مذهب أهل السنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مدار هذين القولين على معنى الذم في قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، فإذا حمل على قوله: "أريد الذين خسروا أنفسهم" كان الأولى أن يجري على العموم، ليدخل هؤلاء فيه دخولاً أولياً. فحينئذٍ يتوجه عليه سؤال المصنف، ونطبق عليه جوابه. وإذا حمل على "أنتم الذين خسروا أنفسهم" ليختص بالمخاطبين، كان المناسب ما ذهب إليه صاحب "الفرائد". والذي يقتضيه النظم أن الآية كالتذييل لما سبق، وذلك أن الكلام من ابتداء السورة في حق المعاندين الممترين، ذكرهم آيات الآفاق والأنفس، ثم أنذرهم بإهلاك من هم أشد منهم تمكناً في الأرض، ثم وبخهم على قولهم في الكتاب: إنه {سِحْرٌ مُّبِينٌ {، وعلى اقتراحهم: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {، وأرشدهم إلى السير في الأرض للاعتبار، ومكنهم، وقررهم، وعرضهم لرحمة الله الواسعة، ثم بعد الإياس من إيمانهم أتى بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، أي: في علم الله {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {ذماً لهم، وتسليةً للرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تذهب نفسه عليهم حسرات. نحوه ما سبق في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ {[البقرة: 7] بقوله: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {[القرة: 6]. ولهذا أوقع الفاصلة بين

[(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]. (وَلَهُ) عطفٌ على (الله)، (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى، وتعديه بفي كما في قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [إبراهيم: 45]. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيءٌ مما يشتمل عليه الملوان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهَارِ {الآية، وبين المعطوف عليه، لأن لهما مدخلاً في التسلي. قوله: ({ولَهُ {عطف على: {لِلَّهِ {) أي: قل: لله ما في السموات والأرض، {ولَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهَارِ {). يعني: "سكن" من السكني، جاء متعدياً بنفسه وبـ"في". وقال في "الأساس": "وسكنوا الدار، وسكنوا فيها. وأسكنتهم الدار، وأسكنتهم فيها". ومقصوده من جعله من "السكنى" دون "السكون": التعميم والشمول، إذ لو جعل من السكون الذي يقابل الحركة، لفات الشمول الذي عناه بقوله: "مما يشتمل عليه الملوان"، واقتضاه عطف {ولَهُ {على: {لِلَّهِ {. كما قال صاحب "التقريب": وإنما أدرجه، يعني: قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ {تحت قوله: {قُلْ {، ولم يجعله مستأنفاً، كما هو السابق إلى الفهم، ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين إيذاناً بأن له ما استقر في الأمكنة، وما استقر في الأزمنة. وعليه معنى كلام الزجاج.

[(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)]. (أ) وَلي (غَيْرَ اللَّهِ)؟ همزةُ الاستفهام دون الفعل الذي هو (أَتَّخِذُ)؛ لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم، ونحوه: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر: 64]، (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس: 59]. وقرئ: (فاطِرِ السَّماواتِ) بالجرّ صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري: "فطر" ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: "ويجوز أن يكون من السكون أيضاً، أي: وله ما سكن فيهما، أو تحرك. فاكتفي بأحد الضدين عن الآخر". وقلت: ثم المناسب أن يكون قوله: {وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ {مردوداً إلى المعطوف والمعطوف عليه، أي: يعلم كل معلوم من الأجناس المختلفة في السموات والأرض، ويسمع هواجس كل ما سكن في الملوين من الحيوان وغيره. وعلى ما ينبئ عنه كلام المصنف أنه من تتمة قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ {لقوله: "مما يشتمل عليه الملوان". قوله: (لأن الإنكار في اتخاذ غير الله) سيجيء تحقيقه في قوله: {وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ {[الأنعام: 100]. قوله: ({آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ {. إيراده هاهنا يوهم أن تقديم اسم "الله" على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل كتقديم "غير الله" على الفعل في الموضعين. وليس بذلك، إذ المراد أن إيلاء هذا الاسم حرف الإنكار، وبناء الخبر عليه، دون العكس، وأن يقال: أأذن الله لكم؟ لأنه الأصل في الاستفهام، لاسيما وقد عطف عليه: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ {[يونس: 59]، وهي فعلية، إذن بتقوية حكم إنكار أن الله هو الآذن، لا حصول الإذن مطلقاً. ألا ترى كيف استشهد به لقوله: "لأن الإنكار في اتخاذ غير الله، لا في اتخاذ الولي"؟ وكيف يوهم تقديم المعمول؟ . والتركيب من باب تقوى الحكم، مثله في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ {[الزمر: 23]. وقال فيه المصنف: "إيقاع اسم {الله {مبتدأ، وبناء {نَزَّلَ {عليه، فيه تفخيم لـ {أَحْسَنَ الحَدِيثِ {، وتأكيد لإسناده إلى الله، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا منه". فظهر أن المراد بالتقديم في قوله: "فكان أولى بالتقديم" الاهتمام دون التخصيص. وإلى هذا ينظر قول صاحب "المفتاح": "فلا يحمل قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ {[يونس: 59] على التقديم، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره، ولكن احمله على الابتداء، مراداً منه تقوية حكم الإنكار". تم كلامه. هذا التقدير مبني على أن تكون {أَمْ {منقطعة، والهمزة فيها للتقرير، وفي {آللَّهُ}

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ): وهو يرزق ولا يرزق، كقوله: (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات: 59]، والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ: "ولا يطعم"؛ بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: "وهو يطعم ولا يطعم"؛ على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للإنكار، فيفيد توكيد الافتراء ومزيد تقريره، والله أعلم. قوله: (أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع). يريد أن قوله تعالى: {وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {من إطلاق أعظم الشيء على كله، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى {[النساء: 10]، لأن أعظم المنافع عند الحيوان الطعم. وإنما عبر عن المنافع بالطعم، لأن قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيًا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {جاء تقريراً للجواب السابق، وهو قوله: {قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {إلى قوله: {وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ {. يعني: قل لهم بعد ذلك التقرير: أغير الذي ذكرته من له ما في السموات وما في الأرض، والذي منه الرحمة العظمي أتخذ ولياً؟ فوضع: {يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {، موازياً لـ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {تعييراً لهم، وأنهم لا يعرجون إلا إلى المعارف الوارفة من الطعم، واستيفاء الشهوات واللذات الجسمانية، كالبهائم.

والضمير لـ"غير الله". وقرأ الأشهب. "وهو يطعم ولا يطعم"، على بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى: استطعمت، ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى؛ على حسب المصالح، كقولك: وهو يعطي ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغني ويفقر. (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله: (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 163] وكقول موسى: (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 143]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الضمير لـ"غير الله"، أي: في قوله: "وهو يطعم" على البناء للمفعول. وفيه إشكال، لأن الأصنام لا توصف بأنها تطعم ولا تطعم، وليس الكلام مع اليهود والنصارى، ليقال: إن المسيح أو عزيز يطعم ولا يطعم والجواب: أن المقصود من قوله: {وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {إذا أخذ بزبدته على سبيل الكناية، إنها تربي ولا تربي، كقوله: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ {[النحل: 20]. قوله: (ونحوه: أفدت)، أي: استفدت. الأساس: "أفدت منه خيراً واستفدته". قال الشماخ: أفاد سماحة وأفاد حمداً ... فليس بجامدٍ لحزٍ ضمين أي: استفاد حمداً.

(وَلا تَكُونَنَّ) وقيل لي: لا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومعناه: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. و(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ الله) الرحمة العظمى، وهي النجاة، كقولك: إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه، تريد: فقد أتممت الإحسان إليه، أو: فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَقَدْ رَحِمَهُ {الله الرحمة العظمى). فسر مطلق الرحمة بالرحمة العظمى، لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى، وكان الجزاء مطلقاً، دل على عظم شأن الجزاء. أصل الكلام: من يصرف عنه العذاب يومئذٍ فقد نجا، فوضع موضعه: {فَقَدْ رَحِمَهُ {. وإليه الإشارة بقوله: "هي النجاة". نظيره قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {[آل عمران: 185]، أي: فقد حصل له الفوز المطلق المتناول ما يقاربه. وقوله تعالى: {إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ {[آل عمران: 192]. قال المصنف: "فقد بالغت في إخزائه". قوله: (أو فقد أدخله الجنة) فهو من التقسيم الحاصر، لأنه لا ثالث. وإليه الإشارة بقوله: "لم يكن له بد من الثواب". قال في "الانتصاف": "لو بقيت الرحمة على إطلاقها، لما زاد الجزاء على الشرط، لأن صرف العذاب رحمة، فاحتاج إلى أحد التأويلين، فصححه الزمخشري بأن صرف العذاب يستلزم الثواب. ولعمري، قاعدة الاعتزال تلجئه إلى التأويل. وقال القونوي: إن صرف العذاب لا يستلزم الثواب، فأفاد الجزاء إذن فائدة لم تفهم من الشرط". وقلت: لا يلجئه إلى التأويل سوى اتحاد الجزاء مع الشرط، وكونه مطلقاً، فتارةً قيد الرحمة بالعظمي، وأخرى بالجنة.

وقرئ: "من يصرف عنه" على البناء للفاعل، والمعنى: من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى: من يدفع الله عنه ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب (يومئذ) بـ"يصرف" انتصاب المفعول به، أي: من يصرف الله عنه ذلك اليوم- أي: هَوْلَه- فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى الله عنه: "من يصرف الله عنه". [(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "من يصرف عنه" على البناء للفاعل) أبو بكر، وحمزة، والكسائي. قوله: (وقد علم من المدفوع عنه) يعني: من منهم، ولم يبينه، لأنه علم أن الذي يدفع عنه العذاب لا يكون غير المكلف، ولذا ترك ذكر المصروف، وهو العذاب، لأن المقام لا يقتضي غيره. قوله: ({بِضُرٍ {من مرضٍ أو فقرٍ، أو غير ذلك)، الراغب: "الضر: سوء الحال، إما في النفس، لقلة العلم والفضل والعفة، وإما في البدن، لعدم جارحه، ونقص، ومرض، وإما في حالة ظاهرة من قلة مالٍ وجاه. وقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ {[الأنبياء: 84]

فلا قادر على كشفه إلا هو، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من غنى أو صحة، (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان قادراً على ادامته أو إزالته. [(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)]. (فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعرافك 127]. [(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)]. "الشيء": أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحمل عليها. ورجل ضرير: كناية عن فقد بصره. والضرة: أصلها الفعلة التي تضر، لاعتقادهم أنها تضر بالمرأة الأخرى. والإضرار: حمل الإنسان على ما يضره. وهو في التعارف: حمله على أمرٍ يكرهه". قوله: (فكان قادراً على إدامته أو إزالته). يريد أن قوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {جواب للشرط مقابل لقوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ {. وكان من الظاهر أن يقال: فلا راد لفضله، كما جاء في قوله تعالى: {وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ {[يونس: 107]. لكن جيء به هاهنا عاماً ليشمل ذلك وغيره، وليتصل به قوله: {وهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ {.

ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ: شيء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح: جسم لا كالأجسام. وأراد: أي شهيدٍ (أَكْبَرُ شَهادَةً)، فوضع "شيئاً" مقام "شهيد" ليبالغ في التعميم، (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك صح أن يقال في الله تعالى: شيء لا كالأشياء). نقل الإمام عن جهم أنه كان ينكر كونه تعالى شيئًا، ويحتج بقوله تعالى: {ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى {[الأعراف: 180]، ويقول: "إذا دل اسم على صفةٍ من صفات الكمال، يطلق عليه، والشيء ليس كذلك، فلا يجوز إطلاقه عليه". دليل الجمهور هذه الآية، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ {[القصص: 88]، استثنى من {كُلِّ شَيْءٍ {ذاته، ولأن لفظ "الشيء" أعم الأشياء، فيشمل الواجب والممكن. فالنزاع لفظي. قوله: (ليبالغ بالتعميم)، وذلك أنه لو قيل: أي شهيدٍ أكبر شهادة؟ خص بالشاهد المتعارف، ومن يقال له: "شهيد" فيعم، ليعرض ما يصلح للشهادة من أي جنس كان، متعارفاً وغير متعارف، فيكون أدخل في المبالغة.

يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله: (قُلِ اللَّهُ)، بمعنى: الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ: (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي: هو شهيد بيني وبينكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون تمام الجواب عند قوله تعالى: {قُلِ الله {، فهو أيضاً من باب قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُل لِّلَّهِ {[الأنعام: 12]. وأما قضية النظم على هذا، فهي أنه تعالى لما افتتح السورة بدلائل الآفاق والأنفس، وقرن معهما حججاً شتى، نبه بهذه الآية على أن كل ذلك شهادة من الله على إثبات توحيده، وعلمه، وقدرته، وسائر الصفات المستتبعة، لأن نصب الأدلة، وإقامة البراهين والحجج، هو الأصل فيها. ولهذا فصل شهادة الله عن شهادة الغير في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ {[آل عمران: 18]. يعني: من يقدر على مثل هذه الأشياء إلا الله، حتى يكون أكبر شهادةً منه؟ ثم جعل ذلك مخلصاً ووسيلةً إلى إثبات رسالته صلوات الله عليه بقوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ {. يعني: مثل هذا الشاهد العظيم الشأن، الباهر القدرة، يشهد بيني وبينكم، وهو مصدق لدعواي بأني رسول حق، وكلامي صدق، وشهادته لي بأن أنزل على هذا الكتاب الكريم، المعجز، الفائق، الهادي إلى الطريق المستقيم. وإليه الإشارة بقوله: {وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ {، أي: لأثبت دعواي به، وأنذركم؛ فأعظم بمشهودٍ له من هذه صفات شاهده! ثم أنكر عليهم الإنكار البليغ بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى {[الأنعام: 19]، يعني: بعد توضيح هذه الدلالات، وتبيين هذه الآيات البينات، أنتم ثابتون مستقرون على ما كنتم عليه؟ ما أشد شكيمتكم، وأعظم عنادكم! وإليه الإشارة بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ {تقرير لهم، مع إنكارٍ واستبعاد.

وأن يكون (اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيدٍ له. (وَمَنْ بَلَغَ) عطفٌ على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أي: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) تقرير لهم مع إنكار واستبعاد، (قُلْ لا أَشْهَدُ) شهادتكم. [(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قوله: {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {[الأنعام: 19] أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، والتبري من شركهم، والتبتل إلى الله تعالى، لأن ذلك سنة أبيه إبراهيم، فإنه بعد ما أنذر وبالغ فيه، قال: {وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّي {[مريم: 48]. وبعد الاحتجاج عليهم بالكواكب، قال: {إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {[الأنعام: 78 - 79]. قوله: (وأن يكون {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ {هو الجواب)، أي: المجموع. فعلى هذا هو من الأسلوب الحكيم. يعني: شهادته معلومة، كما سبق، لا كلام فيه، وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم، مبين لدعواي بإنزال هذا الكتاب الكريم. وإذا ثبت أن الله تعالى شاهد لي، يلزم ما قال المصنف: "فأكبر شيء شهادةً شهيد له". قوله: (وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة). قال القاضي: "هو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله، ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه".

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني: اليهود والنصارى، يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة، (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم ونعوتهم، لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهادٌ لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته. ثم قال: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا استشهاد لأهل مكة)، أي: هذا الكلام استشهاد لأجل أهل مكة. ووزان هذا مع ما قبله وزان قوله تعالى: {ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ {[الرعد: 43]. قال: " {كَفَى بِاللَّّهِ شَهِيدًا {، لما أظهر من الأدلة على رسالتي، {ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ {من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا". ولكن هذا خاص ابتداءً، وما نحن بصدده عام مخصص بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {. وبيانه: أنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أولً بأن يقول للكافرين: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ {إثباتاً لنبوته، بكونه تعالى أظهر هذا الكلام المعجز دلالةً عليها، ثم ثنى بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ {[البقرة: 146] تقريراً وتوكيداً، ثم قدر للمشركين أن يقولوا: إن أكثر أهل الكتابين لا يشهدون بذلك، فيجابوا بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم {: من المشركين ومن أهل الكتاب"، يعني كما أن الكفار عرفوه حق معرفته، بالمعجزات القاهرة، أنه رسول من الله، صادق فيما جاء به، ثم كابروا وعاندوا، كذلك أكثر أهل الكتابين: عرفوه بحليته ونعته الثابت في الكتابين، فهم فيه سواء. والله أعلم.

جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام: 148]، وقالوا: (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف: 28]، وقالوا: "الملائكة بنات الله"، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) [يونس: 18]، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جمعوا بين أمرين متناقضين)، فيه جمع، وتقسيم، وتفسير، فالجمع قوله: "جمعوا بين أمرين متناقضين"، والتقسيم: قوله: "فكذبوا على الله ما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة". وقوله: "حيث قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا {[الأنعام: 148]، إلى قوله: "تحريم البحائر والسوائب" تفسير لقوله: فكذبوا على الله". وقوله: "وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم" تفسير لقوله: "وكذبوا بما ثبت بالحجة".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيان التناقض أنهم نسبوا إلى الله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً، فصدقوه، وعزلوا عن الله تعالى ما كان منسوباً إليه، من القرآن والآيات والرسول، فكذبوا بها. وفي قوله: "بين أمرين متناقضين" تسامح. قال القاضي: "إنما ذكر: {أَوّ {بمعنى الواو، كقوله تعالى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا {[المرسلات: 6]. وفي كلامه رائحة من الاعترال ثم الأحسن والأوفق لتأليف النظم أن تستنبط هذه المعاني من الآيات الثلاث، فقوله: {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {أصله: لا يفلح الكافرون، لأنه تذييل وتأكيد لما سبق، وليس فيه إلا حديث الكذب والتكذيب، فعلم منه أن دأبهم الكذب، وأنهم ليسوا من الصدق في شيء. ثم قوله: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {: بيان لدأبهم وعادتهم. وقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ {، وقوله: {وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {: بيان لكذبهم على الله، كقوله: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ {[يونس: 18]. وقوله: {وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا {، إلى قوله: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {: بيان لتكذيبهم بآيات الله.

وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. [(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)]. (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) ناصبه محذوف، تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف، (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذهبوا فكذبوا القرآن)، الأساس: "ومن المجاز: ذهب على كذا: نسيته. وذهب الرجل في القوم، والماء في اللبن: ضل". قوله: ({ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ {: ناصبه محذوف)، إلى قوله: (كان كيت وكيت)، أي: مما لا يدخل تحت الوصف. ورأيت أيها المخاطب أمراً فظيعاً، يسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه تعالى لما أرشده صلوات الله عليه إلى توبيخ المشركين، بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى {، ثم أمره بأن يواجههم بكلمة المتاركة والموادعة، وهي قوله: {وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {، شرع يسليه بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ {، إلى قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {. يعني: إن كان أولئك الخاسرون لا يعرفونك، ولا يؤمنون بما جئت به، فالمؤمنون من أهل الكتابين يعرفونك حق المعرفة. وفي قوله: "هذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به" إيماء إلى ذلك.

وقوله: (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) معناه: تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ: "يحشرهم"، "ثم يقول"؛ بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ. ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة، فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {، أي: لا يفوزون في الدنيا بمباغيهم، بل يخسرون أنفسهم، وتستأصلون شأفتهم بأيديكم، ثم يوم القيامة أدهي وأمر. قوله: (فكأنهم غيب). الغيب: ما غاب عنك. وجمع الغائب: غيب، وغياب، وغيب أيضاً. وإنما تثبت فيه الياء مع التحريك، لأنه شبه بـ"صيد"، وإن كان جمعاً، وصيد: مصدر قولك: بعير أصيد. قوله: (وأن يحال بينهم) عطف على "أن يشاهدوهم". وقوله: "ويجوز أن يشاهدوهم" على قوله: "وإنما يقال لهم ذلك على جهة التوبيخ". يعني: إنما يقال للمشركين: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {على سبيل التوبيخ، كقوله تعالى: {ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ {، إلى قوله: {ومَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ {[الأنعام: 94]. أو يقال لهم وهم يشاهدونهم على سبيل التعيير، أي: ادعيتم أن هؤلاء شركاؤنا، فيشفعون لنا عند الله، فأين شفاعتهم؟ كما تقول للمهدد، ومعه صاحبه، وقد ادعى أنه يعينه في الشدائد، وقد وقع فيها وخذله: "أين زيد؟ " فجعلته، لعدم نفعه وإن كان حاضرًا، كالغائب.

(فِتْنَتُهُمْ): كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو يقال لهم حين يحال بينهم وبينهم، كما تقول لمن ادعى أن له ناصراً ينصره، ويدفع عنه المكاره، وقد جاء لنصرته، فطمع في ذلك، فضربت الحيلولة بينه وبينه، ثم قلت: أين ناصرك الذي علقت به الرجاء؟ ادعه! لتريه تحسره وخيبته. ومنه قول الشاعر: كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت لذلك قال: "علقوا بهم الرجاء فيها". الوجه الأول حقيقة، والثاني مجاز، والثالث كالأول. قوله: (لأنه كذب). يعني: إنما سمي الجواب فتنةً، لأن قولهم: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {كان كذباً، والكذب سبب لإيقاع الإنسان في الفتنة وورطة الهلاك. فعلى هذا، قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {مجرى على ظاهره. و"ثم" للتراخي في الرتبة. يعني: أن جوابهم هذا أعظم في تصورهم من توبيخنا إياهم بقولنا: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {؟ وهذا هو الداعي إلى وضع الفتنة موضع الجواب.

وقرئ: (تكن) بالتاء، و"فتنتهم" بالنصب، وإنما أنث "أَنْ قالُوا" لوقوع الخبر مؤنثاً، كقولهم: من كانت أمّك؟ وقرئ بالياء ونصب "الفتنة"، وبالياء والتاء مع رفع "الفتنة"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الأول قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {كناية عن التبري عنهم، وانتفاء التدين به، و"ثم" مجرى على ظاهره، لقوله: "ثم لم تكن عاقبة كفرهم". قوله: (وقرئ: {تَكُن {بالتاء) - المنقوطة فوقها نقطتان - (و"فتنتهم" بالنصب). ذكر فيه ثلاث قراءات، أولها: لحمزة والكسائي، وثانيتها: شاذة، وثالثتها: لحفص، وابن كثير، وابن عامر. قال الزجاج: "إن نضب "فتنة" على خبر {تَكُن {، و {أَن قاَلُوا {: الاسم، فأنثت {تَكُن {، وفاعله: {أَن قاَلُوا {، لأن {أَن قاَلُوا {هو الفتنة، ويجوز: "إلا مقالتهم" وهو مؤنث. ويجوز رفع "الفتنة" على اسم {تَكُن {، و {أَن قاَلُوا {: الخبر. ويجوز: "لم يكن" على التذكير، والفاعل {أَن قاَلُوا {. ويجوز على التذكير، والفاعل "فتنتهم" على تأويل الافتتان. وتأويل الآية حسن لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب. ومثلها أن ترى إنساناً يحب غاوياً، فإذا وقع في هلكةٍ تبرأ منه، فيقال له: ما كانت محبتك لفلانٍ إلا أن تبرأت منه". وقال صاحب "التقريب" في الاستشهاد بقوله: "من كانت أمك" نظر، لأن "من" يذكر ويؤنث.

وقرئ: "ربنا" بالنصب على النداء. (وَضَلَّ عَنْهُمْ): وغاب عنهم، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي: يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً؛ ألا تراهم يقولون: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون: 107]، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وقالوا: (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف: 77]، وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجيب: أن "من" إنما يؤنث ويذكر باعتبار مدلوله، وإبهامه، وشيوعه، كالمشترك. وأما لفظه فليس إلا مذكراً. روى المصنف عن سيبويه: "إنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن "الشيء" يقع على ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى! والشيء مذكر وهو أعم العام". قوله: (وقرئ: "ربنا" بالنصب): حمزة والكسائي. قوله: (أي: يفترون إلهيته وشفاعته). خص هذا التقدير، لأن قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {جواب عن قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {، أي: أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، وزعمتم أنهم يشفعون لكم؟ حتى يخلصوكم الآن مما أنتم فيه من ورطات الهلاك. و {مَّا {في {ومَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {موصولة، فحذف المضاف أولاً، فصار: "يفترونه"، ثم حذف الضمير الراجع.

وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا أنا على خطأٍ في معتقدنا، وحملُ قوله: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني: في الدنيا، فتمحل وتعسف وتحريفٌ لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإقحام؛ لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبقٍ عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين) إلى آخره: إشارة على خلاف. قال الإمام: "للناس فيه قولان، الأول: قول أبي علي الجبائي والقاضي: أن أهل المحشر لا يجوز إقدامهم على الكذب، لأنهم يعرفون الله بالاضطرار، فيلجؤون إلى ترك القبيح، وأقبح القبائح القول بالكذب، وأتمه الحلف عليه. فإذا يحمل قوله تعالى: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {على: ما كنا في اعتقادنا وظنونا مشركين، لأنهم كانوا معتقدين أنهم كانوا موحدين. ويحمل قوله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ {[الأنعام: 24] في الدنيا في أمورٍ كانوا يخبرون عنها، كقولهم: إنهم على صواب، وإن ما هم عليه ليس بشرك، والكذب يصح عليهم في الدنيا. والثاني قول الجمهور: إن الكذب عليهم في الآخرة جائز، بل واقع. واستدلوا بآيات كثيرة. وأما حمل هذه الآية على أن المراد: ما كنا مشركين في ظنوننا واعتقادنا، فمخالفة للظاهر، وقوله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ {على أنهم كذبوا في الدنيا، يوجب تفكك النظم، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة، وآخرها إلى أحوال الدنيا". وهو المراد من قول المصنف: "وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عي وإفحام".

وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة: 18]، بعد قوله: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة: 14]، فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا؟ ! [(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)]. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلوا القرآن، روي: أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهلٍ وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته - يعني: الكعبة - ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إني لأراه حقاً. فقال أبو جهل: كلا! فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {). "من": موصوله، وهو فاعل "يصنع"، وذلك أنه تعالى قال في حق المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ {[المجادلة: 14]. يعني: تولوا اليهود وناصحوهم، ثم قالوا للمسلمين: والله إنا لمسلمون. ثم قال بعده: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ {[المجادلة: 18]. قال المصنف: "فيحلفون لله على أنهم مسلمون في الآخرة، كما يحلفون لكم في الدنيا"، وهو المراد من قوله هاهنا: "فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا". قوله: (والوقر في الآذان: مثل في نبو قلوبهم)، أي: استعارة. قال الزجاج: "الوقر بالفتح: ثقل في السمع. يقال: فلان في أذنه وقر. وقد وقرت الأذن توقر. قال الشاعر:

ووجه إسناد الفعل إلى ذاته - وهو قوله: (وَجَعَلْنا) - للدلالة على أنه أمر ثابتٌ فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكايةٌ لما كانوا ينطقون به من قولهم: (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت: 5]. وقرأ طلحة: "وقراً"؛ بكسر الواو. (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) هي "حتى" التي تقع بعدها الجمل، والجملة قوله: (إِذا جاؤُكَ ... يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكلام سيءٍ قد وقرت ... أذني منه وما بي من صمم والوقر بكر الواو: أن يحمل البعير أو غيره مقدار ما يطيق. تقول: عليه وقر". قوله: (ووجه إسناد الفعل إلى ذاته - وهو قوله: {وَجَعَلْنَا {- للدلالة على أنه أمر ثابت)، وهذا هو أول الوجوه المذكورة في إسناد {خَتَمَ {إلى {الله {في "البقرة". وقوله: (أو هي حكاية) هو من آخر الوجوه المذكورة هناك، وهو من باب المشاكلة، وقد حققنا القول فيها. قوله: (والجملة قوله: {إذَا جَاءُوكَ ... يَقُوُل {)، أي: الجملة: {إذَا جَاءُوكَ {، وجوابه وهو: {يَقُوُل {. وقوله: {يُجَادِلُونَكَ {: حال"، أي: لمجيئهم.

و (يُجادِلُونَكَ) في موضع الحال، ويجوز أن تكون الجارة، ويكون (إذا جاءوك) في محل الجرّ، بمعنى: حتى وقت مجيئهم، و (يجادلونك) حال. وقوله: (يقول الذين كفروا) تفسيرٌ له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون: (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، فيجعلون كلام الله - وأصدق الحديث- خرافاتٍ وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: حتى إذا جاؤوك مجادلين يقولون: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {. فوضع {الَّذِينَ كَفَرُوا {موضع الضمير، ليشعر بأن مجيئهم على تلك الحالة كفر وعناد، وقولهم كذب بحت. قوله: (حتى وقت مجيئهم)، يعني: "حتى": إما حرف ابتداء، وبعده الجملة الشرطية. قال أبو البقاء: " {إِذَا {في موضع نصب بجوابها، وهو {يَقُوُل {، وليس لـ {حَتَّى {هاهنا عمل، وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في الجمل". أو حرف جر بمنزلة "على"، فعلى هذا لها عمل. و {يَقُوُل {جملة مفسرة لقوله: {يُجَادِلُونَكَ {، لأن المجادلة هي قولهم: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {، و"حتى" غايةُ هذه الحالة الفظيعة. يعني بلغ تماديهم في الطغيان، وتكذيب آيات الله في الأزمنة الماضية، على سبيل التدرج والاستمرار، إلى حد انتهي إلى هذا الزمان، وهذا الطغيان، وهو مجيئهم إليك، وتكذيبهم هذه الآية البينة، والحجة الساطعة. قوله: (خرافاتِ وأكاذيب)، العطف تفسيري. الجوهري: "خرافة: اسم رجلٍ من

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ) الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) بأنفسهم، فيضلون ويضلون، (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب، لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأي عنه فلا يؤمن به. وروي: أنهم اجتمعوا إلى أبي طالبٍ وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً. فقال: وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عذرة استهوته الجن، فكان يحدث ما رأي، فكذبوه، وقالوا: حديث خرافة. والراء فيه مخففة". قوله: (وقيل: هو أبو طالب): عطف على قوله: ({وهُمْ يَنْهَوْنَ {الناس)، أي: الناهون إما جميع المشركين، وإما أبو طالب، وإنما أتي بضمير الجماعة استعظاماً لفعله. قوله: (والله لن يصلوا إليك بجمعهم)، الأبيات.

وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ ... لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا فنزلت. [(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)]. (وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف، تقديره: ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً، (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ): أروها حتى يعاينوها، أو أُطلعوا عليها إطلاعاً هي تحتهم، أو أُدخلوها فعرفوا مقدار عذابها؛ من قولك: وقفته على كذا؛ إذا فهمته وعرفته، وقرئ: "وقفوا" على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفاً، (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) تم تمنيهم، ثم ابتدؤوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوسد: من الوسادة، أي: أوسد يميني في رمسي. دفيناً: منصوب على الحال. فأصدع بأمرك: أي: أظهر بأمرك، أي: بدينك. غضاضة: منقصة، وهي: ما إذا سمعه الإنسان غض عليه بصره. وقر منه: أي: من أجل ذلك. أراد بالعيون: العينين، على أن أقل الجمع اثنان، أو عيون المسلمين. قوله: (تم تمنيهم ثم ابتدؤوا)، قال صاحب "المرشد": التقدير: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونحن من المؤمنين رددنا أو لم نرد. فلا يدخلان في جملة التمني، ويرتفعان على استئناف خبر. وعلى هذا يجوز أن تقف على قوله: {نُرّدُ {، ثم تَبتدئ، فنقول: "ولا نكذب" أي: لا نكذب أبداً، ونكون من المؤمنين أبداً. وهو وقف بيان. ووجه آخر: وهو أن يكون

(وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب، ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني، ويجوز أن يكون معطوفاً على (نردّ)، أو حالاً على معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقدير: يا ليتنا نرد، ويا ليتنا لا نكذب، ويا ليتنا نكون من المؤمنين، أي: نوفق للتصديق، وألا نكذب. ولا وقف على هذا إلى قوله: "مؤمنين". قوله: (واعدين الإيمان): حال من فاعل "ابتدؤوا"، أي: ثم ابتدؤوا قائلين: نحن لا نكذب بآيات ربنا، على سبيل الوعد. يقال: كذبه، وكذب به. قوله: (دعني ولا أعود)، قال صاحب "الإقليد"، وهو كالشرح لكلام ابن الحاجب: "إنما ذكر هذا الرفع، لتعذر النصب والجزم على العطف، أما لانصب فيفسد المعنى، إذ المعنى على هذا: ليجتمع تركك لي وتركي لما تنهاني عنه. وقد علم أن طلب هذا المتأدب لترك المؤدب إياه، إنما هو في الحال بقرينة ما عراه من ألمه بتأديب مؤدبه، وغرض المؤدب الترك لما نهي عنه في المستقبل. ولا يحصل هذا الغرض بترك المتأدب المنهي عنه في الحال، وإنما يحصل بالترك للعود في المستقبل، ولا يستقيم الجزم، لأنه إذا جزم عطف، أدى إلى عطف المعرب على المبني، وهو ممتنع، إذ العطف لاشتراك الشيئين في الإعراب، ولا موضع للأول حتى يحمل عليه. وأما امتناع الجزم في "ولا أعود"، فلما فيه من عطف الجملة المنهية على الأمرية. فكأنه قال" "دعني" ثم شرع في جملةٍ أخرى ناهياً لنفسه عن العود، لأنه لا يلزم من النهي تحقق الامتناع، ولذا لم يأت التناقض في قولك: أنا أنهي نفسي عن كذا في كل وقتٍ ثم أفعله، كما أتى

فإن قلت: يدفع ذلك قوله: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)؛ لأنّ المتمني لا يكون كاذباً. قلت: هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالاً فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً كافأتك على الإحسان. وقرئ: (ولا نكذب ... ونكون) بالنصب بإضمار أن على جواب التمني، ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التناقض في قولك: أنا لا أفعل كذا في كل وقتٍ ثم أفعله، والمقصود نفي وقوع العود في المستقبل. ولا يحصل هذا إلا بالخبر". قوله: (وقرئ: {وَلاَ تُكَذْبَ .... وَنكُونَ {بالنصب): حمزة وحفص. قال الزجاج: "النصب على {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ... ونكون {على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: "ليتك تصير إلينا ونكرمك" أي: ليت مصيرك يقع وإكرامك. المعنى: ليت ردنا وقع وألا نكذب، أي: إن رددنا لم نكذب". وقال القاضي: "والجواب بإضمار "أن" بعد الواو، إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف، ونصب الثاني على الجواب".

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم؛ فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل: هو في المنافقين، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل: هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار، (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والمعاصي، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به. [(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبشهادة جوارحهم) عطف على قوله: (في صحفهم)، وهو ظرف لقوله: {بَدَا لَهُم {. المعنى: بل بدا لهم في صحفهم، وبسبب شهادة جوارحهم عليهم، ما كانوا يخفون من الناس. قوله: (لا أنهم عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا)، يعني: {بَلْ {: إضراب عن معنى تمنيهم الباطل الناشئ من إبداء ما يفضحهم، وهو: إن رددنا لم نكذب، أي: ليس ذلك من عزم صحيح، بل هو من إبداء ما افتضحوا به. قال الواحدي: " {بَلْ {: هاهنا رد لكلامهم؛ يقول الله: ليس الأمر كما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا". قوله: ({وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به)، قال الزجاج: "المعنى: أن أكثر من عاند من اليهود والمشركين قد علم أن أمر الله حق، فركن إلى الرفاهية، وأن الشيء متأخر عنهم إلى أمد، كما فعل إبليس، فاعلم الله أنهم لو ردوا لعادوا، لأنهم قد كفروا بعد وضوح الحجة.

(وَقالُوا) عطف على (لعادوا)، أي: ولو ردّوا لكفروا ولقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: (وإنهم لكاذبون)، على معنى: وإنهم لقومٌ كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا: (إن هي إلا حياتنا الدنيا)، وكفى به دليلاً على كذبهم. [(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)]. (وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجازٌ عن الحبس للتوبيخ والسؤال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى بعضهم أنه صلوات الله عليه سئل، فقيل له: ما بال أهل النار، عملوا في عمر قصير، فخلدوا في النار، وأهل الجنة كذا، فخلدوا في الجنة؟ فقال: "إن الفريقين كان كل واحدٍ منهما لو أنه عاش أبداً عمل بذلك العمل". قوله: (ويجوز أن يعطف على قوله: {وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {، هو من عطف الخاص على العام، وإنما قدر المبتدأ، وأوقع "قالوا" صلة للموصول، وجعل الصلة مع الموصول خبراً، ليوازي المعطوف عليه المؤكد، وليشنع عليهم هذا الكذب الخاص. قوله: ({وقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ {: مجاز عن الحبس)، يعني: لا يجوز أن يقال: وقف على الله

كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل: عرفوه حق التعريف، (قالَ) مردودٌ على قول قائلٍ قال:ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: (قال أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ)، وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء: ما هو بحق، وما هو إلا باطل. (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ): بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أُخر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حقيقة ولا كناية، لأن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، كما سبق في "آل عمران"، عند قوله: {ولا يَنظُرُ إلَيْهِمْ {[آل عمران: 77] فوجب الحمل على المجازي: أي الاستعارة التمثيلية. قوله: (وقيل: عرفوه حق التعريف)، هذا مثل تفسيره في قوله: {إذْ وقِفُوا عَلَى النَّارِ {[الأنعام: 27]: "هو من قولك: وقفته على كذا: إذا فهمته وعرفته". والضمير في "عرفوه" للجزاء. قوله: (مردود)، أي: متعلق أو متوقف على سؤال سائل. قوله: (ما هو بحق، وما هو إلا باطل)، وإنما قدر كذلك، لأن قوله: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ {[الأنعام: 30] سؤال تقرير، وقد أتي المنكر باسم الإشارة لمزيد التقرير، فيقتضي أن يكون مسبوقاً بإنكارٍ قوي. قوله: (وقد حقق الكلام فيه): أي في سورة "يونس". قال المصنف في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا {[يونس: 15]: "فإن قلت: كيف جاز النظر على الله وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً، شبه بنظر الناظر في تحققه". وفي "العنكبوت" أبسط منه.

و (حَتَّى) غاية لـ (كذبوا) لا لـ (خَسِرَ)، لأن خسرانهم لا غاية له، أي: ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدّماتها جعل من جنس الساعة، وسمي باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته»، أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن خسرانهم لا غاية له)، ويمكن أن يحمل على معنى قوله تعالى: {وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ {[ص: 78]: أي: إنك مذموم، مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين، ثم إذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه. أي: خسر المكذبون إلى قيام الساعة، بأنواع من المحن والبلاء، فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران، وذلك هو الخسران المبين، يؤيده قوله: "يا حسرتنا". قال سيبويه: "كأنه يقول: أيتها الحسرة، هذا أوانك". وقال أبو البقاء: "يا حسرة احضري، هذا أوانك". والمعنى: تنبيه أنفسهم لتذكر أسباب الحسرة. وقلت: هذا أقرب من قول المصنف بوجهين: أحدهما: سلامته من ذلك السؤال، وثانيهما: أن قوله: {وهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ {مقارن بهذا التحسر، وهو غير مناسب إلا بالحسر. قوله: (أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته)، أي: وضع الساعة موضع الموت، لسرعة مجيئها.

(بَغْتَةً) فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر، كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة. (فَرَّطْنا فِيها) الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو "للساعة"؛ على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان. ومنه: (فرّطت في جنب الله) [الزمر: 56]. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) كقوله: (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30]؛ لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما أُلف الكسب بالأيدي، (ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئاً يزرون وزرهم، كقوله: (ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ) [الأعراف: 177]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر). فإن قلت: أما سبق قبيل هذا: {وقَالُوا إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا {[الأنعام: 29] لم لا يجوز أن يعود إليها، ويكون قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ {من وضع الظاهر موضع المضمر؟ قلت: ولا ارتياب أن القائلين لقوله: {إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا {[الأنعام: 29] هم الناهون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، كما مر، وأن قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ {إلى قوله: {ولَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {[الأنعام: 31 - 32] كالاعتراض والتوكيد لما يتضمن معنى الكلام السابق واللاحق من التهديد والوعيد، لاشتماله على جميع من أنكر الحشر، وسوء مغبتهم، وإظهار حسرتهم وندامتهم، ووخامة أمر حياة الدنيا. وليس المقام من مجاز وضع المظهر موضع المضمر، لأن الاعتراض مستقل بنفسه، لا تعلق له بالسابق إلا من حيث المعنى. قوله: (كقوله: {سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ {، أي: مثله في تقدير المخصوص، أي: "ساء مثلا

[(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)]. جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليلٌ على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنه: "ولدار الآخرة"، وقرئ: (تعقلون) بالتاء والياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مثل القوم" ليحصل التطابق بين الفاعل والمخصوص بالذم، لأن {مَثَلاً {تمييز، والفاعل مضمر. قوله: ({لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ {دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو). وذلك أن الظاهر أن يقال: {ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْوٌ {، وما الدار الآخرة إلا جد وحق، لا باطل زائل. فوضع موضعه: {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ {إطلاقاً لاسم المسبب على السبب. يعني: أن حقيقة الدارين معلومة محققة عند من يدعي النهي والحجي، لكن العاقل الذي يستأهل أن يسمى عاقلاً هو من يؤثر ما يعينه وينجيه على ما لا يعينه ويرديه. وتلخيصه: أن العاقل هو المتقي الذي يرغب عن الدنيا إلى الآخرة. وفيه تعريض بمن سبق ذكرهم في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا {[الأنعام: 31]، أي: اشتغلنا بلذات الدنيا عن الآخرة، وكذبنا بمجيء الساعة. وهو إقناط كلي. ولهذا كانت هذه الآية تتمة للاعتراض، ثم عاد إلى ما سبق من ذكر المشركين، مسليا لحبيبه صلوات الله عليه: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ {[الأنعام: 33].

[(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)]. (قَدْ) في (قَدْ نَعْلَمُ) بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقوله: أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({قَدْ {في {قَدْ نَعْلَمُ {: بمعنى "ربما" الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته). يعني: أن لفظة "قد" للتقليل، وقد تعني به ضده للمجانسة بين الضدين. مثله "رب" للتقليل، ثم يراد به في بعض المواضع ضده، وهو الكثرة، كقوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {[الحجر: 2]. والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذي قومه وتكذيبهم، يعني: من حقك، وأنت سيد أولي العزم، ألا تكثر الشكوى من أذي قومك، وألا تعلم الله من إظهارك الشكوى إلا قليلاً. أو يكون تهكما بالمكذبين، وتوبيخاً لهم، لقوله: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ {قوله: (ولكنه قد يهلك المال نائله)، أوله: أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله بعده: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله

والهاء في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، (لَيَحْزُنُكَ) قرئ بفتح الياء وضمها. (والَّذِي يَقُولُونَ) هو قولهم: ساحرٌ كذاب (لا يُكَذِّبُونَكَ) قرئ بالتشديد والتخفيف، من: كذبه؛ إذا جعله كاذباً في زعمه، وأكذبه، إذا وجده كاذباً. والمعنى: أن تكذيبك أمر راجعٌ إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: جوده ذاتي، لا يزيد بالسكر، ولا ينقص بالصحو. متهللاً: أي: ضاحكاً. قوله: ({لَيَحْزُنُكَ {: قرى بفتح الياء وضمها). نافع: بالضم، وغيره بالفتح. قوله: ({لا يُكَذِّبُونَكَ {قرئ بالتشديد والتخفيف). التخفيف: نافع والكسائي، والباقون: مشدداً. قال الزجاج: "معنى كذبته: قلت له: كذبت. وأكذبته: أريته أن ما أتي به كذب". قوله: (فاله عن حزنك)، الجوهري: "لهيت عن الشيء، بالكسر، ألهي، لهياً ولهياناً: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه".

فإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ، وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه - إذا أهانه بعض الناس -: إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى! وفي هذه الطريقة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح: 10]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويقال: أله عن الشيء: أي: اتركه. والمعنى: أضرب عن الاشتغال بحزن نفسك، إلى الاشتغال بحزن ما هو أهم، وهو استعظام جحود آيات الله، والاستهانة بها. فإن قيل: هذا غير مطابق للمثال والعادة، يقال: إذن تأمل، وقف على المطابقة، فإن قوله: {ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {استدراك، وضع فيه مظهران موضع مضمرين، لشدة الخطب وعظم الأمر! وفيه تهديد للظالمين، وتنبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كأنه قيل له: اشتغلت بخاصة نفسك، وذهلت عما هو أهم من ذلك، وهو ما تستعظمه من جحود آيات الله، والاستهانة بكتابه، ومن عادتك أن تؤثر حق الله على حق نفسك. ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه: وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم". وكذلك قول السيد: "وإنما أهانوني" وإن كان تهديداً للجاني، لكن فيه ردع للغلام عن تركه الأولى، وهو استعظام إهانة السيد.

وقيل: (فإنهم لا يكذبونك) بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل: (فإنهم لا يكذبونك) لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباسٍ رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون، وكان أبو جهلٍ يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروي: أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة؛ فماذا يكون لسائر قريش؟ ! فنزلت. وقوله: (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ {بقلوبهم) عطف على قوله: "والمعنى: أن تكذيبك أمر راجع إلى الله". فعلى هذا معنى قوله: "يجحدون بألسنتهم" هو قولهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ {[ص: 4]. قوله: (وقيل: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ {، معنى قولهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ {: لا يريدون به تكذيبك، "لأنك عندهم الصادق"، ولكن مرادهم به أن ما جئت به من الآيات سحر وكذب، وهو المراد بقول أبي جهل: إنك عندنا لمصدق، وإنما نكذب ما جئتنا به. والوجه هو الأول، لقوله: {ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا {، فإنه عزاء وتسليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يليق بالوجهين الآخرين. قوله: (باللواء والسقاية والحجابة): أي: والسدانة. النهاية: "سقاية الحاج: هي ما كانت

[(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)]. (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن قوله: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام: 33] ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانوني، (عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا): على تكذيبهم وإيذائهم، (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ): لمواعيده؛ من قوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات: 171 - 172]. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ): بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين. [(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَاتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)]. كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء: 3]، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص: 56]، (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء. وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام". "واللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش". "والسدانة: سدانة الكعبة: وهي خدمتها، وتولي أمرها، وفتح بابها وإغلاقه". وفي نسخةٍ بدل "الحجابة": "السدانة". قالت بنو قصي: فينا الحجابة، يعنون حجابة البيت، وهي: سدانتها.

إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ): منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها، (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَاتِيَهُمْ) منها (بِآيَةٍ) فافعل، يعني: أنك لا تستطيع ذلك. والمراد: بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَتَأتِيَهُم {[منها] {بِأَيَةٍ {فافعل). "فافعل": جواب لقوله: {فَإنِ اسْتَطَعْتَ {، وهو مع جوابه: جواب لقوله: {وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ {. ثم من الجائز أن تعبر عن هذا المحذوف بالإخباري تارة، وبالإنشائي أخرى. ففيه وجوه ثلاثة: أحدها: المقدر: "أتيت" على الإخبار. وعنه بني قوله: "لأتي بها"، لأنه جعل "إن" بمعنى "لو"، ليؤذن أن فيه تعليق إسلام قومه بالمحال. والمعنى: بلغت من حرصك على إيمانهم بحيث إن قدرت أن تأتي بالمحال لأتيت. وتلخيصه: بيان حرصه على إسلام قومه على المبالغة. وثانيها: المقدر: "فافعل" على الأمر. وفيه نوع توبيخ. وتلخيصه: بيان حرصه على تبني مطلوب القوم من الاقتراحات. وهذا الوجه أبلغ، لأنه إذا وبخ على طلب ما اقترحوه من الآيات تعريضاً بهم، كان توبيخهم على اقتراحهم الآيات أولى وأجدر وأنسب إلى قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ {لصراحته في التعريض. وثالثها: "لفعلت" على الإخبار أيضًا. لكن المعنى بابتغاء النفق والسلم نفس الآية والمعجزة، لإخراجها منهما.

وقيل: كانوا يقترحون الآيات، فكان يورّ أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالةً على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية، كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقي إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها. وحذف جواب «إن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلانٍ نزوره. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بأن يأتيهم بآيةٍ مُلجئة، ولكنه لا يفعل، لخروجه عن الحكمة، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ): من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه. (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعني: أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل: 80]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن شئت أن تقوم بنا إلى فلانٍ نزوره). جوابه: "كان صواباً"، فدل متعلق ما في حيز الشرط به على أن الجواب ما هو. وكذلك تعلق {فَتَاتِيَهُم {بالشرط، يدل على أن الجزاء ما قدر، ولذلك ساغ حذفه. قوله: (يجهلون ذلك)، أي: يجهلون أنه لا يفعل ذلك، لخروجه عن الحكمة. وفيه رمز إلى مذهبه.

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) مثلٌ لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل معناه: وهؤلاء الموتى - يعني: الكفرة - يبعثهم الله، (ثم إليه يرجعون): فحينئذٍ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم. وقرئ: "يرجعون"، بفتح الياء. [(وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)]. (لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ): (نزل) بمعنى: أُنزل. وقرئ (أن ينزل) بالتشديد والتخفيف، وذكر الفعل والفاعل مؤنث، لأن تأنيث "آية" غير حقيقي، وحسن للفصل، وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أُنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيءٌ من الآيات؛ عناداً منهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({والْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {: مثل لقدرته)، أي: استشهاد لتقرير الإنكار السابق، وإقناط كلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمان القوم، يعني: أنك لا تقدر أن تسمعهم، لأنهم كالموتى، وإنما القادر على ذلك من يقدر على تلك القدرة العظيمة، وهي بعث الموتى من القبور. والباء في قوله: "بأنه هو الذي يبعث الموتى"، قيل: هو متعلق بـ"مثل" من حيث المعنى، أي: قوله: {والْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {مثل ضربه الله لقدرته، بأنه هو الذي يبعث الموتى. قوله: (وقرئ {أَن يُنَزِّلَ {بالتشديد والتخفيف): ابن كثير وحده.

(قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) تضطرهم إلى الإيمان، كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها. [(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)]. (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) مكتوبةٌ أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم (ما فَرَّطْنا): ما تركنا وما أغفلنا (فِي الْكِتابِ): في اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ) من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني الأمم كلها من الدواب والطير، فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روي: "أنه يأخذ للجماء من القرناء". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مِن شَيْءٍ {من ذلك لم نكتبه). قيل: "لم نكتبه": حال من ضمير "تركنا". وليس بذلك، لأن "من ذلك" صفة {شَيْءٍ {، و"من" بيان، فلذلك "لم نكتبه": صفة أخرى، أو حال منه. "ولم نثبت": عطف تفسيري. المعنى: ما تركنا في اللوح من شيءٍ كائنٍ من المذكور، ومتصل به، غير مكتوب، ولا مثبت فيه البتة. و"من" في "متما يختص به" بيان "ما". والضمير في "يختص" يعود إلى "ما". والمجرور يعود إلى "الكتاب". قوله: (يأخذ للجماء من القرناء). روينا عن مسلمٍ والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

فإن قلت: كيف قيل: (إِلَّا أُمَمٌ) مع إفراد "الدابة" و"الطائر"؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ) دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حُمل قوله: (إِلَّا أُمَمٌ) على المعنى. فإن قلت، هلا قيل: وما من دابة ولا طائرٍ إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله: (فِي الْأَرْضِ) و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)؟ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائرٍ قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهملٍ أمرها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الحديث استشهد به لقوله: "وينصف بعضها من بعض"، لا لقوله: "فيعوضها"، لأنه لا يثبت التعويض إلا إلى المكلفين، لأن قوله: "يعني الأمم كلها" مشتمل على المكلفين وغير المكلفين. قوله: (معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة) فيه أن منزلة {فيِ الأَرضِ {، و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {من {دَآبةٍ {و {طَيرٍ {منزلة المؤكد مع المؤكد للشمول. ولهذا قال: "قط في جميع الأرضين السبع، وما من طائرٍ قط في جو السماء". قال الزجاج: "قال: {بِجَنَاحَيْهِ {على جهةِ التوكيد، لأنك قد تقول للرجل: طر في حاجتي، أي: أسرع. وجميع ما خلق الله ليس يخلو من هاتين المنزلتين: إما أن يدب أو يطير". قلت: عنى أن تعميم الجنسين كما حصل بالتوكيد حصل تعميم الحيوان بتكرير لفظ الدابة، ولفظ الطائر. وإلى هذا المعنى ينظر قول المصنف: "إن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان". وقول صاحب "المفتاح": "ذكر {فِي الأَرْضِ {مع {دَآبةٍ {، و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {مع {طَيرٍ {لبيان أن القصد من لفظ {دَآبةٍ {ولفظ {طَيرٍ {

فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره: تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمنٌ على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبي عبلة: "ولا طائر"؛ بالرفع على المحل، كأنه قيل: وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة: "ما فرطنا"؛ بالتخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما هو إلى الجنسين، وإلى تقريرهما". قوله: "وإلى تقريرهما" تفسير لقوله: "إلى الجنسين". والمراد به التوكيد لا غير. وقد يظن أن قوله: "من هذا الباب من وجه"، أن الوجه الآخر ما ذكره صاحب "الكشاف"، وهو وهم، لأن مراده أنه لو أطلق {مِن دَابَّةٍ {، {ولا طَائِرٍ {غير مؤكدين، ربما اختلج في ذهن السامع إرادة غير الجنسين، وأن المراد بهما غير المتعارف، لقوله تعالى بعد ذلك: {إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم {، فلا يحصل الشمول المقصود، فأزيل الوهم بما يفيد أن القصد إلى الجنسين وإلى تقريرهما. أي: هو من باب البيان من هذا الوجه. وما عليه أصحاب المعاني غير ما عليه النحويون، فإنهم يحملون سائر التوابع على البيان والتوضيح. وقد سبق في "الفاتحة" أن البدل تفسير وتوضيح للمبدل. وقال المصنف في قراءة من قرأ: "أإزرا تتخذ أصناماً آلهة": " [معناه: أتعبد] على الإنكار، ثم قال: "تتخذ أصناماً آلهة" تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له".

[(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَا يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)]. فإن قلت: كيف أتبعه قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته، وينادي على عظمته، قال: والمكذبون (صُمٌّ): لا يسمعون كلام المنبه (وَبُكْمٌ): لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي: يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، لأنه ليس من أهل اللطف، (وَمَنْ يَشَا يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألا ترى كيف جعل التأكيد بياناً؟ وكيف يعني بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {أنه من باب عطف البيان! والمبين كالترجمة والتفسير لما اشتمل عليه المبين من الإبهام، وهو عين التأكيد؟ قال الإمام: "هو كقولهم: نعجة أنثى، وكلمته بقي، ومشيت برجلي". قال صاحب "التقريب": "في قول المصنف نظر، لأنهما صفتان، فهما بالدلالة على التخصيص أولى من التعميم". وأجيب: أن التوكيد لا ينافي الصفة، كقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ {[النحل: 51]، و {نَفْخَةٌ واحِدَةٌ {[الحاقة: 13]، وقولهم: "أمس الزائل لا يعود"، وأن التعميم نوع من التخصيص. قوله: (ثم قال: إيذاناً بأنهم من أهل الطبع: {مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ {). ما أظهر دلالته على مذهب أهل السنة! وذلك أنه تعالى لما أنكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه على إسلام قومه،

[(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)]. (أَرَأَيْتَكُمْ) أخبروني، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه؟ فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيداً ما شأنه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتهالكه عليه، ذلك الإنكار البليغ، وضرب لهم مثلاً بالموتى أتى بقوله: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ {الآية [الأنعام: 38]، بياناً لربوبيته، وشاهداً على عظمة ألوهيته. وعقبه بقوله: {والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ {[الأنعام: 39]، ليدل به على أن هؤلاء الكفرة، مع هذه الأدلة الظاهرة، والأنوار الساطعة، خابطون في ظلمات الكفر، صم لا يسمعون كلام المنبه، بكم لا ينطقون بالحق. يعني أنه ليس في مقدورك هدايتهم {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {[البقرة: 6] لأن ذلك مبني على المشيئة، وعلمه السابق. {ولَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ {[السجدة: 13]. وكم ترى من آيات هذا الكتاب الكريم معاضدة بعضها بعضاً في هذا المعنى، كما أشرنا إليها في أماكنها. وأما قول المصنف: " {يُضْلِلْهُ {، أي: يخذله ويخله وضلاله" فهو نابٍ عن مظانه، كأنه جاء يرقعه ليسد ثلمه، هيهات! "اتسع الخرق على الراقع". قوله: (والضمير الثاني لا محل له من الإعراب). قال الزجاج: "ذهب الفراء إلى أن الكاف في "أرأيتك" لفظها نصب، ومعناها رفع. نحو: "دونك زيداً"، الكاف مخفوض لفظاً، مرفوع معنى، لأن المعنى: خذ زيداً. وهذا خطأ، لأن "أرأيت" في قولك: أرأيتك زيداً ما شأنه؟

وهو خلفٌ من القول، ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) من تدعون؟ ثم بكتهم بقوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) بمعنى: أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون الله دونها؟ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ): بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة، (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي: ما تدعونه إلى كشفه (إِنْ شاءَ) إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ): وتتركون آلهتكم، ولا تذكرونها في ذلك الوقت، لأنّ أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) كأنه قيل: أرأيتكم أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعدت إلى الكاف وإلى "زيد"، فصار لها اسمان، والمعنى: أرأيت نفسك زيداً ما حاله؟ وهذا محال. والذي يعتمد عليه أن الكاف زائدة لا موضع لها، والمعنى: أرأيت زيداً ما حاله؟ والكاف لبيان الخطاب، وهي المعتمد عليها في الخطاب، فتقول للمؤنث: أرأيتك زيداً ما حاله؟ بفتح التاء على أصل خطاب المذكر، وبكسر الكاف، لأنها صارت مبينة للخطاب. أرأيتكما، وأرأيتكم، وأرأيتكن زيداً ما حاله؟ فتوحد التاء فيها. فإن عديت الفاعل إلى المفعول في هذا الباب، صارت الكاف مفعوله. تقول: أرايتني عالماً بفلان؟ أرأيتك، أرأيتكما، وأرأيتكم عالماً وعالمين وعالمين بفلان؟ ". قوله: (خلف من القول) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، الجوهري: يقال في خلف القول: سكت ألفاً ونطقت خلفاً، أي: رديئاً. قوله: (وتتركون آلهتكم، أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم). نقل الإمام "أن بعض الزنادقة - خذلهم الله - أنكر الصانع عند جعفر الصادق

فإن قلت: إن علقت الاستخبار به، فما تصنع بقوله: (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) مع قوله: (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ)، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رضي الله عنه، فقال جعفر: هل ركبت البحر؟ قال: بلى. قال: هل رأيت أهواله؟ قال: بلى، هاجت يوماً رياح هائلة، فكسرت السفن، وغرق الملاحون، فتعلقت ببعض ألواحها، ثم ذهب عني اللوح، فدفعت إلى تلاطم الأمواج، حتى حصلت بالساحل. قال جعفر رضي الله عنه: قد كان اعتمادك من قبل على السفينة وعلى الملاح، وعلى اللوح، فلما ذهبت، هل أسلمت نفسك للهلاك، أم كنت ترجو السلامة بعد ذلك؟ قال: بل رجوت السلامة. قال: ممن؟ فكست: فقال جعفر رضي الله عنه: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه ذلك الوقت، وهو الذي أنجاك. فأسلم الرجل". قوله: (فإن علقت الاستخبار به، فما تصنع؟ ). قال صاحب "التقريب": "لم يرد السؤال على الأول، لأن الشرطين وهما: {إنْ أَتَاكُمْ {، {أَوْ أَتَتْكُمُ {يتعلقان فيه بالمضمر، وهو "من تدعون؟ " وينقطع قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ {عما قبله، فلا يتوهم تقيد الكشف بالشرطين. وفي الثاني لا يتعلقان بمضمر، فيلزم تعليق الشرطين بما بعدهما، وهو قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ {، فيتوهم تقييد الكشف بالشرطين، ولذلك خصصه بالسؤال. وفيه دقة". وقلت: تحرير السؤال: إن علقت {أَرَءَيتكُمْ {بقوله: "من تدعون" المقدر، على أنه مفعوله، والدال عليه ما بعد الاستفهام، فالمعنى: أخبروني من تدعون {إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ {فيتم الكلام عنده، ثم استؤنف مقرر لذلك المعنى، سائلاً عن الواقع في الدنيا، وما شوهد منهم في الشدائد، سؤال تبكيت: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {أي: أتخصون آلهتكم بالدعوة؟

وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله: (إِنْ شاءَ)؛ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجح منه. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا بل أنتم قوم عادتكم أنكم تخصون الله بالدعاء عند الكرب والشدائد، فيكشف ما تدعون إليه. وإن علقته بالاستفهام، أي: بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {، يكون هو الدال على الجزاء. فالمعنى: أخبروني إن أتتكم الساعة: أدعوتم غير الله، أم دعوتم الله، فيكشف ما تدعون؟ ودخلت همزة الاستفهام لمزيد التقرير، وحينئذ يلزم كشف قوارع الساعة عنهم، وهي لا تنكشف عن الكفار. قال أبو البقاء: "مفعول {أَرَءَيْتَكُمْ {محذوف، أي: أرأيتكم عبادتكم الأصنام؟ دل عليه قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {. وقيل: الشرط والجزاء مفعوله. وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام، أي: إن أتتكم الساعة دعوتم الله". قوله: (قوارع الساعة)، الجوهري: "القارعة: الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية. يقال: قرعتهم قوارع الدهر، أي: أصابتهم".

البأساء والضراء: البؤس والضر. وقيل: البأساء: القحط والجوع. والضراء: المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى: ولقد أرسلنا إليهم الرسل، فكذبوهم فأخذناهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ): يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم. (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا تَضَرَّعُوا) معناه: نفي التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بـ"لولا" ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم. (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليراوح عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكنه جاء بـ"لولا" ليفيد أنه لم يكن لهم عذر)، وذلك أن "لولا" إذا دخلت على المضي أفاد التنديم والتوبيخ، كأنه قيل: لم لم يتضرعوا؟ وليتهم تضرعوا، وكانوا متمكنين منه، غير ممنوعين. وإليه الإشارة بقوله: "لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم". ولو بقي التضرع صريحاً لم يدل عليه عدم المانع من التضرع. قال صاحب "المفتاح": "فإذا قيل: "هلا أكرمت زيداً؟ "، فكأن المعنى: ليتك أكرمت زيداً، متولداً منه معنى التنديم". قوله: (ليراوح عليهم)، الجوهري: "المراوحة في العملين: أن يعمل هذا مرة وهذا مرة. وتقول: راوح بين رجليه: إذا قام على إحداهما مرة، وعلى الأخرى مرة".

كما يفعل الأب المشفق بولده؛ يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى؛ طلباً لصلاحه، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتدابٍ لشكر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (ليراوح عليهم) إلى قوله: (كما يفعل الأب المشفق) لا يصلح أن يكون تعليلاً لقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ {، لأن هذا مكر واستدراج من حيث لا يعلمون، وذلك تثقيف وتأديب. روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب: فإنما هو استدراج". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ {، الآية، أي: تركوا الاتعاظ من البأساء والضراء. نعم في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ {رائحة من تأديب الأب المشفق. ونظيره قوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ {[الأعراف: 94 - 95]. قوله: (لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتدابٍ لشكر، ولا تصد لتوبة): ليس جوابا لقوله: {إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا {، بل هو تفسير له، والجواب: {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً {، وقوله: "من غير انتدابٍ لشكر" قيل: هو حال من المجرورين، و"من": ابتدائية، أي: لم يزيدوا على الفرح والبطر، كائنين من عدم الشكر والتوبة، وذلك أنه تعالى حكي عن حال الأمم الخالية، الذين بطرت معيشتهم فأخذهم بالبأساء، ليتضرعوا ويتوبوا، فما تضرعوا، ثم فتح عليهم أبواب

ولا تصدّ لتوبةٍ واعتذار، (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ): واجمون متحسرون آيسون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخيرات ليشكروا فما شكروا وداموا على ما كانوا عليه من البطر، وما غيروا من حالهم. وقيل: هو صفة "شيئاً" مفعول "لم يزيدوا". ويدفعه لفظة "غير"، وقيل: هو حال من فاعل "لم يزيدوا"، و"من": مزيدة، أي: لم يزيدوا على الفرح حال كونهم غير منتدبين لشكر، ولا متصدين لتوبة. ويمكن أن يقال: إنه صفة مصدرٍ محذوفٍ من حيث المعنى، وإن القرينتين عبارتان عن عدم تغيير الحال، أي: أخذناهم بالبأساء ليتضرعوا ويتوبوا، ثم فتحنا عليهم أبواب السماء ليشكروا، فما نفعهم ذلك. كأنه قيل: حتى إذا استمروا على البطر استمراراً من غير انتدابٍ لشكر، ولا تصد لتوبةٍ، أخذناهم بغتة. نظيره: ما ذكره في "القصص": "الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه". وفي الحديث: "من سن سنة حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء". هذا على تقرير المصنف، لكن معنى الآية ما ذكرناه. والله أعلم. قوله: "من غير انتدابٍ لشكر"، يقال: ندبه لأمر، فانتدب له: أي: دعاه له، فأجاب. قوله: ({أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً {. قال أبو البقاء: " {بَغْتَةً {: مصدر في موضع الحال من الفاعل، أي: مباغتين، أو من المفعولين، أي: مبغوتين. ويجوز أن يكون مصدراً على المعنى، لأن {أَخَذْنَاهُم {بمعنى: "بغتناهم"، و {إِذَا {للمفاجأة، وهي ظرف مكان، و {هُم {: مبتدأ، و {مُبْلِسُونَ {: خبره، وهو العامل في {إذَا {". قوله: (وأجمون)، الجوهري: "وجم من الأمر وجوماً، والواجم: الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام".

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ): آخرهم، لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إيذانٌ بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الإبلاس: الحزن من شدة البأس، ومنه اشتق "إبليس" فيما قيل. ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت، وينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان: إذا سكت وإذا انقطعت حجته". قوله: (قد استؤصلت شأفتهم)، أي: أذهبهم الله. النهاية: "الشأفة بالهمز وغير الهمز: قرحة تخرج في أسفل القدم، فتقط وتكوى، فتذهب. ومنه قولهم: استأصل الله شأفته: أي أذهبه". قوله: (إيذان بوجوب الحمد [الله] عند هلاك الظلمة). هذا يؤذن أن {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {- كما قال في الكواشي - إخبار بمعنى الأمر: أي: احمدوا الله. وكذا كل ما ورد في القرآن من هذا. ثم "الحمد" على ما سبق في أول الكتاب، قد يكون شكراً للصنيعة، وقد يكون للثناء على الفضائل الاختيارية. أما بذله على الشكر فإن قوله: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَاسَاءِ {إلى قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا {وارد ليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: هؤلاء المشركون الذين تدعوهم إلى الله، وهم يعاندون، ويكذبونك، لابد أن يكون لهم أسوة بمن قبلهم في هلاكهم وتدميرهم، واستئصال شأفتهم، فإذا تم عليهم ذلك، فاحمد الله على طهارة الأرض من عبث الظلمة. فالرب على هذا فيه معنى التربية، لأن في هلاكهم تخليصاً لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وإضلالهم، واحتباس الخير النازل من السماء. وذلك نعمة جليلة يجب أن يحمد عليها. وأما بذله على الفضائل الاختيارية، فإنه تعالى لما ذكر إهلاك المتمردين، وتطهير الأرض

وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم. وقرئ «فتحنا» بالتشديد. [(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)]. (إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) بأن يصمكم ويعميكم، (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن يغطي عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم (يَاتِيكُمْ بِهِ) أي: يأتيكم بذاك، إجراءً للضمير مجرى اسم الإشارة ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من أدناسهم، مدح نفسه المقدسة بالقهارية والعظمة. فالرب على هذا بمعنى المالك. فالمعنى: الحمد لله الملك القهار، الذي له الكبرياء والعظمة، وله التصرف في ملكه كيف شاء. وهذا أحرى في الإيراد، لأن قوله: {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {مجرى على ظاهر الإخبار. فيكون قوله: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا {إلى آخر {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {، على التقديرين، معترضاً بين قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ {، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ {، مؤكداً لمضمون معنى الكلامين. قوله: (وقرئ: "فتحنا" بالتشديد): ابن عامر. والباقون: بالتخفيف. قوله: (إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة)، نحو قول رؤبة: فيها خطوط من سوادٍ وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق

أو بما أخذ وختم عليه يَصْدِفُونَ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو عبيدة: "إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما، فقال: أردت: كأن ذالك". قوله: (أو بما أخذ وختم عليه). قال الزجاج: "الهاء تعود على معنى الفعل: "أي: يأتيكم" بما أخذ منكم. ويجوز أن يكون {يَاتِيكُم بِهِ {أي: بسمعكم، ويكون ما عطف على السمع داخلاًً معه في القصة، إذ كان معطوفاً على السمع: أي {سَمْعَكُمْ وأَبْصَارَكُمْ {إلى آخره". قوله: ({يَصْدِفُونَ {: يعرضون عن الآيات بعد ظهورها). قال القاضي: " {نُصَرِّفُ الآيَاتِ {: نكررها تارةً من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارةً بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين، وهم يعرضون عنها". وقلت مزيداً للتقرير: إن قوله: "بعد ظهورها" دل على أن "ثم" للاستبعاد، كما في قوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا {[السجدة: 22]. وإن التعريف في "الآيات" للعهد، وهي الآيات المكررة من أول السورة، سيما من قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ {[الأنعام: 40] وما يشبهه، وإن هذه الآية كالمعترضة توكيداً للتذكير والاعتبار. وأيضًا، إن كلمة {اُنظُر {معطية معنى التعجب، نحو: ألم تر؟ و: أرأيت؟ تعجب السامع من شدة شكيمة أولئك المشركين، وإصرارهم على العناد، ونفورهم عن الحق، بعد تكرير الآيات المنذرة المخوفة، كقوله تعالى: {ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ومَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُورًا {[الإسراء: 41].

[(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)]. لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل: (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)، وعن الحسن: ليلاً أو نهاراً. وقرئ: "بغتة أو جهرة"، (هَلْ يُهْلَكُ) أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ. هل يهلك بفتح الياء. [(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون)]. (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) من آمن بهم وبما جاءوا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فلم قرنت هذه الآية من بين تلك الآي المنذرة بهذه؟ قلت: لأن تلك واردة في التخويف بالعذاب النازل من الخارج، وهذه من نفس المخاطب. يعني: إن أنشأنا العذاب من ذاتكم وما أنتم به أهم، من إله غير الله ينجيكم منها؟ {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ {. ومن ثم كان دلائل الأنفس أدق وأفيد للناظر من دلائل الآفاق. قوله: (لما كانت البغتة)، يعني: {جَهْرَةً {: لا تقابل {بَغْتَةً {من حيث اللفظ، لأن مقابل "الجهرة": "الخفية". لكن معنى {بَغْتَةً {: وقوع الأمر من غير الشعور، فكأنها في معنى "خفية"، فحسن لذلك أن يقال: {بغتةً أو جهرةً {.

ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة (وَأَصْلَحَ) ما يجب عليه إصلاحه مما كلف. [(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)]. جعل العذاب ماساً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام، ومنه قولهم: لقيت منه الأمرّين والأقورين، حيث جمعوا جمع العقلاء، وقوله: (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)] [الفرقان: 12]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يرسلهم ليتهلي بهم ويقترح عليهم الآيات): إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله تعالى: {وقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37] الآيات. الجوهري: "لهوت بالشيء، ألهو لهواً: إذا لعبت به. وتلهيت به: مثله". يعني: ليسخر بهم. قوله: (كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام). يجوز أن يريد أن الاستعارة واقعة في "المس" فتكون تبعية، أو في {اَلْعَذَابُ {فتكون مكنية. والظاهر الثاني، بشهادة الاستشهاد بـ"الأمرين". قوله: (الأمرين). روى الجوهري عن أبي زيد: "لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي"، وعن الكسائي: "لقيت منه الأقورين، بكسر الراء، والأقوريات: وهي الدواهي العظام". وقال الميداني: "لقيت منه الأقورين والفتكرين والبرحين: إذا لقي منه الأمور العظام". والأقورين: من: قوره، أي: قطعه مدوراً. والبرحين، بالضم والكسر، أي: الشدة.

[(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)]. أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشرٍ من ملك خزائن الله - وهي قسمه بين الخلق وأرزاقه- وعلم الغيب، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنسٍ خلقه الله تعالى، وأفضله وأقربه منزلةً منه. أي: لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول). قيل: المناسب: ما يستحيل ويمتنع، لأن المراد: لا أدعى الإلهية. كأنه يريد بالمستبعد: المستحيل، لقوله بعد هذا: "والمحال: وهو الإلهية والملكية". قوله: (وأني من الملائكة) بفتح الهمزة قيل: هو عطف على قوله: "ما يستبعد". والوجه: العطف على قوله: "أن يكون لبشر"، ليكون داخلاً في حكم الاستبعاد، أي: لا أدعي ما يستعبد في العقول من أن يكون عندي ملك خزائن الله، وأني من الملائكة. والدليل عليه قوله: "والمحال: وهو الإلهية والملكية". وإنما وضع "لبشر" موضع "أني أملك خزائن الله"، ليشعر بالعلية، وهي: البشرية مما ينافي الإلهية والملكية. قوله: (أي: لم أدع إليهةً ولا ملكية). جعل مجموع قوله تعالى: {عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ {عبارة عن معنى الإلهية، لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة علم الغيب، مخصوصتان به، ولهذا كرر في التنزيل لفظ: {ولا أَقُولُ {. وهذا النسق يهدم قاعدة استدلاله في قوله تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ {[النساء: 172] على تفضيل الملك على البشر، لأن الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى، يعني من الإلهية إلى الملكية. وأما قوله: "الذين هم أشرف جنسٍ خلقه الله، وأفضله" فهو بعيد، لأن سياق هذه الآية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الرد على اقتراح المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم الآيات يدل عليه إجمالاً قوله: {فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَاتِيَهُم بِآيَةٍ {[الأنعام: 35]، وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37]. كما قال الزجاج: "هذه الآية متصلة بقوله: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {[الأنعام: 8]، وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37] ". وهذه الآية كالجواب عن تفصيل تلك الآيات، فقوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ {: جواب عن قولهم: إن كنت رسولاً من عند الله فاطلب من الله أن يوسع علينا خير الدنيا، وأن يوقفك على ما سيقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى تستعد لذلك، وقوله: {ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ {: جواب عن قولهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ {[الفرقان: 7]. والمعنى: لست إلهاً حتى تطلبوا مني قسمة الأرزاق، ومعرفة الغيب، فإنهما يختصان بالله وحده، ولست ملكاً حتى لا آكل ولا أشرب. والمقصود من الرسالة تلقي الوحي من عند الله، والتبليغ إلى الخلق {إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ {، هذا على تقدير المصنف. وأما الذي عليه الظاهر، وفي "المعالم": "فهو أني لست متصرفا في ملك الله، حتى تقترحوا مني خزائن رزق الله، فأعطيكم ما تريدون، ولا أعلم الغيب، فأخبركم بما غاب مما انقضي ومما سيكون، ولا أنا ملك أقدر على ما لا يقدر عليه الإنسان، بل أنا رسول من الله مأمور متبع لما يوحى إليَّ".

لأنه ليس بعد الإلهية منزلةٌ أرفع من منزلةِ الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدّعي ما كان مثله لكثيرٍ من البشر، وهو النبوّة. (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثلٌ للضالّ والمهتدي، ويجوز أن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كان الكلام رداً على المشركين، فمن أين دل على الأفضلية؟ وكل هذه المعاني مستنبطة من كلامه في سورة "هود" و"بني إسرائيل"، سيما من قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا {إلى قوله: {ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ {[الإسراء: 90 - 97]. روى الإمام عن الجبائي: أن الآية دلت على فضل الملائكة على الأنبياء، لأن المعنى: لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي. فأجاب القاضي عبد الجبار، منهم: "إن كان الغرض في النفي التواضع، فالأقرب لزوم الأفضلية، وإن كان نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، فلا". ثم إني نظرت في كلام صاحب "الانتصاف"، فوجدت فيه لمحةً من هذه المعاني، وفي آخره: "وفي لفظ الزمخشري قبح، فإنه قال: "ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من الملائكة". فجعل للألوهية منزلة، ولا يجوز هذا الإطلاق". قوله: (مثل للضال والمهتدي). يريد أن هذه الخاتمة كالتذييل الذي يقع في آخر الكلام،

لمن اتبع ما يوحى إليه، ومن لم يتبع، أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة، والمحال وهو الإلهية أو الملكية، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على سبيل التمثيل، وقوله: (أفلا تتفكرون) كالتتميم للتذييل، والتنبيه على مكان التذييل. ثم المذيل إما ما سبق من أول هذه السورة، وجميع ما جرى له مع القوم: من الدعوة إلى الحق، وإبائهم إلا الباطل. وإليه الإشارة بقوله: "فلا تكونوا ضالين أشباه العميان": يعني أفلا تتفكرون في أحوالي وأحوالكم، لتميزوا بين الحق والباطل، ولتعلموا الضال والمهتدي؟ وإما ما سبق من قوله: {إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ {. فالبصير من يتبع ما يوحي إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمى من لا يرفع به رأساً. وهو المراد بقوله: "فتعلموا أن أتباع ما يوحي إلى ما لابد لي منه" حتى أكون مهتدياً لا ضالا، أفلا تتفكرون في حالي لتعلموا أني مهتدٍ حيث أتبع الوحي، ولست بضال في تركه؟ أو من قوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ {. فالأعمى من يدعي هذا، والبصير من يتبع الوحي، ويدعى النبوة. وإليه الإشارة بقوله: "فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر"، يعني: أفلا تتفكرون في اهتدائي لطريق الحق، ومجانبتي عن الباطل؟ قوله: (والمحال، وهو الإلهية أو الملكية)، الانتصاف: "دعوى الملكية من الممكنات، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها". قال في "الإنصاف": "من البين فيه قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ {[الأعراف: 20]، أطمع آدم في أن يصير ملكاً، والنبي لا يطمع في المستحيل".

(أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ): فلا تكونوا ضالين أشباه العميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو فتعلموا أن أتباع ما يوحى إليَ مما لا بدّ لي منه. فإن قلت: (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على قوله: (عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ)، لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول. [(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)]. (وَأَنْذِرْ بِهِ) الضمير راجع إلى قوله: (ما يُوحى إِلَيَّ) [الأنعام: 50]، و (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) إمّا قومٌ داخلون في الإسلام، مقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل، فينذرهم بما يوحى إليه، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين، وإمّا أهل الكتاب، لأنهم مقرّون بالبعث، وإما ناسٌ من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ {: فلا تكونوا ضالين أشباه العميان)، الراغب: "الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم. والتفكير: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل. وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب. ولهذا روي: "تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله"، إذ كان الله عز وجل منزهاً أن يوصف بصورة".

أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمرّدين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) في موضع الحال من (يحشروا)، بمعنى: يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأن كلا محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال. [(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن ينجع)، الجوهري: "نجع فيه الخطاب والوعظ والدواء: إذا دخل وأثر". قوله: (ولابد من هذه الحال). قال صاحب "التقريب": "لأن المخوف هو الحشر على هذه الحال، لا أصل الحشر". وقلت: معنى قول المصنف يعود إلى مذهبه، يعني: لابد من القيد لأن الحشر مطلقاً لا يخاف منه، وإنما الذي يخاف منه هو الحشر الذي يعتقد المكلف فيه أن لا شفيع ولا نصير إلا الله وهو قد فرط في جنب الله، فحينئذ خسر خسرانا مبيناً. فإذا خاف هذه الحالة نفع معه الإنذار، ونجع فيه الوعظ، ويفهم منه أن المتقي الذي يتحرى رضا الله لا يخاف حينئذ، وخرج من هذا الحكم. ولهذا قال بعد هذا: "ذكر غير المتقين من المسلمين، وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين)، فاعتضد المفهوم بدلالة النظم والترتيب. ولكن النظم الأوفق أن قوله تعالى: {أَنذِرِ {: أمر وارد عقيب قوله: {ولا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ {[الأنعام: 50]، وقد عطف عليه النهي، وهو: {ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ {[الأنعام: 52].

ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم، وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم، أي: عبادته، ويواظبون عليها. والمراد بذكر "الغداة" و"العشي": الدوام. وقيل: معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والكلام مرتبط بعضه ببعض: أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أولاً بالإعراض عن المتمردين الذين لا ينجع فيهم التذكير، ثم أمره ثانياً بالإنذار لمن ينجع فيه الوعظ من الكفار، ثم نهاه ثالثاً عن طرد المتقين، يعني: اترك المعاندين وإنذارهم، واشتغل بمن يرجي منهم الخير، وإلزم مصاحبة المؤمنين. قال في "الانتصاف": "إنما تلزم الحال لو قيل: "وأنذر به الذين يحشرون"، إذ لولا الحال لعم الأمر بالإنذار، والمقصود تخصيصه. وأما وقد قيل: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا {فهو مستقل بتخصيص الإنذار: إما لإقرارهم به، وإما لأخذهم بالأحوط، دون العتاة المتمردين، وليس كل خائفٍ من البعث لا شفيع له، فإن الموحدين أجمعين خائفون وهم مشفوع لهم. فإن عني بأن الحال لازمة، كقوله: {وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا {[البقرة: 91]، كان بناءً على قاعدته في إنكار الشفاعة. فكل خائفٍ عنده غير مشفوع له، إذ لا يخاف عنده إلا أصحاب الكبائر غير التائبين، أو الكفار، ولا شفاعة لهم عنده، وإنما الشفاعة عنده في زيادة الثواب لمن استوجبه - بزعمه - بعمله الصالح. وهذا عنده لا يخاف من البعث، لأنه يستوجب الجنة. فجعل الحال لازمة، لأن غير الخائف لا تتناوله الآية، والخائف مستوجب للعقاب عنده، فلا شفاعة له. فتفطن لدقائقه". قوله: (ويواظبون) تفسير "يواصلون". وفيه إيذان بأن {يَدْعُونَ {محمول على الاستمرار.

روي: أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم-، وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف -؛ جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أنا بطارد المؤمنين"، فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال: "نعم"؛ طمعاً في إيمانهم. وروي أن عمر رضي الله عنه قال: لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتاباً، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته. قال سلمان وخباب وصهيب: فينا نزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبنا ركبته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قوله: "والمراد بالغداة والعشي: الدوام" ينبي أن الدوام هو الزبدة من اختصاص هذين الوقتين، لاختصاصهما بعينهما. وإنهم يقولن: "أنا عند فلان صباحاً ومساءً"، ويريدون الدوام. فيكون التقدير: يواظبون على ذكر ربهم دائمين. فيكون حالاً مؤكدة. قوله: (روي أن رؤوساً من المشركين). الحديث رواه ابن ماجه عن خباب، وقال: "جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حسن الفزاري". وليس فيه أن عمر رضي الله عنه قال شيئاً، ولا فيه قوله: "الحمد لله الذي لم يمتني". قوله: (وأرواح جبابهم): أي: روائحها الكريهة، وهو عطف على "هؤلاء الأعبد"، على تقدير: وأبعدت أرواح جبابهم، نحو قوله: علفتها تبناً وماءً باردا

وكان يقوم عنا إذا أراد القيام، فنزلت: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم)، فترك القيام عنا إلى أن تقوم عنه، وقال: "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع قوم من أمتى. معكم المحيا ومعكم الممات". و(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، كقوله: (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء: 113]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال: (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم، على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين، وإن كان لهم باطنٌ غير مرضي، فحسابهم عليهم لازمٌ لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الزمر: 7]. فإن قلت: أما كفى قوله: (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتى ضم إليه (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ قلت: قد جُعلت الجملتان بمنزلة جملةٍ واحدة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم {، كقوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113]. قال أبو البقاء: {يُرِيدُونَ {: حال من {يَدْعُونَ {، و {مِنَ {في {مَنِ شَيءً {: زائدة، وموضعها رفع بالابتداء، و {عَلَيْكَ {: الخبر، و {مِن حِسَابِهِم {: صفة {شَيءٍ {قدم عليه، فصار حالاً، وكذلك الذي بعده، إلا أنه قدم {مَنْ حِسَابِكَ {على {عَلَيِهم {، ويجوز أن يكون الخبر {مَنِ حِسَابِكَ {و {عَلَيِهم {صفة لـ {شَيءِ {مقدمة عليه، {فَتَطْرُدَهُمْ {. جوال لـ {مَا {النافية، فلذلك نصب: {فَتَكُونَ {جواب {وَلاَ تَطْرُدِ {.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون {مِنَ شَيءٍ {: فاعل {عَلَيْكَ {، لاعتماده على النفي، و {مِنْ حِسَابِهِم {: حال من الفاعل مقدم عليه. قيل: قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ {كقوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113]، يخالف قوله: "فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك"، لأن صاحب "المفتاح" قال: " {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {معناه: حسابهم مقصور على الاتصاف بـ {عَلَى رَبِّي {لا يتجاوز إلى أن يتصف بـ"علي"، فيلزم من أول الكلام أن يكون "حسابهم" مقصوراً على "الله"، ومن آخره ألا يكون مقصوراً عليه". والجواب: أن قوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {نازل في الكفار من قوم "نوح"، لما طعنوا في مؤمنيهم بقولهم: {مَا نَرَاكَ إلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّايِ {[هود: 27]. بعمنى أنهم ما آمنوا عن نظرٍ وبصيرة، كما نص عليه في موضعه. فهو مثل قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ {، لأنه نازل في طعن المشركين في ضعفاء المؤمنين في مثله. يدل عليه قوله: "وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم". فمعنى هذه الآية ما قال المصنف: "فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي، فحسابهم عليهم لازم لهم، لا يتعداهم إليك"، أي: فحسابهم علي لا عليك. وهو معنى قول نوح عليه السلام وهو ما قال صاحب "المفتاح": {حِسابُهُمْ {مقصور على الله، لا يتجاوز أن يتصف بـ"علي"، راجع إلى هذا. يعني: إن كان باطنهم غير مرضي، فلا علي، ولا يتعدى ضرره إليّ.

وقصد بهما مؤدىً واحد، وهو المعنيّ في قوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الزمر: 7]، ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم، ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي، (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي، ويجوز أن يكون عطفاً على (فَتَطْرُدَهُمْ) على وجه التسبيب، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم. وقرئ: "بالغدوة والعشي". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نعم، ضمت مع هذه الآية ضميمة أخرى مؤكدة لها، وهي قوله: {ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ {فصارت بمعنى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى {[الأنعام: 164]، ورجع معنى الآيتين إلى أنك غير مؤاخذٍ بسرائرهم، في كونهم غير مخلصين النية. كما أن قول نوح عليه السلام: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113] معناه: إني غير مؤاخذٍ بسرائرهم وإخلاصهم، لأن المشبه به حكاية قول نوح عليه السلام مع قومه، والمشبه حكاية قول الله مع رسوله صلوات الله عليه، وأنه تعالى نهاه عما كان يشاهد منه من حرصه على إسلام قومه، ومن لم يعين المقام قال ما شاء. قوله: (ويجوز أن يكون عطفاً على {فَتَطْرُدَهُمْ {على وجه التسبيب). قال القاضي:

[(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)]. (وَكَذلِكَ فَتَنَّا): ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي: ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "وفيه نظر"، ووجه النظر هو أن قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ {حينئذ مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض أمر الحساب إليه، فيفهم منه أن لو كان حسابهم عليه وطردهم، لكان ظالماً. وليس كذلك، لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والجواب: أنه أراد بذلك المبالغة في منع الطرد. يعني: لو قدر تفويض الحساب إليك مثلاً ليصح منك طردهم لم يصح أيضاً، فكيف والحساب ليس إليك؟ نظيره في إرادة المبالغة قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". قوله: (ومثل ذلك الفتن العظيم). المشار إليه ما دل عليه التعليل والمعلل، كأنه تعالى

(أَهؤُلاءِ) الذين (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي: أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر: 25]، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف: 11]. ومعنى "فتناهم ليقولوا ذلك": خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذولٌ مفتون. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي: الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشار إلى فتنةٍ عظيمة مقدرة. قال القاضي: "ومثل ذلك الفتن - وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا - {فَتَنَا {، ثم علله بقوله: {لِيَقُولُوا {. وإليه الإشارة بقوله: "خذلناهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول". قال محيي السنة: " {فَتَنَا {: أراد: ابتلينا ابتلاء الغني بالفقير، والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان، امتنع من الإسلام بسببه - فكان فتنة له - فذلك قوله: {لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا {". قوله: (خذلناهم فافتتنوا)، أي: وضع الافتتان موضع الخذلان، إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، واللام في {لِيَقُولُوا {: لام "كي"، ولتقديره الخذلان علله بقوله: "لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول"، بناءً على مذهبه.

[(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم، وكذلك قوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ: (إنَهُ ... فَإِنَّهُ)؛ بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ)، وبالفتح على الإبدال من الرحمة. (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، وفيه معنيان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أولاً: "فتنا بعض الناس ببعض: ابتليناهم بهم" بحسب اللغة، وثانياً: "معنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم، فافتتنوا" بحسب تلخيص المعنى ومعزى الكلام. قوله: (وقرئ: (إِنَهُ ... فَإِنًّهُ))، والظاهر أنه يعني: "أنه" في قوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ)، و"فإنه" في قوله: (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). قرأ عاصم وابن عامر: بفتحهما، ونافع: بفتح الأولى فقط، والباقون: بكسرهما، ولكن المراد بقوله: " (فَأَنَّهُ) بالكسر على الاستئناف" أي: قري: (أِنَّهُ) و "أنه) بالكسر والفتح، فالكسر على الاستئناف، والفتح على الإبدال، وهو لف تقديري. والفاء في (فَإِنَّهُ) تفصيلية، دليله تفسيره، ولا يبعد أن المصنف فتح همزة (أَنَّهُ) وكسرها في الكتابة، وكتب على الهمزة: "معاً".

أحدهما: أنه فاعلٌ فعل الجهلة، لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالمٌ بذلك أو ظانٌّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر: على أنّها قالت عشيّة زرتها: ... جهلت على عمد ولم تك جاهلا والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا، ولم يعلم أنها مفسدة. [(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)]. قرئ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء والياء مع رفع "السبيل"، لأنها تذكر وتؤنث، وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب "السبيل" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أنها قالت) البيت. جهلت: سفهت، أي: ما تدبرت العاقبة بهذه الزيارة، فكأنها خافت عليه من قومها حين زارها، فلامته على ذلك ونسبته إلى الجهل. قوله: (أنه جاهل بما يتعلق من المكروه). جعل (بِجَهَالِةٍ) في الوجه الأول مطلقةً غير مقيدة، ليفيد المبالغة، وإليه الإشارة بقوله: "فهو من أهل السفه والجهل". وفي الثاني قيدها بما يقتضيه السياق. فالجهالة على الأول مجاز، وعلى الثاني حقيقة. قوله: ((وَلِتَسْتَبِينَ)): بالياء التحتانية: حمزة وأبو بكر والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية

يقال: استبان الأمر وتبين، واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين؛ من هو مطبوعٌ على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل. [(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ* قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ* قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في صفة أحوال المجرمين؛ من هو مطبوع على قلبه): "من": بدل من "المجرمين"، و"من يرى فيه أمارة" معطوف على "من"، وكذلك: "ومن دخل في الإسلام"، يريد أن "ذلك" في قوله: (وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ) إشارة إلى ما سبق من أحوال الطوائف الثلاث من لدن قوله: (والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأنعام: 49] لأن هذه الطائفة هي المطبوع على قلوبهم، و (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ) [الأنعام: 51] هي الطائفة التي يرى فيها أمارة القبول، لأنها هي المنذرة التي يرجى إسلامها، لقوله: (يَخَافُونَ)، وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام: 50]. وإليه الإشارة بقوله: "وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة". والتي في قوله: (وإذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هي الطائفة التي دخلت في الإسلام، إلا أنها لا تحفظ حدوده، ومن ثم خوطبوا بقوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) [الأنعام: 54]. فعلى هذا قوله: (ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ) إذا قدر المعلل فصلنا ذلك التفصيل بدلالة السابق، عطف جملةٍ على جملة، وقال القاضي: ويجوز أن يعطف

(نُهِيتُ): صرفت وزجرت- بما ركب فيّ من أدلة العقل، وبما أُوتيت من أدلة السمع - عن عبادة ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وفيه استجهالٌ لهم، ووصفٌ بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة، (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي: لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيانٌ للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على علة مقدرة، أي: (نُفَصِّلُ الآيَاتِ) ليظهر الحق (ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ). قوله: (وفيه استجهال لهم). يعني: أدمج في هذا الكلام معنى الاستدراج، وإرخاء العنان، كقوله تعالى: (وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 24]، وذلك أنه نسب النهي إلى نفسه، يعني: كنت على ما أنتم عليه من الضلال، فنهاني عنه دليل العقل، وما أوتيت من العلم، فانزجرت عنه وانصرفت، فما بالكم ثابتون عليه لا تستعملون دليلي: العقل والعلم؟ ! فإذا نظروا بعين البصيرة في هذا الكلام المنصف، وعلموا أنه صلوات الله عليه لم يزل على الحق المبين، والطريق المستقيم، ووقفوا على أنهم على الضلال البعيد، رجعوا عن ذلك. فقولنا: فما بالكم ثابتون عليه .. إلى آخره، معنى قوله: "ووصف بالاقتحام" أي: الوقوع في الشدائد فيما كانوا فيه على غير بصيرة. قوله: (وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال) يعني: فصل قوله: (قُل لاَّ أَتَّبِعُ) للاستئناف وبيان الموجب، كأنه قيل: لم نهيت عما نحن فيه من عبادة دون الله؟ فأجاب: لأن ما أنتم عليه هوى، ليس بهدى، فكيف أتبع أهواءكم؟ ! (قَدْ ضَلَلْتُ إذًا). قال الزجاج "إذا: شرط، أي: قد ضللت إن عبدتها".

وتنبيهٌ لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال، وما أنا من الهدى في شيء، يعني أنكم كذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتنبيه لكل من أراد). يعني: تنبيه لغير هؤلاء من رقدة الغفلة، ومتابعة الهوى، وإرشاد إلى متابعة دليلي العقل والكتاب المنير. قوله: (وما أنا من الهدى في شيء)، يعني: اللام في (الْمُهْتَدِينَ) للجنس، والمعنى: وما أنا في عدادهم وزمرتهم، تعريضا بهم، وهو المراد بقوله: "أنكم كذلك"، يعني: إذا لم تكونوا من زمرة المهتدين، فلا تكونوا من الهدى في شيء، على طريق الكناية. قالوا: في قوله: "وما أنا من الهدى في شيء" في تفسير (ومَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ) نظر؛ لأن هذا الأسلوب في الآيات يوجب أن يكون المدخول ليس ممن له حظ قليل في ذلك الوصف، بل له حظوظ وافية، لا أنه غير محظوظ فيه، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول ممن له حظ ما فيه. قال في قوله: (إنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِينَ) [الشعراء: 168]: "قولك: فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم". وأجيب بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدى ليست من هذا القبيل، بل من قبيل كون قوله: (قَدْ ضَلَلْتُ إذًا ومَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ) جوابا وجزاءً لما دل عليه قوله: (قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهُوَاءَكُمْ) على سبيل التعريض، كأنه قيل: إن اتبعت أهواءكم قد ضللت إذن، وكنت مثلكم متوغلاً في الضلال منغمساً فيه، ولا أكون من الهدى في شيءٍ كما أنتم عليه، وفيه أني من زمرة المهتدين، ولي مساهمته معروفة في الهداية. ومن ثم أتبعه بقوله: (إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ) أي: بينة لا يقدر قدرها.

ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله: (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ومعنى قوله: (قُل إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ): أني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق، (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أنتم حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينةٍ من هذا الأمر، وأنا على يقينٍ منه؛ إذا كان ثابتاً عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وكَذَّبْتُم بِهِ) أنتم حيث أشركتم به غيره)، أي: كذبتم بالبينة، ولذلك أشركتم بالله، قال الزجاج: الهاء كناية عن البيان، لأن البينة والبيان في معنى واحد، أو: كذبتم ما أتيتكم به، لأنه هو البيان. قال أبو البقاء: (وكَذَّبْتُم): يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً، و"قد" معه مرادة، وفي كلام المصنف إشعار بالثاني. قوله: (ثم عقبه بما يدل على استعظام تكذيبهم بالله): بيان لاتصال قوله: (مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) بقوله: (وكَذَّبْتُم بِهِ)، والظاهر أنه متصل بالمقالات الثلاث،

وشدة غضبه عليهم لذلك، وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل، فقال: (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني: العذاب الذي استعجلوه في قولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال: 32]، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في تأخير عذابكم، (يقضي الحق) أي: القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه، (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي: القاضين. وقرئ: (يَقُصُّ الْحَقَّ)، أي: يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قص أثره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعني قوله: (قُلْ إنِّي نُهِيتُ)، (قُل لاَّ أَتَّبِعُ)، (قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ)، يعني: دعوتكم إياي إلى عبادة ما تعبدونه، وإلى متابعتي أهواءكم، وكوني على بينة، وأنتم تخالفون بالتكذيب، مما يؤذن أنكم تستعجلونني بالعذاب، واستئصال شأفتكم. ولذلك قال متضجرا: (إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ). قوله: (وشدة غضبه عليهم لذلك) أي: لتكذيبهم بالله. قوله: (يغافصوا)، الجوهري: "غافصت الرجل، أي: أخذته على غرة". قوله: (وقرئ: (يَقُصُّ الحَقَّ)): بالصاد المهملة، مضمومة مشددة، قرأها نافع وابن كثير وعاصم، والباقون: بإسكان القاف وضاد معجمة مكسورة مخففة. قال الزجاج: "هذه كتبت هاهنا بغير ياءٍ على اللفظ، لأن الياء سقطت لالتقاء الساكنين، كما كتبوا: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) [العلق: 18] بغير واو".

(لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي: في قدرتي وإمكاني، (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي، وامتعاضاً من تكذيبكم به، ولتخلصت منكم سريعاً، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم. وقيل: (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) على حجةٍ من جهة ربي، وهي القرآن، (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي: بالبينة، وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن. فإن قلت: بم انتصب (الحق)؟ قلت: بأنه صفةٌ لمصدر "يقضي"؛ أي: يقضي القضاء الحق، ويجوز أن يكون مفعولاً به؛ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وامتعاضاً)، الجوهري: "معضت من ذلك الأمر أمعض، وامتعضت منه: إذا غضبت وشق عليك". قوله: (وقيل: (عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي): على حجةٍ من جهة ربي): عطف على قوله: "إني من معرفة ربي، وأنه لا معبود سواه، على حجةٍ واضحة". هذا أشمل، وللنظم أوفق، لأنه قال في قوله تعالى: (قُلْ إنِّي نُهِيتُ): "أي: صرفت وزجرت بما ركب في من أدلة العقل، وما أوتيت من أدلة السمع"، كأنه قيل: إني صرفت عن الشرك بدليلي العقل والنقل، وثبت على التوحيد بهما، كما قال: "لما نفي أن يكون الهوى متبعاً، نبه على ما يجب إتباعه". قوله: (بم انتصب (الحَقِّ)؟ ). السؤال مستدرك لما سبق "يقضي الحق"، أي: القضاء الحق، لعل إعادته لبيان وجه الإعراب بعد سبق تلخيص المعنى: أو كرر ليتعلق به وجه آخر.

من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أي: يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله: "يقضى بالحق". فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: اتباعاً للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين. [(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)]. جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال، ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قضى الدرع: إذا صنعها). قال الزجاج: أما "قضى" في معنى "صنع"، فمثله قول الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع قوله: (وفي قراءة عبد الله: "يقضي بالحق")، قال الزجاج: "القراء لا يقرؤونه لمخالفة المصحف". قوله: (جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة). يمكن أن تكون الاستعارة مصرحة تحقيقية، استعير للعلم المفاتح، وجعلت القرينة إضافتها إلى الغيب، يعني: عنده علوم الغيب، وقوله: (لأن المفاتح" تعليل لبيان العلاقة، يعني إنما ساغت استعارة المفاتح لعلم الله تعالى لأن

فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. و"المفاتح": جمع مفتح، وهو المفتاح، وقرئ: "مفاتيح"، وقيل: هي جمع مفتحٍ - بفتح الميم - وهو المخزن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفاتح هي التي يتوصل بها من علم بها، وبكيفية فتح المخازن المستوثق منها بالإغلاق، إلى ما في المخازن من المتاع. فعلم منه أنه تعالى أراد بهذه العبارة أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، وأن تكون استعارة تمثيلية، بأن يجعل الوجه منتزعاً من أمور متوهمة، وهو ما يتوهم من تمكين تحصيل شيء مستوثق منه، يختص حصوله بمن عنده ما يتوصل به، وأنه مركب من أمور متعددة. وهذا البيان ينبهك على أن "من" في "من علم" موصولة، والخبر "توصل إليها"، والجملة معطوفة على اسم "أن" مع خبره، على سبيل التفسير. والفاء في قوله: "فأراد" نتيجة مما حصل من معنى الاستعارة، وبيان كيفية حقيقتها. ولهذا ذكر المشبه والمشبه به، وصرح بكاف التشبيه. يعني إذا كانت استعارة، يكون أصلها كيت وكيت. هذا على تقدير المصنف. وإن شئت جعلت الاستعارة في "الغيب" على سبيل المكنية، والقرينة: إضافة "المفتاح" إليه على التخييلية. وقيل: جعل "من" موصولة ضعيف، لأنه يفوت الإيهام المراد هاهنا، فـ"من" شرطية عطفت على قوله: "المفاتح"، وإن كان لـ"من" الشرطية صدر الكلام، لأنه يجوز تقديراً ما لا يجوز مصرحاً به، نحو: "رب شاةٍ وسخلتها"، ولا يجوز "رب سلختها". وقوله: "فأراد" إلى آخره عطف على "جعل"، لأن الاستعارة فرع التشبيه. قوله: (أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره)، الانتصاف: "لا يجوز إطلاق "التوصل" على الله، لما يوهم من تجدد الوصول".

(وَلا حَبَّةٍ) (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على (وَرَقَةٍ) وداخلٌ في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيءٍ من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله: (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرير لقوله: (إِلَّا يَعْلَمُها)؛ لأنّ معنى (إِلَّا يَعْلَمُها) ومعنى (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد. و"الكتاب المبين": علم الله تعالى، أو اللوح. وقرئ: "ولا حبةٌ"، "ولا رطب ولا يابسٌ"؛ بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل (مِنْ وَرَقَةٍ)، وأن يكون رفعاً على الابتداء، وخبره (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)، كقولك: لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لا بأس إن أريد الاستمرار الدائم. قوله: (أنه هو المتوصل وحده*. هذا التخصيص والتأكيد فيه يفهم من استعمال الظرف وإثباته لله عز وجل على سبيل الكناية، وتقديمه على المبتدأ، وتشبيه علم الغيب بمعرفة من يعلم كيفية فتح المخازن، ثم إرداف ذلك كله بقوله: (لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)، وتكرير (إلاَّ فِي كِتَابٍ) تتميماً للمبالغة، وإزالةً لدفع من يتوهم أن أحداً يعلم الغيب، وقوله: (ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ) إلى آخره، كالتكميل، ليضم مع علم الغيب علم الشهادة، على منوال قوله: (عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ) [الأنعام: 73]. كل ذلك ترغيماً للمنجم المخذول الذي يدعى علم الغيب، والفلسفي المطرود الذي يزعم أنه تعالى لا يعلم الجزئيات. قوله: (كالتكرير): يعني كرر ما في معنى (إلاَّ يَعْلَمُهَا) لتعلقه بقوله: (ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ) للتأكيد.

[(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة، أي: أنتم منسدحون الليل كله كالجيف، (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (إلاَّ فِي كِتَابٍ): إلا هو في كتاب. ولا يجوز أن يكون استثناءً يعمل فيه (يَعْلَمُهَا)، لأن المعنى يصير: وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات، أي: إلا يعلمها في كتاب. وإذا لم يكن يعلمها إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب. فإذاً يكون الاستثناء الثاني بدلاً من الأول، أي: وما تسقط من ورقة، ولا حبة، ولا رطب، ولا يابس، إلا هي في كتاب، وما يعلمها إلا هو". وقال الزجاج رحمه الله: "معنى (إلاَّ يَعْلَمُهَا) أنه يعلمها ساقطةً وثابتة. فأنت تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه. فليس تأويله: إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط". قلت: لما كانت سنة الله في الغالب جارية أن يضم مع ذكر دلائل الآفاق، دلائل الأنفس، عقب هاهنا إثبات علم الآفاق علم الأنفس تكميلاً، وذلك قوله: (وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ). سبحانه! ما أعظم شأنه، وما أتم بيانه، وأوضح برهانه! (قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، وأشد طغيانه! قوله: (أنتم منسدحون) أي: مستلقون. الجوهري: "السدح: الصرع بطحاً على الوجه، أو إلقاءً على الظهر".

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ): ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وهو المرجع إلى موقف الحساب، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن أجله): عطف - على سبيل البيان - على قوله: "في شأن ذلك"، وفيه إشارة إلى أن الضمير في (فيه) واقع موقع اسم الإشارة. قوله: (وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى) يريد أن معنى قوله: (ليقضي أجل مسمى) لينتهي أمد سماه الله تعالى لبعث الموتى، أو يؤدي ما التزمه الله تعالى بالوعد، لحلول القيامة. قيل: في تفسيره لـ"الأجل المسمى" و"البعث" إشكال، لأن البعث من القبور في شأن المذكور لا يكون علة لقضاء أجل مسمى إلا أن يقدر مضاف، أي: لقضاء أحوالٍ أو أمور أجل مسمى، وفي أكثر التفاسير: (يبعثكم فيه): يوقظكم في النهار، (ليقضي أجل مسمى)، أي: مدة الحياة، (ثم إليه مرجعكم) بعد الممات. وقال القاضي: (يبعثكم): يوقظكم، أطلق البعث ترشيحاً للتوفي، (فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى): ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا. (ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ): بالموت، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ): بالمجازاة عليه. وقيل: الآية خطاب للكفرة، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل. وساق الكلام على ما بني عليه المصنف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: تفسيره أقضى لحق البلاغة، لأنه لو أريد ما اختاره الأكثرون، لقيل: هو الذي يتوفاكم بالليل، ويبعثكم بالنهار، ليقضي أجل مسمى، ولأن إيراد العلم، واختصاص لفظة (يَتَوَفَّاكُمْ)، (جَرَحْتُم) دون آثامكم: كسبتم، وكلمة (فِيِه)، و (ثُمَّ)، و (يُنَبِئثكُم)، وتكرير الخطاب يدل على توبيخٍ شديد، وتهديد عظيم. ولا يليقُ ذلك إلا للمعاند الجاحد، ولهذا فسر التوفي بالليل بالانسداح كالجيف، ليقابل الاجتراح. المعنى: أنتم في الليل متساقطون على الفراش كالموتى، وفي النهار كاسبون للمآثم والمظالم، كالجوارح، فإن الله تعالى إن أمهلكم في الدنيا، فلابد أن يميتكم، ثم يبعثكم بعد ذلك من القبور، لإنجاز ما وعدكم به وليجزيكم بما عملتم. هذا، وإن المقام ينطبق عليه، لأن الله عز وجل في هذه السورة كلما أثبت صفةً من صفات الجلال، عاد إلى تهديد الكفار بما يناسب تلك الصفة، فهاهنا لما استوفى حق الكلام في شأن العلم، أتى بقوله: (ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) تهديداً ووعيداً، وذلك أن إيراد العلم، خصوصاً علم الغيب، استطراد لقوله تعالى: (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ) يعني: ليس عندي ما تستعجلون به من العذاب، وأنه متى هو، ولو كان عندي ذلك لأهلكتكم عاجلاً، ولتخلصت منكم سريعاً، لكن الله أعلم بكم وبظلمكم، لأن عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو. ولما فرغ منه عاد إلى تهديد أولئك الكفرة بقوله: (وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار) ليبعثكم فيه، ويجازيكم على النقير والقطمير. وفي إسناد "التوفي"

[(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ* ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)]. (حَفَظَةً): ملائكةً حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبي حاتم السجستاني: أنه كان يكتب عن الأصمعى كل شيءٍ يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة، تكتب لفظ اللفظة، فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى الله تعالى، و"الكسب" إليهم، إشعار بأن نومهم أفضل من يقظتهم، لإمساكهم عن اكتساب المآثم حينئذ. وإنما جعل الانسداح المسند إلى أنفسهم تفسيراً للتوفي المسند إلى ذاته تعالى، لأنه مقابل لقوله: (ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)، فجعل فعل الله تابعاً لفعل العبد، ولا مناقشة في هذا، لأن الكسب عند أهل السنة منسوب إلى العبد، وعلى هذا الضمير في (فيه) راجع إلى ما دل عليه التوفي والجرح. وأما قول القائل: إن البعث من القبور في شأن المذكور لا يكون علة لقضاء أحوال أجل مسمى، فالمصنف ما ذهب إليه لأنه جعل البعث من القبور علةً لقضاء الوعد الذي وعده، وهو الأجل الذي ضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، كقوله تعالى: (إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ) [يونس: 4].

فإن قلت: الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطفٌ للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيبٌ عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم، يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح، وأبعد عن السوء. (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي: استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه. وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله، وما من أهل بيتٍ إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرئ: (توفاه)، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى: تتوفاه، و (يُفَرِّطُونَ) بالتشديد والتخفيف، فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط: مجاوزة الحدّ، أي: لا ينقصون مما أمروا به، أو لا يزيدون فيه. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) أي: إلى حكمه وجزائه، (مَوْلاهُمُ): مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم، (الْحَقِّ): العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيها لطف للعباد)، قال القاضي: "وذلك أن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على ستره وعفوه، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه". قوله: (وقرئ: "توفاه") حمزة: بالألف ممالة، والباقون: بالتاء الفوقانية. قوله: (و (يُفَرِّطُونَ) بالتشديد) الجماعة. والتخفيف شاذة. قوله: (لا ينقصون مما أمروا به) معنى القراءة بالتشديد، (أو لا يزيدون فيه) معنى التخفيف.

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذٍ لا حكم فيه لغيره، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) لا يشغله حسابٌ عن حساب. وقرئ: "الْحَقِّ" بالنصب على المدح، كقولك: الحمد لله الحق. [(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)]. (ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) مجازٌ عن مخاوفهما وأهوالهما، يقال لليوم الشديد: يومٌ مظلم، ويومٌ بارد، ويومٌ ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، ويجوز أن يراد: ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق، فنجوا من ظلماتهما، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) على إرادة القول (مِنْ هذِهِ): من هذه الظلمة والشدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويوم ذو كواكب). وأنشد الزجاج: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذا كواكب أشهبا والعرب تقول لليوم الذي تلقى منه شدة: "يوم مظلم". قوله: (ما يشفون عليه)، الجوهري: "وأشفى على الشيء: أشرف عليه. وأشفى المريض على الموت". فعلى هذا المراد بـ (ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ): الحقيقة.

وقرئ: (يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد والتخفيف. و (أنجانا)، و (خُفيةً) بالضم والكسر. [(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ* وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ* لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)]. (هُوَ الْقادِرُ) هو الذي عرفتموه قادراً، وهو الكامل القدرة، (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما أمطر على قوم لوطٍ وعلى أصحاب الفيل الحجارة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (يُنَجِيكُم) بالتخفيف والتشديد). بالتخفيف: نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان. و (أَنَجانَا): عاصم وحمزة والكسائي، والباقون: "أنجيتنا". قوله: ("وخفية" بالضم والكسر"، بالكسر: أبو بكر. والباقون: بالضم. قوله: ((هُوَ القَادِرُ): هو الذي عرفتموه قادراً). ولما كان الخبر معرفاً باللام، وهو إما للعهد، فهو المراد من قوله: "الذي عرفتموه قادراً"، وإما للجنس، فهو المراد من قوله: "وهو الكامل القدرة". وفيه إشعار بمذهبه، حيث لم يجعل الحصر حقيقياً، وفسره بالكمال، كما في (آلم *

وأرسل على قوم نوح الطوفان، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل: (من فوقكم): من قِبَلِ أكابركم وسلاطينكم، و (من تحت أرجلكم): من قِبَلِ سِفْلَتِكُم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً): أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواءٍ شتى، كل فرقة منكم مشايعةٌ لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله: وكتيبة لبستها بكتيبةٍ ... حتّى إذا التبست نفضت لها يدي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2] و"حاتم الجواد". قال الإمام: "هذا يفيد الحصر، فوجب أن يكون غير الله غير قادر". قوله: (أو يخلطكم). قال الزجاج: "لبست عليه الأمر ألبسه: إذا لم أبينه، وخلطت بعضه ببعض. ومعنى (شِيَعاً): فرقاً، أي: لا يكون شيعةً واحدة". يعني: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً. قوله: (أن ينشب القتال)، الجوهري: "يقال: نشب الشيء في الشيء نشوباً: علق فيه. وأنشبته أنا فيه: أي أعلقته. ويقال: نشبت الحرب بينهم". قوله: (وكتيبةٍ) البيت، ألحق الباء بالكتيبة لأنه جعله اسماً للجيش، وهو من: تكتبت

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتى عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرنى جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف». وعن جابر بن عبد الله: لما نزل (مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك»، فلما نزل: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال: «هاتان أهون». ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخيل، أي: تجمعت. يقول: رب جيش خلطتها بجيش، فلما اختلطت نفضت يدي، وتركتهم وشأنهم. وفي البيت كنايات، إحداها: أنه مهياج للحرب، وثانيها: قوله: "نفضت لها يدي" فإنه يدل على أنه خلاهم والفتنة، وثالثها: أنه فتان جبان. قوله: (سألت الله). الحديث من رواية الترمذي، والنسائي، عن خباب، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: "سألت الله ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة. سألته ألا يهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم من غيرهم [عدوا] فأعطانيها، وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". قوله: (أعوذ بوجهك) الحديث رواه البخاري وأحمد والترمذي عن جابر، مع زيادة يسيرة.

والضمير في قوله: (وَكَذَّبَ بِهِ) راجعٌ إلى العذاب، (وَهُوَ الْحَقُّ) أي: لا بدّ أن ينزل بهم، (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ): بحفيظٍ وكل إليَ أمركم، أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر. (لِكُلِّ نَبَإٍ): لكل شيءٍ يُنبأ به، يعني: إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به، (مُسْتَقَرٌّ): وقت استقرار وحصولٍ لا بدّ منه، وقيل: الضمير في (نَبَإٍ) للقرآن. [(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)]. (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) في الاستهزاء بها والطعن فيها؛ وكانت قريشٌ في أنديتهم يفعلون ذلك، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ): فلا تجالسهم وقم عنهم، (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فلا بأس أن تجالسهم حينئذ، (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ): وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم، (فَلا تَقْعُدْ) معهم (بَعْدَ الذِّكْرى): بعد أن تذكر النهي. وقرئ: (ينسينك) بالتشديد. ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قُبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى): بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ينسينك" بالتشديد). ابن عامر، والباقون: بالتخفيف. قوله: (مما تنكره العقول) يعني: كانت مجالسة المستهزئين في آيات الله قبحاً في العقول، فكان للشيطان والوهم مجال في إيراد الشبه، وكان العقل يتحير ويبقي كالناسي والساهي، فحين زالت الموانع بالنص القامع للشبه، والدافع للوهم، فلا تقعد بعد ذلك معهم.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ): وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيءٌ مما يحاسبون عليه من ذنوبهم، (وَلكِنْ) عليهم أن يذكروهم (ذِكْرى) إذا سمعوهم يخوضون؛ بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال في "الانتصاف": هذا تنزيل على قاعدة الحسن والقبح، وأن العقل مدرك للأحكام، والشرع مبين لمقتضاه. ومما يدل على أن المراد خلاف ذلك ورود (يُنِسيَنَّكَ) مستقبلاً، ولو كان المراد نسيان ما علمه لقال: وإن أنساك فيما تقدم، فلا تقعد بعد النهي. وقلت: المستقبل غير مانع، لأن له أن يقول: معناه: إن استمر ذلك النسيان السابق - الذي كان سبباً لورود قولنا: (وإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِضْ عَنْهُم) - فلا تقعد بعد أن ذكرنا به، أي: بقولنا: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ). لكن الوجه هو الأول، وهو أن يراد بقوله: (بَعْدَ الذِّكْرَى): بعد أن تذكر النهي. قيل: "الخطاب بقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ) للرسول صلي الله عليه وسلم والمراد غيره، أو المراد: إذا رأيت أيها السامع". كذا ذكره الإمام. وقال الواحدي: "إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الرسول صلي الله عليه وسلم والقرآن، فأمرهم ألا يقعدوا معهم". وفيه: أن التكليف ساقط عن الناسي. قوله: (بالقيام) يتعلق بقوله: "أن يذكروهم (ذِكْرَى) ".

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): لعلهم يجتنبون الخوض حياءً أو كراهةً لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير لـ (الذين يتقون)، أي: يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروي أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت: ما محل (ذِكْرى)؟ قلت: يجوز أن يكون نصباً على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أي: تذكيراً، ورفعاً على: ولكن عليهم ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل (مِنْ شَيْءٍ)، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيدٌ، لأنّ قوله: (مِنْ حِسابِهِمْ) يأبى ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمساءتهم): أي: الذين يتقون. وهو مصدر: ساءه يسوؤه سوءاً - بالفتح - ومساءةً. وإضافتها إلى المفعول، وقيل: إلى الفاعل، والأول أظهر. قوله: (يجوز أن يكون الضمير) أي: في (لَعَلَّهْمْ). قوله: (لأن قوله: (مِنْ حِسَابِهِم) يأبي ذلك). قال أبو البقاء: (مِنْ) في (مِنْ شَيءٍ): زائدة، و (مِنْ حِسَابِهِم): حال، تقديره: شيء من حسابهم، يعني: شيء كائن من حسابهم، فإذا عطف (ذِكْرَى) على محل (مِنْ شَيءٍ)، رجع المعنى: ما يلزم المتقين الذكر الذي (مِنْ حِسَابِهِم)، لأن (مِنْ شَيءٍ) مقيد بقيد (مِنْ حِسَابِهِم) فإذا عطف عليه لابد من تقييده به. واعترض صاحب "التقريب" وقال: "لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف". وأجيب أن ذلك في عطف الجملة على الجملة، وأما في عطف مفردات الجمل فملتزم،

[(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)]. (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما سيجيء بيانه على سورة "براءة" في قوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة: 25]. والمصنف لما فرغ من تقرير عطف الجملة على الجملة بقوله: "ولكن يذكرونهم ذكرى"، "أو لكن عليهم ذكرى"، أخذ في تقرير عطف المفرد بقوله: "على محل (مِنْ شَيءٍ) "، ومنعه. قوله: (وذلك أن عبادة الأصنام) هو بيان اتخاذهم لعباً ولهواً. والمراد بالدين: مطلق الدين وحقيقته، يعني: كان يجب على كل مكلفٍ أن يتدين بدين، وينتحل بملة، وهؤلاء تدينوا باللعب واللهو، فعلى هذا: لَعِبًا ولَهْوًا ثاني مفعولي "اتخذ"، وعلى قوله: "أو اتخذوا ما هو لعب ولهو ديناً لهم" بالعكس. لعل المراد أنه من باب القلب، لتصحيح أصل المعنى. ولهذا جعل (دِيَنُهمْ) نكرة. ونحوه ذكر الزجاج في "الفرقان" عند قوله تعالى: (أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ أَوْلِيَاءَ) [الفرقان: 18]، إذا قرئ "نتخذ" مجهولاً، فقال: أجاز الفراء أن يجعل (مِنْ أَوْلِيَاءَ) هو الاسم، ويجعل الخبر ما في "نتخذ" كأنه يجعل على القلب. واعلم أن الوجه الأول محمول على معنى قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ) [الفرقان: 43]، لأن الأصل: من اتخذ هواه كالإله نزل أمر الهوى والشهوات في متابعة ما يدعوهم إليه منزلة الإله الواجب العبادة، ثم قيل: (مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ) فقد المشبه به على المشبه، عكساً للتشبيه، روماً للمبالغة، وإيذاناً بأن الهوى في باب استحقاق العبادة أقوى من الإله. وفي كلام صاحب "المفتاح" إشعار بهذا. فكذلك حكم هذه الآية، شبه أولاً ما بنوا عليه نحلتهم من عبادة الأصنام، وتحريم البحائر والسوائب، بالدين الذي يجب على كل أحدٍ أن ينتحل به، فينتفع به عاجلاً وآجلاً، ثم سميت تلك النحلة باللعب واللهو، لكونها مبنية على قاعدة التشهي وأنهم لا ينتفعون بها، بل يتضررون من أجلها، ثم قدم المشبه به على المشبه للمبالغة المذكورة. وعلى هذا المنوال ينسج الوجه الثاني عند صاحب "المفتاح"، لأن باب القلب عنده

ومن جنس الهزل دون الجد، أو: اتخذوا ما هو لعبٌ ولهوٌ من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم، أو: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه- وهو دين الإسلام- لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمول على أصل المعنى، لكن المختار أنه جارٍ على أصل التشبيه، من تقديم المشبه على المشبه به، وإن كان قلباً في اللفظ. والأول أبلغ. وأما الوجه الثالث فتقديره: جعلوا دين الإسلام، والملة الحنيفية التي تستحق كل تبجيل وتعظيم، كاللعب واللهو الذي يستلزم السخرية والاستهزاء، فاستهزؤوا به، كقوله تعالى: (وإذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) [الجاثية: 9]. وأما بيان النظم فإن قوله تعالى: (وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا): عطف على قوله: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وهو متصل بقوله: (وإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِضْ عَنْهُم)، يعني: فلا تقعد بعد الذكرى مع هؤلاء الظلمة الذين يخوضون في آياتنا، ودع مصاحبة من بني دينه على اللعب واللهو، وغرته الحياة الدنيوية. ويجوز أن تكون الواو استئنافاً، والآية مستطردة. قوله: (أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه) فعلى هذا المراد بالدين: الدين المقيد، ومن ثم قال: "وهو دين الإسلام". قوله: (وقيل: قد جعل الله لكم قومٍ عيداً) سمى العيد بالدين مجازاً، لأن العيد مبني على العادات، والدين: العادة. النهاية: "وفي الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام كان على دين

ومعنى (ذرهم): أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي: بالقرآن، (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء كسها. وأصل الإبسال: المنع، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قومه، أي: على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وليس المراد الشرك الذي كانوا عليه، وقيل: هو من الدين: العادة، يريد به: أخلاقهم في الكرم، والشجاعة، وغير ذلك". قوله: (وأصل الإبسال: المنع). قال الزجاج: (تُبْسَلَ): تسلم بعملها غير قادرةٍ على التخلص، والمستبسل: المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص. قال الشاعر: وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدمٍ مراق أي: إسلامي إياهم. والبعو: الجناية. "وقيل: أبسل: رهن، والمعنى واحد. يقال: أسد باسل، أي: معه من الإقدام ما يستبسل له قرنه، ويقال: هذا بسل عليك، أي: حرام". تم كلامه. قائل البيت: عوف بن الأحوص، وكان حمل عن غني لبني قشيرٍ دم ابني السجفية، فقالوا: لا نرضى بك، فرهنهم بنيه طلباً للصلح، فقال تحسراً وتلهفاً على تسليم بنيه إلى الهلكة بغير جرمٍ جرموه، ولا دمٍ أهراقوه.

لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال عوف بن الأحوص: وإبسالى بنىَّ بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق ومنه: هذا عليك بسلٌ، أي: حرامٌ محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور، يقال: بسر الرجل؛ إذا اشتدّ عبوسه، فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس: منقبض الوجه. (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها): وإن تفد كل فداء، والعدل: الفدية، لأن الفادي يعدل المفدي بمثله. و (كلّ عدلٍ): نصبٌ على المصدر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن المسلم إليه يمنع المسلم). يعني: إذا أسلموا أحداً إلى الهلاك، فالهلاك هو المسلم إليه يمنع الشخص المسلم من الخروج منه. فالمعنى: ذكر بالقرآن، مخافة أن تسلم نفس إلى الهلكة، بسبب ما كسبت من المآثم، فلا تتخلص منها، كما أن أعمالها السيئة تمنعها من الخلاص، كما أن المسلم إليه يمنع المسلم أن يتخلص منه، نحوه في المعنى قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر: 38]. وقال القاضي: "إنما قيل: أسد باسل، لأن فريسته لا تفلت منه". الراغب: "البسل: ضم الشيء ومنعه، ولتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه، فقيل: هو باسل ومبتسل الوجه. ولتضمنه لمعنى المنع، قيل للمحرم والمرتهن: بسل. والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام: عام للممنوع منه حكماً أو قهراً. والبسل هو الممنوع منه قهراً. قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، أي: حرموا الثواب، وفسر بالارتهان، كقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ".

وفاعل (يُؤْخَذْ) قوله: (مِنْها) لا ضمير العدل، لأنّ العدل هاهنا مصدر، فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى: (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة: 48] فبمعنى المفديِّ به، فصحّ إسناده إليه. (أُولئِكَ) إشارةٌ إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان. [(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفاعل (يُؤْخَذْ) قوله: (مِنْهَا)). وهذا كما تقول: "أُخِذ مِنّي" وتسكت. وتقول: "سير من البلد". فالفعل لابد له من فاعل، وفاعله ما يصح السكوت عليه. قوله: (لا ضمير العدل). أي: الضمير في (لا يُؤْخَذُ مِنْهَا) لا يرجع إلى "العدل"، لأنه مصدر. فإن قيل: كيف صح إسناده في تلك الآية، على تأويل المفتدى به، ولم يصح هاهنا؟ وأجيب: لأنه في تلك الآية لم يقع مفعولاً مطلقاً ابتداءً، بخلافه هاهنا. قال في "الانتصاف": "ونظيره ما سبق أن الضمير في: (فَتَنفُخُ فِيهَا) لا يعود إلى "الهيئة" من قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، وأوجب كون "العدل" هاهنا مصدراً يتعدى الفعل إليه بغير واسطة، ولو كان مفعولاً به لقيل: بكل عدل".

(قُلْ أَنَدْعُوا) أنعبد، (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا، (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ): كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان، (فِي الْأَرْضِ): في المهمه، (حَيْرانَ): تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع! (لَهُ) أي: لهذا المستهوى (أَصْحابٌ) رفقة، (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى): إلى أن يهدوه الطريق المستوي. أو سمي الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له: (ائْتِنا) وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، كـ (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275]، فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ) وهو الإسلام، (هُوَ الْهُدى) وحده، وما وراءه، ضلالٌ وغيّ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران: 85]، (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس: 32]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو سمي الطريق المستقيم بالهدى): عطف على "أن يهدوا"، أي: (الْهُدّى) يجوز أن يكون مصدراً على أصله، وأن يسمى الطريق المستقيم به. قوله: (وقد اعتسف)، الجوهري: "العسف: الأخذ على غير الطريق، وكذلك: التعسف والاعتساف". قوله: (وهاذ مبني على ما تزعمه العرب). قال صاحب "الانتصاف": "من أنكر استهواء الجن، واستيلاءهم هم على بعض الناس، بقدرة الله، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال، والفلسفي حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى: ائتنا، وهو راكب في ضلاله التعاسيف".

فإن قلت: ما محل الكاف في قوله: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت: النصب على الحال من الضمير في "نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا" أي: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى (اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض؛ إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت: ما محل: "أُمِرْنا"؟ قلت: النصب عطفاً على محل قوله: (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى)، على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يمكن حمل قول المصنف على ما ذهب إليه صاحب "النهاية" في قوله صلي الله عليه وسلم: "لا غول" ليس نفياً لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة، فيكون المعنى: أنها لا تستطيع أن تضل أحداً، ويشهد له الحديث الآخر: "لا غول ولكن السعالي"، والسعالي: سحرة الجن، أي: ولكن في الجن سحرة، لهم تلبيس وتخييل. قوله: (على الحال من الضمير في "نرد". قال صاحب "الفرائد": "حاصل هذا الكلام: نرد في حال أشباهنا كقولك: جاء زيد راكباً، أي: في حال ركوبه. والرد ليس في حال الأشباه، كما أن المجيء في حال الركوب، ويمكن أن يقال: الكاف منصوب المحل على المصدر، أي: نرد رداً مثل رد الذي استهوته". وقلت: الحال مؤكدة، كقوله تعالى: (ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25] فلا يلزم ذلك. والتشبيه، على أن يكون حالاً، من التمثيلي: شبه حال من خلص من الشرك، ثم نكص على

فإن قلت: ما معنى اللام في (لِنُسْلِمَ)؟ قلت: هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: (قل أندعوا)؟ قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه. [(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقبيه، بحال من ذهب به الغيلان في المهمه، بعدما كان على الجادة المستقيمة، وعلى أن يكون مصدراً يكون من المركب العقلي. قوله: (هي تعليل للأمر). قال أبو البقاء: "أي: أمرنا بذلك لنسلم، وقيل: اللام بمعنى الباء، وقيل: هي زائدة، أي: أن نسلم". قال الزجاج: "العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك بأن تفعل، وأمرتك لتفعل، فعلى الأولى الباء محذوفة. فمن قال: أمرتك بأن تفعل، فالباء للإلصاق، أي: وقع الأمر بهذا الفعل. وعلى الثالث اللام للتعليل، فقد أخبرنا بالعلة التي لها وقع الأمر".

فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَنْ أَقِيمُوا)؟ قلت: على موضع (لِنُسْلِمَ)، كأنه قيل: وأُمرنا أن نسلم وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أي: للإسلام ولإقامة الصلاة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال في "الانتصاف": "قوله: اللام تعليل للأمر، بناءً على أن الأمر يلزمه الإرادة. وأما أهل السنة فيرون في هذه اللام، وفي قوله: (إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] إن كانت تعليلاً، أنهم بإزاحة العلل عوملوا معاملة من أريد منهم ذلك، وإن لم تكن الطاعة مرادة". قوله: (على موقع (لِنُسْلِمَ)). قال الزجاج: (وأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه وجهان، أحدهما: أن يكون: أمرنا لنسلم، ولأن نقيم الصلاة، وثانيهما: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة، ويجوز أن يكون محمولاً على قوله: (يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى ائْتِنَا) [الأنعام: 71]، (وأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، أي: ويدعونه أن أقيموا الصلاة، وكذا عن أبي البقاء. وذكر القاضي ما ذكره المصنف. فقول المصنف: "على موقع (لِنُسْلِمَ) "، أي: لو وقع موقعه "أن نسلم"، بحذف الجار، لصح العطف، فعطف عليه بذلك الاعتبار، كما في (فَأَصَّدَّقَ وأَكُن) [المنافقون: 10]. وقال الإمام: "وكان من الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم، وإنما عدل إلى قوله: (وأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) (وأَنْ أَقِيمُوا) ليؤذن بأن الكافر ما دام كافراً كان كالغائب الأجنبي، فخوطب بما يخاطب به الغيب، وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين، صار كالقريب الحاضر، فخوطب بما يخاطب به الحاضرون".

(قَوْلُهُ الْحَقُّ) مبتدأ، و (وَيَوْمَ يَقُولُ) خبره مقدّماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة، وحين يقول لشيءٍ من الأشياء: "كُنْ"، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي: لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. و(يَوْمَ يُنْفَخُ) ظرفٌ لقوله: (وَلَهُ الْمُلْكُ)، كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ [غافر: 16]. ويجوز أن يكون (قَوْلُهُ الْحَقُّ) فاعل (يكون)، على معنى: وحين يقول لقوله الحق- أي: لقضائه الحق-: (كُنْ فيكون قوله الحق) ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قَوْلُهُ الحَقُّ): مبتدأ، و (ويَوْمَ يَقُولُ) خبره). قال أبو البقاء: "فعلى هذا الواو داخلة على الجملة المقدم فيها الخبر. و (الْحَقُّ) صفة لـ: (قَوْلُهُ)، وقوله: ويجوز أن يكون الظرف متعلقاً بمعنى الجملة التي هي (قَوْلُهُ الحَقُّ)، أي: يحق قوله في يوم يقول: كن". قلت: الواو استثنائية، والجملة تذييل لقوله: (وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ). ولهذا جعل "اليوم" بمعنى "الحين" ليعم الزمان، ثم قال: "أي: لا يكون شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمةٍ وصواب". قوله: (ويجوز أن يكون (قَوْلُهُ الحَقُّ) فاعل (يَكُوُن). قال أبو البقاء: "المعنى: فيوجد قوله الحق. فعلى هذا يكون (قُوْلُهُ) بمعنى: "مقولة"، أي: فيوجد ما قال له: "كن".

وانتصاب "اليوم" لمحذوفٍ دلّ عليه قوله: (بِالْحَقِّ)، كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق. (عالِمُ الْغَيْبِ) هو عالمُ الغيب، وارتفاعه على المدح. [(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأي: كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأي: الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأي: الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)]. (آزَرَ): اسم أبي إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح، والأقرب أن يكون وزن (آزَرَ): فاعل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: قريب منه قول المصنف: "أي: لقضائه الحق". قوله: (وانتصاب "اليوم"): أي (ويَوْمَ يَقُولُ) - على هذا التقدير - منتصب بمحذوف، وهو "يقوم"، والدال عليه: (بِالْحَقِّ)، لأنه حال، وتقديره كما قال: "قائماً بالحق"، ففيه معنى "يقوم". قال أبو البقاء: "يجوز أن يكون عامله: اذكر". قوله: (أن اسمه بالسريانية: تارح). قال صاحب "الجامع": "تارح. التاء فوقها نقطتان، وفتح الراء وبالحاء المهملة".

مثل تارخ، وعابر، وعازر، وشالخ، وفالغ، وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيانٍ لأبيه. وقرئ: «آزر» بالضم على النداء. وقيل: «آزر»: اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيسٍ بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل: ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين: أُدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعد أسمائي أو أريد: عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ "ءأزر تتخذ أصناما آلهةً" بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي: ساكنة وراءٍ منصوبةٍ منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد إزراً؟ على الإنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له. (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) عطفٌ على (قال إبراهيم لأبيه)، وقوله: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) جملةٌ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان يشبب بهن). الشبيب: النسيب. يقال: هو يشبب بفلانه، أي: يذكر صفتها وحاله معها، في الشعر. قوله: (بعض المحدثين). هو: أبو بكرٍ محمد الأصفهاني، خازن الصاحب ابن عباد.

معترضٌ بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض، يعني الربوبية والإلهية، ونوفقه لمعرفتها، ونرشده بما شرحا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال، (وَلِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ) فعلنا ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومثل ذلك التعريف)، يريد أن المشار إليه بقوله: "كذلك" معنى ما سيجيء. وعليه في وجه قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ) [الكهف: 78]. قال المصنف: "قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده، فأشار إليه". كذلك سبحانه وتعالى جعل المشار إليه معنى الآيات التالية، وهي التعريف والتبصير. ويجوز أن يقال: إن الجملة معترضة بين المعطوف، وهو (فَلَمَّا جَنَّ)، والمعطوف عليه، وهو: (قَالَ إبْرَاهِيمُ). والجملة المعترضة مؤكدة، فمرتبتها التأخير، فيكون المشار إليه سابقاً في المرتبة وإن تأخر في اللفظ. ويجوز أن يكون المشار إليه: ما به أنذر أباه، وضلل قومه من المعرفة والبصارة، فيكون قوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) تفصيلاً وبياناً لمعنى المثل في "كذلك". قوله: (يعني الربوبية) تفسير لقوله: (مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ)، وقوله: "ونوفقه لمعرفتها": تفسير للتفسير. قال القاضي: " (مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ): ربوبيتها وملكها. وقيل: عجائبها وبدائعها، والملكوت: أعظم الملك، والتاء فيه للمبالغة".

و (نُرى) حكايةُ حالٍ ماضية، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. (هذا رَبِّي): قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأنّ ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة. (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ): لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حالٍ إلى حال، المتنقلين من مكانٍ إلى مكان، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام. (بازِغاً): مبتدئاً في الطلوع، (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) تنبيهٌ لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلهاً- وهو نظير الكوكب في الأفول- فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه. (هذا أَكْبَرُ) من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه، (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها. (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي: للذي دلَّت هذه المحدثات عليه، وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنجى من الشغب)، الجوهري: "الشغب - بالتسكين، والغين المعجمة-: تهييج الشر، ولا يقال: شغب، بالفتح". قوله: (وقيل: هذا كان نظره): معطوف على جملة قوله: "وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام ... ، فأراد أن ينبههم على الخطأ". فعلى هذا الفاء في (فَلَمَّا جَنَّ) تفصيلية كما سبق.

والأوّل أظهر لقوله: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي)، وقوله: (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حالٍ إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاءٍ واحتجاب. فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله: (هذا رَبِّي) والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيءٍ واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك؟ و (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام: 23]، وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله: «علام»، ولم يقولوا: «علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازاً من علامة التأنيث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأول أظهر) أي: استدلاله لأجل قومه على سبيل الاستدراج أقوى لقوله: (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي). قال الزجاج: "واحتج القائلون بأن قوله كان على وجه النظر والاستدلال، بهذه الآية، وهذا لا يوجب ذلك، لأن الأنبياء تسأل الله أن يثبتها على الهدى، وتعلم أنه لولا هداية الله ما اهتدت، وقد قال: (واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35] ". والعجب أن المصنف قلب القضية، فجعل دليل الخصم دليله، وذلك أن اللام في قوله: (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي) موطئة للقسم، بدليل قوله: (لأَكُونَنَّ). وقد تقرر أن الجملة القسمية إنما يتلقى بها من ينكر ويبالغ في الإصرار. وعلى تقدير أنه عليه الصلاة والسلام كان مستدلا، واختلج في خلده تردد، لم يبلغ تردده أن ينكر على نفسه هذا الإنكار البليغ، ولأن قوله: (رَبِي) تصريح بأنه لم يكن مستدلا لنفسه، ولهذا قال: "الأول أظهر".

وقرئ: "تري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" بالتاء ورفع "الملكوت"، ومعناه: تبصره دلائل الربوبية. [(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "إنما عرض بضلالهم في أمر القمر، لأنه قد أيس منهم في أمر الكواكب، ولو قاله في الأول لما أنصفوا ولا أصغوا، ولهذا صرح في الثالثة بالبراءة منها، وأنهم على شرك، لما تبلج الحق، وبلغ الغاية في الظهور، ثم قال: "صدق صاحب الكشاف، بل يتعين هذا. وقد جاء في حديث الشفاعة: "فيأتون إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث" وهي كلها معاريض، فلو صدر منه أمر أشد، لذكره، ولو كان هذا مع نفسه لكان شكاً في الله، ولكان أعظم ما صدر عنه، فكان أولى أن يعده، والصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك". قلت: وأما حسن التأليف فإن قوله لأبيه، وإنكاره عليه بقوله: (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) إنما ينتظم انتظاماً مع قوله: (يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) إذا كان الاستدلال لأجل القوم، لأن صرف الخطاب معه إلى القوم يستدعي ألا يكون قد أشرك بالله طرفة عين، يؤيده قوله تعالى: (إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 84].

مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)]. (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ) وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك، (وَقَدْ هَدانِ) يعني: إلى التوحيد، (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) وقد خوفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً): إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يُخاف، فحذف "الوقت"، يعني: لا أخاف معبوداتكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلا إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوفٍ من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونحو هذا الخطاب قول الرسل: (ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس: 22]. وأما معنى قوله تعالى: (وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ) على ما فسره: (ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم"، فالمراد هداية طريقة الاستدلال مع الخصوم، ومزيد تسديد النظر لنفسه. ولا شك أن العارف كلما كر إلى الدلائل، وقررها مع الخصوم، ازداد يقينه، لاسيما إذا حصل مع ذلك إفحام الخصوم، ومن ثم كررها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد.

مثل أن يرجمني بكوكبٍ أو بشقةٍ من الشمس أو القمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي: ليس بعجبٍ ولا مستبعدٍ أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتميزوا بين الصحيح والفاسد، والقادر والعاجز. (وَكَيْفَ أَخافُ) لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضررٌ بوجه، (و) أنتم (لا تَخافُونَ) ما يتعلق به كل مخوف، وهو إشراككم بالله (ما لم ينزل) بإشراكه (سُلْطاناً) أي: حجة، لأن الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، كأنه قال: وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويعضده ما ذكره محيي السنة: (لا يجوز أن يكون لله رسول، يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد، وبه عارف، ومن كل معبودٍ سواه بريء. وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله، وطهره، وآتاه رشده من قبل، وأخبر عنه، فقال: (إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 84]، وقال: (وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)! أفتراه أراهه الملكوت ليوقن، فلما أيقن (رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) معتقداً! هذا لا يكون أبداً، بل أراد أن يستدرج القوم بهذا القول، ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه، وكانوا يعظمون النجوم، ويعبدونها، ويرون أن الأمور كلها إليها". قوله: (وما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن؟ ) زاد "الموضع" ليشير إلى أنه متمكن على الأمن، فلا يحوم الخوف بساحته، وأنهم على عكسه، تأكيداً لقوله: (وكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ولا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ)، وإنما زاد "أنتم" لينبه على أنهم أحقاء بالخوف، فبني الكلام على تقوي الحكم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: أن الشرك مكان الخوف ومعدنه، كما أن التوحيد موضع الأمن ومقره، ولهذا استؤنف بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي: بشرك، بياناً لأمن من تمسك بالتوحيد، وتبرأ عن الشرك، كأنه سأل صلوات الله عليه: أي الفريقين - يعني: فريقي المشركين والموحدين - أحق بالأمن؟ وأجاب هو: هم الذين آمنوا. وهو من باب التبكيت، كقوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ) [الأنعام: 19]، (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) [الرعد: 16]. و"قل" في الآية مقدر. فظهر من هذا أن الواجب أن يفسر الظلم بالشرك، ولفظ "اللبس" لا يأباه كما سنقرره، وكان تفسير سيد المرسلين، وإمام الموحدين، أولى بالتلقي، على ما روينا عن البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن مسعود: لما نزلت الآية شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]؟ ". وفي رواية البخاري: "ليس كما تظنون"، ولأن اسم الإشارة الواقع خبراً للموصول مع صلتها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يشير إلى أن ما بعده ثابت لمن قبله، لاكتسابه ما ذكر من الصفة، ولا ارتياب أن الأمن المذكور بعده هو الأمن المذكور قبل، وهو الأمن الحاصل للموحدين في قوله: (أَحَقُّ بِالأَمْنِ) لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، فيجب أن يكون الظلم عين الشرك، ليسلم النظم، فإذا ليس الكلام في المعصية والفسق. أما معنى "اللبس" فهو ما قال القاضي: "لبس الإيمان بالظلم: أن يصدق بوجود الصانع الحكيم، ويخلط بهذا التصديق الإشراك به". وقلت: يؤيده قوله تعالى: (ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106]، قال المصنف: " (ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم) في إقراره (بِاللَّهِ)، وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب، معهم شرك وإيمان". وقال صاحب "التقريب": "ويحتمل أن يقال: النفاق: لبس الإيمان الظاهر بالكفر الباطن". وقلت: هو نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ) [النساء: 136]. قال المصنف: "كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً"، ويجوز أن يراد بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) المصدقون بألسنتهم، كما قال في قوله تعالى: (واخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215]: "فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتبع، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب".

ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ احترازاً من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) يعني فريقي المشركين والموحدين. ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصيةٍ تفسقهم، وأبى تفسير "الظلم" بالكفر لفظ اللبس. (وَتِلْكَ) إشارةٌ إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله: (وَهُمْ مُهْتَدُونَ). ومعنى (آتَيْناها): أرشدناه إليها ووفقناه لها، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) يعني: في العلم والحكمة. وقرئ بالتنوين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: "وأبى تفسير "الظلم" بالكفر لفظ اللبس": فمبني على أن لفظ "اللبس" موضوع للخلط، وهو يقتضي شيئين، وذلك لا يتصور هاهنا، إذ الكفر والإيمان لا يجتمعان، وأما المعصية فيتصور فيه الخلط، كقوله تعالى: (خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا) [التوبة: 102]. قال الجوهري: "اللبس - بالضم: مصدر قولك: لبست الثوب، ألبس. واللبس - بالفتح: مصدر قولك: لبست عليه الأمر ألبس: خلطت"، والجواب ما سبق. قوله: (ولم يقل: فأينا أحق بالأمن: أنا أم أنتم؟ احترازاً من تزكية نفسه)، لأن الكلام مرتب بالفاء على (أَخَافُ) ولا تخافون، فيجب تقدير "أينا: أنا وأنتم" مفرداً وجماعة، فيلزم منه أمن نفسه وخوفهم، فكان تزكيته لنفسه صريحاً. قوله: (وقرئ بالتنوين): عاصم وحمزة والكسائي. قال أبو البقاء: (دَرَجَاتٍ) يقرأ

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لنوحٍ أو لإبراهيم، و (داوُدَ) عطفٌ على (نُوحاً)، أي: وهدينا داود، (وَمِنْ آبائِهِمْ) في موضع النصب عطفاً على (كلاً)، بمعنى: وفضلنا بعض آبائهم. (وَلَوْ أَشْرَكُوا) مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات؛ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدّس: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65]. (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد الجنس، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ) بالكتاب والحكمة والنبوّة، أو بالنبوّة، (هؤُلاءِِ) يعني: أهل مكة، (قَوْماً) هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم، بدليل قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)، وبدليل وصل قوله: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) بما قبله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالإضافة، وهو مفعول (نَرْفَعُ)، ورفع درجة الإنسان رفع له، ويقرأ بالتنوين، و (مَن) على هذا: مفعول (نَرْفَعُ)، و (دَرَجَاتٍ): ظرف. أو حرف الجر محذوف، أي: إلى درجات. وقيل: منتصب انتصاب المصدر: أي نرفعه رفعات. ويجوز أن ينتصب على التمييز من (مَن نَشَآءُ)، لأنه ما رفع أنفسهم، وإنما رفعت درجاتهم. قوله: ((ومِن ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لنوحٍ أو لإبراهيم)، نقله من "معاني" الزجاج. والصحيح الأول. قال محيي السنة: (ومِن ذُرِّيَّتِهِ)، أي: من ذرية نوح، ولم يرد: من ذرية إبراهيم، لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطاً، ولم يكونا من ذرية إبراهيم، وكذا في "الوسيط" و"الكواشي".

وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به. وقيل: كل مؤمنٍ من بني آدم. وقيل: الملائكة. وادّعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهدٍ: هم الفرس. ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في (بِها) صلة "كافرين"، وفي (بِكافِرِينَ) تأكيد النفي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "جامع الأصول": أن يونس كان من الأسباط في زمن شعيا، أرسله الله إلى أهل نينوى من بلد الموصل، وقال: "إن لوطاً كان ابن أخي إبراهيم: هاران بن تارح، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم". وقال الإمام: "لأن نوحاً أقرب المذكورين". وذكر ما قالوه، وقال: "ومن قال: إن الضمير لإبراهيم، يقدر: "ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا" لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم"، ولذلك ختم بـ (ويُونُسَ ولُوطًا). وجعلهما معطوفين على (نُوحًا هَدَيْنَا) لا على "داود" فيكون من عطف الجملة على الجملة. وصاحب "الكشف" أخرج إلياس أيضاً من ذرية إبراهيم، وليس كذلك، لما ذكر أبو عبد الله الكسائي في "المبتدأ": أنه ابن عيزار بن هارون بن عمران.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذكرنا عن "جامع الأصول" أن يونس أيضاً من ذرية إبراهيم، فبقي لوط خارجاً منها، ولما كان ابن أخيه، وآمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من الذرية على سبيل التغليب. وقال صاحب "المرشد": اختلفوا في أن الضمير في: (ومِن ذُرِّيَّتِهِ) هل يرجع إلى إبراهيم أو نوح؟ والوجهان محتملان، ومعناه: وهدينا من ذريته داود وسليمان، ثم الوقوف على (المُحْسِنِينَ) كافٍ، ثم يبتدئ (وَزَكَرِيَّا) على أنه معطوف على ما قبله إلى قوله: (وَلُوَطاً)، ويبتدئ: (وكُلاًّ فَضَّلْنَا). وقلت: فعلى هذا كل من الآيات مستقلة في الدلالة، وهو الوجه، إذ ورود ذكر الأنبياء على غير ترتيب، لا سيما إسماعيل، وهو ولد إبراهيم، أخر ذكره، يدل دلالة ظاهرة على الاستقلال. قوله: "بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، وبدليل وصل قوله: (فَإن يَكْفُرْ) "، يعني: دل نظم الآيات على أن المراد بقوله: الأنبياء، فإن الآيتين اللتين صدرتا بـ (أُوْلَئِكَ) إنما عقبتا قوله: (ولَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) للتسلي والتأسي. وذلك أنه تعالى لما ذكر أولئك القادة السادة، وبين مراتبهم وطبقاتهم: تارة بالإحسان، وتارةً بتفضيلهم على العالمين، وأخرى بالاجتباء والهداية على صراطٍ مستقيم، وفذلك ذلك بقوله: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) على طريقة قول حاتم: ولله صعلوك ...

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم عدد له خصالاً فاضلة، ثم عقب تعديدها بقوله: فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه وجعل عمدة ما منحوا، لأجل تلك الخصال، البراءة من الشرك، تعريضاً بالمشركين، كما قال: (ولَوْ أَشْرَكُوا) مع فضلهم وتقدمهم، وما رفع لهم من الدرجات؛ لكانوا كغيرهم، عقب ذلك كله بالآيتين، كما ذكرنا، للتسلي والتأسي. أما التسلي فإن الفاء في قوله: (فَإن يَكْفُرْ بِهَا) إما عاطفة، عطفت الجملة الشرطية على الأولى على الترتيب، على معنى: أولئك الكملة المذكورون، هم الذين آتيناهم الكتاب والحكمة والنبوة، وجعلناهم أهلاً لها، ومضطلعاً للقيام بحقها وحفظها، فإن يكفر بها هؤلاء الحمقى فلا بأس، فإن أولئك الموصوفين بتلك الفضائل النابهة قد آمنوا بها، وصدقوا بها حق التصديق، وأنت منهم، فقد آمنت بكتابك، ومن اتبعك من المؤمنين. أو جزائية، لأن في (والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ) معنى الشرط، والجملة الشرطية خبر له، والجملة كما هي خبر (أُوْلَئكَ). ولابد في الجزاء من رابطة بالمبتدأ، فوضع (قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) موضع الضمير، للإشعار بالعلية. والمعنى: أنا منحناهم الكتاب والحكم والنبوة، ووكلناهم بها،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقومون بحقها، ولا يضيعونها، فإن أضاعها هؤلاء الكفرة، ولم يشكروا حق تلك النعمة، فأولئك الأقوام غير موصوفين بذلك، وأنت سيدهم، فلا تحتفل بذلك، كما تقول لصاحبك: منحتك هذا، فإن نازعك فلان فيه، أو أراد إتلافه، فلا بأس، لأنك مليء قادر على حفظه. وأما التأسي فهو قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). قال الزجاج: "معنى قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) الأنبياء الذين ذكرهم (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ): أي: اصبر كما صبروا، فإن قومهم كذبوهم، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، فاقتد بهم". وكذا عن صاحب "المرشد". وقلت: ويعضده قوله: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فإنه من أجل ما يتأسى به وأولاه. قال في سورة "هود": "ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأن شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع"، وهذا التقرير مبني على أن الكلام مبني على التفريق والجمع، فرقهم أولاً مع خلائقهم وخصائلهم في تلك الآيات، ثم جمع خصائلهم في قوله: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، الآية، وجمع ذواتهم معها في قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) وأمر حبيبه صلوات الله عليه بالاقتداء بهداهم، والانخراط في سلكهم. ولذلك قال الإمام: "الآية دالة على فضله صلوات الله عليه على سائر الأنبياء، لأنه تعالى

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بـ"هداهم": طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدىً، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً. والهاء في (اقْتَدِهْ) للوقف، تسقط في الدرج، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف. [(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمره بالاقتداء بهداهم، ولابد من امتثاله لذلك الأمر، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وخلائقهم المتفرقة، ويدخل في هذا المقام، الصبر دخولاً أولياً". واعلم أن هذه الفضيلة - وهي كونه صلوات الله عليه مأموراً بإتباعهم - أعلى فضائلهم، وأسنى مراتبهم المذكورة. ونحوه قوله تعالى: (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) إلى قوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ) [النحل: 120 - 123] قال: "فيه تعظيم منزلة رسول الله صلي الله عليه وسلم وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة إتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم ملته". قوله: (والهاء في (أقْتَدِه) للوقف). قال أبو البقاء: "يقرأ بسكون الهاء، وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت. ومنهم من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها

(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ): وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده، واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحى إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، [الأنبياء: 107]، أو: ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين، وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة. والقائلون هم اليهود، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بهاء الإضمار". وقال الزجاج: "المختار أن يوقف عند هذه الهاء". وروى صاحب "الكشف" عن أبي علي: "أن الهاء كناية عن المصدر، أي: اقتد اقتداءً". قوله: (أو: ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين)، يريد أن كلا من المعلق والمعلق به، يعني: (إذْ قَالُوا)، (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ) يحتمل معنيين مختلفين، وذلك أن قوله: (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يحتمل أن يكون صفة لطفٍ وصفة قهر، فإذا فسر باللطف جعل (إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ) إنكاراً منهم لرحمته، لأن بعثة الرسل من جلائل نعمته، وعظائم رأفته، وإذا فسر بالقهر جعل قولهم جسارة على جحود حكمته، لحلول نقمته. قوله: (والقائلون هم اليهود)، وبيان النظم أنه تعالى لما وصف أمة محمد صلوات الله عليه بقوله: (فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، وأنهم الذين قاموا بحقوق جميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، ووفقوا بالإيمان بكلها، وبحفظ مقتضاها، استطرد

بدليل قراءة من قرأ: (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء، وكذلك (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ)، وإنما قالوا ذلك مبالغةً في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكر اليهود، وأنهم على ضد ذلك، حيث طعنوا على الكتب المنزلة، وحرفوا التوراة وغيروها، وكتموا بعضها. وأما إذا أريد بالقوم: الأنبياء، وهو الوجه كما سبق، فالمعنى: أنهم الذين يعرفون الله، وجلال سلطانه، وكمال حكمته في إنشاء خلقه، لأنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو أن يعبد حق عبادته، ويعرف حق معرفته، وذلك لا يتم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، لإرشاد الخلق إلى ما خلقوا لأجله، وهؤلاء اليهود (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ). قوله: (بدليل قراءة من قرأ: (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء) الفوقانية: كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو. واعلم أن القراءة بالتاء الفوقانية تدل دلالة ظاهرةً على أن القائلين لقوله: (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) هم اليهود، لأنهم هم الذين غيروا التوراة ونقضوها، وأما بالياء على هذا فمحمولة على الالتفات، كأنهم جعلوا بعداً لتلك الفعلة القبيحة، ويكون قوله: (وعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا) في موضع الحال في ضمير الفاعل في (تَجْعَلُونَهُ)، والمعنى: تجعلونه ذا قراطيس والحال من أنكم علمتم على لسان محمد صلي الله عليه وسلم، مما أوحي من تصديق كتابكم (مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ ولا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ)، كما أومأ إليه المصنف.

فألزموا ما لا بدّ لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم، وتحريفهم، وإبداء بعضٍ وإخفاء بعض، فقيل: (جاءَ بِهِ مُوسى) وهو نورٌ وهدى للناس حتى غيروه ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعةً وورقاتٍ مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن القراءة بالياء التحتانية ظاهرة على أن القائلين المشركون، كما قال: "وقيل: القائلون المشركون، وقد ألزموا إنزال التوراة"، فعلى هذا: (وعُلِّمْتُم): عطف على (أُنزِلَ الكِتَابُ) من حيث المعنى، أي: قل من أنزل التوراة؟ ومن علمكم ما لم تعلموا؟ وتقديره أنهم لما قالوا: (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) قيل لهم: ما الكتاب المنزل على موسي واليهود يفعلون به، ويصنعون ما ذكر؟ وما ذلك الكتاب الذي عرفتموه؟ حيث تحديتم به وأنتم فرسان البيان، وزعماء الحوار، فما قدرتم على الإتيان بأقصر سورةٍ منه، فعرفتم أنه حق وصدق. ثم جيء بقوله: (قُلِ اللهُ) إلزاماً لهم وتبكيتاً. وأما توجيه القراءة بالتاء الفوقانية على هذا فمشكل، لعل القائل به يتمحل، ويقول: إنهم لما كانوا يسمعون من اليهود، وكانوا راضين بفعلهم، خوطبوا بذلك، والله أعلم. قوله: (وأدرج تحت الإلزام توبيخهم) يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: قل: ما التوراة؟ ثم من أنزل التوراة؟ فإنه كان في الإلزام، فعدل إلى قوله: (الْكِتَابَ)، ووصفه باسم الموصول، وجعل صلته ما ينبئ عن التوبيخ والنعي، على سبيل الإدماج. وبيانه أنه تعالى وصف الكتاب أولاً بالتعظيم والتفخيم، فذكر النبي المكرم، وجعله نوراً وهدى للناس كافة، ثم أتي بقوله: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ)، على سبيل الاستئناف، لبيان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموجب، على سبيل التعكيس، لأن كونه نوراً وهدي موجب لأن يجعل ذريعةً إلى التخلص من ظلمات الجهالات، ووسيلةً إلى النجاة من ورطات الكفر والضلالات، فعكسوا وحقروه، حيث جعلوه ذا قراطيس مقطعة، وورقاتٍ مفرقة، وبعضوه، فأخفوا ما أرادوا، وأبدوا ما اشتهوه، ليضلوا ويضلوا. وقد أومأ إلى هذا المعنى بقوله: "وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم"، يعني كلفوا علمها والعمل بها، لكونها نوراً وهدى، فخاسوا بها، وظلموا حقها. وهو مقتبس من قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة: 5]. قال صاحب "المرشد": "هدى للناس": وقف كافٍ، ومنهم من فرق بين القراءتين، وقال: هو وقف حسن إذا قرئ بالياء التحتاني، ولا فرق عندي، وهو وقف حسن على القراءتين. وقال أبو البقاء: (نُوراً): حال من الهاء في (بِه) أو من (الْكِتَابَ)، و (بِهِ): يجوز أن تكون مفعولاً به، وأن تكون حالاً، و (تَجْعَلُونَهُ): مستأنف لا موضع له. ولذلك فرق المصنف حين أخرج (نُوراً وَهُدىً) في صورة الجملة الاسمية، ليؤذن بأنها حال مؤكدة، وأبرز تفسير (تَجْعَلُونَهُ) مصدراً بكلمة الغاية، ليدل على القطع،

وروي: أن مالك بن الصيف - من أحبار اليهود ورؤسائهم - قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود"، فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك! ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: إنه أغضبني، فنزعوه، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقيل: القائلون قريش، وقد ألزموا إنزال التوراة، لأنهم كانوا يسمعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأن مجيء ذلك النور، وتلك الهداية، امتد إلى زمن أولئك الضالين المضلين، حتى فعلوا بها ما فعلوا. ثم وزان هذه الآية مع ما يتلوها من قوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ) وزان قوله تعالى في آخر السورة: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وتَفْصِيلاً) [الأنعام: 154] الآية: مع قوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 155]. أما قوله: (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وقوله: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) الآية، فكالتفصيل لما يحصل من إجمال قوله: (ولِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا)، لأن المعنى: إيذان بإنذار أهل أم البلاد، ثم شرع في إنذار من حولها من المكلفين، فهم: إما مصدقون أو مكذبون. قوله: (أنشدك)، الجوهري: "نشدت فلاناً": إذا قلت له: نشدتك الله، أي: سألتك بالله، كأنك ذكرته إياه.

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الخطاب لليهود، أي: علمتم على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم، (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل: 76]. وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم) [يس: 6]. (قُلِ اللَّهُ) أي: أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة. ويقال لمن كان في عملٍ لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب. و(يَلْعَبُونَ) حالٌ من (ذرهم)، أو من (خوضهم)، ويجوز أن يكون (فِي خَوْضِهِمْ) حالاً من (يلعبون)، وأن يكون صلةً له أو لـ (ذرهم). [(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإنهم لا يقدرون أن يناكروك) أي: قوله: (قُلِ اللهُ)، بمعنى: قل: الله (أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى) إلى آخره، تبكيت وإلزام وإشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيه على أنهم مبهوتون، لا يقدرون على الجواب، ولهذا عقبه بقوله: (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). قوله: (و (يَلْعَبُوَن): حال من (ذَرْهُمْ) أو من (خَوْضِهِمْ)، أو (فيِ خَوْضِهِمْ) حال من (يَلْعَبُونَ)). وفي كلامه توسع، لأن المراد: حال من الضمائر على التقادير، وهي حال مؤكدة، كقوله تعالى: (ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60].

(مُبارَكٌ): كثير المنافع والفوائد، (ولتنذر) معطوفٌ على ما دلّ عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرئ: (ولينذر) بالياء والتاء. وسميت مكة (أُمَّ الْقُرى) لأنها مكان أول بيتٍ وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً. ولبعض المجاورين: فمن يلق في بعض القريّات رحله ... فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (فِي خَوْضِهِمْ): يجوز أن يتعلق بـ (ذَرْهُمْ) على أنه ظرف له، وأن يكون حالاً من ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ)، وأن يكون متعلقاً بـ (يَلْعَبُونَ)، و (يَلْعَبُونَ) حال صاحبها ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ) إذا لم تجعل (فيِ خَوْضِهِمْ) حالاً منه، وإن جعلته حالاً منه كانت الحال الثانية من ضمير الاستقرار في الحال الأولى، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في (خَوْضِهِمْ) ويكون العامل: المصدر، والمجرور: فاعل في المعنى". قوله: (وقرئ: "لينذر" بالياء والتاء): كلهم بالتاء الفوقانية سوى أبي بكر. قوله: (ولِبَعْض المجاورين). قيل: عنى به نفسه، وقيل له: لم تجاور مكة؟ قال: القلب

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ): يصدّقون بالعاقبة ويخافونها، (يُؤْمِنُونَ) بهذا الكتاب، وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين. ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها. [(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)]. (افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فزعم أن الله بعثه نبياً، (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) وهو مسيلمة الحنفي الكذاب، أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ وأهماني، فأوحى الله إليّ: أن انفخهما، فنفختهما فطارا عني، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما؛ كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العنسي". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي أجده ثمة لا أجده هاهنا. منتابي: مرجعي، انتاب فلان القوم، أي: أتاهم مرة بعد أخرى، وهو افتعال من النوب. قوله: (كانت لطفاً له). أي: كانت المحافظة على الصلاة فتح باب في المحافظة على الصوم والإنفاق والحج وغيرها، وزجراً عن المعاصي. قوله: (رأيت فيما يرى النائم) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، ولعله صلوات الله عليه أول السوارين بالكذابين، لأن السوار، سيما إذا كان ذهباً، ليس من سمة

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه: "سميعاً عليماً"، كتب هو: "عليماً حكيماً"، وإذا قال عليماً حكيماً، كتب: "غفوراً رحيماً، فلما نزلت: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبها، فكذلك نزلت"، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمدٌ صادقاً لقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت مثل ما قال، فارتدّ عن الإسلام، ولحق بمكة، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة. وقيل: هو النضر بن الحرث والمستهزئون. (وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف، أي: رأيت أمراً عظيماً، (إِذِ الظَّالِمُونَ) يريد: الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله، و (غَمَراتِ الْمَوْتِ): شدائده وسكراته، وأصل الغمرة: ما يغمر من الماء، فاستعيرت للشدّة الغالبة. (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ): يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم، أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارةٌ عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في الإزهاق، من غير تنفيسٍ وإمهال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرجال، خصوصاً الأنبياء، وكونهما في يديه دل على شخصين ينازعانه فيما يتقوى به من الرسالة والنبوة، كقوله تعال: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص: 35]، ولا يكونان إلا كذابين. وقال التوربشتي: "نبه بنفخهما على استحقار شأنهما، وأنهما يمحقان بأدنى ما يصيبهما من بأس الله". قوله: (عبارة عن العنف) أي: كناية، لا أن ثمة تبسط الأيدي.

وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملظ؛ يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخر إليّ مالي عليك الساعة، ولا أريم مكاني، حتى أنزعه من أحداقك. وقيل: معناه: باسطو أيديهم عليهم بالعذاب. (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ): خلصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون على الخلاص، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون والهوان: الشديد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (أنهم يفعلون بهم فعل الغريم) إلى آخره: بيان لوجه التمثيل، وأن أصل الكناية أخذ الزبدة والخلاصة من التمثيل، الذي هو تشبيه الحالة بالحالة. قوله: (الغريم الملظ)، الجوهري: "ألظ فلان بفلان: إذا لزمه، عن أبي عمرو: هو ملظ به: إذا لزمه لا يفارقه". الإزهاق: "من: زهقت نفسه تزهق زهوقاً، أي: خرجت". قوله: (ولا أريم مكاني)، الجوهري: رامه يريمه ريماً، أي: برحه. يقال: لا ترمه، أي: لا تبرحه. والسياق: نزع الروح. قوله: (اليَوْمَ تُجْزَوْنَ) يجوز أن يريدوا وقت الأمانة، ... وأن يريدوا الوقت الممتد المتطاول): والظاهر هذا الثاني، لأن قوله: (ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) [الأنعام: 94] مناسب لحال القيامة، لأن الآيات الواردة في معناها في فيها، وقد عطف من حيث المعنى على (تُجْزَوْنَ). والتقدير: يقولون: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ) واليوم يقال لهم: (ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) [الأنعام: 94].

وإضافة "العذاب" إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه. (عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تؤمنون بها. [(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)]. (فُرادى): منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله، (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ): ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة، (وَراءَ ظُهُورِكُمْ): لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً، ولا قدّمتموه لأنفسكم، (فِيكُمْ شُرَكاءُ) في استعبادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم. وقرئ: "فراداً" بالتنوين. و"فراد" مثل: ثلاث، و"فردى" مثل: سكرى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقولك: رجل سوء) أي: عذاباً شديداً، فأضيف ليدل على أن العذاب ملك له، لأن نسبة الإضافة ألصق من نسبة الصفة بالموصوف. ومن ثم قال: "يريد العراقة في الهوان": أي: الأصالة. الأساس: "فلان معرق في الكلام أو اللؤم، وهو عريق فيه، واعترقت الشجرة، واستعرقت: ضربت بعروفها". قوله: (في استعبادكم) أي: زعمتم أن الأصنام شركاء لله في عبادتكم، لأنهم إذا عبدوا الآلهة، فقد جعلوا لله شركاء، والإضافة إلى الفاعل، أي: استعبادكم الآلهة. وقوله: "وفي استعبادهم" عطف تفسيري على قوله: "فيهم"، على نحو: "أعجبني زيد وكرمه". قوله: (وقرئ: "فراداً" بالتنوين)، كـ"رحال" جمع: "رحل"، في الشواذ. والسبعة:

فإن قلت: (كما خلقناكم)، في أي: محلٍّ هو؟ قلت: في محل النصب صفة لمصدر (جئتمونا)، أي: مجيئاً مثل خلقنا لكم. (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ): وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد: أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل، ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف، كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله: "لقد تقطع ما بينكم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "فرادى" بالألف بغير تنوين، جمع "فردان"، أي: كـ"سكارى" و "سكران". قوله: (أي: مجيئاً مثل خلقنا لكم). المجيء: عبارة عن خلق الله إياهم ثانياً، فهو مثل خلقه إياهم أولاً. ونحوه قوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29]. قال القاضي: لقد جئتمونا للحساب والجزاء، منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا، (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أي: على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد. فعلى هذا (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ): بدل من (فُرَادَى) أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير في (فُرَادَى)، أي: مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً. أو صفة مصدر؛ كما قال المصنف، والأحسن للتأليف أن يكون حالاً من الضمير في (فُرَادَى) معنى ولفظاً. قال أبو البقاء: (أَوَلَ): ظرف لـ (خَلَقْنَاكُمْ). والمرة، في الأصل، مصدر مر يمر، ثم استعمل ظرفاً اتساعاً. وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل". قوله: (وقع التقطع بينكم). قال القاضي: "البين: من الأضداد، يستعمل في الوصل والفصل. وقيل: هو الظرف أسند إليه الفعل على الاتساع، والمعنى: وقع التقطع بينكم. ويشهد

[(إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)]. (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنبات والشجر. وعن مجاهدٍ: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي: الحيوان، والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، (وَمُخْرِجُ) هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي. فإن قلت: كيف قال: (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) بلفظِ اسم الفاعل، بعد قوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)؟ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له قراءة نافعٍ والكسائي وحفص عن عاصم: بالنصب، على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه، أو أقيم مقام موصوفه، وأصله: لقد تقطع ما بينكم. وقد قرئ به". وقال صاحب "الكشف": (مَا): موصوف، و (بَيْنَكُمْ): صفته، وليس بموصول، لأن الموصول لا يحذف. قال صاحب "الفرائد": قوله: (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) على إسناد الفعل إلى مصدره" يعني: وقع التقطع بينكم بعيد، لأن التقطع لازم، وما ذكره من النظر مستبعد، وهو قوله: "جمع بين الشيئين"، لأنه تقدير أصله: "أوقع الجمع بين الشيئين"، وهو من قبيل ما جعل المفعول به، لنسيانه، بتأويل جمع الجمع بينهما، أو أوقع الجمع بينهما. هذا إذا كان متعدياً، فأما إذا كان لازماً فليس كذلك. ويمكن أن يقال: إن الاستشهاد لمجرد إسناد الفعل إلى مصدره، سواء كان لازماً أو متعدياً.

قلت: عطفه على (فالق الحب والنوى)، لا على الفعل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عطفه على (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) لا على الفعل). فإن قلت: لم لم يعطف عليه، كما ذهب إليه الإمام، ويكون الغرض إرادة الاستمرار في الأزمنة المختلفة، كما سبق في قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة: 15]، ليكون إخراج الحي من الميت أولى في القصد من عكسه، ولأن المناسبة في الصنعة البديعية تقتضي هذا، لأنه من باب العكس والتبديل، كقوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج: 61]، ولورود سائر ما يشبه الآية على هذا المنوال؟ قلت: يمنعه ورود الجملة الثانية مفصولة عن الأولى على سبيل البيان، ولو عطفت الثالثة على الثانية كانت بيانيةً مثلها، لكنها غير صالحة له، لأن (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) ليس متضمناً لإخراج الميت من الحي. فإن قلت: فقدر لها مبيناً مناسباً لها، كما صنعت في قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) [النساء: 95] على تقدير: (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى)، وخالق الحب والنوى. قلت: يفوت إذن غرض التعميم الذي تعطيه الآية، من إرادة "يخرج الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى"، فإن هذا المعنى إنما يحصل إذا قدر: و (وَمُخْرِجُ) معطوفاً على (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى). ثم يسري معنى العموم إلى قرينتها، فيصح أن يقال: (يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ)، أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي. ولو قدر معطوفاً على (يُخْرِجُ) اختص بالحب والنوى.

و (يخرج الحيَّ من الميت) موقعه موقع الجملة المبينة لقوله: (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)، لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين من جنس إخراج الحيّ من الميت، لأنّ النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله: (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم: 50]. (ذلِكُمُ اللَّهُ) أي: ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره. [(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)]. (الْإِصْباحِ) مصدرٌ سمي به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله: أفنى رباحًا وبني رباح ... تناسخ الإمساء والإصباح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الانتصاف": "تكرر في القرآن (يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ) [يونس: 31]. فيبعد قطعها عن نظيرها، والوجه أن قياس الآية أن تكون الصفات باسم الفاعل، كقوله: (فَالِقُ الحَبِّ)، (فَالِقُ الإصْبَاحِ)، (وجَعَلَ اللَّيلَ)، وإنما عدل إلى صيغة المضارع في (يُخْرِجُ) ليدل على تصوير ذلك وتمثيله واستحضاره، وإخراج الحي من الميت أولى في الوجود، وأعظم في القدرة، فكانت العناية به أتم، ولذلك جاء مقدماً في مواضعه، وحسن عطف الاسم على الفعل المضارع لأنه في معناه". قوله: (أفنى رياحاً)، رياح: اسم قبيلة، أي: أفناهم تعاقب الدهور والأعصار، ومرور الليل والنهار.

بالكسر والفتح؛ مصدرين، وجمعي مسي وصبح. فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، كما قال: تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها ... تفرّى ليل عن بياض نهار قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد: فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا: انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق، وقال الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تفري ليلٍ عن بياض نهار) الشعر لأبي نواس يصف الخمر، قبله: كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيبٍ في سوادٍ عذار تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفري ليلٍ عن بياض نهار تردت به، أي: بالحباب، يعني: أظهرته الخمر على وجهها. فريت الأديم فرياً، أي: شققته، وأراد به: تشقق الحباب على وجه الخمر. قوله: (وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه) الطائي: هو البحتري، وتمامه:

وقرئ: "فالق الإصباح وجاعل الليل" بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: "فلق الإصباح وجعل الليل". السكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه، من زوج أو حبيب، ومنه قيل للنار: سكن؛ كأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة؟ والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأول الغيث رش ثم ينسكب قبله: هذي مخايل برق خلقه مطر ... جود، ووري زنادٍ خلفه لهب استشهد به على أن الصبح هو الذي ينشق عن بياض النهار. قوله: (وقرأ النخعي: "فلق الإصباح وجعل الليل"). "فلق": شاذ، و (جَعَلَ): قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي، حملوه على معنى المعطوف عليه، فإن (فَاِلقُ) بمعنى: "فلَق". قوله: (والليل يطمئن إليه التعب بالنهار)، الأساس: "من المجاز: اطمأن إليه: سكن إليه: ووثق به"، كأنه ضمن "اطمأن" معنى "سكن". وإسناد "سكن" إلى الليل من باب: قائم ليله، وصائم نهاره، أي: يسكن إليه من تعب في النهار، ولهذا علله بقوله: "لاستراحته فيه". قوله: (وجمامه)، الجوهري: "الجمام - بالفتح -: الراحة، يقال: جم الفرس جماً وجماماً: إذا ذهب إعياؤه".

ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكوناً فيه، من قوله: (لتسكنوا فيه) [يونس: 67، غافر: 61]. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) قرئا بالحركات الثلاث: فالنصب على إضمار فعل دل عليه "جاعل الليل"، أي: وجعل الشمس والقمر حسباناً، أو يعطفان على محل "الليل". فإن قلت: كيف يكون لـ"الليل" محل والإضافة حقيقية، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ، ولا تقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت: ما هو في معنى المضيّ، وإنما هو دال على جعلٍ مستمرّ في الأزمنة المختلفة، وكذلك (فالق الحب)، و (فالق الإصباح)، كما تقول: الله قادرٌ عالم، فلا تقصد زماناً دون زمان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والشَّمْسَ والْقَمَرَ): قرئا بالحركات الثلاث). النصب: العامة، والرفع والجر: شاذتان. قوله: (ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس). قال الزجاج: "ولا يجوز: "جاعل الليل سكناً"، لأن أسماء الفاعلين، إذا كان الفعل ماضياً، أضيفت إلى ما بعدها لا غير. تقول: هذا ضارب زيداً أمس. أجمع البصريون على أنه لا يجوز في "زيد" النصب، وبعض الكوفيين يجيزه. فإذا قلت: هذا معطي زيد درهماً، فنصب "درهماً" محمول على تأويل: أعطي". قوله: (دال على جعلٍ مستمر). قال صاحب "التقريب": "فيه نظر، لأنه بخلاف ما ذكره في: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] ". والجواب: أنه ليس مخالفاً له، بل هو تبيين وتفصيل لما

والجرُّ عطفٌ على لفظ "الليل". والرفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: والشمس والقمر مجعولان حسباناً، أو محسوبان حسباناً. ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً: جعلهما على حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان - بالضم -: مصدر حسب، كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران. (ذلِكَ) إشارةٌ إلى جعلهما حسباناً، أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم، (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي قهرهما وسخرهما (الْعَلِيمِ) بتدبيرهما وتدويرهما. [(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكره هنالك، لأنه قال بعد ما قرر أنه إضافة اسم الفاعل إلى معموله: "إنما تكون غير حقيقية، إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، نحو: "مالك الساعة أو غدٍ"، وأما إذا قصد زمان مستمر، كقولك: "مالك العبيد"، كانت الإضافة حقيقية". وقد استقصينا القول فيه هناك. والذي نريده هاهنا هو أن اسم الفاعل المضاف، إذا كان بمعنى المضي فقط، تكون إضافته إلى ما بعده حقيقية، لانتفاء المشابهة المعنوية التي هي جزء العلة في إعمال اسم الفاعل، وإذا كان بمعنى الاستقبال أو الحال فقط، تكون إضافته غير حقيقية، لوجود المشابهة

(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات. [(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التامة المقتضية للعمل. وأما إذا كان بمعنى الاستمرار، يعني يكون معناه موجوداً في جميع الأزمنة: من الماضي والمستقبل والحال، كالعالم والقادر، فيكون في إضافته اعتباران: أحدهما: محضة باعتبار معنى المضي وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة، وثانيهما: غير محضةٍ باعتبار معنى الاستقبال، وبهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، نحو قوله تعالى: (أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) [الإسراء: 110]، فإن (أَيَّا)، من جهة كونها متضمنة لمعنى الشرط، عامل في (تَدْعُوا)، ومن جهة كونها اسماً يتعلق بـ (تَدْعُوا) معمول له. وقال صاحب "الفرائد" في قوله تعالى: (وقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ) [غافر: 3]: لما كان "القابل" بالنظر إلى أنه شيء له القبول، لا بالنظر إلى أنه عامل، صلح أن يكون صفةً له بالإضافة إلى "التوب"، وكان معرفة، فيصلح أن يكون "الشديد" من حيث إنه شيء له الشدة، لا بالنظر إلى أنه عامل، صفةً له بالإضافة إلى "العقاب"، فعلى هذا يكون (شَدِيدُ العِقَابِ) معرفة، فليتأمل. وقال صاحب "لباب التفاسير": "والظاهر في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] النكرة، لأنه بمعنى الاستقبال، وإضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال لا يفيد تعريفاً، ولكن حمل على الماضي لتحقق لفظه".

من فتح قاف "المستقر" كان "المستودع" اسم مكانٍ مثله أو مصدراً، ومن كسرها، كان اسم فاعل و"المستودع" اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقرٌّ في الرحم ومستودعٌ في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها، أو: فمنكم مستقرٌّ ومنكم مستودعٌ. فإن قلت: لم قيل: (يَعْلَمُونَ) مع ذكر النجوم، و (يَفْقَهُونَ) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفسٍ واحدة، وتصريفهم بين أحوالٍ مختلفةٍ ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من فتح قاف "المستقر"). قرأها كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو، ويروى: "من فتح فاء المستقر" أي: فاء فعله، وهو القاف، لأن أصله: "قر". قال الزجاج: "الأكثر في القراءة: "مستقر"، بفتح القاف، وقد قرئت بكسرها، (وَمُسْتَوْدَعٌ) بالفتح لا غير". قوله: (ألطف وأدق صنعةً): إشارة إلى أن في دلائل الأنفس من دقة النظر ما ليس في دلائل الآفاق. ويوافقه ما ذكره حجة الإسلام: "الطبيعيون أكثروا البحث عن عجائب الحيوان والنبات، ورأوا في تشريح أعضاء الحيوان من عجائب صنع الله، وبدائع حكمته، ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلعٍ على غايات الأمور ومقاصدها". الانتصاف: "لا يتحقق الفرق، وإنما أريد أن يكون لكل آية فاصلة مستقلة بالمقصود،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعداً عن التكرار، وتفنناً في البلاغة. ويحتمل أن يقال: الفقه أدني درجات العلم، والجهل بالنجوم جهل بأمرٍ خارج عن الذات، فسمى عارفه عالماً، والآخر لا يخرج عن أحوال النفس، وجهل الإنسان بأحوال نفسه أبشع، فسمى العارف به فقيهاً، لأن "الفقه" هاهنا من "فقه" - بالكسر -: إذا فهم ولو أدني فهم، وليس من باب "فقه" بضم القاف، لأنها درجة عالية، أي: صار فقيهاً. قال الهروي: "قال سلمان لامرأةٍ وقد أجابته عن سؤال: "فقهت"، أي: فهمت". "وقولنا: "لا يفقه شيئاً"، أذم من قولنا: "لا يعلم"، لأن نفي العلم نفي حصوله، وقد يكون فقيهاً، ويدل على أن جهل الإنسان بأمر نفسه أقبح لإنكاره، بقوله: (وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21] ". وقلت: الصحيح ما ذهب إليه المصنف، لأن صاحب "النهاية" قال: "الفقه في الأصل: الفهم، يقال: فقه الرجل - بالكسر - يفقه فقهاً: إذا فهم وعلم. وفقه - بالضم - يفقه: إذا صار فقيهاً عالماً. وجعله العرف خاصاً بعلم الشريعة وتخصيصاً بعلم الفروع". وقال الجوهري: "فقه الرجل - بالكسر - وفلان لا يفقه. ثم خص به علم الشريعة"، وقد تقرر أن لابد من رعاية المناسبة بين المنقول عنه والمنقول إليه. وإنما خص علم الشريعة بالفقه لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة، والأقيسة، والنظر الدقيق، بخلاف علم اللغة، والنحو، والصرف، وغير ذلك.

[(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)]. (فَأَخْرَجْنا بِهِ): بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ): نبت كل صنف من أصناف النامي، يعني: أن السبب واحد وهو الماء، والمسببات صنوفٌ مفتنة، كما قال: (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد: 4]، (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) من النبات (خَضِراً): شيئاً غضاً أخضر، يقال أخضر وخضر، كأعور وعَوِر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، (نُخْرِجُ مِنْهُ): من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) وهو السنبل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما حديث سلمان، فقد رواه صاحب "النهاية": "أن سلمان نزل على نبطيةٍ بالعراق، فقال لها: هل هاهنا مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك، وصل حيث شئت. فقال: فقهت، أي: فهمت وفطنت للحق". وقلت: لو قال: علمت، لم يقع هذا الموقع. وروينا في "جامع الدارمي" عن عمران، قال: "قلت للحسن يوماً في شيءٍ قاله: يا أبا سعيد، ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك! هل رأيت فقيهاً قط؟ إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، والمداوم على عبادة ربه".

و (قِنْوانٌ) رفعٌ بالابتداء، (ومِنَ النَّخْلِ) خبره، و (مِنْ طَلْعِها) بدلٌ منه، كأنه قيل: وحاصلةٌ من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة "أخرجنا" عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: "يخرج منه حب متراكبٌ"، كان (قِنْوانٌ) عنده معطوفاً على "حبٌّ". والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنوٌ وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب؛ لأنّ "فعلان" ليس من زيادة التكسير. (دانِيَةٌ): سهلة المجتنى معرضةٌ للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (قِنْوَانٌ) رفع بالابتداء): قرأ بها العامة. الجوهري: "القنوان: جمع قنو، وهو: العذق، وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب". قوله: (ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً). قال صاحب "التقريب": الخبر في الوجه الأول عام، فلا يفتقر إلى القرينة، وفي الثاني خاص فافتقر، فلذلك قال فيه: "لدلالة (أَخْرَجْنَا) ". وذلك أن الخبر إذا كان عاماً، كان المذكور نائباً عن المقدر، فلا يقال: الخبر محذوف، وأما إذا كان خاصاً فلا يكون نائباً عنه، فيقال: الخبر محذوف. قوله: (لأن "فعلان" ليس من زنات التكسير"، أي: بفتح الفاء. قال في "المفصل": "وما كانت زيادته ثالثة مدة، فلأسمائه في الجمع أحد عشر مثالاً". وذكر منها: فعلان وفعلان، بضم الفاء وكسرها. قوله: (معرضة). يقال: أعرض له كذا: إذا أمكنه. وحقيقته إبداء عرضه، والعرض - بالضم -: الجانب.

ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتى بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: (دانيةٌ): قريبٌ بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأنّ النعمة فيها أظهر، أو: دلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله: (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل: 81]. وقوله: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) فيه وجهان: أحدهما: أن يراد: وثم جناتٌ من أعناب، أي: مع النخل. والثاني: أن يعطف على (قِنْوانٌ)؛ على معنى: وحاصلةٌ- أو: ومخرجةٌ- من النخل قنوانٌ وجناتٌ من أعناب، أي: من نبات أعناب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأن النخلة) معطوف على قوله: "سهلة المجتنى" من حيث المعنى، كأنه قال: إنما قال تعالى: (دَاِنِيَةٌ)، لأن النخلة سهلة المجتني، ولأن النخلة كذا، والأولى عطفه على "كالشيء الداني"، لأن "الداني"، على هذا الوجه يراد به القريب حقيقة، وفي الأول المراد: المشابه بالشيء القريب، ولهذا قال: "كالشيء الداني". قوله: (فإنها تأتي بالثمر): خبر "أن"، على قول من يجوز إدخال الفاء في الخبر مطلقاً، والشرط تأكيد، ويمكن أن يقال: إن الفاء جواب الشرط، وخبر "أن" محذوف بدلالة السياق، والشرط المذكور عطف عليه، والتقدير: لأن النخلة، إن كانت كبيرةً لا ينالها القاعد، فإنها سهلة المجتنى، وإن كانت صغيرة، فكيت وكيت. والأول أظهر من حيث المعنى؛ لأن أصل الكلام: ولأن النخلة تأتي بالثمر، لا تنتظر الطول وإن كانت صغيرة. ومثل هذا الشرط المذكور للمبالغة، لا يحتاج إلى الجزاء، ذكره بعض الفضلاء. قوله: (أن يعطف على (قِنْوَانٌ) على معنى: وحاصلة أو مخرجة)، أي: على التقديرين المذكورين، فعلى هذا يكون من عطف المفرد على المفرد. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأنه [إن] عطف على (قِنْوَانٌ)، فـ (مِنْ أَعْنَابٍ) حينئذٍ إما: صفة "جنات" فيفسد المعنى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذ يؤول إلى قولنا: وحاصلة أو مخرجة من النخل جنات حصلت من أعناب، وإما خبر لـ"جنات"، فلا يصح، لأنه يكون عطفاً لها على مفرد، ويكون المبتدأ نكرة، بلا مصحح. وقلت: العذر من الأول: أن المراد حصول هيئة الكروم، وخروجها من النخل، كما يرى في البساتين المعروشة الكرم، على فروع الأشجار المتدلية أغصانها، كأنها مخرجة منها. ومن ثم قال: "أي: من نبات الأعناب"، أي: بأغصان الكروم وأوراقها المخضرة، ولا تسمى الكروم جناتٍ إذا كانت مجتثة من فوق الأرض. وعن الثاني: أن المصحح عطفه على مخصص، وأنشد الخبيصي: عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي ... فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا وأجاز المالكي أيضاً نحو ذلك.

وقرئ: (وَجَنَّاتٍ) بالنصب عطفاً على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أى: وأخرجنا به جناتٍ من أعناب، وكذلك قوله: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (وَجَنَّاتٍ) بالنصب) وهي قراءة الجمهور، وجعلها معطوفةً على (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ). وكذا أبو البقاء، وتبعهما الكواشي والقاضي، وأما الواحدي فعطفها على (خَضِراً) وقال: "فأخرجنا خضراً وجناتٍ من أعناب"، والأظهر أن يكون عطفاً على (حَبّاً)، لأن قوله: (نَبَاتَ كلِ شيءٍ) مفصل يشتمل على كل صنفٍ من أصناف النامي، كما قال: " (فَأَخْرَجْنَا) بالماء (نَبَاتَ كُلِ شَيءٍ): نبت كل صنفٍ من أصناف النامي"، والنامي: الحب والنوى وشبههما. وقال الراغب: "النبت: يقال لما له نمو في أصل الخلقة، يقال: نبت الصبي والشعر والسن. ويستعمل النبات فيما له ساق وما ليس له ساق، وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له". وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) طور آخر لذلك النبات، كما قال: " (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ): من النبات (خَضِراً): شيئاً غضاً أخضر". وقال أبو البقاء: " (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا)، أي: بسبب الماء، فيكون بدلاً من: (فَأَخْرَجْنَا) الأولي". يعني به: بدل الاشتمال، لاكتساء النبات بلباس الخضرة والطراوة، ومن هاهنا يقع التفصيل، فبعض يخرج منه السنابل ذات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حبوب متكاثرة، كما قال: " (نُّخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)، وهو السنبل". وبعض خرج منه ذات قنوان دانية، كما قال تعالى: (ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) وبعض آخر جنات معروضات، كما قال: " (وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ)، أي: من نبات أعناب"، وبعض ينبت زيتوناً ورماناً (مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، ولكنه أبرز النخل والزيتون والرمان من صورة الإفراد إلى الجملة تفصيلاً لها ومزية، ولهذا قال: "والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص". ومما يدل على أن الأصل الإفراد، والمعطوف عليه (حَبّاً) قراءة من قرأ "حب متراكب"، ومن ثم قال: "ومن قرأ به كان (قِنْوَانٌ) عنده معطوفاً على (حب) ". وأحسن صاحب "المرشد" حيث قال: "والوقف على قوله (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) لم أر به بأساً، وكان كافياً، ليعلم أن قوله: (وَجَنَّاتٍ) ليس عطفاً على (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)، وأنه معطوف على قوله (حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)، والوقف على (مِّنْ أَعْنَابٍ) صالح. وقد أذن بتفضيل المذكورات على سائرها ذكرها مفصلاً بعد الإجمالي في قوله: (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ". وقال الإمام: "اعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها المجلدات، وإنما اكتفي بذكر هذه الأقسام التي هي أشرف أنواعها، للتنبيه على البواقي". وقلت: هذه الآية كالتفسير لقوله تعالى: (وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد: 4]، وكالبيان لتفضيل بعضها على بعض، على ابلغ ما يكون من تدبر ورزق التوفيق.

والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء: 162] لفضل هذين الصنفين. (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً. وقرئ: "متشابهاً وغير متشابه"، وتقديره: والزيتون متشابهاً وغير متشابه، والرمّان كذلك كقوله: ..... كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَي ... بَرِيّا ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص) أي: (والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ)، لأن الظاهر العطف على "جناتٍ"، أي: نخرج منه الزيتون والرمان. لكن الاختصاص، كما مر، هو الوجه، ولأن أسلوب الاختصاص مشروط بأن يكون المذكور صالحاً للمدح، وأن يكون مشهوراً، فإنه تعالى لما ذكر الأصناف الثلاثة، وصور كلا منها بما هو أحسن أحواله، تشويقاً للسامع، وتزييناً، أورد هذين الصنفين على طريقةٍ يظهر بها شر فهما، كأنه قال: الحب كذلك، والنخل على هذا، والأعناب كما ترى، ويذكر ما لا يخفى شأنهما في الفضل والكمال. هذا التقرير يقوي معنى الإجمال والتفصيل، ويخصص المذكورات لإنافتها على غيرها. قوله: (رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي برياً)، تمامه: . ومن أجل الطوي رماني الطوي: البئر المبنية بالحجر والآجر أو غيرهما، والتقدير: كنت منه بريئاً، ووالدي بريئاً.

والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليلٌ على التعمد دون الإهمال. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ): إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به، وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبارٍ واستبصارٍ واستدلالٍ على قدرةِ مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرئ: "وَيَنْعِهِ" بالضم، يقال: ينعت الثمرة ينعاً وينعاً. وقرأ ابن محيصن: "ويانعه"، وقرئ: "وثمره" بالضم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دليل على التعمد دون الإهمال) أي: الفاعل مختار لا موجب، كقوله بعض الزنادقة. قوله: (وانظروا إلى حال ينعه). قال المصنف في "الحاشية": "فإن قلت: هلا قيل: من غض ثمره وينعه؟ قلت: في هذا الأسلوب فائدة، وهي أن "الينع" وقع فيه معطوفاً على "الثمر"، على سنن الاختصاص على نحو قوله: (وَجِبْرِيِلَ)، للدلالة على أن الينع أولى من الغض". والتحقيق فيه أن قوله تعالى: (انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ) عام في جميع أحوال الثمر، فيدخل النظر في حال بدئه ونضجه وغيرهما، فعطف (ويَنْعِهِ) على (ثَمَرِه)، ليؤذن بعموم أحوال الثمر، وأن حالة النضج مخرجة للثمر اليانع عن أن يسمى ثمراً، ونوعاً داخلاً في ذلك الجنس لشرفه وفضله. وفيه بحث، لعدم مطابقته لما في المتن، لأنه جعل (إذَا أَثْمَرَ) قيداً

[(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)]. إن جعلت (لِلَّهِ شُرَكاءَ) مفعولي "جعلوا"، نصبت (الجن) بدلاً من (شركاء)، وإن جعلت (لِلَّهِ) لغوا كان (شُرَكاءَ الْجِنَّ) مفعولين قدّم ثانيهما على الأول. فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريكٌ مَن كان، ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك، ولذلك قدّم اسم الله على "الشركاء". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لإرادة حالة بدئه. يدل عليه قوله فيما بعد: "لما أبيح لهم الأكل من ثمره، قيل: (إَذَا أَثْمَرَ) ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر". قوله: (إن جعلت (لله) لغوا). قال ابن الحاجب: "الظرف إذا افتقر الكلام إليه، ولا يتم إلا به، يسمى ظرفاً مستقراً، يجوز أن يكون خبراً، أو حالاً، أو صفة. فإذا كان الكلام تاماً بدونه يسمى لغواً، نحو: ما كان أحدٌ خيراً منك فيها". قوله: (ولذلك قدم اسم "الله") أي: لفائدة الاستعظام قدم أيضاً اسم "الله". والحاصل أن في التركيب تقديمين، لأن الظرف إذا جعل لغواً كان مكانه بعد ذكر المفعولين، و (الِجنَّ) إذا جعل مفعولا أول، لأنه معرفة، رجع الأصل إلى قوله: "وجعلوا الجن شركاء لله"، ولا ارتياب أن فائدة التقديم الاهتمام بشأن المقدم، والاعتناء فيه. قال سيبويه: "إنهم يقدمون شأنه أهم، وهم ببيانه أعني، وإن كانا جميعاً مما يهمانهم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتحقيقه: أن المقدم في الكلام هو المقصود الأولي في أجزاء الكلام. ولما كان تقديم المفعول الثاني، وهو (شُرَكآءَ)، أوجب أن يكون الكلام فيه، قال: "استعظام أن يتخذ لله شريك من كان، ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك"، وتقديم الظرف على المفعولين أوجب الاهتمام بشأنه، قال: "ولذل قدم اسم "الله" على الشركاء". وقال صاحب "المفتاح": "مثل أن يكون الشيء مهتما بشأنه بسبب التفات الخاطر إليه، كما تجدك إذا قال لك أحد: عرفت شركاء الله، يقف شعرك، وتقول: لله شركاء؟ ! ". فإذاً في تقديم اسم "الله" القصد إلى استعظام ذاته عز سلطانه أن يتصور لساحة جلاله معنى الشريك مطلقاً، من غير نظر إلى جواز إيجاده أو حظره، وفي تقديم (شُرَكَآءَ) على (الجِنَّ) استعظام إيجاد الشريك له، من غير نظر إلى كونه جنياً أو إنسياً أو غير ذلك. قال صاحب "الإيضاح": "وفيه نظر، لأن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي، فيمتنع أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بـ (شُرَكآءَ)، وتعلقه بـ (شُرَكآءَ) كذلك منكر، باعتبار تعلقه بالله، فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها". واعلم أنا على ما قررنا مغزى الكلام، وهو أن التقديم للاهتمام، سقط هذا السؤال بالكلية.

وقرئ: "الجن" بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين. والمعنى: أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل: هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هم الذين زعموا أن الله تعالى خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر، وكل ضار) عطف على قوله: "المعنى: أشركوهم"، ففاعل "جعلوا لله شركاء"، على الأول، عام، وعلى الثاني خاص. روى محيي السنة عن الكلبي أن الآية: "نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس من الخلق، فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع، والحيات والعقارب". وقال الإمام: "القائلون بيزدان وأهرمن قالوا: إن الجن شركاء الله، وهم قد اعترفوا بأن أهرمن محدث. وفي المجوس من يقول: إن الله تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها، فحصل نوع من العجب، فتولد الشيطان منه، ومنهم من يقول: شك في قدرة نفسه، فتولد منه الشيطان، فأقروا بحدوثه، وذلك قوله: (وَخَلَقَهُمْ) ". وهذا القول اختاره الإمام، وروى في الآية وجهين آخرين، وضعفهما: أحدهما: قالوا: إن الكافرين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فسموا بالجن، كما سموا في قوله: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ

(وَخَلَقَهُمْ): وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق. وقيل: الضمير للجن. وقرئ: "وخلقهم"، أي: اختلاقهم للإفك، يعني: وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف: 28]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجِنَّةِ نَسَبًا) [الصافات: 158]. ومعنى الشركة أنها، مع كونها بنات الله، مدبرة لأحوال هذا العالم. وثانيهما: قال الحسن وطائفة من المفسرين: إن الجن لما دعوا الناس إلى عبادة الأصنام، والقول بالشرك، وكانوا مطاعين فيه، صح معنى الشركاء. وقال الزجاج: "إنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم، فجعلوهم شركاء لله تعالى". قوله: (وعلموا أن الله تعالى خالقهم دون الجن). قال القاضي: " (وَخَلَقَهُمْ) حال، بتقدير "قد"، أي: وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كمن لا يخلق". يعني: هي حال مقدرة لجهة الإشكال، ولهذا قدر المصنف "العلم" على نحو قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة: 28] كما مر في موضعه. قوله: (وقيل: الضمير للجن): عطف على قوله: "وخلق الجاعلين لله شركاء". وذكر الزجاج الوجهين، وقرر الثاني بقوله: " (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) والله خالق الجن، فكيف يكون الشريك لله عز وجل المحدث الذي لم يكن ثم كان؟ "، واختار الإمام الأول.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الذي عليه النظم: الوجه الثاني، لما علم من قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ) هذا المعنى: أي: "خلق الجاعلين لله شركاء"، فالواجب أن يحمل على معنى زائد، لكن يجب تفسير الآية بما ذكره من قوله: "والمعنى: أشركوهم في عبادته"، ليعم جميع من اتخذ شريكاً لله عز وجل من المجوس وغيرهم، وجميع من جعلوه شركاء لله، من الملائكة والجن وأهرمن، لأن السورة إلى سياقها في شأن مشركي مكة، واختصاصها بالمجوس، مما يخرم النظم. وأما بيان النظم فإن الآيات من لدن قوله: (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) إلى خاتمة (ذلكم الله ربكم) [الأنعام: 95 - 102] كالتفسير لسورة الإخلاص، والتفصيل لمجملها، وإن قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ): عطف على الجمل السابقة من قوله: (إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) من باب حصول مضمون الجملتين، على منوال ما سبق في فاتحة السورة التي هي كبراعة الاستهلال. يعني حصل من الله - عز شأنه، وجل سلطانه - تلك النعم العظمى، والآيات الباهرات، ليعبد ويوحد، وحصل من بني آدم ما ينافيه ويناقضه. نحوه ما رواه المصنف: "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري! ". وعلى هذا المنوال نسج المصنف في قوله تعالى: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) [الرعد: 16] حيث قال: "أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد، من علمكم وإقراركم، سبب الإشراك؟ ".

(وَخَرَقُوا لَهُ): وخلقوا له، أي: افتعلوا له، (بَنِينَ وَبَناتٍ) وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعُزير، وقول قريشٍ في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه، واختلقه واخترقه، بمعنىً. وسئل الحسن عنه، فقال: كلمةٌ عربيةٌ كانت العرب تقولها: كان الرجلُ إذا كذب كذبةً في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله. ويجوز أن يكون من: خرق الثوب؛ إذا شقه، أي: اشتقوا له بنين وبناتٍ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وما أحسن موقع قوله: (إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خاتمة لتلك الآيات الباهرات، وتخلصاً إلى هذا التقريع، وتعريضاً بالمشركين! ومن حق التقريع أن يجعل: (وَخَرَقُوا): من خرق الثوب، لينبه على التباين الشديد بين طرفي الإفراط والتفريط. ويؤيد العموم عطف قوله: (وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ)، لأن القائلين بالبنين: اليهود والنصارى، وبالبنات: المشركون. يعني: جمع من مال من الدين الحنيف بين هاتين العظيمتين، فوزان المعطوف عليه كله وزان قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص: 1 - 2]، ووزان قوله: (لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 3 - 4]، وزان قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ). ووزان قوله: (لَم يَلِدْ) وزان قوله: (وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ). (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43]. قوله: (اشتقوا له بنين)، النهاية: "وفي الحديث: "النساء شقائق الرجال"، أي: نظائرهم

وقرئ: "وخرّقوا" بالتشديد للتكثير، لقوله: (بَنِينَ وَبَناتٍ)، وقرأ ابن عمر وابن عباسٍ رضي الله عنهما: "وحرّفوا" له، بمعنى: وزوّروا له أولاداً، لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأٍ أو صواب، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة. من غير فكرٍ وروية. [(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)]. (بَدِيعُ السَّماواتِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلانٌ بديع الشعر، أي: بديعٌ شعره، أو هو بديعٌ في السموات والأرض، كقولك: فلانٌ ثبت الغدر، أي: ثابتٌ فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى: المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأٍ محذوف، أو هو مبتدأٌ وخبره: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ)، أو فاعل "تعالى". وقرئ بالجرّ ردّاً على قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ)، أو على (سُبْحانَهُ)، وبالنصب على المدح. وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأمثالهم في الأخلاق والطباع، كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خلقت من آدم". وقال في تفسير قوله تعالى: (وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) [الزخرف: 15]: "قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له، وبعضاً منه، كما يكون الولد بعضاً من والده، وجزءاً له". قوله: (رداً على قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ) أي: بدلاً منه. قوله: (فيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه). قال صاحب "التقريب": "ولا يخفى افتقار الوجوه إلى مقدمات".

أحدها: أن مبتدع السموات والأرض - وهي أجسامٌ عظيمةٌ - لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً. والثاني: أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعالٍ عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة. والثالث: أنه ما من شيءٍ إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أما الوجه الأول: فتقديره - على ما قال المصنف - أن مبدع الأجسام لا ينبغي أن يتصف بصفة الولادة، لأنه إن اتصف بها يكون جسماً مثلها، لأن الولادة من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن أن يكون جسماً، لأن الأجسام ممكنة، محتاجة في إنشائها إلى مخترع منشئ. والقاضي قرر هذا الوجه بأن قال: "إن من مبدعاته السموات والأرضين، وهي، مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة، مبرأة عنها، فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء: نظيره، ولا نظير له، فلا ولد له". والثاني: قوله: "إن الولادة لا تكون إلا بين زوجين"، وتحريره: أنه ثبت بالدليل أنه تعالى خالق الأجسام كلها، ومبدعها، ومنشئها، والخالق لا يجانس المخلوق، والزوجية تقتضي المجانسة، والولادة متوقفة على الزوجين، فإذاً لا ولد له. وقال القاضي: "والمعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثي متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة". والثالث: قوله: "إنه ما من شيءٍ إلا وهو خالقه والعالم به". وهذا ظاهر.

وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء، وإنما جاز للفصل كقوله: لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سُوءِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلم من هذا التقرير أن قوله: (ولَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ): عطف على قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ)؟ فعلى هذا لا يتم الوجه الثاني دليلاً إلا بأن يضم إليه مقدمة من الدليل الأول، وفي الفاءين في قوله: "فلم يصح" مكرراً، إشعار بذلك. والوجه الثالث دليل مستقل كالأول، والجملة معطوفة على جملة قوله: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ). وإنما كرر (كُلِّ شَيْءٍ) [البقرة: 20]، ولم يكتف بقوله: وهو به عليم، ليشير به إلى استقلال كل من القدرة والعلم، بالإحاطة التامة، والقدرة الكاملة. ولهذا عطف الجملة الاسمية على الفعلية. قال القاضي: "إن الولد كفؤ الوالد، ولا كفؤ له، بوجهين: الأول: أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه، والثاني: أنه لذاته عالم بكل المعلومات، ولا كذلك غيره بالإجماع". وقال الإمام بعدما طول في تقرير الوجوه على غير هذا النمط: "ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً، يساويه أو يدانيه في القوة والكمال، لعجزوا عنه"، والله أعلم. قوله: (لقد ولد الأخيطل أم سوءٍ)، تمامه:

[(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)]. (ذلِكُمُ) إشارةٌ إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ، وما بعده أخبار مترادفة وهي (اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على قمع استها صلب وشام ويروى: باب استها. وقيل: كان الأخطل من نصارى العرب. واسمه: غياث. وزعموا أن جريراً لقيه. وصلب: جمع صليب النصارى. والشام: النقوش. أراد أن هذه المرأة تفعل فعل المومسات. والقياس: "ولدت"، لأن الفاعل مؤنث حقيقي. قال ابن جني: "وهي قراءة إبراهيم النخعي. مثله ما حكاه سيبويه من قولهم: "حضر القاضي اليوم امرأة". وأنا أرى أن تذكير "كان" مع تأنيث اسمها أسهل من تذكير سائر الأفعال وتأنيث فاعليها، فـ" كان في الدار هند" أسوغ من: "قام في الدار هند"، وذلك أنه إنما احتيج إلى تأنيث الفعل عند تأنيث فاعله لأنهما يجريان مجرى الجزء الواحد، لأن كل واحد منهما لا يستغني عن صاحبه، فإنك لو حذفت الفعل لانفرد الفاعل، فلم يفد شيئاً، فأنث الفعل إيذاناً بأن الفاعل المتوقع بعده مؤنث، بخلاف "كان" وأخواتها، لأنك لو حذفتها لاستقل ما بعدها برأسه، فلم تقو حاجته إلى الفعل، فانحطت رتبته، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا، فافهمه".

أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات، (فَاعْبُدُوهُ) مسببٌ عن مضمون الجملة، على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة، فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال: (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يعني: وهو مع تلك الصفات مالكٌ لكل شيءٍ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال. [(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)]. البصر: هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات، فالمعنى: أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعالٍ أن يكون مبصراً في ذاته، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات): إشارة إلى الصفات السابقة، وقوله: (فَاعْبُدُوهُ): حكم ترتب على تلك الأوصاف، وهي علة مناسبة له، فحيث وجدت وجد، وحيث فقدت فقد، ولهذا قال: "فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه"، خص "البعض" لأن الكلام في الملائكة والجن، لقوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) [الأنعام: 100]. وقوله: (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ): تتميم للصفات، أو تكميل لأمر العبادة، فقوله: "وهو، مع تلك الصفات، مالك لكل شيءٍ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال" يحتملهما، أي: هو الحقيق بالعبادة، لأنه المنزه عن النقائص، والمنفرد بالإلهية، والمختص بالخالقية، ومع ذلك متكفل لأرزاق العباد، رقيب على أعمالهم، بيده آجالهم وسائر ما يرتفقون، ويحتاجون إليه، فلم لا يخصونه بالعبادة؟ ! قوله: (أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه): رد على أهل السنة، لأنه يفيد أن الأبصار لا تتعلق به لا بالإحاطة ولا بغير الإحاطة، لأن أهل السنة قالوا بالثاني دون الأول.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "معنى هذه الآية: معنى إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته. وهذا مذهب أهل السنة والحديث، لأن أحداً من خلقه لا يدرك المخلوق بكنهه، فكيف به جل وعز؟ فالأبصار لا تحيط به". وقال الإمام: "المرئي إذا كان له حد ونهاية، وأدركه البصر بجميع حدوده، سمي إدراكاً، فالحاصل أن الرؤية جنس تحته نوعان: رؤية مع الإحاطة، ورؤية لا معها، فنفي الإدراك يفيد نوعاً واحداً، وهو لا يفيد نفي الجنس". قال الواحدي: "يصح أن يقال: رآه وما أدركه، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به". وقال الإمام: "هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، لكن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) يفيد عموم النفي عن جميع الأشخاص، في كل الأوقات، وفي كل الأحوال، فإن نفي العموم غير عموم النفي، ونفي العموم يوجب ثبوت الخصوص. ألا ترى أنه إذا قيل: إن زيداً ما ضربه كل الناس، فإنه يفيد أنه ضربه بعض الناس؟ ". ومثله ذكر المصنف في قوله تعالى: (إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي) [مريم: 4]. ويقال: إن التعريف في (الأبْصَارَ) إما للاستغراق، أو للعهد، أو للجنس.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما الاستغراق: فيفيد أن جميع الأبصار لا تدركه، ودليل الخطاب - على ما قاله الإمام - يفيد أن البعض يدركه. وأما العهد: فأريد بها أبصار الكفار، على ما روى محيي السنة عن مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعير الكفار بالحجاب. وأما الجنس: فهو أن البصر: ما يعلمه كل أحد أنه ما هو، وهي حاسة النظر، فلا شك أن الحاسة على ما هي الآن لا تدركه، وأما إذا طهرها الله من الكدورات، وأحدث فيها بلطفه ما يستعين به العبد على رؤية الله تعالى في دار الثواب، كما أراده، ويليق بحاله، بحيث لا تدركه الأذهان، فأي بعدٍ منه؟ ! نقل الإمام عن ضرار بن عمرو أن الله تعالى لا يرى بالعين، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة، بها تحصل رؤية الله وإدراكه. وروى محيي السنة عن ابن عباس ومقاتل: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) في الدنيا، وهو يرى في الآخرة (وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)، ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته". وقال الواحدي: "والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله: (وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22 - 23]، فقيد النظر إليه بيوم القيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال السجاوندي: " (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ليس بمدح، لعدم كونه مرئياً، بل بيان أنه لا يرى في الدنيا، وهو يرى". وقلت: قضية النظم تساعد قول ابن عباس رضي الله عنه، وذلك أن عطف قوله تعالى: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) [الأنعام: 100] كما سبق، على قوله: (إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) [الأنعام: 95] على معنى: نحن أنعمنا عليهم بالنعم المتكاثرة، وأريناهم الآيات المتظاهرة، ليشكرونا، ولا يعبدوا غيرنا، وهم قد عكسوا؛ إذ عبدوا الجن، وجعلوا لله بنين وبنات: دل على استحقاق العبادة لله تعالى وعلى أنه ما خلق الخلق إلا للعبادة فلما أراد أن يبطل ما نسبوا إليه من اتخاذ بنين وبنات، على وجهٍ يستتبع المقصود من اختصاص العبادة به عز وجل قال: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 101]، ورتب عليه قوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) [الأنعام: 102]. ومن المقرر أن العبادة لا تكون معتداً بها، مقبولة، حتى تكون مصحوبة بالإخلاص، غير مشوبة بالرياء، فنبه بقوله: (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ) [الأنعام: 102] على أنه بذاته الأقدس مراقب لأحوالهم، حافظ لما يصدر منهم، كقوله تعالى: (ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 39]، وأن مراقبته على خلاف ما عليه المراقب في الشاهد، لأنه مراقب بحيث لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، لئلا يبطل غرض التكليف، لأن العابد إذا رآه يضطر إلى العبادة. وفي تخصيص ذكر إدراكه الأبصار التلويح إلى المحافظة التامة، لئلا يسترق المرائي النظر إلى الخلق، وفي ذكر (اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) الرمز إلى المراقبة الكاملة لخبيئات الصدور،

لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً، كالأجسام والهيئات. (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ): وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك، (وَهُوَ اللَّطِيفُ) يلطف عن أن تدركه الأبصار، (الْخَبِيرُ) بكل لطيفٍ فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف. [(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)]. (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هو واردٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله: (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخفيات الهواجس، ليكون المريد واقفاً على مواقف الإخبات والخضوع، آخذاً أهبة الحذر عن الشرك الخفي. وإلى هذه المعاني لمح صلوات الله عليه: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فظهر من هذا البيان أن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ): إما استئناف على تقدير سؤال مورده قوله: (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ)، أو صفة لـ (وَكِيلٌ)، وكالمقابل لمعنى قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ) إلى قوله: (إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27]. قال المصنف: " (إنَّهُ يَرَاكُمْ): تعليل للنهي، وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون". قوله: ((قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ)): هو وارد على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لدلالة قوله: (ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)، لأنه إما حال من فاعل "جاء"؛ وهو (بَصَائُر)، أو من المفعول؛ وهو الضمير المنصوب، ويؤيد الثاني قوله: "أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها".

والبصيرة: نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. أي: جاءكم من الوحي والبينة على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر، (فَمَنْ أَبْصَرَ) الحق وآمن (فَلِنَفْسِهِ) أبصر وإياها نفع، (وَمَنْ عَمِىََ) عنه فعلى نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. [(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)]. (وَلِيَقُولُوا) جوابه محذوف تقديره: وليقولوا "درست" نُصرّفها. ومعنى (دَرَسْتَ): قرأت وتعلمت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبصيرة: نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر)، فيه بيان لربط هذه الآية بما قبلها، يعني: كما نفي إدراك البصر عن المكلفين، أثبت لهم البصيرة، ومن عليهم بما منى لهم، وحذرهم أن يغفلوا عنها بقوله: (ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا). وقلت: والذي يقتضيه النظم أن "قل" هاهنا مقدرة، بدليل قوله: (ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) فكأنه تعالى يقول: قل يا محمد للقوم: قد جاءكم فيما سبق في هذه السورة، من الآيات البينات، والبراهين الساطعات، ما يفتح به آذاناً صماً، وأعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، فمن أبصر الحق فلنفسه بصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي، وإياها ضر، وأنا لا أحفظ أعمالكم، وإنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم. ولما قلنا: إن المراد: جاءكم في السورة من الآيات البينات، قال فذلكة: (وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ ولِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). قوله: (جوابه محذوف)، أي: معلله.

وقرئ: (دارست)، أي: دارست العلماء، و (درست) بمعنى: قدّمت هذه الآيات وعفت، كما قالوا: أساطير الأولين، و"درست" بضم الراء، مبالغة في "درست"، أي: اشتدّ دروسها. و"درست" - على البناء للمفعول - بمعنى: قرئت أو عفيت، و (دارست) وفسروها بـ: دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم، ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أي: دارس أهل الآيات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "دارست"): ابن كثير وأبو عمرو. و"درست": ابن عامر ويعقوب. قوله: (أي: اشتد دروسها)، لأن "فعل"، من أوزان أفعال الطبائع والغرائز، ولا شك في إثباتها وتمكنها. قوله: (بمعنى: قرئت)، أي: قرأها النبي صلي الله عليه وسلم، كما قالوا: تعلمت من يسار وحبر، وكانا عبدين من سبي الروم. قوله: (و"دارست"): أي: وقرئ: "ودارست". قال ابن جني: "رويت عن الحسن: "درست"، وعن ابن مسعود، وأبي: "درس". وأما "درست" ففيه ضمير الآيات، أي: وليقولوا: درستها أنت يا محمد، كقراءة العامة: "دارست". ويجوز أن يكون "درست"، أي: عفت وتنوسيت، كقوله تعالى: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [الأنعام: 25].

وحملتها محمداً، وهم أهل الكتاب. و"درس" أي: درس محمد، و"دارسات"، على: هي دارساتٌ، أي: قديمات، أو ذات دروس، كـ (عيشة راضية) [الحاقة: 21، القارعة: 7]. فإن قلت: أي فرقٍ بين اللامين في (لِيَقُولُوا)، "لِنُبَيِّنَهُ"؟ قلت: الفرق بينهما أنّ الأول مجازٌ، والثانية حقيقة؛ وذلك أن الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسِيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما "درس" ففيه ضمير النبي صلي الله عليه وسلم، وشاهد هذا: "دراست"، أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء، قالوا: شيء قرأه، فأتي به، وليس من عند الله تعالى. أي: يفعل هذا التقوى أثرة التكليف عليهم، زيادة في الابتلاء لهم، كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب. وإن شئت كان معناه: فإذا هم يقولون كذا، كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا) [القصص: 8]، أي: فإذا هو عدو لهم". وقال الزجاج: "أهل اللغة تسمي هذه اللام: لام الصيرورة". وقال أبو البقاء: "قصد بالتصريف إلى أن يقولوا: (دَرَسْت) عقوبةً لهم"، أي: ليعاقبهم به. نحوه قوله تعالى: (ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) [المدثر: 31]. قوله: (شبه به، فسيق مساقه). تحقيق تشبيهه سيجيء في "القصص" عند قوله تعالى:

فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: "لِنُبَيِّنَهُ"؟ قلت: إلى (الآيات)، لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نُصرف القرآن، أو: إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوماً، أو: إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيداً. ويجوز أن يراد فيمن قرأ: "درست" و"دارست": درست الكتاب ودارسته، فيرجع إلى "الكتاب" المقدّر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا) [القصص: 8]. المعنى: ولكن شبه به، فسيق مساقه، لأنه حصل هذا القول. قوله: (ضربته زيداً). الضمير لمصدر "ضرب"، كقوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه ومنه قوله تعالى: (ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [البقرة: 163] إذا كان الضمير للتولية.

[(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)]. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراضٌ أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالاً من (ربك)، وهي حالٌ مؤكدةٌ كقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة: 91]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ): اعتراض أكد به إيجاب إتباع الوحي)، وذلك أن قوله: (لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ) كلمة التوحيد، اعتراض بين قوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ) وبين قوله: (وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ)، توكيداً لما في كلمة التوحيد [من] التمسك بحبل الله، والاعتصام به، والتبري والإعراض عما سواه. ولأن الموحي ليس إلا التوحيد. قال الله تعالى: (إنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ) [الأنبياء: 108]. وفيه تسلية لرسول الله صلي الله عليه وسلم والحث على احتمال الأذى من الكفار، والصفح عن مساوئهم، وذلك أنه تعالى ختم الآيات بقوله: (وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ولِيَقُولُوا) [الأنعام: 105]. وفيه معنى التعكيس، وهو أن تكرير الآيات البينات ليس إلا ليهتدوا ويتبعوك، فقد جعلوها وسيلةً إلى الطعن فيك، والقول بأنك درست وتعلمت من اليهود، فاصفح عنهم، واتبع ما جاءك من توحيد ربك. قوله: (وهي حال مؤكدة)، قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر، إذ شرط المؤكدة تقدم جملةٍ اسمية". قلت: هذا شرط لحذف العامل، كما مرَّ مراراً.

[(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (وَلا تَسُبُّوا) الآلهة (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ)، وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء: 98]: لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله تعالى. فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت: ربّ طاعةٍ علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة، كالنهي عن المنكر، هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك النهي، كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين: أنهما حضرا جنازة، فرأى: محمد نساءً، فرجع، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ) يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً مؤكدة من (ربك)، أي: منفرداً بالإلهية". قوله: (أنهم قالوا عند نزول: (إنَّكُمْ ومَا تَعْبُدُونَ))، فإن قلت: لا يستقيم هذا مع النهي في (ولا تسبوا). قلت: إذا قصد بالتلاوة وغيظهم، يستقيم النهي عنها.

فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة، وليس بسببٍ لحضور النساء، فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خُيل إلى محمدٍ رحمه الله أنه مثله حتى نبه عليه الحسن. (عَدْواً): ظلماً وعدواناً. وقرئ: "عدوّاً" بضم العين وتشديد الواو بمعناه. ويقال: عدا فلانٌ عدواً وعدواً وعدواناً وعداءً. وعن ابن كثير: "عدوّاً"، بفتح العين بمعنى: أعداء، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): على جهالةٍ بالله وبما يجب أن يذكر به، (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّةٍ من أمم الكفار سوء عملهم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأسرع ذلك في ديننا): أي لأسرع فساد ذلك في ديننا، أو: لأسرع ذلك في فساد ديننا. ضمن "أسرع" معنى التأثير: أي أثر الترك في ديننا سريعاً. قلت: إن صحت الرواية، فالحق مع ابن سيرين، لما روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، و"سنن ابن ماجه"، عن ابن عمر قال: "نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن تتبع جنازة معها رانة". وعن ابن ماجه، عن عمران بن حصين وأبي برزة، قالا: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في جنازة، فرأي قوماً قد طرحوا أرديتهم، يمشون في قمص، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أبفعل الجاهلية تأخذون - أو: بصنيع الجاهلية تشبهون-؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوةً ترجعون في غير صوركم" قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك. قوله: (مثل ذلك التزيين) المشار إليه قوله: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وهو أمر

أي: خليناهم وشأنهم، ولم نكفهم، حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو: أمهلنا الشيطان حتى زين لهم، أو: زيناه في زعمهم. وقولهم: إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، (فَيُنَبِّئُهُمْ): فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم. [(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)]. (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم، (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) وهو قادرٌ عليها، ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة، أو: إنما الآيات عند الله لا عندي، فكيف أُجيبكم إليها وآتيكم بها، (وَما يُشْعِرُكُمْ): وما يدريكم (أَنَّها): أن الآية التي تقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بها، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عظيم، فاستبعده، حيث أشار إليه بقوله: "ذلك"، ولا يحمل على مثل ذلك الأمر العظيم إلا التزيين. قوله: (أو زيناه في زعمهم): إشارة إلى أنه هو من باب المشاكلة، كقوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً) [البقرة: 26]. قوله: (وما يدريكم أن الآية التي تقترحونها (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)). قال أبو البقاء: " (وما يشعركم): (ما): استفهام في موضع رفعٍ بالابتداء، و (يشعركم): الخبر، وهو يتعدى إلى مفعولين".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الانتصاف": "إذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنني إذا أكرمته يكافئني؟ فإن قال: لا تكرم زيداً فإنه لا يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنه لا يكافئني؟ تريد: وأنا أعلم منه المكافأة. فكان مقتضي حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين أن يقال لهم: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون؟ وإثبات (لا) يعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفي، فلهذا حملها بعض العلماء على زيادة "لا"، وبعضهم على معنى "لعل"، والزمخشري أبقاها على وجهها بطريق نوضحه بمثالنا المذكور. فإذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، فلك حالتان: حالة تنكر عليه ادعاءه العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم أنه لا يكافئ، فإنكار الأول بحذف "لا"، وإنكار الثاني يجوز معه ثبوت "لا"، بمعنى: ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من أنه لا يكافئ؟ فالآية أقيم فيها عذر المؤمنين في عدم علمهم بالغيب الذي علمه الله، وهو عدم إيمان هؤلاء فاستقام دخول (لا) ". وقلت: الظاهر من تفسير المصنف بقوله: و"ما يدريكم (أنها): أن الآية التي تقترحونها (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بها"، وقوله: "يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تدرون" أن الاستفهام فيه للإنكار، وفيه معنى النفي، وإن منع صاحب "الكشف"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك بقوله: (ولا يجوز أن يكون "ما" نفياً، على تقدير: وما يشعركم الله إيمانهم، لأن الله تعالى قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون، بقوله: (ولَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتَى) إلى قوله: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأنعام: 111] "، لأن تقريره - وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها - بيان لمقتضي المقام، يعني: نزل المؤمنون، لحرصهم على إيمان القوم، منزلة من يدعي أن الآيات من عند رسول الله صلي الله عليه وسلم البتة، ومنزلة من لا يدري أن علم الله سبق بأنهم لا يؤمنون إذا جاءت الآيات. وذلك أن قريشاً لما سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية، وحلفوا: (ليؤمنن بها)، سأل المسلمون أيضاً ذلك إظهاراً للحرص على إيمانهم، فقيل له صلوات الله عليه أن يقول لهم: أولاً: (إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ) لا عندي، وثانياً: (ومَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بمعنى: كأنكم لا تدرون سبق علمي بأنهم لا يؤمنون إذا جاءت الآيات، بسبب طمعكم هذا. وهو المراد من قوله: "وما يدريكم أنهم لا يؤمنون؟ على معنى: أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون". ولخصه القاضي حيث قال: "وما يدريكم، استفهام إنكار، أي: لا تدرون أنهم لا يؤمنون؛ أنكر السبب مبالغةً في نفي المسبب". يعني: أنكر الدراية بهذا العلم، وأريد إنكار إظهار الحرص على إيمانهم، أي: أنتم لا تدرون هذه المسألة، فلذلك تطمعون في إيمانهم. ومنه قوله تعالى: (وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ) الآية [الأنعام: 35]، قال: "كانوا يقترحون الآيات، فكان يود أن يجابوا إليها، لتمادي حرصه

يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها، فقال عزّ وجلّ: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به، ألا ترى إلى قوله: (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 110]. وقيل: (أنها) بمعنى: «لعلها»، من قول العرب: ائت السوق أنك تشتري لحماً. وقال امرؤ القيس: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت كذا فافعل، دلالةً على أنه بلغ في حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله". وقال الإمام نور الدين الحكيم الأبرقوهي رحمه الله: "معنى الآية: وما يشعركم أيها المؤمنون المتمنون مجيء الآيات التي اقترحوها أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ أي: أنكم لا تدرون ذلك وأنا أدري". فالاستفهام بمعنى النفي. وعلى هذا قال بعضهم: إن قوله فيما بعد: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 110] متصل بهذا، تدرون أنهم (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)، (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). والآية شديدة الشبه بقول السيد الذي حبس عبده - مثلاً - للذي يشفع إليه من أصحابه في إطلاقه: إنه إذا أطلق لا يمتثل، أي: أنا رزته، وذقت طباعه، وأعلم إصراره، وأنت لا تعلم. قوله: (ألا ترى إلى قوله: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي: هذه الآية التالية مؤذنة بأن (لا) غير مزيدة.

عوجوا على الطّلل المحيل لأنّنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام وتقويها قراءة أُبيّ: "لعلها إذا جاءت لا يؤمنون"، وقرئ: (إنها) بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله، بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) البتة. ومنهم من جعل (لا) مزيدةً في قراءة الفتح وقرئ: "وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" أي: يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها، وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذٍ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها. [(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عوجوا على الطلل) البيت، عاج من راحلته: مال وعطف، والعوج: عطف رأس البعير بالزمام، والطلل المحيل: المنزل الذي أتي عليه الحول، أو حال وتغير من صفته بصوب الأمطار، وهبوب الرياح، وابن خذام، بكسر الخاء المعجمة: قيل: إنه أول من بكي من الشعراء على الديار. قال الزجاج: "فزعم سيبويه عن الخليل أن معناها: "لعلها"، وهي قراءة أهل المدينة". قوله: (وقرئ "إنها" بالكسر": ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلافٍ عنه، والباقون: بفتحها. قوله: (ومنهم من جعل (لا) مزيدةً في قراءة الفتح). قال الزجاج: "المعنى: وما يشعركم

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُم ... وَنَذَرُهُمْ) عطفٌ على (يؤمنون)، داخلٌ في حكم (وما يشعركم)، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم، أي: نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق، كما كانوا عند نزول آياتنا. أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي: نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه. وقرئ: "ويقلب"، "ويذرهم" بالياء، أي: الله عزّ وجلّ. وقرأ الأعمش: "وتقلب أفئدتهم وأبصارهم" على البناء للمفعول. [(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)]. (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ)؛ كما قالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان: 21]، (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)؛ كما قالوا: (فَاتُوا بِآبائِنا) [الدخان: 36]، (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)؛ كما قالوا: (أَوْ تَاتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) [الإسراء: 92]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنها إذا جاءت يؤمنون، كقوله تعالى: (وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] ". قوله: ((أَوْ تَاتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)) يعني: معنى: (وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً): هذا المقترح، وقد مر أن (كل شيء) من إطلاق الكل على معظم الشيء.

(قبلا): كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعاتٍ. وقيل: (قُبُلًا): مقابلة. وقرئ: (قُبُلًا) أي: عياناً. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) مشيئة إكراهٍ واضطرار. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قبلاً): كفلاء): شروع في تفسير (قبلاً). قال القاضي: " (قبلاً): جمع قبيل، بمعنى: كفيل، أي: كفلاء بما بشروا به وأنذروا، أو: جمع "قبيل" الذي هو: جمع قبيلة، بمعنى: جماعات، أو: مصدر، بمعنى: مقابلة. وهو على الوجوه: حال من (كل)، وإنما جاز ذلك لعمومه". قال الجوهري: "رأيته قبلاً - بضم القاف وكسرها وفتحها-، أي: مقابلةً وعياناً، وقوله تعالى: (وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً): قال الأخفش: أي: قبيلاً، وقال الحسن: أي: عياناً". قوله: (وقرئ: "قبلاً") أي: بكسر القاف وفتح الباء: نافع وابن عامر، والباقون: بضمهما. قوله: (مشيئة إكراه واضطرار): مذهبه. قال القاضي: " (إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ): استثناء من أعم الأحوال، أي: لا يؤمنون في حالٍ إلا حال مشيئة الله إيمانهم. وقيل: منقطع، وهو حجة واضحة على المعتزلة".

أو: ولكنّ أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرّهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة. [(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)]. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا): وكما خلينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: ولكن أكثر المسلمين يجهلون). فإن قلت: لم نسب الجهل إلى المسلمين في هذا الوجه، وإلى المشركين في الوجه السابق؟ قلت: أما تخصيص المسلمين بالذكر فهو مفرع على القراءة المشهورة في الآية السابقة في قوله: (ومَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)، وفسره بقوله: "إن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنون مجيئها"، فالمعنى كما قال: "أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون، إلا أن يضطرهم، فيطعمون في إيمانهم". وتخصيص المشركين بالذكر مبني على القراءة الشاذة، وهي: "وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون"، وفسره بقوله: "وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات، مطبوعاً عليها". فالمعنى كما قال: "وأكثرهم يجهلون، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات". والحاصل: أن هذا الكلام تذييل للكلام السابق بحسب اعتبار القراءتين. قوله: (وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذل فعلنا بمن قبلك). قال القاضي: "وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء بفعل الله وخلقه".

لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر، وكثرة الثواب والأجر. وانتصب (شَياطِينَ) على البدل من (عدوّا)، أو على أنهما مفعولان كقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) [الأنعام: 100]. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ): يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين: الإنس، وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار: إنّ شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجنّ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً، (زُخْرُفَ الْقَوْلِ): ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه، (غُرُوراً): خدعاً وأخذاً على غرّة، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ): ما فعلوا ذلك، أي: ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعضٍ زخرف الفول، بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم. [(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الظاهر: أن المشار إليه بقوله: (كذلك) ما سبق من الأقوال التي لا تصدر إلا عن أعداء الأنبياء، تسليةً لرسول الله صلي الله عليه وسلم مثل قولهم: (درست) [الأنعام: 105]، ومثل السب الذي يفهم من قوله: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا) [الأنعام: 109]. يدل على أن الكلام في هذا قوله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا)، ثم بين أن ذلك بتمكين الله إياهم، بقوله: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ). قوله: (على غرة) أي: "غفلة. والغار: الغافل، واغتره: إذا أتاه على غفلة". قاله الجوهري.

(وَلِتَصْغى) جوابه محذوف، تقديره: وليكون ذلك (جعلنا لكل نبيّ عدوّاً)، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر. والضمير في (إِلَيْهِ) يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في (فعلوه)، أي: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين، (أَفْئِدَةُ) الكفار، (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم، (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام. [(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)]. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) على إرادة القول، أي: قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) المعجز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جوابه محذوف)، أي: معلله، وهو ما قدره من قوله: (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا) لدلالة المذكور عليه. ولأن الصغو إلى ما ذكره من عداوة الأنبياء لم يصح عنده أن يكون مطلوباً لله بجعل كل نبي عدواً، قال: "إن اللام للصيرورة". والمعنى عند أهل السنة: وليكون إصغاء الأتباع، وميل قلوبهم إلى المتبوعين من شياطين الإنس والجن، وإلى ما عادوا به الأنبياء من زخرف القول والغرور؛ (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ)، تلخيصه: إنما جعلنا لكل نبي عدواً ذا قول مزخرف، ليميل إليه قلوب الذين قدرنا في الأزل أنهم لا يؤمنون، هذا يؤيد قول القاضي: "فيه دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء بفعل الله". قوله: (وليكون ذلك) المشار إليه: الصغو المذكور. قوله: (وتحقيقها ما ذكر) أي: عند قوله: (ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ ولِنُبَيِّنَهُ) [الأنعام: 108].

(مُفَصَّلًا): مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء، ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حقٌّ بعلم أهل الكتاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق). يعني: احتج بقوله: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً) أن القرآن حق، ثم أيده بشهادة أهل الكتاب، فيكون "ثم عضد" عطفاً على قوله في الكتاب: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ) من حيث المعنى. وفيه أن قوله: (والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ) عطف على قوله: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ) حال مثله. هذا يدل على إنكار عظيم من القوم، ولذلك صدرت الآية بهمزة الإنكار، مع إضمار فعل المنكر، وتقديم المفعول. وقريب منه قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ) [الأنعام: 19]، وهذا أبلغ، وذلك أنهم طعنوا في نبوته، وما عدوا القرآن معجزةً عناداً، واتهموه تارة بقوله: (درست) وتعلمت من اليهود، وأنكروا نبوته، وأخرى بقوله: (وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) [الأنعام: 109]، يعني: أنك لست بنبي وأن ما جئت به ليس بآية، فأت بآيةٍ حتى نؤمن بها. فبين الله تعالى عنادهم، وأنهم مختوم على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة. وأمثاله في آيات تسليته لحبيبه صلوات الله عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم أمره أن يوبخهم، وينكر عليهم بقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ)؟ : أي أأزل عن الطريق السوي بأباطيلكم هذه، فأخص غير الله بالحكم؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز، الذي أفحمكم، وأبكم فصحاءكم! وكفى به حاكماً بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات؛ من التوحيد، والعدل، والنبوة، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقصص والإخبار عن الغيوب، وبما تضمن من الألفاظ الفائقة الرائقة، كالعقد المفصل الذي أعجزكم عن آخركم. هذا كله معنى قوله: (مفصلاً)، كأنه تعالى أجابهم على الأسلوب الحكيم، والقول بالموجب، لأنهم طعنوا في معجزته، أي: القرآن، فبكتهم به على أحسن وجه، وضم مع ذلك علم أهل الكتاب بأنه حق، لتصديقه ما عندهم، وموافقته له، ثم أردف كل ذلك، على سبيل التتميم قوله: (وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ). قال صاحب "المرشد": "ولا يوقف عند قوله (أبتغي حكماً)، لأن ما بعده متعلق به، أي: أغير الله أبتغي حكماً، وهو الإله، ومنزل الكتاب الذي فيه الأحكام، ولا حكم لغيره؟ ".

أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14]. أو (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزلٌ بالحق، ولا يربك جحود أكثرهم وكفرهم به. ويجوز أن يكون (فَلا تَكُونَنَّ) خطاباً لكل أحد، على معنى: أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتصديقه): تعليل لـ"العلم"، وهو "بعلم" متعلق بـ"عضد". قوله: (والإلهاب). ويقال: ألهبه على كذا، أي: حرضه عليه. الأساس: "ومن المجاز: ألهبته على الأمر: أردت بذلك تهييجه". قوله: (وقيل: الخطاب لرسول الله صلي الله عليه وسلم خطاب لأمته) يريد: أن قوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) من باب تلوين الخطاب، فيجوز أن يراد به رسول الله صلي الله عليه وسلم خاصةً؛ مزيداً للثبات على اليقين، والتجنب عن الامتراء، تهييجاً وإلهاباً، ولأمته عامة؛ بالطريق الأولى، وأن يراد به جميع الناس ابتداءً، وذلك أنه لما أمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يقول: أفغير الله أبتغي حاكماً، وهو الذي أنزل القول الفصل، الفارق بين الحق والباطل، المشهود له بالصدق، التفت إلى من يصح أن يخاطب بقوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)، وهذا لا يصار إليه، إلا أن ما يجري لأجله الخطاب معنى به جداً، فلا يختص بواحد دون آخر: وإليه الإشارة بقوله: "إذا تعاضدت

[(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي: تم كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد، (صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأدلة على صحته، فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد"، وأن يراد جميع الناس، لكن على سبيل التبعية، تعظيماً للمخاطب، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم رئيس أمته، وعليه تدور رحى الأمة، كقوله تعالى: (ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1]. والله أعلم. قوله: (أي: تم كل ما أخبر به وأمر ونهي، ووعد وأوعد)، خصها بالذكر بدلالة السابق، وهو قوله: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام: 114]: أي: فصله بمثل تلك الأنواع. واللاحق، وهو قوله: (صدقاً وعدلاً)، على النشر للف التقديري، كما قدره المصنف؛ فإن الصدق مناسب للخبر والوعد والوعيد، وإن العدل موافق للأمر والنهي، لأنه تعالى يأمر وينهي بمقتضي حكمته، ويضع كلا في موضعه، ويتصرف في ملكه بالأمر والنهي على ما أراد. وفسرت "الكلمة" بـ"كن"، والمقام ينبو عنه كما ترى، ومعنى تمام الإخبار والوعد والوعيد أن يكون صدقاً، وفي الأمر والنهي يكون عدلاً، لأن تمام الشيء انتهاؤه وكماله؛ لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحتاج إلى خارج عنه، والناقص بخلافه. ومنه ما ورد في الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامات". أخرجه مسلم. ويجوز أن يجري الصدق والعدل على كل واحد من تلك الأنواع، لأن الصدق قد يعبر به مجازاً عن كل فعل فاضل، قال تعالى: (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2]، و (مدخل صدق)، و (مخرج صدق) [الإسراء: 80]. وجميع ما أمر الله تعالى به فواضل، وما نهي عن أضدادها إلا لتحققها. ويستعمل الصدق في التحقيق، قال تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) [الفتح: 27]: أي: حقق رؤيته، وقال تعالى: (والَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ) [الزمر: 33]، أي: حقق ما أورده قولاً بما تحراه فعلاً. وأوامر الله تعالى ونواهيه محققه لما رتب عليها من الجزاء. وإن العدل هو الاستواء والتقسيط على السواء، من غير زيادة ونقصان. فالكلمة الصادقة عادلة مستقيمة. و(صدقاً وعدلاً): مصدران منصوبان على الحال، إما من (ربك) أو من الـ"كلمة" على الإسناد المجازي. ويجوز أن يكون تمييزاً أو مفعولاً به.

لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل. و (صدقاً وعدلاً): نصبٌ على الحال. وقرئ: (كلمةُ ربك)، أي: ما تكلم به. وقيل: هي القرآن. [(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)]. (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي: من الناس أضلوك، لأنّ الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يُقدّرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا أحد يبدل شيئاً من ذلك)، قال القاضي: "لا أحد يقدر أن يحرفها تحريفاً شائعاً ذائعاً، كما فعل بالتوراة، على أن المراد بها القرآن، فيكون ضماناً من الله تعالى بالحفظ، كقوله: (وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ". قوله: (وقرئ: (كلمت ربك)): عاصم وحمزة والكسائي. وفي قوله: "أي: ما تكلم به" إشارة إلى أن هذه القراءة أشمل من القراءة الـ"كلمات"، حيث قال: "كل ما أخبر به ونهي، ووعد وأوعد"، لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، كما سبق في آخر "البقرة" أن "كتابه" أكثر من "كتبه" عن ابن عباس.

[(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ* فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ* وَما لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)]. وقرئ: "مَنْ يَضِلُّ" بضم الياء، أي: يضله الله. (فَكُلُوا) مسببٌ عن إنكار اتباع المضلين، الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "من يضل" بضم الياء، أي: يضله الله). قال القاضي: " (من) منصوبة بالفعل المقدر، أو مجرورة بإضافة (أعلم) إليه، أي: أعلم المضلين، من قوله تعالى: (ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ) [العراف: 186]، أو من: أضللته: إذا وجدته ضالا. وعلى المشهورة: (من) موصولة، أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه (أعلم) لا به، فإن "أفعل" لا ينصب الظاهر في مثل ذلك". والتفصيل في العلم لكثرته وإحاطته، وبالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها، ولزومه، وكونه بالذات، لا بالغير. وقال الزجاج: "موضع (من): رفع بالابتداء، أي: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله، نحو قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى) [الكهف: 12] ". قوله: ((فكلوا): مسبب عن إنكار إتباع المضلين) بيان لترتيب النظم، وذلك أنه تعالى

وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان (فكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) خاصةً دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم، أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى بـ: بسم الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لما قال: (وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلا) [الأنعام: 115]، وأتبع ذلك قوله: (وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، ليؤذن بمعنى قوله: (فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ) [يونس: 32]، أتي بنوع دعوة المشركين المسلمين إلى أهوائهم وأباطيلهم، وهو أنهم كانوا يقولون للمسلمين: فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فلا تتبعوا أهواءهم، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه، فالفاء في (فكلوا) إذاً: نتيجة. قوله: (إن كنتم متحققين بالإيمان): أي: إن صرتم عالمين بحقائق الأمور بسبب إيمانكم بالله، وهذا من جملة ذلك، فالزموه. ويجوز أن يكون "تفعل" بمعنى "فعل" للمبالغة، أي: إن كنتم ثابتين في الإيمان، وأن يكون بمعنى "استفعل"، أي: إن كنتم طالبين الحق بسبب الإيمان. قوله: (خاصةً دون ما ذكر عليه اسم غيره) هذا الحصر يفيده توكيد الكلام بالشرط، أي: إن خصصتم الإيمان بآيات الله، فكلوا ما أحلته الآيات، دون ما أحلوه من الميتة، أو ما ذبحوه على النصب. أو أن الفاء في قوله: (فكلوا) لما دل على التسبيب وإنكار إتباع المضلين

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَاكُلُوا) وأي: غرضٍ لكم في أن لا تأكلوا، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) وقد بين لكم ما حُرِّمَ عليكم مما لم يحرّم، وهو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: 3] وقرئ: (فَصَّلَ لَكُم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على تسمية الفاعل، وهو الله عزّ وجلّ، (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) مما حُرِّم عليكم، فإنه حلالٌ لكم في حال الضرورة، (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) قرئ بفتح الياء وضمها، أي: يضلون فيحرّمون ويحللون (بِأَهْوائِهِمْ) وشهواتهم من غير تعلقٍ بشريعة. [(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)]. (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ): ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنى في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السرّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقولهم: كلوا ما قتله الله كما تأكلون ما قتلتم أنتم، فقيل لهم: كلوا ما قتلتم أنتم باسم الله خاصة، ولا تأكلوا ما أمروكم به. قوله: (وقرئ: (فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على تسمية الفاعل): نافع وحفص. قوله: (قرئ بفتح الياء وضمها). بالضم: عاصم وحمزة والكسائي. قوله: (وقيل: ظاهره: الزنى في الحوانيت، وباطنه: الصديقة في السر). فعلى هذا قوله: (وذروا) معطوف على قوله: (فكلوا) وداخل في حكم التسبيب عن إنكار إتباع المضلين في تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما أحله: من أكل الميتة، ومن الزنا. لكن الذي يقتضيه النظم أن تكون معترضةً بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو قوله:

[(وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)]. (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير راجعٌ إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي، يعني: وإنّ الأكل منه لفسقٌ، أو إلى الموصول على: وإنّ أكله لفسقٌ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً. فإن قلت: قد ذهب جماعةٌ من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيانٍ أو عمد؟ قلت: قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه، كقوله: (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ به) [الأنعام: 145]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (ولا تأكلوا) (فكلوا)، معناه: ما قال أولاً: " (ظاهر الإثم وباطنه) وما أسررتم، وقيل: ما عملتم وما نويتم"، توكيداً للإنكار في قوله: (ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 119]. قوله: (قد تأوله هؤلاء بالميتة) قال الإمام: "نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب فهو حرام، تمسكاً بعموم الآية، والفقهاء خصوا العام بالذبح"، ويعضد قول الفقهاء ترتيب نظم الآيات. وروى الإمام أن مذهب مالك: كل ما ذبح وترك اسم الله عليه؛ عمداً كان أو خطأ، فهو حرام، وهو قول ابن سيرين. وقال أبو حنفية: إن ترك عمداً فهو حرام، وإلا فهو حلال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعي رحمه الله: "حلال؛ سواء ترك عمداً أو نسياناً، إذا كان الذابح أهلاً له. وقال: هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب، أو مات حتف أنفه". وقال صاحب "الانتصاف" - وكان مالكياً-: "مذهب مالك كمذهب أبي حنيفة: أنه لا يعذر العامد فيها، وأما السهو فقول شاذ بجواز أكل مذكي غير المتهاون في التسمية، والآية تساعد على ذلك مساعدةً بينة، فإن ذكره الفسق عقيبه؛ إن كان عن فعل المكلف - وهو إهمال التسمية - فلا يدخل الناسي لأنه غير مكلف، فلا يكون فعله فسقاً، وإن كان عن نفس الذبيحة التي لم يسم عليها، وليست مصدراً، فهو منقول من المصدر، فالذبيحة المتروك التسمية عليها نسياناً لا يصح تسميتها فسقاً، إذ الفعل الذي نقل منه هذا الاسم ليس بفسق. فإما أن يقول: لا دليل في الآية على تحريم المنسي، فبقي على أصل الإباحة، أو يقول: فيها دليل من حيث مفهوم تخصيص النهي بما هو فسق، فما ليس بفسق ليس بحرام. هذا إذا لم تكن الميتة مرادة، فإن ثبت أنها مرادة تعين صرف الفسق إلى الأكل أو المأكول، وكان الضمير في (إنه) عائداً إلى المصدر المنهي عنه، أو إلى الموصول، وحينئذ يندرج المنسي في النهي، ولا تبقي - على هذا - الميتة مندرجةً إلا اندراج المنسي، إذ يكون الفسق إما للأكل أو للمأكول نقلاً من الأكل، ولا ينصرف إلى غير ذلك، لأن الميتة لم يفعل المكلف فيها فعلاً يسمى فسقاً سوى الأكل، والمنسي تسميتها لا يكون ذبحها فسقاً لأجل النسيان، فتعين صرفه إلى الأكل، فلأجله قوي عند الزمخشري تعميم التحريم في الناسي، لأنه يرى أن الميتة مرادة من الآية، إذ هي سبب نزول الآية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر: أن العام باقٍ على ظهوره فيما عداها، إذا ثبت اندراج الميتة لزم اندراج المنسي، وحينئذ يضطر مبيح المنسي إلى مخصص، فيتمسك بقوله صلي الله عليه وسلم: "ذكر الله في قلب كل مؤمن؛ سمى أو لم يسم"، وكان الناسي ذاكراً حكماً، وإن لم يكن ذاكراً وجوداً. وهذا ليس بتخصيص، ولكن منع لاندراج الناس في العموم، ويؤيده أن العام الوارد على سبب خاص - وإن قوي - تناوله السبب، حتى ينتهض الظاهر فيه نصاً، إلا أنه ضعيف التناول لما عداه، حتى ينحط عن أعالي الظواهر فيه، ويكتفي في معارضته بما لا يكتفي به منه لولا السبب". وقلت: هذا الكلام فيه تطويل وتعسف، إذ لم يلتفت فيه إلى النظم، وتكلم في حواشي المعاني، ولم يتعمق فيها، واستدلال الإمام في غاية من الجودة، قال: "والذي يدل على أن الآية واردة في أمر خاص قوله: (وإنه لفسق)، لأن الواو للحال، لقبح عطف الخبرية على الطلبية. والمعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً. ثم إن الفسق مجمل، وقد فصل بما جاء بعده؛ وهو قوله: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: 145] فيبقي ما عداه حلالاً؛ إما لمفهوم تخصيص التحريم في هذه الآية، أو للعمومات المحللة". وقلت: يؤيد هذا التأويل مضمون قوله: (وإنه لفسقٌ)، لأنه جملة اسمية مؤكدة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ"إن" واللام، ومثلها لا يليق بترك التسمية، لا سهواً ولا عمداً، وكذا عطف قوله: (وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، والمجادلة: هي قولهم: لم لا تأكلون ما قتله الله، وتأكلون ما قتلتموه أنتم؟ وذلك إنما يصح في الميتة، فدخل في قوله: (وإنه لفسقٌ): ما أهل لغير الله فيه، وبقوله: (وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ)، فيتحقق قول الشافعي: هذا النهي مخصوص بما ذبح على اسم النصب، أو مات حتف أنفه. وفي كلام المصنف إشعار بهذا المعنى. ثم قضية النظم تساعده مساعدةً ليس بعدها، فإن قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 118] كما قال: "مسبب عن إنكار إتباع المضلين؛ الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقال للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة، دون ما ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه. وما ذكر اسم الله عليه: هو المذكي باسم الله". ثم حث المسلمين بقوله: (ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) على أكل ما أحل لهم، والاجتناب عما حرم عليهم، يعني: أي غرض لكم في توقفكم فيه بما أوقعوا من الشبه، وقد نص الله تعالى في أكل ما أباح أكله وترك ما يحترز عنه في قوله تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) إلى قوله: (إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ) الآية [البقرة: 172 - 173]، ثم لما أريد المزيد في التفصيل والبيان قيل: (ولا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ) كأنه قيل: كلوا مما ذكر اسم الله عليه، وما لكم لا تأكلون وقد أزيحت العلة بالبيان والتفصيل، وها قد تكرر عليكم النهي وتجدد مرةً أخرى بقوله: (ولا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

(لَيُوحُونَ): ليوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من المشركين، (لِيُجادِلُوكُمْ) بقولهم: ولا تأكلوا مما قتله الله؟ وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله مرخصاً في النسيان دون العمد، ومالكٌ والشافعي رحمهما الله فيهما. [(أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويدل على التوكيد قوله: (وإنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وقوله أيضاً: (وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، لأنهما في معنى قوله: (وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ) [الأنعام: 116]، والله أعلم. قوله: (لأن من اتبع غير الله ... فقد أشرك به) قال الزجاج: "هذه الآية فيها دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أحل الله، فهو مشرك، وإن أطاع الله في جميع ما أمره، وإنما سمي مشركاً لأنه اتبع غير الله، فأشرك به غيره". والذي عليه كلام المصنف أنه من باب التغليظ، كقوله تعالى: (ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ)، وبعده: (ومن كفر) [آل عمران: 97]، لقوله: "ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا

مثل الذي هداه الله بعد الضلالة، ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم. ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص. ومعنى قوله: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) كمن صفته هذه، وهي قوله: (فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه"، وقوله: "وإن كان أبو حنيفة مرخصاً"، إلى آخره. قوله: (ومن بقي على الضلالة): عطف على قوله: "الذي هداه الله". وفي الآية استعارتان تمثيليتان، وتشبيه تمثيلي، أما الاستعارة الأولي: فبيانها ما قال: "مثل الذي هداه الله تعالى بمن كان ميتاً فأحييناه" والثانية: "مثل من بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها" والاستعارة الأولي بجملتها مشبه، والثانية مشبه به، نحوه في التشبيه قوله: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18]. قوله: (كمن صفته): خبر، والمبتدأ: قوله: "ومعنى قوله"، أي: معنى ذلك كمعنى هذه.

بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) [محمد: 15]، أي: صفتها هذه، وهي قوله: (فِيها أَنْهارٌ). (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ) أي: زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا؛ على قوله: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل: 4]، ويدل عليه قوله: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها)، يعني: وكما جعلنا في مكة صناديدها (ليمكروا فيها)، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعل (مثله) مبتدأ خبره محذوف، وجعل قوله: (في الظلمات) خبر مبتدأٍ محذوف، حيث قدر أولاً: "صفته هذه"، ثم ثانياً: "هو في الظلمات ليس بخارج منها"، والجملة الثانية مبينة للأولي، فإنه لما قيل: كمن صفته هذه، اتجه لسائل: وما صفته؟ فقيل: هو (فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا). قال المصنف في قوله تعالى: (مثل الجنة) [محمد: 15]: "ويجوز أن يكون خبر مبتدأٍ محذوف؛ هي (فيها أنهار) [محمد: 15]، وكأن قائلاً قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار". فقوله: "هي": مبهم مبين بالخبر، كما قال في "المؤمنون" في قوله: (إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) [المؤمنون: 37]: "هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من الخبر. ومنه: هي النفس ما حملتها تتحمل". قال أبو البقاء: " (مثله): مبتدأ، وخبره: (في الظلمات)، و (ليس بخارج منها) حال من المستكن في الظرف، لا من الهاء في (مثله) للفصل بينه وبين الحال بالخبر". قوله: (وكما جعلنا في مكة صناديدها) مشعر بأن قوله: (أو من كان ميتاً) الآية، متصلة

كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه: خليناهم ليمكروا، وما كففناهم عن المكر، وخص "الأكابر" لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله: (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [الإسراء: 16]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: (وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، لأن الضمير المرفوع للمسلمين، والمنصوب المفعول فيه للمشركين، وهم الذين قيل فيهم" (وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وهم الذين قالوا: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فالجملة الشرطية، أعني: (وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) متضمنه لمعنى الإنكار العظيم. وقوله: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) [الأنعام: 122] إلى آخره: إما حال مقدرة لجهة الإشكال، وهمزة التوبيخ مقحمة بينها وبين عاملها، أي: (إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بسبب إطاعتكم إياهم، والحال أنكم متحققون أنكم على هدىً مبين، وهم على ضلالٍ بعيد. أو أن يقدر بعد الهمزة معطوف عليه، أي: أتشركون بإطاعتهم ولا تعلمون أن الموحد والمشرك لا يستويان؟ أو: أتجمعون بين طاعة المبطلين، والعلم بأنكم على الحق المبين، وهم في الباطل منغمسون؟ قوله: (لذلك): أي ليمكروا فيها. قال القاضي: " (وجعلنا) بمعنى: صيرنا، ومفعولاه: (أكابر مجرميها)، على تقديم المفعول الثاني، أو (في كل قريةٍ أكابر). وقوله: (مجرميها) بدل، ويجوز أن يكون مضافاً إليه، إن فسر الجعل بالتمكين".

وقرئ: "أكبر مجرميها"؛ على قولك: هم اكبر قومهم، وأكابر قومهم. (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأنّ مكرهم يحيق بهم، وهذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روي: أن الوليدين المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً، وروي: أن أبا جهلٍ قال: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهانٍ قالوا: منا نبيٌّ يوحى إليه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقول المصنف: "ومعناه: خليناهم ليمكروا": تأويل على مذهبه. قوله: (وقرئ: "أكبر مجرميها") هذا يقوي الإضافة في (أكابر مجرميها) في تلك القراءة. قال القاضي: "أفعل التفضيل إذا أضيف، جاز فيه الإفراد والمطابقة". وقيل: أما المطابقة فعلى المشهورة (أكابر مجرميها)، وأما عدم المطابقة فعلى غيرها، كقوله: (ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) [البقرة: 96]، قال ذو الرمة: ومية أحسن الثقلين جيداً ... وسالفةً وأحسنه فذالا قوله: (كفرسي رهان)، النهاية: "وفي حديث الضحاك في رجل آلي من امرأته، ثم طلقها، فقال: "هما كفرسي رهان: أيهما سبق أخذ به". أي: أن العدة، وهي ثلاثة أطهار، أو ثلاث حيض، إن انقضت قبل انقضاء وقت إيلائه، وهي أربعة أشهر، فقد بانت المرأة بتلك

والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت. ونحوها قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر: 52]. [(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)]. (اللَّهُ أَعْلَمُ) كلامٌ مستأنفٌ للإنكار عليهم، وأن لا يصطفي للنبوّة إلا من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التطليقة، ولا شيء عليه من الإيلاء، لأن الأشهر تنقضي وليست له بزوجة، وإن مضت الأشهر وهي في العدة بانت منه بالإيلاء مع تلك التطليقة فكانت اثنتين، فجعلهما كفرسي رهانٍ يتسابقان إلى غاية". قوله: (كلام مستأنف للإنكار عليهم) أي: جواب عن سؤال مورده قوله: (لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، يعني لما قالوا: والله ما نرضي به ولا نتبعه إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، سئل: فما كان جواب البارئ عز شأنه لهم؟ قيل: أجيبوا بأن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء، وليس ذلك بالكبر والصغر، بل بفضائل نفسانية يجتبي لها من يصلح لها. ثم زيد في الإنكار لاستحقاق النبوة بالكبر بقوله: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ)، يعني: أن الكبر والاستعلاء موجب للذلة والقماءة والمقت، لا التعظيم والكرامة. فوضع (الذين أجرموا) موضع (أكابر مجرميها)، لأنهم هم المرادون في قوله: (أكابر مجرميها) في الآية السابقة [الأنعام: 123]. ولهذا بينه بقوله: "من أكابرها". وهم القائلون: (لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، والمعنى ما ذكر: "قال الوليد: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، وقال أبو جهل: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف".

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) من أكابرها (صَغارٌ) وقماءةٌ بعد كبرهم وعظمهم، (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الدارين، من الأسر والقتل وعذاب النار. [(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ* وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ): أن يلطف به، ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاصل أن قوله: (الذين أجرموا) مظهر وضع موضع المضمر، للإيذان بأن استكبارهم ذلك سبب لإيصال الذل والهوان، بالقتل والأسر يوم بدر، وإذاقة العذاب الشديد في الآخرة؛ فجمع لهم خزي الدارين. نحوه قوله تعالى: (وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 61]. وفيه أن تصديق آيات الله، وطاعة رسل الله موجب للعز والنجاة في الدارين. قوله: (ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف): إشارة إلى مذهبه. أي: لا يلطف ابتداء، بل يلطف بمن يستحق اللطف، وينفعه، بسبب إحداثه الإيمان والعمل الصالح.

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ): يلطف به حتى يرغب في الإسلام، وتسكن إليه نفسه، ويحب الدخول فيه، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ): أن يخذله ويخليه وشأنه، وهو الذي لا لطف له، (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً): يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسدّ، فلا يدخله الإيمان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي " (يهديه): يعرفه طريق الحق، ويوفقه للإيمان، (يشرح صدره للإسلام)، فيتسع له، ويفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلةً للحق، مهيأة لحلوله فيها، مصفاةً عما يمنعه وينافيه". وقال محيي السنة: " (يشرح صدره للإسلام)، أي: يفتح قلبه، وينوره، حتى يقبل الإسلام. ولما نزلت هذه الآية، سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن شرح الصدر، قال: "نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح" قيل: فهل لذلك أمارة؟ قال: "نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت"". وقلت: قد أجمع أكثر المفسرين على نقل هذا الحديث، وقد رواه البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" عن ابن مسعود، وقضية النظم تستدعيه، فإن الفاء رابطة مرتبة للكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ما قبله، فإنه تعالى لما ضرب للمؤمنين والكافرين مثلاً، بقوله: (أو من كان ميتا فأحيينه) [الأنعام: 122]، ونص على أنه تعالى هو المزين للكافرين عملهم، وأنه صير في كل قرية أكابر مجرميها، وحكي عنهم أنهم يطلبون ما ليس لهم، رتب على ذلك قوله: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) الآية، تسلياً لرسول الله صلي الله عليه وسلم وإرشاداً إلى تفويض الأمور إلى الله، وإعلاماً بأن إرادته ومشيئته إذا تعلقت بهداية بعض العباد (يشرح صدره للإسلام)، وإذا تعلقت بضلالة بعضٍ (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا). وهؤلاء المجرمون الذين خلقهم للصغار والدناءة، وأراد ضلالهم، لا يهتدون، (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). فشرح الصدر يجب أن يحمل على الانفتاح والانفساح، لأنه مقابل لضيقها وصعودها إلى السماء. وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) كالخاتمة على الختم. اللهم إني أتضرع إليك بسوابغ فضلك، وسوابق أفضالك، وأبتهل إلى جنابك الأقدس، أن تشرح صدري، وتقذف النور في قلبي، إنك أنت الوهاب، وأدعوك بما دعا به حبيبك صلوات الله عليه: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعلني نوراً"، وارزقني الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور.

وقرئ: (ضَيِّقاً) بالتخفيف والتشديد، (حَرَجاً) بالكسر، و (حرجاً) بالفتح وصفاً بالمصدر، (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ): كأنما يزاول أمراً غير ممكن، لأن صعود السماء مثلٌ فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال المصنف: "هذا آخر المرتفع عند قبر ابن عباس رضي الله عنه"، وفتح فاء "المرتفع"، أي: هذا آخر الحاصل. قوله: (وقرئ: "ضيقاً" بالتخفيف): ابن كثير، والباقون بالتشديد. قوله: ("حرجاً" بالكسر): نافع وأبو بكر، والباقون بفتحها. قال الزجاج: "هو بمنزلة: رجل دنف، بكسر النون، و"حرج" بمنزلة: دنف، والمعنى: ذو دنف. وعن ابن عباس، الحرج: موضع الشجر الملتف، كأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة، كما لا تصل الراعية إلى الموضع الملتف من الشجر، والحرج في اللغة: أضيق الضيق". قوله: (كأنما يزاول أمراً غير ممكن) ما بين أن المشبه ما هو؛ فراراً، وصرح به الواحدي حيث قال: " (ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ) فإنه في نفوره عن الإسلام، وثقله عليه، بمنزلة من يكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع".

وقرئ: "يصعد"، وأصله: يتصعد. وقرأ عبد الله: "يتصعد". و (يصاعد)، وأصله: يتصاعد، و (يصعد)، من صعد، و"يصعد" من: أصعد، (يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ) يعني: الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن عباس: "فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ إلى السماء، فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد والإيمان في قلبه، حتى يدخله الله في قلبه". وقلت: لابد من هذا التأويل لمقابلة الآية، قوله: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) أي: ومن يرد أن يهديه يفسح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يضيق صدره، حتى لا يدخل فيه؛ فضرب بالممتنع مثلاً للتوكيد، ولئلا يفسر بخلاف ما عليه القضاء والقدر. قوله: (وقرئ "يصعد"). روي عن الشيخ المعزي: أن من عادة المصنف إذا قال: قرئ كذا وكذا، وعدد قراءاتٍ متفاوتة؛ مشهورةً وغير مشهورة، أن يقدم المشهورة كما فعل هاهنا، وفيه نظر، لأن قراءة عبد الله: "يتصعد" شاذة، ومقدمة على قراءة أبي بكر وابن كثير. قال في "التيسير": "ابن كثير: "كأنما يصعد"، بإسكان الصاد مخففاً من غير ألف، وأبو بكر: "يصاعد"، بتشديد الصاد، وألف بعدها، وتخفيف العين، والباقون: بتشديد الصاد والعين من غير ألف". قوله: (وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق) يعني: كما وصف المعاني ومنه التوفيق بما يوصف به الأعيان، وصف ما يقابله من الخذلان بما يناقضه من الرجس، قال تعالى: (وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ) [الحج: 24]. النهاية: "قد يرد الطيب بمعنى الطاهر. قال صلي الله عليه وسلم لعمار:

أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب؛ من الارتجاس وهو الاضطراب. (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ): وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة، وعادته في التوفيق والخذلان، (مُسْتَقِيماً): عادلاً مطرداً، وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة: 91]. (لَهُمْ): لقومٍ يذكرون (دارُ السَّلامِ): دارُ الله، يعني: الجنة، أضافها إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر، (عِنْدَ رَبِّهِمْ): في ضمانه، كما تقول: لفلانٍ عندي حق لا ينسى. أو ذخيرةٌ لهم لا يعلمون كنهها، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "مرحباً بالطيب المطيب"، أي: الطاهر المطهر، و"الطيبات" في التحيات، أي: الطيبات من الصلاة والدعاء". وقوله: (أو أراد الفعل المؤدي إلى الرجس، وهو العذاب)، قال القاضي: "وضع الرجس موضع العذاب، وهو من وضع المظهر موضع المضمر للتعليل". قوله: ((لهم): لقوم يذكرون) يريد: أن قوله (لهم دار السلام)، صفة لـ"قوم"، (عند ربهم) حال من الضمير في (لهم)، والعامل الاستقرار. وقوله: (عند ربهم) إما كناية عن الوعد الصادق، أو عن الذخيرة، كقوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].

كقوله: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) مواليهم ومحبهم، أي: ناصرهم على أعدائهم، (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ): بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاه ما كانوا يعملون. [(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)]. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) منصوبٌ بمحذوف، أي: واذكر يوم نحشرهم، أو: ويوم نحشرهم قلنا: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ)، أو: ويوم نحشرهم وقلنا: (يا معشر الجن) كان ما لا يوصف لفظاعته! والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين. (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ): أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلانٌ من الأشياع. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل: استمتاع الإنس بالجن: ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون). يريد: أن الولي إذا كان بمعنى المحب والناصر، فالوجه أن تكون الباء سببية، أي: يحبهم وينصرهم بسبب عملهم، وإذا كان بمعنى متولي الأمور، فالباء للملابسة، والمعنى: يتولاهم ملتبسا بجزاء عملهم، أي: يعد لهم الثواب. قوله: (الجم الغفير)، النهاية: "يقال: جاء القوم جماً غفيراً، والجماء الغفير، أي: مجتمعين كثيرين. ويقال: جاؤوا الجم الغفير: اسم وضع موضع المصدر".

ما في قوله: (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) [الجن: 6]، وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعني به: كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم، (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعنون: يوم البعث، وهذا الكلام اعترافٌ بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث، واستسلامٌ لربهم، وتحسر على حالهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإجارتهم لهم)، الجوهري: "الجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم. وأجاره الله من العذاب: أنقذه". وأنشد لمروان بن أبي حفصة: هم المانعون الجار حتى كأنه ... لجارهم فوق السماكين منزل قوله: (وهذا الكلام اعتراف) إلى قوله: (وتحسر على حالهم)، يعني قوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) متضمن للاعتراف بأشياء ثلاثة وللاستسلام والتحسر أيضاً، وهو جواب عن قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإنسِ)، فإنه من جوامع الكلم، وهو سؤال توبيخ وتعريض، ولهذا أجاب الإنس عنه، وطابقوا، لأن معنى: (استكثرتم): "أضللتم كثيراً منهم وجعلتموهم أتباعكم" كما قال. يعني: أنتم، يا معشر الجن، اجتهدتم في تزيين الشهوات وأسبابها، وما قصرتم في الإغواء، وإنهم أيضاً ما تهاونوا في القبول والطاعة، فركنوا إلى الخلود في الأرض، ومتابعة الهوى، حتى جحدوا لقاء يومهم هذا. وإليه الإشارة بقوله: "إتباع الهوى، والتكذيب بالبعث"، نظيره قوله: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ) إلى قوله: (أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: 175 - 176].

(خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي: يخلدون في عذاب النار الأبد كله، (إلا ما شاء الله): إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى قوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) كما قال: "استمتع الإنس بالشياطين، حيث دلوهم على الشهوات، وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس، حيث أطاعوهم، وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم". وهذا معنى الاستكثار بعينه، كما شرحناه، ولذلك كان اعترافاً، ولهذا عقب بقوله: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا) الآية. وأما الاستسلام: فقولهم: (وبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)، أي: جاء اليوم الذي لا ملك إلا للواحد القهار، وما لنا من ناصرين. وأما التحسر: فمن لفظة (ربنا)، قالوها تحسراً على ما فرطوا في جنب الرب الغفور الرحيم. نظيره قولهم: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر: 56]، والله أعلم. قوله: (أي: يخلدون فيها من عذاب النار) قيل: "من" بيان الهاء في "فيها". وفي نسخة: "في عذاب النار"، بدل من "فيها" بإعادة العامل. قوله: ((إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ): إلا الأوقات). (ما) في (ما شاء الله): مصدرية، ويقدر معه مضاف، أي: إلا أوقات مشيئة الله تعالى، خص مشيئة الله بقوله: "إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير". وسيجيء تحقيق هذا الاستثناء في قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ) [هود: 107]. قوله: (الموتور)، الأساس: "يقال: وترت الرجل: قتلت حميمه، وأفردته، وطلب وتره، أي: ثأره".

ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت! وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكمٍ بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ): لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة (عَلِيمٌ) بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد. [(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)]. (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً): نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم، كما كانوا في الدنيا بِما (كانُوا يَكْسِبُونَ): بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. [يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحرق عليه أنيابه)، الأساس: "ليحرق عليه الأرم: أي يسحق بعض الأضرا ببعضٍ للغيظ فعل الحارق بالمبرد". الأرم، بالهمز وتشديد الراء: الأضراس، جمع آرم. فعلى هذا: الاستثناء للتأبيد، كما نص عليه في قوله تعالى: (ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23 - 24]، ونحوه قوله: (ومَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الأعراف: 89].

يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ: (لَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)؟ واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم؟ فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك، وإن كان من أحدهما، كقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن: 22]، وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى: (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف: 29]. وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن. (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) حكايةٌ لتصديقهم وإيجابهم قوله: (أَلَمْ يَاتِكُمْ)، لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم. وقولهم: (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) إقرارٌ منهم بأن حجة الله لازمةٌ لهم، وأنهم محجوجون بها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ)) قال الزجاج: "وإنما جاز ذلك لأن الجماعة تعقل وتخاطب؛ فالرسل هم بعض من يعقل، نحوه: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ) [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من المالح دون العذب، فقال: (منهما)، لأن ذكرهما قد جمع، وهذا جائز في كل ما اتفق في أصله، كما اتفق الجن مع الإنس في باب التمييز". قوله: (وإيجابهم) تفسير لقوله: "لتصديقهم"، أي: يقرون بالاستفهام الداخل على النفي، ويقرون أن الحجة لازمة لهم، وأنهم محجوجون بالإيجاب، هو الذي في مقابل النفي.

فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]؟ قلت: تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها. أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكايةٌ لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئةٌ لرأيهم، ووصفٌ لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قومٌ غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم. [(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ* وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم) إشارة إلى أن قوله: (وغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) بعد قوله: (قالوا شهدنا) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، يعني: أنهم قالوا: (شهدنا على أنفسنا)، إقراراً منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوبون لقلة نظرهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الدنيوية. فعلى هذا عطف قوله: (وغرتهم) على ما قبله، من باب الإخبار عن وجود شيئين مترتبين، وقد عول الترتيب إلى الذهن. وأما الواو الداخلة على (وشهدوا على أنفسهم) فاستئنافية مصدرة على الجملة التذييلية؛ نعى عليهم، بعد الفراغ من أخبار القيامة، سوء صنيعهم، تقبيحاً وفضيحة لهم، وتحذيراً للسامعين من مثل حالهم.

(ذلِكَ) إشارةٌ إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدأٍ محذوف: أي: الأمر ذلك، (وأَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) تعليل، أي: الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن (أن) هي التي تنصب الأفعال، ويجوز أن تكون مخففةً من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث: (لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ). ولك أن تجعله بدلاً من (ذلك)، كقوله: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر: 66]. (بِظُلْمٍ): بسبب ظلم قدموا عليه، أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعالٍ عن الظلم وعن كل قبيح. (وَلِكُلٍ) من المكلفين (دَرَجاتٌ): منازل (مِمَّا عَمِلُوا) من جزاء أعمالهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ظالماً) أي: ملتبساً بظلم. فعلى هذا: (وأهلها غافلون) حال متداخلة. هذا الوجه قريب إلى مذهبه، بعيد من النظم، لأن قوله تعالى: (أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) استفهام على سبيل التوبيخ والتقرير يوم القيامة. وقد آذن أن الحجة قد لزمتهم، وهي أنه تعالى لا يهلك قريةً ظالمة ابتداء، بل يبعث إليهم من ينذرهم ويخوفهم عذاب الآخرة، فإذا لم يقلعوا عما هم فيه، أنحى عليهم بالقلع والدمار فيهم، فقوله: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ) كالتذييل والتأكيد للآية السابقة، ولابد من إثبات الظلم لهم، ولا يستقيم هذا المعنى استقامةً من غير تعسف إلا بذلك الوجه. قوله: ((ولكل) من المكلفين (درجات))، أي: للمطيعين والعاصين درجات ودركات، فغلب. وهو قول أبي مسلم. قال الإمام: "وفيه قولان؛ أحدهما: لكل عاملٍ عمله،

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر. [(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ* إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)]. (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) عن عباده وعن عبادتهم، (ذُو الرَّحْمَةِ) يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ...... فله في عمله درجات، يعني في الثواب والعقاب، على قدر أعمالهم في الدنيا، وإنه عالم بها على التفصيل، فرتب على كل درجةٍ ما يليق به من الجزاء". هذا تقرير ما ذكره المصنف. "والثاني: أن هذا مختص بأهل الطاعة، لأن لفظة "الدرجة" لا تليق إلا بهم". وقلت: فعلى هذا: الجملة معطوفة من حيث المعنى على قوله: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ)، يعني: إرسال الرسل لم يكن إلا لتنبيه الغافلين، لتلزمهم الحجة، ولظهور طاعة المطيعين، وثبوت درجاتهم لأعمالهم الصالحة، ليجازيهم الله على ذلك. قوله: ((وربك الغني) عن عباده). قال الإمام: "اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات، وعقاب أصحاب المعاصي، وذكر أن لكل قوم درجةً مخصوصة، ومرتبةً معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه يحتاج إلى طاعة المطيعين، أو ينتقص لمعصية المذنبين، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً، فإن رحمته عامة

(إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) أيها العصاة (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من الخلق المطيع (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) من أولاد قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاملة، ولا سبيل إلى تربية المكلفين، وإيصالهم إلى درجات الأبرار، إلا بعد الترغيب في الطاعات، والترهيب عن المحظورات". وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: "يترحم عليهم بالتكليف، ليعرضهم للمنافع الدائمة". وقال القاضي: "وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه، بل لترحمه على العباد، وتأسيس لما بعده؛ وهو قوله: (إن يَشَا يُذْهِبْكُمْ)، أي: ما به إليكم حاجة. إن يشأ يذهبكم أيها العصاة". قلت: هذا أحسن لتأليف النظم، يعني أنه تعالى إنما ذكر "الرحمة"، وقرن به "الغنى" في قوله: (ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لأمرين: أحدهما: ليشير إلى أن ذلك الإرسال المذكور لم يكن إلا لمحض رحمة العباد، لأنه غني مطلقاً، وثانيهما: أن يكون تخلصاً إلى خطاب العصاة من أمة محمد صلوات الله عليه بقوله: (إن يَشَا يُذْهِبْكُمْ) لأجل ذلك الاقتران، يعني أنه تعالى مع كونه ذا الرحمة، بإرسال الرسل، كذلك غني عن العالمين، وعنكم خاصة أيها العصاة، إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، ولذلك عقبه بقوله: (إنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ). قوله: (وهم أهل سفينة نوحٍ) شبه إذهاب المخاطبين من عصاة الأمة واستبدالهم، وإنشاء

[(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)]. «المكانة»: تكون مصدراً، يقال: مكن مكانةً إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله: (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه (إِنِّي عامِلٌ) أي: عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أينا تكون له العاقبة المحمودة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قومٍ آخرين من بقايا صالحيهم، باستئصال طالحي قوم نوح، وإنشاء آباء المخاطبين من بقايا صالحيهم، وهم أهل سفينته عليه السلام. قوله: (واعملوا على جهتكم) هذا تقرير الاحتمال الثاني، على سبيل الكناية، لأن المكانة بمعنى المكان، وفي تقريره لف ونشر. أما قوله: "إني عامل على مكانتي" فمتفرع على الوجهين في (مكانتكم).

وطريقة هذا الأمر طريقة قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت: 40]، وهي التخلية، والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه. فإن قلت: ما موضع (مَنْ)؟ قلت: الرفع إذا كان بمعنى «أي»، وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى «الذي». و(عاقِبَةُ الدَّارِ): العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا طريقٌ من الإنذار لطيف المسلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها) تفسيره ما ذكره في "القصص": "أن الله وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأراد بعباده ألا يعملوا فيها إلا الخير، ليتلقوا خاتمة الخير، ومن عمل خلاف ما وضعه الله تعالى فقد حرف، فإذاً عاقبتها الأصلية هي الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها، لأنها من نتائج تحريف الفجار" هذا بناءً على مذهبه. والحق أن (عاقبة الدار) كناية عن خاتمة الخير، فكأنه قيل: من يكون له عاقبة الخير، سواء كان الظفر في الدنيا، كما قال الإمام: "العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له. كما يقال: لهم الكرة، ولهم الظفر. وفي ضده: عليهم الكرة، وعليهم الظفر"، أو الجنة في العقبى، كما قال محيي السنة: " (عاقبة الدار): الجنة". قوله: (وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك) يريد أن تعقيب قوله: (إنَّهُ لا يُفْلِحُ

فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدّة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محق والمنذر مبطل. [(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)]. كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاجٍ لله، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً، رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها، واعتلوا بأنّ الله غنىّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وقوله: (مِمَّا ذَرَأَ) فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظَّالِمُونَ)، من العدول من المضمر إلى المظهر، حيث لم يصرح بنفي الفلاح عنهم قوله: (مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)، مع التعميم فيه المبني على الأمر في قوله: (اعملوا على مكانتكم): طريقاً من الكلام المنصف، وإرخاء العنان، لطيف المسلك، حيث ضمن ذلك "شدة الوعيد، والوثوق بأن المنذر محق، والمنذر مبطل". قوله: (فيه أن الله كان أولى) أي: في إتيان (مما ذرأ)، وبيانه بقوله: (مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ) إشعار وإدماج لمعنى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه الخالق والمزكي، وإلا فكان من الظانين: (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا).

لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكية (بِزَعْمِهِمْ) وقرى بالضم، أي: قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة، (فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي: لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين، (فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) من إنفاقٍ عليها؛ بذبح النسائك عندها، والإجراء على سدنتها، ونحو ذلك، (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم. [(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)]. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذرأه) قال الزجاج: "يقال: ذرأ الله الخلق ذرءاً: إذا خلقهم". النهاية: "في الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر كل ما خلق وذرأ وبرأ". ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: إذا خلقهم، وكأن الذرء مختص بخلق الذرية". قوله: (وقرئ بالضم) أي: "بزعمهم": الكسائي، وهو لغة. قوله: (أي: قد زعموا أنه لله، والله لم يأمرهم بذلك، ولا شرع لهم تلك القسمة) النهاية: "إنما يقال: "زعموا" في حديث لا سند له، ولا تثبت فيه، وإنما يحكي على الألسن". قوله: (ومثل ذلك التزيين، وهو تزيين الشرك في قسمة القربات بين الله والآلهة) يعني

بين الله تعالى والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيين البليغ الذي هو علم من الشياطين. والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد، وبنحرهم للآلهة، وكان الرجل في الجاهلية يحلف: لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشار إليه بقوله: "ذلك" ما يعلم من قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا) الآية. قوله: (أو ومثل ذلك التزيين البليغ) هذا على أن يكون المشار إليه ما في الذهن، ولذلك قال: "الذي هو علم من الشياطين"، وسيجيء بيانه في قوله: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ) [الكهف: 78]، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني، والتفسير بقوله: (زين) وهو ما يعلمه كل أحد أن المزين من هو، وهو الشيطان. قوله: (سدنة الأصنام)، الجوهري: "السادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام. والجمع: السدنة". قوله: (بالواد)، الجوهري: "وأد ابنته، يئدها وأداً، وهي موءودة، أي: دفنها في القبر وهي حية". قوله: (لينحرن أحدهم، كما حلف عبد المطلب) روى ابن الجوزي في كتاب "الوفا": "كان عبد المطلب قد رأي في المنام: "احفر زمزم"، ونعت له موضعها. وقام يحفر وليس له ولد يومئذ إلا الحارث، فنازعته قريش، فنذر: لئن ولد له عشرة نفرٍ، ثم بلغوا، لينحرن أحدهم لله

وقرئ: (زين)، على البناء للفاعل الذي هو (شركاؤهم)، ونصب (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ)، و (زين) على البناء للمفعول الذي هو "القتل"، ورفع (شركاؤهم) بإضمار فعلٍ دل عليه "زُين"، كأنه قيل- لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟ فقيل: زينه لهم شركاؤهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى عند الكعبة. فلما تموا عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، أخبرهم بنذره، فأطاعوه، وكتب كل منهم اسمه في قدح، فخرج على عبد الله، فأخذ الشفرة لينحره، فقامت قريش من أنديتها، وقالوا: لا تفعل حتى ننظر فيه. فانطلق به إلى عرافة. فقال: قربوا عشرةً من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، إن خرجت على صاحبكم، فزيدوا من الإبل حتى يرضي ربكم، فإذا خرجت على الإبل فقد رضي، ونجا صاحبكم. فقربوا عبد الله وعشراً، فخرجت على عبد الله، فلم يزالوا كذلك حتى جعلوها مئة، فخرج القدح على الإبل، فقالوا: قد رضي ربك. فقال: لا والله حتى أضرب عليه وعليها مرات، ففعل، فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تركت، لا يصد عنها إنسان ولا سبع". قوله: (و"زين" على البناء للمفعول ... ، ورفع (شرؤكاهم)) ابن عامر: "زين" بضم الزاي، "قتل" بالرفع، و"أولادهم" بالنصب، و"شركائهم" بالخفض، والباقون: بفتح الزاي، و" (قتل) بالنصب، و (أولادهم) بالخفض، و (شركاؤهم) بالرفع". قال ابن جني: "و"زين" على البناء للمفعول، ورفع (شركاؤهم): قراءة أبي عبد الرحمن السلمي. والوجه أن يكون مرفوعاً بفعل مضمر، دل عليه هذه الظاهر، ولا يرتفع بهذا الظاهر، لأن الفعل الواحد لا يرفع إلا الواحد، ونحوه بيت "الكتاب".

وأما قراءة ابن عامر: (قتل أولادهم شركائهم) - برفع "القتل" ونصب "الأولاد" وجرّ "الشركاء" على إضافة "القتل" إلى "الشركاء"، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج وردّ زجّ القلوص أبى مزاده فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ ! والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركاؤهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر "الأولاد" و"الشركاء" - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليبك يزيد ضارع لخصومةٍ ... ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه لما قيل: ليبك يزيد، قيل: من يبكيه؟ قال: ليبكه ضارع لخصومة. ويشهد له قراءة العامة، لأن الشركاء هم المزينون". قوله: (والذي حمله على ذلك أن رأي في بعض المصاحف "شركائهم" مكتوباً بالياء) قال موفق الدين الكواشي: "هذا يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد بغت من الرداءة مبلغاً لم يبلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة، لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ، ومع ذلك أسندها إلى النبي صلي الله عليه وسلم وهو جاهل بالعربية. وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه، وإنما هو طعن في علماء الأمصار، حيث جعلوه أحد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء، حيث لم ينكروا عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرؤونها في محاريبهم. والله أكرم من أن يجمعهم على الخطأ". وذكر قريباً منه صاحب "الانتصاف"، وفيه: "ولولا العذر أن المنكر ليس من أهل علمي القراءة والأصول، لخيف عليه الخروج من ربقة الإسلام بذلك. ثم مع ذلك، هو في عهدةٍ خطرة، وزلةٍ منكرة". قلت: إنه ذهب في هذا المقام أن مثل هذا المركب ممتنع، وخطأ إمام أئمة الإسلام، وضعفه في قوله: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم: 47] فبين كلاميه تخالف. وقال أبو محمد المكي: "لم أر أحداً يحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به لا له". وقال الإمام في "تفسيره": "وكثيراً أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول، فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال السكاكي: "لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد محمول على حذف المضاف إليه من الأول. ونحو قراءة من قرأ: "قتل أولادهم شركائهم"، و"مخلف وعده رسله" لإسنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها من الأشعار، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني، محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول، وإضمار المضاف في الثاني، على قراءة من قرأ: "والله يريد الآخرة" بالجر، أي: عرض الآخرة، وما ذكرت - وإن كان فيه نوع بعدٍ - فتخطئة الثقات والفصحاء أبعد". روى الواحدي عن أبي علي: أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه قبيح، قليل في الاستعمال، ولكنه قد جاء في الشعر، كما أنشده أبو الحسن الأخفش: فزججتها متمكناً ... زج القلوص أبي مزاده وفي "المفصل": "فزججتها بمزجة. الزج: الطعن. والمزجة - بكسر الميم -: الرمح القصير كالمزراق. وأبي مزادة: كنية رجل".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونقل صاحب "الإقليد" عن المصنف: "ووجهه أن يجر "القلوص" على الإضافة، ويقدر مضاف إلى: "أبي مزادة" محذوفاً بدلاً عن "القلوص"، تقديره: زج القلوص قلوص أبي مزادة. والقلوص: الشابة من النوق". وقال صاحب "الانتصاف": "إن إضافة المصدر إلى معموله مقدر بالفعل، ولهذا عمل. وهو وإن كانت إضافته محضة، مشبه بما إضافته غير محضة، حتى قال بعض النحاة: هي غير محضة. والحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه، ليس كاتصال غيره، وجاء الفصل في غيره بالظرف، فتميز المصدر عن غيره، لجوازه بغير الظرف. وكأنه فكه، وقدم المفعول على الفاعل". ثم ذكر شواهد. وقال: "وليس القصد تصحيح القراءة بالعربية، بل تصحيح العربية بالقراءة". وأنشد السجاوندي: تمر على ما تستمر، وقد شفت ... غلائل عبد القيس منها صدورها ومثله في شعر المتنبي: حملت إليه من لساني حديقةً ... سقاها الحجي سقي الرياض السحائب

(لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم بالإغواء، (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ): وليخلطوا عليهم ويشبهوه. ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناه: وليوقعوهم في دين ملتبس. فإن قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) مشيئة قسر، (ما فَعَلُوهُ): لما فعل المشركون ما زُين لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الاشارة (وَما يَفْتَرُونَ): وما يفترونه من الإفك. أو: وافتراؤهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعل القصيدة كالروضة التي يحدث بها حاجز، وجعل العقل ساقياً لها، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. قوله: (فعلى معنى الصيرورة)، نحوه قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا) [القصص: 8]. قوله: (إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة). أي: الضمير في (فعلوه)، كقوله تعالى: (إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]. وأنشد ابن جني: مثل الفراخ نتفت حواصله

[(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)]. (حِجْرٌ): فعلٌ، بمعنى: مفعول، كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات. وقرأ الحسن وقتادة «حُجر» بضم الحاء. وعن ابن عباس: "حرجٌ"، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ)، يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء، (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) وهي البحائر والسوائب والحوامي (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى: أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله، فجعلوها أجناساً بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي: فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وانتصابه على أنه مفعولٌ له، أو حال، أو مصدر مؤكد، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: حواصل ذلك، أو حواصل ما ذكرنا، ذهب بالضمير إلى ذلك القدر والمبلغ، فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه. قوله: (أو حال، أو مصدر مؤكد)، والحال أولى الوجوه: لملاءمته قوله: (بزعمهم)،

[(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)]. كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حياً فهو خالصٌ للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث (خالِصَةٌ) للحمل على المعنى، لأنّ (ما) في معنى الأجنة، وذكر "مُحَرَّمٌ" للحمل على اللفظ. ونظيره (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) [محمد: 16]. ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر، وأن تكون مصدراً وقع موقع "الخالص"، كالعاقبة، أي: ذو خالصة. ويدل عليه قراءة من قرأ: "خالِصَةٌ" بالنصب على أنّ قوله (لِذُكُورِنا) هو الخبر، و"خالصةً" مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس: "خالصةٍ" على الإضافة، وفي مصحف عبد الله: "خالص". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه حال من فاعل: (قالوا) أي: قالوا زاعمين مفترين، قال أبو البقاء: (بزعمهم) متعلق بـ (قالوا). قوله: (ويدل عليه) أي: على أن (خالصة) في قراءة الرفع، مصدر بمعنى: ذو خالصة، قراءة النصب، فإنها مصدر قطعاً، لعدم جواز أن يكون حالاً من المجرور في (لذكورنا)، لأنها لا تتقدم عليه، ولا من الضمير في "لذكورنا" لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي. وفيه بحث من وجهين: أحدهما: أن التقسيم غير حاصر، لجواز أن يكون حالاً من ضمير

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً): وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرئ: (وإن تكن)، بالتأنيث، على: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ أهل مكة: (وإن تكن ميتة) بالتأنيث والرفع على كان التامّة وتذكير الضمير في قوله (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى، فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستقراء في: (فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ). وعليه أبو البقاء، وصاحب "الكشف"، والكواشي، والقاضي. ويؤيده معنى قراءة ابن عباس: "خالصه" بالإضافة، أي: حيه. وثانيهما: أن التعليل بتقديم الحال ضعيف، لأنه يؤذن بأنها لو تأخرت عن المجرور لجاز، وأنه لا يجوز معنى، لأن (خالصةً) جارية على ما في بطون هذه الأنعام لا على الذكور. يدل عليه حمل (خالصة) عليه في قراءة الرفع، وقول المصنف: "ما ولد منها حياً، فهو خالص للذكور، لا تأكل منه الإناث" إلى آخره. على أن المالكي أجاز تقديمها على المجرور، وذكر شواهد ودلائل سنذكرها في "سبأ" إن شاء الله تعالى. قوله: ("وإن تكن" بالتأنيث): أبو بكر وابن عامر، والباقون: بالتذكير. وابن كثير وابن عامر: "ميتة" بالرفع، والباقون: بالنصب. و"قتلوا" بالتشديد: ابن كثير وابن عامر، والباقون: بالتخفيف.

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أى، زاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى: (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [النحل: 116]. [(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)]. نزلت في ربيعة ومضر والرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ): لخفة أحلامهم، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم، لا هم. وقرئ: «قتلوا» بالتشديد (ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ): من البحائر والسوائب وغيرها. [(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قوله: (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ)). قال: "جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم، فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته"، ويجيء تمام تحقيقه في موضعه. قوله: (لخفة أحلامهم، وجهلهم بأن الله تعالى هو رازق أولادهم). الظاهر أن "جهلهم" عطف على "خفة"، وتفسير لقوله: (بغير علمٍ)، و"لخفة أحلامهم" تفسير لقوله: (سفها)، وأنه مفعول له. ولا يجوز أن يكون (بغير علم) معطوفاً عليه. قال أبو البقاء: " (سفها): مفعول له، أو مصدر لفعلٍ محذوف. و (بغير علم): حال".

(أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) من الكروم، (مَعْرُوشاتٍ): مسموكاتٍ (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ): متروكاتٍ على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل: المعروشات: ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه، (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) مما أنبته وحشياً في البراري والجبال، فهو غير معروش. يقال: عرّشت الكرم؛ إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان، وسقف البيت: عرّشه. (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ (أكله) بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفاً عليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: المعنى: قتلوا أولادهم في حال كونهم جاهلين بالله، وبأنه هو الرازق ذو القوة المتين، لأجل خفة عقولهم. قوله: (ما في الأرياف). الريف: أرض فيها زرع وخصب. والجمع: أرياف. قوله: ((وغير معروشات) مما أنبته الله) من بيان (وغير معروشات)، وكان من حق الظاهر أن يقال: وغير معروشات: ما في البراري والجبال مما أنبته الله تعالى؛ ليصح التقابل مع قوله: "المعروشات: ما في الأرياف والعمران، مما غرسه الناس" فعلق "في البراري والجبال" بقوله: "وحشياً" وأخره، ليرتب عليه قوله: "فهو غير معروش"، ليؤذن بالفرق بين المأهول والوحشي. وفيه تنبيه على أن من لم يكن تحت سياسة سائس، وتأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط، ينشأ كما ينشأ الوحشي، غير مؤدب، كأرباب البوادي والجبال. قوله: (وقرئ: (أكله) بالضم): كلهم إلا نافعاً وابن كثير، فإنهما قرآ بالسكون. قوله: (والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه)، لأن الأصل أن يطلق "الأكل" على

و (مختلفاً): حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر: 73]. وقرئ «ثمره» بضمتين. فإن قلت: ما فائدة قوله: (إِذا أَثْمَرَ)، وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: (إذا أثمر)، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع. (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بـ"الحق": ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العُشر ونصف العُشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة، ومعناه: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثمرة والجناة بالحقيقة، فيه الزرع. الأساس: "يقال: أكل بستانك دائم، أي: ثمره". ذكره في الحقيقة. الجوهري: "الأكل: ثمر النخل والشجر، وكل ما يؤكل فهو أكل". ولم يفرق بين الحقيقة والمجاز، فالضمير إذاً للمذكور. قوله: (وقرئ: "ثمرة" بضمتين): حمزة والكسائي، والباقون: بفتحتين. قوله: (لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك) قال القاضي: "قيل: فائدة قوله: (إذا أثمر): رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله. وفائدة الأمر بالإيتاء يوم الحصاد: اهتمام

(وَلا تُسْرِفُوا) في الصدقة، كما روى عن ثابت بن قيس بن شماس: أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله، ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29]. [وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)]. (حَمُولَةً وَفَرْشاً) عطفٌ على (جناتٍ)، أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأداء عند الحصاد حتى لا يؤخر عنه، وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتبقية". قوله: ((ولا تسرفوا) في الصدقة) علق (ولا تسرفوا) في الصدقة بالقريب، وهو: (وءاتوا حقه) على طريقة التنازع، فيقدر مثله لقوله: (كلوا من ثمره). قوله: ((حمولةً وفرشاً) عطف على (جناتٍ)): والجهة الجامعة: إباحة الانتفاع بالنوعين في عرف الشرع؛ وذلك أنه تعالى لما حكي عن المشركين تحريم ما في أجنة البحائر والسوائب، وسجل عليهم بالخسران، بسبب تحريمهم ما رزقهم الله افتراءً على الله، نص على

وقيل: «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل، «والفرش»: الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية. (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدلٌ من (حمولة وفرشاً)، (اثْنَيْنِ): زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز - والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحدٍ منها زوجاً، وهما زوجان، بدليل قوله: (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم: 45]، والدليل عليه قوله تعالى: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ثم فسرها بقوله: (مِنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)، (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر. والضأن والمعز: جمع ضائنٍ وما عز، كتاجر وتجر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما خلق للمكلفين، فأباح لهم أكله، وحمل الأثقال عليه، وقدم أولاً ذكر الجنات المختلفة، والزروع المتفاوتة، وأمرهم بالأكل منها، وأداء حقوق الله منها، ثم ثنى بذكر الأنعام المختلفة، ثم عم الخطاب في إباحة أكل سائر ما رزقهم الله تعالى، ونهي عن إتباع خطوات الشيطان؛ من تحريم ما أحل الله تعالى. قوله: (بدليل قوله: (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى)) تعليل لقوله: "سمي كل واحدٍ منهما زوجاً، وهما زوجان". وقوله: "والدليل عليه"، أي: على أنه يريد الذكر والأنثى؛ كالجمل والناقة، إلى آخره.

وقرئا بفتح العين. وقرأ أُبيّ: "ومن المعزى". وقرئ: "اثنان"، على الابتداء. الهمزة في (آلذَّكَرَيْنِ) للإنكار، والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من المعز، وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما، وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارةً، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطةً تارة، وكانوا يقولون: قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم. (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ): أخبروني بأمرٍ معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرّمتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ الله حرّمه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئا بفتح العين) "المعز" - بفتح العين -: ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والباقون: بإسكانها. قوله: (إنكار أن يحرم الله). قال صاحب "المفتاح": "قل في إنكار نفس الضرب: "أزيداً ضربت أم عمراً؟ "، فإنك إذا أنكرت من يردد الضرب بينهما، تولد منه إنكار الضرب على وجه برهاني. ومنه قوله تعالى: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) ". قوله: "على وجه برهاني"، يعني به: أن الضرب يستلزم محلاً، فإذا نفيت المحل، نفي اللازم، وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ): بل أكنتم شهداء؟ ومعنى الهمزة الإنكار، يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسولٍ وهم يقولون: الله حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم، (لِيُضِلَّ النَّاسَ) وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب. فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذكر المشاهدة على مذهبهم) أي: على ما يؤدي إليه مذهبهم، فإنهم كانوا يقولون: الله حرم هذا. وطريق تصحيح هذه الدعوى أن يقال: إن هؤلاء إنما علموا ذلك إما بأن بعث الله تعالى رسولاً أخبرهم به، أو بأن كانوا مشاهدين يسمعون كلام الله في التحريم. والأول منافٍ لمذهبهم، لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل، فبقي الثاني، وذلك محال؛ فتهكم بهم. قال الزجاج: "قد بين الاحتجاج أنهم لا يدعون بأن نبياً أخبرهم عن الله أن هذا حرام، ولا أنهم شاهدوا الله قد حرم ذلك. أي: هل شاهدتم الله قد حرم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول؟ ثم بين ظلمهم فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، ثم قال: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا)، أعلمهم أن التحليل والتحريم إنما يقبل بالوحي والتنزيل". قوله: (فصل بين بعض المعدود) وهو قوله: (مِّنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ)، (وبعضه)، وهو: (ومِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ ومِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ)، والفاصل: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) الآية.

الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود؛ وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيدٌ وتشديدٌ للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد. [(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ) تنبيهٌ على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس، (مُحَرَّماً): طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غير أجنبي من المعدود) يريد أن قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) لما كان بدلاً من قوله: (حمولةً وفرشاً) على تقدير: أنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح، وكان ذكرها للامتنان على المكلفين، لينتفعوا بها أنواع الانتفاعات، ثم جيء بقوله: (مِّنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ)، تفصيلا لتلك الفذلكة، فصل المعدود بقوله: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) الآية، للاحتجاج على من حرمها، لأن أصل الكلام كان مسوقاً في تحريمهم البحائر والسوائب وما تولد منها، وفي افترائهم على الله، وتضليلهم فيها يدل عليه قولهم: (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا)، وقوله تعالى: (وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ومَا كَانُوا مُهْتَدِينَ). قوله: (طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها ... إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة)،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ظاهر هذا التركيب مشعر بأنه ذهب إلى أن الاستثناء منقطع، كما سيجيء بيانه. وقال أبو البقاء: " (يطعمه) صفة لـ (طاعم)، وقوله: (إلا أن يكون) استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد محرماً إلا الميتة. ويقرأ (يكون) بالياء، و (ميتةً) بالنصب، أي: إلا أن يكون المأكول، أو ذلك. ويقرأ بالتاء، أي: المأكولة". واعلم أن هذا الموضع من المشكلات، فلابد من بسط الكلام فيه؛ فنقول: المستثنى هاهنا مخصص، لأن اسم (يكون) ضمير راجع إلى ما سبق، ومن ثم قال: "الشيء المحرم"، وقد خصص بقوله: (ميتةً)، وما عطف عليها، وقد قيد المستثنى منه بقوله: "من المطاعم التي حرمتموها"، وما هذا شأنه لا يكون متصلاً، فكأنه قيل: لا أجد فيما أوحي إلى من التنزيل، طعاماً محرماً بما قيدتموه، ولكني أجد ذلك الطعام المحرم مقيداً بهذه القيود المذكورة. وينكشف هذا التقرير بما ذكره في قوله تعالى: (إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إلاَّ آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) [الحجر: 58 - 59]. قال: " (إلا آل لوطٍ): لا يخلو من أن يكون استثناءً من (قومٍ)، فيكون منقطعاً، لأن "القوم" موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان، وأن يكون استثناءً من الضمير في (مجرمين) فيكون متصلاً". والنظم والتركيب يساعد الانقطاع، ويأبي الاتصال؛ أما التركيب: فإن قوله: (يطعمه) صفة مؤكدة لـ (طاعم) على نحو: (ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) [الأنعام: 38] فيفيد مزيد التعميم والإحاطة، فإذا استثنى المذكورات، آذن بقصر المحرمات على المذكورات، وليس بذلك؛ فوجب الانقطاع والتخصيص.

(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي: مصبوباً سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح. (أَوْ فِسْقاً) عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق. ومنه قوله تعالى: (وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121]، و (أهل): صفةٌ له منصوبة المحل. ويجوز أن يكون مفعولا له من (أهلّ)، أي: أهلّ لغير الله به فسقاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما النظم: فإن هذه الآيات وردت عقب افترائهم على الله من تحريم ما حرموه، قالوا: (هَذِهِ أَنْعَامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام: 138]، و (هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ومُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [الأنعام: 139]، كأنهم ادعوا أن ما حرموه ليس من عند أنفسهم بل هو من عند الله. فقيل لهم: ليست الأطعمة المحرمة ما وصفتموه، ولكنها ما وصفه الله تعالى، ومن ثم قيل: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، وعقبه بقوله: (قل لا أجد) الآية، ثم ختمها بقوله: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا) [الأنعام: 150]، ثم شرع بعد ذلك فيما حرمه الله تعالى بقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [الأنعام: 150] الآيات. قوله: (وقد رخص في دم العروق بعد الذبح). قال الإمام: "الدم المسفوح: السائل. وعن ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح. وعلى هذا التقدير: لا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم، فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر يرى فيه حمرة الدم، فقال: لا بأس به، إنما نهي عن الدم المسفوح".

فإن قلت: فعلام تعطف (أُهِلَّ)؟ وإلام يرجع الضمير في (بِهِ) على هذا القول؟ قلت: يعطف على (يكون)، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في (يكون). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشافعي رضي الله عنه: "قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم) [البقرة: 173]: بيان لتحريم الدم مطلقاً، فوجب الحكم بحرمة جميع الدماء، ونجاستها، سوى الكبد والطحال، بالحديث، فيجب إزالتها عن اللحم ما أمكن". قال صاحب "الجامع": "أبو مجلز: لا حق بن حميدٍ السدوسي البصري، تابعي، سمع عبد الله بن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك. وسمع منه قتادة، وسليمان التيمي، وعمران ابن حدير". قوله: (فعلام تعطف (أهل)) الفاء: للإنكار؛ يعني: إذا جعل (فسقاً) مفعولاً له، من (أهل) مقدماً على العامل، ينقلب مدخول حرف العطف من الإفراد إلى الجملة، والضمير المجرور بلا عائد ظاهر، إذ تلك الجملة المعطوف عليها، وإلام يرجع الضمير؟ قوله: (يعطف على (يكون)). وقلت: الأول أولى، ليحصل في الكلام الترقي، وليؤذن بأن ما أهل لغير الله أقذر وأخبث من لحم الخنزير، ولذلك علل لحم الخنزير بالرجس، ثم أتبعه ذلك، وسماه أولاً بنفس الفسق، ثم وصفه بما يكشف عن حقيقته، كأن

(فَمَنِ اضْطُرَّ): فمن دعته الضرورة إلى أكل شيءٍ من هذه المحرّمات، (غَيْرَ باغٍ) على مضطر مثله تارك لمواساته، (وَلا عادٍ): متجاوزٍ قدر حاجته من تناوله، (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه. [(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَاسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)]. ذو الظفر: ما له أصبعٌ من دابةٍ أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالاً لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم، فعمّ التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء: 160]. وقوله: (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) كقولك: من زيدٍ أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفسق تفسيره، وبيانه: أنه أهل لغير الله. فعلى هذا ففي تأخير الدم عن الميتة الإشعار بأنه أخبث منه، فيجب أن يحترز منه ما أمكن، كما ذهب إليه الشافعي. قوله: (ذو الظفر: ما له أصبع من دابةٍ أو طائر). قال القاضي: "وقيل: كل ذي مخلبٍ وحافر. وسمي الحافر ظفراً مجازاً". قوله: (تريد بالإضافة زيادة الربط). قيل: الإضافة: لفظ مشترك بين نسبة فعل إلى اسم، أو نسبة اسم إلى اسم، بواسطة حرف ملفوظٍ أو مقدر، والأول يسمى جاراً ومجروراً، والثاني مضافاً ومضافاً إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: والمراد هاهنا إضافة الشحوم إلى الضمير، لأن الظاهر أن يقال: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم، وأخذت من زيد المال، فأضيف لزيادة الربط. وإلى هذا ذهب صاحب "التقريب". وأما بيان نسبة الفعل إلى الاسم فإن الظاهر أن يقال: "أخذت مال زيد" فأنت في قولك: "من زيد أخذت" مجمل، لأن المأخوذ يحتمل أن يكون جميع ما يملك، أو يكون شيئاً دون شيء، وإذا قلت: "ماله"، تعين المال. وقريب منه - من حيث الإجمال والتفصيل - قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح: 1]. هذا، وإن اقتضاه التركيب، لكنه ليس بمعنى هاهنا. وأما الحصر في قوله: "لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة"، فمن تقديم المعمول على العامل، وتخصيصه في الثاني، وتأخيره وتعميمه في الأول. وقال أبو البقاء: " (ومن البقر) معطوف على (كل)، وجعل (حرمنا عليهم شحومهما) تبييناً للمحرم من البقر. ويجوز أن يكون (البقر) متعلقاً بـ (حرمنا) الثانية". وقال صاحب "الكشف": "والتقدير حينئذ: وحرمنا من البقر والغنم عليهم

والمعنى: أنه حرّم عليهم لحم كل ذى ظفرٍ وشحمه وكل شيءٍ منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلا الشحوم الخاصة، وهي الثروب وشحوم الكلى. وقوله: (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) يعني: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة، (أَوِ الْحَوايا) أو اشتمل على الأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الإلية. وقيل (الْحَوايا) عطف على (شحومهما). و (أو) بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شحومهما، فتقف على قوله: (ذي ظفر). فإن حملت (ومن البقر والغنم) على (ذي ظفر) - لأن المعنى: من كل ذي ظفر ومن البقر والغنم - وقفت على قوله: (والغنم). والوجه: الأول". قوله: (وهي الثروب)، الجوهري: "الثروب: شحم قد غشي الكرش والأمعاء، رقيق". و"السحفة" - بفتح السين وسكون الحاء المهملة، والفاء -: "الشحمة التي على الظهر، الملتزقة بالجلد، فيما بين الكتفين إلى الوركين". قوله: (و (أو) بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين). قال الزجاج: "يجوز أن يكون (الحوايا) نسقاً على (شحومهما) لا على الاستثناء. المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فإنه غير محرم، ودخلت (أو) على طريق الإباحة، كما قال: (ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] أي: هؤلاء أهل أن يعصى، فاعص هذا أو اعص هذا، و (أو) بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً، فجائز أن تكون نهيتني عن طاعتهما معاً في حال، فإن أطعت زيداً على حدته،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. لم أكن عصيتك، وإذا قلت: لا تطع زيداً أو عمراً أو خالداً، أي: هؤلاء كلهم أهل ألا يطاع، فلا تطع واحداً منهم، ولا تطع الجماعة، ومثله: "جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي" فليس المعنى أني أمرتك بمجالسة واحد منهم، بل المعنى: كلهم أهل أن يجالس، فإن جالست واحداً منهم فأنت مصيب، وإن جالست الجماعة فأنت مصيب". وقال ابن الحاجب: " (أو) في قوله تعالى: (ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] بمعناها، وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي فيهما: تطيع آثماً أو كفوراً، أي: واحداً منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تطع واحداً منهما، فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي الداخل، بخلاف الإثبات، فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر. فهو معنى دقيق" تم كلامه. وحاصل ذلك أنك إذا عطفت (أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) على (شحومهما) دخلت الثلاث تحت حكم النفي، فيحرم الكل سوى ما استثنى منه، وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى "الشحوم". و (أو) على الأول للإباحة، وعلى الثاني للتنويع. قال أبو البقاء: " (أو): هاهنا لتفصيل مذاهبهم، لاختلاف أماكنها، كقوله تعالى: (وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: 111]، فلما لم يفصل في قوله: (وقالوا) جاء بـ (أو) للتفصيل، إذ كانت موضوعةً لأحد الشيئين".

(ذلِكَ) الجزاء (جَزَيْناهُمْ)، وهو تحريم الطيبات (بِبَغْيِهِمْ) بسبب ظلمهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لأهل طاعته (وَلا يُرَدُّ بَاسُهُ) مع سعة رحمته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قوله: ((وإنا لصادقون) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة)، الثاني صحيح، والأول اعتزال. وأنشد أصحابنا: وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال الإمام: " (وإنا لصادقون): في الإخبار عن بغيهم، وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم". قوله: ((فإن كذبوك) في ذلك)، أي: في "إنا لصادقون فيما أوعدنا به العصاة، لا نخلفه"، وإنما فسره بقوله: "وزعموا أن الله واسع الرحمة"، لوقوع قوله: (فَقُل رَّبُّكُمْ

[(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَاسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ* قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)]. (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إخبار بما سوف يقولونه، ولما قالوه، قال: (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل: 35]، يعنون بكفرهم وتمردهم. أن شركهم وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله، بمشيئة الله وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه، (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: جاءوا بالتكذيب المطلق، لأنّ الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) جواباً لتكذيبهم، فقرر ما قالوه، وزيد عليه: (ولا يُرَدُّ بَاسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ) أي: رحمته، وإن كانت واسعة، لكن لأهل طاعته. وهو من أسلوب القول بالموجب، كما سيجيء بيانه في سورة التوبة في قوله: (ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ) [التوبة: 61]. قوله: (وقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا): الآية في سورة "النحل" [35]. قوله: (ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة). قال القاضي: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) أي: لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء، كقوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. لما فعلنا نحن ولا آباؤنا. أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله، لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم، حتى ينهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة". وقلت: وأما مقتضي النظم: فهو أن الله تعالى من ابتداء قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) [الأنعام: 100]، وقوله: (ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 119] وهلم جراً، إلى آخر الآيات المتعلقة بأمر الأنعام، يحتج عليهم في اتخاذهم شركاء لله من الجن والملائكة، وينعي عليهم سوء صنيعهم في تحريم البحائر والسوائب، ويعلم نبيه صلي الله عليه وسلم طريقة الرد عليهم بقوله: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا) [الأنعام: 145]. وحين لم تجد معهم الآيات والنذر، أخذ يسليه صلي الله عليه وسلم مما قاسي من تكذيبهم، بقوله: (فَإن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [الأنعام: 147] وبقوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إلى قوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، أي: لا تتهاون في الإنذار والاحتجاج، ولا تبال بقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا)، فإنه دأبهم، ودأب من سلف من أمثالهم عند إلزامهم، لأن ديدن المحجوج، إذا لم يبق له حجة يتمسك بهأ، التشبث بأمثال هذا، فإنهم إذا تفكروا في الأمر، ورأوا أن الحجة قد لزمتهم، وتيقنوا بطلان مذهبهم، لابد أن يقولوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا). ونحوه ما روينا عن البخاري ومسلم، عن الحسين بن علي عليهما السلام، أن عليا أخبره: أن النبي صلي الله عليه وسلم طرقه ليلاً وفاطمة، فقال: "ألا تصليان؟ "، قال على: فقلت: يا رسول الله، إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ولم يرجع

والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره، (حَتَّى ذاقُوا بَاسَنا): حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ): من أمرٍ معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا)، وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيئاً. ثم سمعته وهو منصرف يضرب فخذه، ويقول: " (وكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54] ". والحاصل: أن هذه كلمة حق، يريد بها هذا القائل في هذا المقام باطلاً. ويعضد ما ذكرناه، قوله: (هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)، يعني: هذا الذي قلتموه جهل محض، لأنه لازم عليكم، فإن كان لكم حجة أخرى مما يصح الاحتجاج به، فأخرجوها. وقوله: (قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، يعني: أن المحق الصادق الدعوى، كأهل السنة، إذا تمسكوا بهذا الكلام ابتداءً على إظهار الحق، فلله ولهم الحجة البالغة، لعلمهم بذلك، ومن تمسك به لمجرد المماراة والجدال وإبطال الحق، يكون حجةً عليهم، ودليلاً على إفحامهم وعجزهم. ونحوه ما ذكره المصنف في أول "البقرة"، عند قوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ) [البقرة: 23]: "يعني: لا تستشهدوا بالله، ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة الحجة"، وقال: "هذا بيان لتعجيزهم وانقطاعهم". فإذاً، التكذيب واقع في واقعة معينةٍ وحالة مخصوصة، فكيف يقال: "جاؤوا بالتكذيب المطلق"، "وقد كذب التكذيب كله"؟ ! ومراده بالتكذيب المطلق: قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، لأنه يهدم جميع قاعدة التكليف.

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) في قولكم هذا، (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ): تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرئ: "كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" بالتخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إني، بعد استخراج هذه المعاني، وقفت على كلام إمام الحرمين في كتاب "الإرشاد"، قال: "إنهم إنما استوجبوا التوبيخ، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء، وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى، فلما طولبوا بالإسلام، والتزام الأحكام، تعللوا بما احتجوا به على النبيين، وقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه قوله: (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إن تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ)، فكيف لا يكون الأمر كذلك، والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان بالله تعالى والمقرعون بالآية كفرة؟ ! ". قوله: (وقرئ: "كذلك كذب الذين من قبلهم" بالتخفيف). هذه القراءة شاذة، بل كادت أن تكون موضوعة، وابن جني ما ذكرها في "المحتسب"، وردها الإمام أبلغ رد. والقراءة بالتشديد هي المتفق عليها، والاستدلال بها لا بهذه. ولو أريد التفصي منها يقال: إن قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) دفع لداعيهم إلى الإيمان. المعنى: إن الله تعالى لم يشأ منا الإيمان على زعمكم، فامضوا من حيث جئتم منه، واتركونا، فإذا قالوه أجب عنه، وقل: هل عندكم من علم أن الله تعالى أراد منكم الكفر، ولم يرد الإيمان؟ بل هذا الذي تقولونه كذب بحت، لأن مشيئة الله مخفية عن الخلق، ولا يعلم أحد ما قضي له من الكفر والإيمان، ومن ادعى أنه يعلم ما قدره الله تعالى عليه، يكون جاهلاً خارصاً.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) يعني: فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله، فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه. [(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)]. (هَلُمَّ) يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى: هاتوا شهداءكم وقرّبوهم. فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا معنى ما روي عن الحسن أنهم قالوا: إن الله رضي منا ما نحن عليه، وأراده منا، ولو لم يرض منا لحال بيننا وبين ما نحن عليه، ولعالجنا بالعقوبة. قوله: (على قود مذهبكم)، الجوهري: "قدت الفرس وغيره، أقوده قوداً ومقادةً وقيدودةً. وفرس قؤود: سلس منقاد". والقود في الكتاب: بمعنى مفعول. المعنى: فلله الحجة البالغة على ما يقوده مذهبكم، وهو مساواة جميع الملل المخالفة، لأن ما خالف مذهبكم من الملل يجب أن يكون عندكم حقاً، لأنه بمشيئة الله، فيؤدي إلى تصحيح الأديان المتناقضة. هذا تفسير في نهاية من التعسف. والحق ما مر.

قلت: أمره باستحضارهم- وهم شهداء بالباطل-، ليلزمهم الحجة، ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء، لتساوي أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله: (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) يعني: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم، وكان واحداً منهم، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو مُتبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات موحداً لله تعالى. فإن قلت: هلا قيل: قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا؟ وأي: فرقٍ بينه وبين المنزل؟ قلت: المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم، وكان المشهود لهم يقلدونهم، ويثقون بهم، ويعتضدون بشهادتهم، ليهدم ما يقومون به، فيحق الحق ويبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك، وجيء بـ (الذين) للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم، والدليل عليه قوله تعالى: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، ولو قيل: "هلم شهداء يشهدون" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه إذا سلم لهم، فكأنه شهد معهم). تلخيصه: أن قوله: "لا تشهد معهم" أبلغ في النهي من قوله: "ولا تصدقهم"، فهو من باب الكناية، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة. قوله: (والدليل عليه)، أي: على أنهم شهداء معروفون، قوله تعالى: (فَإن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، لأنه لو أريد مطلق الشهداء، لم يقل: (فإن شهدوا)، فإن العاقل لا يشهد بالباطل، ومن يشهد بالحق لا يجوز أن يقال لمن يشهد معه: لا تشهد معه، أي: لا تصدقه.

لكان معناه: هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق، وذلك ليس بالغرض، ويناقضه قوله تعالى: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ). [(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)]. تعال: من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكانٍ عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. و (ما حَرَّمَ) منصوب بفعل التلاوة، أي: أتل الذي حرمه ربكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يقال ذلك إلا في حق من علم بطلان شهادته. وإليه الإشارة بقوله: "ويناقضه قوله تعالى: (فَإن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) ". قال في "الانتصاف": "وجه مناقضته: أن قوله: (هلم شهدآءكم) يفهم منه أن الطالب لذلك ليس على يقين أن ثم شهداء، كما يقول الحاكم: "هات بينةً تشهد لك" من غير أن يتحقق أن ثم بينة، ويكون قوله: "هلم شهداء يشهدون" تحقيقاً أن ثم شهداء". وقلت: بل مثاله أن يقول الحاكم لمن يدعي أن له شهداء، وهو يعرف بأنهم شهداء زورٍ وباطل، فيقول: "هات شهداءك ليشهدوا لك" فإذا شهدوا له، ثم خرجوا، وعرف كذبهم، كان أفحم له من أن يطلب الشهداء مطلقاً. وإليه الإشارة بقوله: "ويلقمهم الحجر".

أو بـ (حرم) بمعنى: أقل أي: شيء حرّم ربكم، لأن التلاوة من القول، و «أن» في (أَلَّا تُشْرِكُوا) مفسرة و «لا» للنهى. فإن قلت: هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت (ألا تشركوا) بدلاً من (ما حَرَّمَ)؟ قلت: وجب أن يكون (َلَّا تُشْرِكُوا) و (لا تَقْرَبُوا) و (لا تَقْتُلُوا) و (لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام: 153] نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)، لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، و (أَوْفُوا)، (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]، (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) [الأنعام: 152]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بـ (حرم) بمعنى: أقل). يريد أن (ما) في قوله: (ما حرم ربكم): إما أن تكون موصولةً أو استفهامية، فإن كان الأول كان مفعولاً لـ: (أتل)، "وأن" في (ألا تشركوا): ناصبة للفعل، و"لا" نافية، والمنصوب - وهو: (ألا تشركوا) - بدل من الهاء المحذوفة. قال أبو البقاء: "أن: مصدرية، وفي موضعها وجهان؛ أحدهما: أنها منصوبة، وفي ذلك وجهان، أحدهما: هي بدل من الهاء المحذوفة، أو من (ما)، و"لا" زائدة؛ أي: حرم ربكم أن تشركوا، والثاني: أنها منصوبة على الإغراء، والعامل فيها: (عليكم)، والوقف على ما قبل (عليكم) أي: الزموا ترك الشرك. والوجه الثاني: أنها مرفوعة، والتقدير: المتلو: هو (ألا تشركوا)، أو المحرم: أن تشركوا، و "لا" زائدة". وإن كان الثاني - أي: "ما" استفهامية - كان (حرم) عاملاً فيها، و "أن" هي المفسرة، و (أتل): في معنى القول، و "لا": للنهي. التقدير: أقل: أي شيء حرم ربكم؛ أي: أقل قولاً فيه تحريم أشياء، وهي: (ألا تشركوا به شيئاً) إلى آخره. قوله: (هلا قلت: هي التي تنصب الفعل؟ ): أي: لم لا تجعل "أن" ناصبة، والمنصوب بدلاً من (ما حرم)؟

فإن قلت: فما تصنع بقوله: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 153] فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على (ألا تشركوا) إذا جعلت "أن" هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت: أجعل قوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام: 153] علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]، بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي إنه مستقيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب عنه أن المانع من ذلك وجوب حمل (ألا تشركوا)، (ولا تقتلوا)، (ولا تقربوا) على أن تكون نواهي، ليحسن عطف "أحسنوا" و (وأوفوا) عليها. ولو جعلت "أن" ناصبة، و "لا" نافية، لزم عطف الطلبي على الخبري، فالواجب أن تجعل "أن" مفسرة، و "لا" ناهية، لتتفق الأوامر مع النواهي. ثم أورد على القول الذي اختاره سؤالين. أحدهما: قوله: "فما تصنع بقوله: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153]؟ ". وأجاب بأن الواو ليست عاطفة، بل هي استئنافية، والجملة معترضة مؤكدة لمضمون الجمل، واللام متعلقة بقوله: (فاتبعوه)، أي: فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، كما قدر في قوله: (وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18]: أي: "فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد، لأنها لله تعالى خاصة". والدليل عليها القراءة بكسر "إن"، لأنها صريحة في العلية.

فإن قلت: إذا جعلت "أَنَّ" مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بـ (ما حرم ربكم)، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرما كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي، فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهنّ جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجعٌ إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله. (مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى: (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء: 31]. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) مثل قوله: (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [الأنعام: 120]، (إِلَّا بِالْحَقِّ) كالقصاص، والقتل على الردّة، والرجم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والسؤال الثاني قوله: "إذا جعلت "أن" مفسرة". وتقديره: أنك إذا جعلت "أن" مفسرةً لفعل التلاوة، لزمك أيضاً محذور، وهو وجوب اشتراك النواهي والأوامر في التحريم، لأن فعل التلاوة معلق بـ (ما حرم)، أي: مفعول له، وأجاب بما أجاب. فتفطن له، فإنه دقيق جداً. قوله: (محرماً كله) بالرفع: إما تأكيد لقوله: "ما بعده"، أو فاعل "محرماً". قوله: (أن التحريم راجع إلى أضدادها). قال صاحب "الفرائد": ومما يشاكل هذا في اعتبار المعطوف عليه من حيث المعنى: قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ) [البقرة: 258]، ثم قوله: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) [البقرة: 259]، وقوله: (وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى) [البقرة: 260]، وقول الشاعر: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا

[(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)]. (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه (بِالْقِسْطِ): بالسوية والعدل، (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها): إلا ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك، لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوّ عنه، (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى): ولو كان المقول له أو عليه في شهادةٍ أو غيرها من أهل قرابة القائل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله: (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء: 135]. [(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)]. وقرئ: (وأن هذا صراطي مستقيماً) بتخفيف «أن» وأصله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: تقدير الآية: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية. وفائدة الاختلاف: أن المنهيات، نحو: الشرك، وقتل الأولاد، وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة، كانت العرب مستقرةً عليها، ولا يستنكفون منها، بل كانوا متدينين بها. وأما إحسان الوالدين، وإيفاء الكيل، والقول الصدق، والوفاء بالعهد، ونحوها فكانوا يفتخرون بالانتساب إليها، ويذكرونها في أشعارهم، فأمروا بإزالة ما كانوا فيه من الرذائل، والثبات على ما كانوا عليه من الفضائل. قوله: (وقرئ: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) بتخفيف "أن"): ابن عامر.

وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش: "وهذا صراطي"، وفي مصحف عبد الله: "هذا صراط ربكم"، وفي مصحف أُبيّ: "وهذا صراط ربك". (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ): الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية وسائر البدع والضلالات، (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ): فتفرقكم أيادي سبأ، (عَنْ سَبِيلِهِ): عن صراط الله المستقيم، وهو دين الإسلام. وقرئ: (فتفرق) بإدغام التاء. وروى أبو وائل عن ابن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطاً ثم قال: هذا سبيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أيادي سبأ) وقع في الكتاب صفة مصدرٍ محذوف، أي: فيفرقكم إتباع السبل تفرقاً مثل تفرق أيادي سبأ، والأيدي: كناية عن الأبناء والأسرة، لأنهم في التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي. الجوهري: "ذهبوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، أي: متفرقين، وهما اسمان جعلا أسماً واحداً". النهاية: "سبأ: اسم مدينة بلقيس باليمن، وقيل: هو اسم رجل ولد عامة قبائل اليمن. وكذا جاء مفسراً في الحديث. وسميت المدينة به". قوله: ("فتفرق بكم" بإدغام التاء): ابن كثير. قال أبو البقاء: " (فتفرق) جواب النهي، والأصل: فتتفرق. و (بكم): في موضع المفعول، أي: فتفرقكم. ويجوز أن يكون حالاً، أي: فتتفرق وأنتم معها". قوله: (عن النبي صلي الله عليه وسلم "أنه خط خطاً"). الحديث: رواه أحمد بن حنبل، والنسائي، والدارمي، مع اختلافٍ يسير.

الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال: "هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا هذه الآية (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب". وقيل: إنهنّ أمّ الكتاب، ومن عمل بهنّ دخل الجنة، ومن تركهنّ دخل النار. وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعبٍ بيده، إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة. فإن قلت: علام عطف قوله: (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام: 154]؟ قلت: على (وَصَّاكُمْ بِهِ). فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بـ (ثم)، والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة، لم تزل توصى بها كل أمّة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "محكمات لم ينسخهنّ شيءٌ من جميع الكتب"، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به، يا بني آدم قديماً وحديثاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذه الآيات محكمات). يعني: من قوله: (قل تعالوا) إلى قوله: (لعلكم تتقون). قوله: (إنهن أم الكتاب)، لأنها جامعة لمعظم ما يجب أن يؤتي به، وما ينبغي أن يتحرز عنه. كما سميت "الفاتحة" بأم القرآن. قوله: (وعن كعب الأحبار). قال صاحب "الجامع": "هو كعب بن ماتع، بكسر التاء، فوقها نقطتان، وبالعين المهملة: من حمير، أدرك زمن النبي صلي الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم في زمن عمر بن الخطاب".

[(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)]. (ثُمَّ) أعظم من ذلك أنَّا (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "الأحبار: هم العلماء. جمع حبر وحبر بالفتح والكسر، والفتح أكثر". قوله: ((ثم) أعظم من ذلك أنا (آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ)). اعلم أنه أوهم في الجواب بقوله: "هذه التوصية قديمة" أن معنى التراخي في (ثم) زماني، وبقوله: "ثم أعظم من ذلك" أنها للتراخي في الرتبة. وذهب القاضي إلى أن "ثم" للتفاوت في الرتبة. وما يفهم من كلام الزجاج أنها للتراخي في الزمان، لكن بحسب الإخبار والتلاوة. قال: "أدخلت (ثم) في العطف على معنى التلاوة. المعنى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسي". وقلت: يمكن الجمع بينهما، إذ لا منافاة بين الاعتبارين، وذلك أن قوله: (ثُمًّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ)، وقوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ) [الأنعام: 155] من جملة ما وصاه الله تعالى قديماً وحديثاً، ويكون قوله: (ذلكم وصاكم) مشاراً به إلى جميع ما ذكر من أول هذه السورة، لاسيما هذه المنهيات المختتمة بقوله: (وأن هذا صراطي). فالعطف على طريقة: (ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ) [البقرة: 98] لشرفهما على سائر وصاه الله، وأنزل فيه كتاباً،

وقيل: هو معطوفٌ على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الأنعام: 84]. (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ): تماماً للكرامة والنعمة، (على الذي أحسن)، على من كان محسناً صالحاً، يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: "على الذين أحسنوا"، أو أراد به موسى عليه السلام، أي: تتمةً للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من: أحسن الشيء؛ إذا أجاد معرفته، أي: زيادةً على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر: "على الذي أحسن" بالرفع، أي: على الذي هو أحسن، بحذف المبتدأ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فحصل التراخي بحسب الزمان، وبحسب الرتبة أيضاً، ثم ربي معنى التعظيم بالالتفات من الغيبة إلى التكلم، وإيثار ضمير الجمع المؤذن بالتعظيم. قوله: (وقيل: هو معطوف على ما تقدم). فعلى هذا (ثم) للتراخي بحسب الزمان، وهو متعسف. قوله: (أي: على الذي هو أحسن، بحذف المبتدأ). فعلى هذا الصلة والموصول صفة موصوفٍ محذوف، وهو: "الدين"، والعائد محذوف. قال ابن جني: "هذا مستضعف لحذف المبتدأ العائد على (الذي)، وذلك إنما يحذف في نحو: "مررت بالذي ضربت" أي: ضربته، لأن من المفعول بداً، وطال الاسم بصلته، وليس المبتدأ بفضلة، فيحذف تخفيفاً، لاسيما وهو عائد إلى الموصول، وقد جاء نحوه عنهم. حكي سيبويه عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً وسوءاً". و"أحسن" على هذا على التفضيل.

كقراءة من قرأ: "مَثَلًا ما بَعُوضَةً" [البقرة: 26] بالرفع، أي: على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماماً- أي: تامّاً كاملاً- على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي: على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتمَّ له الكتاب على أحسنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو آتينا موسى الكتاب تماماً): عطف على قوله: "تماماً للكرامة". فعلى الوجوه: الأول: (تماماً): مفعول له. قال الزجاج: "وكذلك (تفصيلاً)، أي: إتيانه للتمام والتفصيل". وعلى الثاني: حال من (الكتاب). ثم التعريف في (الذي أحسن): إما للجنس أو للعهد. فعلى الجنس يوافق معناه قوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 1 - 2]. وإليه الإشارة بقوله: "على من كان محسناً صالحاً، يريد جنس المحسنين". وعلى العهد: (أحسن) إما بمعنى الإحسان في الطاعة، والامتثال بجميع ما أمر به، كقوله تعالى: (وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [البقرة: 195]، أو بمعنى الجودة في العمل والإتقان فيه. قال الله تعالى في سورة يوسف: (من المحسنين) [يوسف: 36]: "من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، ويجيدونها، أو من المحسنين إلى أهل السجن". وفي هذا الوجه من المبالغة ما ليس في الأول، لأن الإحسان على الأول نفس الطاعة، وفي هذا زيادة عليها. ومن ثم قال: "أي: زيادة على علمه وجه التتميم". والتتميم على هذا للاستيعاب، وعلى الأول بمعنى التكميل.

[(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)]. (أَنْ تَقُولُوا): كراهة أن تقولوا، (عَلى طائِفَتَيْنِ): يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل (وَإِنْ كُنَّا) هي "إن" المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن، (عَنْ دِراسَتِهِمْ): عن قراءتهم، أي: لم نعرف مثل دراستهم. (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كراهة أن تقولوا). قال الزجاج: "قال بعضهم: معناه: أنزلناه لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على الطائفتين، أي: أنزلناه لتنقطع حجتكم، وإن كانت الحجة لله. وقال البصريون: معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا. ولا يجيزون إضمار "لا". فالمعنى: هذا كتاب أنزلناه إلى العرب، لئلا يحتجوا فيقولوا: إنما أنزل على اليهود والنصارى الكتاب، وما أنزل إلينا كتاب". قوله: (مثل دراستهم)، أي: مثل قراءتهم. أي: لم يكن على لغتنا، فلم نقدر على قراءته مثل ما قدروا عليها. قوله: (وثقابة أفهامنا)، النهاية: "ومنه قول الحجاج لابن عباس: "إن كان لمثقباً" أي: ثاقب العلم مضيئه. والمثقب - بكسر الميم -: "العالم الفطن"". ويروى: "ثقافة"، بالفاء.

وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها، وخطبها وأشعارها، وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرئ: "أن يقولوا"، "أو يقولوا"، بالياء. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تبكيتٌ لهم، وهو على قراءة من قرأ "يقولوا" على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينةٌ من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ) بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك (وَصَدَفَ عَنْها) الناس، فضلّ وأضلّ، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) كقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل: 88]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: (وهو غلام ثقف: كـ"قضبٍ"، أي: ذو فطنة وذكاء". قوله: (ووقائعها): عطف تفسيري لقوله: "أيام العرب". قوله: ((فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ): تبكيت لهم). فالفاء: جزاء شرطٍ محذوف. نحوه قول الشاعر: قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا أي: إن صح ما قلتم: إن خراسان المقصد، فقد جئناه، وأين الخلاص؟ ولهذا قدر: "إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم، فقد جاءكم بينة من ربكم". وقد حققنا القول فيه في "الحجرات". قوله: (على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات) لأنه من مجازه، فإنه تعالى لما خاطبهم بقوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) الآية، ثم قال على الغيبة: (أَن تَقُولُوا

[(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)]. (الْمَلائِكَةُ): ملائكة الموت، أو العذاب (أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ): أو يأتي كل آيات ربك، بدليل قوله (أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ). يريد آيات القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات: أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنَّمَا أُنزِلَ) الآية، (لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ)، جعلهم بعداء، أي: أنزلنا [الكتاب إليكم] لئلا يقول أولئك البعداء المتصلفون: (لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ). ولما عاد إلى ذكر المنزل عليهم، خاطبهم تبكيتاً وإلزاماً؛ أي: أنتم أولئك الذين تصلفتم، وقلتم: كيت وكيت! فقد جاء مطلوبكم، فأين مقتضي قولكم؟ وساعد عليه حذف الشرط. يعني: لم يثبت عنكم مجيء ما طالبتموه، مع بلوغه أقصى غاياته، وهو كونه بينةً ظاهرة من خالقطم ومالككم، وهادياً إلى طريق مستقيم، ورحمةً من الله، كثير البركات. ومن ثم قال: "وهو من أحاسن الحذوف". وقد سمى مثل هذه الفاء في سورة "الحجرات": فاء فصيحة، وإن كانت جزائية، لدلالتها على السرعة، كما في قوله تعالى: (اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ) [البقرة: 60]. قوله: (أشرط الساعة كطلوع الشمس). روينا عن أحمد بن حنبل، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "ثلاث إذا خرجن لا

وعن البراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تتذاكرون"؟ فقلنا: نتذاكر الساعة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض". وعند هذا البيان، أمر الله تعالى حبيبه صلوات الله عليه أولاً بأن يقول لهم: انتظروا ذلك الموعود، إني معكم من المنتظرين، إقناطاً له عن إيمانهم. ثم ثنى بما ينبئ عن الإعراض عنهم، بقوله: (إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159]. وثلث بالإقبال على من ينجع فيه الإنذار والوعظ، بقوله: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160]. وربع بما يسليه من خاصة نفسه بقوله: (قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 161]. وخمس بخاتمةٍ شريفةٍ مطابقة لما بدئت السورة به من المقاصد، وهي قوله: (قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 - 163]. فإن الفاتحة فتحت بذكر بدء النشأة الأولي، لبيان إثبات التوحيد، ونفي الشرك، والخاتمة بذكر بدء النشأة الأخرى، والأمر بالإخلاص، ونفي الشرك. فسبحانه ما أعظم شأنه! وما أعجز بيانه قوله: (وعن البراء بن عازب). الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي، عن حذيفة

قال: "إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطُلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن". (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة لقوله: (نفساً)، وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على (آمنت). والمعنى: أنّ أشراط الساعة إذا جاءت - وهي آيات ملجئة مضطرّة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدّمةٍ إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة خيراً في إيمانها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن أسيد الغفاري. وفي موضع: "نار تخرج من عدن". وآخر ذلك: "نار تطرد الناس إلى محشرهم". قوله: (بجزيرة العرب)، النهاية: "قال أبو عبيد: هو اسم صقعٍ من الأرض، وهو ما بين حفر أبي موسي الأشعري، إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض. قال الأزهري: سميت جزيرةً لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بجانبها الشمالي دجلة والفرات".

فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة: 25] جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وعيد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلم يفرق - كما ترى - بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقتها، ولم تكسب خيراً)، قال في "الانتصاف": "يروم الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء، حيث سوي في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات. ولا يتم ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يلقب باللف. وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً - لم تكن مؤمنة قبل - إيمانها بعد، ولا نفساً - لم تكسب في إيمانها خيراً قبل - ما تكسبه من الخير بعد، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق، فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم في إسلامه". وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "الإيمان قبل مجيء الآيات نافع، وإن لم يكن عمل صالح غيره. ومعنى الآية: لا ينفع نفساً إيمانها، ولا كسبها، وهو العمل الصالح، لم تكن آمنت قبل الآية، أو كان العمل الصالح لا مع الإيمان قبلها، فاختصر للعلم به".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لم تكن) صفة لـ (نفساً)، وإن وقع الفصل، لأن المعنى على التأخير، لأن: (إيمانها) فاعل (لا ينفع)، وكان الواجب: لا ينفع إيمان نفسٍ نفساً لم تكن آمنت من قبل، فلما أوجب الضمير التقديم ليعود إلى النفس، بقيت الصفة في محلها. وقال صاحب "التقريب": "وقد ثبت أن "من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة" فلنؤول الآية بأن (أو) بمعنى الواو، كـ"جالس الحسن أو ابن سيرين". أي: إذا انتفيا لم ينفع وجودهما حال ظهور الأشراط، أو لا ينفع نفعاً منجياً من دخول النار، بل من الخلود، أو لا ينفع من لا يؤمن إيمانها، ولا من لم يكسب كسبها، فحذف لدلالة الكلام عليه. أو الإيمان: هو الاعتقاد، والكسب: هو العمل، والقول اللساني عمل وكسب. فالمراد بمن لم يكسب: من لم يتلفظ بالشهادتين، ونقول بشقاوته، أو نقول: ظاهر اللفظ أن عند انتفاء أحد الأمرين من الإيمان والكسب، ينتفي النفع، فلا يجزم بانتفاء النفع إلا بالجزم بانتفاء أحد الأمرين، ولا يجزم بانتفاء أحد الأمرين إلا عند انتفائهما جميعاً. فإذا انتفيا جميعاً فلا نزاع في أنه لا ينفع قطعاً، وأما إذا انتفي أحدهما دون الآخر، فهو محل الاحتمال. فلا يتم الاستدلال".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي رحمه الله: " (أو كسبت): عطف على (آمنت). والمعنى: لا ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمةٍ إيمانها، أو مقدمةً إيمانها غير كاسبةٍ في إيمانها خيراً. وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل، وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذاك اليوم. وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين، على معنى لا ينفع نفساً خلت عنها إيمانها، والعطف على (لم تكن) بمعنى: لا ينفع نفساً إيمانها الذي أحدثته حينئذ، وإن كسبت فيه خيراً قبل ذلك". وقال الإمام: "المعنى: أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أو أن التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك". وقلت - والعلم عند الله -: والذي يقتضيه البلاغة والنظم الفائق، ويستدعيه مقام الحث على الاعتصام بحبل الله المجيد، والقرآن الكريم، والحض على الاهتداء بهديه، بقدر الوسع والإمكان، والاغتنام بالفرصة قبل فوات الأوان، ما عليه كلام ابن الحاجب، وصاحب "الانتصاف" مع تغيير يسير. وبيانه: أنه تعالى لما خاطب المعاندين المكذبين من قوم رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155]. وعلل الإنزال بقوله: (أَن تَقُولُوا إنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا) [الأنعام: 156]، وبقوله: (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) [الأنعام: 157]، إزاحةً للعذر، وإلزاماً للحجة - كر إلى قوله: (فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وهُدًى ورَحْمَةٌ) [الأنعام: 157] تبكيتاً لهم، وتقريراً لما سبق من طلب الاتباع والتقوى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: أنزلنا هذا الكتاب المبارك الكاشف لكل ريب، والهادي إلى طريقٍ مستقيم، والرحمة من الله للخلق ليجعلوه زاداً لمسيرهم إلى الله، في يومٍ لا ينفع فيه شيء سوى ما قدموه من الإيمان، والعمل الصالح، فجعلوا شكر تلك النعمة الخطيرة الجليلة، أن كذبوا بها، ومنعوا الناس عن الانتفاع بها: فضلوا وأضلوا، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]. يعني: ما ينتظر هؤلاء الضالون المضلون بما يفعلون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا، بنزول الملائكة، أو عقابٍ من الله تعالى يستأصل شأفتهم، كما فعل بالمكذبين من الأمم السالفة، أو يأتي عذاب الآخرة وبأسها، بأن يأتي بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة، فلا ينفعهم شيء قط مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان، أو العمل الصالح مع الإيمان. فكأنه قيل: (يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا) أو كسبها في إيمانها حينئذ، (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا) من قبل. ففي الآية لف، لكن حذف إحدى القرنتين بإعانة النشر عليه، كما في قوله تعالى: (ومَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا) [النساء: 172] على ما مر بيانه في موضعه. هذا الذي عناه صاحب "الانتصاف" بقوله: "هذا الكلام يلقب باللف".

وقرئ: أن يأتيهم الملائكة، بالياء والتاء، وقرأ ابن سيرين: لا تنفع، بالتاء، لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك: ذهبت بعض أصابعه. [(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)]. (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة» وقيل: (فرّقوا دينهم) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن فواضل نعم الله المتكاثرة، وسوابغ آلائه المتتابعة، العثور بعد هذا التقرير - معنى ولفظاً، من غير إفراطٍ وتقتير - على قوله تعالى: (ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف: 52 - 53]. فوازن معه، لنقف على صنع الملك العلام، ما نقر معه بالتحدث والإلهام، فنقول: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 43]، ونستعيذ من أن نتلفظ بمثل (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) [الأعراف: 53]. وظهر منه أن الإيمان المجرد - قبل كشف قوارع الساعة - نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع، وأما بعدها فلا ينفع شيء قط. قوله: (افترقت اليهود) الحديث: من رواية عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملةً، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة، كلهم في النار،

وقرئ: "فارقوا دينهم"، أي: تركوه (وَكانُوا شِيَعاً): فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها، (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. [(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)]. (عَشْرُ أَمْثالِها) على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره: عشر حسنات أمثالها، وقرئ: "عشر أمثالها"، برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد وعد بالواحد سبع مئة، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ): لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم. [(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا ملةً واحدةً. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، أخرجه الترمذي. قوله: (ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل). قال الزجاج: "معنى الآية غامض، لأن المجازاة من الله تعالى على الحسنة بدخول الجنة شيء لا يبلغ وصف مقداره. فإذا قال: (عشر أمثالها)، أو سبعمئة، أو أضعافاً كثيرة، فمعناه أن جزاء الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد، الذي هو النهاية في التقدير وفي النفوس". قلت: فعلى هذا لا يتصور في الحسنات إلا الفضل.

(دِيناً) نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ مستقيمٍ)، لأنّ معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح: 2]، والقيم: فيعل، من قام، كسيدٍ من: ساد، وهو أبلغ من القائم. وقرئ: (قيماً). والقيم: مصدر بمعنى: القيام وصف به. و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان. و (حَنِيفاً) حال من (إبراهيم). [(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)]. (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) وعبادتي وتقرّبى كله. وقيل: وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وقيل: صلاتي وحجي من مناسك الحج، (وَمَحْيايَ وَمَماتِي): وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خالصة لوجهه، (وَبِذلِكَ) من الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (قيماً)) بكسر القاف وفتح الياء مخففة: الكوفيون، والباقون: بفتح القاف وكسر الياء مشددة. قوله: (ملة إبراهيم): عطف بيان)، يريد أن الدين القيم هو ملة إبراهيم بعينه. قال الراغب: "الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله تعالى على لسان الأنبياء عليهم السلام ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى. والفرق بينها وبين الدين: أن الملة لا تضاف إلا للنبي الذي تسند إليه، نحو: (فاتبعوا ملة إبراهيم) [آل عمران: 95] ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي صلي الله عليه وسلم، ولا تستعمل إلا في حملة الشرائع، وأصلها من: أمللت الكتاب".

[(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)]. (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أي: منكر أن أبغي ربا غيره (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فكل من دونه مربوب، ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر: 64]، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) جواب عن قولهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت: 12]. [(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فحلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً، أو هم خلفاء الله في أرضه، يملكونها ويتصرفون فيها. (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الشرف والرزق، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة؟ وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغني بالفقير؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمته ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أغير الله أبغي ربا): جواب عن دعائهم له)، لأن كل تقديم إما للاهتمام، أو جواب إنكار، وكذا ما فيه أداة الحصر. ولهذا قال: " (ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا): جواب عن قولهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا) [العنكبوت: 12] ".

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن قام يشكرها. ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملكٍ لهم زجلٌ بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ الأنعام صلى الله عليه، واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن ما هو آتٍ قريب) أي: الموعود سريع الوصول، فإن سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعيد. تمت السورة بعون الله وحسن توفيقه، والله أعلم. * * *

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية، غير ثمان آيات: (واسئلهم عن القرية) [163] إلى: (وإذ نتقنا الجبل) [171] وهي مائتان وست آيات [(المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)]. (كِتابٌ) خبر مبتدأٍ محذوف، أي: هو كتاب. و (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة له. والمراد بالكتاب: السورة، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي: شك منه، كقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وسمي الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأعراف مكية غير ثمان آيات: (واسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ) إلى (وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ) وهي مئتان وأربع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (لأن الشاك ضيق الصدر)، أي: الحرج لضيق الشك ولازمه، فأطلق الحرج،

كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أي: لا تشك في أنه منزلٌ من الله، أو (حرج) من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّته الله ونهاه عن المبالاة بهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأريد الشك، فيكون كناية. قوله: (أو (حرج) من تبليغه). فعلى هذا "الحرج" في موضعه على ظاهره، والمضاف محذوف. ويمكن أن يكون كناية عن الخوف، لأن الخائف أيضاً غير منشرح الصدر. يشهد للأول: "وكان يضيق صدره من الأداء"، وللثاني: "فأمنه الله". قال الزجاج: معناه: لا يضق صدرك بالإبلاغ، ولا تخافن، يروى أنه صلي الله عليه وسلم قال: "أخاف أن يثلغوا رأسي". وقلت: الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل ومسلم، عن عياض المجاشعي، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "قال الله تعالى: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريضاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً. قال: استخرجهم كما استخرجزك، واغزهم نغزك، وأنفق، فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" الحديث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يغسله الماء": إما عبارة عن أن يكون محفوظاً في الصدور، غير متكل مما في المصاحف، كما جاء في الحديث: "أنا جيلهم في صدورهم"، يؤيده قوله: "تقرؤه نائماً ويقظان". أو عبارة عن ثباته وبقائه، وأنه يغلب ولا يغلب، ويعلو ولا يعلى. الثلغ: الشدخ. قال القاضي: "الفاء في (فلا يكن) تحتمل العطف والجواب، فكأنه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به، فلا يحرج صدرك". وقلت: إن الفاء آذنت بترتيب النهي على كون الكتاب منزلاً - وتقريره على "الشك" - أن يقال: إذا حققت أن الكتاب منزل من عند الله، فلا ينبغي أن تشك فيه، لأن اليقين والشك لا يجتمعان. فالنهي من باب التهييج والإلهاب، ليداوم على اليقين، ويزيد فيه، كقوله تعالى: (فَإن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا) [يونس: 94]، وقوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [البقرة: 147]. وعلى نفي الضيق والحرج أن يقال: إن (المص) إما وارد على قرع العصا لمن تحدي بالقرآن وبغرابة نظمه، أو هو تقدمة لدلائل الإعجاز. والمعنى: (المص) هو كتاب منزل من عند الله، بالغ حد الإعجاز، فكن منشرح الصدر، فسيح البال، قوي الجأش، ولا تبال بهم، وأنذرهم به، فإن لك الغلبة والسلطان، وهم مقهورون. وإليه الإشارة بقوله: "ونهاه عن المبالاة بهم". فالنهي من باب التشجيع. هذا هو الوجه معنى ونظماً كما سيجيء.

فإن قلت: بم تعلق قوله (لِتُنْذِرَ)؟ قلت: بـ (أنزل)، أي: أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار، لأن صاحب اليقين جسورٌ متوكل على ربه، متكل على عصمته. فإن قلت: فما محل "ذكرى"؟ قلت: يحتمل الحركات الثلاث. والنصب بإضمار فعلها، كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيراً، لأن "الذكرى" اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفاً على (كتاب)، أو بأنه خبر مبتدأٍ محذوف. والجر للعطف على محل "أن تنذر"، أي: للإنذار وللذكرى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذلك إذا أيقن): تعليل لتعلق (لتنذر) بالنهي على تأويل الحرج بالشك. قوله: (متكل على عصمته)، التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على الغير. قوله: (النصب بإضمار فعلها). روي عن المصنف أنه قال: "لم أزعم معطوفاً على محل (لتنذر)، لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً حتى يجوز حذف اللام منه". قوله: (أو بأنه خبر مبتدأ محذوف). قال الزجاج: "التقدير: هو ذكرى للمؤمنين. كقولك: هو ذكر للمؤمنين". تم كلامه. فإذا قلت: ما الفرق بينه إذا كان عطفاً على (كتب) وبينه إذا كان خبر مبتدأ محذوف؟ قلت: المعنى على الأول: هو جامع بين كونه كتاباً وكونه ذكرى للمؤمنين أنذر به. وعلى الثاني: عطف جملةٍ على جملة، أي: هو كتاب منزل من عند الله، لإنذار الكافرين،

فإن قلت: النهي في قوله (فَلا يَكُنْ) متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم: لا أرينك هاهنا. [(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)]. (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن والسنة، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ): من دون الله (أَوْلِياءَ) أي: ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو ذكرى للمؤمنين، وبشارة لهم، فيكون كل من الوصفين مستقلين بنفسهما، والتركيبان مستبدين برأسهما. وهذا يؤيد الوجه الثاني في تفسير الحرج، فيكون من إرادة التبليغ والتحدي، فتكون الآية على وزان قوله تعالى: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) إلى قوله: (فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) إلى قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: 23 - 25] كما سبق تقريره في موضعه. قوله: (هو من قولهم: لا أرينك هاهنا). أي: هو من الكناية، ظاهره يقتضي أن المتكلم ينهي نفسه عن أن يرى المخاطب هناك، والمراد نهي المخاطب، أي: لا تكن هاهنا حتى لا أراك فيه، فإن كينونتك هاهنا مستلزمة لرؤيتي إياك. المعنى: أن الحرج لو كان مما ينهي لنهيناه عنك، فانته عنه بترك التعرض له. قوله: ((اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم) من القرآن والسنة). أمر الله سبحانه وتعالى الأمة بمتابعة جميع ما أنزل إليهم، بعدما نهى حبيبه عن ضيق الصدر، بتبليغ ما أوحي إليه، ليكون أدعى لانشراح الصدر.

ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه. وعن الحسن: "يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والله ما نزلت آيةٌ إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها؟ ". وقرأ مالك بن دينار: "ولا تبتغوا"، من الابتغاء، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران: 85]. ويجوز أن يكون الضمير في (مِنْ دُونِهِ) لـ (ما أنزل)، على: ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء. (قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: " (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم) أي: القرآن، وما أتي عن النبي صلي الله عليه وسلم لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى: (ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7] ". قوله: (ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم أنزلت وما معناها؟ ). يعن: ما أنزل الله آية إلا لأن تتبع، حتى يعلم معناها، ويعمل بمقتضاها. روينا عن الدارمي، عن ابن مسعود: "ليس من مؤدبٍ إلا وهو يحب أن يرتى أدبه، وإن أدب الله القرآن". قوله: ((قليلا ما تذكرون) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره). تخصيص الذكر بقوله: "تتركون دين الله" يوهم أن هذه الفاصلة متعلقة بالتفسير الثاني: يعني أن الضمير في (من دونه) لما أنزل الله تعالى، لقوله: "ولا تتبعوا من دون دين الله أولياء" لكنها

وقرئ: (تذكرون) بحذف التاء، (ويتذكرون)، بالياء. و (قَلِيلًا): نصب بـ (تذكرون)، أي: تذكرون تذكراً قليلاً. وما مزيدة لتوكيد القلة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تذييل على التفسيرين، لأن معنى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ): هو دين الله. وعقب بقوله: (ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). فيرجع معناه - على تقدير أن يكون الضمير لله أيضاً - إلى دين الله. ويؤيده قوله: "ويضلوكم عن دين الله"، فيكون في قوله: (اتبعوا)، وتوكيده بقوله: (ولا تتبعوا) دلالة على التقريع على توانيهم وتقاعدهم عن متابعة دين الله إلى إتباع غيره، فجيء بقوله: (قليلاً ما تذكرون) توكيداً لذلك. ثم أتبعه قوله: (وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) [الأعراف: 4] يعني: إن كان مواعظ الله لا تنجع فيكم، فاعتبروا بأحوال الأمم السالفة، الذين ظلموا أنبياءهم، وانظروا كم أهلكنا؟ فعلى هذا قوله: و (اتبعوا) شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: (لتنذر) أي: كيف أنذرهم؟ فقيل: قل اتبعوا وانظروا. قوله: (و "يتذكرون" بالياء): ابن عامر، والباقون: بغير ياء. قال الزجاج: " (تذكرون): أصله: تتذكرون، حذفت التاء الثانية لا الأولي، فإنها تدل على الاستقبال، فلا يجوز حذفها. والثانية إنما دخلت على معنى: فعلت الشيء على تمهل، نحو: تفهمت الشيء وتعلمت، أي: أخذت الشيء على مهل، وعلى معنى إظهار الشيء والحقيقة غيره، نحو: تقيست، أي: أظهرت أني قيسي. والمحذوف التاء الثانية، لأن الباقي في الكلمة من تشديد العين يدل على المعنى، ولو حذفت الأولى لبطل معنى الاستقبال". قوله: (و (ما) مزيدة لتوكيد القلة) فيؤذن بالعدم، كقوله:

[(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَاسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)]. (فَجاءَها): فجاء أهلها (بَياتاً) مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، بمعنى بائتين. يقال: بات بياتاً حسناً، وبيتةً حسنة، وقوله: (هُمْ قائِلُونَ) حالٌ معطوفةٌ على (بياتا)، كأنه قيل: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين. فإن قلت: هل يقدر حذف المضاف الذي هو "الأهل" قبل (قَرْيَةٍ) أو قبل الضمير في (أَهْلَكْناها)؟ قلت: إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قليل التشكي ... البيت. وقال القاضي: "أو: زماناً قليلاً تذكرون. وإن جعلت (ما) مصدريةً لم ينتصب (قليلاً) بـ (تذكرون) " وقال أبو البقاء: "لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية، لأن (قليلاً) لا يبقى له ناصب".

فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها، وإنما قدّرناه قبل الضمير في (فَجاءَها) لقوله: (أَوْ هُمْ قائِلُونَ). فإن قلت: لا يقال: جاءني زيدٌ هو فارسٌ، بغير واو، فما بال قوله (هُمْ قائِلُونَ)؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال: لو قلت: جاءني زيدٌ راجلاً، أو هو فارس. أو جاءني زيدٌ هو فارسٌ، لم يحتج فيه إلى "واو"، لأن الذكر قد عاد على الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن القرية تهلك كما يهلك أهلها). يعني: أن الهلاك كما يطلق على الحيوان حقيقة، كذا يطلق على الجماد. الجوهري: "هلك الشيء يهلك هلاكاً وهلوكاً ومهلكاً وتهلكةً"، قال الله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ) [القصص: 88]. قوله: (وإنما قدرناه قبل الضمير في (فجآءها)) يعني: إنما يقدر المضاف ضرورة طلب الراجع، ولولاه لكان لنا مندوحة عن التقدير، لصحة إطلاق الهلاك على القرية نفسها. قال صاحب "الفرائد": "إرادة الحقيقة مانعة من إرادة المجاز، وهو "الأهل" هاهنا. فإن كان المراد من ذكر القرية هنا الأهل بدليل قوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) امتنع أن يكون مفهوم القرية مراداً، وأن يكون داخلاً في الإرادة". والجواب: إرادة الحقيقة والمجاز إنما تلزم إذا أريد بالقرية أهلها ونفسها معاً، وليس بذاك، فإنا نقدر المضاف في الثاني لا في الأول. فعلى هذا توجه الإهلاك إلى الأهل أصالةً، ليستلزم إهلاك القرية على الكناية. فكأنه قيل: وكم من قريةٍ أردنا إهلاكها، فأهلكنا أهلها

لاجتماع حرفي عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيدٌ راجلاً أو هو فارس، كلامٌ فصيحٌ واردٌ على حدّه، وأمّا جاءني زيدٌ هو فارسٌ، فخبيث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لتبقى معطلةً خاوية على عروشها، لتكون عبرةً لمن بعدها. فالضمير في (أهلكنها) وفي (فجآءها) راجع إلى "القرية"، وفي "أولهم" راجع إلى الأهل المقدر في (فجآءها). قال ابن الحاجب: "وفي الضمائر على "القرية" وجهان؛ أحدهما: أنك أقمته مقام المحذوف، فصارت المعاملة معه"، يعني: أن الضمائر الثلاثة راجعة إلى "القرية" تارة باعتبار لفظها، وأخرى باعتبار المحذوف. "وثانيهما: أن يقدر في الثاني حذف المضاف، كما قدر في الأول"، أي: وكم من قريةٍ أهلكنا أهلها، فجاء أهلها (بَاسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ). قوله: (وأما: "جاءني زيد هو فارس" فخبيث)، قال صاحب "الفرائد": فيه نظر، لأنه يشكل بقوله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة: 36]، والجملة حال بدون الواو. وإنما صح ذلك لمكان العائد، وقد حصل به الارتباط المطلوب بالواو. فعلى هذا لا وجه لما ذكر أن الحال المعطوفة على الحال صحت بدون الواو لاستثقال حرفي العطف، وأن الحال التي لم يعطف عليها لم تصح بدون الواو، فلم يمتنع صحة قولنا: "جاءني زيد هو فارس" - لتحقيق العائد". والجواب أن المصنف قابل قوله: "خبيث" بقوله: "فصيح"، فلا يلزم منه الامتناع، بل عدم الفصاحة.

فإن قلت: فما معنى قوله: (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَاسُنا بيتاً)، والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت: معناه أردنا إهلاكها، كقوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة: 6]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "المفتاح": "الأصل في غير الحال المؤكدة أن يكون وصفاً غير ثابت من الصفات الجارية، وكالجملة الفعلية. وأما الاسمية فالوجه الواو، لأنها دالة على الثبوت، إلا صوراً معدودة". وأما قوله: تعالى: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فعلى تأويل متعاديين يعديهما إبليس ويعاديانه، كما قال ابن الحاجب: (معنى قولهم: كلمته فوه إلى في: كلمته مشافهاً. والوجه أنه لما كثر استعماله حتى علم منه معنى المشافهة، من غير نظرٍ إلى التفصيل؛ حتى يفهم ذلك من لا يخطر بباله فاه المتكلم، ولا فاه [غير] المتكلم، ولا مدلول الحال، فصار كالمفردات". فعلم أن التأويل إنما يصح في جملة يمكن أن ينتزع من طرفي الجملة هيئة تدل على معنى مفرد، ولا كذلك: جاءني زيد هو فارس. فعلى هذا معنى قوله: "حذفت الواو استثقالاً" أن الواو المحذوفة مرادة، لأن الذكر وحده غير رابط، ولولا الاستثقال لم يجز حذفها. الانتصاف: "الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالاً ضعيف، والأفصح دخول الواو، كما اختاره الزمخشري، ولكن في قوله: "إن واو الحال واو عطف" نظر، فإنها امتازت بدخولها على جملة اسميةٍ بعد جملة فعلية. تقول: جاءني زيد وهو راكب. ويقبح ذلك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في العاطفة، فلامتيازها يصح اجتماعها معها، وإن كان معنى العطف فيها. ولهذا لم يقبح دخولها كما يقبح الجمع بين حرفي عطف، فنقول: سبح الله وأنت راكع، أو: وأنت ساجد. والتحقيق أن المصحح لوقوع الجملة المعطوفة على الحال حالاً [من غير واو] هو العطف المقتضي للمشاركة، واستغني به عن واو الحال، كما تعطف على المقسم به، فتدخله في حكم القسم من غير حرف قسم في مثل: (وَالضُّحَى * واللَّيْلِ) [الضحى: 1 - 2]، ولو قلت في غير التلاوة: "وبالليل" لصح. والحاصل أنه لو جاءت واو الحال مع العاطف لم يكن مستكرهاً، بل مؤكداً، وإن لم تأت بها كان فصيحاً مختصراً". قال في "الإنصاف": "تنظيره بالقسم فاسد، لأن حرف القسم لا يشارك حرف العطف في معناه، بخلاف واو الحال. والعلة التي علل بها مفقودة في القسم". وقلت: الجواب عن "الانتصاف" أن قول المصنف: "واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصول" صريح في أن واو الحال غير العاطفة الصرفة. وكذا قوله: "استثقالاً" ليس غير ما قال: "وإن لم تأت بها لكان فصيحاً مختصراً". وتحقيق ذلك ما قال صاحب "المفتاح": "وحق النوعين - أي: الحال بالإطلاق والحال المؤكدة - ألا يدخلهما الواو، نظراً إلى إعرابهما الذي ليس بتبع، لأن هذه الواو، وإن كنا

وإنما خُصّ هذان الوقتان - وقت البيات ووقت القيلولة- لأنهما وقت الغفلة والدعة. فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع، وقوم لوطٍ أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شُعيب وقت القليلوة. [(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)]. (فَما كانَ دَعْواهُمْ): ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم، إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، وقولهم: (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نسميها واو الحال - أصلها العطف"، وقال أيضاً: "إن الأصل في الجملة إذا وقعت موقع الحال ألا يدخلها الواو، ولكن النظر إليها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة، غير متحدة بالأولى، وغير منقطعةٍ عنها كجهات جامعةٍ بينهما، يبسط العذر في أن يدخلها واو للجمع بينها وبين الأولي. مثله في نحو: قام زيد وقعد [عمرو] ". قوله: (والدعة)، الجوهري: "الدعة: الخفض، والهاء: عوض من الواو. تقول: ودع الرجل - بالضم - فهو وديع، أي: ساكن، ووادع أيضاً. مثل: حمض فهو حامض". وإنما خولف بين العبارتين، وبنيت الحال الثانية على تقوي الحكم، والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لأن القيلولة أظهر في إرادة الدعة، وخفض العيش، فإنها من دأب المترفين والمتنعمين، دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم كانوا أرباب أشر وبطر. قوله: ((فما كان دعواهم): ما كانوا يدعونه من دينهم). اعلم أن (دعواهم) إما من الدعوى، أو من الدعاء. وعلى الأول: قوله: (إنا كنا ظالمين): كناية عن اعترافهم ببطلان

من قولهم: دعواهم: يا لكعبٍ. ويجوز: فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم؛ لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما كانوا يدعونه، أي: وضعنا الشيء في غير موضعه، وعلى الثاني: الدعاء، إما محمول على الاستغاثة، أي: فما كان استغاثتهم إلا عن أنفسهم، والإقرار بالعجز، فيكون قوله: (إنا كنا ظالمين) كناية عن أنهم رجعوا مما كانوا يستغيثون إليه قبل ذلك، لأنهم علموا حينئذٍ أن لا مستغاث من الله بغيره. وإما هو مجرى على ظاهره. فقوله: (إنا كنا ظالمين) أيضاً كناية عن اعترافهم، لكن بالظلم على أنفسهم، بسبب المعاصي، من قوله: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) [الأعراف: 23]، وقوله: (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) [غافر: 11]. وإليه الإشارة بقوله: "فلا يزيدون على ذم أنفسهم، وتحسرهم على ما كان منهم". قوله: (دعواهم: يا لكعبٍ). قل: إنما أدخلوا اللام على المستغاث، لأن النداء حينئذٍ اضطراري، نحو: يا لكعب، فلابد من نصب علامةٍ ليتميز من النداء الاختياري، نحو: يا غلام، وعينت اللام للاختصاص، والموضع موضعه. قوله: (وأن لات حين دعاء)، قال صاحب "المقتبس": "إن التاء إنما أردفت بـ"لا" المشبهة بـ"ليس" لتصير بها مشبهاً بـ"ليس" صورةً، كما لها شبه معنى، فيحسن فيها إضمار اسمها، لأن إضمار الاسم لا يكون في الحروف. والإضمار في "لات" كما في "ليس" ذكره سيبويه. وإنما اختصت بالأحيان لما في دخولها على غيرها من إلباس، لأن "لا" ليست لنفي الحال صريحاً، فتختص بالدخول على الأحيان، بخلاف "ليس" فهي أينما وقعت: لنفي الحال، فلا تختص بالأحيان".

و (دَعْواهُمْ) نصبٌ؛ خبرٌ لـ (كان)، و (أَنْ قالُوا) رفعٌ اسمٌ له، ويجوز العكس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز العكس). أي: يكون (دعواهم) الاسم، و (أن قالوا) الخبر. وفيه إشعار بأن الوجه هو الأول. قال أبو البقاء: "جعل (أن) مع ما بعدها اسماً أولى، لأنه يشبه المضمر في أن لا يوصف". ولا يعلم الفرق بين الوجهين من أداة الحصر، لأنك سواء جعلت (دعواهم) اسماً أو خبراً لـ (كان) أفاد معنى الدعوى، على هذا القول، لأن التقدير: فما كان دعواهم قولاً من الأقوال إلا هذا القول المخصوص، أو: ما كان دعواهم قولاً من الأقوال إلا هذا، لأنه من قصر المطلق على المقيد. مثاله: "ما كان كلامهم إلا أن قالوا: كيت وكيت". وإياك أن تأتي بمثال على غير هذا المنوال، فتزل عن الصواب. نعم، التفاوت فيه من كون الاسم والخبر معرفتين، وفيهما التقديم والتأخير. أما الأول: فإنك إذا قلت: كان زيد أخاك، أو: كان زيداً أخوك، وجدت الفرق، فإن الأول يقال لمن عرف زيداً، لكنه متردد: هل هو أخوه أم لا، والثاني لمن عرف أخاً له، لكنه شاك في أنه زيد أم غيره. فإذا أتيت بالنفي والإثبات، أشرت إلى أن ذلك التردد ارتقى إلى الإنكار، فأنت تقصد ردة إلى الصواب بما أمكن لكون "ما" و"لا" إنما يتلقى بهما من يصر على الإنكار.

[(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)]. (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ): (أُرْسِلَ) مسندٌ إلى الجار والمجرور، وهو (إِلَيْهِمْ) ومعناه: فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 65] ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ) [المائدة: 109]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كذا هاهنا إذا جعلت "الدعوى" اسماً، وقع التردد في القول، أي: الدعوى هي القول ليست غيره، فيتفق معنى هذا مع معنى القصر، فكان توكيداً مثله. وإذا عكست وقع التردد في "الدعوى"، أي: القول هو هذه الدعوى ليس غيرها. وفيه إشكال. وأما اعتبار التقديم، فإنك إذا جعلت "الدعوى" خبراً، فقد أزلتها عن مقرها، فكان الاهتمام بشأنها، والمقام يقتضيه، لأن المقصود من الإيراد إظهار عجزهم، وإبداء تضرعهم واستغاثتهم. وأما تخصيص القول فتابع، والله أعلم. قوله: (كما قال: (ويَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ)): دليل على أن قوله: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) واقع في الحشر، كما يدل عليه في هذا المقام قوله: (والْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ) الآية [الأعراف: 8]، قوله: (فما كان دعواهم): وارد في الدنيا، لأنه متعقب لقوله: (وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) الآية: فالفاء في (فَلَنَسْئَلَنَّ) فصيحة، كأنه قيل: فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا في الدنيا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين، فقطعنا دابرهم، ثم لنحشرنهم فلنسألنهم، فجيء بالجملة القسمية، ووضع (الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) موضع الضمير، لمزيد التقرير.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ): على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ): عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم وعما وجد منهم. فإن قلت: فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم؟ قلت: معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم. [(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)]. (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، ورفعه على الابتداء، وخبره: (يَوْمَئِذٍ)، و (الْحَقُّ) صفته، أي: والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق، أي: العدل. وقرئ: "القسط". واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزانٍ له لسانٌ وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيداً للحجة، وإظهاراً للنصفة، وقطعاً للمعارة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذا الفاء في (فلنقصن)، وذلك أنه لما سأل المرسلين عما أجيبوا به، والمرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم، وكل منهم أجابوا بما له وعليه إجمالاً، فيقص الله تعالى تفصيل ما أقروا به مجملاً بالنقير والقطمير لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وإليه أشار بقوله: (بعلم)، ثم تتميمه بقوله: (ومَا كُنَّا غَائِبِينَ)، فيكون أدخل في التقريع والتوبيخ. قوله: (إذا فاهوا): متعلق بقوله: "والتقرير". يعني: تكلموا بألسنتهم، فكان تقريراً لاستحقاق الوعيد.

وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب. وقيل: هي عبارةٌ عن القضاء السويّ والحكم العادل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل). قال الإمام: "هذا قول مجاهد، والضحاك، والأعمش. وهو كناية عن العدل، كما يقال في رجل لا قدر له: فلان لا يقيم لفلان وزناً". وقلت: الأول هو الصحيح، وعليه الاعتقاد، وهو قول ابن عباس. قال: "يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان". ذكره محيي السنة. والأحاديث الصحيحة متعاضدة له، منها: ما روى أبو داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ " قالت: ذكرت النار فبكيت. فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل" الحديث. روى صاحب "جامع الأصول"، عن رزين العبدري، عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكرٍ رضي الله عنه حين حضرته الوفاة، دعا عمر رضي الله عنه فقال: "إني مستخلفك على

0 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا عمر، إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غلا الحق أن يكون ثقيلاً. يا عمر، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزانٍ لا يوضع فيه سوى الباطل أن يكون خفيفاً". وقال الزجاج: "الأولي أن يتبع ما جاء في الإسناد الصحيح، أنه ميزان له كفتان، من حيث ينقل عن أهل الثقة". وقال القاضي: "والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزانٍ له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة، وقطعاً للمعذرة". ويؤيده ما روي أن "الرجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة". وقلت: الحديث أخرجه الترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، مع تغيير يسير. البطاقة: رقيعة صغيرة، وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جمع "ميزانٍ" أو "موزون"، أي: فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزنٌ وقدر، وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن: "وحقّ لميزانٍ توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزانٍ توضع فيه السيئات أن يخف". (بِآياتِنا يَظْلِمُونَ): يُكذبون بها ظلماً، كقوله: (فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء: 59]. [(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)]. (مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ): جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ما توزن به حسناتهم) عطف على قوله: "أعماله الموزونة". هذا على أن يراد بقوله: (موازينه) جمع: ميزان. فقوله: "فمن رجحت ... " إلى آخره نشر لقوله: "جمع ميزان أو موزون" من غير ترتيب، بناءً على تفسير الميزان، على الخلاف. قال القاضي: " (فمن ثقلت موازينه) أي: حسناته، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع "موزون" أو "ميزان"، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات، وتعدد الوزن". قوله: (يكذبون بها ظلما). يريد أن قوله: (يظلمون) ضمن معنى التكذيب، فعدي بالباء. قوله: (أو ملكناكم فيها): يعني: (مكناكم في الأرض)، إما: مجرى على ظاهره، أي: "جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً"، أو: هو كناية عن: "أقدرناكم على التصرف فيها".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: قد ذكر في "الأنعام" عند قوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ) [الأنعام: 6]، أن كلتا العبارتين كناية، وخالف هاهنا. قلت: الخطاب في "الأنعام" مع أهل مكة، كما صرح به، وتضمين الكلام معنى الاعتبار بالأمم السالفة، فالمناسب سلوك طريق الكناية، ليكون أبلغ. يعني: أن أهل مكة لم يكونوا متمكنين في الأرض تمكنهم من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بالدنيا، وهاهنا الخطاب عام، والكلام متضمن للامتنان، لدلالة قوله: (ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف: 11]، فالمناسب الإجراء على الظاهر، لأن جميع بني آدم لم يكونوا متصرفين في الأرض، مملكين، وكذلك عطف قوله: (وجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) عليه، وأخر المصنف الكناية عن التصريح. واعلم أن هذا نوع آخر من أنواع الإنذار. فإن قوله: (ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) جملة قسمية معطوفة على جملة قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) [الأعراف: 3] على تقدير: قل اتبعوا، وقل: والله لقد مكناكم، ولهذا ذيله بقوله: (قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)، كما ذيل ذلك بقوله: (قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)، فإن الشكر مناسب لتمكنهم في البلاد، والتصرف فيها، كما أن التذكر موافق للتمييز بين إتباع دين الحق ودين الباطل.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء، وعن ابن عامرٍ: أنه همز، على التشبيه بـ"صحائف". [(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)]. (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك، ألا ترى إلى قوله: (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الآية؟ (مِنَ السَّاجِدِينَ): ممن سجد لآدم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والوجه تصريح الياء، وعن ابن عامرٍ أنه همز؛ تشبيهاً بالصحائف). قال الزجاج: "قرأ نافع بالهمز، وأجمع البصريون على أن الهمز لا يكون إلا إذا كانت الياء زائدة، نحو: صحيفة وصحائف، لأنها من "الصحف"، وأما "معايش" فمن "العيش"، فالياء أصلية، وإنما همزت الزائدة، لأنها لا حظ لها في الحركة، وقد قربت من آخر الكلمة، ولزمتها الحركة، فأوجبوا الهمز. وحكوا في "مصائب" الهمز في جمع "مصيبة"، وأجمعوا على أن الاختيار "مصاوب" ولا أعرف وجه "معائش" إلا أن هذه الياء أسكنت في "معيشة"، فصارت على لفظ "صحيفة". فحمل الجمع على ذلك". قوله: (ألا ترى إلى قوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ)؟ ). يعني: لا يجوز أن يحمل قوله: (خلقناكم) على "خلقناكم يا بني آدم" بل على خلقنا أباكم، لأن التعقيب بقوله: (ثم قلنا" يأباه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "زعم الأخفش أن (ثم) هاهنا بمعنى الواو، يعني في قوله: (ثم قلنا)، لأنه يستدعي أن يعقب القول خلق المخاطبين بعد زمانٍ متراخٍ، وليس كذلك، والواو ليست للترتيب، فـ (ثم) بمعنى الواو". ثم قال الزجاج: "وهذا خطأ كبير لا يجيزه الخليل وسيبويه، ولا من يوثق بعلمه. وإنما المعنى إنا بدأنا خلق آدم من تراب، ثم صورناه. أي: هذا أصل خلقكم، ثم بعد الفراغ من أصلكم أمرت الملائكة بالسجود". ولخصه القاضي حيث قال: "ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا، وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار". وقال السجاوندي: "المراد بهما آدم. يقال: ضربناكم وهزمناكم. كقوله تعالى: (وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة: 63]. وفائدته الامتنان على المخاطبين". وقلت: يمكن أن تحمل (ثم) على التراخي في الرتبة، لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة، أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم. وفيه تلويح إلى شرف العلم، وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثم عقب في "البقرة" الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.

[(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)]. (أَلَّا تَسْجُدَ) «لا» في "أَلَّا تَسْجُدَ" صلةٌ، بدليل قوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) [ص: 75]. ومثلها: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد: 29] بمعنى ليعلم. فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك، (إِذْ أَمَرْتُكَ) لان أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً، وأحتمه عليك حتما لا بدّ لك منه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (توكيد معنى الفعل): قال صاحب "المفتاح": "وللتعليق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى تركه يحتمل عندي أن يكون (منعك) في قوله علت كلمته: (ما منعك ألا تسجد) مراداً به: ما دعاك إلى أن لا تسجد، وأن تكون "لا" غير صلة قرينة للمجاز". وقال الراغب: "المنع يقال في ضد العطية، وقد منع، وفلان ذو منعة، أي: عزيز ممتنع على من يرومه، وقوله: (مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) ما حملك، وقيل: ما الذي حملك على ترك ذلك". قوله: ((إذ أمرتك)، لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً). قال القاضي: "هذا دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور".

فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت: للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارجٌ من الصواب. فإن قلت: كيف يكون قوله: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواباً لـ (ما منعك)، وإنما الجواب أن يقول: منعني كذا؟ قلت: قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أنّ أصله من نارٍ، وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعادٌ أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، كأنه يقول: من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأنه خالف أمر ربه): عطف تفسيري على قوله: "معاندته وكفره". وقال الزجاج: "كل من خالف الله في أمره، ولم يره واجباً عليه، فهو كافر بالإجماع". قوله: (كيف يكون [قوله: ] (أنا خير منه) جواباً؟ ): قال الزجاج: "موضع (ما) في قوله تعالى: (ما منعك) رفع. المعنى: أي شيءٍ منعك من السجود؟ والجواب: منعني كذا وكذا. لكن أتى بشيءٍ في معنى الجواب، ولفظه غير جواب، لأن قوله: (أنا خير منه) إنما هو جواب أيكما خير؟ المعنى: منعني من السجود فضلي عليه". وقلت: فالجواب من الأسلوب الأحمق، كقول نمروذ: (أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ) [البقرة: 258]. قال القاضي: "قد غلط إبليس فيما قال، لأنه رأي الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، قال: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75]، وباعتبار الصورة،

[(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)]. (فَاهْبِطْ مِنْها): من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين (فَما يَكُونُ لَكَ): فما يصح لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصي، (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ): من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، كما تقول للرجل: قم صاغراً؛ إذا أهنته. وفي ضدّه: قم راشداً، وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: (ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29]، وباعتبار الغاية وهو ملاكه، (قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ) [البقرة: 33]. وفي الآية دليل على أن الشياطين أجسام كائنة. وفيه أن إبليس بني كلامه على كون الحسن والقبح عقليين". قوله: (إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين). وفيه أن مكان المتكبر السفل وإن استعلى، ومكان المتواضع العلو وإن سفل، ومن ثم قال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر: 60]. وروينا عن الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكانٍ، يساقون إلى سجنٍ في جهنم يقال له: بولس" الحديث.

وعن عمر رضي الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته، وقال: انتعش أنعشك الله، ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض. [(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)]. فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ قلت: لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات؛ ليمتحن بها عباده. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (رفع الله حكمته). أي: قدره ومنزلته. النهاية: "يقال: له عندنا حكمة، أي: قدر". الأساس: "يقال: لا يقدر على الله من هو أعظم حكمةً منك". الراغب: "الحكمة من الإنسان: أسفل وجهه. ورفع الحكمة: كناية عن الاعتزاز، لأن من صفة الذليل أن ينتكس، ويضرب بذقنه صدره. وقيل: الحكمة: القدر والمنزلة، من قولهم: لا يقدر على هذا من هو أعظم حكمةً منك". قوله: (انتعش). أي: ارتفع. يقال: نعشه الله ينعشه: إذا رفعه. وانتعش العاثر: إذا نهض من عثرته. وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه من قول عمر رضي الله عنه، أو هو عطف على "رفع الله"، أي: أراد الله رفعه. قال: "انتعش نعشك الله" أي: رفعك. ولا قول ثمة، كقوله تعالى: (كُن فَيَكُونُ) [البقرة: 117]. قوله: (وهصه الله)، النهاية: "وهصه الله إلى الأرض، أي: رماه رمياً شديداً. والوهص أيضاً: شدة الوطء، وكسر الشيء الرخو".

[(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)]. (فَبِما أَغْوَيْتَنِي): فبسبب إغوائك إياي: (لأقعدنّ لهم)، وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي، ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب. وعن الأصم: أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى: فبسبب وقوعي في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت: بم تعلقت الباء، فإن تعلقها بـ (لأقعدنّ) يصدّ عنه لام القسم، لا تقول: والله بزيد لأمرّنّ؟ قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف، تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ، أي: فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم، أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنّ، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو تكليفه إياه): بيان للسبب، و (ما وقع به في الغي): ثاني مفعولي التكليف. يعني: إغواء الله هو تكليفه إياه ما وقع به في الغي من أمره بالسجود. وفيه ميل إلى مذهبه. قال الزجاج: "في (أغويتني) قولان، أحدهما: فبما أضللتني. وثانيهما: فبما دعوتني إلى شيء غويت به". قوله: (فحملني الأنف)، النهاية: "الأنف: الحمية، من الغيرة والغضب". قوله: (لا تقول: والله بزيدٍ لأمرن)، لأن معمول المقسم عليه لا يتقدم عليه.

وإنما أقسم بالإغواء، لأنه كان تكليفاً، والتكليف من أحسن أفعال الله، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً بأن يقسم به. ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاووس: "أنه كان في المسجد الحرام، فجاء رجلٌ من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاووس: تقوم أو تقام؟ فقام الرجل، فقيل له: أتقول هذا لرجلٍ فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال: (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَني) [الحجر: 39]، وهذا يقول: أنا أغوى نفسي"، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين. وقيل: (ما) للاستفهام، كأنه قيل: بأي: شيءٍ أغويتني، ثم ابتدئ: (لأقعدنّ)، وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» الاستفهامية: قليلٌ شاذ. وأصل الغيّ: الفساد. ومنه: غوى الفصيل؛ إذا بشم، والبشم: فسادٌ في المعدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما أقسم بالإغواء؛ لأنه كان تكليفاً) خلاصته: أنه إقسام بفعل الله. وللفقهاء فيه خلاف ذكرناه في سورة "الحجر". قوله: (يرمي بالقدر)، أي: بالاعتزال. وقوله هذا حكاية عن لسان أهل السنة، لأنه لا يسمى أصحابه قدرية، فكيف وقد سمى أهل السنة بالقدرية في "حم" السجدة؟ ويعيد هذا في قوله: (وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) [الأعراف: 28]. قوله: (وأصل الغي: الفساد)، الراغب: "الغي: جهل من اعتقادٍ فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقدٍ اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً، وقد يكون من اعتقاد شيءٍ فاسد. وهذا الثاني يقال له: الغي. قال تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى) [النجم: 2]. وقال تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًا) [مريم: 59] أي: أثر الغي. وقوله: (وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121] أي: خاب. قال:

(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ): لأعترضن لهم على طريق الإسلام، كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف، كقوله: كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وقيل: فسد عيشه. من: غوى الفصيل". قوله: (وانتصابه على الظرف): وقيل: فيه إشكال، لأن حكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف، فلا يحذف "في" والبيت شاذ. وعذره ما قاله الزجاج: "لأقعدن لهم على صراطك المستقيم. ولا اختلاف بين النحويين في أن "على" محذوفه. ومثله قوله: ضرب زيد الظهر والبطن، أي: على الظهر والبطن". قوله: (كما عسل الطريق الثعلب) أوله: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل

وشبهه الزجاج بقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، أي: على الظهر والبطن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة؛ قعد له بطريق الإسلام فقال له: تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصف الرمح. لدن، أي: لين. عسل الذئب، يعسل عسلاً وعسلاناً، أي: أسرع. وعسل الرمح: اهتز واضطرب. والضمير في "فيه" للهز أو الكف. قوله: (إن الشيطان قعد لابن آدم باطرقه). الحديث: أخرجه النسائي عن سبرة بن معبد، مع زيادة ونقصان. النهاية: "الطريق يذكر ويؤنث، فجمعه على التذكير: أطرقة، كرغيفٍ وأرغفة، وعلى التأنيث: أطرق، كيمين وأيمن".

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ) من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوّ في الغالب. وهذا مثلٌ لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء: 64]. فإن قلت: كيف قيل: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بحرف الابتداء، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به، فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مثل لوسوسته إليهم)، أي: استعمال، أي: استعمال هذه الألفاظ على التمثيل والتخييل، وهو أن يؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، وهي تسويله ما أمكنه، وقدر عليه، من غير تصور الجهات. قال القاضي: "من أي وجه يمكنه، كإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل: من فوقهم ومن تحت أرجلهم". قوله: (وتسويله)، النهاية: "التسويل: تحسين الشيء وتزيينه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله". قوله: ((واستزز)). استفزه الخوف: استخفه، وأفززته، أي: أزعجته. قوله: (وكانت لغةً تؤخذ)، "لغة": خبر "كان"، و"تؤخذ": صفته.

ومعنى «عن يمينه»: أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصقٍ له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعال». ونحوه من المفعول به قولهم: "رميت عن القوس"، و"على القوس"، و"من القول"؛ لأنّ السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا: "جلس بين يديه وخلفه" بمعنى: في؛ لأنهما ظرفان للفعل، و"من بين يديه ومن خلفه"، لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول: جئته من الليل، تريد بعض الليل. وعن شقيق: "ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد: من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يمينى، وعن شمالي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: "لغة": تمييز، و"تؤخذ" خبر "كان"، واسمه ضمير "الحروف". وزبدة الجواب: أن اختصاص كل من المفعول فيه والمفعول به بما اختص به من الحرف، إنما كان بوضع الواضع، فلا يسأل عن علة ذلك، وإنما يسأل عن حسن موقع كل واحدٍ عند الاستعمال. كأن الجواب من الأسلوب الحكيم. قوله: (كما ذكرنا في "تعال") أي: "تعال" من الخاص الذي صار عاماً. وقد مر في قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ) [الأنعام: 151]. قوله: (على كبدها)، الجوهري: "كبد القوس: مقبضها. يقال: ضع السهم على كبد القوس، وهي: ما بين طرفي مقبضها ومجرى السهم منها".

أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [طه: 82]، وأمّا من خلفي، فيخوّفني الضيعة على مخلفي فأقرأ: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) [هود: 6]، وأمّا من قبل يميني، فيأتيني من قبل الثناء، فأقرأ: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، وأمّا من قبل شمالي، فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ: 54] ". (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) قاله تظنيناً، بدليل قوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ: 20]، وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم. [(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أما من بين يدي). تقديره: أما إذا جلس بين يدي فيقول. قوله: (فأقرأ: (وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ)): أي: أدفع هذه الوسوسة بهذه الآية، لأنها تدل على أن الغفران منوط بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، فمن ليس له هذا المجموع كيف يأمن؟ ! قوله: (على مخلفي) بفتح اللام وتشديدها، وتشديد الياء، على الجمع المضاف. مخلف الرجل: من يخلف بعده، كالأولاد. النهاية: "الخلف - بالتحريك والسكون -: من يجيء من بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر. يقال: خلف صدق، وخلف سوء". قوله: (قاله تظنيناً، بدليل قوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ))، قال القاضي: "لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً، ومبدأ الخير واحداً، قاله".

(مَذْؤُماً) من: ذأمه: إذا ذمّه. وقرأ الزهري: "مذوماً" بالتخفيف، مثل مسولٍ في مسؤول. واللام في (لَمَنْ تَبِعَكَ) موطئة للقسم، (ولَأَمْلَأَنَّ) جوابه، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، (مِنْكُمْ): منك ومنهم، نغلب ضمير المخاطب، كما في قوله: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138]. وروى عصمة عن عاصم: "لمن تبعك" بكسر اللام، بمعنى: لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)، على أن (لَأَمْلَأَنَّ) في محل الابتداء، و"لَمَنْ تَبِعَكَ" خبره. [(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)]. (وَيا آدَمُ) وقلنا: يا آدم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (منك ومنهم): تفسير لقوله: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ). قوله: (كما في قوله: (إنكم قوم تجهلون)) الأصل: "يجهلون" بالياء التحتاني، على الغيبة، لأنه صفة "قوم"، فغلب المخاطبين. قوله: ((ويا آدم): وقلنا: يا آدم)، إنما قدر: "قلنا"، ليؤذن بأن هذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها، وهي قوله: (قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [الأعراف: 11] لا على (قال)، وهو أقرب. وأنها كرامة أخرى، منحت أبا البشر، امتناناً على المخاطبين من أولاده، ومن ثم

وقرئ: "هذي الشجرة"، والأصل الياء، والهاء بدلٌ منها، ويقال: وسوس، إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره، ومنه: وسوس الحليّ، وهو فعلٌ غير متعدّ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى بصيغة التعظيم. وأن قوله: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) [الأعراف: 12] إلى آخره، وارد على الاستطراد لحديث الأمر بالسجدة، وامتناع إبليس منه، كما أن قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) [الأعراف: 28] مستطرد لذكر بدو السوآت. وقوله: (وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) [الأعراف: 28] استطراد في استطراد، لأنه حكاية عن فعل قبيحٍ كانوا يفعلونه، ويزعمون أنه نسك من المناسك، وهو طوافهم بالبيت عراةً، فشنع عليهم بتسميته فاحشة. والدليل على كونه متسطرداً: العود إلى حديث الاستطراد الأول، بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]. وفائدة تأخيره عنه الأمر بالتستر، وأكل المباحات، بعد تقبيح تلك الفعلة، والتزني بزي المتقين، ولذلك صرح بذكر (كل مسجدٍ). ويؤيده قول الإمام: "إن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون الطعام في الموسم إلا القليل، ويحترزون عن الدسم تعظيماً، فأنزل الله تعالى: (وكُلُوا واشْرَبُوا) [الأعراف: 31] بياناً لفساد تلك الطريقة". وسبيل هذا الاستطراد سبيل قوله تعالى: (ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَاتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى واتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة: 189] سواء بسواء. قوله: (وقرئ: "هذي الشجرة")، قال ابن جني: "قرأها ابن محيصن. والهاء في "ذه": بدل من الياء في "ذي". ويدل على أن الياء الأصل قولهم في المذكر: "ذا"، فالألف: بدل

كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجلٌ موسوسٌ - بكسر الواو - ولا يقال: موسوسٌ -بالفتح-، ولكن: موسوس له، وموسوسٌ إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى "وسوس له": فعل الوسوسة لأجله، و"وسوس إليه": ألقاها إليه. (لِيُبْدِىَ) جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الياء، فإن أصله عندنا "ذي" مثل "حي" فحذفت الياء الثانية، فبقي "ذي". قال أبو علي: فكرهوا أن يشبه آخره آخر "كي" و"أي" فأبدلوها ألفاً. والذي يدل على أن "ذا": "ذي"، وأنه ثلاثي، جواز تحقيره في قولك: "ذيا"، ولو كان ثنائياً لما جاز تحقيره، كما لا تحقر "ما" و "من"". قوله: ((ليبدي) جعل ذلك غرضاً له)، قال القاضي: "وقيل: اللام للعاقبة أو للغرض، على أنه أراد أيضاً بوسوته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبر عنهما بالسوآة". وقيل: إن اللام، على هذا، غير واقعةٍ موقعها، لأن شرائط الإضمار موجودة، وهو كونه: مصدراً، وفعلاً لفاعل الفعل المعلل، ومقارناً في الوجود. وأجيب: أن عند فقدان الشرط ينعدم المشروط، ولا يجب عند وجوده، كما أن الوضوء شرط للصلاة، ولا يجب من وجوده وجود الصلاة. والدليل على أنه شرط قوله في "المفصل": "وفيه ثلاث شرائط. واللام هاهنا للتأكيد، ليؤذن أن هذا الغرض كان مهتماً بشأنه في الوسوسة".

إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "المفتاح": "والأصل فيه اللام، فإذا لم يجتمع ما ذكر، التزم الأصل. ويعلم من المفهوم أنه إذا اجتمع لا يلتزم الحذف". قوله: (ما يؤثران ستره)، "ما": موصولة، وهي عبارة عن العورة، أي: الذي يختار أن ستره، لأن كل أحد يجتهد في ستر عورته، و"أن لا يطلع" معطوف على "ستره" على سبيل التفسير. قوله: (وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور): أي: في جعل الإبداء غرضاً للشيطان في الوسوسة، دليل على أنه المطلوب الأولي منه، وأنه مهتم بشأنه، لكونه مستتبعاً للإخراج من الجنة، وموجباً للفضيحة وشماتة العدو، ثم في إيقاع الصلة والموصولة، وهي (ما ورى عنهما)، موضع العورة، على نحو قوله تعالى: (ورَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) [يوسف: 23]، إشعار بزيادة التقبيح، وفي جعل (سوءاتهما) بياناً له إيذان بمزيد الشناعة والقبح، على منوال قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]. وإنما كان مستقبحاً في الطباع والعقول، لأنه لم يكن في الجنة تكليف سوى المنع من قربان الشجرة، وإنما علم قبحة من جهة العقل. قال في "الانتصاف": "فيه ميل إلى الاعتزال، وأن العقل يقبح ويحسن. وهذا اللفظ لو

فإن قلت: ما للواو المضمومة في (وورى) لم تقلب همزةً كما قلت في "أويصل"؟ قلت: لأن الثانية مدّة كألف "وارى". وقد جاء في قراءة عبد الله "أوري"، بالقلب. (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ): إلا كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليلٌ على أن الملكية بالمنظر الأعلى، وأن البشرية تلمح مرتبتها كـ"لا" و"لا". وقرئ: "ملكين" بكسر اللام، كقوله: (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه: 120]. (مِنَ الْخالِدِينَ): من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ: "من سوأتهما" بالتوحيد، "وسوّاتهما" بالواو المشدّدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صدر من السني، كان تأويله أن العقل أدرك المعنى الذي لأجله حسن المشرع الستر، وقبح الكشف". قوله: (في "أو يصل") وهو تصغير: واصل، والأصل: وويصل. قوله: (لأن الثانية مدة). أي: إنما تقلب إذا كانت الثانية متحركة. شبه الواو الثانية بالألف لسكونها في أن لا أثر لها. أما "أو يصل": فحركتها أخرجتها من ذلك الحكم. قوله: (في قراءة عبد الله: "أوري" بالقلب). قال الزجاج: " (ورى): يجوز فيه "أوري"، لأن الواو مضمومة، فإن شئت أبدلت منها همزة، إلا أن القراءة المشهورة تتبع، لأنها موافقة لخط المصحف". قوله: (تلمح مرتبتها كـ"لا" و"لا"): أي: ينظر إلى مرتبتها العليا لمحاً، كـ: "لا لمح ولا لمح"، والثاني تأكيد. قال المطرزي: "وفي الأمثال: أسرع من "ها" و "لا"، وأقل من لفظ (لا) ". وأنشد: يكون نزول الركب فيها كلا ولا ... غشاشاً ولا يدنون رحلاً على رحل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ما كان بطؤهم إلا مدةً يسيرة، كالتفوه بـ"لا" و"لا". غشاشاً، بالكسر، أي: على عجلةٍ. قال القاضي: "واستدل على فضل الملائكة على الأنبياء بهذه الآية. وجوابه: أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضاً ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة. وذلك لا يدل على فضلهم مطلقاً". وقلت: بل كان رغبتهما في الأكل لأجل القسم، لا لإخباره المتقدم، لما علم أنه لا يحتمل الصدق، كما قال المصنف: "فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله"، وقوله بعيد هذا: "بلي وعزتك، ولكن ما ظننت أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً"، لا لأن يصيرا ملكين بالأكل، لأنه على خلاف ما عليه الملك، ولا لطلب المرتبة، لأن كونه مسجوداً للملائكة كفاه دلالةً على أنه أفضل منهم، ومن ثم امتنع إبليس من السجود. نعم، قد يمكن أن تكون رغبته لأجل الخلود، لقوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لاَّ يَبْلَى) [طه: 120]. وقال الإمام: "المحققون أنكروا حصول التصديق، وقالوا: إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة، لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد من أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زينه الغير، وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال". وقال صاحب "الانتصاف": "لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك أن يكون الأمر على ما اعتقده، ووسوس به، فقد علل إبليس منع الشجرة بأنه كراهة أن يخلدا أو يكونا ملكين، وهو كاذب فيه، فلم يقرر الله قوله، بل أشار إلى كذبه بقوله: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ)، فلعل تفضيله الملائكة من الغرور".

(وَقاسَمَهُما): وأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). فإن قلت: المقاسمة: أن تقسم لصاحبك ويقسم لك، تقول: قاسمت فلاناً: حالفته، وتقاسما: تحالفا. ومنه قوله تعالى: (تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ) [النمل: 49]؟ . قلت: كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمةً بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أُخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين. وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين؟ )، جعل تقريرهما بقسم إبليس بمنزلة قسمهما، فإن الهمزة في: "أتقسم بالله" للتقرير. قال صاحب "الانتصاف": "فيكون في الكلام لف، لأن آدم وحواء لا يقسمان بلفظ المتكلم، بل بلفظ الخطاب". وقلت: كلام المصنف إلى التغليب أقرب. قوله: (أو أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها)، الانتصاف: "إنما يتم هذا لو لم يذكر المقسم عليه، أما إذا ذكره، فلا يتم إلا بأن يسمى قبول النصح نصحاً، للمقابلة، كما قرئ: (ووعدنا موسى) [الأعراف: 142]، جعل التزامه بالوعد وحضوره: وعداً، وكلامه من أوله إلى آخره مدخول، لأن الكلام لما دل على القسم من الطرفين، فيجب تقدير المقسم والمقسم عليه بغير المذكور".

(فَدَلَّاهُما): فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة، (بِغُرُورٍ): بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة: وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا رأى من عبده طاعةً وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ): وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل: الشجرة هي السنبلة. وقيل: شجرة الكرم، (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي: تهافت عنهما اللباس، فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت منه ولا رأى مني". وعن سعيد بن جبير: "كان لباسهما من جنس الأظفار". وعن وهب: "كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر". ويقال: طفق بفعل كذا، بمعنى: جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السمال: "وطفقا" بالفتح (يَخْصِفانِ) ورقة فوق ورقةٍ على عوراتهما ليستترا بها، كما تخصف النعل، بأن تجعل طرقةً على طرقة وتوثق بالسيور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فدلاهما): فنزلهما)، روى الإمام عن الأزهري: "أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر، ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال: دلاه: إذا أطعمه، أو بمعنى: جرأهما، من الدال والدالة، أي: الجرأة". السجاوندي: " (فدلاهما): حطهما عن درجتهما، وأجرأهما. والدالة: الجرأة. قوله: (بأن تجعل طرقةً على طرقة)، الجوهري: "الطرقة: مثل العرقة والصف". الأساس: "وضع الأشياء طرقةً طرقةً وطريقةً طريقة، أي: وضع بعضها فوق بعض". قوله: (وتوثق بالسيور)، الجوهري: "السير: ما يقد من الجلد. والجمع: السيور".

وقرأ الحسن: "يخصفان" بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري: "يخصفان"، من أخصف، وهو منقولٌ من خصف، أي: يخصفان أنفسهما، وقرئ: "يخصفان"، من: خصف بالتشديد. (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل: كان ورق التين، (أَلَمْ أَنْهَكُما) عتابٌ من الله تعالى وتوبيخٌ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس. وروي: أنه قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وسقى، وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأصله: يختصفان)، قال ابن جني: "آثر إدغام التاء في الصاد، فأسكنها، والخاء قبلها ساكنة، فكسرها لالتقاء الساكنين، فصار "يخصفان"". قوله: (وهو منقول من "خصف")، قال أبو البقاء: " (يخصفان) ": ماضيه "خصف"، وهو متعد إلى مفعول واحد، والمفعول: شيئاً من ورق الجنة. وقرئ بضم الياء وكسر الصاد مخففاً، وماضيه "أخصف"، وبالهمزة يتعدى إلى اثنين. والتقدير: يخصفان أنفسهما". قوله: (حصد وداس وذرى وعجن)، يقال: ذرت الريح التراب. ومنه ذرى الناس الحنطة. اختصر في الكلام، لأن بين التذرية والعجن أموراً كثيرة.

[(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)]. وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً لأنفسهما، وقالا: (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات. [(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)]. (اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس، و (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال، أي: متعادين؛ يعاديهما إبليس ويعاديانه، (مُسْتَقَرٌّ) استقرار، أو موضع استقرار، (وَمَتاعٌ): وانتفاعٌ بعيشٍ (إِلى حِينٍ): إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابتٍ البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة، فجعلت حواء تدور حولهم، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسميا ذنبهما) إلى قوله: (ظلماً) أتى بالواو ليدل على معطوف عليه، فإنه تعالى لما وبخهما بقوله: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) استكانا إلى الله، واعترفا بالتقصير، وقالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، وسميا ذنبهما ظلماً، هضماً لأنفسهما، على عادة الأنبياء. قال الإمام: "كان ذلك قبل النبوة، لأنه بعد النبوة لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة". وقيل: إن ذلك صدر منه سهواً، لقوله تعالى: (فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه: 115]، وعليه ظاهر كلام المصنف. وقيل: عن قصد، لأن قوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)، إلى قوله: (وقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) صدر عن إبليس حال إقدامه على الذنب.

فقال لها: خلي ملائكة ربي، فإنما أصابني الذي أصابني فيك، فلما توفي غسلته الملائكة بماءٍ وسدرٍ وتراً، وحنطته وكفنته في وترٍ من الثياب، وحفروا له ولحدوا، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند، وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده. [(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصابني فيك): أي لأجلك وسببك. الجوهري: "ربما استعمل "في" بمعنى الباء. قال زيد الخيل: ويركب يوم الروع فيها فوارس ... بصيرون في طعن الكلى والأباهر أي: بطعن الكلى والأباهر". لعله أراد ما رواه الإمام في سورة "البقرة": "رأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته في الجنة خمراً، فسكر، فتناول الشجرة". ويرده قوله: (لا فِيهَا غَوْلٌ) [الصافات: 47]. قوله: (حنطته)، النهاية: "الحنوط: ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى".

جعل ما في الأرض منزلاً من السماء، لأنه قضي ثم وكتب، ومنه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر: 6]، والريش: لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي: أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم، لأن الزينة غرضٌ صحيح، كما قال: (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل: 8]، (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) [النحل: 6]. وقرأ عثمان رضي الله عنه: "ورياشاً" جمع ريش، كشعبٍ وشعاب. (وَلِباسُ التَّقْوى): ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه على الابتداء، وخبره: إمّا الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ)، كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر، وإمّا المفرد الذي هو (خيرٌ)، و (ذلك) صفةٌ للمبتدأ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الزينة غرض صحيح). يعني إنما عطف (وريشاً) على (لباساً)، ليؤذن بأن الزينة أيضاً غرض صحيح، كقوله تعالى: (والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً) [النحل: 8]. وكما أن ستر العورة مأمور به، كذلك أخذ الزينة مأمور به. قال تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]. قوله: (فيما يرجع إلى عود الذكر)، قال الزجاج: " (ذلك) بمنزلة "هو": أي: لباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب فيما يعود من الذكر من المضمر". قوله: (و (ذلك): صفة للمبتدأ)، قال نور الدين الحكيم: "الوصف بـ"ذلك" غير سديد على الظاهر، لأن حق الموصوف أن يكون أخص، و"ذلك" أخص من (ولباس التقوى) وقد صرحوا بأن عامهم هذا جائز. والمضاف إلى المعرف باللام أحط درجةً من المعرف باللام".

كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارةً إلى اللباس المواري للسوأة، لأنّ مواراة السوأة من التقوى، تفضيلاً له على لباس الزينة. وقيل: "لباس التقوى" خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو لباس التقوى، ثم قيل: (ذلك خيرٌ). وفي قراءة عبد الله وأبيّ: "ولباس التقوى خيرٌ"، وقيل: المراد بلباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحروب. وقرئ: "ولباس التقوى" بالنصب عطفاً على (لباساً وريشاً). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: "يجوز ذلك على تأويل المذكور أو المشار إليه". وقال صاحب "الكشف": "كأنه قيل: المشار إليه خير، كما تقول: زيد هذا قائم". قوله: (تعظيم لباس التقوى)، لأن المشار إليه قريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، كقوله: (الم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2]. قوله: (أو أن تكون إشارةً إلى اللباس المواري): عطف على مجموع قوله: "وارتفاعه" إلى آخره، من حيث المعنى، أي: يجوز أن يكون (ذلك) إشارة إلى (ولباس التقوى) على الوجهين المذكورين، أو أن يكون إشارة إلى اللباس المواري، ويكون إما صفة والخبر: (خير"، أو الجملة خبر. وصح لأن اللباس المواري عين لباس التقوى. وإليه الإشارة بقوله: "لأن مواراة السوأة من التقوى". قوله: (تفضيلاً له): مفعول له. والفعل المعلل معنى قوله: "أن تكون إشارة" أي: أشير إلى اللباس المواري تفضيلاً له على لباس الزينة.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) الدالة على فضله ورحمته على عباده، يعني إنزال اللباس، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفوا عظيم النعمة فيه. وهذه الآية واردةٌ على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإظهاراً بأنّ التستر بابٌ عظيمٌ من أبواب التقوى. [(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)]. (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ): لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأنّ أخرجهما منها (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) حال، أي: أخرجهما نازعاً لباسهما، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد) يعني: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) جاءت تابعةً لحديث آدم والشيطان، وإظهار عداوته له، والتحذير عن متابعته، فجرى فيه حديث كشف العورة وقبحه، فاستطرد حديث ستر العورة وحسنه، حتى أنكر على من أعرض عنه، وقال بتحريمه، الدال عليه قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) الآية [الأعراف: 32]. ثم عاد إلى بيان الزجر عن متابعة الشيطان بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) الآيات [الأعراف: 35]. قوله: (كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها)، يريد أن قوله: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم) وضع موضع مصدر (يفتنتكم)، وضعاً للسبب موضع المسبب، أي: أوقعه في المحن والبلاء بسبب الإخراج.

بأن كان سبباً في أن نزع عنهما، (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ) تعليل للنهي، وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار: إنّ عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله. (وَقَبِيلُهُ): وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بين أن الجنّ لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدّعي رؤيتهم زورٌ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العدو المداجي)، الجوهري: "المداجاة: المداراة. يقال: داجيته، أي: داريته، كأنك ساترته العداوة". قوله: (إلا من عصم الله). يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي: لا يخلص من مؤنته وكيده، إلا من عصمه الله. ويمكن أن يكون منقطعاً، أي: لكن من عصمه الله خفيف المؤنة. قوله: (وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة)، هذا يناقض ما رواه في "الأحقاف"، عن عبد الله بن مسعود، في قصة الجن، وفيها: "غشيته - أي: رسول الله صلي الله عليه وسلم - أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، إلى قوله صلي الله عليه وسلم: "هل رأيت شيئاً؟ " قلت: نعم، رجالاً سوداً، مستثفري ثيابٍ بيض، فقال: "أولئك جن نصيبين". وأورده الإمام أحمد في "مسنده".

ومخرقة. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي: خلينا بينهم وبينهم، لم نكفهم عنهم حتى تولوهم ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحق أن الآية واردة في التحذير منهم ومن مكائدهم، والخطاب عام، ويمكن أن يمكن الله بعض البشر على رؤيتهم. وقد ورد في "الصحاح" أحاديث في ذلك؛ منها: ما رواه البخاري، عن أبي هريرة: "وكلني رسول الله صلي الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو ... " إلى أن ساق الحديث إلى قوله صلي الله عليه وسلم: "تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذلك شيطان". قوله: (مخرقة)، الأساس: "خرق الكذب واخترقه وتخرقه: افتراه"، والمخرقة: الكذب. قوله: ((إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)، أي: خلينا بينهم وبينهم، لم نكفهم عنهم حتى تولوهم). جعل "الجعل" تخليةً، بناءً على مذهبه. قال الزجاج: "جعل: على ضروب منها: جعلت بعض الشيء فوق بعض، أي: عملته وهيأته. ومنها: جعل زيد فلاناً عاقلاً، أي: سماه عاقلاً. ومنها: بمعنى: أخذ وطفق". وما في الآية على الأول، أي: أنهم عوقبوا بأن سلطت عليهم الشياطين، تزيدهم في غيهم، كقوله تعالى: (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًا) [مريم: 83] أي: تحملهم على المعاصي حملاً شديداً.

وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت: علام عطف (وقبيله)؟ قلت: على الضمير في (يراكم) المؤكد بـ (هو)، والضمير في (إنه) للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي: "وَقَبِيلُهُ" بالنصب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول)؛ لأن فيه التسلط والإطاعة والتسويل، لقوله: "تولوهم وأطاعوهم". وقلت: ليس بتحذيرٍ آخر، إذ لو كان لوجب العطف عليه، بل هو تعليل للتعليل، ولذلك فصل بياناً للموجب. فإن تعالى لما حذر بني آدم من فتنة الشيطان، ونهاهم عنها نهياً بليغاً، اتجه لهم أن يسألوا: لم هذا التحذير والنهي البليغ؟ فقيل: لأنه بمنزلة العدو المداجي يراكم ولا ترونه. ثم قيل: كيف تمكن هذا التمكن؟ ومن أين تسنى له ذلك؟ فقيل: لأنا جعلناه متولياً على أوليائه، ومسلطاً عليهم، كما قال: (واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ) [الإسراء: 64]. وعليه كلام الزجاج، كما مر آنفاً. وقال الإمام: "احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم". قوله: (على الضمير في (يرياكم) المؤكد بـ"هو")، قال المصنف: "فإن قيل: لم امتنع العطف على الضمير المنفصل؟ قلت: لأن العاطف يجعل ما بعده شريكاً لما قبله من معمول الفعل، والذي هو معمول الفعل "هو" المستكن دون البارز، فوجب العطف عليه". قالوا: لعل هذا النقل خطأ، لأن القول بالانسحاب في التوابع هو المختار عنده وعند ابن الحاجب.

وفيه وجهان: أن يعطفه على اسم "إن"، وأن تكون الواو بمعنى "مع"، وإذا عُطف على اسم "إن" وهو الضمير في (أنه)، كان راجعاً إلى إبليس. [(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَامُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)]. الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أي: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأنّ الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها، وكلاهما باطلٌ من العذر، لأن أحدهما تقليد، والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني: افتراء على الله وإلحادٌ في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: إنما لم يحسن هاهنا، لأن اعتبار الفرع مع وجود الأصل بعيد، لأن استجلاب الثاني لتصحيح العطف عليه، فلا تنقلب الوسيلة أصلاً. قوله: (وإذا عطف على اسم "إن" وهو الضمير في (إنه) كان راجعاً إلى إبليس)، لأن هذا العطف يأبى أن يكون الضمير للشأن، بخلاف الرفع والعطف على الضمير في (يراكم) فإنه غير مانع، وإنما جعل الضمير للشأن، وإن جاز أن يكون للشيطان، لأن مقام التفخيم يقتضيه، لأن قوله: (إنه يراكم) تعليل للنهي، وتحذير من فتنة الشيطان، كأنه قيل: لا يفتننكم الشيطان، لأن الشأن والأمر كيت وكيت. وعلى النصب لا يبقي لضمير المرفوع المؤكد مزيد فائدة.

وعن الحسن: إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرةٌ يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَامُرُ بِالْفَحْشاءِ)، لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله؟ ! (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكارٌ لإضافتهم القبيح إليه وشهادةٌ على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط. وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراةً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم قدرية مجبرة يحملون ذنبهم على الله تعالى)، هذه فرية على الحسن، فإن القدرية من يثبت خالقاً غير الله. ووجه المناسبة بين هذا الاسم والمسمى يجيء في (حم) السجدة، على وجه يلزم طائرهم في عنقهم. قوله: (لأن فعل القبيح مستحيل عليه، لعدم الداعي، ووجود الصارف)، قال القاضي: "إن الله لا يأمر بالفحشاء، لأن عادته جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، والحث على مكارم الخصال، ولا دلالة فيه على أن قبح الفعل - بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً - عقلي". قوله: (وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراةً)، هذا قول ابن عباس ومجاهد. كذا في "معالم التنزيل". ويساعد عليه السياق والسباق. أما السياق فإن قوله: (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا) يدل على وجه التشبيه في قوله: (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ) [الأعراف: 27] أي: لا تتصفوا بصفةٍ يوقعكم الشيطان بسببها في الفتنة، وهي: العري

[(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)]. (بِالْقِسْطِ): بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل: بالتوحيد، (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ): وقل: أقيموا وجوهكم، أي: اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الطواف، فتحرموا دخول الجنة، كما حرمها على أبويكم، حين أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما، بسبب وسوسته. وأما السباق فقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]. فعلى هذا: المراد بقولهم: (واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا): نحن متدينون بالطواف عراةً، وهو شرع شرعه الله لنا. قوله: (وبما قام في النفوس أنه مستقيم)، "أنه": فاعل "قام"، والضمير المنصوب عائد إلى "ما"، أي: بما قام في النفوس استقامته وحسنه. قوله: (وقل: أقيموا وجوهكم)، يريد: أن (وأقيموا) عطف على (أمر ربي بالقسط) على تقدير العامل، لا الانسحاب، لئلا يلزم عطف الإنشائي على الإخباري. وقال أبو البقاء: "في (وأقيموا) وجهان: أحدهما: هو معطوف على موضع "القسط"، أي: أمر ربي، فقال: "أقسطوا وأقيموا". وثانيهما: في الكلام حذف، أي: فأقبلوا وأقيموا".

(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ): في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة (وَادْعُوهُ): واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي: الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصاً، (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ): كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم، احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى: أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. [((فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)]. (فَرِيقاً هَدى) وهم الذين أسلموا، أي: وفقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي: كلمة الضلالة، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله: (وَفَرِيقاً) بفعل مضمرٍ يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة، (إِنَّهُمُ): إنّ الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أي: تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليلٌ على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في كل وقت سجود): إشارة إلى أن قوله: (مسجدٍ) مصدر ميمي والوقت مقدر، أو اسم مكانٍ كني به عن الصلاة. وإليه الإشارة بقوله: "وهو الصلاة". قوله: (وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم)، وجه الاستدلال أن قوله: (إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ) جملة استثنافية على سبيل التعليل، كأنه قيل: لم حق عليهم الضلالة؟ أي: لم ثبت في علم الله أنهم يضلون ولا يهتدون؟ فأجيب: لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله. فيكون علمه تعالى تابعاً لضلالتهم وتوليهم الشياطين؛ فلا يكون مؤثراً فيها. وقلت: إذا أجرى قوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) على ما يقتضيه النظم، وورد فيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآثار من السلف الصالح، نظر: هل يستقيم دليله أم لا؟ كما روى محيي السنة عن ابن عباس: "إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) [التغابن: 2] ثم يعيدهم يوم القيامة على ما خلقهم: مؤمناً وكافراً"، وقال سعيد بن جبير: "كما كتب عليكم تكونون". وقال محمد بن كعب: "من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة". ويؤيده ما روينا عن الترمذي، عن عمرو بن العاص، قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟ " قلنا: لا يا رسول الله. فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً". ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً". فقال أصحابه. ففيم العمل يا رسول الله، إن كان الأمر قد فرغ منه؟ فقال: "سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل. وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل". ثم قال - أي: أشار - رسول الله صلي الله عليه وسلم بيديه، فنبذهما، ثم قال: "فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة، وفريق في السعير".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر أن قوله: "هذا كتاب من رب العالمين" صار على طريق التمثيل والتصوير. و"أجمل على آخرهم": من قولهم: أجمل الحساب: إذا تمم، ورد من التفصيل إلى الجملة، فأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته. و"فرغ ربكم": فذلكة الكلام ونتيجته. قاله القاضي. وأما النظم، فإنهم لما ادعوا أن الله شرع لهم الطواف عرايا، وأمر به كما سبق، ورد الله عليهم بأنه لا يشرع ولا يأمر بما فيه الفحشاء والمنكر، بل يشرع بما فيه القسط والعدل من التوحيد والإخلاص في العمل، نبههم على دقيقةٍ جليلة، وهي التنبيه على خطأ رأي من لا يفرق بين الأمر والإرادة. يعني: أن الله تعالى وإن أمر بالقسط، لكن لا يهدي إليه إلا من أراده له، وسبق حكمه به، وأبرم قضاءه له، لأنه (كما بدأكم تعودون). ومن قضائه وقدره أن هؤلاء الكفرة اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، وزين لهم سوء عملهم، حيث افتروا على الله الكذب، ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون. ويجوز الاستئناف، كأنه قيل: فإذا ما حكم هؤلاء الضلال؟ فأجيب: (إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ). وحاصل التقرير أن قوله: (كما بدأكم تعودون) متصل بالأمر على ما سبق، لا على ما قال: "كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم"، احتج عليهم في إنكارهم الإعادة؛ لأنه لا مدخل له في هذا المقام. وأن قوله: (فَرِيقًا هَدَى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ): بيان وتفصيل لقوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَعُودُونَ). وموقع هذا البيان مع هذا المبين موقع قوله تعالى: (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) مع قوله: (إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران: 59]. هاهنا نكتة سرية، وهي أنه تعالى قدم في قوله (كما بدأكم تعودون): المشبه به على المشبه، لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي ألبتة. وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر، روعيت في التفسير، وزيدت عليها، وهي أن قدم مفعول (هدى) للدلالة على الاختصاص، وأن فريقاً آخر ما أراد الله هدايتهم، وقرر ذلك بأن عطف عليه (وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)، وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير، أي: أضل فريقاً حق عليهم الضلالة. وفيه مع الاختصاص التوكيد، كما قرره صاحب "المفتاح" في كتابه، ليقلع ريبة المخالف من نسخها، ولا يقول: إن علم الله لا أثر له في ضلالهم. فانظر إلى هذا الطريق الواضح، ثم انظر كيف تعسف أولاً بقوله: "كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم"، ثم ثنى بقوله: "وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة"، كأنه ما التفت إلى تلك

[(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)]. (خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي: ريشكم ولباس زينتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاووس: لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة. وكان بنو عامرٍ في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً؛ يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم: "كلوا واشربوا ولا تسرفوا". وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: "كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الروايات، ولا إلى هذه الإشارات، مع دقة نظره، حباً لمذهبه، (واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4]. قوله: (وعن ابن عباس: "كل ما شئت") الحديث: رواه البخاري عنه تعليقاً. المخيلة: الكبر. النهاية: "اختال، فهو مختال، وفيه خيلاء ومخيلة، والمخيلة: الكبر". يقال: أخطأ فلان كذا: إذا عدمه. الأساس: "ومن المجاز: لن يخطئك ما كتب لك. وأخطأ المطر الأرض: لم يصبها. وتخاطأته النبل: تجاوزته".

ويحكى: أنّ الرشيد كان له طبيبٌ نصرانيٌ حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آيةٍ من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)، فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيءٌ في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظٍ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواءس، وأعط كل بدن ما عوّدته"، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("المعدة بيت الداء")، معنى الحديث ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن الجوزي في "لقط المنافع" عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة، صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم". شبه صلي الله عليه وسلم المعدة بالحوض، والبدن بالشجرة، والعروق الواردة إليها بعروق الشجر الضاربة إلى الحوض، الجاذبة ماءه إلى الأغصان والأوراق، فمتى كان الماء صافياً، ولم يكن ملحاً أجاجاً، كان سبباً لنضارة الأشجار وغضارتها، وإلا كان سبباً لذبولها وجفافها. فكذا حكم البدن مع المعدة. وذلك أن الله تعالى بلطف حكمته، وبديع فطرته، جعل

[(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)]. (زِينَةَ اللَّهِ) من الثياب وكل ما يتجمل به، (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في (من): إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل: كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها. (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) غير خالصةٍ لهم، لأنّ المشركين شركاؤهم فيها، (خالِصَةً) لهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشركهم فيها أحد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرارة الغريزية في بدن الإنسان مسلطةً عليه، تحلل الرطوبات، تسليط السراج على السليط، وخلق فيه أيضاً قوة جاذبةً ساريةً في مجاري عروق واردةٍ إلى الكبد، طالبة منه ما صفا فيها من الأخلاط التي حصلت فيه، بسبب عروقٍ واردةٍ منه إلى المعدة، جاذبةٍ منها ما انهضم فيها من المشروب والمطعوم، لينطبخ في الكبد مرة أخرى، فيصير بدلاً لما تحلل منه. هذا معنى الصدور بعد الورود، لأن العروق مجارٍ لما يرد فيها ويصدر منها، كعروق الشجر. فالأسلوب من باب: سال الوادي، وجرى الميزاب. فإذا كان ما في المعدة غذاءً صالحاً، وانحدر في تلك العروق إلى الكبد يحصل منه الغذاء المحمود للأعضاء، خلفاً لما تحلل منها، وإذا كان فاسداً، إما لكثرة أكلٍ وشرب، أو إدخال

فإن قلت: هلا قيل: هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت: لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبعٌ لهم، كقوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة: 126]. وقرئ: (خالصةً) بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر. [(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طعام على طعام، أو غير ذلك، كان سبباً لتولد الأخلاط الرديئة، المؤدية للأمراض المردية. وذلك بتقدير العزيز العليم. وهذا الحديث أجمع وأعرف وأبين مما أورده المصنف. قوله: (كقوله: (ومن كفر فأمتعه قليلاً))، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما قال: (وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم) [البقرة: 126] لقنه سبحانه تعالى: (ومن كفر فأمتعه قليلاً). والاستشهاد على قراءة ابن عباس: "فأمتعه" - بلفظ الأمر - أظهر. قال السجاوندي: "الذين آمنوا": الأصل في ضيافة الدنيا، لكن التبع أكثر تمتعاً، والمتبوع أقرب تشرفاً. ولهذا قال: (وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا) [الأعراف: 6]. قوله: (وقرئ: (خالصةً) بالنصب)، نافع: بالرفع، والباقون: بالنصب.

(الْفَواحِشَ): ما تفاحش قبحه، أي: تزايد، وقيل هي ما يتعلق بالفروج، (وَالْإِثْمَ) عام لكل ذنب، وقيل: شرب الخمر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال السجاوندي: " (خالصةً): حال. نحو: "صائداً به غداً". وعامله اللام المحذوفة، أي: في الحياة الدنيا مشتركة، ولهم في الآخرة خالصة". وقال أبو البقاء: "العامل فيها (للذين) أو (في الحيوة الدنيا) إذا جعلته خبراً أو حالاً. أي: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، في حال خلوصها لهم يوم القيامة. أي: [أن] الزينة يشاركون فيها في الدنيا، وتخلص لهم في الآخرة. ولا يجوز أن يعمل في (خالصةً) (زينة الله)، لأنه قد وصفها بقوله (التي)، والمصدر إذا وصف لا يعمل. ولا قوله: (أخرج) لأجل الفصل الذي بينهما، وهو قوله: (قل). وأجاز أبو علي أن يعمل فيها (حرم)، وهو بعيد، لأجل الفصل أيضاً". قوله: ((الفواحش): ما تفاحش قبحه، أي: تزايد)، والظاهر أنه أراد أنه تكرار لقوله قبيل هذا: "الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنب"، لأن الفواحش: جمع فاحشة. وأما في التنزيل فإن هذه أعم وأشمل من الأولى، كما تقرر أن المراد بالأولى طوافهم بالبيت عرايا، ومن ثم جمعها، ثم فصلها بقوله: (ما ظهر منها وما بطن)، وعطف عليه "الإثم والبغي والشرط"، لأن هذه الآية كالخاتمة للآيات السابقة، وما يعقبها كالأخذ في مشرعٍ آخر، وتلك مستطردة لحديث قبح كشف العورة، كما سبق.

(وَالْبَغْيَ): الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل: 90]. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ): وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والبغي): الظلم والكبر، أفرده بالذكر)، قال القاضي: "أفرده بالذكر للمبالغة وعلق به قوله: (بغير الحق) توكيداً". قلت: هو مثل قولك: أخذته بيدي، ونظرته بعيني. وقال أبو البقاء: " (بغير الحق): حال من الضمير الذي في المصدر، أي: وأن تبغوا بغير الحق". وقلت: الحال مؤكدة، كما مر في قوله تعالى: (ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25]. ذكر "الإثم" في هذه الآية، وهو عام لكل ذنب، ثم عطف عليه "البغي" المقيد، كما ذكر "المنكر" في تلك الآية، وهو عام، وعطف عليه "البغي"، ليؤذن بأن الكبر أفحش الإثم وأقبح المنكر، ولذلك ورد: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة. فالمتكبر يبغي على ربه وينازعه، ويبغي على الخلق، لأنه ينزل نفسه فوق منزلته، ويرى الناس دونه، فيهضم حقهم، والله أعلم. قوله: ((ما لم ينزل به سلطاناً): فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل به برهاناً بأن يشرك به غيره)، قال في "الانتصاف": قياسه أن يكون كقوله:

[(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)]. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وعيدٌ لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ: "فإذا جاء آجالهم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على لاحبٍ لا يهتدى بمناره وقلت: هذا هو الحق، لأن المعنى: حرم ربي أن تشركوا بالله شركاء لا ثبوت لها، ولا أنزل الله بإشراكها سلطاناً. بالغ في نفي الشريك، فنفي لازمه، لينتفي ملزومه بالطريق البرهاني. قوله: (وقرئ: "فإذا جاء آجالهم")، قال ابن جني: "قرأها ابن سيرين. هذا هو

وقال: (ساعَةً) لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه. [(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدةً لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة. فإن قلت: فما جزاء هذا الشرط؟ قلت: الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ: "تأتينكم" بالتاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر، لأن لكل إنسان أجلاً. وأما إفراده فإنه جنس، أتته الجنسية من قبل المصدر. وحسن الإفراد أيضاً لإضافته إلى الجماعة. وقد علم أن لكل إنسانٍ أجلاً". قوله: (أقل الأوقات في استعمال الناس)، يريد أن تقدير "الساعة" ليس للتحديد، بل للمثل لأقصر وقت، لأن التأخير والتقديم لا يتصور ثمة. قال الزجاج: "ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات". قوله: (ضمت إليها "ما" مؤكدةً)، قال الزجاج: "إنما تلزم "ما" النون، لأن "ما" تدخل مؤكدة، كما تلزم اللام النون في القسم، إذا قلت: والله لتفعلن. فـ"ما" توكيد، كما أن اللام توكيد، فلزمت النون".

[(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)]. (فَمَنْ أَظْلَمُ): فمن أشنع ظلماً ممن تقوّل على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي: مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار، (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا): (حتى) غايةٌ لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أي: إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى» التي يُبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، وهي (إذا جاءتهم رسلنا .... قالوا)، و (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حالٌ من الرسل، أي: متوفيهم. والرسل: ملك الموت وأعوانه. و«ما» وقعت موصولة بـ"أين" في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل؛ لأنها موصولةٌ بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون (ضَلُّوا عَنَّا): غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافاً منهم بأنهم لم يكونوا على شيءٍ فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة. [(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ* وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: إن "ما" تفيد زيادة عموم، فمعنى قولك: "إما تفعلن": إن اتفق منك وجود الفعل بوجهٍ من الوجوه. قوله: (أي: متوفيهم)، الياء فيه: ياء الجمع، لا ياء التوفي، أي: متوفين لهم. قوله: (لم يحمدوه) الضمير راجع إلى "ما" في "فيما كانوا عليه".

(قالَ ادْخُلُوا) أي: يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) [الأعراف: 37]، وهم كفار العرب، (فِي أُمَمٍ) في موضع الحال، أي: كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أي: ادخلوا في النار مع أمم، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتقدّم زمانهم زمانكم (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي ضلت بالاقتداء بها، (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) أي: تداركوا، بمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النار، (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلةً وهي الأتباع والسفلة، (لِأُولاهُمْ) منزلةً وهي القادة والرؤوس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي غمارهم)، الجوهري: "الغمرة: الزحمة من الماء والناس، والجمع: غمار. ودخلت في غمار الناس - يضم ويفتح -، أي: في زحمتهم وكثرتهم". روي عن المصنف أنه قال: (في) في هذه الآية: مثل "في" في قول عروة بن أذينة: إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكاً ففي آخرين قد أفكوا أي: في جملة آخرين هم في مثل حالك. أفكه يأفكه أفكاً، أي: قلبه وصرفه عن الشيء. يقول: إن لم توفق للإحسان، فأنت في قومٍ قد صرفوا عن الإحسان. قوله: ((اداركوا فيها) أي: تداركوا)، قال الزجاج: (اداركوا): تداركوا، فأدغمت التاء في الدال. (جميعاً): حال، أي: إذا تداركوا فيها مجتمعين".

ومعنى (لأولاهم): لأجل أولاهم؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم، (عَذاباً ضِعْفاً): مضاعفاً، (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) لأنّ كلاً من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين، (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) قرئ بالياء والتاء. (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أي: فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، وأنا متساوون في استحقاق الضعف، (فَذُوقُوا الْعَذابَ) من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن كلاً من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين)، هذا في حق القادة ظاهر، وأما الأتباع فلأنهم لما اتخذوهم رؤساء عظماء، ورضوا بذلك كأنهم أضلوهم. كقوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]. والأحسن أن يقال: إن ضعف الأتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا منهم عرض الدنيا إتباعاً للهوى، يدل عليه قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) (سبأ: 32. قوله: (قرئ: بالياء والتاء): بالياء التحتانية: أبو بكر. قال الزجاج: "من قرأ بالتاء، فمعناه: لا تعلمون، أيها المخاطبون، ما لكل فريقٍ منكم من العذاب، ومن قرأ بالياء فالمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر". قوله: (عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى): أي: رتبوا كلامهم على كلام الله، على وجه التسهيب، لأن إخبار الله بقوله: (لكل ضعف) سبب لعلمهم بالمساواة، وحملهم على أن يقولوا: وإذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا في استحقاق الضعف.

[(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)]. (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ): لا يصعد لهم عملٌ صالح؛ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10]، (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين: 18]، وقيل: إنّ الجنة في السماء، فالمعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين. وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، (ففتحنا أبواب السماء) [القمر: 11]. وقرئ: (لا تفتح) بالتشديد، "ولا يفتح" بالياء. "ولا تفتح" بالتاء والبناء للفاعل ونصب "الأبواب" على أنّ الفعل للآيات، وبالياء على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ ابن عباس: "الجُمَّل" بوزن "القُمَّل"، وسعيد بن جبير: "الجُمل" بوزن النغر. وقرئ: "الجمل" بوزن "القفل". "والجمل" بوزن "النصب". "والجمل" بوزن "الحبل". ومعناها: القلس الغليظ «لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا تنزل عليهم البركة)، هذا أولى الوجوه، لظهور فائدة قوله: (ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ). كأنه قيل: ينسد عليهم طريق خير الدارين، وتنغلق سبيل بركة المنزلين. قوله: (وقرئ: (لا تفتح) بالتشديد): نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم. وبالتخفيف والتاء: أبو عمرو. والياء: حمزة والكسائي. قوله: (بوزن النغر)، وهو طير كالعصافير حمر المناقير.

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، يعني: أن الحبل مناسب للخيط الذي يُسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه؛ إلا أن قراءة العامّة أوقع لأن سم الابرة مثلٌ في ضيق المسلك. يقال: أضيق من خرت الابرة. وقالوا للدليل الماهر: خِرّيت، لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر. والجمل: مثل في عظم الجرم. قال: جسم الجمال وأحلام العصافير إن الرجال ليسوا بجزرٍ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن سم الإبرة مثل في الضيق)، الراغب: "السم والسم: كل ثقب ضيق، كخرت الإبرة، وثقب الأنف. وجمعه: سموم. وقد سمه: أدخله فيه. قال تعالى: (حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ). والسم: القاتل، هو مصدر في معنى الفاعل، فإنه يلطف تأثيره، ويدخل في بواطن البدن. والسموم: الريح الحارة، التي تؤثر تأثير السم". قوله: (جسم الجمال وأحلام العصافير) أوله لحسان: لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظم يقول: لا يعجبنك من القوم عظم أجسامهم، وطول قامتهم، إنما المرء بالحلم والعلم، لا بالشحم واللحم. قوله: (إن الرجال ليسوا بجزرٍ)، الجزر: جمع الجزور، وهو الإبل.

تراد منهم الأجسام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الميداني: "قاله شقة بن ضمرة، وكان المنذر يسمع قوله، ويعجبه ما يبلغه عنه، فلما رآه قال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فأرسلها مثلاً. قال شقة: أبيت اللعن، وأسعدك إلهك، إن القوم ليسوا بجزر، وإنما الرجل بأصغريه: لسانه وقلبه. فأعجب المنذر كلامه، وسره كل ما رأى منه". قوله: (تراد منهم الأجسام)، قيل: هو صفة "جزر" وليس بذلك، إذ لا عائد. وهو إما حال من اسم "ليسوا"، أو على تقدير: ليسوا بجزرٍ لأن تراد منهم الأجسام كما يراد منها، ثم حذف "أن" كما في قوله: أحضر الوغى

فقيل: لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان - الذي لا يلج إلا في بابٍ واسع- في ثقب الإبرة. وعن ابن مسعودٍ أنه سئل عن الجمل، فقال: زوج الناقة، استجهالاً للسائل، وإشارةً إلى أن طلب معنى آخر تكلف. وقرئ: (فِي سَمِّ) بالحركات الثلاث، وقرأ عبد الله: "في سم المخيط"، والخياط، والمخيط - كالحزام والمحزم-: ما يخاط به، وهو الإبرة، (وَكَذلِكَ): ومثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوجه أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: "ليسوا". قوله: (فقيل: لا يدخلون) مترتب على قوله: "لأن سم الإبرة مثل ... والجمل مثل" أي: أريد أن يوقع التمثيل فيهما، فقيل: "لا يدخلون" إلى آخره. قوله: (ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب)، يريد أنه من باب ترتب الحكم الذي هو الجزاء بالعقاب، على الوصف المناسب الذي هو الإجرام.

وقد كرره فقال: (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لأن كلّ مجرم ظالمٌ لنفسه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد كرره، فقال: (وكذلك)، يعني: أوقع قوله: (وكذلك نجزى المجرمين) تذييلاً للكلام السابق، لتلك العلة، لأن فائدة التذييل غالباً توكيد المذيل، وإبراز حكمه في صورةٍ كلية. ومن ثم فسره لك بقوله: "وأن كل من أجرم عوقب، لأن كل مجرمٍ ظالم لنفسه". ونحوه قوله تعالى: (إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34] أي: الإفساد. أي: كل من ملك دأبه الإفساد، إذا دخل أرض العدو. وقوله: (لأن كل مجرم ظالم لنفسه) مشعر بأن قوله: (الظالمين) وضع موضع الضمير، وكرر التذييل، ليناط بما لم ينط به أولاً، فآذن أولاً بحرمانهم من دخول الجنة، وثانياً بحرمان خروجهم من النار، لأنهم في بحبوحتها. قال القاضي: "عبر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعاراً بأنهم بتكذيبهم

(مِهادٌ): فراشٌ، (غَواشٍ): أغطية. وقرئ: "غواشٌ" بالرفع، كقوله تعالى: (وله الجوار المنشآت) [الرحمن: 24] في قراءة عبد الله. [(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد، مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الأعمش: "لا تكلف نفسٌ". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآيات، اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار، تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام". قوله: (وقرئ: "غواش" بالرفع) جعل عين الفعل معتقباً للإعراب. قوله: (ما لا يكتنهه وصف الواصف): مقتبس من معنى قوله: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وفائدة الاعتراض توكيد الترغيب، وذلك أن في جعل (آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) صلة للموصول، وإيقاع (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ) خبراً له، إشعاراً بأن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، وأن اسم الإشارة دل على أن ما بعده جدير بما قبله، بما اكتسب من الخصال الفاضلة. فإذا سمع المكلف هذا الترغيب، نشط لاكتسابها، ثم إذا سمع أن ذلك على السعة لا الضيق، يزيد في نشاطه ورغبته.

[(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. من كان في قلبه غلٌّ على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت، ولم يكن بينهم إلا التوادّ والتعاطف، وعن عليّ رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. (هَدانا لِهذا) أي: وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم، وهو الإيمان والعمل الصالح، (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) اللام لتوكيد النفي، ويعنون: وما كان يستقيم أن تكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام: "ما كنا لنهتدي" بغير واو، على أنها جملةٌ موضحة للأولى، (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللام لتوكيد النفي)، وقد سبق تقريره في آخر سورة "النساء". قوله: ((لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء، فاهتدينا). جعل الجملة القسمية علةً لهدايتهم، وهي إلى إثبات صدق وعدهم بالجنة أقرب وأولى، لتبقي الهداية منحةً من الله، وفضلاً منه، لأن الهداية عقلية، ونبهنا عليها، كما قال في "الانتصاف": "هذه الآية تشهد بنفي الهدى عمن لم يهده الله، لا كمن يزعم أنه يخلق لنفسه الهدى، وإن لم يهده الله. فحرف الزمخشري "الهدى" إلى "اللطف"، فانظر أي المعنيين أقرب إلى لفظ: (ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) المقول في دار الجزاء، بعد تحقق الحق، وهم في مقعد صدق".

يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة. (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) (أن) مخففةٌ من الثقيلة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واغتباطاً)، النهاية: "يقال: غبطت الرجل أغبطه غبطاً: إذا أنت تمنيت أن يكون لك مثل ما له، وأن يدوم عليه ما هو فيه". الجوهري: "الغبطة: أن تتمنى مثل حال المغبوط، من غير أن تريد زوالها عنه، وليس بحسد. وتقول منه: غبطته بما نال، أغبطه غبطاً وغبطةً، فاغتبط، هو كقولك: منعته فامتنع، وحبسته فاحتبس. قال الشاعر: وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير أي: هو مغتبط". فقوله: "اغتباطاً بحالهم" معناه: المبالغة، وأنهم يغتبطون بحال أنفسهم، وبما نالوا من الكرامة، فهم مغتبطون.

تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة، (أُورِثْتُمُوها) والضمير ضمير الشأن والحديث، أو تكون بمعنى: أي؛ لأنّ المناداة من القول، كأنه قيل: وقيل لهم أي: تلكم الجنة أورثتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بسبب أعمالكم لا بالتفضل، كما تقول المبطلة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونودوا بأنه تلكم الجنة)، ذكر ضمير الشأن، مع أن في الكلام مؤنثاً، كقولهم: وأنه أمة الله ذاهبة. قال ابن الحاجب: "كأنهم قصدوا بقولهم: يجيء مؤنثاً إذا كان في الكلام مؤنث، إلى المناسبة، وإلا فالمعنى سواء، سواء كان مذكراً أو مؤنثاً". وقال الزجاج: "إنما قيل: (تلكم) لأنهم وعدوا بها في الدنيا، وجائز أن يكون عاينوها، فقيل لهم من قبل دخولها، إشارة إلى ما يرونه، كما تقول لمن تراه: ذلك الرجل أخوك. ولو قلت: هذا الرجل، لأنه يراك، جاز". قوله: (بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة)، هذا قول باطل، مناقض لما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر قالا: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعلمه". قالوا: ولا أنت؟ ! قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".

[(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)]. (أن) في (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) يحتمل أن تكون مخففةً من الثقيلة، وأن تكون مفسرةً كالتي سبقت آنفاً، وكذلك (أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأصحاب النار، وزيادةً في غمهم، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية أخرى لأبي هريرة: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة". ذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين". النهاية: "أن يتغمدني الله برحمته، أي: يلبسنيها، ويسترني بها. مأخوذ من "غمد السيف" وهو: غلافه: "سددوا وقاربوا" أي: اقتصدوا في الأمور كلها، واتركوا الغلو فيها والتقصير. قارب فلان في أموره: إذا اقتصد". الانتصاف: "الآية جعلت الجنة جزاءً للعلم فضلاً ورحمة، لا أنه واجب لهم وجوب الديون. والذين كذبوا الخبر، وأوجبوا على الله ما لا يوجبه على نفسه، هم المبطلون". قوله: (ولتكون حكايته): معطوف على قوله: "اغتباطاً". وصرح باللام لعدم كونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل، أي: لتكون حكاية الله قولهم الذي هو بمنزلة الكائن لطفاً لمن سمعها، ليزجرهم عما يبعدهم عن تلك المنزلة، وترغيباً في حصولها. فالظاهر أن معلله محذوف، والجملة عطف على الجملة، أي: إنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً، وحكى الله عنهم ذلك ليكون لطفاً لمن سمعها.

وكذلك قول المؤذن بينهم: "لعنة الله على الظالمين"، وهو ملك يأمره الله فينادي بينهم نداءً يُسمِعُ أهل الجنة وأهل النار. وقرئ: (أنّ لعنة الله) بالتشديد والنصب، وقرأ الأعمش: "إن لعنة الله" بكسر "إن" على إرادة القول، أو على إجراء (أَذَّنَ) مُجرى "قال". فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ما وعدنا ربنا؟ قلت: حذف ذلك تخفيفاً لدلالة (وعدنا) عليه، ولقائلٍ أن يقول: أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة؛ لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك. [(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)]. (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) يعني: بين الجنة والنار، أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد: 13]. (وَعَلَى الْأَعْرافِ): وعلى أعراف الحجاب - وهو السور المضروب بين الجنة والنار-، وهي أعاليه، جمع "عُرفٍ"، استعير من عرف الفرس وعرف الديك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أن لعنة الله" بالتشديد والنصب): ابن عامر وحمزة والكسائي. قوله: (أطلق ليتناول كل ما وعد الله)، يعني أن الله تعالى وعد المؤمنين الثواب، والكافرين العقاب، فلو قيل: "وعدكم" لاختص بالعقاب، لأن المخاطبين أصحاب النار، كما أن (وعدنا) مختص بالثواب، يدل عليه ذكر الجنة والنار في قوله: (ونَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ). فأطلق ليتناول الثواب والعقاب، وما يتصل بهما. يعني: هل وجدتم الوعود كلها صدقاً؟ توبيخاً وتقريعاً. أو قالوا كلك شماتةً بهم.

(رِجالٌ) من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم، كأنهم المرجون لأمر الله، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة، (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من زمر السعداء والأشقياء (بِسِيماهُمْ): بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها، يلهمهم الله ذلك: أو تعرّفهم الملائكة. [(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ* أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المرجون لأمر الله) بفتح الجيم، وسكون الواو. النهاية: "الإرجاء: التأخير. وهو مهموز، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته: إذا أخرته". هذا تفسير بين، يؤيده قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال) أي: على أعراف الحجاب، وهو الأعالي منه. روى الإمام أنه قيل للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذه، وقال: هم قوم جعلهم الله على تعرف أهل الجنة وأهل النار، يميزون البعض من البعض. والله لا أدري، لعل بعضهم الآن معنا. ثم آتى الإمام بوجوه ثلاثة متضمنة على أنهم: الأشراف من الملائكة، والأنبياء، والشهداء، وأطال فيها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذي يقتضيه النظم ما ذهب إليه المصنف، فإنه تعالى بعد أن ذكر الفريقين: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، أتى بمقاولاتهم ومناظراتهم، وما جرى بينهم، فقال أولاً: (ونَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وجَدْنَا مَا وعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا) [الأعراف: 44]. ثم حكى نداء أصحاب النار أصحاب الجنة، بقوله: (ونَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ) [الأعراف: 50]. فوسط بين المقالتين ذكر قوم توسطت حالهم بين حاليهما في المكان والمقام: أما المكان فقوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال). وأما المقام فهو الخوف والرجاء، فقد أشار إليه بقوله تعالى: (لم يدخلوها وهم يطمعون)، وقوله: (لا تجعلنا مع القوم الظالمين). ويؤيد هذا التقسيم قوله تعالى في التوبة: (وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 106] بعد ذكر الفريقين من أهل الثواب والعقاب. وإليه الإشارة بقوله: (كأنهم المرجون". وإنما لم يجزم لاختلاف المفسرين. وقوله: "يعرفون كلا من زمرة السعداء والأشقياء بسيماهم"، الراغب: "المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، فهو أخص من العلم، يقال: فلان يعرف الله، ولا يقال: يعلم الله، متعدياً إلى مفعول واحد، لما كان معرفة البشر لله تعالى هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال: الله يعلم، ولا يقال: يعرف، لأن المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر، وأصله من عرفت، أي: أصبت عرفه، أي: رائحته، أو من أصبت عرفه، أي: خده، قال تعالى: (تعرفهم بسيماهم)، ويضاد المعرفة الإنكار، كالعلم الجهل، قال تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)، (فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)، والعارف في تعارف القوم: هو المختص بمعرفة الله تعالى، ومعرفة ملكوته، وحسن معاملته لله تعالى".

إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم، (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله، وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادراً رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم: (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) إشارةً لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون: أن الله لا يدخلهم الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) يقال لأصحاب الأعراف: (ادخلوا الجنة)، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين، ويعرفوهم بسيماهم، ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك: بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدّم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا بسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين، ... .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم)، إشارة إلى أن قوله: (ونادوا أصحاب الجنة) [الأعراف: 46] جزاء شرطٍ محذوف، لدلالة قوله: (وإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ). وكلاهما كالتفصيل لقوله: (يعرفون كلا بسيماهم) [الأعراف: 46]. وإنما قدر: "نظروا" دون (صرفت) للمقابلة، ليؤذن بأن النظر إلى أصحاب الجنة وجد منهم على الرغبة، وميل النفس، وإلى أصحاب النار بخلافه. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: "وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم". قوله: (ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة، يقولون لهم: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ))، وفي التنزيل: (ونَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ومَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. أخر تفسير قوله: (ما أغنى عنكم جمعكم) لينبهك على مكان نكتة، وهي: أن أصل الكلام جار في شأن أصحاب الجنة وتكريمهم، وتقريع أصحاب النار وتعييرهم متفرع عليه، وذلك أن أصحاب الأعراف لما سلموا على أصحاب الجنة، أقبلوا إلى أعدائهم ومن كانوا يستهينون بهم، ويحتقرونهم لفقرهم، قائلين: أهؤلاء الذين أقسمتم: إن الله لا يدخلهم الجنة؟ ثم لمزيد التوبيخ ادخلوا: (مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ومَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) بين الكلامين اعتراضًا. ويمكن أن يقال: إن قوله: (مآ أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) في مقابل قولهم لأصحاب الجنة: (سلم عليكم). وكل من المتقابلين مضاد لمعنى الآخر، فقيل لهم: (سلام عليكم)، أي: سلمتم من متابع الدنيا، وتبعاتها، وما كنتم تسمعون من أذى المتكبرين الذين كانوا يفتخرون عليكم، ويستضعفونكم، ويستقلون بأحوالكم، وقيل لهؤلاء: ما أغنى عنكم أموالكم وما كنتم به تتنعمون، وتفتخرون على فقرائكم، فقد وقعتم في العذاب. ثم زيد فيما يزيد في حسرتهم وغيظهم، بقوله: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) لأن الإحسان إليهم نكال لهم فوق النكال. ويؤيده قول الإمام: "قوله: (وما كنتم تستكبرون) كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف

ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحدٍ يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه، وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحدٍ حتى أقصر الناس عملاً. وقوله: (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) فيه: أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش: "وإذا قلبت أبصارهم"، وقرئ: "أدخلوا الجنة" على البناء للمفعول، وقرأ عكرمة: "دخلوا الجنة". فإن قلت: كيف لاءم هاتين القراءتين قوله: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)؟ قلت: تأويله: أدخلوا، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم: لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بوقوع أولئك في العقاب، وعلى تبكيتٍ عظيم. ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)، لأنهم كانوا يستضعفونهم، ويستهزئون بهم، وأنفوا من مشاركتهم في دينهم". قوله: (فيه: أن صارفاً يصرفهم)، يعني: في بناء الفعل للمفعول إشارة إلى هذه الرمزة، وهي الإلجاء إلى النظر وإلى الاستعاذة وإلى التوبيخ: أما الاستعاذة فهي قولهم: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظلمين)، وأما التوبيخ فهو قولهم: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمةٍ). قوله: (كيف لاءم هاتين القراءتين؟ ) أي: "أدخلوا" على البناء للمفعول، و"دخلوا" على الماضي، لأن مقتضاهما أن يقال: "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

فإن قلت: ما محل قوله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)؟ قلت: لا محل له لأنه استئناف؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني: حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين، وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لـ (رجال). (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) المال، أو كثرتكم واجتماعكم (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ: "تستكثرون"؛ من الكثرة. [(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ* الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)]. (أَفِيضُوا عَلَيْنا) فيه دليلٌ على أن الجنة فوق النار، (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) من غيره من الأشربة؛ لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد: أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة، كقوله: ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (كأن سائلاً سأل) أي: قال: ما حال أصحاب الأعراف حينئذ؟ وأجيب: لم يدخلوا الجنة، لكنهم طامعون أن يدخلوها لم ييأسوا عن دخولها. قوله: ((أو مما رزقكم الله) من غيره من الأشربة)، يعني: عطف قوله: (مما رزقكم الله) على (الماء)، فدخل تحت حكم الإفاضة، فيحمل على غير الماء من الأشربة، ليصح.

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرةً في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن. (حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ): منعهم شراب الجنة وطعامها، كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر، كقوله: حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ): نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (علفتها تبناً وماءً باردا)، أنشد تمامه ابن قتيبة الدينوري في كتاب "مشكل القرآن" عن الفراء: حتى شكت همالةً عيناها وفي الحواشي أن هذا المصراع تمام قوله: حرام على عيني أن تطعما الكرى قوله: (نفعل بهم فعل الناسين)، يعني: أنه تمثيل، لأنه متعالٍ أن ينسى شيئاً، لكن شبه معاملته مع هؤلاء المنكرين بمعاملة من ينسى عبده من الخير، فلا يلتفت إليه.

(كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا): كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به. [(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)]. (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ): عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيماً قيماً غير ذي عوج؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما فعلوا بلقائه فعل الناسين)، يعني: أن وصفهم بالنسيان أيضاً تمثيل، لأنهم في الدنيا لم يكونوا ذاكري الله حتى نسوا، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله، أي: القيامة، ببالهم، وقلة مبالاتهم، بحال من عرف شيئاً ثم نسيه. قوله: (عالمين كيف نفصل أحكامه؟ )، يعني: أوقع (على علم) حالاً عن ضمير الفاعل في (فصلناه)، ليكون كنايةً عن كون الكتاب حكيماً غير ذي عوج، لأن الفاعل إذا كان عالماً بما يفعل، متقناً فيه، جاء فعله محكماً مستقيماً. قوله: (كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه؟ ) كأنه يشير إلى أن هذه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآية كالخاتمة لجميع ما سبق، والتخلص إلى مشرع آخر من التذكير بالدلائل الدالة على القدرة الباهرة، وتعداد أحوال الأمم السالفة، تنبيهاً للغافلين، وتبصرةً للمتذكرين، وعبرة للمعتبرين. فإذن الآية متصلة بفاتحة السورة وبما بعدها، على سبيل الاعتراض، والتخلص، وذلك أنه تعالى لما نهاه عن ضيق الصدر، وعلله بإنزال هذا الكتاب المعجز، كما سبق، ثم أمره بأن ينذرهم، بقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) [الأعراف: 3]، ويذكرهم بقوله: (ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ) الآية [الأعراف: 10] ما أولاهم من نعمة التمكين، وما خولهم من الكرامة، بأن جعل أباهم مسجوداً للملائكة، وطرد الشيطان بسبب امتناعه عن السجود، وحذرهم عن متابعته، وأدمج الكلام بعضه في بعض، على أساليب عجيبة، وفنون غريبة - عقبه بقوله: (ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) أي: جئناهم بمثل هذا الكتاب الظاهر التفصيل، البين التأويل، الهادي السعداء إلى الصراط المستقيم. ثم بقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ تَاوِيلَهُ) أي: ما لهم بعد هذا التفصيل والتوضيح لا يؤمنون، وينتظرون فيما ينتظرون، إلا يوم يأتي عاقبة أمره، وما نطق به من قوارع الساعة، حتى "لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل"، وحينئذٍ يقولون متحسرين نادمين: (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)! فما أخسرهم! وما أوخم مآل أمرهم! ثم قال: (وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: يفترونه في إبطال ما أنزل عليهم.

وقرأ ابن محيصن: "فضلناه" بالضاد المعجمة، بمعنى: فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهلٌ للتفضيل عليها، و (هُدىً وَرَحْمَةً) حالٌ من منصوب (فضلناه)، كما أن (على علمٍ) حال من مرفوعه. (إِلَّا تَاوِيلَهُ): إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي: تبين وصحّ أنهم جاءوا بالحق، (نُرَدُّ) جملة معطوفةٌ على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء، أو هل نُردّ؟ ورافعه: وقوعه موقعاً يصلح للاسم، كما تقول ابتداءً: هل يضرب زيد؟ ولا يطلب له فعلٌ آخر يعطف عليه، فلا يقدّر: هل يشفع لنا شافعٌ أو نردّ؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (الذين نسوه): مظهر وضع موضع الضمير. والمراد بالنسيان: الترك، وطلب التأويل. قوله: ((نرد): جملة معطوفة على الجملة التي قبلها)، وهي قوله: (لنا من شفعاء) وهي: مبتدأ وخبر، و (من): زائدة، لأن الكلام منفي معنى. قوله: (ورافعه: وقوعه موقعاً يصلح للاسم). يعني به في ابتداء الكلام، لأن الابتداء صالح لأن يقع فيه الاسم أو الفعل المضارع. وأما الماضي لما انتفى استحقاقه الإعراب، انتفى ما هو مبني عليه، وهو استحقاقه الرفيعة. قوله: (فلا يقدر: هل يشفع لنا شافع). يعني: لا يجوز تقدير "يشفع" ليعطف (نرط) عليه فيطابقه، لأن جواب الاستفهام، وهو (فيشفعوا) يأبي ذلك، لما يؤدي هذا العطف إلى الانسحاب والاشتراك فيه، إذ التقدير:

وقرأ ابن أبي إسحاق: "أو نردّ" بالنصب عطفاً على (فيشفعوا لنا)، أو تكون (أو) بمعنى «حتى أنّ» أي: يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل، وقرأ الحسن بنصب "نُرَدُّ" ورفع "فَنَعْمَلَ"؛ بمعنى: فنحن نعمل. [(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "هل نرد، فيشفعوا لنا؟ "، فيفسد المعنى، ويعطل أيضاً (فنعمل)، لأنه جواب، أي: للاستفهام الثاني، بخلاف ما عليه الظاهر، فإنه عطف الفعل مع جوابه، على مثلها من الجملة، وإن لزم عطف الجملة الفعلية على الاسمية، على أن "هل" تستدعي الفعلية، فكأنه عطف الفعلية على مثلها. وفائدة العدول إظهار القصد إلى توخي الشفعاء، وأنه أهم شيءٍ عندهم حينئذ، ليتخلصوا من تلك الورطة، بخلاف الرد. قال صاحب "المفتاح": " (فهل): أدعى للفعل من الهمزة. فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد". ومن ثم أدخل (من) الاستغراقية على "الشفعاء". قوله: ("أو نرد" بالنصب: عطفاً على (فيشفعوا)). قال ابن جني: " (فيشفعوا): منصوب لأنه جواب الاستفهام، وفيه معنى التمني. كأنهم

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) وقرئ: (يغشي) بالتشديد، أي: يلحق الليل النهار، أو النهار بالليل يحتملهما جميعاً. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس: "يغشى الليل النهار"، بفتح الياء ونصب "الليل" ورفع "النهار"، أي: يدرك النهار الليل و (يطلبه حثيثاً) حسن الملاءمة لقراءة حميد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: أنرزق شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد به فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وذلك أنهم مع نصب "نرد" تمنوا الشفعاء وحدهم، وقطعوا بالشفاعة والرد. وعلى قراءة الجماعة برفع (نرد): تمنوا الشفعاء، وقطعوا بالشفاعة، وتمنوا الرد أيضاً، كأنه قال: أو هل نرد فنعمل". قوله: (وقرئ: "يغشى الليل" بالتشديد): أبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالتخفيف. قوله: (يحتملهما جميعاً)، أي: يحتمل أن يكون النهار ملحقاً بالليل، وأن يكون الليل ملحقاً بالنهار. قوله: (والدليل على الثاني) أي: على أن يكون الليل ملحقاً بالنهار، قراءة حميد: "يغشى الليل النهار" بنصب "الليل" ورفع "النهار". فقوله: (يطلبه حثيثاً) مبتدأ، وقوله: "حسن الملاءمة" خبره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: يلزم على قراءة حميد، أن يكون الطالب النهار، والليل ملحق به، والطلب بالنهار أولى، والليل أحسن أن يكون ملحقاً به. قال ابن جني: "يغشى الليل النهار" - على قراءة حميد - حال من قوله: (ثم استوى على العرش)، والعائد محذوف، أي: يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه، وإنما التزم هذا الحذف لتتفق القراءتان. فقوله: (يطلبه حثيثاً): يدل من قوله: "يغشى الليل النهار" للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة: حال من (لليل)، أي: يغشى الليل النهار طالباً له حثيثاً، و (حثيثاً): حال من الضمير في (يطلبه). ووجه التقاء القراءتين أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما فاعل، وإن كان مفعولاً فإن كل واحدٍ منهما مزيل لصاحبه، على أن الظاهر في الاستحثاث هو النهار، لأنه بسفوره وشروقه يظهر أثر الاستحثاث، لأن ضوء النهار هو الهاجم على الظلمة، ويطالبه حثيثاً، وقوله: (يطلبه حثيثاً) على هذا: حال من (النهار)، وإن كان مفعولاً، كقولك: "ضربت هند زيداً مؤلمةً له". فإن "مؤلمةً له" يجوز أن يكون حالاً من كل واحد منهما، لما اشتمل على ضميرهما. وهو نظير قوله: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) [مريم: 27]، (تحمله) يجوز أن يكون حالاً من كل واحد منهما، ومنهما معاً. قلت: قوله: "على أن الظاهر في الاستحثاث هو النهار": هو المراد من قول المصنف: " (يطلبه حثيثاً): حسن الملاءمة لقراءة حميد". هذا هو التحقيق، لا ما قال صاحب "التقريب": "حسن الملاءمة اتحاد الإسناد، ورجوع الضمير إلى الأقرب"، وتبعه الجمهور. والذي يؤيد قول ابن جني قوله تعالى: (وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) [يس: 37].

(بِأَمْرِهِ): بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق (مسخرات)، أي: خلقهنّ جارياتٍ بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك "أمراً" على التشبيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المرزوقي: "يعلم منه أن الليل قبل النهار، لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ". وقال الفراء: "الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها". وفي معناه أنشد بعضهم: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجي ... نطير غراباً ذا قوادم جون النهاية: "حث وأسرع. يقال: حثه على الشيء، وحثحثه بمعنى". قوله: (وكما يريد أن يصرفها): عطف على قوله: "بمقتضي حكمته"، أي: خلقهن جارياتٍ كما يريد أن يصرفها. قوله: (سمى ذلك "أمراً" على التشبيه)، أي: على الاستعارة، فإنها مسبوقة به. بيانه: أنه تعالى جعل هذه الأشياء في كونها تابعةً لتكوينه، وتصرفه فيها بما شاء، غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء يميزون، قد عرفوا عظمته وجلالته، فكما يرد عليهم أمره لا يتوقفون عن الامتثال.

كأنهنّ مأمورات بذلك. وقرئ: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) بالرفع. ولما ذكر أنه خلقهنّ مسخراتٍ بأمره، قال: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، أي: هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" بالرفع): ابن عامر، والباقون بالنصب. قوله: (ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال: (ألا له الخلق والأمر))، يعني: هذه الآية كالتذييل للكلام السابق. واللام في (الخلق) و (الأمر) للجنس، فيدخل في (الخلق) قوله: (خلق السموات والأرض) وفي (الأمر) قوله: (مسخرات بأمره). وإلى الأول الإشارة بقوله: "هو الذي خلق الأشياء". وإلى الثاني بقوله: "وهو الذي صرفها على إرادته". وأما توجيه النظم فهو ما ذكره القاضي، قال: " (تبارك الله رب العالمين) معناه: تعالى بالوحدانية في الإلوهية، وتعظم بالتفرد في الربوبية". وتحقيق الآية - والله أعلم - أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً، فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد، وهو الله تعالى؛ لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم، وتدبيرٍ حكيم، فأبدع الأفلاك، ثم زينها بالكواكب، كما أشار إليه بقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 12]، وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية، فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة، والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصورٍ مختلفة، متضادة الآثار والأفعال. وأشار

[(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)]. (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) نصبٌ على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، وكذلك: (خوفاً وطمعاً)، والتضرع: تفعلٌ من الضراعة وهي الذل، أي: تذللاً وتملقاً. وقرئ: "خفيةً"، وعن الحسن رحمه الله: "إنّ الله يعلم القلب التقى والدعاء الخفي، إن كان الرجل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إليه بقوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 9] أي: ما في جهة السفل، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة، بتركيب موادها أولاً، وتصويرها ثانيًا. كما قال بعد قوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ): (وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت: 10] أي: مع اليومين الأولين، لقوله في سورة "السجدة": (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [السجدة: 4]. ثم لما تم له عالم الملك، عمد إلى تدبيره، كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك، وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام. ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته، فقال: (أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ). ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين، فقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً) [الأعراف: 55]. قوله: (إن كان الرجل)، هي: "إن": المخففة من الثقيلة، وفيه ضمير الشأن. يعني: إن الرجل كان يحفظ القرآن.

لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزور وما يشعر به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون على أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أنّ الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وقد أثنى على زكريا فقال: (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم: 3] وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً". (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: المجاوزين ما أمروا به في كل شيءٍ من الدعاء وغيره، وعن ابن جريجٍ: هو رفع الصوت بالدعاء، وعنه: الصياح في الدعاء مكروهٌ وبدعة. وقيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وحسب المرء أن يقول: اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قولٍ وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل»، ثم قرأ قوله تعالى: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعنده الزور). الجوهري: "رجل زائر، وقوم زور وزوار، مثل: سافر وسفرٍ وسفار". قوله: (ما كان على الأرض من عملٍ): معناه: لا يوجد على وجه الأرض عمل يقدرون على أن يعملوه في السر، فيعملونه علانية أبداً. يعني: ما أمكنهم أن يعملوه سراً لا يعملونه جهراً اجتناباً عن الرياء. قوله: (سبعون ضعفاً): الأزهري: "الضعف في كلام العرب: المثل فما زاد، وليس بمقصورٍ على مثلين. فأقل الضعف محصور في الواحد، وأكثره غير محصور". ذكره في "النهاية". قوله: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء): روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن سعد بن

(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): كقوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [طه: 82]، وإنما ذكر (قَرِيبٌ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي وقاص: أنه سمع ابنًا له يدعو ويقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير. فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء" وقرأ هذه الآية، وقال: "وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة" الحديث. قوله: ((إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ) كقوله تعالى: (وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ) [طه: 82]). يعني: هذه الجملة تذييل للكلام السابق، وتعميم بعد تخصيص، وتعليق لرحمته بإحسان عبادته، فإنه تعالى لما أمرهم بأن يدعوا الله متضرعين في الخفية، خائفين راجين، وكرر الأمر به، وذم الاعتداء فيه، ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض، علم أن من أتى بهذا المأمور، وكف عن هذا المنهي، كان محسنًا، فجاء بخاتمةٍ تذييلاً له، كما أن قوله تعالى: (وإنِّي لَغَفَّارٌ) تذييل لقوله تعالى: (يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) إلى قوله تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ولا تَطْغَوْا فِيهِ) [طه: 80 - 81]. وتعميم بعد تخصيص، وتعليق لغفرانه بتوبة عباده.

على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي: شيءٌ قريب، أو على تشبيه بـ"فعيلٍ" الذي هو بمعنى: "مفعول"، كما شبه ذاك به، فقيل: قتلاء وأسراء، أو على أنه بزنة المصدر، الذي هو النقيض والضغيب، أو لأنّ تأنيث "الرحمة" غير حقيقي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالرحم). الرحم - بالضم -: الرحمة. قال الله تعالى: (وأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف: 81]. قوله: (أو على تشبيه بـ"فعيل" الذي هو بمعنى: "مفعول"). فإنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، كجريحٍ وأسيرٍ وقتيل. قوله: (كما شبه ذاك به) أي "الفعيل" الذي بمعنى "مفعول"، بالفعيل الذي بمعنى "فاعل"، فجمع: قتيل وأسير، على: قتلاء، وأسراء، كما جمع: كريم، ورحيم، على: كرماء، ورحماء. ونجيب وعليم، على: نجباء، وعلماء. قوله: (النقيض): الجوهري: "النقيض: صوت المحامل والرحال". "والضغيب: صوت الأرنب". قوله: (أو لأن تأنيث "الرحمة" غير حقيقي): قال صاحب "الفرائد": "المتضمن لضمير المؤنث لم يحسن تذكيره على ما قيل. فهذا الوجه بعيد". وقال الزجاج: "إن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد. وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: إن الرحمة في معنى المطر" وقال أبو البقاء: "إن الرحمة والترحم بمعنى. وقيل: هو على النسب، أي: ذات قرب. وقيل: هو "فعيل" بمعنى "مفعول". وقيل: فرق بين القريب من النسب وبين القريب من غيره".

قرئ: (نشراً)، وهو مصدر نشر، وانتصابه إمّا لأن "أرسل" و"نشر" متقاربان، فكأنه قيل: نشرها نشراً، وإمّا على الحال بمعنى: منتشرات، و"نشراً" جمع نشور، و"نشراً" تخفيف "نشر"، كرسلٍ ورسل. وقرأ مسروق: "نشراً"، بمعنى: منشورات، فعل بمعنى: مفعول، كنقضٍ وحسبٍ، ومنه قولهم: «ضم نشره»، و"بشراً" جمع "بشير"، و"بشراً" بتخفيفه، و"بشراً" - بفتح الباء - مصدر من: بشره بمعنى: بشره، أي: باشرات، و"بشرى". (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): أمام نعمته، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلها وأحسنها أثراً، (أَقَلَّتْ): حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأنّ الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً، (سَحاباً ثِقالًا): سحائب ثقالاً بالماء جمع "سحابة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "هذا غلط؛ لأن كل ما قرب من مكان أو نسب فيجوز فيه التأنيث والتذكير". قوله: (قرئ: "نشراً"): قرأ عاصم: (بشرا) بالباء الموحدة مضمومة، وإسكان الشين حيث وقع. وابن عامر: بالنون مضمومة وإسكان الشين، وحمزة والكسائي: بالنون مفتوحة وإسكان الشين. والباقون: بالنون مضمومة، وضم الشين. والبواقي شواذ. قوله: (لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً): قال المصنف: "حقيقة "أقله": جعله قليلاً، في زعمه، كقولك: أكذبه: إذا جعله كاذبًا في زعمه".

(سُقْناهُ) الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حُمل على المعنى كالثقال لأُنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً، (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ): لأجل بلدٍ ليس فيه حياً ولسقيه. وقرئ: "ميت". (فَأَنْزَلْنا بِهِ): بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق، وكذلك (فَأَخْرَجْنا بِهِ). (كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج- وهو إخراج الثمرات (نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين، إذا كل واحدٍ منهما إعادةٌ للشيء بعد إنشائه. (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ): الأرض العذاة الكريمة التربة، (وَالَّذِي خَبُثَ): الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به، (بِإِذْنِ رَبِّهِ): بتيسيره، وهو في موضع الحال، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الفاضل نور الدين الحكيم: "أقله: وجده قليلاً، أو اعتقده قليلاً، من الجعل الاعتقادي كالكذبة". قوله: (ولو حمل على المعنى، كالثقال، لأنث). يعني: اعتبر في "سقناه" لفظ "السحاب"، فذكر الضمير، كما اعتبر المعنى في قوله: (ثقالاً) فوصف "السحاب" بالجمع، ولو اعتبر اللفظ لقيل: ثقيلاً، لأن (سحاباً) لفظه مفرد. قوله: (لأجل بلدٍ ليس فيه حياً): حيا - مقصور - وهو الخصب. الجوهري: "أحيا القوم: صاروا في الحيا، وهو الخصب. وأحييت الأرض: وجدتها خصبةً". قوله: ((فأنزلنا به) بالبلد). أي الضمير في (به) إما راجع إلى "البلد"، فتكون الباء بمعنى "في"، أو إلى "السحاب"، فالباء إذا كما في قولك: "كتبت بالقلم"، وكذا إذا رجع إلى "السوق". قوله: (العذاة)، وهي: "الأرض الطيبة التربة، والجمع: عذوات".

كأنه قيل: يخرج نباته حسناً وافياً، لأنه واقع في مقابلة (نَكِداً)، والنكد: الذي لا خير فيه. وقرئ: "يخرج نباته"، أي: يخرجه البلد وينبته. وقوله: (وَالَّذِي خَبُثَ) صفةٌ للبلد، ومعناه: والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو "النبات"، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى "البلد" مقامه؛ إلا أنه كان مجروراً بارزاً، فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدّر: ونبات الذي خبث. وقرئ: "نكداً" بفتح الكاف على المصدر، أي: ذا نكد، و"نكداً"، بإسكانها للتخفيف، كقوله: .. نزهٍ عن الريب بمعنى: نزهٍ. وهذا مثلٌ لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيءٌ من ذلك. وعن مجاهدٍ: آدم وذرّيته منهم خبيثٌ وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقعٌ على إثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه واقع في مقابل (نكداً). أي: إنما فسر: (بإذن ربه) بقوله: "حسناً وافياً"، وإن كان معناه: بتيسيره وتسهيله، لكونه واقعاً في مقابلة (نكداً). فالمطابقة إذاً معنوية. الجوهري: "نكدت الركية: قل ماؤها. ورجل نكد: عسر". قوله: (وهذا التمثيل واقع على إثر ذكر المطر ... على طريق الاستطراد). يعني: أن قوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (والبلد الطيب) الآية، بالنظر إلى قوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تمثيل. وتقديره: إنا بينا تلك الآيات الدالة على القدرة الباهرة، والعلم الكامل، لعلكم تتفكرون فيها، أيها النظار، لتعلموا أنكم إلينا ترجعون، لكن لا تنجع تلك الآيات إلا فيمن شرح الله صدره، فيخرج نبات فكره طيباً، ومن جعل صدره ضيقاً لا يخر نبات فكره إلا خبيثاً، فلا يرفع بها رأساً، (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ). روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلا والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". وسيجيء شرحه في سورة الأنبياء. وإليه أشار المصنف بقوله: "هذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك". ثم في إيثار "الطيب" وهو صفة مشبهة في مقابل "الذي خبث" الدال على تجدد الفعل إيماء إلى معنى ما ورد في "صحيح مسلم" عن عياضٍ المجاشعي: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم

(كَذلِكَ): مثل ذلك التصريف (نُصَرِّفُ الْآياتِ): نردّدها ونكرّرها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها. وقرئ: "يصرف" بالياء، أي: يصرفها الله. [(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)]. (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلا مع «قد» وقلّ عنهم، نحو قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن دينهم"، وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه". وبالنظر إلى قوله تعالى: (أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ) إلى آخره: استطراد. ولما كان هذا أصلاً للكلام، جيء به في المستطرد بالواو، للمناسبة بينهما. وأما قوله تعالى: (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، بعد قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فمن باب الترقي، لأن من تذكر آلاء الله، عرف حق النعمة فشكر. قوله: (مثل ذلك التصريف (نصرف الآيات): نرددها ونكررها). يعني: ما ذكرنا من الآيات المتعددة المفصلة المبينة من أول هذه السورة، نصرف ونكرر ونبين سائر الآيات التي اشتمل عليها هذا الكتاب الكريم أو غيره.

حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ ... لناموا ........ قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تُساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها، التي هي جوابها، فكانت مظنةً لمعنى التوقع- الذي هو معنى «قد» - عند استماع المخاطب كلمة القسم. قيل: أرسل نوحٌ عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وأخنوخ: اسم إدريس النبي عليه السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ لناموا)، تمامه: فما إن من حديثٍ ولا صال حلفة فاجر، أي: كاذب أو عاهر. واللام جواب القسم. من حديث، أي: من ذي حديث. ويجوز أن يكون الحديث بمعنى المحادث، كالخليل والعشير. والصالي: المصطلي. و"إن": زائدة. يقول: طرقت المحبوبة، فاستشعرت من الرقباء، فحلفت لها أن القوم الذين كانوا يتحدثون، ويبيتون في السمر مصطلين، نيام. والقائل: امرؤ القيس. قوله: (لمعنى التوقع). يعني: أن الجملة إذا أكدت بالقسم، فالمخاطب لابد أن يتوقع حصول المقسم عليه، وينتظر وقوعه، فناسب إدخال "قد".

وقرئ: (غيره) بالحركات الثلاث؛ فالرفع على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره. والجر على اللفظ، والنصب على الاستثناء، بمعنى: ما لكم من إلهٍ إلا إياه، كقولك: ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً أو غير زيدٍ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (غيره) بالحركات الثلاث). الكسائي: بالخفض حيث وقع، إذا كان قبل "الإله" "من" الجارة. والباقون: بالرفع، والنصب: شاذة. قوله: (ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً أو غير زيدٍ). أي: سواء قلت: ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً، أو قلت: من أحدٍ غير زيد. وقال في "المفصل": "وحكم "غير" حكم الاسم الواقع بعد "إلا" تنصبه في الموجب والمنقطع". وقال الزجاج: "النصب جائز في غير القرآن، على الاستثناء، وعلى الحال من النكرة. وأجاز الفراء: "ما جاءني غيرك". وهو خطأ. وإنما أنشد الخليل وسيبويه قوله:

فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ)؟ قلت: الأولى بيانٌ لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان. [(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصونٍ ذات أوفال وأجازا فيه نصب "غير"، فاستشهد هو به، واستهواه اللفظ في قولهما: "إن الموضع موضع رفع، وإنما أضيفت "غير" في البيت إلى شيء غير متمكن، فبنيت على الفتح، كما يبني "يوم" إذا أضيف إلى "إذ" على الفتح". قوله: (ما موقع الجملتين). يعني: (ما لكم من إله غيره) و (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). قوله: (الأولى بيان لوجه اختصاصه). وذلك أن نوحاً عليه السلام لما قال لقومه وهم مشركون: (يا قوم اعبدوا الله) فهم منه الاختصاص، لأنهم كانوا يشركون [غير] الله في

(الْمَلَأُ): الأشراف والسادة، وقيل: الرجال ليس معهم النساء، (فِي ضَلالٍ): في ذهابٍ عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية: رؤية القلب. فإن قلت: لم قال: (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ولم يقل "ضلالٌ" كما قالوا؟ قلت: "الضلالة" أخصّ من "الضلال"، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيءٌ من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبادته، فقال: (اعبدوا الله) يعني: لا تصح عبادة الله مع عبادة غيره، فكأنكم ما عبدتم الله حين أشركتم به غيره في العبادة. ثم لما أراد بيان هذا المعنى قال: (ما لكم من إلهٍ غيره) ثم أتي بقوله: (إني أخاف عليكم) مستأنفاً معللاً لدعواه، أي: إنما دعوتكم إلى ما دعوتكم، لأني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، إظهاراً للشفقة والمرحمة. قوله: (الملأ): الأشراف والسادة): سموا ملأ لأنهم يملؤون العيون والقلوب، أو لأنهم مليئون قادرون بما يراد منهم من كفاية الأمور. قوله: (ليس بي شيء من الضلال): روي عن المصنف أنه قال: نفى أن يكون معه طرف من الضلال، وأثبت أنه في الغاية القصوى من الهدى، حيث كان رسولاً من رب العالمين. وفيه إظهار لمكابرتهم وفرط عنادهم، حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال المبين الظاهر شأنه، لا ضلال بعده. قال صاحب "الفرائد": "جعل التاء في "الضلالة" بمنزلة التاء في التمرة والفعلة، في أنها للوحدة". وقد قال صاحب "المجمل": "الضلال والضلالة بمعنى واحد".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "المثل السائر": "الأسماء المفردة الواقعة على الجنس، التي يكون بينها وبني وأحدها تاء التأنيث، فإنه متى أريد النفي، كان استعمال واحدها أبلغ، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ، كما في الآية، ولا تظنن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين، من قولك: ضل يضل ضلالا وضلالةً، كان القولان سواء، لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر، بل عن المرة الواحدة. فإذا نفى نوح عليه السلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلال، فقد نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة". وقال صاحب "الفلك" الدائر على المثل السائر": "الذي ذكره غير صحيح، لا أن كانت "الضلالة" مصدراً، ولا أن كانت المرة الواحدة. أما الأول فلأنهما لما دلا على المصدر، لم يكن دلالة أحدهما أبلغ من الآخر، لأن المصدر يدل على الماهية فقط، فإذا نفي نفيت الماهية، وأما الثاني فلا يصح أيضاً، لأنه لو قال القائل: ما عندي تمرة، بمعنى تمرة واحدة، وعنده تمر كثير، يصح ذلك، لأنه لو أظهر ما أضمر، فقال: ليس عندي تمرة واحدة بل تمرات، لم يكن متناقضاً. وقول نوح عليه السلام: (ليس بي ضلالة) بمعنى: ضلالة واحدة، لم يكن نافياً لكونه ضالا، لأنه إذا كانت الضلالات مختلفة الأنواع لم يفده قوله، لجواز ألا يكون ضلالةً واحدة، بل ضلالات مختلفة متنوعة. ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة، فقد صدق عليه أنه قد انتفت عنه ضلالة واحدة". وقال صاحب "التقريب": "في قول المصنف نظر، لأن الضلال إما أن يراد به الكثير أو الجنس، فعلى الأول لا نسلم أن الواحد أخص، بل الصحيح العكس، لأنه كلما وجد الكثير

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجد الواحد، ولا ينعكس، فالواحد أعم. ويتم الجواب، إذ يلزم من نفي العام نفي الخاص من غير عكس، فكان نفيها أبلغ، أي: ليس بي شيء من الضلال. وعلى الثاني: يصح أن الضلالة أخص، ولكن لا يتم الجواب، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام. ولما تضمن كونه رسولاً، بمعنى كونه مهتدياً، صح الاستدلال به على انتفاء الضلالة". وقريب من هذه المعاني ما ذكره صاحب "الانتصاف". وقلت - وبالله التوفيق -: العجب من هؤلاء الفضلاء كيف يتكلمون بما لا جدوى معه؟ ! أين تفسير كلام الله المجيد المقدس عن العوج، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من اصطلاح المنطقي؟ ! فإن المصنف إنما يتكلم لمقتضى الحال، ومطابقة الجواب للسؤال، ولا يعتبر مفردات اللفظ. بيانه: أن القوم لما أثبتوا له نوعاً من الضلال، وهو كونه ضلالاً مبيناً، لا مطلق الضلال كما توهموه، يدل عليه ما رويناه عنه: وصفوه بالضلال البين الظاهر شأنه، لا ضلال بعده. فالجواب إنما يطابق إذا كان أبلغ منه، فإذا لم تحمل "الضلالة" على ما قدره، فمن أين يفيد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأبلغية؟ ولو لم ترد المبالغة، لكان مقتضى الظاهر أن يقال في جواب (إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ): ليس بي ضلال، فلما أثبتوا النوع نفى الوحدة. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام نفى الجنس لتنتفي الماهية، فيحصل المقصود؟ قلت: فإذن يفوت مقتضى العدول من لفظ "الضلال" إلى "الضلالة" وإرادة التردة منها، لأن نفي الشيء مع الصفة في مقام نفيه أبلغ من نفيه وحده، كما ستقف عليه في قوله تعالى: (ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18]، ولأن نفي الوحدة لإرادة انتفاء الماهية أبلغ من العكس، لمكان الكناية، واستلزام الاستغراق بحسب أفراد الجنس، كما قال صاحب "المثل السائر": "فإذا نفى نوح عليه السلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلال، فقد نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة، فظهر أن التركيب إنما يفيد المطلوب إذا وقع جواباً مع إرادة المبالغة، لا بالنظر إلى اللفظ من حيث هو هو. ألا ترى إلى أن قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة: 15] إنما كان أبلغ من قوله: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14] حيث وقع جواباً له؟ ولو نظر إلى اللفظ فقط كان هو أحط منه بدرجاتٍ كثيرة".

فإن قلت: كيف وقع قوله: (وَلكِنِّي رَسُولٌ) استدراكاً للانتفاء عن الضلالة؟ قلت: كونه رسولاً من الله مبلغاً رسالاته ناصحاً، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصحّ لذلك أن يكون استدراكاً للانتفاء ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما مسألة التمرة، فإذا قال القائل: ليس عندي تمرة ابتداءً، لصح ما قاله الزاعم، أما لو قاله إنكاراً لمن يتهمه بادخار التمر، كيف يصح ما قال؟ والحاصل أن اقتضاء المقام ينحي بالهدم لجميع ما بنوه. ولما كان الإمام الداعي إلى الله ذا حظ وافر من علم البيان، قال في تفسيره: "فإن قيل: إن القوم قالوا: (إنا لنراك في ضلال)، وجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا، وعدل إلى قوله: (ليس بي ضلالة)؟ قلنا: لأن المراد بقوله: (ليس بي ضلالة) أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة، فكان أبلغ في عموم السلب. وقال القاضي: " (ليس بي ضلالة) أي: شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات". قوله: (فصح لذلك أن يكون استدراكاً). تلخيص السؤال أن "لكن" حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً. وأين هذا المعنى في الآية؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: إن التغاير حاصل من حيث المعنى، لأن معنى قوله تعالى: (رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) أي: على صراطٍ مستقيم، كأنه قال: ليس بي ضلالة قط، لكني على الهداية البينة. كقولك: جاءني زيد لكن عمراً غائب. فإن قلت: ما فائدة العدول عن الظاهر؟ قلت: إرادة المبالغة في إثبات الهداية، على أقصى ما يمكن، كما نفى الضلالة كذلك. فكونه رسولاً من رب العالمين يوجب أن يكون مهتدياً، لا غاية بعده، لكونها انتهاء مراتب البشرية، وكمال الرسالة، وكونه ناصحاً للأمة، وأميناً في أداء الرسالة إليهم - كما سنقرره - يقتضي أن يكون هادياً، مرشداً، ليس بعده. ومن شأنه هذا كيف يقال في حقه: (إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ)؟ وهذا التقرير يؤيد ما ذهب إليه المصنف في تفسير الضلالة، لأن المعنى: ليس في شيء من الضلالة، لكني على هدى لا يكتنه كنهه. وعلى منواله قول القائل: له حاجب في كل أمرٍ يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: إن كان المعنى على ما ذكرت: لكني على هدىً لا يكتنه كنهه، فلم ترك الاختصار، وسلك طريق الإطناب؟ . قلت: لا ارتياب أن هذا الاستدراك زيادة على الجواب، لأن قوله: (ليس بي ضلالة) كان كافياً كما مر، فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي، لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد، وإخلاص العبادة لله تعالى. فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن، لما اعترضوا عليه من قولهم: (إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مِبينٍ) فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه، حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف. يعني: دعوا نسبة الضلالة إلى، وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم، وأمينكم، ورسول رب العالمين.

عن الضلالة. وقرئ: (أبلغكم) بالتخفيف. فإن قلت: كيف موقع قوله (أُبَلِّغُكُمْ)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً بياناً لكونه رسول رب العالمين. والثاني: أن يكون صفةً لـ (رسول). فإن قلت: كيف جاز أن يكون صفةً، والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت: جاز ذلك، لأن "الرسول" وقع خبراً عن ضمير المخاطب، وكان معناه، كما قال: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِ أُمِّي حَيْدَرَهْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألا ترى أن صالحاً عليه السلام لما لم يعترضوا عليه، عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد في قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) إلى: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ) [الأعراف: 73]. ففيه خمسة أنواع من الأنواع البديعية. فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب، كان الاقتصار على تلك العبارة تقصيراً، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "أبلغكم" بالتخفيف): أبو عمرو. وقوله: (لأن "الرسول" وقع خبراً عن ضمير المخاطب) بكسر الطاء، أي: المتكلم، في قوله: "لكني"، كأنه قال: لكني أبلغكم رسالات ربي. فأقحم (رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) للإبهام، ثم بينه بقوله: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) تفخيماً وتعظيماً. ومن ثم زيد قوله: (رَّبِّ العَالَمِينَ).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك قوله: "أنا الذي سمتني أمي حيدره" أصله: أنا سمتني أمي حيدرة، فأقحم الموصولة للتفخيم. ويعضده ما بعده: كليث غاباتٍ كريه المنظره أو فيهم بالصاع كيل السندره أي: أنا ذلك المشهور، المعروف في الشجاعة، الذي لا يخفى على كل أحد. ولا يريد مجرد الإخبار عن أن أمه سمته بهذا الاسم؛ إذ لو أريد ذلك لقال: أنا الذي سمته أمه حيدرة. قائله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. الجوهري: "سمته أمه فاطمة بنت أسد باسم أبيها، وأبو طالب غائب، فلما قدم كرهه، وسماه علياً". وكان القياس: أنا الذي سمته، ليرجع الضمير إلى الموصول، ولكنه ذهب إلى المعنى، لأن خبر المبتدأ هو الموصول مع الصلة، وفيه ضمير "أنا" الراجع إلى المبتدأ، كأنه قال: أنا سمتني.

(رِسالاتِ رَبِّي): ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة. (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) يقال: نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام مبالغةٌ ودلالةٌ على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح، فيقصد النفعين جميعاً، ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحيدرة: من أسماء الأسد. والسندرة: مكيال ضخم. أي: أقتلهم قتلاً سريعاً. وفي رواية مسلم: "قالها - أي: الأبيات - في مبارزة المرحب، ثم ضرب رأسه، فقتله". قوله: ((رسالات ربي): ما أوحي إلى). يعني: إنما جمع: (رسالات ربي) لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها، أو لكثرة المنزل عليهم من الرسل. قوله: (ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسله)، لاجتماع الرسل قاطبةً على نحو قوله: "قل ما سألتكم عليه أجراً فهو لكم إن أجري إلا على الله"، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال: نصحت العسل: إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من: نصح الرجل ثوبه، أي: خاطه، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب. واعلم أن النصيحة باب عظيم في الدين، روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي عن تميم الداري: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إن الدين النصيحة" ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" هذا رواية مسلم. وأخرج نحوه الترمذي عن أبي هريرة. قال أبو سليمان الخطابي: "النصيحة: كلمة جامعة يعبر بها عن جملة إرادة الخير، وليس يمكن أن يعبر بهذا المعنى بكلمة وجيزة يحصرها ويجمع معناها غيرها، كما قالوا في "الفلاح": ليس في كلامهم كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. فقوله صلي الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" يريد: عماد أمر الدين إنما هو النصيحة، وبها ثباته، كقوله صلي الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات"، أي: صحتها وثباتها بالنية. فمعنى نصيحة الله: الإيمان به وصحة الاعتقاد في وحدانيته، وترك الإلحاد في صفاته، وإخلاص النية في عبادته، وبذل الطاعة فيما أمر به ونهي عنه، والاعتراف بنعمته والشكر له عليها، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه، والله غني عن نصح كل ناصحٍ. ومعنى نصيحة الكتاب: الإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه. وأما النصيحة لرسول الله صلي الله عليه وسلم: فهو التصديق بنبوته، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وبذل الطاعة فيما أمر ونهي، والانقياد له، وإيثاره بالمحبة فوق نفسه، ووالده، وولده، والناس أجمعين.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي: من صفات الله وأحواله، يعني: قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين. وقيل: لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونصيحة الأئمة: أن تطيعهم في الحق، ولا ترى الخروج عليهم إذا جاروا. ونصيحة عامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في الدنيا والدين". وجماع القول فيه: أن النصيحة هي خلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعيه حقه، فلا يبعد أن يدخل في المعنى ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي عن معاذ، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". ويدخل فيه أيضًا قوله تعالى: (تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8]، قال: "التوبة النصوح: هي أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقتها، متداركةً للفرطات، ماحيةً للسيئات"، وعلى هذا جميع أعضاء الإنسان، كل على حسب ما خلق لأجله. قوله: (أي: من صفات الله وأحواله). قيل: فيه نظر، لأن الحال صفة سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، تدل على التغير والانفعال، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والجواب أن المراد بالأحوال: الشؤون التي يبديها، كقوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ) [الرحمن: 29]. وإليه الإشارة بقوله: "وشدة بطشه على أعدائه".

فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوحٌ بوحي الله إليه، أو أراد: وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحي إليّ بها. [(أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)]. (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم. (أَنْ جاءَكُمْ): من أن جاءكم (ذِكْرٌ): موعظةٌ، (مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ): على لسان رجل منكم، كقوله: (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران: 194]، وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين) يعنون إرسال البشر، (ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) [المؤمنون: 24]. (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا): ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى، وهي الخشية بسبب الإنذار، (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أراد: وأعلم من جهة الله). يريد: أن (من) في قوله: (وأعلم من الله): إما بيان (ما) حال منه، أو من العائد المحذوف في الصلة. فالمعنى: وأعلم ما لا تعلمون من صفات الله تعالى، وهي: شدة بطشه على أعدائه. وإنما لم يعلموا لأنهم أول الأمم الهالكة، لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم. أو هو متعلق بقوله: "أعلم"، ابتدائية. فالمعنى ما قال: "وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها"، لأن الوحي إنما يختص بالأنبياء. قوله: (وليوجد منكم التقوى). أي: ليوجد منه الإنذار، وليوجد منكم التقوى. نزلهما منزلة اللازم، وجعل العطف على مجموع (لينذركم) مع اللام، على منوال قوله

[(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)]. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) قيل: كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل: تسعة، بنوه سامٌ وحامٌ ويافث، وستةٌ ممن آمن به. فإن قلت: (فِي الْفُلْكِ) بم يتعلق؟ قلت: هو متعلق بـ (مَعَهُ)، كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان، (عَمِينَ): عُمي القلوب غير مستبصرين، وقرئ: "عامِين". والفرق بين العَمِي والعامي: أن العمي يدل على عمىً ثابت، والعامي على عمىً حادث. ونحوه (قوله وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) [هود: 12]. [(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15]، على رأي صاحب "المفتاح". ولهذا قال: "وهي الخشية بسبب الإنذار"، لأن إنذاره مقدم على خشيتهم. قال القاضي: "لينذركم عاقبة الكفر والمعاصي، ولتتقوا منها بسبب الإنذار". قوله: (أن العمى يدل على عمى ثابت) لدلالة الصفة المشبهة على الثبوت، (والعامي على عمىً حادث) لأن اسم الفاعل دونها في الدلالة على الثبوت.

لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ* أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)]. (أَخاهُمْ): واحداً منهم، من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم، وإنما جعل واحداً منهم، لأنهم أفهم عن رجلٍ منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، و (أخاهم) عطفٌ على (نوحاً) [الأعراف: 59]، و (هُوداً) عطف بيان له. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله: (قالَ يا قَوْمِ)، ولم يقل: «فقال» كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائلٍ قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك (قالَ الْمَلَأُ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهم أفهم عن رجلٍ منهم): أي: أفهم للكلام الصادر عن رجلٍ هو من أنفسهم، من رجلٍ من غيرهم، وأعرف بحاله من حال غيره، كقوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4]، وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) [التوبة: 128]. قوله: (على تقدير سؤال سائل): وحاصله: إن كان الفاء رابطاً لفظياً، فالاستئناف رابط معنوي، كما سبق في أول "البقرة". قال صاحب "الفرائد": "إنما حسن هذا لأن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام، فالسؤال غير مقتضى الحال. وأما قصة "هود" فكانت معطوفة على قصة "نوح"، فيمكن أن يقع في خاطر السامع: أقال هود ما قال نوح، أم قال غيره؟ فكانت مظنه أن يسأل: ماذا قال هود لقومه؟ فقيل: قال ما قاله نوح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ).

فإن قلت: لم وصف الملأ بـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعدٍ الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) [المؤمنون: 33]، ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير. (فِي سَفاهَةٍ): في خفة حلمٍ وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دينٍ آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز. أرادوا أنه متمكنٌ فيها غير منفك عنها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأريدت التفرقة بالوصف): يعني: إنما وصف الملأ من قوم هود، دون قوم نوح، ليمتاز الذين كفروا من الذين آمنوا منهم. ولما لم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، لم يفتقر إلى التفرقة. قال مولانا الإمام بهاء الدين الكاشي، تغمده الله برحمته: "وفيه نظر، لأن قوله تعالى في سورة "المؤمنين": (فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) [المؤمنون: 24] وارد في قوم نوح، وهو لا يساعد هذا الجواب. بقي أن يكون وصف ذم". يعني الجواب الأول مدخول، فتعين الجواب الثاني، وهو قوله: "ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذم". وقلت: ويمكن أن يقال: إن اختصاص هذا المقام بالذم دون الأول، لأن هوداً كان

وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به، من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم: أدبٌ حسنٌ وخلقٌ عظيم، وحكاية الله عزّ وجلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم. (ناصِحٌ أَمِينٌ) أي: عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أُتهم، أو: أنا لكم ناصحٌ فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهم، لقوله تعالى: (أخاهم)، وكانوا أعرف بحاله أنه أحلم الناس، وأرشدهم سجيةً، وأصدقهم لهجة، فكان جوابهم: (إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ) كفراً وعناداً، وستراً للحق، بخلاف قول الملأ من أشراف قوم نوحٍ في هذا المقام. ألا ترى كيف ذمهم في سورة "المؤمنين"، حيث قالوا: (مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ (24) إنْ هُوَ إلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 24 - 25]. قوله: (في إجابة الأنبياء) خبر، وقوله: "أدب حسن" مبتدأ، "وترك المقابلة" عطف على "إجابة"، و"بما أجابوهم به" متعلق بـ"إجابة"، والكلام فيه الإدماج المسمى بإشارة النص في الأصول. قوله: ((ناصح أمين): أي عرفت فيما بينكم): يشير بهذا إلى أن قوله: (وأنا لكم ناصح أمين) جملة مستأنفه، وقعت معترضة. ثم قوله: "وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين"

(خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي: خلفتموه في الأرض، أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم، (فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) فيما خلق من أجرامكم ذهاباً في الطول والبدانة، قيل: كان أقصرهم ستين ذراعاً، وأطولهم مئة ذراع، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ) في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يؤذن أن الواو للحال. ونحوه صرح به في "البقرة" في قوله: (اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92] اعتراضاً وحالاً. قوله: (فيما خلق من أجرامكم): جعل قوله: (في الخلق) ظرفاً لقوله: (وزادكم)، (بصطة): مفعول به. وفسر "البسطة": بالطول والبدانة. قال أبو البقاء: (في الخلق) يجوز أن يكون حالاً من (بصطةً)، وأن يكون متعلقاً بـ"زادكم". واختار القاضي أن يكون حالاً، حيث قال: (وزادكم في الخلق بصطةً): قامةً وقوة. وهو تعميم بعد تخصيص". قوله: ((فأذكروا الاء الله): في استخلافكم، وبسطة أجرامكم): يعني: أن المراد بـ (ألاء الله) ما ذكره في قوله تعالى: (واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً). كرره تقريراً وتوكيداً، ليشكروا تلك النعمة، بتصديق رسوله، وما

وواحد "الآلاء": «إلى» ونحو: إنىً وآناء، وضلعٍ وأضلاع، وعنبٍ وأعناب. فإن قلت: (إذ) في قوله: (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ)، ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعولٌ به وليس بظرف، أي: اذكروا وقت استخلافكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاء به، فيعبدوا الله، ويوحدوه، ويتركوا العناد والتعجب. وفي ذكر نوح إشارة إلى دفع التعجب، يعني: هذا الذي جئت به ليس ببدع، فاذكروا نوحاً وإرساله إلى قومه، وإلى الوعيد والتهديد. أي: اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم. قوله: (وواحد "الآلاء": "إلى"): قال الزجاج: "آلاء الله: نعم الله. واحدها: إلى. قال الأعشى: أبيض لا يرهب الهزال، ولا ... يقطع رحماً، ولا يخون إلا واحدها: إلى، وألا، وإلى. قوله: (هو مفعول به وليس بظرف): قال صاحب "الفرائد": "يشكل هذا بقولهم: "إذ" و"إذا"، وقوعهما ظرفين لازم". وأجيب: أن باب الاتساع واسع.

[(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَاتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)]. (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ) أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشؤوا عليه، وإلفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله: (أَجِئْتَنا)؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون لهودٍ عليه السلام مكانٌ معتزلٌ عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراءٍ قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك. وأن لا يريدوا حقيقة المجيء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتحنث فيه)، النهاية: "أي: يتعبد. يقال: فلان يتحنث، أي: يفعل فعلاً يخرج به من الإثم، كما يقال: يتأثم ويتحرج: إذا فل ما يخرج به من الإثم والحرج". قوله: (فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء؟ ): فإن قلت: أين قرينة هذا المجيء؟ قلت: إنهم لما استبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، بنوا الأمر على المحال، كقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125]، فإثبات المجيء حينئذٍ على الحقيقة استهزاء.

ولكن التعرّض بذلك والقصد، كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟ (فَاتِنا بِما تَعِدُنا) استعجالٌ منهم للعذاب. (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي: حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قد وقع عليكم): أي: حق عليكم ووجب): يعني: استعمال (وقع) في الرجس والغضب مجاز من الوجوب الذي هو اللزوم، من إطلاق السبب، كاستعمال الوجوب الشرعي، لأنه في الأصل للوقوع. قال تعالى: (فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36]. قال المصنف: "وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض". ويجوز أن يكون استعارة تبعية، شبه تعلق الغضب والرجس بهم، بنزول جسم من علو إلى سفل. وهو المراد من قوله: "أو قد نزل عليكم".

ونحوه قولك لمن طلب إليك بعض المطالب: قد كان ذلك. وعن حسان: أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبورٌ وهو طفل، فجاء يبكي، فقال له يا بني مالك؟ قال: لسعني طويرٌ كأنه ملتفٌ في بردي حبرة، فضمه إلى صدره وقال له: يا بني، قد قلت الشعر. والرجس: العذاب، من الارتجاس، وهو الاضطراب، (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها): في أشياء ما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدومٌ محالٌ وجوده، وهذا كقوله تعالى: (ما تدعون من دونه من شيء) [العنكبوت: 42]، ومعنى (سَمَّيْتُمُوها): سميتم بها، من قولك: سميته زيداً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمن طلب إليك بعض المطالب): أي: احتاج إليك في الطلب. وفيه تضمين. قوله: (في بردي حبرة): النهاية: "الحبير من البرود: ما كان موشياً مخططاً. يقال: برد خبير، وبرد حبرة - بوزن: عنبة - على الوصف والإضافة، وهو برد يمانٍ". قوله: (قد قلت الشعر): لما لفق ابنه هذه الألفاظ، توقع منه أنه سيقوله. فجعل المتوقع كالواقع، فقال: "قد قلت" على الماضي.

وقطعُ دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم، وقصتهم: أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها، صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً نبياً، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق؛ أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عادٌ إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً، منهم قيل ابن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان- قينتان كانتا لمعاوية - فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحي أن يكلمهم؛ خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يسقينا غماما فيسقي أرض عادٍ إن عاداً ... قد امسوا ما يبينون الكلاما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهينم)، الهينمة: إخفاء الكلام. وهاهنا: عبارة عن الدعاء. قوله: (يسقينا غماماً): أي: غيثاً. قوله: (ما يبينون الكلاما) أي: لا يفقهون قولاً من ضعفهم.

فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه، فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماءً، فخرجت على عادٍ من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريحٌ عقيمٌ فأهلكتهم، ونجا هودٌ عليه السلام والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريضٌ بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هودٍ عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو تعريض بمن آمن منهم): يعني: إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده. ونظيره في اعتبار شرف الإيمان قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ) إلى قوله: (ويُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر: 7]. وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن ذكر الإيمان لشرفه والترغيب فيه.

[(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)]. قرئ: (وَإِلى ثَمُودَ) بمنع الصرف بتأويل القبيلة، و"إلى ثمودٍ" بالصرف بتأويل الحيّ، أو باعتبار الأصل؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحِجْرَ بين الشام والحجاز إلى وادي القرى. (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ): آيةٌ ظاهرةٌ وشاهدٌ على صحة نبوّتي، وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال: (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً)، و (آيةً) نصبٌ على الحال، والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. و(لكم) بيانٌ لمن هي له آيةٌ موجبةٌ عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أخو إدريس) في بعض النسخ بعد ذكر نسب ثمود، وهو خطأ. ويعلم من انتسابه نوحاً قبيل هذا. قوله: (لمن هي له آية موجبة عليه): اللام في "لمن" صلة "بيان"، و"من" موصولة، وصلتها الجملة، وقوله: "هي": مبتدأ، "آية موجبة": خبر، و"له": حال من "آية"، والجملة صلة الموصول.

وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحلٍ وطروقةٍ آيةً من آياته، كما تقول: آية الله. وروي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا، وعمروا أعماراً طوالاً، حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعةٍ ورخاءٍ من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مكونةً) أي: موجودة، لكن من غير واسطة، كما قيل لعيسى "كلمة". قوله: (وطروقةٍ)، الجوهري: "يقال: ناقة طروقة الفحل، للتي بلغت أن يضربها الفحل"، "وناقة مخترجة: إذا خرجت على هيئة الجمل". الراغب: "الطرق في الأصل: الضرب، إلا أنه أخص، لأنه ضرب يوقع بطرق الحديد بالمطرقة، ويتوسع فيه توسعهم في الضرب. ومنه قيل: طرق الفحل الناقة، وأطرقها، واستطرقت فلاناً فحلاً. ويقال للناقة: طروقة". قوله: (آية من آياته): حال من ضمير "جاءت"، وكذا "مكونة"، والظاهر أنها حال من ضمير "مكونة" متداخلة. وذكر المصنف في سورة "هود" "أن (لكم): حال من (آية)، وكانت: صفة، فقدمت، وصارت حالاً".

وكانوا قوماً عرباً، وصالحٌ من أوسطهم نسباً، فدعاهم إلى الله تعالى، فلم يتبعه إلا قليلٌ منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آيةً، فقال: أية آيةٍ تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو- وأشار إلى صخرةٍ منفردةٍ في ناحية الجبل يقال لها: الكاثبة -: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجةً جوفاء وبراء - والمخترجة: التي شاكلت البُختَ-، فإن فعلت صدّقناك وأجبناك، فأخذ صالحٌ عليه السلام عليهم المواثيق: لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ! قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقةٍ عشراء جوفاء وبراء. كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى، وعظماؤهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندعٌ ورهطٌ من قومه، ومنع أعقابهم ناسٌ من رؤوسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غباً، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه معنى ما قاله هنا: "و (لكم): بيان لمن هي له آية". قال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون (لكم) حالاً من (آيةً). ويجوز أن يكون (ناقة الله) بدلاً من (هذه)، أو عطف بيان، و (لكم) الخبر. ويجوز أن يعمل في (أية): (لكم). وجاز أن يكون (آية) حالاً، لأنها بمعنى علامة ودليلاً". قوله: (وسألوها) أي: سألوا الأصنام أن تستجيب دعاءهم، أي: تجيب. قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران: 195].

فما ترفعه حتى تشرب كلّ ماء فيها، ثم تتفحج فيحتلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون. قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً. وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم، فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أمّ غنم، وصدقة بنت المختار، لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى رقي جبلاً اسمه قارة، فرغى ثلاثاً، وكان صالحٌ قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها. فقال لهم صالح: تصبحون غداً ووجوهكم مصفرّة، وبعد غدٍ ووجوهكم محمرةٌ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر، وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحةٌ من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم تتفحج) بالفاء، والحاء المهملة، والجيم بعدها. نقل الجوهري عن أبي عمرو: "والتفحج مثل: التفشج: وهو أن يفرج بين رجليه". قوله: (تصيفت): أي: تلبثت بالصيف. و"تشتت": إذا تلبثت بالشتاء. قوله: (سقبها). السقب: الذكر من أولاد الإبل. "تحنطوا": أي: اتخذوا حنوطاً. والحنوط: الذريرة. "لا تريبوها"، من قولهم: "رابني فلان: إذا رأيت منه ما يسوؤك وتكرهه".

(تأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أي: الأرض أرض الله والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ): لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيءٍ من الأذى، إكراماً لآية الله. ويروى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم». وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ، أتدري من أشقى الأوّلين»؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: «عاقر ناقة صالح، أتدري من أشقى الآخرين»؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال «قاتلك». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله): فإن قلت: هذه الإضافة آذنت بالاختصاص، وقد قدر فيما سبق أن الإضافة في (ناقة الله) للتعظيم والتفخيم، ولا ارتياب أن الإضافة في (أرض الله) غير مطلوبٍ منها التعظيم، بل الاختصاص، فأين التطابق؟ قلت: الاختصاص لا يدفعه التعظيم. قوله: (ويروى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم): الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن ابن عمر قال: "لما مر رسول الله صلي الله عليه وسلم بالحجر"، قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين". ثم قنع رأسه، وأسرع السير، حتى جاز الوادي. أما رواية الكتاب. "باكين أن يصيبكم" فمعناه: خائفين أن يصيبكم مثل ما أصابهم. قوله: (يا علي، أتدري من أشقى الأولين؟ ): وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب" عن

وقرأ أبو جعفر - في رواية-: "تأكل في أرض الله"، وهو في موضع الحال بمعنى آكلة. (وَبَوَّأَكُمْ): ونزلكم، والمباءة: المنزل (فِي الْأَرْضِ): في أرض الحِجرِ بين الحجاز والشام، (مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر. وقرأ الحسن: "وتنحتون" بفتح الحاء، و"تنحاتون" بإشباع الفتحة، كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النسائي، من حديث عمار بن ياسر، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: "أشقى الناس الذي قتل الناقة، والذي يضربك على هذا" - ووضع يده على رأسه - "حتى يخضب هذه" يعني: لحيته. قوله: (من الرهص واللبن): الرهص: "العرق الأسفل من الحائط. كذا في "الأساس". والذي يوافق قول المصنف ما في "المغرب": "الرهص: الطين الذي يجعل بعضه على بعض". "من) - في "من سهولة الأرض" -: بيان "ما" في "بما تعملون منها"، والباء - في "بما تعملون" - متعلقة بـ"تبنونها"، كما تقول: بنيت الدار بالحص والآجر والطين. قال أبو البقاء: " (من سهولها): حال من (قصوراً)، أو مفعولاً ثانياً لـ (تتخذون) ".

يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ فإن قلت: علام انتصب (بُيُوتاً)؟ قلت: على الحال، كما تقول: خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلماً، وهي من الحال المقدّرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبري. وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء. [(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ* فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينباع من ذفرى أسيلٍ حرةٍ): تمامه: زيافةٍ مثل الفنيق المكدم البيت لعنترة. ينباع: أصله: ينبع، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولدت ألف، أي: يسيل. والذفري من القفا: هو الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، ولا ينون، لأن ألفها للتأنيث. والأسيل: صفة الناقة. يقال: خد أسيل، إذا كان ليناً طويلاً. والحر من كل شيء: خالصه وجيده.

(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا): للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدلٌ من "الذين استضعفوا". فإن قلت: الضمير في (منهم) راجعٌ إلى ماذا؟ قلت: إلى (قَوْمِهِ) أو إلى "اِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا". فإن قلت: هل لاختلاف المرجعين أثرٌ في اختلاف المعنى؟ قلت: نعم، وذلك أن الراجع إذا رجع إلى (قومه) فقد جعل "مَنْ آمَنَ" مفسراً لـ"من استضعف منهم"، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، وإذا رجع إلى "الذين استضعفوا"، لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين. (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) شيءٌ قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة: أتعلمون أن الله فوق العرش؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والزيافة من النوق: المختالة. والزيف: التبختر. الفنيق: الفحل المكرم، والمكدم: المعضوض. يقال: ما بالبعير كدمة، أي: لم يكن به وسم ولا أثر. يصف ناقةً يسيل العرق من خلف أذنيها، مؤثقة الخلق، شديدة التبختر، مثل فحل الإبل قد كدمته الفحول. قوله: (فقد جعل "من آمن" مفسراً لـ"من استضعف منهم"): قال القاضي: " (لمن آمن منهم): يدل من (للذين استضعفوا)، بدل الكل، إذا رجع الضمير إلى (قولمه)، وإذا رجع إلى (للذين استضعفوا) بدل البعض"، لوجود الضمير حينئذ.

فإن قلت: كيف صحّ قولهم: (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جواباً عنه؟ قلت: سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فوضعوا (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع (أُرْسِلَ بِهِ) رداً لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلماً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سألوهم عن العلم بإرساله): حاصل الجواب أنه من باب الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب. قوله: (إنما الكلام في وجوب الإيمان به) أي: لا تسألوا عن العلم بإرساله، بل سلوا: هل يجب الإيمان به لأنه الأهم بشأنكم؟ فإن قلت: من أين دل الجواب على وجوب الإيمان به؟ قلت: من حيث إن أصل السؤال: أتعلمون أن صالحاً مرسل ثابت الرسالة بالدليل، فيجب الإيمان به عليكم وعلينا؟ فالجواب: نعم: علمنا وحققنا ثبوت رسالته بدعواه وإظهار المعجزة عليها، فنحن آمنا به وبما أرسل به من البينات، فأنتم أيضاً آمنوا به، فعدلوا عن ظاهر الجواب إلى ما تراه لتلك النكتة التي ذكرها المصنف، والقوم لما كانوا منكرين رسالة البشر تكبراً وعناداً، كما قالوا: (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) [المؤمنون: 47] ما أنصفوا، وقالوا: (إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ). قوله: (ولذلك كان جواب الكفرة): أي: ولأجل أنهم ساقوا الكلام في وجوب الإيمان به، دون الإرسال، وكونه مرسلاً، قالت الكفرة: (إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ). فإنهم

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أُسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم، (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ): وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، و"أمر ربهم": ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله: (فَذَرُوها تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) [الأعراف: 73]، أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوّهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو "عن" هذه ما في قوله (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيضاً عدلوا عن الظاهر، لأن جوابهم المطلق: إنا بالذي أرسل به كافرون. أي: ليس الأمر كما قلتم بأن الكلام في وجوب الإيمان به. قال في "الانتصاف": "لو طابقوا، لقالوا: إنا بالذي أرسل به لكافرون، لكن عدلوا عن ذلك، لما فيه من إثبات رسالته، وهم يحجدونها، وقد ثبت مثل ذلك على وجه التهكم، كما قال: (إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء: 27]. لكن هؤلاء بالغوا في التحرز حذراً من النطق بثبوت الرسالة". قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوهم): عطف على قوله: "وتولوا عنه". يريد أن الأمر في قوله: (عن أمر ربهم) إما بمعنى واحد الأوامر، أو واحد الأمور. فإن كان الأول، (فعتوا) إما مضمن لمعنى "التولي"، فالمعنى: تولوا واستكبروا عن امتثال أمرٍ عاتين. أو مضمن لمعنى الإصدار، فالمعنى: صدر عتوهم عن أمر ربهم. وسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله: (فذروها تأكل في أرض الله) ابتلاءً، وهم ما امتثلوا الأمر، فصاروا عاتين لذلك. ولولا ذلك الأمر ما ترتب العتو.

(ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أرادوا: من العذاب، وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوماً، واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين. (الرَّجْفَةُ): الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها (فِي دارِهِمْ): في بلادهم أو في مساكنهم (جاثِمِينَ): هامدين لا يتحركون موتى. يقال: الناس جُثمٌ، أي: قعودٌ لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة، ومنه: المجثمة التي جاء النهي عنها، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان الثاني، فالمعنى: تولوا واستكبروا عن شأن الله، أي: دينه. قوله: (واستعجالهم له) أي: للعذاب، لأجل تكذيبهم بالعذاب، لأن من حق من خاف النازلة، حذر واحترز، فضلاً عن أن يستعجل نزولها. والدليل على أن استعجالهم كان للتكذيب تعليقهم استعجال العذاب، أي: بقوله: (إن كنت من المرسلين)، وقد أنكروا أنه من المرسلين، في قولهم: (إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ). قوله: (لا ينبسون)، الجوهري: "ما نبس بكلمة، أي: ما تكلم". قوله: (المجثمة) بفتح الثاء المثلثة. المغرب: "هي بالفتح: ما يجثم، ثم يرمي حتى يقتل. وعن عكرمة: هي الشاة ترمى بالنبل. وعن شمر: بالحجارة. وقيل: إنها في الطير خاصة، والأرانب، وأشباه ذلك.

وعن جابر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحِجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجلٌ واحدٌ كان في حرم الله. قالوا: من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». وروي: أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم، فخالف أمره. وروي: أنه عليه السلام مرّ بقبر أبي رغالٍ فقال: «أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصنٌ من ذهب، فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) الظاهر أنه كان مشاهداً لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولي مغتمّ متحسرٍ على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم ويقول: يا قَوْمِ لَقَدْ بذلت فيكم وسعي، ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم، ولكنكم (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قال: أبو رغال). روى أبو داود عن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر، فقال صلي الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهبٍ، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه" فابتدر الناس، فاستخرجوا الغصن. قوله: (ولم آل جهداً)، الجوهري: "ألا يألو، أي: قصر. وفلان لا يألوك نصحاً، فهو آلٍ، والمرأة آلية".

ويجوز أن يتولى عنهم تولي ذاهبٍ عنهم، منكرٍ لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروي: أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي: أنه خرج في مئةٍ وعشرةٍ من المسلمين وهو يبكي، فالتفت، فرأى الدخان ساطعاً، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفاً وخمس مئة دار. وروي: أنه رجع بمن معه، فسكنوا ديارهم. فإن قلت: كيف صحّ خطاب الموتى وقوله: (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)؟ قلت: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت- وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة-: يا أخي، كم نصحتك، وكم قلت لك فلم تقبل منى! وقوله: (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حالٍ ماضية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهبٍ عنهم، منكرٍ) فعلى هذا: الخطاب مع القوم، يؤيده قوله: "حين رأى العلامات قبل نزول العذاب". والأول هو الظاهر، لترتب التولي بالفاء على (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) وهو المناسب منه عليه السلام، وأنه من العرب، ومن عادتهم البكاء على الديار وأهلها. وعليه يرد السؤال الآتي: "كيف صح خطاب الموتى؟ ". قوله: (وكانوا ألفاً وخمس مئة دار) أي: كانت دورهم ألفاً وخمس مئة، فحذف المضاف، فانقلب الضمير المجرور مرفوعاً. كما مر في قوله: (والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا) [الأعراف: 58]، أي: لا يخرج نباته. قوله: (حكاية حالٍ ماضية) وكان من حق الظاهر أن يقال: نصحت لكم ولكن ما قبلتم نصحي، فعدل من الماضي إلى المضارع لاستحضار تلك الحالة التي وقعت فيها النصيحة،

[وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ* وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)]. (وَلُوطاً) وأرسلنا لوطاً، و (إِذْ) ظرف لـ (أرسلنا). أو: واذكر لوطاً، و (إذ) بدلٌ منه، بمعنى: واذكر وقت (قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ): أتفعلون السيئة المتمادية في القبح؟ (ما سَبَقَكُمْ بِها): ما عملها قبلكم، والباء للتعدية، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأبوا إلا بغضها؛ تعجباً منه وتعجيباً لغيره من عدم القبول إلى المحبة، مبالغاً في الإصرار على الكفر، ومن الإفراد إلى الجمع المحلى باللام إيذاناً بأن ذلك كان دأبهم وعادتهم، وأنهم لا يقبلون نصح ناصحٍ، ومن ثم ما قبلوا نصحه. قوله: (أو: واذكر لوطاً) على هذا عطف جملة القصة على مثلها. وعلى الأول: هو من عطف بعض مفردات الجملة على مثله، أي: لقد أرسلنا نوحاً ولوطاً. وقوله: " (إذ) ظرف لـ (أرسلنا) " معناه: الزمان أو القرن الذي أرسل فيه لوط. وقيل: إن الوقت الحقيقي لقوله: (أتأتون الفاحشة) هو الجزء المعين من الزمان الذي وقع فيه هذا الكلام. وذلك الجزء لا يصح أن يكون ظرفاً للإرسال. لكن كما أن ذلك الجزء زمان هذا القول، فكذلك ذلك اليوم، وذلك الشهر، وتلك السنة، وذلك القرن، فيتحقق من هذا التقرير معنى الأثر الحقيقي وغير الحقيقي. وعلى عطف القصة على القصة، و (إذ) بدل، يكون أفيد، وذلك أن ذكر الأنبياء لتثبيت

من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه السلام: «سبقك بها عكاشة». (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (من) الأولى: زائدةٌ لتوكيد النفي، وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بتسليته مما يقاسي عن قومه. أي: اذكر تلك الحالة، وصورها في نفسك، لتعلم أن الأنبياء السالفة درجوا على ما أنت عليه مع القوم. قوله: (سبقك بها عكاشة): عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يدخل من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". فقام عكاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلي الله عليه وسلم: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة". قال صاحب "الجامع": عكاشة: بضم العين وتشديد الكاف وتخفيفها، والتشديد أكثر، ومحصن: بكسر الميم". قوله: (والثانية للتبعيض). فتكون بدلاً من محل (من أحدٍ)، أي: ما سبقكم بها بعض العالمين، أي: أنتم تفردتم بهذا الفعل من بين من عداكم من العالمين. قال في قوله تعالى: (أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ) [الشعراء: 165]: "أراد بالعالمين: الناس. أي: أتأتون من بين أولاد آدم - على فرط كثرتهم، وغلبة إناثهم - ذكرانهم؟ أو: أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران؟ ".

فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملةٌ مستأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله: (أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ)، ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أوّل من عملها. أو على أنه جواب لسؤالٍ مقدّر، كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: (ما سبقكم بها أحدٍ)، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. (إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ) بيانٌ لقوله: (أتأتون الفاحشة)، والهمزة مثلها في (أَتَاتُونَ) للإنكار والتعظيم. وقرئ: (إنكم) على الإخبار المستأنف. (لتأتون الرجال)، من: أتى المرأة؛ إذا غشيها. (شَهْوَةً) مفعولٌ له، أي: للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصفٌ لهم بالبهيمية، أنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه، أو حالٌ بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي جملة مستأنفة) أي: مبتدأة، مؤكدة لمعنى الإنكار، على سبيل التتميم والمبالغة فيه. أي: ما كفاكم ارتكاب هذه الفاحشة، حتى كنتم مقتدين فيها؟ كقولها: وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وإنما قلنا: مبتدأة، ليعلم أن معنى قوله: "مستأنفة" وارد على اللغة لا على الاصطلاح، لقوله بعد ذلك: "أو على أنه جواب لسؤال مقدر"، وذلك هو المستأنفة المصطلحة. قوله: (وقرئ: (إنكم) على الإخبار): نافع وحفص. قوله: (أو حال بمعنى: مشتهين): وفرق بين أن يكون (شهوةً) حالاً، وبين أن يكون مفعولاً له؛ وذلك أن قضاء الشهوة في نفسه مسترذل سمج، لكن إذا جعل وسيلة إلى طلب

إلى السماجة، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعوا إلى اتباع الشهوات، وهو أنهم قومٌ عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد، ونحوه: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء: 166]. (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) يعني: ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوطٌ عليه السلام؛ من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الولد، وتكثير النسل، وذريعة إلى التعفف والتخلي للعبادة، كان محموداً. فإذا قدر أنها حال، كان المطلوب مجرد الذم، والجري على الطبيعة. ولهذا قال: "تابعين الشهوة، غير ملفتتين إلى السماجة". وإذا قدر أنها مفعول له، يعود معناه إلى تقبيح توخي قلب الحكمة، لأن الحكمة في وضعها: أن تكون ذريعة إلى بقاء النوع، وتكثير النسل، ووسيلةً إلى التعفف، والتخلي للعبادة. فإذا جعل الغرض الأصلي هو الشهوة، كان أسمج وأقبح من طلب مجرد الشهوة. ولذلك قال: "ولا ذم أعظم منه". وقيل: قوله: "لأنه وصف لهم بالبهمية" يوهم ألا يكون على الحال وصفاً، وليس كذلك. وأجيب: بأن المراد - على الأول - أنهم جمعوا بين الوصف بالبهمية، والوصف بأنه "لا داعي لهم من جهة العقل البتة" بخلاف الثاني، فإنه ساكت عن القصد وعدمه.

ولكنهم جاؤوا بشيءٍ آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته؛ من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم. وقولهم: (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) سخريةٌ بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد. (وَأَهْلَهُ): ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين، (مِنَ الْغابِرِينَ): من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة مواليةً لأهل سدوم. وروي: أنها التفتت فأصابها حجرٌ فماتت. وقيل: كانت المؤتفكةُ خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلافٍ بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن معه من المؤمنين) عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. وإنما جاز لأنه عطف على محل الضمير، لأنه منصوب على المفعولية، فليس بمتصلٍ بالمضاف اتصال الضمير المجرور في قوله تعالى: (تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ) [النساء: 1] وسبق الكلام فيه، في قوله تعالى: (كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200]. قوله: (وكانت كافرةً مواليةً): الواو: للحال. و"قد": مقدرة، والعامل: "تغليب الذكور". ويروى: "فكانت" بالفاء، والمعنى: قدرناها بين الذين غبروا، فالحال أنها كافرة. قوله: (وروي أنها التفتت، فأصابها حجر، فماتت): عطف على قوله: "من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا".

وقيل: خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي: أن تاجراً منهم كان في الحرم، فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. فإن قلت: أي: فرقٍ بين "مطر" و"أمطر"؟ قلت: يقال: مطرتهم السماء ووادٍ ممطور. وفي "نوابغ الكلم": حرى غير ممطور. حريٌّ أن يكون غير ممطور. ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا مبني على ما قاله في سورة "هود": "وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم، وأمر ألا يلتفت منهم أحد إلا هي، فالتفتت، فأصابها الحجر. وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فلم يسر بها". وفيه بحث سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: (وشذاذهم)، الجوهري: "شذاذ الناس: الذين يكونون في القوم وليسوا من قبائلهم". قلت: يعني قوله: "أمطرت عليهم كذا" مطلق، يحتمل الخير والشر، وليس كذلك، لأن المصنف جعل هذا المثال مقدمة للأمثلة بعده، وهي في الشر. قوله: (حرى)، الجوهري: "الحرى - بفتح الحاء، مقصوراً - الساحة، والعقوة، والناحية. ويقال: هو حرى أن يفعل ذلك - بالفتح - أي: خليق جدير. لا يثنى ولا يجمع". قوله: (غير مطور) هو: من قولهم: لا يطور حوله، أي: لا يأتيه.

كقولهم: غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى: أرسلته عليهم إرسال المطر. (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال: 32]، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر: 74]. ومعنى (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً): وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً، يعني: الحجارة، ألا ترى إلى قوله: (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء: 173]. [(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "وفي حديث علي رضي الله عنه: "والله لا أطور به ما سمر سمير"، أي: لا أقربه أبداً". قوله: (ورهمتهم)، الأساس: "وقعت رهمته: مطرة لينة صغيرة القطر". قوله: (ويقال: أمطرت عليهم كذا): عطف على: "يقال: مطرتهم السماء". الانتصاف: "قصده الرد على من قال: "مطر" في الخير، و"أمطر" في الشر. فبين أن "أمطر" بمعنى أرسل إرسال المطر، خيراً كان أو شراً، لكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئاً يشبه المطر، إلا كان عذاباً، فمن هاهنا وقع الوهم لذلك القائل". قوله: (نوعاً من المطر عجيباً، يعني الحجارة): قال أبو البقاء: " (مطراً): هو مفعول "أمطرنا". والمطر هنا: الحجارة، كما جاء في الآية الأخرى: (وأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً) [هود: 82، والحجر: 74].

سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)]. كان يقال لشعيب عليه السلام: خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه، وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين، (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ): معجزةٌ شاهدةٌ بصحة نبوّتي أوجبت عليكم الإيمان بي، والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت: ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزةٌ، لقوله: (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، ولأنه لا بدّ لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئاً لا نبياً، غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن، كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كانت له معجزة، لقوله: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)): قال الزجاج: "قال بعض النحويين: لم يكن لشعيب معجزة. وهذا غلط فاحش، لأنه تعالى قال: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا) فجاء بالفاء، أي: أمرهم بالإيفاء بعد مجيء البينة، ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية، لم يقبل منه، لكن الله لم يذكرها، فلا يدل على عدمها". يريد الزجاج أن الفاء في (فأوفوا) سببية فيما يلزم من قوله: (قد جاءتكم بينة). وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: " (قد جاءتكم بينة من ربكم): معجزة شاهدة بصحة نبوتي، أوجبت عليكم الإيمان بي، والأخذ بما آمركم به، (فأوفوا) ".

ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصةً حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات؛ لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزاتٍ لشعيب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن معجزات شعيبٍ عليه السلام: ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين): قال القاضي: "ما ذكره محتمل أن يكون كرامة لموسى، أو إرهاصاً لنبوته". قال الإمام: "كلام صاحب "الكشاف" مبني على أصلٍ مختلف فيه، لأنه عندنا أن ذلك إرهاص، وهو أن يظهر الله تعالى على يد من سيصير نبياً خوارق العادات، وعند المعتزلة غير جائز". وفيه نظر، لأنه قال سورة "آل عمران" في قوله تعالى: (وإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) [آل عمران: 42]: "إنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا، أو إرهاصاً لنبوة عيسي عليه السلام". قوله: (أن تكون له الدرع)، الجوهري: "الأدرع من الخيل والشاء: ما اسود رأسه، وأبيض سائره. والأنثى: درعاء. ومنه قيل لثلاث ليال من الشهر اللاتي يلين البيض: "درع" لظلمة أوائلها، وظاهر بظهور القمر في سائرها".

فإن قلت: كيف قيل: (الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)، وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هودٍ عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل، وهو المكيال، أو سمي ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به، أو أُريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر. ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخسٌ. وقيل: (أَشْياءَهُمْ) لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه، كما يفعل أمراء الحرمين. وروي: أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد، وقالوا: هي زيوف! فقطعوها قطاعاً، ثم أخذوها بنقصانٍ ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه قيل للمكس: البخس)، المغرب: "المكس في البيع: استنقاص الثمن. والمكس أيضاً: الجباية، وهو فعل المكاس العشار. ومنه: "لا يدخل صاحب مكسٍ الجنة". فقوله: "أو كانوا مكاسين" مبني على الوجه الثاني، وقوله: "لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم" على الأول. قوله: (تحسبها حمقاء وهي باخس) وفي رواية: "باخسة". فعلى الأول تأويله: إنسان باخس، أو على النسب، كـ: "لابن" و"تامر".

(بَعْدَ إِصْلاحِها): بعد الإصلاح فيها، أي: لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم، وإضافته كإضافة قوله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ: 33] بمعنى: بل مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاحٍ أهلها، على حذف المضاف. (ذلِكُمْ) إشارةٌ إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى: (خَيْرٌ لَكُمْ) يعني: في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن كنتم مصدقين لي في قولي: (ذلكم خيرٌ لكم). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الميداني: "أصل المثل أن رجلاً من بني العنبر جاورته امرأة، فنظر إليها، فحسبها حمقاء لا تعقل، ولا تحفظ مالها. فقال العنبري: ألا اخلط مالي ومتاعي بمالها ومتاعها، ثم أقاسمها، فآخذ خير متاعها، وأعطيها الردئ من متاعي؟ فقاسمها بعدما خلط متاعه بمتاعها، فلم ترض عند المقاسمة، حتى أخذت متاعها، ثم نازعته، وأظهرت له الشكوى، حتى افتدى منها بما أرادت، فعوتب عند ذلك، فقال: "تحسبها حمقاء وهي باخسة"، يضرب لمن يتباله. وفيه دهاء". قوله: (يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة) أي: ما يتحدث به الناس، وهو من باب الاستدراج، وإرخاء العنان، لأن الكلام مع الكفار، ولو كان مع المؤمنين لقيل: لكان خيراً لكم عند الله من الثواب والدرجات، ولذلك فسر قوله: (إن كنتم مؤمنين) بقوله: "إن كنتم مصدقين"، وإنما قال: "مصدقين"، لأنهم ما كانوا مؤمنين مسلمين، وإن مثل هذا الشرط

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ): ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]، فتقعدوا بكل صراطٍ أي: بكل منهاجٍ من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله: (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، ومحل (تُوعِدُونَ) وما عطف عليه: النصب على الحال أي: ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما يجاء به في آخر الكلام للتوكيد فعلم منه أن شعيباً عليه السلام كان مشهوراً عندهم بالصدق والأمانة، كما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم مشهوراً عند قومه بالأمين. قوله: (ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: (لأقعدن): يعني: القعود على الصراط: تمثيل، كما في تلك الآية. مثل إغواءهم الناس عن دين الحق بكل ما يمكن من الحيل، بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة، فيكمن لهم من حيث لا يدرون. ونحوه في التمثيل قول الشيطان: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، أي: لأعترضن على طريق الإسلام، كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة. فلما أشبه هذا التمثيل ذلك، وكان مقدماً عليه، قال: "ولا تقتدوا بالشيطان فتقعدوا بكل صراط". قوله: (والدليل على أن المراد بالصراط: سبيل الحق، قوله: (وتصدون عن سبيل الله)): يعني: أن قوله تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراطٍ) محتمل لأن يراد بها سبيل

فإن قلت: صراط الحق واحد، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]، فكيف قيل: (بكل صراطٍ)؟ قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدودٍ وأحكامٍ كثيرةٍ مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيءٍ منها أوعدوه وصدّوه. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في (آمَنَ بِهِ)؟ قلت: إلى "كل صراطٍ"، تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو (سبيل الله) موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحق لوقوعه في التنزيل، وأن يراد بها الجادة المتعارفة. ودل إيقاع (وتصدون) قيداً للفعل على أنها سبيل الحق، كقوله تعالى: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16] لاسيما وقد عطف عليه: (وتَبْغُونَهَا عِوَجًا). والمعنى: لا تقعدوا في كل منهاجٍ من مناهج الدين تصدون الناس عنها، وتصفونها بالاعوجاج. هذا هو الظاهر، ولهذا إذا حمل على الظاهر، وجب قطع (توعدون) والذهاب إلى الاستئناف. قوله: (وقيل: كانوا يجلسون على الطرق) عطف على قوله: "ولا تقتدوا بالشيطان" من

فيقولون لمن مرّ بهم: إن شعيباً كذابٌ فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريشٌ بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق. وقيل: كانوا عشارين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث المعنى، أي: كانوا يضلون الناس عن مناهج الحق ودين الحق، وقيل: كانوا يجلسون على الطرق، ويمنعون الناس أن يقصدوا شعيباً عليه السلام. فعلى هذا لا يكون تمثيلاً، ولا يكون (تصدون) حالاً، ولا يكون (سبيل الله) من وضع الظاهر موضع المضمر، كما في الوجه السابق. قوله: (فيقولون لمن مر بهم: إن شعيباً كذاب): دلت الفاء على أن: (توعدون) استئناف لبيان المقتضى، فكأنه لما قيل لهم: (ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ)، قالوا: لم ذلك؟ فأجيب: لأنكم توعدون وتصدون عن سبيل الله. قال القاضي: " (من آمن به): الضمير يعود إلى "الصراط" على الأول، وإلى "الله" على الثاني. و (من): مفعول (تصدون) على إعمال الأقرب. ولو كان مفعول (توعدون) لقال: تصدونهم". وكذا عن أبي البقاء. فظاهر الآية مع الكوفيين. قوله: (وقيل: كانوا يقطعون الطريق): فعلى هذا الآية مبالغة في الوعيد وتغليظ ما

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً): وتطلبون لسبيل الله عوجاً، أي: تصفونها للناس بأنها سبيلٌ معوجةٌ غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها، أو يكون تهكماً بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأنّ طريق الحق لا يعوج. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانوا يرومونه من قطع السبيل، لأن قاطع الطريق ساعٍ في الأرض بالفساد، وإخراجها عن أن تكون منتفعاً بها، لأن ضرر ذلك يسري إلى الدين. ألا ترى كيف أنزل الله فيهم: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ) [المائدة: 33] تمهيداً لمحاربة المؤمنين؟ وعلى هذا حكم العشار والمكاسين. ولهذا اشترط في إيجاب الحج أمن الطريق من نحو الرصدي. وعلى هذا لا يراد بقوله: (تبغونها عوجاً) التهكم ولا التوبيخ، بل المعنى: تقطعون السبيل، لتفسد الأرض، وتخرج عن أن تكون منتفعا بها، فعبر عن الإفساد بطلب الاعوجاج. ويؤيده قوله: (وانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ). ومعنى هذا الطلب معنى اللام في قوله: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا) [القصص: 8]. قوله: (أو يكون تهكماً بهم): عطف على قوله: "تصفونها للناس"، فعلى الأول يكون قوله: (وتبغونها عوجاً) كناية عن وصفهم لهم بالاعوجاج. فإنه تعالى عبر عن وصف الكافرين سبيل الله بالاعوجاج، بقوله: (تبغونها عوجاً) على سبيل التوبيخ. يعني: ما يريدون بهذا الوصف إلا المحال، وهو اعوجاج ذاتها. فهو إخبار فيه معنى التوبيخ، كما في قوله تعالى: (آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه: 71، والشعراء: 49]. فقوله: "وأنهم يطلبون لها ما هو محال" تفسير للوجهين: التوبيخ والتهكم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا): (إذ) مفعولٌ به غير ظرف، أى: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم، (فَكَثَّرَكُمْ) الله ووفر عددكم. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوطٍ فولدت، فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء، فكثروا وفشوا. ويجوز: إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم، فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلةً فأعزكم بكثرة العَدَدِ والعُدَد. (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوحٍ وهود وصالحٍ ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة. (فَاصْبِرُوا): فتربصوا وانتظروا، (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا) أي: بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيدٌ للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة: 52]، أو هو عظةٌ للمؤمنين، وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أي: ليصبر المؤمنون على أذى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي الكلام ترق، يعني: ما كفاكم أنكم توعدون الناس عن متابعته، وتصدونهم عن سبيله، حتى تصفونه بالاعوجاج، ليكون الصد بالبرهان والدليل؟ ! قوله: (مما أصاب المؤتفكة): المؤتفكات: قريات لوط، لأنها ائتفكت وانقلبت. الجوهري: "الأفك - بالفتح - مصدر: أفكه يأفكه، أي: قلبه وصرفه عن الشيء". قوله: (وهذا وعيد للكافرين): وفي إتيان حرف الشرط دلالة على تناهي إقناطه من رجوعهم، والإقلاع عن تماديهم، وأن البلاء لابد أن ينزل عليهم، وإن كان فيهم الصلحاء

الكفار، وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف. [(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)]. أي: ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم؛ وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وكيف أجابهم بقوله: (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها)، والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر؟ قلت: لما قالو: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك) فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم، قالوا: (لتعودنّ)، فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراء للكلام على حكم التغليب، وعلى ذلك أجرى شعيبٌ عليه السلام جوابه فقال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذين يدفع بهم البلاء، ولبلوغهم في التمادي (قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا). قوله: (وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه): أي: أجابهم بما أوردوا عليه السؤال من التغليب ليتطابقا. ويجوز أن يكون على المشاكلة، كما في قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا

إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)، والله تعالى متعالٍ أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر؟ قلت: معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً، والعبث قبيحٌ لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله: (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي: هو عالمٌ بكل شيءٍ مما كان وما يكون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً) [البقرة: 26] في أحد وجهيه. قال في "الانتصاف": "وقد يستعمل "عاد" - من أخوات "كان" - بمعنى "صار"، فلا يستدعي الرجوع إلى حالةٍ سابقة، بل عكس ذلك: وهو الانتقال من حال سابقة إلى حالٍ مستأنفةٍ كأنهم قالوا: أو لتصيرن كفاراً في ملتنا". قوله: (والدليل عليه قوله تعالى: (وسع ربنا كل شيءٍ علماً): أي: والدليل على أن المراد بقوله تعالى: (إلا أن يشاء الله): إلا أن يشاء الخذلان، ومنع الألطاف، لا الردة، لأن منع الألطاف لازم لسبق علمه أن الألطاف لا تجدي، وتابع له، ولو أريد: أن يشاء العود إلى الكفر لم يكن لمجيء العلم فائدة. والجواب: أن في ذكر العلم فائدةً جليلة، لأن المعنى: (وما يكون لنا) أي: ما يصح ولا يستقيم منا على ما نحن عليه من الثبات على الدين، بعد وضوح الآيات البينات، وشرح الله

فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل؟ وقلوبهم كيف تتقلب؟ وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان؟ (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله: (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) حسمًا لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصدور أن نعود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله العود، فإن معرفة المشيئة غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله. ويؤيده قوله: عليه توكلنا، أي: في أن تثبتنا على الإيمان. نحوه قوله تعالى: (ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ) [الأحقاف: 9]. قوله: ((إلا أن يشاء الله) حسماً لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال): هذا على أن يكون معنى (أن يشاء الله) التأبيد، كما نص عليه في "الكهف". قال الزجاج: "قال قوم: (إلا أن يشاء الله ربنا)، والله لا يشاء الكفر، مثل قولك: لا أكلمك حتى يبيض الفأر، ويشيب الغراب. والغراب لا يشيب، والفأر لا يبيض. وهذا خطأ لمخالفته كثيراً من النصوص الواردة في الكتاب والسنة، في أن الكائنات تابعة لمشيئة الله، ولكن الله تعالى غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم، فأمرهم ونهاهم، لأن الحجة إنما تثبت من جهة الأمر والنهي. وكل ذلك جارٍ على ما سبق من العلم، وجرت به المشيئة، فعليهم السمع والطاعة للأمر إذا أمروا، وهم جارون على ما علم منهم أنهم يختارون الطاعة أو المعصية".

(أَوَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. (وما يكون لنا): وما ينبغي لنا، وما يصح لنا، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا): احكم بيننا. والفتاحة: الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا (وَبَيْنَ قَوْمِنا) وينكشف؛ بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) كقوله: (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [يونس: 159]. فإن قلت: كيف أسلوب قوله (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ)؟ قلت: هو إخبارٌ مقيدٌ بالشرط، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام! لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفترٍ على الله الكذب، حيث يزعم أنّ لله نداً، ولا ندّ له، والمرتدّ مثله في ذلك وزائدٌ عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل. والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذباً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والفتاحة: الحكومة): قال الزجاج: "وأهل عمان يسمون القاضي: الفتاح والفاتح". قوله: (كيف أسلوب قوله: (قد افترينا)؟ ): يعني: ما معنى التأكيد الذي تعطيه (قد) مع مدخولها الماضي، ثم انضمام (إن) الشرطية معها؟ يدل على هذا التلخيص الجوابان. وأجاب أنه من باب إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، لأن ظاهره إخبار مقيد بالشرط. وتأويله من وجهين.

[(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)]. (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي: أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة: 16]، وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف، لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية. فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً)، وجواب الشرط؟ قلت: قوله: (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) سادّ مسدّ الجوابين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن يكون من باب التعجب، يعني روم إيقاع النفس في ورطة المهالك، من أولي النهية، بعد المزاولة الطويلة في الإخراج منها، مما يقتضي منه العجب. وإليه الإشارة بقوله: "ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام! ". فكأنه عليه السلام لما سمع كلامهم ما التفت إلى الجواب، وأنشأ التعجب من نفسه، قائلاً: (قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم). ولهذا قال: "كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب". قال أبو البقاء: " (قد افترينا)، هو معنى المستقبل، لأنه لم يقع، وإنما سد مسد جواب (إن عدنا). وساغ دخول (قد) لأنهم نزلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع، فقرنوه بـ (قد). وكأن المعنى: قد افترينا الآن، إن هممنا بالعود"، على أن يكون قسماً، لا يكون مستأنفاً، بل يكون رداً لكلامهم بأبلغ وجه.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ، خبره: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)، وكذلك (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ). وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أُهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغةٌ في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيهٌ لرأيهم، واستهزاءٌ بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص): كما في قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ويَقْدِرُ) [الرعد: 26] في سورة "الرعد"، "أي: الله وحده هو يبسط الرزق، ويقدره دون غيره". ولو حمل الجملة الأولى على تقوى الحكم، كما عليه كلام صاحب "المفتاح"، والثانية على التخصيص، لتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخبر باللام، ويكون التكرير، ليناط به كل مرة معنى زائد: لكان أوجه، كما سنقرره. قوله: (وفي هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم): أما الاستئناف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتكرير، فإنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة على التكذيب والعناد، وتركهم هامدين لا حراك بهم، اتجه لسائلٍ أن يسأل: إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي: استؤصلوا، وتلاشت جسومهم، كأن لم يقيموا في ديارهم. ثم سال: أخصص الدمار بهم، أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ) أي: اختص الدمار بهم. فجعلت صلة الأولى ذريعةً إلى تحقيق الخبر. كقول الشاعر: إن التي ضربت بيتاً مهاجرةً ... بكوفة الجند غالت ودها غول ولذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم بقوله: (كأن لم يغنوا فيها)، وأوثر تقوي الحكم على التخصيص. وجعلت صلة الثانية علةً لوجود الخبر، نحو قولك: الذين آمنوا لهم جنات النعيم، والذين كفروا لهم دركات الجحيم.

[(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)]. الأسى: شدّة الحزن. قال العجاج: وانحلبت عيناه من فرط الأسى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما تسفيه رأيهم، فهو أنهم لما أظهروا محض النصح لقومهم، بقولهم: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكُمْ إذًا لَّخَاسِرُونَ)، حيث أتوا فيه بالجملة القسمية، وأقحموا فيها (إذا)، رد عليهم، يعني: ما تلفظوا به في قوله تعالى: (كانوا هم الخاسرين) ليكون مدمجاً فيه معنى الاستهزاء، يعني: نعم النصيحة التي نصحوهم، نسبوا الخسران إلى متابعته، والربح إلى مخالفته. كان ذلك، لكن بالعكس، وهو المراد من قوله: "واستهزاء بنصحهم". وحينئذٍ يقع الاختصاص في موقعه، كما قال: "الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران، دون أتباعه، فإنهم الرابحون". ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس، أي: هم الكاملون في الخسران. وأما استعظام ما جرى عليهم فمن قوله: (كأن لم يغنوا فيها) أي: لم يبق عين ولا أثر، ولا جالبة خبر. وكذا من مجموع الكلام، والله أعلم. قوله: (وانجلبت عيناه من فرط الأسى): وأنشد الشارح تمام البيت:

اشتدّ حزنه على قومه، ثم أنكر على نفسه، فقال: فكيف يشتدّ حزني على قومٍ ليسوا بأهلٍ للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم! ويجوز أن يريد: لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكيف غربي دالجٍ تبجسا انحلبت عيناه، أي: سال دمع عينيه. والوكيف: القطر. وغربي: تثنية الغرب، وهو الدلو العظيم. والدالج - بالجيم-: الذي يأخذ الدلو من البئر، فيفرغها في الحوض. تبجس: انفجر بسعة وكثرة. يقول: سال دمع عينيه من الخزن، ووكفتا وكيف دلوي دالجٍ تفجر وسال. قوله: (ثم أنكر على نفسه): أي: جرد من نفسه شخصاً، وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه، كما فعل امرؤ القيس في قوله: تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد وكان من حق الظاهر أن يقول: وكيف يشتد حزنك؟ لقوله: "ثم أنكر على نفسه"، لكن التفت، وقال: "وكيف يشتد حزني! ". هذا إذا كان الخطاب مع نفسه. أما إذا كان مع غيره فلا يكون من التجريد. قوله: (ويجوز أن يريد: لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ): أي: أنهيت إليكم العذر، وما قصرت فيه.

فكيف آسى عليكم؟ يعني: أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى. وقرأ يحيى بن وثاب: "فكيف إيسى"، بكسر الهمزة. [(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ* ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنه الحديث: "لقد أعذر الله تعالى إلى من بلغ به من العمر ستين سنةً"، أي: لم يبق فيه موضعاً للاعتذار، حيث أمهله طول هذه المدة. يقال: أعذر الرجل: إذا بلغ أقصى الغاية في العذر. فعلى هذا لا يكون الخطاب مع نفسه، بل مع القوم، تأنيباً وتوبيخاً لهم، من أوله إلى منتهاه، وعلى الأول قوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) فيه معنى التلهف والتحسر، مع إنهاء الندامة إلى القوم، وقوله: (فكيف أسي) فيه معنى الإنكار والتأنيث للنفس. وعلى التقديرين قوله: (على قوم كافرين) إقامة للظاهر موضع المضمر، للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم. قوله: ("فكيف إيسي"، بكسر الهمزة) يعني: على لغة من يقول: "تعلم".

(إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَاساءِ): بالبؤس والفقر، (وَالضَّرَّاءِ): بالضر والمرض؛ لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه، (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ): ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة، (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة، كقوله: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف: 168]، (حَتَّى عَفَوْا): كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر؛ إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعفوا اللحى»، وقال الحطيئة: بِمُسْتَأسِدِ القرْيَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمستأسد القريان) قبله: فإن نظرت يوماً بمؤخر عينها ... إلى علمٍ في الغور قالت له: ابعد بأرضٍ ترى فرخ الحبارى كأنه ... بها راكب موفٍ على ظهر قردد بمستأسد القريان عافٍ نباته ... تساقطني والرحل من صوت هدهد

وقال: ولكنّا نعضّ السّيف منها ... بأسوق عافيّات الشّحم كوم (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) يعني: وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك، وما هو بابتلاءٍ من الله لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلا أن نأخذهم بالعذاب، (فَأَخَذْناهُمْ) أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم. [(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)]. اللام في (القرى): إشارةٌ إلى القرى التي دل عليها قوله: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) [الأعراف: 94]، كأنه قال: ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نظرت، أي: الناقة. وفي الغور: حال من الضمير في "نظرت". و"قالت": جزاء الشرط، أو صفة "علم" على التأويل، أو حال من الضمير في "نظرت"، و"قد" مقدرة. وجواب الشرط: "تساقطني". وعلى الأول: "تساقطني" حال من الضمير في "نظرت". استأسد النبت: قوي والتف. والقربان: جمع القرى، وهو مجمع الماء في الروض. موفٍ: من أوفى الشيء، أي: أشرف. والقردد: المكان الغليظ المرتفع. قوله: (ولكنا نعض السيف) البيت، أي: نجعله عاضاً. والباء في "بأسوق" زائدة، لأن "نعض" يتعدى إلى المفعولين. أسوق: جمع ساق. عافيات اللحم، أي: كثيراته. وكوم: جمع كوماء: عظيمة السنام. يقول: ننحر للأضياف، ونعقر لهم النوق السمان.

(آمَنُوا) بدل كفرهم (وَاتَّقَوْا) المعاصي مكان ارتكابها، (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ): لأتيناهم بالخير من كل وجه، وقيل: أراد المطر والنبات، (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ) بسوء كسبهم. ويجوز أن تكون اللام في (القرى) للجنس. فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراد المطر والنبات): أي: لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء بالمطر، وبركاتٍ من الأرض بالنبات. وعلى الأول اعتبر بالجهتين التكرير واستيعاب وجوه الخير كلها، كقوله تعالى: (ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيًا) [مريم: 62]. ولهذا قال: "لأتيناهم بالخير من كل وجه". قوله: (كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة): يعني: أن الأسلوب من الاستعارة التبعية المستلزمة للتمثيلية، لقوله: "كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها"، فإنه اعتبر أمر الأبواب وأحوالها، وأطلق التيسير على الفتح بعد تشبيه أحدهما بالآخر، ثم الإفضاء من المصدر إلى الفعل، يدل عليه قوله: "ما معنى فتح البركات؟ " سأل عن المصدر، ليشير إلى أن الاستعارة تبعية، والوجه سهولة الوصول إلى المقصود.

المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين. [(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)]. "البيات" يكون بمعنى: البيتوتة، يقال: بات بياتاً، ومنه قوله تعالى: (فَجاءَها بَاسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف: 4]، وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى: التسليم. يقال: بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين- أي: وقت بياتٍ- أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى: تبييتاً، كأنه قيل: أن يبيتهم بأسنا بياتاً. و(ضُحًى) نصبٌ على الظرف، يقال: أتانا ضُحىً، وضُحياً، وضحاء والضحى - في الأصل -: اسمٌ لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المستغلقة) بكسر اللام، يقال: استغلق الباب، واستصعب الأمر. هذا هو الفصيح المشهور. قوله: (ويكون بمعنى التبييت): يعني: جواز أن يكون "بياتاً) من الثلاثي، ومن المزيد، فعلى الأول: إما حال من المفعول، أو ظرف والوقت مقدر معه. وعلى الثاني: إما حال من الفاعل أو المفعول، أو مصدر. والأوجه أن يكون ظرفاً ليناسب قوله: (بأسنا ضحى). فإن قلت: لم جوز في الوجه الثاني أن يكون (بياتاً) حالاً من الفاعل، ومفعولا مطلقاً، ولم يجوزهما في الأول؟ قلت: لفساد المعنى؛ إذ لا يجوز أن يكون البأس بائتاً، لأن القوم هم البائتون.

والفاء والواو في (أَفَأَمِنَ) و (أَوَأَمِنَ) حرفا عطفٍ دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت: ما المعطوف عليه؟ ولِمَ عُطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً)، وقوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) إلى (يَكْسِبُونَ) وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتةً، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحىً؟ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حرفا عطفٍ دخلت عليهما همزة الإنكار): قال صاحب "الفرائد": "ما ذكر يشكل بما قيل: إن لهمزة الاستفهام صدر الكلام، فلم يجز عطف ما بعدها على ما قبلها. وإنما الواجب أن يقدر المعطوف عليه بعد الهمزة وقبل الواو". وقال صاحب "الإيجاز": "إنما تدخل ألف الاستفهام على فاء العطف، مع منافاة العطف للاستئناف، لأن التنافي في المفرد، إذ الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول، والاستئناف يخرجه عن أن يكون منه. ويصح ذلك في عطف جملةٍ على جملة، لأنه على استئناف جملة بعد جملة". وقلت: الحق أن هذه الهمزة مقحمه مزيدة، لتقرير معنى الإنكار والتقرير، فتدخل بين الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر، والحال وعاملها، كما سبق مراراً وأطواراً. وقد نص عليه أبو إسحاق الزجاج في قوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّار) [الزمر: 19]. قوله: (المعطوف عليه قوله تعالى: (فأخذناهم بغتةً) إلى آخره: اعلم أن في تمييز مواقع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه الجمل، كما أشار إليه، موضع تأمل؛ فقوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا بَيَاتًا)، وقوله: (أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا ضُحًى) متقابلان، نحو قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) [يونس: 50]. والجملتان من المعطوف والمعطوف عليه معطوفتان معاً على قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً) [الأعراف: 95] على التعقيب، لأن المعنى: أأمن أهل هذه القرى بعدما سمعوا بما فعل أهل تلك القرى من الكفر والكفران وما فعل بم من الأخذ فجأة، من أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، أي: غافلون؟ والفاء في (فأخذناهم) للتسبب، يدل عليه قوله: "فعلوا وصنعوا"، (فأخذناهم بغتة)، و"فعلوا وصنعوا": كناية عن قوله: واستكبروا عن إتباع نبيهم، وتعززوا عليه، وقالوا بعد ابتلائهم بالحسنات والسيئات: هذه عادة الدهر. فلذلك أخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة. وأما معنى هذه الفاء والاستفهام: فهو أن أهل القرى بخاصة، بعدما سمعوا ما فعل أولئك، وما فعلنا بهم، لم يعتبروا، وأمنوا من أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم غافلون كما فعلنا.

وقرئ: (أو أمن) على العطف بـ"أو"، (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون. [(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم لما تضمن المعطوف والمعطوف عليه معنى بعث الرسول، وتعرض الأمة للابتلاء ليؤمنوا، ويتركوا كفران النعمة، كان قوله تعالى: (ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) الآية معترضةً مؤكدةً لمضمون الجملتين. أما قوله في المعترضة: "اللام في (القرى) إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله: (ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ) [الأعراف: 94] " فإن الظاهر أنها للعهد، لكن لا ينافي إرادة الجنسية؛ لأن (القرى) الأولى مطلقة، ولما كان الثاني عين الأول، كان أيضًا جنساً. قال الزجاج: "هذا مما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة، لتعتبر أمة محمد صلوات الله عليه". وأما اللام في قوله: (أفأمن أهل القرى): فإشارة إلى قرى معهودة، وهي ما بعث إليها رسول الله صلي الله عليه وسلم. قال محيي السنة: " (أفأمن أهل القرى) الذين كفروا وكذبوا، يعني مكة وما حولها". قوله: (وقرئ: "أو أمن"، على العطف بـ"أو"): نافع وابن كثير وابن عامر.

فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ)؟ قلت: هو تكريرٌ لقوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف: 97]، "ومكر الله": استعارةٌ لأخذه العبد من حيث لا يشعر، ولاستدراجه، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله: (أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا بَياتاً). [(أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)]. إذا قرئ: (أَوَ لَمْ يَهْدِ) بالياء كان (أَنْ لَوْ نَشاءُ) مرفوعاً بأنه فاعله، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو تكرير لقوله تعالى: (أفأمن أهل القرى)، فحينئذٍ (مكر الله) عبارة عما ذكره الله تعالى في قوله: (أن يأتيهم بأسنا بياتاً) الآيتين. والفاء في (فلا يأمن مكر الله) للعطف على مقدر، والهمزة في (أفأمنوا مكر الله) للتقرير والتوبيخ. يعني: بعد ما عرفوا ذلك أمنوا واطمأنوا؟ فإذا خسروا، لأنه (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون). قال أبو البقاء: "الفاء هاهنا للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله". قوله: (والغيلة)، الجوهري: "الغيلة - بالكسر -: الاغتيال. يقال: قتله غيلةً، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله". قوله: (إذ قرئ: (أو لم يهد) بالياء) التحتاني، وهي المشهورة، وبالنون: شاذة.

بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن؟ وهو أنا (لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كما أصبنا من قبلهم. وإنما عُدِّي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ)؟ قلت: فيه أوجهٌ: أن يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ)، كأنه قيل: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم، أو على (يَرِثُونَ اَلأَرْضَ)، أو يكون منقطعاً بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (وَنَطْبَعُ) بمعنى وطبعنا، كما كان (لَوْ نَشاءُ) بمعنى: لو شئنا، ويعطف على (أصبناهم)؟ قلت: لا يساعد عليه المعنى، لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (أو لم يهد) بالياء، وفاعله: (أن لو تشاء)، و (أن) مخففة من "أن" الثقيلة. أي: أو لم يتبين لهم علمهم بمشيئتنا؟ ". قوله: (وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه ضمن معنى التبيين)، وذلك أنه يتعدى إلى المفعول الثاني باللام، أو بـ"إلى"، كما سبق، وهاهنا تعدى إلى الأول باللام. قوله: (هل يجوز أن يكون (ونطبع) بمعنى: وطبعنا؟ ): يشير بهذا السؤال إلى ما ذكره الزجاج: " (ونطبع على قلوبهم) ليس بمحمولٍ على: (أصبناهم)، لأنه لو حمل عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكان "ولطبعنا"، لأنه على لفظ الماضي وفي معناه. ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل كما قال: (أن لو تشاء) ومعناه: لو شئنا". وقلت: هذا وإن جاز بحسب اللفظ، لكن المعنى لا يساعد عليه، لأنه لو عطف على ما في خبر (لو) لدخل في حكمه، وهي لامتناع الشيء لامتناع غيره، فيلزم أن القوم لم يكونوا مطبوعاً على قلوبهم، والحال أنهم مطبوعون. قال في "الانتصاف": "يجوز عطفه عليه، ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع، وإن كانوا كفاراً، إذ ليس الطبع من لوازم الكفر والاقتراف، إذ الطبع هو التمادي في الكفر والإصرار، حتى ييأس من قبول صاحبه للحق، وليس كل كافرٍ ولا مقترفٍ بهذه المثابة، بل يهدد الكافر بأن يطبع على قلبه، فيكون معنى الآية: قد هددتهم بأمرين: الإصابة ببعض الذنوب، والطبع على القلوب. وهذا الثاني، وإن كان نوعاً من الإصابة بالذنوب، فهو أشد، كما قال: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]. والآية حجة على الزمخشري". قال صاحب "التقريب": "وفي كلام جار الله نظر، لأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع. وأيضًا جاز أن يراد: "لو شئنا": لزدنا أو لأدمنا". قلت: هذا مردود، لأن الكلام وارد على التوبيخ والتهديد والإهلاك والاستئصال، لقومٍ ورثوا ديار قوم هلكوا بالاستئصال، وهؤلاء استخلفوهم، واقتفوا آثارهم بمثل تلك الذنوب، وهم أهل مكة، كما سبق، لأن قوله تعالى: (للذين يرثون الأرض) إما مظهر وضع موضع المضمر، أو عام، فيدخلون فيه دخولاً أولياً.

وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها. [(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)]. (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها): كقوله: (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72] في أنه مبتدأٌ وخبرٌ وحال، ويجوز أن يكون (الْقُرى) صفةً لـ (تلك) و (نَقُصُّ) خبراً، وأن يكون الْقُرى نَقُصُّ خبراً بعد خبر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا شك أن الطبع وازدياده ليس من الإهلاك في شيء، حتى يهددوا به، وإن أريد التحقيق فلتتل الآيات السابقة. ثم المختار أن تكون الجملة منقطعة، واردةً على الاعتراض والتذييل، أي: ونحن نطبع على قلوبهم. أي: من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلوب من لم نرد منه الإيمان، حتى لا يعتبر بأحوال الأمم السالفة، ولا يلتفت إلى الدلائل الدالة، كما شوهد من هؤلاء، حيث آمنوا واطمأنوا. فالمصنف هاهنا آثر مذهب الحق، وأعرض عن الاعتزال. وهذا مخالف لقول صاحب "المفتاح": "وهو أن الجملة متى نزلت منزلة الجملة العارية عن المعطوف عليها، كما إذا أريد القطع عما قبلها لم تكن موضعاً لدخول الواو هذه منقطعة، ومع الواو". ووجه الجمع: أن قول صاحب "المفتاح" محمول على واو العطف، وقول المصنف على أن الواو واو الاستئناف الداخلة على الجملة المذيلة والمعترضة.

فإن قلت: ما معنى: (تِلْكَ الْقُرى) حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بـ (نقص عليك من أنبائها)؟ قلت: معناه: أنّ تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها، ولها أنباءٌ غيرها لم نقصها عليك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بشرط التقييد بالحال): قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر، لأنه جعل شرط كون (تلك القرى) كلاماً مقيداً تقييده بالحال. وإذا جعل خبراً ثانياً انتفى ذلك الشرط، إلا أن يريد: "تلك القرى المعلومة حالها وصفتها"، على أن اللام للعهد، لكنه حينئذٍ يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال". وقلت: هذا وهم، لأن السؤال وارد على الوجه الأول، لأن المشهور أن الحال فضلة في فائدة الجملة، بخلافه إذا كان خبراً بعد الخبر، لأن (القرى) حينئذٍ بمنزلة "حلو" في قولك: "هذا حلو حامض"، فلا يكون كلاماً تاماً، فلا يرد السؤال، ولهذا استشهد بالصفة، لأنها قيد كالحال. والجواب مبني على ما قال الزجاج: "والحال هاهنا من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: "هذا زيد قائماً"، فإن قصدت أن تخبر به من لم يعرف زيداً أنه زيد، لم يجز أن تقول: "هذا زيد قائماً"، لأنه لا يكون زيد ما دام قائماً إذا زال عن القيام وليس بزيد. وإنما تقول ذلك للذي يعرف زيداً، فتعمل في الحال التنبيه، أي: أنبه لزيدٍ في حال قيامه، أو أشير إلى زيد في حال قيامه، لأن هذه إشارة على ما حضر". يريد بقوله: "ما حضر" تقييد المشار إليه بالحال، وإلا فلا فائدة في الجملة لأن السامع يعرفها، وكذلك في الآية، المعنى:

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نخبرك عن القرى التي عرفتها في حال أنا قاصون بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وإذا كان المقصود من الإيراد هذا فلابد من ذكر الحال، فيبطل قوله: "لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال". وهو الجواب عن قوله أيضاً: "إلا أن تريد: تلك القرى المعلومة حالها وصفتها"، لأنه ليس من باب: أنا أبو النجم وشعري شعري ولما كان التقييد أيضاً فيه إبهام، لأن معناه الظاهر: نخبرك عن القرى المعهودة، قاصين عليك من أخبارها، سأل: "ما معنى الإخبار عن القرى بـ (نقص عليك من أنبائها)؟ " وأجاب: أنه تعالى أخبر أولاً بقوله: (تلك القرى) مجملاً، ثم فصل بقوله: " (نقص عليك): أن المراد بالأخبار بعض قصتهم لا كلها". نحوه في الأسلوب: "جاءني القوم أكثرهم". قوله: (أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم): اعلم أنه تعالى جعل عدم إيمانهم مسبباً لتكذيبهم المقيد بقوله: (من قبل). فالفعل المضارع، وهو قوله: (ليؤمنوا)، إما أن يجرى على ظاهره، فيكون المعنى: ما كانوا ليؤمنوا الآن، أي: عند مجيء الرسل، لما سبق

أي: استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهم التكذيب قبل مجيئهم. وأما أن يحمل على الاستمرار، فالمعنى أنهم لم يؤمنوا قط، فاستمر تكذيبهم لما حصل منهم التكذيب، حتى مجيء الرسل. ولما اشتمل الفعل على معنى الاستمرار في الحالات، وتلك الحالات متعاقبة، صح أن يقال: "بما كذبوا به أولاً". والوجه الأول مناسب لأصولهم، يعني: إنما لم يؤمنوا بالرسل لما خالفوا، قبل مجيئهم، عقلهم الهادي، فلما أبطلوا استعدادهم لم ينفعهم مجيء الرسل. والثاني موافق لمذهب أهل السنة، لأن العقل غير مستقل، لابد من انضمام إنزال الكتب، وبعثة الرسل معه، فهؤلاء لما كذبوا الرسل والآيات، ولم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة، والآيات المتتابعة، لا جرم لم يؤمنوا إلى آخر أعمارهم. وهذا أنسب من الأول، لقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ) [الأعراف: 101]، ووضعه المظهر موضع المضمر يعني: سبب الطبع كفرهم بآيات الله والرسل. ولهذا قال الزجاج: " (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين): يدل على أنه قد طبع على قلوبهم بكفرهم، فما كانوا ليؤمنوا وقد طبع الله على قلوبهم". قوله: (لا يرعوون): أي: لا يمتنعون ولا ينزجرون. النهاية: "رعا يرعو: إذا كف عن الأمور. وقد ارعوى عن القبيح، يرعوي ارعواء".

ومعنى اللام: تأكيد النفي، وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد: هو كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام: 28]. (كَذلِكَ) مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين. [(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)]. (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الضمير للناس على الإطلاق، أي: وما وجدنا لأكثر الناس من عهد، يعني: أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى، (وَإِنْ وَجَدْنا) وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم "فاسقين" خارجين عن الطاعة مارقين، والآية اعتراض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى اللام: تأكيد النفي، وأن الإيمان كان منافياً لحالهم)، قوله: "وأن الإيمان" تفسير لقوله: "تأكيد النفي". يعني: جاء اللام تأكيداً لهذا المعنى الذي يعطيه التركيب. وقد مر في "النساء" في قوله: (لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) [النساء: 137، 168] تحقيق هذا البحث. قوله: (وعن مجاهد: هو كقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)): روى محيي السنة عنه: "فما كانوا، لو أحييناهم بعد هلاكهم، ليؤمنوا بما كذبوا به قبل هلاكهم، لقوله عز وجل: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) ". وقلت: المعنى: بلغ تكذيبهم الرسل وآيات الله، بحيث لو قدر أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. قوله: ((وما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ)): قال أبو البقاء: " (لأكثرهم) حال من (عهدٍ)، و (من): زائدة. أي: ما وجدنا عهداً لأكثرهم".

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضرُّ ومخافةٍ: لئن أنجيتنا لنؤمننّ، ثم نجاهم، نكثوا، كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) إلى قوله: (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف: 134 - 135]. والوجود بمعنى العلم، من قولك: وجدت زيداً ذا الحفاظ، بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة، ولا يسوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر، والأفعال الداخلة عليهما. [(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين): فعلى هذا الجملة تكون تتميماً لا اعتراضاً. وعلى الوجهين: قوله: (ومَا وجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) من باب الطرد والعكس، إن فسر "الفاسقين" بالناكثين. قوله: (ثم نجاهم) معطوف على قوله: "عاهدوا الله"، وقوله: "نكثوا" معطوف على قوله: "إذا"، وقوله: "لئن أنجيتنا لنؤمنن": الجملة اعترضت للبيان والتأكيد. قوله: (ذا الحفاظ)، الجوهري: "المحافظة: المراقبة: ويقال: إنه لذو حفاظ، وذو محافظة: إذا كانت له أنفة".

(مِنْ بَعْدِهِمْ) الضمير للرسل في قوله: (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) [الأعراف: 101]، أو للأمم، (فَظَلَمُوا بها): فكفروا بآياتنا، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد؛ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، أو: فظلموا الناس بسببها حين أو عدوهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الضمير للرسل في قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلهم) أو للأمم): وفي تأخير العطف عن قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلهم) إشعار بأن الضمير للرسل أوفق، لأن تلك القصص ذكرت تسليةً لرسول الله صلي الله عليه وسلم أصالة: (وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120]. يدل عليه قوله تعالى: (تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا) [الأعراف: 101]، وقوله: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ)، واعتبار الأمة تبعاً، يدل عليه قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا) إلى آخره. ثم لما وبخهم وزجرهم وعنفهم، عاد إلى ذكر نبي هو أعظمهم آية، وأكثفهم أمة، وأشبع في بيان أحواله مع أمته. ولهذا أفرز قصته من قصصهم، وقال فيهم: (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا) أي: بعض أخبارها، وأطنب في قصته كل الإطناب. والذي يقوي أن الضمير راجع إلى الرسل، أنه قيل: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ) ولم يقل: ثم أنشأنا من بعدهم أمة فرعون، وبعثنا إليهم موسى. قوله: (أو: فظلموا الناس بسببها): يريد أن "الظلم" هاهنا إما مضمن فيه معنى "الكفر"، بوساطة تعديته بالباء، أو على معناه، والباء سببية، وإنما كان الثاني ظلماً، لأن الآيات سبب لا يرغب الناس إلى الإيمان بها، فقلبوا، ووضعوا الشيء في غير موضعه، حيث جعلوها سبباً للصد عنها، وإيذاء الناس.

وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فكذلك قيل: (فظلموا بها)، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان. يُقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال: يا ملك مصر وكان اسمه قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان، (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فيه أربع قراءات: المشهورة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأنه إذا وجب الإيمان بها): قيل: هو وجه ثانٍ لإطلاق "الظلم" على "الكفر". وقلت: بل وجه ثالث. وتقريره: أن "الظلم" لا يعدى بالباء، فتعدت به، إما لكونه عبارة عن الكفر بقرينة الباء، وإليه الإشارة بقوله: "أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد"، وإما لأن الباء للسببية، ومفعول "ظلموا" محذوف، وهو المراد من قوله: "فظلموا الناس بسببها". وإما أن الباء فيه دلالة على تضمين "الظلم" معنى "الكفر". وإليه أشار بقوله: "كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه". قوله: (فيه أربع قراءات: المشهورة) أي: ما اجتمعت عليه القراء، سوى نافع. وقراءة عبد الله وأبي تؤيدان قراءة نافع. قال الزجاج: "من قرأ: (حقيق علي ألا أقول) فالمعنى: واجب على ترك القول على الله إلا بالحق، ومن قرأ: (حقيق على أن لا أقول)، فالمعنى: حقيق علي ترك القول على الله إلا الحق. والأولى ظاهرة. ولهذا قال: "وفي المشهورة إشكال".

(وحقيقٌ علي أن لا أقول)، وهي قراءة نافع، و"حقيقٌ أن لا أقول" وهي قراءة عبد الله، "وحقيقٌ بأن لا أقول"، وهي قراءة أُبيّ وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوهٍ: أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله: وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تخلو)، أي: لا تخلو صحة القراءة المشهورة من وجوه: أحدها: أن يكون من باب القلب، كقولهم: "عرضت الناقة على الحوض". فحقها: حقيق علي ألا أقول، كما عليه قراءة نافع، فقلب كما قلب في قول الشاعر: وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر البيت لخداش بن زهير. الهوادة: الصلح والميل. والتهويد: المشي الرويد، مثل الدبيب. الضيطر: الرجل الضخم الذي لا غناء عنده. والحمر: العجم، لأن الشقرة غلبت عليهم. قوله: (ومعناه): أي: معنى كل واحدٍ من الآية والبيت. ففيه لف ونشر. قوله: (وهي قراءة نافع) يعني: معنى المشهورة يعود إلى قراءة نافع، وهي: "حقيق علي ألا أقول".

والثاني: أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق، أي: لازماً له. والثالث: أن يُضمن (حَقِيقٌ) معنى: حريص، كما ضمن «هيجني» معنى ذكرني في بيت "الكتاب". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن ما لزمك فقد لزمته): قال صاحب "التقريب": " (حقيق) في هذا الوجه: بمعنى اللازم". وقلت: بل قوله: "أن ما لزمك فقد لزمته" إيماء إلى أن الأسلوب من الكناية الإيمائية، كقول البحتري: أو ما رأيت الجود ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول وقول ابن هانئ: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير يعني: بلغت الملازمة بين الجود والممدوح، بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته، فيصير حيث صار. وهو المراد بقوله: "فلما كان قول الحق حقيقاً عليه، كان هو حقيقاً على قول الحق". قوله: (في بيت "الكتاب")، وهو:

والرابع: وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن: أن يُغرِق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، لا سيما وقد روي أنّ عدو الله فرعون قال له- لما قال: (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) -: كذبت، فيقول: أنا حقيقٌ علي قول الحق، أي: واجبٌ على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به. (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ): فخلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار الورق: جمع أورق، وهو الذي لونه لون الرماد. تعزيت عنها، أي: تسليت. "هيج": يتعدى إلى مفعولٍ واحد، فلما ضمنه معنى "ذكر" عداه إلى المفعول الثاني وهو "أم عمار"، أي: إذا تغنى الحمام ذكرني أم عمار. "ولو تعزيت عنها": معترضة، فلا يكون الضمير في "عنها" إضماراً قبل الذكر، كما قيل. قوله: (أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق): أي: يبالغ فيه، يعني: كيف ينسب إلى الكذب؟ إذ لو كان الصدق مما يعقل، لكان الواجب عليه أن يجعلني قائله، أي: يجتهد

وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام. [(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَاتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ للِنَّاظِرِين)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لتحصيل ما يوجب أن أكون أنا قائله، والقائم بمصالحه، كما يقوم القيم بمصالح الطفل على طريقة قوله: (فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ) [الأعراف: 2]. فالآية، على هذا، من الاستعارة المكنية. وإنما استدعى المقام المبالغة، لأن موسى عليه السلام حين ادعى الرسالة بين يدي فرعون، لم يخل من ارتيابٍ منه، فكان قوله: (إني رسول من رب العالمين)، وارداً لإزالة ذلك الارتياب، كقول الرسل في المرة الأولى: (إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس: 14]. ثم لما سمع فرعون قوله: (إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ)، أنكره، فزاد موسى عليه السلام في المبالغة، بأن قال: (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) كما قال.

فإن قلت: كيف قال له: (فَاتِ بِها) بعد قوله: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ)؟ قلت: معناه: إن كنت جئت من عند من أرسلك بآيةٍ فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد روي أن عدو الله قال: كذبت. وكان قوله: "أنا حقيق على قول الحق"، جواباً عن إنكاره، كقولهم في المرة الثانية: (إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) [يس: 16]. فعلم من هذا البيان أن قوله: (حقيق على أن لا أقول) - على هذا - يجب أن يكون خبر مبتدأ محذوف ما، بخلافه على الوجوه السابقة. قال أبو البقاء: " (حقيق) هاهنا على الصحيح: صفة لـ (رسول)، أو خبر ثانٍ، كما تقول: أنا حقيق بكذا، أي: أحق". وقال صاحب الكواشي: "قرئ: (حقيق على أن لا أقول)، فـ (حقيق) على هذا صفة (رسول)، فلا تقف على (العالمين). وإن جعلت (حقيق) خبر مبتدأ - أي: أنا حقيق - وقفت عليه". قوله: (كيف قال له: (فأت بها إن كنت من الصادقين)): أي: كيف قيد جزاء الشرط بالشرط؟ وما معناه؟ خلاصة الجواب: أن الشرط الثاني كالتأكيد والتعليل. ولهذا قال: "لتصح دعواك، ويثبت صدقك". وقد مر عن أبي البقاء أن الشرط الثاني جوابه ما يدل عليه الشرط الأول مع جوابه، فالتقدير: إن كنت من الصادقين فأت بآية إن كنت جئت بها.

(ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهرٌ أمره لا يشك في أنه ثعبان، وروي أنه كان ثعباناً ذكراً أشعر فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك! وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسةٌ وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى، خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصاً. فإن قلت: بم يتعلق (لِلنَّاظِرِينَ)؟ قلت يتعلق بـ (بيضاء)، والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا قال الزجاج: "قد أوجب فرعون أنه ليس بإله، كما ادعى، لأنه قد أوجب له الصدق إذا أتى بآيةٍ يعجز عنها المخلوقون". قوله: (فاغراًفاه)، الجوهري: "فغرفاه، أي: فتحه. وفغرفوه: انفتح. يتعدى ولا يتعدى". و"أحدث" أي: استطلق. قوله: (ولا تكون بيضاء للنظارة، إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً): يريد: أن قوله تعالى: (للناظرين) من التتميم، كقول امرئ القيس: حملت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهبٍ لم يتصل بدخان فإن النار الشاعلة إذا لم يتصل بها دخان، كانت أشد ثقوباً. جلب في البيت معنىً لتربية المعنى، كما أثبت في الآية معنىً لتربية المعنى.

وذلك ما يروى: أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟ قال: يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوفٍ ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة. [(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَامُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)]. (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي: عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعةٍ من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حيةً، والآدم أبيض. فإن قلت: قد عزي هذا الكلام إلى فرعون في "سورة الشعراء"، وأنه قاله للملأ، وعزي هاهنا إليهم؟ قلت: قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم، وقولهم هاهنا، أو قاله ابتداءً فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم، أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة)، روى البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: "وأما موسى فآدم جسيم سبط، كأنه من رجال الزط". النهاية: "الزط: جنس من السودان والهنود". قوله: (قاله هو، وقالوه هم) فهو كوقع الحافر على الحافر. يدل عليه قوله: "أو قاله ابتداء، فتلقته منه الملأ": يعني قال فرعون ما في سورة "الشعراء": (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَامُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وأَخَاهُ) [الشعراء: 34 - 36] ابتداءً.

كما يفعل الملوك؛ يرى الواحد منهم الرأي، فيكلم به من يليه من الخاصة، ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم: (أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)، وقرئ: (سحار)، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الملأ هاهنا نقلاً لكلامه ذلك، وهو: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه)، إما على وجه الإعادة لأجل أعقابهم، أو على وجه التبليغ إلى سائر الناس. قال المصنف: "المناسب أن يقال: إن الملأ قالوا هذا الكلام مع الناس بطريق التبليغ، ويكون (فماذا تأمرون) من تتمته. فلما سمع الناس هذا من الملأ، أقبلوا على فرعون، وقالوا: (أرجه وأخاه) ". وإليه الإشارة بقوله: "والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم: (أرجه وأخاه) " يعني: أن الدليل على أن الكلام وارد على التبليغ أنه لو كان الجواب من القوم للملأ لكان المطابق: أرجئوا وأرسلوا. ولأن الظاهر أن قولهم: (فماذا تأمرون) كان مؤامرةً مع القبط ومشاورة، فلابد أن يحصل منهم أيضاً كلام ومشورة، كما قال: "وكانت مؤامرةً مع القبط" إلى قوله: "فأشار عليك برأي". لكن ما في "الشعراء" تصريح في أن قوله تعالى: (أرجه وأخاه) من قول الملأ لفرعون، لا من القبط له، كأنهم لما أبلغوا إلى الناس رسالة فرعون، ما أصغوا إلى مشورتهم، فأشاروا هم إلى فرعون: (أرجه وأخاه). هذا أحسن، ليتجاوب الآيتان، ويؤيده قوله بعد هذا: "كأنه قيل: قال: (فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه) ". قوله: ((يأتوك بكل ساحرٍ عليمٍ)، وقرئ: "سحار"): لف، وقوله: "مثله في العلم

أي: يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة. أو بخيرٍ منه، وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم: (فَماذا تَامُرُونَ) من: أمرته فأمرني بكذا؛ إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل: (فَمَاذَا تَامُرُونَ)؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له: (إن هذا لساحرٌ عليم* يريد أن يخرجكم)، كأنه لما قيل: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه، ومعنى "أرجئه وأخاه": أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل: احبسهما. وقرئ: "أرجئه" بالهمزة، و (أرجه)، من أرجأه وأرجاه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمهارة أو بخير منه" نشر، وذلك أن هذا الجواب مقابل لقول الملأ: (إن هذا لساحر عليم). فمن قرأ: (بكل ساحرٍ) يكون مثله، ومن قرأ: "سحارٍ" يكون خيراً منه. قوله: (والمهارة)، الجوهري: "المهارة: الحذق في الشيء. وقد مهرت الشيء مهارة". قوله: (وقيل: (فماذا تأمرون) من كلام فرعون): نحوه قول يوسف: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف: 52] بعد قولها: (الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف: 51]. فعلى هذا الظاهر أن قول الملأ: (إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم) ابتداء كلام، كما قال المصنف" "قد قاله هو، وقالوه هم". وقولهم: (يخرجكم من أرضكم) بناء على خطاب الملوك بلفظ الجماعة. قوله: ("أرجئه" بالهمز): أبو بكر وأبو عمروٍ وابن عامر. والباقون: بتركها.

[(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)]. فإن قلت: هلا قيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا! قلت: هو على تقديرٍ سائلٍ سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله: "قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً" أي: جُعلاً على الغلبة، وقرئ: (إن لنا لأجراً) على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه، كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب: إنّ له لإبلاً، وإنّ له لغنماً، يقصدون الكثرة. فإن قلت: (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوفٌ على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجاباً لقولهم: (إن لنا لأجراً)؟ -: (نعم) إن لكم لأجراً، (وإنكم لمن المقرّبين)، أراد: إني لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة. وروي: أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروي: أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: سبعين ألفاً، وقيل: بضعةً وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (إن لنا لأجراً): نافع وابن كثير وحفص. قوله: (فمن مقل ومن مكثر) الفاء عقيب قوله: "واختلفت الروايات"، مفصلة له.

وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل: قال فرعون: لا نغالب موسى إلا بما هو منه، يعنى السحر. [(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ* وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ* وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)]. تخييرهم إياه أدبٌ حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوَّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاةٍ بهم، وثقةً بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نينوى): روي عن فخر المشايخ: أنها قرية بقرب الموصل، بعث فيها يونس. قوله: (أو تعريف الخبر وإقحام الفصل): فإن قلت: ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكداً، وبين أن يكون فصلاً؟ قلت: التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه، فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي: نحن نفعل الإلقاء البتة، لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم، لأنه لتخصيص المسند بالمسند إليه، فيعرى عن التوكيد.

(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ): أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه: 66]، روي: أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخُشُباً طوالاً، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ): وأرهبوهم إرهاباً شديداً، كأنهم استدعوا رهبتهم (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في باب السحر. روي أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق. (ما يَافِكُونَ): (مَا) موصولةٌ أو مصدرية، بمعنى: ما يأفكونه، أي: يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه. أو إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك. روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى، فرجعت عصاً كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة، أو فرّقها أجزاءً لطيفةً، قالت السحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا، (فَوَقَعَ الْحَقُّ) فحصل وثبت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (أو إفكهم) هذا على أن تكون (ما) مصدرية، والمصدر بمعنى اسم المفعول، والمأفوك ما جعلوا فيه الزئبق. قال الزجاج: "معنى قوله: (يأفكون) أي: يأتون بالإفك، وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن حبالهم وعصيهم حيات، وكذبوا في ذلك، وإنما كانوا قد حشوها بالزئبق، وصوروها بصور الحيات". قال أبو عبيدة: " (تلقف ما يأفكون) أي: تلقم ما يسحرون ويكذبون". قوله: ((فوقع الحق): حصل وثبت). استعير للثبوت وللحصول الوقع، لأنه في

ومن بدع التفاسير: فوقع قلوبهم، أي: فأثر فيها؛ من قولهم: قاس وقيعٌ، (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ): وصاروا أذلاء مبهوتين. (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ): وخرّوا سجداً، كأنما ألقاهم ملقٍ لشدّة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا، وعن قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرةً، وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن: تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشؤوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله. [(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)]. (آمَنْتُمْ بِهِ) على الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ: (أآمنتم) بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. مقابل "بطل"، فإن الباطل زائل. وفائدتها شدة الرسوخ والتأثير، لأن الوقع يستعمل في الأجسام. الأساس: "وقع الشيء على الأرض وقوعاً، وأوقعته إيقاعاً". وهو كقوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الأنبياء: 18]، استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل، لأن القذف والدمغ يستعملان في الأجسام. ولعل من فسر الوقع بالتأثير نظر إلى هذا المعنى. قوله: ("أآمنتم" بحرف الاستفهام): الجماعة كلهم إلا حفصاً، فإنه قرأها على الإخبار.

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ): إن صنعكم هذا لحيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء، قد تواطأتم على ذلك لغرضٍ لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروي أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيدٌ أجمله، ثم فصله بقوله: (لَأُقَطِّعَنَّ)، وقرئ: "لأقطعن" بالتخفيف، وكذلك (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ مِنْ خِلافٍ): من كل شق طرفاً، وقيل: إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون. [(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وفيها أيضاً معنى التوبيخ، كما في الاستفهام. ونحوه قال الحسن في قوله تعالى: (اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً) [الفرقان: 5] بكسر الهمزة: "إنه قول الله يكذبهم". وإنما أفاد الخبر التوبيخ، لأن الأصل في الإخبار الساذج أن يكون المخاطب خالي الذهن، وألا يلزم تحصيل الحاصل، فإذا ألقى إليه الجملة، وهو عالم بفائدتها، تؤكد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام. وهاهنا، لما خاطبهم بما فعلوا، مخبراً إياهم في ذلك المقام، أفاد التوبيخ والتقريع. قوله: (وروي أن موسي عليه السلام قال للساحر الأكبر): عطف على قوله: "وكان

(إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فيه أوجهٌ: أن يريدوا: إنا لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، وخلاصنا منك ومن لقائك، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب، أو إنا جميعاً- يعنون أنفسهم وفرعون- ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله، فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا): وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أرادوا: وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان. ومنه قوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. هذا الكلام من فرعون تمويهاً على الناس". أي: لم يسمع شيئاً من السحرة، وموسى ما شعر بهذا المعنى، بل وضعه من تلقاء نفسه تمويهاً على الناس، أو سمع ما يدل عليه، كما جاء في الرواية: "أن موسى قال للساحر الأكبر" إلى آخره، ومن تمويهه قوله: (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف: 123] أي: آمركم. يعني: أن غلبة موسى لم تكن غلبةً في الحقيقة، إذ لو كانت لآذنتكم بالإيمان به (إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ). قوله: ((إنا إلى ربنا منقلبون): فيه أوجه): إنما احتمل الوجوه، لأن هذه القصة في هذه السورة جاءت مختصرة، وفي "الشعراء" أو في منها، فتحمل هذه على تلك، والمذكور فيها: (لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 50 - 51]، عللوا عدم المبالاة الذي يعطيه معنى (لا ضير) بالانقلاب إلى الله، والطمع في الثواب. وفسر الآية هناك بوجوه ثلاثة، وزاد هنا، بناءً على ذلك، وجهاً واحداً. الوجه الأول: قوله: "إنا لا نبالي بالموت، لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، وخلاصنا منك"، ومما يقرب منه هنالك قوله: "لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته، ويرجو رحمته".

(أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً): هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغاً، وعن بعض السلف: إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً، ثم يقول: قد مازحتك، أي: يغمره بالحياء والخجل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. والثاني: قوله: "ننقلب إلى الله يوم الجزاء، فيثيبنا على شدائد القطع والصلب"، ومما يناسبه ثمة قوله: "لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله من تكفير الخطايا، والثواب العظيم، مع الأعواض"، لأن المشار إليه بقوله: "ذلك": "القطع والصلب". والثالث: قوله: "إنا جميعاً - يعنون أنفسهم وفرعون - ننقلب إلى الله فيحكم بيننا" لم يذكره هناك. والمعنى: ننقلب إلى الله جميعاً، فيحكم بيننا، وينتقم لنا منك، بما فعلت بنا، ويثيبنا على ما قاسيناه من البلاء والمحن. والرابع: قوله: "إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله"، ومما يدانيه هناك قوله: "لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل، لأنه لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا، بسبب من أسباب الموت، والقتل أهون أسبابه". وقد ذكرنا هناك وجه تخريج كل من الوجوه على التفصيل. قوله: (هب لنا صبراً واسعاً، وأكثره علينا)، هذا أصل المعنى، فاستعير له قوله تعالى: (أفرغ علينا صبراً). فالاستعارة في (أفرغ)، والقرينة (صبراً)، لأن الصبر لا يستعمل فيه الإفراغ، وهي استعارة تبعية.

أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرةً لهم، (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ): ثابتين على الإسلام. [(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ)]. (وَيَذَرَكَ) عطفٌ على (لِيُفْسِدُوا)، لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (أو صب علينا ما يطهرنا). فعلى هذا الاستعارة في "الصبر"، والقرينة (أفرغ)، وهي استعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن الإفراغ يستعمل في الماء، و"الصبر" المكنية، ولذلك قال: "أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر". قوله: (لأنه إذا تركهم) تعليل لما يؤدي إليه عطف "يذرك" على علة الفعل المنكر. وهو: (أتذر)، لأن ترك فرعون موسى وقومه على ما أرادوا يؤدي إلى الفساد في الأرض، وإلى ترك فرعون ألا يعظم، وترك الآلهة بألا تعبد. فاللام في (ليفسدوا) كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا) [القصص: 8]. ولهذا قال: "فكأنه تركهم لذلك" على التشبيه. والإضافة في (والهتك) ليست للتخصيص، لتكون معبودة له، بل لأدنى ملابسة، لأنه صنعها، ودعا القوم إلى عبادتها. يعضده قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات: 24].

وكان ذلك مؤدّيا إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. أو هو جوابٌ للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودّة والإخاء والنصب بإضمار «أن»، تقديره: أيكون منك ترك موسى، ويكون تركه إياك وآلهتك. وقرئ: "ويذرك وآلهتك" بالرفع عطفاً على (أتذر موسى)، بمعنى: أتذره وأيذرك، يعني: أتطلق له ذلك؟ أو يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى: أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن: "ويذرك" بالجزم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (أو هو جواب الاستفهام بالواو): قال الزجاج: "المعنى: أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذرك؟ " يعني: أتذر موسى وقومه ليغيروا دينك، ولنترك عبادتك وعبادة الأصنام التي أمرتنا بعبادتها؟ قوله: (والنصب بإضمار "أن") عطف على قوله: "هو جواب"، أي: هو جواب للاستفهام، والنصب بإضمار "أن". قوله: (وهو يذرك وآلهتك) مثال للاستئناف والحال، كقوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92]. أما الاستئناف، فعلى أن تكون الجملة معترضة مؤكدةً لمعنى ما سبق، أي: أتذر

كأنه قيل: يفسدوا، كما قرئ: (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10]، كأنه قيل: "أصدّق". وقرأ أنسٌ رضي الله عنه: "ونذرك"، بالنون والنصب، أي: يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وقرئ: "ويذرك وإلاهتك"، أي: عبادتك. وروي أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. موسى وعادته تركك وآلهتك؟ فلابد من تقدير "هو" ليدل على الدوام. وأما الحال فكذلك لأن "يذرك" مضارع، لا يجوز مجيء الواو معه، فتقدر الجملة أسمية، ليصح دخولها عليه. والحال مقدرة لجهة الإشكال. قوله: (كأنه قيل: يفسدوا): يعني: لو لم يكن في (ليفسدوا) اللام، لكان يجوز فيه الجزم على أنه جواب الاستفهام، بإضمار "إن" الشرطية، فيقدر كأنه ليس فيه اللام، كما في قوله: (وأكن). قال ابن جني: "أما إسكان "يذرك". فهو كقراءة أبي عمرو: "إن الله يأمركم" بإسكان الراء، استثقالاً للضمة على توالي الحركات، ولم يسكن (يأمرهم) [الأعراف: 157] لخفاء الهاء وخفتها، بخلاف الكاف لثقلها وإظهارها". قوله: (وإلاهتك): قال ابن جني: "قرأها علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أي: عبادتك منه سميت الشمس: إلاهة، لأنهم كانوا يعبدونها". قوله: (وروي أنهم قالوا له ذلك) عطف على قوله: "إلى ما دعوه فساداً" من حيث المعنى،

فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك، وقيل: صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه، كما يعبد عبدة الأصنامِ الأصنامَ، ويقولون: ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك قال: (أنا ربكم الأعلى) [النازعات: 24]. (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) يعني: سنعيد عليهم، ما كنا محناهم به من قتل الأبناء، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا، ويدعوهم إلى اتباعه، وأنه منتظر بعد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. لأن المراد بالفساد إما ما هو المتعارف، قال تعالى: (لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ) [البقرة: 205] أو غير المتعارف، وهو إيمان ست مئة ألف نفس، يدل عليه قوله: "فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك". قوله: (أن يغلبوا على الملك)، الأساس: "غلبته على الشيء: أخذته، وهو مغلوب عليه". قوله: (محناهم) وهي: من المحنة التي هي واحدة المحن، الذي يمتحن به الإنسان من بلية. قوله: (وأنه منتظر)، قيل: هو معطوف على قوله: "إنه هو المولود" على أسلوب قوله: علفتها تبناً وماءً باردا المعنى: سنقتل أبناءهم، ليعلم بنو إسرائيل أنا على ما كنا عليه، وأن غلبة موسى لا أثر لها، ولئلا يتوهم العامة من القبط أن موسى هو المولود الذي تحدث به المنجمون، وليوقنوا أن ذلك المولود منتظر بعد، وليس بموسى.

[(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَاتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)]. (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ) قال لهم ذلك - حين قال فرعون: سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا - ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. يريد: أن قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ونَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) من الأسلوب الحكيم، وإن صدر من الأحمق، لأن الجواب المطابق للملأ عن قولهم: (أتذر موسى وقومه): إنا سنقتله وقومه، ونسبي ذراريهم. ولو أتى بهذا الجواب لظهر عجزه لبني إسرائيل، لأنه إذا ترك قتل الأبناء، وشرع في قتل الرجال، لتوهم أن ذلك للخوف منهم، وأن موسى عليه السلام هو الموعود، فلما صرح بالعود إلى ما كانوا عليه من القهر: بإبقاء الرجال، وقتل الأولاد، واستحياء النساء، دل على ذلة بني إسرائيل، وأن موسى غير الموعود به. يعني: لا تلتفتوا إليه أيها القبط، ودوموا على ما كنتم عليه من قتل الأولاد، واستحياء النساء، ولا تعتمدوا عليه، يا بني إسرائيل، ولا تعتضدوا به، فأنتم بعد أذلاء مقهورون. فعلى هذا قوله: (وإنا فوقهم قاهرون) كالتذييل للسابق وكذلك كان قول موسى لقومه: (استعينوا بالله) حين ضجر القوم من قول فرعون، من الأسلوب الحكيم، أي: ليس كما قال فرعون: (وإنا فوقهم قاهرون)، فإن القهر والغلبة لمن صبر، واستعان

يسكنهم ويسليهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم. فإن قلت: لم أُخليت هذه الجملة عن الواو، وأُدخلت على التي قبلها؟ قلت: هي جملة مبتدأةٌ مستأنفة، وأمّا (وَقالَ الْمَلَأُ) [الأعراف: 127] فمعطوفةٌ على ما سبقها من قوله: (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ). وقوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) يجوز أن تكون اللام للعهد، ويراد أرض مصر خاصةً، كقوله: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) [الزمر: 74]، وأن تكون للجنس، فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة: "إنما المرء بأصغريه"، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولا أولياً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. بالله، ولمن وعده الله توريث الأرض، أن ذلك الموعود الذي وعدكم الله النصرة به، وقهر الأعداء، وتوريث أرضهم. فقوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء) كناية تلويحية. قوله: (يسكنهم) قيل: حال من المستتر في "قال". فعلى هذا ترك الواو ظاهر. وفي بعض النسخ بالواو، إما على تأويل الجملة الاسمية، أي: "وهو يسكنهم"، أو على العطف. قوله: (وغرضه) أي: غرض ضمرة بقوله: "المرء بأصغريه" نفسه، كما سبق في أول السورة أن المنذر كان يسمع بشقة بن ضمرة، ويعجبه أخباره، فلما رآه استحقره، وقال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فأجابه ضمرة: "المرء بأصغريه". فأتى بالحكم

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بشارةٌ بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولةٌ لهم. وقرأ: "وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"- بالنصب- أبيٌّ وابن مسعود، عطفاً على (الأرض). (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَاتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) يعنون: قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئ، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب، (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) تصريحٌ بما رمز إليه من البشارة قبل، وكشفٌ عنه، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر، (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ): فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله: أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيفٌ أو رغيفان، فطلب زيادةً لعمروٍ فلم توجد، فقرأ عمروٌ هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك، وقال: قد بقي (فينظر كيف تعملون). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. عاماً، وإن كان الغرض نفسه، ليدخل فيه دخولاً أولياً على سبيل الكناية. قوله: ((عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ): تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل، وكشف عنه): أراد به ما قال: " (والعاقبة للمتقين): بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم". وفيه أنه كناية رمزية، لأن المسافة من المذكور إلى المقصود قريبة، وفيها نوع خفاء. ثم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. في قوله: "إن المشيئة متناولة لهم" إشارة إلى أن قوله تعالى: (إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أيضاً كناية، والثانية كالتذييل للأولى، فحصل في الكلام كنايتان وتصريح: أما الكناية الأولى فتلويحية لتوسيط لوازم بني ما عليه التلاوة، وبين ما هو المقصود، وهو توريث أرض مصر بني إسرائيل، وإهلاك عدوهم، وبيانها أن المقام مقام التسلية، كما قال المصنف: "فجزعوا منه وتضجروا يسكنهم ويسليهم ويعدهم النصرة عليهم". ولا ارتياب أن المراد بالأرض أرض مصر، وكان القبط مسلطين عليها، مملكين فيها، فلما قيل: (يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) علم أن لابد من نزعها من أيدي القبط، وإيتائها غيرهم. ولما لم يكن لهم عدو يناوئهم وينازعهم سوى موسى، ومن معه من بني إسرائيل، وضم إليه مقام التسلية، تناولهم تناولاً أولياً. وهو المراد من قوله: "إن المشيئة متناولة لهم" فكأنه قيل: إن الأرض لله، يورثها إياكم يا بني إسرائيل. وإلى الكناية أشار الواحدي بقوله: "أطمعهم موسى عليه السلام بقوله: (إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم". وكذا الإمام بقوله: "هذا إطماع من موسى عليه السلام لقومه في أن يورثهم الله أرض فرعون بعد إهلاكهم. وذلك معنى الإرث، وهو: جعل الشيء للخلف بعد السلف".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وأما بيان الكناية الثانية فإن قوله: "إن المشيئة متناولة لهم" عطف على قوله: "إن الخاتمة المحمودة للمتقين". ولن يكون بشارة بأن المشيئة متناولة لهم، إذا لم يؤخذ مفهوم الكلام الأول معه، وأن يكون الثاني كالتذييل للأول، كما سبق في قصة شقة قبيل هذا. فكأنه قيل: إن الخاتمة المحمودة للمتقين من بني إسرائيل ومن القبط، وإن مشيئة الله في قوله: (يورثها من يشاء) متناولة لبني إسرائيل، فيلزم أن يقال: إن الخاتمة المحمودة لبني إسرائيل، ولا يبعد أن يعد هذا من تخصيص العام. وفي كلام القاضي إشعار بهذا التقرير، قال: " (والعاقبة للمتقين) وعد لهم بالنصرة، وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط، وتوريثهم ديارهم، وتحقيق له". وقيل: إن الضمير في "لهم" للمتقين، وإن المعنى: الخاتمة المحمودة لمن اتقى من بني إسرائيل ومن القبط، وإن المشيئة متناولة لهم وللقبط، فيلزم منه أن بعضاً من القبط، ومن بني إسرائيل، حسنت خاتمته. يرده قول المصنف: " (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ): تصريح بما رمز إليه من البشارة". قيل: فكما لا يجوز أن يدخل القبط في التصريح، فكذا لا يجوز أن يدخل فيما هو مكني عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وإنما قلنا ذلك لأن قولهم: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) لا يليق إلا ببني إسرائيل. وأيضاً، الواقع أن بني إسرائيل هم الذين ورثوا ديار القبط بعدهم. يدل عليه قوله تعالى بعد هذا: (وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ ومَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137]، وقول المصنف: "الأرض: أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة". والظاهر أن المراد بهذا الصبر قول موسى عليه السلام: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا). وأما التصريح بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ) (عسى) في هذا المقام قطع في إنجاز الموعود، والفوز بالمطلوب. فإن قلت: كيف اتصال التصريح بالكنايتين؟ قلت: إنه عليه السلام لما بشرهم ووعدهم النصر وقهر الأعداء، قالوا: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). يعني: بحق لم نزل مغلوبين مقهورين تحت أيدي القبط، استعبدونا قبل إرسالك وبعده، فمن أين لنا التسلط عليهم، وتوريث ديارهم؟ وكيف نفوز بالنصرة؟ فأجاب بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ). وصرح بأن الله عز وجل هو وحده يقهر عدوكم ويهلكهم، من غير أن يحاولوا محاربتهم. وعدل إلى المظهر في قوله: (عدوكم) ليؤذن أن استحقاقهم الهلاك بسبب كونهم أعداءكم. وفيه إدماج معنى "من عادى ولياً لله فقد بارز مع الله".

[(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)]. (بِالسِّنِينَ): بسني القحط، و «السنة»: من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم، بمعنى: أقحطوا. وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه: أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم، وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب: يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا تمرة، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدوداً وألين أعطافاً، وأرق أفئدة. وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروهاً في ثلاث مئةٍ وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدّة وجعٌ أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم)، الجوهري: "السنة: إذا قلته بالهاء، وجعلت نقصانه الواو، فهو من هذا الباب، أي: باب "سنا"، تقول: أسنى القوم يسنون إسناء: إذا لبثوا في موضع سنة. وأسنتوا: إذا أصابتهم الجدوية، تقلب الواو تاءً للفرق بينهما. قال المازني: هذا شاذ، ولا يقاس عليه. وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية، إذ وجدوها ثالثة، فقلبوها تاء". قوله: (ولأن الناس) معلله محذوف، أي: لعلهم يذكرون، فيتنبهوا، ويتضرعوا، لأن الناس في حال الشدة أضرع خدوداً. قال القاضي: " (لعلهم يذكرون): لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده".

[(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)]. (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) من الخصب والرخاء، (قالُوا لَنا هذِهِ) أي: هذه مختصةٌ بنا ونحن مستحقوها، ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك: الجل للفرس، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) من ضيقةٍ وجدب، (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ): يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا: هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه من عندك) [النساء: 78]. فإن قلت: كيف. قيل: (فإذا جاءتهم الحسنة) بـ (إذا) وتعريف (الحسنة)، (وإن تصبهم سيئةٌ) بـ (إنّ) وتنكير "السيئة"؟ قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولولا مكانهم لما أصابتنا) أي: لولاهم. كقوله: "ونفيت عنه مقام الذئب". قوله: (كيف قيل: (فإذا جاءتهم الحسنة)؟ ): أي: كيف أدخل على الجملة الأولى "إذا"، وهي لا تدخل إلا فيما هو متقين الوجود؟ وعلى الجملة الثانية "إن" وهي لا تدخل إلا فيما هو جائز الوجود؟ قوله: (لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب): أراد بالجنس: العهد الذهني الشائع، كما قال في تفسير (الحمد لله) [الفاتحة: 2]: "التعريف فيه للجنس، وإن المراد به الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو". فالمراد بالحسنة: الحسنة التي تحصل في ضمن فرد من الأفراد، ويصدق عليها اسم الحسنة، وهي تارةً تكون خصباً، وأخرى رفاهية، أو صحة، أو غير ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارة بقوله: " (فإذا جاءتهم الحسنة): من الخصب والرخاء"، فإن بعضاً منها واقع دائماً لا ينقطع، وهو المراد بقوله: "وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه"، وهذا ملائم للمقام، لإمكان حمله على الفرد الذي هو حاصل، وعلى الذي يتوقع حصوله، وعلى الذي انعدم. ومن ثم لم يجز حمل التعريف على العهد الخارجي لتعين وتخصصه، فلا يكون مقطوعاً حصوله إذا زال، ولا على الجنس من حيث هو هو، فإن الحقيقة إذا أريد بها شيء بعينه مجازاً، حمل على المبالغة والكمال فيها. والمقام لا يقتضي ذلك، وهو المعنى بقول صاحب "المفتاح": "لكون الحسنة المطلقة مقطوعاً بها كثرة وقوع واتساعاً. ولذلك عرف ذهاباً إلى كونها معهودة، أو تعريف جنس، والأول أقضى لحق البلاغة"، أي: المعهود الذهني أدعى لاقتضاء المقام من تعريف الحقيقة. هذا هو التوفيق بين كلام الشيخين، وإن دل الظاهر على التنافي. فإن قلت: إذا أريد بتعريف الجنس العهد الذهني الشائع، فأي فرقٍ بين الحسنة المعرفة والسيئة المنكرة في الآية، لأن مثل هذا التعريف لا توقيت فيه، وقد فرقت بينهما؟ قلت: الفرق بين تعريف الحقيقة وبين مدلول الاسم الموضوع لها، أن الاسم لها لا لتعينها، واللام لتعينها. فالتعين إذاً بحسب الذهن، والذيوع بحسب الوجود، فيفيد التعريف الذهني الاعتناء بشأن الحقيقة بوجهٍ من الوجوه، إما لأنها عظيمة الخط، أو الحاجة إليها ماسة، أو أن أسباباً بشأنها متأخرة، فهو لذلك بمنزلة المعهود الحاضر، بخلاف النكرة، فإنها غير ملتفتٍ إليها، ولا يقصد بها إلا الابتداء.

وأمّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا شيء منها. ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء، فهل عددت أيام الرخاء؟ (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: سبب خيرهم وشرهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة، وليس شؤم أحدٍ ولا يمنه بسببٍ فيه، كقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [النساء: 78]. ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليهم ما يسوءهم لأجله، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) الآية [غافر: 46]، ولا طائر أشأم من هذا. وقرأ الحسن: "إنما طيركم عند الله"، وهو اسمٌ لجمع طائرٍ غير تكسيرٍ، ونظيره: التجر والركب. وعند أبي الحسن: هو تكسير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يقع إلا شيء منها) يريد بهذه العبارة قلتها، لتقابل قوله: "لكثرته واتساعه"، وقوله: "إلا في الندرة" مقابل لقوله: "كالواجب". قوله: (بسببٍ فيه)، الضمير المجرور عائد إلى "ما يصيبهم". قوله: (وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله) هذا عين مذهب أهل السنة، وإن دل أول كلامه على مذهبه. اعلم أن لفظ "الطائر" قد يطلق على الحظ والنصيب، سواء كان خيراً أو شراً. وهو المراد بقوله: "أي: سبب خيرهم وشرهم عند الله"، وعلى التشاؤم وحده، وهو الوجه الثاني: . قال الزجاج: "إنما قالت العرب: الطيرة فيما يكرهون، لأنهم كانوا يزجرون الطير، فإذا كان على جهة ما يكرهون، جعلوا ذلك أمراً يتشاءمون به. وقال بعضهم: (طائرهم): حظهم".

[(وَقالُوا مَهْما تَاتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)]. (مَهْما) هي «ما» المضمنة معنى الجزاء، ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك: متى ما تخرج أخرج، (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء: 78]، (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) [الزخرف: 41]، إلا أنّ الألف قلبت هاءً استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصريّ، ومن الناس من زعم أن «مه» هي الصوت الذي يصوت به الكاف، و «ما» للجزاء، كأنه قيل: كف، ما تأتنا به من آيةٍ لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فإن قلت: ما محل (مهما)؟ قلت: الرفع بمعنى: أيما شيءٍ تأتنا به، أو النصب، بمعنى: أيما شيءٍ تحضرنا تأتنا به، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وسيجئ الكلام فيه مستوفي في سورة "النمل". وأما بيان النظم فقد قال القاضي: "هذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب، وتذلل العرائك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهم لم تؤثر فيهم، بل زادوا عنادًا وإنهماكاً في الغي". قوله: (هي "ما" المضمنة معنى الجزاء)، أراد به معنى الشرط، ولهذا سمى قوله: (إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99] في سورة "يوسف" بالجملة الجزائية. قوله: (النصب بمعنى: أيما شيءٍ تحضرنا تأتنا به): يريد أنه من باب الإضمار على شريطة التفسير، نحو: زيداً مررت به.

و (من آية): تبيين لـ (مهما). والضميران في (بِهِ) و (بِها) راجعان إلى (مهما)، إلا أنّ أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أُنث على المعنى، لأنه في معنى الآية، ونحوه قول زهير: ومهما يكن عند امرئ من خليقةٍ ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب "مهما" بمعنى: متى ما، ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شيء، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أنث على المعنى) قالوا: اللطيفة فيه: هي أن الضمير الأول لما عاد إلى (مهما) - ولفظه مذكر - ذكر، والضمير الثاني إنما رجع إليه بعدما بين بقوله تعالى: (من أيةٍ)، فأنث بهذا الاعتبار. قوله: (ومهما يكن عند امرئٍ من خليقةٍ) البيت، والخلق والخليقة واحد. والشاعر ذكر الضمير في "يكن" حملاً على لفظ "مهما"، وأنث في الباقي حملاً على المعنى، لأنه في معنى الخليقة. ومعنى البيت ظاهر. قوله: (ويحسب "مهما" بمعنى: متى ما، ويقول: مهما جئتني أعطيتك ... ، وليس من وضع العربية في شيء): ألا ترى إلى قوله تعالى: (مهما تأتنا به) فإنه ينادي بأن المراد: ما تأتنا به، لا: متى تأتنا، والهاء في (به): مفعول به، لا مفعول فيه، ولو كان مفعولاً فيه لذكر

ثم يذهب فيفسر (مَهْما تَاتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثوّ بين يدي الناظر في "كتاب سيبويه". فإن قلت: كيف سموها آيةً، ثم قالوا (لتسحرنا بها)؟ قلت: ما سموها آيةً لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى، وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي. (الطُّوفانَ): ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل، قيل: طغى الماء فوق حروثهم، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيامٍ في ظلمةٍ شديدةٍ لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره. وقيل أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكةٌ، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق، ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد، فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، ودام عليهم سبعة أيام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "في" كما يقال: اليوم خرجت فيه، لأن الهاء في "فيه" عبارة عن اليوم. أما المفعول به فضميره تارةً يجيء مع الباء، وأخرى بغيرها، نحو: ذهب به وأذهبه. و(مهما) لو كان بمنزلة "متى" والضمير معبر عن المفعول فيه، وهو "متى"، لقال: تأتنا فيه، فعلم أنه ليس بمعنى "متى". ووجه آخر، وهو أن (من أيةٍ) بيان (مهما)، فيكون عبارةً عنها، و"الآية" ليست بزمان. قال في "الانتصاف": غر هؤلاء من كلام سيبويه قوله: "وسألت الخليل عن "مهما"، فقال: هي "ما" أدخلت عليها "ما" لغواً، بمنزلتها مع "متى" إذا قلت: متى ما تأتني آتك". انتهى

وعن أبي قلابة: الطوفان الجدري، وهو أوّل عذابٍ وقع فيهم، فبقي في الأرض، وقيل: هو الموتان، وقيل: الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهراً، فبعث الله عليهم الجراد، فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيءٍ حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام، وخرج موسى عليه السلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهراً، فسلط الله عليهم القمل- وهو الحمنان في قول أبي عبيدة: كبار القُردان، وقيل: الدبا، وهو أولاد الجراد. قيل: نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث، وعن سعيد بن جبير: السوس- فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلئ قُملاً، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربةٍ إلى الرحى، فلا يرد منها إلا يسيراً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلام سيبويه. وكأن هذا القائل اغتر بتشبيه الخليل لها بـ"متى" فظنها بمعنى "متى". وإنما شبه الخليل بها "ما" الثانية من "مهما" في لحوقها زائدةً مؤكدة. قوله: (وهو الحمنان)، النهاية: "الحمنانة من القراد دون الحلم، أوله: فمقامة، ثم حمنانة، ثم قراد، ثم حلمة، ثم عل". والحلمة بالتحريك: القراد الكبير، والجمع: الحلم. قوله: (الدبا). الدبا - مقصور -: الجراد قبل أن يطير. وقيل: نوع يشبه الجراد، واحدته: دباة. في "النهاية".

وعن سعيد بن جبير: أنه كان إلى جنبهم كثيبٌ أعفر، فضربه به موسى بعصاه، فصار قُملاً، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى، فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً! فأرسل الله عليهم بعد شهرٍ الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحدٌ شيئاً من ثوبٍ ولا طعامٍ ولا شرابس إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور. فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دماً، فشكوا إلى فرعون فقال: إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلى ماءً، وما يلي القبطي دماً، ويستقيان من ماءٍ واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلى الماء، حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك، ثم مجيه في فىَّ، فيصير الماء في فيها دماً، وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً. وعن سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دماً. وقيل: سلط الله عليهم الرعاف وروي: أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعدما غلب السحرة عشرين سنةً يريهم هذه الآيات، وروي أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال: يا رب، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كثيب أعفر)، الجوهري: "الأعفر: الرمل الأحمر".

إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم. وقرأ الحسن: "والقمل"، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف. (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نصب على الحال، ومعنى (مفصلات): مبيناتٍ ظاهراتٍ لا يشكل على عاقلٍ أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرةٌ لهم ونقمةٌ على كفرهم. أو فُصِلَ بين بعضها وبعضٍ بزمانٍ تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون؟ إلزاماً للحجة عليهم. [(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)]. (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ): "ما": مصدرية، والمعنى: بعهده عندك، وهو النبوّة، والباء: إمّا أن تتعلق بقوله: (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) على وجهين: أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا)، الجوهري: "أسعفت الرجل بحاجته: إذا قضيتها". يريد: صيغة الأمر، وهو (ادع): للاستدعاء والتضرع، لإسعاف حاجتهم، ولهذا استعطفوه بقوله: (بما عهد عندك) أي: بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. وفي كلامه تضمينان: ضمن "أسعفنا" معنى "أوصلنا"، وضمن "نطلب" معنى "نتضرع".

بحقِّ ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة، أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك. وإمّا أن يكون قسما مجاباً بـ (لنؤمنن)، أي: أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بحق ما عندك). معناه الاستعطاف: وهو طلب العطف والرحمة، إما من موسى عليه السلام، أو أن يطلب موسى لهم من الله متوسلاً إليه بعهده. ويجوز أن يكون قسميةً صورةً ومعنىً. وإليه الإشارة بقوله: "وإما أن يكون قسماً". قال في قوله: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) [القصص: 17]: " (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ): يجوز أن يكون قسماً، أي: أقسم بإنعامك علي، وأن يكون استعطافاً، أي: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي". قالت الفقهاء: إذا قال: "عليك بالله لتفعلن"، أي: عزمت، إن أريد بمثل هذا الكلام الشفاعة، لا ينعقد يمين أحدهما، ولو أريد يمين نفسه انعقد يمينه، ويستحب للمخاطب إبرار يمينه. قال القاضي: " (بما عهد): إما صلة (ادع) أو حال من الضمير فيه. أي: ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك، أو متعلق بمحذوف، دل عليه التماسهم، مثل: أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك".

(إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ): إلى حدٍّ من الزمن هم بالغوه لا محالة، فمعذبون فيه، لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله، (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب "لما"، يعني: فلما كشفناه عنهم فاجؤوا النكث وبادروا، لم يؤخروه، ولكن كما كشف عنهم نكثوا. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ): فأردنا الانتقام منهم، (فَأَغْرَقْناهُمْ)، و"اليم": البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة): يعني: ضربنا لعذابهم مدةً معلومةً لابد لهم أن يبلغوه، وهو وقت الغرق والموت، فلما كشفنا عنهم الرجز بسبب الدعاء ليكونوا آمنين، إلى بلوغ تلك المدة المضروبة، فاجؤو النكث وبادروه، ولم يؤخروه. قوله: (إلى حلوله) متعلق بـ"الإمهال". قوله: (فاجؤوا النكث) قال المصنف: قيد وجود هذا بوجود ذاك، وكأنهما وجدا في جزءٍ واحد من الزمان، فيكون في الحقيقة جواب "لما" ذلك الفعل المقدر، وهو "فاجؤوا"، ويكون "لما" ظرفه، و"إذا" مفعولاً به. قوله: (فأردنا الانتقام منهم): إنما قدر "أردنا" لأن "الإغراق" عين "الانتقام". ويجوز أن يكون من باب قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54].

واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه، (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها. [(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)]. (الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ): هو بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. و"الأرض": أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاءوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية، (بارَكْنا فِيها) بالخصب وسعة الأرزاق، (كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى): قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 5 - 6]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه): يعني: من يبتغي النفع التام من البحر، يتجاوز عن الساحل إلى اللجة، لأن الغواصين إنما يغوصون على الدرر واللآلئ في اللجة، وما يؤم القاصدون لابتغاء فضل الله إلا فيها، ليحصلوا منها إلى البلاد الشاسعة. قوله: ((كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى): قوله تعالى: (ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) [القصص: 5])، مبتدأ وخبر. أراد به أن "الكلمة" هاهنا: العلم الأزلي الثابت في أم الكتاب، أي: مضت عليهم واستمرت ما كان مقدراً عليهم من إهلاك عدوهم، وتوريثهم ملكهم وديارهم. ولما كان قصص بني إسرائيل وفرعون لم تكن معلومةً عند رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل الوحي، جيء بقوله: (فانتقمنا منهم)، و (أغرقناهم)، و"أورثنا"، و"دمرنا" على الحكاية. وخص هذه اللفظة - وهي (كلمت ربك) بالخطاب على الالتفات، لكونها

و (الحسنى): تأنيث الأحسن، صفة للكلمة، ومعنى "تمت على بني إسرائيل": مضت عليهم واستمرت؛ من قولك: تمَّ على الأمر إذا مضى عليه. (بِما صَبَرُوا): بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر، وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج. وعن الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله، وتلا الآية. ومعنى "خف": طاش جزعاً وقلة صبرٍ، ولم يرزن رزانة أولي الصبر. وقرأ عاصمٌ -في رواية-: (وتمت كلمات ربك الحسنى)، ونظيره (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم: 18]. (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ): ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور، (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من الجنات؛ (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام: 141]، أو: وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان وغيره، وقرئ: (يعرشون) بالكسر والضم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معلومةً عنده صلى الله عليه وسلم، أي: تمت ما تعرفه من أجزاء كل شيء، بتقدير ربك وقضائه ومشيئته. قوله: (مضت عليهم واستمرت)، الجوهري: "مر عليه وبه، أي: اجتاز. ومر يمر مراً ومروراً: ذهب. واستمر: مثله". قوله: (وقرأ عاصم في رواية) أي: رواية شاذة. قوله: (ونظيره ((من آيات ربه الكبرى)): يعني: في الجمع وإرادة التعدد في الكلمات والآيات. قوله: (وقرئ: (يعرشون) بالضم والكسر): بالضم: ابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بالكسر.

وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح، وبلغني أنه قرأ بعض الناس: "يغرسون"؛ من غرس الأشجار، وما أحسبه إلا تصحيفاً منه. [(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)]. وهذا آخر ما اختصّ الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه - بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر - من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه: ظلومٌ كفار جهولٌ كنود، إلا من عصمه الله، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأي: من بني إسرائيل بالمدينة. وروي: أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه، فصاموه شكراً لله تعالى ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من ملكة فرعون)، النهاية: "فلان حسن الملكة: إذا كان حسن الصنيع إلى مماليكه. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيء الملكة". قوله: (من عبادة البقر) متعلق بقوله: "أحدثوا". قوله: (كنود): كند كنوداً: كفر النعمة، فهو كنود.

(فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ): فمرّوا عليهم، (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ): يُواظبون على عبادتها ويلازمونها. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر، وذلك أوّل شأن العجل وقيل: كانوا قوماً من لخم. وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم، وقرئ: "وجوّزنا" بمعنى: أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه وجاوزه؛ بمعنى: جازه، كقولك: أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ: (يعكفون) بضم الكاف وكسرها. (اجْعَلْ لَنا إِلهاً): صنماً نعكف عليه، (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ): أصنامٌ يعكفون عليها، «وما» كافةٌ للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها. وعن علي رضي الله عنه: أنّ يهودياً قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه، فقال: قُلتم: اجعل لنا إلهاً قبل أن تجفّ أقدامكم. (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تعجبٌ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من لخم). اللخم: حي من اليمن، ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية. وقيل: لخم: قوم من مضر. قوله: (وقرئ: (يعكفون) بضم الكاف وكسرها). بالكسر: حمزة والكسائي. والباقون بالضم. قوله: ((إنكم قوم تجهلون): تعجب). يعني: في إطلاق الجهل، وإجرائه مجرى اللازم. وتصدير الجملة بـ (إن)، وتغليب الخطاب على الغيبة في (تجهلون)، وتعقيب هذه الجملة لقولهم: (اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) بعد ما رأوا من إغراق فرعون، وإنجائهم منه،

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني: عبدة تلك التماثيل، (مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ): مدمّرٌ مكسر ما هم فيه، من قولهم إناءٌ متبر، إذا كان فضاضاً. ويقال لكسار الذهب: التبر، أي: يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يديّ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً. (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي: ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطلٌ مضمحل لا ينتفعون به وإن كان في زعمهم تقرباً إلى الله، كما قال تعالى: (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان: 23]. وفي إيقاع (هؤُلاءِ) اسماً لـ (إن)، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومجاوزتهم البحر: إشعار بالتعجب العظيم من جهلهم. أي: ما أجهلهم! كأنهم ما شاهدوا تلك الآيات، وما عرفوها، فإن العاقل العالم بحقائق الأمور، بعد ما رأي تلك الآيات العظام، لا يصدر منه مثل تلك الكلمة الحمقاء، فصدورها منهم موضع تعجب وتعجيب. قوله: (وفي إيقاع (هؤلاء) اسماً لـ (إن) وتقديم خبر المبتدأ) إلى قوله: (وسم)، اعلم أن في تخصيص اسم الإشارة بالذكر، الدال على أن أولئك القوم محقوقون بالدمار، لأجل اتصافهم بالعكوف على عبادة الأصنام، ثم في توكيد مضمون الجملة بـ (إن) مزيد الدلالة على ذلك. وإليه الإشارة بقوله: "وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار"، وليس "هم" ي تركيب المصنف للفصل، إذ لا موجب لأن يقال: إنهم متبرون دون غيرهم، بل هو مبتدأ، فيفيد تقوي الحكم. وفائدة تقديم الخبر الإيذان بأنهم لا يتجاوزون عن الدمار إلى ما يضاده من الفوز والنجاة، على القصر القلبي.

وسمٌ لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا. (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً): أغير المستحقِّ للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فَعَل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: "وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب" فمن الكناية، لأنهم إذا لم يتجاوزوا عن الدمار إلى النجاة، فيلزمهم الدمار ضربة لازب. وموجب هذه المبالغات إيقاع الجملة تعليلاً لإثبات الجهل المؤكد للقوم، لاقتراحهم أن يجعل لهم إلهاً. وأبلغ من ذلك أن المذكور ليس جواباً له، بل مقدمة وتمهيد له. وإنما الجواب قوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) وكيت وكيت، إلى أن قال ربكم: اذكروا إذ: (أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ). ومقتضى التقدير وجود العاطف ولا معطوف عليه، فيقدر ما يمكن تقديره، وقد جاء في "البقرة" معطوفاً على الإنعامات. وإنما أضمرنا "قال ربكم"، لأن قوله: (وإذْ أَنجَيْنَاكُم) لا يدخل تحت كلامه عليه الصلاة والسلام لأنه من كلام الله عز وجل. قوله: (وسم لعبدة الأصنام) أي: علامة شنيعة لاصقة، كالكي على الدابة. قوله: (من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة): فيه نوعان من الاختصاص:

ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم- مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله. [(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)]. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ): يبغونكم شدّة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت: ما محل (يسومونكم)؟ قلت: هو استئناف لا محلّ له، ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين أو من آل فرعون، و (ذلِكُمْ) إشارةٌ إلى الإنجاء أو إلى العذاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: "وهو فعل بكم ما فعل دون غيره"، وهو مستفاد من تقديم الفاعل المعنوي على الفعل، وهو قوله: (وهو فضلكم). وثانيهما: "لتختصوه بالعبادة"، فالاختصاص من تقديم المفعول في (أغير الله أبغيكم) وإنكاره بالهمزة. وأما العبادة فمن مفهوم قوله: (إلها)، أي: معبوداً. والجملة (وهو فضلكم) حال مقدرة لجهة الإشكال. قوله: (من طلبتهم) من إضافة المصدر إلى الفاعل، والطلبة في الأصل: اسم. الجوهري: "الطلبة 0 بكسر اللام -: ما طلبته من شيء".

والبلاء: النعمة أو المحنة. وقرئ: (يقتلون) بالتخفيف. [(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)]. وروي: أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيامٍ من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في "سورة البقرة"، وفصلها هاهنا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (البلاء: النعمة أو المحنة) التنويع على التفسيرين لقوله: (ذلكم). قوله: ("يقتلون" بالتخفيف) نافع. قوله: (أن خلوف). وفي الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب من المسك" الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. النهاية: "الخلوف - بالضم -: تغير ريح الفم. وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء، لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى. يقال: خلف فمه يخلف خلفةً وخلوفاً".

(ومِيقاتُ رَبِّهِ): ما وقته له من الوقت وضربه له، و (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) نصبٌ على الحال أي: تمَّ بالغاً هذا العدد، و (هارُونَ) عطف بيانٍ لـ (أخيه). وقرئ بالضم على النداء، (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي): كن خليفتي فيهم، (وَأَصْلِحْ): وكن مصلحاً، أو: أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه. [(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)]. (لِمِيقاتِنا): لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدناه، ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر، (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير واسطةٍ كما يكلم الملك، وتكليمه: أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام، كما خلقه مخطوطاً في اللوح. وروي: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لميقاتنا): لوقتنا). قيل: لابد هاهنا من تقدير مضاف، أي: لآخر ميقاتنا، أو: لانقضاء ميقاتنا. قوله: (وروي أن موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة): قال القاضي: "وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس سماع كلام المحدثين". قال في "الانتصاف": "صرح بخلق الكلام، ويرده اختصاص موسى عليه السلام

وعن ابن عباس رضي الله عنه: كلمه أربعين يوماً وأربعين ليلةً، وكتب له الألواح. وقيل إنما كلمه في أول الأربعين. (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ثاني مفعولي أرني محذوفٌ، أي: أرني نفسك أنظر إليك. فإن قلت: الرؤية عين النظر، فكيف قيل: (أرني أنظر إليك)؟ قلت: معنى "أرني نفسك": اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي، فأنظر إليك وأراك. فإن قلت: فكيف قال: (لَنْ تَرانِي)، ولم يقل: لن تنظر إليّ؛ لقوله: (أَنْظُرْ إِلَيْكَ)؟ قلت: لما قال: (أَرِنِي) بمعنى: اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل: (لن تراني)، ولم يقل: لن تنظر إليّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: (بِرِسَالاتِي وبِكَلامِي) [الأعراف: 144]. وكل أحدٍ يساوي موسى عليه السلام فيما ذكره الزمخشري. بل كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قد سمعوا الكلام من أفضل المخلوقات، فلابد من اعتقاد أنه سمع الكلام القديم القائم بذات الله تعالى بلا واسطة، كما أجزنا في العقول أن ترى ذات الله، وإن لم يكن جسماً، فكذلك يجوز سماع كلامه وإن لم يكن حرفاً". قوله: (الرؤية عين النظر): أي: النظر مقدم على الرؤية، فإنه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، وقد يتخلف عنه، فكيف جعله مؤخراً عنه؟ ويروى: "الرؤية عين النظر". ويؤيد الأول قوله في "الشعراء": "الاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، لأن الاستماع جارٍ مجرى الإصغاء". وتقرير هذا السؤال: أن (أرني) تكفي في الطلب، لأنه تعالى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا أراه نفسه لابد له أن ينظر إليه، فما فائدة إردافه؟ وأجاب بأن فائدته التأكيد والكشف التام، فإنه لما أردفه به أفاد طلب رفع المانع، وكشف الحجاب، والتمكين من الرؤية، بحيث لا يتخلف عنه النظر إليه، نحوه قولك: نظرت بعيني، وقبضت بيدي، فالنظر حينئذٍ مسبب. فلذلك أدخل المصنف الفاء في قوله: "فأنظر"، ثم سأل: "فكيف قال: (لن تراني) " وأتى بالفاء، أي: إذا كان النظر هو الغرض، وهو الذي طلب له الإراءة، كان من الواجب أن يقال: لن تنظر. وأجاب: وإن كان الغرض النظر، لكن المطلوب، الذي عليه التعويل، طلب التجلي، وكشف الحجاب، إذ به يحصل الإدراك التام، ولولاه لا يجدي النظر شيئاً. ألا ترى كيف أتبع "وأراك": "فأنظر" في الجواب الأول؟ فكأنه قيل: "اجعلني متمكناً من رؤيتك، فانظر إليك وأراك". وقلت: وهاهنا سؤال آخر، وهو أنه كيف قيل: (لن تراني)، ولم يقل: لن أريك نفسي، لقوله: (أرني)؟ والجواب: إنما عدل عن "لن أريك"، للتفادي عن الإيياس، وحسم الطمع. يعني: لن تراني ما دمت على حالة أنت فيها، فإذا ارتفع المانع أريك نفسي لتنظر إليه. وهذا معنى قول ابن عباس: "لن تراني في الدنيا". والجواب من الأسلوب الحكيم.

فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك، وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة، وما ليس بجسمٍ ولا عرضٍ فمحالٌ أن يكون في جهة، ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال - حين أخذت الرجفة الذين قالوا: أرنا الله جهرة -: (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف: 155] إلى قوله: (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [الأعراف: 155]، فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذن معنى قوله: (أرني أنظر إليك) أن المانع من الرؤية كوني غير متمكنٍ منها، لاحتجابك عني، فارفع الحجا بيني وبينك، لأنظر إليك وأراك، وذلك حين سمع الخطاب والكلام القديم بغير واسطة. ومعنى قوله: (لن تراني) أن المانع ليس إلا من جانبك، وأني غير محجوب، بل متحجب بحجابٍ منك، وهو كونك فانياً في فانٍ، وأنا باقٍ، ووصفي باقٍ، فإذا جاوزت قنطرة الفناء، ووصلت إلى دار البقاء، فزت بمطلوبك. قوله: (ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. وجوابه قد سبق بند منه في "الأنعام"، وموضع الإطناب فيه يطلب في الأصول. قوله: (ودعاهم سفهاء): أي: سماهم سفهاء.

قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً، وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ، ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بُدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله: (لَنْ تَرانِي)، ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء): الروايات كلها مفتريات، وليس هذا بأول مكابرته، لأن القوم لم يحضروا هذه النوبة، وإنما طلب موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، وفي النوبة الثانية كان القوم معه، وطلبوا الرؤية فأجابهم، كما سنقرر هذا عند قوله تعالى: (واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف: 155]. وقال صاحب "الفرائد": "إن قوله: (أرني أنظر إليك) كان وقت مجيئه للميقات، وتكليمه لله تعالى مطلق. وما ذكره من قوله: "ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء" مقيد، ولا دليل في هذه الآية على هذا القيد، فكان هذا حملاً للمطلق على المقيد من غير دليل، وهو باطل، لأنه خروج عن الأصل بغير ضرورة. وأيضاً، لو كان مراده من سؤال الرؤية بيان الاستحالة من الله، ليكون نصاً منه لاستحالتها، لوجب أن يقال: لن أرى، أو: لم تجز رؤيتي، إذ كانت ممتنعة، ليتضح لهم أنه تعالى ليس بجائز الرؤية، ويحصل المقصود؛ لأن (لن ترانى) ليس إلا تأكيد النفي، ولم يلزم منه عدم الجواز.

فإن قلت: فهلا قال: "أرهم ينظروا إليك"؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادةً مبنيةً على قياس فاسد، فلذلك قال موسى: (أرني أنظر إليك)، ولأنه إذا زُجِرَ عما طلب، وأُنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له: لن يكون ذلك، كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعاً إليهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأيضاً، قوله: "سماهم سفهاء وضلالاً" - يعني به قوله: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) - ممنوع، لم لا يجوز أن يراد بهم السفهاء الذين عبدوا العجل، لا هؤلاء مع أن القرآن مساعد لإرادة ما أردناه؟ ". تم كلامه. وقلت: وليس هذا من المطلق، حتى يحتاج إلى دليل القيد، فإن الدليل قائم على انتفاء القيد، لأن المقام غير واحد. وأما قوله: "لوجب أن يقال: لن أرى، أو: لم تجز رؤيتي" فللمصنف أن يقول: إنه من باب أسلوب الحكيم. وإليه الإشارة بقوله: "لأنه إذا زجر وأنكر على نبوته واختصاصه، كان غير أولى". وقوله: "لم لا يجوز أن يراد بهم السفهاء الذين عبدوا العجل؟ " فهو بناء على حضور القوم في المرة الثانية. قوله: (وأنكر عليه في نبوته). "في نبوته": حال من المجرور في: "عليه"، أي: أنكر عليه والحالة أنه ثابت في نبوته مستقر عليها.

وقوله: (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليلٌ على أنه ترجمةٌ عن مقترحهم وحكايةٌ لقولهم، وجل صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلاً بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرقُ في معرفة الله تعالى؛ من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبي الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجل صاحب الجمل) الجمل - في الأصل المملى منه - بضم الجيم ولكن الميم مهملة لا ضبط عليها. ويمكن أن يوجه بأنه أراد الجمالين والملاحين، لأن الجمل حبال السفن، والواحد منها جملة، لكونها جملة من الطاقات والقوى. وفيه نظر، لأن الجمل بمعنى: الحبل، مشدد الميم، وليس جمعاً، ولا واحده جملة، وليس بمستبعدٍ أن يزعم أن "حملاً" كتاب صنفه بعض من المعتزلة من تلامذة هؤلاء المعدودين، واشتمل مضمونه على أصولهم. وفيه دلائلهم على نفي الرؤية. يعني: عظم قدر صاحب هذا الكتاب أن يجعل الله تعالي منظوراً إليه، بنصب الأدلة، وإقامة البراهين، فكيف بمن هو أعرف منه في معرفة الله تعالى. وقد عثرت بعد ذلك على نقلٍ من جانب الإمام شمس الأئمة الكردري رحمه الله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صاحب الجمل: صاحب العقل؛ لأن العقل عندهم عبارة عن علوم هي جمل ضرورية، فقيل: هي اثنا عشر، وقيل: هي أربعة، هي: النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، والكل أعظم من الجزء، والشيئان المساويان لشيء واحدٍ متساويان، والشيء الواحد في زمانٍ واحدٍ لا يكون في مكانين. أراد بالشيخين أبا علي الجبائي، وابنه أبا هاشم. قال في "الانتصاف": "وقد صح أن الرؤية لا تستلزم الجسمية، وأما قناعته في تفضيله عليه السلام برجحانه على المذكورين من المبتدعين، فهو غض عن منصبه العلي". قال الإمام: "هذا كله باطل، لأن الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا مؤمنين بموسى ونبوته وصدقه، وكان يكفيهم قول موسى: هذا السؤال غير جائز، وإن لم يكونوا فلن ينتفعوا بهذا الجواب. وأيضاً، لو كان السؤال طلباً للمحال لمنعهم عنه، كما منعهم عن سؤالهم: (اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) بقوله: (إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). وكيف وهذا عندهم أصعب، لأن طلب الرؤية مع استحالته جهل في ذات الله، بإثبات صفةٍ تقتضي نقصاً في ذاته، وطلب اتخاذ العجل جهل في غير الله، باستحقاقه العبادة له. وأيضاً، كان يجب عليه إقامة الدلائل القاطعة على نفي الرؤية. وكيف يظن أنه ترك ما كان واجباً عليه، وطلب ما كان محظوراً بقول بعض الجهال وأنه من أولي العزم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وفي سؤاله عليه السلام إشعار ببطلان أن الطلب للقوم، وذلك أن قوله: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ)، أي: اجعلني متمكناً من رؤيتك، بأن تتجلى لي، فأنظر إليك وأراك، كما فسره، وما فيه من المبالغة، والتأكيد، والدعاء بقوله: "رب"، ليس من كلام من أكره على الشيء، وألزم به، ومن له طبع مستقيم، وذوق سليم، يعلم أن هذا الكلام لا يصدر إلا عمن له قوة عزم، ورسوخ قدمٍ في الطلب، ولو كان معذوراً لكان في الطلب ما ينبئ عنه. وغاية ما يلزمنا أنه عليه السلام توهم أنه تعالى جائز الرؤية في الدنيا. وهذا لا يقدح في مرتبته، ولا يحط من منزلته، كما قال إبراهيم عليه السلام: (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ولَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة: 260]. وروينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة: "نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى). ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي". على أن المشتاق الذي يتوق إلى محبوبه، المتيقن بحصول مطلوبه، يستعجل الوصول، ويتشبث بكل أمارة، وينتظر كل لمحة بارق. فإنه عليه السلام لما وعد الميقات، وسمع الخطاب، لو لم يتحرك له أريحية الطلب، ويقنع بالسؤال والجواب، لما كان له عليه السلام اشتياق. روى محيي السنة عن الحسن: "هاج به الشوق، فسأل الرؤية، وقال: إلهي، سمعت كلامك، فاشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك، ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك".

فإن قلت: ما معنى (لَنْ)؟ قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» وذلك أن «لا» تنفى المستقبل، تقول: لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى: أنّ فعله ينافي حالي، كقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج: 73]، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن فعله ينافي حالي) يرده قوله: "فإذا أكدت نفيها، قلت: لن أفعل غداً" فيه إخبار عن عدم مباشرته الفعل على التأكيد، فهو كقولك: هو لا يفعل، لا تفعل، فكما أن هذا لا يدل على المنافاة، فكذا ذلك، بل يدل على أن حاله مستدعية له فينفيه على التأكيد، لأن ما يؤكد نفيه يمكن وقوعه. ويشهد لذلك ما رواه مسلم عن جابر: أن رجلاً ممن هاجر إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم مرض، فجزع، فأخذ مشاقص، فقطع براجمه، فمات به، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع ربك بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه، فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلي الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر". ولو كان إصلاح ما أفسد مما هو منافٍ لحاله، وكان مفهوماً من هذا التركيب، لأمسك من هو أفصح الخلق عن الدعاء. وأما قوله: (لن يخلقوا ذبابا) [الحج: 73] فالمنافاة تفهم من دليلٍ خارجي.

فقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: 103] نفيٌ للرؤية فيما يستقبل، و (لن تراني) تأكيد وبيان؛ لأنّ المنفي منافٍ لصفاته. فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) بما قَبْلَه؟ قلتُ: اتصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه، ولكن عليك بنظرٍ آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكاً بسبب طلبك الرؤية؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: " (لن تراني): يدل على أنه تعالى جائز الرؤية، إذ لو كان مستحيل الرؤية: لقال: "لا أرى"، ألا ترى أنه لو كان مع إنسانٍ حجر، وقال صاحبه: ناولني هذا لأكله، فإنه يقول: هذا لا يؤكل. ولو قال: لن تأكل، لم يصح. ولو كان معه مما يؤكل، فقال: هذا لا يؤكل، لم يصح. ولو قال: لن تأكل، علم أنه مما يؤكل، ولكنك لا تأكله". وقال القاضي: "والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه، على ألا يراه أبداً، وألا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالتها. ودعوى الضرورة فيه مكابرة". قوله: (وبيان، لأن المنفي منافٍ). اللام صلة "بيان" لا تعليل. قوله: (اتصل به على معنى أن النظر إلى محال، فلا تطلبه): قال صاحب "الفرائد": إن الاستدراك بالمعنى الذي ذكره لا يناسب هذا المقام، ولو كان المراد به استحالة الرؤية، وجب أن يذكر شيئاً يدل على الاستحالة. ودك الجبل كما يصلح لما ذكر يصلح لغيره، والمشترك لا

لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم: 91]. (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهاته، (فَسَوْفَ تَرانِي) تعليقٌ لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض، وهذا كلامٌ مدمج بعضه في بعض، واردٌ على أسلوبٍ عجيبٍ ونمطٍ بديع؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون دليلاً. وهو تبع الإمام في قوله: "إنه تعالى علق الرؤية على أمرٍ جائز، والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة". قلت: وأما قوله: "كأنه عز وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد"، فمن الإغراق والمبالغة التي تؤدي إلى أن طلب الرؤية أعظم من نسبة الولد إلى الله. ولعمري، إنه كيف ذاق مع هذه الآية قوله: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًا) [مريم: 90] من تكرير الأفعال، وإخراج كل على ما يناسبه. وفي إبهام الضمير في (منه)، وإبداله لقوله: (أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا) [مريم: 91] من الفخامة والهيبة ما لا يخفى على البليغ، بخلاف هذا التعليق، فإنه كالتمهيد لإثبات الرؤية، كما يعطيه الذوق! وعليه كلام الأئمة. وأيضاً إن نسبة الولد إلى الله تعالى منسوب إلى أجهل الخلق وأضلهم، وطلب الرؤية منسوب إلى أفضل الخلق وأهداهم. فأين هذا من ذاك؟ قوله: (وهذا كلام مدمج بعضه في بعض)، الأساس: "دمج الشيء دموجاً، واندمج اندماجاً: إذا استحكم والتأم. ومن المجاز: أدمج كلامه: أتى به متراصف النظم". وفي الاصطلاح: هو أن يضمن كلام سيق لوصفٍ وصفاً آخر.

ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعني قوله: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن نباتة: فلابد لي من جهلةٍ في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده فإنه تعالى لما منع المشتاق الهائم عن مطلوبه، أشار إلى ما لا يقطع طمعه، ولا ييأس من متوخاه، بطريق يرمز إلى الموعد، يعني: إن الدنيا لا تصلح لما تطلبه، لأنها في شرف الزوال والهلاك؛ ألا ترى إلى أعظم الأشياء فيها رسوخاً، لم يثبت عند بعض التجلي، وإن الآخرة لهي الحيوان، فالموعد هناك. فعلم من هذا التقرير أن الكلام إنما يكون مدمجاً، إذا أشير فيه إلى إثبات الرؤية، لا إلى نفيها، فإنه حينئذٍ يكون تذييلاً. قوله: (ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر): التخلص اصطلاحاً: "هو الخروج في الكلام من معنى إلى معنى لا يناسبه، برابطة مناسبة لهما". وهذا المعنى أنسب لتأويلنا من تأويله، فإن الخروج من نفي الرؤية إلى إثباتها بواسطة الاستدراك، هو المعنى بالتخلص، لا من نفيها إلى نفيها. قوله: (ثم كيف بني الوعيد بالرجفة الكائنة؟ ): يعني: أراد أن يوعده بالرجفة التي هي

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته (جَعَلَهُ دَكًّا) أي: مدكوكاً مصدر بمعنى: مفعول كضرب الأمير. و"الدكُّ" و"الدقُّ" أخوان، كالشك والشق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسببة عن طلب الرؤية، ومكافأة عنه، وهي قوله: (وخر موسى صعقا)، بنى هذا الوعيد على شريطة وجود الرؤية عند استقرار الجبل، حتى حرضه على النظر إلى ما يحصل منه وعيده. تلخيصه: لن تراني، ولكن انظر إلى ما يحصل لك فيه مكافأتك في هذا الطلب. وفي هذا التحريض والتوكيد إشعار بأن الطلب لم يكن إلا لنفسه عليه السلام، ثم إنه تكلف في الجواب عن معنى الاستدراك أساليب وفنوناً من البديع: الإغراق في الوصف، والإدماج، والتخلص، وبناء الوعيد على الشريطة! والمعنى، على ما سبق من قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما. قوله: (فلما ظهر له اقتداره، وتصدى له أمره وإرادته) أي: مثل لظهور اقتداره وتعلق إرادته، بدك الجبل قوله: (تجلى ربه)، لا أن ثم تجلياً، كما قرره في قوله: (أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82] أن المراد: "ما قضاه وأراد كونه يدخل تحت الوجود، من غير توقف"، لا أن ثمة قول.

وقرئ: (دكاء)، والدكاءُ: اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة، أو أرضاً دكاء مستوية، ومنه قولهم: ناقةٌ دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي: قال لي الربيع بن خُثيم: ابسط يدك دكاء، أي: مدّها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب: "دُكاً" أي: قطعاً دُكاً؛ جمع دُكاء، (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) من هول ما رأى. وصعق: من باب: فعلته فَفَعِلَ. يقال: صعقته فصعق، وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة؛ من صقعه: إذا ضربه على رأسه، ومعناه: خرّ مغشياً عليه غشيةً كالموت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الفرائد": هذا المعنى غير مفهوم من الآية، لأن "تجلى" مطاوع "جليته" أي: أظهرته. يقال: جليته فتجلى، أي: أظهرته فظهر، ولا يقدر: تجلى اقتداره، لأنه خلاف الأصل. قال الإمام: "لا يجوز هذا التقدير، لأن المقصود من الكلام أن موسى لن يطيق رؤية الله، بدليل أن الجبل بعظمته، لما رأي الله اندك. ويجوز أن يخلق الله تعالى له حياةً وسمعاً وبصراً، كما جعله محلا لخطابه، بقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ: 10]، وكما جعل الشجرة محلا للكلام. وكل هذا لا يحيله من يؤمن بأن الله على كل شيء قدير. قوله: (وقرئ: "دكاء"): حمزة والكسائي: بالمد والهمز من غير تنوين، والباقون: بالتنوين من غير همز.

وروي: أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيٌّ عليه، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض، أطمعت في رؤية رب العزة؟ (فَلَمَّا أَفاقَ) من صعقته، (قالَ سُبْحانَكَ): أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها، (تُبْتُ إِلَيْكَ) من طلب الرؤية (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنك لست بمرئيٍّ ولا مُدركٍ بشيءٍ من الحواس. فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فممّ تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة - وإن كان لغرضٍ صحيحٍ- على لسانه، من غير إذنٍ فيه من الله تعالى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سبحانك): أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية) إلى قوله: (ولا مدركٍ بشيءٍ من الحواس): الزيادات التي ذكرها: تقييد من غير دليل. قال الإمام: "الرؤية كانت جائزة، إلا أن موسى عليه السلام سألها بغير إذن، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكانت التوبة لهذا المعنى". قال في "الانتصاف": "أما تسبيح موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء فلا يلزم أن تكون عن ذنب، لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال. وكان عليه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن، فترك الأولى. وقد ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكاً، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك؛ مبالغةً في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه، وقال: "أنا أول المؤمنين"، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية، فيهم: لجماعة سموا هواهم سنّةً ... وجماعة حمر لعمري موكفه قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ... شنع الورى فتستّروا بالبلكفه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما دك الجبل فلأن الله أظهر له أثراً من الملكوت، ولا تستقر الدنيا لإظهار شيء من الملكوت. هذا هو المأثور عن السلف". قوله: (من نفيان ذلك)، الجوهري: "نفي الريح: ما تنفي في أصول الشجر من التراب ونحوه. والنفيان مثله. ونفي المطر: ما ينفيه ويرشه، وكذلك ما تطاير من الرشاء على ظهر الماتح". قوله: (من المتسمين بالإسلام) بتشديد التاء: من الاتسام، و"المتسمين" بتشديد الميم: من التسمي، مطاوع التسمية. قوله: (بالبلكفة) نحو: البسلمة والحيعلة، أي: القائلين بأن الرؤية تحصل بلا كيف. وفي بعض الحواشي: البلكفة: قول القائل: بل كفى في إمكان الرؤية تعليقها بشرطٍ ممكن، وهو استقرار الجبل من حيث هو هو.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الموكفة": من الإكاف: وهو البرذعة. أجاب بعض أهل السنة: عجباً لقومٍ ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وقال صاحب "الانتصاف": وجماعةٍ كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية، قلنا: أجل ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين، كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

وتفسير آخر: وهو أن يريد بقوله: (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ): عرّفني نفسك تعريفاً واضحاً جلياً، كأنها إراءةٌ في جلائها، بآيةٍ مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك، (أَنْظُرْ إِلَيْكَ): أعرفك معرفة اضطرار، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تاب الله عليهم. قوله: (وتفسير آخر): وقريب من هذا التفسير ما نقله الزجاج: "أرني أمراً عظيماً، لا يرى مثله في الدنيا مما لا يحتمله أحد. فأعلمه الله تعالى أنه لن يرى ذلك الأمر، وأن معنى (تجلى ربه للجبل): تجلى أمر ربه". ثم قال الزجاج: "هذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة ولا في الكلام دليل على ذلك، ولأنه قد أراه الله تعالى من الآيات ما لا غاية لنا بعده؛ أراه العصا ثعباناً، ويده بيضاء، وغيرهما مما يستغني به عن أن يطلب أمراً من الله عظيماً لكن لما سمع كلام الله، أحب أن يراه، فأعلم الله تعالى أنه لن يراه". واعترض عليه أبو علي الفارسي في كتاب "الإصلاح"، فقال: "أما قوله: "لا يعرفه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أهل اللغة"، ففاسد، وفشو هذا في اللغة، وكثرته واشتهاره أظهر وأوضح، وفي التنزيل ما لا يكاد ينحصر. منه قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أَن تَاتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام: 158] يدل عليه قوله: (أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل: 33]. وكذا: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر: 2]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ) [النحل: 26] يدل عليه قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1]. وقوله: (فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ) [هود: 63] يدل عليه قوله: (فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ) [غافر: 29]. وما أرى هذا الذي قاله إلا تحاملاً، ودافعه في اللغة كدافع الضروريات. وأما دفعه أن يسأل موسى أمراً عظيماً، فإن ذلك مما لا ينكر منه على ما آتاه الله من الآيات، لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات مع هذه الآيات التي أوتيها ويسألونه إياها. ألا ترى إلى قولهم: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55] و (لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ) [البقرة: 63]. فإذا جاز ذلك فلا وجه لإنكار أن موسى عليه السلام سأل أمراً عظيماً، لاقتراح القوم، ويكون سؤاله جائزاً، ليؤتى ما يجوز إيتاؤه، ويعرفوا ما لا يجوز إيتاؤه، فيعلموا امتناعه". وقلت - والله أعلم -: أما الجواب عن الأول: فإن الزجاج لا ينكر حذف المضاف، وإنما ينكر أن المضاف هو أمر عظيم لا يرى مثله في الدنيا مما لا يحتمله أحد. فالحق أن المقام يأباه، وذلك أنه بين

كأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر»، بمعنى: ستعرفونه معرفة جليةً هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المقام، وهو أنه: "لما سمع كلام الله، أحب أن يراه" كما نقلنا عن الحسن ومحيي السنة، وبينا أن ذلك هو اقتضاء المقام. ولا شك أن مقام الأنبياء، ونزول تجليات الجمال، يأبي طلب الأمر العظيم الذي لا يحتمله أحد، ويؤدي إلى الوعيد العظيم والتهديد، لأن الآيات الوارد فيها الأمر من القوارع والزواجر. وأما الجواب عن الثاني: فإن كلامه مبني على أن القوم كانوا معه في هذه المرة، وقد أبطلناه غير مرة. قوله: (كما جاء في الحديث): اعلم أن المصنف أدمج تأويل الحديث في تأويل الآية، لئلا يتمسك به مخالفوه. والحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة: أن الناس قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تمارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فإنكم ترونه كذلك". وعن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: "سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته".

(قالَ لَنْ تَرانِي) أي: لن تُطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة، (ولكن انظر إلى الجبل) فإني أورد عليه وأظهر له آيةً من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطبيقها، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته، (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) لعظم ما رأى، (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) مما اقترحت وتجاسرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بعظمتك وجلالك، وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن مسلم والترمذي، عن صهيب، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى: "تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى". قال صاحب "الجامع": "إنها الغاية القصوى في نعيم الآخرة، بلغنا الله منها ما نرجوه". ومن رد هذه الروايات الصريحة الصحيحة، أو أولها بمدركته الركيكة، فقد غطى عين الشمس بعينه الضعيفة. وسمعت بعض العارفين قدس سره: "نحن - معاشر السنة - هممنا مصروفة لنيل هذه البغية السنية. والمعتزلة على العكس، يجتهدون في الدفع، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) [الإسراء: 84]. قوله: (المضطرة): هي اسم فاعل، كقولهم: "المغتاب - فض الله فمه - يأكل لحم المغتاب، ويشرب دمه".

[(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)]. (إنِي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ): اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم، (بِرِسالاتِي) وهي أسفار التوراة، (وَبِكَلامِي): وبتكليمى إياك، (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ): ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خَرَّ موسى صعقاً يوم عرفة، وأُعطي التوراة يوم النحر. فإن قلت: كيف قيل: (اصطفيتك على الناس) وكان هرون مصطفى مثله ونبياً؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعاً له وردءاً ووزيراً، والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة. [(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ* سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي أسفار التوراة): أي: مجلداتها. الأساس: "حملوا أسفار التوراة، وله سفر من الكتاب، وسفر الكتاب: كتبه، والكرام السفرة: الكتبة". قوله: (فهي من أجل النعم): الفاء للتسبب، لأن قوله تعالى: (وكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) من باب المبالغة، أي: كن بليغ الشكر، أي: معدوداً في عداد الشاكرين، بأن تكون لك مساهمة كاملة فيهم، لأن النعمة، وهي شرف النبوة والحكمة، من أجل النعم.

ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها: أنها كانت عشرة ألواحٍ، وقيل: سبعة، وقيل: لوحين، وأنها كانت من زمرّدٍ أخضر، جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل: من زبرجدةٍ خضراء وياقوتةٍ حمراء. وقيل: أمر الله موسى بقطعها من صخرةٍ صماء لينها له، فقطعها بيده، وشقها بأصابعه. وعن الحسن: كانت من خشبٍ نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (زمرد) بضمتين، والراء مضمومة مشددة، والدال معجمة: معرب، عن الجوهري. قوله: (زبرجدةٍ خضراء، وياقوتةٍ حمراء): الواو ليس للجمع، بل بمعنى "أو"، لما روى محيي السنة: "قال الكلبي: كانت الألواح من زبرجدةٍ خضراء، وقال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر". قوله: (وسقفها بأصابعه) أي: جعلها سقائف. الجوهري: "السقائف: ألواح السفينة، كل لوحٍ منها سقيفة". وفي بعض النسخ: "شقفها" بالشين المعجمة. قوله: (عشرة أذرع) الذراع يذكر ويؤنث.

وقوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في محل النصب مفعول "كتبنا"، و (مَوْعِظَةً وتفصيلاً) بدلٌ منه. والمعنى: كتبنا له كل شيءٍ كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل أُنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزيرٌ، وعيسى عليهم السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من كل شيءٍ) في محل النصب مفعول "كتبنا"، و (موعظة وتفصيلاً) بدل منه): قال الإمام: "لا شبهة في أن قوله: (من كل شيء) ليس على العموم، لأن المراد: كل شيء كانوا محتاجين إليه: من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح، وهو على ضربين: أحدهما: ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، من الوعد والوعيد، وهو الضرب الثاني. ولما قرر ذلك، أتبعه شرح أقسام الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام". قلت: و (من) على هذا: ابتدائية، أو زائدة، ويمكن أن تحمل على التبعيض وتكون (موعظة) وحدها بدلاً منه، و"تفصيلاً" عطفاً على محل الجار والمجرور. فيختلف جهتا كل من قوله: (كل شيءٍ) و"تفصيلاً"، ويأخذ كل من (موعظة وتفصيلاً) حقه، ولا تضيع فائدة اتصال لـ (كل شيء) الثاني بـ"تفصيلاً". والمعنى: كتبنا بعض كل شيء في التوراة: من نحو السور والآيات وغيرهما (موعظة)، وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام، ونحوه. وفيه وجوه من الفوائد، منها: اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة، للإيذان بأن الاهتمام بها أشد، والعناية بها أتم، ولعمري هو كذلك، ومن ثم أكثر مدح النبي صلي الله عليه وسلم بالبشير النذير.

وعن مقاتل: كتب في الألواح: إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئاً، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين؛ فإنّ من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا، ولا تعقوا الوالدين. (فَخُذْها) فقلنا له: "خذها"، عطفاً على "كتبنا"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن في جعل (من) تبعيضاً إشعاراً بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر، ويكر به في كل سورة، بل في كل آية؛ ألا ترى أن أكثر الفواصل التنزيلية وارد على هذا النمط، نحو: (أفلا تتقون)، (أفلا تذكرون)، (أفلا تعقلون) ونحوها. وإلى سورة "الرحمن" كيف أعيد فيها ذكر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، بعد كل إشارة، وذلك ليستأنف السامع به أذكاراً واتعاظاً، ويجدد به تنبيهاً واستيقاظاً، وأن تقرع لهم العصا مرات، وتقعقع لهم الشنان تارات. ولما اشتمل الكلام على هذه المطالب عقبها بقوله: (فخذها بقوة)، أي: بصدق نية، وعزيمةٍ ماضية. قوله: (فلا أزكيه) أي: فأنا لا أزكيه. كقوله تعالى: (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا) [الجن: 13]، أي: فهو لا يخاف بخساً. قوله: (فقلنا له: خذها) يعني: "فخذها"، على إضمار القول، فيكون عطفاً على "كتبنا".

ويجوز أن يكون بدلاً من قوله: (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) [الأعراف: 144]، والضمير في (خُذْها) للألواح، أو لـ (كل شيء)، لأنه في معنى الأشياء، أو الرسالات، أو للتوراة. ومعنى (بِقُوَّةٍ): بجدّ وعزيمةٍ فعل أولي العزم من الرسل، (يَاخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي: فيها ما هو حسنٌ وأحسن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون بدلاً من قوله: (فخذ ما أتيتك)). والعطف على "كتبنا" أجرى على سنن البلاغة، لما يلزم في البدل من التعاظل والتراكب وفك النظم، لأن قوله تعالى: (وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ) مع ما عقب به من قوله: (فخذها بقوة) معطوف على قوله: (قَالَ يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ) مع ما عقب به وهو: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) على سبيل البيان والتفصيل، فلو جعل بدلاً، لدخل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي. والذي يدل على التفصيل بسط ما أجمل. قال أولاً: (إني اصطفيتك) ففصله بقوله: (وكتبنا له) على التعظيم. وقال: (بلاسالاتي وبكلامي) ففصله بقوله: (من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيءٍ). وقال: (فخذ ما أتيتك) ففصله بقوله: (فخذها بقوةٍ وأمر قومك). وقال: (وكن من الشاكرين) ففصله بقوله: (سأوريكم دار الفاسقين). ويؤيده قول الزجاج: "قال الله تعالى: فخذ ما أعطيتك. ثم أعلم أنه أعطاه من كل شيء يحتاج إلى أمر الدين، فقال: (وكتبنا له في الألواح). قوله: (فعل أولي العزم): نصب مفعول مطلق، أي: خذها أخذاً مثل أخذ أولي العزم من الرسل، مجدين صابرين ثابتين، لأنه إذا أخذها بضعف، أداه ذلك إلى الفتور. قوله: (أي: فيها ما هو حسن وأحسن): اعلم أن كلام الله المجيد، بحسب كونه كلامه، كله حسن.

كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر: 55]. وقيل: يأخذوا بما هو واجبٌ أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد: يأخذوا بما أُمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك: الصيف أحرّ من الشتاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى محيي السنة عن قطرب: " (بأحسنها) أي: بحسنها، وكلها حسن". وقلت: لكن بحسب أحوال المكلف، تتفاوت إلى الحسن والأحسن، والوجوه مبنية على هذا. قوله: (كالاقتصاص والعفو): هذا يقوي ما أوردناه على كلامه في "البقرة"، عند قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة: 178]: "أن أهل التوراة كتب عليهم القصاص، وحرم العفو". ويخالف قوله بعدها في تفسير قوله تعالى: (ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157]: "نحو بت القضاء بالقصاص، عمداً كان أو خطأ". قوله: (أن يراد: أن يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه): يعني: أن التوراة مشتملة على الأمر والنهي، وعلى ما يجب فعله، وعلى ما ينبغي تركه. فقال: (بأحسنها)، أي: بأحسن ما فيها من الأمرين: من الفعل والترك، والمتروك لا يكون حسناً، وإنما هو على باب قولك: "الصيف أحر من الشتاء"، أي: الصيف أبلغ في بابه من الحرارة من الشتاء في بابه من البرودة. والمعنى: ما أمروا به أبلغ في بابه من الحسن مما نهوا عنه في بابه من القبح.

(سَأورِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم، لتعتبروا، فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل منازل عادٍ وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم. وقيل: دار الفاسقين: نار جهنم. وقرأ الحسن: "سأوريكم"، وهي لغةٌ فاشيةٌ بالحجاز. يقال: أورني كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من: أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه، وقرئ: "سأورثكم"، وهي قراءةٌ حسنةٌ يصححها قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) [الأعراف: 137]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "إنهم أمروا بالخير، ونهوا عن الشر، وعرفوا ما لهم وما عليهم، فقيل: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) ". قوله: (لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم): إشارة إلى أن قوله: (سأوريكم دار الفاسقين) توكيد لأمر بالأخذ بأحسن ما في التوراة، وبعث عليه. وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة للسبب مقام المسبب أيضاً مبالغة، كقوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ) [النمل: 69].

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم. وعن الفضيل بن عياضٍ: ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبةُ الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي". وقيل: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى، بأن جمع لها السحرة، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل. ويجوز: سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها وتسميتها سحراً بإهلاكهم ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي وضع (دار الفاسقين) موضع "أرض مصر" الإشعار بالعلية، والتنبيه على أن تخترزوا، ولا تستنوا بسنتهم من الفسق، وإليه الإشارة بقوله: "فلا تفسقوا مثل فسقهم". وفيه التفات أيضاً، لأن أصل الكلام: (وامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)، سأريهم دار الفاسقين، ليجدوا، ولا يتهاونوا في امتثال الأمر. وعلى قراءة: "سأورثكم" بالثاء المثلثة، يكون تغليباً، لأن المعنى: سأورثك وقومك أرض مصر، فالجملة استئنافية، على سبيل التعليل للأمر، وعلى المشهورة: الخطاب مخصوص بالقوم، لأن المعنى: ليعتبروا ولا يفسقوا. قوله: (سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا): فعلى هذا: الكلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفيه إنذارٌ للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم، فيسلك بهم سبيلهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيكون متصلاً بما سبق من قصتهم، وهي: (أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ونَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [الأعراف: 100]، فيكون إيراد قصة موسى وفرعون للاعتبار كما قال: "وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون"، فقوله: (وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا) الآية عطف على قوله: (يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ). وعلى الأول الآية عامة، وعطف (وإن يروا) على (سأصرف) للتعليل، على منوال قوله: (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15] على رأي صاحب "المفتاح"، ولذلك جاء بالفاء في "فلا يفكرون فيها"، أي: سأصرف عن آياتي الغافلين المشتغلين بالدنيا، فلذلك لا يتفكرون في الآيات، ولا يعتبرون بها، ويجوز على هذا، أن يكون متصلاً بقوله: (وامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)، أي: الأمر كذلك، وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة. قال الإمام: "واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله قد يمنع عن الإيمان، ويصد عنه". وفي "الوسيط": "سأصرفهم عن قبول آياتي، والتصديق بها، لعنادهم الحق".

(بِغَيْرِ الْحَقِّ) فيه وجهان: أن يكون حالاً، بمعنى: يتكبرون غير محقين، لأنّ التكبر بالحق لله وحده، وأن يكون صلةً لفعل التكبر، أي: يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) من الآيات المنزلة عليهم (لا يُؤْمِنُوا بِها)، وقرأ مالك بن دينار: "وإن يروا" بضم الياء. وقرئ: (سبيل الرشد) و"الرشد" و"الرشاد"، كقولهم: السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقاً مستقيماً أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفاً مُردياً أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (لأن التكبر بالحق لله تعالى): المعنى مقتبس من قوله صلوات الله عليه: "قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري. فمن نازعني في واحدٍ منهما قذفته في النار". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وقريب منه أخرجه مسلم عن أبي سعيد. قال الزجاج: "معنى (يتكبرون): يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وهذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى خاصة، لأن الله له القدرة والفضل على الكمال، وليس لأحدٍ أن يتكبر، لأن الناس في الحقوق سواء". قوله: (وما هم عليه من دينهم) عطف تفسيري على قوله: "ما ليس بحق"، فعلى هذا: (يتكبرون) بمعنى: يتعززون، أي: يتعززون بالباطل، وبما يؤديهم إلى الذل والهوان، ولا يرفعون للحق رأساً. فقوله: (وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا) مع ما عطف عليه مناسب بهذا الوجه. قوله: (وقرئ: (سبيل الرشد) و"الرشد": حمزة والكسائي: بفتحتين، والباقون: بضم الراء وإسكان الشين، و"الرشاد": شاذ

(ذلِكَ) في محل الرفع أو النصب؛ على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه، (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي: ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف؛ بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الآخرة. [(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ* وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)]. (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد فراقه إياهم إلى الطور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله (من بعده): من بعد فراقه إياهم إلى الطور)، فيكون: (واتخذ قوم موسى) عطفاً على قوله: (وواعدنا موسى) [الأعراف: 142] عطف قصةٍ على قصة. وذلك أنه تعالى لما أخبر أن بني إسرائيل لما جاوزوا البحر، بعد إغراق فرعون، ورأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً، أي: يتخذ لهم أصناماً مثل تلك الأصنام، ليعكفوا على عبادتها، كما كانوا عاكفين، وأجابهم نبي الله ذلك الجواب العنيف، أخبر بعد ذلك عن حاله عليه السلام مع ربه عز وجل وفراقه إياهم إلى الطور، وعن حال قومه بعده، وانتهازهم تلك الفرصة، لتحقيق متمناهم. ويؤيد هذا التأويل ما رواه المصنف عن ابن جريج في وصف تلك الأصنام: "كانت تماثيل بقر"، وذلك أول شأن العجل، فعلى هذا الوجه يكون (واتخذ) مما يتعدى إلى مفعولين، وأن المعنى: "واتخذوا"، أي: العجل الموصوف إلهاً، كما تمنوا.

فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلاً، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميمٍ قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني: أن يراد: واتخذوه إلهاً وعبدوه. وقرئ: (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بضم الحاء والتشديد، جمع حلي، كثدي وثديّ، "ومن حليهم" بالكسر للإتباع كدلي، و"من حليهم" على التوحيد. والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. فإن قلت: لم قال: (من حليهم)، ولم يكن الحليّ لهم، إنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي إفراد الضمير في (بعده) الدلالة على أن موسى عليه السلام فارق القوم إلى الطور وحده، ولم يصحب معه أولئك السبعين، الذين طلبوا الرؤية كما زعم. قوله: (فيما بين ظهرانيهم)، الجوهري: "يقال: هو نازل بين ظهريهم وظهرانيهم، بفتح النون". النهاية: "وفي الحديث: "فأقاموا بين ظهرانيهم وبين أظهرهم"، أي: أنهم أقاموا بينهم، على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم. وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة، تأكيداً، وقد مر في "البقرة" أبسط منه. قوله: (وقرئ: (من حليهم) بالضم والكسر): حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بالضم.

وكونها عواري في أيديهم كفى به ملابسةً على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء: 57 - 59]. (جَسَداً): بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد. والخوار: صوت البقر، قال الحسن: إن السامري قبض قبضةً من ترابٍ من أثرِ فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في العِجل، فكان عِجلاً له خُوار. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: "جؤار" بالجيم والهمزة، من جأر: إذا صاح، وانتصاب (جَسَدًا) على البدل من (عِجْلاً). (أَلَمْ يَرَوْا) حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلامٍ ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أنهم قد ملكوها): إعراض عن الجواب، ورد للسؤال، وأن الحلي كانت عواري في أيديهم، بل كانت ملكاً لهم، ملكوها كسائر ما ملكوا من فرعون وقومه. قوله: ((جسداً): بدناً ذا لحم ودم)، الراغب: "الجسد كالجسم، لكنه أخص، قال الخليل: لا يقال: الجسد، لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضاً فإن الجسد يقال لما له لون، والجسم يقال لما لا يبين له لون، كالماء والهواء، وقال تعالى: (ومَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَاكُلُونَ الطَّعَامَ) [الأنبياء: 8] يشهد لما قال الخليل. وقال: (عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) وقال: (وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) [ص: 34]، وباعتبار اللون قيل للزعفران: جساد، وثوب مجسد: مصبوغ بالجساد، والمجسد: الثوب الذي يلي الجسد". قوله: (حتى لا يختاره على من لو كان البحر مداداً لكلماته): يريد: أن قوله: (لا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تعريض بالإله الحق، وبعلمه الشامل، وبهدايته الواضحة، ولو

وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقالك (اتَّخَذُوهُ) أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المُنكر، (وَكَانُوا ظَالِمِينَ): واضعين كل شيءٍ في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أول مناكيرهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعله تعريضاً بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وبهدايته لقومه، لأن المقام يقتضيه، كان أحسن. قوله: (ثم ابتدأ فقال: (اتخذوه)): عطف على مقدر، يعني: ذكر الله تعالى ظلم القوم، وإيثارهم ما لا يكلمهم ولا يهديهم، على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، ومن هدى الخلق إلى سبيل الحق، ثم أراد أن يوصل به قوله: (وكانوا ظالمين) تذييلاً وتوكيداً لوضع الشيء في غير موضعه ابتداء، فقال: (اتخذوه)، وعلق به التذييل مزيداً للتبجيل. فقوله تعالى: (اتخذوه) كنايةً عن المذكور السابق، ولهذا قال: "أقدموا على ما أقدموا عليه". وقوله: (فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أول مناكيرهم) تقدير لمعنى التذييل.

(وَلَمَّا سُقِطَ في اَيّدِيِهِمْ): ولما اشتدَّ نَدمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. و (سُقط) مسندٌ إلى (في أيديهم) وهو من باب الكناية. وقرأ أبو السميفع: "سقط في أيديهم"، على تسمية الفاعل، أي: وقع العض فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولما سقط في أيديهم): ولما اشتد ندمهم): إنما قال: "اشتد" لأنه كناية عن "ندموا"، والكناية أبلغ. والأصل: سقط فوه في يده، لأن النادم يعض أنامله، ويقرع أسنانه عليها، ثم بني للمفعول، نحو مر بزيدٍ، وسير بعمرو. وأما قراءة ابن السميفع: (سقط في أيديهم) على إضمار الفاعل، فوجهها أن يكون الفاعل أيضاً الفم، والذي شجعه على إضماره استمرار الاستعمال فيما لم يسم فاعله، واشتهاره في معنى الندم، وصيرورته مثلاً فيه. ومن ثم جسر الزجاج، حتى قال: "سقط الندم في أيديهم". فإن قلت: قوله: "تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين" يؤذن بأنه من الاستعارة التمثيلية، فهل ينافي قوله: "وهو من باب الكناية"؟ قلت: لا، لأن الكناية الإيمائية عبارة عن أخذ الزبدة من مجموع الأشياء المتوهمة، فهي مسبوقة بالاستعارة التمثيلية، لأن الوجه في التمثيلية منتزع من عدة أمورٍ متوهمة، فإذا نزر إلى مفردات التركيب، قيل: استعارة، وهي مسبوقة بالتشبيه، وإذا نظر إلى زبدة المجموع من حيث هي هي، قيل: كناية إيمائية، وهي مسبوقة بالاستعارة.

وقال الزجاج: معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد ويُرى بالعين، (ورأوا أنهم قد ضلوا): وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ: "لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا" بالتاء، و"ربنا" بالنصب على النداء، وهذا كلامُ التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام: (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا) [الأعراف: 23]. [(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَاسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "لئن لم ترحمنا ربنا"): حمزة والكسائي: بالتاء على الخطاب، ونصب الباء، والباقون: بالياء على الغيبة، ورفع الباء. قوله: (وهذا كلام التائبين) لأن في ذكر الرب وتخصيص الرحمة والغفران الاستعطاف، وفي ذكر الخسران الهضم، ونحوه قول القائل: إلهي، عبدك العاصي أتاكا ... مقراً بالذنوب وقد دعاكا

الأَسِف: الشديدُ الغضب؛ (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) [الزخرف: 55]، وقيل: هو الحزين، (خَلَفْتُمُوني): قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله: (اخْلُفْنِي فيِ قَوْمِي) [الأعراف: 142]، والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيثُ لم تكفوا من عَبَدَ غير الله. فإن قلت: أين ما تقتضيه "بئس" من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت: الفاعل مضمرٌ يفسره "ما خلفتموني"، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس خلافةٌ خلفتمونيها من بعد خلافتكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأسف: الشديد الغضب) إلى قوله: (هو الحزين)، الراغب: "الأسف: الحزن والغضب معاً، وقد يقال لكل منهما على الإنفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان على من دونه، انتشر، فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه، انقبض، فصار حزناً، ولذلك لما سئل ابن عباسٍ عن الحزن والغضب، فقال: مخرجهما واحد، واللفظ مختلف". قوله: (الفاعل مضمر يفسره "ما خلفتموني")، قيل: إنما خص بالمضمر، لأن "ما خلفتموني" إما أن يكون فاعل "بئس" أو المخصوص بالذم، أو المفسر للفاعل المستكن في "بئس"، لا يجوز أن يكون فاعل "بئس"، لأن "ما خلفتموني" مفصل، وفاعل "بئس" يجب أن يكون مبهماً، ولا يجوز أن يكون المخصوص بالذم، لأنه يبقي "بئس" بلا فاعل، لأنه إنما يضمر فاعل "بئس" بشرط أن يعقبه المفسر، فبقي أن يكون مفسراً لفاعل "بئس" المضمر.

فإن قلت: أي: معنى لقوله: (مِنْ بَعْدِي) بعد قوله: (خَلَفْتُمُونِي)؟ قلت: معناه: من بعد ما رأيتم مني؛ من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو: من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا: (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 128]. ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه، ونحوه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [مريم: 59] أي: من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي معنى لقوله: (من بعدي)، بعد قوله: (خلفتموني))، يريد أن الخليفة هو الذي يخلف المنوب فيما كان قائماً فيه بعد تخلفه، فلفظ (بعدي) كالتكرير. وخلاصة الجواب أنه من باب قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ) [النحل: 26]، ومعلوم أن السقف لا يكون إلا من فوق، وفائدة ذكره تصوير حالة الخرور في الذهن وما يتصل منه إلى المخرور عليه، تهويلاً وتخويفاً، وكذلك قال: (من بعدي) تصويراً لمعنى نيابة المستخلف، ومزاولة سيرته، وسلوك هديه. ولذلك قال: "ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده". ولما كان جل هدي الأنبياء وسمتهم، الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالعبادة بالإخلاص، والنهي عن الشرك والرذائل، قال مرة: "ما رأيتم مني من توحيد الله وإخلاص العبادة له"، وأخرى: "من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، والنهي عن عبادة البقر". ولما كان ديدن أصحاب الأنبياء محافظة الصلوات، والاعتزال عن ملاذ الدنيا وشهواتها، استشهد بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) [مريم: 59]. فقوله:

يقال: عجل عن الأمر: إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى "سبق" فيتعدى تعديته، فيقال: عجلت الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدَّثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "من بعد ما رأيتم مني" بناءً على أن الخطاب مع عبدة العجل، وقوله: "ومن بعد ما كنت أحمل" بناءً على أن الخطاب مع وجوه بني إسرائيل. قوله: (تم عليه)، الأساس: "تم على أمر: مضى عليه". ونحوه: عجل عنه، في معنى: شرع فيه، ولم يتم. "وأعجلته عن استلال سيفه: كلفته أن يعجله". قوله: (وأعجله عنه غيره): عطف على قوله: "عجل عن الأمر: إذا تركه غير تام". قوله: (وما وصاكم به) عطف على سبيل البيان على قوله: "عهده". ويؤيده رواية: "ما وصيتم به". وقوله: "وهو انتظار موسى حافظين لعهده" من كلام المصنف؛ تفسير للأمر، اعتراض بين "أعجلتم" ومتعلقه، وهو: "فبنيتم". ويجوز أن يكون "وما وصاكم به" عطفاً على "أمر ربكم" على أن يكون من كلام موسى عليه السلام، وقوله: "وهو انتظار موسى حافظين لعهده" من كلام المصنف؛ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، فـ"الأمر" في (أعجلتم أمر ربكم): واحد الأمور والشؤون.

وروي أنّ السامري قال لهم- حين أخرج لهم العجل وقال: (هذا إلهكم وإله موسى) [طه: 88]-: إن موسى لن يرجع، وإنه قد مات. وروي: أنهم عدّوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا. (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ): وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضباً لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: (أعجلتم أمر ربكم) أي: ميعاد ربكم، فلم تصبروا له. وعن الحسن: وعد ربكم الذي وعده من الأربعين. وقال عطاء: أعجلتم سخط ربكم؟ . وهو المراد من قوله: "وهو انتظار موسى حافظين لعهده". ويجوز أن يراد به: واحد الأوامر، أي: سبقتم ما أمر الله تعالى من انتظاري المدة المضروبة، يعني قول الله تعالى: انتظروا موسى أربعين يوماً حافظين لما وصاكم به، فقوله: "حافظين"، حال من فاعل المصدر المضاف إلى المفعول، وقيل: هو حال من فاعل "أعجلتم"، وليس بشيء. قوله: (وروي أنهم عدوا عشرين يوماً): روى الإمام عن الحسن: "وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين". وقلت: هذا الميعاد غير ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام في قوله تعالى: (ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) [الأعراف: 142]، لقرب ميعاد موسى قبل مضية إلى الطور، لقوله تعالى: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف: 142]. وميعاد القوم عند مضية لقوله تعلى: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ).

وروي: أن التوراة كانت سبعة أسباعٍ، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبعٌ واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة. (وَأَخَذَ بِرَاسِ أَخِيهِ) أي: بشعر رأسه (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) بذؤابته، وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه فرط في الكف. (ابْنَ أُمَّ) قرئ بالفتح تشبيها بـ"خمسة عشر"، وبالكسر على طرح ياء الإضافة، "وابن أمي"، بالياء، "وابن إمِّ" بكسر الهمزة والميم. وقيل: كان أخاه لأبيه وأمّه، فإن صح فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطنٍ واحد. وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدَّ بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد، فذكره بحقها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة)، وروى محيي السنة: "فرفع ما كان فيه من أخبار الغيب، وبقي ما فيه من المواعظ والأحكام". هذه الرواية منافية لما رواه قبل هذا: "أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى". ورواه محيي السنة عن الربيع بن أنس. وما ذلك إلا من قلة ضبط الرواة، وعدم إتقان الناقلين، جزى الله المحدثين خيراً. قوله: (ابن أم) قرئ بالفتح)، ابن عامر وأبو بكرٍ والكسائي: بكسر الميم، والباقون: بفتحها.

(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) يعني: أنه لم يأل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار، وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ): فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إليّ، وقرئ: "فلا يشمت بي الأعداء"، على نهي الأعداء عن الشماتة، والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله، (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): ولا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي قريناً لهم وصاحباً. أو: ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "من قرأ بالفتح، فلأن كثرة الاستعمال دعا إلى الخفة، وأن النداء مظنة الحذف، فجعلوا "ابن أم" شيئاً واحداً. ومن العرب من يقول: يا ابن أمي، بإثبات الياء". قوله: (فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة)، الراغب: "الشماتة: الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك، يقال: شمت به، فهو شامت، والتشميت: الدعاء للعاطس، كأنه إزالة الشماتة عنه بالدعاء له، فهو كالتمريض في إزالة المرض". قوله: (في موجدتك)، الأساس: "وجد عليه موجدة: غضب عليه". قوله: (أو: ولا تعتقد أني واحد من الظالمين) من باب الكناية، والفرق بين الوجهين هو أن في الوجه الأول قيد مطلق قوله: (ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) بحالة الغضب، وإرادة الانتقام. وفي الوجه الثاني أبقاه على إطلاقه، ولكن جعل "الجعل" بمعنى الاعتقاد من باب قوله تعالى: (وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا) [الزخرف: 19].

لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي)؛ ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستغفر لنفسه .... ولأخيه إن عسى فرط في حسن الخلافة)، في التركيب إشكال، وهو أن "عسى" تقتضي أن يؤتى لها إما باسمٍ وخبر، وشرط الخبر أن يكون "أن" مع الفعل المضارع. وربما يستعمل بغير "أن" تشبيهاً لها بـ"كاد"، نحو قوله: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب وقد يجئ خبرها اسماً منصوباً، للرجوع إلى أصله المتروك، نحو قولها: "عسى الغوير أبؤساً". وإما بـ"إن" والفعل خاصة، فيستغنى بذلك عن اسمٍ قبلها، نحو: "عسى أن يخرج زيد"، وهي في هذا التركيب غير واقعة على إحدى هذه الصور. فما وجهه؟ فيقال: لا شك أن أفعال المقاربة، وأفعال القلوب، والأفعال الناقصة، تشترك في معنى كونها من دواخل المبتدأ والخبر.

وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "اللباب": "ويتصل بهذه الأفعال "كان" وأخواتها، لأنها لا تتم بالمرفوع كلاماً". تم كلامه. وكما جاز مجيء "كان" و"ظننت" زائدتين، في نحو قول الشاعر: وجيرانٍ لنا كانوا كرامٍ وقولهم: زيد ظني مقيم، كذا هذا، على أن الأخفش أجاز زيادة "كاد" مستدلا بقوله تعالى: (إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) [طه: 15]. فعلى هذا لا يبعد أن تكون "عسى" في تركيب "الكشاف" زائدة. المعنى: واستغفر موسى لأخيه أن فرط في حسن الخلافة، ثم أقحم "عسى" لإعطاء تأكيد معنى "إن" الشرطية، وهو الخلو عن الجزم بوقوع الشرط. قيل: فيه ضمير عائد إلى التفريط، وخبره محذوف، أي: عسى التفريط أن يكون حاصلاً. قال ابن الحاجب في "شرح المفصل" في "التنازع": "إن خبر "عسى" قد يحذف". قوله: (ولا تزال - أي: الرحمة - منتظمةً لهما في الدنيا والآخرة): هذا الدوام إنما يعطيه جعل الرحمة كالدار التي يدخلها أهلها وساكنوها، وتقييده بالجملة الاسمية، وهو قوله:

[(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)]. (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ) الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: خروجهم من ديارهم، لأنّ ذل الغربة مثلٌ مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم- وهم بنو قريظة والنضير- من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية. (الْمُفْتَرِينَ): المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى [طه: 88] ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وأنت أرحم الراحمين)، وهذا من أسلوب قوله: (وأصلح لي في ذريتي) [الأحقاف: 15]. قوله: (الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم): قال محيي السنة: "هو قول أبي العالية". وقلت: وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادة العجل بقوله: (ولَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ورَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا)، والندم توبة، ولذلك عقبوه بقوله: (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ويَغْفِرْ لَنَا)، وذكر غضب موسى على أخيه عليهما السلام ثم استغفاره بقوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي ولأَخِي) - اتجه لسائلٍ أن يقول: يا رب إلى ماذا مصير ندم القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله؟ وهل قبل الله توبتهم؟ فأجاب: (إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ)، أي: نعم، قبل توبة موسى وأخيه، وغفر له ولأخيه خاصة، وكان من تمام توبة القوم أن أمرهم الله تعالى بقتل أنفسهم، فوضع (الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ) موضع "القوم" إشعاراً بالعلية، والله أعلم.

ويجوز أن يتعلق (في الحياة الدنيا) بـ"الذلة" وحدها، ويراد: سينالهم غضبٌ في الآخرة، وذلةٌ في الحياة الدنيا، (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) [البقرة: 61]. [(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي كلها، (ثُمَّ تابُوا): ثم رجعوا، (مِنْ بَعْدِها) إلى الله واعتذروا إليه (وَآمَنُوا) وأخلصوا الإيمان، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها): من بعد تلك العظائم، (لَغَفُورٌ): لستورٌ عليهم محاءٌ لما كان منهم، (رَحِيمٌ): منعم عليهم بالجنة، وهذا حكمٌ عامٌ يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظم جنايتهم أولاً ثم أردفها تعظيم رحمته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يتعلق (في الحياة الدنيا) بـ"الذلة" وحدها): عطف من حيث المعنى على قوله: "الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم"، لأنه - على الأول - متعلق بالغضب والذلة معاً. قوله: (عظم جنايتهم أولاً): يعني جمع (السيئات) وعرفها باللام الاستغراقي، ثم أعادها بعد ذكر التوبة في قوله: (من بعدها)، وعطف "آمنوا" على (تابوا)، تعظيما للذنب، وعقب ذلك بوصف الربوية، ثم أعاد لفظ (بعدها) لشدة العناية، وأردفها بقوله: (لغفور رحيم) ليفيد تلك الفائدة التي ذكرها. ومثله في المعنى، وتكرير "بعد" للطول، قوله تعالى: (ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل: 119].

ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة، وهي وجوب التوبة والإنابة، وما وراءه طمعٌ فارغٌ وأشعبيةٌ باردة، لا يلتفت إليها حازم. [(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)]. (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوة وكرمة أعظم وأجل)، أخذ هذا المعنى من أبي نواس: يا رب، إن عظمت ذنوبي كثرةً ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم! قوله: (وما رواءه طمع فارغ) تعريض بأهل السنة، وهم لا يمتنعون في هذه الآية من حفظ تلك الشريطة، لأن التوبة فيها مقترنة بالإيمان، مصحوبة به، والآية بجملتها تذييل لحديث عبدة العجل، وإنما الكلام في توبة المؤمن الموحد المرتكب للمعاصي. قوله: (هذا مثل) أي: ليس بحقيقة، وهو استعارة مكنية مقارنة بالتخييلية. شبه الغضب بإنسانٍ يغري موسى عليه السلام ويقول له: افعل كذا وكذا، ثم يترك كلامه، ويترك الإغراء.

كل ذي طبع سليم وذوقٍ صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: "ولما سكن عن موسى الغضب"، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة، وطرفاً من تلك الروعة؟ ! وقرئ: "ولما سُكِّتَ". و"أُسْكِتَ"، أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها، (وَفِي نُسْخَتِها): وفيما نسخ منها، أي: كتب، والنسخة: فعلة بمعنى: مفعول، كالخطبة (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً، ونحوه (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43] وتقول: لك ضربت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجعلها صاحب "المفتاح" استعارةً تبعية، لأنه استعار لتفاوت الغضب عن اشتداده إلى السكون، إمساك اللسان عن الكلام. والظاهر الأول. قوله: (لا تجد النفس): حال من المجرور في "فما لقراءة معاوية"، كقولك: ما لك لا تضرب؟ ! قوله: (الروعة)، الأساس: "رعته، وروعته، وارتعت منه، وأصابته روعة الفراق. ومن المجاز: فرس رائع: يروع الرائي بجماله. وكلام رائع: رائق". قوله: (وتنصله) وهو من: تنصل فلان من ذنبه: تبرأ. قوله: (والنسخة: فعلة)، نون "فعلة" لأنه تابع لموزونها.

[(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِين* وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)]. (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي: من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله: ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحةً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب: "هذه الأمثلة وضعت لموزونها أعلاماً، على الإيجاز، نحو: أسامة، على قول"، إلى قوله: "وإن كان موزونها مذكوراً معها، كقولك: وزن قائمة: فاعلة، منهم من يجعل له حكم نفسه، فلا يصرفه، ومنهم من يجعل له حكم الموزون فيصرفه". كذا في هذا المقام، لأن "النسخة" مصروفة. قوله: (منا الذي اختير الرجال سماحةً): وأنشد الزجاج تمامه: وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

قيل اختار من اثني عشر سبطاً، من كل سبطٍ ستةً، حتى تتاموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيت للفرزدق. والزعازع: الرياح الشديدة، والأصل: اختير من الرجال، يصف قومه بالسماحة والجود، في فصل الشتاء، الذي فيه تنقطع الميرة عن أهل البوادي، وتعز الأقوات، ويعدم المرعى، فمن كان يجوز في ذلك الوقت، ففي غيره من الأوقات أجود. وهو من أبيات "الكتاب". وقيل: هذا البيت إذا روي: "ومنا" بالواو، يكون ظاهر التقطيع، وإن روي بغيرها يكون أخرم. فنقول: ومن نل / فعولن، لذي اختيرر / مفاعيلن. وكذا نقول: من نل / فعلن، لذي اختيرر / مفاعيلن. والباقي ظاهر. قوله: (حتى تتاموا)، النهاية: "وفي الحديث: "تتامت إليه قريش"، أي: جاءته متوافرة متتابعة". الأساس: "اجتمعوا، فتتاموا عشرة".

وروي: أنه لم يصب إلا ستين شيخاً، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخاً. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا، لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سُجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) [البقرة: 55]، فقال: (رب أرني أنظر إليك)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية) إلى قوله: (فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ))، هذا التأويل مبني على أن هذه القصة هي القصة الأولى، وهي على خلاف نظم الآيات، وأقوال المفسرين. أما نظم الآيات فظاهر. قال الإمام: "إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام، وطلب الرؤية، ثم أتبعها بذكر قصة العجل وما يتصل بها. وظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرةً القصة المتقدمة. ولا يليق بالفصاحة أن يذكر بعض القصة، ثم ينتقل إلى أخرى، ثم يرجع إلى القصة الأولى، فإنه يوجب نوعاً من الاضطراب. والأولى صون كلام الله المجيد عنه. وأيضاً، إنه تعالى ذكر في القصة الأولى أنه خر موسى صعقاً، وجعل الجبل دكاً. وذكر في شأن القوم أخذتهم الرجفة دون موسى. وكيف يقال: إن أخذته الرجفة، وهو الذي قال: (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي). السفهاء؟ ولم يقل لو كانت الرجفة إنما حصلت بسبب طلب رؤيتهم، لقال: أتهلكنا بما يقوله "بما فعل"، والفعل هو عبادة العجل".

يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب (لن تراني)، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة (قالَ) موسى: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)، وهذا تمنٍّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأي: من تبعة طلب الرؤية، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وقال في "البقرة": (وإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة: 55 - 56]، ولم يذكر فيه صعقة موسى عليه السلام ولا طلب الرؤية منه. وأما أقوال المفسرين، فقد روى محيي السنة عن السدي أنه قال: "أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55]، فأخذتهم الصاعقة". وذكر في القصة الأولى: "أن الله تعالى أنزل ظلمة في سبعة فراسخ: فطرد عنه الشيطان، وهوام الأرض، وكشطت له السماء، فرأى الملائكة قياماً في الهواء، ورأى العرش بارزاً، وكلمه الله، وناجاه، فاستحلى كلام الله، واشتاق إلى رؤيته، فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ) ". وكذا ذكر الواحدي، وابن الأثير في "التاريخ الكامل". ونعوذ بالله من إبطال الحق، وكيد الشيطان، وندعوه تعالى أن يتجاوز عن المصنف بالغفران. قوله: ((لو شئت أهلكتهم من قبل وإيي)، وهذا تمن منه للإهلاك)، وطريقة إفادته

كما يقول النادم على الأمر إذا رأي: سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكني قبل هذا. (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) يعني: أتهلكنا جميعاً؟ يعني: نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً وجهلاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التمني أن "لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، فناسبت معنى التمني، لأنها لطلب غير الواقع واقعاً، وضم معها حصول ما يوجب الندم من تبعة طلب الرؤية، كما قال، فالمعنى: ليت مشيئتك تعلقت بإهلاكنا قبل. وقلت: إنما ذهب إلى هذا المعنى ليوافق ما أسس عليه مذهبه، وهو خلاف الظاهر، لأن "لو" للامتناع، وإنما يتولد معنى التمني إذا اقتضاه المقام، وهاهنا المقام يقتضي ألا يهلكهم حينئذ، لقوله: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ)؟ قال محيي السنة: "لما رأوا الهيبة، أخذتهم الرعدة، فرحمهم موسى، وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء مطيعين، وذلك قوله: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ). وقال القاضي: "عنى بقوله: (شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم): أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك، بحمل فرعون عليهم، أو إغراقهم في البحر، فترحمت عليهم بالإنقاذ منها، فإن ترحمت عليهم مرة أخرى، لم يبعد من عميم إحسانك". قوله: (سوء المغبة)، الجوهري: "غب كل شيء: عاقبته. وقد غبت الأمور، أي: صارت إلى أواخرها". قوله: (يعني: أتهلكنا جميعاً؟ يعني: نفسه وإياهم): يريد أنه استبعد هلاك نفسه لإهلاك القوم، يدل عليه قوله: "لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً".

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي: محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ): تُضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدىً منه، لأن محنته لما كانت سبباً لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم؛ على الاتساع في الكلام، (أَنْتَ وَلِيُّنا): مولانا القائم بأمورنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال محيي السنة: " (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) يعن: عبدة العجل، ظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل". والظاهر أن الفاء في قوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فصيحة، إذ التقدير: واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا، فحضروا الميقات، وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الرجفة، فلما أخذتهم الرجفة قال: "رب .... ". يدل عليه ما في "البقرة": (وإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) [البقرة: 55]. قوله: ((إن هي إلا فتنتك) أي: محنتك [وابتلاؤك] حين كلتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية): قال محيي السنة: " (إن هي إلا فتنتك)، أي: التي وقع فيها السفهاء". وقال القاضي: "أوجدت في العجل خواراً، فزاغوا به".

(وَاكْتُبْ لَنا): وأثبت لنا واقسم (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً): عافيةً وحياةً طيبةً وتوفيقاً في الطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة، (هُدْنا إِلَيْكَ): تبنا إليك. وهاد إليه يهود: إذا رجع وتاب، والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم: يا راكب الذّنب هدهد ... واسجد كأنّك هدهد وقرأ أبو وجرة السعدي: "هدنا إليك" بكسر الهاء، من هاده يهيده: إذا حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين: أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى: حركنا إليك أنفسنا وأملناها، أو حرّكنا إليك وأملنا؛ على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت؛ من العيادة. ويجوز: "عدت" بالإشمام، و"عدت" بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض، وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون (هُدْنا) بالضم: فعلنا؛ من هاده يهيده. (عَذابِي) من حاله وصفته أني (أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي: من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغٌ لكونه مفسدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ثم قوله: (أَنتَ ولِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا وأَنتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ) شروع فيما جاء به وقومه من الاعتذار، على ما سبق قوله عن السدي، "إنه أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل". قوله: (ويحتمل أمرين)، أي: القراءة بكسر الهاء. قوله: ((عذابي) من حاله وصفته أني (أصيب به من أشاء)) إلى آخره، يشير إلى أن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وهذا - أعني قوله: (عذابي أصيب به من أشاء

وأمّا "رَحْمَتِي" فمن حالها وصفتها أنها واسعةٌ تبلغ كل شيء، ما من مسلمٍ ولا كافرٍ ولا مطيعٍ ولا عاصٍ إلا وهو متقلبٌ في نعمتي. وقرأ الحسن: "من أساء" من الإساءة، فسأكتب هذه الرحمة كتبةً خاصةً منكم - يا بني إسرائيل - للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورحمتي وسعت كل شيءٍ) - كالتمهيد للجواب، والجواب: (فسأكتبها). طلب موسى عليه السلام الغفران والرحمة والحسنة في الدارين، لنفسه ولأمته خاصة، بقوله: (واكتب لنا)، وتعليله بقوله: (إنا هدنا إليك). وأجابه تعالى: بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة، فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي، فإن أمتك، لو تعرضوا لما اقتضى الحكمة تعذيب من باشره، لا ينفعهم دعاؤك لهم، وإن رحمتي من شأنها أن تعم الخلق: صالحهم وطالحهم، مؤمنهم وكافرهم، فتخصيصك لأمتك بقوله: (واكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) [الأعراف: 156] تحجر للواسع. قوله: (فسأكتب هذه الرحمة كتبةً خاصة منكم يا بني إسرائيل)، "من" في "منكم": للذين يكونون. وشاهد الاختصاص ترتب (فسأكتبها) على الأوصاف المتواليات، ومنها قوله: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ) الآية. ولا شك أن الموصوف بها لم يوجد إلا في زمن نبي الرحمة صلوات الله عليه ممن آمن منهم. وأما تطبيق هذا الكلام على دعاء موسى عليه السلام فإن قوله: (فسأكتبها) كالقول بالموجب، لأنه عليه السلام جعل العلة الوصف بكونهم تائبين راجعين من الذنوب إليه، بقوله: (إنا هدنا إليك). ولما لم يكن الوصف كافياً قرره وضم معه الوصف بالتقوى،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبأداء الزكاة، والإيمان بجميع الكتب المنزلة، وسائر الآيات، ومتابعة النبي الأمي، حبيبه صلوات الله عليه. يعني: الذي يوجب اختصاص الحسنتين معاً هذه الصفات المتعددة، لا التوبة المجردة، وجعل قوله: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) تمهيداً وتوطئة للجواب. يعني: أن الحسنة الدنيوية عامة، فلا تختص بأمتك، فإن المؤمن والكافر، والبر والفاجر، يعيشون برحمته، وأما الحسنة الأخروية فمختصة بالمتقين، كما أن عذابي مصيب لمن لم يكن متقياً. ثم رتب على هذا التقرير بالفاء قوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى آخره. وهو على منوال قوله تعالى جواباً عن قول إبراهيم عليه السلام: (ومن ذريتي)، أي: اجعل من ذريتي للناس إماماً (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124]. ويؤيد هذا التقرير ما روى محيي السنة عن الحسن وقتادة: "وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة". وأما قضية النظم فهو أنه تعالى لما أورد في هذه السورة قصص الأنبياء، وأحوال القرون الماضية، ومن جملتها قصة موسى عليه السلام، وأراد أن يتخلص منها إلى مدح سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، حكى من موسى هذا الدعاء، ليورد عليه الجواب على

الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيءٍ منها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأسلوب الحكيم، ويجعله تخلصاً إلى ذكر أمته صلي الله عليه وسلم ثم يتخلص من ذكرهم إلى مدحه صلوات الله عليه. ولهذا قال صاحب "المثل السائر": "هذا من التخلصات الفائقة التي تسكر العقول، وتحير الأوهام". وقلت: ما أحسن تعقيبه بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا)! يعني: اسمعوا، أيها اليهود خاصة، هذا الدعاء والإجابة، واعلموا أن نبيكم وكتابكم شاهدان بأن اختصاص الحسنتين إنما يكون بالتقوى، وبمتابعة النبي الأمي المكتوب اسمه في التوراة والإنجيل، وهو تبكيت لليهود، وتنبيه لسائر الناس على افتراء اليهود أنه مبعوث إلى العرب خاصة. وذلك أن بعض اليهود كانوا يقولن: إنه مبعوث إلى العرب خاصة. قال الزجاج: "هذا أبلغ الاحتجاج عليهم، لأنه إخبار بما في كتبهم. فمن لم يكتب، ولم يقرأ، ولم يسمع، فإيتاؤه بما في كتبهم من آياته العظام". قوله: (هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيءٍ منها) دل على الاختصاص:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به، وهو القرآن، (النَّبِيَّ): صاحب المعجزات، (الَّذِي يَجِدُونَهُ): يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل، (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ)، (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ): ما حُرِّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها، أو ما طاب في الشريعة والحكم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقديم، وعلى الاستغراق: جميع الآيات، وإضافتها إلى الله، وكون الكلام تعريضاً ببعض أمة موسى، وهم الذين أومى إليهم بقوله: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) والله أعلم. قوله: ((النبي): صاحب المعجزات)، إشارة إلى أنه تعالى جمع بين ذكر الرسول والنبي في الوصف، ولابد من المخالفة بين مفهوميهما، وذكر في سورة "مريم" أن "الرسول: هو الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي: الذي ينبئ عن الله، وإن لم يكن معه كتاب"، وإلى الأول الإشارة بقوله: (الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به"، وإلى الثاني بقوله: " (النبي): صاحب المعجزات"، لأنه لابد لكل من ادعى النبوة من معجزة، ليثبت دعواه بها. قال الزجاج في قصة "شعيب": "وقد أخطأ القائل بقوله: لم يكن لشعيبٍ آية. ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية، لم يقبل منه". قال القاضي: "إنما سماه رسولاً بالإضافة إلى الله، ونبياً بالإضافة إلى العباد". قوله: (أو ما طاب في الشريعة والحكم) عطف على قوله: "ما حرم عليهم من الأشياء"، والطيبات: إما بحسب ملاءمة الطبع من الأشياء المستلذة. وهي ما حرم الله عليهم، من

مما ذُكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت، (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ): ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أُهِلّ لغير الله به، أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي: يحبسه من الحراك لثقله، وهو مثلٌ لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو: اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وكذلك الأغلال، مثلٌ لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأً من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لحوم الإبل، والشحوم، وغيرها. وإما بحسب الشرع والحكم، وهو إما في المأكول أو في غيره. وإلى الأول أشار بقوله: "مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح"، وإلى الثاني بقوله: "وما خلا كسبه من السحت". وأما "الخبائث" فهو: إما بحسب استخباث العقل، كالدم والميتة، وإما بحسب الحكم، كالربا والرشوة. والطيبات - على التفسير الثاني - هو أحرى، لاقتضاء المقام، لأن قوله: (ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) عطف على قوله: (يَامُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ). والجملة بيان لكونه صلوات الله عليه نبياً مكتوباً في التوراة والإنجيل، لأن النبي هو الواضع للحكم والشريعة. قوله: (من الحراك)، الجوهري: "ما به حراك، أي: حركة". قوله: (الأغلال: مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة): قال الزجاج: "الأغلال: تمثيل. ألا ترى أنك تقول: "قد جعلت هذا طوقاً في عنقك، وليس هناك طوق.

وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته، وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ: (آصارهم) على الجمع. (وعزروه): ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرئ بالتخفيف، وأصل العزر: المنع، ومنه: "التعزير": الضرب دون الحد، لأنه منعٌ من معاودة القبيح، ألا ترى إلى تسميته الحد، والحد هو المنع. و (النور): القرآن. فإن قلت: ما معنى قوله: (أُنزل معه)، وإنما أُنزل مع جبريل؟ قلت: معناه أنزل مع نبوته، لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يعلق بـ (اتبعوا). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما تأويله: إني قد وليتك هذا، وألزمتك القيام به، فجعلت لزومه لك كالطوق في عنقك". قوله: ("آصارهم" على الجمع) هذه قراءة ابن عامر. قوله: (الضرب دون الحد)، أي: الضرب الذي هو دون الحد، وسمي تعزيراً لكونه مانعاً من المعاودة، كما سميت العقوبة المعينة على ارتكاب المناهي الشرعية "حداً"، لكونه مانعاً أيضاً. قوله: (معناه: أنزل مع نبوته). علق (معه) تارةً بـ (أنزل)، وأخرى بـ (اتبعوا)، فعلى الأول هو حال من الضمير في (أنزل)، والمضاف مقدر. المعنى: اتبعوا النور الذي أنزل

أي: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه، أو: واتبعوا القرآن كما اتبعه، مصاحبين له في اتباعه. فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل، أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كُفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعُرِّض بذلك في قوله: (وَالَّذِينَ هُم بِآَياتِنا يؤمنون)، وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، كعبد الله بن سلامٍ وغيره من أهل الكتابين لُطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يُحشروا معهم، ولا يفرق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصحوباً معه نبوته. يعني: أن حكم ثبوت نبوته نزل من السماء، وهو مشفوع بهذا النور، وإنما سمي القرآن نوراً لأنه بإعجازه ظاهر في نفسه، مظهر لغيره، كاشف للحقائق، مجل لظلمات الباطل. وعلى الثاني يكون ظرفاً لـ (اتبعوا)، فيكون كل واحد من النور والنبي مستقلاً بالإتباع. وقد أشير به إلى متابعة الكتاب والسنة. ومن ثم قال: "مع إتباع النبي، والعمل بسنته". ويجوز أن يكون (معه) حالاً من فاعل: (اتبعوا)، أي: اتبعوا القرآن مصاحبين للرسول صلي الله عليه وسلم في متابعته. قوله: (كيف انطبق هذا الجواب - يعني: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) إلى آخره - على قول موسى؟ )، يريد: (واكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ). بدليل قوله في الجواب: "لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل"، يعني: كيف دعا نبي الله لنفسه ولبني إسرائيل بالخير، وأجيب بما فيه التهديد والتوبيخ؟ فما وجه المطابقة؟ .

[(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)]. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن. و (جميعاً): نصبٌ على الحال من (إليكم). فإن قلت: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما محله؟ قلت: الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار "أعني"، وهو الذي يسمى النصب على المدح، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخلاصة الجواب: أنه من الأسلوب الحكيم، وأن التهديد والتوبيخ توطئة للجواب. والجواب قوله: (فسأكتبها)، وهو كالقول بالموجب، كما سبق. وفائدة الجواب بعد التوبيخ إرادة اللطف في حقهم، والانزجار عن ارتكاب المعاصي، والترغيب في إخلاص الإيمان، والعمل الصالح، كأعقابهم الذين اتبعوا النبي الأمي، ليندرجوا في زمرتهم، حتى لا يفرق بينهم وبينهم عن رحمة الله. فالجواب منطوٍ على الترهيب والترغيب، والتخلية بعد التحلية. فقوله: "وأريد أن يكون" عطف على قوله: "أجيب"، وكلاهما جواب "لما". وقوله: "وعرض" متعلق بـ"منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل" يعني: قوله: (والذين هم بآياتنا يؤمنون) قرينة لإرادة التوبيخ، بقوله: (عذابي أصيب به من أشاء) للذين كفروا بآيات الله، واستجازوا الرؤية، على سبيل التعريض. قوله: (الأحسن أن يكنو منتصباً بإضمار "أعني"): فإن قلت: القول إنما كان أحسن، لأنه لم يلزم منه الفصل بين الصفة والموصوف، كما قيل. قلت: لا أبالي به، إذا ساعدت عليه

ويجوز أن يكون جراً على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: (إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)، وقوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بدلٌ من الصلة التي هي (لهُ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ)، وكذلك (يُحيِ وَيُمِيتُ)، وفي (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) بيانٌ للجملة قبلها، لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة، وفي (يُحيِ وَيُمِيتُ) بيانٌ لاختصاصه بالإلهية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفخامة، وإنما الفخامة مع الأول، لاستقلاله جملةً مؤذنة بأن المذكور علم فيه، أي: اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، بخلاف الوصف، وإن كانت أوصاف الله جاريةً على المدح. قوله: ((لا إله إلا هو): بدل من الصلة): اعلم أن في قوله: " (لا إله إلا هو) بيان للجملة قبلها"، بعد قوله: " (لا إله إلا هو) بدل من الصلة"، وكذا قوله: " (يحي ويميت) بيان لاختصاصه" بعد قوله: "وكذلك: (يحي ويميت) " أي: بدل، إيذاناً بأن البدل بيان، وأن قوله: (له ملك السموات والأرض) مشتمل على معنييهما إجمالاً. وذلك أن مالك السموات والأرض هو الإله على الحقيقة، (ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25]. ومن كان إلهاً على الحقيقة، كان محيياً ومميتاً، لأن غير الإله الحقيقي لا يقدر عليهما، (قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ) [البقرة: 258]. فالوجه أن يقال: إن مالك السموات والأرض، فيه دلالة على أنه ينبغي أن يكون [متصرفاً فيهما] تصرفاً تاماً، وألا يكون متصرفاً فيهما غيره، لقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22]. وإلى الأول الإشارة بقوله: (يحي ويميت). وإلى الثاني بقوله: (لا إله إلا هو).

لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره، (وَكَلِماتِهِ): وما أنزل عليه وعلى من تقدّمه من الرسل من كتبه ووحيه- وقرئ: "وكلمته" على الإفراد، وهي القرآن-، أو أراد جنس ما كلم به. وعن مجاهد: أراد عيسى بن مريم. وقيل: هي الكلمة التي تكوَّنَ منها عيسى وجميع خلقه، وهي قوله: "كُنْ"، وإنما قيل: إن عيسى كلمة الله، فخُص بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سببٌ غير الكلمة، ولم يكن من نُطفةٍ تمنى، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): إرادة أن تهتدوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن مجاهد: أراد عيسى ابن مريم): روينا عن البخاري عن عبادة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة، على ما كان من العمل". وقلت: إن القول بأن عيسى كلمة الله على ما هو عليه، مختص بالمسلم لا غير. قال القاضي: "أريد بالكلمة عيسى تعريضاً باليهود، وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه. قوله: (إرادة أن تهتدوا): قال القاضي: "جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، تنبيهاً على أن من صدقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه، فهو يعد في خطط الضلالة".

فإن قلت: هلا قيل: "فآمنوا بالله وبي"، بعد قوله: (إني رسول الله إليكم)؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه. [(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليعلم أن الذي وجب الإيمان به وإتباعه هو هذا الشخص المستقل): هذا يجوز أن يكون فائدة ثالثة مستقلة للعدول، فيكون من باب التجريد، يعني أنه صلي الله عليه وسلم خاطبهم بقوله: (إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا)، فلما أراد أن يدعوهم إلى متابعته، جرد عن نفسه الزكية (النبي الأمي)، الموصوف بما يجب على كل أحدٍ متابعته، كأنه قال: لا أدعي أني ذلك الموصوف، فانظروا من هو، فاتبعوه كائناً من كان، ، أنا أو غيري. والخطاب على سبيل الاستدراج. ومعنى الاستقلال يفيده التجريد، كقولهم: "مررت بالرجل الكريم، والنسمة المباركة". قوله: (كائناً من كان): حال من المشار إليه، وهو "الشخص المستقل"، والعامل معنى اسم الإشارة، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في "المستقل". قال الخطيب بن زكريا: الحال قد يكون فيها معنى الشرط، كما أن الشرط فيه معنى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحال، فالأول: لأفعلنه كائناً من كان، أي: إن كان هذا وإن كان هذا، والثاني: كقول عمرو ابن معدي كرب: ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا أي: ليس جمالك بمئزرٍ مردى معه برداً. قال بعض الأدباء: كيف يكون ذو الحال مشخصاً محدداً والحال غير محددٍ؟ قلت: ليس ذو الحال بمحدد، إذ المراد بقوله: "هذا الشخص المستقل" هذا هو الموصوف الذي ميز بتلك الصفات التي أجريت عليه، وجعلته كالمشخص المعين، ونظيره قول الحامد: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنه بعد إجراء تلك الصفات على اسم الذات كأنه اعتمد أنه عز وجل كالمشاهد الحاضر يخاطبه بقوله: (إياك)، على أنه من الجائز أن يقال: اضرب زيداً كائناً من كان، قلنا: ليس ذو الحال بمحددٍ، مع أن المراد به رسول الله صلي الله عليه وسلم ليستقيم الذهاب إلى التجريد. وأنشد أبو علي: أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل قال ابن جني: "وهو تعالى أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر: حكماً عدلاً، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف". وأنشد المصنف - مستشهداً لقراءة من قرأ: "فكانت وردة كالدهان" [الرحمن: 37] بالرفع - قول القائل: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ): هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم، وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون، أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم. وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبطٌ منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض، فساروا فيه سنةً ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمي، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا: من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه مني السلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين) إلى آخره: يريد أن قوله: (وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) معطوف على ما سبق من قصص بني إسرائيل عطف نوع قصةٍ على مثله. وقوله تعالى: (ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ) مستطرد لبيان أن بعضهم ثبتوا على الحق، كما سبق في "آل عمران"، في قوله تعالى: (ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ) [أل عمران: 110].

فردّ محمد على موسى - عليهما السلامُ - السلامَ، ثم أقرأهم عشر سورٍ من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضةٌ غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. وعن مسروقٍ: قرئ: بين يدي عبد الله فقال رجل: إني منهم، فقال عبد الله- يعني: لمن كان في مجلسه من المؤمنين- وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً؟ من يهدي بالحق وبه يعدل؟ وقيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين. وهذا من باب الفرض والتقدير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقال رجل: إني منهم) أي: ممن عمل عملهم، لا: أنا من نسلهم. قوله: (من يهدي بالحق، وبه يعدل؟ )، الجملة استفهامية. قال أولاً: "هل يقدر صلحاؤكم أن يزيدوا على عملهم شيئاً؟ "، ثم استأنف على الإنكار، قائلاً: من الذي على صفتهم منكم؟ من يهدي بالحق كما هدوا؟ ومن يعدل كما عدلوا؟ قوله: (وقيل: لو كانوا في طرفٍ من الدنيا): يعني: يمكن أن تحمل الآية على أنه لو قدر وفرض أن يكون من قوم موسى أمة هذه صفتهم، لجاز، وكانوا على الحق، لأنهم معذورون. فقوله: "وقيل: لو كانوا" عطف على قوله: "وقيل: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم". والحاصل أنه حمل قوله: (ومن قوم موسى) أنه على وجوه: أحدها: أنهم وجدوا في زمن موسى عليه السلام. وثانيها: أنهم حدثوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: حصلوا في زمن من الأزمنة. ورابعها: ما وجدوا، ولكن فرض لو كانوا في طرف من الدنيا، إلى آخره. وأقرب الوجوه - والعلم عند الله - الثاني، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى قوله: (يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ) [الأعراف: 156 - 157]، وقد سبق أن قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا) تبكيت لليهود، وتنبيه لسائر الناس على افتراء اليهود بأنه مبعوث إلى العرب خاصة، وقوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) [الأعراف: 158] إظهار للنصفة، عقبه بقوله: (ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ): يعني أن بعض هؤلاء الذين حكينا منهم ما حكينا آمنوا، وأنصفوا من أنفسهم، ويهدون الناس بكلمة الحق، من أنه الرسول الموعود، النبي الأمي، الذي نجده في التوراة. ويعدلون في الحكم، ولا يجورون، ولكن أكثرهم ما أنصفوا، ولبسوا الحق بالباطل، وكتموه، وجاروا في الأحكام، فيكون ذكر هذه الفرقة تعظيماً بالأكثر. وهاهنا تم الكلام في جواب موسى عليه السلام عن دعائه وما يتصل به، ثم عاد إلى قصة القوم، فيكون قوله: (وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) [الأعراف: 160] عطفاً على قوله: (وجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ البَحْرَ) [الأعراف: 138]، وقوله: (ووَاعَدْنَا مُوسَى) [الأعراف: 142]، وقوله: (واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) [الأعراف: 148].

وإلا فقد طار الخبر بشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق، وتغلغل في كل نفق، ولم يبق الله أهل مدرٍ ولا وبر، ولا سهلٍ ولا جبل، ولا برٍّ ولا بحر، في مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم، وملأ به مسامعهم، وألزمهم به الحجة، وهو سائلهم عنه يوم القيامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويعضده ما ورد في "البقرة" من قوله: (وإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ) [البقرة: 50]، (وإذْ واعَدْنَا مُوسَى) [البقرة: 51]، وقوله: (وإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [يا قوم] إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ)، وقوله: (وإذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60] إجمال لقوله: (وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) [الأعراف: 160]. وأنت إذا أمعنت النظر، وجدت ما في هذه السورة كالتفصيل لما هنالك، وعثرت أيضاً على أن مقام (لن تراني) [الأعراف: 143] غير مقام: (أرنا الله جهرةً) [النساء: 153]. وقد ذكرنا في سورة "هود" قانوناً لوجه الموازنة بين القصص المذكورة في التنزيل، فلينظر هناك، والله أعلم. قوله: (تغلغل)، الجوهري: "تغلغل الماء في الشجر: إذا تخللها". قوله: (ولا بر ولا بحر): البر: البوادي، والبحر: القرى والمدن. النهاية: "العرب تسمي المدن والقرى: البحار".

[(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)]. (وَقَطَّعْناهُمُ): وصيرناهم قطعاً، أي: فرقاً، وميزنا بعضهم من بعضٍ لقلة الألفة بينهم. وقرئ: "وقطعناهم" بالتخفيف، (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كقولك اثنتي عشرة قبيلةً. والأسباط: أولادُ الولد، جمع سبط، وكانوا اثنتي عشرة قبيلةً من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام. فإن قلت: مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سبطاً؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلةً، وكل قبيلةٍ أسباطٌ لا سبط، فوضع (أَسْبَاطاً) موضع "قبيلة"، ونظيره: ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يكن تحقيقاً، لأن المراد)، اللام في قوله: "لأن المراد" يجوز أن يكون صلة "تحقيقاً"، وأن يكون تعليلاً لقوله: "ولو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً". قوله: (وكل قبيلةٍ أسباط لا سبط): توضيح ذلك ما ذكره في "الحجرات": "القبيلة تجمع العمائر، والعمائر تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، كنانة: قبيلة، قريش: عمارة، وقصى: بطن، وهاشم: فخذ، والعباس: فصيلة". فلو قيل: اثنا عشر سبطاً، لأوهم أن المجموعة قبيلة واحدة، والمراد اثنتا عشرة قبيلة. فوضع "أسباطاً" موضع قبيلة. ذهب الجوهري والزجاج وأبو البقاء إلى أن (أسباطاً): بدل من (اثنتى عشرة)، وليس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفسيراً لها، لأن التفسير لا يكون إلا واحداً منكوراً، كقولك: اثني عشر درهماً، ولا يجوز: دراهم. وقلت: نص المصنف في قوله تعالى: (ثالث مائةٍ سنين) [الكهف: 25] في قراءة حمزة والكسائي على الإضافة، أنه "وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: (بالأخسرين أعمالاً) [الكهف: 103] " وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": "ذهب الزجاج على أن (سنين) في هذه القراءة: بدل لا تمييز، لما يلزم على التمييز أن يكونوا قد لبثوا تسع مئة سنة، قال: "ووجهه أنه فهم من لغة العرب أن مميز المئة واحد من مئة، فإذا قلت: مئة رجل، فمميزها رجل، وهو واحد من المئة. وإذا قلت: مئة سنين، فيكون "سنين" واحداً من المئة، وهي ثلاث مئة، وأقل السنين ثلاثة، فيجب أن يكون لبثهم تسع مئة سنة. وهذا يطرد في (اثنتى عشرة أسباطاً) فيلزم على التمييز أن يكونوا ستة وثلاثين سبطاً". ثم قال ابن الحاجب: "ما ذكره الزجاج غير لازم، لأن ذلك إنما يلزم إذا كان المميز مفرداً، وأما إذا كان جمعاً، فيكون القصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعاً، في نحو: ثلاثة أثواب، على أنه قد تقرر أن الأصل في جميع المميزات الجمع، وإنما عدل إلى المفرد لغرض، فإذا استعمل على الأصل في جميع المميزات، لا على الوجه الذي ألزمه الزجاج".

بين رماحي مالك ونهشل و(أُمَماً) بدلٌ من (اثنتي عشرة) بمعنى: وقطعناهم أمماً، لأنّ كل أسباطٍ كانت أمةً عظيمةً وجماعةً كثيفة العدد، وكل واحدةٍ كانت تؤمُّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ: "اثنتي عشرة" بكسر الشين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بين رماحي مالكٍ ونهشل): أوله: تبقلت في أول التبقل تبقلت الماشية: إذا رعت النبات أول ما نبت. ومالك: هو ابن ضبيعة. ونهشل: هو ابن دارم، من أمراء العرب. يصف رمكةً مرتاضة، اعتادت ممارسة الحرب. إنما ثنى الرماح، وهي جمع، لأن كل فرد من هذه التثنية يراد به جماعة من الرماح، كما يراد بكل فردٍ من أفراد هذا الجمع - وهو (أسباطاً) - قبيلة.

(فَانْبَجَسَتْ): فانفجرت، والمعنى واحدٌ، وهو الانفتاح بسعة وكثرة: قال العجاج: وكيف غربي دالج تبجّسا فإن قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الإلباس، وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر، للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكيف غربي دالجٍ تبجسا) أوله: وانحلبت عيناه من فرط الأسى الو كيف: القطر. يقال: وكف البيت وكفاً ووكيفاً، أي: قطر، وهو صفة مصدرٍ محذوف، أي: انحلبت انحلاباً مثل انحلاب وكيف. الدالج: الذي يحمل الراوية. وقيل: الذي يأخذ الدلو ويمضي بها من رأس البئر إلى الحوض، حتى يفرغها فيه. شبه عينيه بدلوٍ هذه صفته، من شدة البكاء والحزن. قوله: (وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر): والحاصل أن الفاء في (فانبجست) فصيحة. مضى الكلام فيه في "البقرة".

وقوله: (كُلُّ أُناسٍ): نظير قوله: (اثنتي عشرة أسباطاً)، يريد كل أمّةٍ من تلك الأمم الثنتي عشرة. و"الأناس": اسم جمعٍ غير تكسير، نحو: رخالٍ، وثناءٍ، وتؤامٍ، وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسرة والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يريد أن الانبجاس في الحقيقة مسبب عن "فضرب" الذي هو امتثال الأمر، فجعل مسبباً عن قوله: (فقلنا اضرب) الذي هو الإيحاء بضرب الحجر، ليدل على سرعة امتثال المأمور، وأن اتباعه الأمر بحيث لا حاجة أن يقال: "فضرب". فالضمير في "أنه من انتفاء الشك" للضرب، أي: الضرب استقر وثبت من جهة انتفاء الشك، بحيث لا حاجة إلى ذكره. قوله: ((كل إناسٍ) نظير قوله: (اثنتى عشرة أسباطاً)): يعني: جمع ليبين أن المراد كل فرقةٍ وجماعة، كما جمع "أسباطاً"، إذ لو قيل: كل أناس، لم يكن تحقيقاً للمراد. قوله: (والأناس: اسم جمعٍ): يعني: ليس "أناس" جمع "إنس" على التكسير، بل اسم جمع، كالقوم. قوله: (نحو: رخالٍ، وثناءٍ، وتؤامٍ، وأخواتٍ لها): وهي: رذال، ونذال، وبساط، وظهار، وبراء، ورباب، وظؤار، وعراق، وفرار، وعرام. وقد نظمها المصنف، فقال: ما سمعنا كلماً غير ثمانٍ ... هي جمع، وهي في الوزن فعال فرباب وفرار وتؤام ... وعرام وعراق ورخال وظؤار جمع ظئر، وبساط ... جمع بسط، هكذا فيما يقال

كما أبدلت في نحو: سكارى وغيارى، من الفتحة. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ): وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه، و (كُلُوا) على إرادة القول، (وَما ظَلَمُونا): وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم. [(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرخل: الأنثى من ولد الضأن، والجمع: رخال، بكسر الراء وضمها. وثناء: جمع ثني. وتؤام: جمع تؤأم، على فوعل. ورذال كل شيء: رديئه، واحده: رذل. ونذال: جمع نذل، وهو الخسيس. وبساط: جمع بسط - بكسر الباء - وهي: الناقة تخلى مع ولدها لا يمنع منها. والظهار، بالضم: ما جعل من عسيب السهام. والبراء: جمع البرأة، بالضم، وهي: قترة الصائد. والرباب: جمع ربي، على فعلى، بالضم: وهي الشاة التي وضعت حديثاً، وفي "الصحاح": "ربي" مقصور مشدد مضموم الراء. وظؤار: جمع ظئر. والعراق: جمع عرق، بفتح العين: العظم الذي أخذ عنه اللحم. والعرام: بمعناه. وفرار: جمع فرير: ولد البقر الوحشية. وقيل: واحد، مثل: طويل وطوال. قوله: (غيارى)، الجوهري: "جمع غيران. يقال: غيران، وغيور".

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ): واذكر إذ قيل لهم، والقرية: بيت المقدس. فإن قلت: كيف اختلفت العبارة هاهنا وفي سوره البقرة؟ قلت: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض. ولا تناقض بين قوله: (اسكنوا هذه القرية وكلوا منها) وبين قوله: (فكلوا) [البقرة: 58] لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواءٌ قدّموا "الحِطَّة" على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك ذكر "الرغد" لا يناقض إثباته، وقوله: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) موعدٌ بشيئين: بالغفران وبالزيادة، وطرح الواو لا يُخلّ بذلك، لأنه استئنافٌ مرتبٌ على تقدير قول القائل:وماذا بعد الغفران؟ فقيل له: (سنزيد المحسنين)، وكذلك زيادة (مِنْهُمْ) زيادةُ بيان، و"أرسلنا"، و"أنزلنا"، و (يَظْلِمُونَ) و (يَفْسُقُونَ) من وادٍ واحدٍ. وقرئ: "يغفر لكم خطيئاتكم"، "وتغفر لكم خطاياكم"، و"خطيئاتكم"، و"خطيئتكم"، على البناء للمفعول. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل)، يعني: إذا تفرع المسبب على السبب، فقد اجتمعا في الوجود، فيصح الإخبار بالفاء تارة، وبالواو أخرى، لكن الواو دل على جودة ذهن السامع، وأنه ممن يستغني في استفادة الترتب بمجرد الإشارة، أو تكون تلك الآية كالتقييد لهذه، لأن الاجتماع أعم من السببية والمسببية. قوله: (خطاياكم) أي: وقرئ: "خطاياكم"؛ أبو عمرو، و"خطيئاتكم": نافع، و"خطيئتكم" - برفع التاء -: ابن عامر.

[(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَاتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ* وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)]. (وَسَلْهُمْ): وسل اليهود، وقرئ: (واسألهم)، وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتابٍ أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك: "أعدوتم في السبت؟ ". والقربة: أيلة. وقيل: مدين. وقيل: طبرية. والعرب تسمى المدينة قرية. وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسلهم)، ابن كثير والكسائي. قوله: (ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير): أي: ونظير السؤال في قوله: (وسئلهم) للتقرير والتقريع، قولك ابتداءً: "أعدوتم في السبت؟ " كما أن معنى الهمزة هاهنا للتقرير والتقريع، كذلك السؤال. قال الزجاج: "السؤال على ضربين: أن تسأل عما لا تعلم لتعلم، وأن تسأل على وجه التقرير، فتقول: أنت فعلت كذا؟ لما فعله، وهو يعلم أنك تعلمه، وإنما تسأله لتقرره وتوبخه، أمر الله تعالى نبيه أن يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية، وقد أخبره الله تعالى بقصتها، ليقررهم بقديم كفرهم، وأن يعلمهم بما لا يعلم إلا بكتابٍ أو وحي".

يعني: رجلين من أهل المدن، (كَانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ): قريبةً منه راكبة لشاطئه، (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ): إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ: "يَعدّون" بمعنى: يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا يُعِدُّون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. و"السبت": مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالعبادة؛ فمعناه: يعدون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله: (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، ويدل عليه قوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ)، وقراءة عمر بن عبد العزيز: "يوم إسباتهم". وقرئ: "لا يسبتون" بضم الباء. وقرأ على: "لا يسبتون" بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن: "لا يسبتون" على البناء للمفعول، أي: لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وعلى هذا قوله: (وسئلهم) عطف على (واذكر) المقدر عند قوله: (وإذ قيل) [الأعراف: 161]، وإنما عدل إلى السؤال لأنه أبلغ في التحدي والتوبيخ، كما قال. قوله: (ويدل عليه قوله: (ويوم لا يسبتون)) [أي: (لا يسبتون)] مشعر بأن قوله: (في السبت) محمول على مصدر سبتت اليهود، لا على الاسم، لأنه نفي لما أثبت أولاً. وهذا مشتق من المصدر، فيجب أن يحمل ما يقابله عليه، ليتطابقا. قوله: (ولا يؤمرون بأن يسبتوا) عطف على سبيل البيان، على قوله: "لا يدار عليهم السبت"، وذلك بأن يكون يوماً آخر من أيام الأسبوع. وهو من باب قوله: على لا حبٍ لا يهتدى بمناره

فإن قلت: (إذ يعدون)، و (إذ تأتيهم)، ما محلهما من الإعراب؟ قلت: أمّا الأوّل فمجرور؛ بدلٌ من (القرية)، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوباً بـ (كانت) أو بـ (حاضرة). وأمّا الثاني: فمنصوبٌ بـ (يعدون)، ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل. والحيتان: السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة. (شُرَّعاً): ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي: مخترمهم ومطهر الأرض منهم، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) لتماديهم في الشر، وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "أصل السبت: قطع العمل. ومنه: سبت السير، أي: قطعه، وسبت شعره: قطعه. وسمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت. وسبت فلان: صار في السبت". قوله: (معطوف على (إذ يعدون)) لا يجوز أن يكون معطوفاً على (إذ تأتيهم)؛ لأنه إما بدل أو ظرف، فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان، وليس كذلك.

(قالُوا مَعْذِرَةٌ إِلى رَبِّكُمْ) أي: موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا نسب في النهى عن المنكر إلى بعض التفريط، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ: (مَعْذِرَةً) بالنصب، أي: وعظناهم معذرةً إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرةً. (فَلَمَّا نَسُوا) يعني: أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه، (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا) الظالمين الراكبين للمنكر. فإن قلت: الأمة الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ) من أي: الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين؟ قلت: من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين، وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم، وإذا علم الناهي حال المنهي، وأن النهي لا يؤثر فيه، سقط عنه النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب؛ لتعظهم وتكفهم عما هم فيه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إبلاء عذرٍ): أي: إظهاره. الأساس: "يقال: أبليته عذراً: إذا بينته له بياناً لا لوم عليك بعده. وحقيقته: جعلته بالياً لعذر، أي: خابراً له، عالماً بكنهه. ومنه: أبلى في الحرب بلاءً حسناً: إذا أظهر بأسه، حتى بلاه الناس وخبروه". قوله: (وقرئ: (معذرةً) بالنصب): حفص، والباقون: بالرفع. قوله: (على المآصر)، الجوهري: "أصره يأصر أضراً: حبسه. والموضع: مَأصِر ومَأصَر، والجمع: مآصِر". الأساس: "هو مفعل من الأصر، أو فاعل من المصر: بمعنى الحاجز: ولعن الله المآصر والمواصر". والمكاسون: الذين يحفظون الطرق.

كان ذلك عبثاً منك، ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك! وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف: 6]، وقيل: الأمةُ: هم الموعوظون، لما وعظوا قالوا للواعظين: لم تعظون منا قوماً تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: (لم تعظون قوماً)؟ قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: (لم تعظون قوماً الله مهلكهم)؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا. وعن الحسن: نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الأمة: هم الموعوظون) قيل: هو معطوف على قوله: "من فريق الناجين"، والظاهر: أنه عطف على قوله: "جماعة من أهل القرية، من صلحائهم". والسؤال والجواب مستدرك؛ لما علم من تقريره السابق أن القوم افترقوا فرقاً: فرقةً وعظوا، والثانية القائلة: (لم تعظون) هم الصلحاء منهم. وكان حقه أن يقول: الفرقة التي قالت: (لم تعظون) هل نجت أم لا؟ كما التبس على ابن عباس. ولعل التكرير في السؤال والجواب لتعليق الزيادات عليه. قوله: (لم تعظون منا قوماً؟ ): "من": تجريدية، مثل: رأيت منك أسداً. قوله: (ما فعل بهؤلاء الذين قالوا): روى محيي السنة: أن ابن عباس قال: نسمع الله يقول: (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فلا أدري ما فعلت الفرقة

وروي: أنّ اليهود أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا يوم السبت، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرعًا بيضاً سماناً كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يستبون لا تأتيهم، فكانوا كذلك بُرهةً من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضًا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجلٌ منهم حوتاً، وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبةٍ في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك، فتطلع في تنوره، فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عُذبَ أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً: ثُلُثٌ نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثٌ قالوا: لم تعظون قوماً؟ وثلثٌ هم أصحاب الخطيئة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الساكتة؟ قال عكرمة: "جعلني الله فداك، ألا تراهم كيف أنكروا، وكرهوا ما هم عليه، وقالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)، وإن لم يقل الله: أنجيتهم، لم يقل: أهلكتهم. فأعجبه قولي، وأمر لي ببردين، وقال: نجت الساكتة". قوله: (المخاض)، الجوهري: "هي بفتح الميم: النوق الحوامل، ولا واحد لها من لفظها". قوله: (فلما لم يره عذب)، أي: لم ير نفسه يعذبه الله، الرؤية بمعنى العلم، نحو قوله تعالى: (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 7].

فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نُساكنكم، فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يومٍ في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأناً، فعلوا الجدار فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى، وقيل: صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير. وعن الحسن: أكلوا - والله - أوخم أكلةٍ أكلها أهلها، أثقلها خزياً في الدنيا، وأطولها عذاباً في الآخرة، هاه! وايم الله، ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعدا، (والساعة أدهى وأمرّ) [القمر: 46]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أوخم أكلةٍ)، الأساس: "أوخمه الطعام، فوخم، واتخم، وأصابته التخمة". الرواية: "أكلة"، بفتح الهمزة، ويجوز ضمها. فالفتح: المصدر، والضم: الاسم. والضمير في "أكلها" يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مفعولاً مطلقاً للتأكيد. قوله: (أكلها أهلها): صفة "أكلة". وفي الكلام معنى التعجب، أي: أكلوا - والله - أكلةً ما أوخمها من جهة الأكل! وما أثقلها من جهة الخزي! وما أطولها من جهة العذاب! قوله: (ولكن الله جعل موعداً)، أي: إن لم يعذب قاتل النفس في الدنيا، على أن قتل النفس أعظم من تلك الأكلة، لكن الله يعذبه في الآخرة (والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)، هذه في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد وأفظع. والداهية: الأمر المنكر، الذي لا يهتدي لدوائه.

(بَئِيسٍ): شديد، يقال: بؤس يبؤس بأساً، إذا اشتدّ، فهو بئيس. وقرئ: "بئسٍ"، بوزن حَذِر. و (بئسٍ) على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء، كما يقال: كبدٌ في كبدٍ، و (بيسٍ) على قلب الهمزة ياءً، كذيبٍ في ذئب، و"بيئسٍ" على: فيعل، بكسر الهمزة وفتحها. و"بيسٍ" بوزن ريس، على قلب همزة "بيئسٍ" ياءً، وإدغام الياء فيها، و"بيسٍ" على تخفيف "بيس"، كهينٍ في: هين، و"بائس" على فاعلٍ. (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ): فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) [الأعراف: 77]، (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) عبارةً عن مسخهم قردة، كقوله: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"بئسٍ" على تخفيف العين): ابن عامر، وعلى قلب الهمزة ياء: نافع، وعلى "فعيل": أبو بكر. قوله: (كقوله: (وعتوا عن أمر ربهم)) يعني: لم ينتهوا عما نهوا عنه، وذلك بأن أتوا بالفعل المنهي عنه تكبراً وعدم مبالاة به، كما أمروا بالإتيان بالفعل المأمور به، فتكبروا عنه، وتركوه. وفيه أن النهي عن الشيء أمر بضده. قوله: ((كونوا قردةً): عبارةً عن مسخهم) أي: لم يكن ثمة قول. قال الزجاج: "جائز أن يكون ثمة قول مسموع، وأن يكون مثل قوله تعالى: (كن فيكون)، والأول أبلغ في النازلة بهم".

والمعنى: أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذابٍ شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل: (فلما عتوا)، تكرير لقوله: (فَلَمَّا نَسُوا)، والعذاب البئيس: هو المسخ. [(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذابٍ شديد، فعتوا بعد ذلك): يريد أن الفاء في قوله تعالى: (فلما عتوا) فصيحة، أي: فلما نسوا عما ذكروا به عذبناهم، ليتنبهوا ويتعظوا، فما نجع فيهم الوعظ، فعتوا بعد ذلك، فمسخناهم. فإذاً العذاب غير المسخ، والنسيان غير العتو. نحوه قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ) إلى قوله: (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف: 94 - 95]. أو هي تكرير، فيراد بقوله تعالى: (عتوا عن ما نهوا) قوله: (نسوا ما ذكروا به)، ومعناه: فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون من أمر بهم، مسخناهم، لأنهم كانوا مأمورين بألا يشتغلوا فيه بغير العبادة، فلما اشتغلوا بالصيد عتوا عن أمر ربهم. ويراد بقوله تعالى: (كونوا قردةً خاسئين) قوله: (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) وهو المسخ، كما سبق. قال القاضي: "يجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى".

(تَأَذَّنَ رَبُّكَ): عزم ربك، وهو تفعل؛ من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله: (لَيَبْعَثَنَّ) والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)، فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبةً عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى (ليبعثنّ عليهم): ليسلطنّ عليهم، كقوله: (بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد) [الإسراء: 5]. [(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَاخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَاخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن العازم على الأمر يحدث نفسه): تعليل لقوله: " (تأذن ربك): عزم ربك". يعني: إنما عبر عن العزم بالإذن، لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك، ثم يجزم على الفعل، ويطلب من النفس الإذن بالفعل. فكنى عن العزم بالإذن، ليعلم أن العزم لم يكن إلا بعد إتقان ومشورة. ولما كان العازم جازماً على الشيء قاطعاً، كان معنى "عزم": جزم وقضى، فصار كفعل القسم في التأكيد، فأجيب بما يجاب به القسم. قال الزجاج: "قيل: (تأذن): تألى. وقيل: (تأذن): أعلم. والعرب تقول: تعلم أنه كذا وكذا، في معنى: أعلم".

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً): وفرقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلدٌ من فرقةٍ منهم، (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ): الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين، (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ): ومنهم ناسٌ دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت: ما محل (دون ذلك)؟ قلت: الرفع، وهو صفةٌ لموصوفٍ محذوف، معناه: ومنهم ناسٌ منحطون عن الصلاح، ونحوه: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: 164]، بمعنى: وما منا أحدٌ إلا له مقام، (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ): بالنعم والنقم، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): فينيبون. (فَخَلَفَ) مِن بعد المذكورين (خَلْفٌ) وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَرِثُوا الْكِتابَ): التوراة، بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤونها، ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها، (يَاخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي: حطام هذا الشيء الأدنى، يريد: الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: (هذَا الْأَدْنى) تخسيسٌ وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى: القرب، لأنه عاجلٌ قريبٌ، وإما من دُنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة، (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا): لا يؤاخذنا الله بما أخذنا، وفاعلُ (سَيُغْفَرُ) الجار والمجرور، وهو (لَنا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((منهم الصالحون): الذين آمنوا منهم بالمدينة): والظاهر خلافه، لما يقتضيه النظم، لقوله: (فخلف من بعدهم خلف) كما سيجيء بيانه. قوله: ((خلف))، النهاية: "الخلف - بالتحريك والسكون -: من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، يقال: خلف صدق، وخلف سوء، ومعناهما جميعاً: القرن من الناس".

ويجوز أن يكون "الأخذ" الذي هو مصدر (يأخذون)، (وَإِنْ يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَاخُذُوهُ) الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصر لا غفران له، (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) يعني قوله في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، (وَدَرَسُوا ما فِيهِ): في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وإن يأتهم .... ): الواو للحال) أي: من الضمير في "يقولون"، والقول: بمعنى الاعتقاد والظن. ولذلك قال: "يرجون المغفرة وهم مصرون". النهاية: "لما رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم الأخبية في المسجد قال: "البر تقولون بهن"؟ أي: أتظنون وترون أنهن أردن البر؟ ". قال الزجاج: "إنهم كانوا يذنبون بأخذ الرشا، ويقولون: سيغفر لنا، من غير أن يتوبوا، لأن قوله تعالى: (وإن يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاخُذُوهُ) دليل على إصرارهم على الذنب". قوله: (والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه) سقطة منه، لأن أهل السنة لا يتمنون المغفرة مع الإصرار، وهم أحزم من ذلك؛ ألا ترى إلى ما رواه الترمذي عن شداد، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "دان نفسه": حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة. فكيف والسين في (سيغفر) تدل على القطع في وقوع الخبر عن المستقبل؟ وأهل السنة لا يقطعون في شيءٍ من أمورهم، لا في الغفران إن تابوا، ولا في الثواب إن عملوا، وأنتم توجبون على الله الغفران إذا حصلت التوبة، وتقطعون بحصول الثواب على العمل؟ فمذهبكم في هذه الصورة مثل مذهبهم. وأيضاً: قوله: "معنى أخذ الميثاق: هو أن في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً، فإنه لا يغفر إلا بالتوبة". وقوله: "وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبةٍ خروج عن ميثاق الكتاب"، وما أدري: أهو منقول من نص التوراة أو مستنبط من معنى الآية؟ أما الآية فدالة على التوبيخ على أخذ الرشا، وتغيير أوضاع الشريعة، ونسبة خلافها إلى الله تعالى، كما فعلوا بصفة النبي صلوات الله عليه، وبآية الرجم، وتسويف النفس بالأباطيل و "يا ليت" على المغفرة مع عدم التوبة. ثم إن هذا النقل، إن لم يصح، فهو تقول على الله تعالى بما ليس بحق، وهو عين فعل اليهود، وإن صح، فلم لا يجوز أن يراد به الشرك، لقوله تعالى: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، وقوله: (إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) [النساء: 48] أو يكون منسوخاً بالنصوص القاطعة من الآيات والسنة بالنسبة إلينا، وثانياً بالنسبة إليكم، فيكون مذهبكم عين مذهبهم؟ عفا الله عنه. وأما قضية النظم: فهي أنه تعالى لما حكي عن بني إسرائيل أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم أمماً: منهم الصالحون، ومنهم الكفرة والفسقة، ذكر أنهم، بعد مبعثه صلوات الله عليه أيضاً، داموا على ما كانوا: فرقة منهم ما تمسكوا بمقتضي التوراة، مع أنهم كانوا يقرؤونها، ويدرسون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما فيها، ويقفون على ما أمر الله، وما نهاه، من الحلال والحرام، ولا يعملون بها، وكانوا (يَاخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى)، ويحرفون الكلم عن مواضعه، (ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ومَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) [آل عمران: 78]، ويتمنون بالأباطيل، وإليه الإشارة بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتَابَ). وطائفة أخرى منهم تمسكوا بها، وعملوا بمقتضاها، وآمنوا بنبي الرحمة، وأقاموا الصلاة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ) [الأعراف: 170]. وينصره ما نقله محيي السنة عن مجاهد: "هم المؤمنون من أهل الكتاب، مثل: عبد الله بن سلام وأصحابه، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه، ولم يكتموه، ولم يتخذوه مأكلة". فظهر من هذا أن تخصيص قوله: (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) بما قاله المصنف تحكم. فعلى هذا الواجب أن يكون قوله تعالى: (والذين يمسكون) الآية جملةً مبتدأة، معطوفة على قوله: (فخلف من بعدهم خلف) من حيث المعنى، والجملة من المعطوف والمعطوف عليه مستطرد لذكر قوله: (وقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ ومِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، لأن قوله تعالى: (وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) عطف على قوله: (وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُ)، و (وإذ قالت أمة)، (وإذ قيل لهم)، و (إذ استسقاه). فانظر إلى هذا النظم السري، وتعجب ممن يريد تفكيكه!

وعن مالك بن دينارٍ رحمه الله، يأتي على الناس زمانٌ إن قصروا عما أُمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئاً، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية. (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الخسيس، (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الرشا ومحارم الله. وقرئ: "ورّثوا الكتاب"، و"ألا تقولوا"، بالتاء، و"ادّارسوا"، بمعنى: تدارسوا. و (أفلا تعقلون)، بالياء والتاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما إذا كان عطفاً على قوله: (للذين) كما هو عليه الوجه الثاني، يكون المراد، منهم الذين آمنوا مطلقاً، على ما روى محيي السنة عن عطاء: "هم أمة محمد صلوات الله عليه". والأول هو القول. قوله: ((أفلا تعقلون) بالياء والتاء): بالياء التحتانية: نافع وابن عامر وحفص. وبالتاء الفوقانية: الباقون.

فإن قلت: ما موقع قوله: (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)؟ قلت: هو عطف بيان لـ (ميثاق الكتاب). ومعنى (ميثاق الكتاب): الميثاق المذكور في الكتاب، وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبةٍ خروجٌ عن ميثاق الكتاب، وافتراءٌ على الله، وتقوّلٌ عليه ما ليس بحق. وإن فسر (ميثاق الكتاب) بما تقدم ذكره كان (أَنْ لا يَقُولُوا) مفعولاً له. ومعناه: لئلا يقولوا، ويجوز أن تكون (أَن) مفسرة، و (لا يَقُولُوا) نهياً، كأنه قيل: ألم يقل لهم: لا تقولوا على الله إلا الحق؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو عطف بيانٍ لـ (ميثاق الكتاب): أجاب عن السؤال بوجهين: أحدهما: أن (أن) في (أن لا يقولوا) ناصبة للفعل، وهو إما تفسير (ميثاق الكتاب) والإضافة، بمعنى: في أي الميثاق المذكور في الكتاب، وهو (أن لا يقولوا على الله إلا الحق). وفي جملة ذلك ألا يقولوا: إن الله يغفر الذنوب العظام بغير توبة. وإما مفعول به، و (ميثاق الكتاب) مبهم لا يعلم ما هو. فاخترع أن بيانه وتفسيره: من ارتكب ذنباً عظيماً، فإنه لا يغفر إلا بالتوبة. أي: أما تقرر وأخذ ميثاقكم أن من ارتكب ذنباً عظيماً لا يغفر له إلا بالتوبة، لئلا يقولوا على الله إلا الحق؟ وثانيهما: أن (أن) مفسرة، لأن في قوله تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ) معنى القول، أي: ألم يقل لكم: لا تقولوا على الله إلا الحق؟ وهو ذلك القول بزعمه واختراعه. وقلت: الحق أن الإنكار والتوبيخ واردان على ترك استحفاظهم كلام الله، والتمادي في التحريف والتغيير، وعليه أخذ الله ميثاقهم كقوله تعالى: (إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ) [المائدة: 44]، قال المصنف: "بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التغيير والتبديل"،

فإن قلت: علام عطف قوله: (وَدَرَسُوا ما فِيهِ)؟ قلت: على (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ)، لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه. [(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)]. (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: ألم يؤخذ عليهم الميثاق، باستحفاظ كتاب الله من غير التغيير والتبديل؟ فكيف غيروا وبدلوا وأخذوا عليه الرشا، فكفروا ونقضوا ميثاق الله، ثم قالوا: استغفر لنا؟ فإن قلت: فعلى هذا: المنكر هو التغيير والتبديل، والمنكر هو القول، لما مر أن قوله: " (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) عطف بيان لـ (ميثاق الكتاب) ". قلت: إنهم إذا غيروا وبدلوا، لابد أن يقولوا: هو من عند الله، ليأخذوا عليه الرشا. قال المصنف في قوله تعالى: (وإنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ ومَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) [آل عمران: 78]: "قال ابن عباس: هم اليهود من الذين قدموا على كعب بن الأشرف، غيروا التوراة، وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم". والله أعلم. قوله: (لأنه تقرير) أي: يجب أن يكون (ودرسوا) عطفاً على (ألم يؤخذ)، وإن اختلفا خبراً وطلباً، لأن الاستفهام وارد على التقرير، فهو بمنزلة الإخبار عن الثابت، فيصح العطف لعدم المنافاة. ولهذا قال: "أخذ عليهم الميثاق، ودرسوا".

والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لأنّ (المصلحين) في معنى "الذين يمسكون بالكتاب"، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30]. والثاني: أن يكون مجروراً عطفاً على "الذين يتقون"، ويكون قوله: (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراضاً. وقرئ: (يمسكون) بالتشديد. وتنصره قراءة أُبيّ: "والذين مسكوا بالكتاب". فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهاراً لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: "والذين استمسكوا بالكتاب". [(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)]. (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ): قلعناه ورفعناه، كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم): يعني: لابد في الخبر إذا كان جملةً من عائد إلى المبتدأ، فقوله: (أجر المصلحين)، وإن لم يكن فيه الضمير، لكنه هو نفس المبتدأ، فهو من إقامة المظهر موضع المضمر، للعلية. قوله: (وقرئ: (يمسكون) بالتشديد): الجماعة إلا أبا بكر.

(ورفعنا فوقهم الطور) [النساء: 154]. ومنه: نتق السقاء؛ إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. و"الظلة": كل ما أظلك من سقيفةٍ أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أهل عليه؛ إذا أشرف، (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ): وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجلٍ منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله، لم يبق جبل ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه، (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) على إرادة القول، أي: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب، (بِقُوَّةٍ) وعزمٍ على احتمال مشاقه وتكاليفه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه: نتق الشقاء): ابن السكيت: "السقاء: يكون للبن والماء، والوطب: للبن خاصة، والنحي: للسمن، والقربة: للماء". قوله: (ولما نشر موسى عليه السلام الألواح) إلى آخر القصة، مستطرد لذكر نتق الجبل، وسجود القوم على حاجبهم، كما كان قوله: (فخلف من بعدهم خلف) الآيتين، مستطرداً من المعطوف والمعطوف عليه، على ما سبق.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأوامر والنواهي ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّةٍ إن كنتم تطيقونه، كقوله: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانفذوا) [الرحمن: 33]. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود: "وتذكروا" وقرئ: "واذّكروا"، بمعنى. وتذكروا. [(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ* وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)]. (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من (بني آدم) بدل البعض من الكل، ومعنى "أخذ ذرّياتهم من ظهورهم": إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: اذكروا ما فيه من التعريض)، الجوهري: "عرضت فلاناً لكذا فتعرض هو له". قوله: (ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية)، فعلى هذا، المراد من نتق الجبل: إظهار العجز لا غير، كما في الآية المستشهد بها، كما تقول لمن يدعي الصرعة والقوة بعدما غلبته: خذه مني، يعني: إن كنتم تطلبون آية قاهرة، وتقترحونها، خذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقون.

قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: 40]، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت: 11] وقوله: إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ: الْحَقِ قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا: قَرْقَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشهدت بها عقولهم) عطف على قوله: "نصب لهم الأدلة"، وكذا "جعلها مميزة"، أي: جمع بين نصب الأدلة وبين جعل القوة مميزة، وبين شهادتها، لتكون الاستعارة تمثيليةً مركبة من عدة أمور متوهمة. هذا هو المراد من قوله: "من باب التمثيل والتخييل"، لا ما ظن أنها من الاستعارة التخييلية، لأن المشبه به في التخييلية أمر واحد محقق يطلق على المخترع المتوهم، كالأنباب في قولك: أنياب المنية نشبت بفلان. قوله: (إذا قالت الأنساع مضى شرحه في "البقرة". قوله: (قالت له ريح الصبا: قرقار)، بعده: واختلط المعروف بالإنكار

ومعلومٌ أنه لا قول ثم، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى. (أَوْ تَقُولُوا) مفعولٌ له، أي: فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم ننبه عليه، (أَوْ) كراهة أن (تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك، وأدلة التوحيد منصوبة لهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير المجرور في "له" للسحاب، أي: قالت للسحاب الريح: قرقر بالرعد. فهو أمر من القرقرة، وهو في الرباعي كـ"نزال" في الثلاثي. "واختلط المعروف"، يعني: المطر بلغ كل مكان مما يعرف وينكر، أي: عم الأراضي كلها. شبه الريح بالآمر، والسحاب بالمأمور، والقرقار بالمأمور به، وتخيل الحالات على سبيل التمثيل. في "الانتصاف": "إطلاق لفظ "التخييل" على كلام الله مردود". وقلت: إذا كان القرآن وارداً على أساليب كلام العرب وافتنانهم، فلا بعد في الذهاب إليه. قوله: (لأن نصب الأدلة على التوحيد) علة لما فهم من المعلل مع عليته، أي: فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة والتقليد، "لأن نصب الأدلة .. " إلى آخره.

فإن قلت: بنو آدم وذرّياتهم من هم؟ قلت: عنى بـ"بني آدم": أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبـ"ذرّياتهم": الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم: قوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ)، والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عُطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) [الأعراف: 163]، (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ) [الأعراف: 164]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) [الأعراف: 167]، (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) [الأعراف: 171]. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) [الأعراف: 175]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون تعليلاً للثاني، كأنه قيل: فعلنا نصب الأدلة كراهة أن تقولوا: (إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ)، لأنه "قائم معهم" لا يفارقهم، "فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد". فلما كان هذا التنبيه لا يفارق أحداً من المكلفين، قال: "لا عذر لآبائهم في الشرك". قوله: (الآيات التي عطفت عليها هي) أي: عطفت: (وإذ نتقنا الجبل)، (وإذ تأذن) [الأعراف: 167]، (وإذ قيل لهم اسكنوا) [الأعراف: 161]. قوله: (والتي عطفت عليها) أي: على قوله: (وإذ أخذ)، وهي قوله: (واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) [الأعراف: 175] وسائر الآيات التي تتعلق بـ"بلعم". قوله: (وهي على نمطها وأسلوبها): أي: (وإذ أخذ ربك): على نمط الآيات المتقدمة والمتأخرة.

(أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي: كانوا السبب في شركنا؛ لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنةً لنا. (وَكَذلِكَ): ومثل ذلك التفصيل البليغ، (نُفَصِّلُ الْآياتِ) لهم، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ: "ذريتهم" على التوحيد، و"أن يقولوا" بالياء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون عاماً كالتذييل للميثاق الخاص، فيدخل فيه اليهود دخولاً أولياً، فلا تكون الواو عاطفة؟ ولأن ألفاظها لا تقبل التخصيص إلا بالتعسف، كما أول الشرك. وبيان التذييل أن قوله: (وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ) [الأعراف: 171] في معنى: أخذ الميثاق، بدليل قوله تعالى في "البقرة": (وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة: 63، 93]، وقول المصنف: " (وإذا أخذنا ميثاقكم): بالعمل بما في التوراة (ورفعنا فوقكم الطور) حتى قبلتم، وأعطيتم الميثاق". أتي بالميثاق الخاص، من حيث الصورة، ثم عقبه بالعام من حيث المعنى، دلالةً على شدة شكيمتهم، وفرط عتوهم في أن الإلزام السمعي والعقلي - على رأيه - لا يجدي فيهم. قال القاضي: "المقصود من إيراد هذا الكلام إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم عن التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال، كما قال: (وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي: عن التقليد، واتباع الباطل".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويؤيده ما روينا عن مالك، وأحمد بن حنبل، والترمذي، وأبي داود، و"شرح السنة"، عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية، قال: سئل عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون". فقال: رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار". قال الإمام: "أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية بالحديث، لأن قوله: (من ظهورهم) بدل من قوله: (بنى أدم)، فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم شيئاً، لما قال: (من ظهورهم) بل يجب أن يقول: من ظهره، وذريته". وأجاب الإمام: "أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم. وأما أنه أخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته، ولا على نفيه، إلا أن الخبر قد دل، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وإخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، ولا منافاة بينهما، فوجب المصير إليهما معاً، صوناً للآية والخبر عن الاختلاف".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد من الآية توليد بعضهم من بعض، على مر الزمان، ولو أريد استخراج الذرية من صلب آدم دفعةً واحدة، لكان من حق القول أن يقول: وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته. فإن قيل: بيان الآية في الحديث خلاف ما ذهبوا إليه، فلهم أن يقولوا: إنما تركوا ظاهر الآية بالحديث، سيما في مثل هذه القضية التي هي إخبار عن الغيب، إذا كان الحديث المبين للآية حديثاً صحيحاً، يجب به العلم. وهذا الحديث، وإن كان حديثاً حسناً، فإنه من جملة الآحاد، فلا يترك ظاهر الكتاب بمثل هذا الحديث. مما يمكننا من التوفيق بين الآية والحديث هو أن نقول: إنما اقتصر في الحديث على ذكر آدم، دون الذرية، لأنه هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن الفرع. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" إلى تمام الحديث وهو حديث صحيح، فلم ذهبتم في حديث عمر رضي الله عنه إلى التأويل الذي ذكرتموه؟ فالجواب: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا تعلق له بالآية، ولم يذكر فيه حديث الميثاق والإشهاد، وإنما ذكر فيه أن الله تعالى مثل لآدم ذريته، وعرضهم عليه. وهذا غير ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذهب أهل التأويل إلى أن المراد بالإشهاد ما ركبه الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم: (ألست ربكم) فكأنهم قالوا: (بلى). فذهبوا في معناه إلى أنه تمثيل وتصوير للمعنى. وهذا الذي ذهبوا إليه في تأويل حديث عمر رضي الله عنه تأويل حسن مستقيم، لولا مخالفته حديث ابن عباس، وهو ما رواه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني: عرفة - فأخرج من صلبه كل ذريةٍ ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ". وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي. فهذا الحديث لا يحتمل من التأويل ما يحتمله حديث عمر رضي الله عنه، لظهور المراد منه. ولا أراهم يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم: إن حديث ابن عباس من جملة الآحاد فلا يلزمنا إن تركنا أن نترك به ظاهر الكتاب! وقال: إنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر هذا الحديث لمكان قوله سبحانه: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر، وشاهدوه عين اليقين، فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ، فلما زال عنا علم الضرورة، ووكلنا إلى آرائنا، كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ. وإن كان عن استدلال، ولكنهم عصموا عنده من الخطأ، فلهم أيضاً أن يقولوا:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد، ولو أمددنا بهما أبداً، لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق: ما ركب الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، لأنها هي الحجة الباقية، المانعة لهم عن قولهم: (إنا كنا عن هذا غافلين)؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك، كما جعل بعث الرسول حجةً عليهم في الإيمان، بما أخبروا عنه من الغيوب. ولهم في ذلك كلام كثير اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال. والتوفيق بين الآية وحديث عمر رضي الله عنه - على ما ذكرناه - متيسر، والتوفيق بينهما وبين حديث ابن عباس - على الوجه الذي لا تعارضه حجة أخرى من الكتاب - مشكل جداً، إلا أن يعلل الحديث بما عللوه". انتهى كلامه. وقال القاضي في "شرح المصابيح": "والتوفيق بين الآية والحديث أن يقال: إن المراد من (بنى آدم) في الآية: آدم وأولاده، فكأنه صار اسماً للنوع، كالإنسان والبشر، والمراد من الإخراج: توليد بعضهم من بعض، على مر الزمان، واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاءً بذكر الأصل عن ذكر الفرع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت، وما توفيقي إلا بالله: نبين أولاً أن الأحاديث الثلاثة كلها معتمدة متوافقة متعاضدة، ثم نشرع في المقصود: أما الحديث الأول: فقد سبق أنه اتفق على روايته الإمامان: مالك، وأحمد، والشيخان: أبو داود، والترمذي، ورواه محيي السنة في "شرح السنة" و"المصابيح"، وفيه: "فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" إلى آخر الحديث. هذا السياق لا يدع لذي لب ريباً في أن المراد بالاستخراج: استخراج الذراري كلها إلى انقراض العالم، وإلا فأي معنى لقوله: ففيم العمل؟ ، وقوله صلوات الله عليه: "إن الله تعالى خلق العبد للجنة"، وقوله: "خلق العبد للنار"؟ وروى محيي السنة في "معالم التنزيل"، عن مقاتل وغيره: وفي آخره: "ثم أعادهم جميعاً في صلبه، فأهل القبور محبوسون، حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال، وأرحام النساء". فإذن لا معنى لقولهم: اقتصر في الحديث على ذكر آدم دون الذرية، لأنه هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن الفرع. وأما الحديث الثاني: فتمامه على ما أورده صاحب "جامع الأصول" عن الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمةٍ هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك" إلى آخر الحديث. وأما الحديث الثالث: فقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن ابن عباس أيضاً، كما ذكر من غير زيادة ولا نقصان. فإذا تقرر هذا فالواجب على المفسر المحقق ألا يفسر كلام الله المجيد برأيه، إذا وجد من جانب السلف الصالح نقلاً معتمداً، فكيف بالنص القاطع من جناب حضرة الرسالة صلوات الله على صاحبها؟ فإن الصحابي رضي الله عنه إنما سأله صلي الله عليه وسلم عما أشكل عليه من معنى الآية: أن الإشهاد هل هو حقيقة أم لا؟ والإخراج والمقاولة بقوله: (ألست بربكم قالوا بلى): أهما على المتعارف أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلوات الله عليه بما عرف منه ما أراده، سكت، لأنه كان بليغاً، ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة. وكذا فهم الفاروق رضوان الله عليه. وأما قولهم: لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم، لما قال: (من ظهورهم)، بل يجب أن يقول: من ظهره وذريته، فجوابه: أن المراد آدم وذريته، لكن غلب إخراج الذراري من أصلاب أولاده نسلاً بعد نسل حينئذٍ على ذراري نفسه، لأن الكلام في الاحتجاج على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأولاد بشهادة قوله: (وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، ونحوه، لكن في إرادة الامتنان، قوله تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف: 11] والمراد آدم، بقرينة قوله: (اسجدوا لأدم) [الأعراف: 11]. ويعضده ما رواه الواحدي عن الكسائي أنه قال: "لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعاً من ظهره، لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، واستغنى عن ذكر ظهر آدم، لما علم أنهم كلهم بنوه، وأخرجوا من ظهره". وقال الإمام المحقق قطب الدين الشيرازي رحمه الله: "ظواهر ألفاظ الآية، من قوله: (مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) دافعة لظاهر حديث عمر رضي الله عنه، لكن لما كان المعلوم المقرر في بداية العقول أن بني آدم من ظهر آدم، فيكون كل ما أخرج من ظهور بني آدم في "لا يزال" على يوم القيامة هم الذر، قد أخرجهم الله تعالى في الأزل عن صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأول، ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في "لا يزال" من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأول، وهو المقالي الأزلي، كما أخذ منهم في "لا يزال" بالتدريج، حين أخرجوا الميثاق الثاني، وهو الحالي "اللا يزالي".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاصل: أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما: يهتدي إليه العقل من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي، وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم السلام، أراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم أن من وراء الميثاق الذي تهتدون إليه بعقولكم ميثاقاً آخر أزلياً، فقال ما قال من مسح ظهر آدم في الأزل، وإخراج الذرية والميثاق الآخر". وقلت: هذا كلام عالي الدرجة لا مزيد عليه، وهو قريب من الأسلوب الحكيم، على منوال قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فاللوالدين) [البقرة: 215]، سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف، وضمن بيان ما ينفقون. كذا هاهنا: سأل الصحابي عن بيان الميثاق الحالي، فأجيب عن المقالي، وضمن فيه الحالي على ألطف وجه. والله أعلم. قلت: من أبي هذا التقرير قرب أن يعدل إلى مذهب أهل العدل، وأما الترديد الذي نقله الشيخ التوربشتي رحمه الله وهو أن "قالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار" إلى قوله: "وإن كان عن استدلال" إلى آخره، فخلاصته أنه يلزم ألا يكونوا محجوجين يوم القيامة. فجوابه: أنهم إذا قالوا: شهدنا يومئذ، فلما زال علم الضرورة، ووكلنا إلى آرائنا، كان كذا، كذبوا؛ فإنكم ما وكلتم إلى آرائكم، بل أرسلنا رسلنا تترى لتوقظكم عن سنة الغفلة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف في قوله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]: "الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر". وقال محيي السنة: "فإن قيل: كيف تلزم الحجة واحداً لا يذكر ذلك الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمته الحجة، وبنسيانهم، وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق". وأما الجواب عن قولهم: "فلهم أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد"، فهو أن يقال: إن هذا مشترك الإلزام، لأنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر؟ فلهم أن يقولوا: فإذا حرمنا اللطف والتوفيق، فأي منفعةٍ لنا في العقل والبصيرة؟ ولنختم الكلام بما ورد عن أرباب الكشف، وأصحاب العرفان. روى الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في "الحقائق" عن بنان أنه قال: "انتخبهم للولاية، واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فتوحاً في غوامض غيوب الملكوت، أوجدهم لديه في كون الأزل، ثم دعاهم فأجابوا سراعاً، وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في صورة الإنسية، ثم أخرجهم بمشيئته خلقاً، وأودعهم في صلب آدم، فقال: (وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف: 172]، فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم، وكان الحق بالحق في ذلك موجوداً".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنشد السلمي لبعضهم: لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعاً وسجودا وقال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي، قدس سره: "ورد في الحديث أن الله مسح ظهر آدم، وأخرج ذريته منه، كهيئة الذر، استخرج الذر من مسام شعر آدم، فخرج الذر كخروج العرق، وكان ذلك ببطن النعمان: وادٍ بجنب عرفة، بين مكة والطائف". وقلت: والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات، بأنها متروكة العمل، لعلة كونها من الآحاد، لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثيرٍ من الفتوحات الغيبية، ويحرم قائله من عظيم منح الإلهية. روى الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في "المدخل" عن الشافعي رضي الله عنه: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحدٍ عن واحدٍ عن النبي صلي الله عليه وسلم، ويجعلونه سنة، حمد من تبعها، وعيب من خالفها. وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة. وقال الشافعي: فمهما قلت من قولٍ أو أصلت من أصلٍ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو قولي. قال: وجعل يردده. وروى الدارمي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلي الله عليه وسلم فخذ به، وما قاله برأيه فألقه في الحش. روينا عن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، عن المقدام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرموه". وفي رواية: "وإن ما حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم كما حرم الله" الحديث. وفي "جامع الأصول" عن رزينٍ العبدري، عن أبي رافع، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرته، أو نهيت عنه، وهو متكئ على أريكته، فيقول: ما ندري ما هذا؟ عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه" الحديث. وقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن نحوه، وروايتهم أقصر.

[(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)]. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ): على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها): هو عالمٌ من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء؛ أوتي علم بعض كتب الله، (فَانْسَلَخَ مِنْها): من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ): فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: والذي أقضي منه العجب أن الشيخ شهاب الدين التوربشتي كيف نقل كلامهم هذا، وقرره، ولم يرد عليه، مع رسوخ علمه، وعلو مرتبته! والله أعلم. قوله: (هو عالم من علماء بني إسرائيل): روى محي السنة عن مجاهد: هو بلعام بن باعر. وعن ابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، كان من بني إسرائيل. وروي عن ابن طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين. قوله: ((فانسلخ منها) ... بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره): هذه مبالغة، لأن السلخ حقيقةً: كشط الجلد عن المسلوخ، وإزالته عنه بالكلية. قال الإمام: "انسلخ، أي: خرج. يقال لكل من فارق الشيء بالكلية: انسلخ منه". قوله: ((فأتبعه الشيطان): فلحقه)، الجوهري: "أتبعت القوم - على "أفعلت" -: إذا كانوا قد سبقوك، فلحقتهم. وأتبعت أيضاً غيري. يقال: أتبعته الشيء فتبعه".

أو: فأتبعه خطواته. وقرئ: "فاتبعه"؛ بمعنى: فتبعه، (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ): فصار من الضالين الكافرين. روي: أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه، فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل، (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها): لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ): مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (روي: أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى): عن محيي السنة، عن ابن عباس، والسدي، وغيرهما، "أن موسى، لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام [إلى بلعم]، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء ليخرجنا من ديارنا، ويقتلنا، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال: ويلكم، نبي الله، ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت هذا ذهبت ديناي وآخرتي؟ ! فراجعوه، وألحوا عليه، فلم يزالوا يتضرعون إليه، حتى فتنوه". قوله: ((ولكنه أخلد إلى الأرض): مال إلى الدنيا، ورغب فيها)، النهاية: "أخلد إليها، أي: ركن إليها، ولزمها". وقال الزجاج: "يقال: أخلد فلان إلى كذا وكذا، وخلد - والأول أكثر - أي: سكن إلى لذات الأرض". قوله: (وقيل: مال إلى السفالة) الرواية بفتح السين.

فإن قلت: كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى: ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها؛ وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعةٌ للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله: (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ)، فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون (وَلَوْ شِئْنا) في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: "السفالة، بضم السين: نقيض العلو، وبالفتح: النذالة". الأساس: "ومن المجاز: سفلت منزلته عند الأمير. وقد سفل في النسب والعلم". قوله: (مال إلى الدنيا ورغب فيها) مقابل لقوله: "رفعناه إلى منازل الأبرار"، لأن الدنيا ليست بمنازلهم، لقوله: "فاعبروها، ولا تعمروها". وأما قوله: (مال إلى السفالة) فبالنظر إلى لفظ "رفعنا". قوله: (ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ)، فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون (ولو شئنا) في معنى ما هو فعله)، قال القاضي: "إنما علق رفعه بمشيئة الله، ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول السبب، من حيث إن المشيئة تعلقت به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان من حقه أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه (ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ)، مبالغةً وتنبيهاً على أن ما حمله عليه هو هواه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة". هذا تمام كلام القاضي. وتلخيصه: أن قوله تعالى: (ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) مجرى على ظاهره، وقوله: (ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ) محمول على التأويل، على عكس ما فعله المصنف. ثم الواجب علينا أن نبين وجه الرجحان من غير التعصب، فنقول، والله أعلم بمراده من كلامه: إنه تعالى لما قال: (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) بمعنى: نحن فعلنا إيتاء الآيات، فعقبها هو بفعل الانسلاخ، توهماً منه أنه مستقل في إيجاد الفعل، فقيل دفعاً لذلك التوهم: لو شئنا أن نرفعه بالآيات إلى المراتب العلية لفعلنا، فلا يحصل منه الانسلاخ إذاً، لكن تعلقت مشيئتنا بانحطاطه إلى الأرض، فحصل منه الانسلاخ، فوضع موضعه (أخلد إلى الأرض) ليطابق الرفع. وإنما جاء قول المصنف: "ولكنه أخلد إلى الأرض، فحططناه"، على عكس هذا التقدير: لأنه جعل مشيئة الله تابعةً لفعل العبد، فعدم التوفيق، فأخطأ في التلفيق. وأما قوله: "ولو كان الكلام على ظاهره، لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنا لم نشأ"، فجوابه: أنك لما جعلت المشيئة ابتداءً تابعةً للزوم هذا الإنسان الآيات، لزمك هذا، فاجعل لزومه الآيات تابعاً للمشيئة، كما فعلنا، لتنظر كيف يجيء الكلام على سننه!

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ): فصفته التي هي مثلٌ في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حُمِلَ عليه - أي: شُدّ عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرّضٍ له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرّك، وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض)، فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) موضع "فحططناه أبلغ حط" لأنّ تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان حق الكلام) إلى قوله: (فحططناه أبلغ حط): اعلم أن التشبيه عدول عن أصل المعنى، وروم للمبالغة، فإنك إذا أردت المبالغة في قولك: "زيد شجاع"، قلت: "زيد كالأسد"؛ لأنك في التشبيه تقصد محاولة إبراز المشبه في صورة المشبه به، ليثبت في النفس خياله، فيكون أدخل في الروعة وآكد في الدلالة من أصل المعنى. وهاهنا الأصل - كما قال - "حططناه أبلغ حط"، فوضع التمثيل مقامه، ليخيل إلى السامع خيالاً في غاية الضعة والخسة. واللهث: إدلاع اللسان من التنفس الشديد. فإن قلت: نسبة التمثيل إلى أصل المعنى من أي قبيل هو؟ قلت: من قبيل الكناية، وأخذ الزبدة والخلاصة من المجموع من غير اعتبار مفرداته، كما سيجيء في قوله تعالى: (والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يجمل عليه. وقيل: معناه: إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: إن وعظته فهو ضال) عطف على قوله: "فصفته التي هي مثل في الخسة". والتمثيل الأول: مركب عقلي، لأنه اعتبر من المجموع الضعة والخسة: شبه بلعام من حيث إنه مال من المرتبة العالية، ومنازل الأبرار من العلماء، إلى أسفل السافلين، والميل إلى الدنيا وحطامها، بالكلب في الحالتين معاً. والوجه: هو الزبدة والخلاصة من الضعة والخسة. وإليه أشار بقوله: "لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك" أي: حططناه أبلغ حط. وعلى الثاني: مركب وهمي، لأنه توهم في الوجه متعدداً، وهو عدم تغيير حال الضعة في حالتي الإغراء والترك. وهو المراد من قوله: "إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال". وعلى الثالث - وهو قوله: "وقيل: لما دعا بلعم على موسى" إلى آخره -: التشبيه مفرد حسي. وقوله: (إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) جملة استئنافية مبنية لحال تشبيه بلعام بالكلب. ولهذا قال: "وجعل يلهث كما يلهث الكلب". والدليل على أن هذا التشبيه مفرد، والأول والثاني مركبان: سؤاله بقوله: "ما محل الجملة الشرطية؟ " بعد تمام التشبيهين. وجوابه: "النصب على الحال"، ليدخل حينئذٍ في حيز التشبيهين، لإرادة التركيب فيهما.

فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة): قال صاحب "الضوء": "الشرطية لا تكاد تقع بتمامها موقع الحال، ولو أريد ذلك لجعلت خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه، نحو: "جاءني زيد وهو إن يسأل يعط". فالحال إذن جملة اسمية، والسر فيه أن الشرطية، لتصدرها بما يقتضي الصدرية، لا تكاد ترتبط بما قبلها، إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم، إنما يجوز إذا أخرجت عن حقيقة الشرط، ثم هي لم تخل من إن عطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف. والأول: حذف الواو فيه مستمر، نحو: آتيك إن تأتني أو لم تأتني؛ لأن النقيضين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله تعالى: (وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) [البقرة: 6]. وأما الثاني: فلابد فيه من الواو، نحو: آتيك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة". قلت: وإنما ترك الواو في التنزيل، لأنه من باب: آتيك إن تأتني أو لم تأني، لأن المراد: إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. وأما قوله قبل هذا: "سواء حمل عليه - أي: شد عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرض له" فهو كما قاله صاحب "الضوء": "إن النقيضين في هذا المقام لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية".

وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب. (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من اليهود بعد ما قرؤوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به، "فَاقْصُصِ" قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي، فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)) يعني: إنما أتى بقوله: (ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ) عقيب تمثيل بلعام لينبه اليهود الذين كذبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد ما أوتوا من الآيات، وهو التوراة، وفيها نعت الرسول صلي الله عليه وسلم وذكر القرآن، وبشروا الناس بمبعثه، واستفتحوا بنصرته، ثم انسلخوا منها، ومالوا إلى الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وحرفوا اسمه، وكفروا به، على أن حالهم مثل حال بلعام، حذو القذة بالقذة. وإليه الإشارة بقوله: "فاقصص قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم (لعلهم يتفكرون) "، قلت: من تفكر في هذا المثل، وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل، في حق المشركين والأصنام؛ من بيت العنكبوت، والذباب، تحقق له أن حال علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك، فما أنعاه من مثلٍ عليهم، وما هم فيه من التهالك في الدنيا؛ مالها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجاهها، والركون إلى لذاتها وشهواتها، ومن متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها! وكتب شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي، إلى الإمام العلامة فخر الدين الرازي تغمدهما الله برضوانه: "من تعين في الزمان لنشر العلم، عظمت نعمة الله لديه، ينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات، أن يمدوه بالدعاء الصالح، ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى، ومصدره من شوائب الهوى، إذ قطره من الهوى تكدر بحراً من العلم، ونوازع الهوى المركون في النفوس المستصحبة إياه، من محتدها، من العالم السفلي، إذا شابت العلم حطته من أوجه. وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى، أمدته كلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها، ويبقي العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم، لا المترسمين به، وهم وراث الأنبياء: كر عملهم على علمهم، وكر علمهم على عملهم، وتناوب العلم والعمل فيهم، حتى صفت أعمالهم، ولطفت، فصارت مسامراتٍ سرية، ومحاوراتٍ روحية، وتشكلت الأعمال بالعلوم، لمكان لطافتها، وتشكلت العلوم بالأعمال، لقوة فعلها، وسراتها إلى الاستعدادات. وفي إتباع الهوى إخلاد إلى الأرض، قال الله تعالى: (ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ)، فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات، والارتهان بالموهومات، التي اشتركت العقول الصغار المداهنة للنفوس القاصرة، وهو من شأن البالغين من الرجال، فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى، فتسرح في ميادين القدس، والنزاهة؛ النزاهة من محبة حطام الدنيا، والفرار؛ الفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم، فتلك مصارع الأدوان. فطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه، لمكان علمه بصورة.

[(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)]. (ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ) أي: مثل القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري: "ساء مثل القوم". (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إما أن يكون معطوفاً على (كذبوا)، فيدخل في حيز الصلة بمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها. [(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)]. (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حملٌ على اللفظ، و (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حملٌ على المعنى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الابتلاء، واستئصال شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء، وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي، وانغماسة مع الأنفاس في بحار عين اليقين، وغسله كشف دلائل البرهان بنور العيان، والبرهان للأفكار، والعيان للأبرار" إلى آخره، والله أعلم. قوله: (أي: مثل القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم) يريد: أنه لابد أن يكون المخصوص بالذم مطابقاً للفاعل، والفاعل هاهنا مضمر مميز بـ (مثلا)، و (القوم) لا يطابقه، فيقدر المضاف إما قبل (القوم) وإما قبل (مثلاً) ليطابقه. قوله: (وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة) وعلى هذا الكلام تذييل وتأكيد لمضمون الجملة. قوله: ((فهو المهتدي) حمل على اللفظ، و (فأولئك هم الخاسرون) حمل على المعنى):

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "في هذا تنبيه على أن المهتدين كواحد، لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين. والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بـ (المهتدى) تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة". وقال: "الآية تصريح بأن الهدى والضلالة من الله، وأن هداية الله تختص ببعضٍ دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء". وقلت: الآية تذييل للتمثيلين وتأكيد، لأن المشيئة هي السبب في فعل العبد من الاهتداء والضلال، وأن لزوم "بلعام" الآيات تابع لمشيئة الله، وأن الكلام فيه مجرى على ظاهره. والآية التالية المصدرة بالقسمية تذييل لقصة الفرقة الضالة بعد عد قبائحهم، وتسجيل بأنهم لا يؤمنون، تسلية لرسول الله صلي الله عليه وسلم ليعرض عنهم، ويقبل إلى من يجدي به الإنذار وينجع فيه الوعظ. يدل عليه قوله تعالى: (وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف: 180]، وقوله: (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ) [الأعراف: 181]، أي: دع هؤلاء الذين يحرفون كلام الله، ويميلون بأسمائه الحسنى إلى التأويل الزائغ، واشتغل بأمتك الذين يتمسكون بكتاب الله، ولا يلحدون في أسمائه الحسنى، ولا يتبعون ما تشابه منها. يدل عليه ما رواه المصنف: "هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها". ويدل على أن هذا الكلام تذييل لقصة اليهود: قوله: "والمراد: وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه، وأنهم من جملة الكثيرين الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم".

[(وَلَقَدْ ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)]. (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هُم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لُطف لهم، وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب، وإبصار العيون، واستماع الآذان، وجعلهم - لإغراقهم في الكفر، وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار - مخلوقين للنار، دلالةً على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: "بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم آل المغيرة ذره النار". ويقال لمن كان عريقاً في بعض الأمور: ما خلق فلانٌ إلا لكذا. والمراد وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود، وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كتاب عمر رضي الله عنه)، النهاية: "الدلوك، بالفتح: اسم لما يتدلك به من الغسولات، كالعدس والأشنان والأشياء المطيبة". قوله: (عريقاً في بعض الأمور)، الأساس: "فلان معرق في الكرم أو اللؤم، وهو عريق فيه". قوله: (وأنهم من جملة [الكثير] الذين) عطف على قوله: "وصف" أو "عظم ما أقدموا"، ومحل قوله: "كأنهم خلقوا للنار": إما نصب حال من الضمير في خبر "أن" بمعنى: مشبهين. وإما رفع خبرٍ بعد خبر، وفي كلامه أنهم ما خلقوا للنار حقيقة، وأن المراد من قوله تعالى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (ولَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ) الإغراق في وصفهم به. وهو مخالف للظاهر والأحاديث الواردة في الباب؛ منها ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده"، عن عبد الرحمن بن قتادة، قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي". قال قائل: فعلى ماذا نعمل؟ قال: "على موافقة القدر". ومنها ما روينا عن مالك وأحمد والترمذي وأبي داود، عن عمر رضي الله عنه: الحديث السابق، عند قوله تعالى: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172]. وغير موافق للنص القاطع، والنظم الفائق، فإن قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم) كالتفريع على تذييل قصة الفرقة الضالة، المشبهة بـ"بلعام". وموقع قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) مع ما قبله: موقع قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) [البقرة: 7] مع ما قبله، وفصل ما نحن بصدده عليه أنه مصدر بالجملة القسمية، أن المذكورات هاهنا مستقلة في كونها جملاً صراحاً، واسمية مكررة الجار والمجرور، والاستئناف

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر، (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ): الكاملون في الغفلة، وقيل: الأنعام تبصر منافعها ومضارّها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. [(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي هي أحسن الأسماء، لأنها ندل على معانٍ حسنةٍ من تمجيدٍ وتقديسٍ وغير ذلك، (فَادْعُوهُ بِها): فسموه بتلك الأسماء، (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هاهنا بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كأنه تعالى لما أقسم بقوله: (ولَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ)، قيل: فما يكون لهم حينئذ؟ فقيل: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا)، وكيت وكيت. وأما فائدة القسمية: فللتنبيه على قلع شبهة من عسى أن يتصدى لتأويل الآية، ويحرف النص القاطع، ويقول: "ومعنى (ولقد ذرأنا لجهنم): وجعلهم لإغراقهم في الكفر، وشدة شكمائمهم، وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار". ومما يؤاخيه ما روى المصنف: "أن أعرابياً، لما سمع قوله تعالى: (وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ) [22 - 23]، قال: من الذي أغضب الجليل، حتى حلف؟ كأنهم لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمن". قال الإمام: "هذه الآية حجة لصحة مذهبنا في مسألة خلق الأعمال، وإرادة

واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخىّ! أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى، نحو أن يقولوا: يا الله، ولا يقولوا: يا رحمن، وقد قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء: 110]. ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق فصفوه بها، وذروا الذين يلحدون في أوصافه، فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر، وبما يدخل في التشبيه، كالرؤية ونحوها، وقيل: إلحادهم في أسمائه: تسميتهم الأصنام آلهةً، واشتقاقهم "اللات" من "الله"، و"العزى" من "العزيز". [(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكائنات، لأنه تعالى صرح بأنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم، ولا مزيد على بيان الله عز وجل". قوله: (يا نخي! ) بالنون والخاء المعجمة، أي: يا متكبر. الأساس: "وقد ينخى فلان، وهو منخو مزهو. وانتخى من كذا: استنكف منه، والعرب تنتخي من الدنايا، ورجل ذو نخوة". قوله: (ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى)، معطوف على قوله: "التي هي أحسن الأسماء" لأنها تدل على معانٍ حسنة. ويتغير بحسب التفسيرين معنى قوله تعالى: (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ): فعلى الأول: الإلحاد في التسمية أن يقال: أبو المكارم ونحوه، أو أن يخص بالله دون الرحمن. وعلى الثاني: الإلحاد في الوصف، وهو ما ذكره من المعاني التي دلت على مذهبه تحكماً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو أيضاً ميل، لأن المراد بأسمائه الحسنى ما ورد عن الشارع، وأذن فيه في الكتاب والسنة. أما الكتاب فإن التعريف في "الأسماء" للعهد، ولابد من المعهود، ولأنه أمر بالدعاء بها بقوله تعالى: (فادعوه بها) فلابد من وجود المأمور به، ونهى عن الدعاء بغيرها في قوله: (وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، وأوعد على الإلحاد فيها بقوله: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وأكده بالسين. وأما الحديث فما رويناه عن البخاري، ومسلم، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من حفظها دخل الجنة"، وفي رواية: "أحصاها"، وفي أخرى: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، مئةً إلا واحداً". قوله: "مئةً إلا واحداً" تأكيد وفذلكة، لئلا يزاد على ما ورد، كقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196]. قال محيي السنة: "الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم ينطق به كتاب ولا سنة. وجملته أن أسماء الله على التوقيف".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في كتاب "مفاتيح الحجج ومصابيح النهج": "أسماء الله تعالى تؤخذ توقيفاً، ويراعى فيه الكتاب والسنة والإجماع. فكل اسم ورد به في هذه الأصول وجب إطلاقه في وصفه تعالى، وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه في وصفه تعالى وإن صح معناه". وقال الزجاج: "لا ينبغي لأحدٍ أن يدعوه بما لم يصف به نفسه، فيقول: يا الله، يا رحمن، يا جواد، ولا يقول: يا سخي، لأنه لم يصف به نفسه، ويقول: يا رحيم، لا: يا رفيق، ويقول: يا قوي، لا: يا جلد". وقال الإمام: "قال أصحابنا: ليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه عليه سبحانه وتعالى، فإنه الخالق للأشياء كلها، ولا يجوز أن يقال: يا خالق الذئب والقردة. وورد: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة: 31]، (وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) [النساء: 113]، (وعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]، ولا يجوز: يا معلم، ولا يجوز عندي: يا محب، وقد ورد: (يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ) [المائدة: 54] ". تم كلامه. وأما الصفات فكذلك، فكل ما ثبت بالكتاب والسنة من الصفات والأفعال، كجواز الرؤية، وخلق أفعال العباد، دون ما تشتهيه النفس، ويميل إليه الوهم، هو الذي يجب أن يتبع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "ومن الإلحاد قول المعتزلة: لو فعل كذا لكان سفيهاً، مستحقاً للذم". والمقام لا يقتضي إلا ذلك، لما تقرر أن الآية تذييل لقصة اليهود، وأنهم كانوا يغيرون أوضاع التوراة، ويحرفون الكلم عن مواضعه، يعني: تمسك بما جاءك، في أسماء الله وصفاته وأفعاله، من الله، وذر الذين يغيرون ما جاءهم من الله تعالى. فإذا لا مدخل للقياس والوهم فيه. تنبيه: ذكر الفاضل برهان الدين النسفي في "شرح أسماء الله الحسنى": "أن مذهب الأشعري ومن تابعه: أن أسماء الله تعالى توقيفية. والمعتزلة والكرامية: أنها قياسية، لأنه إذا تقرر في العقل أن معنى اللفظ ثابت في حقه تعالى فقد صح الإطلاق. واختيار الغزالي وبعض الأصحاب: أن الأسماء موقوفه على الإجازة، وأما الصفات فلا. واعلم أن الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة أقسام: الأول: ما يدل على صفات واجبة، منها ما يصح إطلاقه مفرداً لا مضافاً، نحو: الموجود، والأزلي، والقديم، ونحوها. ومنها ما يصح إطلاقه مفرداً ومضافاً، نحو: الملك، والمولى، والرب، والخالق، يجوز: يا خالق السموات. دون: يا خالق القردة والخنازير. ومنها ما يصح مضافاً غير مفرد، نحو: يا منشئ الرفات، ويا مقيل العثرات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: ما يدل على صفاتٍ ممتنعة، نحو: الوجه، واليد، والنزول، والمجئ، ولا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث: ما لا يدل على صفاتٍ واجبةٍ ولا ممتنعة، بل يدل على معانٍ ثابتة، نحو: المكر والخداع وأمثالهما. فلا يصح إطلاقه، إلا إذا ورد التوقيف. ولا يقال: يا مكار، يا خداع، البتة، وإن كان مذكوراً، كقوله: (ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ) [آل عمران: 54]. فإن قلت: أليس أن العجم يسمون الله باسمٍ غير وارد، والأمة قد اتفقوا على صحته؟ فنقول: الأصل فيه ألا يصح، وأما اتفاقهم على الصحة، فإنه يدل على كونه وارداً، وأما الوصف فإنه لا يتوقف على التوقيف، فإن مدلول اللفظ لما كان ثابتاً في حق الله تعالى كان وصفه به حقاً، فوجب أن يصح، غير أنه إذا كان موهماً لما لا يليق بحضرته، فاللازم هو الاحتراز عنه". وقال أيضاً: "المتكلمون قالوا: اللفظ إما أن يدل على نفس الحقيقة من حيث هي هي، كالأرض، والسماء، والحجر، والمدر، فهو الاسم، أو يدل على أنها موصوفة بصفةٍ معينة، نحو: العالم والقادر والخالق والرازق، وهو الصفة". وقلت: هذه القسمة التي ذكرها، والفرق الذي نقله، كله على خلاف رأي الأصحاب. والحق أن الاعتماد في كل ذلك على التوقيف، فكل ما أذن به الشارع أن يدعى به الله عز اسمه - سواء كان مشتقاً أو غير مشتق - فهو اسم، وكل ما نسب إليه تعالى من غير ذلك الوجه - سواء كان مؤولاً أو غير مؤول - فهو وصف، كقوله تعالى: (ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى

لما قال: (وَلَقَدْ ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) [الأعراف: 179]، فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله: (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَادْعُوهُ بِهَا وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ). وقوله صلي الله عليه وسلم: "إن الله تسعةً وتسعين اسماً، مئةً إلا واحداً". وقول الآئمة: يقال: يا رحيم، لا: يا رفيق، ويقال: يا قوي، لا: يا جليد. ولا يقال: يا معلم، يا محب. مثاله حديث سلمان رضي الله عنه، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع إليه العبد يده أن يرده صفراً، حتى يضع فيهما خيراً"، أخرجه أبو داود والترمذي. فالاسم كريم، والوصف حيي، فيقال: يا كريم، لا: يا حيي. وقوله: "يرده" و"يضع" مما نسب إليه، فيجوز اعتبار لفظهما فحسب، فلا يقال: يا راد، يا واضع، فقس على ذلك، لا على العقل. وقل: "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". قوله: (لما قال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً) ... أتبعه قوله: (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)): ولخص القاضي هاهنا كلام الإمام، حيث قال: "ذكر الله تعالى (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ)، بعد ما بين أنه خلق للنار طائفةً ضالين ملحدين عن الحق، للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة هادين بالحق، عادلين في الأمر. واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في كل قرنٍ طائفةً بهذه الصفة، إذ لو اختص بعهد الرسول صلي الله عليه وسلم أو غيره، لم يكن لذكره فائدة. فإنه معلوم". وقلت: قد ظهر من كلام المصنف والإمامين، أن قوله تعالى: (وممن خلقنا) عطف على جملة قوله: (ولقد ذرأنا) [الأعراف: 179]. وقوله: (يهدون بالحق وبه يعدلون)، إذا أخذ بجملته وزبدته، كان كالمقابل لقوله: (لهم قلوبٌ لا يفقهون بها) إلى قوله: (هم الغافلون) [الأعراف: 179]، وكلتا الآيتين كالنشر لقوله: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) وهو كالتذييل لحديث بلعام، الذي أوتي آيات الله، والأسماء العظام، فانسلخ منها، ومال إلى الأرض. ولما كانت الآيات تابعةً لتلك المعاني صح أن يكون: (ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) [الأعراف: 180] اعتراضاً. وأما تعلقه بقوله: (أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) [الأعراف: 179] فإنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله، وعن أسمائه الحسنى. وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم، لأن القلب، إذا غفل عن ذكر الله، وأقبل على الدنيا وشهواتها، وقع في نار الحرص، ولا يزال يترقى من ظلمةٍ إلى ظلمة، حتى ينتهي إلى دركات الحرمان. وبخلافه إذا انفتح على القلب باب ذكر الله تعالى.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) [الأعراف: 159] "، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام» وعن الكلبي: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين. [(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)]. الاستدراج: استفعالٌ من الدرجة؛ بمعنى: الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. قال الأعشى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها) يعني: قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) حاصل لكم، ونازل في شأنكم، فهي مختصة بكم، وقد أعطي القوم الذين سبقكم، يعني: بني إسرائيل، مثل هذه الآية، وهي قوله تعالى: (ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) الآية [الأعراف: 159]، يريد: لا تحملوا هذه الآية على بني إسرائيل، فإن لهم آية أخرى، واردةً في شأنهم. قوله: (إن من أمتي قوماً على الحق) الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن معاوية قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".

فلو كنت في جبّ ثمانين قامةً ... ورقيت أسباب السّماء بسلّم ليستدر جنك القول حتّى تهرّه ... وتعلم أنّى عنكم غير مفحم ومنه: درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ): سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغيّ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلو كنت في جب) البيتين، الجب: البئر. وأسباب السماء: أبوابها. تهره: تكرهه. أفحمت فلاناً: إذا لم يطق جوابك. يقول: لو كنت مثلاً تحت الأرض، أو صعدت في السماء، ما تخلصت مني، ومن هجائي إياك، فإني أستصعدك من تحت الأرض، وأستنزلك من السماء، بقولٍ تكرهه، لتعلم أني غير مفحم من جوابك. يقول: لو كنت مثلاً تحت الأرض، أو صعدت في السماء، ما تخلصت مني، ومن هجائي إياك، فإني أستصعدك من تحت الأرض، وأستنزلك من السماء، بقولٍ تكرهه، لتعلم أني غير مفحم من جوابك. والواو في: "ورقيت" بمعنى "أو"؛ لأنه على وزان قوله تعالى: (فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 35]. قوله: (أن يواتر الله نعمه) أي: يتابع، من الوتيرة، وهي: الطريقة.

فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أنّ مواترة النعم أثرةٌ من الله وتقريب، وإنما هي خذلانٌ منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه. (وَأُمْلِي لَهُمْ) عطفٌ على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ)، وهو داخل في حكم السين، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سماه "كيداً" لأنه شبيهٌ بالكيد، من حيث إنه في الظاهر إحسان، وفي الحقيقة خذلان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: "المواترة: المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة، وإلا فهي مداركة". قوله: (فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم)، يمكن أن يحمل على الاستصعاد، باعتبار نظروهم وزعمهم أن مواترة النعم أثرة من الله، وهو الظاهر، وأن يحمل على الاستنزال، باعتبار الحقيقة؛ فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة، متهيئة لقبول الحق، لقضية "كل مولود يولد على الفطرة"، فهو في يفاع التمكن على الهدى والدين، فإذا أخلد إلى الأرض، واتبع الشهوات، ارتكب المعاصي، فنزل درجةً درجة، إلى أن يصير إلى أسفل السافلين، ومنزل أولئك (كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان: 44]. وإليه يلمح قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين: 4، 5]. قوله: (أثرة من الله) من قولهم: استأثر فلان بالشيء: اختص به. والاسم: الأثرة، بالتحريك.

(ما بِصاحِبِهِمْ): بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، (مِنْ جِنَّةٍ) من جنون، وكانوا يقولون: شاعرٌ مجنون. وعن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا، فدعاهم فخذاً فخذاً، يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يهوّت إلى الصباح. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال، (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيما تدلان عليه من عظم الملك؟ والملكوت: الملك العظيم، (وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن النبي صلي الله عليه وسلم علا الصفا) الحديث من رواية البخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عباس: "لما نزلت: (وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، صعد النبي صلي الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي"، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجاء أبو لهب وقريش. فقال: "أرايتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي، تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ) [المسد: 1] ". قوله: (يهوت)، النهاية: "يهوت، أي: ينادي عشيرته، يقال: هوت بهم وهيت: إذا ناداهم، والأصل فيه حكاية الصوت. وقيل: هو أن يقول: ياه ياه. وهو نداء الراعي لصاحبه من بعد". قوله: (مما يقع عليه اسم الشيء) يعني: قوله تعالى: (من شيء) بيان "ما" في "ما خلق الله"، يعني: إن فيما خلق الله تعالى أشياء ما علق عليها أسماءً ويقع عليها اسم الشيء.

(وَأَنْ عَسى) "أن" مخففةٌ من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث: عسى (أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم، قبل مغافصة الأجل وحلول العقاب. ويجوز أن يراد باقتراب الأجل: اقتراب الساعة، ويكون من «كان» التي فيها ضمير الشأن. فإن قلت: بم يتعلق قوله؛ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قلت: بقوله: (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)، كأنه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وأن عسى): "أن" مخففة من الثقيلة): قال أبو البقاء: "ويجوز أن تكون مصدرية. وعلى الوجهين هو عطف على (ملكوت)، و (أن يكون): فاعل (عسى)، واسم (يكون) مضمر فيها، وهو ضمير الشأن، و (قد اقترب) خبر "كان"، والهاء في (بعده) ضمير القرآن". وقوله: "ويكون من "كان" التي فيها ضمير الشأن": ابتداء كلامٍ لا يختص بقوله: "ويجوز أن يراد". قوله: (مغافصة الأجل)، الأساس: "غافصه الأمر: فاجأه على غرةٍ منه. ووقاك الله غوافص الدهر، أي: حوادثه". قوله: (كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن)، يدل على أن قوله تعالى: (عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) متصل بقوله: (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ)، وأن اتصال: (فبأي حديث) بقوله: (عسى أن يكون) اتصال المسبب بالسبب، لكن على تقدير معطوفات، فإنه قدر للفاء مدخولا آخر، وعطف (فبأي حديث) بالواو عليه. المعنى: أو لم يتفكروا أن الشأن والحديث أن يكون قد اقترب أجلهم، فيسارعوا إلى التفكر في القرآن، والإيمان به. وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا. والذي يدل على أن الكلام في القرآن، وأنه متعلق بالأول، الضمير في قوله تعالى: (بعده)، وأن أصل الكلام في الرسول صلي الله عليه وسلم ونفي الجنون عنه، بما يورده من الوحي، لأن وزان الآية وزان قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون)، إلى قوله: (إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [التكوير: 22 - 27]، والآيات المشابهة لها. وإنما خلط المصنف الكلام بعضه مع بعض، لأن قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) جاء مقرراً لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). المعنى: أو لم يتجردوا للتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء، ليعلموا أن الله عز وجل لم يخلقهم سدى، وإنما خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وليحصلوا ما به ينالون الزلفى عند الله، ويتخلصوا من عقاب السرمد. ولا يستتب ذلك إلا بإنزال كتاب، وإرسال رسول. فها هو قد أنزل إليكم هذا الكلام المجيد، وأرسل هذا الرسول الكريم، فيتفكروا في أحواله، ليعلموا أنه ليس بمجنون، ولينظروا في أحوال أنفسهم،

وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ؟ ، وبأي: حديثٍ أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا؟ [(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليتحقق الأمر. فما هذا التواني والانتظار؟ فانتظروا الفرصة، إذ ليس بعد ذلك حديث مثله، فآمنوا به قبل مغافصة الأجل، وحلول العقاب. فلما كان قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) تقريراً لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ) متصلاً به، وكان حديثاً في شأن التنزيل والرسول، عطف قوله: (وأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عليه. روى محيي السنة عن قتادة: أن النبي صلي الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً، فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً: "يا بني فلان، يا بني فلان"، يحذرهم بأس الله ووقائعه. فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون. فأنزل الله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم، فقال: (أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) ليستدلوا به على وحدانيته، (وأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي: بعد القرآن. أي: بأي كتابٍ غير ما جاء به محمد يصدقون، وليس بعده نبي ولا كتاب؟ ! ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال تعالى: (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ) [الأعراف: 186]. قوله: (وبأي حديثٍ أحق منه)، أحق منه: تأويل (بعده). المغرب: "قوله: وإن كان

قرئ: (وَيَذَرُهُمْ) بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، و"يذرهم" بالياء والجزم؛ عطفاً على محل (فَلا هادِيَ لَهُ)، كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم. [(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَاتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)]. (يَسْئَلُونَكَ) قيل: إن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً، فإنا نعلم متى هي! وكان ذلك امتحاناً منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل: السائلون قريش. و (السَّاعَةِ) من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس بالذي "لا بعد له"، يعني: ليس بنهاية في الجودة والرداءة، فكأن محمدًا - رحمة الله عليه - أخذ من قولهم: هذا مما ليس بعده غاية في الجودة والرداءة". قوله: (وقرئ: (ويذرهم) بالياء والنون): بالياء: أبو عمروٍ وعاصم. وبالنون: نافع وابن كثير وابن عامر، وحمزة والكسائي: بالياء وجزم الراء. قوله: (أو على العكس): أي: سميت القيامة بالساعة، بناءً على عكس ما هي عليه من الطول، تمليحًا، كما سميت المهمه مفازةً، والأسود كافورًا.

أو لأنها عند الله على طولها كساعةٍ من الساعات عند الخلق. (أَيَّانَ) بمعنى: متى. وقيل: اشتقاقه من "أي"؛ فعلان منه، لأن معناه: أي: وقتٍ وأي فعل، من: أويت إليه، لأن البعض آوٍ إلى الكل متساندٌ إليه، قاله ابن جني، وأبى أن يكون من «أيان»؛ لأنه زمان، «وأين» مكان. وقرأ السلمى: "إيان" بكسر الهمزة، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لأنها عند الله) عطف على قوله: "لوقوعها بغتة"، يعني: سميت القيامة عرفًا بكذا، وعند الله بكذا. والساعة عرفًا: عبارة عن أدني الزمان. قال في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ) [الروم: 55]: "الساعة: القيامة، سميت بذلك لأنها تقع بغتة، كما تقول: "في ساعة"، لمن تستعجله، وجرت علمًا لها، كالنجم للثريا". قوله: (قاله ابن جني): ذكر ابن جني في "المحتسب": "أما "أيان" بفتح الهمزة: ففعلان، وبكسرها: فعلان، والنون فيهما زائدة، حملاً على الأكثر في زيادة النون، في نحو ذلك. ولم تجعل "فعالاً" من لفظ "أين"، لما يمنع منه كون "أيان": ظرف زمان، و"أين": ظرف مكان. و"أي" هذه من لفظ "أويت" ومعناه: أما اللفظ فإن باب "طويت" و"شويت" أضعاف باب و"أي" هذه من لفظ "أويت" ومعناه: أما اللفظ فإن باب "طويت" و"شويت" أضعاف باب "حييت" و"عييت"، وأما المعنى فإن البعض أو إلى الكل، ومتساند إليه، فأصلها على هذا: "أوى"، ثم قلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، فصارت "أي"، كقولك: طويت الكتاب طيًا، وشويت اللحم شيًا". قال أبو البقاء: " (أيان): اسم مبني، لتضمنه معنى حرف الاستفهام، بمعنى "متى"، وهو خبر لـ (مرساها)، والجملة في موضع جر بدلاً من الساعة، أي: يسألونك عن زمان حلول الساعة".

(مُرْساها): إرساؤها، أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها، وكل شيءٍ ثقيل رسوّه ثباته واستقراره. ومنه: رسا الجبل وأرسى السفينة. والمرسى: الأنجر الذي تُرسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)، والمعنى: متى يرسيها الله، (إِنَّما عِلْمُها) أي: علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، لم يخبر به أحداً من ملكٍ مُقرّبٍ ولا نبيّ مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أخفى الأجل الخاص، وهو وقت الموت، لذلك (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي: لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة، لا يجليها بالخبر عنها قبل مجيئها أحدٌ من خلقه، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا أثقل من الساعة): يعني: إنما استعير (مرساها) لإثبات (الساعة) وإقرارها، والرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة: كالجبل، وأنجر السفينة، لأن "الساعة" أيضًا ثقيلة في المعنى، ولا أثقل منها. قال الله تعالى: (ويَذَرُونَ ورَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً) [الإنسان: 27]. ولهذا قال بعدها: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) فجعل السموات والأرض ظرفًا لها، تشبيهاً للمعاني بالأجسام. ووجه التشبيه: أن كل شيءٍ لا يطاق ولا يقام له فهو ثقيل، كما صرح به. قوله: ((لا يجليها لوقتها إلا هو))، "اعلم أن قوله: (لوقتها) حال من فاعل (يجليها)، واللام فيه - أي: في (لوقتها) - مثلها في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) وهي للتأقيت. قاله القاضي.

لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها، (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي: كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة، وبودّه أن يتجلى له علمها، وشق عليه خفاؤها، وثقل عليه، أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها، أو لأن كل شيءٍ لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلةٌ فيها، (إِلَّا بَغْتَةً): إلا فجأةً على غفلةٍ منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوّم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثقلت في السماوات والأرض) أي: كل من أهلها): اعلم أن نسبة الثقل إلى السماوات والأرض - كما سبق - معنوي، فإما أن يقدر الأهل أو لا، والأول: الثقل: إما بحسب الاهتمام بشأن معرفتها، وأنها خفية لا تعلم، فيشق عليهم، أو بحسب الخوف من شدائدها، والتقدير: ثقل هم معرفتها، أو خوف إرسائها على أهل السماوات والأرض. و (في) هاهنا كما هي في قوله تعالى: (ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه: 71]، ولذلك قال: "شق عليه". والثاني: معنى الثقل: هو أن نفس السماوات والأرض لا تطيقها، فإن السماوات تنشق عند نزولها، والأرض ترجف، والجبال تنهد. قوله: (وبوده أن يتجلى له): يقال: بودي أن أفعل كذا، أي: أتمنى، والباء زائدة، مثلها في: "بحسبك أن تفعل كذا"، وهو مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على خبر "كل" وهو "أهمه". قوله: (إن الساعة تهيج بالناس): روينا عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد

(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها): كأنك عالمٌ بها، وحقيقته: كأنك بليغٌ في السؤال عنها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن، وهذا التركيب معناه المبالغة، ومنه: إحفاء الشارب، واحتفاء البقل: استئصاله، وأحفى في المسألة، إذا ألحف، وحفي بفلانٍ وتحفى به: بالغ في البرّ به. وعن مجاهد: استحفيت عنها السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود: "كأنك حفيّ بها"، أي: عالمٌ بها بليغٌ في العلم بها. وقيل: (عَنْها) متعلقٌ بـ (يسئلونك)، أي: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ- أي: عالم- بها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها" أخرجه البخاري ومسلم. قوله: ((كأنك حفى عنها): كأنك عالم بها): اعلم أن (عنها) في قوله تعالى: (يسألونك كأنك حفى عنها) إما أن يتعلق بقوله: (حفى) أو (يسألونك). فإذا علق بـ (حفى) يكون كنايةً عن علمٍ رصين، لأن معنى (حفى عنها): بليغ في السؤال عن الساعة. وفيه تضمين معنى السؤال، ودلت المبالغة في المسالة عن الشيء على حصول ذلك الشيء على سبيل الاستحكام. قال الزجاج: "كأنك أكثرت المسألة عنها". المعنى: يظن اليهود أنك مبالغ في السؤال عن الساعة، حتى منحك الله علمها، فيسألون: أيان ذلك؟

وقيل: إن قريشاً قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ تتحفى بهم، فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة، وتزوي علمها عن غيرهم، ولو أُخبرت بوقتها لمصلحةٍ عرفها الله في إخبارك به، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص، كسائر ما أوحي إليك. وقيل: كأنك حفيٌّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعنى أنك تكره السؤال عنها، لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به، ولم يؤته أحداً من خلقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا معنى قول مجاهد: "استخفيت عنها السؤال، حتى علمت"، لأن "حتى" للتدرج. وقراءة ابن مسعود: "كأنك حفي بها" لأنه ضمنه معنى العلم الذي هو بمعنى الإحاطة، كقوله: (وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12]، وعداه بالباء. وأما إذا علق (عنها) بـ (يسألونك)، فمتعلق (حفى) إذا الباء المقدرة. ثم لا تخلو (حفى) إما أن تضمن معنى العلم مع الباء المقدرة، كقراءة ابن مسعود، وهو المراد بقوله: " (يسألونك كأنك حفى عنها): أي عالم بها"، وإما أن تجعل من قولهم: حفي بفلان، وتحفى به: بالغ في البر به، ثم مدخول الباء إما ضمير السائل فهو المراد من قوله: " (كأنك حفى عنها): تتحفى بهم، فتختصهم بتعليم وقتها"، أو ضمير السؤال، وهو المراد من قوله: "كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتختاره". قال الزجاج: "كأنك فرح بسؤالهم، يقال: تحفيت بفلان في المسألة: إذا سألت سؤالاً أظهرت فيه المحبة والبر به". قال أبو البقاء: " (حفي عنها) فيه وجهان: أحدهما تقديره: (يسألونك كأنك حفي عنها)،

فإن قلت: لم كرر (يسئلونك) و (إنما علمها عند الله)؟ قلت: للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)، وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم، لا يخلون المكرر من فائدةٍ زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها. [(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)]. (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي) هو إظهارٌ للعبودية، والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبدٌ ضعيفٌ لا أملك لنفسي اجتلاب نفعٍ ولا دفع ضررٍ كما المماليك والعبيد، (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، ومن استكثار الخير، واستغزار المنافع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: معني بطلبها، فقدم وأخر. والثاني: أن "عن" بمعنى الباء، أي: حفي بها، و (كأنك) حال من المفعول. (حفي) بمعنى "محفو)، و"فعيل" بمعنى: فاعل". قوله: (لا يخلون المكرر من فائدةٍ): قال في "الانتصاف": "وفي التكرير نكتة لا توجد إلا في القرآن، فإنه إذا بني الكلام على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، وأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول، وقد بعد، طري لتتصل النهاية بالبداية، فإنه تعالى ابتدأ بقوله: (يسألونك عن الساعة)، وطال الكلام، إلى قوله: (بغتة)، وأراد إنكار سؤالهم بوجه آخر، هو قوله: (كأنك حفي) وتعلقه قوي بالسؤال، فطري، وغالب التطرية بإجمال، ولهذا قال: (يسألونك) ولم يذكر "الساعة"، اكتفاءً بما تقدم، وأعاد: (إنما علمها عند الله) مجملاً".

واجتناب السوء والمضارّ، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب، ورابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً مخطئاً في التدابير، (إِنْ أَنَا إِلَّا) عبدٌ أُرسلت نذيراً وبشيراً، وما من شأني أني أعلم الغيب، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بـ"النذير" و"البشير" جميعاً، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم، أو يتعلق بـ"البشير" وحده ويكون المتعلق بـ"النذير" محذوفاً، أي: إلا نذيرٌ للكافرين، وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون. [(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)]. (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي نفس آدم عليه السلام، (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه، أو من جنسها كقوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل: 72]، (لِيَسْكُنَ إِلَيْها): ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم أكن غالبًا مرةً، ومغلوبا أخرى في الحروب): قلت: ومن ثم سأل هرقل أبا سفيان، على ما روينا عن البخاري ومسلم: هل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً: يصيب منا، ونصيب منه. قال: كذلك الرسل، تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.

كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعةً منه، وقال: (لِيَسْكُنَ) فذكر بعد ما أنث في قوله: (واحدةٍ)، (منها زوجها)، ذهاباً إلى معنى "النفس" ليبين أن المراد بها آدم، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى. والتغسي: كنايةٌ عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بضعة منه)، الجوهري: "البضعة: القطعة من اللحم، هذه بالفتح، وأخواتها بالكسر، مثل: القطعة والفلذة". قوله: (فكان التذكير أحسن طباقًا): قيل: لو أنث الضمير في (ليسكن) لتوهم أن فاعله ضمير الزوج، والضمير المجرور للنفس، وأدى إلى أن الأنثى هي التي تسكن إلى الذكر، والشأن خلافه، وقلت: وفيه نظر. وإنما عطف المصنف "ويتغشاها" على "ويسكن" ليؤذن بالبيان والتفسير. والسكون على هذا الوجه غير السكون على الأول، لأنه كالمقدمة للجماع، وما به يتوصل الرجل إلى ما يريده من المرأة. فالفاء في (فلما تغشاها) للتعقيب، كقوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]، فذكر الضمير مراعاةً للفظ والمعنى.

(فَمَرَّتْ بِهِ) فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداجٍ ولا إزلاق. وقيل: (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) يعني: النطفة، (فَمَرَّتْ بِهِ) فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنه: "فاستمرت به"، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفائدة هذا الوجه: بيان المقصود الأول من الازدواج للتوالد والتناسل، حيث أوقع الغشيان ومقدمته، أي: السكون، علة للجعل. ومن عنده أدنى مسكةٍ يعلم أن الجماع غير مطلوب بالذات، وإنما هو ذريعة إلى تكثير نوع الإنسان، فظهر من هذا أن عطف (فلما تغشاها) على (ليسكن) مانع عن أن يحمل "السكون" على الأنثى. قوله: (إلى وقت ميلاده)، وهو من إضافة العام إلى الخاص، نحو: كل الدراهم، لأن الميلاد هو "اسم الوقت الذي ولد فيه، والمولد: الموضع الذي ولد فيه". قاله الجوهري. وأما في "الأساس" فهما سيان، قال: "مولده وميلاده: وقت كذا". قوله: (من غير إخداجٍ)، الأساس: "ناقة خادج: ألقت ولدها قبل الوقت، وإن تم خلقه. ومخدج: جاءت به ناقص الخلق، وإن كان لوقته". قوله: (ولا إزلاق)، الأساس: "ومن المجاز: أزلقت الرمكة: أسقطت، وهي مزلاق، وولدها زليق". قوله: ((فمرت به): فقامت به وقعدت): قال الزجاج: " (فمرت به)، معناه: استمرت به، قعدت وقامت، فلم يثقلها". ومن ثم عقبه المصنف بقراءة ابن عباس: "واستمرت به".

وقرأ يحيى بن يعمر: "فمرت به" بالتخفيف، وقرأ غيره، "فمارت به"؛ من المرية، كقوله: (أَفَتُمارُونَهُ) [النجم: 12]، و"أفتمرونه". ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، وارتابت به. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ): حان وقت ثقل حملها، كقولك: أقربت. وقرئ: "أثقلت"، على البناء المفعول: أي: أثقلها الحمل، (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما): دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يُدعى ويلتجأ إليه، فقالا: (لَئِنْ آتَيْتَنا): لئن وهبت لنا، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جني: "معنى "استمرت به": مرت مكلفةً نفسها ذلك، لأن "استفعل" إنما يأتي في أكثر الأمر للطلب". قوله: (وقرأ غيره: "فمارت به"): قال ابن جني: "وهي قراءة عبد الله بن عمرو. وهو من: مار يمور: إذا ذهب وجاء. والمعنى واحد. ومنه سمي الطريق مورًا، للذهاب والمجيء عليه". وقال: "أصل قراءة يحيي بن يعمر: (فمرت به) مثقلاً، كقراءة الجماعة، فحذف تخفيفًا لثقل التضعيف، ومنه قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) [الأحزاب: 33] إذا أخذ من القرار. ومنه: "ظلت"، و"مست"، في: ظللت، ومسست". وهذا الذي ذكره ابن جني أوفق للمشهورة مما ذكره المصنف. قوله: (ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه): يريد أنهم إذا حزبهم أمر خطير دعوا الله. وأما تخصيص الرب بالدعاء فللاستعطاف، ولهذا قال: "ومالك أمرهما".

(صالِحاً): ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء. وقيل: ولداً ذكراً، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في (آتَيْتَنا) و (لَنَكُونَنَّ) لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما. (فَلَمَّا آتاهُما) ما طلباه من الولد الصالح السويّ، (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أي: جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك (فِيما آتاهُما) أي: آتى أولادهما، وقد دلّ على ذلك بقوله: (فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك، ومعنى "إشراكهم فيما آتاهم الله": تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف في قوله تعالى: (بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 1، 2]: "كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ووالي أمرهم". قوله: ((جعلا له شركاء) أي: جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف): روى محيي السنة هذا القول عن الحسن وعكرمة، وقال: "فحذف الأولاد، وأقامهما مقامهم، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء، فقال: (ثم اتخذتم العجل) [البقرة: 51، 92] (وإذ قتلتم نفسًا) [البقرة: 72] ". وقال الزجاج: "والذي عليه التفسير أن إبليس جاء إلى حواء، فقال: أتدرين ما في بطنك؟ فقالت: لا أدري! قال: فلعله بهيمة! ثم قال: إن دعوت الله أن يجعله إنسانًا، أتسمينه باسمي؟ فسمته عبد الحارث، وهو الحارث".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى نحوه محيي السنة عن ابن زيد، وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال: "خاطب كل واحدٍ من الخلق بقوله: (خلقكم)، أي: خلق كل واحدٍ من أبيه، وجعل من جنسه زوجه". قال محيي السنة: "وهذا قول حسن، لولا قول السلف، مثل عبد الله بن عباس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وجماعةٍ من المفسرين: إنه في آدم وحواء". وقلت: ما أقول: إن قول السلف أحسن الأقوال، لأنه لا قول غيره، ولا معول إلا عليه، لأنه مقتبس من مشكاة النبوة، وحضرة الرسالة صلوات الله وسلامه عليه على ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث، فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره". قال محيي السنة: "لم يكن هذا إشراكاً في العبادة، ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم عليه السلام كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد، وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك، كما أن اسم الرب يطلق على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من لا يراد أنه معبود. فعلى هذا قوله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) ابتداء كلام، وأراد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق، فمستقيم من حيث كان الأولى بهما ألا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم". وقلت: يدفع هذا قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا)، فإنه في الأصنام قطعاً، بل القول: إنه ابتداء كلام، وتمام تقريره أن يقال: إن قوله تعالى: (خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) كلام وارد على النفس الواحدة وزوجها، مضمن للامتنان عليهما، وطلب الشكر، والتفادي عن الكفران، ولإلزامهما على أنفسهما الشكر، على سبيل المبالغة، على ما دل عليه قوله تعالى: (من الشاكرين) أي: من زمرتهم. وقوله تعالى: (فلما أتاهما صالحاً جعلا له شركاء) الجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها بالفاء، وجملة الكلام مفرغ في قالب واحد، على سنن قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم) - أي: شكر رزقكم - (أنكم تكذبون) [الواقعة: 82]. فلو أجري (جعلا له) على غير ما أجري عليه الأول، لاختل النظام، وفات المقصود من الإيراد. وأما الهرب من إثبات ذلك الشرك لآدم وحواء فبعيد من البليغ المحيط بأساليب البلاغة، فإن باب التشديد والتغليظ غير مسدود، وإنما لزم الفساد أن لو حمل على الشرك الحقيقي. وأما جمع الضمير في (عما يشركون) فإن الفاء السببية التي تستحق أن تسمى بالفاء الفصيحة في قوله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) تقتضي أن يجري الكلام على مشركي مكة، لأنها مع متعلقها المحذوف كالتخلص من قصة آدم وحواء، إلى توبيخ المشركين،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ما أشار إليه محيي السنة بقوله: "ابتداء كلام، وأراد به إشراك أهل مكة". يعني إذا كان الأمر على ما ذكر، وهو مثل هذه التسمية التي لها محامل كثيرة في التبري عن الشرك، مأخوذاً على أبي البشر، ومسمى بالشرك، فما بال فعل هؤلاء المشركين، من تسمية الحجر والخشب بالآلهة، والعكوف على عبادتها، وتصريح اسم الشركاء عليها؟ (فتعالى الله عما يشركون). ثم ابتدئ مبيناً موبخاً: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) إلى آخر الآيات الواردة في الأصنام. هذا، وإن هذه السورة الكريمة: من مفتتحها إلى مختتمها، مفرغة في قالبٍ واحد، على نمطٍ عجيب، وأسلوبٍ غريب، لأنه تعالى افتتحها بقوله: (الّمص * كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ) [الأعراف: 1 - 2] نهاه صلوات الله وسلامه عليه عن ضيق الصدر، والتحرج عما كان يلقى من المشركين من أنواع الأذى، لئلا يتوانى في التبليغ والإنذار، ثم قص عليه قصص الأنبياء الماضية، والقرون السالفة، وما كان مغبة تكذيبهم، وعاقبة صبر الأنبياء، تشجيعاً له، وتثبيتاً لقلبه: (وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ). ثم ختم قصص الأنبياء بذكر موسى عليه السلام وأطنب في أحوال أمته، إلى أن انتهت إلى قصة بلعام وأحواله، وكانت قصته شبيهة بقصة اليهود الذين أدركوا زمن الرسول صلي الله عليه وسلم وآذوه، وأورد قوله: (سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 177] على ما سبق. فكر راجعاً إلى ما بدئت به السورة، من: تكذيب القوم، وإعراضهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن آيات الله، وما كان يتحرج منه صدره صلوات الله عليه من قوله تعالى: (والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)، وقوله: (يسألونك عن الساعة) أي: يسألونك أيان مرساها؟ مقترحين، فلا تبال بهم، وأجب عن سؤالهم وأنت منشرح الصدر: (إنما علمها عند ربي) إلى آخر نيفٍ وعشر آيات، على طريقة الأسلوب الحكيم. وتحريره: أني ما بعثت لأن أكشف لكم عن أيان الساعة، لأنه من الأمور الإلهية، لا إطلاع لي عليه، (لا يجليها لوقتها إلا هو)، (إن أنا إلا نذير وبشير)، وإنما بعثت لأكشف لكم عن الاستعداد لها، والعمل بما ينفعكم، ومما هو أهم الأشياء، وأدعى إليه أن أكشف لكم عن قبح ما أنتم فيه من الشرك بالله، وأوقفكم (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]. ألا ترون إلى أبيكم حين سمى بعض بنيه بما يتوهم منه أنه أدنى الشرك، كيف نعى عليه، وسجل بقبحه؟ فكيف بما تفعلون أنتم؟ وهلم جراً إلى آخر الآيات. ومن هذا الأسلوب ما رويناه عن البخاري ومسلم عن أنس: أن رجلاً سأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟ " فكأن الرجل استكان، ثم قال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع من أحببت"، وفي رواية: قال أنس: "ما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي صلي الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم.

ووجهٌ آخر، وهو أن يكون الخطاب لقريشٍ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستكانة: الذل والخضوع. وقلت - والعلم عند الله -: انظر إلى هذا العلاج الصائب لمرضى القلوب، فإن الطبيب الحاذق قد يحتاج في علاجه إلى تدبير دفع الأخلاط الرديئة، لإزالة المرض، وقد يحتاج إلى تدبير حفظ الصحة فقط. والمشركون لما سألوا عن وقت الساعة، ولم يكن أهم شيءٍ إلا قلع الشرك، فقيل: (هو الذي خلقكم) إلى آخر الآيات، أدرج في الجواب الحكيم معرفة المسؤول عنه، وأنها مما استأثر الله تعالى بها. ولم يحتج في جواب الصحابي إلى هذا القدر، فلم يذكر. يعني: أنك بصدد أن يجب عليك ألا يخطر ببالك هذا، لأنك ممن يؤمن أن علم ذلك مختص بالله تعالى. وأما إزالة الشرك فإنك قد فرغت منها، بقي عليك ما يخلصك من أهوال يوم القيامة من العمل، "فما أعددت لها؟ " فأجاب هو أيضًا بالكلمة الحكيمة الجامعة: لكني أحب الله ورسوله. فانظر إلى هذه الرموز التي تحير العقول! قوله: (ووجه آخر، وهو أن يكون الخطاب لقريشٍ): روى محيي السنة عن ابن كيسان: "هم الكفار، سموا أولادهم: عبد العزى، وعبد اللات، وعبد مناة". وقال صاحب "الانتصاف": "وأقرب من هذين التفسيرين أن يراد جنسا الذكر والأنثى، من غير قصدٍ إلى معينٍ معلوم. أي: خلقكم جنساً، وجعل أزواجكم منكم، لتسكنوا إليهن. فلما تغشى الجنس جنسه الآخر، جرى من هذين الجنسين كذا وكذا.

وهم آل قصي، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز إضافة الكلام إلى الجنس، تقول: "قتل بنو تميم فلاناً"، ومثله قوله تعالى: (ويَقُولُ الإنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ) [مريم: 66]، (قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس: 17]، (إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 2]. وعلى التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء، وهو واقع من بعضهم، وعلى الثاني أضافه إلى قصي وعقبه، وأراد بعضهم، ويسلم بهذا من حذف المضاف اللازم للأول، ومن استبعاد إرادة قصي بهذا. والظاهر من قوله: (ليسكن إليها) أن المراد الجنس". تم كلامه. قلت: إن لزم من التفسيرين ما ذكر من المحذوف، لزم من تفسيره أيضًا إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة. والتأويل ما نص عليه من أوحي إليه التنزيل، كما سبق بيانه. والله أعلم. قوله: (وهم آل قصي) أي: الذين كانوا في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم آل قصي، أي: أولاده، يدل عليه قوله: "ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصي"، والأقرب ما ذكره في الأنعام: "قال أبو جهلٍ: إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ " لأنه دل على أن قصياً من قريش. قال محمد بن هشام صاحب "السير": النضر بن كنانة قريش، فمن كان من ولده فهو

ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد: فَيَا لَقُصَيّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُؤدَدِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرشي، وإلا فلا، وقيل: من كان من ولد فهر بن مالك بن النضر فهو قرشي، وسمي قريش لتجمعها من تفرقها، كذا في "جامع الأصول". وفي "الجامع" أيضاً: قيل: أول من سمي قريشاً قصي، وفيه بعد، والأكثر الأول، وقال محمد بن هشام: كان قصي أول من بني كعب ابن لؤي أصاب ملكاً أطاع به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء، فحاز شرف مكة كله. قوله: (في قصة أم معبد): هذه القصة مذكورة في "شرح السنة"، و"الاستيعاب" لابن عبد البر، وكتاب "الوفا" لابن الجوزي. ونحن نورد رواية "شرح السنة". قال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أخرج من مكة، خرج مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه وعامر وعبد الله بن أريقط، فنزلوا خيمة أم معبد، فرأى رسول الله صلي الله عليه وسلم شاةً خلفها الجهد عن الغنم، فدعا بها رسول الله صلي الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودعا لها، فتفاجت عليه، ودرت، فدعا بإناء، فحلب فيه ثجاً، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيها ثانياً، ثم غادره عندها وارتحلوا. فجاء زوجها، فذكرت القصة. قال أبو معبد: هو، والله، صاحب قريشٍ الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر! فأصبح صوت بمكة عالياً، يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعالٍ لا يجازى وسؤدد ليهن بني كعبٍ مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاةٍ حائل فتحلبت ... عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد فغادرها رهناً لديها لحالبٍ ... يرددها في مصدرٍ ثم مورد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: والصوت صوت مسلم الجن، أقبل من أسفل مكة، حتى خرج بأعلاها". وزاد ابن عبد البر: "فلما سمع ذلك حسان بن ثابت، أجاب: لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويغتدي ترحل عن قومٍ فضلت عقولهم ... وحل على قومٍ بنورٍ مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم، من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلال قومٍ تسفهوا ... عما يتهم، هادٍ به كل مهتد لقد نزلت منه على أهل يثربٍ ... ركاب هدىً حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته، من يسعد الله يسعد ليهن بني كعبٍ مقام فتاتهم ... ومسعدها للمؤمنين بمرصد"

ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصيّ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشيةً ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد منافٍ، وعبد العزى، وعبد قُصيٍّ، وعبد الدار، وجعل الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسنٌ لا إشكال فيه. وقرئ: (شركاً)، أي: ذوي شرك، وهم الشركاء، أو أحدثا لله إشراكاً في الولد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنف في "الفائق": "معنى البيت: تعالوا يا قصى، لنتعجب منكم فيما أغفلتموه من حظكم، وأضعتموه من عزكم، بعصيانكم رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإلجائكم إياه إلى الخروج من بين أظهركم". "ما": مبتدأ بمعنى الذي، والخبر: "من فخار"، و"لا يجازى": صفته، ويروى: "لا يبارى"، زوى فلان المال عن وارثه. والضمير في "به" لرسول الله صلي الله عليه وسلم، والباء للسببية. "لا يبارى"، من: باريت الرجل: إذا فعلت مثل فعله. المعنى: تعالوا، يا لقصي، لتتعجب منكم من فوت أمرٍ عظيم، وفخارٍ لا يدرك، بسبب رحلة الرسول صلي الله عليه وسلم من عندكم. قوله: (عبد قصي، وعبد الدار) أضاف قصي ولديه إلى صنميه: مناف والعزى، وواحداً إلى نفسه، وآخر إلى داره، وهي دار الندوة. قوله: (وقرئ: "شركاً") بكسر الشين وسكون الراء: نافع وأبو بكر.

[(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ* وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)]. أُجريت الأصنام مجرى أولي العلم في قوله: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، بناءً على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيءٍ كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم، أو: لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يُخلقون؛ لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم، (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ): لعبدتهم، (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: " (شركاً) مصدر: شركت الرجل أشركه شركاً، أي: جعلا له ذا شرك". قوله: (أو لا يقدر على اختلاق شيء)، الجوهري: "خلق الإفك، واختلقه، وتخلقه: إذا افتراه، يقال: هذه قصيدة مخلوقة، أي: منحولة إلى غير قائلها". وإنما قدر: "لا يقدر على خلق شيء" لتطابق قرينتها: (ولا يستطيعون لهم نصراً)، وهذا أبلغ مما لو قيل: ما لا يخلق شيئاً ولا ينصرهم. قوله: (ويحامون عليهم)، الجوهري: "حاميت على ضيفي: إذا احتفلت له". قال الشاعر: حاموا على أضيافهم فشووا لهم

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ): وإن تدعوا هذه الأصنام (إِلَى الْهُدى) أي: إلى ما هو هدىً ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، (لا يتبعوكم) إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويدلُّ عليه قوله: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأعراف: 194]. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلى أن يهدوكم) عطف تفسيري على قوله: "إلى ما هو هدى". وفي رواية: "أو إلى أن يهدوكم" يعني: يجوز أن يحمل الهدى على الرشاد، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، وأن يحمل على مجرد الدلالة. والظاهر الأول، يدل عليه قوله: "وإن تطلبوا منهم الهدى كما تطلبون من الله الخير والهدى، (لا يتبعوكم) إلى مرادكم". قوله: (يدل عليه قوله: (فادعوهم) أي: على أن معنى (لا يتبعوكم): لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويمكن أن يراد: والدليل على أن الضمير في (وإن تدعوهم إلى الهدى) للأصنام، والخطاب للمشركين، وأن المعنى: لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، وفيه إشارة إلى ترجيح هذا القول على قول من قال: إن الضمير للمشركين، والخطاب مع المسلمين. ذكر الواحدي ومحيي السنة ما ينبئ عن هذا. وتقرير الاستدلال أن قوله: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم)، المراد منهم: الأصنام، بالاتفاق، وهو وارد على التعليل السابق، بدليل كلمة (إن)، وقوله: (فادعوهم فليستجيبوا لكم) مرتب عليه ترتب الحكم على الوصف المناسب، وفيه معنى الدعاء والاستجابة، ولو أريد به غير ما فسر لاختل النظم.

فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمرٌ دعوا الله دون أصنامهم، كقوله: (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) [الروم: 33]، فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم. [(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)]. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) وقوله: (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) استهزاءٌ بهم، أي: قصارى أمرهم أن يكونوا أحياءً عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر): تلخيصه: أن قوله: (أدعوتموهم): جملة فعلية تدل على التجدد، وقوله: (أنتم صامتون) اسمية تدل على الثبوت والاستمرار، فعطفت لإرادة التجدد في الأولى، والثبات في الثانية؛ لأن كونهم صامتين عن دعوة الأصنام، إذا نابهم بلاء أو محنة، ثابت مستمر، ما شهد منهم قط أنهم: إذا ألم بهم نازلة دعوا الأصنام، بل (دعوا الله مخلصين له الدين). وفي معنى الآيتين التقابل، لأن التقدير: إن تطلبوا منهم الخير والهدى لا يتبعوكم إلى مرادكم، وإن تطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم الشر، لا يجيبوكم البتة، ولذلك أنتم صامتون عن دعائهم، فأدمج في الكلام بطريق المفهوم اضطرارهم إلى الله، والتجاءهم إليه، تتميماً لذم آلهتهم.

وقيل: (عبادٌ أمثالكم): مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم" بتخفيف "إن"، ونصب "عباداً أمثالكم"، والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية، (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي، (ثُمَّ كِيدُونِ) جميعاً أنتم وشركاؤكم، (فَلا تُنْظِرُونِ) فإني لا أُبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثقٌ بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هودٍ له: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود: 54] فقال لهم: (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود: 55]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم"). قال أبو البقاء: " (إن) النافية لا تعمل عند سيبويه، وخالفه المبرد". قال ابن جني: " (إن) هذه بمنزلة "ما"، أي: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، فأعمل "إن" إعمال "ما" الحجازية، وفيه ضعف، لأن "إن" هذه لم تختص بنفي الحاضر اختصاص "ما" به، فتجري مجرى "ليس" في العمل، المعنى: إن هؤلاء الذين تدعون من دون الله إنما هي حجارة، فهم أقل منكم، لأنكم عقلاء، وهي جماد، فكيف تعبدون ما هو دونكم؟ فإن قلت: كيف تصنع بقراءة الجماعة: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم)، إذ التقدير: أنهم مخلوقون كما أنتم أيها العباد مخلوقون؟ فكيف أثبت في هذه ما نفاه في تلك؟ ".

[(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ* وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)]. (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) أي: ناصري عليكم الله، (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ): الذي أوحى إليَّ كتابه، وأعزني برسالته، (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ): ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: يجوز أن يكون الإخبار في قراءة الجماعة بمعنى الإنكار، كما سبق في قوله تعالى حكايةً عن فرعون: (آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف: 123]، فيحسن حينئذ ترتب قوله: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)، أي: ليسوا أمثالكم، فجربوهم بالدعاء ليستجيبوا لكم إن كانوا أمثالكم. ويكون الاستفهام في قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا) للإنكار وتقرير عدم المساواة. قوله: (وأعزني برسالته) هو عطف تفسيري على قوله: "أوحى إلى كتابه"، يعني قوله تعالى: (نزل الكتاب) وضع موضع: أرسلني رسولاً، لأن النبي: صاحب المعجزة، والرسول: الذي جمع بين المعجزة والكتاب. وقلت: يمكن أن يكشف عنه بأبسط من هذا، وأن يقال: إنما خص وصف اسم الذات في هذا المقام بإنزال الكتاب، وجعلت الآية تعليلاً لقوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ) للدلالة على تفخيم أمر المنزل، وأنه الفارق بين الحق والباطل، وأنه القامع لضلالات الكفر، والمجلي لظلمات الشرك، والمفحم لألسن أرباب البيان، المعجز الباقي في كل أوان، وهو النور المبين، والحبل المتين، وبه أصلح الله شؤون رسوله،

[(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)]. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ): يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ): وهم لا يدركون المرئيّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صلوات الله عليه، حيث كمل به خلقه، وأقام به أوده، وأفسد به أباطيل المعطلة، وأفحم ملفقات المعارضة. ومن ثم جيء بقوله تعالى: (وهو يتولى الصالحين) كالتذييل والتقرير لما سبق، والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق. المعنى: إن وليي الله الذي نزل الكتاب المشهور، الذي تعرفون حقيقته، ومثل ذلك يتولى الصالحين، ويخذل الظالمين. وقوله: (والذين تدعون من دونه) الآيتين كالمقابل لها. وإلى التذييل أشار المصنف بقوله: "ومن عادته أن ينصر الصالحين". قوله: ((ينظرون إليك): يشبهون الناظرين): قال الإمام: "إن حملنا هذه الصفات على الأصنام، قلنا: المراد من كونها ناظراً: كونها مقابلةً بوجوهها وجوه القوم، وإن حملناها على المشركين، فالمعنى: أنهم وإن كانوا ينظرون، إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق، لم ينتفعوا بذلك النظر والرؤية، فصاروا كأنهم عمي".

[(خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)]. (الْعَفْوَ): ضد الجهد: أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم، وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم، حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا» قال: خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... ولا تنطقى في سورتي حين أغضب وقيل: خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً. و"العرف": المعروف والجميل من الأفعال، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ): ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل: لما نزلت الآية "سأل جبريل: ما هذا؟ فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تداقهم)، أي: لا تناقشهم. الأساس: "داقني في الحساب، مداقة". قوله: (أن تصل من قطعك). الحديث رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، عن عقبة بن عامر. واعلم أن التوفيق بين الآية والحديث إنما يستتب إذا أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع. والزبدة في الآية: تحري حسن المعاشرة مع الناس، وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم، والمداراة معهم، والإغضاء عن مساوئهم، وعلى هذا معنى الحديث، ولكنه

وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها. [(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أغرب منه، وأصعب متناولاً، وكذلك ينبغي أن يكون، لأن القرآن مادته عامة، والحديث القدسي مادته خاصة، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60]. قوله: (أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق): هو من حديث مالك، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". أخرجه الإمام مالك في "الموطأط. أما بيان أن هذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق، فلأن الخلق - بضم اللام وسكونها -: الطبع والسجية. وحقيقته: أن الإنسان له صورة باطنة، وهي نفسه، ولها صفات حسنة، وصفات قبيحة، وعليهما يترتب الثواب والعقاب في الآخرة. والأنبياء بعثوا لتغيير الصفات القبيحة إلى الحسنة، ليتخلص الناس من العقاب، ويخلصوا إلى الثواب. ولا شك أن نبينا صلوات الله عليه خاتمهم، بعث لإتمام ما دعوا الناس إليه، و"كان خلقه القرآن"، كما روي عن عائشة رضي الله عنها، فدعا الناس بخلقه إلى صراط مستقيم. فالمدعو إما: مؤمن موافق، أو مخالف؛ فالمخالف إما معاند أو غير معاند، وطريق الدعوة مع الفرقة الأولى بأداء العبادات، وتزكية النفس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وامُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف: 199]. ومع الثانية بالمداراة والمساهلة وإرخاء العنان، وهو المراد بقوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ) [الأعراف: 199]. وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ) الآية [آل عمران: 64].

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ): وإما ينخسنك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ولا تطعه. النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغاً، كما قيل جدّ جدّه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن مسلم عن أبي موسى، قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض الأمور قال: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا". ومع الثالثة بالمتاركة والإعراض. وإليه أومأ بقوله تعالى: (وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]. وقال تعالى: (وقِيلِهِ يَا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 88 - 89]. وعلى هذا القسم ينطبق الكلام مع السابق، لأنه كلام في المعاندين من المشركين، فوضع موضع ضميرهم (الجاهلين) تسجيلاً عليهم بعدم الارعواء، وإقناطاً كلياً منهم، لأن جهلهم جهل مركب، ألا ترى كيف أعاد الضمير في قوله: (وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ * وإذَا لَمْ تَاتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) [الأعراف: 202 - 203]. كل ذلك بيان للعناد والتمرد. قوله: (كأنه ينخس الناس حين يغريهم). قال القاضي: "شبه وسوسته للناس، إغراءً لهم على المعاصي، وإزعاجاً، بغرز السائق ما يسوقه". قال الزجاج: "النزغ: أدنى حركة من الآدمي، وأدني وسوسة من الشيطان".

وروي: أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف - يا رب - والغضب؟ » فنزل: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ). ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان: اعتراء الغضب، كقول أبي بكر رضي الله عنه: "إنّ لي شيطاناً يعتريني". [(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ* وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما نزلت)، أي: قوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "كيف، يا رب، والغضب؟ ! "، أي: كيف أصنع مع الظالم، والغضب حامل على الانتقام؟ فقيل: إن الغضب من نزغ الشيطان (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ). روينا عن أبي داود، عن عطية، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان" الحديث. قوله: (ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان: اعتراء الغضب)، فالتقدير: (خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)، وإن اعتراك منه فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن صرد، قال: استب رجلان

(طيفٌ مِنَ الشَّيْطانِ): لمةٌ منه، مصدرٌ من قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفاً، قال: أنَّى ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ بَطِيفُ أو هو تخفيف "طيف" فيعل، من: طاف يطيف، كلينٍ. أو مِن: طاف يطوف، كهين. وقرئ: (طائف)، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيدٌ وتقريرٌ لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم: ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد احمر وجهه، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة، لو قالها، لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لذهب عنه" الحديث. قوله: (أني ألم بك الخيال يطيف): تمامه: ومطافه لك ذكرة وشغوف البيت لكعب بن زهير. ألم: نزل، والإلمام: الزيارة. والذكرة: ضد النسيان. والشغوف: امتلاء القلب من الحب. قوله: (وقرئ: (طائف))، نافع وابن عامر وعاصم وحمزة، وهو أيضاً يحتمل أن يكون واوياً ويائياً. قوله: (وأن المتقين هذه عادتهم) عطف تفسيري على قوله: "تأكيد"، أي: قوله تعالى:

إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته، (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم، ولم يتبعوه أنفسهم. وأما "إخوان الشياطين" الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين (يمدونهم في الغي)، أي: يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: (يمُدّونهم) من الإمداد، و"يمادّونهم"، بمعنى: يعاونونهم، (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ): ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) تذييل للكلام السابق، وتوكيد لمعناه، ومن ثم صرح بذكر العادة. ثم الخطاب في قوله تعالى: (وإما ينزغنك) إما أن يكون مختصاً برسول الله صلي الله عليه وسلم هو الظاهر، إذ التقدير: (خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)، وإن اعتراك غضب فاستعذ بالله. فالمناسب أن يراد بـ"المتقين" المرسلون من أولي العزم، كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الاحقاف: 35]، أو يكون عاماً على طريقة: "بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام"، أو خاصاً يراد به العام، كنحو: (ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) [الطلاق: 1]، فالمتقون حينئذ: الصالحون من عباد الله. قوله: (إذا أصابهم أدنى نزغٍ): الجملة من الشرط والجزاء بيان للجملة قبلها، وهي: "أن المتقين هذه عادتهم". قوله: (وقرئ "يمدونهم" من الإمداد) نافع، يقال: مد الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها. ومده الشيطان في الغي، وأمده: إذا أوصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه.

قوله: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) كقوله: قَوْمٌ إذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِى كَوَاثِبِهَا في أنّ الخبر جار على غير ما هو له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قوم إذا الخيل حالوا في كواثبها): تمامه: فوارس الخيل لا ميل ولا قزم الخيل: الفرسان. حالوا - بالحاء المهملة -: وثبوا. يقال: حال في ظهر الفرس: وثب عليه وركب، والكاثبة من الفرس: ما تقدم من قربوس السرج. والميل: جمع أميل، وهو: الذي لا يثبت على هر الدابة. والقزم: اللئام. يقول: هم فوارس الخيل، لا مائلون عن وجوه الأعداء، ولا لئام ضعاف صغار، أو لا بخلاء، ليجمع لهم صفة الشجاعة والسخاوة. قالوا: إن الاحتجاج بهذا البيت لا يصح، لأن "الخيل" ليس بمبتدأ، لأن "إذا" لا تدخل على المبتدأ المتضمن معنى الشرط. وتقديره: إذا حال الخيل حالوا في كواثبها، فكان ارتفاع "الخيل" بالفاعلية. وقوله: "حالوا في كواثبها" مفسر للقول السابق، والتفسير في حكم الساقط، وإنما نظير الآية: هند زيد تضربه.

ويجوز أن يراد بـ"الإخوان": الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جارياً على ما هو له. والأوّل أوجه، لأن "إخوانهم" في مقابلة (الذين اتقوا). فإن قلت: لم جمع الضمير في "إخوانهم". والشيطان مفردٌ؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله: (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة: 257]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجيب: لم لا يجوز أن "إذا" قد انسلخ عنه معنى الاستقبال، وصار للوقت المجرد، على نحو: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو. بل المعنى عليه؟ قوله: (فيكون الخبر جارياً على ما هو له): فعلى الأول التقدير: وإخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، الشياطين يمدونهم. الضمير المسند إليه الفعل ليس للمبتدأ، بل لمتعلقه. كما أن الضمير في "حالوا" لصاحب الخيل. وعلى الثاني التقدير: وإخوان الجاهلين الذين هم الشياطين، يمدون الجاهلين. قوله: (والأول أوجه، لأن "إخوانهم" في مقابلة (الذين اتقوا)): يعني: في الكلام مقابلة، فيجب مراعاتها. فإن قوله تعالى: (وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أمر للنبي صلي الله عليه وسلم بالاستعاذة من نزغ الشيطان. وقوله: (إن الذين اتقوا) إلى آخر الآيتين، كالتعليل للآمر بالاستعاذة، يعني: دأب من هو على صفتك من التقوى الاستعاذة عند نزغ الشيطان، ودأب من يخالفك بخلافه. روى الواحدي عن الضحاك: "المشركون لا يقصرون عن الضلالة، ولا يبصرونها، بخلاف ما قال في المؤمنين: (تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ) ".

[(وَإِذا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)]. اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أي: جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جُبي إليه فاجتباه: أي: أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى (لَوْلا اجْتَبَيْتَها): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأيضاً، الكلام في الأصل جار على المشركين المعاندين، كما سبق، وأن قوله: (إن الذين اتقوا) وقوله: (وإخوانهم يمدونهم) بعد ذكر العفو، والأمر بالعرف، والإعراض، ونزغ الشيطان، والاستعاذة، كالتخلص منه إلى ذكر ما ابتدئ له الحديث. وفيه: أنه يجب عليك، أيها الداعي البشير النذير، إذا لحقك منهم أذى أن تعفو عنهم، وإن اعتراك غضب يحملك على الانتقام فذاك نزغة من الشيطان ونخسة، فإن الشيطان ليس له عليك سلطان، سوى هذه النسخة التي إذا استعذت بالله بطلت، لأنك من المخلصين من عباده، لكن هؤلاء المشركين هم الذين اتبعوا الشياطين، فلا يفارقونهم، كالأخ لشقيقه. والشياطين أيضاً لا يقصرون في غيهم، يمدونهم غياً بعد غي. ومن ذلك أنك إذا أعرضت عنهم، وتركتهم، ولم تأتهم بآية، قالوا لك: (لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) [الأعراف: 203] ولا غي بعد اقتراح الآيات مع الاستهزاء، قل: إن آيتي هذا الكتاب المعجز الظاهر لمن له بصيرة، يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الافتراء والصدق المحض، وهدى ورحمةً لمن آمن بأنه من عند الله، وليس بافتراء. وفيه تعريض بهؤلاء الكفرة أن لا بصائر لهم ولا هداية، وأنهم من أهل غضب الله والآيسين من رحمته، حيث لم يرفعوا به رأساً، كقوله تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ) [البقرة: 26]. قوله: (أوجبي إليه فاجتباه)، الراغب: "جببت الماء في الحوض: جمعته. والحوض

هلا اجتمعتها، افتعالاً من عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ: 43]، أو: هلا أخذتها منزّلةً عليك مقترحة؟ (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترحٍ لها. (هذا بَصائِرُ): هذا القرآن بصائر (مِنْ رَبِّكُمْ) أي: حجج بينةٌ يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجامع له: جابية، وجمعها: جوابٍ. ومنه: جبيت الخراج، ومنه قوله تعالى: (يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص: 57]. والاجتباء: الجمع على سبيل الاصطفاء. واجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بفيضٍ إلهي، يتحصل منه أنواع من النعم، بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء". قوله: (اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك): "افتعالاً": حال من الفاعل في "اجتمعتها"، وهذا مبني على قوله: "اجتبي الشيء، بمعنى: جباه لنفسه"، وقوله: "هلا أخذتها منزلة" مبني على قوله: "أو جبي إليه فاجتباه". و"منزلة": حال من المفعول. ومعنى قوله: "هلا أخذتها منزلةً عليك مقترحة": هلا طلبت من الله وأنت مقترح، ليكون اقتراحك سبباً لأن يأخذها وهي مقترحة؟ فعلى هذا هو تهكم من الكفار، كقوله تعالى حكايةً عنهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر: 6]. قوله: (أو هو بمنزلة بصائر القلوب): يريد: أن "البصائر" هاهنا إما من إطلاق المسبب على السبب؛ فإن المراد: هذا حجج وبرهان من ربكم، تفتح بها أعين عمي، وقلوب صفر عن البصيرة. ولما كانت الحجج سبباً لإدراك القلب، قيل: (هذا بصائر)، أو أنها استعارة، استعير لإرشاد القرآن الخلق إلى درك الحقائق البصائر.

[(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)]. (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاةٍ وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنةً في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلسٍ يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى (فاستمعوا له): فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معنى (فاستمعوا له): فاعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه): قال الزجاج: "لأن معنى قول القائل: سمع الله دعاءك: أجاب الله دعاءك". الأساس: "ومن المجاز: "سمع الله لمن حمده": أجاب وقبل، والأمير سمع كلام فلان". وقلت: هذا أوفق لتأليف النظم سابقًا ولاحقاً، وأجمع للمعاني والأقوال. فإنه تعالى لما ذكر تعريضًا بأن المشركين إنما استهزؤوا بالقرآن، ونبذوه وراءهم ظهرياً، لأنهم فقدوا البصائر، وعدموا الهداية والرحمة، وأن حالهم على خلاف المؤمنين، أمر المؤمنين بمزيد ما كانوا عليه من مجرد الاستماع، وهو العمل بما فيه، والتمسك به، وألا يجاوزوه، ترتباً للحكم على تلك الأوصاف. ولذلك قيل: (وإذا قرئ القراءن): وضع للمظهر موضع المضمر، لمزيد الدلالة على العلية. يعني: إذا ظهر، أيها المؤمنون، أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين، فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال، الهادي إلى الطريق المستقيم، الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى، (فاستمعوا له)، وبالغوا في الأخذ منه، والعمل بما فيه، ليحصل المطلوب، و (لعلكم ترحمون).

[(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)]. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) هو عامٌّ في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك، (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً): متضرعاً وخائفاً، (وَدُونَ الْجَهْرِ): ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر، (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) لفضل هذين الوقتين، أو أراد الدوام. ومعنى (بالغدوّ): بأوقات الغدوّ، وهي الغدوات. وقرئ: "والإيصال"، من آصل: إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيدخل فيه وجوب الإنصات في الصلاة، بالطريق الأولى، لأنها مقام المناجاة، والاستماع من المتكلم. وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلي الله عليه وسلم، وفيه أن رفع الجناح في غير الصلاة من باب السهولة وضعف القوة. قوله: (وقرئ: "والإيصال"): قال ابن جني: "قرأها أبو مجلز، وهو مصدر: آصلنا، فنحن مؤصلون، أي: دخلنا في وقت الأصيل". قوله: (كأقصر)، الجوهري: "أقصرنا، أي: دخلنا في قصر العشي. كما تقول: أمسينا، من المساء. وقصر الظلام: اختلاطه. ويقال: أتيته قصراً، أي: عشياً". قوله: (وأعتم): قال الخليل: "العتم من الليل: بعد غيبويه الشفق".

وهو مطابقٌ للغدوّ (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه. [(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِه ِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)]. (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم الملائكة صلوات الله عليهم، ومعنى (عِنْدَ): دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، (وَلَهُ يَسْجُدُونَ): ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريضٌ بمن سواهم من المكلفين. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مطابق للغدو) لأن الأصل أن يقال: بالغدوات، جمع "غدوة"، ليطابق "الآصال" في الجمع. وأما على هذه القراءة فهما مفردان. قوله: (وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين): يعني: دل تقديم متعلق (يسجدون) عليه، على أن غيرهم لا يختصونه بالسجود، بل يشركون معه غيره. وقلت: يمكن أن يقال: إن التقديم لمراعاة الفواصل، وإن الآية بتمامها تعريض، لأن وزان قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) الآية، مع قوله: (واذكر ربك في نفسك) الآية، وزان قوله: (فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت: 38]، مع قوله: (واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [فصلت: 37] في ترتب الثاني على الأول، والمخالفة بالفاء والاستئناف لا تمنع العلية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. المعنى: ايتوا بالعبادة على سبيل التضرع والاستكانة، واستشعار الخوف سراً، والخفض من الصوت جهراً، لأن المطلوب المواطأة بين السر والعلانية، في التواضع والمداومة، فإن لم تأتوا بالعبادة على هذا الوجه، فاعلموا أنا مغنون عنكم، لأن لنا عباداً مكرمين مقربين، دأبهم وعادتهم التواضع وعدم الاستكبار في جميع أحوالهم. وبهذا ظهر أن القول بالمداومة في الغدو والآصال هو الوجه. ويدل عليه قوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين)، والتعريض بالأفعال المضارعة، أي: (يستكبرون)، و (يسبحونه)، (وله يسجدون) لأنها تدل على أن عدم الاستكبار، والتسبيح، والسجدة، دأبهم وعادتهم، كقوله تعالى: (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت: 38]. وفي الآية الدلالة على أن الأصل في الذكر اللساني مراعاة سلوك القصد والاعتدال، ونظيره وله تعالى: (ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110]. وأما قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً) [الأعراف: 55] فمختص بالدعاء، واستنزال الإجابة، هذا إذا جعل الخطاب في قوله: (واذكر ربك) عاماً، نحو قوله صلوات الله عليه: "بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". وأما إذا جعل مختصاً برسول الله صلي الله عليه وسلم، تأديباً له، وتأسياً لأمته، وإظهاراً لبيان مكانته ومنزلته، فيكون في الآيات إشعار بمراتب الذكر، وبيان درجات الذاكرين، بحسب تفاوت منازلهم ومقاماتهم، قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعا) إشارة إلى أعلى المراتب، وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله: (ودون الجهر من القول) هي المرتبة الوسطى، وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله: (ولا تكن من الغافلين) إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. فالأمر في قوله تعالى: (واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً) للوجوب، وفي (ودون الجهر من القول) للترخص تأسياً، والنهي بقوله: (ولا تكن من الغافلين) للترفع عن هذا المقام، على سبيل التهييج والإلهاب. يعني: ولا تكن من الجاهرين بالصوت، لأن منزلتك فوق هذا المقام، لأنك من الواصلين إلى عين الحقيقة، الماثلين في مقام الشهود، المنخرطين في زمرة المقربين الذين جاهدوا في قمع خواطر النفس، وإماطة لوث الهوى. وفي ذكر الخوف الإشعار باستشعار هيبة الجلال، قال: أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبةً ... وصيانةً لجماله ومن هذا المقام نهى صلوات الله عليه أصحابه، على ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن أبي موسى، قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". كقوله: (وهو معكم) [الحديد: 4] و (أقرب). فعلى هذا: حال المبتدئ والسالك منوطة برأي الشيخ المرشد، فإنه قد يأمره برفع الصوت في الذكر، لقلع الخواطر، وحديث النفس، لرسوخها فيه في بدء الأمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. فقوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين) إشارة إلى هذا المقام. ووجدت في بعض كلمات شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهروردي، قدس سره بلا شك أنه قال: "بنية العبد ووجوده يحكي مدينةً جامعة، وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة وقطان البلد. والعبد، في وقت إقباله على الذكر، كمؤذن صعد منارةً على باب المدينة، ويقصد إسماع أهل المدينة بالأذان، فهكذا الذاكر المحقق، يقصد إيقاظ قلبه، وإنباه أجزائه وأبعاضه، يذكر بلسانه، ويعي الذكر بقلبه ومتفرقات جوارحه، فتكون مناداة الذكر باللسان، وصداه في قبة القالب، يستحضر بالذكر سكان مدينة النفس، ويستجمع شوارد عساكر الفهم والحس، يقول ببعضه، ويستمع بكله، إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب، فيتنور بها، ويظفر بجدوى الأحوال، ثم ينعكس نور القلب على القالب، فيتزين بمحاسن الأعمال". وقال أيضاً في "العوارف": "لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه، مع مواطأة القلب، حتى تصير الكلمة متأصلةً في القلب، مزيلةً لحديث النفس، ينوب معناها في القلب عن كل حديث النفس. فإذا استولت الكلمة، وسهلت على اللسان، يتشربها القلب، ويصير الذكر حينئذٍ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة. وهذا هو المقصد الأقصى من الخلوة. وقد يحصل هذا لا بذكر الكلمة بل بتلاوة القرآن، إذا أكثر من التلاوة، واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان، حتى تجري التلاوة على اللسان، وتقوم مقام حديث النفس، فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة". والله أعلم. تمت السورة

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية، ست وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) 1 - 4] النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأنفال مدنية، ست وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (لأنها من فضل الله تعالى) وهو علة التسمية، قال الإمام: "سُميت الغنائم أنفالاً؛

قال لبيد: إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ والنفل: ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائدًا على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضًا على البلاء في الحرب: من قتل قتيلًا فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتمُ فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله -في أحد قوليه-: لا يلزم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، أي: زيادة على ما سأل". قوله: (إن تقوى ربنا خيرُ نفل): تمامه: ... وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخيري ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل قوله: (على البلاء في الحرب)، المغرب: "بلاه وأبلاه: اختبره، ومنه: أبلى في الحرب؛ إذا أظهر بأسه حتى اختبره الناس". قوله: (من قتل قتيلاً فله سلبه) الحديث: من رواية البخاري ومسلم وغيرهما: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه"، الحديث.

ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحاكمُ فيها خاصة، يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حُكم. وقيل: شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن يُنفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان: نحنُ المُقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردءًا لكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولقد وقع اختلاف بين المسلمين) إلى آخره: مبني على التفسير الأول، وهو أن يُراد بالنفل: الغنيمة. وقوله: (شرط لمن كان له بلاء): مبني على التفسير الثاني، وهو أن يراد بالنفل: ما ينفله الغازي، فعلى الأول: السؤال في {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} للاستخبار، أي: كيف نُصرفها ومن الحاكم فيها؟ وعلى الثاني: للاستعطاء، على ما رُوي أنهم كانوا يقولون: يا رسولا لله، أعطنا كذا، وأعطنا كذا. قاله الإمام. فعلى هذا "عن" بمعنى "من"، وقيل: "عن" صلة، أي: يسألونك الأنفال، وهكذا قرأه ابن مسعود. ذكره محي السنة. قوله: (فقال الشبان: نحن المقاتلون) الحديث: أخرجه أبو داود عن ابن عباس. وأما حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه مسلم والترمذي وأبو داود مع اختلاف أيضاً. قوله: (كنا ردءاً لكم) أي: معيناً، الجوهري: "أردأته بنفسي: إذا كنت له ردءاً، وهو العون".

وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبى وقاص: قتل أخي عُمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: "ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض"، فطرحته، وبى ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلًا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه". وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: نزلت فينا -يا معشر أصحاب بدر- حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تنحازون إليها)، الجوهري: "الحوز: الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً، وانحاز القوم: تركوا منزلهم"، إلى آخره. قوله: (اطرحه في القبض): القبض - بالتحريك-: ما قُبض من الغنائم. قوله: (وان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين): أي: في نزع النفل من أيدينا وجعله للرسول صلى الله عليه وسلم وقسمته على السواء. وأما كونه تقوى الله فإن كل أحدٍ منا كان يظن أن حقه أوفى من حق صاحبه؛ لما كان يرى من جهاده، فيقع التشاجر التنازع، فلما نزع الله من بين أيدينا ارتفع الظن والاختلاف خشية من الله أن نتصرف في ماله بغير إذنه.

وقرأ ابن محيصن: يسألونك علنفال، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: يسألونك الأنفال، أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فإن قلت: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول)؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضًا إلى رأى أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله: أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما كونه طاعة رسوله صلى الله عيه وسلم: فإنه لما قُسم بيننا على السوية رضينا به. وأما كونه إصلاح ذات البين: فإنا لم نر حينئذ أن لكل منا فضلاً على الآخر، وأن ما نفله الله تفضل منه لا أجر لسعينا، وفيه إشارة إلى أن ثواب الآخرة على الأعمال تفضل، كما عليه الأصحاب. هذا تفسير حسن للآية، فسره صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ما معنى الجمع بين كر الله ورسوله؟ ): ظاهره يقتضي أن السؤال وارد على الوجهين، وهو أن يُراد بالأنفال الغنائم، والسؤال عن القسمة من يقسمها: أرسول الله أم غيره؟ وأن يُراد بالأنفال ما يعطاه الغازي زائداً على سهمه، والسؤال للاستعطاء، لكن قوله بعد ذلك: "والمراد أن الذي اقتضته حكمة الله، وأمر به رسوله: أن يواسي المقاتلة المشروط لهم" إلى آخره، يخصصه بالوجه الثاني، وأن المراد بالجمع اختصاص الله تعالى بالأمر، واختصاص رسوله صلى الله عليه وسلم بالامتثال.

ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي (فَاتَّقُوا اللَّهَ) في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم. وعن عطاء: كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال: "اقسموا غنائمكم بالعدل"، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال: "ليردّ بعضكم على بعض". فإن قلت: ما حقيقة قوله (ذاتَ بَيْنِكُمْ)؟ قلت: أحوال بينكم، يعنى: ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله (بِذاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 119] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال مُلابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون: ما في الإناء من الشراب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الوجه الأول: ذكر الله تعالى لشرف الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62] في وجه، يدل عليه قوله فيما سبق: "هي لرسول الله صلى الله عليه وسلمن وهو الحاكم فيها خاصة"، وفيه تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلمن وإيذانٌ بأن طاعته طاعة الله تعالى، وأنه خليفة الله في أرضه، وكما أنه لا ينطق عن الهوى كذلك لا يفعل بالهوى، صلات الله وسلامه عليه، والوجهان مبنيان على معنى السؤال، هل هو بمعنى استدعاء معرفة أو استجداء عطاء؟ الراغب: "السؤال: إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها، وإما لاستدعاء مال أو ما يؤدي إليه، فاستدعاء المعرفة: جوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة، واستدعاء المال: جوابه على اليد، واللسان خليفة لها؛ إما بوعدٍ أو رد. والسؤال إذا كان للتعرف يعدى بنفسه وبالجار، نحو: سألته كذا، وعن كذا، وبكذا، وبـ"عن" أكثر، وإذا كان لاستدعاء المال يتعدى بنفسه وبـ"مِنْ"، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب: 53]، وقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 32]. قوله: (أحوال بينكم): قال الزجاج: "معنى (ذَاتَ بَيْنِكُمْ): حقيقة وصلكم، أي:

وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله: (إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم كاملي الإيمان. واللام في قوله: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم. أي: إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت، والدليل عليه قوله: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا). (وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): فزعت، وعن أمّ الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله، وكذا معنى: "اللهم أصلح ذات البين" أي: أصلح الحال التي لها يجتمع المسلمون". قوله: ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن كنتم كاملي الإيمان): وإنما دل على الكمال ليكون الخطاب مع من آمن إيماناً لا شك فيه، كما أومأ إليه بقوله: "ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها"، وفيه أن الإيمان له مراتب، يعني: إن كنتم من الذين لهم المرتبة العليا في الإيمان. ثم اتجه لهم أن يسألوا: ما لنا خوطبنا بقوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وهل يشك في كوننا كاملي الإيمان؟ فقيل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ) الآيات، وهو المراد من قوله: "واللام في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم". قوله: (السعفة)، الجوهري: "السعفة-بالتحريك-: غُصن النخل، والجمع سعف". قوله: (قشعريرة): هي من قولهم: اقشعر جلد الإنسان اقشعراراً، يُقال: أخذته قشعريرة. كأنه شكى بعضهم إليها فزعة يجدها عند استماع الذكر، فقالت: إن تلك الفزعة تشبه احتراق الورقة اليابسة، وعلامتها إحساس الارتعاد في الجلد، ثم أرشدته بإزالتها بالدعاء.

قال: بلى، قالت: فادع الله؛ فإنّ الدعاء يذهبه. يعنى: فزعت لذكره استعظاما له، وتهيبا من جلاله وعزَّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذَّكر خلاف الذَّكر في قوله: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23] لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ: "وجلت"، بالفتح، وهي لغة، نحو: "وبق" في "وبق"، وفي قراءة عبد الله: "فرقت". (زادَتْهُمْ إيمناً): ازدادوا بها يقينا وطمأنينة نفس؛ لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء يذهبه): يوهم توخي إزالة الخوف عن القلب بالكلية، والركون إلى الرجاء، لكن المراد أن المبتدئ إذا سمع الآيات القوارع والزواجر لم يطق فينزعج، وليس ذل من صريح الإيمان، بل صريح الإيمان أن يتدارك ذلك بآيات الرجاء ليحصل له الاطمئنان، كما أن الخوف يجذبه إلى القلق والاضطراب، فالرجاء يدعوه إلى السكون، فيطمئن السالك بين تينك الجذبتين، وهو المراد من قولها: "فإن الدعاء يذهبه". قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: لما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الباكي عند قراءة القرآن، قال: هكذا كنا حتى قست القلوب. أي: أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره، فما استغربته حتى تتغير. قوله: (فينزع): من نزعت الشيء من مكانه نزعاً: قلعته. قوله: (ازدادوا به يقيناً وطمأنينة): قال الشيخ محيي الدين في "شرح صحيح مسلم": "الأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبهة، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، ولا تزال قلوبهم منشرحة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره". وهذا موافق لقول من قال: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان،

وعن أبي هريرة: "الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". وعن عمر بن عبد العزيز: "إن للإيمان سَننّا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما أن قوله: "وقد حُمل على زيادة العمل" مُناسب لقول القائلين بأن الأعمال داخلة فيه، ودلالة الآيات على الأول أظهر، لأن قوله: 0 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) جملة واردة على المدح، إما بتقدير "أعني" أو "هم". وقلت: يمكن أن يُقال - والله أعلم-: نبه أولاً بقوله: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) على بدء حال المريد في التصقيل، وثانياً بقوله: (زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) على أخذه في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثاً بقوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على صعوده في الدرجات والمقامات. ثم في تقديم المعمول: الإيذان بالتبري عن الحول والقوة، والتفويض الكامل، وقطع النظر عما سواه. وفي صيغة المضارع: التلويح إلى استيعاب مراتبه كلها. قال الشيخ العارف أبو إسماعيل الأنصاري: "التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه والتعويل على وكالته، وهو من أصعب المنازل". قوله: (الإيمان سبع وسبعون شعبة): وفي رواية لمسلم والبخاري: "بضع". النهاية: "البضع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في العدد - بالكسر، وقد يُفتح-: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، لأنه قطعة من العدد". و"الشعبة: الطائفة من كل شيء والقطعة منه". وفي "الأساس": "ومن المجاز: أنا شعبة من دوحتك، وغصن من سرحتك". وقلت: دلالة هذا الحديث على أن العمال داخلة في مسمى الإيمان ظاهرة. قال الشيخ محيي الدين: "الإيمان قول وعمل، وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين، من أهل العراق والشام وغيرهم، وقول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك". وقال الشيخ: "المعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين: هو إتيانه بهذه الأمور: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وذلك أنه إذا أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم المؤمن، وكذا لو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف، وكذا إذا أقر ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في اللغة يسمى مؤمناً؛ لأنه غير مستحق لهذا الاسم في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ". وقلت: فعلى هذا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) بدل من السابق، لأن في إقامة الصلاة إشارة إلى تعديل أركانها وتوفيه حدودها وآدابها، وذلك لا يتأتى إلا من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المؤمن المخلص، ثم في اقترانها بأداء الزكاة- وهما أما العبادات البدنية والمالية- دلالة على استجلاب سائرها. وقال الشيخ أيضاً: "أنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان شكاً وكفراً، وقال المحققون من المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقصن والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ونقصانها، وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص". وقال: "الإيمان في اللغة: هو التصديق، فإن عُني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق لا يتجزأ، فلا يتصور كماله مرة ونقصانه أخرى، وفي لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان". وقال الراغب في "الذريعة: "الإيمان: هو الإذعان على سبيلا لتصديق لله تعالى باليقين، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ووجل القلب: هو الخشية للحق على سبيل التصديق له باليقين. هذا أصل الإيمان، ثم صار اسماً لشريعة محمد صلى الله عليه ولم كالإسلام، فعلى الثاني يصح إطلاقه على من يظهر ذلك، وإن لم يتخصص بالتصديق اليقيني، ولأن اشتقاق الإيمان لا يمنع منه، فإن معنى المؤمن: من صار ذا أمن، وبإظهار الشهادتين يأمن الإنسان من أن يهراق دمه ويباح ماله، على أنه صلى الله عليه وسلم حين سأل الجاري عن الله تعالى، فأشارت نحو السماء، وعن النبوة فأشارت إليه، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وقال بعض المعتزلة: لا يصح إطلاقه على أحد ما لم يختبر في الأصول الخمسة". وقال أيضاً: "اختلف في الإيمان: هل هو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معاً؟ واختلافهم بسبب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو اعتقاد مجرد فنظره إلى اشتقاق اللفظ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإلى أنه سبحانه وتعالى فصل بينهما في عامة التنزيل بالعطف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في خير جبريل حين سأله عن الإسلام والإيمان، ففسر الأول بالأعمال، والثاني بالاعتقاد، ومن قال: هو الاعتقاد والعمل؛ فلما ورد: "الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان". ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" الحديث، ومن تأمله وعرف حقيقته علم أن الإيمان الواجب هو اثنان وسبعون درجة، لا أقل ولا أكثر؛ لأنه صلوات الله عليه لا ينطق عن الهوى، إن هوى إلا وحي يوحى". إلى آخر كلامه. وقلت: قد مر تأويل العطف في البقرة عند قوله تعالى: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): "جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم".

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة. (حَقًّا) صفة للمصدر المحذوف، أي: أولئك هم المؤمنون إيماناً حقّاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كقولك: هو عبد الله حقا، أي حقَّ ذلك حقا. وعن الحسن: أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) فو الله لا أدرى؛ أمنهم أنا أم لا؟ وعن الثوري: "من زعم أنه مؤمن بالله حقاً، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية". وهذا إلزام منه، يعنى: كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا، فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا تعلق من يستثنني في الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبهذا تعلق من يستثني): أي: بإلزام الثوري تمسك من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وبيانه: أنه تعالى عقب اسم الإشارة بقوله: (هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)، وبقوله: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية، بعد إجراء الوصاف الفاضلة على المؤمنين، فيلزم أن يكونا حقين ثابتين للمؤمنين، لاتصافهم بتلك الفضائل، وقد تقرر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بأن ما يرد عقيبه: المذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عُددت، لا سيما على الحصر، فكأنهما معللان معاً لتلك الصفات الجارية على الموصوف، فلا يفارقانه أبداً. وقد تقرر - بل أجمع عليه - أن أحداً من المسلمين بعد العشرة المبشرة لا يقدر أن يقطع

وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه، وحكي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: إتباعاَ لإبراهيم عليه السلام في قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله: (أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) [البقرة: 260]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأنه من أهل الثواب، فمن قال: إني مؤمن حقاً لابد له من القول بأن له درجات عند ربه قطعاً، وألا فقد آمن ببعض دون البعض، لكنه لا يجوز القطع بالثاني، فلا يجوز القطع بالأول، فله أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا: أنا مؤمن حقاً، وإليه الإشارة بقوله: "وهذا إلزام منه". قال الإمام: مذهب عبد الله بن مسعود جواز الاستثناء، وأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي، رضي الله عنهم. وأنكره أبو حنيفة رضي الله عنه؛ ذهاباً إلى أن الاستثناء شك، فلا يجتمع مع الإيمان الذي هو اليقين. والشافعي يحمل الاستثناء إما على التبرك، كقوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [الفتح: 27]، وإما على الإيمان المنتفع به عند الموت، فإذن لا خلاف في أصل المعنى. قوله: (هلا اقتديت به في قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى) [البقرة: 260]): يعني: لِمَ لم تقتد به في هذا الجواب حيث جزم به وقطعه ولم يتردد فيه، ولم يقل: بلى إن شاء الله؟ ويمكن أن يجاب: بأن الإيمان بأن الله تعالى قادر على إحياء الموتى مما الشك فيه موجب للكفر، وليس أيضاً من مقام التبرك، بخلافه في قوله عليه السلام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 82]، فإنه عليه السلام في مقام هضم النفس وتحري الوسيلة إلى إنجاح المطلوب. وإليه ينظر قول الحسن: "الإيمان إيمانان".

(دَرَجَاتٌ): شرف وكرامة وعلوٌّ منزلة (وَمَغْفِرَةٌ): وتجاوز لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): نعيم في الجنة، يعنى: لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب. [(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) 5] [(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ)] فيه وجهان: أحدهما: أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الحال كحال إخراجك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذه الحال كحال إخراجك): قال محيي السنة: "اختلفوا في تعلق الكاف؛ قيل: التقدير: امض لأمر الله - يعني: في الأنفال- وإن كرهوا، كما مضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون. وعن المبرد: الأنفال لله والرسول وإن كرهوا، كما أخرجك ربك بالحق وإن كرهوا". قال السيد ابن الشجري في "الأمالي": القول بأن الكاف نعت لمصدر- كما في الوجه الثاني- ضعيف؛ لتباعد ما بينهما بعشر جمل، والوجه: الأول، وهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف. وقلت: بل الوجه الثاني أدق التئاماً من الأول، والتشبيه في أكثر تفصيلاً، لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات، فالفاء في (فَاتَّقُوا اللَّهَ) رابطة للوصف بالحكم، جاعلة تتمة الآية من جملة حال المشبه ومرتبة عليه، فكأنه قيل: قُلِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأنفال استقر لله مع كراهتكم، وكان خيراً لكم؛ لما حصل لكم من تقوى الله وطاعة الرسول وإصلاح ذات البين، كما استقر إخراجي من المدينة إلى القتال مع كراهتكم إياه، وكان خيراً لكم؛ لما نلتم من الفتح والغنيمة. والأول مركب عقلي لقوله: "هذه الحال كحال إخراجك"، والثاني مركب وهمي، فلابد من تصور جزئيات الكلام، لئلا يختل أمر التمثيل، بخلاف الأول، فإنه يحصل من مجرد أخذ الزبدة والخلاصة، كما مر مراراً. ثم استأنف مستطرداً بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى آخر الآيات، للحث على طاعة الله وطاعة رسوله وقلع الهوى الكامن في النفوس، والإيذان بأن المؤمن الكامل من يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما روينا في "المصابيح" عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". ثم في تقديم عجز القصة - وهي ذكر قسمة الأنفال والسؤال فيها- على صدرها؛ وهو الخروج من المدينة إلى بدر، إلى آخر هذه القصة الواردة في هذه السورة: استبعاد لكراهتهم هذه بعدما شاهدوا أمثال هذه الحالة، فكرهوها، ثم تبين لهم حقيقتها، واستحضار لمعنى التأديب في قوله: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]، ولما تبني لهم من وجه الحكمة في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الآية [الحجرات: 7]. كأن هذه السورة الكريمة من فاتحتها إلى خاتمتها جواب عن سؤال واحد، وإرشاد للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في تحري طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوخي رضاه، وامتنان عليهم بما

يعني: أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدَّر في قوله: (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال: 1] أي: الأنفال استقرّت لله والرسول، وثبتت، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. و(مِنْ بَيْتِكَ) يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه (بِالْحَقِّ) أي: إخراجاً ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكرهُونَ) في موضع الحال، أي: أخرجك في حال كراهتهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من لهم من نعمة الصحبة، وإن شئت فجرب ذوقك في تكرار "إذ" في التفصيل الوارد في السورة وإيراد القص من غير ترتيب، ثم في كل من تلك الإيرادات الرمز إلى المقصود، ثم في إدراج تقسيم المسؤول عنه في أثناء ذلك، يعني قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 41]: بيان لكيفية تصرف من وُكل إليه أمر الغنائم، فتفكر في كل ذلك تَرَ العجائب، ويتحقق لك ما ذكرت هاهنا، وما أسلفت في قصة البقرة من تقديم آخر القصة على أولها، لتقف على شمة من أسرار كلام الله تعالى المجيد، والله يقول الحق وهوي هدي السبيل. قوله: (في كراهة ما رأيت): قيل: هو من الرأي الذي في قول الله تعالى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء: 105]، لا من رؤية البصر، ولا من رؤية القلب المتعدي إلى مفعولين، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في فاتحة السورة: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقول المصنف: "شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله".

وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة، معها أربعون راكباً، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير؛ لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادي أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النَّجَاء النَّجَاء، على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً. وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إني رأيت عجباً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أن عير قريش): جملة كالمبينة للأولى وإن دخلت الواو؛ لأن المشار غليه ما سبق، أي: الإخراج في حال الكراهية، لأن عير قريش، إلى آخره. قوله: (النجاء النجاء)، الجوهري: "نجوت نجاءً، ممدودً؛ أي: أسرعت"، منصوب بفعل مُضمر، واللام فيهما للجنس. قوله: (على كل صعب وذلول)، أي: أسرعوا وبادروا مجتمعين، ولا تقفوا لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب. قوله: (عيركم أموالكم): "أموالكم" بدل "عيركم"، وهو مثل قولهم: "أهلك فقد أعريت"، قال الميداني: "أي: بادر أهلك وعجل الرجوع إليهم، فقد هاجت ريح عرية، أي: باردة، أعريت: دخلت في العرية". وقيل: التقدير: الزموا عيركم. قوله: (وقد رأت أخت العباس): قال محيي السنة: هي عاتكة بنت عبد المطلب.

رأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء، فأخذ صخرة من الجبل، ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس، فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبّئوا حتى تتنبَّأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل السائر: "لا في العير ولا في النفير"، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً، حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمداً لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه. فمضى بهم إلى بدر، وبدر: ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حلق بها): التحليق بالشيء: الرمي به إلى فوق. قوله: (لا في العير ولا في النفير): قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب حين انصرف بنو زهرة إلى مكة: يا بني زهرة، لا في العير ولا في النفير! عني بالعير: عير قريش التي أقبلت مع أبي سفيان من الشام، وبالنفير: من خرج مع عتبة بن ربيعة لاستنقاذها من أيدي المؤمنين، وكان ببدر ما كان. قال الأصمعي: يضرب للرجل يحط أمره ويصغر قدره. الجوهري: "النفير: القوم الذين يتقدمون في أمر"، و"العير بالكسر: الإبل التي تحمل الميرة". قوله: (أعضضناه): أي: استخففنا به وشتمناه وقلنا له: عضضت بظر أمك، والبظر: لحمة في الفرج، وهي التي تختن، وهذا من شتائم العرب. النهاية: "وفي الحديث: "من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"، أي: قولوا له: اعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن، تنكيلاً له". وقول أبي جهل لعتبة يوم بدر: لو غيرك يقول هذا أعضضته، أي: شتمته.

فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير، وإمّا قريشا، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: "ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ " قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ردّد عليهم فقال: "إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل"، فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: من الأدب أن يُقال: يعني "أعضضناه"؛ أي: جعلناه عاض أنامله، أو قلنا له: أعضضت علينا أناملك من الغيظ، يعني: ما حصل مطلوبك، وما ظفرت إلا بعض أناملك من الغيظ، وتحقيق هذه الكناية: أوقعناه فيما يصير به نادماً يعض أنامله، فإنه إذا قصد العير ولم يجده ندم على المسير، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) [الفرقان: 28]، أو غضب كقوله تعالى: (عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ) [آل عمران: 119]. قوله: (قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو): وهذا هو المراد من إيراد هذه القصة؛ لأن القصة سيقت لبيان أن قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حال، كما علم من كلامه. قوله: (فأحسنا): أي: أحسنا الكلام في اتباع مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (إلى عدن أبين)، النهاية: "عدن أبين: مدينة معروفة باليمن، أضيفت إلى "أبين" بوزن "أبيض"، وهو رجل عدن بها، أي: أقام". قوله: (ثم قال المقداد بن عمرو): روينا في "صحيح البخاري" عن ابن مسعود قال: "أتى

فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " أشيروا علىَّ أيها الناس"، وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة. فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل"، قال: آمنَّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض-يا رسول الله- لما أردت، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المقداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن امض ونحن معك. فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورواه أحمد بن حنبل عن طارق بن شهاب، وفي آخره: "ولن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون". قوله: (بتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم): أي: لا تعتقد وجوب نصرته عليهم إلا على عدو يفجؤه بالمدينة، و"لا" في "أن لا تكون": زائدة. قوله: (استعرضت): أي لو عبرت بنا البحر عرضاً. النهاية: "في الحديث: "فأتى جمرة الوادي فاستعرضها"، أي: أتاها من جانبها عرضاً".

بنا عدوّنا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة الله. ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسطه قول سعد، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". وروى: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم): روينا عن مُسلم وأبي داود عن أنس قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان"، ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال: فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم". الأساس: "خاض الماء خوضاً، وأخاضوا الماء إخاضة: إذا خاضوه بدوابهم". النهاية: "في الحديث: "لا تضرب أكباد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"؛ أي: لا تركب ولا يسار عليها، يقال ضربت في الأرض؛ إذا سافرت فيها". وأما "برك الغماد" بفتح الباء وكسرها، وضم الغين وكسرها: فهو اسم موضع باليمن، وقيل: هو موضع من وراء مكة بخمس ليال.

فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لم"؟ قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. وكانت الكراهة من بعضهم لقوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكِرهُونَ). [(يُجدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) 6] (يُجدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ): بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب! وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم، وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فناداه العباس وهو في وثاقه) الحديث: رواه أحمد بن حنبل والترمذي عن ابن عباس. قوله: (لا يصلح): أي: لا يصلح هذا الرأي، وهو قول القائل: "عليك بالعير"؛ لأنه تعالى وعدك إحدى الطائفتين وأنجز ما وعده. قوله: (وكانت الكراهة من بعضهم) عطف على قوله: "وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام" إلى آخر القصة، أو حال عاملة معنى الإشارة، وهو كالبيان لمضمون القصة، لأن القصة أذنت بحصول الكراهة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي النفير، والإعجاب لتلقي العير، ولم يعلم أن لهم كرهوا ذلك أو بقي منهم من لم يكره، يدل عليه قوله: "فاستشار أصحابه وقال: ما تقولون: "العير أحب غليكم أم النفير؟ " قالوا: بل العير، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال: "وكانت الكراهة من بعضهم بدليل قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) ". قوله: (ثم شبه حالهم): لفظة "ثم" توهم أنالمشبه غير ما سبق من قوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي

بحال من يعتل إلى القتل، ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها، لا يشك فيها. وقيل: كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة، وروي: أنه ما كان فيهم إلا فارسان. [(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) 7] (وإذ) منصوب بإضمار: اذكر. و (أَنَّها لَكُمْ) بدل من (إحدى الطائفتين)، والطائفتان: العير والنفير، و (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ): العير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ)، ولكن هو المشبه، لأن مثل هذا الجدال - أعني قولهم: "ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب"، بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وعدني إحدى الطائفتين"، وقوله: "والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" - يدل على جبن عظيم وإفراط في الرعب والفرق، فصح تشبيهه بقوله: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)، ثم عطفت هذه الجملة على ما سبق من حيث المعنى، يعني: أثبت الله لهم الجدال بسبب الكراهة بعدما أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصرة، ثم شبه حالهم. قوله: (من يعتل إلى القتل)، الجوهري: "عتلت الرجل أعتله: إذا جذبته جذباً عنيفاً". قوله: (وقيل: كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة): عطف على قوله: "لكراهتهم القتال"، أي: خافوا العدو إما جُبناً وخوراً وكانوا معذورين فيه لقلة العدد والعُدد، ولهذا قدر وجه التشبيه في الأول: "في فرط فزعهم ورعبهم". قوله: (إلا فارسان): قيل: هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام. وفي "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن علي رضي الله عنه: "ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد بن الأسود".

لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسًا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم، والشوكة: الحدّة، مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا؛ لشباها، ومنها قولهم: شائك السلاح، أي تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ): أن يثبته ويعليه (بِكَلِمتِهِ): بآيه المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدَّابر: الآخر، فاعل من: دبر: إذا أدبر، ومنه: دابرة الطائر. وقطع الدابر: عبارة عن الاستئصال، يعنى: أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور، وأن لا تلقوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لشباها)، الجوهري: "شباة كل شيء: حد طرفه، والجمع: الشبا والشبوات". قوله: (ومنها قولهم: شائك السلاح): فعلى هذا "شائك" يكون أصلاً و"شاك" مقلوبة، وذكر في "الصافات" عند قوله: (صَالِي الْجَحِيمِ) [الصافات: 163] عكس ذلك، وحقق القول فيه هنالك. قوله: (بآية المنزلة)، (وبما أمر الملائكة)، (وبما قضى من أسرهم): كلها تفسير لقوله: (بِكَلِمَاتِهِ)؛ لأنها جمع يحتمل المعدودات كلها، لأن الكلمة تطلق على المنزل، نحو قوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) [الأعراف: 158]، وعلى "كُن" بمعنى الأمر الحقيقي، أو بمعنى "قضى" على المجاز، كقوله تعالى: (إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 47، ومريم: 35]. قوله: (دابرة الطائر)، الجوهري: "دابرة الطائر: التي يضرب بها، وهي كالإصبع في باطن رجله". قوله: (وسفساف الأمور)، النهاية: "السفساف: ضد المكارم والمعالي، وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخل، والتراب إذا نثر"، والمصنف ذهب إلى الاقتباس مما رُوي في

ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم، والله عز وجلّ يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ: "بكلمته"، على التوحيد. [(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) 8] فإن قلت: بم يتعلق قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما، وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه. فإن قلت: أليس هذا تكريراً؟ قلت: لا، لأنّ المعنيين متباينان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث: "إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها"، ومن ثم ذكر في المقابل: "والله تعالى يريد معالي الأمور". قوله: (يرزؤكم): أي: ينقصكم، والرزء: المصيبة. قوله: (أليس هذا تكريراً؟ ): يعني: أليس قوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) بعد قوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ)، مثل قولك: أردت أن أكرم زيداً لإكرامه؟ وتلخيص الجواب: أنه ليس نظيراً لذلك، بل هو نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل، وأردت أن أفعل الحق، ففعلت ما أردته لكذا، لا لمقتضى إرادتك، ولهذا قال: "وجب أن يُقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص"، لأن المقام يقتضي نفي إرادة القوم وإثبات

وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين، وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك، إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص، وينطبق عليه المعنى. وقيل: قد تعلق بـ" يقطع". [(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) 9] فإن قلت: بم يتعلق (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ)؟ قلت: هو بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) [الأنفال: 7]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إرادة الله لينطبق عليه المعنى، ولا يحصل ذلك غلا بتأخير المقدر، وكان أصل الكلام: تودون أن العير تكون لكم، ويريد الله ملاقاة النفير، ففعل الله تعالى ما أراده دون ما أردتم أنتم. فوضع (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ) موضع "ملاقاة النفير" للدلالة على حصول الفوز في الدارين، ثم وضع موضع "ففعل الله تعالى ما أراده دون ما أردتم" قوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ)، مع إرادة المحذوف متأخراً للدلالة على تعظيم ذلك الفعل. وإلى الأول الإشارة بقوله: "وما يرجع إلى عمارة الدين، ونُصرة الحق، وعلو الكلمة، والفوز في الدارين"، وإلى الثاني الإشارة بقوله: "وأنه ما نصرهم، ولا خذل أولئك، إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض". وفي وضع "تودون" موضع "تريدون"، لكونه مقابلاً لقوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ): إيذان ببطلان إرادتهم، وفي إيثار (غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) على "العير": إيماء إلى جُبنهم وخورهم، وإنما ترك الفاء في جملة قوله: (يُحِقَّ الْحَقَّ) مع معلله كما في المثال، ليكون الاتصال استئنافاً. قوله: (فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم، ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم): "من" بيان "ما فعل"، و"أنه" عطف على "غرضه"، أي: هذا بيان لأن ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض.

وقيل: بقوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ البَطلَ)، واستغاثتهم: أنهم لما علموا أنه لا بدَّ من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون: أي ربنا، انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاث مئة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أصله: بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه "استجاب" فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ: " أَنِّي مُمِدُّكُمْ" بالكسر؛ على إرادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى "قال" لأنّ الاستجابة من القول. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: بقوله) أي: يتعلق (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) بقوله: (وَيُحِقُّ الْحَقّ)، وقيل: هذا أوجه من أن يكون بدلاً، لأن زمان الوعد غير زمان الاستغاثة، إلا على تأويل أن الوعد والاستغاثة وقعاً في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. وهذا أبلغ؛ لتكرير التذكير لمزيد الامتنان والتعبير لما وُجد منهم من الكراهة والخوف، كما سبق في قوله: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ) في "آل عمران" [الآية 44 - 45]. قوله: (اللهم أنجز لي ما وعدتني): عن مُسلم وأحمد والترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة، ثم مد يده، فجعل يهتف بربه، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني" الحديث.

فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل: نزل جبريل في خمس مئة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله عنه، وميكائيل في خمس مئة على الميسرة، وفيها علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه، في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلت. وقيل: قاتلت يوم بدر، ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين. وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا، لا أنتم. وروى: أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين، إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشقّ وجهه، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت، ذاك من مدد السماء". وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي. وقيل: لم يقاتلوا، وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه: إذا تبعه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال وفتحها): بالفتح: نافع، وبالكسر: الباقون. قال الزجاج: "يُقال: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفي. ويُقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، فمعنى "مردفين": يأتون فرقة بعد فرقة". قال الجوهري: "كل شيء تبع شيئاً فهو ردفه، وردفه - بالكسر-: أي: تبعه، وأردفه: لغة في ردفه، مثل: تبعه وأتبعه".

ومنه قوله تعالى: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [النمل: 72] بمعنى: ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته، ويقال: أردفته، كقولك: أتبعته: إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى: متبعين أو متبعين، فإن كان بمعنى "متبعين": فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الردف: التابع، وردف المرأة: عجيزتها، والترادف: التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف: المتقدم الذي أردف غيره، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ): جائين، فجعل "ردف" و"أردف" بمعنى واحد، وأنشد: إذا الجوزاء أردفت الثريا وقال غيره: معناه مردفين ملائكة أخرى، فعلى هذا يكونون ممدين من الملائكة، وقيل: عني بالمردفين: المتقدمين للعسكر يلقون في قلوب العدا الرعب. وقرئ: "مردفين"، أي: أردف كل إنسان ملكاً". قوله: (كقولك: اتبعته): واعلم أن في كلام المصنف دقة، فإنه لما قسم المكسورة الدال على قسمين، أخذ في بيان أحد القسمين، وخلط القسم الآخر به، وكان الظاهر أن لا يأتي بالآخر إلا بعد الفراغ من الأول، ومن ثم عمد إلى إبطال سطر من الكتاب، فعاد الكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هكذا: "فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً أو متبعين بعضهم لبعض"، إلى آخره. وأما وجه استقامة ما في الكتاب - كما جاء في النسخ كلها-: فهو أن للبلغاء في أسلوب اللف والنشر طرقاً شتى - خلاف الظاهر - يسلكونها؛ تارة بإعانة اللف على النشر، وأخرى عكس ذلك، وهاهنا لما أتى باللف على ظاهره حيث قال: "بمعنى: متبعين أو متبعين" عمد في النشر إلى خلاف الظاهر، ثقة بأن السامع يرتب النشر عليه بالإضمار والتقديم والتأخير، كما يقول: "فن كان بمعنى: متبعين" بالتخفيف "فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً"، أي: يتبعون بعض الملائكة بعضاً منهم، "أو متبعين إياهم المؤمنين، أو متبعين أنفسهم، أو متبعين غيرهم من الملائكة". وأعجب بنشر فيه لف! وإنما ارتكب هذا الصعب ليريك أن "متبعين" و"مُتَّبعين" عند كل من الاختلاف متفقان على معنى واحد، فقوله: "متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض" يشتركان في معنى قوله: "أردفته إياه: إذا أتبعته" إذا كان المفعولان منهم، وقوله: "أو مُتبعين إياهم المؤمنين، أو متبعين لهم يشيعونهم" يشتركان في معنى قوله: "أردفته: إذا اتبعته" إذا كان أحد المفعولين "المؤمنين". وكذلك الصورة الثالثة، وإنما الفرق أن الثالثة واردة في إتباع أنفسهم ملائكة آخرين، والثانية في إتباع أنفسهم المؤمنين.

أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم، وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم، أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران: (بِثَلثَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُنْزَلِينَ). [آل عمران: 124]. (بِخَمْسَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 125]. ومن قرأ: (مُرْدِفِينَ) بالفتح: فهو بمعنى: متبعين أو متبعين. وقرئ: (مردّفين)، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال، وأصله: مرتدفين، أي: مترادفين أو متبعين، من: ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال في الدال، فالتقى ساكنان، فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال، وبالضم على إتباع الميم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الروم: 23]، قال المصنف: "التقدير" منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار، فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين، بإعانة اللف"، فعلى هذا يتطابق بين تفسيره القراءة المكسورة وبين تفسيره المفتوحة حيث قال: "ومن قرأ "مردفين" - بالفتح- فهو بمعنى: متبعين أو متبعين". قوله: (ويعضد هذا الوجه): لأن هذا الوجه يدل على أن الملائكة كانوا أكثر من الألف، فيوافق ما في قوله: (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 124 - 125]، وإنما استشهد بقوله: (بِخَمْسَةِ آلافٍ) وإن لم ينزلوا للنصر ليقرر أنهم نيفوا على الألف البتة، وأن الكلام في الزيادة, قوله: ("مردفين" بكسر الراء وضمها وتشديد الدال)، قال الزجاج: "ويجوز في اللغة: مُرِدفين ومُرَدفين ومُرُدفين، يجوز في الراء مع تشديد الدال وكسرها: فتحها وضمها وكسرها.

وعن السدي: (بآلاف من الملائكة)؛ على الجمع، ليوافق ما في سورة آل عمران. فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد، ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأنّ المراد بالألف من قاتل منهم، أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم. [(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 10] فإن قلت: إلام يرجع الضمير في وَما (جَعَلَهُ)؟ قلت: إلى قوله: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) [الأنفال: 9]، لأن المعنى: فاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) لأنه مفعول القول المضمر، فهو في معنى القول، ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه (ممدّكم). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال سيبويه: أصله: مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال فصارت مردفين، لأنك طرحت حركة التاء على الراء. قال: وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسر الراء لالتقاء الساكنين، والذين ضموا الراء جعلوها تابعة لضم الميم". قوله: (لأن المعنى: فاستجاب لكم بإمدادكم): يعني: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) بفتح الهمزة: مفرد يجوز أن يرجع إليه الضمير، وأصله: بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه (فَاسْتَجَابَ) فنصب محله، أي: ما جعل إمدادكم بالملائكة لأمر من الأمور، إلا للبشرى وللاطمئنان، لأن النصر ليس بالملائكة، فإن الناصر هو الله. قوله: (ففيمن قرأ بالكسر؟ ): أي: فما تصنع في قراءة من قرأ بكسر الهمزة، فإنها ليست في تأويل المفرد، فأجاب: "اجعله مقولاً للقول" لأن التقدير: فاستجاب لكم وقال: إني ممدكم، كأنه قيل: ما جعل الله ذلك القول- أي: إني ممدكم - إلا بشرى.

(إِلَّا بُشْرى): إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى: أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكيناً منكم، وربطا على قلوبكم (وَمَا النَّصْر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يريد: ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة، أو: (وما النصر) بالملائكة وغيرهم من الأسباب (إلا من عند الله)، والمنصور من نصره الله. [(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) 11] "إِذْ يغشاكم" بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ) [الأنفال: 7] أو منصوب بـ (النصر)، أو بما في (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [الأنفال: 10] من معنى الفعل، أو بـ (جعله الله)، أو بإضمار: اذكر. وقرئ: (يغشيكم) بالتخفيف والتشديد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: (وَمَا النَّصْرُ) بالملائكة): عطف على لفظ: "لا تحسباو"، و (النَّصْرُ) على هذا مُطلق شائع في جنسه، ولذلك قدر "وغيرهم من الأسباب"، وعلى الأول مقيد بالملائكة المنزلين بقرائن المقام، والجملة داخلة تحت الحسبان، نزلهم لاعتمادهم على نصرة الملائكة منزلة من يزعم أن الملائكة هم الناصرون، فقصر الإفرادي، لأنه نفي زعم من زعم الفرق بين المؤثر المشاهد، وأن بعضه مستقل وبعضه سبب، فقصر الحكم على أن الكل أسباب لا فرق بينها، فقيل: (وَمَا النَّصْرُ) بالملائكة وغيرهم من الأسباب (إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). قوله: (وقرئ: (يُغَشِّيكُمْ)، بالتخفيف والتشديد): "يغشاكم": بالألف وفتح الياء، و"النعاس" بالرفع: قراءة أبي عمري وابن كثير. وبضم الياء وتخفيف الشين ونصب (النُّعَاسَ): قراءة نافع، وبتشديد الشين وضم الياء- من التغشية- ونصب (النُّعَاسَ): قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.

ونصب (النعاس)، والضمير لله عزّ وجل. (وأَمَنَةً) مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلَّة واحداً؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى "يغشاكم النعاس"، تنعسون، انتصب (أمنة) على أن النعاسِ والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة، بمعنى: أمنا، أي: لأمنكم، و (مِنْهُ) صفة لها، أي: أمنة حاصلة لكم من الله عزّ وجلّ. فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة؟ قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أي: ينعسكم إيماناً منه، أو على: يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (آمِنَةً) مفعول له): فإن قلت: لم قصر هاهنا على هذا، وجعل في "آل عمران": تارة حالاً، وأخرى مفعولاً به، ومفعولاً له؟ قلت: لأن ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن، ولذل قدمه وبسط الكلام في الأمن وإزالة الخوف، ألا ترى إلى سياق الآية وهو قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا) [آل عمران: 153]، وسياقها وهو قوله: (يَغْشَى طَائِفَةً) إلى آخرها [آل عمران: 154]، حيث جعلها صفة لـ (نُعَاساً) وختم الكلام بقوله: (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ)، كيف جعل الكلام كله في الأمن والخوف بخلافه هنا، لأنه في مقام تعداد النعم، فجيء بالقصة مختصرة للرمز. قوله: (لما كان معنى "يغشام النعاس"): هذا الجواب على القراءة الأولى، وهي: "يغشاكم" بالألف و"النعاس" بالرفع. قوله: (فعلى غير هذه القراءة؟ ) يعني: صح الجواب على قراءة "يغشاكم"، فما تأويله على

فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل "يغشاكم"؟ أي: يغشاكم النعاس لأمنه، على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى، وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم، على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال: يهاب النّوم أن يغشى عيونًا ... تهابك فهو نفّار شرود ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القراءة الثانية، يعني: "يغشيكم" بضم الياء وتخفيف الشين، والثالثة، أي: (يُغَشِّيكُمْ)؛ بالتشديد؟ أجاب: بأن الفاعل على القراءتين هو الله تعالى، أي: ينعسكم الله تعالى إيماناً منه، أو يغشيكم الله النعاس فتنعسون أمناً، على أن عامله مضمر، و (آمِنَةً) بمعنى: أمناً. قوله: (هل يجوز أن ينتصب؟ ): هذا السؤال أيضاً وارد على القراءة الأولى. قوله: (على طريقة التمثيل والتخييل): أي: على أنه من الاستعارة المكنية، شبه النعاس بشخص طالب للأمن، ثم خيل أنه إنسان بعينه، حيث أثبت له على سبيل الاستعارة التخييلية الأمنة التي هي من لوازم المشبه به، وجعل نسبتها إليه قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وفيه إغراق في الوصف، لأنه جعل النعاس الذي هو سبب للأمن بسبب غشيانه غياهم ملتمساً للأمن منهم. قوله: (يهاب النوم) البيت: قيل: إنه للمصنف. "تهابك": صفة لـ "عيونا". "نفار": مبالغة من: نفرت الدابة نفاراً، و"شرود": من: شرد البعير، أي: مستعصى

وقرئ: "أمنة" بسكون الميم، ونظير: أمن أمنة: حيي حياة، ونحو: أمن أمنة: رحم رحمة، والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طمأن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان". (وَيُنَزِّلُ) قرئ بالتخفيف والتثقيل، وقرأ الشعبي: "ما ليطهركم به"، قال ابن جني: "ما" موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليك، والضمير في "فهو" عبارة عن النوم. المعنى: يخاف النوم أن يدخل عين أعدائك، فهو لذلك نفار شرود. قال في "الانتصاف": "وفيه بُعد؛ لأن هذه الاستعارة البعيدة للنوم قد تستحسن في الشعر لبنائه على المبالغة، وغلبة باطله على حقه، ولا يوجد مثلها في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". قلت: إن منع استعمال المجاز في كتاب الله المجيد يتمشى له هذا المنع، وإلا هذا منه غير مستحسن، لأن هذا الأسلوب في الدرجة القصوى من البلاغة، وكلام الله إنما كان معجزاً من حيث اللفظ والمعنى إذا استعمل فيه أمثال ذلك. قوله: (حيي حياة): أصله: حيية، قلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكتبت ألفه واواً للتفخيم. قوله: (وقرأ الشعبي: "ما ليطهركم [به] "، قال ابن جني: "ما"موصولة)، فالتقدير: وينزل عليكم من السماء الذي لطهارتكم أو لتطهيركم. واللام التي في قراءة الجماعة هي اللام في قولك:

و (رِجْزَ الشَّيْطانِ): وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ: "رجس الشيطان". وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء، ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم- يا أصحاب محمد- تزعمون أنكم على الحق، وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي، واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان، وطابت النفوس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زرتك لتكرمني، وأما اللام في القراءة الشاذة فمتعلقة بمحذوف، كقولك: دفعت إليه المال الذي له، أي: استقر وثبت له، وفيها ضمير لتعلقها بالمحذوف، ومعنى القراءتين يرجع إلى واحد، والمشهورة أفصح لتصريح التعليل فيها. قوله: (وقرئ: "رجس الشيطان") قال ابن جني: "الرجس في القرآن: العذاب، كالرجز، ورجس الشيطان: وسوسته، الرجس في الأصل: كل ما تستقذره النفس، كالخنزير ونحوه". قوله: (كثيب أعفر): أي: رمل أبيض تعلوه حمرة، "تسوخ" أي: تدخل فيه الأقدام وتغيب.

والضمير في (بِهِ) للماء، ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال. [(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلْائكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءآمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) 12] (إِذْ يُوحِي) يجوز أن يكون بدلا ثالثاً من (إِذْ يَعِدُكُمُ) [الأنفال: 7]، وأن ينتصب بـ "يثبت". (أَنِّي مَعَكُمْ) مفعول (يوحى)، وقرئ: " إني" بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء (يوحى) مجرى: يقول، كقوله: "إِني مُمِدُّكُمْ"، والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة): يؤذن بأن (عَلَى قُلُوبِكُمْ) صلة لـ"يربط"، وعُدي بـ "على" مزيداً للتمكن، ونحوه في إرادة الاستعلاء: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة: 5] لمزيد التمكن. قال الواحدي: "الربط: معناه الشد، يقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه، و"على" صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل من الماء، فتثبت ولا تضطرب بوسوسة الشيطان". قوله: ((إِنْ يُوحَى) يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من (إِذْ يَعِدُكُمْ) وأن ينتصب بـ "يثبت")، وقد سبق أن البدل أولى للتكرير. قوله: (كقوله: "إني ممدكم"): يعني: في قراءة من قرأ بكسر "إن" في قوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ)، والظاهر أنه استشهد به للوجهين، وإن ذكر في موضعه أنه مفعول القول المضمر.

وقوله: (سَأُلْقِي ... فَاضْرِبُوا) يجوز أن يكون تفسيراً لقوله: (إِني مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا) ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم، واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم، وتصحّ عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سَأُلْقِي .... فَاضْرِبُوا): يجوز أن يكون تفسيرا) اعلم أن في فصل قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) عما قبله وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) مع ما ترتب عليه بالفاء تفسيراً لقوله: (إِنِّي مَعَكُمْ) مع ما ترتب عليه بالفاء، فقوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) تفسير لقوله: ((إِنِّي مَعَكُمْ)، وقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) تفسير لقوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). وثانيهما: أن لا يكون تفسيراً لذلك، وحينئذ يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون معنى قوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا): أخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم، بنحو: أني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنَنكَشِفَنَّ، وينحو: أبشروا فإن الله ناصركم، ويكون قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) استئنافاً، كأنه لما قيل: فأوقعوا في قلوب المؤمنين ما تقوى به قلوبهم، وأهروا ما يتيقنون به أنهم قد أمدوا بالملائكة، فقالوا: فماذا يكون إذن؟ فأجيبوا بقوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، وعند ذلك (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) يعني: مدوهم أنتم، وأنا أنجزكم وعدكم بإلقاء الرعب في قلوبهم وآمركم بالضربين.

وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه، فيأتي، فيقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنَّ، ويمشى بين الصفين، فيقول: أبشروا، فإن الله ناصركم؛ لأنكم تعبدونه، وهؤلاء لا يعبدونه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. فقوله: "كان الملك يتشبه بالرجل": كالاستشهاد للإخطار بالبال بما تقوى به القلوب، وقوله: "يمشي بين الصفين فيقول" بيان لقوله: "وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة". وثانيهما: أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى آخره، بعينه ملقناً، وهو المراد من قوله: "ويجوز أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى قوله: (كُلَّ بَنَانٍ) تلقينا للملائكة"، وهذا أيضاً يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مقولاً للقول على سبيل البيان، كقوله: (فَثَبِّتُوا). وثانيهما: على الاستئناف على طريقة السؤال والجواب، كما صرح به قوله: "فالضاربون على هذا"، أي: على أن يكون (سَأُلْقِي) تلقيناً، وعلى الوجوه السابقة هم الملائكة، وفيه دلالة على أن الملائكة قاتلت. فإن قلت: التقسيم مختل؛ لأن الوجه الأخير مشتمل على البيان، وهو تفسير، فكيف يكون قسيماً للوجه الأول؟ قلت: ليس كذل؛ لأنه قال أولاً: " (سَأُلْقِي .. فَاضْرِبُوا): يجوز أن يكون تفسيراً"، فالتقدير: أن المجموع: إما تفسيرٌ أو غير تفسير، والثاني: إما أن يكون معنى "التثبيت": الإخطار بالبال، أو إظهار ما يحصل به اليقين، أو التلقين، ثم التلقين: إما على البيان أو على الاستئناف. قوله: (لننكشفن) أي: لننهزمن، من: كشفت الشيء فانكشف.

وقرئ: (الرعب) بالتثقيل، (فَوْقَ الْأَعْناقِ): أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزاً وتطييراً للرؤوس. وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعنى: ضرب الهام. قال: وَأضْرِبُ هَامَةَ الْبطَلِ الْمُشِيحِ و: غشّيته وهو في جأواء باسلة ... عضبًا أصاب سواء الرّأس فانفلقا والبنان: الأصابع، يريد الأطراف، والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("الرعب" بالتثقيل): أي: بضم العين، ابن عامر والكسائي. قوله: (واضرب هامة البطل المشيح): أوله: وإجشامي على المكروه نفسي إجشامي: تكليفي، والهام: وسط الرأس، والمشيح- بالحاء المهملة-: المُجد المسرع، ورجل مشيح: حذر، وأشاح الرجل: إذا جد في القتال. قوله: (غشيته) البيت: الجأواء: العسكر العظيم الذي اسود من كثرة السلاح، والبسالة: الشجاعة، والعضب: السيف القاطع، والسواء: الوسط، يقول: رب فارس صفته كيت وكيت، أنا ضربته وهو في جيش تام السلاح، بسيف قاطع نال وسط رأسه، فشقه. قوله: (والشوى): وهو اليدان والرجلان والرأس من الإنسان، وكل ما ليس مقتلاً، يُقال: رماه فاشواه: إذا لم يصب المقتل.

لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ويجوز أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى قوله: (كُلَّ بَنانٍ)، عقيب قوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءامَنُوا): تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قوله: (سَأُلْقِي)، فالضاربون على هذا هم المؤمنون. [(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ * ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) 13 - 14] (ذلك) إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء، و (بأنَّهُمْ) خبره، أي: ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم، والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه. وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة، فقلت: لأن هذا في عدوة، وذاك في عدوة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "البنان: الأصابع، سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبن بها، يريد: أن يقيم، ويُقال: أبنَّ بالمكان يُبنُّ، ولذلك خُص في قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة: 4]، وقوله تعالى: (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، خص لأجل أنهم بها تقاتل وتدافع". قوله: (فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً): وفائدته: الضرب المتواتر بلا تحاش. قوله: (هذا في عدوة): العدوة- بضم العين وكسرها-: جانب الوادي وحافته، والجمع: عداء، مثل: برمة وبرام، وما يوافق قول المصنف في منامه قول ابن جني: " (وَلا تُشْطِطْ) [ص: 22]: أي: لا تُبعد، وهو من الشط، وهو الجانب، فمعناه: أخذ جانب الشيء وترك وسطه وأقربه، كما قيل: تجاوز، وهو من الجيزة، وهو جانب الوادي".

كما قيل: المخاصمة والمشاقة؛ لأن هذا في خصم- أي في جانب- وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق. والكاف في (ذلِكَ) لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي (ذلِكُمْ) للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل (ذلِكُمْ) الرفع على: ذلكم العقاب، أو: العقاب ذلكم (فَذُوقُوهُ)، ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه، (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على (ذلكم) في وجهيه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على طريقة الالتفات): التفت من (شَاقُّوا اللَّهَ) وهو غيبة، إلى (ذَلِكُمْ) وهو خطاب. قوله: (ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم): قال القاضي: " (ذَلِكُمْ) نصب بفعل دل عليه (فَذُوقُوهُ) أو غيره؛ مثل: باشروا، أو: عليكم، فتكون الفاء عاطفة"، وفيه أن الفاء على الأول شرطية. قلت: هو مثل قوله: خولان فانكح، أي: هؤلاء خولان، المعنى: ذلكم العذاب الذي تستحقونه، فإذا كان كذلك فذوقوه. قوله: (في وجهيه): أي: في أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أو عكسه، والمعنى: ذلكم الجزاء في الدنيا وكونكم في النار في الآخرة، فالعقاب بمعنى الجزاء. ووضع (لِلْكَافِرِينَ) موضع الضمير، واللام فيه للعهد. والجملة على قراءة الحسن تذييل، واللام للجنس، والواو للاستئناف.

أو نصب على أن الواو بمعنى "مع"، والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن: "وإن للكافرين"، بالكسر. [(يأُيّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومأويه جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 15 - 16] (زَحْفاً) حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا)، والزحف: الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيباً، من: زحف الصبي: إذا دبّ على استه قليلا، سمي بالمصدر، والجمع: زحوف، والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم، وأنتم قليل، فلا تفرّوا، فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم. أو حال من الفريقين، أإذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين، كأنهم أشعروا بما كان سيكون ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو نصب): عطف على قوله: "على ذلكم" من حيث المعنى، أي: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) رفع عطف على (ذَلِكُمْ)، أو نصب على أن "الواو" بمعنى "مع". قوله: (فوضع الظاهر موضع المضمر): أي: فوضع (لِلْكَافِرِينَ) موضع (ذَلِكُمْ)، وفائدته: الإشعار بأن صفة الكفر هي الموجبة لإذاقة العذاب في الدارين، وفائدة التذييل أن يُقال: أيها الكفار، إن العذاب في الدنيا من ضرب الأعناق وقطع الأطراف لكم خاصة فذوقوه، ثم الأمر في الآخرة أن تدخلوا في زمرة الجاحدين المخلدين في عذاب النار. قوله: (الجيش الدهم): والدهم بفتح الدال، الجوهري: "العدد الكثير". قوله: (بما كان سيكون): "كان" زائدة للتأكيد، كقول الفرزدق: وجيران لنا كانوا كرام

منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثني عشر ألفاً، وتقدمة نهى لهم عن الفرار يومئذ، وفي قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أمارة عليه. (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها، (أَوْ مُتَحَيِّزاً): أو منحازاً، (إِلى فِئَةٍ): إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضي الله عنه: "خرجت سرية وأنا فيهم، ففرّوا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا، فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله، نحن الفرّارون؟ فقال: بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتقدمه نهي): عطف من حيث المعنى على قوله: "كأنهم أشعروا"، أي: كأنهم أشعروا وكأنه تقدمة نهي لهم، أي: قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية- على أن يكون (زَحْفاً) حالاً من المؤمنين - إشعار بما سيكون منهم وتقدمة نهي. قوله: (وفي قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) الآية، أمارة عليه): أي: على أنه تقدمة نهي لهم عن الفرار، وذلك أن التحيز إلى فئة إنما يصح إذا كان للمسلمين فئة ينحازون إليها، ويوم بدر لم يكن لهم في الأرض فئة، وأما بعد ذلك فالمسلمون كثروا، يدل عليه قوله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة: 25]. قوله: (وعن ابن عمر: خرجت سرية) الحديث: أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وأبو داود مع اختلاف فيه. قوله: (أنتم العكارون): أي: الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها، يُقال للرجل يولي عن الحرب ثم يكر راجعاً إليها: عكر واعتكر. قاله صاحب "النهاية".

وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال: "يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه: أنا فئتك". وعن ابن عباس رضي الله عنه: "إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر". فإن قلت: بم انتصب (إِلَّا مُتَحَرِّفاً)؟ قلت: على الحال، و (إلا) لغو، أو على الاستثناء من المولين، أي: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفاً أو متحيزاً. وقرأ الحسن: (دُبُرَهُ) بالسكون، ووزن "متحيز": متفيعل، لا: متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء "متفعل" منه: متحوّز. [(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 17] لما كسروا أهل مكة، وقتلوا وأسروا، أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رجل من القادسية)، المغرب: "هو موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلاً". قوله: (و (إلا) لغو) أي: لفظة (إلا) لغو من حيث اللفظ، أي: مزيدة، لأن العامل يعمل في الحال استقلالاً، لكنها معطية في المعنى فائدتها، والكلام في سياق النفي، المعنى: فلا تولوهم الأدبار في حال من الأحوال إلا متحرفاً. قوله: (ولما طلعت قريش) إلى قوله: "خذ قبضة من تراب فارمهم بها" إلى آخره: يدل على أن هذه الرمية غير الرمية التي وُجدت يوم حنين، قال محي السنة: "قال أهل التفسير والمغازي: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً"، وساق القصة إلى قوله: "فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصى عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فلم يبق منهم مشرك مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه، فانهزموا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أما أئمة الحديث فلم يذكر أحد منهم أن هذه الرمية كانت يوم بدر، روينا في "صحيح مسلم" عن سلمة بن الأكوع قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنيناً، فلما واجهنا العدو"، وساق الحديث إلى قوله: "فولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومررت منهزماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الكوع فزعاً، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فهزمهم الله تعالى". وذكر صاحب "المعتمد" حديث الرومي بعد قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ): ورواه مسلم عن العباس، وفيه أنه في يوم حنين. وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي عبد الرحمن الفهري: أن الرمية كانت يوم حنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: قال الراوي: "حدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً". وللمفسرين أن يقولوا: إن هذه الرمية غير تلك الرمية، ثم إن لهم أن يبينوا صحة هذا النقل، وبهذا رمز محيي السنة: "وقال أهل التفسير والمغازي"، وفي إقحام "إذ" في هذه القرينة دون أختها - أي: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) - دلالة على اختلاف وقوعهما بحسب الزمان. وأما قضية النظم: فعلى ما سبق أن قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ) كالفاتحة التي يتخلص منها إلى تعداد أحوال المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهة بعضهم رأيه صلوات الله عليه في كثير من الأمر، كما سبق في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)، فبدأ بقصة بدر، وذكر نُبذاً منها، وختمها بقوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)، ثم عم الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية. وروى محيي السنة عن بعضهم: أن حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزماً. ثم رتب النهي عن التولي على الوصف المناسب، وهو قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، يعني: أتحسبون أن النصرة تحصل بفعلكم أو بفعل الغير، فلم تقتلوهم حين قتلتموهم يوم بدر، ولا هزمتموهم حين هزمتموهم يوم حنين، وإذا كان الناصر والمتولي هو الله عز وجل، فكيف تولون الأدبار؟ ! كأنه قيل: لا تولوهم الأدبار، لأن الله تعالى ناصركم ومعينكم.

"هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها، يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني "، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان لعلى رضي الله عنه: أعطني قبضة من حصباء الوادي "، فرمى بها في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه"، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم فقيل لهم: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذي يؤيد أن تعداد القصص للاستذكار: إيرادها هكذا على غير ترتيب على منوال ما سبق في قصة البقرة، ألا ترى كيف عقبه بقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ) الآية [الأنفال: 19]، وأنه في شأن المشركين حين خرجوا من مكة لقتال المسلمين، وبقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25]، وأنه في أمر علي وعمار رضي الله عنهما يوم صفين، وفي أمره وأمر طلحة والزبير يوم الجمل، وبقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الأنفال: 30] وأنه في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجاته من مكر قريش قبل الهجرة، وعلى هذا إلى آخر السورة. هذا هو النظم المعجز الفائت للقوى والقدر! ولهذا السر كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة، دون الآيات وإن كانت ذوات عدد والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (شاهت الوجوه)، النهاية: "شاهت، أي: قبحت، يُقال: شاه يشوه شوهاً، وشوه شوهاً، ورجل أشوه، وامرأة شوهاء، ويُقال للخطبة التي لا يصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم: شوهاء".

والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع. (وَما رَمَيْتَ) أنت يا محمد (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى)، يعنى: أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها، لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا يطيقها البشر فعل الله عزّ وعلا، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا. وقرئ: "ولكن الله قتلهم"، "ولكن الله رمى"، بتخفيف "لكن"، ورفع ما بعده. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ): وليعطيهم، (بَلاءً حَسَناً): عطاءً جميلاً، قال زهير: فَأبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه) إلى قوله: (فكان الله هو فاعل الرمية على الحقيقة): صريح في مذهب أهل السنة، قال الإمام رحمه الله: "أثبت كونه صلى الله عليه وسلم رامياً، ونفى كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً، والله تعالى رماه خلقاً". قوله: (لأن أثرها الذي لايطيقها البشر فعل الله): نظر إلى لفظ "الأثر"، فذكر وصفه في "الذي"، وإلى اكتسائه التأنيث بالإضافة، فأنث الراجع في "لا يطيقها". قوله: (فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو): أوله: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لدعائهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم. [(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكفِرِينَ) 18] (ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع، أي: الغرض ذلكم، (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ) معطوف على (ذلِكُمْ)، يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: جزى الله الممدوحين بالإحسان جزاء ما فعلا بكم، وأعطاهما خير العطاء الذي يُعطى لأحد، فـ"ما" موصولة، حُذف منها المضاف، وأقيمت مقامه. قلت: الظاهر أن يفسر قوله: (بَلاءً حَسَناً) بالإبلاء في الحرب، النهاية: "في حديث سعد يوم بدر: "عسى أن يُعطى هذا من لا يبلى بلائي"، أي: لا يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه يريد: أفعل فعلاً أختبر فيه، ويظهر به خيري وشري"، لما أنه في مقابل توهين كيد الكافرين كما قال، لأن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، المعنى: ما فعل الله القتل والرمي إلا ليعطي المؤمنين منه - أي: بسبب ذلك- قوة ونجدة، وإلا ليوهن أمر الكافرين ويبطل كيدهم. ويمكن أن يوجه قول المصنف بحمل العطاء على ما ذكرنا، لأن العطاء الحسن في مقام الحرب النجدة والقوة، وأما توسيط (ذَلِكُمْ) بين الإعطاء والتوهين؛ فلبعدهما من العطاءين. قوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ) معطوف على (ذَلِكُمْ): أي: عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون عطف جملة، أي: الغرض ذلكم والغرض أن الله موهن. وعليه كلام أبي البقاء، لكنه قدر "الأمر" بدل "الغرض"، وهو أبعد من مذهب الاعتزال.

وقرئ: (موهن) بالتشديد، وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال. [(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) 19] (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهمّ انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعاني، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروي: أنهم قالوا: اللهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروي: أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم. أي: فأهلكه. وقيل: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب للمؤمنين، (وَإِنْ تَنْتَهُوا) خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأسلم، (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته (نَعُدْ) لنصرته عليكم. (وَأَنَّ اللَّهَ) قرئ بالفتح؛ على: ولأنّ الله معين المؤمنين كان ذلك، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "موهن" بالتشديد): نافع وابن كثير وأبو عمرو، وبالإضافة: حفص. قوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم): وذلك أنه تعالى لما أجمل في قصة بدر، ووصى المؤمنين بالثبات في مقابلة الأعداء، عاد إلى التفصيل، وحكى خطابه لأهل مكة قبل اللقاء. قوله: ((وَإِنَّ اللَّهَ) قرئ بالفتح): نافع وابن عامر وحفص، والباقون: بالكسر.

وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود: "والله مع المؤمنين"، وقرئ: "ولن يغنى عنكم"، بالياء للفصل. [(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) 20 - 23] (وَلا تَوَلَّوْا) قرئ بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في (عَنْهُ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ المعنى: وأطيعوا رسول الله، كقوله: (الله ورسوله أحق أن يرضوه) [التوبة: 62]، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 8]، فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه أوجه): أي: القراءة بكسر "إن" في قوله: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أوجه من القراءة بالفتح؛ لأن الجملة حينئذ تذييل، وكأنه قيل الغرض إعلاء أمر المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين، وكيت وكيت، وأن سنة الله وعادته عز وجل جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، كقوله: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]. ويجوز على قراءة الفتح أيضاً هذا التقرير، كما قال أبو البقاء: " (ذَلِكُمْ) أي: الأمر ذلكم، والأمر أن الله موهن كيد الكافرين، والأمر أن الله مع المؤمنين"، ولكن الأول أحسن وأدل على إرادة التذييل، لأنه نص فيه. قوله: (وإدغامها): أي: بتشديد التاء.

كقولك: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان، ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أي: ولا تولَّوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه، أو: ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي تصدقون، لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) أي: ادّعوا السماع، (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لأنهم ليسوا بمصدّقين، فكأنهم غير سامعين. والمعنى: أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) عطف على قوله: "ولا تتولوا عن هذا الأمر"، وكلاهما نشر لتقرير عود الضمير إما إلى الأمر بالطاعة أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن على غير ترتيب، ومعنى السماع في (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) على أن يعود الضمير إلى الأمر بالطاعة: على الحقيقة، وعلى العود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: مجاز عن التصديق. واعلم أنه قد سبق أن هذه السورة الكريمة مشتملة على تشديد أمر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحريض أصحابه رضوان الله عليهم على الانقياد لأمره والامتناع عن مخالفته، فلما ذكر في مفتتح السورة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]، وساق حديث قصة بدر، وأطال الكلام فيها، كر إلى ما بدأ به، وشدد فيه غاية التشديد، حيث جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله عز وجل، وعقب المر بالطاعة النهي عن المخالفة بقوله: (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ)، ثم أكده بالتذييل التشبيهي، وهو (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا)، ثم تمم المعنى على المبالغة بضرب المثل (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ). ويؤيد ما ذكرنا أن في الآية كراً إلى المعنى الأول.

فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. ثم قال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) أي: إنّ شر من يدب على وجه الأرض، أو إنّ شرّ البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرّها! . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن توليتم عن طاعة الرسول): من قسمة الغنائم وغيرها. قوله: (أو: إن شر البهائم): هذا محمول على العرف العام، وعلى الأول: على عرف اللغة. قوله: (هم صم عن الحق لا يعقلونه): تفسير لقوله: (الصُّمُّ الْبُكْمُ)، قال أبو البقاء: "إنما جمع الصم، وهو خبر (شَرَّ)؛ لأن "شراً" هنا يُراد به الكثرة، فجمع الخبر على المعنى، ولو قال: "الأصم"، لكان الإفراد على اللفظ". قوله: (جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرها): آذن بهذا الجعل بأنه من باب التشبيه، وأن أصل التشبيه: الصم البكم كالبهائم، ثم: الصم البكم كشر البهائم، ثم: شر البهائم كالصم البكم، على التقديم والتأخير، نحو قول الشاعر: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ) في هؤلاء الصم البكم (خَيْراً) أي: انتفاعا باللطف، (لَأَسْمَعَهُمْ): للطف بهم، حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا)، يعنى: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه، أو: ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي تعريف الخبر الدلالة على الحصر، وأن من لم يُطع الله ورسوله هو شر خلق الله تعالى، ولا دابة شر منه، وإن كان مطاعاً عند الناس. قوله: (ثم قال: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) يعني: ثم الكلام عند قوله: (لأَسْمَعَهُمْ)، وعُلم منه أن علمه تعالى بعدم الانتفاع سبب لعدم الإسماع. ثم ابتدأ الكلام بناء على ما سبق، أي: لو قُدر أن الله تعالى يلطف بهم ويسمعهم على ذلك التقدير لكان عبثاً، لأن علم الله تعالى متعلق بأنه لا ينفعهم، فلذلك ما لطف بهم، وقوله: "أو: ولو لطف بهم لما نفع فيهمن أي: لو لطف بهم على ذلك التقدير وآمنوا لارتدوا"، ونفي العلم هاهنا لنفي المعلوم، كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ) [يونس: 18]. واعلم أن كلمة "لو" وضعت للدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا دخلت على النفي يصير بمعنى الإثبات، ولو دخل على الإثبات صار بمعنى النفي، فيلزم من قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ) أنه تعالى ما أسمعهم لأنه ما علم فيهم خيراً، ومن الثاني أنهم ما تولوا لأنه تعالى ما أسمعهم، وعدم التولي خير من الخيرات، فالابتداء يقتضي نفي الخيرن والانتهاء إثباته، ولهذا قدر الإمام: "لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج سماع تفيهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم الله أن لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون"، وحاصل الكلامين أن "لو" الثانية مجاز لمجرد الاستلزام، لا لامتناع الشيء لامتناع غيره. قال أبو البقاء: لو: في قوله تعالى: (لَوْ عَلِمَ) إلى آخره كـ"لو" في قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه": تفيد المبالغة، وهو أنه لو لم يكن عنده خوف لما عصى الله، فكيف يعصي وعنده خوفه؟ ولو لم يرد المبالغة لكان معناه: أنه يعصي الله لأنه يخافه. وقال صاحب "الانتصاف" على كلام المصنف: "إطلاق أن اللطف يحصل من الله للعبد ولا ينفعه: قبحي مردود، فاللطف عندنا: أن يخلق في قلبه قبولا لحق والإصغاء له، وهذه عقيدة أهل الحق، ولو بُحث معه على مذهبه لم يستقم قوله: "ولو علم الله فهيم خيراً للطف بهم، ولو لطف لتولوا"، فيلزم توليهم على تقدير علم الله الخير، فيجب أن يُجعل الإسماع الواقع جواباً لـ (لوْ) غير الإسماع الواقع شرطاً للثاني، أي: ولو علم الله فيهم خبراً لأسمعهم إسماعاً يحصل لهم به الهدى والقبول، ولو أسمعهم لا على ان يخلق لهم الهدى إسماعاً مجرداً لتولوا وهم معرضون".

وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي، لم يسلم منهم إلا رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة، كانوا يقولون: نحن صم بُكم عُمي عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. وعن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: أهل الكتاب. [(يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) 24] (إِذا دَعاكُمْ) وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال، وبالدعوة: البعث والتحريض. وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبىّ ابن كعب، فناداه وهو في الصلاة، فعجل في صلاته، ثم جاء، فقال: " ما منعك عن إجابتي"؟ ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبي بن كعب) الحديث: من رواية البخاري وأبي داود وابن ماجه والدارمي والنسائي عن أبي سعيد بن المعلي قال: كنت أصلي في المسجد، ودعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته وقلت: يا رسول الله، ني كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ)؟ ".

قال: كنت أصلي، قال: "ألم تخبر فيما أوحي إلىّ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)؟ ! " قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك. وفيه قولان: أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. (لِما يُحْيِيكُمْ) من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم: لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ ... فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ وقبل: لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَيوةٌ) [البقرة: 179]، وقيل: للشهادة، لقوله: (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [عمران: 169]. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يعنى: أنه يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب، ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليماً كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل: معناه: إنّ الله قد يملك على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً، وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله عَزًّ وجَلَّ، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا الوجه: الدعاء والاستجابة جاريان على الحقيقة، كما كان في الوجه الأول الدعاء مجازاً عن البعث والتحريض، والاستجابة عن الطاعة والامتثال. قوله: (لا تعجبن الجهول) البيت: من قول أبي الطيب: لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن

فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن): روى هذه العبارة محيي السنة عن سعيد بن جبير وعطاء، وروى عن السدي قريباً منه: وقال الإمام: "إن الأحوال القلبية: إما العقائد وإما الإرادات والدواعي، فالعقائد: إما العلم وإما الجهل، أما العلم فهو من الله، وأما الجهل فكذلك، لأن الإنسان لا يختار الجهل لنفسه، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل لزم الحدوث لا عن محدث، ولا يجوز أن يكون محدثه العبد، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر، إلى ما لا نهاية له، فتعين أن يكون الفاعل الله". وقلت: قضية النظم وسياق الآيات راجع إلى إثبات مسألة العلم وخلق الداعية، كما عليه مذهب أهل السنة والجماعة، وبيانه: أنه تعالى لما نص بقوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ) الآية [الأنفال: 23]، على أن الإسماع لا ينفع فيهم؛ تسجيلاً على أولئك الصم البكم؛ من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان، ويسر لهم من الطاعات، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مُيسر لما خلق له"، يعني: أنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم، فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر، فما تتيسر لهم الاستجابة، وأنتم لما منحتكم الإيمان ووفقتكم الطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة، واعلموا أن الله يحول بني المرء وقلبه؛ بأن يحول بينه وبين الإيمان، وبينه وبين الطاعة، ثم يجازيه في الآخرة بالنار.

وقيل: معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه. وقرئ: "بين المر" بتشديد الراء، ووجهه: أنه قد حذف الهمزة، وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ. [(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) 25] (فِتْنَةً): ذنباً؛ قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تلخيصه: أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم. ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن الترمذي عن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قالت: فقلت له: يا رسول الله، ما أكثر دعائك بهذا؟ ! قال: "يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ". قلت: وتصديقه قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]، والله أعلم. قوله: (أنه تعالى يطلع على كل ما يخطره المرء بباله): فكأنه يحول بينه وبين قلبه، قال القاضي: "هذا تمثيل لغاية قربه من العبد، كقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، وتنبيه على أنه تعالى مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، فيكون حثاً على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها" في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيحاسبكم بما في قلوبكم من الإخلاص والرياء. قوله: (هو إقرار المنكر): أي: تمكين الفعل المنكر بين المسلمين، من: أقره في مكانه فاستقر.

وقيل: افتراق الكلمة. وقيل (فِتْنَةً): عذاباً. وقوله: (لا تُصِيبَنَّ) لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر، أو نهياً بعد أمر، أو صفة لـ (فتنة): فإذا كانت جواباً: فالمعنى: إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (افتراق الكلمة): وهي أمر الله بالإنفاق، وأن يكونوا يداً واحدة على غيرهم، من قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، أي: تمسكوا بعهده ولا تنكثوا. وفي الحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم". قوله: (فإذا كانت جواباً فالمعنى: إن أصابتكم لا تصب الظالمين): قال صاحب "التقريب": هذا ليس بجواب للأمر، بل هو جواب لشرط مقدر؛ إذ لا يستقيم: إن تتقوا لا تُصب، وهو ما يقتضيه جواب الأمر. أراد أن ما في كلام الله المجيد ليس من باب جواب الأمر، إذ لو قُدر ذلك لرجع إلى أن يُقال: عن تتقوا لا تصب، فيفسد، بل هو من باب آخر، وهو أن يقدر الشرط بقرينة الجزاء واقتضاء المقام، كما قال: إن أصابتكم لا تصب الظالمين. وقال ابن الحاجب: "الظاهر أنه نهي، والمعنى: واتقوا فتنة مقولاً فيها: لا تصيبن، والنهي في الظاهر للفتنة، والمعنى للمتعرضين لها، فكأنه قيل: لا تتعرضوا للفتنة التي يصيب المتعرضين بلاؤها، فعدل من التعرض الذي هو سبب، إلى الإصابة التي هو المسبب. فعلى هذا يكون "الظالمون" مخصوصين بالإصابة، لأن المعنى: لا يتعرض متعرض للفتنة، فتصيبه خاصة، فعدل إلى ما ذكرنا، فصار لا تصيب الفتنة متعرضاً لها خاصة، ثم ذكر "المتعرض" بلفظ "الظالم"؛ تشنيعاً عليه للصفة التي يكون عليها عند التعرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن تكون (لا) نافية، ودخول النون فيها على وجه ليس بقوي، أي: اتقوا فتنة غير مصيبة للظالمين خاصة، ولكنها تعم الظالم وغيره. فعلى هذا تكون الإصابة عامة. وقد ذكر الزمخشري هذا الوجه، وجعل الإصابة أيضاً فيه خاصة، وليس بجيد؛ إذ المعنى: وصفها بأنها لا تصيب الظالمين خاصة، وإذا لم تصبهم خاصة فكيف يصح وصفها بكونها خاصة؟ ! وقد قيل: إنه يجوز أن يكون جواباً للأمر، ويُقدر: واتقوا فتنة إن أصبتموها لا تصب الظالمين خاصة، ولكن تعم فتأخذ الظالم وغيره. وهو غير مستقيم؛ إذ جواب الأمر إنما يُقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب، وأن يُقال: فإنكم إن تتقوا لا تُصب الظالمين، فيفسد المعنى؛ لأنه يصير الاتقاء سبباً لانتفاء الإصابة عن الظالم المرتكب، وهو بالعكس أشبه". وقلت: قوله: "وقد ذكر الزمخشري هذا الوجه، وجعل الإصابة أيضاً فيه خاصة": منظور فيه؛ لأنه ليس في كلامه أن (لا تُصِيبَنَّ) صفة لـ (فِتْنَةٌ) و"لا" نافية، بل الظاهر في جعله صفة أن "لا" ناهية، ولذلك قدر "مقولا"، وشبهه بالبيت لأنه إنشائي مثله وقع صفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعل المصنف إنما ترك هذا الوجه، لأن نون التأكيد قد تجتمع مع "لا" النافية في جواب الأمر، كما سييجيء، وأما إذا كان وصفاً فلا، ولئن سُلم فليس تقدير الوصف ما ذكره أخيراً، بل ما ذكره أولاً كما سنقرره. وأما قوله: "إنما يقدر فعله من جنس المظهر لا من جنس الجواب" فجوابه: هذا إذا أجرى الكلام على ظاهره، وأما إذا جُعل الظاهر مهجوراً فيذهب إلى قوة المعنى فلا. ألا ترى إلى قوله في "شرح المفصل": وقد أجاز الكسائي مسألة: "لا تدن" وشبهه، وحجته أن يُقدر الإثبات نظراً إلى قوة المعنى، فجعل القرينة المعنوية حاكمة على اللفظية، كذا هاهنا. ويجوز أن يُحمل على مسألة "لا تدن"، وأن يُقال: واتقوا فتنة فإنكم إن لم تتقوها أصابتكم، فإن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، بل تعمكم فاكتفى بالمسبب عن السبب. وقال نور الدين الحكيم: تقرير كلام الزمخشري أنه مثل قول القائل: اتق غضب الله لا يحلل عليك، فإن من شأن غضبه إن حل لا يحل بالمجرم خاصة، واتق الزنبور لا ينزل، فإنه إن نزل لا ينزل بالجاني خاصة، بل يعم. وأقرب منه: اتق غضباً لا يحلل على المجرم خاصة، واتق الزنبور لا ينزل بالجاني خاصة. والمنهج الذي سلكه المصنف أوضح، والبلاغة له أدعى، وذلك أنه حين ذهب إلى أن (لا تُصِيبَنَّ) جواب للأمر؛ جعل (لا) نافية، دل عليه قوله في الجواب عن السؤال الآتي: "لأن فهي معنى النهي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولما أن الجواب مسبب عن الأمر، فإذا نُفيت الإصابة على الخصوص دل بالمفهوم على العموم، إذ لابد من إصابة العقاب لانتفاء ما ترتب النفي عليه من الاتقاء قال: "إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، لكنها تعمكم". ولما جعل النهي قريناً للأمر مؤكداً لمعناه على طريقة الطرد والعكس - لقوله: "ثم قيل: لا تتعرضوا"، بعد قوله: "واحذروا ذنباً" - جعل الإصابة خاصة، لأنه لما سلط "لا" الناهية على "تتعرضوا"، بقي "لا تصيب" مثبتاًن والأسلوب من باب النكاية، كقوله تعالى: (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف: 2]، فالأمر في الظاهر للفتنة وفي الحقيقة للمخاطبين، يعني: أن الفتنة لو كانت مما ينهى لنهيناها عنكم، فانتهوا أنتم عنها بترك التعرض لها، وإليه الإشارة بقوله: "لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب من ظلم منكم خاصة". فعلى هذا لا يفتقر إلى تقدير "مقولاً فيه"، كما فعله ابن الحاجب، وكذلك التقدير على أن يكون صفة، أي: واتقوا فتنة يقول من رآها: لا تتعرضوا للفتنة التي يصيب المتعرضين خاصة بلاؤها. ويجوز أن تقدر - على الوصف - الاستعارة فيها على سبيل المكنية، فالمنهي حينئذ الفتنة لا المخاطبون، شبهت الفتنة بإنسان مطيع إذا ورد عليه أمر آمر مطاع أو نهي ناه قاهر، امتثل وانتهى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا قوله: (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) عبارة عن شدتها وهولها من غير نظر إلى مفردات التركيب، كأنه قيل: واتقوا فتنة هائلة طامة "لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس"، كما قال، لأن المخاطبين أجلاء الصحابة، إذ القصد حينئذ الإغراق في الوصف، ولذلك عدل إلى الإنشاء، على طريقة قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدخان: 30 - 31] على الاستفهام. وإنما جاء الفرق بين الوجه الأول والثاني؛ لأن الفتنة على الأول إقرار المنكر، والمخاطبون كل الأمة، وقد أمر بعضهم برفعها بالإقلاع عنها، فقيل لهم: إن لم ترفعوا المنكر من بين أظهركم بنهي فاعله، لا تختص الفتنة بالفاعل، بل تسري إلى الغير أيضاً، لأنه كما يجب على راكبه الانتهاء عنه، يجب على الباقين رفعه، فإذن كلهم مستوون، ومن ثم أوجب أن يجعل "مِن" في (منكم) للتبعيض. ويؤيد هذا التأويل ما روى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله عنه: "أمر الله المؤمنين أن لا يُقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم"، ويعضده ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن الترمذي وأبي داود عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب". وروى الترمذي أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم، فمل ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". والفتنة على القول الثاني: افتراق الكلمة، هو ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل، والمخاطبون هم حينئذ خاصة، نهوا عن القربان منها، ولذلك كان "من" بياناً. فإذا قيل لك: اتق فتنة شأنها كيت وكيت، أريد: أنك إذا تعرضت لها أصابتك ألبتة، وإن اتقيت عنها سلمت. وليس معناه: أن تعرضك لها سبب لإصابة الغير، ولا تعرض الغير سبب لإصابتها إياك، كما في الوجه الأول. والواقع هذا؛ لما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود عن الأحنف قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أحنف، ارجع، فغني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قال: فقلت- أو: قيل-: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن الإمام أحمد بن حنبل عن ابن صيفي وكان له صحبة: أن علياً رضي الله عنه لما قدم البصرة بعث إليه: ما يمنعك أن تتبعني؟ ! قال: أوصاني خليلي وابن عمك قال: "إنه ستكون فرقة واختلاف، فاكسر سيفك، واقعد في بيتك، حتى تأتيك يد خاطئة، أو ميتة قاضية، ففعلت ما أمرني، فإن استطعت أن لا تكون اليد الخاطئة فافعل". والمقام يقتضي هذا القول؛ لأن قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) عطف على قوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: لمجاهدة أعداء الدين واتفاق الكلمة فيما بينكم، واتقوا المخالفة لتتمكنوا على المجاهدة. والمصنف راعي هذا الترتيب، وذلك أنه فسر الفتنة أولاً بإقرار المنكر بينهم وبافتراق الكلمة، ذكر القول الأول، واستشهد له بقوله: "يحكي أن علماء بني إسرائيل" إلى آخره، ثم ذكر القول الثاني وقرره بالوجهين، ثم عقبهما بذكر حديث الجمل وأصحاب بدر وما يتصل به. فإن قلت: لم خص الوجه الأول بإقرار المنكر الذي يقتضي عموم الإصابة، والثاني بافتراق الكلمة التي تقتضي خصوص الإصابة؟ قلت: التنكير في الفتنة أولاً لنوع ما منها، وهو إقرار المنكر، وفي الثاني لنوع يوجب التفخيم والتهويل فيه، من افتراق الكلمة الموجب للهرج والمرج وثلم الدين، فتختص بمن باشرها، ولذلك أكد بالنهي الأمر بعد

ولكنها تعمكم، وهذا كما يحكى: "أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً، فعمهم الله بالعذاب". وإذا كانت نهياً بعد أمر: فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب -أو أثر الذنب ووباله- من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ، ونظيره قوله: حتى إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ ... جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إخراجه مخرج الكناية لشدة الاهتمام، على هذا تقدير الوصف و"لا" ناهية. وأما إذا جُعل صفة و"لا" نافية: فلا يون فيه مبالغة، فينخرط في الوجه الأول في إفادة العموم. هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام الصعب، وهو من حيات وعقارب هذا الكتاب. قوله: (تعذيراً): أي: وهو نصبٌ على الحال، أي: مقصرين. الجوهري: "التعذير: التقصير"، وقيل: تعذيراً: من عذر: إذا أزال العذر، كقرد البعير: إذا أزال القُراد. قوله: (وكذلك إذا جعلته صفة): أي: كذلك إذا جعلته صفة تختص إصابة الفتنة بهم، وقيل: كذلك إذا جعلته صفة فهو نهي، والوجه هو الأول؛ لقوله: "ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: "لتصيبن"، على جواب القسم"، والنهي لا يفارقه. قوله: (جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط): أنشده ابن جني في "المحتسب"، قبله: ما زلت أسعى معهم وأختبط ... حتى إذا جاء الظلام المختلط جاؤوا بضيح هل رأيت الذئب قط الضيح: هو اللبن المخلوط بالماء، وهو يضرب إلى الخضرة، أي: جاؤوا بضيح يشبه

أي: بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: "لتصيبنّ"، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في علىّ وعمار وطلحة والزبير، وهو يوم الجمل خاصة، قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي: نزلت في أهل بدر، فاقتتلوا يوم الجمل. وروى: أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، إذ أقبل علىّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف حبك لعلّى؟ " فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حبا، قال: "فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ! ". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لونه لون الذئب، و"هل رأيت" جملة استفهامية وصف بها "الضيح" حملاً على معناها دون لفظها، لأن الصفة ضرب من الخبر، والاستفهام والخبر متدافعان. قوله: (ويعضد المعنى الأخير): أي: إذا كان نهياً أو وصفاً، لأنهم يشتركان في تخصيص العذاب بالمتعرضين. قوله: (عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير): كذا في "العالم". قوله: (قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها): روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن مطرف، قلنا للزبير: يا أبا عبد الله، ما جاء بكم، ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه، فقال الزبير: إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، ولم نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت".

فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز: لا تطرحنك، (ولا تصيبنّ)، ولا (يحطمنكم). [النمل: 18]. فإن قلت: فما معنى "من" في قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ)؟ قلت: التبعيض على الوجه الأوّل، والتبيين على الثاني، لأنّ المعنى: لا تُصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة): قال أبو البقاء: "يضعف ذلك؛ لأن جواب الأمر للشرط، وجواب الشرط متردد، فلا يليق به التوكيد. وأجاب بقوله: لأن فيه معنى النهي". وهو من قول الزجاج، قال: "هذا الكلام جزاء، فيه طرف من النهي، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، يكون جواباً للأمر بلف النهي، فإذا أتيت بالنون الثقيلة أو الخفيفة كان أوكد للكلام". يعني: لما عدل من الإخباري إلى الإنشائي لضرب من المبالغة بالتأول ناسب لذلك إضافة التأكيد. وهذا لا يقال إلا في أمر يتردد فيه القائل لفظاعته، كما في الفتنة والدابة الجموح. قوله: (التبعيض على الوجه الأول): أي: على أن يكون جواباً للأمر، ومحله نصب على أنه بدل من (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، وعلى أن يكون صفة أو نهياً: "مِن" بيانية، وهو المراد من قوله: "التبيين على الثاني"، وإلى هذا ذهب القاضي أيضاً. قوله: (لأن المعنى): تعليل لكون "مِن" بيانية، أي: إذا كان المراد من التركيب: لا يصيبنكم العقاب خاصة على ظلمكم، كان (منكم) تفسيراً لـ (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: لا يصيبن الظالم الذي هو أنتم.

[(واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 26] (واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ) نصبه على انه مفعول به مذكور، لا ظرف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وفي قوله: "لا تصيبنكم" إشعار بالتعبير، أي: لا ينبغي أن تختصوا بالفتنة وأنتم أصحاب بدر وعظماء الصحابة ومن السابقين الأولين، تعلمون عظم شأن الفتنة، فأنتم أحرياء بأن لا تدنوها، فضلاً عن أن تورطوا فيها، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس الذين لا يعلمون. قال صاحب "التقريب": "وفي تخصيص "مِن" بالتبعيض في الأول، والتبيين في الثاني حرازة". وقلت: إذا حقق النظر فيما أسلفناه من أن المخاطبين في الأول كل الأمة وراكب الفتنة بعضهم، فهم لا محالة أن "مِن" تبعيض، وأن المخاطبين في الثاني بعض الأمة الذين باشروا الفتنة خصوصاً، عُلم أن "مِن" بيان لا محيد عنه. وفيه أيضاً: أن قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مُظهر وضع موضع المضمر؛ تشنيعاً عليهم، كما قال ابن الحاجب. قوله: (على أنه مفعول به مذكور): توكيد لقوله: "مفعول به"، لأنه إذا جُعل مفعولاً به، لـ "اذكر"، كان - لا محالة - مذكوراً.

أي: اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين (فِي الْأَرْضِ): أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش، (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادّين، (فَآواكُمْ) إلى المدينة، (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ): بمظاهرة الأنصار، وبإمداد الملائكة يوم بدر، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبتِ): من الغنائم، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً. [(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمنتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 27] معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء: التمام، ومنه: تخوّنه: إذا تنقصه، ثم استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأعراهم جلداً): كناية عن فقرهم، الجوهري: "عرى عن ثيابه يعرى عريا، فهو عار وعريان". قوله: (يؤكلون ولا يأكلون)، الأساس: "مأكول حمير خير من آكلها، أي: رعيتها خير من واليها. وهو من ذوي الآكال، أي: من السادات الذين يأكلون المرباع، ولما قال الممزق: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق قال له النعمان: لا آكلك ولا أوكلك غيري". المرباع: الربع، كان الأمير في الجاهلية يأكل ربع الغنيمة، فخمستها الشريعة.

لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب؛ لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له. ومنه قوله: (وَتَخُونُوا أَمنتِكُمْ)، والمعنى: لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأَماناتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى: أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو، وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خان الدلو الكرب): الكرب: حبل قصير يوصل بالرشاء ويلوى على العراقي سُمي كرباً لأنه يقرب من الدلو. الأساس: "خان الدلو الرشاء: إذا انقطع. قال ذو الرمة: كأنها دلو بئر جد ماتحها ... حتى إذا ما رآها خانها الكرب" قوله: (وخان المشتار السبب): المشتار: الذي يجني العسل من الكوارة، والسبب: حبل يتوصل به إلى اجتناء العسل. قولهم: (وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح): يريد أن: (تَعْلَمُونَ) -في (أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) - إما مفعوله مقدر منوي بقرينة السياق، وهو أنكم تخونون وأنتم تعلمون تبعة ذلك، أو غير منوي بمنزلة اللازم، وهو المراد من قوله: "وأنتم علماء"، فقوله: "تعلمون قُبح القبيح وحسن الحسن": مقدر من جهة الالتزام، لا أنه مفعول منوي، يعني: إذا كنتم علماء من أهل المعرفة فلم تباشرونه؟ !

وروي: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير، على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن [عبد] المنذر، وكان مناصحاً لهم، لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه: إنه الذبح. قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله، فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علىّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك، فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه، فحله بيده، فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: " يجزيك الثلث أن تتصدّق به". وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أرسل إلينا أبا لُبابة مروان بن [عبد] المنذر): وفي "جامع الأصول": "هو رفاعة ابن عبد المنذر، صحابي معروف"، وكذا في "الاستيعاب"، وفيه: "اختلف في الحال التي أوجبت فعل أبي لبابة هذا بنفسه، وأحسن ما قيل: إنه ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية"، وساق القصة إلى آخر ما في الكتاب، مع اختلاف في الألفاظ. وقال أبو عمر: "وقد قيل: إن الذنب هو الذي أشار به أبو لبابة إلى حلفائه: إنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد، وأشار إلى حلقه، فنزلت الآية".

وقيل: (أَمانتِكُمْ): ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت: (وَتَخُونُوا) جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى، وأن يكون نصباً بإضمار "أن"، كقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) [البقرة: 42]، وقرأ مجاهد: "وتخونوا أمانتكم"، على التوحيد. [(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) 28] جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة، وهي الإثم أو العذاب، أو محنة من الله تعالي ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده؟ (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فعليكم أن تنوطوا بطلبه، وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله: (الْمالُ وَالْبَنُونَ) الآية [الكهف: 46]. وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة، وما فرط منه لأجل ماله وولده. [(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 29] (فُرْقاناً): نصراً، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال: 41]، أو بياناً وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو محنة من الله): عطف على قوله: "سبب الوقوع"، كقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ) [الكهف: 46]، فقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): أي: محنة من الله ليبلوكم، كقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46]، وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً) [الكهف: 46].

من قولهم "بتّ أفعل كذا" حتى سطع الفرقان، أي: طلع الفجر، أو مخرجا من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة. [(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ) 30] لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك، وذلك أن قريشا -لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تفرقة بينكم): فإن قلت: ذكر لقوله: (فُرْقَاناً) وجوهاً، وهي أن يكون نصراً أو بياناً أو مخرجاً أو تفرقة، فأيها أحسن؟ قلت: الجمع بينها، لأن هذه الآية كالخاتمة لجميع ما سبقن بدليل عوده إلى بدء القصة، وهو قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال: 30]، و"أو" في كلام المصنف للتخيير، كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. قوله: (لما فتح الله عليه ذكره مكر قريش به): يعني: بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بتمامه ذكره بدو حالهم معه ليعتبر فيشكر. وفيه بيان لتوفيق النظم، وتنبيه على ما أشرنا في فاتحة السورة وعند تفسير (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال: 17]. قوله: (في دار الندوة)، الجوهري: "الندي: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى، ومنه سميت دار الندوة التي بمكة، بناها قُصي، لأنهم كانوا يندون فيها، أي: يجتمعون للمشاورة". والحديث مذكور في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن عباس، وليس فيه ذكر إبليس رأساً.

وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحاً. فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدّوا وثاقه، وتسدوا بابه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع، واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضي الله عنه، فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا، وخيب الله سعيهم، واقتصوا أثره، فأبطل مكرهم. (لِيُثْبِتُوكَ) ليسجنوك، أو يوثقوك، أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به، وفلان مثبت وجعاً. وقرئ: " ليثبتوك"، بالتشديد. وقرأ النخعي: "ليبيتوك"، من البيات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "ليقيدوك"، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يثخنوك): من: أثخنته الجراحة، أي: أوهنته.

(وَيَمْكُرُونَ): ويخفون المكايد له، (وَيَمْكُرُ اللَّهُ): ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة، (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ) أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل، ولا يصيب إلا بما هو مستوجب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لأنه لا يُنزل إلا ما هو حق): عطف على قوله: "مكره أنفذ من مكر غيره"، فعلى الأول: التركيب من باب قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً) [مريم: 76]، وقولهم: "الصيف أحر من الشتاء"، وذلك أنه فسر مكرهم بقوله: "ويخفون المكايد"، ومكر الله بقوله: "ويُخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة"، ثم جمعهما بقوله: (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وفسره بقوله: "إن مكره أبلغ تأثيراً"، ولا شك أن لا خير في مكرهم، ب بل هو شر بحت، لكن المراد بالـ"خير": أن مكر الله أبلغ تأثيراً في بابه من الخير، من مكرهم في بابه من الشر، فالخير على هذا بمعنى التفضيل. والتعريف في (الْمَاكِرِينَ) للعهد. وأما الوجه الثاني فلا شركة فيه؛ لأنه من باب: "أعدلا بني مروان"، وذلك لأن ما يفعله الله لا يكون إلا حقاً وعدلاً، وتسميته بالمكر على سبيل الاستعارة بجامع الإخفاء والأخذ بغتة، فشبه صورة صنع الله ذلك معهم بصورة صنع المخادع المحتال، ثم سمي مكراً، فالتعريف للجنس، يؤيده قوله في "الأعراف": "ومكر الله استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه".

[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ ءايتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَسطِيرُ الْأَوَّلِينَ* وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) 31 - 34] (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) نفاجة منهم، وصلف تحت الراعدة، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذهب القاضي إلى المشاكلة، قال: "وأمثال هذا لا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، وإنما يحسن بالمزاوجة"، وهو وجه أيضاً. الجوهري: "المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار". وقال الراغب: "المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود؛ وهو أن يُتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، ومذموم؛ وهو أن يُتحرى به فعل قبيح، قال: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]. وقال بعضهم: من مكر الله تعالى إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا، ولذلك قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه، ولمي علم أنه مكر به، فهو مخدوع في عقله". قوله: (نفاجة منهم)، الأساس: "نفجت الريح: جاءت بقوة، وريح نافجة، ومن المجاز: فلان نفاج، وسمعت من يقول: فيه نفاجة". الجوهري: "رجل نفاج: إذا كان صاحب فخر وكبر، عن ابن السكيت". قوله: (وصلف تحت الراعدة)، الأساس: "ومن المجاز: صلفت السحابة: قل مطرها. وفي المثل: رب صلف تحت الراعدة".

فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم، إن كانوا مستطيعين، أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه؟ مع فرط أنفتهم، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الميداني: "الصلف: قلة النزل والخير، والراعدة: السحابة ذات الرعد"، يُضرب في الرجل يتوعد، ثم لا يقوم به. وفي الحواشي: يضرب لمن يكثر الكلام ولا خير عنده. قوله: (وإلا فما منعهم): أي: وإن لم يكن نفاجة فما منعهم عن أن يشاؤوا غلبة من تحداهم حتى يفوزوا بالقدح المعلى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقوله: "إن كانوا مستطيعين" شرط جزاؤه ما دل عليه "ما منعهم"، والجملة الشرطية معترضة، و"أن يشاؤوا" مفعول "منعهم"، و"قرعهم" عطف على "تحداهم"، و"حتى يفوزوا" غاية "أن يشاؤوا"، و"مع فرط أنفتهم" حال من مفعول "منعهم"، أي: فما منعهم مع أنفتهم ونخوتهم المفرطة، و"أن يماتنهم" عطف على "أن يغلبوا". "فيتعللوا": قيل: هو جواب الاستفهام، والظاهر أنه عطف على "يماتنهم"، أي: استنكفوا أن يطلبوا بالمماتنة، فيتعللا فيها بامتناع المشيئة، لأنهم ما كانوا مستنكفين عن مجرد المماتنة، فكيف ودأبهم المفاخرة والمساجلة، ورثوها كابراً عن كابر؟ كما قال: "إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر"، حتى نزل فيهم: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) [التكاثر: 1 - 2]. قوله: (أن يماتنهم)، الأساس: "في رأيه متانة، وماتنه في الشعر: عارضه، وتماتناً، وتعال أماتنك أينا أمتن شعراً، وبينهما مماتنة: معارضة في كل أمر ومباراة".

ومع ما علم وظهر ظهور الشمس من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه! وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار، فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل: (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) وهذا أسلوب من الجحود بليغ، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن يغمروه)، الجوهري: "الغمر: الماء الكثير، وقد غمره الماء يغمره، أي: علاه، ومنه قيل للرجل: غمره القوم: إذا علوه شرفاً". قوله: (المقتول صبراً)، الجوهري: "يقال: قُتل فلان صبراً، وحلف صبراً: إذا حُبس على القتل حتى يُقتل، أو على اليمين حتى يحلف". قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث صبراً، وكان يتأذى منه، قال المرزوقي: [قالت] قتيلة ابنته لما جاءت إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشدته أبياتاً منها: ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرام هناك تشقق أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق فالنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق فرق لها النبي صلى الله عليه وسلم وبكى، وقال: "لو جئتني من قبل لعفوت عنه"، ثم قال: "لا يُقتل قرشي بعد هذا صبراً". قوله: (أسلوب من الجحود بليغ): وهو من أسلوب قوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا) [البقرة: 23]، والكلام مع المرتابين، وهذا لا يُصار إليه إلا فيما ظهر خلافه ظهوراً

يعني: إن كان القرآن هو الحق، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده: نفى كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة. وقوله: (هُوَ الْحَقَّ) تهكم بما يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش: "هو الحق" بالرفع، على أن (هُوَ) مبتدأ غير فصل، و (هو) في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء؛ كقولك: أثجمت وأسبلت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جلياً، فيفرض كما تفرض المحالات، وإليه الإشارة بقوله: "إن كان الباطل حقاً فأمطر علينا حجارة"، فهو من الكناية الإيمائية، ولهذا قال: "وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً". قوله: (على سبيل التخصيص والتعيين): أما التخصيص فمن تعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل، وأما التعيين فمن اسم الإشارة، كقوله: هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه قوله: (أثجمت)، الجوهري: "أثجم المطر: إذا كثر ودام"، و"أسبل: إذا هطل"، و"هتن المطر

ومطرت؛ كقولك: هتنت وهتلت، وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله: (مِنَ السَّماءِ)، والأمطار لا يكون إلا منها؟ قلت: كأنه أريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع (حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) موضع السجيل، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يهتن هتناً وهتوناً وتهتاناً: قطر، والتهتان: مطر ساعة يفتر ثم يعود"، وكذلك التهتال. قوله: (موضع السجيل): أي: وُضع هذا اللفظ موضع ذلك اللفظ؛ زيادة للبيان وتصويراً للمسمى، كما يعبر عن الشيء بمعناه، فتقول في الكناية عن الإنسان: حي مستوى القامة عريض الأظفار. وأصل الكلام: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسومة للعذاب المنزلة من السماء، فوضع قوله: (حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ) موضعه. قال في قوله تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) [القمر: 13]: "أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها، وتؤدي مؤداها، بحيث لا يفصل بينها وبينها"، فلا يكون هذا استعارة كما ظُن، فضلاً عن أن يكون تجريداً لها، ولكن لفظة (فَأَمْطِرْ) مستعارة لـ "أنزل"، سواء قلت: حجارة من السماء أو سجيلاً، لأنها لا تستعمل حقيقة إلا في الغيث. قوله: (صب عليه مسرودة): سرد الدرع نسجها، وهو أن يداخل الحلق بعضها في بعض، والمسرودة: الدرع المثقوبة، وكذا لا فرق بين قولك: "مسرودة من حديد"، وبين قولك: "درعاً"، إلا ما سبق.

(بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي: بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه. وعن معاوية: أنه قال لرجل من سََبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فأهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "التخمير": "اعلم أن الموصوف في مثل قوله: "وعليهما مسرودتان قضاهما داود"، وفي قوله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48] مطروح، والجمع بينه وبين هذه الصفة قبيح؛ إذ لو قلت: عليهما درعان مسرودتان قضاهما داود، كان مستقبحاً، لأنه من المعلوم أن "مسرودتين قضاهما داود" لا يكونان إلا درعين، وأن "قاصرات الطرف عين" لم يكن إلا حوراً". قوله: (أي: بنوع آخر من جنس العذاب الأليم): يعني: عطف (أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) على (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ) عطف الجنس على النوع، فخص بالعطف الجنس، فتناول بعضاً آخر عن ما سبق، أي: ائتنا بعذاب أليم سواه، فهذا من باب عطف العام الذي خُص بالعطف.

ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم، والدليل على هذا الإشعار قوله: (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم. (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) في موضع الحال، ومعناه: نفى الاستغفار عنهم، أي: ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) [هود: 117]، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل: معناه: وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرّهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: نفي الاستغفار عنهم): يعني: ليست هذه القرينة كالقرينة الأولى إلا في انتفاء العذاب لوجود الاستغفار، كانتفائه لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، لاقترانها بها؛ إذ المعنى: استحقاق العذاب يدل على عدم الاستغفار، إذ لو استغفروه ما استحقوه، وهو نوع من الكناية. ونظيره: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، يعني: إهلاكهم دليل على إفسادهم، إذ لو أصلحوا ما أهلكهم، لأن الله ليس بظلام للعبيد. انظر إلى مرتبة الاستغفار وعظم موقعه، كيف قُرن حصوله مع وجود سيد البشر في استدفاع البلاء؟ روينا عن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب". قوله: (وقيل: معناه): هذا الوجه أبلغ من الأول؛ لما دل على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال أولئك الكفرة.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ): وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ يعنى: لاحظّ لهم في ذلك، وهم معذبون لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام، كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؟ ! وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصدّ من نشاء، وندخل من نشاء. (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ): وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه، (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من المسلمين، ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟ ! (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة، أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم. [(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) 35] المكاء: فعال، بوزن الثغاء والرغاء، من: مكا يمكو: إذا صفر، ومنه المكاء، كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وإخراجُهم): مبتدأ، والخبر "من الصد"، قيل: هو عطف على "كما صدوا" من حيث المعنى، والظاهر أنه جملة مستطردة، يعني: أنهم كانوا يصدون صداً حقيقياً وغير حقيقي، لأن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة حين هاجر ملحق بالصد. قوله: (ليس كل مسلم ممن يصلح): يعني: في تخصيص ذكر "المتقين"، والعدول إلى "المؤمنين": إشارة إلى الإيغال والمبالغة. قوله: (ومنه المُكاء)، الجوهري: "المُكاء - بالمد والتشديد- طائر، والجمع: المكاكي، وبالتخفيف: الصفير".

وأصله الصفة، نحو: الوضاء والفراء، وقرئ: "مكا" بالقصر، ونظيرهما: البكى والبكاء. والتصدية: التصفيق؛ تفعلة من الصدى، أو من: صدَّ يصدّ، بمعنى: صاح (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) [الزخرف: 57]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والقراء): أي: المتنسكون. الأساس: "قارئ وقراء: ناسك، أي: عابد". الجوهري: "وقد تقرأ: تنسك، والجمع القراؤون". قوله: (البُكى والبُكاء)، الجوهري: "إذا مددت أردت الصوت مع البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها". قوله: (تفعلة من الصدى)، الراغب: "الصدى: صوت يرجع من كل مكان صقيل، والتصدية: كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه. وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي غناء ما يوردونه غناء الصدى ومكاء الطير". قوله: (أو من: صد يصد)، الجوهري: صد يصد- بالضم والكسر - ضج، فالتصدية على هذا من إبدال أحد حرفي التضعيف، كقولهم: تقضي البازي، ووجه ربط هذه الآية هو أنه تعالى لما علل التعذيب بقوله: (يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الأنفال: 34]، عطف

وقرأ الأعمش: "وما كان صلاتهم"، بالنصب على تقديم خبر (كان) على اسمه. فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله: وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة؛ ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) على (وَهُمْ يَصُدُّونَ) لأنه نوع من الصد، وقوله: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ) معترضة، وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يجوز أن يتعلق بالمعترضة وبما قبلها. قوله: (على تقديم خبر (كان) على اسمه): فيلزم أن يكون الخبر معرفة والاسم نكرة، ذهب صاحب "المفتاح" إلى أنه من باب القلب، وقال ابن جني: "إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، فإنك لو قلت: خرجت فإذا أسد بالباب، أو: إذا الأسد بالباب، لم تجد الفرق بينهما، لأنك لا تريد بالصورتين أسداً معيناً، فكأنه تعالى قال: ما كان صلاتهم عند البيت إلا المُكاء والتصدية، أي: هذا الجنس نم الفعل، ولم يجر هذا مجرى: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في "قائم" و"جالس" معنى الجنسية التي تلاقي معيناً نكرتها ومعرفتها على ما قدمناه". قوله: (وما كنت أخشى): "أخشى"، أي: أعلم، و"أداهم": جمع أدهم، وهو القيد، و"المحدرجة" بالحاء المهملة: السياط المفتولة من الجلود، "يُقال: حدرجه، أي: فتله وأحكمه". كذا ذكره الجوهري. قوله: (وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة): وهو من أسلوب قولهم في التهكم:

الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في صلاته يخلطون عليه. (فَذُوقُوا) عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة. [(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) 36 - 37] قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحية بينهم ضرب وجيع قوله: (وهم مشبكون بين أصابعهم): الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان: ما يكون؟ فشبك بين أصابعه، ثم وضعها على فمه ونفخ. قوله: (عشر جزائر)، النهاية: "الجزور: البعير ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اللفظ مؤنثة، تقول: هذه الجزور، وإن أردت ذكراً. والجمع: جزر وجزائر".

وقيل: قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر، وقيل: نزلت في أبى سفيان، وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية: اثنان وأربعون مثقالا. (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن أتباع محمد، وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك، (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأنّ ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة، (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (الأحابيش)، الأساس: "هم فرق مختلفة من قبائل شتى حلفاء لقريش، تحالفوا عند جبل يسمى: حبيشاً، ويقال: عندي أحبوش منهم، أي: جماعة". قوله: (وإن لم يكن عندهم كذلك): يعني: قيل: (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وإن لم يكونوا يعتقدون أن الذي يحاولونه صد عن سبيل الله، بل اعتقدوا أنه صد عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفائدته التنبيه على غباوتهم وجهلهم، يعني: صدهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو صد عن سبيل الله، وأنهم غافلون عنه، واللام في (ليَصُدُّوا) لام الصيرورة. قوله: (فكأن ذاتها): يعني: الظاهر أن يُقال: ثم تكون عاقبة إنفاقها حسرة، فأنث الفعل ليعود الراجع إلى الأموال، فتصير نفس الأموال حسرة، مبالغة. قوله: (وتنقلب حسرة): أي: الأموال أو النفقة، وتحقيق المعنى أن قوله: (فَسَيُنفِقُونَهَا) جواب عما تتضمنه الموصولة مع صلتها من معنى الشرط، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) [البروج: 10].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و(يُنفِقُونَ) إما حال أو بدل من (كَفَرُوا) أو عطف بيان، وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار: التوبيخ على الإنفاق والإنكار عليه، كما في قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) [النحل: 53]، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء: الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله تعالى: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران: 192]، وقوله: من أدر الصمان فقد أدرك المرعى. وتلخيص المعنى: أن الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصد عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعلمون عن قريب سوء مغبة تلك الإنفاق وانقلابها إلى حسرة ما أبعدها من الحسرات، ثم المآل إلى القتل والأسر في الدنيا، والخزي والنكال في العقبى ما أفصحها من آية! قال القاضي: "الأول: إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر، والثاني: إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد، ويحتمل أن يراد بالإنفاقين واحد، على أن مساق الإنفاق الأول لبيان غرض الإنفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبته". وقال الإمام في معنى قوله تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً): "سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الخسران والحسرة، لأنه يُذهب المال، ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر".

وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالاً قبل ذلك، فيرجعون طلقاء، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا): والكافرون منهم (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه. (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ) الفريق الخبيث من الكفار (مِنَ) الفريق (الطَّيِّبِ) من المؤمنين، فيجعل الفريق (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله: (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن: 19]، يعنى: لفرط ازدحامهم (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الخبيث. وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، كأبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرته، (فَيَرْكُمَهُ) فيجعله (في جهنم): في جملة ما يعذّبون به، كقوله: (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) الآية [التوبة: 35]، واللام على هذا متعلقة بقوله: (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، وعلى الأوّل بـ (يحشرون)، و (أولئك) إشارة إلى (والذين كفروا). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سجالاً)، النهاية: "هو من قول أبي سفيان: "والحرب بيننا سجال"، أي: مرة لنا ومرة علينا". قوله: (فيرجعون طلقاء)، النهاية: "واحده: طليقن فعيل بمعنى: مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله"، والطلقاء: هم الذين خُلي عنهم يوم فتح مكة. قوله: (واللام على هذا متعلقة بقوله: (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، وعلى الأول بـ (يُحْشَرُونَ)): وذلك أن الخبيث والطيب على الأول وصف الأشخاص، فالمناسب أن يكون المعلل ما يُعلم من قوله: (إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)، والمشار إليه بقوله:

وقرئ: (ليميز) على التخفيف. [(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) 38] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أبى سفيان وأصحابه، أي: قل لأجلهم هذا القول، وهو (إِنْ يَنْتَهُوا)، ولو كان بمعنى: خاطبهم به، لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءامَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاب: 11]، خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عمَّاهم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله؛ بالدخول في الإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) لهم من العداوة، (وَإِنْ يَعُودُوا) لقتاله، (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أُوْلَئِكَ): الفريق الخبيث، ولذلك قال: "ليميز الله الفريق الخبيث"، والفريق الخبيث: هم الخاسرون. وعلى الثاني: المراد من الخبيث والطيب: المال، فالمناسب أن يكون المعلل قوله: (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، لأن الضمير فيه للأموال، وليس إذن المشار إليه القريب سوى قوله: (َالَّذِينَ كَفَرُوا)، والظاهر أن يكون تعليلاً لـ (يُحْشَرُونَ) فيدخل فيه أيضاً معنى الحسرة، وذلك أنه تعالى لما بين أن إنفاقهم في الصد، أثمر لهم الحسرة والمغلوبية في الدنيا، ضم إليهما حُكم ما يلحقهم في الآخرة، فعطف جملة قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) على جملة قوله: (يُغْلَبُونَ) يعني: في العاقبة يغلبون جميعاً، ثم بعضهم يسلمون وبعضهم يموتون على الكفر، أي: بعض الذين أنفقوا ليصدوا عن سبيل الله، ويحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب مطلقاً. ومعنى (أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ): أولئك هم المخصوصون بالخسران الكامل، حيث خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. قوله: (وقرئ: (ليميز) على التخفيف): كلهم إلا حمزة والكسائي.

منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو: فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه: أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها، كما تنسلّ الشعرة من العجين، ومنه قوله عليه والسلام: "الإسلام يجب ما قبله"، وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى، وتبقى عليه حقوق الآدميين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: أن الكفار إذا انتهوا): عطف على قوله: " (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أبي سفيان وأصحابه"، والقول الأول تهديد لكفار قريش المرادين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ) وهو نفقتهم يوم أحد، والموصولة مع صلتها مُظهر وُضع موضع المضمر، وهو على وجهين: أحدهما: أن يحمل التعريف في الأولين على العهد، وهو المراد من قوله: "الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر"، أو على الجنس ليدخلوا فيه دخولاً أولياً، وهو الذي أراده بقوله: "أو الذين تحزبوا على أنبيائهم". والقول الثاني- أي: قوله: "وقيل: معناه الكفار"- ترغيب في الدخول في الإيمان وحث عليه، وهي عامة. ومعناه ما قاله الإمام: إذا انتهوا عن الكفر لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وإن عادوا إلى الكفر فقد رجع التسلط والقهر. وقلت: على هذا لا يحسن التقابل بين قوله: (إِنْ يَنتَهُوا) وبين قوله: (وَإِنْ يَعُودُوا) حسنه في الوجه الأول؛ لأن التقابل الظاهر: إن ينتهوا عن الكفر يكون كذا، وإن لم ينتهوا - أي: داموا عليه - يكون كذا، لأن العود الرجوع إلى ما كان. قوله: (الإسلام يجب ما قبله): روينا عن مسلم عن عمرو بن العاص: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم

وبه احتجّ أبو حنيفة رضي الله عنه في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة وقبلها، وفسر (وَإِنْ يَعُودُوا) بالارتداد. وقرئ: "يُغْفَرْ لَهُمْ"، على أن الضمير لله عز وجل. [(وَقتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) 39 - 40] (وَقتِلوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ): إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط، (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ): ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده، (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وأسلموا (فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: "تعملون" بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله، والدعوة إلى دينه، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقلت: ابسُط يمينك لأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، فقال: "ما لك يا عمرو؟ ! " قلت: أردت أن أشترط، قال: "تشترط ماذا؟ " قال: قلتُ: أن يُغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله"، الحديث. قوله: "يجب" أي: يقطع. الجوهري: "المجبوب: المقطوع". قوله: (وقُرئ: تعملون) بالتاء الفوقانية في الشذوذ، والمعنى على هذه القراءة: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فإن انتهوا عن الشرك، فإن الله يجازيكم بما تعملون من الجهاد في سبيله، فإن لم ينتهوا وتولوا فلا تتوانوا في الجهاد، لأن الله ناصركم ومعينكم. وعلى المشهورة: فإن انتهوا فإن الله يثيبهم على توبتهم وإسلامهم، وإن لم ينتهوا فإن الله ينصر أعداءهم عليهم، وهم أولياء الدين، حتى يقهروهم.

(بَصِيرٌ) يجازيكم عليه أحسن الجزاء. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا، (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلكُمْ) أي: ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته. [(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى والْيَتَامَى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 41] (أَنَّما غَنِمْتُمْ): "ما" موصولة، (ومِنْ شَيْءٍ) بيانه، قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، (فَأَنَّ لِلَّهِ) مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق-، أو: فواجب- أن الله خمسه، وروى الجعفي عن أبى عمرو: "فإن الله" بالكسر، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن هذه خاتمة شريفة في أمر الجهاد، ولذلك كانت تخلصاً إلى ذكر ما بُدئت السورة به من حديث الغنائم وقسمتها. قوله: (ما: موصولة، و (مِنْ شَيْءٍ) بيانه): قال أبو البقاء: "ما" بمعنى "الذي"، والعائد محذوف، و (مِنْ شَيْءٍ) حال من المحذوف، أي: ما غنمتموه قليلاً وكثيراً". قوله ((فَإِنَّ لِلَّهِ) مبتدأ، خبره محذوف): قال أبو البقاء: "الفاء دخلت في خبر "ما" بمعنى: الذي، لما فيها من معنى المجازاة، و"أن" وما عملت فيه في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم أن لله خمسه، وقيل: ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، والمصدر بمعنى المفعول، أي: واعلموا أن غنيمتكم، أي: مغنومكم". قوله: ("فإن لله" بالكسر): في "فإن"، قال أبو البقاء: "فعلى هذا تكون "إنَّ" وما عملت فيه مبتدأ وخبراً، في موضع خبر المبتدأ".

ويقويه قراءة النخعي: "فلله خمسه". والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت، واجب، حق لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. وقرئ: "خمسه بالسكون. فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبي حنيفة رضي الله عنه: أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بني هاشم وبني المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة، لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم: أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة! "، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا حُذف الخبر واحتمل غير واحد) إلى قوله: (كان أقوى لإيجابه من النص على واحد): قال صاحب "التقريب": هذا مُعارض بلزوم الإجمال. والجواب: إن أريد بالإجمال ما يحتمل الواجب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب، وإن أريد به ما ذكره من قوله: "واجبن حق، لازم، ثابت"، فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل من شدتها. قوله: (لما رُوي عن عثمان رضي الله عنه وجبير) الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه مع اختلاف فيه. قوله: (وإنما نحن وهُم بمنزلة واحدة): وذلك أن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفلاً

فقال عليه السلام: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، وشبك بين أصابعه. وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوى القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا عند الشافعي رحمه الله: فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كعدّة الغزاة من السلاح ونحو ذلك، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك ابن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه؟ قلت: يحتمل أن يكون معنى (لله ... وللرسول): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. أولادُ عبد مناف، ونسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء تنتهي إلى عبد مناف؛ هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، صلوات الله وسلامه عليه، وأما عثمان رضي الله عنه: فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما جُبير: فهو ابن مطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف. قوله: (من الكُراع): أي: الخيل. الأساس: "ومن المجاز: احبس في سبيل الله الكراع، أي: الخيل".

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62]، وأن يراد بذكره: إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب، وأن يراد بقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ): أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة؛ تفضيلاً لها على غيرها، كقوله تعالى (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: 98]. فعلى الاحتمال الأول: مذهب الإمامين، وعلى الثاني: ما قال أبو العالية: أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن من حق الخمس أن يكون متقرباً به إليه لا غير): الفرق بين هذا الوجه والثاني: أن على الثاني الأصل إيجاب التسوية بين هؤلاء المذكورين وبين حق الله، وعلى هذا لا تجب المساواة؛ لأن الخمس ثابت لله، وهؤلاء اختصوا بالذكر لمزيد الشرف، فالمصالح هي التي أوجب لهم ذلك، فيقسم عليهم وعلى غيرهم بالاجتهاد. قال الزجاج: "مذهب مالك في هذا الخُمس أنه إنما ذكر هؤلاء لأنه من أهم من هو يدفع إليهم، فيجيز أن يُقسم بينهم، ويجيز أن يعطي بعضاً دون بعض، ويُجيز أن يخرجهم من القسم إن كان أمر غيرهم أهم من أمرهم. وحجته أن ذكر هؤلاء إنما وقع للخصوص، كقوله تعالى: (وَمَلائِكَتُهُ ... وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [البقرة: 98]، فذكرهما لخصوصهما، ومنه قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة: 215]، فللرجل أن ينفق في البر على هذه الأصناف كيف شاء". قال في "الانتصاف": "الأمر فيه موكول عند مالك إلى رأي الإمام يصرفه في مصالح المسلمين، والآية مطابقة له، والمراد منها بيان أن الخمس مصروف في وجوه القربات لله تعالىن وتخصيص ما ذُكر تنبيه على فضله".

يُصرف إلى رتاج الكعبة، وعنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة، فيجعلها للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة". وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث: مذهب مالك بن أنس. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان على ستة: لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروى: أنّ أبا بكر رضي الله عنه منع بني هاشم الخمس، وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، ويزوّج أيمكم، ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنىّ، لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى رتاج الكعبة)، الجوهري: "الرتج - بالتحريك - الباب العظيم، وكذلك الرتاج، ومنه: رتاج الكعبة". النهاية: "جعل ماله في رتاج الكعبة، أي: لها، فكُني عنها بالباب، لأن منه يُدخل إليها"، وقيل: يُصرف إلى مصالح الكعبة من السدنة وغيرهم. قوله: (فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل): يريد: أن "ذا القربى" في الآية، وإن كان مطلقاً ظاهراً، لكنه مقيد بقيد الفقر والاحتياج، لأنه مقترن بما يشترط فيه ذلك، لأن ابن السبيل إنما يُعطى لانقطاعه عن ماله، و"اليتامى" و"المساكين" على هذا عطف. قوله: (ولا يتيم موسر): عطفٌ على الضمير المرفوع في قوله: "لا يُعطى من الصدقة شيئاً"، وإنما عُطف من غير تأكيد للفصل.

وعن زيد بن علي رضي الله عنه كذلك، قال: " ليس لنا أن نبنى منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين". وقيل: الخمس كله للقرابة، وعن على رضي الله عنه أنه قيل له: إنّ الله تعالى قال: (وَالْيَتمى وَالْمَسكِينِ)؟ فقال: أيتامنا ومساكيننا. وعن الحسن في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولي الأمر من بعده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال محيي السنة: "الكتاب ثم السنة يدلان على ثبوته للأغنياء منهم، والخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه، ولا يُفضل فقير على غني، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، والشافعي ألحقه بالميراث الذي يُستحق باسم القرابة، فيعطى الرجل سهمين، والأنثى سهماً واحداً". وقلت: وأما دلالة الكتاب: فلأنه تعالى عطف "ذا القربى" على الرسول صلى الله عليه وسلم مُطلقاً من غير تقييد بالفقر، وأما "ابن السبيل واليتامى والمساكين" فمخصوص بالدليل، ولا يبعد أن يُجعل الاستحقاق بحسب مفهوم الألفاظ الخمسة. وفي التنزيل من الأعلى إلى الأدنى: التنبيه على الاستحقاق بحسب الأولوية، وعلى أن المقصود من ذكر الله تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وأن العلة في الاستحقاق كونه ذا القربى، لا الاحتياج والفقر. قوله: (البراذين): البرذون من الدابة: خلاف الجواد، الأساس: "وبرذن الجواد: صار برذوناً، قال القلاخ: لله در جياد أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر

وعن الكلبي: أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام؛ للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)؟ قلت: بمحذوف يدل عليه (وَاعْلَمُوا)، المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم: المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر. (وَما أَنْزَلْنا) معطوف على (بِاللَّهِ) أي: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل (عَلى عَبْدِنا)، وقرئ "عبدنا" كقوله: "وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" [المائدة: 60] بضمتين. (يَوْمَ الْفُرْقانِ): يوم بدر، و (الْجَمْعانِ): الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد: ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ، (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): يقدر على أن ينصر القليل على الكثير، والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بم تعلق قوله: (إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)؟ ) يعني: ما جزاؤه. ولما كان في هذا الشرط - المُذيل به الكلام السابق - التأكيد؛ لما فيه من التكرير، وضُم معه قيد الإيمان: كان المراد من العلم العمل، وهو قطع الطمع بالكلية عن الخمس، والاقتناع بالأخماس الباقية. قوله: (وقرئ: "عُبدنا") بالضم، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قوله: (من الآيات والملائكة والفتح): يعني: لم يذكر مفعول "ما أنزل" ليشمل جميع ما يُناسب أن ينزل في ذلك المقام، ثم "الآيات" في قول المصنف أيضاً مطلقة، فيجوز أن يُراد بها ما ذهب إليه محيي السنة، قال: "وما أنزلنا على عبدنا؛ يعني قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)، ويجوز أن يُراد بها الآيات الدالة على القدرة الباهرة، ويكون عطف "الملائكة

[(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) 42] (إِذْ) بدل من (يوم الفرقان)، والعدوة: شط الوادي، بالكسر والضم والفتح، وقرئ بهنّ وبـ" العدية"، على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفتح" من باب عطف (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) على (وَمَلائِكَتِهِ) [البقرة: 98]، والذي يُشعر بالثاني قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقراءة من قرأ: "عبدنا"، بالجمع. وفي إبدال (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) من (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) معنى التتميم، وأن المراد بالآيات القدرة، وفيه تصوير تلك الحالة الدالة على ضعف أحد الفريقين وقوة الآخر، وغلبة الضعيف على القوي بما أنزل الله من أسباب الفتح والنصرة، ولو قيل يوم بدر، لم يفد هذا المعنى، والذي يدل على التصوير إبدال قوله: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا) [الأنفال: 42] ثم إبدال (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال: 44]. قوله: (وقرئ بهن): ابن كثير وأبو عمرو: بالكسر، والباقون: بالضم، والفتح: شاذ، وكذلك "العدية" بالياء. قوله: (غير حصين): يعني: بين الواو وبين الكسر وقع الدال، وهو ساكن، مانع غير قوي، نحو الباء الساكنة في "الصبية"، لأنها حاجزة غير حصين بين الكسرة والواو.

و (الدنيا) و (القصوى): تأنيث "الأدنى" والأقصى". فإن قلت: كلتاهما "فعلى" من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء، والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كـ "العليا"، وأما (القصوى) فكـ "القود" في مجيئه على الأصل، وقد جاء "القصيا"، إلا أنّ استعمال "القصوى "أكثر، كما كثر استعمال "استصوب" مع مجيء "استصاب"، و"أغيلت" مع "أغالت"، والعدوة الدنيا: مما يلي المدينة، والقصوى: مما يلي مكة. (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. و (أسفل) نصب على الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل، لأنه خبر المبتدأ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القياس هو قلب الواو ياء كـ"العُليا"). فإن قلت: لا شك في وقوع (الدُّنْيَا) و (الْقُصْوَى) في الآية صفتين، لـ "العُدْوة"، فكيف الجمعُ بين هذا القول وبين ما في "المُفصَّل": "وفُعْلى: تُقلب واوها ياء [في الاسم] دون الصفة، فالاسم نحو: الدنيا والعليا والقضيا، وقد شذ: القصوى وحُزوى، والصفة قولك - إذا بنيت "فُعلى" من غزوت غُزوى"، صفة من (أفعلُ -فُعلى) لا يكاد يستعمل اسماً. قلت: ذكر ابن جني: وإنما ذكر هذه- يعني: "الدنيا" و"القُضيا" - في موضع الأسماء، وأنَّ أصلها الصفة، فإن معنى "الدنيا" الدانية القريبة، و"القضيا" القاصية البعيدة، و"العُليا" بمعنى العالية، لأنها الآن قد ذُهبت بها مذهب السماء بتركهم إجراءها وصفاً في أكثر الأمر، واستعمالهم إياها استعمال الأسماء. قوله: (كـ"القود"): يعني: القياس أن تُقلب واوها ألفاً كأشباهه، فتركوه على ما كان، كذلك "القصوى".

فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما فائدة هذا التوقيت؟ ): أي: التعيين، يعني: حق الإخبار عن الشيء ألا يكون عند المخاطب، وكل هذه الأمور المذكورة كانت معلومة معينة، فما الفائدة في الذكر؟ وخلاصة الجواب: أن بعض الأخبار المُراد منه لازم الفائدة، وتخصيصه باقتضاء المقام، والمقام هاهنا بيان قدرة الله وتصوير صنعه العجيب الشأن، وهو نصرة الضعيف القليل مع فقدان الأسباب على القوى الكثير مع تهيؤ الأسباب، ولا يحصل هذا غلا بأن يحكي صورة الواقعة ما هي، لينتقل إلى لازمها. فإن قلت: فأي فرق بين هذا اللازم وبين ما وقع في كلام صاحب "المفتاح": "وفائدة الخبر لما كانت هي الحكم أو لازم الحكم، وهو أنك تعلم الحكم أيضاً"؟ قلتُ: هذا على مقتضى الظاهر، فإن كلا من الأخبار أيا كان لا ينفك عن الفائدة ولازمها، كما قال: "والأولى بدون هذه تمتنع"، لكن رُبما جُعل ذلك ذريعة إلى التحسر والحرمان كقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا

وضعف شأن المسلمين، والتياث أمرهم، وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار تسوخ فيها الأرجل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُنْثَى) [آل عمران: 36]، أو الامتنان كقوله: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)، أو إلى التهديد كقول للجاني: أنت الذي فعلت كذا، أو إظهار التحزن نحو قوله: أنت الذي كلفتني دُلج السرى ... وجون القطا بالجلهتين جثوم قوله: (والتياث أمرهم)، الجوهري: "الالتياث: الاختلاط والالتفاف، يُقال: التاثت الخطوب، والتاث برأس القلم شعرة". قوله: (وهي خبار)، الجوهري: "هي الأرض الرخوة ذات الجحرة"، فقوله: "تسوخ فيها الرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة" تفسير للخبار.

ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم، والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر؛ ليقضى أمراً كان مفعولا؛ من إعزاز دينه وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتشحذ في المقاتلة)، الجوهري: "شحذت السكين أشحذه شحذاً، أي: حددته، والمشحذ: المسن"، وهو من الاستعارة المكنية أو التبعية. قوله: (على بذل جهيداهم)، الأساس: "بلغ جهده ومجهوده، أي: طاقته، ولا بلُغن جُهَيداي". قوله: (منتهى نجدتهم)، الأساس: "نجد الرجل، ورجل نجد ونجيد، أي: شجاع". قوله: (وفيه تصوير ما دبر الله): قيل: هو عطف على "فيه الإخبار عن الحال"، فيكون الجواب من وجهين. وقلت: بل هي واو الحال، أي: في التوقيت والإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وضعف شأن المسلمين. وفي الإخبار على هذا النهج: إدماج تصوير ما

حتى خرجوا ليأخذوا الغير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم وأهل مكة، وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له. (لِيَقْضِيَ) متعلق بمحذوف، أي ليقضى أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه، وقهر أعدائه، دبر ذلك، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دبره الله تعالى، أي: صوروا في أنفسكم تلك الحالات العجيبة الدال على القدرة الباهرة من فاتحتها إلى خاتمتها، لتعرفوا حسن تدبير الله فيها، في إعلاء كلمته، ونصرة أوليائه، وقهر أعدائه، إلى غير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: "وكان ما كان"، وإنما قُلنا: إن الواو للحال دون الإخبار؛ لأن المراد التنبيه والتصوير كما سبق. قوله: (وشخص بقريش)، الجوهري: "شخص من بلد إلى بلد شخوصاً، أي: ذهب، وأشخصه غيره". قوله: (أي: ليقضي أمراً كان واجباً أن يُفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه): هذا إن كان بسبب الوعد - كقوله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]- فلا نزاع، وإن كان سببه الاستحقاق أو رعاية الأصلح فلا، قال في "مريم" في قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) [مريم: 21]: "أي: مقدراً مسطوراً في اللوح، لابد من جريه عليك، أو كان

وقوله: (لِيَهْلِكَ) بدل منه، واستعير "الهلاك" و"الحياة" للكفر والإسلام، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها. وقرئ: " ليهلك" بفتح اللام، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمراً حقيقاً بأن يكون ويُقضى"، إلى قوله: "وما كان سبباً في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح، فهو جدير بالتكوين". قوله: ((لِيَهْلِكَ) بدل منه): قال أبو البقاء: " (لِيَهْلِكَ): يجوز أن يكون بدلا ًمن (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحرف، وأن يكون متعلقاً بـ "يقضي"، أو بـ (مَفْعُولاً) ". وقلت: البدل أولى؛ لأن المراد بالحياة الإيمان، وبالهلاك الكفر، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة، أي: فعلنا ذلك لتظهر حجة من أسلم، ويدحض باطل من كفر، ولا ارتياب في أن هذه المعاني في هذا التركيب أوضح منها في قوله تعالى: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً). قوله: ("لِيَهلَكَ"، بفتح اللام): قال ابن جني في "الأحقاف": "أما "يَهلَكُ" بفتح الياء واللام جميعاً فشاذة مرغوب عنها، لأن ماضيه "هلك" مفتوح العين، ولا يأتي: فعل يفعل، إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام، فهو من اللغة المتداخلة".

و (حيي) بإظهار التضعيف. (لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ): يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم، أو: (لسميع عليم) بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه. [(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) 43] (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ) نصبه بإضمار: اذكر، أو: هو بدل ثان من (يوم الفرقان) [الأنفال: 41]، أو متعلق بقوله: (لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 42]، أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك، (فِي مَنامِكَ): في رؤياك، وذلك أن الله عزّ وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"حيي") أي: وقُرئ: "حيي" بإظهار التضعيف؛ نافع والبزي وأبو بكر، قال أبو البقاء: " (حَيَ) يُقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل، لأن الحرفين متماثلان متحركان، مثل: شد ومد، ويُقرأ بالإظهار؛ وفيه وجهان: أحدهما: أن الماضي حُمل على المستقبل، وهو يحيا، فكما لم يدغم في المستقبل، لم يدغم في الماضي، وليس كذلك: شد ومد، فإنه يدغم فيهما جميعاً. والثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لححت عينه، وضبب البلد: إذا كثُر ضبه". الجوهري: "لححت عينه: إذا لصقت بالرمص، وهو أحد ما جاء على الأصل".

وعن الحسن: (في منامك): في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة؛ المنامة، لأنه ينام فيها. وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة): ورواه محيي السنة عن الحسن أيضاً. وقال الزجاج: "رُوي عن الحسن: أن معناها: فيعينك التي تنام بها، وكثير من النحويين يذهبون إليه، يعني: (إِذْ يُرِيكَهُمْ) في موضع (مَنَامِكَ)، أي: في عينك، ثم حُذف الموضع، وأقيم المنام مقامه، وهذا حسن، ولكن قد جاء في التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في النوم قليلاً، وقص الرؤيا على أصحابه. وهذا المذهب أسوغ في العربية، لأنه قد جاء (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً)، فدل بهذا على أن هذه الرؤية رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم". قلت: أراد الزجاج أن هذا الوجه حسن من حيث التأويل، لكن النظم يأباه؛ لأن الآية الثانية داعية إلى المخالفة بين الرؤيتين، فيُقال: إن المخالفة حاصلة، وهي أن الإراءة في الأول

(لَفَشِلْتُمْ): لجبنتم وهبتم الإقدام (ولَتَنَازَعْتُمْ) في الرأي، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي: عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع. [(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 44] (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولان، يعنى: وإذ يبصركم إياهم، (وقَلِيلًا) نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم، ويجدّوا ويثبتوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. خُصت بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني عمتن كأنه صلوات الله عليه أُريَ في اليقظة أنهم قليلون ليشجع أصحابه، فأخبرهم بما رأى لئلا يجبنوا، كما قال: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ)، ثم لما التقوا حقق الله تلك الإراءة في أعين أصحابه رضوان الله عليهم أيضاً، حيث قال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) فتجاوبت الإراءتان. والله أعلم. وفائدة العدول عن العين إلى مكانها: الإشعار بحصول الأمن الوافر، وإنزال السكينة التامة، وعدم المبالاة بهم، وهو كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً) [آل عمران: 154]، قال: "أنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم، حتى نعسوا وغلبهم النوم". قوله: (وترجحتم بين الثبات والفرار)، الأساس: "رجحت الشيء: وزنته بيدي، ونظرت ما ثقله".

قال ابن مسعود رضي الله عنه: " لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا له: كم كنتم؟ قال. ألفاً، (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده؛ ليجترئوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَايَ الْعَيْنِ) [آل عمران: 13]، ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلا وكثرتهم آخراً. فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلا؟ قلت: بأن يستر الله بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال: فمالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أكلة جزور): يُضرب في القلة والأمر الذي لا يُعبأ به. الجوهري: "قولهم: هم أكلة رأس، أي: قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل". قوله: (أو يُحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير): قال في "الانتصاف": "فيه دليل بين على أن الله هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة، ويكون غير موقوف على سبب من مقابلة أو ارتفاع حُجب وغيرها، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلاً، لما أمكن أن يستتر عنهم البعض ويدركوا البعض، فيجوز خلق الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب، وأن لا يخلقه مع اجتماعها، وهو رد على من أنكر رؤية الله تعالى". انتهى كلامه.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) 46] (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً): إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء: اسم للقتال غالب، (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تفرّوا، (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. فإن قلت: "لكن" تقتضي أن يكون ما قبلها مخالف لما بعدها، وقوله: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ .. لَفَشِلْتُمْ) [الأنفال: 43] معناه: ما أراكهم كثيراً وما فشلتم، فأين مقتضى ذلك؟ قلت: هو استدراك من كلام مقدر، أي: ما فشلتم فسلمتم فلا تحسبوا أن تلك السلامة الموجبة للنصرة كانت منكم، لكن الله سلمكم ونصركم، كقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال: 17]؛ إن افتخرتم بقتلهم فإنكم ما قتلتموهم، ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت. وفي وضع اسم الله تعالى موضع المضمر إشعارٌ بأن الأمر عظيم الشأن، فلا يصدرن ذلك إلا عن باهر السلطان، وفيها رد للمعتزلة؛ لأنه نفي أن يكون سبب المسبب سبباً. ويجوز أن تُحمل "لو" على معنى: أي: إن فُرض إراءتكم كثيراً لفشلتم ووقعتم في العطب، ولكن لم يحصل المفروض، أي: الإراءة، فلم يحصل العطب، فوضع المسبب موضع السبب. قوله: (ترك أن يصفها): أي: ترك وصف قوله: (فِئَةً)، أي: أطلقها ولم يقيدها بالكفار؛ لقرينة قوله: (إِذَا لَقِيتُمْ)، لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء أيضاً مبهم، ولكن أغلب استعماله في القتال، وعلى هذا (فَاثْبُتُوا).

داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه إشعار بأن [على] العبد): أي: أُدمج في الآية معنى وجوب ذكر الله في جميع المواطن، سيما في المواطن المهلكة، لأنه تعالى جعل الأمر بالذكر مسبباً عن لقاء العدو في الحرب، ولا مقام أشغل للقلب منه، وأدمج فيه أيضاً إيجاب التكلف لجمع النفس لأجل ذكر الله والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه، وإن كانت أفكاره متوزعة، لأنه تعالى قرن الأمر بالذكر بقوله: (فَاثْبُتُوا)، ليُقبل إليه بشراشره فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال. قوله: (أشغل ما يكون قلباً): فيه غرابة؛ لأن "ما" مصدرية، والوقت مقدر، فيكون إسناد "أشغل" إلى الوقت من باب: "نهاره صائم"، ويلزم منه إثبات القلب للوقت. والأحسن أن يكون "أشغل ما يكون" استعارة مكنية؛ شبه أوقاته بالإنسان على التصوير، ثم أثبت له الشغل على التخييلية، ثم فرع عليه القلب على الترشيح. وقيل: "أشغل" حال من الضمير في "يفتر"، و"ما" بمعنى: شيء، ويكون صفته، و"قلباً" تمييز. والمعنى: يجب على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه في حال يكون أشغل قلباً من أفراد الناس إذا فصل الناس واحداً واحداً.

وإن كانت متوزعة عن غيره، وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج؛ من البلاغة والبيان، ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح، دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر. (وَلا تَنازَعُوا) قرئ بتشديد التاء، (فَتَفْشَلُوا) منصوب بإضمار "أن"، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ "وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: "ويذهب ريحكم بالياء والجزم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (متوزعة)، الجوهري: "وزع المال والخراج توزيعاً: قسمه، وبها أوزاع من الناس: ضروب متفرقون". الأساس: "ومن المجاز: توزعته الأفكار، وهو متوزع القلب". قوله: (وناهيك بما في خُطب): "ما" فاعل أو مبتدأ، والباء زائدة، و"ناهيك" خبرٌ مقدم، أي: ما في خطب أمير المؤمنين من البلاغة كافيك في الدلالة على ما ذكرنا، يعني: أنه في قوة دلالته ينهاك عن تطلب غيره. قوله: (في أيام صفين وفي مشاهده): عطف العام على الخاص، نحو: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87]، وحينئذ يلزم المصنف تعميم ما خصص في قوله: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً): "إذا حاربتم جماعة الكفار"، بأن يقال: جماعة الكفار والبغاة: ويمكن أن يقال: إنه غلب الكفار على البغاة تغليظاً. قوله: ("وتذهب ريحكم" بالتاء والنصب): الأئمة السبعة بالاتفاق، وبالتاء الفوقانية والجزم: شاذة.

والريح: الدولة؛ شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله: أتُنْظِرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والريح: الدولة): يعني: استعار للدولة الريح بعدما شُبهت الدولة في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه المتروك، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة. قال: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون فلا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون قوله: (أتنظران قليلا)، البيت: قبله: يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد الذود من الإبل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. "أتنظُران": من: انتظرته، "ريث": قدر، "أم تعدوان": تفتكان، "للعادي": للفاتك؛ يخاطب صاحبيه حين اطلع على الحي: أتنظران قليلاً قدر ما يغفلون، فتسرقان أو تقتلان من غير انتظار الغفلة، وذلك أن سُليكاً مع صاحبين له أتوا جوف مراد من اليمن، فإذا نعم كثيرة،

وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". [(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) 47] حذرهم بالنهى عن التنازع واختلاف الرأي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فخافوا أن يغيروا، فقال سُليك: كونا قريباً حتى آتى الرعاء، فأعلم لكما أن الحي قريب أم بعيد، فإن كان قريباً رجعت إليكما، وإن كان بعيداً قلت لكما قولاً، فأغيرا، فانطلق حتى استعلم أن الحي بعيد، فقال للرعاء: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فغنى بأعلى صوته: يا صاحبي ألا لا حي .. البيتين. فأتيا، فذهبوا بالإبل، ولم يدركوا. قوله: (وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح): فعلى هذا يكون ذهاب الريح حقيقة، ويجوز أن يكون كناية. قال محيي السنة: "والريح هنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، قال قتادة وابن زيد: هو ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو، ومنه الحديث: "نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور"، وعن النعمان بن مقرن قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر". روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس"، الحديث.

نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم. (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ): هم أهل مكة حين نفروا الحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالجحفة: أن ارجعوا، فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله، مخلصين أعمالهم لله. [(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) 48]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (نحو ما وقع لهم بأُحد): منصوب على أنه مفعول به لـ "حذرهم"، وفيه أن قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا) الآية [الأنفال: 46]، وإن وقعت في أثناء قصة بدر، لكنها معترضة، والأمر عام في جميع المواطن، لأن حرب أد وقعت بعد حرب بدر بزمان. وهذا يقوى أن هذه السورة نازلة في بيان تعداد أحوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حالاً فحالاً، من غير ترتيب، ليكثر الحالات، وأن حمل قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال: 17] على قصة بدر، وقوله: (وَمَا رَمَيْتَ) [الأنفال: 17] على قصة حنين، صحيح. قوله: (وتعزف علينا)، النهاية: "العزف: اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يُضرب، وقيل: إن كل لعب عزف". قوله: (وأن يكونوا من أهل التقوى): أي: نهى المسلمين أن يكونوا بطرين، وأمرهم أن يكونوا متقين، وهو من باب: علفتها تبناً وماء بارداً

(وَ) اذكر (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن إتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي: بطل كيده حين نزلت جنود الله، وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة، ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ الشاعر الكناني، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإنى مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل، نكص، وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إني أرى مالا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نكص الشيطان)، الجوهري: "النكوص: الإحجام عن الشيء، يُقال: نكص على عقبيه ينكص وينكص، أي: رجع". قوله: (وقيل: ولما اجتمعت قريش): عطف من حيث المعنى على قوله: "وسوس إليه"، فالقول في قوله تعالى: (وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ) مجاز عن الوسوسة، والنكوص استعارة تمثيلية ما تقول: أراك أيها المفتي، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولذلك قال في تفسير (نَكَصَ): "بطل كيده، يدل عليه قول الحسن: كان ذلك على سبيل الوسوسة، ولم يتمثل لهم"، وعلى الثاني: الكل مجراة على الحقيقة.

وفي الحديث: "وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة؛ لما يرى من نزول الرحمة، إلا ما رئي يوم بدر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وفي الحديث "ما رُئي إبليس يوماً أصغر ولا أدحر") الحديث: من "الجامع" عن مالك في "الموطأ" عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رُئي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة". النهاية: "الدحر: الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال، وأفعل التفضيل فيه كأشهر وأجن، من: شُهر وجُن"، "يزع الملائكة": أي: يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار. قوله: "في يوم عرفة": في رواية "الموطأ": متعلق بـ"أفعل"، فهو يعمل في المستتر والظرف ونحوهما، لأن فيه رائحة الفعل. وأما رواية الكتاب: "ولا أغيظ من يوم عرفة": فقال صاحب "النهاية": "نُزل وصف الشيطان بأنه أدحر منزلة وصف اليوم به، لوقوع ذلك فيه، كأن اليوم نفسه هو الأدحر". قلت: فعلى هذا "أصغر" صفة "يوماً"، و"من يوم عرفة": متعلق بهن وهو مطابق لرواية "الموطأ"، لأن الأصل: ما رُئي إبليس في يوم من الأيام هو أصغر من نفسه إلا ما رُئي في يوم عرفة"، ثم علق الظرف بـ "أفعل من" على التوسع، كما في قولهم: زيد نهاره صائم"، أي: هو في نهاره صائم، وما قيل: إن "أصغر" مفعول ثان لـ"رُئي"، أو حال من "إبليس": فمُتعسف.

فإن قلت: هلا قيل: لا غالباً لكم، كما يقال: لا ضاربا زيداً عندنا؟ قلت: لو كان (لَكُمُ) مفعولا لـ (غالب)، بمعنى: لا غالباً إياكم، لكان الأمر كما قلت: لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم. [(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 49] (إِذْ يَقُولُ الْمُنفِقُونَ) بالمدينة (والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة (المنافقين)، وأن يراد: الذين هم على حرف؛ ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو كان (لَّكُمْ) مفعولاً لـ (غَالِبَ)) إلى آخره: قال أبو البقاء: " (غَالِبَ) هاهنا: مبنية، و (لَّكُمْ) في موضع رفع خبر (لا)، و (اَلْيَوْمَ) منصوباً بـ (غَالِبَ)، ولا (مِنْ النَّاسِ) حالاً منا لضمير في ((غَالِبَ)؛ لأن اسم "لا" إذا عمل فيما بعده لا يجوز بناؤه"، لأنه مشابه للمضاف، فكان منصوباً. قوله: ((وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة "المنافقين")، ويجوز أن تكون الواو في (وَالَّذِينَ) من التي تتوسط بين الصفة والموصوف؛ لتأكيد لصوق الصفة، لأن هذه الصفة في المنافقين لاصقة لا تنفك، قال الله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أو تكون من التي تدخل بين المُفسِّر والمُفسَّر، نحو: أعجبني زيدٌ وكرمه، قال القاضي: "والعطف لتغاير الوصفين". قوله: (ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام): قال في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) [الحج: 11]: "أي: على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه".

(غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) يعنون: أنّ المسلمين اغتروا، بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاث مئة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوى. [(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبرَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) 50 - 51] (وَلَوْ تَرى): ولو عاينت وشاهدت، لأن "لو" تردّ المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ "إن" الماضي إلى معنى الاستقبال، (وإِذْ) نصب على الظرف، وقرئ: (يتوفى). بالياء والتاء، و(الملكة) رفعها بالفعل، و (يَضْرِبُونَ) حال منهم. ويجوز أن يكون في (يَتَوَفَّى) ضمير الله عز وجل، و (الملكة) مرفوعة بالابتداء، (ويَضْرِبُونَ) خبر. وعن مجاهد: (وأدبارهم): أستاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب؛ لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه. وبلغني عن أهل الصين: أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبرَّ، ثم يعطى الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد، كهيئة الطبق، فيه رزانة، وله مقبض، فيضربه على دبره ضربة واحدة بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر. (وَذُوقُوا) معطوف على (يَضْرِبُونَ) على إرادة القول، أي: ويقولون: ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ)، أي: مقدمة عذاب النار، أو: وذوقوا عذاب الآخرة، بشارة لهم به، وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار، أو: ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ (يَتَوَفَى) بالياء والتاء): ابن عامر: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. قوله: (و (الْمَلائِكَةِ) مرفوعة بالابتداء، و (يَضْرِبُونَ) خبر): فالجملة على هذا استئنافية. قوله: (أو: ويُقال لهم يوم القيامة: ذوقوا): يعني: قوله تعالى: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)

وجواب" لَوْ" محذوف: أي: لرأيت أمراً فظيعاً منكراً (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، (وذلِكَ) رفع بالابتداء، و (بِما قَدَّمَتْ) خبره، (وَأَنَّ اللَّهَ) عطف عليه، أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأن الله (لَيْسَ بِظَلّم لِلْعَبِيدِ) لأن تعذيب الكفار من العدل، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. إما أنه محمول على إصابة العذاب في الدنيا وأنه متصل بعذاب النار، بأن يُسلط بعد السكرات عذاب القبر، وينتهي ذلك إلى دخول النار، أو يضربون وجوههم ويبشرونهم بعذاب القيامة ليجتمع لهم العذاب في الدنيا والخوف من النكال في الآخرة، أو يقع الضرب في الدنيا والقول في الآخرة. وعن بعضهم أنه قال: الذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر، فإنه يقال له: الأكل، وقد يعبر به عن الاختيار، وعن مطلق الإدراك. قوله: (لأن تعذيب الكفار من العدل): كأنه قيل: ذلك العذاب بسبب كفركم، وبسبب أن الله عادل، إذ لابد من جزاء المسيء، كما لابد من ثواب المحسن، فوضع موضعه (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)، بناء على مذهبه. قلت: والذي يقتضيه النظم هو: أن قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) كالتقرير لمعنى قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وفائدته: الدلالة على أن التعذيب إنما بلغ غايته لاستِئهالهم ذلك بسبب عظيم جرمهم، وأنه في قوم مخصوصين، وذلك أن قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) في المشركين الذين ناصبوا الحرب يوم بدر، لأن المنافقين لما طعنوا في المسلمين بقولهم: (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) بمعنى: أن المسلمين اغتروا بدينهم، وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم قليل مستضعفون على الكثير القوي، أجاب الله تعالى بقوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: ومن يتوكل على الله فهو يقويه وينصره، لأنه عزيز قوي يُقوي اولياءه، حكيم ينصرهم ويخذل أعداءهم.

كإثابة المؤمنين، وقيل: ظلام، للتكثير لأجل العبيد، أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه. [(كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا ْبآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِايتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) 52 - 54] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم حقق ذلك بقوله: (وَلَوْ تَرَى)، والخطاب مع هذا القائل، أي: لو رأيت، أيها القائل، إذ يتوفى الملائكة المشركين الذين تعدهم كثيرين قويين، يضربون منهم فوق الأعناق وكل بنان قائلين: ذوقوا عذاب الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة، وأن ذلك العذاب بسبب مناصبتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله ليس بلام للعبيد، لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه. مثاله: إذا نكل المنتصر من عدوه ويعذبه بأنواع البلاء ويقول: هذا بسبب ما ارتكبت من الظلم وأني فيما أفعله بك من النكال العظيم ما تجاوزت حد الإنصاف؛ لأنك تستحقه. وهذا لا يفيد أنه إن ترك التعذيب كان ظالما، كذا [ما] نحن بصدده. ودل على تعظيم الذنب اسم الإشارة، وهو عين ما قاله بعد ذلك: "أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً". قوله: (وقيل: ظلام، للتكثير لأجل العبيد): يعني: أن ظلاماً بناء مبالغة يدل على أنه تعالى ليس بظلام للعبيد، أي: بكثير الظلم، ويُفهم من دليل الخطاب جواز إثبات الظلم القليل.

الكاف في محل الرفع، أي: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه، : أي داوموا عليه وواظبوا، و (كَفَرُوا) تفسير لدأب آل فرعون. (وذلِكَ) إشارة إلى ما حل بهم. يعنى: ذلك العذاب -أو: الانتقام- بسبب أن الله لم ينبغ له، ولم يصحّ في حكمته، أن يغير نعمته عند قوم (حَتَّى يُغَيِّرُوا) ما بهم من الحال. فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة، حتى غير الله نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية، فيغيروها إلى حال مسخوطة؟ قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن نفي الظلم الكثير عند وجود العقاب العظيم من العادل: عبارة عن حصول الذنب العظيم من المعذب. مثاله: أنا إذا نظرنا إلى من يُعذب شخصاً بأنواع العقاب، ويبالغ في التشديد، وقطعنا النظر عن الموجب، حكمنا بأن المعذب ظالم كثير الظلم، أما لو علمنا أنه عادل لا يضع الشيء إلا في موضعه قطعنا بأن المعذب مستوجب لذلك، لأنه متمرد متجاوز في الذنب حده. وثانيهما: أن قوله: "ظلام" مقترن بقوله: (لِلْعَبِيدِ)، وهو جمع محلي بلام الاستغراق، فإذا وُزع نفي الظلم عن كل فرد فرد من أفراد هذا العام، فصح أن يُقال: (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ)، كما قال في سورة (ق): "هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده"، يعني: المناسب أن يُقال: ظالم لعبده وظلام لعبيده، إذ لو عكس وقال: ظلامٌ لعبده وظالم لعبيده، لم يتطابق، اللهم إلا أن يعتبر كثرة ذنبه أو عظمه. قوله: (وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام) إلى آخره: قيل: إنهم

فلما بعث إليهم بالآيات البينات، فكذبوه، وعادوه، وتحزبوا عليه، ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغيرَّ الله ما أنعم به عليهم من الإمهال، وعاجلهم بالعذاب. (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لما يقول مكذبو الرسل (عَلِيمٌ) بما يفعلون. (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد، وفي قوله: (بِايتِ رَبِّهِمْ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب، (وَكُلٌّ كانُوا ظلِمِينَ): وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي. [(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ* فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) 55 - 57] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. لما كانوا متمكنين من الإيمان، ثم تركوا ذلك ولم يؤمنوا، كأن ذلك كان حاصلاً لهم فغيروه، كقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16 و 175]. وقلت: تحريره: أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسها نعمة دونها كل نعم، فلما نسي المشركون هذه النعمة الأسنى وتلك الآيات العظمى، وكانوا متمكنين من قبولها والاهتداء بهديها، فلما امتنعوا منه واضطروه إلى المهاجرة، ثم استأصل شأفتهم يوم بدر، قيل ذلك لهم. وعلى هذا أمر فرعون مع موسى عليه السلام، ويؤيده قوله هاهنا: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ). قوله: ((كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) تكرير للتوكيد، وفي قوله: (بِآيَاتِ اللَّهِ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق): قال القاضي: "يعني: كرر (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: (بِآيَاتِ اللَّهِ)، وبيان ما أخذ به آل فرعون".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقلت: وازن المصنف بين الآيتين، وقابل بين كل من القرينتين، فقوله: " (بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق": معناه: أن قوله (كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) في الآية السابقة مبهم لم يفهم منه أن تلك النعمة المكفورة من أي نوع من أنواع النعم؟ أهي نعمة الآيات المنصوبة أو الآيات المنزلة؟ وأن الكُفران من أي قبيل كان؟ أهو من قبيل الإعراض عن الآيات المنصوبة، أو هو من قبيل التكذيب بالآيات النازلة؟ فعُلم من هذه الآية: أن تلك النعمة هي نعمة الآيات المنزلة، وأن ذلك الكفران تكذيبها وجحود الحق، وقوله: (فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) مشتمل لجميع أنواع التعذيب، وقوله: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) نص على تعيين العذاب. قال صاحب "الفرائد": هذا ليس بتكرير؛ لأن معنى الأول: حالُ هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر والتكذيب، فأخذهم بالعذاب، ومعنى الثاني: حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير، وهو أنه أغرقهم، بدليل ما تقدم عليه، وهو قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) الآية. ولخص المعنى القاضي وقال: "الأول: تشبيه الكفر والأخذ، والثاني: تشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم". وقلت: النظم يأبى هذا القول؛ لأن وجه التشبيه في التشبيه الأول هو قوله: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)، فشبه حال كفار قريش بحال فرعون ومن قبله، والوجه للتشبيه: الكفر المرتب عليه العقاب، فكذلك ينبغي أن يكون الوجه في التشبيه الثاني هو قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)، لأنه مثله.

(الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي: أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان، وهم بنو قريظة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. بيانه: أن قوله: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) جملة مبتدأة بعد ذكر المشبه والمشبه به، صالحة لأن تكون بياناً لوجه التشبيه، فوجب حملها عليه، كقوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) [آل عمران: 59]، قوله: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم، ولا فرق بينه وبين قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) في هذا المعنى. وأما قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كالتعليل لحلول النكال للكفران، لما تقرر مراراً: أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بأن ما بعده جدير بمن قبله لأجل اكتسابه موجبه. وقد اعترض بين التشبيهين، وهو غير مختص بقوم فرعون وقريش، بلهو متناولٌ لجميع من يغير نعمة الله من الأمم السالفة واللاحقة، من الكفران وتكذيب الآيات. فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول، وإيقاعه وجهاً للتشبيه، مع وجوده صريحاً كما بينا: بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين، ووقف على ترتيب النظم بين الآيتين. قوله: (فلا يتوقع منهم الإيمان): يعني: دل قوله: (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) - لما فيه من بناء (لا يُؤْمِنُونَ) على "هم" المفيد لتقوي الحكم - على عدم توقع الإيمان منهم، وذلك لترتب هذه الجملة على قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث أوقع (الَّذِينَ كَفَرُوا) - وهو معرفة - خبراً لـ (إنَّ)، وجعل اسمه (شَرَّ الدَّوَابِّ). قال القاضي: "والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف".

عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه، فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم. (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من (الذين كفروا)، أي: الذين عاهدتهم من الذين كفروا، جعلهم شر الدواب؛ لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود. (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ): لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون ما فيه من العار والنار. (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ): ففرق عن محاربتك ومناصبتك؛ بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يمالئوا): لا يساعدوا. النهاية: "الممالأة: المساعدة والمعاونة". قوله: (لأن شر الناس الكفار): يعني: أبدل (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ) من (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وهم الذين أصروا على الكفر، ولجوا فيه، بعد أن جعلهم شر الدواب؛ ليدل على أن شر الناس الكفار إلى آخره، لما عرفت في إبدال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، من (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، معنى البدل. ثم في عطف (يَنقُضُونَ) وهو مضارع، على (عَاهَدْتَ) وهو ماضٍ: الدلالة على استمرار النقض، ولذلك قال: "فنكثوا، ثم عاهدهم فنكثوا". قوله: ((فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): فإما تصادفنهم وتظفرن بهم)، الأساس: "طلبناه فثقفناه في مكان كذا، أي: أدركناه". الجوهري: "ثقفة ثقفاً، أي: صادفته".

وقرأ ابن مسعود: "فشرذ"، بالذال المعجمة، بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب "شذر"، من قولهم: "ذهبوا شذر مذر، ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن؛ لتفرّقه. وقرأ أبو حيوة: من "خلفهم"، ومعناه: فافعل التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء، وأوقعه فيه؛ لأنًّ الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: والظاهر أن الفاء في قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ) فاء فصيحة تقتضي محذوفاً هو سبب التشريد، كما قدر "فإما تُصادفنهم وتظفرن بهم فشَرِّد بهم"، فالتشريد مسبب عن الظفر بهم لا الإدراك فقط. ولا يبعد أن تُجعل الفاء في قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) منها، ويجوز أن يكون قوله: "وتظفرن بهم" عطفاً تفسيرياً على "تُصادفن"، كما في قوله: "فإما تثقفوني فاقتلوني"، فيكون قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ) جزاء للشرط فقط. قوله: (ذهبوا شذر مذر)، الجوهري: "تفرقوا شذر مذر: إذا ذهبوا في كل وجه"، قال ابن جني: "قرأ الأعمش: "شرذ" بالذال المعجمة، ولم يمر بنا في اللغة تركيب (ش ر ذ)، والأوجه أن تكون الذال بدلاً من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان". وقال أبو البقاء: "نحو: خراديل وخراذيل، وقيل: هو مقلوب من "شذر" بمعنى: فرق، وكل ذلك تعسف بعيد". قوله: (فافعل التشريد من ورائهم): يعني: أُجري المتعدي مجرى اللازم، ثم عُدي تعديته، كقوله: . يجرح في عراقيبها نصلي

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ): لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون. [(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) 58] (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين (خِيانَةً) ونكثا بأمارات تلوح لك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ): فاطرح إليهم العهد (عَلى سَواءٍ): على طريق مستو قصد -وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد، وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم- ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك، (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع. وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد، وقيل: على استواء في العداوة، والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوي، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وفي إيقاع التشريد في المكان وإرادة التشريد فيمن يشغل المكان كناية، كقول الشنفري: تبيت بمنجاة من اللوم بيتها فإذن صح قوله: "فلم يبق فرق بين القراءتين"، اللهم إلا في المبالغة. قال محيي السنة في معنى المشهورة: "فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وحاربوك فعلاً من القتل والتنكيل، ليخافك من خلفهم من أهل مكة". قوله: (فانبذ إليهم ثابتاً): هذا على أن يكون (سَوَاءٍ) صفة موصوف محذوف، كما قال:

أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً. [(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) 59] (سَبَقُوا): فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ): إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، وقرئ: "أنهم" بالفتح؛ بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح وقرى: "يعجزون"، بالتشديد، وقرأ ابن محيصن: "يعجزون" بكسر النون. وقرأ الأعمش: "ولا تحسب الذين كفروا" بكسر الباء وبفتحها؛ على حذف النون الخفيفة. وقرأ حمزة: (ولا يحسبن) بالياء؛ على أن الفعل لـ (الَّذِينَ كَفَرُوا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "على طريق مُستوٍ"، فالجار والمجرور حال من فاعل (فَانْبِذْ). وقوله: "أو حاصلين" على أن يكون حالاً من المجرور في (إِلَيْهِمْ) أو المرفوع في (فَانْبِذْ) كما في الوجهين، أي: على استواء في العلم أو على استواء في العداوة. قوله: (ولا يجدون طالبهم عاجزاً)، الراغب: "أعجزت فلاناً وعجزته وعاجزته: جعلته عاجزاً. قال عز وجل: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) [الحج: 51]، وقرئ: "معجزين"، فـ (مُعَاجِزِينَ) معناه: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا حشر ولا نشر، فيكون ثواب وعقاب، و"معجزين" ينسبون من تبع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العجز، نحو: جهلته وفسقته". قوله: (وقرئ: "أنهم" بالفتح): ابن عامر، والباقون: بكسرها. قوله: (وقرأ حمزة: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، على أن الفعل لـ (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وقوله: (واستدل)، كأنه أشار إلى ضعف هذا الوجه؛ إذ لا حاجة إلى تقدير "إن" المخففة، قال أبو

وقيل فيه: أصله: أن سبقوا، فحذفت "أن"، كقوله: (وَمِنْ ءاياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) [الروم: 24]، واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "أنهم سبقوا"، وقيل: وقع الفعل على "أنهم لا يعجزون"؛ على أن "لا" صلة، و (سبقوا) في محل الحال، بمعنى: سابقين، أي: مفلتين هاربين، وقيل: معناه: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوما، وقيل: ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البقاء: "في الفاعل وجهان: أحدهما: هو مضمر، أي: لا يحسبن من خلفهم، أو: يحسبن أحد، والمفعول الثاني (سَبَقُوا). وثانيهما: أن الفاعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) ن والمفعول الأول محذوف، أي: أنفسهم، وقيل: التقدير: أن سبقوا، و"أن" مصدرية، حُكي عن الفراء، وهو بعيد؛ لأن المصدرية موصولة، وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال". قوله: (وقع الفعل على "أنهم لا يُعجزون"، على أن (لا) صلة): قال الزجاج: "ويجوز أن تكون (لا) لغواً، أي: ولا يحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون، وأن يكون بدلاً من (سبقوا)، وهو ضعيف؛ لأن "لا" لا تكون لغواً في موضع يجوز أن تقع فيه غير لغو". قوله: (قبيل المؤمنين)، الجوهري: "القبيل: الجماعة تكون من ثلاثة فصاعداً من قوم شتى، والجمع: قُبل". قوله: (وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة): يقال: زعمه ليس بنير، وإن حمزة ما تفرد بها، وفي "التيسير": قرأ حفص وابن عامر وحمزة: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، والباقون بالتاء"، ووجهها مستقيم على وجوه كما صححه أبو البقاء، ولأنها متواترة، وما تواتر فهو نير. على أنه أجاز حذف المفعول الأول من باب "حسب" في غير موضع من هذا الكتاب؛

وعن الزهري: أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين. [(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) 60] (مِنْ قُوَّةٍ): من كل ما يتقوّى به في الحرب من عددها. وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا. ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله. وعن عكرمة: هي الحصون. والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط؛ كفصيل وفصال، وقرأ الحسن: "ومن ربط الخيل"، بضم الباء وسكونها، جمع رباط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منها: قال في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً) [آل عمران: 169]: "هو في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ"، إلى غير ذلك كما سيجيء. قوله: (من فل المشركين)، النهاية: "الفَلُّ: القوم المنهزمون، من الفل: الكسر، وهو مصدر سُمي به، ويقع على الواحد والاثنين والجمع". قوله: (ومن عقبة بن عامر) الحديث: رواه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي، وليس فيه: "مات عقبة عن سبعين قوساً". قوله: (والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله): قيل: فإذن يلزم من إضافته إلى الخيل إضافة الشيء إلى نفسه، يُقال: الرباط: اسم عام يطلق على معان؛ منها ما ذكره، ومنها

ويجوز أن يكون قوله: (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: 98]، وعن ابن سيرين: أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون؟ فقال: ألم تسمع قول الشاعر: أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى (تُرْهِبُونَ) قرئ بالتخفيف والتشديد، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتظار الصلاة بعد الصلاة. في "النهاية": "الرباط في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب، وارتباط الخيل: إعدادها، وقيل: الرباط: مصدر رابطت، أي لازمت. وقيل: الرباط: اسم لما يُربط به الشيء، أي: يُشد"، فأضيف إلى الخيل للبيان، كقولك: خاتم حديد، فعلى هذا اللام في قول المصنف: "الرباط" للعهد، أي: الرباط المذكور في الآية، قال في "الانتصاف": "المطابق للرمي أن يكون "الرباط" على بابه مصدراً". قوله: (إن الحصون الخيل لا مدر القرى): أوله: ولقد علمت على توقي الردى يعني: علمت أن الحصون التي يتوقى بها: الخيل، لا قصور القرى والمدائن التي يلجأ إليها. قوله: (تُرهبون): بالتخفيف: الجماعة، وبالتشديد: شاذة. الراغب: "الرهبة والرهب مخافة مع تحزن واضطراب، قال عز وجل: (لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ) [الحشر: 13]، (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ)، والترهب: التعبد، وهو استعمال الرهبة،

وقرأ ابن عباس ومجاهد: "تخزون"، والضمير في (بِهِ) راجع إلى (ما استطعتم)، (عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ): هم أهل مكة، (وَءاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ): هم اليهود وقيل: المنافقون وعن السدي هم أهل فارس. وقيل: كفرة الجن، وجاء في الحديث: "إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس، ولا داراً فيها فرس عتيق"، وروى: "أنّ صهيل الخيل يرهب الجن". [(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 61] جنح له، وإليه: إذا مال، والسلم: تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب، قال: السِّلْمُ تَاخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ وقرئ بفتح السين وكسرها وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [التوبة: 29]، وعن مجاهد: بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5]، والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله؛ من حرب أو سلم، وليس بحتم: أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والرهبانية: غلو في تحمل الرهبة من فرط الرهبة، والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وقالوا: رهبوت خير من رحموت"., قوله: (قال: السلم تأخذ) البيت: مضى شرحه في البقرة. قوله: (إلى الهدنة): هادنة: صالحه، والاسم: الهدنة.

وقرأ الأشهب العقيلي. "فاجنح" بضم النون. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ): ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد: يريد قريظة. [(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 62 - 63] (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) فإن محسبك الله: قال جرير: إنِّي وَجَدْتُ مِنَ الْمَكارِمِ حَسْبَكُمْ ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة؛ لأنّ العرب لما فيهم من الحمية، والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا، لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (إني وجدت من المكارم) البيت، بعده: إذا تُذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا "حسبكم": أي: محسبكم، و"الحر" من كل شيء: أعتقه، ويروي: "خز الثياب"، والخز: "اسم دابة، سمي الثوب المتخذ من وبرها خزاً". في "المغرب". وفي "النهاية": الخز: ثياب تنسج من إبريسم وصوف، وقيل الخز: الثياب المعمول من الإبريسم، وهذا هو المعروف الآن". يهجوهم بأنهم لئام أراذل هممهم مقصورة على المآكل والملابس. "تقنعوا": أي: غطوا وجوهكم من الحياء، "أن تلبسوا" فاعل: "حسبكم"، وقيل: وقوع "حسبُك" صفة للنكرة في قولهم: عندي رجل حسبك رجلاً، دليل على أنه في معنى اسم الفاعل.

ثم ائتلفت قلوبهم على إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشؤوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد. وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها، وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة، وتصافوا، وصاروا أنصاراً، وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته. [(يأيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 64] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبينهما التجاور)، الأساس: "وهم جيرتي، وتجاوروا". قوله: (وعادة كل طائفتين: مبتدأ، والخبر "أن تنجب"، و"كانتا بهذه المثابة" صفة "طائفتين". قوله: (وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته): ويمكن أن يستنبط هذا المعنى من قوله: (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فإن العزيز دل على بليغ قدرته، ومن عزته: أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وجعل بعثته من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة، حيث ألف به قلوبهم، وأذل صعبهم؛ بأن أوقع بنهم الرحمة والتواضع، ورفع الأنفة الكبر، ولا يقدر على ذلك إلا من يكون قاهراً على الأشياء كلها، مالكاً للقلوب الأبية المجبولة على الحمية الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن

(وَمَنِ اتَّبَعَكَ) الواو بمعنى "مع" وما بعده: منصوب، تقول: حسبك وزيداً درهم، ولا تجرّ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع، قال: فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً، أو يكون في محل الرفع: أي: كفاك الله وكفاك المؤمنون. وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر، وعن سعيد بن جبير: أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه، فنزلت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف يشاء". رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وأحمد بن حنبل عن أم سلمة. ومن حكمته: أن دبر أمورهم هذا التدبير العجيب، وأحدث فيهم من التواد والتحاب، ونظم ألفتهم وجمع كلمتهم، لأن الفاصلة كالتعليل للتأليف، ولابد من مناسبة لتخصيص الصفتين. قوله: (فحسبك والضحاك عضب مهند): أوله: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا وانشقاق العصا: عبارة عن التفرق، ونصب "الضحاك" بقوله: "فحسبك"، لأنه في معنى: يكفيك، يقول: إذا كان يوم الحرب ووقع الخلاف بينكم فحسبكم مع الضحاك سيف هندي.

[(يأيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ* ألن خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) 65 - 66] التحريض: المبالغة في الحث على الأمر، من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه، حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضاً، وتقول له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه؛ ليهيجه ويحرّك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرشه وحربه؛ بمعنى. وقرئ: " حرص" بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش؛ من الحرص. وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي: بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون- لجهلهم بالله- نصرته، ويستحقون خذلانه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أن تسميه حرضاً): عطف على قوله: "المبالغة في الحث"، يريد: أن "حرضاً" له معنيان. الأساس: "نُهِكَ فلان مرضاً حتى أصبح حرضاً، أي: أشفى على الهلاك، وحرضه على الأمر، وفيه تحريض"، فإذا حُمل على المعنى الأول فمعناه: يا أيها النبي حث المؤمنين على القتال، أي: بالغ في الأمر بالقتال، وإذا حُمل على الثاني فمعناه: سمهم حرضاً، كما يُقال: فسقته، أي: سميته فاسقاً، وهذا من باب التهييج والإلهاب، ولهذا قال: "ليهيجه ويُحرك منه". قوله: (ويستحقون خذلانه)، وقوله: "ومعه ما يستوجب به النصر": بناء على مذهبه، فإن عندهم الوجوب عقلي، وفعل العبد مؤثر، وعندنا: الوجوب بسبب الوعد؛ تفضلاً منه تعالى، لقوله: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].

خلاف من يقاتل على بصيرة، ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله. وعن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين. وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء): فإن قلت: كيف يستقيم هذا مع قوله: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)، فإن التحويل من القلة إلى الكثرة يزيد القوة لا الضعف؟ قلتُ: لما كان موجب القوة اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه، لا على الكثرة، ما في بدر وغيره، أوجب أن يُقاوم واحد منهم عشرة، ولهذا يعلل الأمر بما يقابل قوله: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)، وإليه الإشارة بقوله: "خلاف من يقاتل على بصيرة، ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله"، ثم لما كثروا واعتمدوا عليها بعض الاعتماد، كما في حُنين، خفف الله عنهم بعض ذلك. وقال الإمام: "الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بالدعاء والتضرع، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق". فإن قلت: فما معنى عطف قوله: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) على قوله: (خَفَّفَ اللَّهُ)؟ قلت: معناه: الآن خفف الله عنكم لما هر متعلق علمه تعالى، أي: كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم. روى السلمي عن النصرابادي: هذا التخفيف كان للأمة دون الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن لا

وقرئ: (ضعفاً) بالفتح والضم؛ كالمكث والمكث، والفقر والفقر. و"ضعفا: ً؛ جمع ضعيف، وقرئ الفعل المسند إلى "المئة" بالتاء والياء في الموضعين. والمراد بالضعف: الضعف في البدن، وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك. فإن قلت: لم كرّر المعنى الواحد- وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها- مرّتين، قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المئتين، والمئة الألف، وكذلك بين مقاومة المئة المئتين والألف الألفين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يثقله حمل أمانة النبوة كيف يُخاطب بتخفيف اللقاء للأضداد؟ وكيف يُخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول: "بك أصول وبك أحول"، ومن كان به كيف يخفف عنه أو يُقل عليه؟ قوله: (وقرئ: (ضَعْفاً) بالفتح والضم): بالفتح: عاصم وحمزة، والباقون: بضمها. قوله: (وقرئ الفعل المسند إلى المئة): أي: قوله: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ)، بالياء التحتانية: الثانية: أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، والثالثة: عاصم وحمزة والكسائي. والباقون: بالتاء بلا خلاف. قوله: (لأن الحال قد تتفاوت): يعني: حالة المقاومة تتفاوت، ترى الواحد لا يقاوم العشرة، والعشرة المئة، فإذا بلغ العدد إلى مئة مع ألف من العدو لا يكون الحكم كذلك،

[(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) 67 - 68] وقرئ: "للنبيَّ"، على التعريف، و"أسارى"، و"يثخن"بالتشديد، ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات: إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض: إذا أثقله؛ من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعنى: حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فربما يُقاومونهم على هذه الزيادة، ومن ثم قيل: الجيش العرمرم أربعة آلاف، فلا يُغلب من أجل القلة وكثرة العدو، ورُوي في الحديث: "خير الجيوش أربعة آلاف"، لكن حال المسلمين بخلاف ذلك، كما أشار إليه بقوله: "للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة". قوله: (قرئ: "للنبي" ... ، و"أسارى"، و"يُثخن" بالتشديد): وهو في الشواذ. قال الزجاج: "قرئ: أسرى وأسارى، فمن قرأ: أسرى، فهو جمع أسير؛ وفعلى فعيل: جمع لكل من أصيب في بدنه وفي عقله، يقال: مريض ومرضى، وأحمق وحمقى، ومن قرأ: أسارى فهو جمع الجمع، يقال: أسير وأسرى وأسارى"، والفتح هو الأصل. قوله: (ثم الأسر بعد ذلك): تفسير لمعنى الغاية في قوله تعالى: (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) يعني: لا يجوز الأسر إلا بعد إذلال الكفرة بالقتل، وإعزاز أهل الإسلام بالغلبة والقهر.

ومعنى (ما كانَ): ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد: 4]. وروى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه، وعقيل بن أبى طالب، فاستشار أبا بكر فيهم فقال: قومك وأهلك، استبقهم، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال عليه السلام: " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم؛ قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، ومثلك يا عمر مثل نوح؛ قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح: 26]، ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس) الحديث: مخرج في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن مسعود إلى قوله: "إلا بفداء أو ضرب عنق" مع اختلاف فيه. ومن قوله: "فإذا هو وأبو بكر يبكيان" إلى قوله: "لشجرة قريبة منه": رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس. قال القاضي: "الآية دليل على أن الأنبياء مجتهدون، وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يقرون عليه".

وروي أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا بأحد". وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين: كان فداؤهم مئة أوقية، والأوقية: أربعون درهما وستة دنانير. وروى: أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله أخبرني، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه. وروى أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمرو سعد بن معاذ"، لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إلىّ. (عَرَضَ الدُّنْيا): حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعنى: ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل، وقرئ: "يريدون" بالياء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عَرَضَ الدُّنْيَا): حُطامها)، الراغب: "العرض: ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر، كاللون والطعم، وقيل: "الدنيا عرض حاضر"، تنبيهاً على أن لا ثبات لها".

وقرأ بعضهم "والله يريد الآخرة" بجرّ "الآخرة" على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله، كقوله: وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِالَّليْلِ نَارَاً ومعناه: والله يريد عرض الآخرة؛ على التقابل، يعنى ثوابها (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه، ويتمكنون منهم قتلا وأسراً، ويطلق لهم الفداء، ولكنه (حَكِيمٌ) يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا، وهم يعجلون. (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح، وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونار توقد بالليل ناراً): أوله: أكل امرئ تحسين امرأ يقول: أكل امرئ تظنين أنه رجل ذو سماحة وشجاعة، وكل نار تُرى بالليل تظنين أنها نار قرى. قال ابن جني: "هو بيت الكتاب"، وتقديره: "وكل نار"، فناب ذكره في أول الكلام عن إعادتها في آخره، كأنه قال: وكل نار، هرباً من العطف على عاملين، وهما (كل) و (تحسين) ". وعلى هذا قراءة الجر في "الآخرة" بتقدير "عرض"، وإنما جاز للمشاكلة، لأن العرض - بالتحريك - متاع الدنيا وحطامها، والدار الآخرة هي الحيوان، وثوابه دائم لا ينقطع.

لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأنّ فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأفل لشوكتهم. وقيل: كتابه: أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل: إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهى، ولم يتقدم نهى عن ذلك. [(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 69] (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) روي أنهم أمسكوا عن الغنائم، ولم يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه. فإن قلت: ما معنى الفاء؟ قلت: التسبيب والسبب محذوف، معناه: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم، (وحللاً): نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أي أكلاً حلالاً، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) معناه: أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم، وتاب عليكم. [(يأيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 70] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن أهل بدر): بفتح "أن"، أي: كتابه أن أهل بدر مغفور لهم، وهو من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في حديث حاطب: "إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم" الحديث، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما كما سبق.

(فِي أَيْدِيكُمْ): في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم. وقرئ: (من الأسرى)، (فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً): خلوص إيمان، وصحة نية، (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. وفي قراءة الأعمش: (يثبكم خيراً). وعن العباس أنه قال: كنت مسلماً، لكنهم استكرهوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا"، وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، وخرج بالذهب لذلك. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "افد ابني أخيك؛ عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث "، فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت. فقال له: " فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؟ " فقال العباس: وما يدريك؟ قال "أخبرني به ربى"، قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن العباس أنه قال): الحديث بتمامه مذكور في "مُسند أحمد بن حنبل" عن ابن عباس مع تغيير، لكن ليس فيه حديث "عشرون عبداً". قوله: (ليضربُ): أي: ليضرب الأرض، ويسافر فيها، ويتجر في عشرين ألفاً.

وروي: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر، وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ منى، وأرجو المغفرة. وقرأ الحسن وشيبة: "مما أخذ منكم"، على البناء للفاعل. [(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 71] (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ): نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم (فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) كما رأيتم يوم بدر، فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة: منع ما ضمنوا من الفداء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ)): يُقال: مكنه من الشيء وأمكنه منه: أقدره عليه. الأساس: "مكنته من الشيء وأمكنته منه، فتمكن منه واستمكن، ويقول المصارع لصاحبه: مكني من ظهرك". وفي إيقاع قوله تعالى: (فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) جزاء للشرط: معنى قولهم: إن تكرمني الآن فقد أكرمتك أمس، وهو متضمن للتوبيخ والإخبار بالوعيد، ومن ثم قال: "فسيمكن منهم"، وهذه الآية قرينة للسابقة، والمعنى: قل للأسارى إن أردتم الإخلاص في الإيمان، وصحت نياتكم لله فيه، فالله تعالى لا يضيع حقكم في الدنيا والآخرة، وإن أردتم الأخرى - وهي دأبكم وعادتكم - فالله تعالى قادر على أن يمكن منكم. فوضع الخيانة موضع عدم الإخلاص في الإيمان، ليؤذن بأن الإيمان هو الأمانة التي استودع الله في بني آدم (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ) إلى قوله: (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) [الأحزاب: 72]، ولذلك قال: "ونقض ما أُخذ على كل عاقل من ميثاقه" يعني: في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172].

[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 72] الذين هاجروا: أي: فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار. (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي: يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأحزاب: 6]. وقرئ: (من ولايتهم) بالفتح والكسر، أي من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملا، (فَعَلَيْكُمُ النَّصْر): ُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ) منهم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ): عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (مِنْ وَلايَتِهِمْ) بالفتح): مصدر، "وبالكسر": حمزة وحده، الجوهري: "الولاية بالكسر: السلطان، وبالفتح: النصرة، ويُقال: هم على ولاية، أي: مجتمعون في النصرة، وقال سيبويه: الولاية بالفتح: المصدر، وبالكسر: السلطان، والولاية مثل الإمارة والنقابة". قوله: (أن تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل): قيل: الظاهر أنه أراد أن المصدر في الصنائع وما يزاول فيه ويعالج: يجيء على"فعالة" بالكسر، مثل: الكتابة والتجارة والصناعة، فشبه تولي بعضهم بعضاً بالعمل والصناعة، ثم استعير. وقال الزجاج: وكل ما كان من جنس الصناعة فمكسور، مثل: الخياطة.

[(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) 73] [(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين: (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال: 72]، ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم، وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا. ثم قال: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً، حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً. وقرئ "كثير" بالثاء. [(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) 74 - 75]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: إن لا تفعلوا ما أمرتكم به): يريد أن الضمير في (تَفْعَلُوهُ) بمنزلة اسم الإشارة الذي يُشار به إلى جميع ما ذُكر، والمذكور: قيل: ما دل على الأمر والنهي، لأن معنى (أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الأمر بتواصل المسلمين، وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) نهيٌ عن تواصل الكافرين، ومن ثم قال: "ومعناه نهيُ المسمين"، ولذلك صح أن يجمعهما قوله: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ) أي: إن لم تمتثلوا ما أمرتم به، ولم تنتهوا عما نُهيتم عنه. قوله: (بدا واحدة): عبارة عن الاتفاق والتعاضد. النهاية: "في الحديث: "اجعل الفُساق يداً يداً": أي: فرق بينهم، ومنه قولهم: تفرقوا أيادي سبأ، أي: تفرقوا في البلاد أشتاتاً".

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم، والشهادة لهم مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل. (وَالَّذِينَ ءامَنُوا مِنْ بَعْدُ) يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: (وَالَّذِينَ جآءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الحشر: 10]، ألحقهم بهم، وجعلهم منهم، تفضلا منه وترغيباً (وَأُولُوا الْأَرْحامِ): أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة (فِي كِتاب اللَّهِ) تعالى: في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث، وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة على توريث ذوى الأرحام. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الأنفال وبراءة، فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليس بتكرار): يعني: قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا) إلى قوله: (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا) إنما جيء به أولاً وعُقب بقوله: (أُوْلَئِكَ)، ليؤذن بأنهم السابقون في الدين الفائزون بالقدح المعلى فيه، فلا يُشق غبارهم، فهم لذلك أجرياء بأن يكونوا إخواناً، وأن لا يؤثر بعضهم نفسه بالمزايا الدنيوية على أخيه، وأعيد ثانياً ليعلق به ما لهم عند الله من المراتب السنية، والفوز بالرضوان والمقامات العلية، فجمع خير الدارين بتينك الخلتين. وأنت إذا تأملت هذه الخاتمة، حققت النظر في الفاتحة، عند قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 1]، عرفت إيجاب رعاية النظم في المبدأ والوسط والمنتهى. والله أعلم بالصواب. * * * تمت السورة

سورةُ التوبة مدنية، وهي مئة وثلاثون -وقيل: تسع وعشرون- آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب؛ لأنّ فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها، وتثيرها، وتحفرها وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: "إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سُورةُ العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. سورة التوبة مدنية، وهي مئة وثلاثون أو تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه)، النهاية: "وفي الحديث: "أن رجلاً كان ينال من الصحابة"، يعني: الوقيعة فيهم"، يعني: ما ذُكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيها أحد من فرق الناس؛ كالمشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين، إلا بُولغ في شأنهم أقصى الغاية، لا ترى أبلغ منها. أما المشركون والمنافقون وأحوالهم فلا حاجة إلى البيان. وأما المؤمنون الخُلص فورود قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ)، إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24]، وهو من أشد ما يُخاطب به المخالف، فكيف الموافق؟ ولهذا قال الحسن: عقوبة آجلة وعاجلة، وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. وأما أهل الكتاب فإن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] إلى منتهى قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ) [التوبة: 34 - 35] جامع لخزي الدنيا والصغار والذلة وخزي الآخرة على أبلغ ما يكون. ويقرب مما رُوي عن حذيفة: ما روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تقول: (وَمِنْهُمْ)، (وَمِنْهُمْ)، حتى ظنوا أن لا يبقى أحدٌ إلا ذُكر فيها". وأما تسميتها بالتوبة: فلقوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة: 117]، إلى قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118]، فغُلبت على العذاب، فسميت بالتوبة. وأما ما رواه المصنف عن حذيفة، فمعناه: أنه غلب الأغلب الأقوى على الأقل الأضعف، غير لازم، فغن سورة البقرة سميت: بقرة، على أن حديث البقرة نزر قليل بالنسبة إلى غيره.

فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية، كما في سائر السور؟ قلت: سأل عن ذلك ابن عباس عثمان رضي الله عنهما، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال: "اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا "، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سأل عن ذلك ابن عباس عثمان رضي الله عنهما)، الحديث: اعلم أن جوابه غير مطابق للسؤال؛ سأل عن بيان عدم تصدير السورة بالبسملة، وأجاب عن موقع السورة مع أختها، ويمكن أن يُقال: إن السؤال كان عن شيئين، فاختصر في السؤال على أحدهما، وفي الجواب على الآخر، يدل عليه ما روى أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي وأبو داود في "سننهما"، عن ابن عباس قال: قلت لعُثمان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المثين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ ووضعتموها في السبع الطوال؟ قال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب، يقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتها في السبع الطوال. قلت: في الحديث دليل ظاهر على بيان ترتيب الآي والسور.

وعن أبي بن كعب: "إنما توهموا ذلك، لأنّ في الأنفال: ذكر العهود، وفي براءة: نبذ العهود". وسئل ابن عيينة فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94]، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن أُبي بن كعب إنما توهموا [ذلك]؛ لأن في الأنفال: ذكر العهود، وفي براءة: نبذ العهود): الأول إشارة إلى قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61]، والثاني: ما ذكر في آية السيف. قوله: (قال الله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94]: روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس: "لقي ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه، فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمات، فنزلت: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94]، وقرأ ابن عباس: (السَّلامَ) ". ووجه الاستدلال أن الكفار لما نبذوا العهد وأظهروا المحاربة، فالمناسب أن لا يُكتب إليهم في صدر الكتاب البسملة، لأنها أمارة أمان وسلامة؛ لما اشتملت على الاسم الجامع والوصف بما ينبئ عن جلائل النعم ودقائقها، وهو المراد من قوله" "اسم الله سلام وأمان"، كما أن المحارب حين طلب الأمان بالتسليم كان الواجب أن لا يقال له: لست مؤمناً؛ لأن السلام طلب سلامة وأمان. قال المصنف في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً) [النور: 61]: "إن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه".

سورة التوبة

قيل: فإنّ النبي عليه السلام قد كتب إلى أهل الحرب: "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ قال: إنما ذلك ابتداء، يدعُوهُم ولم ينبذُ إليهم، ألا تراه يقول" "سَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى"، فمن دعي إلى الله فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب: فقد اتبع الهدى، وأمّا النبذ: فإنما هو البراءة واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس ولا بأس: هذا أمان كله. وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدّان السابعة من الطول، وهي سبع، وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر، لأنهما معاً مئتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؛ بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سُورتان، وتركت (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لقول من قال: هما سورة واحدة. [(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكفِرِينَ) 1 - 2] (بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه براءة، (ومِنَ) لابتداء الغاية، مُتعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، كما يقول: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون (بَراءَةٌ) مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر: (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، كما تقول: رجل من بني تميم في الدار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم): يعني: اعترضوا على ابن عيينة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (متعلق بمحذوف وليس بصلة): أي: ظرف مستقر، وليس لغواً، كما في قولهم: برئت من الدين، فإنه صلة.

وقرئ: "براءة" بالنصب؛ على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران: "من الله" بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم. فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما نجدّد من ذلك، فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("من الله"، بكسر النون): قال ابن جني: "حكاها سيبويه، وهو أولى القياس، تكسرها لالتقاء الساكنين، غير أنه كثر استعمال "مِنْ" مع "لام" المعرفة، فهربوا من توالي الكسرتين إلى الفتح، وإذا كانوا قد قالوا: "قُم الليل" و"قل الحق"، ففتحوا، ولم يلق هناك كسرتان، فالفتح في (مِنْ اللَّهِ) لتوالي الكسرتين أولى". قوله: (لم عُلقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ ): يعني: كان المناسب أن تُنسب المعاهدة والبراءة كلاهما: إما إلى المؤمنين معاً، أو إلى ذاته عز وجل معاً، كما قال صاحب "التقريب"، وإنما علق البراءة بالله والرسول مع أن المعاهدة من المسلمين، وحق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة، فكأنه عاهد وبرئ. أجاب المصنف بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجود، أذن الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أولاً بالمعاهدة، فعاهدوا، ثم لما نقض المشركون العهد جدد الله إعلاماً آخر، وقال لهم: اعلموا أن الله ورسوله برئ منهم، فتبرؤوا أنتم أيضاً. ويمكن أن يُقال: إن المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله تعالى وإباحته، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه، وضم معه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم وتهديداً شديداً فينطبق عليه قول المصنف أولاً: "أذن الله"، وثانياً: "أوجب الله النبذ".

رُوي: أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناساً منهم، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا، وألا يتعرّض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) [التوبة: 5]، وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة، وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: "لا يؤدى عنى إلا رجل منى"، فلما دنا علىّ سمع أبو بكر رضي الله عنه الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قال صاحب "الانتصاف": "فيه سر، وذلك أنه لا يُسند العهد إلى الله تعالى في مقام يوهم شائبة النقض إجلالاً وتعظيماً لكبريائه، ألا ترى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا: "وإذا نزلت بحصن، فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله تعالى أم لا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله"، فتوقير عهد الله واجب، وقد تحقق من المشركين النكث، وتبرأ الله ورسوله منه، فأحرى بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله تعالى". قوله: (العضباء): وهي مشقوقة الأذن، وقيل: العضباء لقب لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن مشقوقة الأذن. قوله: (لا يؤدي عني إلا رجل مني): روى أحمد بن حنبل عن أبي جُنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي".

وروي: أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك، فأرسل علياً، فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أشيء نزل من السماء؟ قال: "نعم، فسر وأنت على الموسم، وعلىّ ينادى بالآي"، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام على يوم النحر عند جمرة العقبة، فقال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد: ثلاث عشرة. ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده: فقالوا عند ذلك: يا على، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد؛ إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل: إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى الترمذي عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله عنه، ثم دعاه، فقال: "لا ينبغي لحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي"، فدعا علياً رضي الله عنه وأعطاه إياه. قوله: (أمُرت بأربع): أي: أن أنادي بأربع. فإن قلت: ما فائدة النداء بقوله: "ولا يدخلن الجنة إلا كل نفس مؤمنة"؟ قلت: الإعلام بأن المشرك لا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان، كقوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5]، وهو من باب: لا رأينك هاهنا، يعني: أمرت بأن أنادي بأن يتصفوا بما يستعدون به أن يكونوا أهلاً للجنة، إذ لا يقبل منهم سوى هذا.

فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت: عن الزهري: أنّ براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها. وقيل: لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة. فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم، وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت: قالوا: نسخ وجوب الصيانة، وأبيح قتال المشركين فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (أو على التغليب): عطف على "لأنهم أومنوا"، أي: أطلق على عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر اسم الأشهر الحرم، لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو أطلق هذا الاسم على التغليب، يعني: غُلب ذو الحجة والمحرم، لأنهما من الأشهر الحرم بالاتفاق، على صفر وربيع الأول وبعض ربيع الآخر، لأنها ليست من الأشهر الحرم، فسموا بالأشهر الحرم. قوله: (وقيل: لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول): وهذا أقرب الأقوال، لأن نداء علي بالآيات كان يوم النحر عند جمرة العقبة، كما سبق. قوله: (للنسيء الذي كان فيهم): رُوي أنهم كانوا ينسئون الحج كل عامين من شهر إلى شهر آخر، ويجعلون الشهر الذي أنسؤوا فيه ملغي، فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويتركون العام الثاني على ما كان عليه الأول، فلا يزالون كذلك إلى خمس وعشرين سنة، ثم يستدير حينئذ الشهر الذي بُديء منه، وكانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع التي وصل ذو الحجة إلى موضعه، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً"، يعني: أن الله تعالى أدحض أمر النسيء، فإن حساب السنة قد استقام ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق السماوات والأرض. قوله: "السنة اثنا عشر شهرا"تأكيد في إبطال أمر النسيء. وروى محيي السنة في "شرح السنة": "أن العرب كانت في الجاهلية قد بدلت أشهر الحج، وذلك أنهم كانوا يعتقدون تعظيم هذه الأشهر الحرم، ويتحرجون فيها عن القتال، فاستحل بعضهم القتال فيها من أجل أن عامة معايشهم كانت من الصيد والغارة، وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وكانوا إذا استحلوا شهراً منها، حرموا مكانه شهراً آخر، وهو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة: 37]، ومعنى النسيء: تأخير تحريم رجب إلى شعبان، والمحرم إلى صفر، مأخوذ من: نسأت الشيء: إذا أخرته، وكان ذلك في كنانة، وإذا أخروا تحرمي المحرم إلى صفر، ومكثوا ذلك زماناً، ثم احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر إلى الربيع، فعلوا هكذا شهراً بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام، وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله". وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197] رواية عن بعضهم على غير هذه الطريقة.

(غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ): لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم، أي: مذلكم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب. [(وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) 3] (وَأَذانٌ) ارتفاعه كارتفاع (براءة) على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على (براءة)، كما لا يقال: "عمرو" معطوف على "زيد"، في قولك: زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان: بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما لا يُقال: "عمرو" معطوف على "زيد" في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد): ولقاتل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يُعطف على (بَرَاءَةٌ)، على أن يكون من عطف الخبر على الخبر، كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة، وأذان من الله ورسوله إلى الناس عامة. نعم، الأحسن الأوجه أن يكون عطف جملة على جملة، لئلا تتخلل بين الخبرين جمل كثيرة أجنبية، ولئلا يفوت التطابق بين المبتدأ والخبر تأنيساً وتذكيراً. قوله: (تلك إخبار بثبوت البراءة): يعني: قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يعني: هذه براءة ثابتة من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) إخبار من الله تعالى لمن خاطبهم بقوله: (عَاهَدتُّمْ)، بثبوت هذا الحكم في علم الله تعالى، وقوله: (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى

فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس؛ من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث. (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة، وقيل: يوم النحر؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله؛ من الطواف، والنحر، والحلق، والرمي. وعن على رضي الله عنه: أن رجلا أخذ بلجام دابته، فقال: ما الحج الأكبر؟ قال: يومك هذا، خل عن دابتي! وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع، فقال: "هذا يوم الحج الأكبر". ووصف الحج بالأكبر؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر؛ لأنه معظم واجباته؛ لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج فهو الحج الأكبر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... النَّاسِ) إخبارٌ منه تعالى لأولئك المخاطبين واجب التبليغ إلى كافة الناس في ذلك اليوم المخصوص، بما ثبت في حكم الله تعالى من تلك لبراءة. فقوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) إجمال لتفصيل ما أخبر أولاً من قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ)، إلى قوله: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)، المشتمل على التهديد والوعيد، بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [التوبة 1 - 2]، ومن ثم رتب عليه قوله: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالكلام مُدمج بعضه في بعض، الثاني مقرر للأول متضمن لمعنى زائد عليه. قوله: (أو جُعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر): عطف معنوي على قوله: "لأن العمرة"، كأنه قال: إنما سُمي مجموع الأركان بالحج الأكبر، لأن العمرة حج أصغر، أو سُمي بعض

وعن الحسن: سُمى يوم الحج الأكبر؛ لاجتماع المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة "الأذان" تخفيفاً، وقرئ "إن الله" بالكسر؛ لأنّ "الأذان" في معنى "القول". (وَرَسُولِهِ) عطف على المنوي في (بَرِيءٌ)، أو على محل "إن" المكسورة واسمها، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أركان الحج - وهو الوقوف بعرفة- بالحج الأكبر، لأنه مُعظم أركان الحج، وبقية الأركان دونه أو أصغر منه؛ تسمية لمعظم الشيء باسم كله. قوله: (حُذفت الباء التي هي صلة "الأذان" تخفيفاً): قال أبو البقاء: " (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) بفتح الهمزة، وفيه وجهان: أحدهما: هو خبر الأذان، أي: الإعلام من الله براءته من المشركين، والثاني: هو صفة، أي: وأذان كائن بالبراءة، وقيل: التقدير: وإعلام من الله بالبراءة، فالباء متعلقة بنفس المصدر". قوله: (أو على محل "عن" المكسورة): أي: (وَرَسُولُهُ) عطف على محل "إنَّ" المكسورة واسمها، على تقدير عدمها، وذلك لأن المكسورة لما لم تُغير المعنى جاز أن تقدم كالعدم، فتعطف على محل ما عملت فيه. هذا معنى قولهم: يُعطف على محلها مع اسمها. هذا على ما قرئ في الشاذة بكسر "إن" ظاهر، وأما على المشهورة بفتح "أن"؛ فلأنها في تأويل المكسورة، قال أبو البقاء: "هذا عند المحققين غير جائز، لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء، بخلاف المكسورة". قال ابن الحاجب: " (وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوف على "إن" باعتبار المحل، وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون، فإنهم إذا قالوا: يُعطف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على اسم "إن" المكسورة دون غيرها، توهموا أنه لا يجوز العطف على المفتوحة، والمفتوحة تنقسم إلى قسمين: قسم يجوز العطف على اسمها بالرفع، وقسم لا يجوز. فالذي يجوز: هو أن تكون في حكم المكسورة، كقولك: علمت أن زيداً قائم وعمرو، لأنه في معنى: إن زيداً قائم وعمرو، فكما جاز العطف ثم جاز هاهنا، ألا ترى أن "عَلِمَ" لا يدخل إلا على المبتدأ والخبر، يدل على ذلك وجوب الكسر في قولك: علمت إن زيداً لقائم، وإنما انتصب بعدها توفيراً لما يقتضيه "علمتُ" من معنى المفعولية، وإذا تحقق أنها في حكم المكسورة جاز العطف على موضعها. وإن كانت المفتوحة على غير هذه الصفة لم يجز العطف على اسمها بالرفع، مثل قولك: أعجبني أن زيداً قائم وعمراً، فلا يجوز غلا النصب، لأنها ليست مكسورة ولا في حكمها", وقال في غير هذا الموضع: "إنما لم يعطف على المفتوحة لفظاً ومعنى؛ لأنها واسمها وخبرها بتأويل خبر واحد، فلو قدرت أنها في حكم العدم لأخلت بموضوعها، بخلاف "إن" المكسورة، لأنها لا تُغير المعنى، فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض، كما جاز تقدير عدم الباء المؤكدة في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا"

وقرئ بالنصب؛ عطفًا على اسم "أن"، أو لأن الواو بمعني "مع"، أي: برئ معه منهم، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم؛ كقوله: (لَعَمْرُكَ) [الحجر: 72]. ويحكى أن أعرابيًا سمع رجلا يقرؤها، فقال: إن كان الله بريئًا من رسوله فأنا منه برئ، فلبيه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعليم العربية. (فَإن تُبْتُمْ) من الكفر والغدر (فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وإن تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء، فأعلموا أنكم غير سابقين الله، ولا فائتين أخذه وعقابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبالجر على الجوار): يعني: هو منصوب معطوف على اسم "أنَّ"، لكن مجرور لجوار قوله: (الْمُشْرِكِينَ)، نحو قولهم: جُحر ضب خرب. وهذا ليس بشيء؛ لأنه قد عُلم من قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة: 6] ومن مواضع في "كتابه" أن فائدة العطف على الجوار اكتساب المعطوف بعض معناه من المعطوف عليه، ولا يجوز ذلك هاهنا، وقال أبو البقاء: "ولا يكون عطفا ًعلى (الْمُشْرِكِينَ)؛ لأنه يؤدي إلى الكفر". قوله: (كقوله: (لَعَمْرُكَ): قال ابن قتيبة: لعمرك ولعمر الله: هو العمر، يقال: أطال الله عمرك وعمرك، وهو قسم بالبقاء، يريد المصنف أنه تعالى أقسم به صلى الله عليه وسلم هاهنا، كما أقسم به في قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ)، ويجوز من الله أن يقسم بأشياء غيره، كما لا يجوز منا أن نقسم بغير الله. قوله: (فلببه)، الجوهري: "لبيت الرجل تلبيباً: إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره، ثم جررته في الخصومة".

[(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) 4] فإن قلت: مم استثنى قوله: (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) [التوبة: 2]، لأن الكلام خطاب للمسلمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا)): يوهم أن هاهنا وجهاً آخر، قال أبو البقاء: " (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) في موضع نصب على الاستثناء من (الْمُشْرِكِينَ)، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر (فَأَتِمُّوا) ". واختار الأول صاحب "الكواشي" والقاضي، كأن التقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين الناكثين للعهد والذين لم ينقضوا العهد، سواء كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر أو أكثر أو غير محدودة، ثم استثنى من الجمع الذين ضُرب لهم أجل محدود فوق أربعة أشهر، ولم ينقضوا العهد، فأمروا أن يتموا عهدهم. وقوله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) جزاء شرط محذوف. وروى محيي السنة عن جماعة من المفسرين ما يقرب من هذا الوجه. واختار الزجاج والمصنف الوجه الثاني، لأن (إلاَّ) إذا جُعل استدراكاً كان قوله: (الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) مبتدأ، وهو متضمن لمعنى الشرط، فلذلك جيء في الخبر بالفاء، ورجح المصنف هذا الوجه بأن قوله: (عَاهَدتُّمْ) وقوله: (فَأَتِمُّوا) خطاب للمسلمين، وقوله: (فَسِيحُوا) أيضاً خطاب لهم على إضمار القول، فالمناسب أن يكون مستثنى منه، ليتطابقا،

ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى: أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين، فاتقوا الله في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بخلافه إذا جُعل مستثنى من (الْمُشْرِكِينَ)، اللهم إلا أن يُذهب إلى التأويل المذكور، وفيه تعسف كما قررناه، ولهذا قال: "وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا) ". وأيضاً على هذا يحسن عطف قوله: (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ) الآية، على جملة (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ)؛ ليؤذن بالتبري الكلي من المشركين، وأن هؤلاء المعاهدين قد استدرك منهم ضرورة، وغلا فالحق أن لا يستدرك أحد منهم، ولا يحسن هذا على المتصل. قال في "الانتصاف": "ويجوز أن يكون (فَسِيحُوا) خطاباً من الله، ولا يُضمر قبله: "قولوا"، ويكون الاستثناء من قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، أي: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين، إلا الباقين على العهد، ويكون فيه خروج عن خطاب المسلمين في (عَاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في (فَسِيحُوا)، والتفات بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ)، وقياسه: غير معجزي وأني مخزي الكافرين. وفيه افتنان وتفخيم للشأن، ثم يعود إلى الخطاب للمؤمنين في قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً) ". قوله: (أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين): يريد أن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

(لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً): لم يقتلوا منكم أحداً، ولم يضروكم قط (وَلَمْ يُظاهِرُوا): ولم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) عدوّا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُتَّقِينَ) وارد على سبيل التعليل، لأن التقوى وصف مرتب على الحكمين، أعني قوله: "فقولوا لهم: سيحوا"، وقوله: (فَأَتِمُّوا)، ومضمونها عدم التسوية بين الغادر والوافي. قوله: (كما عدت بنو بكر على خُزاعة): مُتعلق بقوله: "أن لا يُسوى بين القبيلين، فاتقوا الله في ذلك"، أي: فاتقوا الله في عدم التسوية، كما اتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسو بين بني بكر وبني خزاعة، وقال: "لا نُصرت إن لم أنصركم". روي محيي السنة: "دخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة، فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسلاح". قوله: (عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الجوهري: "العيبة: ما تُجعل فيه الثياب، والجمع: عيب وعياب"، النهاية: "في الحديث: "الأنصار كرشي وعيبتي": أي: خاصتي وموضع سري، والعربُ تكنى عن الصدور بالعياب؛ لأنها مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع الثياب". في "الفائق": "استعار الكرش والعيبة لموضع السر والأمانة، لأن المجتر يجمع علفه في رشه، والرجل يحمل ثيابه في عيبته".

حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشده: لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نصرت إن لم أنصركم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (لاهم إني ناشد محمداً) الأبيات: "لا هم": أصله: اللهم، والميمان عوضان عن حرف النداء عند البصريين، وجوز سيبويه أن يكون "لاه" أصله اسم "الله"، ثم أدخلت عليه اللام، فجرى مجرى العلم كالعباس، وأصله: يا لاه، فأبدل الميم من حرف النداء، فصار: لاهم. "ناشد": من قولهم في الاستعطاف: نشدتك بالله، أي: سألتك بالله، وطلبت إليك بحقه، ومعنى: إني سائل محمداً، أي: سائل ربي النصرة بمحمد صلى الله عليه وسلم. "الحلفُ" بالكسر: العهد بين القوم، والأحلاف: الذين يحالفون القوم على النصرة والوفاء. "الأتلد": أفعل التفضيل؛ من التالد: القديم. "حلف أبينا": منصوب بمضمر، أي: اذكر وراع الذمام القديم الذي جرى بين آبائنا، وكان بين عبد المطلب وخُزاعة حلف قديم. و"الحطيم": الذي فيه الميزاب، وهي الحجر، وسُمي به لأنهم كانوا في الجاهلية يحلفون فيهن فيحطم الكاذب. قيل: فغضب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى مكة، ونصر الله رسوله، وشفى الله صدور خزاعة من بني بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، كما قال تعالى: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: 15].

وقرئ: (لم ينقضوكم) بالضاد معجمة، أي: لم ينقضوا عهدكم. ومعنى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ): فأدّوه إليهم تامّاً كاملًا. قال ابن عباس: بقي لحىّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم. [(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 5] انسلخ الشهر: كقولهم انجرد الشهر، وسنة جرداء. (والْأَشْهُرُ الْحُرُمُ): التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) يعنى: الذين نقضوكم وظاهروا عليكم، (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ أو حرم، (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم. والأخيذ: الأسير (وَاحْصُرُوهُمْ): وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: حصرهم: أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام. (كُلَّ مَرْصَدٍ): كلّ ممرّ ومجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف، كقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (انجرد الشهر)، النهاية: "في الحديث: "لأجردنك كما يجرد الضب"، أي: لأسلخنك كما يُسلخ الضب، لأنه إذا شُوي جُرد من جلده". الأساس: "ومن المجاز: وجردهم الجارود والجارودة، أي: العام والسنة. وسنة جرداء: كاملة منجردة عن انلقصان، وما رأيته منذ أجردان وجريدان، أي: نهاران. قوله: (وانتصابه على الظرف، كقوله: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]): أي: على صراطك، وهو من الشواذ.

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر، أو: فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله: خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ وعن ابن عباس رضي الله عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر. [(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) 6] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. الانتصاف: "ويحتمل أن يكون "المرصد" مصدراً؛ لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد، واقعدوا: في معنى: ارصدوا، ويقرب الظرفية قوله: (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، فيطابق الظرفية في المكانين". قوله: (فأطلقوا عنهم بعد الأسر): هذا على أن يكون (وَاحْصُرُوهُمْ) مفسراً بالقيد والمنع من التصرف. قوله: (أو: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم): هذا على أن يكون معنى (وَاحْصُرُوهُمْ): أن يُحال بينهم وبين المسجد الحرام، وعلى التقديرين فمعنى: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) كناية، إما عن افطلاق أو عدم التعرض. قوله: (خل السبيل لمن يبني المنار به): تمامه: وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر برزة: اسم أم عمر بن لجأ التيمي، قال الجوهري: "البيت لجرير"، يهجو يقول: دع

(أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرًا يفسره الظاهر، تقديرُه: وإن استجارك أحد استجارك، ولا يرتفع بالابتداء؛ لأنّ "إن" من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك؛ ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، ويتبين ما بعثت له فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جُبير: جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ ! قال: لا، لأنّ الله تعالى يقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) الآية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبيل الرشاد لمن يطلبه ويتعاناه، وابرز منه على الطريق الغي والضلال إذا اضطرك قضاء الله وقدره، فإن من يضله الله فلا هادي له، ولا ينفع الحذر عما قضى وقدر. قوله: (وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه): هذا يوجب تفسير قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) بالناقضين كما قال، وتقدير غير المعاهدين عند قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)؛ لأن قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) عطف على قوله: (فَإِنْ تَابُوا)، فالفاء تفصيلية، المعنى: اقتلوا المشركين الناقضين وغير الناقضين، أما حكم الناقضين: فإنهم إن تابوا وأقاموا الصلاة فخلوا سبيلهم، وغير المعاهدين: إن جاءك أحد منهم فاستأمنك لسماع ما تدعو إليه فأمنه، فالآية من باب قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) [النساء: 95] في أحد وجهيه.

وعن السدّي والضحاك: هي منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 5]. (ذلِكَ) أي: ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله (فَأَجِرْهُ) بسبب بِأَنَّهُمْ (قوم) جهلة (لا يَعْلَمُونَ) ما الإسلام؟ وما حقيقة ما تدعو إليه؟ فلا بُدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق. [(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَابى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) 7 - 8] (كَيْفَ) استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم، يعنى: مُحال أن يثبت لهؤلاء عهد، فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم، ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، أي: ولكن الذين عاهدتم منهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة، فتربصوا أمرهم، ولا تقاتلوهم، (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) على العهد، (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على مثله، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى: أن التربص بهم من أعمال المتقين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وغرة صدورهم)، الجوهري: "الوغرة: شدة توقد الحر، ومنه قيل: في صدره عليَّ وغر، بالتسكين، أي: ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ، والمصدر بالتحريك، تقول: وغر صدره على يوغر وغراً". قوله: (ولا تفكروا في قتلهم): الرواية بتخفيف الكاف المكسورة، الجوهري: "أفكر في الشيء وفكر فيه وتفكر، بمعنى".

(كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال: وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ يُريد: فكيف مات؟ أي: كيف يكون لهم عهد، وَحالهم أنهم (وإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد، ولم يبقوا عليكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) لا يراعوا حلفاً. وقيل: قرابة، وأنشد لحسان: لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ وقيل (إِلًّا) إلها. وقرئ: "إيلا"؛ بمعناه، وقيل: جبرئيل، وجبرئل، من ذلك. وقيل: منه اشتق "الآل" بمعنى القرابة، كما اشتقت "الرحم" من" الرحمن، والوجه أن اشتقاق "الإلّ" بمعنى "الحلف"، -لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه- من "الإل"، وهو الجؤار، وله أليل: أي: أنين يرفع به صوته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخبرتُماني) البيت: قبله: لعمركما إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتي غداً لقريب قائلهما كعب الغنوي يرثي أخاه. "الهضبة": الجبل المنبسط علىوجه الأرض، والجمع: هضب وهضاب. و"القليب": البئر؛ لقلب التراب منها. قوله: (لعمرك إن إلك) البيت: "السقب": الذكر من ولد الناقة، "الرأل": ولد النعام. قوله: (من الإل، وهو الجؤار): خبر "إن"، وقوله: "بمعنى الحلف": حال من "الإل"، والتعليل معترض بين الاسم والخبر، يعني: الوجه الصحيح أن يُقال: إن أصل "الإل" في

ودعت ألليها: إذا ولولت، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إلّ، وسميت به القرابة؛ لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق. (يُرْضُونَكُمْ) كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. اللغة: الجؤار، وهو رفع الصوت، واشتق منه الحلف؛ لما فيه من رفع الصوت، ثم كثر استعماله في الحلف، حتى اشتهر في كل حلف، وإن لم يكن فيه رفع الصوت، ثم استعمل في كل عقد موثق، سواء كان فيه الحلف أم لم يكن، ولما وُجد هذا المعنى في القرابة أكثر كانت تسميتها به أولى، وإليه الإشارة بقوله: "لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق". وإنما كان هذا الوجه أوجه من كونه مشتقاً من "الإل" الذي هو بمعنى: الإله؛ لأن المأخوذ منه إذا كان عربياً كان أولى من كونه سريانياً، قال الزجاج: "وقيل: الإل: اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بالوجه؛ لأن أسماء الله معروفة معلومة في الكتاب والسنة، ولم يسمع يا إل". قوله: (ودعت ألليها): عطف على قوله: "وله أليل"، أي: يُقال كذا ويقال كذا. الجوهري: "يجوز أن يُريد الألل، ثم ثنى، كأنه يريد صوتاً بعد صوت، وأن يريد حكاية أصوات النساء بالنبطية إذا صرخن". قوله: (وإباء القلوب: مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه): "إباء القلوب" مُبتدأ، و"مخالفة ما فيها" الخبر، و"لما يجرونه على ألسنتهم" متعلق بالمخالفة، والجملة تفسير لقوله: (وَتَابَى قُلُوبُهُمْ)، يعني: تأبى قلوبهم مخالفة الباطن الظاهر؛ أما الباطن فما في القلوب من الحقد، وأما الظاهر فهو إجراء كلمة الرضا على ألسنتهم.

(وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ): متمرّدون خلعاء، لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادي عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء. [(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) 9 - 10] (اشْتَرَوْا) استبدلوا (بِآياتِ اللَّهِ): بالقرآن والإسلام (ثَمَناً قَلِيلًا)، وهو إتباع الأهواء والشهوات، (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ): فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (يُرْضُونَكُمْ) حال من فاعل (لا يَرْقُبُوا) عند قوم، وليس بشيء"، وقال القاضي: " (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد، المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالاً من فاعل (لا يَرْقُبُوا)، فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين، ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال، واستبطان الكفر والمعاداة، بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم، والحالية تنافيه". وكذا عن أبي البقاء. قوله: ((وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) متمردون خلعاء): والكافر إذا وُصف بالفسق دل على نهاية ما هو فيه من الكفر، ودل بمفهومه أن بعضهم ليسوا كذلك، وهو المراد من قوله: "كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عن الكذب" يُقال: تفادي الرجل عن كذا: إذا تحاماه. و"مِن" مُتعلقُ بـ "تردعهم". قوله: (أو صرفوا غيرهم): يعني: قوله تعالى: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ): إما لازم من الصدود، أي: العدول، أو متعد من: صده إذا صرفه. الجوهري: "صد يصد صدوداً: أعرض، وصده عن الأمر صداً: منعه وصرفه عنه، وأصده: لغة".

وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (هُمُ الْمُعْتَدُونَ): المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة. [(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) 11] (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر ونقض العهد (فَإِخْوانُكُمْ): فهم إخوانكم، على حذف المبتدأ، كقوله: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [الأحزاب: 5]، (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ): ونبينها، وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم؛ بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وقيل: هم الأعراب): عطف على محذوف، يدل عليه قوله: "وهو اتباع الأهواء والشهوات"، لأن الثمن القليل - على الأول- مجاز عن استبدال متابعة الشهوات بالإيمان، والمشتري جميع الكفار أو المنافقون، وعلى الثاني: الثمن القليل ما أطعمهم أبو سفيان، والمشتري الأعراب. ثم المناسب على الأول أن يكون "صدوا" بمعنى: عدلوا، وعلى الثاني بمعنى: صرفوا، والتفسير الأول أقرب إلى النظم، لأن قوله: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) جملة مستأنفة كالتعليل لقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 8]، وفيه: أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا ولذاتها. قوله: ((وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ): وتبينها، وهذا اعتراض): أي: تأكيد لمضمون ما سبق من أول السورة، وعام في الإيراد، ومن ثم قال: "وإن من تأمل تفصيلها". وقوله: (يَعْلَمُونَ) مطلق، نحو: فلان يعطي ويمنع، ولهذا قال: "فهو العالِم". وفي كلامه -وهو"إن من تأمل تفصيلها فهو العالم" - إشعار أن (يَعْلَمُونَ) وُضع موضع "يتفكرون"

[(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) 12] (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ): وثلبوه وعابوه، (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ): فقاتلوهم، فوضع (أئمة الكفر) موضع ضميرهم؛ إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغيانًا وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله، ويقولون: ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر، وذوو الرياسة والتقدّم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنًا ظاهراً جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده، وخرج من الذمّة. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) جمع يمين، وقرئ: "لا إيمان لهم"، أي: لا إسلام لهم، أو: لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه. فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ)، ثم نفاها عنهم؟ قلت: أراد: أيمانهم التي أظهروها، ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن يمين الكافر لا تكون يمينًا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... و"يتأملون" وضعاً للمسبب موضع السبب بعثاً وتحريضاً، لأن العلم مطلوب لذاته، فالسامع إذا سمع ذلك اجتهد في التأمل والتدبر، لينخرط في سلك العالمين. قوله: (إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله): كذا عن الزجاج ومحيي السنة.

وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وعند الشافعي): قال الإمام: "وعند الشافعي أن يمينهم يمين، ومعنى الآية: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان، والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه تعالى وصفها بالنكث". وقلت: مثله قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]، قال صاحب "المفتاح": "وصف أهل الكتاب في صدره بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، وآخره نفاه عنهم حيث لم يعملوا بعلمهم". ويُمكن أن يُقال: إن في وضع المظهر - وهو قوله: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) - إشعاراً بأن أيمانهم تلك لم تكن إلا خديعة بالمؤمنين واستهزاء، ولم تكن من الأيمان الحقيقية في شيء، ولكن لما أجري عليها حكم الأيمان الحقيقية بأن قبلت، ورفع عنهم بسببها التعرض بالقتل والنهب، وأمنوا من سائر التبعات، سميت أيماناً، ووصفت بالنكث، نحوه مر في قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: 9]، قال المصنف: "كانت صورة صنعهم مع الله - حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر - صورة صُنع المخادع، وصورة صنع الله -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد أخبث الكفرة - صورة صنع الخادع". فظهر أن اعتداد الأيمان منهم وإن لم يكن حقيقة، إنما هو لأجل فوائد دينية ومصالح منوطة بها، لا أنها أيمان حقيقة، فلما أظهروا النكث ارتفع الاعتداد بها ورجعت إلى ما كانت، فقيل: (إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ)، وهكذا مبني الأيمان، فإنها لقطع الخصومات والمطالبات في الحال، لا أنها مسقطة للحق، وتحصل بها براءة الذمة في المآل.

(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)، أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم: أن تكون المقاتلة سببًا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه، وفضله، وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت: كيف لفظ (أئمة)؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن مُسلم وأبي داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟ " قال: لا، قال: "فلك يمينه"، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس بتورع عن شيء، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك". فانطلق ليحلف ... الحديث. وأما حديث القسامة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئم اليهود بخمسين، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار": فمشهور، أخرجه الشيخان وغيرهما. وقيل: ومن فائدة الخلاف أنه لو أسلم بعد انعقاد اليمين وحنث فيه: لا كفارة فيه ند أبي حنيفة، وعند الشافعي عليه الكفارة. قوله: (همزة بعدها همزة بين بيْن): قال أبو البقاء: "لا يجوز أن تُجعل بينَ بين، كما جُعلت همزة "أإذا"، لأن الكسرة هاهنا منقولة، وهناك أصلية، ولو خففت الهمزة الثانية هاهنا على القياس لكانت ألفاً؛ لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرك ذلك لتتحرك بحركة الميم في الأصل"، وفيه نظر.

وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة): في "التيسير": "قرأ الكوفيون وابن عامر: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)، بهمزتين حيث وقع، وأدخل هشام بينهما ألفاً، والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد". وفي "الكواشي": أصل "أئمة": أءممة؛ أفعلة، جمع إمام، كعماد وأعمدة، نُقلت كسرة الميم الأولى إلى الهمزة، ثم أدغمت في الثانية، فصارت: أئمة، ثم قلبت الهمزة ياء فصارت: أيمة، وزعم بعضهم أن النحاة لا يجيزون اجتماع همزتين للثقل، وفي زعمه نظر؛ لصحة نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل لتواتره، فيجب لذلك أن تُجعل لغة للعرب استعملت على الأصل، وهو أقيس وإن ثقل! وزعم أيضاً أن التصريح بالياء ليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف! وفي زعمه نظر؛ لأن أكثر القراء يقرؤون بهمزة بعدها ياء مكسورة. وقلت: وفي النظر نظر، لأن قوله: "فليس بقراءة" معناه: أن أحداً من القراء السبعة لم يقرأ بها، وهو كذلك، كما نقلناه عن صاحب "التيسير"، ولكن النظر من وجه آخر، وهو أنه ذكر في "المفصل": "إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين، كقولهم: آدم وأيمة". وقال ابن الحاجب في "شرحه": "يجب عند النحويين أن تُقلب الثانية حرف لين، وقلبها حرف لين على حسب حركتها إن أمكن ذلكن كقولك: أيمة، بياء محضة".

[(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 13] (أَلا تُقاتِلُونَ) دخلت الهمزة على "لا تُقاتِلُونَ"؛ تقريراً بانتفاء المقاتلة، ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة، (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها في المعاهدة، (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه، (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولًا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة؛ لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادءون بالقتال، والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله؟ ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو شامة في شرح قوله: "وفي النحو أبدلا": أي: رأى أهل النحو إبدال الهمزة ياء في "أيمة"، نص عليه أبو علي في "الحجة"، ووجهه: النظر إلى أصل الهمزة، وهو السكون، وذلك يقتضي الإبدال مطلقاً، وتعينت الياء للكسرة، ولم يوافق أبو القاسم الزمخشري أهل النحو، واختار مذهب القراء في "الكشاف". وأما في "المفصل" فهو حكاية قول النحويين. قوله: (تقريراً بانتفاء المقاتلة): قيل: "تقريراً" من الإقرار لا من القرار، أي: يجعلهم مقرين باتنفاء القتال: وقلت: العكس أولى؛ لأن حرف الاستفهام دخل على نفي المقاتلة، والكلام

وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد، وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب: حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فتقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى: أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى: (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب: 39] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. مع الذين قعدوا عن المقاتلة، فمعنى قوله: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً): أنتم بعد مستقرون على ما كنتم عليه من عدم المقاتلة! يوبخهم على التمريض عن القتال، ويحرضهم عليه على المبالغة، والاستفهام إذا كان للتقرير قرر الفعل الذي دخل عليه، فظنوا أن تقريراً لا يُعدى بالباء، فقالوا: هو بمعنى الاعتراف، وقد جاء تعديته بها، قال الجوهري: "القرار في المكان: الاستقرار فيه، وقررت بالمكان"، وعليه قوله بعد هذا: " (أَتَخْشَوْنَهُمْ) تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها". قوله: (وبخهم بترك مقاتلهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض): يعني: وَلَّدَ ذلك التوبيخ معنى الحض على المقاتلة، فرتب ذلك الحكم على الوصف المناسب، وهو نكث العهد وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والبدء بالقتال. قوله: (أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه): وذلك أن المؤمن إذا اعتقد أن لا ضار ولا نافع إلا الله، وأن أحداً لا يقدر أن يضره أو ينفعه إلا بإذنه ومشيئته، فلا يخاف إلا ربه. روينا في "مُسند أحمد بن حنبل" وفي "سنن الترمذي" عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن

[(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 14 - 15] لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال (قاتِلُوهُمْ)، ووعدهم -ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلًا، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم، (وَيَشْفِ صُدُورَ) طائفة من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضي الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ، قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال: "أبشروا فإن الفرج قريب"، (وَيُذْهِبْ غَيْظَ) قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوّته (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضًا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ: "ويتوب" بالنصب بإضمار "أن" ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ): يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان (حَكِيمٌ): لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك". قوله: (جرد لهم الأمر به): يعني: لما أمرهم بالقتال في ضمن الاستفهام التوبيخي في قوله: (أَلا تُقَاتِلُونَ) صرح الأمر به في قولهم: (قَاتِلُوهُمْ) تقريراً أو تأكيداً. قوله: (وقرئ: "ويتوب"، بالنصب؛ بإضمار "أن"، ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى): قال ابن جني: "هي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى وعمرو بن عبيد، ورويت عن أبي عمرو، فالتوبة داخلة في جواب الشرط معنى، لأن التقدير: إن يُقاتلوكم

[(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) 16] (أَمْ) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى نتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة -أي: بطانة- من الذين يصادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، (وَلَمَّا) معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. تكن هذه الأشياء، أي: يُعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويُذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء. وفيه ضرب من التعسف، لأن هذه الحال موجودة من الله تعالى، قاتلوهم أو لم يقاتلوهم، فلا وجه لتعليقها بقتالهم، إلا أن يُقال: هو كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعطي زيداً درهماً، فتنصبه على إضمار "أن"، أي: إن تزرني أجمع بين الإحسان إليك والإعطاء لزيد. والوجه قراءة الجماعة على الاستئناف". تم كلامه. ويمكن أن توجه قراءة النصب بوجه آخر، وهو أن يُقال: لا شك أن مقاتلتهم سبب لتوهين أمرهم وفل شوكتهم، فتقل بذلك نخوتهم وحميتهم، ويكون ذلك سبباً لاستكانتهم وخضوعهم، فيتدبروا ويتأملوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه على الحق المبين، وأنهم على الباطل والزيغ، فيرجعوا عن كفرهم إلى الإسلام، كما شُوهد من أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد ابن الوليد وعكرمة وغيرهم، عليه قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [النصر: 1 - 3]، هذا هو المراد من كلام المصنف: "ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى". قوله: (وليجة - أي: بطانة - من الذين يصادون رسول الله صلى الله لعيه وسلم): عن بعضهم: الوليجة: ما

وقوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) معطوف على (جاهدوا)، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة؛ من: ولج، كالدخيلة؛ من دخل، والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل في، يريد: ما وجد ذلك منى. [(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) 17] (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ): ما صح لهم وما استقام "أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ"، يعنى: المسجد الحرام، لقوله: (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [التوبة: 19] وأما القراءة بالجمع: ففيها وجهان: أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل: (مساجد) لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد؛ لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتخذه الإنسان معتمداً عليه، وليس من أهله، من قولهم: فلان وليجة في القوم: إذا لحق بهم وليس منهم، إنساناً كان أو غيره. قوله: (وأما القراءة بالجمع): أي: (مَسَاجِدَ اللَّهِ)، كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو. قوله: (كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفي لقراءته القرآن): فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما سبق في آخر البقرة: أن "الكتاب" أكثر من "الكتب"؟ قلت: بلى، لأن الكلام هاهنا في كتاب واحد- وهو القرآن- لا الجنس، كما أن ظاهر الآية في مسجد واحد،

(وشاهِدِينَ) حال من الواو في (يَعْمُرُوا)، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر، فعيروهم بالشرك، فطفق علىّ ابن أبى طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا! فقال: أولكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة، وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن، وإلى ذلك أشار في قوله شاهِدِينَ حيث جعله حالا عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وهو المسجد الحرام، فإذا قيل: أن يعمروا مسجد الله، لم يكن من الكناية في شيء، فلا يدل على المبالغة، بخلافه لو قيل: مساجد الله. وأما في آخر البقرة فكان المقتضى الجمع ليناسب (وَمَلائِكَتِهِ) (وَرُسُلِهِ) [البقرة: 285]، فعدل إلى الإفراد للمبالغة أيضاً. قوله: (أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة): مذهبه، والآية لا دلالة لها عليه، قال في "الانتصاف": "أصاب في حديث الكفر، وأخطأ في الكبيرة، فهو على قاعدته"، أي: مُعتَقَدِه.

[(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) 18] (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ) -وقرئ بالتوحيد-، أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء، وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر -ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله وأعظمه-، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلًا عن فضول الحديث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي، يأتون المساجد، فيقعدون فيها حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة"، وفي الحديث: "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش"، وقال عليه السلام: "قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضى المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره"، وعنه عليه السلام "من ألف المسجد ألفه الله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وعن أنس رضي الله عنه: "من أسرج في مسجد سراجًا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قلت: وكذلك ما أصاب في الكفر الطارئ، لأنه سبق في البقرة عند قوله تعالى: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [البقرة: 25] بيانه. قوله: (ما استرم منها)، الجوهري: "استرم الحائط: إذا حان له أن يرم، وذلك إذا بَعُدَ عهده بالتطيين". و"قمها": كنسها، والمقمة: المكنسة، وقممت البيت: كنسته، والقمامة: الكناسة، والجمع: قمام.

فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فإن قلت: كيف قيل (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)، والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران: أحدهما حق الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (لما عُلم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم)، إلى قوله: (انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان بالرسول): وخلاصة الجواب: أن في الكلام دلالة على ذكره، وليس فيه بيان الفائدة في طي ذكره، ويمكن أن يُقال: إن الكلام لما وقع في عدم استقامة الجمع بين عمارة بيت الله والإشراك بالله، وفي استقامة العمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه يدعو الناس إلى توحيده وعبادته، لم يذكره، ولكن ذكر لفظاً جامعاً يجمعه صلى الله عليه وسلم وغيره، كأنه قيل ما ينبغي لهم أن يعمروا مساجد الله، والحال أنهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، وإنما يستقيم ممن يؤمن بالله ويأمر الناس بالإيمان بالله بالعبادة كائناً من كان. والمراد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو آكد، لأن طريقه الكناية. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً في لفظة "مَنْ"، لم يحسن أن يُقال: "ورسوله"، ونحوه قوله تعالى: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) إلى قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) [الأعراف: 158]، كائناً من كان، فإذن الكلام ليس في إثبات نبوته والإيمان به، بل فيه نفسه وعمارته المسجد الحرام واستحقاقه لها.

والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفى تلك الخشية عنهم. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين "عسى" و"لعل"، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى؟ ! وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله. [(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 19] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (أن يخاف الله) أي: وأن يخاف الله إذا اعترضه أمران، والجملة معطوفة على قوله: "وأن لا يختار- على تقدير: وهي أن لا يختار - على رضا الله رضا غيره"، لأنه تفسير للتقوى في أبواب الدين. قوله: (بأن الذين آمنوا): الباء متعلق بقوله: "تبعيد"، و"اهتداؤهم" خبر "أن". قوله: (اهتداؤهم دائر بين "عسى" و"لعل")، إلى قوله: (ورفض الاعترار بالله): مؤذن بأن "عسى" على ظاهره، وقد تقرر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بالتعظيم، وأن من قبله جدير بما بعده؛ لما عدد له من الخصال الفاضلة، ثم في مزيد التعميم في قوله: (مِنْ

السقاية والعمارة: مصدران؛ من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية، ولا بُد من مضاف محذوف، تقديره: (أَجَعَلْتُمْ) أهل سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي -وكان من القراء-: "سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام"، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. الْمُهْتَدِينَ): الدلالة على الكناية والمبالغة في التعظيم، على أن الآية في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما سبق، وكل ذلك لا يليق بما قال. والقول ما قاله محيي السنة: "و"عسى" من الله واجب، أي: أولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعته التي تؤدي إلى جنته". يؤيده ما روينا عن الترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "، ولهذا استدل محيي السنة بهذا الحديث على الوجوب، فعلى هذا ليس الحق مع المصنف وصاحب "الانتصاف"، فإنه قال: "أكثرهم قالوا: إن "عسى" من الله واجب، ظناً أن استعمالها غير مصروف للمخاطبين. والحق مع الزمخشري، أي: حال هؤلاء المؤمنين حال من يطمع في الاهتداء، وإلا فالعاقبة عند الله معلومة". قوله: (وكان من القراء): قيل: كان أبو وجزة مشهوراً بالشعر، فلذلك قال: كان من القراء.

وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروى: "أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل". وقيل: إن عليا قال للعباس: يا عمّ، ألا تهاجرون؟ ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ أسقى حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام! فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال عليه السلام: "أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيراً". [(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) 20 - 22] هم أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من أهل السقاية والعمارة عندكم، (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لا أنتم، والمختصون بالفوز دونكم. قرئ: (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف والتثقيل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجعل تسويتهم ظلماً): عطف من حيث المعنى على قوله: "إنكار أن يشبه"، أي: أنكر أن يشبه، وجعل تسويتهم ظلماً، حيث وضع المظهر موضع المضمر في قوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). قوله: (وقيل: إن علياً قال للعباس رضي الله عنهما: يا عم، ألا تهاجرون! ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره: يؤذن أن العباس كان مسلماً، والآية نزلت وهو مسلم، وقوله قبل هذا: "نحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجد الحرام ونسقي الحجيج" يشعر بأنه لم يكن مسلماً. قوله: (قرئ: (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف): أي: بفتح الياء، مِنَ: بشر؛ حمزة. والباقون: بالتثقيل.

وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هي في المهاجرين خاصة. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) 23 - 24] وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويُصارم أقاربه الكفرة، ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه، فلا يلتفت إليه، ولا ينزله، ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة، فنهى الله تعالى عن موالاتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يطعم أحدكم طعم الإيمان، حتى يحبّ في الله، ويبغض في الله؛ حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه". وقرئ: "عشيرتكم: ، و"عشيراتكم"، وقرأ الحسن: "وعشائركم". (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وعيد، عن ابن عباس: هو فتح مكة، وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (حتى يحب في الله، ويبغض في الله): عن أبي داود عن أبي ذر: "أفضل الأعمال الحب في الله والبُغض في الله".

كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أي طرفيه أطول؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (ما يستحب له دينه): "ما" في "ما يستحب" مفعول "يجد"، وفاعل "يستحب" ضمير "أورع" مستتر فيه، و"دينه" مفعوله، و"يتجرد" يجوز أن يكون معطوفاً على "يجد" أو على "يستحب". قوله: (أم يزوي الله عنه): الجوهري: "زوي فلان المال عن وارثه زياً"، ومنه قوله: فيا لَقُصيٍّ ما زوى الله عنكم أي: ما نحي الله وقبضه. قوله: (لمصلحته): أي: للابتلاء، كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) [البقرة: 155]، إلى قوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 157]. قوله: (أي طرفيه أطول؟ ): قيل: لا تُدرى نسبته من قبل أبيه أطول - أي: أفضل - أم نسبته من قبل أمه، يُضرب عند التحير، هذا قول الأصمعي، وقال غيره: المراد به الذكر واللسان، وقيل: وسط الإنسان: سُرته، أي: طرفه الأسفل أطول أم أعلاه.

ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره! [(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 25 - 27] مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها، قال: وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَاىَ طُحْتَ كَمَا هَوَي ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (كأنما وقع الذباب في أنفه): قيل: هو عبارة عن الدهش والتحير، كما ترى بعض المجانين، والظاهر أنه كناية عن قلة الالتفات وعدم المبالاة. قوله: (وكم موطن لولاي) البيت: الجوهري: "الوطن: مكان الإنسان ومحله، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، قال طرفة: على موطن يخشى الفتى عنده الردى"

وامتناعه من الصرف؛ لأنه جمع وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان -وهو يَوْمَ "حُنَيْنٍ"- على "المواطن"؟ قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو: في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، ويجوز أن يراد بالموطن الوقت، كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون "يوم حنين" منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أنّ قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من "يوم حنين"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "طحت": أي: هلكت، هوى من جبل عالٍ يهوى هوياً: سقط، "بأجرامه": بثقله، و"قلة النيق": رأس الجبل، والجمع: نياق. يقول: رُب موطنٍ لولاي هلكت فيه كما يهلك الذي يسقط من رأس الجبل. قوله: (كيف عُطف الزمان والمكان - وهو "يوم حنين" - على "المواطن"؟ ): قيل: يعني: أن الفعل كما يقتضي ظرف المكان يقتضي ظرف الزمان، فلا يجوز أن يُجعل أحدهما تابعاً للآخر، كما لا يُعطف المفعول به على المفعول فيه، ولا الفاعل على المفعول، ولا المصدر على شيء من ذلك، ولا بالعكس. قال صاحب "الانتصاف": "لا مانع من عطف ظرف الزمان على المكان، كعطف أحد المفعولين على الآخر، تقول: ضرب زيدٌ عمراً يوم الجمعة وفي المسجد، كما تقول: ضربت زيداً وعمراً، مع أنه لابد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين، فإنك إذا قلت: اضرب زيداً اليوم وعمراً غداً، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، والفعلُ واحدٌ في الصياغة، فيجوز في الآية أن يكون كل واحد من الظرفين على حاله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. واستدلال الزمخشري على وجوب إضمار فعل؛ بأن (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل، وكثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن: غير لازم، تقول: اضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، فالناصب للظرفين واحد، وهما متغيران، وإنما يمتنع أن ينصب الفعل الواحد ظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف". وعليه قول القاضي: "ولا يمتنع إبدال قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه، وأن يُعطف على موضع (فِي مَوَاطِنَ)، فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف، حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن". وقال صاحب "التقريب" - تقريباً لقول المصنف -: الواجب أن يُنصب "يوم حنين" بـ "نصر" مضمراً؛ لئلا يعطف زمان على مكان، بل يكون عطف جملة، لا بهذا الظاهر، عن جُعل (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلاً من "يوم حنين"، لا منتصباً بـ "اذكر"؛ إذ التقدير على البدلية نصركم في مواطن كثيرة زمان أعجبتكم كثرتكم. ولا يصح؛ لأن الإعجاب والكثرة لم يكونا في جميع تلك المواطن, وقد يقال: يمكن أن ينتصب بهذا الظاهر مطلقاً لا مقيداً بالظرف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وغاية الجواب: أنه إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف، نحو: صليت قائماً في المسجد، فالمعنى: أن الصلاة المقيدة بالقيام وقعت في المسجد، والحال في المعنى ظرف، فيعتبر في الثاني ذلك الظرف، كما يُعتبر في الحال. وللبحث فيه مجال. وقلت: تمام التقرير أن المصنف سأل: كيف يعطف ظرف الزمان على ظرف المكان، ومراعاة المناسبة واجبة عند علماء البيان دون النحويين! على أن الأصوليين ذكروا أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات، كالحال والشرط وغيرهما. هذا هو المراد من كلام المصنف وصاحب "التقريب": لا يعطف زمان على مكان، وأن لابد من تقدير عامل آخر؛ إما "عند يوم حنين"، لأن (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من "يوم حنين"، وإما "عند (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) "، لأنه لو لم يقدر لزم أن يكون (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قيد النصر المذكور، فيلزم الإعجاب في جميع تلك المواطن، والواقع بخلافه. وأما تنزيل جواب المصنف على هذا التقرير: فهو أن المناسب أن يُقدر في الظرف الأول ما يناسب الثاني، أو في الثاني ما يناسب الأول، على أن الواجب أن يضرب عن هذا صفحاً، لأن هذا ليس من باب عطف المفرد على المفرد، حتى تراعى فيه المناسبة المعتبرة، أو جواز مثل: ضرب زيدٌ عمراً يوم الجمعة وفي المسجد، كما ذكره صاحب "الانتصاف"، بل هو من عطف الجملة على الجملة؛ إما على تقدير ناصب من جنس المذكور، أو تقدير "اذكر" من غير إبدال، لئلا يلزم المحذور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وبيانه: أن "نصر" مطلق، وتقييده بحسب كل واحد من الظرفين، فإن الأحوال والظروف كلها تقييدات للفعل المطلق، فإذا قُيد احد بقيد لزم تقييد الفعل به، لأن القيد بيان المراد من المطلق، فيسري منه إلى الآخر. لعل هذا هو المعنى من قول صاحب "التقريب": إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف، نحو: صليت قائماً في المسجد، فيعتبر في الثاني ذلك القيد. هذا البحث قريب من قولهم المتعقب: الجمع للحمل. وقيل: عُطف قوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) على (مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ)، على منوال: (وَمَلائِكَتُهُ ... وَجِبْرِيل) [البقرة: 98]، كأنه قيل: نصركم الله في أوقات كثيرة، وهي أوقات وقعة بدر وقريظة والنضير وفتح مكة وغيرها، وفي وقت أعجبتكم، فلا يلزم المحذور. فيُقال: المقام لا يساعد عليه، لأن الكلام غير وارد لبيان أفضلية بعض الوقعات على بعض، ولأنه لم يذكر (مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) توطئة لذكر "يوم حنين"، كما ذكر (وَمَلائِكَتُهُ) توطئة لذكرهما، إذ ليس حنين بأفضل من يوم بدر، وهو فتح الفتوح وسيد الوقعات، وبه نال السابقون الأولون القدح المعلى، وفازوا بالدرجات الأسنى، ولأن المقصود من إفراد الذكر بعد الاشتراك الإيذان بأن هذا الفرد قد خرج من ذلك الجنس بسبب اكتسابه الفضائل والمزايا، وكأنه جنس آخر لتغايره في الوصف. نعم، يمكن أن يُقال: إن الكلام وارد للامتنان على الصحابة بنصرته إياهم في المواطن الكثيرة، وكانت النصرة في هذا اليوم المخصوص أجل امتناناً، كما شُوهد منهم ما يُنافي النصرة

فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقى أن يكون ناصبُه فعلًا خاصاً به، إلا إذا نصبت "إذ" بإضمار" اذكر. و"حنين": واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين -وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضمًا إليهم ألفان من الطلقاء-، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الإعجاب بالكثرة، ولولا فضل الله وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، لتمت الدائرة عليهم، والنصرة للأعداء. ألا ترى كيف أقيم المهر مقام المضمر في قوله: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، ليؤذن بأن وصف الرسالة والإيمان أهلا الانتصار بعد الفرار، والعفو عن الاغترار، ومن ثم عدل إلى اليوم من المواطن، لأنهم إنما يستعملونه فيما يستكرهونه من الوقعات، نحو: يوم ذي قار ويوم بُعاث، وقالوا: أيام العرب، وقال تعالى: (أَيَّامِ اللَّهِ) [الجاثية: 14]، وينصره قوله تعالى: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). قوله: (إلا إذا نصبت): استثناء من قوله: "الواجب أن يكون" إلى آخره؛ أي: الواجب أن يكون "يوم حنين" منصوباً بفعل مضمر، لأن قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل منه، إلا إذا نصبت (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بإضمار "اذكر"، فإنه على هذا لا يكون بدلاً منه، فإذن لا يجب "يوم حنين" أن ينتصب بفعل مضمر، بل يكون منصوباً بهذا الظاهر، ولا يلزم الإعجاب والكثرة في جميع المواطن، ويجوز أن يكون مستثنى من قوله: "فينبغي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً"، والمعنى عائد إلى الأول. قوله: (منضماً إليهم): قيل: هو حال من "الذين"، لا من فاعل "حضروا"، لأنه يلزم منه أن يزيدوا على اثني عشر ألفاً.

وبين هوازن وثقيف -وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب، فكان الجمّ الغفير-، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: "لن نغلب اليوم من قلة"، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: أبو بكر، وذلك قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) - فاقتتلوا قتالًا شديداً، وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر، لا كثرة الجنود، فانهزموا، حتى بلغ فلهم مكة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وقلت: الصحيح أنه حال منه، وقوله: "الذين" مع صلته: بدل من "اثنا عشر ألفاً" والمعنى: وهم الذين حضروا مكة، وكانوا عشرة آلاف، وانضم إليهم ألفان من الطلقاء، فصاروا اثني عشر ألفاً. قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": "حُنين: وادٍ بينه وبين مكة ثلاث ليال، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة حشدت هوازن وثقيف، فجاؤوا بأموالهم وأهليهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في اثني عشر ألفاً"، القصة إلى آخرها. قوله: (لن نُغلب اليوم من قلة): هو مثل قوله تعالى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) [الفرقان: 73]، قال: (لَمْ يَخِرُّوا) ليس نفياً للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى". كذا "لن نُغلب" ليس نفياً للمغلوبية، وإنما هو إثبات له ونفي للقلة، يعني: متى غُلبنا كان سببه غير القلة، هذا - من حيث الظاهر - ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، مثله قول الشاعر: . غلتْ نابٌ كليبٌ بواؤها

وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس آخذ بلجام دابته، وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الواحدة شهادة صدق على تناهى شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا من آيات النبوّة، وقال: يا رب ائتني بما وعدتني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يتحلحل): أي: لا يزول، الأساس: وتحلحل عن المكان: تحرك". قوله: (ليس معه غلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته، وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه): عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم مدبرين يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحُسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل، كأنها رجلٌ من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك"، ثم صفهم، قال البراء: كنا - والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان صيتا: "صيح بالناس"، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً، وهم يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، عليهم البياض، على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين، فقال: "هذا حين حمى الوطيس"، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. وقوله: "رجلٌ من جراد"، النهاية: "الرجل- بالكسر-: الجرادُ الكثير". قوله: (فخذاً فخذاً)، النهاية: "وهم أقرب العشيرة إليه، وأول العشيرة: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ". قوله: (يا أصحاب الشجرة): وهي الشجرة التي هي في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18]. قوله: (يا أصحاب البقرة): قيل: أريد المذكورون في قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) [البقرة: 285]، وقيل: الذين نزل عليهم سورة البقرة. قوله: (فكروا عنقاً): قال المصنف: أي: جماعة، من قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) [الشعراء: 4]، أي: رؤساؤهم أو الجماعات. قوله: (هذا حين حمى الوطيس)، النهاية: "الوطيس: التنور"، وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ويُقال: أول من قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يومئذ، ولم يُسمع قبله، وهو من أحسن الاستعارات. قوله: (ثم أخذ كفاً من تراب، فرماهم به): عن مُسلم: عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم أخذ كفاً من

ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة" فانهزموا، ، قال العباس: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته. (بِما رَحُبَتْ): "ما" مصدرية، والباء بمعنى "مع"، أي: مع رحبها، وحقيقته: ملتبسة برحبها، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي ملتبسا بها لم أحلها، تعنى: مع ثياب السفر، والمعنى: لا تجدون موضعًا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم، (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ): ثم انهزمتم. (سَكِينَتَهُ): رحمته التي سكنوا بها وآمنوا، (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا، وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب، (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) يعنى: الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: خمسة آلاف، وقيل: ستة عشر ألفا، (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر، وسبى النساء والذراري. (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ) أي: يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى: أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبرّ الناس، وقد سبى أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا -قيل: سبى يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى-، فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا: إما ذراريكم ونساءكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله. قوله: (ملتبساً بها لم أحلها): بيان لهيئة عند الدخول، وتصوير لتلك الحالة، كذلك، قوله: (بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها، بيان لهيئة الأرض، وهي مع سعتها ضاقت بهم.

وإما أموالكم"، قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه"، قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: "إني لا أدرى، لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا"، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 28] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً): الأساس: "فلان لا حسب له ولا نسب، وهو ما يحسبه ويعده من مفاخر آبائه". روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اختاروا من أموالكم أو من نسائكم"، فقالوا: بل نختار نساءنا. وفي "النهاية": "قال لهم: "اختاروا إحدى الطائفتين؛ إما الأموال وإما السبي"، فقالوا: أما إذا خيرتنا بين الأموال والحسب.، فإنا نختار الحسب، فاختاروا أبناءهم ونساءهم: أرادوا أن فكاك الأسرى وإيثاره على استرجاع المال حسب وفعال حسن، فهو بالاختيار أجدر".

النجس: مصدر، يقال: نجس نجساً، وقذر قذراً، ومعناه: ذو ونجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو: جعلوا كأنهم النجاسة بعينها؛ مبالغة في وصفهم بها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن: من صافح مشركًا توضأ، وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ: نجس، بكسر النون وسكون الجيم، على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل، إنما المشركون جنس نجس، أو: ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعًا لـ"رجس"، وهو تخفيف "نجس"، نحو: كبد، في كبد. (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ): فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية (بَعْدَ عامِهِمْ هذا): بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ويدل عليه قول علىّ رضي الله عنه حين نادى بـ (براءة): "ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك"، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء: أن المراد بـ (المَسْجِدِ الحَرَامِ): الحرم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأكثر ما جاء تابعاً لـ "رجس"): أي: أكثر ما جاء "نجس" بكسر النون. الجوهري: "قال الفراء: إذا قالوه مع "الرجس" أتبعوه إياه، قالوا: رجس نجس، بالكسر". قوله: (ذهب أبي حنيفة): أي: يحمل قوله: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) على: أن لا يحجوا بعد حج عامهم هذا، فلا يدل حينئذ على أنهم يمنعون من دخول المسجد الحرام، قال القاضي: "إنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو المنع عن دخول الحرم".

وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه. وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي: فقرًا بسبب منع المشركين من الحج، وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدرارا، فأغزر بها خيرهم، وأكثر ميرهم، وأسلم أهل تبالة وجرش، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه): وهو على منوال: لا أرينك هاهنا. وأجراه القاضي على ظاهره، وقال: "فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع". وقال صاحب "الانتصاف": "وقد يستدلون بها على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، لا سيما المناهي، وهو بعيد؛ لأن الظاهر من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي، والمراد خطاب المؤمنين، لأن الآية مصدرة بخطابهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وآخرهم خطابهم: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وهو من باب: لا أرينك هاهنا". هذا كلام متين. قوله: (أهل تبالة)، النهاية: "تبالة - بفتح التاء وتخفيف الباء-: بلدة صغيرة من بلاد اليمن معروفة، وفي المثل: أهون من تبالة على الحجاج". و"جُرش": بضم الجيم وفتح الراء: مخلافٌ من مخاليف اليمن، وبفتحهما: بلد في الشام، والمخلاف في اليمن: كالرستاق

فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته. وعن ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف، وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب، وأغناهم بالجزية، وقيل: بفتح البلاد والغنائم. وقرئ: عائلة، بمعنى المصدر كالعافية، أو: حالا عائلة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في العراق. وقال الميداني: "تبالة: بلدة صغيرة من بلاد اليمن، قيل: إن أول عمل وليه الحجاج عمل تبالة، فلما قرب منها، قال للدليل: أين هي؟ قال: سترها عنك هذه الأكمة، فقال: أهون بعمل بلدة تسترها عني أكمة، ورجع عن مكانه، فقالت العرب: أهون من تبالة على الحجاج. قوله: (أعود عليهم)، الجوهري: "العائدة: العطف والمنفعة، يقال: هذا الشيء أعود عليك من كذا، أي: أنفع". قوله: (أغناهم بالجزية، وقيل: بفتح البلاد): يشهد للأول قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الآية، لأنها واردة لبيان قوله: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). قوله: (وقرئ: "عائلة"): قال ابن جني: "هذه من المصادر التي جاءت على "فاعلة"، كالعافية والعاقبة، ومنه قوله تعالى: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) [الغاشية: 11]، أي: لغواً، ومنه قولهم: مررت به خاصة، أي: خصوصاً. وأما قوله تعالى: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [المائدة: 13]: فيجوز فيه أن يكون مصدراً، أي: خيانة، وأن يكون على تقدير: نية خائنة، أو: عقيدة خائنة، وكذا هاهنا، يُقدر: إن خفتم حالاً عائلة، والمصدر أحسن".

ومعنى قوله: (إِنْ شاءَ): إن أوجبت الحكمة إغناءكم، وكان مصلحة لكم في دينكم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) لا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب. [(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) 29] (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان لـ (الَّذِينَ) مع ما في حيزه، نفى عنهم الإيمان بالله؛ لأنّ اليهود مثنية، والنصارى مثلثة، وإيمانهم باليوم الآخر؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نفى عنهم الإيمان [بالله]؛ لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة): إنما علل قوله: "نفي عنهم الإيمان" بهذا، لأن قوله: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) [التوبة: 30] جملة مفسرة لقوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)؛ على طريقة: أعجبني زيد وكرمه، ولأن الأمر بمقاتلة أهل الكتاب وارد على سبيل الاستطراد لذكر المشركين، لجامع الاشتراك. ومن ثم لما فرغ من كلامهم عاد إلى نوع آخر من قبائح المشركين، وهو القول بالنسيء، وجعل قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ) [التوبة: 36] توطئة لذكره، والجامع بينه وبين ما قبله- وهو قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28]- أن كل واحدٍ منهما حديث في الحرمة؛ تعظيم المكان والزمان، والمنع من هتك المشركين بتينك الحرمتين، وتوبيخهم بذلك. قوله: (وإيمانهم): نصبٌ؛ عطفاً على "الإيمان بالله"، وكذا "تحريم ما حرم الله"، وكذا "أن يدينوا". وقوله: "وأن يعتقدوا دين الإسلام": عطف تفسيري لقوله: "أن يدينوا".

لأنهم فيه على خلاف ما يجب، وتحريم ما حرم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة، وعن أبى روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق، وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا: إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه؛ أي: يقضوه، أو: لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل، (عَنْ يَدٍ) إما أن يراد: يد المعطى أو الآخذ: فمعناه على إرادة يد المعطى: حتى يعطوها عن يد: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يجزوه): متعلق بقوله: "على أهل الذمة"، أي: طائفة من التي وجبت على أهل الذمة أن يقضوه، فالجزية من الجزء والتجزئة، وعلى الوجه الآتي من الجزاء، يُقال: جزيته بما صنع جزاء وجازيته. قوله: (إما أن يُراد: يد المعطي أو الآخذ) على آخره: خلاصته: أن (عَنْ يَدٍ): إما أن يُحمل على يد المعطي، فهو على وجهين: إما أن يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام من المسلمين عليهم. قال صاحب "التقريب": وفي الوجوه نظر، لأن الكلام في "أعطى عن يده"، ولا يفيده كون: أعطى يده أو بيده؛ بمعنى: انقاد، إذ لو ورد: "أعطى عن يده" بمعناه، كان كافياً، وأيضاً هذه المضمرات الثلاث لا دلالة عليها، اللهم إلا قرينة الجزية، وأيضاً على تقدير جعل اليد للآخذ كان حقه: "إلى يد"، فإما أن يكون على إقامة بعض الحروف مقام بعض، أو على أن التقدير: عن جهة يد قاهرة أو عن جهة إنعام، نحو: كساه عن العُري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وفي كلامه تعقيد، وخلاصته: أن المضمرات لا دلالة عليها في الآية، فيُقال: لا شك أن "أعطي" لا يُعدى بـ"عن" إلا على جهة التضمين، نحو قوله: ينهون عن أكل وعن شرب أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب، وأن "اليد" تستعمل بإعانة القرائن: تارة في معنى الانقياد، كما قال عثمان رضي الله عنه: "هذي يدي لعمار"، أي: أنا مستسلم له منقاد، فليحكم علي. وتنزيل الآية على هذا: حتى يصدر إعطاؤهم الجزية عن انقياد وطاعة منهم. وأما استشهاده بقوله: أعطي بيده وأعطى يده - وهما كنايتان عن الانقياد، وما نحن بصدده من قبيل المجاز - فلمجرد المعنى، ولبيان العلاقة المعتبرة في المجاز، والتنبيه على الاستعمال. وتارة في معنى الحلول والأداء، كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري في الربا: "يداً بيد"، فتنزيلها عليه: حتى يعطوها إياكم صادرة عن يد إلى يد، أي: نقداً. وأخرى في معنى النعمة، أي: بسبب إنعام منكم عليهم، أو: يعطوها صادرة عن يد، أي: نعمة حاصلة لهم، هي إبقاء أرواحهم وأخذ شيء قليل منهم بدلها، وإطلاق اليد على النعمة باب واسع.

أي: عن يد مؤاتية غير ممتنعة، لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأخرى بمعنى القدرة والغلبة، ومما ورد في حديث يأجوج ومأجوج: "وقد أخرجت عباداً لي لا يدان لحد بقتالهم"، فالتقدير: يعطوها إياكم بسبب قدرة لكم عليهم، كما يأخذ القاهر المستولي من المستولى منه. وأمثال هذه المعاني لا تخفى على من له اليد الطولي في المعاني والبيان. على أن الزجاج قد ذكر الوجوه فقال: " (عَنْ يَدٍ) أي: عن ذل عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم، وقيل: عن يد قهر، فهو كما تقول: اليد في هذا لفلان، أي: الأمر النافذ له، وقيل: عن نعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم وترك أنفسهم عليهم نعمة عظيمة". وأما صاحب "الانتصاف" فقد أنصف وقبل الوجوه بأسرها، وقال في قوله: "حتى يعطوها عن يد إلى يد [نقداً] غير نسيئة": "هو كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى قوله - يداً بيد) "، وفي قوله: "عن يد قاهرة مستولية، أو المراد باليد هاهنا الإنعام": "هذا الوجه أملأ بالفائدة". قوله: (عن يد مؤاتية): أي موافقة، الجوهري: "تقول: آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة: إذا وافقته وطاوعته".

بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده: إذا انقاد وأصحب، ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو: حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثا على يد أحد، ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ. وأما على إرادة يد الآخذ: فمعناه: حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو: عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم: نعمة عظيمة عليهم. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي: تؤخذ منهم على الصغار والذل، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة، ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا انقاد وأصحب)، الأساس: "أصحب له الرجل والدابة: إذا انقاد له، ومعناه: دخل في صحبته بعد أن كان نافراً عنه، أو صار ذا صاحب". قوله: (عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً): "غير نسيئة" و"لا مبعوثاً" صفتان لـ "نقد"؛ الأولى: صفة مؤكدة، والثانية: مميزة، وذلك أن "عن عَنْ يَدٍ إلى يد" صريحة أن يأخذ المستحق حقه من يد الغريم إلى يده، ثم صار كناية عن المنجز مطلقاً، سواء أعطاه من يده إلى يد، أو بعثه إلى يد غيره، فهاهنا لو اقتصر على قوله: "نقداً غير نسيئة" لاحتمل المعنى الآخر، فقال: "لا مبعوثاً على يد غيره"؛ ليشملهما معاً، ومقام التحقير والهوان يقتضيه، فوجب حمله عليهما، ونظيره قوله تعالى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف: 149] فإنه كناية عن الندم، ولا يمتنع من إرادة عض اليد معه أيضاً، لأن الكناية لا تنافي إرادة حقيقته. قوله: (يتلتل تلتلة)، الأساس: "تلتله: أزعجه. ولقوا منه التلاتل". قوله: (ويُزخ في قفاه)، الجوهري: "زخه: دفعه في وهدة، وفي الحديث: (ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه حتى يقذف به في نار جهنم) "، أخرجه الدارمي.

وتسقط بالإسلام عند أبى حنيفة رضي الله عنه، ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبى حنيفة: تُضرب على كل كافر؛ من ذمي ومجوسي وصابئ وحربي، إلا على مشركي العرب وحدهم، روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان من العرب، وقال لأهل مكة: "هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب، وأدّت إليكم الجزية العجم"، وعند الشافعي لحمه الله: لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبى حنيفة رضي الله عنه في أوّل كل سنة: من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهما، ومن المتوسط في الغنى: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف؛ ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له، وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنيًا، كان له كسب أو لم يكن. [(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) 30] (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) مبتدأ وخبر، كقوله: (المسيح ابن الله)، وعزير: اسم أعجمى، كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه، ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأما قول من قال: سقوط التنوين لالتقاء الساكنين -كقراءة من قرأ: "أحد الله" [الإخلاص: 1 - 2]، أو لأنّ "الابن" وقع وصفًا، والخبر محذوف، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (ومن نون فقد جعله عربياً): وهو عاصم والكسائي. قوله: (وأما قول من قال: سقوط التنوين لالتقاء الساكنين ... فتمحُّل): قال الزجاج: "قرئت (عُزَيْرٌ) بالتنوين وبغير تنوين، والوجه إثبات التنوين، لأن (ابْنُ) خبر، وإنما يُحذف التنوين في الصفة، نحو: جاءني زيد بن عمرو؛ لالتقاء الساكنين، فإن النعت والمنعوت

وهو معبودنا -فتمحل عنه مندوحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كالشيء الواحد، وإذا كان خبراً فالتنوين، وقد يجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين على ضعف، نحو: "قل هو الله أحد* الله الصمد" [الإخلاص: 1 - 2]، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون الخبر محذوفا، أي: عزير ابن الله معبودنا". قوله: (فتمحُّل): الجوهري: "تمحل: احتال، فهو متمحل". قوله: (عند مندوحة): "مندوحة" مبتدأ، و"عنه" خبره، والجملة صفة "تمحل". بيان التمحل ما نقله الإمام عن الشيخ عبد القاهر: أنه طعن في هذا الوجه في كتاب "دلائل الإعجاز"، وقال: "الاسم إذا وُصف بصفة، ثم أخبر عنه، فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر، وصار ذلك الوصف مسلماً، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم: "عزير ابن الله معبودنا"، لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم، وحصل تسليم كونه ابناً لله، وذلك كفر". ثم قال الإمام: "وهذا الطعن ضعيف، أما قوله: "إن من أخبر عن ذات موصوفة بأمر من الأمور، وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر": فهذا مسلم، وأما قوله: "ويكون ذلك تسليماً للوصف"، فهذا ممنوع، لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر كونه مصدقاً لذلك الوصف، إلا أن يُقال: تخصيص ذلك الخبر يدل على أن ما سواه لايكذبه، وهذا بناء على دليل الخطاب، وهو ضعيف". وقلت: هذا الكلام يحتمل أمراً آخر، وهو أن يُقال: إن المراد من إجراء تلك الصفة

وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم، عن ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الضيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول: أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة، ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل، فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه، لا يخرم حرفا، فقالوا: ما جمع الله التوراة في صدره، وهو غلام، إلا أنه ابنه. والدليل على أن هذا القول كان فيهم: أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب. فإن قلت: كل قول يقال بالفم، فما معنى قوله" (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)؟ قلت: فيه وجهان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. على الموصوف بناء الخبر عليه، فحينئذ يرجع التكذيب على جعل الوصف علة للخبر، فبطل ذلك التمحل. قوله: (وما هو بقول كلهم): اعتذار عن نسبة هذه الهيئة إلى اليهود، وهم يتبرؤون عنه. قال الإمام: "القائل بهذا المذهب بعض اليهود، إلا أنه نسب ذلك إلى الجميع بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد"، ثم قال: "ولعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم، ثم انقطع، فحكى الله تعالى عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود لذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق". قوله: (فيه وجهان): فإن قلت: فهلا يعتبر التأكيد، نحو: رأيته بعيني، وقلته بفمي، وأخذته بيدي؟ قلت: يأباه المقام؛ لأن المقصود الإخبار عن ذلك القول الشنيع الذي يخرج من أفواههم، من غير تحاش ولا مبالاة، كقوله تعالى: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ

أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى: لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، ومالا معنى له: مقول بالفم لا غير. والثاني: أن يراد بالقول: المذهب، كقولهم: قول أبى حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه، ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له، لم تبق شبهة في انتفاء الولد. "يُضاهِؤُنَ" لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره: يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعًا. والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعنى: أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو: يضاهي قول المشركين: "الملائكة بنات الله". وقيل: الضمير للنصارى، أي: يضاهي قولهم: "المسيح ابن الله"، قول اليهود: "عزير ابن الله"، لأنهم أقدم منهم. وقرئ (يضاهؤن) بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ؛ على فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض، وهمزتها مزيدة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15]، ولا يقال ذلك الأسلوب إلا في أمر يعظم مثاله، ويعز الوصول إليه، ليؤذن على نيله وحصوله. قوله: (وقرئ: (يُضَاهِئُونَ) بالهمزة، من قولهم: امرأة ضهيأ، على: فعيل) إلى قوله: (وهمزتها مزيدة): قيل: الصواب أن يُقال: أو همزتها مزيدة، وإلا ففي كلامه تناقض؛

كما في "غرقئ". (قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي: هم أحقاء بأن يقال لهم هذا؛ تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله، ما أعجب فعلهم! (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق؟ [(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) 31] اتخاذهم أربابًا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، كما يُطاع الأرباب في أوامرهم، ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ) [سبأ: 41]، (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم: 44]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن "ضهيأ" همزتها أصلية، ويجوز أن تكون الواو بمعنى "أو"، وقيل: جاء بقوله: "فعيل" لمجرد الوزن لا لبيان الأصل. وقال الزجاج: "و"ضهيأ": فعلأ، الهمزة زائدة، ما زيدت في "شمأل" و"غرقئ"، ولا نعلم زيادة الهمزة غير أول إلا في هذه الأشياء، ويجوز أن تكون "فعيل"، وإن كانت بنية ليس لها في الكلام نظير، فإنا قد نعرف كثيراً مما لا يأتي له نظير، من ذلك قولهم: كنهبل، وهو الشجر العظام، وتقديره: فنعلل، وكذلك: قرنفل، وتقديره: فنعلل، ويجوز أن يكون (يُضَاهِئُونَ) من هذا بالهمز، وتكون همزة "ضهيأ" أصلاً". قوله: (كما في غرقئ): قال الفراء: همزته زائدة، لأنه من الغرق، وهو قشر البيض الذي تحت القيض، والقيض: ما يعلق من قشور البيض الأعلى.

وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله، فتحرّمونه، ويحلون ما حرّمه الله، فتحلونه؟ " قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". وعن فضيل: ما أبالى أطعت مخلوقًا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح: فحين جعلوه ابنا لله، فقد أهلوه للعبادة، ألا ترى إلى قوله: (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف: 81]، (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أمرتهم بذلك أدلة العقل، والنصوص في الإنجيل، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وعن عدي بن حاتم) الحديث: من رواية الترمذي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: اطرح عنك هذا الوهن"، وسمعته صلوات الله عليه يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)، قال: "إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا ًحرموه". النهاية: "في حديث عمران بن حصين: "أن فلاناً دخل عليه، وفي عضده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الواهنة، قال: أما إنها اتزيدك إلا وهناً"؛ الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها، وربما علق عليها جنس من الخرز، يقال لها: خرز الواهنة، وإنما نهاه عنها، لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، فكان في معنى التمائم المنهي عنها". قوله: (ألا ترى إلى قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) [الزخرف: 81]: يعني: معنى الألوهية مقتض للعبودية، ومن جُعل ابناً للإله الحق فقد استحق أن يعبد لما وُجد فيه ذلك المعنى، فإن قُدر كذا فأنا أول من قام بما وجب عليه.

والمسيح عليه السلام: (إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) [المائدة: 72]، (سُبْحانَهُ): تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في (وَما أُمِرُوا) للمتخذين أرباباً، أي: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابًا، وهم مأمورون مستعبدون مثلهم. [(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) 32 - 33] مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق -يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة- ليطفئه بنفخه، ويطمسه. (لِيُظْهِرَهُ): ليظهر الرسول عليه السلام (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحق على كل دين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قوله: (ويجوز أن يكون الضمير في (وَمَا أُمِرُوا)): عطف من حيث المعنى على قوله: "أمرتهم بذل"، والضمير فيه للمتخذين، بكسر الخاء، وعلى هذا: للمتخذين، بفتحها. إنما خص المصنف ما يختص بالنصارى بالذكر، والظاهر العموم في اليهود والنصارى، لدلالة السياق عليه، أو لأن النصارى أو غلُ في إثبات هذا المعنى. قوله: (مثل حالهم) إلى آخره: وهو استعارة مصرحة تمثيلية، والمستعار جملة الكلام، لأن حالهم في محاولة إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه، وهو مطوي، والمشبه به حال من يريد أني نفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، المعنى بقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، وهو الطرف المذكور.

فإن قلت: كيف جاز: "أبى الله إلا كذا"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ترشيح للاستعارة، لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه، فهو تفريع على الأصل، أي: المشبه به، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) تجريد للاستعارة، وتفريعٌ على الأصل، ورُوعي في كل من الممثل والممثل به معنى الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى، وما شأن نور يُضاف إلى الله تعالى، وكيف السبيل إلى إطفائه، لا سيما بالفم! ومن ثم قال: "في نور عظيم منبث في الآفاق"، وتمم كلاً من الترشيح والتجريد بقوله: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وأوهم التناسب بين الكفر والإطفاء، لأن الكفر التغطية والستر، وبين الشرك ودين الحق، لأن دين الحق التوحيد. ويجوز أن يُجعل (نُورَ اللَّهِ) استعارة تحقيقية، والقرينة الإضافة، والمراد بالنور رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) [الأحزاب: 45 - 46]، شبهه صلوات الله عليه - لما جلى الله تعالى به ظلمات الشرك، وهدى به الضالين- بالنور وبالسراج المنير الذي يحرق ظلمات الليل البهيم، فيهتدى به، ثم أطلق اسم النور أو السراج على المشبه المتروك، ثم رشح الاستعارة بـ (يُطْفِئُوا)، لأنه صفة ملائمة للمشبه به، وهو السراج، ولذلك قال: (بِأَفْواهِهِمْ)، وأما قوله: (وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)، فكما سبق في الاستعارة الأولى، والله أعلم. قوله: (كيف جاز: أبي الله إلا كذا)، أي: كيف جاز أن يكون الاستثناء المفرغ في الكلام الموجب؟ قال الزجاج: "زعم بعض النحويين أن في "يأبى" طرفاً من الجحد، والجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف، وأداة الجحد "لا" و"ما" و"لم" و"لن" و"ليس"، ولا يكون الإيجاب جحداً، ولو جاز هذا لجاز: كرهت إلا أخاك، ولا دليل هاهنا على المكروه ما هو؟ لكن معناه: يأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره".

ولا يقال: كرهت -أو: أبغضت- إلا زيداً؟ قلت: قد أجرى "أبى" مجرى "لم يرد"، ألا ترى كيف قوبل (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) بقوله: (وَيَابَى اللَّهُ) وكيف أوقع موقع "ولا يريد الله": (إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ). [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) 34 - 35] معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب المصنف عنه: بأن الدليل الدال على إرادة الجحد إيقاع قوله: (وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) مقابلاً لقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ)، يعني: هم يريدون الإطفاء، والله تعالى لا يريد إلا الإتمام. وكأن صاحب "الانتصاف" رد هذا التأويل بقوله: "لا يقال: إن الإباء بمعنى نفي الإرادة، فكما صح الإيجاب بعد نفي الإرادة، فينبغي أن يصح بعد ما هو في معناه، لأنا نقول: لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجيء الإيجاب". وقلت: لعله نسي قول المصنف في قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) بالرفع: "هذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللف جانباً، لأن المعنى: فلم يطيعوه إلا قليل منهم". قوله: (أن يُستعار الأكل للأخذ): وذلك بأن تشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق اولابطل، وتفرقة بين الحلال والحرام، للتهالك على الدنيا والحرص على جمع

ألا ترى إلى قولهم: أخذ الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأموال يؤكل بها، فهي سبب الأكل. ومنه قوله: يأكلن كل ليلة إكافا يريد: علفا يشتري بثمن إكاف. ومعني أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الحكام والتخفيف والمسامحة في الشرائع. (والَّذِينَ يَكْنِزُونَ) يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى؛ تغليظًا ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله؛ سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. حُطامها، بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول. ولا طائل تحت هذه الاستعارة، واستشهاده بقولهم: "أخذ الطعام وتناوله" أسمج، والوجه هو الثاني، وما قال القاضي: "سُمي أخذُ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه". قوله: (أخذ البراطيل)، الأساس: "البرطيل: هو الحجر المستطيل، ومنه: ألقمه البرطيل، وهو الرشوة، وبرطل فلان: أرشى، ومنه قولهم: إن البراطيل تنصر الأباطيل". قوله: (ويجوز أن يُراد المسلمون الكانزون): يريد أن التعريف في (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) للعهد، والمعهود: إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون؛ لجري ذكر الفريقين، والأولى حمله على العموم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "المرشد": (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) هو وقف حسن إذا جعلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) في موضع رفع بالابتداء، وخبره: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وإليه ذهب أبو حاتم، وإن ذهب به إلى النصب؛ بالعطف على قوله: (كَثِيراً)، أي: إن كثيراً منهم ليأكلون والذين يكنزون يأكلون أيضاً، فالوقف على قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ولكن ليس بحسن، لأن قوله: (يَوْمَ يُحْمَى) ينتصب بالظرف، والعامل فيه ما قبله. وقلت: لا يخفى على من له مسكة أن الثاني بعيد عن مقتضى البلاغة، والأول هو الوجه، ليكون كالتذييل للكلام السابق - ويؤيده إجراؤه على العموم، لأن قوله: (فَبَشِّرْهُمْ) أمر لكل من تتأتى منه البشارة بالعذاب بأن يبشر؛ على التهكمية، فالتعريف في (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) إذن للجنس، فيدخل في هذا العموم الأحبار والرهبان دخولاً أولياً-، وليُعلم أن قصدهم في أخذ الرشا كان كنز المال والضن بها. وأما قضية النظم: فإنه تعالى لما أخبر المؤمنين أن أخذ الرشا لإبطال الحق دأب الأحبار والرهبان، لئلا يتصفوا به، بين أيضاً أن قصدهم فيه جمع الأموال والمنع من حقوق الله،

وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز، وقيل: هي ثابتة، وإنما عنى بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدّى زكاته فليس بكنز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيعلموا أن الجمع من الحلال مع منع الحقوق منه داخل في ذلك الحكم ومستوجب للبشارة بالعذاب الأليم. وفيه أن القصد في الجمع لا ينبغي أن يكون إلا للإنفاق في سبيل الله، ولا يصلح إلا لذلك، روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المكثرون، إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم يا أبا هريرة"، وفي جعلهم في الآخرة "الأقلين"، وفي الدنيا "قليلاً: لطيفة. وينصر دلالتها على العموم: ما روينا عن البخاري عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: "اختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية، فقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ)، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه كلام في ذلك"، الحديث. وما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله؛ إما على الجنة، وإما إلى النار"، الحديث. قوله: (ما أدى زكاته فليس بكنز) الحديث عن البخاري ومالك وابن ماجه عن ابن عمر: "قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) الآية، فقال ابن

وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز، وإن كان ظاهراً"، وعن عمر رضي الله عنه: أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها، فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله، وإن كان على ظهر الأرض. فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن الجعد: أنها لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تباً للذهب، تبا للفضة"، قالها ثلاثاً، فقالوا له: أيّ مال نتخذ؟ قال" "لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تُعين أحدكم على دينه"، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها"، وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كية"، وتوفى آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال "كيتان"؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها ويلٌ له، هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرة الأموال". قوله: (احفر له تحت فراش امرأتك): كناية عن المبالغة في الحفظ واختيار حرز حريز. قوله: (بما روى سالم بن [أبي] الجعد)، الحديث: من رواية أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت الآية قال بعض أصحابه: فلو علمنا أي المال خير اتخذنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه". قوله: (وتوفي رجل فوُجد)، الحديث في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي أمامة: أن رجلاً من أهل الصفة توفي وترك ديناراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كية"، قال: ثم توفي آخر، فترك دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيتان". وقلت: أمر أهل الصفة كان على التجريد وترك الادخار، فلما وُجد خلافه رُتب عليه الوعيد، لأن ذلك ظلم منهم.

قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدّى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه، ولقد كان كثير من الصحابة، كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ، وما روى عن علىّ رضي الله عنه: "أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز" كلام في الأفضل. فإن قلت: لم قيل: (ولا ينفقونها)، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد منهما جملة وافية، وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (لم قيل: (وَلا يُنفِقُونَهَا)، وقد ذُكر شيئان؟ ) الراغب: أعيد الضمير إلى الفضة دون الذهب؛ لأن حبس الفضة عن الناس أعظم ضرراً؛ إذ الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب، وعلى ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11]، أعيد الضمير إلى التجارة دون اللهو لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم. وقال الإمام: "إنما خُلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته، ثم جمع الأموال الزائدة عليه، فهو لا ينتفع بها، لكونها زائدة على قدر حاجته، ومنعها من الغير ليدفع بها حاجته، كأنه منع من ظهور حكمة الله، ومن وصول إحسانه إلى عبيده".

فهو كقوله: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9]، وقيل: ذهب به إلى الكنوز، وقيل: إلى الأموال، وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، كما أن معنى قوله: فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ وقيار كذلك. فإن قلت: لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما. فإن قلت: ما معنى قوله (يُحْمى عَلَيْها)؟ وهلا قيل: "تحمى"، من قولك: حمى الميسم وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه: أن النار تحمى عليها، أي: توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله: (نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة: 11] ولو قيل: "يوم تحمى"، لم يعط هذا المعنى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (قانون التمول)، الجوهري: "القوانين: الأصول الواحد قانون، وليس بعربي"., قوله: (معناه: أن النار تُحمى عليها): قال الواحدي: "يُقال: أحميت الحديدة ف النار إحماء حتى حميت حمياً: إذا أوقدت عليها النار"، وهو كقوله تعالى: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص: 38]. قوله: (ولو قيل: "يوم تُحمى"، لم يعط هذا المعنى): لأنك إذا قلت: يوم تحمى الكنوز في نار جهنم، أفاد أنها حميت، وهي كائنة في النار، كما يحمى الميسم فيها، فلا تُعلم شدة وقود النار فيها. وأما لو قيل: "تحمى عليها"، وأسند "تحمى" إلى النار، أفاد أن النار بنفسها تحمى، فتكو كما قال: "توقد ذات حمى وحر شديد"، ثم إذا قيل: "على الكنوز" دل على الاستعلاء،

فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت "النار" قيل: يحمى عليها، لانتقال الإسناد عن "النار" إلى (عليها)، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر "القصة" قلت: رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ: "تحمى"، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: "فيكوى بالياء. فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم -حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراضَ الدنيوية؛ من وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب، يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك: هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب أهل الدثور بالأجور". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكان أبلغ. ولهذا أكد الواحدي في قوله: : أحميد الحديدة في النار إحماء حتى حميت حميا: إذا أوقدت عليها النار". قوله: (ومن أكل طيبات يتضلعون منها): أي: يأكلون حتى تمتلئ أضلاعهم منها، وهو عطف على قوله "من وجاهة عند الناس". قوله: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، الحديث: من رواية البخاري ومسلم وأبي داود عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العظيم والنعيم المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نُعتق ... الحديث."الدثور": المال الكثير.

وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم. وقيل: معناه: يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم. (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ) على إرادة القول، وقوله: (لِأَنْفُسِكُمْ) أي: كنزتموه لننتفع به نفوسكم، وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها، وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم، وتتعذب، وهو توبيخ لهم، (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)، وقرئ: "تكنزون"، بضم النون، أي: وبال المال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ازوروا عنه)، الجوهري: "الازورار عن الشيء: العدول عنه، وقد ازور عنه ازوراراً. قوله: (وتولوا بأركانهم): أي بالجباه والجنوب، لأنها أركان من يستقبل الشيء، كقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات: 39]، وراعى الجناس بين "تولوا" و"ولوا". قوله: (وقيل: معناه: يكوون على الجهات الأربع)، يعني: ليس هاهنا اختصاص، بل فيه إشارة إلى الجهات الأربع للاستيعاب. قوله: (أي: كنزتموه لتنتفع به نفوسكم) إلى قوله: (وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم): إشارة إلى أن اللام في (لأَنْفُسِكُمْ) مثلها في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8]، وفيه تتميم لمعنى التوبيخ وتربية عليه. قوله: (أي: وبال المال): هذا على أن تكون (مَا) موصولة. قوله: (أو: وبال كونكم): على أن تكون مصدرية.

[(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 36] (فِي كِتابِ اللَّهِ): فيما أثبته وأوجبه من حكمه، ورآه حكمة وصوابا، وقيل: في اللوح، (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ): ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد، وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: "ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، والسنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في اللوح): هذا أقرب من الأول وأتم فائدة؛ لذكر (شَهْراً)، لأنه تعالى أخبر أن عدد شهور السنة عند الله اثنا عشر شهراً، وكان يكفي أن يُقال: اثنا عشر، أي: عدة الشهور اثنا عشر، فعلى هذا (عِنْدَ اللَّهِ) خبرُ (إنَّ)، و (اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) مُبتدأ على تأويل هذا اللفظ، و (فِي كِتَابِ اللَّهِ) خبره. ويجوز أن يكون (فِي كِتَابِ اللَّهِ) صفة (اثْنَا عَشَرَ شَهْراً)، ويكون خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة، أي: ليس حكم عدة شهور السنة عندكم، وإنما حكمها عند الله، فكأنه قيل: كيف حكمها عنده؟ فأجيب: حكمها اثنا عشر شهراً مثبت في اللوح المحفوظ. قال أبو البقاء: " (عِدَّةَ) مصدر مثل "العدد"، و (عِنْدَ) معمول له، و (فِي كِتَابِ اللَّهِ) صفة لـ (اثْنَا عَشَرَ)، وليس بمعمول لـ (عِدَّةَ)، لأن المصدر إذا أُخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر". قوله: (ورجب مُضر الذي بين جمادي وشعبان)، الحديث: من رواية البخاري ومسلم عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزمان قد استدرا كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض،

وعاد الحج في ذي الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر قبلها في ذي القعدة. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعنى: أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرم؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب مُضر الذي بني جمادي وشعبان". النهاية: "أضاف رجباً إلى مُضر؛ لأنهم كانوا يُعظمونه بخلاف غيرهم، فكأنهم اختصوا به، وقوله: "بين جُمادي وشعبان" تأكيدٌ للبيان وإيضاح؛ لأنهم كانوا ينسئونه ويؤخرونه من شهر إلى شهر، فيتحول عن موضعه المختص به، فبين لهم أن الشهر المختص الذي هو بين جمادي وشعبان، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء". الحديث مخرج في "الصحيحين" وفي "سنن أبي داود" عن أبي بكرة. هذه الآية متصلة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28]، وما بينهما مستطرد لذكر آية السيف، وإباحة القتال مع أهل سائر الأديان المختلفة لمخالفتهم دين الحق. قوله: (لم يهجه): لم يثوره، الأساس: "هاج به الدم والمرة، وهاج الشر بين القوم، وهيجه فلان".

وسموا رجبا: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ): في الحرم، (أَنْفُسَكُمْ) أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا، وعن عطاء: بالله، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا، وما نسخت. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ) وقيل: معناه: لا تأثموا فيهن، بيانًا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) الآية [البقرة: 197]، وإن كان ذلك محرمًا في سائر الشهور. (كَافَّةً) حال من الفاعل أو المفعول، (مَعَ الْمُتَّقِينَ) ناصر لهم، حثهم على التقوى بضمان النصر لأهلها. [(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) 37] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سموا رجباً: الأصم): قيل: لأنه لا يُسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال، ولا قعقعة سلاح. قوله: (ومنصل الأسنة)، الجوهري: "نصلت السهم: نزعت نصله، كقولهم: قردت البعير: إذا نزعت منه القُراد، وكذلك إذا ركبت عليه النصل، وهو من الأضداد، وأنصلت الرمح: إذا نزعت نصله، وكان يقال لرجل في الجاهلية: منصل الأسنة ومنصل الأل، لأنهم كانوا ينزعون الأسنة ولا يغزون، ولا يغير بعضهم على بعض". "الأل" بالتفح: جمة ألة، وهي الحرية. قوله: (وقيل: معناه: لا تأثموا فيهن): معطوف على قوله: "لا تجعلوا حرامها حلالاً"، فالظلم على الأول بمعنى الكفر والشرك، وعلى الثاني بمعنى الإثم، سُمي الإثم ظلماً ليؤذن أن افثم في هذه الأشهر بمنزلة الظلم على النفس، وإليه الإشارة بقوله: "بياناً لعظم حرمتهن"، وعليه قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].

(النَّسِيءُ): تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون، شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله: (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ) أي: ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً)، يعنى: من غير زيادة زادوها. والضمير في: (يُحِلُّونَهُ) (وَيُحَرِّمُونَهُ) للنسيء، أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عامًا، رجعوا فحرموه في العام القابل. يُروى أنه حدث ذلك في كنانة؛ لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم، فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرم، فأحلوه، ثم يقوم في القابل، فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم، فحرموه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (من شق شهور)، الأساس: "قعد في شق من الدار، أي: في ناحية منها، وخُذ من شق الثياب: من عرضها". قوله: (أحد الواجبين): قيل: أحدهما: تخصيص الأشهر، والآخر: حرمة القتال: وقيل: أحدهما: العدد وهو أربعة أشهر، والآخر: تخصيصها بالأشهر المذكورة. قوله (والضمير في (يُحِلُّونَهُ) (يُحَرِّمُونَهُ)، للنسيء): قال الواحدي: "أي: يحلون التأخير عاماً، وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم، ويحرمون التأخير عاماً، وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه".

جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً، (فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: 124]. وقرئ (يُضِلُّ) على البناء للمفعول، و (يُضِلُّ) بفتح الياء والضاد، و"يُضَلُّ" على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ الزهري: "ليوطئوا" بالتشديد. والنسيء: مصدر نسأه: إذا أخره. يقال: نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك: سه مساً ومساساً مسيساً، وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ: (النسى)، بوزن: الندى، و"النسى" بوزن: النهى، وهما تخفيف النسيء والنسء. فإن قلت: ما معنى قوله: (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ)؟ قلت: معناه: فيحلوا -بمواطأة العدّة وحدها من غير تخصيص- ما حرّم الله من القتال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "هذا إنما يصح لو حملنا (النَّسِيءُ) على المفعول، وهو مُشكل، لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً، اللهم إلا أن يقال: إن المراد: العمل الذي به يصير الشهر نسيئاً زيادة في الكفر، والمعنى: يحلون ذلك الإنساء عاماً، ويحرمونه عاماً". قوله: (وقرئ: (يُضَلُ) على البناء للمفعول): حفص وحمزة والكسائي، والباقون: بفتح الياء وكسر الضاد. وأما بفتح الياء والضاد، وضم الياء وكسر الضاد: فشاذ. قوله: (وقرئ: "النسي" بوزن الندي)، ورش: "إنما النسيُّ" بتشديد الياء بغير همز، والباقون: بالهمز وإسكان الياء مع المد.

أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ): خذلهم الله، فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة، (وَاللَّهُ لا يَهْدِي) أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم. وقرئ: "زين لهم سوء أعمالهم"، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 38 - 41] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو من ترك الاختصاص الأشهر): "الأشهر": منصوب بنزع الخافض، ويُروى: "للأشهر"، و"الاختصاص": مفعول "ترك"، "أو من ترك" عطف على "من القتال". أي: يلزمهم بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص تحليل ما حرم الله من القتال، أو تحليل ما حرم الله من ترك الاختصاص للأشهر بعينها، وهما الواجبان المذكوران في قوله: "وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين"ز وتحريره: أنه تعالى أمرهم بشيء، ونهاهم عن شيء؛ أمرهم أن يعظموا الأشهر الحرم بعينها، وحرم عليهم القتال فيها، كما سبق في قوله: "وكانت العرب قد تمسكت به وراثة

(اثَّاقَلْتُمْ): تثاقلتم، وبه قرأ الأعمش، أي: تباطأتم وتقاعستم، وضمن معنى الميل والإخلاد فعدى بـ (إِلَى)، والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف: 176]، وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وقرئ: "اثَّاقَلْتُمْ؟ " على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منهما- أي: من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام - فكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويحرمون القتال فيها"، وإن استحفظوا الحرمة بمواطأة العدة، فقد أحلوا ما حرم الله من القتال فيها، أو هتكوا بسبب ترك الاختصاص بالأشهر بعينها حرمتها وتعظيمها، حيث أوقعوا القتال فيها. ولو حُمل "أو" في قوله: "أو من ترك الاختصاص" على معنى الواو، كقوله تعالى: (عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات: 6]، كان أوجه لما لزمهم الأمران معاً. ويمكن أن يُقال: إن معنى الآية: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم إنما أحلوا النسيء عاماً وحرموه عاماً ليواطئوا العدة، فيتسلقوا بذلك على تحليل ما حرمه الله تعالى. قوله: (اثَّاقَلْتُمْ): تثاقلتم): قال الزجاج: "إن التاء أدغمت في التاء، فصارت ثاء ساكنة، فابتدئت بألف الوصل". قوله: (وتقاعستم): تقاعس عن الأمر: تأخر ولم يقدم عليه. قوله: (ملتم إلى الإقامة بأرضكم): هذا تصريح، والوجه الأول كناية، لقوله: "ملتم إلى الدنيا وشهواتها"، واستشهاده بقوله: (أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: 176]، وهو الوجه لمطابقة قوله: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

فإن قلت: فما العامل في (إذا)، وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت: ما دلّ عليه قوله: (اثَّاقَلْتُمْ)، أو ما في (مالَكُمْ) من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم؟ كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائماً؟ وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر، بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت عسرة وقيظ وقحط مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشق عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها، إلا في غزوة تبوك؛ ليستعدّ الناس تمام العدة. (مِنَ الْآخِرَةِ) أي: بدل الآخرة، كقوله: (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) [الزخرف: 60]، (فِي الْآخِرَةِ): في جنب الآخرة. (إِلَّا تَنْفِرُوا) سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم، ويستبدل بهم قومًا آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غنى عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قوله: (وحرف الاستفهام مانعة): أي: منع أن يعمل (اثَّاقَلْتُمْ) في الظرف؟ وأجاب: أن العامل معنى (اثَّاقَلْتُمْ)، وهو: ملتم، مثاله: (أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد: 5]، أي: أنعاد إذا كنا تراباً؟ قوله: (الشقة): وهي السفر البعيد. قوله: (ورى عنها): هو من: وريث الخبر تورية: إذا سترته وأظهرت غيره. قوله: (وأنه يهلكهم): عطف على قوله: "عذاب أليم" على سبيل التفسير، ليصح عطف "ويستبدل" عليه، وكذلك قوله: "وأنه غني عنهم"، يعني: دل جواب الشرط- وهو (يُعَذِّبْكُمْ) - وما عُطف عليه، على الإخبار بأنهم إن لا ينفروا يستحقوا سخطاً عظيماً من الله تعالى، بأن يجمع لهم عذاب الدارين، وانه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين، وأن ذلك لا يضر الله شيئاً، لأنه غني عنهم في نُصرة دينه.

وقيل: الضمير للرسول، أي: ولا تضروه، لأنّ الله تعالي وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل يريد بقوله (قَوْماً غَيْرَكُمْ) أهل اليمن، وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن للتخصيص. فإن قلت: كيف يكون قوله: (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد، ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله: (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني: أنه أوجب له النصرة، وجعله منصوراً في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار، كما أسند إليهم في قوله: (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد: 13]، لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج، فكأنهم أخرجوه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم): أي: لا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صاحب "الانتصاف": "يؤيد هذا الوجه قوله: 0 إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) ". وقلت: المعنى: إلا تنفروا مع من يستنفركم بقوله: "انفروا في سبيل الله"، لاتضروه شيئاً، والله ناصره، والله على كل شيء قدير، ألا ترون كيف نصره الله تعالى حين لم يكن معه إلا رجل واحد؟ ! قوله: (فيه وجهان)، الانتصاف: "الفرق بين الوجهين عسر، وغايته: أنه في الأول وعده بنصرة مستقبلة أكد الله تحقيقه بوجود نُصرة من قبل، وفي الثاني إخبار باستمرار نصر ماض، والأمر فيهما مُتقارب".

(ثانِيَ اثْنَيْنِ): أحد اثنين، كقوله (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة: 73]، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، يروى: أنّ جبريل صلوات الله عليه لما أمره بالخروج، قال: من يخرج معي؟ قال أبو بكر"، وانتصابه على الحال: وقرئ "ثاني اثنين"، بالسكون. و(إِذْ هُما) بدل من (إذ أخرجه)، والغار: ثقب في أعلى "ثور"، وهو جبل في يمني مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثًا، (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: قوله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) من باب قولك: إن تُكرمني الآن فقد أكرمتك أمس. فقوله: "فسينصره من نصره": إخبار على سبيل التوبيخ، والمقصود أن الله ناصره الآن كما كان ناصره فيما مضى، فهو مستغن عنكم، ولا يضره خذلانكم. وقوله: "أوجب له النصرة" إخبار بأن الله تعالى حكم بأنه منصور، فالنصرة على الأول واقعة تحقيقاً، وهي أمارة للنصرة المستقبلة، وعلى الثاني: النصرة محتوم عليها مقدرة، وما قدره الله تعالى واجب الوقوع. قوله: (وانتصابه على الحال): قال الزجاج: "المعنى: فقد نصره الله تعالى أحد اثنين، أي: منفرداً إلا من أبي بكر رضي الله عنه"، وقال أبو البقاء: "فهو حال من الهاء، أي: احد اثنين". قوله: (وقرئ: "ثاني اثنين" بالسكون)، قيل: هو على حذف الحركة، قال أبو البقاء: "حقها التحريك، وهو من أحسن الضرورة في الشعر، وقال قوم: ليس بضرورة، وذلك أجازوه في القرآن". قوله: (و (إِذْ هُمَا) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ): قال أبو البقاء " (إِذْ هُمَا) ظرف لـ (نصُرَهُ)، لأنه بدل من (إذْ) الأولى، ومن قال: العامل في البدل غير العامل في المُبدل

قيل: طلع المشركون فوق الغار، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعم أبصارهم"، فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون، قد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا: من أنكر صحبة أبى بكر رضي الله عنه فقد كفر؛ لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة. (سَكِينَتَهُ): ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها، وعلم أنهم لا يصلون إليه، و"الجنود" الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين، و (كلمة الذين كفروا): دعوتهم إلى الكفر، (وَكَلِمَةُ اللَّهِ): دعوته إلى الإسلام، وقرئ: "كلمة الله" بالنصب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قدر لها فعلاً آخر، أي: نصره إذ هما: (إِذْ يَقُولُ) [بدل أيضاً]، وقيل: (إِذْ هُمَا) ظرف لـ (ثَانِيَ) ". قوله: (وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر): عن الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الحوض، وصاحبي في الغار". قوله: (وقرئ: "وكلمة الله" بالنصب": قال القاضي: "قرأها يعقوب، عطفاً على (كَلِمَةَ الَّذِينَ) ".

والرفع أوجه، و (هِيَ) فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم. (خِفافاً وَثِقالًا): خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه لمشقته عليكم، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والرفع أوجه): لأنه يدل على الثبوت والدوام، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله، وأنها في نفسها عالية، وفيه إشارة إلى قدم كلمات الله. قال أبو البقاء: "النصب ضعيف؛ لأن فيه دلالة على أن كلمة الله كانت سُفلى، فصارت عُليا، وليس كذلك، وأن التوكيد بالضمير المرفوع للمنصوب بعيد، إذ القياس يأباها". قوله: (خفافاً في النفور لنشاطكم)، الراغب: "الخفيف: بإزاء الثقيل، ويُقال ذلك باعتبار

أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالا لكثرتها، أو: خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو: شبابا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو: صحاحا ومراضا. وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلىّ أن أنفر؟ قال: "نعم"، حتى نزل قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [الفتح: 17] وعن ابن عباس: نسخت بقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) [التوبة: 91]، وعن صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عمّ، لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المضايفة بالوزن، وقياس أحد الشيئين إلى الآخر، نحو: درهم خفيف ودرهم ثقيل. وباعتبار مضايفة الزمان، نحو: فرس خفيف وفرس ثقيل: إذا عدا أحدهما أكثر في زمان واحد، ويُقال: خفيف؛ فيما يستحليه الناس، وثقيل؛ فيما يستوخمه، فيكون الخفيف مدحاً، والثقيل ذماً، وفي عكسه يُقال: خفيف؛ فيمن فيه طيش، وثقيل؛ فيما فيه وقار". قوله: (لقد أعذر الله إليك)، النهاية: "أعذر الله إليك: معناه: عذرك الله، وجعلك موضع العُذر، وأسقط عنك الجهاد، ورخص لك في تركه". قوله: (إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما، على حسب الحال): هذا التخيير يعطيه عطف "جاهدوا" على (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً)، لأنه كالتفسير له.

[(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) 42] العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أى لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال (وَسَفَراً قاصِداً) وسطا مقاربا (الشُّقَّةُ) المسافة الشاطة الشاقة، وقرأ عيسى بن عمر: "بعدت عليهم الشقة"، بكسر العين والشين، ومنه قوله: يَقُولُونَ: لَا تَبْعُدْ، وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... وَلَا بُعْدَ إلّا مَا تُوَارِى الصَّفَائِحُ (بِاللَّهِ) متعلق بـ (سيحلفون)، أو هو من جملة كلامهم، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقولون: لا تَبعِد) البيت: بعِد وبعُد: لغتان، إلا أن "بعد" - بكسر العين - أخص ببعُد الموت. و"لا تبعُد": يُستعمل في المصائب، وليس فيها طلب ولا سؤال، وإنما هو تنبيه على شدة الحاجة إلى المفقود، وتناهي الجزع على المفجع به، وغلبة التحسر عليه، وقال الآخر: لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد قوله: ((بِاللَّهِ) متعلق) إلى آخره: فيه لف ونشر من غير ترتيب، فإن قوله: "أي: سيحلفون؛ يقولون بالله" مبني على الوجه الثاني، وهو أن يكون (بِاللَّهِ) من جملة كلامهم، وقوله: "أو سيحلفون بالله يقولون" على الوجه الأول، وهو أن (بِاللَّهِ) متعلق بـ (وَسَيَحْلِفُونَ).

والقول مراد في الوجهين، أى سيحلفون -يعنى: المتخلفين- عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين؛ يقولون: بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، أو: سيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا. وقوله: (لَخَرَجْنا) سدّ مسدّ جوابي القسم و (لو) جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول؛ من حلفهم واعتذارهم، وقد كان: من جملة المعجزات، ومعنى "الاستطاعة": استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ: لو "استطعنا"، بضم الواو؛ تشبيها لها بواو الجمع في قوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (البقرة: 94). (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) إما أن يكون بدلا من (سيحلفون)، أو حالا بمعنى: مهلكين، والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يحلفون عليه من التخلف، ويحتمل أن يكون حالا من قوله: (لَخَرَجْنا) أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا، وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا، يقال: حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سد مسد جوابي القسم و (لو) جميعاً): نحوه: لئن أكرمتني لأكرمتك. قوله: (وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم)، يعني: (يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ) حال من ضمير الجماعة في (لَخَرَجْنَا)، وإن اختلفا حكاية وغيبة، لأنه على سبيل الإخبار عنهم، لأنه قال: " (بِاللَّهِ) متعلق بـ (وَسَيَحْلِفُونَ)، أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين"، وإذا كان هذا مقولاً لقولهم احتمل الوجهين، فلو حُكي لفظهم لقيل: وإن أهلكنا أنفسنا، ولكن جيء بمعناه، فقيل: (يُهْلِكُونَ)، كما يقال: حلف بالله لأفعلن وليفعلن، فالغيبة في الآية على حكم الإخبار، والتكلم في المثال على حكم الحكاية.

[(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) 43)] (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها، ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت، و (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كني عنه بالعفو، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية): وهو كذلك، ونحوه ما يُعزى إلى الشافعي رضي الله عنه في قوله: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله": "إن العفو مؤذن بسبق الذنب". لكن قوله: "أخطأت وبئس ما فعلت" خطأ فاحش، وبئس ما فعل، ولا أعلم كيف ذهب إلى هذا القول الشنيع، وإنه العلم في استخراج لطائف المعاني، وذهب عنه أن في أمثال هذه الإشارات- وهي تقديم العفو على الذنب- إشعاراً بتعظيم المخاطب وتوقيره وتوقير حرمتهن قال علي بن الجهم يخاطب المتوكل، وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة ... تجود بفضلك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ... ومولى عفاه ورُشداً هدى وعن سفيان بن عيينة: "انظروا إلى هذا اللُّطف، بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب"، وأمثال هذا الذنب مما يُتمنى حصوله، ألا ترى على قول بعض الصحابة عند نزول قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) [آل عمران: 122]: "ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به، وأخبرنا الله بأنه ولينا".

ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك، واعتلوا لك بعللهم، وهلا استأنيت بالإذن، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ) من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فعاتبه الله. [(لا يَسْتَئذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) 44] (لا يَسْتَاذِنُكَ) ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال السجاوندي: (عَفَا اللَّهُ): تعليم تعظيمه صلوات الله عليه، ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب، وربما يستعمل فيما لم يسبق به ذنب، ولا يتصورن كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي؟ ومنه ما روى المصنف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجون"، الحديث مذكور في سورة يوسف، وهو لا يشعر إلا بالتعظيم. قال الإمام: "يحمل قوله: (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) على ترك الأولى والأكمل، ولا سيما هذه الواقعة من جنس ما يتعلق بالاجتهاد"، وغايته: أنه صلوات الله عليه ما أصاب فيهن فدخل تحت قوله: "من اجتهد وأخط فله أجر". قوله: (وهلا استأنيت بالإذن)، النهاية: "استأنيت، أي: انتظرت وتربصت. ويقال: آنيت وأنيتُ وتأنيت واستأنيت". قوله: ((لا يَسْتَاذِنُكَ) ليس من عادة المؤمنين): نفي العادة مستفاد من نفي فعل المستقبل المراد به الاستمرار، على نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم.

وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبدا، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى أَنْ (يُجهِدُوا): في أن يجاهدوا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَنْ يُجَاهِدُوا): في أن يجاهدوا): قال الزجاج: "موضع (أَن) نصب، المعنى: لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا، فحذف الجار وأوصل"، والمعنى: ليس من شأن المؤمنين أن يستأذنوك في أمر الجهاد، لأن عادتهم أن يكونوا مترصدين مرابطين باذلين أرواحهم في سبيل الله. روينا عن مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة - أو: فزعاً- طار على متنه، يبتغي القتل أو الموت مظانه". ومثله قول الحماسي: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وعلى هذا معنى قوله: "كراهة أن يجاهدوا": يعني: لا يستأذنوك لأجل كراهة المجاهدة، فإن من يستأذن إنما يستأذن لأنه يكره المجاهدة، فالنفي داخل على الفعل المعلل، ثم أكد الله المعنى بقوله: (إِنَّمَا يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [التوبة: 45].

أو كراهة أن يجاهدوا، و (َاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب. [(إِنَّما يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) 45 - 48] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الانتصاف": "لا ينبغي لأحد أن يستأذن أخاه في فعل معروف، ولا للمضيف أن يستأذن ضيفه في تقديم الطعام إليه، وذلك أمارة على التكلف، ووصف الله الخليل عليه السلام بقوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) [الذاريات: 26]، أي: ذهب خفية، فأتى بعجل سمين من أجود ما عنده، فهذا ما يجب أن يُتأدب به، وأشد من هذا التثاقل عن الخروج بعد الطلب". قوله: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتقام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب): وأما الشهادة بالانتظام: فمن وضع المظهر موضع المضمر، وإرادة الجنس بالمتقين، فيدخلون فيه دخولاً أولياً. وأما العدة: فإن مقتضى العلم بعد ذكر أعمال العباد خيراً أو شراً، إما الوعد بالثواب أو الوعيد بالعقاب.

(إِنَّما يَسْتَأئذِنُكَ) يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا ي (َتَرَدَّدُونَ) عبارة عن التحير، لأن التردّد ديدن المتحير، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر، وقرئ: "عدّه"، بمعنى: عدّته، فعل بـ"العدّة" ما فعل بالعدة من قال: وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها، وقرئ: "عدّة"، بكسر العين بغير إضافة، و"عدّه" بإضافة. فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطياً معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل: (وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ)، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عده، بمعنى: عُدته)، قال ابن جني: "سُمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وطريقه: أن يُراد: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته، أي: تأهبوا له، إلا أنه حذف تاء التأنيث، وجعل هاء الضمير كالعوض منها". قوله: (وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا): أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا "الخليط": كالنديم والمنادم، و"الانجراد": المُضي في الأمر.

كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلىّ زيد، ولكن أساء إلىّ (فَثَبَّطَهُمْ): فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث. (وَقِيلَ اقْعُدُوا) جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود، وقيل: هو قول الشيطان بالوسوسة، وقيل: هو قولهم لأنفسهم، وقيل: هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود. فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو، وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح؟ قلت: خروجهم كان مفسدة؛ لقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا)، فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم): جعل فعل العبد أصلاً في الاعتبار، وذلك أن "لكن" تقتضي مغايرة ما قبلها لما بعدها، وفي التنزيل: أحد المتغايرين من جانب العبد، والآخر من جانب الرب، والمصنف اعتبر المتغايرين من جانب العبد. وأما تقريره على رأينا: لو أراد الله خروجهم لعلهم مريدين للخروج، فيستعدون عدته، ولكن أراد تثبيطهم. وهذا التقدير أولى، لأنه قوله: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، إنما أُردف ليؤكد هذا المعنى، ويُوجب تأويل المستدرك، وإنما أسند عدم إرادة الخروج إليهم، الكراهة إلى الله تعالى، لأن المقام التوبيخي يقتضي النعي عليهم، ونحن إن قلنا بخلق الأفعال فلا نقول بنفي الاستطاعة الكسب، والذي يدل على التوبيخ قوله: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، أي: اقعدوا مع المرضى والزمنى والنساء، وجيء بلفظ ما لم يسم فاعله؛ طرداً لهم وبُعداً عن مظان الزلفى.

فإن قلت: فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة، ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم، ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب، ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا، وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة. ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله (مَعَ الْقاعِدِينَ)؟ قلت: هو ذمّ لهم، وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) [التوبة: 87 - 93]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما بيان التمثيل في (وَقِيلَ اقْعُدُوا): فإنه تعالى جعل خلق داعية القعود فيهم بمنزلة الأمر والقول الطالب للفعل، ونحوه قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا) [البقرة: 243]، أي: أماتهم، وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، وهو المراد من قوله: "جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود". قوله: (فلم خطيء): جاء بالفاء منكراً، أي: إذا جاز إسناد كراهة الخروج إلى الله تعالى، فلم لا يجوز الإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجاب: أنه صلى الله عليه وسلم ما أذن لهم بالقعود لتلك الحكمة، وهي أن خروجهم كان مفسدة، ولذلك أُنكر عليه، ومن ثم فسر (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) بقوله: "هلا استأنيت بالإذن حتى يتبين لك من صدق في عُذره ممن كذب فيه".

(إِلَّا خَبالًا) ليس من الاستثناء المنقطع في شيء، كما يقولون، لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيراً إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو "الشيء"، فكان استثناء متصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام، كأن قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالا، والخبال: الفساد والشرّ. (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين، يقال: وضع البعير وضعاً: إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأنّ الراكب أسرع من الماشي. وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه: (ولأرقصوا)، من رقصت الناقة رقصاً: إذا أسرعت، وأرقصتها، قال: وَالرَّاقِصَات إلَى مِنْى فَالغَبْغَبِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد: الإسراع بالنمائم): يعني: أنه من الاستعارة التبعية، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنمائم بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع، وهو للبعير، وأصل الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم، وأقيم المضاف إليه مقامها، ما قال: "ولأوضعوا ركائبهم"، لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. قوله: (والراقصات إلى منى فالغبغب): أوله: يا عام لو قدرت عليك رماحُنا

وقرئ: "ولأوفضوا". فإن قلت: كيف خطّ في المصحف: "ولا أوضعوا"، بزيادة ألف؟ قلت: كانت الفتحة تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه: (أو لا أذبحنه) [النمل: 21]. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ): يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم، (وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ) أي: نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم. (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) أي: العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الغبغب": المنحر بمنى، وهو جُبيل. قوله: (ولأوفضوا): الوفض: العجلة، وأوفض واستوفض: استعجل. قوله: (كانت الفتحة تكتب ألفاً) إلى آخره: كلام الزجاج. قوله: (في مغزاكم): أي: مقصدكم، الأساس: "أغزى الأمير الجيش، ومن المجاز: غزوت بقولي كذا، أي: قصدته، وما أغزو إلا السداد فيما أقول". قوله: (العنت): هو الوقوع في أمر شاق. قوله: (الغوائل)، النهاية: "الغائلة": صفة لخصلة مهلة"، وجمعها: غوائل.

وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبىّ يوم أحد حين انصرف بمن معه، وعن ابن جريج: وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة، وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به. (مِنْ قَبْلُ) من قبل غزوة تبوك، و (قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ): ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ: "وقلبوا" بالتخفيف، (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ) وهو تأييدك ونصرك، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ): وغلب دينه، وعلا شرعه. [(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) 49]. (ائْذَنْ لِي) في القعود، (وَلا تَفْتِنِّي): ولا توقعني في الفتنة - وهي الإثم-؛ بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء، فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركني، وقرئ: "ولا تفتني"، من أفتنه. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف، وفي مصحف أبىّ: "سقط"، لأنّ "من" موحد اللفظ مجموع المعنى (لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعنى: أنها تحيط بهم يوم القيامة، أو هي محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مستهتر بالنساء)، الجوهري: "مستهتر بالشراب، أي: مولع به، ولا يبالي ما قيل فيه". قوله: (أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها): التخصيص يفيده معنى تقديم الظرف على عامله، والتحقيق من تصدير الجملة بأداة التنبيه، فنها تدل على تحقق ما بعدها.

[(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) 50]. (إِنْ تُصِبْكَ) في بعض الغزوات (حَسَنَة): ٌ ظفر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ): نكبة وشدّة في بعضها، نحو ما جرى في يوم أحد، يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، و (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي: أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، (مِنْ قَبْلُ): من قبل ما وقع، وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له، إلى أهاليهم، (وَهُمْ فَرِحُونَ): مسرورون، وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) 51]. قرأ ابن مسعود: "قل هل يصيبنا"، وقرأ طلحة: "هل يصيبنا"، بتشديد الياء، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أمرنا الذي نحن متسمون به): يعني: المراد بالأمر: الشأن، أي: شأننا وعادتنا الحزم والتيقظ في الأمور، وقد أخذنا شأننا، نحوه قوله تعالى: (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء: 102]. قوله: (وقرأ طلحة: "قل هل يصيبنا" بتشديد الياء): قال ابن جني: "ظاهر أمر عين "أصاب يصيب" أنها واو، ولذل قالوا في جمع "مصيبة": "مصاوب" بالواو، وهي القوية الفاشية، فأما "مصائب" - بالهمز- فغلط من العرب، كهمزهم: رثأت زوجي وحلأت السويق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنا أرى أن تكون "مصائب" جمع "مُصاب"، لأن الألف - وإن كان بدلاً من العين هنا - تشبه بألف "رسالة"، التي يُقال في تكسيرها: "رسائل"، وذلك أن الألف لا تكون أصلاً في الأسماء المتمكنة، ولا في الأفعال، وإنما تكون زائدة أو بدلاً، وليست كذلك الواو والياء، لأنهما قد تكونان أصلين في القبيلين جميعاً، كما قد تكونان بدلين وزائدتين، فألف "مصاب" و"مصابة" أشبه بالزائدة من ياء "مصيبة" وواو "مصوبة"، فافهم ذلك، فإن أحداً لم يذكره. وبعدُ، فقد مر بنا تركيب (ص ي ب) في هذا المعنى، فإنهم قالوا: أصاب السهم الهدف يصيبه، كباعه يبيعه، ومنه قول الكميت: أسهمي الصائبات والصيب ومن هذا الأصل قراءة طلحة: "يصيبنا" بالياء؛ "يُفعلنا" منه، فـ"يصيب" على هذا كـ "يسير" و"يبيع". وقد يجوز أيضاً أن يكون "يصيبنا" من لفظ (ص وب)، إلا أنه بناه على: فيعل يُفيعل، وأصله: يصوبنا، فاجتمعت الواو والياء، وسُبقت الياء بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت، فصارت: يصيبنا".

ووجهه أن يكون "يفيعل" لا: "يفعل" لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب؛ في جمع "مصيبة"، فحق "يفعل" منه "يصوّب"، ألا ترى إلى قولهم: صوّب رأيه؟ إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب، ومن قوله: أسهمي الصائبات والصيب واللام في قوله: (إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) مفيدة معنى الاختصاص، كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به، بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة، ألا ترى إلى قوله: (هُوَ مَوْلانا) أي: الذي يتولانا ونتولاه، (ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم) [محمد: 11] (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوجه أن "فَعَلَ" في الكلام أكثر من "فيعل"، والمصنف اختار الأول. قوله: (ألا ترى إلى قوله: (هُوَ مَوْلانَا)؟ ): يعني: (هُوَ مَوْلانَا) يبين أن معنى اللام في (كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) الاختصاص، وتخصيص قولنا: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) بالنصرة والشهادة دون الخذلان والشقاوة الأبدية، كما هو مصير حالكم؛ لأنا مؤمنون وأن (اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11]. قوله: (وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله سبحانه وتعالى): يعني: قدم صلة (فَلْيَتَوَكَّلْ) عليه ليُفيد التخصيص، ووضع المؤمنين على إرادة الجنس موضع ضمير المتكلم؛ ليؤذن بأن شأن المؤمن اختصاص التوكل بالله، وجيء بالفاء الجزائية ليشعر بالترتب، أي: إذا كان لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله تعالى به من النصرة أو الشهادة، وأنه يتولى أمرنا، فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصه بالتوكل، وإليه الإشارة بقوله: "فليفعلوا ما هو حقهم"، كأنه قوبل قول المنافقين: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا)، "أي: أخذنا أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم" بهذه الفاصلة، والمعنى: دأب المؤمنين أن لا يتوكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما هو دأب المنافقين ذلك، بل أن يتوكلوا على الله وحده، ويفوضوا أمورهم إليه.

[(قلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) 52] (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ): إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسني العواقب، وهما النصرة والشهادة، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى السوأتين من العواقب، إمّا (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود، (أَوْ) بعذاب (بِأَيْدِينا) وهو القتل على الكفر، (فَتَرَبَّصُوا) بنا ما ذكرنا من عواقبنا، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه. [(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) 53] (أَنْفِقُوا) يعنى: في سبيل الله ووجوه البر، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) نصب على الحال، أي: طائعين أو مكرهين، فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق، ثم قال: (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم: 75] ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إحدى السوأتين): قيل: القياس: السوأيين، فإن السوأى نقيض الحسنى، فالمناسب في مقابلة الحسنيين: هو السوأيين، نحو: حبليين، في تثنية: حبلى. قوله: (ما ذكرنا من عواقبنا): أي: النصرة والشهادة، و"ما هو عاقبتكم"، أي: القارعة أو القتل. قوله: (وهو أمر في معنى الخبر) كأنه قيل: "لن يُتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً"، ففعل بالأمر ما فعل بالاستهام في قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 6]، أي مستو عليهم إنذارك أو عدم إنذارك. قوله: ((فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) [مريم: 75]: قال: "أي: مد له الرحمن مداً وأمهله،

ونحوه قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة: 80]، وقوله الشاعر: أسِيئِى بِنَا أوْ أحْسِنِى لَا مَلُومَةً أي: لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت. فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه، كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيداً وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على لفظ الأمر؛ إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة". قوله: (أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة): تمامه: لدينا ولا مقلية إن تقلت تقل: أي: تُبغض. قال الزجاج: "معنى الآية معنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم، ومعنى البيت: أنه أعلمها أنها إن أساءت أو إن أحسنت فهو على عهدها".

وهي أنّ كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعاملينى بالإساءة والإحسان، وانظري: هل تتفاوت حالي معك، مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل: أخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوَدِّ وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا: هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر: هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت: ما الغرض في نفى التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم، وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً. وقوله: (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً): معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين، وسمى الإلزام إكراها، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، أو: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي أن كثيراً كأنه يقول): وخلاصته: أن النكتة هي توخي إظهار نفي أن تتفاوت الحال في أمر ثابت يزاول المخاطب خلافه. قوله: (أخوك الذي) البيت: يقول: أخوك هو الذي إن أسأت إليه أحسن إليك، حتى لو قمت تضربه بالسيف لا يغشك في المودة. قوله: (يحتمل الأمرين جميعاً): قال القاضي: "نفيُ التقبل يحتمل أمرين: أن لا يؤخذ منهم، وأن لا يثابوا عليه"، يعني: يؤخذ منهم ولكن يصير هباء منثوراً. قوله: (معناه: طائعين من غير إلزام): يريد أن قوله: (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) يحتمل أن يكونا من جهة الله أو من جهة الرؤساء؛ فعلى الأول: معنى (طَوْعاً) طائعين من غير إلزام

لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق؛ لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروى: أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مالي أعينك به فاتركني. (إِنَّكُمْ) تعليل لردّ إنفاقهم، والمراد "بالفسق": التمرّد والعتو. [(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَاتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) 54]. (أَنَّهُمْ) فاعل "منع"، وهم، و (أن تقبل): مفعولاه. وقرئ: (أن تقبل) ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الله، ومعنى (كَرْهاً) مُلزمين، وإنما سُمي الإلزام كُرهاً لأنهم ليسوا كالمؤمنين في أن ينفقوا عن طوع ورغبة ونشاط قلب، بل هم كالمكرهين فيه. وعلى الثاني: معنى (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) على حقيقتهما، ولهذا قال: "أو طائعين من غير إكراه"، وقال: "أو مُكرهين من جهتهم". قوله: ((أنَّهُمْ) فاعل "منع"، و"هم" و (أَنْ تُقْبَلَ): مفعولاه)، الأساس: "منعه الشيء ومنعه [منه] وعنه"، والزجاج أخذ بالثاني حيث قال: "موضع (أن) الأولى نصب، والثانية رفع، أي: ما منعهم من قبول نفقاتهم إلا كفرهم، والنفقات في معنى الإنفاق". وقال أبو البقاء: " (أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ) في موضع نصب بدلاً من المفعول في (مَنَعَهُمْ)، ويجوز أن يكون فاعل "منع": الله، و (أَنَّهُمْ كَفَرُوا) مفعول له"، وفيه بحث. ومعنى قول الزجاج والمصنف واحد، وهو أنهم قصدوا في الإنفاق أن يكون مقبولاً، وما منعهم شيء من الأشياء عما قصدوه إلا الكفر. قوله: (قرئ: (أَنْ تُقْبَلَ): بالياء: حمزة والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية.

بالتاء والياء على البناء للمفعول، و (نفقاتهم)، و"نفقتهم"، على الجمع والتوحيد، وقرأ السلمي: "أن يقبل منهم نفقاتهم"، على أن الفعل لله عزّ وجلّ (كُسالى) بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو: سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة: 45]. وقرأت في بعض الأخبار: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول: كسلت"، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإنّ الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه. فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله: (طَوْعاً)، ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون! قلت: المراد بطوعهم: أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار. [(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) 55]. الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد جعلهم الله طائعين في قوله: (طَوْعاً)): وجه السؤال: أنه تعالى أثبت لهم طوعاً، ثم نفاه عنهم على سبيل المبالغة في قوله: (وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)، والجواب: أن المراد بالطوع البذل من غير إلزام، كأنه قيل: أنفقوا غير ملزمين أو مُلزمين. قوله: (الإعجاب بالشيء أن يُسر به سرور راضٍ به)، الراغب: "التعجب: حالة تعرض

والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الي ما متعنا به) [طه: 131]، فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرّضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قالوا: العجب: ما لا يُعرف سببه، ومن ثم لا يصح على الله التعجب؛ إذ هو علام الغيوب، ويقال للشيء الذي يتعجب منه: عجب، ويقال لما لم يعهد مثله: عجب، قال تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا) [يونس: 2]، ويُستعار تارة للمونق، فيقال: أعجبني كذا، أي: راقني، قال تعالى: (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ) [التوبة: 85]، ويقال لمن تروقه نفسه: فلانٌ معجب بنفسه". قوله: (عرضه للتغنم والسبي): أي: جعل أموالهم عرضة لغنيمتكم، وأولادهم عرضة لسبيكم. قوله: (والمجاشم)، الأساس: "جشمت الأمر وتجشمته: تكلفته على مشقة. وألقى عليه جشمه، أي: كلفته وثقله، ويرى بضم الجيم ... قال المرقش: الم تر أن المرء يجذم كفه ... ويجشم من أجل الصديق المجاشما"

فإن قلت: إن صح تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم و (َهُمْ كافرون)؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران: 178]، كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون، ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة. [(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) 56 - 57]. (لَمِنْكُمْ): لمن جملة المسلمين، (يَفْرَقُونَ): يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية. (مَلْجَأً): مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة، (أَوْ مَغاراتٍ): أو غيرانا، وقرئ بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل: هو تعدية: غار الشيء وأغرته أنا، يعنى: أمكنة يغيرون فيها أنفسهم. ويجوز أن يكون من: أغار الثعلب: إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفارّ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن صح): أي: إن صح تعليق التعذيب بإرادة الله، فكيف يصح إرادة موتهم على الكفر؟ السؤال مبني على مذهبه أن كفر الكافر لا يجوز أن يكون مسبباً عن إرادة الله. وحاصل الجواب: أن المراد بتعليق الكفر بإرادة الله: إبلاء الله إياهم ما به يشتغلون عن النظر في العاقبة استدراجاً، فيؤديهم ذلك إلى الكفر. وهذا لا يُجديه شيئاً؛ لأن سبب السبب سبب في الحقيقة. قوله: (أو قلعة): سُميت الحصون بالقلعة - وهي السحابة العظيمة - لارتفاعها وانقطاعها عن الجبال: نحوه في "الأساس".

(أَوْ مُدَّخَلًا): أو نفقا يندسون فيه وينحجرون، وهو "مفتعل" من الدخول، وقرئ: "مدخلا"؛ من: دخل، و"مدخلا" من أدخل: مكانا يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبى بن كعب: "متدخلا" وقرئ: "لو ألوا إليه": لالتجوؤا إليه، (يَجْمَحُونَ): يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام، وقرأ أنس: "يجمزون"، فسئل فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدّون: واحد". [(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) 58] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يندسون)، الأساس: "كل شيء أخفيته تحت شيء، فقد دسسته". قوله: (لو ألوا إليه: لالتجؤوا): الموئل: الملجأ، وقد وأل إليه يئل. قوله: (وقرأ أنس: يجمزون): قال ابن جني: "قال الأعمش: سمعت أنساً يقرأ: (لولوا إليه وهم يجمزون)، قيل: إنما هي (يَجْمَحُونَ)، فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد. ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرؤون الحرف مكان نظيره، من غير أن تتقدم القراءة بذلك، وهو موضع يجد الطاعن به مجالاً، ويقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم،

(يَلْمِزُكَ): يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك، قيل: هم المؤلفة قلوبهم، وقيل: هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذ لو كانت عنه صلى الله عليه وسلم لما ساغ إبدال لفظ، إذ لم يثبت التخيير عنه في ذلك، ولما أنكر عليه أيضاً "يجمزون"، إلا أن حُسن الظن بأنس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة، أي: يجمحون ويجمزون ويشتدون، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف". فعلى هذا: معنى قول أنس: أنها كلها مروية. قوله: (هو ذو الخويصرة)، وفي نسخة: "هو ابن ذي الخويصرة": اسمه حرقوص. روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك! من يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل"، فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه "ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ "، وقيل: هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أبالك، أما كان موسى راعياً؟ أما كان داود راعياً؟ ! "، فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام "احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون". وقرئ: "يلمزك" بالضم، و"يلمزك"، و"يلامزك"؛ التثقيل والبناء على "المفاعلة" مبالغة في اللمز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يُوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يُوجد فيه شيء، وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"- وفي رواية: "إحدى يديه مثل البضعة تدردر"- "يخرجون على حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علياً رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتمس فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت، فنزلت فيهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ). قوله: (هو أبو الجواظ)، النهاية: "الجواظ: الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين".

ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم، فضج المنافقون منه، (وإذا) للمفاجأة، أي: وإن لم يعطوا منها فاجؤوا السخط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم وصفهم بأن رضاهم): يريد أنه تعالى لما ذكر أن بعضاً من المنافقين عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات، بين بعد ذلك بقوله: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسمها للدين وصلاح أهله، لا للأغراض النفسانية، وهؤلاء لما كانت أغراضهم نفسانية، ورضاهم وسخطهم لمجرد الإعطاء والمنع، منعهم إياها، فطعنوا فيه وعابوه. وينطبق على هذا قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الآية [التوبة: 60]، فإنه تعالى صدر الجملة بأداة الحصر المستدعية لإثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، يعني: أن الذي ينبغي أن تُقسم الصدقات عليه هو الموصوف بإحدى الصفات المذكورة دون غيره، لأن سبب الاستحقاق صلاح الدين وصلاح أهله، لا الفساد، وأن المنافقين لا يستحقونها، لأنه ليس منهم سوى الفساد، ويؤيد هذا الترتيب قول المصنف: "دل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات، على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم في جواب قوله: "كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين". قوله: (و (إذَا) للمفاجأة): قال أبو البقاء: " (إذَا) هاهنا ظرف مكان، وجُعلت في جواب الشرط كالفاء، لما فيها من المفاجأة، ما بعدها ابتداء وخبر، والعامل فيها (يَسْخَطُونَ) ".

[(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) 59]. جواب "لو" محذوف، تقديره: لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم، والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة، وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم، (إِنَّا إِلَى اللَّهِ) في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون. [(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60]. (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة، وأنها مختصة بها، لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك: إنما الخلافة لقريش، تريد: لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها، وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبى حنيفة رحمه الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيحتمل أن تُصرف إلى الأصناف - ويُروى: إلى الأوصاف- كلها، وأن تُصرف إلى بعضها): الفاء سببية، أي: يلزم من معنى التركيب هذان الاحتمالان، وذلك أن (إِنَّمَا) وُضعت لقصر ما يليها في الجزء الأخير من الكلام، وهاهنا المذكور أولاً جنس الصدقات، لأن الجمع المحلى يفيد العموم، وأجزاء الأصناف الثمانية تدل على أن جميع الصدقات لا تتجاوز المذكورين إلى غيرهم البتة. وأما وجوب صرف بعضها إلى الأصناف كلها فليس فيها ذلك، ولذلك احتمل الأمرين، وينصره ما قال الإمام: "الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رضي الله عنه في أنه لابد من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صرفها إلى الأصناف، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الوصاف، فأما أن صدقة زيد بعينها يوجب توزيعها على الأصناف كلها فلا؛ كما أن قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية [الأنفال: 41]، توجب تقسيم الخمس على الطوائف من غير توزيع بالاتفاق، يعني: لم يقل أحد أن كل شيء يغنم بعينه يجب تفريق ذلك الشيء على الطوائف كلها، وأيضاً أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء". وقال صاحب "الانتصاف": "القول بوجوب صرفها إلى جميعهم أخذاً من لام التمليك وواو التشريك لا تساعد عليه الآية، لأنها مصدرة بـ (إنَّمَا) الدالة على أن غيرهم لايستحق فيها نصيباً". وقال صاحب "الإنصاف": الآية إن لم تدل من جهة (إنَّمَا)، فقد دلت من جهة اللام والواو، وإنما تفيد حصر الأول في الثاني، ولا تمنع من حصر الثاني في الأول لدليل خارج. قال محيي السنة في "معالم التنزيل": "واختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات: فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرف كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي رضي الله عنهما، وقال: يجب أن تُقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف قسمة على السواء، ثم حصة كل صنف لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وُجد. وذهب جماعة إلى أنه لو صُرف الكل إلى صنفٍ واحدٍ من هذه الأصناف، أو إلى شخص

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحد منهم جاز، وإنما سمي الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاباً لقسمتها بينهم جميعاً، وهو قول عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال أحمد: يجوز أن يضعها في صنف واحد، وتفريقها أولى. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويُقدم الأولى فالأولى، فإن رأى الحاجة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآه في عام في صنف آخر حولها إليهم. وكل من دفع إليه صدقته لا يزيد على قدر الاستحقاق". وقال القاضي: "قول الأئمة الثلاثة جواز الصرف إلى صنف واحد، واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي، على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم، لا إيجاب قسمتها عليهم". وقلت: ويمكن أن يُقال: إن قول مالك أوفق لتأليف النظم، على ما سبق أن الصرف معلل بمصالح الدين وإصلاح أهله، وأن البعض أولى من البعض، ولإفادة التغيير في عبارة الآية أيضاً، كما أشار إليه المصنف بقوله: "إنما عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؛ ليؤذن بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره"، وذلك لمكان الكناية. ويُعلم من أقوال الأئمة على ظاهر الآية: أن القاسم إذا كان الإمام يجب الصرف إلى الكل، وإذا كان المالك فلا، وأن الصرف إلى الأصناف والتسوية في القسم وعدمها منوطة بالمصالح.

وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأك، وعن سعيد بن جبير: لو نظرت إلي أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين، فجبرتهم بها كان أحب إلى. وعند الشافعي رحمه الله: لا بد من صرفها إلي الأصناف، وعن عكرمة: أنها تفرّق في الأصناف الثمانية، وعن الزهري: أنه كتب لعمر ابن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية. (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها): السعاة الذين يقبضونها، (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ): أشراف من العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا، فيرضخ لهم شيئاً منها، حين كان في المسلمين قلة، و (الرقاب): المكاتبون، يعانون منها، وقيل: الأسارى، وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما استدلال الإمام بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: 41]: فمؤيد بما رويناه في "صحيح البخاري" عن أنس: "لما كان يوم هوازن" فانهزم المشركون، فأصاب يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً"، الحديث. والله أعلم. قوله: (فيرضخ لهم): الرضخ: العطاء القليل. قوله: (و (الرِّقَابِ): المكاتبون): قال محيي السنة: "هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد والشافعي رضي الله عنهم. وقال جماعة: تُشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون، وهو قول الحسن، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق".

(وَالْغارِمِينَ): الذين ركبتهم الديون، ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب، وقيل: الذين تحملوا الحمالات، فتداينوا فيها، وغرموا، (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم، (وَابْنِ السَّبِيلِ): المسافر المنقطع عن ماله، فهو فقير حيث هو، غنىّ حيث ماله. (فَرِيضَةً) في معنى المصدر المؤكد، لأنّ قوله: (إنما الصدقات للفقراء): معناه: فرض الله الصدقات لهم، وقرئ: "فريضة" بالرفع؛ على: تلك فريضة. فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ "في" للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها ومصباً، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الحمالات)، النهاية: "الحمالة- بالفتح-: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيه الدماء، يدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمل أن يتحملها عنهم على نفسه". قوله: (المنقطع بهم): أي: عطبت دابته أو نفد زاده، فانقطع به السفر دون وطنه، فهو منقطع به، ويُقال: حاج بمنقطع - بالكسر-، والباء للتعدية؛ لأن الانقطاع لازم، فإذا حذف الجار قيل: المنقطع، كما قال بعيد هذا: "الفقير أو المنقطع". قوله: (فهو فقير): مبتدأ وخبر، و"حيثُ" ظرف الفقير مضاف إلى ما بعده، أي: حيث هو حاصل فيه، وكذلك قوله: "هو غني حيث ماله"، أي: حيث ماله حاصل فيه.

وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم؛ من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير (في) في قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فيه فضل ترجيح لهذين على (الرقاب والغارمين). فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم، على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم، وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (لما في فك الرقاب من الكتابة) إلى آخره: "مِن": في قوله: "من الكتابة": صلة "فك"، وفي "مِنَ التخليص": بيان "ما" في "لِمَا" و"في فك الغارمين" عطف على "في فك الرقاب". المعنى: ذلا لرسوخ في الاستحقاق مستقر لجل ما في فك الرقاب والغارمين من الإنقاذ والتخليص. و"لجمع الغازي" عطف على "لما في فك الرقاب". قال صاحب "الانتصاف": "إنما عدل من اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؛ لأن الأربعة الأول ملاك لما عسى أن يُدفع إليهم، والأربعة الأخيرة لا يملكون ما يُدفع إليهم، إنما يُصرف إليهم في مصالح تتعلق بهم، لأن التعدية بـ "في" مقدرة بالصرف، فمال الرقاب يملكه السادة، والمكاتبون لا يحصل في أيديهم شيء، والغارمون يُصرف نصيبهم لأرباب الديون، وكذلك في سبيل الله، وابن السبيل مُندرج في سبيل الله، وأفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته، وهو مرد عن الحرفين جميعاً، أي: اللام و"في"، وعطفه على اللام ممكن، و"في" أقرب".

وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها، ولمز قاسمها، صلوات الله عليه وسلامه! [(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 61] الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع، كأنّ جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة: عين، وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه (هُوَ أُذُنٌ). (وأذن خير): كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم، هو أذن سامعة، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما لهم وما لها! ): قيل: هما جملتان، أي: فما لهم ولها، وما لها ولهم؟ . قوله: (وما سلطهم على التكلم فيها): أي: أي شيء جسرهم على أن يتكلموا فيها؟ قوله: (و (أُذُنُ خَيْرٍ): قولك: رجل صدق): أي: أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة، فهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أذُن، والجملة جواب عن قولهم: (هُوَ أُذُنٌ)، وقوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) تفسير وبيان لقوله: (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ). قوله: (ويجوز أن يُريد: هو أذن في الخير) عطف على قوله: "كقول: رجل صدق"، قال القاضي: "قوله: (هُوَ أُذُنٌ): أي: يسمع كل ما يُقال له، سُمي بالجارحة للمبالغة، كأنه من فرط استماعه صار أذنا"، أو اشتق له فعل من: أذن أذناً: إذا استمع، كأنف، وأنشد الجوهري لقعنب: صُم إذا سمعوا خيراً ذُكرت به ... وإن ذُكرت بشر عندهم أذنوا

وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودلّ عليه قراءة حمزة: (وَرَحْمَةٌ) بالجرّ عطفاً عليه، أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير؛ بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم - أي: أظهر الإيمان - أيها المنافقون؛ حيث يسمع منكم، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الأذن: الجارحة، ويُستعار لمن كثر استماعه وقبوله ما يسمع، قال الله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أي: استماعه لما يعود بخيركم. وأذن: استمع، نحو قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 2]، ويُستعمل ذلك في العلم المتوصل إليه بالسماع، نحو قوله: (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279]، والإذن والأذان لما يُسمع، ويعبر بذلك عن العلم، إذ هو مبدأ كثير من العلم، والإذن في الشيء: إعلام بإجازته والرخصة فيه". قوله: (ودل عليه قراءة حمزة: "ورحمة" بالجر): لأنه حينئذ معطوف على (خَيْرٍ)، ولا يحسن أن تكون (رحمة) صفة (أُذُنٌ) على نحو: رجل صدق وحاتم الجود، حُسنه إذا قيل: أذن في الخير وأذن في الرحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله.

مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم، لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه، لا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة. وقيل: إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الإبقاء عليكم)، الجوهري: "أبقيت على فُلان: إذا أرعيت عليه ورحمته". قوله: (فسلم لهم قولهم فيه، إلا أنه فُسر بما هو مدح له وثناء عليه): يعني أنه من باب القول بالموجب، قال صاحب "الانتصاف": "ولا شيء أبلغ في الرد من هذا الأسلوب، لأن فيه إطماعاً في الموافقة، وكذا على إجابتهم بالإبطال، هو كالقول بالموجب في استعمال الفقهاء". وقلت: مثاله قولهم: الخيل يسابق عليها، فتجب الزكاة فيها كالإبل، فيُقال: مسلم في زكاة التجارة، أي: نحن نقول بموجبه في مال التجارة، والخلاف في زكاة العين. قوله: (بفطنته): صلة "التقصير"، وقوله: "وأنه من أهل سلامة القلوب": عطف على "المذمة"، المعنى: أنهم قصدوا بقولهم: (هُوَ أُذُنٌ) قلة فطنته وشهامته، وقصدوا به أنه صلى الله عليه وسلم سليم القلب غر غير مُجرب الأمور. قوله: (وشهامته): شهم الرجل - بالضم- شهامة فهو شهم، النهاية: "كان شهماً، أي: نافذاً في الأمور ماضياً، والشهم: الذكي الفؤاد". قوله: (وقيل: إن جماعة منهم ذموه) عطف على قوله: "الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما سمع ويقبل"، والفرق: أن على الأول المقول المتأذي منه لفظ (هُوَ أُذُنٌ)، لقوله: "وإيذاؤهم له هو قولهم فيه: هُوَ أُذُنٌ"، (وَيَقُولُونَ) في التنزيل عطف تفسير لقوله: (يُؤْذُونَ النَّبِيَّ).

فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم: لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه فنعتذر إليه، فيسمع عذرنا أيضاً، فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم. وقرئ: "أذن خير لكم"؛ على أن "أذن" خبر مبتدأ محذوف، و"خير" كذلك، أي: هو أذن هو خير لكم، يعنى: إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل معاذيركم، ولا يكافئكم على سوء دخلتكم. وقرأ نافع بتخفيف الذال. فإن قلت: لم عدّى فعل الإيمان بالباء إلى الله، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّي بالباء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى الثاني: المقول المتأذي منه غير مذكور، و (يُؤْذُونَ) معبر عنه، (وَيَقُولُونَ) عطف عليه، لقوله: "ذموه وبلغة ذلك" إلى قوله: "لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة". قال الزجاج: "من المنافقين من كان يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن بلغه عني حلفت له وقبل مني، لأنه أذن يسمع العذر، فأعلم الله تعالى أنه أذن خير، أي: مستمع خير لكم، ثم بين ممن يقبل، فقال: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: هو أذن خير لكم، لا أذن شر؛ يسمع ما أنزله الله عليه، فيصدق به، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به، ورحمة للمؤمنين منكم"، ويعلم منه: أنه لا يقبل منهم، ولا يسمع عذرهم ولا يرحمهم، لأنهم ليسوا بمؤمنين. قوله: (وقرئ: "أذن خير لمك"): قال أبو البقاء: " (خيرٌ) على هذا صفة "أذن"، أي: أذن ذو خير، ويجوز أن يكون "خير" بمعنى "أفعل"، أي: أذن أكثر خيراً لكم". قوله: (سوء دخلتكم)، الأساس: "إنه لخبيث الدخلة وعفيف الدخلة، وهو باطن أمره، وأنا عالم بدخلة أمرك". الجوهري: "داخلة الرجل: باطن أمره، وكذلك الدخلة بالضم".

وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه، ويصدّقه، لكونهم صادقين عنده، فعدّى باللام، ألا ترى إلى قوله: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف: 17] ما أنبأه عن الباء. ونحوه: (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس: 83]، (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (الشعراء: 111)، (قال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ) [طه: 71]. فإن قلت: ما وجه قراءة ابن أبى عبلة: "ورحمة" بالنصب؟ قلت: هي علة معللها محذوف تقديره: "ورحمة لكم يأذن لكم"، فحذف لأنّ قوله: (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) يدل عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن يسلم لهم ما يقولونه): أي: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) مضمن معنى التسليم، فالأحسن أن يُضمن (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) معنى الوثوق والاعتراف، فيكون المعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله، فيعترف بصدقها ويشق بها، ويستمع إلى المسلمين، فيسلم لهم ما يقولون، ويصدقهم. وفيه تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله، ولا يثقون بها، فيعرضون عنها، ويسمعون قول المسلمين فلا يسلمون لهم قولهم، ولا يقبلون نصيحتهم. أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل قول المنافقين، ولا يسمع إلى خداعهم، وهذا أوجه في الرد، أي: يقبل قول المسلمين ولا يقبل قول المنافقين. قوله: (ما أنباه): أي: ما أشده نبوا عن استعمال الباء، أي: ألا ترى إلى قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) [يوسف: 17] كيف كان بعيداً عن استعمال الباء، لأن قوله: (بِمُؤْمِنٍ لَنَا): بمصدق لنا، لقوله بعده: (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف: 17].

[(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) 62]. (لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف، ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم: الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضىّ واحد، كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشنى وجبر منى. أو: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون) إلى آخره: بيان لكيفية الخطاب معهم. قوله: (وإنما وحد الضمير): جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن يُقال: لما كان (أَحَقُّ) خبراً عنهما، بمعنى: الله ورسوله أحق من غيرهما بالرضا، فكان الظاهر أن يثنى الضمير، ويقال: أن يرضوهما؟ فأجاب بقوله: "وإنما إلى آخره. قوله: (فانا في حكم مرضي واحد): قال أبو البقاء: "فعلى هذا (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) خبر عن الاسمين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام الله، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح: 10] ". قوله: (نعشني): أي: قواني ورفعني. قوله: (أو: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك): قال أبو البقاء: " (وَاللَّهُ) مبتدأ و (أَحَقُّ) خبره، و (رَسُولَهُ) مبتدأ ثان وخبره محذوف، دل عليه الأول، وقال سيبويه: (أَحَقُّ) خبر "الرسول"، وخبر الأول محذوف، وهو أقوى؛ إذ لا يلزم منه التفريق بين

[(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) 63]. المحادّة: مفاعلة من الحدّ، كالمشاقة من الشقّ، (فَأَنَّ لَهُ) على حذف الخبر، أى: فحق أن له (نارَ جَهَنَّمَ)، وقيل: معناه: فله، و"أنّ": تكرير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المبتدأ وخبره، وفيه أيضاً أنه خبر الأقرب إليه، قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف" قوله: (مفاعلة من الحد): قال الزجاج: "معناه: من يجانب الله ورسوله، أي: من يكون في حد، والله ورسوله في حد". الراغب: "الحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يُقال: حددت كذا: جعلت له حداً يميز، وحد الدار: ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه المميز له عن غره، قال تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) [الطلاق: 1]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 5 و 20]، أي: يمانعون، فذلك إما باعتبار الممانعة وإما باستعمال الحديد". قوله: (وقيل: معناه: فله، و"أن" تكرير): أي: كرر "أنَّ" للتوكيد، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ إذ يلزم الفصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط، وإيقاع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه، ويشكل أيضاً نصب (نَارَ جَهَنَّمَ).

لأن في قوله: (أَنَّهُ) تأكيداً، ويجوز أن يكون (فَأَنَّ لَهُ) معطوفا على (أنه)، على أن جواب (مَنْ) محذوف، تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ: "ألم تعلموا" بالتاء. [(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) 64] كانوا يستهزئون بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا شر خلق الله، لوددت أنى قدمت فجلدت مئة جلدة، وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في (عليهم) و (تنبئهم للمؤمنين)، وفي (قلوبهم): للمنافقين، وصحّ ذلك؛ لأن المعنى يقود إليه، ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: قد سبق مراراً أن مثل هذا التأكيد مقحم بن الكلام، فلا يكون أجنبياً، قال أبو البقاء: "إنما كررت توكيداً، كقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 119]، والفاء جواب الشرط". ومثله قول الحماسي: وإن امرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنه لكريم وأما نصب "النار" فليس بمشكل؛ لأنها ليست بزائدة حتى لا تعمل، وفيه بحث. قوله: (ويجوز أن يكون (فأنَ له) معطوفاً على (أنَّه)) أي: ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه أيضاً.

لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى (تنبئهم بما في قلوبهم): ، كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعنى: أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها. وقيل: معنى (يحذر): الأمر بالحذر، أى ليحذر المنافقون. فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله: (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ)، فما معنى قوله (إن الله مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)؟ قلت: معناه: محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت): هذا على أن تقع الاستعارة في الضمير المرفوع في (تُنَبِّئُهُمْ) على المكنية. قوله: (الحذر واقع على إنزال السورة): هذا إذا كان (يَحْذَرُ) على الإخبار، لأنه فعلٌ مضارع محكي عن شأنهم وعادته، ومن ثم قال: "وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله"، وحاصل السؤال: أن الطباق هو أن يُقال: والله منزل ما يحذرونه، فكيف وضع موضعه (مُخْرجٌ)؟ وحاصل الجواب: أن الزيادة للمبالغة. قوله: (مُحصل مبرز إنزال السورة): فالمحذر منه - على هذا- إنزال السورة، والمراد بقوله: (اسْتَهْزِئُوا): هو ما في قلوبهم من النفاق، لأن المنافق مستهزئ، كما سبق في البقرة في قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) [البقرة: 9]: أنه تفسير لقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8]. قوله: (أو أن الله مظهر ما كنتم تحذرونه): فالمحذر منه إظهار النفاق، لأن قوله: "من نفاقم" بيان "ما كنتم تحذرونه"، أي: يكشف نفاقكم كشفاً تاماً، وهو ما قال في القصة

[(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) 65 - 66]. بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال: "احبسوا علىّ الركب"، فأتاهم، فقال: "قلتم كذا وكذا"، فقالوا: يا نبي الله، لا والله ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض الركب فيه؛ ليقصر بعضنا على بعض السفر. (أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) لم يعبأ باعتذارهم؛ لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآتية: "فقال لهم: قلتم كذا وكذا، والدال على الكشف التام معنى قوله: (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ)، أي: لابد أن يخرجه إخراجاً لا مزيد عليه، ما ظنكم بمخرج هو الله تعالى؟ ! قوله: (لم يعبأ باعتذارهم)، الجوهري: "ما عبأت بفلان عبأ، أي: ما باليتُ به"، واعتذارهم: هو قولهم: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، نُزِّلَ هذا الاعتذار منزلة اعترافهم بالاستهزاء لكونهم كاذبين فيه، كأنهم قالوا: نحن مستهزؤون، وهو المراد من قوله: "فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم"، ولهذا قُدم المعمول على العامل. قوله: (حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء): أي: ليس مكان الاستهزاء الحاصل

حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته. (لا تَعْتَذِرُوا): لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم، (قَدْ كَفَرْتُمْ): قد أظهرتم كفركم باستهزائكم (بَعْدَ إِيمانِكُمْ): بعد إظهاركم الإيمان، "إِنْ يعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ" بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، "نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ" مصرين على النفاق غير تائبين منه، أو: "إن يعف عن طائفة منكم" لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستهزءوا فلم نعذبهم في العاجل، تعذب في الآجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين. وقرأ مجاهد: "إن تعف عن طائفة" على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير، لأن المسند إليه الظرف، كما تقول: سير بالدابة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه المذكورات، لأن همزة التقرير، على سبيل التوبيخ، المصدرة على الجار والمجرور، المقدم على عامله: مؤذنة بأن الاستهزاء واقع لا محالة، لكن الخطأ في المستهزأ به، يعني: مكان الاستهزاء غير المذكورات، فأخطأتم حيث جعلتموها مكانه، قال صاحب "المفتاح": "لا يجوز بعدما عرفت أن التقديم يستدعي العلم بحال نفس الفعل وقوعاً: أزيداً ضربت، سائلاً عن حال وقوع الضرب، وذلك أن تقديم المفعول يستدعي حصول الفعل، كما عرفت في باب التقديم، وأن السؤال عن وقوع الضرب يستدعي عدم حصوله". هذا معنى قول المصنف: "وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته". قوله: (والوجه التذكير؛ لأن المسند إليه الظرف) إلى آخره: حكاية كلام ابن جني.

ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن ترحم طائفة، فأنث لذلك، وهو غريب، والجيد قراءة العامّة: "إن يعف عن طائفة"، بالتذكير، و"تعذب طائفة"، بالتأنيث. وقرئ: "إن يعف عن طائفة يعذب طائفة"، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل. [(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) 67 - 68]. (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة: 56]، وتقرير قوله: (وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة: 56]، ثم وصفهم بما يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين: (يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ): بالكفر والمعاصي، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ): عن الإيمان والطاعات، (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) شحا بالمبارّ والصدفات والإنفاق في سبيل الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتكذيبهم في قولهم: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة: 56]، وتقرير قوله: (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة: 56]): بيان لاتصال هذه الآية بما قبلها، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما عد فضائح المنافين وحكى قبائحهم - من قوله: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) [التوبة: 42]، وقوله: (إِنَّمَا يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [التوبة: 45]، وقوله: (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة: 49]، وقوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة: 50]، وقوله: (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [التوبة: 53]، وقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة: 56]، وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 58]، وقوله: (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) [التوبة: 61]، وقوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ) [التوبة: 64]، خص من بين المذكورات ما هو أقبحها وأشنعها من الكذب المحض والزور البحت - وهو

(نَسُوا اللَّهَ): أغفلوا ذكره، (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من رحمته وفضله، (هُمُ الْفاسِقُونَ): هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرُّد في الكفر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) - بالرد بقوله: (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة: 56]، لأنه على منوال قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8]، وأكد الرد بقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، وعلله بقوله: (يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ). وفي تعليله بهذا الوصف، وتعليل قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ) [التوبة: 71]: اعتناء عظيم واهتمام شديد بشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي العود إلى تقرير الرد بعد الطول الدلالة على أن الكذب مناف للإيمان الذي هو التصديق، وهذا أقبح القبائح. قوله: ((الْفَاسِقُونَ) هم الكاملون في الفسق): يريد أن اللام في (الْفَاسِقُونَ) للجنس، فدل على كمال هذا المعنى فيهم، نظيره قوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]، والكافر إذا وُصف بالفسق دل على المبالغة، ومن ثم قال: "هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير"، ثم في وصف المنافقين بالفسق دل على المبالغة، ومن ثم قال: "هو التمرد في الكفر الانسلاخ عن كل خير"، ثم في وصف المنافقين بالفسق - والنفاق أوغل منه في الكفر - تعريض بالمؤمنين، وردع لهم عن الاتصاف بما يشاركون من تبوأ مقعده في الدرك الأسفل من النار، وإليه الإشارة بقوله: "وكفى المسلم زاجراً أن يُلم بما يكسبه هذا الاسم" وهو من باب قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6 - 7].

والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله: (كُسالى) [النساء: 142]، فما ظنك بالفسق! (خالِدِينَ فِيها): مقدّرين الخلود، (هِيَ حَسْبُهُمْ) دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه، و (َلَعَنَهُمُ اللَّهُ): وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة، وألحقهم بالملائكة المكرمين، (وَلَهُمْ عَذابٌ): ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يُكسبه هذا الاسم): "كفى": يتعدى إلى مفعولين. الجوهري: "كفاه مؤونته، وكفاك الشيء"، قال الله تعالى: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) [الأحزاب: 25]. الأساس: "ما فعل ذلك وما ألم وما كاد، وهذه ناقة قد ألمت للكبر، وألم بالأمر: لم يتعمق فيه، وألم بالطعام: لم يُسرف في أكله". قيل: يجوز أن يكون فاعل "كفى": "أن يُلم بما يكسبه"، و"زاجراً" تمييز مقدم على الفاعل، ونحوه قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]، أي: كفى المسلم إلمامه بشيء يكسبه وصف المنافين زاجراً. والأولى أن فاعل "كفى" قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)، و"زاجراً" تمييز، و"أن يُلم" ثاني مفعولي "كفى"، ويجوز أن يُجعل "زاجراً" حالاً من الفاعل، وأن يُجعل ثاني مفعولي "كفى" وأن يتعلق "أن يُلم" بـ "زاجراً"، المعنى: كفى قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) المسلم زاجراً أن يقرب إلى ما يكسبه اسم الفسق. قوله: (ولهم نوع من العذاب) إلى آخره: يريد أنه تعالى لما وعد المنافقين والكفار بأن

(مقيم): دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد: (ولهم عذاب مقيم) معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفا من المسلمين، وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم. [(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) 69]. الكاف محلها رفع؛ على: أنتم مثل الذين من قبلكم، أو نصب؛ على: فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا، ونحوه قول النمر: كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلَا طَلبَا بإضمار: "لم أر". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لهم نار جهنم خالدين، خص من الفريقين بالذكر المنافقين، وقدم الخبر على المبتدأ ونكره ووصفه بالمقيم؛ ليدل على أنهم اختصوا بعذاب لا يكتنه كنهه، ومع ذلك أنه مقيم خالد كالعذاب المذكور قبل. قوله: (كاليوم مطلوباً ولا طلبا): أوله: حتى إذا الكلابُ قال لها

وقوله: (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم، و"الخلاق": النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أي: قدّر من خير، كما قيل له: "قسم"؛ لأنه قسم، و"نصيب"، لأنه نصب، أي: أثبت، و"الخوض": الدخول في الباطل واللهو، (كَالَّذِي خاضُوا): كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوا ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصف ثور وحش وكلاباً، أي: قال الكلاب لها، أي: لأجل الكلاب، يريد بالمطلوب: الثور، وبالطلب: الكلاب، وهو جمع طالب، كخدم وخادم، أي: الثور يجد في الفرار، والكلاب لا تجد في الطلب، الكاف في "كاليوم" في موضع الحال، وصاحبها المفعول به، وهو "مطلوباً"، فصارت حالاً، ثم حذف المضاف إليه مع صفته الذي هو "أراه"، وأقيم الظرف مقامه، فصار الكلام ما ترى. قوله: (تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم): يعني: قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تشبيه مبهم، لم يُعلم أنهم فيم شُبهوا بمن قبلهم؟ فبين بقوله: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) إلى آخر الآية وجه الشبه، وهو القوة والمال، والتشبيه تمثيلي؛ لِمَا فيه من تشبيه حال المخاطبين بحالهم، وكان أصل الكلام: أنتم كالذين من قبلكم ذوي قوة وشدة وأصحاب أموال، أبطرتهم قوتهم وأموالهم حتى اشتغلوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها، عن طلبا لفوز برضوان الله، فبطل ما كانوا فيه، وخسروا خسراناً مبيناً. قوله: ((كَالَّذِي خَاضُوا): الفوج الذين خاضوا): قدر "الفوج" ليطابق المشبه به، قال أبو البقاء: " (الذي) فيه وجهان: أحدهما: أنه جنس، أي: خوضاً كخوض الذين خاضوا، والثاني: أن "الذي" هاهنا مصدرية، أي كخوضهم، وهو نادر".

فإن قلت: أي فائدة في قوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وقوله: (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه، كما أغنى قوله: (كَالَّذِي خاضُوا) عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية، عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله، فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذب، ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فمعطوف على ما قبله، مستند إليه، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي فائدة في قوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ): تلخيص السؤال: أن هاهنا تشبيهين؛ أحدهما يجري على ظاهره، وهو قوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، وثانيهما فيه إطناب، لأن أصله فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، فأي فائدة في زيادة (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ)؟ وأجاب: أن هذه الزيادة كالتوطئة والتمهيد للتمثيل؛ لمزيد تقبيح الاستمتاع بشهوات الدنيا ولذاتها، وتوطين ذلك في قلب السامع إجمالاً وتفصيلاً، فيقدر مثله للتمثيل الثالث؛ لونه معطوفاً عليه، ويمكن أن يقال: التمثيل الثاني كالمفرع على الأول بشهادة الفاءين للإيذان بأن "حب الدنيا رأس كل خطيئة". قوله: (والتهائهم بشهواتهم)، الجوهري: "لهوت بالشيء ألهو لهواً: إذا لعبت به، ولهيت عنه - بالكسر- ألهى لهياً ولهياناً: إذا سلوت عنه وتركت ذكره".

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) نقيض قوله: (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت: 27]. [(أَلَمْ يَاتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) 70]. (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ): وأهل مدين، وهم قوم شعيب، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ): مدائن قوم لوط، وقيل: قريات قوم لوط وهود وصالح، وائتفاكهنّ: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر، (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ): فما صحّ منه أن يظلمهم، وهو حكيم، لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر): الائتفاك في الأصل: "الانقلاب، وحقيقته: أن يُجعل الشيء عاليه سافله، ثم يُستعار لانقلاب الأحوال عن الخير على الشر، فإذا حُمل "المؤتفكات" على مدائن قوم لوط فالانقلاب على حقيقته، وإذا حُمل على العموم فالانقلاب مجاز، لأن كل القريات ما انقلبت عاليها سافلها. قوله: (فما صح منه أن يظلمهم، وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح): مذهبه، قال القاضي: "معناه: لم يكن من عادته تعالى ما يُشابه ظُلم الناس، كالعقوبة بلا جُرم".

[(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 71 - 72]. (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله في المنافقين: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67]. (سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، تعنى: أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (مريم: 96)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى: 5]، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء: 152]. (عَزِيزٌ): غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب، (حَكِيمٌ): واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله في المنافقين): فيكون "يقبضون أيديهم" [التوبة: 67] المعبرُ عن البُخل في مقابلة (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، و (نَسُوا اللَّهَ) [التوبة: 67] في مقابلة (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ)، والوعيد في مقابلة الوعد. قوله: (فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد): قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر". والجواب: أن المقصود بالتأكيد أن السين في الإثبات مقابلة "لن" في النفي، فتكون بهذا الاعتبار تأكيداً.

(وَمَساكِنَ طَيِّبَةً): عن الحسن: قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد، و (عَدْنٍ) علم، بدليل قوله: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) [مريم: 61]، ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عدن: دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك"، وقيل: هي مدينة في الجنة، وقيل: نهر جناته على حافاته. (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ): وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة وإن عظمت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بدليل قوله: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ) [مريم: 61]: أي: بدليل وصفها بالمعرفة. قوله: (وشيء من رضوان الله أكبر): قال صاحب "المفتاح": "قال: (وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ) دون أن يقول: ورضوان الله أكبر، قصداً إلى إفادة: قدر يسير من رضوانه خير من ذلك كله". الراغب: "رضي يرضى رضاً فهو مرضى ومرضو، رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمراً لأمره، ومنتهياً عن نهيه. والرضوان: الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله خُص لفظ "الرضوان" في القرآن بما كان من الله تعالى". قوله: (تتهنأ له): الضمير الفاعل راجع إلى "النعم"، أي: إنما يمرى النعيم والتطيب للعبد بواسطة رضاه وعلمه أنه تعالى راض عنه.

وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة، والنفس المرّة من مشايخنا، يقول: لا تطمح عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده. (ذلِكَ) إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان، أي (هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً. وروى: "أن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا". [(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 73]. (جهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف، (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة: فهذا الحكم ثابت فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (بعض أولي الهمة البعيدة): قيل: عني به عبد السيد الخطيبي أخا صاعد. قوله: (والنفس المرة)، الجوهري: "المرة: القوة وشدة العقل أيضا". قوله: (هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى)، الحديث: مخرج في "الصحيحين" عن أبي سعيد. "أُحل عليكم رضواني"، أي: أوجب. الجوهري: "حل العذاب يحل - بالكسر -: وجب، ويحل - بالضم-: نزل، وقرئ بهما قوله تعالى: (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه: 81] ". قوله: (وكل من وقف منه على فساد في العقيدة: فهذا الحكم ثابت فيه): اعتبر في قوله:

يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها، عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه"، يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. [(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 74]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (جَاهِدِ) اشتراكا معنوياً، وحمله على المعاني المختلفة للقدر المشترك، وهو التغليب على المخالف لإظهار الحق، وفيما ورد عليه الأمر من الكفر والنفاق اعتبر معنى فساد العقيدة لكون العلة الباعثة على الجهاد مشتركة أيضاً. قوله: (فليكفر في وجهه)، الجوهري: "اكفهر الرجل: إذا عبس، ونمه قول ابن مسعود: "إذا لقيت الكافر فالقه بوجه مكفهر"، أي: لا تلقه بوجه منبسط". ويشبه كلام ابن مسعود: ما روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي عن أبي سعيد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبهن وذلك أضعف الإيمان".

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد، فقال الجلاس: إن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم، وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل، والله إنّ محمداً صادق، وأنت شرّ من الحمار! وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال، فرفع عامر يده، فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق، فنزل: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا) فقال الجلاس: يا رسول الله، عرض الله علىّ التوبة، والله لقد قلته، وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت توبته. (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام، (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك، توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بزمام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا. وقيل: همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبىّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تصديق الكاذب وتكذيب الصادق): يُريد: أنزل تصديقي في حقيقة الأمر، وإن كنت كاذباً عند الناس لحلف الجلاس، وأنزل تكذيبه في حقيقة الأمر، وإن كان صادقاً عند الناس لحلفه، فسمي نفسه الكاذب لظاهر حاله، وخصمه الصادق لذلك، تحريره: أنزل في شأن من كذب وهو مصدق، ومن صدق وهو مكذب.

(وَما نَقَمُوا): وما أنكروا وما عابوا، (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ) وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فأثروا بالغنائم، وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشر ألفاً فاستغنى. (فَإِنْ يَتُوبُوا) هي الآية التي تاب عندها الجلاس، (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالقتل والنار. [(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) 75 - 77]. روى: أنّ ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه والسلام: "يا ثعلبة"، قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه". فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كل ذى حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمى الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد! فقال: "يا ويح ثعلبة! ". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأثروا بالغنائم): أي: صاروا أغنياء، الجوهري: ""أثرى الرجل: إذا كثر ماله". قوله: (اثني عشر ألفاً): قيل: يجوز أن تكون زيادة الألفين شنقاً، كانوا يعطون الدية ويتكرمون بزيادة عليها ويسمونها شنقاً. الجوهري: "الشنق: ما دون الدية، وذلك أن يسوق ذو الحمالة الدية كاملة، فإذا كانت معهاديات جراحات، فتلك تُسمى الأشناق، كأنها متعلقة بالدية العظمى". قوله: (يا ويح ثعلبة! ): مختصر من قصته مذكور في "الاستيعاب". النهاية: "ويح:

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! وقال: ارجعا حتى أرى رأيى، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ويح ثعلبة! " مرّتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال: إنّ الله منعني أن أقبل منك"، فجعل التراب على رأسه، فقال: "هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني". فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وجاء إلى عمر رضى الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه. وقرئ: "لنصدقن ولنكونن" بالنون الخفيفة فيهما، (مِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد الحج. (فَأَعْقَبَهُمْ): عن الحسن وقتادة: أنّ الضمير للبخل، يعنى: فأورثهم البخل، (نِفاقاً) متمكنا (فِي قُلُوبِهِمْ) لأنه كان سببا فيه وداعياً إليه، والظاهر أن الضمير لله عزّ وجل، والمعنى: فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وهي منصوبة على المصدر". قوله: (هذا عملك): أي منع الله إياي قبول صدقتك جزاء عملك. قوله: (يريد الحج): يعني: عطف (وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ) على (لَنَصَّدَّقَنَّ) - بعد قوله: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ) -: يُفيد الصلاح في المال، والصلاح في المال بعد الصدقة هو النفقة في الحج والغزو.

وكونهم كاذبين، ومنه: جعل خلف الوعد ثلث النفاق. وقرئ: "يكذبون" بالتشديد، و"ألم تعلموا" بالتاء، عن علىّ رضي الله عنه. [(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) 78]. (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ): ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم؛ من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها. [(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 79]. (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) محله النصب أو الرفع على الذمّ، ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلا من الضمير في (سرهم ونجواهم) [التوبة: 87]، وقرئ: "يلمزون"، بالضم (الْمُطَّوِّعِينَ): المتطوّعين المتبرعين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه جُعل خُلفُ الوعدِ ثلث النفاق): أي: من أجل أن خُلفَ الوعد سببٌ لإعقاب النفاق قبل: خُلفُ الوعد ثلث النفاق، لمح إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر"، وفي رواية: "وإذا اؤتمن خان"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. ويمكن أن تستنبط الخلال كلها من الآية، فالعهد من قوله: (عَاهَدَ اللَّهَ)، والوعد من قوله: (وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ)، والكذب من قوله: (وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).

روي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب، وقيل: بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة، وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت"، فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، وتصدّق عاصم بن عدىّ بمئة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر، فقال: بت ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون، فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت. (إِلَّا جُهْدَهُمْ): إلا طاقتهم، قرئ بالفتح والضم، (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) كقوله: (الله يستهزئ بهم) [البقرة: 15] في أنه خبر غير دعاء، ألا ترى إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً): القصة مذكورة في "الاستيعاب"، وعلى تقدير أن تكون ثمانين ألفاً تمام حصتها، يكون مجموع المال ألفا ألفٍ وخمسُ مئة ألف وستون ألفاً. قوله: (أجر بالجرير): الجرير: حبل يجر البعير به، بمنزلة العذار للدابة غير الزمام. النهاية: " (أن رجلاً يجر الجرير، فأصاب صاعين من تمر، فتصدق بأحدهما)؛ يريد أنه كان يستقي الماء بحبل". قوله: (ألا ترى إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)): أي: عطف قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

[(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) 80] سأل عبد الله بن عبد الله بن أبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا صالحا: أن يستغفر لأبيه في مرضه، ففعل، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله قد رخص لي، فسأزيد على السبعين"، فنزلت: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [المنافقون: 6]. وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر، كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: لَأَصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ ألْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على قوله: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ)، ولو كان (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) دعاء، لزم عطف الخبري على الطلبين وإنما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة الاسمية والفعلية، ليؤذن أن العذاب الأليم وعيد دائم، وأما استهزاء الله إياهم فعلى التجدد، كما قال: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة: 126]، أو أن السخرية قد حصلت لهم في الدنيا، والعذاب الأليم كائن في الآخرة على الدوام. قوله: (وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر): يعني: في قوله تعالى: (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التوبة: 53]، لنكتة فيه، وهي أن المعنى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه. قوله: (لأصبحن العاص) البيت: "لأصبحن": من الصبح، أي: لأعطين الصبوح، يُقال في الحرب: صبحناهم، أي: عاديناهم بالخيل، ويوم الصباح: يوم الغارة، يريد بـ"العاص":

فإن قلت: كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي عصاه، و"ابن العاص": بيان له، وهو عمرو بن العاص، "سبعين ألفاً": أي: من الجيش، "عاقدي النواصي": أي: نواصي خيلهم، والعاقد بمعنى المعقود. رُوي عن علي بن عيسى أنه قال: العرب تبالغ بالسبع وبالسبعين، لأن التعديل في نصف العقد، وهو خمسة، وإذا زيد عليها واحدٌ كان لأدنى المبالغة، وإذا زيد اثنان كان لأقصى المبالغة، ولذلك قالوا للأسد: سبع، لأنه قد ضُوعف قوته سبع مرات. وقال القاضي: "قد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مئة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره". وقال صاحب "الإيجاز": "السبعة أكمل الأعداد بجمعها معاني الأعداد، لأن الستة أو لعدد تام، لأنها تُعادل أجزاءها، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجُملتها ست، وهي مع الواحدة سبع، فكانت كاملة، إذ ليس بعد التمام سوى الكمال، ولعل واضع اللغة سمي الأسد سبعاً لكمال قوتهن كما أنه أسد لإساده في السير، ثم "سبعون" غاية الغاية، إذ الآحاد غايتها العشرات، فكان المعنى: أنه لا يُغفر لهم، وإن استغفرت أبداً". قوله: (كيف خفي): أي: هذا المعنى، وهو أن السبعين مثل في التكثير.

حتى قال: "قد رخص لي ربى، فسأزيد على السبعين"؟ قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة: لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (قد رخص لي ربي، فسأزيد على السبعين): قال في "الانتصاف": "أنكر القاضي حديث الاستغفار ولم يصححه، وقبله قوم، وجعلوه عمدة مفهوم المخالفة". وقلت: إنما ينكره من لا يد له في علم الحديث، والحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إنما خيرني الله تعالى، فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية، وسأزيد على السبعين". قوله: (ولكنه خيل بما قال): أي: صور في خياله أو في خيال السامع ظاهر اللفظ -وهو العدد المخصوص-، دون المعنى الخفي المراد- وهو التكثير-، كما أن إبراهيم عليه السلام ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عد عصيانه- في قوله: (وَمَنْ عَصَانِي) - عصيان الله المراد منه عبادة الأصنام لدلالة السياق، كما سيجيء، فعقبه بقوله: (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، لغاية رحمته ورأفته على أمته، وهو من أسلوب التورية، وهو أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، فيراد البعيد منهما، كقول القبعثري - في جواب الحجاج: "لأحملنك على الأدهم"-: "مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب"، أبرز الوعيد في معرض الوعد. قال القاضي: "فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من "السبعين" العدد المخصوص؛ لأنه الأصل، فجوز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه، وقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) كالتنبيه على عذر الرسول صلى الله عليه وسلم في استغفاره، وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113] ".

[(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) 81]. (الْمُخَلَّفُونَ): الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان، ب (ِمَقْعَدِهِمْ): بقعودهم عن الغزو، (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ): خلفه، يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة: "خلف رسول الله"، وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له. (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان؟ ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وانتصابه على أنه مفعول له): قال أبو البقاء: "و (خِلافَ) ظرف بمعنى: خلف، أي: بعد، والعامل فيه "مقعد" أو (فَرِحَ)، وقيل: هو مفعول من أجله، فعلى هذا هو مصدر، أي: لمخالفته، وقيل: هو مصدر دل عليه الكلام، لأن مقعدهم عنه تخلف". قوله: ((أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) تعريض بالمؤمنين): يعني: في ذكر المجاهدة بالأموال والأنفس تعريض بالمؤمنين ومدح لهم، وذم للمنافقين. قوله: (وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم) إلى آخره: عطف تفسيري على قوله: "وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله"، وهو على هذا تفسير لقوله: "بالمؤمنين أيضاً". قوله: (وكره ذلك): المشار إليه هو المذكور من بذل الأموال والإيثار. و"كرِهَ": إما حال من فاعل "فعلوا"، و"قد" مُقدرة، أو من الراجع المنصوب إلى "ما".

(قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصوّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، ولبعضهم: مَسَرَّةُ أحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ أرْيُهَا شِبْهُ الصَّابِ فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسرَّةَ سَاعَةٍ ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةُ أحْقَابِ [(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 82]. معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا (جَزاءً)، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استجهال لهم): يعني نظروا إلى هذا الحر النزر، غفلوا عن تلك النار التي لا تقاس حرارتها بشيء من النيران، بله حر القيظ، ومن تصون من مشقة ساعة، فوقع به في مشقة الأبد: كان أجهل من كل جاهل. ويمكن أن يقال: إن قوله: (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) تتميم للتجهيل، أي: قل لهم هذا وجهلهم به، وليتهم يفقهون ما تعنيه بقولك. قال القاضي: " (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) أنها كيف هي، ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة". قوله: (مسرة أحقاب) البيتين: "الأحقاب": الأزمان الكثيرة، و"الأري": العسل، و"الصاب": نبتٌ مُر، وقيل: هو الحنظل، "مساءة أحقاب": مُبتدأ، والخبرُ "وراء تقضيها"، والجملة ثاني مفعولي "تلقى". قوله: (حتمٌ واجب): لأن الأمر لا يحتمل الصدق والكذب، كما يحتمله الخبر، ولذلك قال: "لا يكون غيره"، أو أن أمر الله للأشياء حتمٌ لوجودها وقطعٌ في كونها لقوله تعالى: (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، و (فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا) [البقرة: 243].

يروى: أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَاذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) 83]. وإنما قال: (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ)؛ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح، وقيل: لم يكن المتخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم (فَاسْتَاذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك، (وأَوَّلَ مَرَّو) هي الخرجة إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين (مَعَ الْخالِفِينَ) قد مرّ تفسيره، قرأ مالك بن دينار: "مع الخلفين"؛ على قصر الخالفين. فإن قلت: (مَرَّو) نكرة وضعت موضع "المرات" للتفصيل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يرقأ لهم دمع)، النهاية: "رقأ الدمع يرقأ [رقوءا] بالضم: إذا سكن وانقطعن والاسم الرقوء بالفتح". قوله: (موضع المرات للتفصيل): صح بالصاد المهملة، يعني: أن "أفعل" التفضيل: إذا أُريد به بيان زيادته في المعنى، يقتضي أن يكون المفضل داخلاً فيما أضيف إليه، فالأصل الجمع، فوُضع المفرد موضعه، لإرادة التفصيل، أي: فضل المذكور على الجنس المذكور إذا فصل الجنس واحداً بعد واحد، فعلى هذا (أَوَّلَ) بعضُ ما أضيف إليه، وهي (مَرَّةٍ)، فحقه التأنيث، فلِمَ ذُكِّر؟

فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها، وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ، ثم إنّ قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا، قيل فيهم ما قيل. (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) 84 - 85]. روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين، ويدعو لهم، فلما مرض رأس المنافقين عبد الله بن أبىّ، بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه): قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: تقديره: هند إنسان أكبر النساء، وزماناً أول مرة، واختير التذكير لأن التأنيث ظاهر هاهنا، واستغني عنه كما استغنوا بـ "تركتُ" عن "وذرتُ"، مثله قول الذبياني: نبئت نعماً على الهجران عاتبة ... سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري أي: لذلك الشخص، قال أبو البقاء: "المرة في الأصل: مصدر: مر يمر، ثم استعمل ظرفاً اتساعاً، وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل".

قال: أهلكك حب اليهود، فقال: يا رسول الله، بعثت إليك لتستغفر لي، لا لتؤنبنى، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده، ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه، فقال: أنت عبد الله ابن عبد الله، الحباب: اسم شيطان، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدوّ الله؟ فنزلت. وقيل: أراد أن يصلى عليه، فجذبه جبريل. فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في ثوبه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أخذ ببدر أسيرا، لم يجدوا له قميصاً، وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله قميصه. وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد، ولكنا نأذن لك، فقال: لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا لتؤنبني)، الجوهري: "أنبه تأنيباً: عنفه ولامه". قوله: (وسأله أن يكفنه في شعاره): عن البخاري ومسلم عن جابر قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ بعدما أُدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، قال: وان كسا عباساً قميصاً". وفي رواية: "قال له ابن عبد الله: ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك". وفي أخرى: "لما كان يومُ بدر أتى بأسارى، وأتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي، يقدر عليه، فكساه إياه، فذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه". قال ابن عيينة: "كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، فأحب أن يكافئه".

وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة، فعمل بعادات الكرام، وإكراماً لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له: "أسألك أن تكفينه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء"، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: "إنّ قميصي لن يغنى عنه من الله شيئاً، وإن أؤمل في الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب"، فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج، لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه. فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة، وعن ابن عباس: "ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإجابة له إلى مسألته): صح بالنصب عطفاً على "مكافأة له"، وكذا "وإكراماً" و"عِلماً"، وكذا قوله: "وليكون إلباسه إياه لُطفاً لغيره"، وإنما أدخل اللام في الأخير لأن الكون ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل. قوله: (وعن ابن عباس: ما أدري ما هذه الصلاة): روينا عن البخاري الترمذي والنسائي عن عمر رضي الله عنه قال: "لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، وقلت: يا رسول الله، أتُصلي

(ماتَ) صفة لـ (أحد)، وإنما قيل: (مات) (وماتوا) بلفظ الماضي، والمعنى على الاستقبال، على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة، (إِنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل للنهى. وقد أعيد قوله: (وَلا تُعْجِبْكَ) لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لاسيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه ذلك الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه. [(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَاذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 86 - 89]. يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها، في قوله: (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)، كما يقع القرآن والكتاب على كله، وعلى بعضه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ابن أبي، وقد قال يوم كذا وكذا: [كذا وكذا]؟ أُعدد عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "أخر عني يا عمر"، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلا تُصَلِّ) إلى قوله: (وَهُمْ فَاسِقُونَ). قال: فتعجبت بعدُ من جُرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم". قوله: (فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه): ويسمى هذا الأسلوب في البديع: الترجيع.

وقيل: هي (براءة)، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد، (أَنْ آمِنُوا) هي" أن" المفسرة، (أُولُوا الطَّوْلِ): ذوو الفضل والسعة، من: طال عليه طولا، (مَعَ الْقاعِدِينَ): مع الذين لهم علة وعذر في التخلف، (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك. (لكِنِ الرَّسُولُ) أي: إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً، كقوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) [الأنعام: 89]، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت: 38]. (الْخَيْراتُ) تتناول منافع الدارين؛ لإطلاق اللفظ، وقيل: الحور، لقوله: (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) [الرحمن: 70]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي براءة): عطف على قوله: "أن يُراد السورة بتمامها"، أي: أي سورة كانت، ولا تخلو كل سورة من الاشتمال على أمر بالإيمان والجهاد إما حقيقة أو ضمناً، لأن المقصود الأولي من إنزالها الدعوة إلى الله تعالى وإلى طريق الحق. [قوله: ((إِنْ آمَنُوا) هي"أن" المفسرة)]: قال أبو البقاء: " (إِنْ آمَنُوا)، أي: آمنوا، والتقدير: يُقال فيها: آمنوا. وقيل: (أنْ) هاهنا مصدرية، تقديره: أنزلت بأن آمنوا، أي: بالإيمان. وإنما اختار المصنف أن تكون مفسرة، لأن قولهم في الجواب: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) يستدعي الأمر بالجهاد، وفي جعلها مصدرية ثم تأويلها بالأمر- أي: ملتبسة بالإيمان، أي: بالأمر بالإيمان - توسيع الدائرة. قوله: (تهد إلى الغزو): ينهد- بالفتح-: ينهض محتشداً مستعداً متهيئاً.

[(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 90]. (الْمُعَذِّرُونَ) من: عذر في الأمر: إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته: أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل، ولا عذر له. أو المعتذرون -بإدغام التاء في الذال، ونقل حركتها إلى العين، ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين، وضمها لإتباع الميم، ولكن لم تثبت بهما قراءة-، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم) [التوبة: 94]. وقرئ: "المعذرون" بالتخفيف، وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان؛ قالوا: إن لنا عيالا، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل؛ قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طىّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم: "سيغنيني الله عنكم". وعن مجاهد: نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله. وعن قتادة: اعتذروا بالكذب. وقرئ: "المعذرون" بتشديد العين والذال، من: تعذر، بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد، في "المطوّعين"، و"أزكى" و"أصدق". وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر (المعذرون) و"المعذرون" -على قراءة ابن عباس-: الذين لم يفرطوا في العذر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وقيل: أريد المعتذرون بالصحة): أي: بالحق لا الباطل. قال صاحب "التقريب" قوله: : أريد المعتذرون بالصحة، وبه فُسر (الْمُعَذِّرُونَ) " مشدداً ومخففاً، من: أعذر: إذا لم يُفرط في العُذر. وفيه نظر؛ إذ "المُعذر" على زنة "المُفعِّل" هوا لممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. ذكره في "الصحاح" تم كلامه.

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان، وقرأ أبىّ: "كذبوا" بالتشديد. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ): من الأعراب، (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا: بالقتل، وفي الآخرة: بالنار. [(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) 91 - 92]. (الضُّعَفاءِ): الهرمي والزمني، و (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ): الفقراء، وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. و"النصح لله ورسوله": الإيمان بهما، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمذكور في "الصحاح": " (الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ): يُقرأ بالتشديد التخفيف: أما "المُعذر" بالتشديد: فقد يكون محقاً وقد يكون غير محق؛ فأما المحق فهو في المعنى: المعتذر، لأن له عذراً، لكن التاء قلبت ذالاً، فأدغمت فيها، وجُعلت حركتها على العين، كما قرئ: "يخصمون" بفتح الخاء، ويجوز كسر العين لاجتماع الساكنين، ويجوز ضمها إتباعها للميم. وأما الذي ليس بمحق فهو المُعذر، على جهة المفعل، لأنه الممرض والمقصر يعتر بغير عذر. وكان ابن عباس يقرأ: "وجاء المعذرون" - مخففة، من: أعذر - ويقول: والله هذا أُنزلت، وكان يقول: لعن الله المعذرين! كأن الأمر عنده أن المعذر - بالتشديد - هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر، وهذا لا عذر له. والمعذر: الذي له عُذر. وقد بينا الوجه الثاني في المُشدد".

وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما، كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه، (عَلَى الْمُحْسِنِينَ): على الناصحين المعذورين، ومعنى: "لا سبيل عليهم": لا جناح عليهم، ولا طريق للعتاب عليهم. (قُلْتَ) حال من الكاف في (أَتَوْكَ)، "وقد" قبله مضمرة، كما قيل في قوله: (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء: 90]، أي إذا ما أتوك قائلا: لا أجد (تَوَلَّوْا). وقد حصر الله المعذورين في التخلف: الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل: المستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا قوله: "المعتذرون بالصحة" معطوف على قوله: "وهُم الذين يعتذرون بالباطل"، والوجهان مبنيان على قوله: "أو المعتذرون بإدغام التاء"، وهو عطف على قوله: "مِن: عذر في الأمر". فالحاصل: أن (الْمُعَذِّرُونَ) إما محمول على أنه من المُفعل، من: عذر في الأمر: إذا قصر فيه، أو على: معتذرون، بإدغام التاء، وهو أيضاً إما أن يُراد منه الذين يعتذرون بالباطل، كما ذهب إليه ابن عباس، أو أريد المعتذرون بالصحة، أي: بالحق لا الباطل، كما ذكره الجوهري. ومعنى قراءة ابن عباس من هذا الأخير. قوله: (كما يفعلُ الموالي الناصح بصاحبه): يريد: أن النصح لله ولرسوله مستعار للإيمان والطاعة والتولي والحب والبغض فيهما. قوله: (المستحملون أبو موسى [الأشعري] وأصحابه): عن أبي موسى قال: أتيت رسولا لله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين تستحمله، قال: "والله لا أحملكم، وما عندي ما أحلكم عليه". ثم لبثنا ما شاء الله، فأتي بإبل، فأمر لنا بثلاث ذود، فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض: لا بارك الله لنا، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف أن لا يحملنا. قال أبو موسى:

وقيل البكاؤون، وهم ستة نفر من الأنصار. (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ): كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من: يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و (من) للبيان، كقولك: أفديك من رجل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فقال: "ما أنا حملتكم، بل الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". هذه رواية النسائي، وفي رواية البخاري ومسلم نحو هذه. قوله: (وقيل البكاؤون، وهم ستة نفر من الأنصار): قال محيي السنة: "هم سبعة نفر، سموا البائين: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلبة ابن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل المُزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه، فولوا وهم يبكون"، والحديث". قوله: (و (مِنَ) للبيان، كقول: أفديك من رجُل): يعني: "مِن" تجريد، جُرد من الرجل شخص، فخوطب بقوله: أفديك، وهو هو، وهو من قولك: رأيتك من أسد، وهو أبلغ من قولك: رأيت منك أسداً، فكذلك جرد من الدمع أعيناً، وجُعلت كأنها دموع فائضة، وهو المراد من قوله: "لأن العين جُعلت كان كلها دمعٌ فائض".

ومحل الجار والمجرور: النصب على التمييز، (أَلَّا يَجِدُوا): لئلا يجدوا، ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو (حزناً). [(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 93 - 94]. فإن قلت: (رَضُوا) ما موقعه؟ قلت: هو استئناف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: ذكر في المائدة هذا الوجه، وجعل (مِن) ابتدائية حيث قال: "فجُعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها"، وقال: " (مِنَ) لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه"، فهل من فرق؟ قلت: أما من حيث المعنى والمبالغة فلا، وأما من حيث الطريقة: فإن طريقة ذلك ما ذكرناه عن صاحب "الانتصاف": "أصله: فاض دمع عينه، ثم: فاضت عينه دمعاً، فحُوِّل الفاعل، وجُعِل تمييزاً للإبهام والتبيين، ثم: فاضت عينه من الدمع، فلم يبينه على الأصل، بل أبرزه في صورة التعليل"، وطريقة التجريد كما بيناها. قوله: (وناصبه المفعول له): أي: قوله: (حَزَناً)، فهو من التداخل في المفعول له.

كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف، (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) يعنى: أن السبب في استئذانهم: رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم. فإن قلت: فهل يجوز أن يكون قوله: (قُلْتَ لا أَجِدُ) استئنافاً مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) [التوبة: 92]، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض؟ قلت: نعم، ويحسن. (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال به، وقوله: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) علة لانتفاء تصديقهم، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن السبب في استئذانهم: رضاهم بالدناءة وخذلان الله إياهم): جعل الرضا والطبع سبباً واحداً للاستئذان، والظاهر أن قوله: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كالتذييل لما سبق، فيكون الطبع سبباً للجهل المؤدي إلى الرضا بالدناءة والدعة، ويؤيده الفاء في قوله: (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)، فالمجموع سبب لذلك المجموع، وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة. وكذلك جعل القاضي كلاً من الرضا والطبع سبباً مستقلاً. قوله: (إذا ما أتوك لتحملهم تولوا): فإن قلت: كيف يكون إتيانهم للحملان سبباً للتولي إذا لم يقيد بقوله: (لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)؟ قلت: دل الإتيان للحملان على رغبتهم في التجهيز معه صلى الله عليه وسلم، ودل التولي على حرمانهم ما يرومونه، فصحت السببية. قوله: ((قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) علة لانتفاء تصديقهم): فهو علة للعلة، يعني: قوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) استئناف لبيان موجب (لا تَعْتَذِرُوا)، وقوله: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ) استئناف آخر لبيان موجب (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ)، كأنه لما قيل: لا تعتذروا،

لأنّ الله تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وأحوالهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم. (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) أتنيبون أم تثبتون على كفركم، (ثُمَّ تُرَدُّونَ) إليه وهو عالم كل غيب وشهادة، وسر وعلانية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقيل: لِمَ لا نعتذر؟ قيل: لأنا لن نؤمن لكم، أي: لا نصدقكم في عذركم، فقيل: لِمَ لم تؤمنا لنا؟ قيل: لأن الله قد نبأنا مما في ضمائركم من الشر. قوله: (الإعلام بأخبارهم وأحوالهم) ظاهره أن (مِنْ أَخْبَارِكُمْ) مفعول ثان لقوله: (نَبَّأَنَا اللَّهُ)، قال أبو البقاء: "هذا الفعل قد يتعدى إلى ثلاثة، أولها ضمير الجمع، والآخران محذوفان، تقديره: أخباراً من أخباركم مبينة، و (مِنْ أَخْبَارِكُمْ) تنبيه على المحذوف، وليس (مِنْ) زائدة؛ إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولاً ثانياً والثالث محذوف، وهو خطأ، لأن المفعول الثاني إذا ذُكر في هذا الباب لزم ذكر الثالث". قوله: (أتنيبون أم تثبتون): إشارة إلى أن قوله: (وَسَيَرَى اللَّهُ) بمعنى العلم، وقد أخذ أحد مفعوليه، ويقتضي الثاني، فيكون بمعنى قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7، والملك: 2]، وقد ذكر في سورة المُلك: أنه ليس بتعليق، والتقدير: سيرى الله عملكم أتنيبون عنه- أي: ترجعون - أم تثبتون عليه. والمعنى: سيعلم الله عملكم من الإنابة عن الكفر أو الثبات عليه علماً يتعلق به الجزاء.

فيجازيكم على حسب ذلك. [(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 95]. (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم، (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ): فأعطوهم طلبتهم، (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل لترك معاتبتهم، يعنى: أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم، (وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ) يعنى: وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم. [(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) 96]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيجازيكم على حسب ذلك): يعني: وضع (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) موضع ضمير الله عز وجل ليدل على التهديد والوعيد، وأنه تعالى مطلعٌ على سركم علنكم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائركم وأعمالكم، فيجازيكم على حسب ذلك. قله: (فلا توبخوهم): نصب؛ عطف على قوله: لتعرضوا عنهم" على ووجه التسبب، أي: لتعرضوا فلا توبخوا: ذكر نحوه في قوله تعالى: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 52]. قوله: (إنما يُعاتب الأديم ذو البشرة): قال الميداني: "المعاتبة: المعاودة، وبشرة الأديم: ظاهره الذي عليه الشعر، أي: إنما يُعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته، يُضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب، قال الأصمعي: كل ما كان في الأديم متحمل ما سلمت البشرة، فإذا نغلت البشرة بطل الأديم".

(لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي: غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم، (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم، وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا الله عنهم. وقيل: هم جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلا منافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم". وقيل: جاء عبد الله ابن أبىّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً. [(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 97]. (الْأَعْرابُ): أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الأَعْرَابِ) أهل البدو): روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤكل من طعام الأعراب، فأهدت أم سنبلة لبناً، فناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب، فقالت عائشة رضي الله عنها: قد كنت نهيت عن طعام الأعراب؟ فقال: "إنهم ليسوا بالأعراب، إنهم أهل باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، وإذا دعوا أجابوا، فليسوا بالأعراب". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم"، للعشاء. النهاية: "في الحديث: "ثلاث من الكبائر"، منها: "التعرب بعد الهجرة": هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً"، جعل المهاجر ضد الأعرابي.

لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء، ومعرفة الكتاب والسنة، (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا) وأحق بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام، ومنه قوله عليه السلام: "إن الجفاء والقسوة في الفدّادين". (وَاللَّهُ عَلِيمٌ): يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر، (حَكِيمٌ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم، ومخطئهم ومصيبهم، من عقابه وثوابه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأعراب: ساكنو البادية من العرب الذين لا يُقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب: اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام البادية أو المدن، والنسبة إليه: أعرابي وعربي. وقال صاحب "المغرب": "العربي: واحد العرب، وهم الذين استوطنوا المدن والقرى، والأعراب: أهل البدو". قوله: (لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم)، الأساس: "جفاني فُلان: فعل بي ما ساءني، وثوب جاف: غليظ، وهو من جفاة العرب". قال الإمام: "إنما حكم عليهم بشدة الكفر والنفاق، لأنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط، فنشؤوا كما شاؤوا، ومن أصبح وأمسى [مشاهداً] لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير؟ ! فقابل الفواكه الجبلية بالبستانية لتعرف الفرق، ولشبههم بالوحوش، واستيلاء الهواء الحار اليابس الموجب لمزيد التكبر والنخوة". روينا عن أحمد بن حنبل وأبي داود والترمذي النسائي عن ابن عباس: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن". قوله: (في الفدادين)، النهاية: "الفدادون - بالتشديد-: الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، وقيل هم المكثرون من الإبل، وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان".

[(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 98 - 99]. (مَغْرَماً): غرامة وخسراناً، والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عزّ وجلّ، وابتغاء المثوبة عنده، (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) دوائر الزمان: دوله وعقبه؛ لتذهب غلبتكم عليه، ليتخلص من إعطاء الصدقة. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء معترض، دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عز وجل: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة: 64]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دوله وعقبه): جمع عقبة؛ النوبة. الأساس: "الدهر دول، والله يداول الأيام بين الناس؛ مرة لهم ومرة عليهم، والدهر دول وعقب ونوب، وتداولوا الشيء بينهم". قوله: (دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله تعالى: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة: 64]: "الانتصاف": "ما في هذه الآية زيادة مناسبة بآية المائدة، لأن الذي نُسب إليهم - انتظار الدوائر- مُطلق، ودعاؤه عليهم بدائرة السوء مقيد". قلت: يكفي في تشبيهه به أن تكون المشاكلة من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، كما قال هناك: "والطباق من حيث اللفظ"، على أن استعمال هذا اللفظ في الشر أكثر، لا سيما من أعداء الله، فإذن لا يكون مطلقاً، لكن في قول المصنف: "دعا عليهم بنحو ما دعوا به" بحث؛ لأن قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ) لا دعاء فيه، بل هو إخبار، اللهم إلا أن يُقال: إن من تربص بغيره السوء لا يخلو من الدعاء عليه.

وقرئ: (السوء) بالضم، وهو العذاب، كما قيل له: سيئة، (والسوء) بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأنَّ من دارت عليه ذامّ لها، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة، (عَلِيمٌ) بما يضمرون. وقيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم. (قُرُباتٍ) مفعول ثان لـ (يتخذ)، والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله، (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ)، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم، كقوله: "اللهم صل على آل أبى أوفي"، وقال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103]، فلما كان ما ينفق سبباً لذلك، قيل: (ويتخذ ما ينفق قربات .... وصلوات). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "السوء" بالضم): ابن كثير وأبو عمرو هنا وفي الفتح، والباقون: بفتحها. قوله: (لأن من دارت عليه ذام لها): تعليل لتصحيح وصف الدائرة بالسوء، أي: الذم، لأنه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كرجل صدقٍ وسوءٍ؛ للمبالغة والبيان، فإذن الدائرة مُطلقة، وإنما تتبين بالإضافة، فيصح أن يُقال أيضاً: دائرة صدق، قال في سورة الفتح: "فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق". قوله: (اللهم صل على آل أبي أوفى): عن البخاري ومسلم وأبي داود عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى".

(أَلا إِنَّها) شهادة من الله للمتصدقين بصحة ما اعتقدوا، من كون نفقاتهم قربات، وتصديق لرجائهم، على طريق الاستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك (سَيُدْخِلُهُمُ) وما في "السين" من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها. وقرئ: "قُرْبَةٌ"، بضم الراء. وقيل: هم عبد الله وذو البجادين ورهطه. [(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 100]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مع حرفي التنبيه والتحقيق)، أي: "ألا" و"إن". قوله: (عبد الله ذو البجادين ورهطه): روى ابن عبد البر في "الاستيعاب": هو عبد الله بن عبد نهم المُزني، سُمي به لأنه حين أراد المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجاداً لها نصفين، فاتزر بواحدٍ منهما، وارتدى بالآخر. قال ابن هشام: إنما سُمي ذا البجادين لأنه كان يُنازع إلى الإسلام، فمنعه قومه، وكانوا يضيقون عليه، حتى تُرك في بجادٍ له ليس عليه غيرهن والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق بجاده نصفين، فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ذو البجادين، فلما مات دفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " [اللهم إني قد] أمسيت راضياً عنه، فارض عنه"، وكان عبد الله بن مسعود يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفيرة".

(والسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدراً، وعن الشعبي: من بايع بالحديبية، وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين، (و) َمن (الْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، فعلمهم القرآن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((و) من (الأَنصَارِ): أهل بيعة العقبة): معطوف على قوله: "من المهاجرين"، وقوله: "والذين آمنوا حين قدم" معطوف على قوله: "أهل بيعة العقبة"، وهذا موضع يفتقر إلى فضل بسط لاشتماله على طبقات الصحابة رضوان الله عليهم، وقد اضطرب فيه كلام المصنف، فنقول- والله أعلم-. لا يخلو من أن يفسر (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) بالذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصل لهم السبق بإدراكه وصحبته، فتكون (مِنَ) بيانية، أو بالذين سبقوا على بعضهم بما نالوا من الكرامة التي لم تحصل لغيرهم، وتكون (مِنَ) تبعيضية. يؤيده ما روى محيي السنة والواحدي عن سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة: هُم الذين صلوا إلى القبلتين. وعن عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر. وعن الشعبي: من شهد بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وروى عن أبي صخر قال: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جميعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، محسنهم ومسيئهم. فقلت: من أين تقول؟ قال: اقرأ (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) إلى أن قال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) شرط في التابعين شريطة، وهو أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة. قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الأول: يُحمل (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) على التابعين الذين لم يلحقوا النبي صلوات الله عليه، كما روى محيي السنة عن بعضهم: هم الذين سلكوا سبيل الصحابة في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وعلى الثاني: يحمل على الصحابة الذين لم تحصل لهم تلك المزايا والفضائل، روى محيي السنة أيضاً: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين. وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب" عن الحسن قال: "حضر الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه، فجعل يأذن لأهل بدر، كصهيب وبلال، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيها القوم، إني - والله -قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل اشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافستم فيه، ثم قال: أيها القوم، إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى الله أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه، فقام ولحق بالشام". فقال الحسن: "ويا له من رجل ما كان أعقله! وصدق والله، لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه". ولأن عمر رضي الله عنه كان يقدمهم في العطاء. وهذا القول أظهر من الأول، وأجرى على تأليف النظم. قال أبو البقاء: " (َالسَّابِقُونَ) يجوز أن يكون معطوفاً على قوله: (مَنْ يُؤْمِنُ) [التوبة: 99]، أي: ومنهم السابقون، ويجوز أن يكون مبتدأ، وفي الخبر ثلاثة أوجه: أحدها: (الأَوَّلُونَ)،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى: والسابقون إلى الهجرة الأولون من أهل الملة، [أو]: والسابقون إلى الجنة الأولون إلى الهجرة. والثاني: الخبر (مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)، وفيه الإعلام بأن السابقين من هذه الأمة هم المهاجرون والأنصار. والثالث: أن الخبر (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) ". وقلت: على الوجه الأول: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) جملة مستأنفة على تقدير: ما السؤال عما يترتب على السبق، ويدخل على هذا تحت حكم الأعراب جميع من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ويشملهم رضوان الله. وعلى الوجه الثاني: يكون (وَالسَّابِقُونَ) عطف جملة على جملة، ويختص الرضوان بالسابقين والتابعين. وعلى الجملة يحصل من النظم مراتب الصحابة على خمس طبقات؛ لأن السابقين: إما من المهاجرين وإما من الأنصار، والتابعين: إما منهما وإما من غيرهما. وبناء لام المصنف على القول الثاني، لكن في لامه بحث، وكان من الواجب أن يجعل السابقين من المهاجرين: من هاجر الهجرتين ومن شهد بدراً والحديبية ومن صلى القبلتين، ومن الأنصار: من شهد العقبتين ومن شهد بدراً والحديبية ومن صلى القبلتين؛ لاشتراك الثلاثة الأخيرة فيهما. وأما حديث من بايع بالحديبية: فقد رويناه عن مسلم والترمذي والدارمي والنسائي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن جابر في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18]، قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لانفر، ولم نبايعه على الموت". وعن مسلم: "سئل جابر: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربعة عشر مئة، فبايعناه وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة، هي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره". ورواية الدارمي نحو رواية مُسلم. وأما حديث أهل بيعة العقبة الأولى: فعلى ما رواه ابن الجوزي رحمه الله في كتاب "الوفا": أنها كانت في سنة إحدى عشرة من النبوة، لقي ستة نفر من الخزرج، والعقبة الثانية في السنة المقبلة منها، لقي اثني عشر رجلاً من الأنصار فيها، فبايعوه. وقد أثبتنا نُبذاً من القصة في أول البقرة، عند قوله: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) [البقرة: 27]. وأما حديث مصعب بن عمير: فقد رواه ابن الجوزي: أن أهل البيعة الثانية لما انصرفوا بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير إلى المدينة يُفقه أهلها، ويقرئهم القرآن، فأسلم خلقٌ كثير. قال صاحب "الجامع": هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد امناف، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يُقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما حديث الهجرة الأولى: فعلى ما رواه ابن الجوزي: أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أرض الحبشة، فقال: إن بها ملاً لا يظلم الناس، فتحرزوا عنده حتى يأتيكم الله بفرج منه، فخرج جماعة، وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة، وخرجت قريش في آثارهم، ففاتوهم. وعن عبد الله بن عُتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحو من ثمانين رجلاً، وبعث قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وقالا: إن نفراً من بني عمنا نزلوا بأرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا، فبعث إليهم، فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما دخلوا قيل له: لِمَ لا تسجد؟ فقال: إنا لا نسجد لغير الله. وروينا في "مُسند أحمد بن حنبل" رضي الله عنه: "قال: فدعانا، قال جعفر: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وقذف المحصنات، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام-، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلدك، اخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل؟ فقال جعفر: نعم، فقرأ عليه صدر من (كهيعص) [سورة مريم]، فبكى- والله - النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، فقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام من مشكاة واحدة".

وقرأ عمر رضي الله عنه: "والأنصار" بالرفع؛ عطفا على (السابقون)، وعن عمر: أنه كان يرى أنّ قوله: (والأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) بغير واو، صفة للأنصار، حتى قال له زيد: إنه بالواو، فقال: ائتوني بأبي، فقال: تصديق ذلك في أول الجمعة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن الجوزي: "قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم عليه السلام؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر. قال: فرفع عُوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على ما نقول فيه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، فإنه الذي نجده في الإنجيل، وإنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحملُ نعليه، وأمر بهدايا الآخرين فردت إليهما". وأما الهجرة الثانية: فهي ما رويناه في "صحيح البخاري" عن ابن عباس: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، فمكث ثلاث عشرة سنة، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم". وأما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: فقد روى صاحب "الكامل": أنه في يوم الثلاثاء النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقامه بالمدينة، وقيل: على رأس ستة عشر. وفي هذه السنة وقعت غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان، في سابع عشرة، وقيل: في تاسع عشرة، وكانت يوم الجمعة. وفي سن ست من الهجرة كانت عمرة الحديبية، وفيها بيعة الرضوان. فعُلم أن بيعة الرضوان لم تكن بين الهجرتين، كما نقله المصنف. قوله: (تصديق ذلك في أول الجمعة): يعني: يشهد لما ذكرت من أن الواو لازم:

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) [الجمعة: 3]، وأوسط الحشر: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر: 10]، وآخر الأنفال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) [الأنفال: 75]. وروى: أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك؟ قال: أبىّ، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم. ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. وارتفع "السابقون" بالابتداء، وخبره (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)، ومعناه: رضي عنهم لأعمالهم، (وَرَضُوا عَنْهُ) لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية. وفي مصاحف أهل مكة: "تجرى من تحتها"، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف: (تحتها)، بغير (من). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة: 2] إلى قوله: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة: 3]، كما في قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر: 10]، كذلك ينبغي أن يجري قوله: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ). قوله: (لتبيع القرظ): القرظ: ورق السلم يدبغ به، ومنه: أديم مقروظ. قوله: (كنت أرانا رُفعنا)، النهاية: "أُرى: فعلٌ لم يسم فاعله، من: رأيت، بمعنى: ظننت، وهو يتعدى إلى مفعولين، فإذا بنيته إلى ما لم يسم فاعله تعدى إلى مفعول واحد، فقلت: أرى زيداً". ومعنى كلامه رضي الله عنه: إني كنت أظن أن المهاجرين هم السابقون فقط، حيث جعل "الذين اتبعوهم بإحسان" صفة للأنصار، فإذا الأنصار مثلنا في الرفعة ومنخرطون في سلك السابقين الأولين، والآيات التي جاء بها أبي مستشهداً دالة على أن المراد بـ "التابعين" غير "الأنصار".

[(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) 101]. (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) يعنى: حول بلدتكم، وهي المدينة، (مُنافِقُونَ) وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها، (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على خبر المبتدأ الذي هو"ممن حولكم"، ويجوز أن تكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدّرت: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أنّ (مَرَدُوا) صفة موصوف محذوف، كقوله: أنَا ابْنُ جَلَا ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنا ابن جلا): تمامه: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني القائل سحيم بن وثيل الرياي، أي: أنا ابن رجل كشف الأمور وأوضحها، وقيل: "جلا" مصدر مقصور، وهو انحسار الشعر من الرأس، أي: أنا ابن من باشر الحروب، لان من أكثر وضع البيضة على رأسه انحسر شعره. "طلاع الثنايا": أي: ثنايا الجبال، ويُقال: رجلٌ طلاع الثنايا وطلاع أنجد، أي: يقصد عظائم الأمور.

وعلى الوجه الأوّل: لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ، أو صفة لـ (منافقون)، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "متى أضع العمامة تعرفوني": أي: بالصفة المذكورة التي هي انحسار الشعر، التقدير: أنا ابن رجل يقال له: جلا. قال ابن الحاجب في "الأمالي": "معنى البيت هو: أنني أرتكب الأهوال ولا أجبن عنها، وقوله: "متى أضع العمامة تعرفوني": إما أن يُريد به كثرة المباشرة للحرب، فلا يراه الأكثر إلا بغير عمامة، فقال: متى أضع العمامة يعرفني الذي ما رآني إلا غير متعمم، أو يريد: إني مُكثر لمباشرة الحرب ولباس عدة الحرب، فمتى أضع العمامة وألبس آلة الحرب تعرفوني، يعني: إني إذا حاربت عُرفت بإقدامي وشجاعتي. وأما قوله: "جلا" ففيه غير قول، تقديره: أنا ابن رجل جلا، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامهن وقيل: إن "جلا" علمٌ غلب على أبيه، وقيل: إنما أراد أنا ابن ذي جلا، والجلا: انحسار الشعر عن مقدم الرأس". قوله: (وعلى الوجه الأول: لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ): فيكون قوله: "من أهل المدينة" مع ما عُطف عليه خبرين لقوله: (مُنَافِقُونَ)، و (مَرَدُوا): إما استئناف على تقدير: ما حالهم وما ديدنهم، وأجب: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، أو صفة. قال أبو البقاء: " (مَرَدُوا) صفة للمنافقين، وقد فصل بينهما بقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبر مبتدأ محذوف،

(مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ): تمهروا فيه، من: مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى عليه، حتى لان عليه ومهر فيه، ودلّ على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله: (لا تَعْلَمُهُمْ)، أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوقهم في تحامى ما يشكك في أمرهم، ثم قال (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)، أي لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق، وضروا به، فلهم فيه اليد الطولي. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قيل: هما القتل وعذاب القبر، وقيل: الفضيحة وعذاب القبر، وعن ابن عباس: أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين، فقال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق"، فأخرج ناسا وفضحهم"، فهذا العذاب الأوّل، والثاني عذاب القبر. وعن الحسن: أخذ الزكاة من أموالهم، ونهك أبدانهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: من أهل المدينة قوم كذلك، (لا تَعْلَمُهُمْ) صفة أخرى، والعلم بمعنى المعرفة، يتعدى إلى مفعول واحد". قوله: (إذا درب به وضري)، أي: مهر واعتاد. قوله: (تنوقهم): تنوق: أي: تأنق، الأساس: "تنوق في الأمر، وفلان له نيقة. وفي المثل: خرقاء ذات نيقة، يُضرب لجاهل يدعي المعرفة". قوله: (فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم): الفاء فصيحة، والتقدير: رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة اختلفوا فيهاتين المرتين على أقوال، وأنكر هذا الاختلاف، فقال: قام ...

(إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ): إلى عذاب النار. [(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 102]. (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي: لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حرام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن مسعود قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم"، ثم قال "قم يا فلان"، حتى سمي ستة وثلاثين". قوله: ((اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) - إلى قوله-: وكانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حرام): وفي هذا المقام اختلاف كثير بين المحدثين والمفسرين لا يكاد ينضبط. أما أبو لبابة: فعلى ما ذكره صاحب "الاستيعاب" و"جامع الأصول": "هو أبو لبابة رفاعة بن عبد المنذر"، وأما أوس بن ثعلبة ووديعة بن حرام: فليس لهما ذكر في هذين الكتابين.

وقيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر، فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم، فقال: "وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أؤمر فيهم"، فنزلت، فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها وطهرنا، فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً"، فنزلت: (خذ من أموالهم صدقة) [التوبة: 103]. (عَمَلًا صالِحاً): خروجا إلى الجهاد، (وَآخَرَ سَيِّئاً): تخلفا عنه. عن الحسن وعن الكلبي: التوبة والإثم. فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا، فما المخلوط به؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأنّ المعنى: خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك: "خلطت الماء واللبن"، تريد: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك: "خلطت الماء باللبن"، لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذكر محيي السنة في "المعالم" عن ابن عباس أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية [عنه]: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة، وقالوا جميعاً: أحدهم أبو لبابة. قوله: (وكانت عادته): أي: كانت دخول المسجد للصلاة بعد القدوم عادته صلوات الله عليه، فأنث اسم "كان" باعتبار الخبر، كقوله: من كانت أمك؟ قوله: (وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن): أي: من أن كل واحد منهما مخلوط

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صريحاً ومخلوط به، بخلاف ما إذا جيء بالباء، قال صاحب "الانتصاف": "فإذا ذكرت الباء صرحت باختلاط أحد القسمين بالآخر، واختلاط الآخر به من جهة اللزوم، وبالواو صرحت بأن كل احد مخلوط، وكون كل واحد منهما مخلوطاً به مأخوذ من اللزوم، فقول الزمخشري: "هو بالواو يُفيد ما تفيده الباء وزيادة" بعيد، بل الوجه أنه ضمن (خَلَطُوا) معنى: عملوا". وقال صاحب "التقريب": وفيه بحث؛ لأن كل واحد منهما إما أن يدل على الآخر أو لا؛ فإن لم يدل فلا نسلم كونهما مخلوطاً بهما في الأول، وإن دل لزم كونهما مخلوطين ومخلوطاً بهما في الثاني، ويمكن أن يقال: مقتضى الخلط ذكر الباء، ففي الأول لابد من تقدير المخلوط به، وهو إما أحد المذكورين أو غيرهما، والثاني منتفٍ بالأصل وبالقرينة، وكذا بالعكس، فتعين الآخر، فكل واحد مخلوط به لتوفر مقتضى الخلط ومخلوط صريحاً، وأما الثاني- وهو ما ذُكر الباء معه- فقد وفد على الخلط ما يقتضيه، ولا ضرورة تُلجيء إلى جعل الآخر مخلوطاً به، ولا يلزم أن يكون مخلوطين لوجود الباء، ولا مخلوطاً بهما لعدم شمول الباء لهما، بل أحدهما مخلوط والآخر مخلوط به، كما هو صريح اللفظ، فالأول أبلغ، وهو المطلوب.

وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاة شاة ودرهما، بمعنى: شاة بدرهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يلزم من الأول خلطان صريحاً، ومن الثاني خلط واحد، على ما قال صاحب "المفتاح": " (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً) بسيء (وَآخَرَ سَيِّئاً) بصالح، لأن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به، أي: تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة، وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة". وقلت: الحبوط مذهبه، مع أنه دفع لا خلط. قوله: (شاة ودرهماً): عن سيبويه: الواو في "ودرهماً" بمعنى الباء، أي: بدرهم، لأن الواو للجمع، والباء للإلصاق، والجمع والإلصاق من باب واحد. قاله شارح "الكتاب". وقال ابن الحاجب: "بعت الشاة شاة ودرهماً: أصله: شاة بدرهم، أي: شاة مع درهم، ثم كثر ذلك فنصبوا "شاة" نصب "يداً"، ثم أبدلوا من باء المصاحبة واواً، وإذا أُبدلت باء المصاحبة واواً وجب أن يُعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها، كقولهم: كل رجلٍ وضيعته، وقلهم: امرأ ونفسه".

فإن قلت: كيف قيل: (أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وما ذكرت توبتهم؟ قلت: إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم. [(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 103]. (تُطَهِّرُهُمْ) صفة لـ (صدقة)، وقرئ: "تطهرهم"، من أطهره، بمعنى: طهره. و"تطهرهم"، بالجزم جوابا للأمر. ولم يقرأ "وَتُزَكِّيهِمْ" إلا بإثبات الياء. والتاء في "تُطَهِّرُهُمْ" للخطاب أو لغيبة المؤنث، والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) واعطف عليم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدّق لصاحب الصدقة إذا أخذها، وعن الشافعي رحمه الله: أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: "أجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يُقرأ (وَتُزَكِّيهِمْ) إلا بإثبات الياء): أي: ولم يقرأ أحد من الأئمة السبعة إلا بإثبات الياء، وقرأ مسلمة بن محارب في الشواذ بدون الياء، ووجه إثبات الياء أنه استئناف، كما في قوله تعالى: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) [الحج: 5]، أي: نحنُ نقر، فكذا هاهنا، أي: هي تزكيهم. قاله السجاوندي. قوله: (والتاء في (تُطَهِّرُهُمْ) للخطاب أو لغيبة المؤنث): قال أبو البقاء: " (تُطَهِّرُهُمْ) نصب صفة لـ (صَدَقَةً)، ويجوز أن يكون مستأنفا، والتاء للخطاب، أي: تطهرهم أنت، (وَتُزَكِّيهِمْ) التاء للخطاب لا غير، لقوله: (بها)، ويجوز أن يكون قوله: (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) في موضع نصب صفة لـ (صَدَقَةً)، مع قولنا: إن التاء فيهما للخطاب، لأن قوله: (تُطَهِّرُهُمْ) تقديره: بها، ودل عليه (بها) الثانية، على أن يكون من باب التنازع، وإذا كان

وقرئ: (إنّ صلاتك)، على التوحيد. (سكن لهم) يسكنون إليه، وتطمئنّ قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم من الغم من الندم لما فرط منهم. [(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَاخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 104]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيها ضمير الصدقة جاز أن يكون صفة لها، ويجوز أن تكون الجملتان حالاً من ضمير الفاعل في (خُذُ) "، وذكر الزجاج نحوه. قوله: (وقرئ: (إِنَّ صَلاتَكَ) على التوحيد): حفص وحمزة والكسائي. قوله: ((سَكَنٌ لَهُمْ): يسكنون إليه)، الراغب: "السكون" ثبوت الشيء بعد تحرك، ويستعمل في الاستطيان، نحو: سكن مكان كذا، أي: استوطنه، واسم المكان: مسن، قال تعالى: (فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف: 25]، وقال: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [الأنعام: 13]، وقال: (جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [القصص: 73]، فيُقال من الأول: سكنته، ومن الثاني: أسكنته، والسن: السكون وما يسكن إليه، قال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) [النحل: 80]، وقال: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103]، والسكنى: أن يُجعل له السكون في دار بغير أجرة".

قرئ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) بالياء والتاء، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد المتوب عليهم، يعنى: ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم (أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) إذا صحت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، (وهو) للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين. وقيل: معنى التخصيص في (هو): أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردّها، فاقصدوه بها، ووجهوها إليه. [(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 105]. (وَقُلِ) لهؤلاء التائبين: (اعْمَلُوا) فإن عملكم لا يخفى، خيراً كان أو شراً، على الله وعباده، كما رأيتم وتبين لكم. والثاني: أن يراد غير التائبين؛ ترغيباً لهم في التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) بالياء والتاء): بالياء التحتانية: السبعة، وبالتاء شاذة. قوله: (و (هو) للتخصيص): أي: لفظة (هُوَ) مفيدة للتخصيص والتأكيد، وأن الله من شأنه قبول توبة التائبين، مثال للتخصيص والتأكيد معاً، يعني: لابد أن يقبل التوبة، ولا يكون خلافه ألبتة، لأن من شأنه وعادته سبحانه وتعالى أن يفعله ولا يتركه، وذلك أن الضمير المرفوع للفصل أو للتأكيد، ثم في قوله: (يَقْبَلُ) ضمير يرجع إلى المسند إليه، فيزيد الحكم به تأكيداً. قوله: (والثاني أن يُراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة): فعلى الأول: الكلام مع

قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم، فنزلت. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَيَاخُذُ الصَّدَقاتِ)؟ قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود "إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل"، والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله (فَسَيَرَى اللَّهُ) وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التائبين، والاستفهام في (أَلَمْ يَعْلَمُوا) لاستبطاء توبتهم، ولذلك قدر: "ألم يعلموا قبل أن يُتاب عليهم"، ولم يُقدر في الثاني، لأن المراد ترغيب من استمر علمه، فالاستفهام للتقرير والتوبيخ. قوله: (قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين كانوا [بالأمس] معنا): يعني: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام على سبيل التقرير، والجملة مفصولة على الاستئناف، فإنه تعالى لما قسم الأعراب المتخلفين أقساماً؛ منهم المنافقون ومنهم التائبون ومنهم المرجون، وذكر توبة التائبين بقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 102]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقات منهم أمارة لقبول التوبة، قرر لهم ذلك المعنى بقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) [التوبة: 104]، يعني: أما تقرر عندهم قبل أن يتوب الله عليهم أن الأمر على هذا، أقرر المعنى لغير التائبين منهم، ترغيباً لهم في التوبة، ثم أتبعه بقوله: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)؛ ترهيباً لهم ووعيداً من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة. وهذا الوجه أوفق من الأول، لأن الوعيد بقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) لا يليق بالتائبين المأمور بقبول صدقاتهم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (إن الصدقة تقع في يد الله): روينا عن مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 106]. قرئ: (مرجون) و (مرجؤن)؛ من أرجيته. وأرجأته: إذا أخرته، ومنه المرجئة، يعنى: وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم، (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا، (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري، وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ما تصدق أحدٌ بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربي أحدكم فلوه وفصيله"، ورواه البخاري مع تغيير فيه. قوله: (وقرئ: (مُرْجَوْنَ) و"مُرجَؤون"): ابن كثير وأبو بكر وابن عامر وأبو عمرو: (مُرجَؤون)، والباقون: بغير همز. قوله: (ومنه المُرجِئة): وهم الذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشيء من عقوبة أو عفو، بل يؤخرون الحكم في ذلك إلى يوم القيامة، يُقال: أرجأت الأمر وأرجيته - بالهمز أو الياء-: إذا أخرته.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفي قراءة عبد الله: "غفور رحيم"، (وإمّا) للعباد، أي: خافوا عليهم العذاب، وارجوا لهم الرحمة. [(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) 107 - 108]. في مصاحف أهل المدينة والشام: (الذين اتخذوا) بغير واو؛ لأنها قصة على حيالها؛ وفي سائرها بالواو؛ على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (إمَّا) للعباد): أي لفظةُ (إمَّا) لشك العباد، قال الزجاج: " (إمَّا) لوقوع أحد الشيئين، والله عز وجل عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا للعباد، خُوطبوا بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء"، وهو المراد بقوله: "خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة" على الأمرين. وقال الإمام: "فجعل أناس يقولون: هلكوا إن لم يُنزل الله لهم عُذراً، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم"، وقال القاضي: "وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى". فعلى هذا: (إمَّا) لترديد الأمر بحسب المشيئة، لا بشك العباد، وهو مثلُ "أو" التنويعية. قوله: (في مصاحف أهل المدينة والشام: "الذين اتخذوا" بغير واو): وكذا قرأ نافع وابن عامر.

روي: أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وقالوا: نبنى مسجداً، ونبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيه، ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين: أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر، وآت بجنود، ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة. فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلى لنا فيه، وتدعو لنا بالبركة، فقال: "إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا- إن شاء الله - صلينا فيه"، فلما قفل من غزوة تبوك، سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه. فدعا بمالك بن الدخشم، ومعن بن عدى، وعامر بن السكن، ووحشي قاتل حمزة، فقال لهم: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه"، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين. (ضِراراً): مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة، (وَكُفْراً): وتقوية للنفاق، (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء، فيغتص بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيغتص بهم): أي: يمتلئ بهم. الأساس: "المسجد غاص بأهله، وأغص الأرض علينا، فغصت بنا".

(وَإِرْصاداً): وإعداداً لأجل لمَنْ (حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وهو الراهب، أعدوه له ليصلى فيه، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب: فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق: أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلى فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة، فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً. وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضارّ أحدهما صاحبه. فإن قلت: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) ما محله من الإعراب؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَإِرْصَاداً): وإعداداً)، الراغب: "الرصد: الإعداد للترقب، يقال: رصد وترصد وأرصدته له، قال تعالى: (وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14]، تنبيهاً أنه لا ملجأ ولا مهرب. المرصد: موضع الرصد، والمرصاد: نحوه، كن يقال للمكان الذي اختص بالترصد". قوله: (أنه لم يُدرك الصلاة): يعني: كان من عادة شقيق أن يُصلي في مسجد بني عامر بالجماعة، وقد اتفق يوماً أنه لم يدرك الجماعة فيه، فقيل له: مسجد بني فُلان لم يصلوا فيه، أي: لم يقيموا فيه الجماعة، فهلا تصلي فيه بالجماعةن فأجاب بما أجاب. قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) ما محله من الإعراب؟ ): هذا السؤال مبني على ما ذكره أولاً: "أن قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) إذا رُوي بالواو: هو عطف قصة مسجد الضرار الذي

قلت: محله النصب على الاختصاص، كقوله: (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء: 162]، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، معناه: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا، كقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة: 38]. فإن قلت: بم يتصل قوله: (مِنْ قَبْلُ)؟ قلت: بـ (اتخذوا)، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. (إِنْ أَرَدْنا): ما أردنا ببناء هذا المسجد (إِلَّا): إلا الخصلة (الْحُسْنى)، أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) قيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدثه المنافقون على سائر قصصهم، وبغير الواو: على أنها قصة على حيالها". وعلى هذا ينبغي أن يكون جملة، وهو مفرد، فلابد من تقدر ما تتم به جملة، وما ذلك؟ وأجاب: إن أريد بإيرادها الذم - لأنها أفظع القصص -فتكون نصباً على الاختصاص، كما أن قوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء: 162] أفضل الصفات، فقطع لذلك، وإن أُريد مجرد العطف فتكون رفعاً؛ على أنه مبتدأ خبره محذوف. قوله: (أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف): يريد: أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَاذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) [التوبة: 86 - 87].

وهو أولى، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعن أبى سعيد الخدري: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال: "هو مسجدكم هذا" لمسجد المدينة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يشهد له سبب النزول، وهو قوله: "فبنوا مسجداً بجنب مسجد قُباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نحب أن تصلي لنا فيه، قال: "إني على جناح سفر، وإذا قدمنا، إن شاء الله تعالى، صلينا فيه"، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت"، إلى آخره. وعن محيي السنة: " (مِنْ قَبْلُ): يرجع إلى أبي عامر، يعني: قوله: (حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل أن يُبنى مسجد الضرار، والمحارب هو أبو عامر الفاسق، لأنه لم يزل يُقاتل إلى يوم حنين". قوله: (لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع): يعني: إذا جعلنا المسجد مسجد قُباء، ولم نجعله مسجد المدينة، كان أنسب؛ لأن كلا المسجدين مبنيان في قُباء، وبانيهما إخوان؛ بنو عمرو بن عوف، وبنو غنم بن عوف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: بل الأنسب ما نص عليه صلوات الله عليه، على ما روينا عن مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد: قلت: يا رسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: "هو مسجدكم هذا"، لمسجد المدينة. وفي رواية الترمذي والنسائي: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو مسجدي هذا". وأما بيان حقيقة الموازنة: فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتقوى من أول يوم من مسجد قباء، لأن هذا الوصف وقع مقابلاً لقوله: (ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وكل ما يقابل هذه الأوصاف مفقود في مسجد قُباء، موجود في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن التعبير بالقيام عن الصلاة- في قوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) - يستدعي المداومة، كما مر في أول البقرة، يعضده توكيده المنهي بقوله: (أَبَداً)، ومداومة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُوجد إلا في مسجده صلوات الله عليه. وأما ما جاء عن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة قال: "نزلت هذه الآية في أهل قُباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)، وكانوا يستنجون بالماء، فنزلت". وعن ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس: أن هذه الآية لما نزلت: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ " قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنتجي بالماء، قال: "هو ذاك، فعليكموه". وكلام أبي هريرة لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث جابر وأنس وأبي أيوب محتمل، بل هو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب.

(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ): من أول يوم من أيام وجوده. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: "أمؤمنون أنتم؟ " فسكت القوم، ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله، إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "أترضون بالقضاء؟ " قالوا: نعم، قال: "أتصرون على البلاء؟ " قالوا: نعم ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أنه لا يبعد أن يحمل التطهر على الطهارتين الظاهرة والباطنة، كما قال القاضي: "الطهارة من المعاصي والخصال المذمومة [طلبا] لمرضاة الله تعالى". هذا أوفق للنظم والتعريض بأن أصحاب الضرار على خلاف ذلك، والله أعلم. قوله: (من أول يوم من أيام وجوده): أي: حين وُجد وأسس كان مبنياً على التقوى، قال الزجاج: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ): دخلت "مِن" في الزمان، والأصل "منذ" و"مُذ"، وهو أكثر الاستعمال في الزمان، و"مِن" جائزٌ دخولها أيضاً، لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، قال زُهير: لِمَنِ الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر

قال: "أتشكرون في الرخاء؟ " قالوا: نعم. قال: صلى الله عليه وسلم: "مؤمنون ورب الكعبة"، فجلس، ثم قال: "يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط"، فقالوا يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم (فيه رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا). وقرئ: "أن يطهروا"، بالإدغام، وقيل: هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل: كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم. فإن قلت: ما معنى المحبتين؟ قلت: محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه، ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهى له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه. [(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 109]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: " (أَوَّلِ) يتعلق بـ (أُسِّسَ)، والتقدير عند البصريين: من تأسيس أول يوم، لأنهم يرون أن "مِن" لا تدخل على ابتداء الزمان، وأن ذلك لـ"مُنذ"، وهو ضعيف، لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون "مِن" لابتداء الغاية، ويدل على جواز دخول "مِن" على الزمان ما جاء في القرآن من دخولها على (قبل) و (بعد) ". قوله: (المشتهى): بالفتح، فالضمير المستتر يعود إلى اللام، والمجرور في (لَهُ) إلى "المحب"، وجاز "المشتهي" بالكسر، فالمجرور يعود إلى "الشيء"، والمستتر يعود إلى اللام.

قرئ: (أَسس بنيانه)، و (أُسس بنيانه)، على البناء للفاعل والمفعول، و (أسس بنيانه)، جمع "أساس" على الإضافة، و"أساس بنيانه، بالفتح والكسر؛ جمع "أس"، و"أساس بنيانه"؛ على "أفعال"، جمع "أس" أيضا، و"أس بنيانه". والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ) أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل (شَفا جُرُفٍ هارٍ) في قلة الثبات والاستمساك، وضع "شفا الجرف" في مقابلة "التقوى"، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) و"أسس بنيانه"): قرأ نافع وابن عامر "أسس بنيانه"؛ بضم الهمزة وكسر السين ورفع النون، والباقون: بفتح الهمزة واسين ونصب النون من (بُنْيَانَهُ). قوله: (والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه): قال الواحدي: "البنيان: مصدر يراد به المبني هاهنا، والتأسيس: إحكام أُسِّ البناء، وهو أصله، المعنى: المؤسس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه". تم كلامه. اعلم أن أصل المعنى أن يُقال: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة خير أم من أسس النبيان على قاعدة ضعيفة رخوة، ثم: أفمن أسس بنيان دينه على الحق خير أم من أسس بنيان دينه على الباطل، لأن الحق هو الثابت الذي لا يزول، والباطل بخلافه. فوضع موضع الحق "التقوى"، لأن التقوى تستلزم الحق، وموضع الباطل: (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ)، على إرادة ما يُضاد التقوى، يصح التقابل، لأن ما يُضاد التقوى مستلزم للباطل.

فإن قلت: فما معنى قوله: (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ)؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل، قيل: (فانهار به في نار جهنم)، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز، فجيء بلفظ "الانهيار" الذي هو للجرف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما معنى قوله: (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)؟ ) يعني: حين جعلت (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) مجازاً عما يُنافي التقوى، فأي مناسبة بينه وبين قوله: (فَانْهَارَ)؟ وأجاب: أنه متفرع على التشبيه، لأنه صفة ملائمة للمستعار منه ترشيحاً للاستعارة، ولما كان مبني الترشيح على تناسي التشبيه رأساً، وعلى صرف النفس عن توهمه أصلاً، قال: "وليُصور أن المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جُرفٍ من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها". قال القاضي: " (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) في مقابلة التقوى، وترشيحه بانهياره في النار في مقابلة الرضوان؛ تنبيهاً على أن تأسيس ذاك على أمر يحفظه عن النار، ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة، ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة". وقلت: تمام تقريره: أنه قوبل (عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ) - المراد من قصد المؤمنين في تأسيسهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، المنجح لمقاصدهم؛ من الظفر والنصرة في الدنيا، والفلاح بالعقبى، وهو الحق الثابت الواجب، المشبه بالقاعدة المحكمة القوية على الاستعارة المكنية- بقوله: (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ)، وهو عزم المنافقين فيما أضمروا في تأسيسهم من الكيد بالمؤمنين، ثم خيبتهم فيما عزموا عليه، وهوا لباطل الزائل، المشبه بالقاعدة الرخوة الواهية.

وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها. والشفا: الحرف والشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء، وتجرفه السيول فيبقى واهيا، والهار: الهائر، وهو المنصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط، ووزنه "فعل"؛ قصر عن "فاعل"، كخلف، من: خالف، ونظيره: شاك وصات، في: شائك وصائت، وألفه ليست بألف "فاعل"، إنما هي عينه، وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام، ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم فرع على المستعار له "الرضوان" تجريداً، كما فرع على المستعار منه "الانهيار" ترشيحاً، وكلا التفريعين منبئان عن أقصى الدرجات وأبعد الدركات، وقوبل الواو في (وَرِضْوَانٍ) بالفاء في (فَانْهَارَ)، وكلا التفريعين منبئان عن استعارتين، للدلالة على أن التقوى تقتضي مسببات خارجة عن الحد والعد، وهو على منوال: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 71]، و (إِذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73]. قوله: (وليُصوِّر): عطف على محذوف، يعني: لما أراد أن يُقال: فطاح به، رشح المجاز وقال: (فَانْهَارَ)، ليكون أبلغ، وليصور أن المبطل. قوله: (والشفا: الحرف)، الراغب: "شفا البئر والنهر: طرفه، ويُضرب به المثل في القرب من الهلكة، قال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [آل عمران: 103]، وأشفى على الهلاك، أي: حصل على شفاه، وتثنيته: شفوان، والفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبرء". قوله: (وأصله: هورٌ): قال الزجاج: "ومعنى (هَارٍ): هائر، وهذا من المقلوب، كما قالوا: شاك السلاح، يريدون: شائك".

وقرئ: (جرف). بسكون الراء. فإن قلت: فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر: "على تقوى من الله"، بالتنوين؟ قلت: قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى؛ فيمن نوّن، ألحقها بـ"جعفر". وفي مصحف أبىّ: "فانهارت به قواعده". وقيل: حفرت بقعة من مسجد الضرار، فرئي الدخان يخرج منه. وروى: أن مجمع ابن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "هار البناء وتهور: سقط، وقرئ: (شفا جرف هائر)، يُقال: بئر هارٍ وهائر ومنهار، ويُقال: انهار فلان: إذا سقط من مكان عال، ورجل هار وهائر: ضعيف في أمره؛ تشبيهاً بالبئر الهائر". قوله: (وقرئ "جُرف" بسكون الراء): ابن عامر وحمزة وأبو بكر، والباقون: بضمها. قوله: (قد جعل الألف للإلحاق، لا للتأنيث): قال ابن جني: "حكى ابن سلام: قال سيبويه: كان عيسى بن عمر يقرأ (على تقوى من الله)، قلت: على أي شيء نون؟ قال: لا أدري ولا أعرفه، قلت: فهل نون أحد غيره؟ قال: "لا". قال ابن جني: "أما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة، فإن قياسه أن تكون الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى، فيمن نون، وجعلها ملحقة بجعفر". ثم قال: "أما قول سيبويه: "لم يقرأ بها أحد"، فجائز يعني: ما سمعه، لكن لا عُذر له في أن يقول: لا أدري، لأن قياس ذلك أخف وأسهل على ما قلنا من أن تكون ألفه للإلحاق". قوله: (رُوي أن مُجمع بن حارثة): "مُجمع": بفتح الميم الثاني مُشدداً، "حارثة": بالحاء المهملة

فكلم بنو عمرو بن عوف - أصحاب مسجد قباء - عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته: أن يأذن لمجمع يؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فوالله لقد صليت بهم، والله يعلم أنى لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون من القرآن شيئا، فعذره وصدّقه، وأمره بالصلاة بقومه. [(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 110]. (رِيبَةً): شكا فى الدين ونفاقا، وكان القوم منافقين، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم، كما قال عزّ وجلّ: (ضِراراً وَكُفْراً) [التوبة: 107]، فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا - لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميما على النفاق، ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله: (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاء المثلثة في نُسخ "الكشاف"، والرواية في "جامع الأصول": "مُجمع بن حارثة- ويُقال: ابن جارية- بن عامر الأنصاري، وكان أبوه منافقاً من أهل مسجد الضرار، وكان مُجمع مستقيماً، وكان قارئاً". "مُجمع": بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الميم الثانية وسرها وبالعين المهملة، و"جارية": بالجيم والياء تحتها نقطتان والراء: نحوه في "الاستيعاب". قوله: (ولا نعمة عين): النعمة مصدر سماعي بمعنى الإنعام، الجوهري: "نُعمة العين - بالضم-: قرتها، ويُقال: نُعمَ عين، [ونعام عين]، ونعامة عين، ونعمة عين، ونعمى عين، كله بمعنى، أي: أفعل ذلك كرامة لك وإنعاماً لعينك وما أشبهه".

لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وسمه عن قلوبهم، ولا يضمحلّ أثره "إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ" قطعاً، وتفرّق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه، وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم): قال الإمام: "لما صار بناء ذلك البنيان سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، جعل نفس ذلك البنيان ريبة، وفيه وجوه: أحدها: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء المسجد، فلما أمرهم بتخريبه ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وارتيابهم في نبوته. وثانيها: أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم، فارتابوا في أنه هل يتركوا على ما هم فيه، أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ وثالثها: اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه. والصحيح هو الأول". وقلت: يمكن أن يرجح المعنى الثاني على أن الريبة محمولة على موضوعها الأصلي، قال الراغب: "الريبة: اسم من الريب"، وقال المصنف في قوله تعالى: (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة: 2]: "الريب مصدر: رابني، إذا حصل فيك الريبة، وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، ومنه: ريب الزمان، وهو ما يُقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه". المعنى: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سبباً للقلق والاضطراب والوجل في الصدور، والشخوص في القلوب، إلى أن تقطع قلوبهم ما قال، فارتفع أمانهم عنه، وعم خوفهم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، والله تعالى أعلم.

فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها، وما هو كائن منه بقتلهم، أو في القبور، أو في النار. وقرئ: "يقطع"، بالياء، و"تقطع"، بالتخفيف، و (تقطع)، بفتح التاء؛ بمعنى تتقطع، و"تقطع قلوبهم"، على أن الخطاب للرسول، أي: إلا أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن: "إلى أن"، وفي قراءة عبد الله: "ولو قطعت قلوبهم"، وعن طلحة: "ولو قطعت قلوبهم"؛ على خطاب الرسول أو كل مخاطب. وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفاً على تفريطهم. [(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 111]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذكرُ التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها): أي: كناية عن أن الريبة باقية متمكنة فيها غير زائلة، فلو صور أن قلوبهم تقطع وتفرق قطعاً حتى تخرج الريبة منها لزالت، وأما ما دامت سالمة متجمعة فالريبة باقية متمكنة فيها، ولما كانت الكناية غير منافية لإرادة غير ما وُضع له اللفظ ولإرادة ما وُضع له، قال: "فيجوز" بالفاء، وعطف عليه: "ويجوز أن يُراد حقيقته". قال القاضي: " (إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قطعاً بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك والإضمار، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة". قوله: (و (تَقَطَّعَ) بفتح الفاء): ابن عامر وحفص وحمزة، والباقون: بضمها.

مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروي، وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه: فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن: أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها. وروى: أن الأنصار حين بايعوه على العقبة، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم". قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابىّ وهو يقرؤها، فقال: كلام من؟ قال "كلام الله"، قال: بيع -والله- مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو، فاستشهد فيه. (يُقاتِلُونَ) فيه معنى الأمر، كقوله (وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف: 11]، وقرئ: (فيقتلون ويقتلون) على بناء الأوّل للفاعل، والثاني للمفعول، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجعل لهم الصفقتين): أي: المعقود عليه، وهو الثمن والمُثمن، أي: لا يعود الربح من البيع والشراء إلا إليهم. النهاية: "الصفقة: المرة من الصفق باليدين عند المبايعة، ومنه قول أبي هريرة: "ألهاهم الصفق بالأسواق"، أي: التبايع". قوله: (فيه معنى الأمر)، وذلك أنه تعالى أتى بالمضارع كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في الأزل، وأعطيت ثمنها الجنة، فسلموا المبيع واستمروا على القتال، ومن ثم عقبه بقوله: (فَاسْتَبْشِرُوا). قوله: (وقرئ: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) على بناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول): حمزة والكسائي: يبدآن بالمفعول قبل الفاعل، والباقون: يبدؤون بالفاعل قبل المفعول.

وعلى العكس، (وَعْداً) مصدر مؤكد، وأخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت، قد أثبته (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) كما أثبته في القرآن، ثم قال: (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) لأنّ إخلاف الميعاد قبيح، لا يقدم عليه الكرام من الخلق، مع جوازه عليهم لحاجتهم إليه، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعد ثابت قد أثبته (فِي التَّوْرَاةِ): يعني: (حَقّاً) بمعنى: ثابتاً، وكان من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، فقرن التوراة والإنجيل معه في سلك واحد، ليؤذن بالاشتراك، ولذلك أتى بحرف التشبيه وقال: "كما أثبته في القرآن"، إلحاقاً لما لا يُعرف بما يُعرف. قوله: (لأن خلاف الميعاد قبيح) إلى آخره: تعليل لما يُعطيه الاستفهام وبناء "أفعل" في قوله: (وَمَنْ أَوْفَى) من معنى المبالغة. قوله: (ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ): وذلك أنه تعالى لما مثل صورة بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وصورة إثابته عز وجل إياهم به بالجنة، بالبيع والشراء، أتى بقوله: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بياناً، لأن مكان التسليم المعركة، لأن البيع سلم، ومن ثم قيل: (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)، ولم يقل: بالجنة، وأبرز الأمر في صورة الخبر، ثم ألزم البيع من جانبه، وضمن إيصال الثمن إليهم، بقوله: (وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً)، أي: لا إقالة ولا استقالة من حضرة رب العزة سبحانه وتعالى، ثم ما اكتفى بذلكن بلعين الصوك المثبت فيها هذه المبايعة، وهي التوراة والإنجيل والفرقان، وأذن بالسجل أيضاً، وهو قوله: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ)، وخصه باسمه الجامع،

[(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) 112]. (التَّائِبُونَ) رفع على المدح، أي: هم التائبون، يعنى المؤمنين المذكورين، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبىّ رضي الله عنهما: "التائبين"، بالياء، إلى قوله: "والحافظين"، نصباً على المدح، ويجوز أن يكون جراً؛ صفة لـ (لمؤمنين)، وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا، كقوله (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) [النساء: 95]، وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في (يقاتلون)، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: (العابدون)، وما بعده؛ خبر بعد خبر، أي: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك، وتبرؤا من النفاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووضعه موضع المضمر، وأبرز التركيب في صيغة الإنشائية- وقد سبقت خواصه في قوله: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران: 135]-، ثم ختمها بفذلكة حسنة على سبيل التذييل، وهو قوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قوله: (كقوله: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: في قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) إلى قوله: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [النساء: 95]، أي: كلاً من القاعدين والمجاهدين وعد الله المثوبة، وهو الجنة. قوله: (أي: التائبون من الكفر على الحقيقة: الجامعون لهذه الخصال)، كقولك: المتقي: هو

و (الْعابِدُونَ): الذين عبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وحرصوا عليها. و(السَّائِحُونَ): الصائمون؛ شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم، وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض، يطلبونه في مظانه. [(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) 113]. قيل قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب: "أنت أعظم الناس علىَّ حقاً، وأحسنهم عندي يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي"، فأبى، فقال: "لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه"، فنزلت. وقيل: لما افتتح مكة سأل: أي أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبراً فقال: "إني استأذنت ربى في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي"، فنزلت. وهذا أصح؛ لأنّ موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي يؤمن ويصلي ويزكي، وإنما قال: "على الحقيقة"، وفسر (الْعَابِدُونَ) بقوله: "الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة"؛ لأن الأخبار معرفة باللام، وقد عُطفت بعضها على بعض، للتنبيه على استقلال كل بالكمال، فلا يحمل مثلها على المبتدأ على الحصر إلا ليؤذن ببلوغ الغاية، عليه كلام الحسن. قوله: (مستعبراً): يُقال: استعبر بالبكاء: بالغ فيه. و"الأبواء": موضع بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه. النهاية: "الأبواء- بفتح الهمزة وسكون الباء والمد-: جبل بين مكة والمدنية، وعنده بلد ينسب إليه". قوله: (وهذا أصح؛ لأن موت أبي طاب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة):

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستغفراً لأبي طالب إلى نزولها، والتشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة. وقلت: هذا هو الحق، والرواية الأولى- وهي أن تكون نازلة في أبي طالب - هي الصحيحة، لما روينا عن البخاري ومسلم والنسائي عن المسيب بن حزن: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" إلى قوله: قال أبو طالب آخر ما كلمهم: أنا على ملة عبد المطلب، وأبي أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) الآية. وأما حديث أمه: فرويناه عن مسلم وأحمد بن حنبل وأبي داود وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكر الموت". وأما قول المصنف: "سأل أي أبويه أحدث به عهداً" لا وجه له، ولا جاءت الرواية به؛

وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه. (ما كانَ لِلنَّبِيِّ): ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته، (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لأنهم ماتوا على الشرك. [(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) 114]. قرأ طلحة: " وما استغفر إبراهيم لأبيه"، وعنه: "وما يستغفر إبراهيم"، على حكاية الحال الماضية، (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاه) ُ أي: وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (الممتحنة: 4)، ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية: "وعدها أباه". فإن قلت: كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان، جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر، ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه: "لأستغفرنّ لك ما لم أنه"، وعن الحسن: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يستغفر لآبائه المشركين، فقال: "ونحن نستغفر لهم"، فنزلت. وعن على رضي الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للعلم بأنه صلوات الله عليه وُلد وأبوه لم يكن حياً، قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": "وُلد عبد الله لأربع وعشرين سنة مضت من مُلك كسرى، ثم تزوجت به آمنة، فلما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي، وقد قيل: إن عبد الله توفي بعد ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين خرجت إلى أخوالها بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ثم رجعت به إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت أمه، فقرها هناك". قوله: (وعن علي رضي الله عنه: رأيت رجلاً يستغفر لأبويه) الحديث: رواه الترمذي والنسائي، وفي آخره: "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية".

فإن قلت: فما معنى قوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)؟ قلت: معناه: فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن، وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره، فهو كقوله: (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113]. (أَوَّاهٌ) فعال، من أوه كـ"لال" من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه: أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه، وقوله (لأرجمنك) [مريم: 46]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما معنى قوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ)؟ ): وجه السؤال: لم يزل أبو إبراهيم كافراً، والكافر عدو الله، فكيف قيل: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ)، كأنه كان خفياً كفره؟ وأجاب: أنه ما كان كفره خفياً، بل كان يُرجى منه الإيمان، فلما تبين له من جهة الوحي أنه يموت كافراً انقطع رجاؤه. قوله ((اوَاهُ) فعال؛ مِن: أوَّهَ): قال الحريري في "درة الغواص": "يقولون في التأوه: أوه، والأفصح أن يُقال: أوه، بكسر الهاء وضمها وفتحها، والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر: فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن [بُعدِ] أرضٍ بيننا وسماء وقد شدد بعضهم الواو، فقال: أوه، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو، فقال: أو، وتصريف الفعل منها: أوه وتأوه، المصدر: الآهة، ومنه قولُ مثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليلٍ ... تأوه آهة الرجل الحزين

[(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 115 - 116]. يعنى: ما أمر الله باتقائه واجتنابه -كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه، وتبين أنه محظور- لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفسر بعضهم "الأواه" بأنه: الذي يتأوه من الذنوب، وقيل: المتضرع في الدعاء". وقيل: لآل: فعال، كضراب، ولؤلؤ: رُباعي مثل: برثن، والرباعي لا يؤخذ منه فعال، لأنه يعود إلى الحذف، فتصير هادماً، وأنت تقصد البناء، فـ "لآل" وُضع من تركيب "لأل"، لمن يُلابس اللؤلؤ ويبيعه، كالسمان والعواج، قال الفراء: سمعت العرب تقول لصاحب اللؤلؤة: لآل، مثل: لعال، والقياس: لآء، مثل: لعاع. نقله الجوهري. قوله: (ما أمر الله باتقائه): تفسير لقوله: (يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، و (مَّا) موصولة، وكذا في "ما أمر الله" موصولة، و"مِن" في "مما نهى عنه" بيان لـ "غيره"، والخبرُ "لا يؤاخذ به"، وفي هذا التقرير بيان لاتصال هذه الآية بما قبلها. قوله: (ولا يسميهم ضُلالاً): قيل: فيه إيماء إلى مذهبه، وقال الواحدي: "وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم".

ولا يخذلهم، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر، ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها، وهي أنّ المهديَّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: بل الحق ما ذكره المصنف؛ لأن الآيات الثلاث المصدرة بقوله: (مَا كَانَ) في نظام واحد، وهو في الآية الأولى والثانية بمعنى: لا ينبغي، المعنى: لا يصح ولا يستقيم مِنَ المؤمنينَ أن يستغفروا للمشركين مِنْ بعدِ ما بين الله تعالى لهم أنهم من أصحاب النار، وكذلك لا يستقيم من لُطف الباري وأفضاله أن يَذُم المؤمنين ويؤاخذهم ويسميهم ضُلالاً حتى يبين لهم ما يتقون، وهو أن الاستغفار على من مات مشركاً غير جائز، فإذا بين لهم ذلك فلم يتركوا الاستغفار فحينئذ يسميهم ضُلالاً ويذمهم، ثم أوقع حال الخليل عليه السلام بين الآيتين مستطرداً مؤكداً كالاعتراض، ويؤديه كلام القاضي: " (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي: ليسميهم ضُلالاً ويؤاخذهم". قوله: (كما لايؤاخذون بشُرب الخمر، ولا ببيع الصاع بالصاعين): يعني: الاستغفار لآباء المشركين من قبيل هاتين المعصيتين؛ في أن العقل يجوز ذلك قبل ورود الشرع. قوله: (وفي هذه الآية شديدة): أي: خصلة أو بلية أو قارعة أو داهية، حذف الموصوف، كما حُذف الصلة في قولهم: "جاء بعد اللتيا والتي"؛ لشدة الأمر وفظاعته.

والمراد بـ (ما يتقون): ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل - كالصدق في الخبر، وردّ الوديعة: فغير موقوف على التوقيف. [(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَحِيمٌ) 117]. (لقد تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح: 2]، وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر: 55، محمد: 19]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: في الآية تهديد عظيم للعلماء الذين يقدمون على المناكير؛ على سبيل الإدماج، وتسميتهم ضُلالاً من باب التغليظ، ثم أكد الوعيد على سبيل الاستئناف بإثبات العلم المحيط، والقدرة الكامل الدالة على الإعادة للجزاء، حين لا ناصر سواه، من قوله: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ) الآية. قوله (وأما ما يُعلم بالعقل): ففيه الخلاف المشهور، الانتصاف: "قاعدة الحسن والقبح تقتضي أن العقل حاكم، والشرع كاشفٌ لما غمض، وقد تقدم بطلانها". قوله: ((تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ): وبان وجه تشبيه الآيتين ما

وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فِي ساعَةِ) [التوبة: 43]. (في ساعة الْعُسْرَةِ): في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم: غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "وهو بعث للمؤمنين على التوبة" على سبيل التعريض، وذلك أنه صلوات الله عليه ممن يستغني عن التوبة، فوُصف بها ليكون بعثاً للمؤمنين على التوبة، "وإبانةً لفضل التوبة" على طريقة قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر: 7]، وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن ذُكر الإيمانُ لشرفه والترغيب فيه، وإليه الإشارة بقوله: "وأن صفة الأوابين صفة الأنبياء"، والذي يدل على أن (تَابَ اللَّهُ) لمجرد الوصف عطف قوله: "وقيل: معناه: تاب الله [عليه] من إذنه للمنافقين" على هذا الوجه، لأنه بإزاء ما الأولى عدمه. قوله: (وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج): عطف تفسيري على قوله: "وهو بعث"، كما أن قوله: "وأن صفة التوابين" عطف على قوله: "وإبانة لفضل التوبة" كذلك. قوله: (غداة طفت علماء بكر بن وائل): تمامه: وعاجت صدور الخيل شطر تميم

عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِى يَبْتَغِى الْغِنَى والعسرة: حالهم في غزوة تبوك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: إنهم علوا في المنزلة والغلبة على العدو. "عاج": أي: مال، والعوج: عطف رأس البعير بالزمام، "شطر تميم": نحوهم، طفا العود على الماء؛ أي: جرى، "علماء": أصله: على الماء، القياس الإدغام لاجتماع المتجانسين، فلما سُكن الثاني سكونا لازماً لم يتأت فيه الإدغام، لأنه عكس ما يُوجبه، وهو سكون الأول وتحرك الثاني، والتخفيف مطلوب، فعدلوا إلى الحذف، كما في: مست وظلت. قوله: (عشية قارعنا جُذام وحميرا): وصدره: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة قال الأصمعي: في الأمثال: "ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة"، أي: ليس كل ما يشبه شيئاً ذلك الشيء، و"جُذام": أبو القبيلة. يقول: لما التقينا جُذام وحمير ظننا أن سبيلهم سبيل سائر الناس، وأنا سنغلبهم، فوجدناهم بخلاف ذلك. قوله: (إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغني): عجزه: يجد جمع كف غير ملء ولا صفر

كانوا في عسرة من الظهر؛ يعتقب العشرة على بعير واحد. وفي عسرة من الزاد؛ تزودوا التمر المدود، والشعير المسوّس، والإهالة الزنخة، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة، ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها، وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ، ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة. (كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الثبات على الإيمان، أو عن إتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه، وفي (كاد) ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق الله مثله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: أعطيت فلاناً جمع كف، أي: ملء كف، وضربته بجمع كفي، والصفر: الخالي، يقول: إذا جاء وارثي يبتغي الميراث يجد من ترتي ما هو غير كثير ولا قليل؛ فرسٌ ضامر، وسيف صارم، ورمحٌ خطي. قوله: (في عُسرة من الظهر)، النهاية: "الظهر: الإبل يُحمل عليها ويُركب". قوله: (التمر المدود): قال الحريري: "يقولون: باقلاء مدود، وطعام مسوس، ومتاع مقارب، ورجل موسوس، فيفتحون ما قبل الحرف الأخير من كل كلمة، والصواب كسره، ويُقال في الفعل من "المُدود": قد دود وأداد ودود وديد". قوله: (والإهالة الزنخة)، النهاية: "الإهالة: كل شيء من الأدهان يؤتدم به، وقيل: هي ما أُذيب من الألية والشحم"، و"الزنخة: المتغيرة الرائحة، ويقال: سنخة، بالسين". قوله: (من حمارة القيظ)، الجوهري: "حمارة القيظ- بتشديد الراء-: حره". قوله: (ليس خلق الله مثله) أي: ليس الشأن خلق الله مثله.

وقرئ: (يزيغ) بالياء، وفي قراءة عبد الله: "من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم" يريد المتخلفين من المؤمنين، كأبى لبابة وأمثاله، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتوكيد، ويجوز أن يكون الضمير للفريق، تاب عليهم لكيدودتهم. [(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 118]. (الثَّلاثَةِ): كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، ومعنى (خُلِّفُوا) خلفوا عن الغزو، وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم، وقرئ: "خُلِّفُوا" أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا؛ من الخالفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (يَزِيغُ) بالياء): حمزة وحفص، والباقون: بالتاء الفوقانية. قوله: (ويجوز أن يكون الضمير للفريق): عطف على قوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتوكيد" من حيث المعنى، يعني: إذا كان قوله: (تَابَ عَلَيْهِمْ) تكريراً كان الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم كما سبق، وإذا لم يكن تكريراً كان ذلك الضمير للفريق المذكور في قوله: (كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)، لصدور الكيدودة منهم. قوله: (أو فسدوا، من الخالفة)، النهاية: "وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "جاءه أعرابي فقال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقال: فما أنت؟ فقال: أنا الخالفة بعده"، الخليفة: من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء على معنى التذكير، لا على اللفظ، مثل: ظريف وظرفاء، ويُجمع على اللفظ: خلائف، كظريفة وظرائف. وأما الخالفة: فهو الذي لا غناء عنده ولا خير فيه. وإنما قال ذلك تواضعاً وهضماً من نفسه حين قال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وخلوف الفم. وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه: "خالفوا"، وقرأ الأعمش: "وعلى الثلاثة المخلفين". (بِما رَحُبَتْ) برحبها، أي: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعا مما هم فيه، (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي: قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ، (وَظَنُّوا): وعلموا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ) سخط (اللَّهِ إِلَّا) إلى استغفاره، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا): ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، أو: ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب، ولو عاد في اليوم مئة مرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخلوف الفم)، النهاية: "الخلفة -بالكسر- تغير ريح الفم، وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء، لأنها رائحة حديثة بعد الراحة الأولى، يُقال: خلف فمه خلفة وخلوفاً". قوله: ((أَنْفُسَهُمْ): أي: قلوبهم): أي: لا يجوز أن تُجرى الأنفس- وهي الذوات- على معناها الحقيقي، لأن الضيق والسعة لا يستعملان فيها، فتكون مجازاً عن القلوب، لأن النفوس بها، كقوله: "المرء بأصغريه"، كما سبق في البقرة. قوله: (ثم رجع عليهم بالقبول): يعني: قوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير لقوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ)، لأنه معطوف على قوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) [التوبة: 117]، وليس التكرير للتوكيد فقط، بل مع الاستيعاب، ولذلك قال: "كرة بعد أخرى"، وهذا يدل على أن (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) - في تلك الآية- إذا كان للتكرير هو الوجه. قوله: (أو ليتوبوا أيضاً فيما يُستقبل): يعني: أنه تعالى عاملهم بقبول التوبة والرحمة مرة

روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به، عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مئة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله، ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفني إلا الضنّ بك، لا جرم والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه، لا أهل ولا مال، فقال: يا نفس، ما خلفني إلا حب الحياة لك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد أخرى؛ ليستقيموا على التوبة، أو ليستجدوها كلما فرطت منهم زلة، لأنهم علموا بالنصوص الصحيحة أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة، وإليه الإشارة بقوله: "علماً منهم أن الله تواب على من تاب، ولو عاد في اليوم مئة مرة، واقتبسه من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة"، رُوي عن أبي بكرن وألحقه الصغاني إلى الحسان في "كشف الحجاب". قوله: (بدا له): أي: ندم، البداء- بالتفح والمد-: الندامة. قوله: (إلا الضن بك): إنما أنث "بك"؛ لأن المراد من الأهل المرأة، وإلا فالأهل يُذكر ويؤنث.

والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، فتأبط زاده ولحق به، قال الحسن: كذلك -والله- المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها. وعن أبى ذرّ الغفاري: أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده: "كن أبا ذرّ"، فقال الناس: هو ذاك، فقال: "رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده): أما مشيه وحده: فهذه المشية. وأما موته وحده: فإنه مات بالربذة وحده، وسببه: أنه خرج بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام، فلم يزل بها حتى ولي عثمان رضي الله عنه، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية، وأسكنه الربذة، فمات بها. وعن أم ذر زوجته قالت لما حضرت أبا ذر الوفاة بيت، فقال لي: ما يبكيك؟ فقلت: ما لي لا أبكي، وأنت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، ولابد للقيام بجهازك! قال: فأبشري ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلىلله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: "ليموتن منكم رجلٌ بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين"، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا قد مات في قومه وجماعته، فأنا ذلك الرجل، والله ما كذبت، فأبصري الطريق، فبينا نحن كذلك إذا برجال على رواحلهم، قالوا: يا أمة الله، مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت فكفنوه، فكفنوه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان. هذا مختصر من رواية ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وليس فيه: "كن أبا ذر".

وعن أبي خيثمة، أنه بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر، فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: "كن أبا خثيمة"، فكأنه، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الضح)، النهاية: "في حديث أبي خيثمة رضي الله عنه: "يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح، وأنا في الظل والتنعم"، الضح: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، وهو كالقمراء للقمر". قوله: (يزهاه السراب)، الجوهري: "زها السراب الشيء يزهاه: إذا رفعه". قوله: (فكانه): أي: كان هو إياه، ومنه قوله: ومُعذرٍ قال الجمال لوجهه ... كن مجمعاً للطيبات فكانه الجوهري: "كنتك وكنت إياك، كما تقول: ظننتك زيداً، وظننت زيداً إياك، تضع المنفصل في موضع المتصل في الكناية عن الاسم والخبر، لأنهما منفصلان في الأصل، لأنهما مبتدأ وخبر، قال أبو الأسود الدؤلي: دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها كافياً بمكانها فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها

ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة، قال كعب: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه، فردّ علىّ كالمغضب بعدما ذكرني وقال: "ليت شعري ما خلف كعباً"؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه، والنظر في عطفيه. فقال: معاذ "و" الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: الزبيب". وأما الرواية الصحيحة عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي عن ابن شهاب: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة. وتمام حديث كعب بن مالك بطوله مروي بهذه الرواية الصحيحة، وليس فيه: "كن أبا ذر". قوله: (إلا حُسن برديه، والنظر في عطفيه): كناية عن كونه معجباً بنفسه ذا زهو وتكبر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً": فإشارة إلى الرد فيما يتصور من ذلك

ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس، ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد. فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا، ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة، إذا أنا بنداء من ذروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وكنت كما وصفني ربى (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي، حتى صافحني وقال: لتهنك توبة الله عليك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكلام، وهو النقصان في الإنسانية والنقصان في الدين، يعني: هو كامل خلقاً ودينا، وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" قصته، وليس فيها هذه الزيادة، وقال: "هو أبو خيثمة الأنصاري احد بني سالم بن الخزرج، شهد أُحداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي إلى أيام يزيد بن معاوية". قوله: (ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة): أي: خصوصاً الثلاثة، كقولهم: "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة"، قال أبو سعيد السيرافي: إنه معول فعل محذوف، أي: أريد الثلاثة، وأخص الثلاثة. وخالفه الجمهور، وقالوا: "أي": مُنادى، و"الثلاثة": صفة له، وإنما أوجبوا ذلك لأنه في الأصل كان كذلك، فنُقل إلى الاختصاص، وكُلما نُقل من باب إلى باب، فإعرابه بحسب أصله، كأفعال التعجب. قوله: (يُهرول إليّ)، النهاية: "الهرولة: ضرب من السير، بين المشي والعدو".

فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يستنير استنارة القمر: "أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك"، ثم تلا علينا الآية. وعن أبى بكر الورّاق: أنه سئل عن التوبة النصوح؟ فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 119 - 121]. (مَعَ الصَّادِقِينَ): وقرئ: "من الصادقين"، وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله على الطاعة، من قوله: (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23]، وقيل: هم الثلاثة، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ووافقوهم، وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلن أنساها لطلحة) أي: هذه الخصلة، وهي بشارته إياي بالتوبة، أي: لا أزال أذكر إحسانه إليَّ بذلك، وكنت رهين منته به. قوله: (وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب): عطفٌ على قوله: "وهم الذين صدقوا" من حيثُ المعنى.

وقيل: لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "ولا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه، ثم لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم: (وكونوا مع الصادقين)، فهل فيها من رخصة؟ ! ". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعلم أن الخطاب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ): إن كان المراد عاماً فالمناسب أن يُراد بـ (الصَّادِقِينَ): ما قال أولاً: "وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً"، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب فالظاهر أن يُراد بـ (الصَّادِقِينَ): "الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله على الطاعة"، وهذا ما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، ولذلك قال: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [الأحزاب: 23]، وإن كان الخطاب لمن تخلف من الطلقاء، فالمناسب أن يُراد بـ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) الآية: [التوبة: 117]، وعلى الثالث: قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) الآية [التوبة: 118]. والأولى أولى الوجوه؛ لأنه كالخاتمة للآيات تشتمل على الفريقين وغيرهما، فيدخلوا فيه دخولاً أولياً من غير ترجيح، وليكون كالتخلص إلى العود إلى ما بُدئ به الكلام، وهو قوله: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ). قوله: (من الطلقاء): قيل: هم السبعة الذين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية. قوله: (فهل فيها من رخصة؟ ): يعني: لما أمر المكلف بأن يدخل نفسه في زمرة الصادقين من الأنبياء والمرسلين، وأن تكون له مساهمة فيمن صدقه نية وقولاً وعملاً، فيكون قد كلفه فيالصدق بما لا يحتمل أدنى ما يصدق عليه الكذب.

(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعزُ نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمروا أن يصحبوه على البأساء والضراء)، ثم قوله: "وهذا نهيٌ بليغ": يدل على أن الآية متضمنة للأمر أو النهي؛ أما النهي فمن قوله: (مَا كَانُ)، فإن معناها: لا ينبغي ولا يستقيم ولا يصح، وهو أبلغ من صريح النهي، فإذا نهوا عن أن يتخلفوا عنه، وعن أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وجب عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء، وأن يُلقوا أنفسهم ما تلقاه نفسه من الشدائد، فيكونوا مأمورين بذلك، بناء على أن النهي أمر بضده. وإنما أفاد قوله تعالى: (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ما ذُكر من المبالغات، لأنه تعالى عداه بالباء وبـ "عن"، قال الواحدي: "يُقال: رغبتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: ترفعت عنه". النهاية: "يُقال: رغبت بفلان عن هذا الأمر: إذا كرهته له وزهدت له فيه، ومنه الحديث: إني لأرغب بك عن الأذان". وقلت: معناه أن هذا الأمر مما لا يليق بمنزلتك، لأنك أرفع قدراً من أن تُزاوله، المعنى: ما صح لهم ولا استقام أن يترفعوا بأنفسهم عن نفسه، أي: بأن يكرهوا الشدائد لأنفسهم، ولا يكرهوها له، فإنه مستهجن جداً، بل عليهم أن يعكسوا القضية، وإليه الإشارة بقوله: "ولا يقيموا لها وزناً ... فضلاً عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها".

فضلا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية. (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله: "ما كان لهم أن يتخلفوا"، من وجوب مشايعته، كأنه قيل: ذلك الوجوب بسبب بِأَنَّهُمْ (لا يُصِيبُهُمْ) شيء من عطش، ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم، (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا): ولا يرزؤونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها)، الأساس: "وإني لأربأ بك عن الأمر: أرفعك عنه ولا أرضاه لك، وربأت بنفسي عن عمل كذا، وما عبأت بكذا ولا ربأت به". قوله: ((ذَلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله: "ما كان لهم أن يتخلفوا"): وهو تلخيص للتلاوة ودلالتها على وجوب مشايعته؛ لما مر في قوله: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أنه متضمن للأمر بالنفير معه، صلوات الله عليه. والمعنى: أن ذلك الأمر والتهييج بسبب ترتب هذه الفوائد المتكاثرة عليه ديناً ودُنيا، ومن حق العاقل أن لا يتقاعد عنها. فقوله: (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) القرينتان واردتان لبيان ما لهم من الغنيمة والنصرة بعد بيان ما كان عليهم من التعب والنصب في قوله: (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم جُمعا في قوله: (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). قوله: (ولا يرزؤونهم شيئاً): أي: لا ينقصوهم، ومنه: الرزية: المصيبة.

(إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ)، وفازوا واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء: الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام: "آخر وطأة وطئها الله بوج"، و"الموطئ" إمّا مصدر كالمورد، وإمّا مكان، فإن كان مكانا: فمعنى (يغيظ الكفار): يغيظهم وطؤه، و"النيل" أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، وأن يكون بمعنى المنيل، ويقال: نال منه: إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آخر وطأة وطئها الله بوج): النهاية: "زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو محتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: "إنكم لتبخلون وتجبنون، وإنكم لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها [الله] بوج"، يعني: تحملون على البخل والجبن، فإن الأب يبخل بإنفاق ماله ليخلفه لهم، ويجبن عن القتال ليعيش لهم ويربيهم. و"ريحان الله": رزقه وعطاؤه. و"وج": من الطائف. والوطء في الأصل: الدوس بالقدم، فسُمي به الغزو والقتل، لأن من يطأ الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وإهانته. والمعنى: إن آخر أخذة ووقعة أوقعها الله تعالى بالكفار كانت بوج، وكانت غزوة الطائف آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغز بعدها إلا غزوة تبوك، ولم يكن فيها قتال. ووجه تعلق هذا القول بالأولاد: أنه إشارة إلى تقليل ما بقي من عمره، صلوات الله عليه، فكنى به عن ذلك". قوله: (وينكبهم): وروي: "وينكيهم"، النهاية: "يُقال: نكيتُ في العدو أنكي نكاية، فأنا

وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً؛ من قيام وقعود ومشى وكلام وغير ذلك، وكذلك الشر، وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة رحمه الله: أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم. ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر، وقد قدما بعد تقضى الحرب، وأمدّ أبو بكر رضي الله عنه المهاجر بن أبى أمية، وزياد بن أبى لبيد، بعكرمة بن أبى جهل مع خمس مئة نفس، فلحقوا بعدما فتحوا، فأسهم لهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ناكٍ: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، فوهنوا لذلك، وقد يُهمز؛ لغة فيه. يُقال: نكأت القرحة أنكؤها: إذا قشرتها". قوله: (ولقد أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم): روينا عن الترمذي عن أبي موسى قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا". وعن أبي داود عن أبي موسى قال: "قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا- أو قال: فأعطانا منها-، وما قسم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا؛ جعفراً وأصحابه، قسم لهم معه".

عند الشافعي: لا يشارك المدد الغانمين. وقرأ عبيد ابن عمير: "ظماء" بالمدّ، يقال: ظمأ ظماءة وظماء. (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة، ولو علاقة سوط، (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي: أرضاً في ذهابهم ومجيئهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند الشافعي: لا يُشارك المدد الغانمين): في "الروضة": "يستحق السهم من شهد الوقعة بنية الجهاد، قاتل أم لم يقاتل، إذا كان ممن يسهم له؛ من حضر قبل انقضاء القتال: استحق، وإن حضر بعد حيازة المال: فلا، وإن حضر بعد انقضائه وقبل حيازة المال: أظهر الوجهين: لا يستحق، ولو أقاموا على حصن، وأشرفوا على فتحه، فلحق مدد قبل الفتح: شاركوهم، وإن فتحوا ودخلوا آمنين، ثم جاء المدد: لم يشاركوهم". قلت: ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أباناً على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها، وإن حُزم خيلهم الليف، فلم يقسم له". ودل أيضاً قول أبي موسى في الحديث الأول: "وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر" إلى آخره، على مذهب الشافعي. قوله: (مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة): في "مُسند أحمد بن حنبل" عن عبد الرحمن بان سمرة قال: طجاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز جيش العسرة، فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يُلبها بيده، وقال: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم"، يُرددها مراراً".,

والوادي: كل منعرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل: "فاعل" من: ودي: إذا سال، ومنه: الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى: الأرض، يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك من الإنفاق وقطع الوادي، ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى (عمل صالح)، وقوله: (لِيَجْزِيَهُمُ) متعلق بـ (كتب)، أي: أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء. [(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) 122]. اللام لتأكيد النفي، ومعناه: أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن، وفيه: أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل منعرج)، الجوهري: "مُنعرج الوادي: منعطفه يمنة ويسرة". قوله: (ويجوز أن يرجع الضمير فيه): عطف على قوله: " (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ) ذلك"، يعني: أن الضمير المرفوع القائم مقام الفاعل في (كُتِبَ): إما مُجرىَ مجرى اسم الإشارة، والمشار له ما سبق من الإنفاق وقطع الوادي، أو راجع إلى (عَمَلٌ صَالِحٌ)، أي: يُقدر له: "عمل صالح"، ليقوم مقام الفاعل، بقرينة قوله تعالى: (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). وقوله: (لِيَجْزِيَهُمْ) تعليل لهذا الفعل، كما أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) تعليل لذلك. قوله: (وفيه: أنه لو صح): يعني: أشار في هذه الآية إلى أن طلب العلم فريضة على كل مسلم؛ على سبيل الإدماج، لأن سوق الكلام: أنه لولا ضرورة دعت المسلمين إلى المنع

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من تنفيرهم كافة في طلب العلم، لوجب تنفير الكل، فيفهم من هذا أن قوله: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) ترخيص للبعض من القعود لمصلحة دينية، وعزيمة لآخرين في التنفير لطلب العلم، ثم الرجوع إلى القاعدين لأجل التعليم. وكان من حق الظاهر أن يُقال: "ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون"، فوضع موضع "التعليم": "الإنذار"، وموضع "يفقهون": (يَحْذَرُونَ)؛ ليؤذن بأن الغرض من التعليم والتفقه اكتساب خشية الله والحذر من بأسه وعقابه. قال حجة الإسلام الغزالي رحمة الله عليه"لقد كان اسم "الفقه" بالعصر الأول مطلقاً على علم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات العمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك عليه قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، وما به الإنذار والتخويف هو الفقه، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارة. وسأل فرقد السبخي الحسن عن شيء، فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك. فقال الحسن: ثكلتك أمك فريقد، هل رأيت فقيهاً قط بعينيك؟ ! إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم. ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى". تم كلامه. ومنه أخذ المصنف في الطعن في المتسمين باسم الفقه قائلاً: "لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة"، إلى آخره.

لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. (فَلَوْلا نَفَرَ) فحين لم يمكن نفير الكافة، ولم يكن مصلحة، فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) أي: من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم، يكفونهم النفير. (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ): ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة): رواه الصغاني في "كشف الحجاب" عن أبي سعيد، ولم يذكر "ومسلمة"، وضعفه. قوله: (لم يُمكن نفير الكافة): النفير هنا: مصدر، الأساس: "نفر القوم إلى الثغر نفيراً، وجاء نفير بني فلانٍ ونفرهم". قوله: (أي: من كُل جماعة كثيرة جماعة قليلة): كأنه استنبط من استعمال التنزيل الفرق بين "الفرقة" و"الطائفة"، لأن القياس أن ينتزع من الكثير القليل، وألا فالجوهري لم يفرق بينها.

وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل: (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) [القصص: 83]! (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ): إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً. ووجه آخر: وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفشوا داء الضرائر بينهم): الضرائر: جمعُ ضريرة. الأساس: "من المجاز: ما أشد ضريرته عليها: غيرته، وبينهم داء الضرائر: الحسد، وامرأة ضريرة". وفيه تعبير شديد وتوبيخ عظيم، وذلك أن العلماء إذا وقع بينهم التحاسد دخلوا في حكم النساء. قوله: (موطأ العقب دون الناس)، النهاية: "وفي حديث عمار: "أن رجلاً وشى به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: اللهم إن كان كذب فاجعله موطأ العقب"، أي: كثير الأتباع، دعا عليه بأن يكون سلطاناً أو مقدماً، فيتبعه الناس ويمشون وراءه". قوله: (ووجه آخر): عطف على قوله: "أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح". والمعنى على الأول: ما ينبغي للمؤمنين، ولا يصح منهم، أن يخرجوا من أوطانهم جميعاً على المدينة، ليتفقهوا في الدين، وإذا كان كذلك فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين. فحذف من الأول: "ليتفقهوا في الدين" مع الشرط؛ لدلالة الكلام عليه. وعلى الثاني: (لِيَتَفَقَّهُوا) علة لمعنى النهي في قوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا)، وعلة قوله: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) محذوفة، المعنى: لا يصح تنفير الجميع إلى الغزو، لأن التفقه أيضاً من فروض الكفايات، وإذا كان كذلك فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للغزو، وتبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر.

إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك، وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد، استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً) على الأول: خبر، وعلى الثاني: معناه النهي، لأن المراد بالأول تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن فعله من الجميع لكان جائزاً أو واجباً، ولما لم يُمكن فُعل على طريق فرض الكفاية، وفي الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد، ولو أنهم نفروا أجمعين لكان ممكناً، فنهوا عن اطراح التفقه، وأمروا به أمر كفاية". وقال القاضي: "وفيه دليل على أن التفقة والتذكير من فروض الكفاية". وقلت: وفي توسيطها بين آيات الجهاد دليل على أن المقصود الأولي من التفقه: الإنذار والبعث على الجهاد والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الدين، والحذر عن أن يدخلوا في زمرة المنافقين المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (بعث بعثاً)، الجوهري: "البعوث: الجيوش، وكنت في بعث فلان، أي: في جيشه".

وقوله: (لِيَتَفَقَّهُوا) الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف النافرة من بينهم، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم، بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأوّل: الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 123]. (لُونَكُمْ): يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة؛ قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشام. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره. وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى. وعن ابن عمر: أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم. وقرئ (غِلْظَةً) بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطه، والغلظة كالسخطة، ونحوه: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 73]، (وَلا تَهِنُوا) [آل عمران: 139]، وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال، وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه: (وَلا تَاخُذْكُمْ بِهِما رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [النور: 2]. (مَعَ الْمُتَّقِينَ) ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه. [(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (غِلْظَةً) بالحركات الثلاث): بالكسر: السبعة. قوله: (وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال، وشدة العداوة والعنف في القتل والأسر): يعني: قوله: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) كلمة جامعة لهذه المعاني، وذلك لأنه أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين الغلظة، وفي الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يتصفوا بصفاتٍ إن وجدهم الكفار

رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) 124 - 125]. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ): فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي، والعمل به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجدوا فيهم تلك الصفات، ومثله - لكن في النهي - قوله تعالى لموسى عليه السلام: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [طه: 16]. ولما كان المطلوب من أمر الكافرين اتصاف المؤمنين بتلك الصفات، وهي مضادة للرأفة والرحمة التي يقتضيها صلة الموصول- أعني: قوله: (يَلُونَكُمْ) -؛ لأن الظاهر من حق الجار مع الجار الترأف والترحم، ذيل الكلام بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، ومعناه: ما قال: إن الله "ينصر من اتقاه، فلم يترأف على عدوه"، أي: عدو الله، فاللام في (الْمُتَّقِينَ) للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، وقد وضع (الْمُتَّقِينَ) موضع المضمر، أي: معكم، إذا لم يوجد منكم الترأف والترحم، والله أعلم. قوله: (إنكار واستهزاء بالمؤمنين): (فَمِنْهُمْ) جواب للشرط، وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ليسا بمعطوفين على الجزاء، بل تفصيلان لمفصل محذوف، كأنه قيل: فأما إذا ما أنزلت سورة فالناس من بين مستهزئ مطبوع على قلوبهم، ومؤمن مستبشر مستزيد للإيمان، فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيماناً، ومنهم من

و (أيكم) مرفوع بالابتداء، وقرأ عبيد بن عمير: " أيكم" بالفتح؛ على إضمار فعل يفسره (زادَتْهُ)، تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل، (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ): كفراً مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا -بتجديد الله الوحي- كفراً ونفاقا، ازداد كفرهم، واستحكم وتضاعف عقابهم. [(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) 126 - 127]. قرئ: (أَوَلا يَرَوْنَ) بالياء والتاء، (يُفْتَنُونَ): يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله، ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون: ، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعاينون أمره، وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)، الآية. قوله: (وأثلج للصدر)، النهاية: "ثلجت نفسي بالأمر تثلج ثلجاً، وثلجت تثلج ثلوجاً: اطمأنت إليه وسكنت، وثبتت فيه ووثقت". قوله: (لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل): تعليل للاعتبارين، أي: إذا كان الإيمان يُراد به الاعتقاد فزيادته بزيادة اليقين، وإن كان العمل فزيادته بزيادة العمل. قوله: (قرئ: (أَوَلا يَرَوْنَ) بالياء والتاء): بالتاء الفوقانية: حمزة، والباقون: بالياء.

أو: يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون. (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ): تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به، قائلين: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين؛ لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه، ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو: ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا، يقولون: (هل يراكم من أحد). وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين. (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح، (أَنَّهُمْ): بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ): لا يتدبرون حتى يفقهوا. [(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) 128 - 129]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لواذاً)، الأساس: "لاذ به لياذاً، ولاذ لواذاً، واعتصم بلوذ الجبل، أي: بجانبه". قوله: ((صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عيهم بالخذلان)، الانتصاف: "يحتمل أنه أخبر تعلق بأنه صرف قلوبهم، ومنعها من تلقي الحق، لكن الزمخشري نفر من ذلك رعاية لقاعدة الحسن والقبح، ثم في هذا الدعاء مناسبة لما فعلوا، وهو الانصراف، كقوله تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة: 64]، وقوله تعالى: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) [التوبة: 98].

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ): من جنسكم ومن نسبكم، عربي قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج، بقوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي: شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) حتى لا يخرج أحد منكم عن إتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به، (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَءوفٌ رَحِيمٌ). وقرئ: "من أنفسكم"، أي: من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم ذكر ما يتبع المجانسة المناسبة من النتائج): وذلك من إجراء هذه الصفات على الرسول صلوات الله عليه، لتعداد المنن على المرسل إليهم، فيجب أن يعتبر في كل من تلك الصفات فائدة جليلة، ليصح الامتنان بكل منها، فأجري عليه أولاً (مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم، لأن الجنس إلى الجنس أميل، ثم رتب عليه صفات أخر على سبيل الترقي، كما سينبئ عنه كلامه. قوله: ((عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ): أي: شديد عليه شاق): وعن الراغب: "العزة: حالة مانعة للإنسان أن يُغلب، من قولهم: أرض عزاز، أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُقهر. قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون: 8]، وقد يُذم بالعزة، كقوله تعالى: (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) [ص: 2]، وقد تُستعار للحمية والأنفة المذمومة، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة: 206]، ويقال: عز علي ذا، أي: صعب، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23]، أي غلبني، عز الشيء: قل، اعتباراً بماقيل: كل موجود مملول، وكل مفقود مطلوب".

وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (رَءوفٌ رَحِيمٌ). (فَإِنْ تَوَلَّوْا): فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك، فاستعن وفوّض إليه، فهو كافيك معرّتهم، ولا يضرونك، وهو ناصرك عليهم. وقرئ "العظيم" بالرفع. وعن ابن عباس رضي الله عنه: العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبىّ ابن كعب: آخر آية نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ). عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما نزل علىّ القرآن إلا آية آية، وحرفاً حرفاً، ما خلا سورة (براءة) و (قل هو الله أحد)، فإنهما أنزلتا علىّ، ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كافيك معرتهم)، النهاية: "المعرة: الأمر القبيح المكروه والأذى، وهي مفعلة، من العر، أي: موضع الجرب"، و"ناصبوك": أي: عادوك قوله: (وحرفاً حرفاً)، النهاية: "الحرف في الأصل: الطرف والجانب، وسمي به الحرف من حروف الهجاء"ن فالمراد به هاهنا الجملة المفيدة، سواء كانت آية أو أقل أو أكثر، على معنى: لم تبلغ تمام السورة. والله أعلم بالصواب تمت السورة حامداً لله ومصلياً

سورة يونس

سورة يونس مكية، وهي مئة وتسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ * أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) 1 - 2]. (الر) تعديد للحروف على طريق التحدي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة يونس عليه السلام مكية، وهي مئة وتسع آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ((الر) تعديد للحروف على طريق التحدي): أي: بالقرآن، كما قال في البقرة: "هو كقرع العصا، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم- وقد عجزوا عنه- كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم إلى النظر إلى أنه ليس من كلام البشر، وانه كلام خالق القوى والقدر".

و (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، و"الكتاب": السورة، و"الْحَكِيمِ" ذو الحكمة؛ لاشتماله عليها ونطقه بها، أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى: وَغَرِيبَةٍ تَاتِى المُلُوكَ حَكِيمَة ... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا؟ ! الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، و (أَنْ أَوْحَيْنا) اسم "كان"، و (عجباً): خبرها. وقرأ ابن مسعود: "عجب"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إشارة إلى ماتضمنته السورة من الآيات): فإن قلت: كيف يُشار إلى ما تضمنته السورة، وهو مترقب؟ قلت: قال في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78]: "تصور فراق بينهما، فأشار إليه"، وسيجيء التحقيق فيه هنالك. قوله: (ونطقه بها): يعني: وُصِفَ (الْكِتَابِ) بـ (الْحَكِيمُ) على الاستعارة المكنية بجامع اشتماله على الحكمة. قوله: (أو وُصِف بصفة محدثه): وعند أهل السنة: بصفة متكلمه الحكيم، وهو من الإسناد المجازي، كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم. الراغب: "الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل، فالحكمة من الله تعالى: معرفة الأشياء. وإيجادها على غاية الإحكام، وإذا وُصف بها القرآن فلتضمنه الحكمة". قوله: (وغريبة) البيت: أي: رب قصيدة غريبة قد قلتها في مدح الملوك ذات حكمة، ليتعجب الناس ويقولوا: من قالها؟ !

فجعله اسما، وهو نكرة، و (أَنْ أَوْحَيْنا) خبراً، وهو معرفة، كقوله: يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاء والأجود أن تكون "كان" تامّة، و (أن أوحينا) بدلا من "عجب". فإن قلت: فما معنى اللام في قوله: (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً)؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجباً؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجعله اسماً، وهو نكرة، و (أَنْ أَوْحَيْنَا) خبراً، وهو معرفة): أي: هو من باب القلب لأمن الإلباس، والضمير في "كقوله" لحسان، أوله: كأن سلافة من بيت رأس ورواية "الصحاح": "كأن سبيئة من بيت رأس". "السلافة": أول ما يسيل من ماء العنب، وهو أرق ما فيه، "السبيئة": الخمر، يقال: سبأت الخمر سبأ: إذا اشتريتها لتشربها، و"بيت رأس": اسم قرية بالشام تُباع فيه الخمر. قال ابن جني: "إنما جاز ذلك من حيث كان "عسل وماء" جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، لأن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، أي: فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما، لأنك في الموضعين لا تريد أسداً معيناً،

قلت: معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في "عند الناس" هذا المعنى. والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم، دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في "جالس" و"قائم" معنى الجنسية التي تلاقي معيناً نكرتها ومعرفتها [على ما قدمناه] ". ومعنى الآية على هذا: أكان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل، وهو التعجب. وقال ابن جني أيضاً: "يجوز مع النفي جعلُ اسم "كان" وأخواتها نكرة، ولا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيراً منك، ولا تقول: كان إنسان خيرا ًمنك". والاستفهام في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) للتوبيخ، فيفيد معنى النفي. قوله: (معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة): فإذن اللام مثلها في قوله تعالى: (هيت لك) [يوسف: 23]، قال أبو البقاء: "اللام متعلق بـ "عجب" للتبيين". قوله: (أفناء رجالهم)، الجوهري: "يقال: هو من أفناء الناس: إذا لم يعلم ممن هو"، ولم يرد هاهنا حمول نسبه، لأنه صلوات الله عليه كان من الأعلام المشاهير كابراً عن كابر، لكن أريد أنه لم يكن من العظماء والرؤساء، يدل عليه قولهم: (عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، وقولهم: "يتيم أبي طالب".

إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يذكر لهم البعث، وينذر بالنار، ويبشر بالجنة. وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم، وقال الله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) [الإسراء: 95]، وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً، لأنّ الله تعالى: إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة، والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ: 37]، والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء. (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ): (أن) هي المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر الناس، على معنى: أن الشأن قولنا: أنذر الناس، و (أَنَّ لَهُمْ) الباء معه محذوف، (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن يذكر لهم البعث): معطوف على محذوف تقديره: لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس؛ لأن يدعوهم إلى الله، وأن يذكر لهم البعث، إلا يتيم أبي طالب. قوله: (والبعث للجزاء): عطف على قوله: "وإرسالُ الفقير"، وهو على قوله: "لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشراً" من حيث المعنى، وذلك أن المتعجب منه في قوله: (أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ) ثلاثة أشياء: كون الرسول رجلاً، وكونه بعضاً منهم، وكون المنذر البعث. وأجاب عن كل واحد على سبيل التفصيل وأحسن، لا سيما قوله: "إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء"، لكن في قوله: "إنما يختار من استحق الاختيار" بحث. وعلل نفي التعجب بقوله: "لأن الرسل" إلى آخره، لأن العجب: هو حال يعتري الإنسان من رؤية خلاف العادة.

فإن قلت: لم سميت السابقة قدما؟ قلت: لما كان السعي والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يداً؛ لأنها تعطى باليد، وباعاً؛ لأنّ صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير، وإضافته إلى (صدق) دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة. وقيل: مقام صدق. (إِنَّ هذا): إن هذا الكتاب وما جاء به محمد "لَسحِرٌ"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً): قال السجاوندي: "سُمي المُقدم قدماً، كما سُمي الجاسوس عيناً، والمستعلي رأساً، بل كل صفة مرضية للعبد عند سيده: قدم، وكل نعمة شاملة للسيد على عبده: يد". قوله: (لأن صاحبها يبوع بها)، الأساس: "ومن المجاز: لفلان سابقة وباع، وتبوع للمساعي: مد باعه". قوله: (مقام صدق): هو كقوله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 55]، الأساس: "مشى فلان اليقدمية والقدمية: إذا تقدم في المكارم ومعالي الأمور". الانتصاف: "لم يسموا السابقة السوء: قدماً، إما لكون المجاز لم يطرد، أو اطرد ولكن غلب العرف على قصرها". قوله: (إن هذا الكتاب وما جاء به محمد لسحر): إشارة إلى اتصال هذه الآية بالآيتين السابقتين، آذنت الأولى: بأن السورة تحدي بها، وأفحم من تحدى بها، وأثبت بالآيتين السابقتين، آذنت الأولى: بأن السورة تحدى بها، وأفحم من تحدى بها، وأثبتت رسالة المدعي، والثانية: بأنهم بعد العجز عاندوا وتعجبوا مستهزئين، والثالثة: بأنهم أظهروا ما به يتبين عجزهم من تلك الكلمة التي يرمي بها العاجز المبهوت، وإليه الإشارة بقوله: "وهو دليل عجزهم واعترافهم به".

ومن قرأ: (لساحر): فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً، وفي قراءة أبىّ: "ما هذا إلا سحر". [(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) 3 - 4]. (يُدَبِّرُ) يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة، ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً، و (الْأَمْر): َ أمر الخلق كله، وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما فُصلت الجمل لاختلافها خبراً وطلباً على سبيل التعداد، نحو قولهم: "واعبد ربك، العبادة حق له"، على تعويل الترتيب إلى الذهن دون اللفظ. قوله: (ومن قرأ: (لَسَاحِرٌ): ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي. قوله: (الناظر في أدبار الأمور [وعواقبها] لئلا يلقاه ما يكره آخراً): لخص المعنى القاضي حيث قال: "التدبير: النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة". قلت: هذا تمثيل، ولذلك قال: "ويفعل ما يفعلُ المتحري".

فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السماوات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة، وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره. وكذلك قوله: (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) دليل على العزة والكبرياء، كقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ: 38]. و(ذلِكُمُ) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف به: هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة، (فَاعْبُدُوهُ) وحده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبالاستواء على العرش): عطف على "بخلق السماوات والأرض"، وهو بدل من قوله: "بالجملة" بإعادة العامل، وكرر الباء في المعطوف ليؤذن باستقلاله بنفسه، وفيه لف، فقوله: "على عظمة شأنه" مستفاد من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله: "ومُلكه" -أي: عظمة مُلكه-من قوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، فكان قوله: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ) تتميماً لهذا المعنى، لأن الأول دل على عظم الشؤون وجلائل الأمور، وهذا على توابعها، وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وقدره، وكذلك قوله: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تتميم للمجموع وتمثيل لما عُهد من السلاطين من اجتماع الملأ حول سرير الملك، وعليه قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) [النبأ: 38]. قال القاضي: "فيه رد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وإثبات الشفاعة لمن أذن له". قلت: آذن - رحمه الله- بارتباط هذه الآية مع قوله: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) [يونس: 18]. قوله: (أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف به) إلى آخره: إشارة إلى أن في اسم الإشارة

ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه. (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي: لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه. (وَعْدَ اللَّهِ) مصدر مؤكد لقوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)، و (حَقًّا) مصدر مؤكد لقوله: (وَعْدَ اللَّهِ). (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته: هو جزاء المكلفين على أعمالهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إشعاراً بأن ما قبله- وهو الله الموصوف بكونه رباً، خالقاً، مستوياً على العرش، مدبراً للأمور - حقيق بما بعده؛ وهو أن يخص بالعبادة، ولا يشرك فيها غيره، كما سبق في أول البقرة. قوله: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فإن أدنى التفكر والنظر ينبهم على الخطأ): مُشعرٌ بأن التذكر دون التفكر، الجوهري: "ذكرته بلساني وبقلبي، وتذكرته"، وقال: "التفكر: التأمل". يعني: كان من حق الظاهر أن يُقال: "أفلا تفكرون"، أي: في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، لتعرفوا أن الله هوا لمستحق للعبادة، لأنه هو المنعم بجميع تلك النعم المتظاهرة، فوضع موضعه (تَذَكَّرُونَ)؛ تتميماً للمعنى وتربية للفائدة، يعني: يكفيكم الإخطار بالبال دون استعمال الرؤية. قال الإمام: "هذا يدل على أن التفكر في المخلوقات والاستدلال بها على جلال الله وعزته وعظمته من أعلى المراتب، وأكمل الدرجات". قوله: (لا ترجعون في العاقبة إلا إليه): الحصر ومعنى التخصيص مستفاد من التقديم. قوله: (وهو أن الغرض): الجملة معطوفة على جملة قوله: "معناهالتعليل"؛ على سبيل البيان،

وقرئ: "أنه يبدأ الخلق"، بمعنى: لأنه، أو: هو منصوب بالفعل الذي نصب (وعد الله)، أي: وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه، وقرئ: (وعد الله)، على لفظ الفعل، و"يبدئ"، من أبدأ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب (حقا)، أي: حقّ حقا بدأ الخلق، كقوله: أَحَقَّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِياً ... وَلَا ذَاهِباً إلّا عَلَيَّ رَقِيبُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والضمير المرفوع راجع إلى "معناه"، أي: قوله (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) استئناف معناه أن الغرض يقتضي الحكمة، إلى آخره. قوله: (والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه): يعني: على تقدير المصدر لابد من التقديم والتأخير؛ لأن الإبداء ليس موعوداً، بل الموعود الإعادة، فتقدر "إعادة الخلق بعد بدئه". قوله: (ويجوز أن يكون مرفوعاً): عطف على قوله: "أو هو منصوب بالفعل"، يعني: على قراءة من قرأ "أنه يبدأُ الخلق" بالفتح، يجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر ناصب له، أي: وعد الله وعداً بدء الخلق، أو أن يكون مرفوعاً بفعل مقدر رافع له، أي: حق حقاً بدء الخلق. قوله: (مرفوعاً بما نصب (حَقاً): لأنه مصدر مؤكد لغيره، وهو قوله: "حق"، وإليه الإشارة بقوله: "أي: حق بدء الخلق حقاً". قوله: (أحقاً عباد الله)، البيت: قيل: "أحقاً": في موضع الظرف، كأنه قال: أفي حق؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"أن": مخففة من الثقيلة، وموضعه مع ما بعده موضع المبتدأ، و"أحقاً" في موضع الخبر، يقول: أفي حق، يا عباد الله، أني لا أجيء ولا أذهب إلا علي رقيب محافظ يَعُدُّ خُطاي وأنفاسي ويتأمل قصوري. ومثله قول الحماسي: أحقاً عباد الله أن لستُ رائياً ... رفاعة طول الدهر إلا توهما قال المرزوقي: "أحقاً: انتصب عند سيبويه على الظرف، كأنه قال: أفي الحق ذلك، فإن قيل: وكيف جاز أن يكون ظرفاً؟ قلت: لما رآهم يقولون: أفي حق كذا، أو: أفي الحقن جعلوه إذا نصبوه على تلك الطريقة، قال: أفي الحق أني مُغرم بك هائم والمعنى: أفي الحق [لست رائياً] هذا الفتى إلا متوهماً أبد الدهر، وفائدة قوله: "عباد الله"،

وقرئ: "حق أنه يبدؤ الخلق"؛ كقولك: حق أنّ زيداً منطلق. (بِالْقِسْطِ): بالعدل، وهو متعلق بـ"يجزى"، والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، أو: بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم، قال الله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، والعصاة: ظلام أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله: (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه رجع فيما كان لايؤمن به ولا يسكن إليه بشاعة وقباحة إلى الناس كافة، يستنبئهم فيه ويستفتيهم". قوله: (وهذا أوجه) أي: إذا كان (بِالْقِسْطِ) معناه: بقسطهم، على أن تكون اللام بدلاً من المضاف إليه، والفاعل: (الَّذِينَ آمَنُوا)، كان أوجه من أن يكون معناه: بقسطه، والفاعل: الله، ليتجاوب كل من المتقابلين، وهما (الَّذِينَ آمَنُوا) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، فيما استحقوا به الجزاء وعداً وتفضلاً، فإن قوله: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) يُوجب أن يقال: بقسطهم. قال القاضي: "معنى قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ): ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعقاب واقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يُعينه، وأما عقاب

[(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) 5]. الياء في (ضِياءً) منقلبة عن واو "ضواء" لكسرة ما قبلها، وقرئ: "ضئاء" بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق: عقا، والضياء أقوى من النور. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكفرة فكأنه داء ساقه إليه سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم، والآية كالتعليل لقوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً)، فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ: "أنه يبدأ" بالفتح، أي: لأنه". قوله: (وقرئ: "ضئاء" بهمزتين): قُنبُل ابن كثير، قال أبو البقاء: "الياء في "ضياء" منقلبة عن واو، لقولك: ضوء، والهمزة أصل، ويُقرأ بهمزتين بينهما ألف، والوجه فيه: أن يكون أخر الياء، وقدم الهمزة، فلما وقعت الياء طرفاً بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم، وعند آخرين قلبت ألفاً، ثم قلبت الألف همزة؛ لئلا تجتمع ألفان". قوله: (والضياء أقوى من النور): قد سبق بيانه في أول البقرة، قال القاضي: "ما بالذات: ضُوء، وما بالعرض: نور، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نيراً بعرض الاكتساب"، قال السجاوندي: " (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) مضيئة مع سياسة قاهرة للبصر، (وَالْقَمَرَ نُوراً)، أي: ظهوراً بلُطف".

(وَقَدَّرَهُ) وقدّر القمر، والمعنى: وقدّر مسيره (مَنازِلَ)، أو قدّره ذا منازل، كقوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس: 39]، (وَالْحِسابَ): وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي، (ذلِكَ) إشارة إلى المذكور، أي: ما خلقه إلا ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثاً. وقرئ: "يفصل"، بالياء. [(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) 6]. خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة، فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر. [(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ * أُولئِكَ مَاواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 7 - 8]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَقَدَّرَهُ): وقدر القمر): قال محيي السنة: "قيل: تقدير المنازل ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر يُعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، ومنازل القمر ثمانية وعشرون، وقيل: ينصرف إليهما، واكتفى بذكر ادهما عن الآخر، لأن مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها". قوله: ((ذَلِكَ) إشارة إلى المذكور): قال محيي السنة: " (ذَلِكَ) رد إلى الجعل والتقدير". وقلت - والله اعلم- وفيه إشعار بأن ذلك الجعل والتقدير مُنحصر ومقصور على الحق الذي هو معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاتهن واستحقاقه لأن يُعبد ولا يُشرك به شيء، والعبادة لها أوقات معلومة وحُسبانات معينة، وأن الفائدة من الجعل والتقدير هي الحسبان المنوط به العبادة لا غير، قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأن المتقي العالم العامل من يستدل بذلك على معرفة بارئه ومنشئه؛ لينشيء له العبادة، وإليه لَوَّحَ الله تعالى بقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله: (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة: 164]، وهنا بقوله: (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله: (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس: 6]. وأن المنجم المخذول القائل بأن لا مرجع ولا معاد، يشتغل بما لا يعنيه، ويخلد إلى الأرض متبعاً لهواه، فيغفل عن تلك المعرفة والعبادة فيهلك، وإليه أومأ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، ألا ترى كيف ختم الآية بالكسب والعمل، كما استعقب الآية السابقة بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس: 4]، ليُعلم أن الكلام في المعرفة والعبادة وما يتعلق بهما. ويؤيد هذا التأويل ما روينا في "صحيح البخاري" عن قتادة قال: "خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا يعلم". وروى أبو داود عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: "من اقتبس بابا من علم النجوم لغير ما ذكر الله، فقد اقتبس شعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر".

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا): لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية رزين عن قتادة: "والله، ما جعل الله في النجم حياة أد ولا رزقه ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب، ويتعللون بالنجوم". قال صاحب "الجامع": "جعل المُنجم الذي يتعلم النجوم للحم بها وعليها، وينسب التأثيرات من السعادة والشقاوة إليها كافراً، نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العصمة في القول والعمل". قوله ((لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا): لا يتوقعونه أصلاً): اعلم أن الرجاء حقيقته توقع الخير، ويُستعمل في معنى الخوف مجازاً، قال في"الأساس": "أرجو من الله المغفرة، ورجوت في ولدي الرُّشد، وأتيت فلاناً رجاء أن يحسن غلي، ومن المجاز: استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يُقال: لقيت هولاً ما رجوته وما ارتجيته". والوجه الأول مبني على معنى الاكتراث، ولهذا زاد: "أصلاً"، وفسر "لا يتوقعونه" بقوله"ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم"، والثاني على حقيقته، ولهذا قال: "لا يأملون حُسن لقاءنا"، والثالث على مجرد الخوف، ومن ثم قال: "ولا يخافون سوء لقاءنا". قوله: (ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم): إيذان بأن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [يونس: 7] من عطف الصفة على الصفة، بمعنى: أنهم الجامعون بين عدم التوقع وثبوت الغفلة، وأن كل واحدة من هاتين الصفتين مستقلة فيهم مستقرة بهم مميزة لذواتهم، ولما صح أن تكون الثانية سبباً في الأولى، قال: "ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم"، فوكل الترتب إلى ذهن الذكي.

أو لا يؤملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء، أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة: 38]، (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي: وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 9 - 10]. (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ): يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّى إلى الثواب، ولذلك جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) بيانا له وتفسيرا، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "يجوز أن يكون العطف لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين من أنكر البعث، ولم يُرد الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له". قوله: (يُسددهم)، الأساس: "سد الرجل يسد: صار سديداً، وسد قوله وأمره يسد، وأمره سديد، وتسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب"، جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ) بياناً لهن لأن ما يؤدي إلى الثواب كأنه نفس الثواب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب، وذلك أن في إيقاع (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) خبراً لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وهو عين الهداية، الدلالة على الثواب والاستقامة والمزيد منها، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً) [التوبة: 124]، ولم تكن الهداية بهذه المثابة إلا أن تكون موجبة للثواب ومستحقة للأجر عندهم، ولذلك قال: "لأن

ويجوز أن يريد: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (الحديد: 12). ومنه الحديث: "إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار". فإن قلت: فلقد دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة: هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لم مقرونا بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها"، [فالهداية] على هذا التفسير عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وسبيل هذا البيان سبيل البدل في قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) [فاطر: 32 - 33]، قال: "جعلَ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) الذي هو السبق بالخيرات، لأن السبق لما كان السبق في نيل الثواب نُزل منزلة السبب، كأنه الثواب، فأبدلت عنه (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ". قوله: (يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة): فعلى هذا الهداية مجرد الدلالة، وقال أبو البقاء: " (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من ضمير المفعول في (يَهْدِيهِمْ)، والمعنى: يهديهم في الجنة إلى مُراداتهم في هذه الحال"، وقال القاضي: "يجوز أن يكون خبراً ثانياً".

قلت: الأمر كذلك، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال: إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل): اعلم أن من خواص "الذي" إيقاع صلته علة لخبره، قال صاحب "المفتاح": "أو أن تُومئ بذلك-أي: بالإتيان بالموصول- إلى وجه بناء الخبر الذي تبنيه عليه، فتقول: الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم"، وإذا كان كذلك كان مجموع الصلة علة لكونه تعالى يهديهم، ومن انتفاء فرد من أفراد المجموع ينتفي حكم التعليل. فإن قلت: فإذا حصل التعليل من بناء الخبر على الموصول وصلته- كما ذكر -، فأي فائدة في ذكر تعليل آخر، وهو (بِإِيمَانِهِمْ)؟ قلت: الظاهر أن يحمل بناء الخبر على الموصول على تحقيق الخبر، كقوله: إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت وُدَّها غول فتبقى الباء مخلصة للتعليل، فيحصل التحقيق مع التعليل، ويؤذن بأن الإيمان الموصوف له أثر عظيم في تحصيل البُغية، قال القاضي: "ومفهوم الترتيب، وإن دل على أن سبب الهداية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله: (بِإِيمَانِهِمْ) على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له". وقلت: الحق أن الضمير في (يَهْدِيهِمْ) وفي (بِإِيمَانِهِمْ)، راجع إلى الموصول مع صلته، والصلة مشتملة على المعنيين، وتخصيص أحدهما بالذكر لإنافته وشرفه، لا أن مجرد الإيمان كافٍ في السببية، ولأن مذهب السلف الصالح على أن العمال داخلة في الإيمان، وروينا في "سنن ابن ماجه" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان". وفي "شرح السُّنة": "أن الصحابة التابعين ومن بعدهم من علماء السنة اتفقت على أن الأعمال من الإيمان، قالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"، وأيده بالآيات والأخبار، وقد سبق الكلام فيه مستقصى في الأنفال. على أن المقام مقام مدح، ولا شك أن مجرد التصديق لا مدح فيه، وأن الكلم الطيب إنما يرفعه العمل الصالح، كأنه قيل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يرفع الله منزلتهم إلى مباغيهم بسبب إيمانهم المعتبر المحلي بالعمل الصالح.

ثم قال: (بإيمانهم)، أي: بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي ذر وأبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف أمتي يوم القيام من بين سائر الأمم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم"، وفي رواية قال: "هم غُر محجلون من أثر الوضوء، ليس كذلك أحد غيرهم". وأما خلاف الأصوليين فمشهور لا حاجة إلى عرضه. ومقام المدح لا يدل على ما أورده صاحب "الانتصاف" من أنه يلزم أن المؤمن إذا لم يعمل صالحاً مخلدٌ في النار، وقال: "إنه تعالى جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، فقال: (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، وقوله: "إن المراد إضافة العمل إلى الإيمان" لا تنتهض به الدعوى، وشبهته أن الإيمان الذي جُعل سبباً مقيد بالأعمال الصالحة، فيقيد به الثاني، وهو ممنوع، فإن الضمير يعود إلى الذوات لا باعتبار الصفات". وقلت: قد ذكرنا أن هذا مما يأباه اللفظ. قوله: (ثم قال: (بِإِيمَانِهِمْ)): يعني: أن الإضافة بدل من لام التعريف، كقوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: (وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْباً) [مريم: 4]، أي: رأسي، أو أن الإيمان إذا قُرنَ بالعمل أريد مجرد التصديق، وإذا جُرد عنه أريد به المجموع.

(دَعْواهُمْ): دعاؤهم، لأن (اللهمّ) نداء لله، ومعناه: اللهمّ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: "اللهمّ إياك نعبد، ولك نصلى ونسجد"، ويجوز أن يراد بالدعاء: العبادة، (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [مريم: 48]، على معنى: أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه، فينطقون به تلذذاً بلا كلفة، كقوله تعالى: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال: 35]. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ): وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح (أَنِ) يقولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، ومعنى (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ): أنّ بعضهم يحيى بعضا بالسلام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد): قال صاحب "الروضة" في "الأذكار": "قال أصحابنا: وإن قنت بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما [كان حسناً، وهو]: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك، ونؤمن بكن ونخلع ونترك من يفجركن اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق". قوله: (وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح (أنْ) يقولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)): قال القاضي: "ولعل المعنى: أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات، والفوز بأصناف الكرامات، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ولعل الظاهر هو أن يضاف السلام إلى الله عز وجل إكراماً لأهل الجنة، كما ذكر المصنف في الوجه الأخير، وينصره قوله تعالى في سورة يس: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس: 58]، "أي: يُسلمُ عليهم بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم"، كذا فسره المصنف. وهذا يدل على أنه يحصل للمؤمنين بعد نعيمهم في الجنة ثلاثة أنواع من الكرامة: وسطها: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). وأولها: ما يقولون عند مشاهدتها: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)، وهي سطوع نور الجمال من وراء حجاب الجلال، وما أفخم شأن اقتران (اللَّهُمَّ) بـ (سُبْحَانَكَ) في هذا المقام، كأنهم لما رأوا أشعة تلك الأنوار لم يتمالكوا أن لا يرفعوا أصواتهم به. وآخرها: أجل منهما، ولذلك ختموا الدعاء عند رؤيتها بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وما هي إلا نعمة الرؤية التي كل نعمة دونها. فكانت الكرامة الأولى كالتمهيد للثالثة، وما أشد طباقاً لهذا التأويل ما رويا عن ابن ماجه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نورن فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قوله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس: 58]، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه،

وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول، وقيل: تحية الله لهم، و"أن" هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن، كقوله: أَنْ هالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (أن هالك كل من يحفى وينتعل): صدره: في فتية كسيوف الهند قد علموا "كسيوف الهند": أي: تبرق أسارير جبهتهم كالسيوف، خفف "أن" المفتوحة، وأضمر اسمها، وهو ضمير الشأن، "من يحفى": كناية عن الفقير، كما أن "من ينتعلُ" كناية عن الغني، يقول: قد علم هؤلاء الفتيان أن الهلاك يعم الناس فقيرهم وغنيم، وهم يتبادرون إلى اللذات قبل أن يُحال بينهم وبينها. والشعر للأعشى، وهو محرف، وفي "ديوانه": قد علموا ... أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل

وقرئ: "أنّ الحمد لله" بالتشديد ونصب "الحمد". [(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) 11]. أصله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) تعجيله لهم الخير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقبله: أنا برئنا حفاة لا نعال لنا ... أنا كذلك قد نحفى وننتعلُ قوله: (وقرئ: "أن الحمد لله"): قال ابن جني: "قرأها ابن محيصن، وهي تدل على أن قراءة الجماعة: (أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ): "أنْ" فيها مخففة، بمنزلة قول الأعشى: "أن هالكٌ" البيت، ولا يجوز أن تكون زائدة، كقوله: ويوماً توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم أي: كظبية".

فوضع (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) موضع "تعجيله لهم الخير" إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل له، والمراد أهل مكة وقولهم: (فأمطر علينا حجارة من السماء) [الأنفال: 32]، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل الخير ونجيبهم إليه، (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأميتوا وأهلكوا. وقرئ: "لقضى إليهم أجلهم" على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، وتنصره قراءة عبد الله: "لقضينا إليهم أجلهم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إشعاراً بسرعة إجابته لهم)، الانتصاف: "هذا من بديع القرآن، لا ترى العدول من لفظ إلى آخر إلا لمعنى، والنحوي يقول في (أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً) [نوح: 17]: إنه أجرى المصدر على غير فعله، وهذا المصدر لفعل دل عليه هذا الفعل، كأنه قال: "فنبتم نباتاً"، وله فائدة في التحقيق وراء هذا، وهو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حكمها، حتى كأن إنبات الله نفس النبات، فقرن أحدهما بالآخر". وقلت: كان أصل الكلام: "ولو يُعجل الله للناس الشر تعجيله"، ثم وضع موضعه "الاستعجال"، ثم نُسب إليهم، فقيل: (اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)؛ لأن المراد أن رمته سبقت غضبه، فأريد مزيد المبالغة، وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله لهم الخير، فإن الإنسان خُلق عجولاً، إذا سمع بخير لا يثبت على شيء حتى يسرع إليه، والله صبور حليم؛ يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان، ومع ذلك يسعف بطلبتهم ويُسرع بإجابتهم. فإن قلت: كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ قلت- والله أعلم-: إنه تعالى لما افتتح السورة بقوله: (الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، وذكر تعجب قريش عن إرساله صلوات الله عليه، واختصاصه بالنبوة دونهم، وقولهم تعنتاً وعناداً: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) [يونس: 2]؛ طعناً في كلامه المجيد، آذن بذلك أن هذه السورة الشريفة محتوية على بيان تكذيب قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائهم لهن وطعنهم فيه، ومشتملة على بيان الآيات الدالة على عظمة الله تعالى وكبرياء شأنه؛

فإن قلت: فكيف اتصل به قوله: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ)، وما معناه؟ قلت: قوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ) متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم، فنذرهم (فِي طُغْيانِهِمْ) أي: فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم. [(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 12]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنبيهاً وتفريعاً، فجعل قوله: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا) إلى قوله: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) [يونس: 2]، تمهيداً وتوطئة لذكر أصول الآيات وأمهاتها، وهو قوله: (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) [يونس: 3] إلى آخر الآيات بياناً لكبرياء سُلطانه، وأن له أن يختص برسالته من يشاء، وأن المقصود من الإرسال الدعوة إلى معرفة الله، وبيان كيفية عبادته، لأن المبدأ منه والمرجع إليه، ليثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقد حصل هذا المقصود من هذا الرسول الكريم والكتاب المجيد، وقطع بهما المعاذير، وأزاح الحجج. وبين بعد ذلك صفة عفوه وحلمه بهذه الآية، حيث لم يهلكهم بغتة بما تكلموا به من تلك الشنعاء في كتابه المجيد: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، وفي رسوله المجتبي: "إن الله لم يجد رسولاً يرسله على الناس إلا يتيم أبي طالب"، كقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر: 45]. قوله: (فكيف اتصل): الفاء تدل على الإنكار، أي: لزم من قضية "لو"، وقولك: " (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ): لأميتوا وأهلكوا": أنهم ما أهلكوا، بل أمهلوا، ومعنى قوله: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) الإمهال أيضاً، فكيف اتصل به؟

(لِجَنْبِهِ) في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه، أي: دعانا مضطجعاً، (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً). فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: أن اتصاله به من حيث المعنى لا اللفظ، لأن قوله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ) متضمن معنى نفي التعجيل، لأن "لو" لتعليق ما امتنع بامتناع غيره، يعني: لم يكن التعجيل ولا قضاء العذاب، فيلزم من ذلك حصول المهلة، قال القاضي: (فَنَذَرُ) معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية، كأنه قيل: لا نعجل ولا نقضي، فنذرهم إمهالاً لهم واستدراجاً". وقلت: الظاهر أن الفاء في (فَنَذَرُ) جواب شرط محذوف، وقوله: (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) تكرير لما سبق من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [يونس: 7]، كُرر للذم ولإناطة ما لم ينط به أولاً، ويُراد بهم منكرو البعث من أهل مكة الذين قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال: 32] جُحوداً وإنكاراً، كما مر في تفسيره، ويكون قوله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) كالتوطئة والتمهيد لذكرهم، و (النَّاسَ) يُراد به: جنسُ المعاندين. والمعنى: ولو يُعجل الله لهذا الجنس من الأمم الشر تعجيله لهم الخير لأبادهم وأهلكهم، ولكن يمهلهم استدراجاً؛ ليزيدوا في طغيانهم، ثم يستأصلهم، كما قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية [فاطر: 45]، فإذا كان كذلك فنحن نذرُ هؤلاء - الذين لا يؤمنون بالبعث ولا يرجون لقاءنا، ويقولون: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء- في طغيانهم يعمهون، ثم نقطع دابرهم. قوله: ((لِجَنْبِهِ) في موضع الحال): قال أبو البقاء: "واللام في (لِجَنْبِهِ) على أصلها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند البصريين، أي: دعانا مُلقياً لجنبه"، وقال السجاوندي: (لِجَنْبِهِ): مضطجعاً عليه، كقوله: فخر صريعاً لليدين وللفم قال المصنف: "اللام- في (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ) [الإسراء: 107] للاختصاص"، أي: أنهم ما يدعون الله إلا عند الاضطرار، ويخصون هذه الحالة بالخضوع أكثر من تلك الحالات، ومجاز هذه اللام كمجاز ["في"] في قوله: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه: 71]. وكما خُصصت هذه الحالة باللام قدمت على الحالتين؛ لينبه على كون الإنسان هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً لا صبر له في الصدمة الأولى على المصيبات، ثم إنه إذا أصابه بعض التسلي قعد، ثم قام

قلت: معناه: أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها؛ إن كان منبطحاً عاجز النهض متخاذل النوء، أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب إلى أن يخف كل الخفة، ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها. ويجوز أن يراد: أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191]: ففي شأن الخاصة الذين يبذلون جهدهم في خدمة بارئهم، ويستغرقون أوقاتهم في طاعته، فإذا قدروا على القيام في أداء العبادة لا يقعدون ولا يذكرون مضطجعين إلا عند الاضطرار، فتلك الآية في شأن الإنسان الضجور، وهذه في شأن المؤمن الصبور. قوله: (منبطحاً)، الجوهري: "بطحه: ألقاه على وجهه، فانبطح". قوله: (متخاذل النوء)، الجوهري: "ناء ينوء: نهض بجهد ومشقة"، الأساس: "ونؤت بالحمل: نهضت به: وفلان نوؤه متخاذل: إذا كان ضعيف النهض". قوله: (والمسحة بتمامها)، الأساس: "يقال: من الله عليك بالمسحة، وأذاقك حلاوة الصحة، وبه مسحة من جمال، ومسح الله ما بك". قوله: (ويجوز أن يُراد أن من المضرورين): عطف على قوله: "أن المضرور لا يزال داعياً"، فاعتبر الجنس في "الإنسان" على الأول بحسب كل فرد من أفراده، فالتفصيل بحسب أحوال كل شخص، ولهذا قال: "معناه أن المضرور لا يزال داعياً، فهو يدعونا في حالاته كلها"، واعتبر في الثاني الجنس بحسب الأنواع، فالتفصيل بحسب أحوال الأشخاص، قال: "ومِنَ المضرورين من هو أشد حالاً، ومن هو كذا ومن هو كذا".

(مَرَّ) أي: مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد، أو: مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا): كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن، قال: كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: مر عن موقف الابتهال): يعني: لم يذكر متعلق (مَرَّ)، فيحتمل أن يُعدى بـ"على" تارة لتضمينه معنى "مضى"، وأخرى بـ"عن" لتضمين معنى المجاوزة. قوله: (كأن ثدياه حُقان): أوله: ونحرٍ مشرق اللون "النحر": موضع القلادة من الصدر، والأصل: حُقتان، لأن التاء الثابتة في الواحدة ثابتة في التثنية، فحذف على خلاف القياس، وخفف "كأن"، وأبطل العمل، وقال: "ثدياه حُقان"، وهما مرفوعان بالابتداء والخبر، والضمير في "ثدياه" يعود إلى "النحر".

(كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ): زين الشيطان بوسوسته، أو: الله عز وجل بخذلانه وتخليته، (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإعراض عن الذكر وإتباع الشهوات. [(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 13 - 14]. (لَمَّا) ظرف لـ (أهلكنا)، والواو في (وَجاءَتْهُمْ) للحال، أي: ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) يجوز أن يكون عطفاً على (ظلموا)، وأن يكون اعتراضاً، واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً، تأكيداً لنفي إيمانهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن يكون اعتراضاً): وإذا كان عطفاً تفسيراً للمعطوف عليه، لأن ظلمهم على الأنبياء عند مجيئهم بالبينات والمعجزات هو الظلم كله، وهو الكفر البالغ. وإذا كان اعتراضاً كان تأكيداً لمضمون الجملة، وهو الهلاك لما يستحقون من الإجرام، لأن مثل ذلك الإهلاك لا يكون إلا لمن لم يؤمن قط، ولزمته الحجة. قوله: (واللام لتأكيد النفي): ليس تقريراً لمعنى الاعتراض، بل ابتداء تفسير لقوله: (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، وقوله: "وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم" عطف تفسيري على قوله: "تأكيداً"، وهو مفعول له لمقدر، أي: إنما أتى باللام في الكلام المنفي لهذا الأمر، ويريد

وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء، يعنى الإهلاك (نَجْزِي) كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: يجزى، بالياء. (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أي: استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا، (لِنَنْظُرَ) أتعملون خيراً أم شراً، فنعاملكم على حسب عملكم، (وكَيْفَ) في محل النصب بـ (تعملون) لا بـ"ننظر"، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به: أن معنى العلم مستفاد من معنى التأكيد، وأن نفي الإيمان عنهم بهذه الحيثية تابع لسبق علم الله فيهم بأنهم لا يؤمنون، وقوله: "والمعنى أن السبب" إلى آخره: تلخيص لمعنى الآية بحسب العطف لا الاعتراض، فظهر منه أن علم الله ليس سبباً مستقلاً في إهلاكهم، وهو مذهبه. وأما بيان وجه الاعتراض: فهو أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل، والسبب في التكذيب والإهلاك سبق علم الله أنهم يصرون على الكفر، وانه تعالى مهلكهم، ونحوه في الاعتراض قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 51 و 92]، أي: "وانتم قوم عادتكم الظلم"، فرجع مآل التأويل إلى بطلان مذهبه. قوله: (و (كَيْفَ) في محل النصب بـ (تَعْمَلُونَ): المعنى: لننظر عملكم أهو خير أم شر، إيمان أم كفر؟ وهذا هو الوجه، وقيل: "ننظر" بمعنى "نعلم"، أي: لنعلم جواب كيف تعملون؟ كما ذكر سيبويه في قولك: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ والمعنى: علمت جواب ذلك.

فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى، وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً، شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيانه: أن الرسل إذا قالوا للقوم: كيف تعملون؟ أتعملون الخير أم الشر- مثلاً-؟ فإجابتهم: إما بالقول؛ بأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وإما بالفعل؛ بأن يشتغلوا بالعمل، وإما لا يجيبون. وعلى أي وجه كان، فلابد من حصول جواب لقولهم: كيف تعملون؟ فيعلم الله الجواب واقعاً بالفعل حاصلاً، بعدما علم أنه سيحصل. حاصل المعنى يؤول إلى أن المعنى: جعلناكم خلائف في الأرض لنعلم ما تجيبون به الأنبياء من قولهم: كيف تعملون؟ ولما كان "ننظر" بمعنى "نعلم" يكون معلقاً عن العمل فيما بعده، قال ابن الحاجب: "فإذا قلت: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ فمعناه: علمت أحدهما معيناً على صفة هو كونه عندكن لأنه ذلك الذي يُقال في جوابه"، فعلى هذا: فإذا قيل: علمت كيف زيد، فمعناه: علمت زيداً على حالة هو كونه صحيحاً أم سقيماً، لأنه ذلك الذي يُقال في جوابه، فإن "كيف يُسأل بها عن الحال. فمعنى (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ): نعلم عملكم على أي حال كان من الخير والشر، قال القاضي: "وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها، لا هي من حيث ذاتها، ولذلك يحسن الفعل تارة، ويقبح أخرى". قوله: (هو مستعار للعلم المحقق)، الانتصاف: "لو اقتصر الزمخشري رحمه الله تعالى على إنكار الرؤية من العبد لله تعالى لقبح، فكيف وقد ضم إليه إنكار رؤية الله للعبد، وليس النظر مستلزماً للمقابلة، وقد أبطل في موضعه".

[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) 15]. غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ) آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك، (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأمر بأن يُجيب عن التبديل؛ لأنه داخل تحت قدرة الإنسان ... ، وأما الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور): اعلم أن التبديل يجيء بمعنيين، قال المصنف في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48]: "التبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدلت الدراهم دنانير، وفي الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتماً". ويمكن أن ينزل قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) على المعنى الأول، ولهذا قال: "إن نُسخت آية تبعت النسخ"، لأن النسخ إبطال للمنسوخ مع إبداله الناسخ، ويُنزل قوله: (أَوْ بَدِّلْهُ) على المعنى الثاني، ولهذا قال: "وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يُسقط ذكر الآلهة"، ثم الجواب- وهو قوله: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) - يحتمل أن يجرى على المعنيين، فيكون جواباً عن الاقتراحين، وأن يُحمل على الأهون، فيدخل الأغلظ بطريق الأولى، وفي كلامه إشعار بهذا.

(ما يَكُونُ لِي): ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى: (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) [المائدة: 116]، (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي): من قبل نفسي - وقرئ بفتح التاء - من غير أن يأمرنى بذلك ربى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيّ) لا آتى ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلا متبعاً لوحي الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ. (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل والنسخ من عند نفسي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا)؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا، ويقولون: افترى على الله كذبا، فينسبونه إلى الرسول، ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله، مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت: لعلهم أرادوا: (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) من جهة الوحي، كما أتيت بالقرآن من جهته، وأراد بقوله: (ما يَكُونُ لِي): ما يتسهل لي، وما يمكنني أن أُبدّله؟ قلت: يردّه قوله: (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى) فجاء مستأنفاً وعلى الانحصار؛ بياناً لموجب أن ليس إليه النسخ والتغيير، ولا أمر من الأمور مما يتعلق بالوحي، لأن المعنى: ما أتبع شيئاً مما يتعلق بالدين إلا ما يوحى إلي. قوله: (لعلهم أرادوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)): السؤال واردٌ على قوله فيما سبق: "وأما الإتيان بقرآن آخر غير مقدور عليه للإنسان". قوله: (يرده قوله: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي): يعني: أنه صلوات الله عليه علل

فإن قلت: فما كان غرضهم -وهم أدهى الناس وأنكرهم- في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن: ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير: فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإمّا أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحاً لافترائه على الله. [(قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون) 16]. (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أُميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) بقوله: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، ولو حُمل النسخ والتبديل على أن يكون من جهة الوحي - كما جاء في كثير من القرآن - لم يستقم ترتب العذاب عليه. وقلت: ويُمكن أن يُقال: معناه: ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أقترح على الله بأن ينسخ ويُغير ويأتي بما تريدونه؛ لأنه عصيان وطغيان، لأني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، ويكون تعريضاً بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. قوله: (وأنكرهم)، الأساس: "فلان فيه نكارة ونكر - بالفتح-: أي: دهاء وفطنة". الراغب: "النكر: الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، وقد نكر نكارة، قال الله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) [القمر: 6]. قوله: (وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم) إلى آخره: بيان وتفسير لقوله: "أمراً عجيباً".

فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به. (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ): ولا أعلمكم به على لساني، وقرأ الحسن: "ولا أدراتكم به"، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو مفعول "إحداثه"، ومعنى قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ): أني عبد مجبور في التلاوة، وليس في وُسعي أن لا أتلوه وأحط عبأه، فضلاً عن أن آتي بما اقترحتموه من الإتيان بغيره أو إبداله من عند نفسي، ولله في كوني مجبوراً أسرارٌ وحكم وإحداث أمر عجيب غريب. وفيه إبطال لمذهبه؛ لأنه جعل التلاوة تابعة لمشيئة الله، وقرر أنه مجبور في ذلك. قوله: ((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني): أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم، ولا أعلمكم الله به على لساني، قال القاضي: "المعنى: أنه الحق الذي لا محيص عنه، لو لم أرسل به لأرسل به غيري". قوله: (وقرأ الحسن: "ولا أدراتكم به"): قال ابن جني: "قراءة ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهي قراءة قديمة التناكر لها والتعجب منها، ولعمري إنها في بادئ أمرها على ذلك، غير أن لها وجهاً، وإن كانت فيه صنعة وإطالة، وطريقه: أنه أراد: "ولا أدريتكم به"، ثم قُلبت الياء لانفتاح ما قبلها- وإن كانت ساكنة - ألفاً، كقولهم في ييأس: ياءس، وقالوا: عاعيت

وتعضده قراءة ابن عباس: "ولا أنذرتكم به". ورواه الفراء: "ولا أدرأتكم به"، وبالهمزة، وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج، ورثأت الميت وحلأت السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من: درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا، والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير: "ولأدراكم به" بلام الابتداء، لإثبات الإدراء، ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً وقرئ عُمُراً بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهاهيت، والأصل: عيعيت وهيهيت، فقلبت الياء الساكنة فيها ألفاً، وكذلك قلبت ياء "أدريتكم" ألفاً، فصارت "أدراتكم"، وروينا أيضاً عن قُطرب أن لغة عقيل في قولك: أعطيتك: أعطاتك، فلما صار من "أدريتكم" إلى "أدراتكم"، هُمز على لغة من قال في الباز: البأز، وفي العالم: العألم، وفي الخاتم: الخأتم، ولها نظائر، وقد أوردناها في "الخصائص" في باب [ما] همزته العرب ولا اصل له في همز مثله". قوله: (وتعضده قراءة ابن عباس): يعني: كما أن "أنذرتكم" مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك "أدرأتكم" مسند إليه بخلاف المشهور، فإنها مسند إلى الله تعالى. قوله: (يافعاً)، الجوهري: "أيفع الغلام، أي: ارتفع، فهو يافع، ولا يُقال: موفع، وهو من النوادر".

فلم يعرفني أحد منكم متعاطياً شيئاً من نحوه، ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي، وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم: (ائت بقرآن غير هذا)؛ من إضافة الافتراء إليه. [(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) 17] (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دسوه)، الجوهري: "ودسست الشيء في التراب: أخفيته، والدسيس: إخفاء المكر". والذي دسوه فيه: ما ذكره في الجواب: "كان غرضهم في هذا القول الكيد والمكر، وفيه أنه من عندك وأنت قادر على مثله، وأنه إن وُجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله، أو يسخروا منه، ويجعلوه حجة عليه وتصحيحاً لافترائه". قوله: (تفادياً)، الأساس: "ومن المجاز: تفادي منه: تحاماه، قال: تفادي الأسود الغلب منه تفادياً" يعني: إذا عُلق قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى) بقوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)، أي: أشركوا، كان المراد افتراء المشركين في قولهم: إنه ذو شريك وولد، ويكون قوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ) [يونس: 14]، وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) [يونس: 15] إلى هاهنا، إعلاماً بأن المشركين الذين بعث إليهم

[(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 18] (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لا تنفعهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم استنوا سنن من قبلهم في تكذيب آيات الله والرسل، في قوله: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) [يونس: 13]، ولما فرغ من قصة المشركين عاد إلى الأول، وربط به قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ). وإذا عُلق بقوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس: 16]، ومعناه كما قال: "وهو جواب عما دسوه تحت قولهم: ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه" كان احترازاً أو تحامياً مما أضافوه إليه من الافتراء، وجيء بالعام ليكون أبلغ، وهذا الوجه أنسب وأدل على معنى التعريض. قوله: (الأوثان): بالنصب؛ عطف بيان لقوله: (مَا لا يَضُرُّهُمْ)، وهو مفعول (يَعْبُدُونَ). قوله: (وقيل: إن عبدوها لا تنفعهم): والفرق أن المقصود الأولي على الأول من قوله: (مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الأصنام بعينها، وأنها جمادات لا تقدر على ضر ولا نفع، كقوله تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) [القمر: 13]، أي: على السفينة. وعلى الثاني: المقصود فقدان أوصاف المعبودية، فإن من حق المعبود أن يُثيب عابده إن عبد، ويُعاقب عن قعد، ويجوز أن يدخل في الثاني غير الأصنام من الملائكة والمسيح، تلخيصه: ويعبدون لما لا يُعتد به، أو لما لا يستحق العبادة.

وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة، معاقباً على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزي ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَكانوا يَقُولُونَ (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ)، وعن النضر بن الحارث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ): أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له - وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات - لم يكن شيئا، لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبؤوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤوا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه، كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ: "أتنبئون" بالتخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العالم الذات)، وقوله: (لأن الشيء ما يُعلم ويخبر عنه): كلاهما مذهبه. قوله: (فكان خبراً): أي: قولهم: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ليس له مخبر عنه، لأنه لو كان له مخبر عنه لتعلق علم الله تعالى [به] لشمول علم الله جميع الكائنات، وحين لم يتعلق علم الله به علم انه لم يكن مخبراً عنه.

وقوله: (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم، (يُشْرِكُونَ) قرئ بالتاء والياء و"ما" موصولة أو مصدرية، أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم. [(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) 19 - 20]. (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن ما لم يُوجد فيهما- أي: في السماوات والأرض - فهو منتفٍ معدوم): كلام على سبيل إلزام الخصم على الفرض والتقدير، وألا فالمسلمون منزهون عن أمثاله، قال الإمام الداعي إلى الله فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: "ثبت بالدليل انه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية لهان وثبت انه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر أن يخلق خارج العالم ألف ألفِ عالمٍ أعظم وأوسع منه، ودلائل الفلاسفة - خذلهم الله - في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة مبنية على مقدمات واهية". على أن المصنف فسر (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) [البقرة: 255] بـ"ما رُوي: أنه تعالى خلق كرسياً، وهو بين يدي العرش، دون السماوات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء".

وقالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أرادوا: آية من الآيات التي كانوا يقترحونها، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم تنزل عليه آية قط، حتى قالوا: (لولا أنزل عليه آية) واحدة من (ربه)، وذلك لفرط عنادهم، وتماديهم في التمرّد، وانهماكهم في الغيّ. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي: هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو، (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم؛ لعنادكم وجحودكم الآيات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ): والتلاوة: (وَيَقُولُونَ)، وإنما عدل عنه ليؤذن به أن قوله: (وَيَقُولُونَ) ليس معطوفاً على قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا) [يونس: 18]، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما هو معطوف على قوله: (قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) [يونس: 15] ما بينهما اعتراض، وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذا القول منهم، وأن هذا القول من دأبهم وعادتهم. قوله: (أن الصارف عن إنزال الآيات [المقترحة] أمر مغيب): فيه إشارة إلى أن قوله تعالى: (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا) جواب على الأسلوب الحكيم، فإنهم حين طلبوا إنزال آية واحدة، مع تلك الآيات المتكاثرة، دل على أن سؤالهم للتعنت والعناد، فأجيبوا بما أجيبوا؛ يؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله وحلول عقابه، يعني: أنه لابد أن

[(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) 21]. سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة، حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحياة، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في الآيات، ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه، و"إذا" الأولى للشرط، والآخرة جوابها، وهي للمفاجأة، و"المكر": إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة: المطوية الخلق، ومعنى (مَسَّتْهُمْ): خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله: (أَسْرَعُ مَكْراً)؟ قلت: بلى، دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُستأصل شأفتكم، لكن أنا لا أعلم متى يكون، وأنتم كذلك، لأنه من علم الغيب، وإذا كان كذلك فانتظروا ما يوجبه اقتراحكم، إني معكم من المنتظرين إياه. هذا التقرير أنسب من تقريره؛ لأن قوله: "أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب" لا وجه له، لأن الصارف مُعين، وهو عنادهم، قال الله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 109]. قوله: (و"إذا" الأولى للشرط، والآخرة جوابها، وهي للمفاجأة): قال أبو البقاء: "والعامل في الثانية الاستقرار الذي في (لهُم)، وقيل: "إذا" الثانية زمانية أيضاً، وهي وما بعدها جواب الأولى". قوله: (من: الجارية الممكورة)، الجوهري: "الممكورة: المطوية الخلق من النساء". الأساس: "امرأة ممكورة الساقين: خدلجتهما".

فاجؤوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ الله دبر عقابكم، وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام. (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ) إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ: (تمكرون) بالتاء والياء. وقيل: مكرهم قولهم: سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: "إنّ الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين؛ يقولون: مطرنا بنوء كذا. [(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 22 - 23]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ريثما يسيغون)، الجوهري: "راث علي خبرك يريث ريثاً: أبطأ". و"ما" مصدرية، أي: مقدار ساعة غصنهم، فأطلق "ريث" على المقدار، وجاز لأن البطء للمقدار. قوله: (وقرئ: (تَمْكُرُونَ) بالتاء والياء): بالتاء الفوقانية: السبعة، وبالياء: شاذة. قوله: (وعن أبي هريرة) الحديث: من رواية مسلم والنسائي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: "ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب، الكواكب".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن زيد بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذل مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". قال صاحب "الجامع": "النوء: واحد الأنواء، وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، يسقط في الغرب كل ثلاثة عشر ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع نظيرها: يكون مطر، فينسبون المطر إلى المنزلة، ويقولون: "مُطرنا بنوء كذا، وإنما سُمي "نوءاً"؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب، ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءاً، أي: نهض وطلع، وقيل: النوء: هو الغروب، فهو من الأضداد". ثم قال: "وعلمُ النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكائنات والحوادث التي لم تقع، وأنهم يُدركون معرفتها بتسيير الكواكب وانتقالاتها، واجتماعاتها وافتراقها، وأن لها تأثيراً اختيارياً في العالم، وأما ما يُعرف من النجوم، كمعرفة الأوقات، والاهتداء بها في الطرقات، ومعرفة القبلة، وأشباه ذلك، فليس به بأس". فإن قلت: بين لي صورة هذا المكر؟ قلت: إنهم بعدما أنجاهم الله تعالى من المكاره والضراء كانوا يلبسون الأمر على أتباعهم في أن ذلك من الله ومن قدرته، لسوء صنيعهم وتكذيبهم الأنبياء، وينسبون ذلك إلى الأنواء؛ إرادة أن لا يؤمنوا، ولا يشكروا الله، ولا يستدلوا على وجود الخالق.

قرأ زيد بن ثابت: "ينشركم"، ومثله قوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة: 10]، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم: 20]. فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرأ زيدُ بن ثابت: "ينشركم"): قال صاحب "التيسير": "قرأ ابن عامر: (ينشركم في البر والبحر) بالنون والشين؛ من النشر، والباقون: بالياء والسين، أي: من التسيير". قوله: (كيف جعل الكون في الفلك غاية؟ ): يعني: أنه تعالى قال: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)، والسير في البحر ابتداؤه الكون في الفلك لا غايته؟ وخلاصة الجواب: أنه تعالى لم يجعل ابتداء السير مختصاً بالبحر، بل بالبر والبحر، ولم يجعل الكون في البحر وحده غاية للسير، بل جعل الكون مع ما عطف عليه وما اتصل به غاية للمذكور قبله، كأنه قيل: هو الذي قدر لكم في البر والبحر الرفاهية والرخاء فتنقلبون فيها كيف شئتم، وتسيرون أني أردتم، لا تصيبكم شدة وبأساء، وأنتم مع ذلك لا تذكرون الله ولا تشكرونه بما أولاكم، حتى إذا وقعتم في الضر والشدة التي لا غاية لها دعوتم الله مخلصين له الدين، فوضع موضع هذه الغاية: (إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) إلى آخره، ليدل على النهاية في الضر، لأنه لا غاية بعدها. وتلخيصه: أن في ذكر ابر والبحر بيان غاية حالة الرفاهية في السير، وفي اختصاصه بحالة البحر بيان انتهاء حالة الشدة والمشقة، ونحوه في المعنى قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [النحل: 53 - 54].

والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد "حتى" بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة، وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء. فإن قلت: ما جواب (إذا)؟ قلت: (جاءتها). فإن قلت: فـ (دعوا)؟ قلت: بدل من "ظنوا"، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: "في الفلكي"، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل: هما زائدتان، كما في الخارجي والأحمري، ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "مثله في الاعتبار قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا) [النساء: 6]، واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بأن الصغير يُبتلى قبل البلوغ، فجعل البلوغ غاية وقوع الابتلاء، فيلزم وقوع الابتلاء قبله". الإنصاف: "المجعول غاية هو جملة ما في حيز (حَتَّى)؛ من البلوغ المقرون بإيناس الرشد، وهذا المجموع يلزم وقوعه بعد الابتلاء، فلا يلزم أن يقع كل واحد بعد الابتلاء، وهذه الآية موضحة لذلك". وقلت: بين الآيتين بون بعيد؛ لما ذكرنا من أخذ الزبدة والخلاصة من الغاية والمُغيا. قوله: (فإن قلت: فـ (دَعَوُا)؟ ): أي: إذا كان الجواب (إذَا) قوله: (جاءَتْهَا)، فما موقع قوله: (دَعَوَا اللَّهَ)؟ قوله: (قيل: هما زائدتان، كما في الخارجي): قال ابن جني: "العرب قد زادت في الإضافة

والضمير في "جَرَيْنَ" للفلك، لأنه جمع "فلك" كالأسد، في "فعل" أخي "فعل"، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما لا يحتاج إليها، من قولهم في الأحمر: وفي الأشقر: أشقري. فإن قلت: هذا أمر يختص بالصفات، وليس (الْفُلْكِ) بصفة؟ قيل: قد جاء ذلك في الاسم أيضاً، قال الصلتان: أنا الصلتاني الذي .... وأيضاً قد شُبه كل واحدٍ من الاسم والصفة بصاحبه". قوله: (لأنه جمعُ "فَلك"): قيل: الضمة في "فُلْك" إذا أريد به الواحد الضمة في "بُرد"، وإذا أريد به الجمع كالضمة في "كُتْب". قوله: (الأسد في "فُعل" أخي "فَعَل"): قال المصنف: في "القصريات" عن أبي علي الفارسي: أن الضمة في "فُعْل" لثقلها: بمنزلة الفتحتين في "فَعَل"، فلذلك آخوا بينهما، وجمعوا "فعلاً" على "فُعْل"، كما جمعوا "فُعْلاً" على "فعْل".

وفي قراءة أمّ الدرداء: للفلك أيضاً، لأنّ "الفلكي" يدلّ عليه. (جاءَتْها): جاءت الريح الطيبة، أي: تلقتها، وقيل: الضمير للفلك، (مِنْ كُلِّ مَكانٍ): من جميع أمكنة الموج، (أُحِيطَ بِهِمْ) أي: أهلكوا، جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) على إرادة القول، أو لأن (دَعَوُا) من جملة القول، (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ): يفسدون فيها ويعبثون مترافين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للفُلْكِ أيضاً): أي: الضمير في قراءة أم الدرداء للفلك أيضاً، لأن "الفلكي" يدل عليه، قال المصنف رحمه الله تعالى: هذا كقولك: إذا زُجر السفيه جرى إليه أي: إلى السفه، لأن السفيه يدل عليه، فاستغنى عن ذكر السفه بذكر السفيه. قوله: (جاءت الريح الطيبة، أي: تلقتها) ريح عاصف، فالضميران للريحين، أحداهما: ريح عاصف، والأخرى: ريح طيبة. قوله: (جعل إحاطة العدو بالحي مثلا): هو مثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) [البقرة: 19]، وقد سبق تحقيقه. قوله: (مترادفين): هو اسم فاعل من الترافؤ، وهو التوافق، مهموز اللام، "والمرافاة: الاتفاق،

فإن قلت: فما معنى قوله: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والرفاء: الالتحام والاتفاق"، ذكره الجوهري؛ الرفاء في المهموز، والمُرافاة في الناقص، وإنما بالغ المصنف في تفسير (يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ)؛ بقوله: "ويعيثون"، فإنه الغلو في الفساد، وبقوله: "مترافين"؛ لتعدية (يَبْغُونَ) بـ (فِي)، وهو يتعدى بـ"على" للمبالغة، على نحو قوله: يجر في عراقيبها نصلي قال الجوهري: "بغى الرجل على الرجل: استطال". قوله: (بلى): أي: بلى، يكون البغى بحق، كهدم المسلمين دور الكفرة، وإحراق زروعهم، قال صاحب "الفرائد": هذا يُشعر بأن البغي موضوع للاستيلاء، سواء كان حقاً أو باطلاً، وقيد (بِغَيْرِ الْحَقِّ) لإخراج ما هو حق، وهذا منظور فيه، لأنه قال قبل هذا: "هو من قولك: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد". وقال الزجاج: "البغي: الترامي في الفساد"، وإذا ذُكر البغي لا يخطر بالبال إلى الظلم. وقلت: ويمكن أن يُقال: البغيُ بحسب اللغة: هو ترامي الشيء إلى الفساد، سواء كان الفساد عدلاً أو ظلماً، لأن الفساد: خروج الشيء من أن يكون منتفعاً به، فهذا قد يكون عدلاً، كهدم دور المشركين وإحراق زروعهم وقتلهم، ثم خصه العُرف بما يكون ظلما، فالقيد بالنظر إلى ما يكون بحسب اللغة.

وقرئ: (متاع الحياة الدنيا)، بالنصب. فإن قلت: ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان "المتاع" خبراً للمبتدأ الذي هو (بَغْيُكُمْ)، و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلته - كقوله (فَبَغى عَلَيْهِمْ) [القصص: 76]-، ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا، لا بقاء لها. وإذا نصبت فـ (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبر غير صلة، معناه: إنما بغيكم وبال على أنفسكم، و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا، بعد تمام الكلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً"، وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام: "أسرع الخير ثواباً: صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً: البغي واليمين الفاجرة"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (مَتَاعُ الْحَيَاةِ) بالنصب): حفص، والباقون: بالرفع. قوله: (على: هو متاع الحياة الدنيا، بعد تمام الكلام): قال صاحب "المرشد": " (مَتَاعُ): من قرأ بالرفع: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً لقوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، ولا يحسن الوقف على قوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) للفصل بين المبتدأ والخبر. والآخر: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويكون خبر (بَغْيُكُمْ) قوله: (عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، وهو كلام تام، والوقف عليه تمام، ويبتدئ: (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، على: هو متاع الحياة الدنيا". قوله: (واليمين الفاجرة): أي: الكاذبة، الجوهري: "فجر، أي: كذب، وأصله: الميل، والفاجر: المائل".

وروي: "ثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "لو بغي جبل على جبل لدك الباقي"، وكان المأمون رحمة الله عليه يتمثل بهذين البيتين في أخيه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه): أي: الأمين، وكان من خبرهما على ما ذكره الفقيه أبو حنيفة الدينوري: أنه بويع الأمين بعد وفاة أبيه هارون الرشيد بالخلافة، ووصل الخبر إلى أخيه المأمون، وهو بمرو الروذ، فركب إلى المسجد الأعظم، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، أحسن الله عزاءنا وعزاءكم في الخليفة الماضين وبارك لنا ولكم في خليفتكم الحادث، ومد الله في عمره، جددوا البيعة لإمامكم الأمين، فبايعه الناس. ثم إن الأمين استشار إسماعيل بن صبيح في عزل أخيه المأمون من خُراسان، فقال له: أعيذك الله أن تنقض ما استنه الرشيد ومهده، فقال له الأمين: ويحك يا ابن صبيح، عن عبد الملك ابن مروان كان أحزم رأياً منك؛ حيثُ قال: لا يجتمع الفحلان في هجمة إلا قتل أحدهما صاحبه. ثم كتب إليه وسأله أن يقدم عليه ليعينه على أموره، فامتنع المأمون، فجرى بينهما ما جرى حتى قتل الأمين. وقال ابن حمدون: ولما أتى طاهر برأس الأمين حمد الله وأثنى عليه، وقال: (قُلْ اللَّهُمَّ

يَا صَاحِبَ الْبَغْي إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ ... فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَلٍ ... لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه: كنّ عليه، البغي والنكث والمكر، قال الله تعالى: (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). [(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) 24]. هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً، بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه، (فَاخْتَلَطَ بِهِ): فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) بآل عمران: 26]، فبعث بالرأس والبُردة إلى المأمون، وكتب: وجهت إليك بالدنيا والآخرة، فبُويع المأمون بالخلافة، والله أعلم. قوله: (يا صاحب البغي) البيتين: "مصرعة": أي: كثير المصارعة شديدها، "فاربع" أي: ارفق وكُف، ربع الرجل: إذا وقف، و"الفَعَال" - بفتح الفاء -: غالب في المكارم، واستعمل هاهنا لمجرد الفعل. قوله: (هذا من التشبيه المركب): لأن الوجه على ما ذكره منتزع من عدة أمور متوهمة، وقوله: (أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا) استعارة وقعت في طرف المشبه به، فالمشبه به مركب من أمور حقيقية وأمور مجازية. قوله: (ورفيفه)، الجوهري: "رف لونه يرف - بالكسر - رفا ورفيفاً، أي: برق وتلألأ".

(أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل (وازَّيَّنَتْ): تزينت، فأدغم، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرئ: "وازينت"، أي: أفعلت، من غير إعلال الفعل، كأغيلت، أي: صارت ذات زينة، و"ازيانت"، بوزن ابياضت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) كلام فصيح): ومجيء (وَازَّيَّنَتْ) عقيب قوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا) ترشيح لتلك الاستعارة، شُبهت الأرض بالعروس، وحُذف المشبه به، وأقيم المشبه مقامه على المكنية، ثم جعلت القرينة أخذها الزخرف، ثم فُرع عليها قوله: (وَازَّيَّنَتْ). قال المصنف في البقرة: "إني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا عليَّ أولىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، كيف ولي "الماء" الكاف، وليس الغرض تشبيه "الدنيا" بـ "الماء"، ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره". قوله: ("وأزينت" على: أفعلت): ابن جني: "قرأ الأعرج: "وأزينت"، وأبو عثمان النهدي: "وازيأنت"، أما "أزينت" فمعناه": صارت ذا زينة بالنبت، ومثله: أجذع المهر، أي: صار إلى الإجذاع، وأحصد الزرع، أي: صار إلى الحصاد، إلا أنه أخرج العين على الصحة،

(أنهم قادِرُونَ عَلَيْها): متمكنون من منفعتها، محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها، (أَتاها أَمْرُنا) وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم، (فَجَعَلْناها): فجعلنا زرعها، (حَصِيداً): شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ): كأن لم يغن زرعها، أي: لم ينبت، على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلا لم يستقم المعنى. وقرأ الحسن: "كأن لم يغن" بالياء، على أنّ الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع، وعن مروان: أنه قرأ على المنبر: "كأن لم تتغن" بالأمس، من قول الأعشى: طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان قياسه: "أزانت"، مثل: أشاع الحديث، وأباع الثوب، أي: عرضه للبيع. وأما "ازيأنت": فإنه أراد "افعالت"، مثل: ابياضت واسوادت، إلا أنه كره اتقاء الألف والنون الأولى ساكنتين، فحرك الألف، فانقلب همزة". قوله: (لم يغن زرعها) فحذف المضاف، فانقلب الضمير المضرور مرفوعاً، واستتر في الفعل. قوله: 0 طويل الثواء طويل التغن): ويروي أوله: لعمرك ما طول هذا الزمن ... على المرء إلا عناء معن أراد: مُعنى، طرح الياء ثم خفف.

و"الأمس": مثل في الوقت القريب، كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً. [(وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) 25]. (دارِ السَّلامِ): الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها، وقيل: السلام: السلامة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم، (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) [الواقعة: 26]، (وَيَهْدِي): ويوفق (مَنْ يَشاءُ)، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته، ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون. [(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 26]. (الْحُسْنى): المثوبة الحسنى، (وَزِيادَةٌ): وما يزيد على المثوبة، وهي التفضل، ويدل عليه قوله: (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 173]، وعن علىّ رضي الله عنه: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن مشيئة الله تابعة لحكمته): تعليل لاختصاص الهداية بمن علم أن اللطف يُجدي عليهم، أي: ينفعهم، يريد: انه تعالى لا يوفق من علم أن اللطف لا ينفعه، فإنه منافٍ لحكمته؛ لوقوع التوفيق حينئذ عبثاً، وهو تعالى منزه عن فعل العبث، لأنه حكيم. وعندنا: أن الله تعالى يخلق الهداية فيمن يشاء، ولا غنى له عن أن لا يهتدي؛ لأن الكائنات تابعة لمشيئة الله وإرادته، وأفعاله كلها حكمة وصواب، وإن خفي علينا وجهها. قال القاضي: "وفي تعميم الدعوة، وتخصيص الهداية بالمشيئة: دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المصر على الضلالة لم يُرد الله رشده".

وعن ابن عباس رضي الله عنه: الحسنى: الحسنة، والزيادة: عشر أمثالها. وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة: الزيادة: أن تمرّ السحابة بأهل الجنة، فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة: أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرقوع: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: أن يا أهل الجنة، فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى): قال محيي السنة: "هذا قول جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت. وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحاك والسدى"، رضوان الله عليهم أجمعين. قوله: (بحديث مرفوع): صح بالقاف عنده، أي: مرقع مفترى، وأما عند أهل السنة فهو مرفوع - بالفاء-، قال محيي الدين النواوي في "مختصر ابن الصلاح": "المرفوع: هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقع مطلقه على غيره، ويدخل فيه متصل الإسناد ومنقطعه، هذا هو المشهور. وقال الخطيب الحافظ: المرفوع: ما أخبر به الصحابي عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله، فخصه بالصحابي".

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ): لا يغشاها، (قَتَرٌ): غبرة فيها سواد، (وَلا ذِلَّةٌ): ولا أثر هوان وكسوف بال، والمعنى: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار؛ إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى: (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس: 41]، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس: 27]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما هذا الحديث: فقد رويناه عن مسلم وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا، وتنجنا من النار، وتدخلنا الجنة؟ ! قال: فكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه"، زاد في رواية لمسلم: "ثم تلا: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) "، وفي رواية ابن ماجة: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وقال: إذا دخل أهل الجنة"، الحديث. قوله: (إذكاراً بما يُنقذهم): هو مفعول له لقول مقدر، أي: قال الله تعالى: لا يرهق وجوههم قتر؛ ليذكر أهل الجنة بما ينقذهم الله منه، وهو إرهاق وجوههم، أي: غشيانها غبرة فيها سواد، بسبب رحمته، فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد فرحهم وتبجحهم، كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم المقيم ازداد غمهم وحسرتهم. روى محيي السنة عن ابن أبي ليلى: "هذا بعد نظرهم إلى ربهم". وقال السجاوندي: "قتر: غبار الحرمان والخيبة". وقلت: في هذا الكلام مسحة من قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22 - 23]، فيكون قوله: (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) كناية عن حصل غاية مباغيهم ونهاية سرورهم- يقال للكئيب الحزين: كأن على وجهه قتراً وذلة - لأن الجنة مع نعيمها وذاتها - عند العارف إذا لم يظفر بتلك النعمة الكبرى - مكان حزن وكآبة.

[(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 27]. فإن قلت: ما وجه قوله (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)، وكيف يتلاءم؟ قلت: لا يخلو، إمّا أن يكون (وَالَّذِينَ) كَسَبُوا معطوفاً على قوله: (الَّذِينَ أَحْسَنُوا)، كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها. وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما وجه قوله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ)؟ ): أي: ما وجه إعرابه في التركيب؟ وكيف يلتئم بما قبله؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: أنه من عطف المفرد على المفرد، ووجهه: أن "الذين كسبوا" مجرور؛ خبرٌ لقوله: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ)، كما أن المعطوف عليه كذلك، نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو. وثانيهما: أنه من عطف الجملة على مثلها، فلا يلزم العطف على عاملين مختلفين، لكن لا بُد من تقدير محذوف؛ لأنه لا يجوز حمل الجزاء على المسيء، فيقدر مضاف ليصح. قوله: (عطفاً على عاملين): العامل الأول: اللام، والعامل الثاني: الابتداء، وسيبويه لا يجيزه.

وإن كان الأخفش يجيزه. وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة: الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. وقرئ: "يرهقهم" بالياء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي هذا دليل): أي: في هذا النظم والترتيب دليل على أن المراد بالزيادة الفضل لا الرؤية، وذلك أن قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) [يونس: 25] مجمل يعم الفريقين: المهتدي والضال، لأن الدعوة عامة، وقوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [يونس: 25] تفصيل له، وذكر فيه أحد الفريقين - وهم المهتدون - وترك الضالين؛ بدلالة قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) [يونس: 26] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) عليه، كأنه قيل: والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ثم فرق ما لكل من الفريقين من الجزاء والفضل، فقيل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)، فإن قوله: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ) مقابل لقوله: (الْحُسْنَى)، وهو العدل، ولا تكون الزيادة على العدل إلا الفضل. وقلت: نعم ما قلت، ولكن لابد للنظم المعجز والعدول من الأصل من فائدة؛ وفي تقييد جانب السيئة بالجزاء، والتخصيص بالمثل، وإطلاق جانب الحسنة، ثم تقييده بالزيادة: إعلام بالفرق العظيم، وأن (الْحُسْنَى) أيضاً فضل، كما في قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) [الأنعام: 160]، ولا ارتياب أن (عَشْرُ أَمْثَالِهَا) الواقع في مقابلة (لا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) ليس غير الفضل، ولأنه لابد في نصوصية الجزاء وإطلاق ما يقابله في كلام الله المجيد من مزيد فائدة. وتفسير "الزيادة" على ما جاء عن أفضل البشر واجب المصير لا محيد عنه، ثم إن الإمام

(مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي: لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، ويجوز: ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم، كما يكون للمؤمنين. (مُظْلِماً) حال من (اللَّيْلِ)، ومن قرأ: (قِطَعاً) بالسكون -من قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود: 81]- جعله صفة له، وتعضده قراءة أبىّ بن كعب: "كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نقل تفسير الزيادة بالفضل عن القاضي، وأتى بدلائل جمة على أن المراد بالزيادة الرؤية، فلينظر هناك. قوله: (من يعصمهم): يريد: أن (مِن) في (مِنْ عَاصِمٍ): زائدة، وفي (مِنْ اللَّهِ): حال منه، أي كائناً من جهة الله وشفيعاً بإذنه. قوله: (ومن قرأ: "قطعاً" بالسكون): ابن كثير والكسائي، والباقون: بفتحها. قوله: (جعله): أي جعل (مُظْلِماً) صفة لـ (قطعاً)، إنما قيد هذه القراءة به؛ لأن قطعاً على هذا مفرد يطابق قوله: (مُظْلِماً)، ولهذا قال: "من قوله: (بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) "، أي: مأخوذ من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) [هود: 81]، أي: بعضه، وأما (قِطَعاً) - بفتح الطاء-: فهو

فإن قلت: إذا جعلت (مظلماً) حالا من (الليل)، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو: إمّا أن يكون (أُغْشِيَتْ) من قبل، أو (مِنَ اللَّيْلِ) صفة لقوله: (قِطَعاً)، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جمعُ "قطعة" غير مطابق لقوله: (مُظْلِماً)، اللهم إلا أن يُقال: "إن (قِطَعاً) في معنى الكثير"، كما قاله أبو البقاء. قوله: (فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن (مِنْ اللَّيْلِ) ليس صلة (أُغْشِيَتْ) حتى يكون عاملاً في المجرور، بل التقدير أنه صفة، فيكون العامل فيه معنى الفعل، وهو "كائنة"، فلا يكون العامل فيه (أُغْشِيَتْ)، وأيضاً الصفة هو (مِنْ اللَّيْلِ)، وذو الحال هو (اللَّيْلِ)، فلا يكون (أُغْشِيَتْ) عاملاً في ذي الحال، مع أنه المقصود. وقد يقال: إن (مِنَ) للتبيين، والتقدير: كائنة من الليل، فـ (أُغْشِيَتْ) عامل في الصفة، وهي "كائنة"، فكأنه عامل في (اللَّيْلِ)، لكنك تعلم أنه مبني على أن العامل في الشيء عامل فيه، فهو فاسد، فالوجه أن يُقال: إن (مِنَ) للتبعيض، أي: بعض الليل، ويكون بدلاً من (قِطَعاً)، ويُجعل (مُظْلِماً) حالاً من "البعض" لا من (اللَّيْلِ)، فيكون العامل في ذي الحال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أُغْشِيَتْ). قال مكي بن أبي طالب: "الواجب أن يُقال: إن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال؛ لأنها هو في المعنى، إذ لو اختلف لكان قد عمل عاملان في معمول واحد". وأجاب الإمام المغفور [له] أمين الدين الشرفشاهي رحمه الله: إن نسبة (أُغْشِيَتْ) إلى (قِطَعاً) إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بـ (اللَّيْلِ)، لا باعتبار مفهوم "القطع" في نفسها، وإنما ذُكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم، وهو الليل مظلماً، فإفضاء الفعل إلى (قِطَعاً) - باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به- كإفضاء الفعل إليه، كما إذا قيل: اشتريت أرطالاً من الزيت صافياً، فإن المشتري منه: الزيت، والأرطال مبينة لمقدار المشترى صافياً، فالعامل في الحال إنما هو الفاعل اللفظي، ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور في جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور، وفيما أورد المعترض من تقدير المبدل في هذا المحل نظر؛ لأن (مِنْ اللَّيْلِ) تتمة لـ (قِطَعاً)، فلا يكون بدلاً منه. وقلت- والله أعلم-: ليس إجراء الصفات كلها على الموصوفات سواء، فكم ترى من صفات أو أحوال هي المقصودة في الاعتبار، والموصوفات تابعة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) [الحج: 30]، وقولك: رأيت منك أسداً، فإن المقصود ذم الأوثان، وأنها عين الرجس، وأن المخاطب شجاع بالغ في الشجاعة. وهاهنا جُرد من نفس الليل ذو وصف مثله، وهو "قطعه"، مبالغة؛ لكمالها فيه، فكأنه جعل الليل بماله قطعاً، وأغشيت بها وجوههم، ولأن الليل هو المصحح للتشبيه، ومنه

[(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) 28]. (مَكانَكُمْ): الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، و (أَنْتُمْ) أكد به الضمير في (مكانكم)؛ لسدّه مسدّ قوله: الزموا، (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه، وقرئ: "وَشُرَكاؤُكُمْ" على أنّ الواو بمعنى "مع"، والعامل فيه ما في (مكانكم) من معنى الفعل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغشيان، ولتوطئة ذكر (قِطَعاً)، كما مر في كلام المجيب، ولولاه لكان أصل الكلام: ترى وجوههم مسودة، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر: 60]، ولما أريد التتميم فيه وانضمام العبوسة والتحير مع الظلمة شبهت بالليل، وأوقع (مُظْلِماً) حالاً منه؛ ليتصور من ذلك تخمة السحاب وتكاثف المطر وما يلحق لمن حصل فيه من التحير والخوف والدهشة، ولما أريد اتصاله بالمشبه جعلت الوسيلة أداة التشبيه ولفظ الغشيان، ولمزيد المبالغة جيء بقوله: (قِطَعاً) على سبيل التجريد، وأوقع (مِنْ اللَّيْلِ) بياناً له- ما مر-، ولا يتنبه لهذه المعاني إذا أجري الكلام على ظاهره، وإن يُقال: إن عامل الصفة "هم" المقدر دون (أُغْشِيَتْ)؛ إذ لا يُفهم منه الاهتمام بشأن الليل. قوله: (لسده مسد [قوله]: الزموا): قال أبو البقاء: " (مَكَانَكُمْ) ظرف لوقوعه موقع الأمر،

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ): ففرّقنا بينهم، وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: الزموا، وفيه ضمير فاعل، و (أَنْتُمْ) توكيد له، والكاف والميم في موضع جر عند قومن وعند آخرين: الكاف للخطاب لا موضع لها، كالكاف في إياكم". قوله: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ): ففرقنا بينهم)، الأساس: "المزايل: المباين، وإني لا أزايلك، وتزايلوا وتزيلوا"، قال أبو البقاء: " (فَزَيَّلْنَا): عينُ الكلمة واو، لأنه من: زال يزول، وإنما قُلبت ياء لأن وزنه "فَيْعَل"، أي: زيولنا، مثل: بيطر وبيقر، وقيل: هو مِن: زِلتُ الشيء أزيله، فعينه ياء، فيحتمل أن يكون: فعلنا وفيعلنا". وقلت: فالمباينة: إما بحسب قطع الوصل، كقوله سبحانه وتعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس: 34 - 35]، فهو المراد بقوله: "وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا"، أو بحسب الأبدان بعد اجتماعها، فهو المراد من قوله: "فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم"، فقوله: "كقوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) [غافر: 73 - 74] " يجوز أن يستشهد به للبعد بحسب الأبدان، فمعنى (ضَلُّوا عَنَّا): غابوا عن عيوننا، فلا نراهم، وأن يُستشهد به للبعد بحسب الأبدان، فمعنى (ضَلُّوا عَنَّا): بطل عنا ما كنا نختلق من الكذب وشفاعة الآلهة، كما سيجيء بُعيد هذا. قوله: (والوصل التي كانت بينهم): عطف على: "أقرانهم"، أي: حبالهم، على سبيل البيان.

وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) [غافر: 73 - 74]، وقرئ: "فزايلنا بينهم"، كقولك: صاعر خدّه وصعره، وكالمته وكلمته. (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم. (فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ * هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [29 - 30]. (إِنْ كُنَّا) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولى العقل، وقيل: الأصنام؛ ينطقها الله عزّ وجلّ، فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم. (هُنالِكَ) في ذلك المقام، وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت -على استعارة اسم المكان للزمان- (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ): تختبر وتذوق، (ما أَسْلَفَتْ) من العمل، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله، ومنه قوله تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (الطارق: 9). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تختبر وتذوق ... فتتعرف): فالابتلاء على هذا مجاز عن المعرفة، ولهذا جاء بالفاء في "فتتعرف"، وشبهه بقوله: "كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 9] "، أي: تُكشف وتظهر.

وعن عاصم: "نبلو كلَّ نفس"، بالنون ونصب "كل"؛ أي: نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنعرف حالها بمعرفة حال عملها؛ إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان سيئاً فهي شقية. والمعنى: نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7، الملك: 2]، ويجوز أن يراد: نصيب بالبلاء -وهو العذاب- كل نفس عاصية، بسبب ما أسلفت من الشر. وقرئ: "تتلو"، أي تتبع ما أسلفت، لأنَّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شر. (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ): ربهم الصادق ربوبيته، لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة، أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً، وقرئ: "الحق"، بالفتح على تأكيد قوله" (رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 62]، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، أو على المدح؛ كقولك: الحمد لله أهل الحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن عاصم: "نبلو"): وهي شاذة، وإن أُسند إليه، وقرأ حمزة والكسائي: "تتلو كل نفس"، بتاءين، والباقون: بالتاء والباء بعدها. قوله: (أي: نختبرها باختبار ما أسلفت) إلى آخره: يُعلم من تقريره: أن قوله: (مَا أَسْلَفَتْ) بدل من قوله: (كُلِّ نَفْسٍ)، لأن المراد: يبلو كل نفس عمله، فينظر: إن كان عمله خيراً فهو سعيد، وإن كان شراً فهو شقي، ونحوه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) [الزمر: 17]. قوله: ((مَوْلاهُمْ الْحَقِّ) ربهم الصادق ربوبيته): اعلم أن "المولى" لفظ مشترك في معنى السيد والمالك، وفي معنى متولي الأمور، فإن كان الأول: فالمناسب أن يفسر (الْحَقِّ) بالصادق ربوبيته، لأن الكلام تعريض بالمشركين، يدل عليه عطف قوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ): وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة. [(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) 31 - 33]. (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي: يرزقكم منهما جميعاً، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة؛ ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَفْتَرُونَ)، ولهذا عرف "الحق" باللام، وإليه الإشارة بقوله: "لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة"، أي: يتخذون مالكاً لأنفسهم بالباطل. وإن كان الثاني: فاللائق أن يؤول (الْحَقِّ) بالعدل، لأن من يتولى أمر الغير ينبغي أن يكون عادلاً، وهو المراد من قوله: "العدل الذي لا يظلم". اعلم أن قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ) كالاعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، لأن الضمير في (عنهُم) راجع إلى قوله: (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا). قوله: (لم يقتصر برزقكم على جهةٍ واحدة): يعني: إنما ذكر الجهتين ليدل به على التوسعة والشمول. الانتصاف: "هذه الآية رادة على المعتزلة أن من الأرزاق مالم يرزقه الله، بل يرزقه العبد نفسه، وهو الحرام". وقلت: يقوى هذا عطف قوله: (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)، وجوابهم: (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)، إذ المعنى: من الذي له الرزق الواسع، والملك الشامل، والتصرف العجيب، والتدبير الأنيق؟ فينبغي أن لا يخصص شيء من ذلك.

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ): من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو: من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه، (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص، (أَفَلا تَتَّقُونَ): أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال. (فَذلِكُمُ) إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله، (رَبُّكُمُ الْحَقُّ) الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر، (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) يعنى: أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: من يحميهما): عطف على "من يستطيع خلقهما"، فسر (يَمْلِكُ) تارة بالاستطاعة مجازاً، كما فسر أبو حنيفة رضي الله عنه (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) [النساء: 25]: بمن لم يملك طول الحرة، وأخرى بـ"يحميها ويحصنهما"، لأن في الملك معنى التسلط والغلبة. والأول أوفق؛ ليضم الخالقية مع الرازقية، كقوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [فاطر: 3]. قوله: ((فَذَلِكُمْ) إشارة إلى من هذه قدرته): فهو من باب الإعلام بأن ما قبل اسم الإشارة جدير بما بعده، لما عددت من صفات. قوله: (يعني: أن الحق والضلال لا واسطة بينهما): يريد أن الاستفهام في قوله: (مَاذَا) للإنكار، يعني: بعد هذا البيان الشافي وإظهار الحق، ما هذا التواني والتقاعد؟ ! وليس ذلك إلا الركوب على متن الباطل ومتابعة الزيغ والهوى، وقوله تعالى: (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تنبيه على هذا التوبيخ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولما كان (تُصْرَفُونَ) مطلقاً يحتمل العموم قدر: "عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاوة"، ثم فرع على هذا الإصرار قوله: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)، أي: حقت عليهم كلمة العذاب، فوضع (الَّذِينَ فَسَقُوا) موضع الضمير للعلية، والدليل على الإصرار ترتب الفسق على عدم الإيمان، ثم عاد إلى ذم آلهتهم وتقبحي عبادتها منهم بقوله: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ). هذا تقرير الوجه الأخير، وهو أوفق لتأليف النظم. وأما حل تركيبه: فإنه بنى التشبيه بقوله: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، تارة على قوله تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ)، وأخرى على قوله: (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)، ثم فرع تفسير "الكلمة" على الأول: بالعلم، وعلى الثاني: بالحكم، وجعل على هذين التفريعين (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدلاً من "الكلمة". وخص تفسير "الكلمة" بالعدة بالعذاب، على التشبيه الثاني، وجعل (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تعليلاً للعدة؛ لأن الحكم بعدم الإيمان لا يصلح أن يكون تفسيراً للعدة، المعنى: كما ثبت صرفهم عن الحق كذلك ثبت الوعد لهم بالعذاب، ويجوز أيضاً: وكما ثبت صرفهم عن الحق كذلك ثبت القول عليهم بالخذلان. فإن قلت: من أين فسرت "الكلمة" بالعلم تارة، والحكم أخرى؟ قلت: لما قال: "حق عليهم انتفاء الإيمان"، وعطف عليه قوله: "وعلم الله منهم ذلك"؛ على سبيل التفسير، عُلم أن قوله تعالى: (كَلِمَةُ رَبِّكَ) معبر به عن العلم الأزلي، ولا قول ثمة.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الحق (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، أي: كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي: تمرّدوا في كفرهم، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، و (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من "الكلمة" أي: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن، أو أراد بـ"الكلمة": العدة بالعذاب، و (أنهم لا يؤمنون) تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون. [(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) 34 - 35]. فإن قلت: كيف قيل لهم: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحوه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 96]، قال: في تفسيره بناء على مذهبه: "تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر". ولما قال: حق عليهم كلمة الله، عُلم ان هناك قولاً قيل في حقهم وحكم عليهم: أنهم من أهل الخذلان، فإذن لابد أن لا يؤمنوا، ونحوه قوله تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس: 7]، ومنه سُمي المسيح بـ"كلمة الله"، لأنه عليه السلام وُجد بكلمة "كُنْ" وكلا المعنيين متقاربان. وأما المعنى الثالث: فمأخوذ من قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر: 19]. والله أعلم. قوله: (كيف قيل لهم: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ)؟ ): توجيه السؤال: أن قوله: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ) الآية، كيف ينتهص حجة عليهم، وأنهم منكرون للإعادة، لأن لهم أن

وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق - لظهور برهانها - موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً، رادّا للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعنى: أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق، فكلم عنهم. يقال: هداه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه؛ بمعنى: اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى: اشترى. ومنه قوله: (أَمَّنْ لا يَهِدِّي). وقرئ: (لا يهدّى) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقولوا: ما ثبت عندنا أن الإعادة كائنة، فكيف نُقر بإلهية من ادعيت إلهيته بهذه الدعوى؟ ! نعم، لو أتى بالاستدلال بالخالقية والرازقية دون الإماتة والإحياء- كما في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء) [الروم: 40]، لاستقام لإثبات الدعوى. وأجاب: أن في وضع هذه الآية مكان تلك الآية نظراً دقيقاً، وهو الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر، بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن تثبت به دعوى أخرى، ففيه صنعة الإدماج، كقول ابن نباتة: فلابد لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده ضمن الغزل الفخر بكونه حليماً، والفخر شكاية الإخوان. ثم الدليل على ظهور الدليل: أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس: 34]: أمره بأن يُجيب عنه كما يجاب عن الأمر المسلم ثبوته، كقوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ) [الأنعام: 19]، لكن الذي يمنعهم المكابرة واللجاج. قوله: (وقرئ: (لا يَهْدِي)): ابن كثر وورش وابن عامر: "أمن لا يهدي"، بفتح الياء

بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال، والأصل: يهتدي، فأدغم، وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لإتباع ما بعدها، وقرئ: "إلا أن يهدى"؛ من هداه، وهدّاه: للمبالغة، ومنه قولهم: تهدى، ومعناه: أن الله وحده هو الذي يهدى للحق، بما ركب في المكلفين من العقول، وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم، ووفقهم، وألهمهم، وأخطر ببالهم، ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أندادا لله أحد من أشرفهم، كالملائكة والمسيح وعزير، يهدى إلى الحق مثل هداية الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والهاء وتشديد الدال، وقالون وأبو عمرو كذلك إلا أنهما يخفيان حركة الهاء، وأبو بكر: يكسر الياء والهاء، وحفص: بفتح الياء وكسر الهاء، حمزة والكسائي: بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال. قوله: (بما ركب في المكلفين من العقول، وأعطاهم من التمكين): قيل: هذا بناء على مذهبه، لأن عند أهل السنة: أنه هو الهادي؛ بأن يخلق فيهم الهداية.

ثم قال: (أفمن يهدى إلى الحق) هذه الهداية (أحق) بالإتباع، أم الذي (لا يهدى) أي: لا يهتدي بنفسه، أو لا يهدى غيره، (إلا أن) يهديه الله. وقيل: معناه أمن لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه، (إِلَّا أَنْ يُهْدى) إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً، فيهديه. (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بالباطل، حيث تزعمون أنهم أندادا لله. [(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) 36]. (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) في إقرارهم بالله، (إِلَّا ظَنًّا) لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، (إِنَّ الظَّنَّ) في معرفة الله (لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ) وهو العلم (شَيْئاً). وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام: أنها آلهة، وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والمراد بالأكثر: الجميع، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) وعيد على ما يفعلون من إتباع الظن وتقليد الآباء، وقرئ: " تفعلون" بالتاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الهداية هاهنا: هي بعثة الرسل، وإنزال الكتب، ومنح العقول، وتوفيق طريق النظر والاستدلال، لا مجرد العقل؛ لأن مجرد العقل يعارضه الوهم والظن، قال القاضي: "يهدي للحق بنصب الحجج وإرسال الرسل والتوفيق للنظر والتدبر". قوله: (أمن لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه)، الجوهري: "الهداء: مصدر قولك: هديت المرأة إلى زوجها، وقد هُديت إليه". قوله: ((فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بالباطل): قال الزجاج: "ما لكم": كلام تام، أي: شيء لكم في عبادة الأوثان، ثم قيل لهم: (كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، أي: على أي حال تحكمون، و (كَيْفَ) نصب بـ (تَحْكُمُونَ). قوله: (والمراد بالأكثر: الجميع): يعني: أن جميعهم متابعون الظن في القول بأن الأصنام

[(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) 37 - 40]. (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ) افتراء (مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آلهة وشفعاء. قال صاحب "الفرائد": "يُمكن أن يُقال: لما كان عاقبة بعضهم الإيمان باتباع العلم، ذكر الأكثر". وقلت: هذا مجاز باعتبار ما يؤول، وهو بعيد، بل يمكن أن يُقال: إن في إطلاق "الأكثر" فائدة، وهي ما يُشعر به أن القائلين كانوا متفاوتين في جحد الحق، فمنهم من كان شاكاً فيه، ومنهم من علم ولكن عاند وكابر، وأكثرهم اتبعوا الظن، ويؤيده ما سبق من قوله: "إنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق". وأما إطلاق الأكثر على الجميع، فهو كاستعمال القليل للعدم، كما في قول الشاعر: قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد المرزوقي: "نفي أنواع التشكي كلها عنه، وعلى هذا قوله تعالى: (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 88]، وحمل النقيض على النقيض حسن، وطريقته مسلوكة. قوله: ((وَلَكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة): إشارة

لأنه معجز دونها، فهو عيار عليها، وشاهد لصحتها، كقوله: (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [فاطر: 31]. وقرئ: "ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب"، على: ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى "وما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى": وما صحّ وما استقام، وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ): وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله: (كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) [النساء: 24]. فإن قلت: بم اتصل قوله: (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)؟ قلت: هو داخل في حيز الاستدراك، كأنه قال: ولكن كان تصديقاً وتفصيلا منتفياً عنه الريب كائنا من رب العالمين، ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقاً من رب العالمين، وتفصيلا منه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى المبالغة في انتفاء الافتراء عنه، يعني: كيف يكون كذباً، وهو مما يثبت به الصدق والحق، غذ لولاه لما هرت لكم حقية الكتب المنزلة من قبل، فما كان كذلك كيف يُقال: إنه مُفترى؟ ! قوله: (فهو عيار عليها)، المغرب: "العيار: المعيار الذي يقاس به غيره ويسوى، وعيار الدراهم والدنانير: ما جُعل فيها من الفضة الخالصة أو الذهب الخالص. قوله: (ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين): قال أبو البقاء: "قوله: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى): (هذا) اسم (كان)، و (القرآن) عطف بيان، و (أَنْ يُفْتَرَى) خبر (كان)، أي: ما كان هذا القرآن مفترى، ولكن كان تصديق الذي، أي: مصدق الذي، و"تفصيل الكتاب" مثل (تَصْدِيقَ)، (لا رَيْبَ فِيهِ) يجوز أن يكون حالاً من (الْكِتَابَ)، و (الْكِتَابَ) مفعول في المعنى، ويجوز أن يكون مستأنفا، (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يجوز أن يكون حالاً أخرى".

لا ريب فيه، فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلقاً بـ (تصديق) و"تفصيل"، ويكون (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراضاً، كما تقول: زيد لا شكّ فيه كريم. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراه) ُ بل أيقولون: اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد، والمعنيان متقاربان. (قُلْ) إن كان الأمر كما تزعمون (فَاتُوا) أنتم على وجه الافتراء (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)، فأنتم مثلي في العربية والفصاحة، ومعنى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي: شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ: "بسورة مثله"، على الإضافة، أي: بسورة كتاب مثله، وَادْعُوا من دون الله مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بل أيقولون: اختلقه): إشارة إلى أن (أمْ) هي المنقطعة، والهمزة: إما للتقرير أو الإنكار؛ فإذا كانت للتقرير كان المعنى: أنتم قلتم: إنه اختلقه؛ فأتوا بسورة مثله. وإذا كانت للاستبعاد والإنكار كان المعنى: إنه بعيد أن يقولوا: إنه مختلق، وهم عاجزون عن الإتيان بمثله، فالمعنيان متقاربان في إلزام الحجة عليهم. قوله: (ومعنى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي: شبيهة به في البلاغة): مضى تحقيقه في سورة البقرة. قوله: (وادعوا من دون الله من استطعتم): قدم الجار والمجرور على المفعول به، وفي التلاوة خلافه؛ ليؤذن بأن (مِنْ دُونِ) صلة الفعل لا حال من المفعول، ليفيد العموم المراد من قوله: "لا يقدر على ذلك أد غيره"، فيكون على وزان قوله: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ) الآية [الإسراء: 88]، ولو جُعل حالاً رجع المعنى: أي: وادعوا من استطعتم، والحال أنه غير الله، وهو عن المقصود بمعزل.

يعني: أنّ الله وحده هو القادر على أن الإتيان بمثله، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه افتراء. (بَلْ كَذَّبُوا): بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجؤوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا تستعينوه وحده): الفاء تدل على انه لازم المفهوم، وهو أيضاً يقوى المقصود، إذ لو جُعل حالاً لم يفد هذا المعنى. قوله: (بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجؤوه): هذا المعنى مستفاد من تقييد الفعل بقوله: (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ). قوله: (ويعلموا كنه أمره): هذه المبالغة يعطيه معنى قوله: (مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)، لأن الظاهر: ما لم يحيطوا به علماً، فعدل إليه ليكون أبلغ، وفي الكلام ترق من الأهون إلى الأغلظ، وذلك أنه تعالى لما نعى على المعاندين بقوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً)، ثم أتبعه بقوله: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى)، نبه على أن من جملة متابعتهم الظن زعمهم في هذا الحق الواضح الصادق في نفسه المصدق لغيره: أنه مفترى وليس من عند الله، ثم أضرب عن الزعم بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) يعني: دع الكلام في الزعم والظن، بل صرحوا بالقول بالافتراء، ثم أضرب عن هذا بقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)، يعني: دع نسبتهم الافتراء إليهن بل إنهم كذبوه بديهاً مطلقاً، ولم يلتفتوا إلى وضوحه في نفسه، ولا أنهم نظروا في الدليل الدال على صحته، وهو أن يُجربوا قواهم ويحرزوا أنفسهم، هل يقدرون على أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، واستمروا على التقليد، وأصروا على التكذيب.

كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير أن يفكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت: ما معنى التوقع في قوله: (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ)؟ قلت: معناه: أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل؛ تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع؛ ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي، ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أول وهلة)، النهاية: "لقيته وهلة، أي: أول شيء، والوهلة: المرة من الفزع، أي: لقيته أول فزعة فزعتها بلقاء إنسان". قوله: (أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر): يعني: تكذيبهم القرآن كان مستمراً قبل التدبر، وانتهى الاستمرار بعد التدبر مع تغير الجهل إلى العلم، والكفر إلى العناد، قال في "المفصل": "إن "لم يَفعَل" نفيُ "فَعَل"، و"لما يفعل" نفيُ "قد فعل"، وهي "لم" ضُمت إليها "ما"، فازدادت في معناها أن تضمنت معنى التوقع والانتظار، واستطال زمان فعلها". فعلى هذا: عُلم أن تكذيبهم استطال زمانه، لن لم يعلم أنهم بعدما جاءهم تأويله عاندوا أم أنصفوا؟ لكن مقام النعي عليهم دل على معنى العناد، ويؤيده ما ذكرنا من معنى الترقي آنفاً، وقوله بعده: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

(كَذلِكَ) أي: مثل ذلك التكذيب (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعنى: قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها، من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا. وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ): ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن قلدوا الآباء): مستدرك معنوي، فإن معنى قوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): يعني: قبل النظر من غير إنصاف أنهم ما أنصفوا في التكذيب بديهاً، لكن قلدوا الآباء وعاندوا، نحوه قول الشاعر: إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولن نفس الحر تحتمل الظما قوله: (وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون): عطف على معنى قوله: "بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن"، وذلك أن الذي لم يحط بالشيء علماً: إما أن لا يُدرك منه شيئاً قط، أو يدركه لكن بحيث لا يسمى علماً، بل شكا. قوله: (ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ): عطف على قوله: قبل أن يفقهوه، ويعلموا كنه أمره، ويقفوا على تأويله ومعانيه"، وذلك أن "التأويل": تفسير مايؤول إليه

يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرّعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالغيوب وصدقه وكذبه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ): يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب، ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أي: ومنهم من سيؤمن به، ومنهم من سيصرّ، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين، أو المصرين. [(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) 41]. (وَإِنْ كَذَّبُوكَ): وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلهم، فقد أعذرت، كقوله تعالى: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ) [الشعراء: 216]، وقيل: هي منسوخة بآية السيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيء، وما يؤول إليه أمر القرآن: إما من جهة الغموض والخفاء وكونه معجزاً، وإما من جهة عاقبة ما أخبر فيه من المغيبات، وإلى ذلك أشار بقوله: "إنه كتاب معجز من جهتين" إلى آخره، وفرع بقوله: "فيسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات". قوله: (أو يكون للاستقبال): عطف على قوله: "يصدق به في نفسه"، فالإيمان على الأول: بمعنى التصديق القلبي، وإليه أشار بقوله: "في نفسه"ن والصيغة للحال، وعلى الثاني: بمعنى الإيمان المتعارف، والصيغة للاستقبال المتعارف. قوله: (وإن تموا على تكذيبك): إشارة على أنه لم يرد به معنى المضي، بل الدوام والثبات على التكذيب، وتكذيب غب تكذيب، يدل عليه الجزاء، وهو قوله: (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ

[(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) 42 - 43]. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن، وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون إليك، ويعاينون أدلة الصدق، وأعلام النبوّة، ولكنهم لا يصدقون. ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأنّ الأصم العاقل ربما تفرّس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَمَلُكُمْ)، فإنه أمر بالتخلية المتاركة، ولا يكون ذلك إلا بعدما بُولغ في الإبلاغ، وأيس من الإجابة، ولهذا قال: "فقد أعذرت"، مثله قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) [القمر: 9]، أي: كذبوه تكذيباً على غب تكذيب. قوله: (ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم): يريد: أن قوله: (أَفَأَنْتَ) معطوف بحرف التعقيب على الجملة السابقة، المعنى: ومنهم من يستمعون إليك ولكن لا يصدقونك، فأنت تبذل جهدك في إسماعهم وتصديقهم، ثم أدخلت الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار. قوله: (لأن الأصم العاقل ربما تفرس): إشارة على أن قوله: (وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) تتميم لقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)، كما في قولك: أتكرم زيداً ولو أهانك. فـ"لو" بمعنى "إن"، فقوله: "لأن الأصم" تعليل لإرداف التتميم. قوله: (دوي الصوت): الإضافة من باب: جرد قطيفه. الجوهري: "دوي الريح: حفيفها".

فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً، فقد تمّ الأمر، أو تحسب أنك تقدر على هداية العمى، ولو انضم إلى العمى -وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأنّ الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمى الذين لا عقول لهم ولا بصائر. وقوله: (أَفَأَنْتَ ... أَفَأَنْتَ) دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبى العقل: حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده. [(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) 44]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجهد البلاء): أي: غاية البلاء. قوله: ((أفَأَنتَ ... أفَأَنتَ): يعني: في تكرير (أفأَنتَ) مع ما فيه من تقديم الفاعل المعنوي، وإيلائه همزة الإنكار: الدلالة على أن نبي الله صلى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم: أنه قادر على الإسماع والهداية، وأنه تعالى يسلب ذلك المعنى منه، ويثبته لنفسه على الاختصاص. قال القاضي: "في الآية تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المقصود منه، ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مؤوفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق".

(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) أي: لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم، من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين، يعنى: أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستيجاب، ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سببا فيه. [(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) 45]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين): وعلى الوجه الأول: لم يكن وعيداً، بل بياناً لإزاحة العلة وإلزام الحجة، فعلى التقديرين: الآية تذييل للكلام السابق، إما للتكاليف المذكورة والأقاصيص المعدودة من أول السورة، يعني: أن الله تعالى لا ينقص شيئاً مما يحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم. و"الظلمُ" على الأول: مُضمنٌ معنى النقصان، فعداه على مفعولين، وعلى الثاني: بمعناه. و (شَيْئاً) منصوب بنزع الخافض، ولهذا قدر: "ولا يظلمهم الله به". الانتصاف: "الوجه الأول مبني على مسألة رعاية الأصلح، والثاني صحيح". وقال القاضي: "في الآية دليل على أن للعبد كسباً، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت المجبرة".

(إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يستقربون وقت لبثهم في الدنيا، وقيل: في القبور، لهول ما يرون، (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ): يعرف بعضهم بعضاً، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم. فإن قلت: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) و (يَتَعارَفُونَ كيف موقعهما؟ قلت: أما الأولى: فحال من «هم» أي: يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، وأما الثانية: فإما أن تتعلق بالظرف، وإما أن تكون مبينة، لقوله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة)، لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد، وينقلب تناكرا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يستقربون وقت لبثهم): أي: يعدونه قريباً، نحو: استعجب الشيء: عده عجيباً. قوله: (مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة): قال أبو البقاء: " (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ) حال، والعامل فيها (يَحْشُرُهُمْ)، و (كان) مخففة من الثقيلة، اسمها محذوف، أي: كأنهم و (مِنْ النَّهَارِ) نعت لـ (سَاعَةً)، (يَتَعَارَفُونَ) حال أخرى مقدرة، والعامل (يَحْشُرُهُمْ)؛ لأن التعارف لا يكون حال الحشر، والعامل في (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ): اذكر". وأما المصنف فجعله متعلقاً بالظرف عاملاً فيه، المعنى: يتعارفون يوم يحشرهم، أو عيناً له حيث جعله بياناً للحال، على نحو: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [الزخرف: 3]، وهذا يوافق قول أبي البقاء: " (يَتَعَارَفُونَ) حال أخرى". قوله: (لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد): تعليل لكون الجملة الثانية مبينة للأولى، يعني: في قوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً) معنى (يَتَعَارَفُونَ)، وذلك أن قرب العهد بين الخلان مما لا يبلى جديدهم، وقد قيل: طول العهد منس، فكان فيها مظنة التعارف، فتبين بقوله: (يَتَعَارَفُونَ) هذا المعنى المبهم فيه، فعلى هذا: الحال غير مقدرة، والمراد باللبث: اللبث في

(قَدْ خَسِرَ) على إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر، (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم. [(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) 46]. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جواب (نتوفينك)، وجواب (نرينك) محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة. فإن قلت: الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى (ثم)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القبور، ذلك أن قلة اللبث في القبور غير مانعة من التعارف الكائن في الدنيا، بخلافه إذا قُدر اللبث في الدنيا، وطوله في القبور، فإنه سبب للتناكر لا التعارف. قوله: (أي: يتعارفون قائلين ذلك): فعلى هذا يكون (قَدْ خَسِرَ) حالاً من فاعل (يَتَعَارَفُونَ)، و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) مظهر وضع موضع المضمر. وعلى أن يكون شهادة من الله تعالى تكون الجملة تذييلاً للكلام السابق، وفي (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) تعميم، وقوله: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) تتميم ومبالغة، ولهذا قال: "ما أخسرهم". قوله: (أنهم وُضعوا في تجارتهم)، الجوهري: "وُضع الرجل في تجارته وأوضع- على ما لم يسم فاعله فيهما- أي: خسر". قوله: (فذاك): أي: فذاك حق وصواب، أو ثابت وواقع في الدنيا، بدليل قوله: "فنحن نريكه في الآخرة". قوله: (الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى (ثُمَّ)؟ ): يعني: أن شهادة الله على

قلت: ذكرت الشهادة، والمراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبى عبلة: "ثم"، بالفتح، أي: هنالك، ويجوز أن يراد: أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم. [(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) 47]. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق، (فَإِذا جاءَ) هم (رَسُولُهُمْ) بالبينات فكذبوه، ولم يتبعوه، (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: بين النبي ومكذبيه، (بِالْقِسْطِ): بالعدل، فأنجى الرسول وعذب المكذبون، كقوله: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) [الزمر: 69]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخلق كونه رقيباً عليهم وحافظاً، وهذا المعنى لا يبرح في الدارين، وإيراد (ثُمَّ) يدل على حدوثه. وأجاب: أن المراد بالشهادة لازمها، لأن اطلاع الله على أفعالهم القبيحة مستلزم للعقاب، و (ثُمَّ) للتراخي في الرتبة، أو المراد بها إظهار الشهادة يوم القيامة بإنطاق الجوارح، و (ثُمَّ) على ظاهرها. قوله: (ويجوز أن يُراد): جواب آخر عن السؤال، و"الشهيدُ" على حقيقته، و (ثُمَّ) للتراخي في الزمان أيضاً. قوله: 0 (قْضِي بَيْنَهُمْ)): ويُروى بالواو، فعلى هذا لابد من تقدير جواب "إذا".

[(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) 48 - 49]. (مَتى هذَا الْوَعْدُ) استعجال لما وعدوا من العذاب استبعادا له، (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) من مرض أو فقر (وَلا نَفْعاً) من صحة أو غنى، (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) استثناء منقطع، أي: ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ ! (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) يعنى: أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان (إِذا جاءَ) ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا. وقرأ ابن سيرين: "فإذا جاء آجالهم". [(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) 50 - 52]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أجل مضروب عند الله، وحد محدود من الزمان): يعني: قوله: (فَلا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عبارة عن حد معين وزمان لا يتجاوز عنه الشخص ولا يتعداه، وقريب منه قول الحماسي: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم قال المرزوقي: "يقول: حبسني الهوى في الموضع الذي تستقرين فيه، فألزمه ولا أفارقه، وأنا معك مقيمة وظاعنة، لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك". وقال الجوهري: "أخرته فتأخرن واستأخر؛ مثل: تأخر".

(بَياتاً) نصب على الظرف، بمعنى: وقت بيات، فإن قلت: هلا قيل: ليلا أو نهاراً؟ قلت: لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات، فبيتكم وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت، والبيات: بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. وكذلك قوله: (نَهاراً) معناه: في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب، ونحوه: (بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) [الأعراف: 97]، (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف: 98]. الضمير في (مِنْهُ) للعذاب، والمعنى: أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأي شيء يستعجلون منه؟ وليس شيء منه يوجب الاستعجال! ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل: أي: شيء هول شديد يستعجلون منه؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجواب وارد على الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى، وأنه صلوات الله عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه، فطلبوا منه تعيين الوقت تهكماً وسخرية، فقيل في الجواب: هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود، وإذا كنت مقراً بأني مثلكم في أن لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمكم واستبعادهم، فقال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) الآية. قوله: (لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات): يعني: عدل عن ظاهر المقابلة، ولم يقل: ليلاً أو نهاراً، ليُعلم أن القصد منهما إلى الوقتين المختصين بالترفه والاشتغال بأمور المعاش، إذ لو قيل: ليلاً أو نهاراً، لم يكن كذلك، فهو مثل قوله تعالى: (بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ) [الأعراف: 97]، (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف: 98]، وهو من باب التتميم. قوله: (كأنه قيل: أي شيء هولٍ شديد): اعلم أن (ماذا) فيه وجهان: أن يكونا اسمين؛ بمعنى: ما الذي، وأن يكون اسماً واحداً؛ بمعنى: أي شيء، والمراد هنا هذا الثاني. قال أبو البقاء: "في (ماذا) مذهبان: أحدهما: "ما" استفهام، و"ذا" بمعنى "الذي"، وما بعده صلته، فتكون "ما" مبتدأ، والصلة والموصول خبر. والثاني: أن تجعل "ماذا" بمنزلة اسم واحد

ويجب أن تكون "من" للبيان في هذا الوجه. وقيل: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى. فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق بـ (أرأيتم)، لأنّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف، وهو: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للاستفهام". وهاهنا: " (ماذا) اسم واحد مبتدأ، و (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) الخبر، وقد ضُعف من حيث إن الخبر جملة، ولا ضمير فيه يعود إلى المبتدأ، وأجيب بأن العائد الهاء في (مِنْهُ)، فهو كقولك: زيد أخذت منه درهماً". تم كلامه. ثم التنكير في "شيء": إما للشيوع أو للنوع، فإن كان الأول: فالتقدير: أي فرد من أفراد هذا الجنس يستعجلون، و"من" في (مِنهُ) للتبعيض، وإليه الإشارة بقوله: "إن العذاب كله مر المذاق، فأي شيء يستعجلون منه؟ "، وإن كان الثاني: فـ"مِن" تجريدية، فيُنتزع من العذاب شيء يُقال في حقه: أي شيء هول شديد يستعجلون؟ فـ"الشيءُ" هو نفس العذاب، كما تقول: رأيت أسداً منك، ولهذا قال: "يجب أن تكون "مِن" للبيان في هذا الوجه". قوله: (وقيل: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى) قال الزجاج: "المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله عز وجل؟ والأجود أن يكون للعذاب؛ لقوله: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) ". وقلت: اتصاله بما قبله لايخرجه من ذكر العذاب، بل هذا أبلغ، لأن المراد: أي شيء يستعجل المجرمون من الله عز وجل؟ أي: هل تعرفون ما العذاب الذي المعذب به هو الله تعالى؟ ففيه تعجب وتعجيب.

فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه؟ قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فضلا أن يستعجله. ويجوز أن يكون (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة بـ (أرأيتم)، وأن يكون (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) جواب الشرط، و (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضاً. والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال): يعني: وضع المُظهر - وهو (الْمُجْرِمُونَ) - موضع الضمير؛ للإشعار بالعلية، وأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب. قوله: (ويجوز أن يكون (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جواباً للشرط): عطف على قوله: "وجواب الشرط محذوف". اعلم أن جواب الشرط إذا كان محذوفاً: فتقدير الكلام: أخبروني أي نوع من العذاب تستعجلونه، أو أي شيء عظيم تستعجلون منه، ثم قيل تقريراً للإنكار إن أتاكم أمارات ما تستعجلونه، ورأيتم هولها وشدتها، تعرفوا الخطأ فيه. ففي الكلام التفات، ووضع للظاهر موضع المضمر، ثم عطف قوله: (َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه) على الجزاء المحذوف، لبُعد ما بين المرتبتين، وأدخل همزة الإنكار بين المعطوف والمعطوف عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان الجواب: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ): فالتقدير: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، فأي نوع من العذاب تستعجلونه فتذوقونه. ونظيره قولك: إن أتيتك ماذا تطعمني، أي: أي شيء من المطعومات الشهية والمأكولات اللذيذة تُطعمني. وهذا لا يقال إلا فيما كان الإطعام مما لا مثل فيه، فيستفهم عن نوع ما يطعمه. وإن كان الجواب مايدل عليه قوله: (َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه): فالتقدير: "إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم" فدل هذا على أن الجواب (آمَنْتُمْ)، وهو مضمر على شريطة التفسير، وأن قوله: ((َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه) عطف عليه، لأن قوله: "بعد وقوعه حين لا ينفعكم" وُضع موضع "ثُمَّ" ومدخولها، فكأنه قيل: إن أتاكم عذابه آمنتم به، ثم آمنتم به حين لاينفعكم الإيمان. ثم أدخلت همزة الاستفهام بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، يدل عليه قوله: "دخول حرف الاستفهام على "ثُمَّ" كدخوله على الواو والفاء، في قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) [الأعراف: 97]، (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) [الأعراف: 98] "، وذكر هناك: "انهما معطوفان على قوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف: 95]، وأن الفاء والواو حرفاً عطف دخلت عليهما همزة الإنكار"، وقد سبق غير مرة بيان هذا الأسلوب، فلا يُقدر المعطوف عليه بعد الهمزة، كما يقال: إن أتاكم عذابه، فقال لكم: أكفرتم قبل إتيان العذاب، ثم إذا ما وقع آمنتم به، كما قيل، فإنه عن مقصود المصنف بمعزل. وهذا المقام من عويصات هذا الكتاب، قلما يخوض فيه إلا المرتاض في علمي المعاني والبيان.

ودخول حرف الاستفهام على "ثم"، كدخوله على الواو والفاء في قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف: 97]، (أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف: 98]. (آلْآنَ) على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، يعنى: وقد كنتم به تكذبون، لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار. وقرئ: "آلان"، بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام. (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على "قيل" المضمر قبل (آلآن). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: وقد كنتم به تكذبون): يريد: أن قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ)، يقتضي أن يُقال بعده: وقد كنتم به تكذبون، لا: تستعجلون، وإنما جاز وضعه في موضعه، لأن المراد الاستعجال السابق، وهو قوله: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، وكان هذا القول تهكماً منهم وتكذيباً واستبعاداً، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة، فتكون أبلغ من "تُكذبون". قوله: ("آلان" بحذف الهمزة التي بعد اللام): نحوه من .... الجوهري: "الآن: اسم للوقت الذي أنت فيه، وهو ظرف غير متمكن، وقع معرفة، ولم تدخل عليه الألف واللام للتعريف؛ لأنه ليس له ما يشره"، ونقل الزجاج عن الخليل: "أن الألف واللام إنما تدخل لعهد، و"الآن" لم يُعهده قبل هذا الوقت، فدخلت الألف واللام للإشارة إلى الوقت الحاضر، فلما تضمنت معنى هذا وجب أن تكون موقوفة، ففتحت لالتقاء الساكنين، وهما الألف واللام".

[(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) 53]. (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ): ويستخبرونك فيقولون: (أَحَقٌّ هُوَ)، وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء، وقرأ الأعمش: "آلحق هو"، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل؛ وذلك أنّ اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق؟ والضمير للعذاب الموعود، و (إِي) بمعنى: نعم، في القسم خاصة، كما كان "هل" بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة، وسمعتهم يقولون في التصديق: إيوَ، فيصلونه بواو القسم، ولا ينطقون به وحده (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ): بفائتين العذاب، وهو لا حق بكم لا محالة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو أدخل في الاستهزاء): وذلك أن المبتدأ والخبر إذا عُرفا، وكان أحد التعريفين باللام أفاد الانحصار، سواء كان تعريف عهد أو جنس، نحو: زيد المنطَلِق أو المنطلِقُ زيد. ثم إذا أريد تعريف جنس احتمل الانحصار حقيقة؛ نحو الله الخالق، وهو المراد بقوله: "أهو الحق لا الباطل"، وادعاء؛ نحو: حاتم الجواد، وهو المراد بقوله: "هو الذي سميتموه الحق"، وعلى التقديرين: هذا أبلغ في الاستهزاء من مجرد قولهم: (أَحَقٌّ هُوَ)، لأن معناه: ليس بحق، وليس فيه معنى التهكم المفيد للتعريض. قوله: (والضمير للعذاب): إشارة إلى اتصال الآية بقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، يعني: لما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجاب ما زادوا على التكذيب والاستبعاد سوى التهكم والإنكار، فدل على تماديهم في الطغيان والجحود. قوله: ("هل") بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة): قال في "المفصل": "إن "هل" بمعنى "قد"، إلا أنهم قد تركوا الألف بعدها"، وفي "الإقليد": "هل" ضعيفة في الاستفهام، ألا

[(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 54 - 56]. (ظَلَمَتْ) صفة لـ (نفس)؛ على: ولو أنّ لكل نفس ظالمة، (ما فِي الْأَرْضِ) أي: ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها، (لَافْتَدَتْ بِهِ): لجعلته فدية لها. يقال: فداه فافتدى، ويقال: افتداه أيضاً؛ بمعنى فداه، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدّة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة، ويبقى جامداً مبهوتاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تراها تجيء بمعنى "قد"، كقوله: "أهل رأونا"، فلو كان للاستفهام للزم الجمع بين حرفيه: الهمزة و"هل"، وهو ممتنع. قوله: (يثخنه ما دهمه)، الأساس: "أثخنه قوله: بلغ منه"، أي: كل مبلغ. قوله: (حتى لا ينبس بكلمة): المرزوقي: "يُقال: كلمته فما نبس، أي: لم يتكلم بحرف، وما سمعت للقوم نبسة".

وقيل: أسرّ رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وقيل: أسروها: أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سرّ الشيء؛ لخالصه، وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره: إذا أظهره. وليس هنالك تجلد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن إخفاءها إحلاصها): وذلك أن الندامة هي حصول الغم بسبب العثور على سوء الصنيع، فيُقال: ندم فُلان: إذا حصلت له هذه الحقيقة في القلب، وإذا قيل: أخفى الندامة، آذن بشدة تمكنها في القلب وإخلاصها عن شوائب ما ينافيها، ثم إذا خُوطب بها في مقام الانتقام والتوبيخ كان تهكماً بالمخاطب، أو يقال: أظهر الندامة: إذا أبدى أمارات حصولها في القلب، من انتكاس الرأس، وعض الأنامل، وتغير الكلام. وأخفى الندامة: إذا تجلد وكمنها في القلب حذار الشماتة، فتكون مخلصة بهذا الاعتبار، قال: وتجلدي للشامتين أربهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع مثله قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [الأنبياء: 3]، قال: "النجوى لا تكون إلا خفية، فقال: (وَأَسَرُّوا) للمبالغة"، كأنه قيل: واسروا السر. قوله: (وقيل: أسروا الندامة: أظهروها): عطف على قوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ)؛ لأن المراد من الأول: إخفاؤها، وكذلك قوله: "وقيل: أسر رؤساؤهم الندامة" عطف عليه باعتبار اختلاف الفاعل في "أسروا". الجوهري: "أسررت الشيء: كتمته وأعلنته أيضاً، وهو من الأضداد". قوله: (وليس هنالك تجلد): أي: أظهروه عجزاً وضعفاً، وفيه كناية.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: بين الظالمين والمظلومين، دل على ذلك ذكر الظلم. ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون. [(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) 57 - 58]. (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) أي: قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد؛ من موعظة وتنبيه على التوحيد، (و) َهو (شِفاءٌ) أي: دواء (لِما) فِي صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، (وَرَحْمَةٌ) لمن آمن به منكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم أتبع ذلك): معطوف على محذوف، أي: ذكر الله تعالى ما ذكر، ثم أتبع ذلك، وتلخيصه: أن قوله: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية، كالتذييل لما سبق من الوعد وتحقيق إنجازه، يجري مجرى التعليل، يعني: تفهموا أني أنا المالك على الإطلاق فيبعد مني أن لا أفي بوعدي، وأنا القادر على الإحياء والإماتة، وأن الرجوع إليَّ، فكيف أخلف وعدي؟ ! قوله: (جامع لهذه الفوائد؛ من موعظة وتنبيه على التوحيد .. ، ودُعاءٍ إلى الحق): إلى هنا مناسب لقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) [يونس: 25]، وقوله: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) مناسب لقوله: (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس: 25]، ولهذا قال: "ورحمة لمن آمن به منكم"، فقوله: "دعاء" يُقرأ بالجر عطفاً على "موعظة"، وكذا "رحمة". وإنما فسر (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) بقوله: "وتنبيه على التوحيد"؛ لأن المراد بالشفاء بالقرآن، وهو بنفسه لا يرفع العقائد الفاسدة، بل بما فيه من التنبيهات والآيات الدالة على التوحيد والحجج المزيلة للشك والريب، فقوله: "هو شفاء" إشارة على التنبيه على التوحيد.

أصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "قد جاءكم كتاب جامع للحِكَم العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها، والمرغبة في المحاسن، والزاجرة عن القبائح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين حيث أنزل عليهم، فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان". قوله: (ودعاء إلى الحق): تفسير لقوله: (وَهُدًى)، وهو محمول على أن الهدى: مجرد الدلالة؛ ليكون عاماً في جميع الخلق، يدل عليه قوله: "ورحمة لمن آمن منكم"، لأنه خصها بهم. ويمكن أن يحمل على الدلالة الموصلة إلى البغية، فيختص بالمؤمنين، كقوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2]، اختصاص الرحمة بهم لما سبق أن قوله: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) على وزان (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) في تلك الآية، وتكون الإشارة بقوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) إليهما، أي: إلى الهدى والرحمة؛ وضعاً للمظهرين موضع ضميريهما، لأنه خطاب للمؤمنين، بدلالة قوله: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). قوله: (والتكرير للتأكيد): يعني: إذا جُعلت من باب الحذف على شريطة التفسير كان توكيداً مع التخصيص للتكرير والتقديم، كقوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت: 56]، فالفاء في (فَلْيَفْرَحُوا)، جواب للشرط، كالفاء في (فَاعْبُدُونِ)، فتكون الفاء في (فَبِذَلِكَ) زائدة كما نص عليه المالكي في كتاب "الشواهد"، ومن ثم قدر المصنف في أصل الكلام ثلاث فاءات؛ فالأولى لربط الكلام بما قبله، والثالثة جواب للشرط، فالثانية زائدة.

والتقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإيجاب اختصاصهما بالفرح): فإن قلت: كيف قال: "اختصاصهما بالفرح"، والواجب أن يُقال: "إيجاب اختصاص الفرح بهما"، فإن تقديم قوله: (فَبِذَلِكَ) على الفعل يفيد ذلك، كأنه قيل: افرحوا بهما لا بغيرهما؟ والجواب: إذا اختص الفرح بهما فقد اختصا بالفرح مبالغة، ويجوز أن يكون من باب القلب. قوله: (لا مفروح به): "به" متعلق بـ"مفروح"، وخبره "أحق منهما"، وكان من حقه أن يكون منصوباً، كما ذكره في "المفصل"، لأنه مشابه للمضاف، وهو ما يتعلق به شيء من تمامه معناهن لا على جهة الإضافة، نحو: لا خيراً من زيد عندنا. قوله: (ويجوز أن يُراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا): وقرينة الحذف صورة التركيب، وتقديم الجار والمجرور دال على الاعتناء بشأنهما، كقوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت: 56]، فإنه في تأويل: فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخصوها في غيرها، دل على تقدير الإخلاص تقديم المفعول المؤذن بالاختصاص، أو دل على تقدير "فليعتنوا" قوله: (فَلْيَفْرَحُوا)، لأن الفرح معنى بشأنه، مثل قولك: زيداً ضربت غلامه، أي: أهنت زيداً ضربت غلامه.

ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك - فبمجيئها - فليفرحوا. وقرئ: "فليفرحوا" بالتاء، وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه، و"لتأخذوا مضاجعكم"، قالها في بعض الغزوات. وفي قراءة أبي: "فافرحوا". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: "الفاء الأولى مرتبطة بما قبلها، والثانية بفعل محذوف، أي: فليعجبوا بذلك فليفرحوا، كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمد زيداً فاضربه". قوله: (فبذلك- فبمجيئها-فليفرحوا): قال القاضي: "فالباء على هذا متعلقة بفعل دل عليه (قَدْ جَاءَتْكُمْ)، وذلك إشارة إلى مصدرهن والفاء بمعنى الشرط، أنه قيل: إن فرحوا بشيء فبمجيئهما ليفرحوا، أو للربط بما قبلها، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح، وتكريرها للتأكيد". هذا الوجه أوفق لملائمة الكلام. قوله: ("فلتفرحوا" بالتاء، وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم): وروينا عن أبي داود عن أبي بن كعب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) - بالتاء الفوقانية-". قال المصنف: كأن النبي صلى الله عليه وسلم آثر القراءة بالأصل، لأنه أدل على الأمر بالفرح، وأشد

(هُوَ) راجع إلى "ذلك"، وقرئ: (مما تجمعون) بالياء والتاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تصريحاً به، إيذاناً بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به، ليطابق التكرير والتقرير، وتضمين الكلام معنى الشرط لذلك. ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحاً: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)، من تقديم الظرف اللغوِ ليكون الغرض اختصاص التوحيد. وقال ابن جني: "قراءة (فَلْتَفْرَحُوا) - بالتاء- خرجت على أصلها، وذلك أن أصل الأمر أن يكون بحرفه، وهو اللام، فأصل "اضرب": لتضرب، كما هو للغائب، لكن لما كثر أمر الحاضر حذفوه، كما حذفوا حرف المضارعة تخفيفاً، وإنما القوا في الأكثر الهمزة لئلا يقع الابتداء بالساكن، ولم يحذفوا من أمر الغائب لأنه لم يكثر كثرته، ولهذا لم يؤمر الغائب بنحو: صه، ومهن وحيهل، والذي حسن التاء هاهنا على الأصل أنه أمر للحاضرين بالفرح، لأن النفس تقبل الفرح، فذهب به إلى قوة الخطاب فاعرفه، ولا تقل قياساً على ذلك: فبذلك فلتحزنوا، لأن الحزن لا تقبله النفس قبول الفرح، إلا أن تريد صغارهم وإرغامهم. وقلت: هذا معنى قول المصنف في الحاشية: "لأنه أدل على الأمر بالفرح". قوله: (وقرئ: (مِمَّا يَجْمَعُونَ) بالياء والتاء): ابن عامر: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.

وعن أبي بن كعب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ)، فقال: "بكتاب الله والإسلام"، وقيل فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه. [(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ 59 - 60]. (أَرَأَيْتُمْ): أخبروني، و (ما أَنْزَلَ اللَّهُ): (ما) في موضع النصب بـ (أنزل)، أو بـ (أرأيتم)، في معنى: أخبرونيه، (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا) أي: أنزله الله رزقا حلالا كله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فضله: الإسلام، ورحمته: ما وعد عليه): فيه اعتزال خفي؛ لأن ما عد على الإسلام، وهو الثواب، فينبغي أن لا يكون فضلاً. قوله: ((مَا) في موضع النصب بـ (أنزَلَ)): هذا على أن تكون (مَا) استفهامية، لدلالة الكلام على الإنكار، أي: أي شيء أنزل الله من رزق فبعضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام؟ والمنكر: إنزال ما هو سبب لتجزئتهم الرزق، أي: ليس لأحد أن يُحرم أو يُحل شيئاً من رزق الله تعالى، لأن ذلك مختص بالله عز وجل. وعلى أن تكون متعلقة بالاستخبار تكون موصولة، ومن ثم قال: "أخبرونيه". قوله: (أي: أنزله الله رزقاً حلالاً كله): قال القاضي: " (لكُمْ) دل على أن المراد منه ما حل، ولذل وبخ على التبعيض".

فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، وكقولهم: (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام: 138]، (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام: 139]. (ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بـ (أرأيتم)، و (قل): تكرير للتوكيد، والمعنى: أخبروني: الله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه؟ ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، و (أم) منقطعة، بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بـ (أَرَءَيْتُمْ): أي: مفعوله على تأويل ما يُجاب عنه، ومن ثم قدر: "أخبروني: الله أذن لكم"، ويؤيده ما ذكر في الأنعام في قوله: (قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ) [الأنعام: 40]: "مُتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة، من تدعون؟ ". قوله: (ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، و (أمْ) منقطعة): فالمعنى: أنه تعالى لما استخبر بقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً) على سبيل التقرير، أنكر عليهم أن يكون ذلك مما يأذن الله به، بقوله: (اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ)، ثم أضرب عنه بقوله (أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) تقريراً للافتراء. وعُلم منه أن الهمزة- على الأول- للاستخبار، و (أمْ) متصلة، قال القاضي "ويجوز أن تكون متصلة بـ ((أَرَءَيْتُمْ)، و (قُلْ) مكرر للتأكيد". وقيل: لا يجوز أن تكون (أمْ) متصلة، لأنه يصير المعنى: أي الأمرين واقع؛ الإذن منه أم الافتراء؟ وهو وهم، لأن الاستخبار بقوله: "أخبروني"، وهو عالم بأنه ما أذن الله لهم، وأنهم مفترون؛ للوعيد وطلب الإقرار منهم على الكذب والافتراء وإلزام الحجة.

وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء: جائز أو غير جائز؛ إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) منصوب بالظنّ، وهو ظنّ واقع فيه، يعنى: أي: شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه؟ وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى بن عمر: "وما ظنّ"، على لفظ الفعل. ومعناه: وأي ظنّ ظنوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان. (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي، وتعليم الحلال والحرام، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة، ولا يتبعون ما هدوا إليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن التجوز): أي: التساهل والتسامح، وفي الحديث: "كان من خلقه الجواز"، ذكره في "النهاية". قوله: (ما يُصنع بهم): قيل: "ما" موصولة، وهي مفعول به لـ "ظن المفترين"، فحذف للإبهام، وإليه الإشارة بقوله: "أبهم أمره". قوله: (حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي): وقلت: سياق الكلام في الوحي، لأنه تعالى لما عم الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) [يونس: 57]، وفيهم المؤمن والافر، ومن عليهم بإنزال الكتاب الجامع لتلك الصفات، أمر

[(وَما تَكُونُ فِي شَأنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) 61]. (وَما تَكُونُ فِي شَانٍ): "ما" نافية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن: الأمر، وأصله الهمز بمعنى: القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في (مِنْهُ) للشأن، لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، أو لله عزّ وجل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حبيبه بأن يخاطب كلا من الفريقين بما يناسب حاله، قال في حق المؤمنين: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) الآية [يونس: 58]، أي: هذا الهدى والرحمة، وقال في حق الكافرين: (قُلْ أَرَءَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ) الآيتين، يعني: لكم هذه الموعظة والدواء لما في الصدور من العقائد الفاسدة وظن الافتراء، بل الامتنان بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، حيث أنعم عليهم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال. ثم وعد حبيبه صلوات الله عليه على تبليغه، وبشارته، ونذارته للفريقين، ومواظبتهن ومواظبة أمته لتلاوته، بما لا يدخل تحت الوصف، حيث قال: (وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) [يونس: 61]، وعلى هذا الضمير في (مِنهُ) للتنزيل، ولايلزم الإضمار قبل الذكر، كما سيجيء في كلامه. قوله: (أو لله عز وجل): أي: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى، و"مِن" الأولى: ابتدائية، والثانية: مزيدة، وعلى أن يكون الضمير للشأن: الأولى: تبعيض، والثانية: بيان؛ على تقدير: وما تفعل

وما (تَعْمَلُونَ) أنتم جميعاً (مِنْ عَمَلٍ) أيّ عمل كان، (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً): شاهدين رقباء نحصي عليكم، (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) من: أفاض في الأمر: إذا اندفع فيه. (وَما يَعْزُبُ) قرئ بالضم والكسر: وما يبعد وما يغيب، ومنه: الروض العازب، (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) القراءة بالنصب والرفع، والوجه: النصب على نفى الجنس، والرفع على الابتداء، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من هذه الشؤون التلاوة، وعلى أن يكون الضمير للتنزيل: الأولى: ابتداء، والثانية: بيان أبو البقاء: " (مِن) الثانية: مزيدة، والضمير في (مِنْهُ) للشأن، أي: من أجله". قوله: (القراءة بالنصب والرفع): حمزة: برفع الراء في "أصغر" و"أكبر"، والباقون: بفتحهما. قوله: (والوجه: النصب على نفي الجنس): قيل: فيه نظر؛ لأنه لو كان اسماً لـ "لا" التي لنفي الجنس لكان الواجب النصب، لأنه مضارع للمضاف، على نحو: لا خيراً منه قائم، ولم يذكر أحد إلا الفتح، قال الزجاج هاهنا وفي سبأ: "إنه في موضع خفض، إلا أنه فُتح لأنه لا ينصرف". وقال القاضي: " (وَلا أَصْغَرَ) إلى آخره: كلام برأسه مقرر لما قبله،

ليكون كلاما برأسه، وفي العطف على محل (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (لا) نافية، و (أصغَرَ) اسمها، و (مِن) عطف على لفظ (مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)، وجُعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف". قوله: (وفي العطف على محل (مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ)، يعني: إذا قرئ "أصغر" مرفوعاً عطفاً على محل (مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) أو على لفظ (مِثْقَالِ ذَرَّةٍ)، فتحاً في موضع الجر، لأن (أَصْغَرَ) و (أَكْبَرْ) لا ينصرفان؛ للزوم الصفة ووزن الفعل، (إشكال) لما يؤدي على التقديرين، إلا أن يُقال: لا يعزُبُ عنه شيء إلا في كتاب، تقريره: هو أن الكتاب المبين: إما اللوح المحفوظ أو علمه، كما فسره في الأنعام، فعلى الأول: لا يعزب عنه شيء قط إلا ما في اللوح، فإنه يعزب عنه، وعلى الثاني: لا يعزب عن ذاته شيء إلا ما في علمه، فإنه يعزب، وهو مشكل. ولك أن تقول: إذا جُعل الاستثناء من باب قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى) [الدخان: 56] لا يبقى الإشكال، المعنى: لا يبعد عنه شيء قط، لا الصغير ولا الكبير، إلا ما في اللوح أو في علمه، إن عُد ذلك من العزوب فهو العزوب، ومعلوم أنه ليس من العزوب قطعاً، فإذن لا يعزب عنه شيء قط. وفي "الكواشي" معنى "لا يعزب": لا يبين ولا يصدر، أي: لم يصدر عن الله شيء بعد خلقه له إلا وهو في اللوح، أو الاستثناء منقطع، المعنى: لا يعزب عن ربك شيء، لكن جميع الأشياء ثابت في كتاب مبين.

أو على لفظ: (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف: إشكال، لأنّ قولك "لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب" مشكل. فإن قلت: لم قدّمت "الأرض" على "السماء"، بخلاف قوله في سورة سبأ: (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (سبأ: 3)؟ قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله: "لا يَعْزُبُ عَنْهُ"، لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن الراغب: "العازب: المتباعد في طلب الكلأ عن أهله، يُقال: رجل عزب، وامرأة عزبة، وعزب عنه حلمه". قوله: (لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم) إلى قوله: (لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء) يريد: أن في الآية الترقي من الأهون إلى الأغلظ، وأن الكلام في أعمال العباد، وذلك أن سياق الكلام من ابتداء قوله: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس: 41] إلى هاهنا، في تقبيح أعمال الكفرة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلا من مقاساة القوم وطعنهم في الدين، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا: (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس: 65]، وكان الاهتمام بشمول العلم والإحاطة التامة ليترتب عليه الوعد والوعيد بجزاء الأعمال، أوجب الترقي من الأهون إلى الأغلظ. ألا ترى كيف بدأ الخطاب مع حبيبه بخاصة نفسه، وقال: (وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)، ثم ثنى بما هو أعم خطاباً ومعلوماً، وقال: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ)، ثم رجع إلى

على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية. [(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 62 - 64]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خطاب نفسه وعم المعلومات بأسرها مسلياً له، ولذلك خص لفظ "الرب"، فكما رُوعي الترقي في ذلك ناسب أن يُراعي في الأرض والسماء، لأن الكلام في الأعمال. ومن ثم لما أجرى الكلام في سبأ لإثبات مُطلق الحمد لله تعالى، أجرى ذكر السماء والأرض على الظاهر، ولما قيد المد في الآخرة في قوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ) [سبأ: 1] قدم الأرض في قوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ) [سبأ: 2] على خلاف الظاهر، لأن الحمد في الآخرة مسبوق بوجود الأعمال الصالحة للحامد، (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10]، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 34] ن ولما رد على منكر الحشر في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَاتِينَا السَّاعَةُ) [سبأ: 3]، بقوله: (ُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ) [سبأ: 3] إلى آخر الآيات، عاد إلى الظاهر؛ لأن المراد من إثبات العلم الشامل مجرد التهديد والوعيد. قوله: (حُكمه حكم التثنية): وذلك أن قولك: جاءني زيدٌ وزيد، وقولك: جاءني الزيدان، سواء، كما أن التثنية تُفيد الجمعية، فكذلك العطف.

(أَوْلِياءَ اللَّهِ): الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) فهو توليهم إياه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة): بيان لوجه نسبة الولايتين في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ) ولاية الله وولاية العبد؛ لأنه من الأمور النسبية، فاعتبر الولاية من جانب العبد بالطاعة، ومن جانب الله بالكرامة، وجعل القدر المشترك بينهما التولي؛ فراراً من تفسير الولاية بالمحبة الحقيقية، كما في قوله تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة: 54]. فإذا حُمل الولي على المحب أمن من التكلف الذي ذكره، ويكون قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) صفة واردة على المدح بتقدير: اذكر، أو: هُم، لا الكشف كما قال، يسلم من الفصل بين الصفة الموصوف بالخبر، وليثبت لهم بها ما يناسبها من البشارة في الدارين، كما نُفي عنهم عند ذكر الولاية خوف الأجل وحزن العاجل، كأنه قيل: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم في الآجل، ولا هم يحزنون في العاجل؛ لون الله ولياً لهم، وهم أولياء الله، ولهم البشرى في الدنيا والآخرة؛ لكونهم موصوفين بالإيمان والتقوى. فينطبق على هذا التفسير الحديث النبوي على ما أورده الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عمرو بن الجموح: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله: "أوليائي من عبادي، وأحبائي من خلقي: الذين يذكرون بذكري، وأذكر بذكرهم"، فإنه صُرح فيه بذكر المحبة، ولم يُذكر فيه ما ذكره: "يُذكر الله برؤيتهم"؛ ليُحتاج إلى تفسيره بالسمت الهيئة، وأن يُقال: من نظر إلى سيماهم رأى أثر طاعتهم إياي فيذكرني.

(لهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: "من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم"، يعنى: السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله. وعن عمر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ لمكانهم من الله" قالوا: يا رسول الله، خبرنا من هم، وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه: "فينظرون إلى سمته وهديه": أي: حُسن هيئته ومنظره في الدين، وليس من الحسن والجمال، وقيل: هو من السمت: الطريق، يُقال: الزم هذا السمت". قوله: (الإخبات والسكينة)، النهاية: "في الدعاء: "اجعلني لك مخبتاً"، أي: خاشعاً مطيعاً، والإخبات: التواضع والخشوع، وأصله من الخبت: المطمئن من الأرض". قوله: (وعن عمر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم) الحديث: رواه أبو داود مع تغيير يسير. فإن قلت: ظاهر الحديث يوهم فضلهم على من يغبطهم؟ والجواب: أن هذه الحالة قبل دخول الجنة حين يتجلى الله بعظمته على أهل العرصات، يدل عليه: "لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".

ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس"، ثم قرأ الآية. (الَّذِينَ آمَنُوا) نصب أو رفع؛ على المدح أو على وصف الأولياء، أو على الابتداء والخبر: (لهم البشرى). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما روينا عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: المتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور، يغبطهم أهل الجمع". أخرجه رزين. وعن مسلم ومالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"، فإذا الأنباء والشهداء مشتغلون بما يهمهم من أمر الشفاعة والأمة. ولا يبعد أن يكون قد خصهم وحدهم في هذه الحالة بتلك الكرامة، ولا يلزم منه فضلهم على أولئك في غيرها من الكرامات، وفي سائر الحالات والأوقات. النهاية: "الغبط: حسد خاص، يقال: غبطت الرجل أغبطه غبطاً: إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله، وأن يدوم عليه ما هو له. والحسد: إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ما له، وأن يزول عنه ما هو فيه". قوله: (نصب أو رفع) فالنصب: إما بتقدير: أعني، أو على الوصف. والرفع: إما بتقدير: هم، أو على الابتداء، والخبر: (لَهُمُ)، ففيه لفٌ ونشر.

والبشرى في الدنيا: ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم "هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له"، وعنه عليه الصلاة والسلام: "ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات". وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن، وعن أبى ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله، ويحبه الناس، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"، وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت؛ تأتيهم الملائكة بالرحمة، قال الله تعالى: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) [فصلت: 30]، وأمّا البشرى في الآخرة: فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وغير ذلك من البشارات. (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ): لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده، كقوله: : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) [ق: 29]، و (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له) الحديث: أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي عن أبي الدرداء. قوله: (وكلتا الجملتين اعتراض): أما الأولى: فهو قوله: (لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، إذ معناه: لا إخلاف لمواعيده، فيكون مؤكداً لمعنى الوعد في قوله: (لَهُمْ الْبُشْرَى). وأما الثانية: فهي قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، إذ معناه: أن البشارة في الدارين هو الفوز العظيم، فيكون مؤكداً لهذا المعنى، ولو جُعلت الأولى معترضة، والثانية تذييلاً للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لها: كان أحسن.

[(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 65]. (وَلا يَحْزُنْكَ) وقرئ: "ولا يحزنك"؛ من: أحزنه، (قَوْلُهُمْ): تكذيبهم لك، وتهديدهم، وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك، (إِنَّ الْعِزَّةَ) ِ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: مالي لا أحزن؟ فقيل، إنّ العزة لله جميعاً، أي: إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر: 51]. وقرأ أبو حيوة: "أن العزة"، بالفتح بمعنى: لأن العزة؛ على صريح التعليل، ومن جعله بدلا من (قولهم) ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به. (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): يسمع ما يقولون، ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه، وهو مكافئهم بذلك. [(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) 66]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن جعله بدلاً من (قولهم)): قيل: هو قتيبة بن مسلم؛ جعل "أن العزة"- بفتح "أن" - بدلاً من قوله تعالى: (قولهم)، ثم أنكره بأن قال: "هذا يؤدي إلى أن يُقال: فلا يحزنك أن العزة لله جميعاً، وهو فاسد"، فالمنكر تخرجيه حيث جعله بدلاً، ولم يجعله تعليلاً على حذف حرف العلة، كما قررناه، وحين جعله بدلاً لم يجعله من قبيل قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ... ) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) [القصص: 86 و 89]، ومثله في سورة يس، فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير.

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ): يعنى العقلاء المميزين، وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم، ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى، ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكا، وليدلّ على أنّ من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسي، فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى: وما يتبعون شركاء، أي: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظن) أنها شركاء، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلا. ويجوز أن يكون (وَما يَتَّبِعُ) في معنى الاستفهام، يعنى: وأي شيء يتبعون، (وشُرَكاءَ) نصب علي هذا بـ (يدعون)، وعلى الأوّل بـ (يتبع)، وكان حقه: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان حقه): أي: على التقدير الأول، لأنه لابد لقوله: (يَدْعُونَ) من مفعول، فإذا كان (شُرَكَاءَ) مفعولاً لقوله: (وَمَا يَتَّبِعُ) فيقدر له أيضاً آخر مثله، المعنى على هذا: من في السماوات ومن في الأرض مملو لله ومختص به، لا شركي له فيهما أحد، وهؤلاء ما يتبعون شركاء، وإن سموه شركاء. والمعنى على الثاني: كل من في السماوات ومن في الأرض من الملائكة والثقلين مملوكون له، أي شيء هذا الذي يتبعه هؤلاء الذين يدعونه شركاء من دون الله؟ أي: ما مقداره؟ يعني: ما يتبعونه ليس بشيء.

ويجوز أن تكون "ما" موصولة معطوفة على (من)، كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهم. وقرأ على بن أبى طالب رضي الله عنه: "تدعون"، بالتاء، ووجهه: أن يحمل (وَما يَتَّبِعُ) على الاستفهام، أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعنى: أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [الإسراء: 57]. ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبيون من الحق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى على الموصولة: لله من في السماوات ومن في الأرض، وله شركاؤهم، أي: ملكه ومملوكه وتحت قهره. والمعنى على قراءة علي رضي الله عنه: أي شيء الذي يتبعه الملائكة والمسيح وعزير؟ هل تعرفونه؟ وهو الله عز وجل، فما لكم لا تتبعونهم وتعبدونه؟ ! فيكون إلزاماً بعد برهان. قوله: (ثم صرف الكلام عن الخطاب): أي: في قراءة علي رضي الله عنه: "الذين تدعون"، إلى الغيبة في قوله: "إن يتبع هؤلاء"؛ نعياً عليهم سوء صنيعهم إلى غيرهم، فيكون "ثم صرف" عطفاً على "أي شيء" من حيث المعنى، أي: قال الله تعالى مخاطباً: أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء، ثم صرف الكلام إلى الغيبة، وقوله بعد ذلك: "ثم نبه على عظيم قدرته" عطف على قوله: "إنما خصهم" من حيث المعنى أيضاً، أي: إنما نبه المشركين خطابهم بحرف التنبيه في قوله: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ)، رخص العقلاء بالذكر لتلك النكتة، ثم بعد ذلك نبههم بقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) [يونس: 67]؛ ليؤذن بأن من يكون موصوفاً بهذه الصفات يستحق أن لا يُشرك به شيء.

[(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) 67]. ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم، (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع معتبر مدّكر. [(قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) 68]. (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء، (هُوَ الْغَنِيُّ) علة لنفى الولد، لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له: السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفيا. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا، (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا): ما عندكم من حجة بهذا القول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يبصرون فيه): إشارة إلى أن الإسناد في قوله: (مُبْصِراً) مجاز، أي: أسنده إلى النهار مبالغة في إبصارهم الأشياء فيه، كقولك: نهاره صائم. قوله: (لأن ما يطلب به الولد من يلدن وما يطلبه له): يعني: الذي يطلب الوالد باستعانته الولد- وهو الزوجة-، والذي يطلب الوالد لأجله الولد- وهو أن يكون ظهيراً له في حياته، وخلفاً بعد مماته-: السبب في كل ذلك الحاجة، والله سبحانه وتعالى هو الغني عن الحاجة. هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 101]، وقد أشبعنا القول فيه.

والباء حقها أن تتعلق بقوله: (إِنْ عِنْدَكُمْ) على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك: ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله؛ فذاك جهل وليس يعلم. [(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) 69 - 70]. (يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بإضافة الولد إليه (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي: افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رئاستهم في الكفر ومناصبتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده. [(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) 71 - 73]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)): قيل: قوله: (سُلْطَانٍ) مبتدأ، و (إنْ) نافية، و (مِن) زائدة، و (عِنْدَكُمْ) الخبر، و (بِهَذَا) حال من الضمير في الظرف العائد إلى (سُلْطَانٍ)، كأنه قيل: ما عندكم حجة حاصلة أو واقعة في هذا القول مكاناً ومحلاً للسلطان. وهو متعسف؛ لأنه يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومعموله بأجنبي، والأولى أن يُقال: (مِن سُلْطَانٍ) فاعل الظرف، لأنه اعتمد على النفي، و (بِهَذَا) ظرف، والباء بمعنى "في"، أي: ما حصل عندكم في هذا سلطان، قال أبو البقاء: " (إنْ) هاهنا بمعنى "ما" لا غير". قوله: (ومناصبتهم النبي بالتظاهر به): أي: معاداته صلى الله عليه وسلم بسبب التعاون بالافتراء.

(كَبُرَ عَلَيْكُمْ): عظم عليكم وشق وثقل، ومنها قوله تعالى: (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة: 45]، ويقال: تعاظمه الأمر، (مَقامِي): مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل، ومنه: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [الرحمن: 46]، بمعنى: خاف ربه، أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالا؛ ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو: مقامي وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً، وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه: أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) من: أجمع الأمر وأزمعه: إذا نواه وعزم عليه، قال: هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفلان ثقيل الظل): كناية عن بعده عن القلوب، وتنافر النفوس عنه، يعني: إذا كان الظل الذي هو أخف الأشياء على الأرض ثقيلاً منه، فكيف بنفسه وطلله، وكل الأمثلة من باب الكناية الإيمائية. قوله: (أو قيامي ومُكثي): يعني: المراد من قوله: (مَقَامِي): إما المكان أو المصدر، فإن كان الأول فيكون كناية عن النفس كما مر، وإن كان الثاني: فإما أن يكون المراد المكث والسكون مجازاً، فقوله: "ومكثي" عطف تفسيري لـ"قيامي"، وإما أن يراد به حقيقة القيام، فهو المراد من قوله: "لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا". قوله: (هل أغدون يوماً وأمري مجمع): أوله: يا ليت شعري والمنى لا تنفع

والواو بمعنى "مع" يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: "وشركاؤكم" بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل؛ لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيداً وعمرو. وقرئ: "فاجمعوا" من الجمع، و"شركاءكم"؛ نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى "مع"، وفي قراءة أبىّ: "فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم". فإن قلت: كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) [الأعراف: 195]. فإن قلت: ما معنى الأمرين؛ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل: فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي، واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي، وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته، وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما: أن يراد مصاحبتهم له، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("فاجمعوا"؛ من الجمع): يمكن أن يكون المراد: فاجمعوا ذوي الأمر منكم، أي: رؤساءكم ووجوهكم، كما قال تعالى: (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، ويجوز أن يكون المراد بالأمر: ما كانوا يجمعونه من كيدهم، كقوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً) [طه: 64]. زعم أبو الحسن: أن وصل الألف في (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) أكثر في كلامهم، وإنما يقطعون الألف إذا قالوا: على كذا وكذا.

وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى: ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة، وحالكم عليكم غمة، أي، غما وهما، والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة: السترة؛ من غمه: إذا ستره. ومنها قوله عليه السلام: "ولا غمة في فرائض الله" أي: لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم، ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به. (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذلك الأمر الذي تريدون بى، أي: أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه، كقوله: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أو: أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي، كما يقضى الرجل غريمه، (وَلا تُنْظِرُونِ): ولا تمهلوني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والغم والغمة كالكرب والكربة)، الراغب: "الغم: ستر الشيء، ومنه الغمام؛ لكونه سائراً لضوء الشمس والقمر، والغمي مثله، ومنه: غُم الهلال، ويوم غمُّن وليلة غمة وغُمي، وغمة الأمر، قال الله تعالى: (لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)، أي: كربة، يُقال: غم وغمة؛ نحو: كرب وكربة، وناصية غماء: تستر الوجه". قوله: (أن يُراد به ما أريد بالأمر الأول): وهو ما تريدون من إهلاكي وبذل الوُسع في كيدي، أي: لا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم، لكن مكشوفاً، فـ (ثُمَّ) على هذا للتراخي في الرتبة، فإن المراد بالأمر الأول: القصد إلى إهلاكه مطلقاً، وبالثاني: ذلك القصد مع قيد كونه مزيلاً للغمة والكرب، ففي الكلام ترق من الأدنى إلى الأغلظ، ومثله قول الحماسي: ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها قوله: (أو: أدوا إليَّ ما هو حق عليكم): يريد: أن قوله: (ثُمَّ اقْضُوا) مضمن معنى

وقرئ: "ثم أفضوا إلىّ"، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل: هو من: أفضى الرجل: إذا خرج إلى الفضاء، أي: أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ): فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي، (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ): فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي: ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالي، لا لغرض من أغراض الدنيا، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا، ولا يطلبون به دنيا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأداء، ثم القضاء: إما بمعنى قطع الحكم وبته وتصحيحه، واستشهد له بقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ)، قال: " (قضى) عُدي بـ "إلى"، لأنه ضُمن معنى "أوحينا"، كأنه قيل: أوحينا إليك مقضياً مبتوتاً"، وإما بمعنى قضاء الدين، والمعنى: أدوا إليَّ ما هو حق عليكم عندكم، أي: في معتقدكم، فعلى هذا فيه استعارة، ولهذا قال: "كما يقضي الرجلُ غريمه"، فكأنه كان في معتقدهم أن إهلاك نوح كالحق الثابت للرجل على غريمه، فلابد من استيفائه. قوله: (فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي): إنما أعاد ذكر "تذكيري" ليؤذن أن هذا الشرط مرتبط بالشرط الأول، وأن المعنى: إن توليتم لأنكم ضجرتم عنين وشق عليكم طول مقامي وتذكيري، فابذلوا وسعكم في هلاكي وإبطال كيدي، ليظهر لكم أني ما أريد بذاك إلا نُصحكم وهدايتكم، وإن توليتم، لا أني طامع في أموالكم، وأطلب منكم أجر الموعظة، فاعلموا وأيقنوا أني ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا. وهذا يُنبئ أن نوحاً ما أتى بهذا النوع من الكلام إلا بعد مراجعات طويلة وإلزامهم الحجة، كما قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود: 32]، وأنه بذل وُسعهُ في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التذكير والنصح وإبلاغ ما يجب عليه أن يبلغه، وأن القوم بلغوا الغاية في العناد، وإليه الإشارة بقوله: "فذكر أن توليهم لم يكن عن تفريط منه". فإن قلت: لم خص المقام الأول بالتوكل، والثاني بالإسلام؟ فنقول- على لسان العارفين، والعلم عند الله تعالى-: إن مقام التسليم فوق مقام التوكل- وسيأتيك تصديقه في قوله تعالى: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) بُعيد هذا-، ولأن التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه، والتعويل على وكالته، ومن ثم جعل الله تعالى قوله: (فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) مقدمة للجزاء، وهو قوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) وبالغ فيه غاية المبالغة. وقال المصنف: "إنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته، وثقته بما وعده ربه من كلاءته"، والتسليم وترك الأسباب التي تُزاحم العقول والأوهام. ومن ثم ذيل قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)، لقوله: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ). قال العارف أبو [إسماعيل] عبد الله الأنصاري: "التوكل أصعب المنازل، والتسليم أعلى الدرجات"، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: "التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. والتوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم - لقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131]-، والتفويض صفة نبينا محمد"، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، والله أعلم.

يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم، ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير. (فَكَذَّبُوهُ): فتموا على تكذيبه، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يخلفون الهالكين بالغرق، (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له. [(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) 74]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به): يريد: أن قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) جملة مذيلة للكلام السابق مقررة لمضمون معناه، وإلى التقرير والتأكيد الإشارة بقوله: "المراد أن يجعل الحجة لازمة لهم، ويبرئ ساحته". وفيه أن من دعا الناس إلى هداية أو علمهم من علوم الدين شيئاً، وأخذ عليه الأجرة، خرج من جملة الورثة. قوله: ((فَكَذَّبُوهُ) فتموا على تكذيبه): يعني: أن في تعقيب (فَكَذَّبُوهُ) بما سبق إشعاراً بتجدد التكذيب، وليس به، بل المراد التعاقب والاستمرار؛ لأن قول نوح عليه السلام: (إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) لم يكن إلا عن تكذيب سابق منهم، يعني: كذبوه ابتداء، ثم بعد التذكير والنصح لم ينزلوا عن عادتهم من التكذيب، بل استمروا عليه، مثله في "القمر": (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) [القمر: 9]، "أي: كذبوه تكذيباً عقيب تكذيب".

(مِنْ بَعْدِهِ): من بعد نوح، (رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ) يعنى: هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً، (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ): بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا): فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال؛ لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه، (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يريد: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم؛ بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد. (كَذلِكَ نَطْبَعُ): مثل ذلك الطبع المحكم نطبع (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)، والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال): هذه الاستحالة تستفاد من لام "كي" المؤكدة، كقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) [آل عمران: 161]. قوله: (والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم): أي: الكناية التلويحية، وذلك أن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله، ومنع عنه التوفيق واللطف، فلا يزال على هذا حتى يتراكم الرين، ويطبع على قلبه، قال تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [المطففين: 14]، والدليل على أن الطبع كناية عن العناد واللجاج: تصريح الاعتداء في قوله: (الْمُعْتَدِينَ)، قال القاضي: " (نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد".

[(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) 75 - 78]. (مِنْ بَعْدِهِمْ): من بعد الرسل، (بِآياتِنا): بالآيات التسع، (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها، وهو أعظم الكبر؛ أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها، (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ): كفاراً ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو أعظم الكبر): قيل: هو ضمير الشأن، و"أن يتهاون" خبر "أعظم الكبر"، والجملة مفسرة للضمير، ويمكن أن يعود الضمير إلى الاستكبار الذي هو مدلول "استكبر"، و"أن يتهاون" بدل من "أعظم الكبر". والمعنى ينظر إلى قوله صلوات الله عليه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" الحديث، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. النهاية: "بطر الحق: أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً، وقيل: أنا يطغى ويتكبر عند سماع الحق فلا يقبله"، غمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. قوله: ((وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ): كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا): قال صاحب "الفرائد": لا دلالة في هذا الكلام على ما ذكر، والظاهر أنه عطف على "استكبروا" أي: استكبروا وثبتوا على إجرامهم، ولا يلزم أيضاً أن استكبارهم بسبب إجرامهم، سلمنا أنه يلزم، لكن لما أمكن أن يكون للعطف ولا مرجح لأن يكون للحال، والعطف فيه الأصل، والعدول عنه إلى غيره لغير ضرورة عدول عن الأصل.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا): فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون، (قالُوا) لحبهم الشهوات: (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: العجب أنه نسب إلى المصنف ما هو عنه بريء، ثم قام مجادلاً يغضب عليه، ولم يدر أنه سلك مسلك التذييل والاعتراض، ألا ترى إلى قوله في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 92]: "يجوز أن يكون (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) حالاً، أي: عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها، وأن يكون اعتراضاً؛ بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم"، فلذلك اتخذتم العجل من بعده إلها، ويُقال في هذا المقام: كان عادتهم الإجرام وركوب الآثام العظام، فلذلك استكبروا. وإنما فسر (مُجْرِمِينَ) بآثام عظام؛ لأن الكافر إذا وُصف بالفسق أو الجرم أريد التمرد في الكفر، والتناهي فيه. قوله: (فلما عرفوا أنه هوا لحق، وأنه من عند الله): قال صاحب "الفرائد": لا دلالة في الكلام على أنهم عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون، وإنما عُلم هذا المعنى في موضع آخر، وهو قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) [النمل: 14]، إلا أنه من حقه أن يعرف أنه الحق بأدنى تأمل، وليس بسحر لبعده عن السحر. وقلت: ما أوضح دلائله، وهو أن قوله: (الْحَقِّ) مُظهر أقيم موضع المضمر من غير لفظه السابق- والمراد منه الآيات السابقة في قوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا)، وهي الآيات على الاستعارة؛ ليدل على غاية ظهوره وشدة سطوعه، حيث لا يخفى على من له أدنى مسكه، ولا يستقيم قولهم: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) جواباً لقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ)، إلا على حمل الحق على المعجزات، لأن هذا الكلام يقوله العاجز عندما قهرته الحجة، وبهرته سلطانها، ولا يبقى له متشبث.

فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) على أنه سحر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويعضده ما مر في أول السورة يونس في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) إلى قوله: (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) [يونس: 2]، قال المصنف: "هو دليل عجزهم واعترافهم به"، والمعنى: ثم بعثنا من بعدهم موسى إلى فرعون وملئه بالمعجزات، فلم يلتفتوا إليها، واستكبروا، ثم لما تبين لهم بعد ذلك حقيقته، عاندوا وقالوا: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، وأجابهم عليه السلام بقوله: (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ)، وصرح بالحق. قوله: (هم قطعوا بقولهم): توجيه السؤال: كيف أوقع (أَسِحْرٌ هَذَا) مقولاً لقوله: (أَتَقُولُونَ) على الاستفهام، وأنهم لم يقولوا: (أَسِحْرٌ) على الاستفهام، بل قطعوا فيه القول، حيث صدروا الجملة بـ (إنَّ) وأدخلوا اللام في الخبر؟ وأجاب عنه بأوجه: أحدها: أن يكون قوله: (أَتَقُولُونَ) كناية عن العيب والطعن؛ لكونه واقعاً في مقابلة طعنهم وعيبهم، واللام لبيان المطعون فيه- كما في قوله: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، و (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]-، ثم جاء بقوله: (أَسِحْرٌ هَذَا)؛ تقريراً لقولهم: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) واستجهالاً لهم، ما يشبه هذا السحر، وإنه لحق ثابت قاهر في الحجة، والسحر باطل، وصاحبه غير فائز بالبغية، كما قال الزجاج: "والمفلح الذي يفوز بإرادته، أي: كيف يكون سحراً، وقد أفلح الذي أتى به، أي: فاز في حجته".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: ظاهر. وثالثها: أن يكون حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح الساحر؟ ! وهو ليه السلام يحكي عنهم على طريقة المشاكلة وإطباق الجواب على السؤال، ويرد عليهم، أو أن يكون لهم كلام يقرب من هذا، فإنهم لما قالوا: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) جيء بهذا الكلام حاكياً لذلك، يعني: دعوا هذا، فنكم أنكرتموه بأبلغ من ذلك حيث قلتم: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح؟ ! نحوه مر في قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) [البقرة: 7]، وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) [البقرة: 26]، هذا أغمض الوجوه، وإن قال صاحب "الانتصاف": " [في] الفرق بين القولين غموض، وإيضاحه: أن "القول" في الأول: كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولاً، وفي الثاني: على بابه، فطلب مفعولاً". وقلت: يحتمل وجهاً آخر في الآية، وهو أن قولهم: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) دل على هذا الجواب من حيث المعنى، فإنهم لما أثبتوا لهما السحر، وأكدوا الجملة بـ (إنَّ) واللام، كأنهم ادعوا أن ما جاء به من قبيل الباطل الذي لا يفلح صاحبهن لما اشتهر بين الناس أن السحر باطل، وصاحبه غير مفلح، ألا ترى إلى قول موسى عليه السلام: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) - ولذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم السحرة بالبطلة في قوله: "اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة"، أخرجه مسلم عن أبيأمامة-، فجاء موسى عليه السلام بمايلزم من كلامهم، وأنكر عليهم ذلك، أي: أتقولون للحق الواضح الذي يفوز صاحبه بكل بغية ذلك، أي: أسحر هذا، والحال أن الساحر لا يُفلح؟ !

فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ): أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول: إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) (الأنبياء: 60)، ثم قال (أَسِحْرٌ هذا) فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه. وأن يحذف مفعول (أتقولون)، وهو ما دل عليه قولهم: (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، كأنه قيل: أتقولون ما تقولون؟ يعنى قولهم: (إن هذا لسحر مبين)، ثم قيل: (أسحر هذا). وأن يكون جملة قوله: (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)، كما قال موسى للسحرة: (ما جئتم به السحر، إنّ الله سيبطله) [يونس: 81]. (لِتَلْفِتَنا): لتصرفنا، واللفت والفتل: أخوان، ومطاوعهما: الالتفات والانفتال، (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنون عبادة الأصنام، (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي: الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر، ولذلك قيل للملك: الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصف بالصيد)، الجوهري: "الصيد- بالتحريك-: مصدر للأصيد، وهو الذي يرفع رأسه كبراً، ومنه قيل للملك: أصيد، وأصله في البعير يكون به داء في رأسه فيرفعه، ويُقال: إنما قيل للملك: أصيد؛ لأنه لا يلتفت يميناً وشمالاً". و"الشوس" بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبراً أو تغيظاً، فعلى هذا: الكبرياء من لوازم الملك، فيكون كناية عنه، قال الزجاج: "وإنما سُمي الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يُطلب من أمر الدنيا".

ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله: مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: (إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض) (القصص: 19). (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي: مصدّقين لكما فيما جئتما به، وقرئ: "يطبع"، "ويكون لكما الكبرياء" بالياء. [(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) 79 - 82]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما قال القبطي لموسى عليه السلام: (إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ)): وهو على خلاف نقل المفسرين، قال محيي السنة والواحدي: "القائل الإسرائيلي، وذلك أن موسى عليه السلام لما أدركته الرقة بالإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالفرعوني، ظن الإسرائيلي انه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه عليه السلام، وسمع قوله: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) [القصص: 18]، قال: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ) [القصص: 19]، وذلك أن القبطي ما كان عالماً أن موسى عليه السلام كان قاتل القبطي، وحين سمع انطلق إلى فرعون وأخبره"، وقد ذكر نحوه في "الكواشي".

(ما جِئْتُمْ بِهِ): (ما) موصولة واقعة مبتدأ، و (السِّحْرُ) خبر، أي: الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ: (آلسحر)، على الاستفهام، فعلى هذه القراءة (ما) استفهامية، أي: أي شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله: "ما جئتم به سحر"، وقرأ أبىّ: "ما أتيتم به سحر". والمعنى: لا ما أتيت به. (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) أي: سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "السحر" على الاستفهام): وهي قراءة أبي عمرو، فيوقف على (جِئْتُمْ بِهِ)، ويبدأ "السحر". قال أبو البقاء: " (ما) استفهام على هذا، نصب بفعل محذوف، أي: أي شيء أتيتم؟ و (جِئْتُمْ بِهِ) تفسير للمحذوف، ويجوز أن يكون مرفوعاً على الابتداء، و (جِئْتُمْ بِهِ) الخبر، و"السحر": يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو عكسه، وعلى هذا يجوز أن يكون "السحر" بدل من موضع (مَا)، كما تقول: ما عندك؟ أدينار أم درهم؟ "، قال أبو علي: "فعلى هذا لا يلزم أن يضمر للسحر خبر، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه، وصار ما كان خبراً لما أبدلت منه، في موضع خبر المبدل". وقلت: فعلى القراءة المشهورة: الحصر لازم لتعريف الخبر، فيكون الرد ثابتاً على ما قال: "الذي جئتم به السحر"، لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً، وكذا على قراءة "السحر" في غير البدل. وأما على البدل وعلى قراءة عبد الله وأبي: فالحصر مستفاد من التعريض، حيث وقع في مقابل قولهم: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، ولهذا قال: "لا ما أتيت به"، على النفي.

(لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار، (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ): ويثبته (بِكَلِماتِهِ): بأوامره وقضاياه. وقرئ: "بكلمته": بأمره ومشيئته. [(فَما ءآمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) 83]. (فَما ءآمَنَ لِمُوسى) في أوّل أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ): إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في (قومه) لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يُثبته ولا يديمه): اعلم أن الإفساد: إخراج الشيء عن كونه منتفعاً به، فقوله: (لا يُصْلِحُ) يحتمل أن يُراد أنه تعالى يتركهم وإفسادهم، وما لم يصلحه الله لا يدوم ولا يثبت، فيصير باطلاً زائلاً، ويحتمل أنه يفسد إفسادهم بأن يسلط عليه الدمار فيبطله، والمصنف نظر إلى الاعتبارين؛ لأنها مقابلة لقوله تعالى: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، فكأنه قيل: ويحق الله الحق ويبطل الباطل. قوله: ((بِكَلِمَاتِهِ) بأوامره وقضاياه): فسر "الكلمات" حيث جيء بها جمعاً بالأوامر التي هي مقابلة للنواهي، وحيث جيء بها مفرداً بالأمر الذي هو واحد الأمور، وعطف المشيئة عليها، على سبيل البيان؛ ليؤذن بأنه من قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، وهو أشمل من الأول، لأن الأوامر والنواهي والأمور والشؤون كلها تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته، ولذلك عطف على الأول: "وقضاياه"، لتتناول "كلماته" ما تناولته "كلمته"، فيستويا في الشمول.

فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (وَمَلَإيهِمْ)؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى: آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى "الذرية"، أي: على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم، ويدل عليه قوله: (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يريد: أن يعذبهم. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ): لغالب فيها قاهر، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ، بادعائه الربوبية. [(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) 84 - 86]. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ): صدقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا): فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذو أصحاب): قال الزجاج: "جاز أن يُقال: (وَمَلَئِهِمْ)، لأن فرعون ذو أصحاب يأتمرون له، والملأ من القوم: الرؤساء الذين يرجع إلى قولهم". وقلت: اعتبر التعدد في نفس فرعون من جهة كونه ذا أصحاب كأنه جماعة، كما وقع في مخاطباتهم: إنا فعلنا، وهم فعلوا. والفرق أن معنى التعدد في الثاني للتعظيم، وفي الأول لمجرد الإضافة، فعلى هذا: الضمير المرفوع في (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) لفرعون وملئه، غُلب "فرعون" على "الملأ"؛ لأنهم يأتمرون بأمره، ولو رجع إليه وإلى الملأ لقيل: "أن يفتنوهم". والظاهر أن يرجع الضمير في (وَمَلَئِهِمْ) إلى ذرية بني إسرائيل، فلا يفتقر إلى التأويلين، ولهذا قال: "ويدل عليه قوله: (أَن يَفْتِنَهُمْ) ".

ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أي: يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط، ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوّة. (فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) إنما قالوا ذلك، لأنّ القوم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله سبحانه قبل توكلهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم شرط في التوكل الإسلام): فهاهنا أشياء ثلاثة: الإيمان والتوكل والإسلام، والمراد بالإيمان: التصديق، وبالتوكل: إسناد الأمر إليه، وبالإسلام: إسلام النفس إليه وقطع الأسباب. فعلق التوكل بالتصديق بعد تعلقه بالإسلام؛ لأن الجزاء معلق بالشرط الأول، وتفسير للجزاء الثاني، كأنه قيل: إن كنتم مصدقين الله وآياته فخصوه بإسناد جميع الأمور إليه، وذلك لا يحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله مستسلمين أنفسكم له، ليس للشيطان فيكم نصيب، وإلا فاتركوا أمر التوكل. فعُلم منه أنه ليس لكل من المؤمنين الخوض في التوكل، بل للآحاد منهم، وأن مقام التوكل دون مقام التسليم، وهذا يؤيد ما سبق لنا في قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 72]، والتصديق مصححة التوكل، وعليه ينطبق المثال، وهو قوله: "إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة"، لأن مكافأة الضرب مشروط بوجدان القوة، وألا فالتحمل والاعتراف بالقصور. والذي يؤيد أن التوكل متوقف على الإخلاص والتسليم قول المصنف: "إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين"، وذلك أن موسى عليه السلام حين شرط عليهم في التوكل الإخلاص والتسليم، وهم أجابوه بحرف التعقيب دل على سبق الإخلاص على الإجابة.

وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص. (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً): موضع فتنة لهم، أي: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا. [(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) 87]. (أن تبوءّأ) تبوأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأجاب دعاؤهم ونجاهم): هذا يُعلم من قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدخان: 30 - 31]. قوله: (أو فتنة لهم يفتنون بنا): عن بعضهم: أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الناس النار، وقال تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات: 13]، وسمي ما يحصل عنه العذاب فتنة، قال تعالى: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة: 49]، ويستعمل في الاختبار، قال تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه: 40]، وجُعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يُستعملان فيما يُدفع إليه الإنسان منشدة ورخاء، وهما في الشدة أكبر معنى وأكثر استعمالاً، وقد قال تعالى فيهما: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35]، وقال في الشر: (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)، أي: يبتليهم ويعذبهم. قوله: (والمعنى: اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما): يريد: أن (تَبَوَّءَا) مُتعد إلى مفعول واحد، تقول: تبوأت بيتاً وتبوأ القوم بيوتاً، فإذا أدخلت اللام قلت: تبوأت للقوم بيوتاً، صار ما كان فاعلاً مفعولاً، وتعدى إلى مفعولين. قوله: (بيوتاً من بيوته): "مِن" فيه تبعيضية، واللفظان، وإن اتحدت صيغتهما في الجمع، لكن الثاني لما أضيف إلى المعرفة أفاد العموم والاستغراق، كما عُلم في الأصول، والأول لما

ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) تلك (قِبْلَةً) أي: مساجد متوجهة نحو القبلة، وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة. فإن قلت: كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلا، ثم جمع، ثم وحد آخراً؟ قلت: خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء، ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها. [(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) 88]. الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك، وعن ابن عباس: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت: ما معنى قوله (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نُكر أفاد القلة، ولهذا قيل: الجمع المنكر لا يستثني منه على الأكثر، فمعنى قوله: "بيوتاً من بيوته": بيوتاً متعددة من جملة بيوته المتكاثرة. قوله: ((بُيُوتِكُمْ) تلك): إشارة إلى أن الإضافة في (بُيُوتِكُمْ) بمعنى لام العهد، وأن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.

قلت: هو دعاء بلفظ الأمر، كقوله: (رَبَّنَا اطْمِسْ)، (وَاشْدُدْ)، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكرّرا، وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله، اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك. وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو دعاء بلفظ الأمر): يُريد: أن القاتل كأنه يدعو الله أن يأمرهم- وهم غيبٌ- بأن يُضلوا عن الدين، والتقدير: ربنا أضلهم. قوله: (اشتد غضبه): جواب "لما عرض"، وقوله: "وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة" عطف على قوله: "أنه لما عرض"، والظاهر أنه عطف على قوله: "بما علم أنه لا يكون غيره"، ليكون ما ذكر من المقدمات تمهيداً للدعاء، ويكون قوله: "ليشهد" مبنياً عليه، يعني: لما فعلوا كيت وكيت، ودعا عليهم، ليكون كالتسجيل على أنهم من أهل الخذلان، وعلامة لمن سمع به أنه لم يبق له فيهم حيلة. قوله: (يتسكعون فيه)، الأساس: "فلان يتسكع: لايدري أين يتوجه، ومن المجاز: فلان يتسكع في أمره: لايهتدي لوجهه، وأراك متسكعاً في ضلالك".

وليكونوا ضلالا، وليطبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنوا، وما علىّ منهم! هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحرداً عليه، لا أن يريد خلاعته وإتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب: الاستيثاق منها، حتى لا يدخلها الإيمان، (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء الذي هو (اشدد)، أو دعاء بلفظ النهى، وقد حملت اللام في (ليضلوا) على التعليل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما علي منهم! هم أحق بذلك): "ما" استفهامية أو نافية، يعني: كان موسى عليه السلام بعد الضجر حين لم يبق له حيلة، قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وأي شيء يلزمني من جانبهم حتى يطول علي تحسرهم؟ ثم استأنف: هم أحق بذلك وأحق، أو: ليثبتوا على ما هم عليه، وما يلزمني من جانبهم شيء، إني بالغت في الإنذار، وما على الرسول إلا البلاغ. وقيل: "ما" موصولة، وهو مبتدأ، وقوله: "هم" خبره، وفيه تعسف وبُعد عن المقام. قوله: (وقد حُملت اللام في (لِيُضِلُّوا)): هذا وجه آخر، وهذه العبارة مؤذنة بأن الوجه الأول أوجه، أي: أنك آتيت فرعون وملأه زينة ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. وذكره الواحدي وقال: " (فَلا يُؤْمِنُوا) دعاء عليهم، والتأويل: فلا آمنوا". قال صاحب "الفرائد": الوجه أن يُقال: إنها للتعليل، وإلا فما وجه قوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وإنما عدل إلى أمر الغائب؛ ميلاً إلى مذهبه. الانتصاف: "هذا اعتزال خفي؛ فراراً من أن تكون لام "كي"، فتدل على أن الله أمدهم لعلة الإضلال استدراجاً، كما قال: (لِيَزْدَادُوا إِثْماً) [آل عمران: 178]، ففر من هذا، وحمل على معتقده".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: اللام إذا جُعلت مستعاراً على نحو قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8] لا يضره أيضاً، وإليه الإشارة بقوله: "على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال"، كما قال الزجاج: ويُقرأ: "ليضلوا عن سبيلك"، المعنى: أنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا، وأصارهم ذلك إلى الضلال. وأما وجه قوله: 0 رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً) على أمر الغائب: فهو أن موسى عليه السلام ما تكلم بها إلى توطئة وتمهيداً، ليتخلص منها إلى الدعاء عليهم، يعني: أنك أوليتهم هذه النعمة ليشكروك ولا يعبدوا غيرك، فما زادتهم تلك النعمة إلا أشراً وتمادياً في الطغيان، وإذا كانت الحالة هذه، فليضلوا عن سبيلك. ولو دعا عليهم ابتداء ربما لم يُعذر، فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم، ليتسلق منه إلى الدعاء، مع مراعاة تلاؤم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقاً واحداً، ولا مجال للاعتراض؛ لأن الاعتراض حُسن موقعه من الكلام أن تلتذ النفس بسماعه، ولذلك عيب قول النابغة: لعل زياداً - لا أبا لك - غافل فليُذق ليدرك.

على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا، وقوله: (فَلا يُؤْمِنُوا) عطف على (ليضلوا)، وقوله: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي: "أإنك آتيت"؛ على الاستفهام، و"اطمس" بضم الميم. [(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) 89]. قرئ: "دعواتكما"، قيل: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن.، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان. والمعنى: إنّ دعاء كما مستجاب، وما طلبتما كائن، ولكن في وقته، (فَاسْتَقِيما): فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا، ولا تستعجلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة. (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي: لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة، وهذا كما قال لنوح عليه السلام: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود: 46]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَلا يُؤْمِنُوا) عطفٌ على (لِيُضِلُّوا): وقال مكي: " (فَلا يُؤْمِنُوا): عطف على (لِيُضِلُّوا)، وفي موضع نصب عند المبرد والزجاج، وقال الأخفش والفراء: منصوب؛ جواب الدعاء في قوله: (اطْمِسْ)، وقال الكسائي وأبو عبيدة: هو في موضع جزم، لأنه دعاء عليهم"، وقال أبو البقاء: " (فَلا يُؤْمِنُوا) نصبٌ؛ عطف على (لِيُضِلُّوا)، أو جواب الدعاء في قوله: (اطْمِسْ)، أو جزم، ومعناه الدعاء، كما تقول: لا تُعذبني".

وقرئ: (ولا تتبعان)، بالنون الخفيفة - وكسرها لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً بنون التثنية - وبتخفيف التاء من: تبع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ولا تتبعان" بالنون الخفيفة): ابن ذكوان: بتخفيف النون، والباقون: بتشديدها، قال ابن الحاجب: "رُوي عن ابن ذكوان بتشديد التاء وتخفيف النون، ورُوي عنه أيضاً بتخفيف التاء وإسكانها وفتح الباء وتشديد النون، من: تبع يتبع، وليس فيها إشكال، وإنما الإشكال في تخفيف النون، ووجهه: أن "لا" نافية، والفعل مرفوع على وجهين: أحدهما: أن يكون جملة خبرية معناها النهي، كقوله تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الصف: 11]، و (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ) [البقرة: 83]، والمعنى: على الأمر والنهي، وعطف جملة خبرية معناها النهي على جملة معناها الطلب. وثانيهما: أن تكون الواو للحال، أي استقيما غير متبعين، والجملة الفعلية المنفية يجوز أن تأتي بالواو وبغير الواو. وقول من قال: إن "لا" للنهي، والنون نون التوكيد الخفيفة كُسرت، أو الثقيلة حُذفت الأولى منهما: ضعيف، لا ينبغي أن تؤول قراءة صحيحة عليه، لأنه لم يثبت في اللغة مثله". قوله: (تشبيهاً بنون التثنية): قال الزجاج: "موضع (تَتَّبِعَانِ) جزم، إلا أن النون

[(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) 90] قرأ الحسن: "وجوزنا"؛ من: أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من: جوز الذي في بيت الأعشى: وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالَ قَبِيلَةٍ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشديدة دخلت للنهي مؤكدة، وكُسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر؛ لأنها بعد ألف تشبه نون الاثنين". قوله: (وليس من: جوز): يعني: هذه القراءة من: أجاز المكان، أي: خلفه وقطعه، فيُعدى بالباء لأنه لازم؛ الأساس: "جُزت المكان وأجزته وجاوزته وتجاوزته"، وليس من: جوز، بمعنى: نفذ؛ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء، يدل عليه قوله: كما جوز السي في الباب فيتق قوله: (وإذا تُجوزها حبال قبيلة): تمامه: أخذت من الأخرى إليك حبالها

لأنه لو كان منه، لكان حقه أن يقال: وجوّزنا بني إسرائيل في البحر، كما قال: كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ (فَأَتْبَعَهُمْ): فلحقهم، يقال: تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن: "وعدوّا"، وقرئ: (أنه) بالفتح؛ على حذف الباء التي هي صلة الإيمان، و"إنه" بالكسر؛ على الاستئناف بدلا من (آمنت) ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "تجوزها": أي: تنفدها، يعني: الناقة، "الحبال": جمعُ حبل، وهو مستعار للعهد والأمان، يصف ما قاساه في السفر من خوف الطريق حتى وصل إلى الممدوح، يقول: إذا أدخلها وسط قبيلة أمانها، أخذت تلك القبيلة من القبيلة الأخرى أمانها إليك، وعادة العرب أنهم يستجيرون من قوم إلى قوم ليأمنوا من عادتهم وشرهم. قوله: (كما جوز السكي في الباب فيتق): أوله: ولابد من جار يجيز سبيلها "جوز": أي: نفذ ووسط، و"السكي": المسمار، و"الفيتق": النجار قوله: (يُقال: تبعته حتى أتبعته): أي: جئت بعده حتى لحقت به. قوله: (وقرأ الحسن: "وعدوا"): العدو: تجاوز الحد والظلم، عدا عليه عَدْواً وعُدُواً قوله: (وقرئ: (أنه) بالفتح على حذف الباء): وذلك أن الإيمان يُعدى بالباء، نحو: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3]، فلما حذف وصل.

كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات، حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته، وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار، وعند بقاء التكليف. [(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) 91 - 92]. (آلْآنَ): أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك. قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق، يعنى: حين أوشك أن يغرق. وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه، والذي يحكى: "أنه حين قال: (آمَنَتْ) أخذ جبريل عليه السلام من حال البحر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات): يريد بالمعنى الواحد: ما لو تلفظ به في حال الاختيار عن صدق منه، لقبل منه، وانخرط في سلك امؤمنين الناجين، هذا على قراءة كسر "إن" في (أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ) الآية؛ صريح. أما قوله: (آمَنَتْ) فإخبار عن نفسه في الزمان الماضي أنه صدر منه الإيمان المعتبر الذي عليه بنو إسرائيل، لأن الإيمان حينئذ قطع عن متعلقه، فصار كقولهم: فلان يعطي ويمنع، إما باعتبار العموم أو الإطلاق. وأما قوله: (وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فهو أبلغ منه؛ لأنه ادعى بالبرهان أنه دخل في زمرة المسلمينن وصار معدوداً فيهم. قوله: (ألجمه الغرق): في الحديث: "يبلغ العرق منهم ما يلجمهم"، أي: يصل إلى أفواههم، فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام. قوله: (من حال البحر)، النهاية: "الحال: الطين الأسود كالحمأة".

فدسه في فيه"، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه، وأمّا ما يضم إليه من قولهم: "خشية أن تدركه رحمة الله" فمن زيادات الباهتين لله وملائكته، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فدسه)، الأساس: "دس الشيء في التراب، وكل شيء أخفيته تحت شيء فقد دسسته". قوله: (فمن زيادات الباهتين): يُقال: بهته بهتاً وبهتاناً فهو باهت، أي: افترى عليه ما لم يفعله. الحديث رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما أغرق الله تعالى فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. قال جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة"، أخرجه الترمذي، وهو أحد أئمة الثقات المقدم بعد مسلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: العجب أنه كيف نسي كلامه آنفاً: "أن قوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء"، وخالف أهل التفسير فيه، وأقام له بمعاذير، وحين بلغ إلى الخبر المرفوع بهت وبهت. وأما الحديث: فقوله: "لو رأيتني" إلى آخره: معناه: لرأيت أمراً عجيباً يبهت الواصف عن كنهه، فإني لما شاهدت تلك الحالة نهضت غضباً لله على عدو الله؛ لادعائه تلك العظيمة، فعمدت إلى حال البحر، فادسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة لسعتها، مع علمي أن الصد عن رحمة الله غير جابر، الا ترى إلى قوله عليه السلام: "وأنا آخذ من حال البحر"، كيف يصور تلك الحالة في مشاهدته، ويستحضرها، ويستدعي منه العجب على فعله. ونحوه في الشاهد من ينتهز الفرصة على من يغضب ويحنق عليه، فإذا صادفها وفتك به، ربما اختلج في صدره من الفرح أنه بعدُ لم ينل منه، وأن له الخلاص منه. ونحوه ما روى المصنف: "أن بني إسرائيل كانوا يقولون: إن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق، وأنه ما مات، ولا يموت أبداً بعدما غرق". على أن ليس للعقل مجال في أمثال هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس.

وفيه جهالتان: إحداهما: أنّ الإيمان يصح بالقلب، كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر: فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر. (مِنَ الْمُفْسِدِينَ): من الضالين المضلين عن الإيمان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما قوله: "الرضا بالكفر كفر" فجوابه ما قال أبو منصور الماتريدي في "التأويلات": "الرضا بالكفر ليس بكفر مطلقاً، إنما يكون كذلك إذا رضي بكفر نفسه، لا بكفر غيره". وقلت: يؤيده ما روينا عن أبي داود النسائيعن سعد بن أبي وقاص قال: "لما كان يوم فتح مكة، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر - فسماهم- وابن أبي سرح"، وذكر الحديث: وأما ابن أبي سرح، فإنه اختبأ عند عثمان رضي اللهعنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة جاء به، حتى وقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله"، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسكن ألا أومأت إلينا بعينك، قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". قوله: ((مِنْ الْمُفْسِدِينَ): من الضالين المضلين): فقد سبق أن الكافر إذا وُصف بالإجرام أو الفسق أو الفساد ونحوها كان مبالغة في كفره.

كقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 98]. وروى: "أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته، فكفر نعمته، وجحد حقه، وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر نعماه: أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه، فعرفه". (نُنَجِّيكَ) بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ "ننحيك"، بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر، قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض)، الراغب: "أصل النجاء: الانفصال، ومنه: نجا فلان من فلان، وأنجيته ونجيته، قال تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49]، (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 18]، والنجوة والنجاة: [المكان المرتفع] المنفصل بارتفاعه عما حوله، وقيل: سمي لكونه ناجياً من السيل، ونجيته: تركته بنجوة، وعليه قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، ونجوت قشر الشجرة، وجلد الشاة". قوله: ((ببدنك) في موضع الحال): وهو كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي: معها. وفي "الضوء": الفرق بين الباء و"مع": أن و"مع": أن "مع" لإثبات المصاحبة ابتداء، والباء لاستدامتها.

أي: في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ): نلقيك عرياناً، وقيل: نلقيك على نجوة من الأرض". فعلى هذا: كان أصل الكلام: اليوم نطرحك بعد الغرق بجانب البحر، ثم سلك طريق التهكم، وقيل: ننجي بدنك، ثم لمزيد التصوير والتويل أوقع "بدنك" حالاً من الضمير المنصوب. وقيل: ننجيك مع بدنك، لتصور تلك الهيئة المنكرة في نظر المعتبرين، كما قال: "أي: في الحال التي لا روح فيك"، وإنما أنت بدن، أي: جيفة ملقاة في ساحل البحر، كما يُلقي البحر الجيف ولا يقبله، ثم لإرادة الاستدامة وشدة اللصوق قيل: (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، وكذلك قال: "وإنما أنت بدن"، أي: لست سوى الجيفة شيئا. ولو جُعلت الباء للآلة، ليكون على وزان قولك: أخذت بيديك، ونظرته بعينيك؛ إيذاناً بحصول هذا المطلوب البعيد التناول، كما قال: "وكان فرعون أعظم شأناً من أن يغرق"، لكان أيضاً وجهاً. قوله: (أو ببدنك كاملاً سوياً): يعني: لو اقتصر على قوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) لاحتمل النقصان من قطع رأٍ أو رجل أو يد، فزيد (بِبَدَنِكَ)؛ لرفع ذلك التوهم، فالحال مؤكدة. قوله: (أو عُرياناً): فالحال لبيان الهيئة الفظيعة كما سبق، ومن ثم جاء بإداة الحصر: "لست إلا بدناً".

قال عمرو بن معدي كرب: أَعَاذِلُ صاحبي بَدَنِي وَسَيْفِي ... َوكُلُّ مُقَلّصٍ سَلِسُ الْقِيَادِ وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: "بأبدانك"، وهو على وجهين: إما أن يكون مثل قولهم: "هوى بأجرامه"، يعنى: ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد: بدروعك؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعاذل صاحبي بدني وسيفي) البيت: ويُروى: "شكتي بدني"، والشكة: السلاح. "أعاذل": أصله: أعاذلة، فرس مقلص- بكسر اللام-: أي: مشرف مشمر طويل القوائم، "سلس القياد": سهل القود. قوله: (هوى بأجرامه): مأوخذ من قوله: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي "طحت": أي: هلكت، "النيق": أرفع موضع في الجبل.

كأنه كان مظاهراً بينها. (لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً): لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروى أنهم قالوا: "ما مات فرعون ولا يموت أبداً". وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسرائيل حتى قيل: (لمن خلفك). وقيل: (لِمَنْ خَلْفَكَ): لمن يأتي بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه - مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك - آل أمره إلى ما ترون، لعصيانه ربه عز وجل، فما الظنّ بغيره؟ أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ: (لمن خلقك)، بالقاف؛ أي: لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين - لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة: إنّ مثله لا يغرق ولا يموت -: آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه؛ لإماطة الشبهة في أمرك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان مظاهراً بينها): أي: ليس بعضها فوق بعض، الجوهري: "وظاهر بين ثوبين، أي: طارق بينهما وطابق". قوله: (وكأن مطرحه كان على ممر بني إسرائيل): أي: على طريقهم الذي كانوا يؤمونه، فهم حينئذ خلفه، وهو قدامهم، لينظروا إليه، ويعتبروا، ويصدقوا قول موسى عليه السلام، ويشكروا نعمة الخلاص وهلاك العدو.

[(وَلَقَدْ بَوَّانا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) 93] (مُبَوَّأَ صِدْقٍ): منزلا صالحاً مرضيا، وهو مصر والشام، (فَمَا اخْتَلَفُوا) في دينهم، وما تشعبوا فيه شعباً، إلا من بعد ما قرؤُوا التوراة، وكسبوا العلم بدين الحق، ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل: هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بنى إسرائيل - وهم أهل الكتاب-: اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعدما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه، كما قال الله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة: 146، الأنعام: 20]. [(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) 94 - 95]. فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) مع قوله في الكفرة: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [هود: 110، فصلت: 45]؟ قلت: فرق عظيم بين قوله (وإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا، وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديراً (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ). والمعنى: أن الله عز وجل قدم ذكر بني إسرائيل -وهم قرأة الكتاب-، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه السلام، ويبالغ في ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأراد أن يُؤكد علمهم بصحة القرآن، وصحة نبوة محمد صلوات الله عليه): يعني: أن قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)

فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديراً، وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق، فسل علماء أهل الكتاب، يعنى: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك، وقتلها علماً، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم، فضلا عن غيرك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معناه: أن الذي قصصنا عليك من أخبار بني إسرائيل، وصحة القرآن، وصحة نبوتك: لا شك عندهم، وأنهم في رسوخ العلم فيه والثبات في اليقين، بحيث إن فُرض لك شك، كما تُفرض المحالات، يصح أن تزيل شكك باستخبارك إياهم، مع إنكارهم نبوتك، "والفضل ما شهدت به الأعداء"، وهو المراد من قوله: "وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، لا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشك فيه". قوله: (أنهم من الإحاطة): "من": يجوز أن تكون اتصالية، كقولك: أنا منك بفرسخين، أي: أنا منك بمسافة فرسخين، فعلى هذا: "مِن" إلى آخره: خبرُ "أنَّ"، ويجوز أن يكون التقدير: أنهم متمكنون من الإحاطة، و"بحيثُ" إلى آخره: حال، كقوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72]، في أن الخبر لا يتم إلا بالحال، وأن تكون "مِن": ابتدائية، و"بحيث": خبرُ "أنَّ"، و"مِنَ الإحاطة": حال. قوله: (وقتلها علماً): يُقال: قتلتُ الشيء خُبراً، قال الله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء: 157]، أي: لم يُحيطوا به علماً، قال الحماسي: يروعك من سعد بن عمرو جسومها ... وتزهد فيها حين تقتلها خُبرا

فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشك فيه. ثم قال: (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي: فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون على طريقة التهييج): هو عطف على قوله: "فإن وقع لك شك مثلاً". الأساس: "ومن المجاز: إذا استقل الرجل غضباًن قيل: هاج فيه"، "ويُقال: ألهبته الأمر: أردتُ بذلك تهييجه". وفائدة هذا الأسلوب أيضاً راجعةٌ إلى الثبات في اليقين، والبعث على طلب المزيد فيه، كما تقول لمن يجتهد في مزاولة أمر، وأنت تريد مزيد بعثه عليه: أراك توانيت عن هذا الأمر وقعدت عنه؛ تريد تهييجه وتحريضه، وإليه الإشارة بقوله: "ولزيادة التثبيت والعصمة"، هذا هو الوجه، وعليه النظم والتأليف، فإنه تعالى لما قال لحبيبه صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً: فإن كُنت في شك أن ما أنزلناه إليك حق، وأنك نبي مرسل، فاسأل أهل الكتاب من الذين آمنوا، فإنهم يشهدون بذلك، والله عز وجل بجلالته وعظمته أيضاً يشهد، ويؤكد الشهادة بالقسم.

كقوله: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) [القصص: 86 - 87]، ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله: "لا أشك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق"، وعن ابن عباس: "لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم". وقيل: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد خطاب أمته، ومعناه: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء: 174]. وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، كقول العرب: إذا عز أخوك فهن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونظيره قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد: 43]. وقوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) تفريع على قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ)، وقوله: (وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) تفريع على قوله: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). قوله: (وعن ابن عباس: لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم): فالتعليق بالشرط للفرض، والنهي على التقديرين: إما كناية عن رسوخ أهل الكتاب في معرفة حقية الكتاب والرسول، أو من التهييج والإلهاب، فلا يلزم السؤال. هذا على أن يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (إذا عز أخوك فهُنْ): أي: إذا شكست أخلاقه فحسن خلقك، قال الميداني: "قال أبو عبيد: معناه: مياسرتك صديقك ليست بضيم ركبك منه، فتدخلك الحمية به،

وقيل: "إن" للنفي، أي: فما كنت في شك فسل، يعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما هو حُسنُ خلقٍ وتفضل، فإذا عاسرك فياسره، وقال المفضل: إن المثل لهذيل بن هبيرة التغلبي، وكان أغار على بني ضبة، فغنم، فأقبل بالغنائم، فقال له أصحابه: اقسمها بيننا، فقال: إن أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يُدرككم الطلب، فأبوا، فعندها قال: إذا عز أخوك فهن، فنزل فقسم". وعلى هذا الخطاب لكل أحد، كقوله صلوات الله عليه: "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام"، فإنه أمر لكل من تتأتي منه البشارة. قوله: (لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولن لتزداد يقينا): كما تقول لصاحبك: أنت على يقين من هذه المسألة، فاسأل أهل العلم ليزداد يقينك. الانتصاف: "لو قال هذا المفسر: إن نفي الشك عنه توطئة للسؤال لتقوم حجته على المسؤولين، لا لمزيد يقين، كما في قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام: 12]، لكان أقوم وأسلم".

وقرئ: "فاسأل الذين يقرؤون الكتب". [(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) 96 - 97]. (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ): ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح، وأخبر به الملائكة؛ أنهم يموتون كفاراً، فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد، تعالى الله عن ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "فسل"): ابن كثير والكسائي. قوله: (وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر): يعني: هو معلوم الله لا مقدره، وعند أهل السنة: هو معلوم الله ومقدره ومُراده تعالى، فعلمه تعالى يوافق تقديره وإرادته، ولا وتجوز المخالفة. هذه المسألة تُحرك سلسلة القضاء والقدر، فيجب أن يكشف عن بعض أسرارها نصاً ودراية: أما النص: فهذه الآية، قال الإمام: "وقد احتج أصحابنا على المطلوب". وأما الدراية: فما رويناه عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج آدم موسى، قال: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأشقيتهم، قال: قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى". وعن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي في حديث عمر رضي الله عنه، قال: "أخبرني عن الإيمان"، إلى قوله: "قال: تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت". قال التوربشتي: "أن تؤمن بما أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وما حكم. أو يُقال: أن تؤمن بما أخبر الله تعالى عن تقدم علمه تعالى بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلقٍ لها، خيرها وشرها". هذا من قول الخطابي، رواه صابح "جامع الأصول". وقال: "القدر: اسم لما صدر عن فعل القادر، كالهدم والنشر والقبض التي هي أسماء لماي صدر عنفعل الهادم والناشر والقابض، يُقال: قدرت الشيء وقدرت- خفيفة وثقيلة- بمعنى واحد. والقضاء في هذا: معناها الخلق، كقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 12]، أي: خلقهن، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم بها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجماع القول في هذا: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه". وقال القاضي في "شرح المصابيح": القضاء: هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها. وقلت: يمكن أن ينزل على هذا المعنى: ما ذكره المصنف في تفسير قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ) [الرحمن: 29]: "سأل عبد الله بن طاهر الحسين بن فضل، وقال: أشكلتعلي ثلاث آيات: إحداهن: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ) [الرحمن: 29]، وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة؟ وأجاب الحسين: أنها شؤون يبديها، لا شؤون يبتدئها". وقال العلامة قُطبُ الدين الشيرازي: اعلم أن أفعال العباد تنقسم إلى ما يكون تابعاً لقدرته وإرادته، وإلى ما لا يكون كذلك، مثال الأول: المشي والأكل من الإنسان الصحيح الذي لم يُكره على هذين الفعلين، مثال الثاني: حركة الإنسان إلى أسفل إذا وقع من موضع عالٍ. والقدرة: يُراد بها سلامة آلات الفعل من الأعضاء، ويُراد بها الحالة التي يكون الإنسان عليها وقت صدور الفعل عنهن والأول: يكون قبل الفعل ومعه وبعده، وهي القدرة عند المعتزلة، والثاني: لا يكون إلا مع الفعل، وهي القدرة عند الأشعري، ولا شك أن القدرة بالوجهين لا تكون مقدورة للعبد، بل ربما تكون بعض أسبابها- كالتغذي أو التداوي المقتضين لسلامة الأعضاء - مقدوراً له. وأما الإرادة فسببها: إما العلمُ بالمصلحة وإما الشهوة وإما الغضب، ولايكون واحدٌ منها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا عند الشعور، والشعور أيضاً لا يكون مقدوراً للعبد، وربما يكون بعض أسبابه مقدوراً له، وأما عند حصول القدرة والداعي، فهل يجب الفعل أم لا؟ فالحق أنه يجب، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الفعل وتركه بغير مرجح، وهذا الوجوب لا يخرج الفعل عن حد الاختيار، أن يكون الفعل أو الترك بإرادة الفاعل، يختار منهما أيهما أراد، وهاهنا كذلك، لأنه لزم الفعل من القدرة والإرادة. فمن نظر إلى أسباب القدرة والإرادة، وهما في الأصل من الله تعالى، وعند وجودهما الفعل واجب وعند عدمهما ممتنع، ذهب على أنه جبر محض، وأن أفعال العباد صادرة عنهم على سبيل القهر والإلجاء من غير قدرة واختيار لهم أصلاً. ومن نظر إلى قدرة العبد وإرادته، ذهب إلى أنه قدر محض، وأن أفعالهم صادرة عنهم على سبيل الاستقلال. وكل واحد منهما أعور بأي عينيه شاء، فإن المذهب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: هو أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين الأمرين، إذ الاختيار حق، والإسناد إلى فعل الله حق، ولا يتم الفعل بأحدهما دون الآخر. وما قيل في إثبات الجبر: "إن خلاف ما علم الله وقوعه محال، وهو يوجب الجبر"؛ منقوض إجمالاً: بأنه لو صح هذا لزم الجبر في أفعاله تعالى، لأنه كان في الأزل عالماً بأفعاله فيما لا يزال، وخلافُ ما علم الله وقوعه محال، فما هو جوابكم هناك، فهو الجواب هاهنا، وتفصيلاً: بأن العلم بالشيء ربما لا يكون سبباً لوقوعه، فغن من علم بأن الشمس غداً تطلع، لا يكون علمه سبباً لطلوعها، وإذا لم يكن للعلم أثر في الفعل، فلا يكون الفعل ولا الإيجاب، والله أعلم بالصواب.

[(فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) 98]. (فَلَوْلا كانَتْ): فهلا كانت (قَرْيَةٌ) واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر، وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه، (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبىّ وعبد الله: "فهلا كانت". (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء من القرى، لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء، وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روى عن الجرمي والكسائي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن المراد أهاليها): تعليل لجعل الاستثناء منقطعاً، ونحوه قوله في سورة الجر: "فإن قلت: (إِلاَّ آلَ لُوطٍ) [الحجر: 59] استثناء متصل أو منقطع؟ قلت: لا يخلو من أن يكون استثناء من (قوْمٍ) [الحجر: 58]، فيكون منقطعاً، لأن القوم موصوفون بالإجرام، فكان كاختلاف الجنسين، وان يكون استثناء من ضمير (مُجْرِمِينَ) [الحجر: 58]، فيكون متصلاً، كانه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم"، فكذلك هاهنا، فإن أهالي تلك القرى موصوفون بأن يقال في حقهم: هلا كانت قرية من القرى آمنت فنفعها غيمانها، فلا يكونون إذن موصوفين بالإيمان، ثم قيل: لكن قوم يونس آمنوا، فيصح جعله منقطعاً لاختلاف الصفتين، فلو جُعل متصلاً فسد المعنى، لأنه يكون تحضيضاً لأهل القرى على الإيمان النافع، وهو الإيمان في وقت الاختيار، إلا لقوم يونس. وأما إن قلت: في تحضيضهم على الإيمان النافع معنى نفيه عنهم، كان المعنى: ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس، كان استثناء متصلاً ومعنى صحيحاً، فكان انتصابه على أصل

روي: أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح، وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخاناً شديداً، ثم يهبط، حتى يغشى مدينتهم، ويسوّد سطوحهم، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة، وتضرعوا، فرحمهم الله، وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه، فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: "يا حيّ حين لا حي، ويا حي محيى الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت"، فقالوها، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: قالوا: "اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله". [(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) 99]. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر والإلجاء، (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يُرفع على البدل، لأنه في كلام غير موجب. نحوه مذكور في آخر سورة هود. قوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر والإلجاء)، الانتصاف: "لما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله الإيمان من الجميع، وإنما شاء ممن آمن لا ممن كفر، أوله بمشيئة القسر

على وجه الإحاطة والشمول، (جَمِيعاً) على الإيمان مطبقين عليه، لا يختلفون فيه، ألا ترى إلى قوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يعنى: إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت، وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره؛ من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والإلجاء، ليتم له". وقال القاضي: "هو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر". قوله: (للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه): ومذهب المعتزلة: أن الله تعالى قادر على فعل القبائح، لكن الحكمة صارفة عنه، وقد أشار إليه في سورة الأنبياء، في قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء: 17] ن فدل هذا على أن افكراه ممكن، ودل قوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) على وقوعه قطعاً، لأن إيلاء الضمير حرف الاستفهام يدل على وقوع الفعل وحصوله، لكن الكلام في الفاعل؛ هو هذا المذكور أم غيره؟ قال صاحب "المفتاح": "فلا يجوز بعدما عرفت أن التقديم يستدعي العلم بحال نفس الفعل: أنت ضربت زيداً؟ ". فقول المصنف بـ"أن الإكراه ممكن مقدور عليه" خلاف مايقتضيه التركيب، فالمعنى: أن الله عز وجل وحده فاعل هذا الإكراه الموجود لا أنت، لأن الإيمان والأعمال الصالحة مشروع على خلاف مقتضى الطبيعة والجبلة الإنسانية، لأنها مائلة على اللذات والشهوات وحُب الرئاسة، ولا يقدر على إيجاد خلاف ما تقتضيه الطبيعة إلا الله عز وجل، ويعضده قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: لا ينبغي ولا يستقيم بالنظر إلى جبلته وخلقته ان يؤمن لأنه مناف له، إلا أن يسهل الله عليه.

[(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) 100]. (وَما كانَ لِنَفْسٍ) يعنى: من النفوس التي علم أنها تؤمن، (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بتسهيله، وهو منح الألطاف، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قابل الإذن بالرجس، وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون، وهم المصرون على الكفر، كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة: 171]، وسمى الخذلان رجسا -وهو العذاب- لأنه سببه. وقرئ: "الرجز"، بالزاي، وقرئ "ونجعل" بالنون. [(قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) 101]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قابل الإذن بالرجس، وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون): يُريد: أن الآية من باب المقابلة، وذلك أن الإذن لما كان معبراً عن التسهيل، وهو من الله التوفيق ومنح الألطاف، ووقع مقابلاً للرجس، ينبغي أن يفسر "الرجس" الذي يُراد به العذاب بالخذلان؛ لأن الخذلان سبب العاب، وإليه الإشارة بقوله: "وسمي الخذلان رجساً- وهو العذاب- لأنه سببه". انظر إلى هذا التعسف والانحراف عن محجة الصواب، أين التقابل؟ أم كيف يموه قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) بهذا التأويل؟ ! وهو مثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) [آل عمران: 145]، وقد قال: "إن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يُقدم عليه إلا بغذن الله تمثيلاً"، وقد سبق بيان المبالغة فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. بل الأسلوب من باب اللف والنشر، فقوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) مفرعٌ على قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، كما أن قوله: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) مبني على قوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)، يعني: لما أوجبنا عليهم القول، وقدرنا أنهم من أصحاب النار، فلا يؤمنون ألبتة، ولو جاءتهم كل آية، حتى يصلوا إلى ما قُدر لهم من العذاب الأليم، وكذلك نجعل الرجس - أي: أدناس الشرك والعصيان والعناد- على الذين ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة: 171]. المعنى: إذا كان إيمان من في الأرض كلهم معلقاً بمشيئة الله وإرادته، فلا يصح ولا يستقيم أن يؤمن أحد إلا بإذن الله ومشيئته، فلا تقدر أنت أن تكرههم على الإيمان، وإذا سبق التقدير، وحقت كلمة العذاب على الكفرة، وجفت الأقلام، فلابد أن يُجعل الرجس عليهم، والطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى لا يعقلوا آيات الله، ولا يلتفتوا إلى إرشادك، ولو جئتهم بكل آية. تأمل يا أيها الناظر في هذه الآيات، واقطع بأن الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية: تابعة لمشيئة الله وإرادته، جارية بقضائه وقدره، ولا ترى كلاماً أجمع من هذا، ومن حاول تحريفه زل وضل، هيهات! جرى الوادي فطم على القرى، واتسع الخرق على الراقع.

(ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات والعبر، (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ): والرسل المنذرون، أو الإنذارات، (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ): لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون، وقرئ: "وما يغنى"، بالياء، و"ما" نافية، أو استفهامية. [(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) 102 - 103]. (أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ): وقائع الله تعالى فيهم، كما يقال: أيام العرب لوقائعها، (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله: (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ)، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية، (وَالَّذِينَ آمَنُوا): ومن آمن معهم، كذلك (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض، يعنى: حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ: (ننجّ) بالتشديد. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 104]. (يا أَيُّهَا النَّاسُ): يا أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وصحته وسداده، فهذا ديني فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "نُنَجِّ" بالتشديد): كلهم إلا حفص والكسائي. قوله: (فهذا ديني، فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم): إشارة إلى أن جواب الشرط- وهو قوله: (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) - لا يستقيم أن يكون جواباً ومسبباً عن قوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي)، إلا بتأويل الإعلام والإسماع، على منوال قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) [النحل: 53]، قال ابن الحاجب: "إن استقرار النعمة بالمخاطبين

وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشك، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم، (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) وإنما وصفه بالتوفي، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبد دون مالا يقدر على شيء. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى: أنّ الله أمرني بذلك، بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحى إلىّ في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه: أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا غنى أطماعكم، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى، كقوله: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 1 - 2]. (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أصله: بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس سبباً لكونها من عند الله تعالى، من جهة كونه فرعاً عنه، فالآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها، فاستقرارها- مجهولة أو مشكوكة- سبب للإخبار بكونها من الله تعالى"، كذا هاهنا؛ كونهم شاكين معرضين عن دين الله: سبب لإقامة دعوته صلوات الله عليه، بإثبات التوحيد، وغسماعه إياهم، ليعرضوه على عقولهم. قوله: (وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد) إلى آخره: قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر؛ لأن تفسيره المطرد بحذف حروف الجارة مع "أن"، يقتضي كونه من المطرد قطعاً، فلعل المراد من قوله: "وهذا الحذف": أن هذا النوع من الحذف، وهو حذف حرف الجر بعد فعل الأمر مثلاً، يحتمل المطرد كما نحن فيه، وغير المطرد كـ "أمرتك الخير"، ونحوه.

الذي هو حذف الحروف الجارّة مع "إن" و"أن"، وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير (فاصدع بما تؤمر) [الحجر: 94]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يُقال: في (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) حذف، ويحتمل المطرد وغيره، بيانه: أن الحذف المطرد له ركنان: حذف الجار وحده وذكر "أن" بعده، فلو لم يذكر "أن"-كـ"أمرتُك الخير"-، أو ليس المحذوف الجار وحده، بل مع المجرور- نحو: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]، أي: بصدعه، فحذف الباء ثم الصدع-، فليس بمطرد، فـ (أَنْ أَكُونَ): إما أن يكون مأموراً به، فهو من المُطرد، وإما أن يكون للتعليل - كما ذكره في (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) [الأنعام: 71]-، والمأمور به محذوف، أي: أمرت بالإيمان لأن أكون مؤمناً، فهو غيرمطرد، إذ حذف الجار والمجرور معاً، نحو: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94] " تم كلامه. وتحريره: أن قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) فيه اعتباران، فبالنظر إلى لفة "أنْ" من غير اعتبار كونها واقعة بعد لفظ "الأمر"، مع تقدير حذف الجار، يكون من حذف المطرد. وباعتبار لفظ "الأمر" - فإنه قد يحذف معه الجار، نحو: "أمرتك الخير"، (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]-، من غير نظر إلى لفظ "أنْ"، يكون من الحذف غير المطرد. وأما قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]: فأصله: بماتؤمر به، فحذف حرف الجر وأوصل، فصار: بما تؤمره، ثم حذف الضمير المنصوب. قوله: (أمرتك الخير): تمامه: فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب "النشب": المال والعقار.

[(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 105]. فإن قلت، عطفُ قوله: (وَأَنْ أَقِمْ) على (أَنْ أَكُونَ) [يونس: 104] فيه إشكال، لأنّ "أن" لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة، وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك، والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا يساعد عليه لفظ الأمر، وهو (أَقِمْ)، لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التي للعبارة): أي: المفسرة. قوله: (لأن عطفها على الموصولة يأبى ذلك): والموصولة لفظة "أن" في قوله: (أَنْ أَكُونَ) [يونس: 104]؛ لأنها متصلة بالفعل مفيدة معها معنى المصدر، والموصولة- كما قيل - على ثلاثة اضرب: ضرب اتفق على اسميته، وهو "الذي" وأخواتهان وضرب اتفق على حرفيته، وهو "أنَّ" و"أنْ" و"كي"، وضرب اختلف فيه، وهو "ما" المصدرية، والألف واللام، فمن أوجب عود الضمي رعليها جعلها اسماً، وإلا فلا. قوله: (يأبى ذلك): لأن من شرط "أنْ" المفسرة: ان لا يتصل بها شيء منصلة الفعل الذي تفسره، غذ لو اتصل ذلك بها صار في جملة ذلك الفعل، ولم يكن تفسيراً له، قاله في "الإقليد"، فإذا عطفتها على الموصولة اتصلت بها، لأن المطعوف في حكم المعطوف عليه، فيقتضي الاتصال، والذي يدل على أن الأولى موصولة: أنها عملت في (أَكُونَ)، والمفسرة لا تنصب. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: (وَأَنْ أَقِمْ) لم يكن عطفاً على (أَكُونَ)، بل المعطوف مقدر، وهو "أوحى إلي" أو "نوديت"، فتكون "أنْ" للعبارة. وقلت: هذا سائغ من حيث الإعراب، لكن في ذلك العطف فائدة معنوية، وهو أن قوله: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) مع التي تليها من الآيات، كالتفسير لقوله: (أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، على

قلت: قد سوّغ سيبويه أن توصل "أن" بالأمر والنهى، وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل، على الخطاب، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. (وأن أَقِمْ وَجْهَكَ): استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا. و (حَنِيفاً) حال من "الدين"، أو من "الوجه". [(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) 106]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسلوب: "أعجبني زيدٌ وكرمه"، داخل معها في حكم المأمور به، فلو قُدر ذلك فات غرض التفسير، وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها. قوله: (أنت الذي تفعل، على الخطاب): والأصل أن يقال: أنت الذي يفعل، على الغيبة؛ نظراً إلى لفظ "الذي"، فلما كان "الذي" وقع خبراً لـ "أنت"، ومعناه معناه، قيل على الخطاب، ووجه الشبه هو أنه لما كان "الذي" يقتضي أن يكون صلتها جملة مشتملة على ضمير راجع إليها، واقتضى أن يكون للغائب، فبالنظر إلى المعنى جاز الخطاب، كذلك جاز أن ينظروا إلى المعنى ويدخلوا "أنْ" المصدرية على الأمر والنهي، لأن الغرض أن يكون ماب عدها في تأويل المصدر، وقد حصل الغرض، سواء كان الفعل إخبارياً أو إنشائياً، بخلافه في الموصول الاسمي، فنه يجب أن تكون صلته جملة خبرية؛ لأن وضعه على جعل الجملة معرفة، ليصح وصف المعرفة بها، ولا تكون الصفة إلا خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، فصح أن تقع صلته خبرية وطلبية.

(فَإِنْ فَعَلْتَ) معناه: فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فكنى عنه بالفعل إيجازاً (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ): (إذاً) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]. [(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) 107 - 108]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكنى عنه بالفعل إيجازاً): يعني: قد يجاء بلفظ "فعل" بعد تقدم أفعال شتى وكيفيات متعددة، فيعبر به عنها كلها إيجازاً، كما يشار باسم الإشارة إلى كلام طويل اختصاراً، نحوه قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة: 24]، أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولم تأتوا بشهدائكم من دون الله. قوله: ((إذاً) جزاء للشرط، وجواب السؤال مقدر): قال ابن الحاجب: "لسنا نعني بالجواب جواب متكلم بالتحقيق، بل قد يكون جواباً لمتكلم، وقد يكون جواباً لتقدير ثبوت أمر، فمثال الأول: يقول الرجل: أنا آتيك، فتقول: إذن أكرمك، فأجبته بهذا الكلام، وصيرت إكرامك جزاء على إتيانه، ومثال الثاني: قولك: لو أكرمتني إذن أكرمك، وأشباهه، في تقدير جواب متكلم سأل: ماذا يكون مرتبطاً بالإكرام؟ فأجابه: بارتباط إكرامه به. وأما معنى الجزاء فيها فواضح، قال الزجاج تأويلها: إن كان الأمر كما ذكرت فني أكرمك؛ تنبيهاً على أن فيها معنى الجزاء، حتى يصح تقديره مصرحاً به".

أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟ وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذن بأن توجه إليه العبادة دونها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أتبع النهي عن عبادة الأثان): مفعول "أتبع": أن الله هو الضار النافع"، يريد: أن قوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) الآية، متصل بما قبله، معطوف على قوله: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية: (يونس: 106]، على تأويل الإخباري بالإنشائي، وهما جميعاً متفرعان على قوله: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [يونس: 105]، أي: كن مائلاً عن سوى دين الله موحداً غير مشرك. ثم أكد ذلك بأن نهاه بقوله: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)، وأمره بأن يدعو من يضره وينفعه بقوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ)، أي: وادع من أن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وصور هاهنا حالتي النفع والضر، وخالف بين القرينتين؛ لأن المقام يقتضي الترغيب والتنفير، كقوله تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [يونس: 105]، فالمناسب ذكر المس مع الضر، والإرادة مع الخير، من غير تأويل، يعني: إذا أوقعك في الضراء لا يكشفها إلا هو، إذ لا ملجأ إلا إليه، فلا تكونن من المشركين، وإذا أراد بك الخير فلا يقدر أحد أن يرد ذلك، فلا مرجو إلا هو، فأقم وجهك لدينه، واعبده مخلصاً، يعني: إذا اراد الله أن يتفضل على احد بمحض فضله، لا يقدر أحد رد فضله، سبحانه وتعالى. ثم علل ذلك بأنه فعال لما يشاء، وليس لأحد أن يمنعه مما أراد؛ حيث قال: (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

وهو أبلغ من قوله: (إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر: 38]. فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً -الإرادة والإصابة- في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي تخصيص الضر بالمس، والخير بالإرادة: الإشارة إلى أن الإنسان في الضراء أخضع وأخبت، وإلى كشفها أدعى وأميل، وأن المطلوب اللياذ إليه، وأنه في الرخاء إلى مزيد الخير ورجاء الفضل أحرص وأقبل، والمقصود الركون إليه. أما مقصود المصنف من إيراده: فهو أن الكلام مطلوب فيه التوكيد، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله فيما يقابله، وحذف اختصاراً. وهذا ليس بمرضي من مثله؛ لأن فائدة العدول ليس الاختصار ولا التأكيد. وقال القاضي: "ولعله تعالى ذكر الإرادة في الخير، والمس في الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع "الفضل" موضع الضمير؛ للدلالة على أنه تعالى متفضل بما يريد بهم من الخير، لا بالاستحقاق عليه، ولم يستثن؛ لأن مراد الله لا يمكن رده". قوله: (وهو أبلغ من قوله: (إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر: 38]: قال صاحب "التقريب": وهو أبلغ؛ لعموم النفي ولتصريحه هاهنا، وتخصيص النفي بالأصنام والتجوزعن النفي بالاستفهام".

فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ - وهو الإصابة - في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)، والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة. (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ) فلم يبق لكم عذر، ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى وإتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه، واللام و"على": دلا على معنى النفع والضر، ووكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل، وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ): بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير. [(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) 109]. (وَاصْبِرْ) على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم، (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) لك بالنصر عليهم والغلبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أما التجوز عن النفي بالاستفهام: فهو أبلغ لما فيه من إعطائه معنى النفي مع الاستبعاد من أن تكون ممسكات ألبتة، لكن المبالغة هاهنا لإفادة الحصر الحقيقي بـ"لا" و"إلا"، وبالجهات التي أوردناها. قوله: (والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة): قيدها نظراً إلى معتقده، وإلا فهو سبحانه وتعالى فاعل لما يشاء. قوله: (مع ذلك): المشار إليه: قوله: "وكل إليهم" إلى آخره، أي: سيقت الآية لبيان توكيل الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل، وأدمج فيه معنى حب إيثار الهدى واطراح الضلال.

وروي أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال "إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني"، يعنى: أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتني الكفرة، فصبرت، فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر. وروى: أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة، وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثره". قال معاوية: فماذا قال؟ قال: قال "فاصبروا حتى تلقوني" قال: فاصبر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ستجدون بعدي أثرة) الحديث: من رواية البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". رواه أحمد بن حنبل. وروى البخاري عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم على الحوض". النهاية: "الأثرة- بفتح الهمزة والثاء-: الاسم من: آثر يؤثر إيثاراً: إذا أعطى، أراد أنه يستأثر عليكم، فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء". وفي غيرها: أثرة: بضم الهمزة وإسكان الثاء وبفتحها، وبكسر الهمزة وسكون الثاء، قال الأزهري: هو الاستئثار، أي: يستأثر عليكم بأمور الدنيا، ويفضل غيركم عليكم، ولا يجعل لكم في الأمر من نصيب. قوله: (فأين النواضح؟ ): وهي الإبل التي تسقي الزروع.

قال: إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان: أَلَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... أمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلَامِي بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُمْ ... إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "منه حديث معاوية للأنصار، رضوان الله عليهم، وقد قعدوا عن تلقيه لما حج: "ما فعلت نواضحكم؟ "، كأنه يقرعهم بذلك، لأنهم كانوا أهل حرث وزروع وسقي". وقيل: فقابله أبو طلحة بقوله: "قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر"، تعريضاً بأنا ظفرنا على أسلافكم، إذ قابلناهم عليها، أشار إلى أنها كانت نجائب. قوله: (نثا كلامي): النثا - بالنون: خبر، مشهور. النهاية: "النثا في الكلام: يطلق على القبيح والحسن".

سورة هود عليه السلام

سورة هود عليه السلام مكية وهي مئة وثلاث وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (أُحْكِمَتْ آياتُهُ): نظمت نظماً رصيناً محكماً لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف. ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة هود عليه السلام مكية، وهي مئة وثلاث وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (ويجوز أن يكون نقلاً): الضمير في "يكون" راجع إلى (أُحْكِمَتْ)، وهو وعطف على "نظمت نظماً" من حيث المعنى، فعلى الأول: الهمزة ليست للنقل، بل وضع "أحكم" ابتداء لذلك، ومثله "كلم" بالتشديد في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) [النساء: 164]، لأنه ليس للتكثير، بل هو موضوع لذلك، قاله ابن الأثير. فقوله: "نقلاً" مصدر فعل محذوف، أي: نقل نقلاً.

من: حكم- بضم الكاف-: إذا صار حكيماً، أي: جعلت حكيمة، كقوله تعالى (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس: 1] وقيل: مُنِعَت من الفساد، من قولهم: أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحَكَمة لتمنعها من الجماح، قال جرير: أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّى أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا وعن قتادة: أُحكمت من الباطل. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد بالفرائد، من دلائل التوحيد، والأحكام، والمواعظ والقصص. أو: جعلت فصولاً، سورةً سورة، وآيةً آية. وفرقت في التنزيل، ولم تنزل جملةً واحدة، أو فُصِّل فيها ما يحتاج إليه العباد: أي بين ولخص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حكم: [إذا] صار حكيماً): وأنشد للنمر بن تولب: وأبغض بغيضك بغضاً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما قال الأصمعي: إذا حاولت أن تكون حكيماً. قوله: (أبني حنيفة) البيت: يقول: امنعوا سفهاءكم عن إيذائي وشتمي، فإني أخاف أن أغضب وأصيبكم بسوء من هجو وغيره. قوله: (كما تفصل القلائد بالفرائد)، الراغب: "الفصل: إبانة أحد الشيئين عن الآخر، حتى يكون بينهما فرجة، ومنه قيل: المفاصل، والواحد: مفصل، وفصل القوم عن مكان كذا، وانفصلوا: فارقوه، قال تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ) [يوسف: 94]، ويستعمل في الأفعال والأقوال، كقوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان: 40]،

وقرئ: (أحكمت آياته ثم فصلت)، أي: أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك: (ثم فصلت)، أي: فرّقت بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى (ثم)؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلةٌ أحسن التفصيل، وفلانٌ كريم الأصل، ثم كريم الفعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: يفصل بين الناس بالحكم، وفصل الخطاب: ما فيه قطع الحكم، وحكم فيصل، ولسان مفصل، قال تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) إشارة إلى ما قال: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً) [النحل: 89]، والمفصل من القرآن: السبع الأخير، والفواصل: أواخر الآي، وفواصل القلادة: شذر يفصل به بينها". قوله: (ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال): قوله: "في الحال": يحتمل أمرين: أن يراد: التراخي في الرتبة- كما مر مراراً-، وأن يراد التراخي في الإخبار، كما قال القاضي، وقال أبو البقاء في غير هذا الموضع: "ثم- ها هنا-: غير مقتضية ترتيباً في المعنى، وإنما

و (كتاب) خبر مبتدأٍ محذوف، و (أحكمت) صفةٌ له، وقوله: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفةٌ ثانية، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون صلة لـ (أحكمت) و (فصلت)، أي: من عنده إحكامها وتفصيلها، وفيه طباقٌ حسن، لأنَّ المعنى: أحكمها حكيم وفصلها- أي: بينها وشرحها خبيرٌ عالمٌ بكيفيات الأمور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رتبت الأخبار بعضها على بعض". واختلاف المعنيين بحسب اختلاف تفسير اللفظين، أعني: (أُحْكِمَتْ) و (فُصِّلَتْ)، روى المصنف عن قتادة: "أحكمت آياته من الباطل"، وهو من قوله تعالى: (لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 42]. وقال الإمام: "إحكامها: عبارة عن منع الفساد، أي: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب المتقدمة، أو أنها محكمة في أمور: أحدها: أن معانيها التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وهي في غاية من الإحكام، وثانيها: أن آياتها غير متناقضة، والنقض ضد الإحكام، وثالثها: أن ألفاظها بلغت في البلاغة والفصاحة بحيث لم تقبل المعارضة، وهي مشعرة بالإحكام. وأما اللفظ الثاني: ففيه الوجوه الأربعة المذكورة في الكتاب، فإذا أريد ما قاله قتادة: "أحكمت من الباطل، ثم فصلت كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام"، كان من باب التراخي في الرتبة، لأن التفصيل أقوى من الإحكام. وإن أريد بت "الإحكام": ما ذكره الإمام من الوجوه، وبـ "التفصيل": تفصيل السور والآيات، أو التفريق في التنزيل، كان من باب الإخبار، كما ذكره أبو البقاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم أقول- والعلم عند الله-: يمكن أن يقال: إنه من باب الإخبار، وإن المتكلم ينبه السامع على ما اشتمل عليه الكلام من المعاني الفائقة الرائقة، ويقول: إني أنظرك- أيها المتأمل- ملياً في التروي فيما أورده عليك، واستنباط معانيه ودقائقه، واستخراج نكاته ومحاسنه، فحينئذ يقول: شبه ما تضمنه من المعاني المحكمة الرصينة، نحو: دلائل التوحيد، والنبوات، والمعاد، ووضع الأحكام، والإخبار عن القصص والمغيبات، في أن لا اختلاف فيها ولا اضطراب، بالبناء المحكم المرصف الذي لا نقض فيه ولا خلل، مثاله من هذه السورة الكريمة: الكلمة الفاذة الجامعة: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود: 112]، وشبه ما اشتمل عليه من الألفاظ الحسنة الرشيقة المفرغة في القوالب البديعية بتفصيل القلائد بالفرائد، مثاله فيها: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي) [هود: 44]. ثم علل كلاً من الخلتين بما يناسبها من الوصفين، فإن الحكيم: من يحكم الأشياء ويتقنها، ولذلك أحكمت معاقدها، والخبير: من يكون عالماً بحقائق الأشياء، يدرك ما لطف منها وما دق، فيحسن نيقتها، ومن ثم ترتيب مبانيها، فينطبق على هذا التأويل قوله: "هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، أحكمها حكيم، وفصلها خبير". وقال السجاوندي: ضمنت الحكم والإحكام، ومنعت الخلل والزلل؛ لفظاً ومعنى، من لدن حكيم في وضع محاسن الأخلاق بإتقان الآيات، خبير في أمر مناظم الأعمال بمصالح السياسات. وقلت- والله أعلم-: فكما وصف المنزل بالإحكام والتفصيل، ونعت المنزل بالحكيم والخبير، وصف المنزل عليه بالنذير والبشير، وأمر أمته بالتحلية بالعبادة، والتخلية بالاستغفار والإنابة.

[(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ* إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. (أَلَّا تَعْبُدُوا) مفعولٌ له على معنى: لئلا تعبدوا. أو تكون «أن» مفسرة؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو: أمركم أن لا تعبدوا إلا الله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا)، أي: أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأً منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم في العدول من قوله: أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير، إلى الدرجة الثانية: أحكمت آياته ثم فصل الحكيم الخبير، نحو: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ) [النور: 36 - 37]، ثم إلى الثالثة الكناية واختصاص (مِنْ لَدُنْ) المنبئ عن على الحضرة الصمدانية، والجناب الفرداني: من الإجلال والتعظيم ما لا يصل إلى كنهه وصف الواصف. قوله: (كأنه قيل: قال: لا تعبدوا): قيل: لما ذكر أن "أنْ" مفسرة، أتى تارة بالقول الصريح بدون "أن"، وتارة بما في معنى القول مع "أنْ"، وهما سواء. قوله: (مبتدأ منقطعاً عما قبله): أي: غير متصل بما قبله اتصالاً لفظياً كما في الوجوه، بل اتصالاً معنوياً، كأنه لما قيل له: إنا أنزلنا إليك كتاباً موصوفاً بصفات الكمال؛ امتناناً عليه، قال: فماذا يجب علي إذن؟ فقيل: أن تشتغل بما أمرت به من البشارة والنذارة، وتقول لأمتك: الزموا التوحيد والاستغفار.

إغراءً منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) كأنه قال: ترك عبادة غير الله، إنني لكم منه نذير، كقوله تعالى: (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد: 4] والضمير في (مِنْهُ) لله عز وجل، أي: إنني لكم نذيرٌ وبشيرٌ من جهته، كقوله: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) [البينة: 2]، أو هي صلة لـ (نذير)، أي: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. فإن قلت: ما معنى (ثم) في قوله: (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قوله: (كقوله [تعالى]: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ)): يعني: إذا كان: (أَلاَّ تَعْبُدُوا) منقطعاً، فـ "أن" لابد أن تكون مصدرية، فهو بمعنى: ترك عبادة غير الله، والأصل: اتركوا عبادة غير الله تركاً، فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب مناب الفعل، وأضيف إلى المعمول، نحو: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [محمد: 4]، لأن أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب مناب الفعل، ثم أضيف إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التأكيد. وقال القاضي: " (أَلاَّ تَعْبُدُوا) أمر بالتبري عن عبادة الغير، كأنه قيل: ترك عبادة غير الله تركاً، بمعنى: الزموا أو اتركوها تركاً". قوله: (أو هي صلة لـ (نَذِيرٌ): عطف على قوله: "نذير وبشير من جهته"، وعلى الأول: حال، أي: كائناً من جهته، قال أبو البقاء: "التقدير: نذير كائن منه، فلما قدمه صار حالاً، ويجوز أن يتعلق بـ (نَذِيرٌ)، أي: نذير من أجل عذابه". قوله: (معناه: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة): فعلى هذا: (ثُمَّ) للتراخي في الحال، كما قال آنفاً: "ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال".

أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله: (ثُمَّ اسْتَقامُوا). [فصلت: 30، والأحقاف: 13]. (يُمَتِّعْكُمْ): يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنةٍ مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى): إلى أن يتوفاكم، كقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ): ويُعط في الآخرة كل من كان له فضلٌ في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه، أو: فضله في الثواب، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: (اسْتَغْفِرُوا) مما قدمتم من الشرك، والاستغفار لا يتحقق إلا بعد التوبة، لأن الاستغفار باللسان توبة الكذابين، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي: دوموا على التوبة، نحو قوله تعالى: (وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82]، والتراخي في الرتبة. قلت: هذا معنى الوجه الثاني: "أو استغفروا، فالاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها"، ومعنى الاستقامة: الدوام على التوبة، ولاشك أن الاستقامة على التوبة أعلى من التوبة نفسها. وقال القاضي: " (ثُمَّ تُوبُوا): ثم توصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة، فإن المعرض عن طريق الحق لابد له من رجوع، وقيل: استغفروا من الشرك، ثم توبوا إلى الله بالطاعة، ويجوز أن تكون (ثُمَّ) لتفاوت ما بين الأمرين". قوله: (أو فضله في الثواب): عطف على قوله: "جزاء فضله"، فالفضل الأول بمعنى الزيادة، قال السجاوندي: الفضل: هو العمل الزائد على الإيمان، فيقدر مضاف في الثاني ليصح، وهو الجزاء، لأن العمل لا يؤتى في الآخرة، ومن ثم قال: "جزاء فضله" على الوجه الثاني، وهو بمعنى الثواب، من الفضيلة؛ واحدة الفضائل، فلا يقدر شيء، لأنه نفس

والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات (وَإِنْ تَوَلَّوْا): وإن تتولوا، (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل، وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادرٌ على كل شيء، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ: "وإن تولوا"، من: ولى. [(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)]. (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ): يزورّون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجزاء، فكأنه قيل: يؤت كل ذي فضل ثوابه، أي: جزاء عمله، أما قوله: "والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات"، فتفسيره على الوجه الأول: فإذا لم ينقص من الجزاء شيء تكون درجة كل مكلف بمقدار فضله من الطاعات، وعلى الثاني: فإذا أعطي كل أحد جزاءه يعلم تفاوته بتفاوت تلك الطاعات، نقل محيي السنة عن أبي العالية: "من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال". قوله: (وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء): ليس المراد أن جملة قوله: (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بيان لنفس العذاب، بل المراد أن هذه الجملة بيان للجملة التي ذكر فيها العذاب، فيلزم منه بيان شدة العذاب، كأنه قيل: أخاف عليكم عذاب اليوم الكبير يوم ترجع الأمور كلها إلى القادر العظيم السلطان الواحد القهار، فأعظم بعذاب معذبه من هذا شأنه. قوله: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يزورون عن الحق وينحرفون عنه): يريد: أن ثني الصدور كناية

استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعني: ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار "يريدون" لقود المعنى إلى إضماره: الإضمار في قوله تعالى: (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء: 63]، معناه فضرب فانفلق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الإعراض والانحراف عن الحق، ثم علل بيان الكناية ولزوم اللفظ هذا المعنى بقوله: "من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه ثنى عنه صدره". قوله: (ويريدون ليستخفوا): شبهه بقوله: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ) [الشعراء: 63] في مجرد إرادة التقدير ليستقيم المعنى، وروي عنه في الحاشية: "ثني الصدور بمعنى الإعراض إظهار للنفاق، فلم يصح أن تتعلق به لام التعليل، فوجب إضمار ما يصح تعلقها به من شيء يستوي معه المعنى، فلذلك قدر: ويريدون ليستخفوا من الله، أي: يظهرون النفاق ويريدون مع ذلك أن يستخفوا، وكذلك (حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ)، معناه: ألا حين يريدون إظهار نفاقهم، ويفعلون ما هو أدل على نفاقهم من ثني الصدور، وهو استغشاء الثياب، يريدون الاستخفاء". قلت: أراد أنه كان يصدر منهم ثني الصدور واستغشاء الثياب، ويريدون استخفاء ما كانوا يضمرونه من النفاق، وهاتان الحالتان سبباً إظهار النفاق، فلا يصح التعليل بقوله: (لِيَسْتَخْفُوا)، فلابد من تقدير "يريدون"، لتكون الآية نعياً عليهم بسوء صنيعهم وشدة وقاحتهم، أي: أنهم كانوا يفعلون في الحالتين ما به يظهر نفاقهم، وهم مع ذلك يريدون الاستخفاء.

ومعنى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ): ويزيدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً، كراهةً لاستماع كلام الله تعالى، كقول نوح عليه السلام: (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح: 7]، ثم قال: (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعني: أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلعٌ على ثنيهم صدورهم، واستغشائهم ثيابهم، ونفاقهم غير نافقٍ عنده. روي أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. واللام في "ليستخفوا" صلة "يريدون"، كقوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) [الصف: 8]، يعضده قوله: "يريدون الاستخفاء" في الكرة الثانية. وفي تكرير كلمة التنبيه، وإقحامه بين الظرف وعامله: الدلالة على الترقي من حالة إلى أخرى أعجب منها؛ استجهالاً لهم، ونظيره إقحام حرف الاستفهام بين المعطوف والمعطوف عليه، والشرط والجزاء، كما مر مراراً. قال السجاوندي: (لِيَسْتَخْفُوا): يطلبوا الخفاء تكلفاً. قوله: (ونفاقهم غير نافق): تجنيس اشتقاقي، ولم يرد بهذا النفاق: ما كان يصدر من المنافقين؛ لعطف قوله: "وقيل: نزلت في المنافقين" عليه، بل ما كان يصدر عن بعض المشركين مما يشبه النفاق. وقال الإمام: "روي أن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا،

منطقٌ حلو، وحسن سياقٍ للحديث، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل: نزلت في المنافقين. وقرئ: "تثنونى صدورهم"، و"اثنونى": من الثني، كـ"احلولى" من الحلاوة، وهو بناء مبالغة، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: "لتثنونى صدورهم". وقرئ: "تثنونّ"، وأصله: تثنونن؛ تفعوعل من الثن، وهو ما هشَّ وضعف من الكلأ، يريد: مطاوعة صدورهم للثني، كما ينثني الهش من النبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، كيف يعلم بنا؟ ! وعلى هذا كان (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) كناية عن النفاق"، وقال: "روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وولاه ظهره، واستغشى ثيابه"، ومن ثم استشهد المصنف بما كان يفعله قوم نوح: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) [نوح: 7]. وأما القول بأنها نزلت في المنافقين، وأن السورة مكية: فمشكل، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "تثنوني"): قال ابن جني: "قرأها ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر، وهو "يفعوعل" من أبنية المبالغة لتكرار العين، كقولك: أعشب البلد، فإذا كثر قلت: اعشوشب. واستحلى، وإذا قوي قلت: احلولى". قوله: (وقرئ: "تثنون"): قال ابن جني: "روي عن ابن عباس، وهو "تفعوعل"؛ من الثن،

وقرئ: "تثنئن"؛ من اثنأن، افعالَّ منه، ثم هُمِز، كما قيل: ابيأضت وادهأمت، وقرئ: "تثنوي"، بوزن ترعوي. [(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)]. فإن قلت: كيف قال: (عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) بلفظ الوجوب، وإنما هو تفضل؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو ما هش وضعف من الكلأ، أنشد أبو زيد: يا أيها الفصيل المعني ... إنك ريان فصمت عني يكفي اللقوح أكلة من ثن وأصلها: تثنونن، فلزم الإدغام لتكرير العين إذ كان غير ملحق، وقالوا في "مفعوعل" من رددت: مردود، وأصلها: مردودد، فأسكنت النون الأولى، ونقلت كسرتها إلى الواو، وأدغمت في النون". قوله: (وقرئ: "تثنئن"): قال ابن جني: "رويت عن عروة الأعشى، وهي "تفعال" من لفظ الثن ومعناه، وأصله: تثنان، فحركت الألف لسكونها وسكون النون الأولى،

قلت: هو تفضلٌ إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم، رجع التفضل واجباً، كنذور العباد. و"المستقرّ": مكانه من الأرض ومسكنه. و"المستودع": حيث كان مودعاً قبل الاستقرار؛ من صُلب، أو رحم، أو بيضة، (وَمُسْتَوْدَعَهَا): كُلٌّ واحدٍ من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح، يعني: ذكرُها مكتوبٌ فيه مبين. [(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فانقلبت همزة، نحو: ابيأض وابياض، والمعنى: كما أن الثن سريع إلى طالبه غير معتاص على آكله، كذلك صدورهم مجيبة لهم إلى أن يثنوها، ليستخفوا من الله تعالى". قوله: (هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل [به] عليهم، رجع التفضل واجباً، كنذور العباد): قال الإمام: "وجب على الله الرزق بحسب الوعد والفضل والإحسان"، فلا يكون كالنذور، وقال القاضي: " (عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا): غذاؤها ومعاشها؛ لتكفله إياه تفضلاً ورحمة، وإنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقاً لوصوله، وحملاً على التوكل عليه". وقلت: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق، كمن أقر بشيء في ذمته، ثم كتب عليه صكاً.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي: ما كان تحته خلقٌ قبل خلق السموات والأرض وارتفاعه فوقها إلا الماء، وفيه دليلٌ على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض. وقيل: وكان الماء على متن الريح، والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسكٌ كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه. (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بـ (خلق)، أي: خلقهن لحكمةٍ بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه، ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: (ليبلوكم)، يُريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ما كان تحته خلق قبل خلق السماوات والأرض): يريد: أن معنى الاستعلاء في قوله: (عَلَى الْمَاءِ) ليس استعلاء تمكن واستقرار، بل استعلاء الفوقية، وكان عرشه على ما هو عليه الآن، وكذا الماء، ثم إن الله تعالى خلق السماوات والأرض، ورفع السماوات فوق الأرض، روى الإمام عن الأصم هذا الوجه. وقال القاضي: " (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) معناه: لم يكن حائل بينهما، لا أنه كان موضوعاً على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء". قوله: (ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: (لِيَبْلُوَكُمْ)): أراد أن التركيب من

فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق إليه، فهو مُلابسٌ له، كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً، واسمع أيهم أحسن صوتاً، لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة التبعية الواقعة على طريقة التمثيل، شبه حال المكلف الممكن المختار مع تعلق علم الله تعالى بأفعاله، بحال المختبر، ثم استعير لجانب المشبه: (لِيَبْلُوَكُمْ) موضع "ليعلم"، وجعل قرينة الاستعارة علم العالم الخبير بما ظهر وما بطن، وسيجيء تمام تقريره في "الملك". قوله: (لما في الاختبار من معنى العلم): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأنه ذكر في سورة الملك في نظيره: أنه ليس بتعليق. قلت: وعلله بقوله: "إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق"، ومعناه: أن من شرط التعليق أن لا يذكر شيء من المفعولين قبل الجملة، وها هنا سبق المفعول الأول، وهو الضمير المنصوب، فلا يكون تعليقاً. ويمكن أن يقال: المراد بالتعليق ها هنا أن قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ) سبب لما علق عليه الاستفهام، وهو العلم، وقد اكتفى بالسبب- وهو الابتلاء- عن المسبب- وهو العلم-، وعكسه قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة: 196]، أي: فحلق فعليه فدية، وهو المراد من قوله: "لأنه طريق إليه، كما أن النظر والسمع طريقان إليه"، فتقدير الكلام: ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملاً. هذا تقدير الزجاج في سورة الملك. يؤيده أن المصنف شبه ما في الفرقان، وهو قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً

فإن قلت: كيف قيل: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت: الذين هم أحسن عملاً هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان: 20] بهذه الآية، وكتب في الحواشي: "أن تعلق (أَتَصْبِرُونَ) بقوله: (فِتْنَةً) تعلق (أَيُّكُمْ) بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)، والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيكم أحسن صبراً، كما ابتليناكم لنعلم أيكم أحسن عملاً"، ولا بعد أن يحمل قوله قبيل هذا: "ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون" على هذا، ويقدر "ليعلم كيف تعملون"، فيكون قرينة لهذا المقدر. وأما في سورة الملك: فهو محمول على التضمين حيث قال: "تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا"، وبين التضمين والتقدير بون، ولا يبعد حمل الكلام الواحد على الوجهين المختلفين باعتبارين للتفنن. قوله: (إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده): مذهبه، وعندنا: على التمثيل، وحاصل الجواب: أن قوله: (أَيُّكُمْ) وإن كان عاماً لفظاً، لكن المراد منه المتقون؛ تشريفاً لهم. قال السجاوندي: (لِيَبْلُوَكُمْ) إشارة إلى أنه خلق الخلق ليظهر إحسان المحسن، كذا في "الإيجاز"، فعلى هذا لا بعد أن يحمل "أفعل" على الزيادة المطلقة، وسيجيء تقريره في سورة الزمر، المعنى: ليبلوكم أيكم أحسن عمله.

وليكون ذلك لطفاً للسامعين، وترغيباً في حيازة فضلهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله". قرئ: "ولئن قلت إنكم مبعوثون"؛ بفتح الهمزة. ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق عنك تشتري لنا لحماً، وأنك تشتري؛ بمعنى: علك، أى: ولئن قلت ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "وإنما ذكر صيغة التفضيل، والاختبار شامل، ليفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح، للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائماً في مراتب العلم والعمل، فإن المراد بالعمل: ما يعم عمل القلب والجوارح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله"، والمعنى: أيكم أكمل علماً وعملاً". قوله: (قرئ: "ولئن قلت أنكم مبعوثون"؛ بفتح الهمزة): قيل: هي قراءة الأعمش، ولما أن الواجب أن يؤتى بعد القول: "إن" بالكسر، فلما جاء بالفتح، أوله تارة بمعنى: "لعل"،

لهم لعلكم مبعوثون- بمعنى: توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره- لقالوا: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) باتين القول ببطلانه. ويجوز أن تضمن (قُلْتَ) معنى: ذكرت. ومعنى قولهم: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ): أنّ السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به، أو أشاروا بـ (هذا) إلى القرآن؛ لأنّ القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... كما نقله عن سيبويه، وأخرى أن "القول" مضمن معنى: الذكر. قوله: (توقعوا بعثكم وظنوه): فإن قلت: هذا مخالف لمعنى المشهورة، لأن معناه القطع والبت بالبعث، وعليه المعنى؟ قلت: يحمل على الكلام المنصف والاستدراج، أي: تفكروا فيه ولا تبتوا القول ببطلانه، فإنكم إن تفكرتم عثرتم على الجزم بوقوعه، وهو أذعن للخصم. قوله: (ومعنى قولهم: (إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)): يريد: أن هذا الجواب غير مطابق ظاهراً لقول الرسل: (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ)، لكن يريد به زبدته وخلاصته، كأنهم قالوا: إن هذا القول غرور وباطل كبطلان السحر، فيكون كناية عن معنى الباطل. قوله: (أو أشاروا بـ (هّذَا) إلى القرآن): فالجواب- على هذا- محتو على الدليل، لأنهم إذا أنكروا القرآن، وهو مشتمل على هذا القول وغيره، فيدخل فيه إنكار هذا المعنى بالوجه البرهاني، وهو من الكناية الإيمائية، والمعنى على هذا: ولئن تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث ليقولن: ما هذا المتلو إلا باطل، وإليه الإشارة بقوله: "لأن القرآن هو الناطق بالبعث".

وقرئ: "إن هذا إلا ساحر مبين"، يريدون الرسول، والساحر: كاذب مبطل. [(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَاتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. (الْعَذابَ): عذاب الآخرة، وقيل: عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين (إِلى أُمَّةٍ): إلى جماعةٍ من الأوقات، (ما يَحْبِسُهُ): ما يمنعه من النزول؛ استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء، و (يَوْمَ يَاتِيهِمْ) منصوبٌ بخبر (ليس)، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر "ليس" على "ليس"، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها، كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلا حيث يقع العامل. (وَحاقَ بِهِمْ): وأحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ): العذاب الذي كانوا به يستعجلون، وإنما وضع (يستهزئون) موضع "يستعجلون"، لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء، والمعنى: ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره. [(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "إن هذا إلا ساحر"): حمزة والكسائي. قوله: (قتل جبريل المستهزئين): وهم الذين جاء في شأنهم: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95]، روى المصنف عن عروة بن الزبير: وهم خمسة نفر. قال ابن عباس: ماتوا كلهم قبل يوم بدر، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أكفيكهم" إلى آخر القصة.

وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)]. (الْإِنْسانَ) للجنس، (رَحْمَةً): نعمةً من صحة وأمن وجدة (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) ثم سلبنا تلك النعمة، (إِنَّهُ) شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، قاطعٌ رجاءه من سعة فضل الله، من غير صبرٍ ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع (لَيَئُوسٌ كَفُورٌ): عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله، نَسَّاءٌ له. (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي: المصائب التي ساءتني، (إِنَّهُ لَفَرِحٌ): أشر بطر، (فَخُورٌ) على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأمن وجدة): وأنشد: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسدة الجوهري: "وجد في المال وجداً- بالفتح والضم والكسر- وجدة؛ أي: استغنى. وأوجده؛ أي: أغناه". قوله: (قاطع رجاءه من سعة فضل الله، من غير صبر): وذلك أن الصابر: من يحبس نفسه على التسليم لقضاء الله تعالى راجياً فضل الله، والآيس: قاطع رجاءه قلق مضطرب، لا يثبت على ما ناله من المكروه. قوله: ((إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أشر بطر)، الراغب: "الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر

(إِلَّا الَّذِينَ) آمنوا، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمةٌ أن يشكروا، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يكون في اللذات البدنية الدنيوية، فلهذا قال: (لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23]، وقال: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الرعد: 26]، ولم يرخص الفرح إلا في قوله: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: 58]، وقوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم: 4] ". قوله: ((إِلاَّ الَّذِينَ) آمنوا، فإن عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا): تفسير لقوله: (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، قال القاضي: " (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على الضراء إيماناً بالله، واستسلاماً لقضائه، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) شكراً لآلائه سابقها ولاحقها". وقلت: قد دل عطف قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) على (صَبَرُوا) على أن المراد بالصبر: الإيمان؛ لأنها ضميمته، ودل الصبر على أن المراد بالأعمال الصالحات: الشكر؛ لأنه قرينته، على ما روي: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"، ولأن الاستثناء من الكلام السابق يقتضيه، لأن المصنف حمل الاستثناء على الاتصال، يعني: شأن الإنسان وموجب جبلته: أنه إذا أصاب الضراء بعد السراء لم يصبر- وإليه الإشارة بقوله: "من غير

[(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)]. كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. صبر ولا تسليم"-، وإذا انقلبت هذه الحالة لم يشكر- وهو المراد من قوله: "شغله الفرح والفخر عن الشكر"-، ثم استثني من العام: المؤمنون، وإنما وضع (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) موضع "المؤمنين" كناية ليصرح بهذا المعنى. وأشار إليه في "لقمان" في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان: 31]: كأنه قيل: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن". قال الإمام: "إذا حمل "الإنسان" على الجنس يحمل الاستثناء على الاتصال، على منوال قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [العصر: 2 - 3]، وإذا حمل على الكافر كان الاستثناء منقطعاً، كأنه قيل: من ديدن الكافرين وعادتهم أن لا يصبروا على الضراء، ولا يشكروا على السراء، ولكن عادة المؤمنين الصبر والشكر". والأول هو الوجه. قوله: (كانوا يقترحون عليه)، الجوهري: "اقترحت عليه شيئاً: إذا سألته إياه من غير روية". قوله: (ويتهاونون به وبما جاء به من البينات): وفي نسخة: "وبغير ما جاء به"، والأول أظهر.

فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي: لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم؛ مخافة ردّهم له وتهاونهم به (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) بأن تتلوه عليهم، (أَنْ يَقُولُوا) مخافة أن يقولوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أي: هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم قال: (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي: ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فحرك الله منه): كقوله: هز من عطفه، وحرك من نشاطه. و"من" للتبعيض، يعني: أنه صلوات الله عليه كان مؤدياً لرسالات ربه، لكن فرض أنه قد يتهاون ويترك بعض ما يوحى إليه، فحرك بعضه ليقوم بكليته بأداء الرسالة، ويطرح المبالاة بردهم واستهزائهم، وتممه بقوله: "وهيجه"، وذلك أن قوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) وعيد عظيم وتهديد شديد، نحوه قوله تعالى: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، أي: وإن تركت شيئاً من ذلك فقد ارتكبت أمراً عظيماً وخطباً خطيراً. وفي معنى التوقع الذي يعطيه "لعل" أيضاً تهديد، يعني: إن ترك بعض ما يوحى إليه مما ليس من شأنه، ولا ينبغي ولا يستقيم أن يكون، ولا يتصور ذلك إلا على سبيل الفرض لا على سبيل القطع، ومن ثم ناسبه بناء "ضائق" دون "ضيق"- كما قال-: "ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت".

وتبلغهم ما أُمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا، (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحى بقلب فسيح وصدرٍ منشرح، غير ملتفتٍ إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت: لم عدل عن "ضيقٍ" إلى "ضائق"؟ قلت: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجواد الثابتين المستقرّين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائدٌ وجائد، ونحوه: "كانوا قوماً عامين" في بعض القراءات [الأعراف: 64]، وقول السمهري العكلي: بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللّئِيمُ فَسَامِنٌ ... بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا [(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)]. (أَمْ) منقطعة، والضمير في (افْتَراهُ) لما يوحى إليك، تحداهم أوّلاً بعشر سور، ثم بسورة واحدة، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمنزلة أما اللئيم) البيت: "سامن": أي: سمين، والمراد: حدوث السمن، والشحوب: تغير اللون من غم أو سقم، والشحوب: الهزال أيضاً. قوله: (تحداهم أولاً بعشر سور، ثم بسورة واحدة): كذا عن القاضي. وقال الإمام: "التحدي بعشر سور لابد أن يكون سابقاً على التحدي بسورة واحدة"، وأتى بالمثال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي ذكره المصنف، وقال: "التحدي بالسورة الواحدة ورد في البقرة ويونس، والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون هود متقدمة في النزول على يونس والبقرة". وقال محيي السنة: "أنكر المبرد هذا، وقال: بل نزلت سورة يونس أولاً، وقال: معنى قوله في سورة يونس: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس: 38]: في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد، فأتوا بعشر سور مثله من غير خبر ولا وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرد البلاغة". وقلت- والعلم عند الله-: والذي يقتضيه المقام أن التي في البقرة ويونس واردة بعد إقامة البرهان على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، فالواجب بعد ذلك إقامة البرهان على إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تثبت النبوة إلا بإظهار المعجزة، وهي التحدي بسورة فذة من هذا الكتاب الكريم، ولهذا حد المحققون القرآن بأنه: هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه. وما نحن بصدده وارد في تعنت الكفرة واقتراحهم الآيات عناداً واستهزاء، كما قال المصنف: "وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به، ويقولون: هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن، ولم أنزل ما لا نريده؟ ! "، بل هو ليس بآية، وإنما هو من افترائك، وليس من عند الله، وكان يضيق لذلك صدره. واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) سلاه صلوات الله عليه بقوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ولما أضرب عن ذلك الاقتراح، وحكى نوعاً آخر من قبائحهم أعظم من ذلك، وهو طعنهم في القرآن، بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، أمر حبيبه صلوات الله عليه وسلامه بأن يجيب عنه بقوله: (قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) على مقتضى سؤالهم، وهو كالقول بالموجب، يعني: هبوا أنه كما تزعمون مفترى، فأتوا أنتم بعشر سور مثله، أي: ما أقول لكم فأتوا بمثله كله، ليس فيه اختلاف من جهة المعاني والألفاظ والإخبار عن المغيبات والقصص والأحكام والأخلاق وغير ذلك، بل نبذاً منه جامعاً لهذه المعاني، ولم يكن فيه تناقض. واعلم أن المراد بتخصيص العدد إيثار طريق القصد، وما به تختلف المعاني، كما يوجد في الكلام المبسوط الذي له ذيول وتتميمات، وذلك لدفع الافتراء ونفي التهمة، وأنه من عند الله لا من عنده، يعني: لو كان مفترى من عندي لوجدتم فيه اختلافاً كثيراً، وهذا لا يتم بسورة فذة، كسورة الكوثر والإخلاص وأشباههما، كما يتم في التحدي لمجرد إثبات النبوة، قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82]. قال المصنف: "تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه، (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)، أي: لكان الكثير منه متناقضاً، قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضه بالغاً حد الإعجاز، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته، وبعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه مخالفاً، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه بخلافه، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه". وقلت: ومن ثم عقبه بقوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود: 14]. وأما بيان ارتباط قوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ)) بالفاء بما قبله: فإنه تعالى لما بين أن الحكمة في خلق السماوات والأرض وتدبير الملك ابتلاؤه الناس، بقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]، ولا ارتياب أن الابتلاء إنما يكون بالأعمال صالحها وسيئها، ثم لابد من الجزاء، ولا يكون ذلك إلا بعد البعث، كما سبق غير مرة، قال لحبيبه صلوات الله عليه: إذا بنيت الأمر على هذه القاعدة، وقلت لهؤلاء المعاندين: إنكم مبعوثون من بعد الموت للجزاء كذبوك أبلغ تكذيب، وإذا أوعدتهم على التكذيب بنزول العذاب العاجل استعجلوه وقالوا: ما يحبسه؟ استهزاء وسخرية، وإن أتيت بآية بينة ومعجزة قاهرة على صدق دعواك تارة اقترحوا آيات أخر تمرداً، وأخرى قالوا: افتراه؛ عناداً. ثم إنك- أيها المتأمل- إذا أمعنت النظر، وجدت هذه السورة الكريمة إلى خاتمتها مؤسسة على تسلي الحبيب، ودفع نسبة الافتراء من التنزيل، ألا ترى حين شرع في قصة نوح

كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطرٍ نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد (مِثْلِهِ) بمعنى: أمثاله، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له (مُفْتَرَياتٍ) صفة لعشر سور. لما قالوا: افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه السلام، وقبل أن يسردها، كيف أتى بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) عاطفاً على مثلها بعد الكلام الطويل، ولهذا ذهب مقاتل إلى أنها في محمد صلوات الله عليه، وإن توسطت بين قصة نوح عليه السلام، ولما استوفى حقها جاء بقوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) [هود: 49] مزيداً للتسلي، وحين ختم السورة الكريمة جيء بقوله: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) [هود: 120] إلى قوله: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) [هود: 121]، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (كما يقول المخاير في الخط): المخاير: من يقول لصاحبه: خطي خير من خطك، اكتب مثل خطي لننظر أي خطينا خير. الأساس: "خيرة بين الأمرين، فتخير، وخايره في الخط، وتخايروا في الخط وغيره إلى حكم، وخايرته فخرته، أي: كتبت خيراً منه". قوله: (ذهاباً إلى مماثلة): مفعول له، يعني: وضع الله تعالى (مِثْلِهِ) موضع "أمثاله"، ليدل على اعتبار أفراد المعدود واحداً واحداً، وإليه الإشارة بقوله: "إلى مماثلة كل واحد منها له"، أي: للقرآن.

وليس من عند الله، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إليّ وأنّ الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. فإن قلت: كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه: مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى. [(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)]. فإن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله (لَكُمْ فَاعْلَمُوا) بعد قوله قُلْ؟ قلت: معناه: فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، وقد قال في موضع آخر: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ) [القصص: 50]، ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله: فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ووجه آخر: وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) لـ (من استطعتم) [هود: 13]، يعني: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على المعارضة، لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي: أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه وَاعلموا عند ذلك أَنْ (لا إِلهَ إِلَّا هو) وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): مبايعون بالإسلام بعد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قاودهم على دعواهم) هو من المقود، وهو الحبل يشد في الزمام، أو اللجام تقاد به الدابة.

هذه الحجة القاطعة، وهذا وجهٌ حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقيناً وثبات قدمٍ على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد. ومعنى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فهل أنتم مخلصون؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا وجه حسن مطرد): أي: الكلام معه ملتئم آخذ بعضه على حجزة بعض، والضمائر متحدة لمخاطب واحد، بخلافه إذا جعل الخطاب في قوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) للمسلمين. وقلت: ومطرد معنى؛ لأن قوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) مرتب على السابق بالفاء، وارد في تقرير ما سيق له الكلام من نفي الافتراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلقه من عند نفسه، بل هو من عند اله، ويؤيده قول المصنف: "واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا هو، وان توحيده واجب، والإشراك به ظلم"، وليس فيه ما يدل على إثبات نبوته، كما في البقرة. ومعنى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): فهل أنتم مذعنون ومسلمون أن الذي جاء به محمد ليس بمفترى، بل هو من عند الله، وأنه تعالى أنزله ملتبساً بعلمه، فلا اختلاف فيه، كما قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82]، فإن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه.

[(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ): نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيةً كاملةً من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحمن وتصدّق: فعلت حتى يقال، فقيل. ولمن قاتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل. وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحماً، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم. وقرئ: "يوفّ" بالياء على أن الفعل لله عزّ وجلّ. و"توفَّ إليهم أعمالهم" بالتاء على البناء للمفعول، وفي قراءة الحسن: "نوفي" بالتخفيف وإثبات الياء، لأنّ الشرط وقع ماضياً، كقوله: يَقُولُ: لَا غائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك) إلى آخره: الألفاظ كلها مقتبسة من الحديث المشهور المخرج في "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود" والنسائي.

يعني: لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي: كان عملهم في نفسه باطلا، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. وقرئ: "وبطل" على الفعل. وعن عاصم: "وباطلاً" بالنصب، وفيه وجهان: أن تكون (ما) إبهامية وينتصب بـ (يعملون)، ومعناه: وباطلا، أيّ باطل كانوا يعملون، وأن تكون بمعنى المصدر على: وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون. [(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: كان عملهم في نفسه باطلاً): قال أبو البقاء: "باطل: خبر مقدم، و (مَا كَانُوا) مبتدأ، والعائد محذوف، أي: يعملونه". قوله: (وعن عاصم: "وباطلاً"): وهي شاذة، قال ابن جني: "قرأها أبي وابن مسعود، وهو معمول (يَعْمَلُونَ)، و (مَا) زائدة للتوكيد، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر "كان" عليها، لأنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل، وكأنه قال: ويعملون باطلاً كانوا، ومثله: (أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ: 40]، (إِيَّاكُمْ) معمول (يَعْبُدُونَ)، وقد استدل أبو علي به على التقديم". وقال القاضي: " (وباطلاً) إذا كان مصدراً كان مثل قوله:

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) معناه: أمّن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، (كان على بينة مِنْ رَبِّهِ) أي: على برهانٍ من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا خارجاً من في زور كلام قوله: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ) معناه: أمن كان يريد الحياة الدنيا، فمن كان على بينة): يعني: قوله: "فمن كان على بينة" عطف بحرف التعقيب على قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، ودخلت الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، وأن هذا التعقيب منكر، يعني: أيثبت في العقول، ويحصل في الوجود، مثل هذا التعقيب؟ أم كيف يقال: من كان يريد الحياة الدنيا أفمن كان على بينة من ربه، إلى آخره؟ ! أي: لا يحصل ولا يذكر، كما قال: "لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم"، هذا أبلغ من لو جيء بكلمة التشبيه، كما في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18].

(وَيَتْلُوهُ) ويتبع ذلك البرهان (شاهِدٌ مِنْهُ) أي: شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن (مِنْهُ) من الله، أو شاهد من القرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً (وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) وهو التوراة، أى: ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَيَتْلُوهُ): ويتبع ذلك البرهان): يعني: ذكر الضمير في "يتلوه"، وهو دليل النقل باعتبار معنى البرهان في قوله: (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)، فساعد العقل النقل. قوله: (أو شاهد من القرآن، فقد تقدم ذكره): يعني: الضمير في (مِنْهُ): إما لله تعالى؛ بشهادة (مِنْ رَبِّهِ)، والشاهد: القرآن، و"من" ابتداء. أو للقرآن، و"من" بيان، والشاهد أيضاً القرآن على سبيل التجريد، جرد من القرآن الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على كون دين الإسلام حقاً، وجعلها شاهدة، وهي هو. روى محيي السنة عن الحسين بن الفضل: "هو القرآن ونظمه وإعجازه". أما قوله: "فقد تقدم ذكره آنفاً": ففيه إرشاد على معرفة استنباط النظم، وتقريره: أنه تعالى

وقرئ: "كتابَ موسى" بالنصب، ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أنّ القرآن حق، (وَيَتْلُوهُ): ويقرأ القرآن (شاهِدٌ مِنْهُ) شاهد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لما سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) - من استهزاء المشركين، واقتراحهم الآيات، وطعنهم في القرآن أنه مفترى، فقيل لهم: إن كان مفترى فهاتوا أنتم عشر سور مفتريات مثله، وحين لم تقدروا عليه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، أي: ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز وإخبار بغيوب، وأراد أن يبين أن ذلك الطعن لم يكن من خبرة وتمييز، بل من جهل وحب للشهوات والركون إلى الدنيا، وأنهم من الذين لم يرد الله بهم خيراً، بخلاف من أراد الله هدايته، وهو على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى- قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) الآية [هود: 15]، وعقبها بقوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الآية. قوله: (ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أن القرآن حق): يعني: على قراءة النصب يكون "كتاب موسى" معطوفاً على الضمير في "يتلوه"، وهو ضمير "القرآن"، ويكون المراد من "يتلوه": التلاوة لا غير، ومن "البينة": الدليل على أن القرآن حق، وبيانه: أنه تعالى عقب بقوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، والمراد منهم: المتعنتون الذين كانوا يقترحون الآيات، ولا يعتدون بالقرآن، ويتهاونون به، كأنه قيل: أيستوي من جاءه بينة من ربه ولم يعتد بها لأنه مال إلى الأرض وأخلد إليها ومن كان على بينة من ربه، أي: اعتد بالقرآن وبالدلائل الدالة على صدقه، ثم اشتغل بتلاوته، وكان من قبل ذلك يقرأ التوراة.

ممن كان على بينة، كقوله _وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) [الأحقاف: 10]، (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد: 43]، (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ويتلو من قبل القرآن التوراة (إِماماً) كتاباً مؤتماً به في الدين قدوة فيه (وَرَحْمَةً): ونعمة عظيمة على المنزل إليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"من" في (مِنْهُ) على هذا: تبعيضية، يدل عليه قوله: "شاهد ممن كان على بينة"، والمراد منه: عبد الله بن سلام، و"من" في (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ): هو وأصحابه ممن كانوا على معرفة من صدق نبوة محمد صلوات الله عليه، والدليل على أن المراد بـ "الشاهد" عبد الله: عطف "كتاب موسى" على الضمير المنصوب في "يتلوه"، لأن التالي للكتابين حينئذ من آمن من أهل الكتاب. وعلى الأول: الشاهد: هو القرآن، والقرينة المقيدة: النظم، على ما سبق بيانه. ومن أراد تقييده بغيرهما فعليه الدليل من الخارج؛ لما ليس في سياق الكلام ما يدل عليه. قوله: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) [الرعد: 43]): استشهاد لتعاضد الأدلة العقلية والسمعية، فإن شهادة الله هناك: كالبينة في هذه الآية؛ في إظهار الدليل على صدق القرآن من تأليفه على النظم المعجز الفائت لقوى البشر، و"من عنده علم الكتاب": كالشاهد ها هنا، لأن المراد منه علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، لأنهم يشهدون بصحته. قوله: ((إِمَاماً) كتاباً مؤتماً به): قال الزجاج: "أي: ومن قبل هذا كتاب موسى دليلاً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ونصب (إِمَاماً) على الحال؛ لأن (كِتَابُ مُوسَى) معرفة".

(أُولئِكَ) يعني: من كان على بينة (يُؤْمِنُونَ بِهِ): يؤمنون بالقرآن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ)، وقرئ: "مُرية"، بضم الميم، وهما الشك (مِنْهُ) من القرآن أو من الموعد. [(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ* أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون* أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)]. (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ): يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم (الْأَشْهادُ) من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً، ويقال (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) فواخزياه ووافضيحتاه. والأشهاد: جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فواخزياه ووافضيحتاه) هذا التفجع مستفاد من قوله: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، كما يستفاد معنى التعجب من قوله قبل هذا: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) [الأنعام: 31] الآية، كأنه قيل: ما أخسرهم، كذلك قوله: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) يقال في حقهم عندما يحبسون وتعرض أعمالهم، ويشهد عليهم الأشهاد على رؤوس الخلائق، فتظهر عند ذلك فضيحتهم وخزيهم، حتى إن كل من شاهد حالهم قال: واخزياه ووافضيحتاه.

و (هم) الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) وقرئ: (يضعَّف). (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع. ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "فيه تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله". قوله: (لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به): أما التأكيد: فمن تكرير (هُمْ)، وأما التخصيص: فمن تقديم (بِالآخِرَةِ) على عامله، ومعناه: أن غيرهم، وإن كانوا كافرين بالآخرة أيضاً، لكن دون هؤلاء، وهؤلاء هم المخصوصون بالكفر الذي لا غاية بعده، ولا أمد ينتهي إليه، حيث جمعوا بين الكفر والصد عن الإيمان وإضلال الناس. قوله: (وقرئ: "يضعف"): ابن كثير وابن عامر، والباقون: (يُضَاعَفُ). قوله: (ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه): قال في "الانتصاف": "أهل السنة وإن نفوا تأثير استطاعة العبد في الإيجاد، فلا ينفون تأثيرها، وما ينفيها جملة إلا المجبرة، والحق مع الزمخشري في هذا الأمر إلا في قوله: "فيوعوع"، وهب أن المجبرة غلطوا في الاستدلال بها،

ويحتمل أن يريد بقوله: (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفى كونهم أولياء بقوله (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)، فكيف يصلحون للولاية؟ وقوله: (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراضٌ بوعيد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف يستجيز أن يطلق هذا في كلام الله المجيد، وما ينبغي التسامح فيه، فإن آداب القرآن أضيق من ذلك". قال الإمام: "واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق الكفر في المكلف، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه تعالى يمنع الكافر من الإيمان في الدنيا، يشهد له قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) - روى نحوه محيي السنة-، قال الجبائي: هذا السمع: إما أن يكون عبارة عن الحاسة، أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن، فكلاهما غير مقدور للعبد، وظاهر الآية لا يقدح في قولنا، وقال: المراد بقوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ): استثقالهم له ونفورهم عنه، كما تقول: هذا الكلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي". وأجاب الإمام عن قوله: "كلاهما غير مقدور للعبد": "أن ورود الآية في معرض الوعيد، فوجب اختصاص هذا المعنى بهم، والمعنى الذي ذهب إليه عام، حتى في حق الأنبياء والملائكة".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: "استثقالهم له ونفورهم عنه" فجوابه: "أن حصول هذا الاستثقال هل يمنع من الفهم أم لا؟ فإن منع فهو المقصود، وإن لم يمنع كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم، فلا تختلف أحوال القلب من العلم والمعرفة بسببه، فكيف يمكن جعله ذماً". وقلت: أما قضية النظم: فهو أن قوله: (يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ) لا يخلو: إما أن يكون من تتمة كلام الأشهاد على سبيل الدعاء عليهم، فإنهم لما عدوا عنادهم وكفرهم المضاعف وضلالهم وإضلالهم الناس، قالوا: ليضاعف لهم العذاب يا رب. أو من كلام الله تعالى تقريراً لقول الأشهاد على الأبلغ، كأنه قيل: الأمر كما قلتم، وأنتم مستوجبون لذلك العذاب المضاعف. فموقع (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ) على التقديرين: الاستئناف على سبيل التعليل، فإن السامع لما سمع هذه التشديدات والمبالغات عظم عنده أمرهم، فقال تفجعاً عليهم: من أين دخلت على هؤلاء هذه الشقاوة؟ فأجيب: لأن الله تعالى خلقهم أشقياء، وختم على قلوبهم، حتى لا يدخل فيها الحق، وختم على سمعهم؛ لئلا يستطيعوا سماع الحق، وجعل على أبصارهم الغشاوة؛ لئلا يبصروا الدلائل الدالة على التوحيد. فإذا كان ظاهر النظم هذا، وقد اعتضد بتفسير حبر الأمة، فلا يقال فيه ما قال! اللهم غفراً. فلو أجيب هذا السائل بما بنى عليه المصنف كلامه، وقيل: لأنهم تصاموا عن استماع الحق وكرهوه، لم يتطابق؛ لأن تلخيص الكلام حينئذ: ما بال هؤلاء المعاندين الذين بلغ عنادهم أقصى الغاية استوجبوا مضاعفة العذاب، فقيل: لأنهم عاندوا وتصاموا وكانوا عن مقتضى البلاغة بمعزل. ثم موقع: (أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ): الاعتراض وتأكيد ما استحقوا به من العذاب، كأنه قيل: أولئك البعداء عن كل

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ): اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم مالا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو ما (كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها. (لا جَرَمَ) فُسر في مكانٍ آخر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خير كانوا مستأهلين أن يعذبوا عاجلاً، مع انهم في أنفسهم ما كانوا يعجزون الله في الدنيا، وما كان لهم أيضاً ناصر ينصرهم ويمنعهم منه، وحيث أخروا ولم يعاجلوا استحقوا أن يضاعف لهم العذاب. قوله: (فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه): دلت الفاء وتفسير "ما لا خسران" بعده بقوله: "وهو أنهم خسروا أنفسهم" على أن قوله تعالى: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) عبارة عن قوله: "اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله"، لأن الخسران من روادف ما لا ينبغي أن يشترى برأس المال، وكان رأس مالهم أنفسهم؛ لأنهم ما خلقوا إلا لعبادة الله، وحيث عبدوا غير الله فقد ضيعوا ما لأجله خلقت أنفسهم، فصح قوله: إنهم (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ). قوله: (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها): عطف "وشفاعتها" على "الآلهة" على منوال: أعجبني زيد وكرمه، لأن المفترى الشفاعة لا الآلهة نفسها. قوله: ((لا جَرَمَ) فسر في موضع آخر): يعني: لفظة (لا جَرَمَ) يجيء تفسيره في سورة "حم المؤمن" مستقصى، وذكر فيه وجوهاً ثلاثة: أحدها: أن (لَا) نفي لما ظنوا، و (جَرَمَ) فعل بمعنى "حق"، و"أن" مع ما في حيزه: فاعله، المعنى: لا ينفعهم ذلك الظن، حق أنهم في الآخرة هم الأخسرون. هذا مذهب سيبويه.

(هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ): واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة. ومنه قولهم للشيء: الدنئ الخبيت. قال: يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ وَلَا يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ وقيل: التاء فيه بدل من الثاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: (جَرَمَ) بمعنى: كسب، و"أن" مع ما في حيزه: مفعوله، والفاعل: ما دل عليه الكلام، أي: كسب ذلك خسرانهم. فالمعنى: ما حصل من ذلك إلا ظهور خسارهم. وثالثها: (لا جَرَمَ) بمعنى: لابد، المعنى: لابد أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وفي "الكواشي": محل (لا جَرَمَ) رفع مبتدأ، خبره: (أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ)، و (لا جَرَمَ) كانت في الأصل بمنزلة: لا محالة ولا بد، فحولت إلى معنى القسم، فصارت بمعنى: حقاً، فلذلك يجاب عنها باللام، تقول: لا جرم لآتينك. قوله: ((هُمْ الأَخْسَرُونَ) لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم): أي: هم الكاملون في الخسران، كأن خسران غيرهم في جنب خسرانهم ليس بخسران، وذلك من تصدير الجملة بـ "أن"، وتعريف الخبر بلام الجنس، وتوسيط ضمير الفصل. قوله: (وقيل: التاء فيه بدل من الثاء): أي: في المستشهد، لا في الآية.

[(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)]. شبه فريق الكافرين بـ"الأعمى والأصم"، وفريق المؤمنين بـ"البصير والسميع"، وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع. على أن تكون الواو في (وَالْأَصَمِّ) وفي (وَالسَّمِيعِ) لعطف الصفة على الصفة، كقوله: الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو من اللف والطباق): أما اللف: فهو ذكر الفريقين، لأن المراد بالفريق الكافر: ما دل عليه قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) [هود: 18] إلى آخر الآيات، وبالمؤمن: قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [هود: 23]. والنشر: هو قوله: (كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ)، وإنما قدم "الأعمى والأصم" على "السميع والبصير"؛ لأن تلك الآيات المشار إليها واردة على هذا الترتيب، وكان ذكر المؤمنين فيها كالاستطراد لذكر الكافرين، ولهذا أوجب التأخير. وأما الطباق: فإنه قوبل "البصير" بـ "الأعمى"، و"السميع" بـ "الأصم". قوله: (وفيه معنيان): أي: وجهان أو طريقان في اعتبار التشبيه. الانتصاف: "في تنظير الآية ببيت امرئ القيس نظر؛ لأنه شبه كل واحد من الرطب واليابس تشبيهاً واحداً، والآية على التفسير الأول؛ شبه كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين، والبيت أشبه بالوجه الثاني، لأن كل واحد منهما شبه تشبيهاً واحداً في أمرين مختلفين".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يحتمل قول المصنف: "أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين" أن يراد منه: أن يشبه كل فريق تشبيهاً واحداً، فيكون تشبيهين اثنين، أو أن يشبه كل فريق تشبيهين اثنين، وهذا الثاني هو المراد، لاستشهاده ببيت امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي لأنه من تشبيه المفرد بالمفرد، نص عليه صاحب "المفتاح"، وعليه ظاهر كلام المصنف في أول البقرة، شبه بعضاً من قلوب الطير- وهو الرطب منها- بالعناب، وبعضاً منها- وهو اليابس- بالحشف البالي، وكذلك شبه كل فريق من الفريقين تشبيهين؛ بأن شبه فريق الكفار مثلاً؛ بعضاً منهم بالأعمى، وبعضاً بالأصم. والحاصل: أن التنظير بالبيت لاستقلال كل من المشبه والمشبه به المفرد على حياله، وليس كذلك في الوجه الثاني. ويحتمل قوله: "أن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم": أن يكون المراد أن يشبه الفريقين معاً بالذي جمع بين العمى والصمم، وبالذي جمع بين البصر والسمع، لأن الضمير في "أن يشبهه" راجع إلى الفريق، وأن يشبه كل واحد من الفريقين بالذي جمع بين الوصفين، وما يدل على أن الثاني هو المراد: مجيء "أو" التنويعية، وإفراد الموصول في كلام المصنف ها هنا كإفراده في قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) [البقرة: 17]، وإن كان المشبه جماعة.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ) يعني: الفريقين، (مَثَلًا): تشبيهاً. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)]. أي: أرسلنا نوحاً بـ (أني لكم نذير)، ومعناه: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) بالكسر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالواو في قوله: "الأصم" وقوله: "السميع على التشبيه الأول لعطف الذات على الذات، وعلى الثاني لعطف الصفة على الصفة، كما قال. والتشبيه الثاني يحتمل أن يكون مركباً وهمياً؛ بأن يمثل حال فريق الكفار في تعاميهم عن الآيات المنصوبة بين يديهم، وتصامهم عن الآيات المتلوة عليهم، بحال من اجتمع فيه الصفتان العمى والصمم، فهم أبداً في خبط وضلال، لأن الأعمى إذا سمع شيئاً ربما يهتدي إلى الطريق إذا نعق له، والأصم ربما ينتفع بالإشارة، ومن جمع بينهما فلا حيلة فيه. وأن يكون مركباً عقلياً؛ بأن تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، والوجه: تمكن الضلال وعدم الانتفاع. والفرق بين التشبيهين: هو أن الأول تتفاوت فيه حال بعض من الفريق، فإن الأصم أهون حالاً من الأعمى، وعلى الثاني: لا تفاوت البتة. قوله: (أي: أرسلنا نوحاً بـ "أني لكم"): قدر الباء لأن ابن كثير وأبا عمرو قرآ بالفتح، والباقون: بالكسر، جعل الجار والمجرور حالاً من المفعول، وإنما قال: "والمعنى على الكسر"، لأن قوله: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) في الأصل مقول، والكسر لازم بعد القول، فاتصل به الجار، فغير اللفظ دون المعنى، ولهذا قال: "ملتبساً بهذا الكلام"، كما في قولك: كأن

فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في "كَأَنْ" والمعنى على الكسر، وهو قولك: إنّ زيداً كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول. (أَنْ لا تَعْبُدُوا) بدل من (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ)، أي: أرسلناه بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللَّهَ)، أو تكون (أن) مفسرة متعلقة بـ (أرسلنا) أو بـ (نذير). وصف "اليوم" بـ (أليم) من الإسناد المجازى لوقوع الألم فيه. فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازى مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجدّ جدّه. [(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيداً أسد، والأصل: إن زيداً كالأسد، فنقل الكاف، وفتح الهمزة، والمعنى المعنى، قال أبو البقاء: (قال أني) بالفتح: على تقدير: "بأني"، وهو في موضع نصب، أي: أرسلناه بالإنذار، أي: منذراً". قوله: (فإذا وصفه به العذاب؟ ): يعني: فهذا حكم "الأليم" إذا وصف به اليوم، فإذا وصف به العذاب، فما حكمه؟ قوله: (ونظيرهما [قولك]: نهارك صائم، وجد جده): إشارة إلى الفرق بين المجازين في الإسناد، نزل الظرف في الأول منزلة الشخص نفسه، لكثرة مباشرته الصوم فيه، كأنه واقع فيه، وفي الثاني: جعل وصف الشخص كالشخص، وأسند إليه ما كان مسنداً إليه، لاستبداده به.

الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّايِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)]. (الْمَلَأُ): الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملؤوا بالأمر، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالؤون؛ أي: يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملئون القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واضطلعوا بها)، الجوهري: "يقال: فلان مضطلع بهذا الأمر، أي: قوي عليه، وهو مفتعل من الضلاعة، والضلاعة: القوة وشدة الأضلاع". قوله: (أو لأنهم يملؤون القلوب هيبة): هو من: ملأت الإناء- بالفتح- أملؤه ملأً، فهو متعد، وفي "مقدمة الأدب": ملئ الإناء- بالكسر- فهو ملآن، لازم، وعليه قوله: "أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة"، قيل: قوله: "أو لأنهم" عطف على قوله: "من قولهم: فلان مليء بكذا"، وفي الكلام حذف تقديره: "أو من قولهم: تمالؤوا؛ أي: تعاونوا، لأنهم يتمالؤون"، وكذا "أو لأنهم" ثالثاً. وقلت: ويمكن أن يكون معطوفاً على التعليل السابق، وذلك: "ملأ" حقيقة هو: ملأت

(ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة، وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإناء، والأشراف إنما سموا بـ "الملأ" لأنهم أعضاد الملك وأعوانه؛ يدبرون أمور مملكته، قال في "الأساس": "ملأت الإناء، وهو ملآن، وأوعية ملاء، ومن المجاز: نظرت إليه فملأت منه عيني، ومالأه: عاونه، وأصلها المعاونة في الملء، ثم عمت، ومنه: هو مليء بكذا: مضطلع به". فإذن التقدير: الملأ: الأشراف، مأخوذ من قولهم: فلان مليء بكذا، أو من: مالأه: عاونه، أو من: ملأت الإناء، أو من: ملؤ الإناء، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور، أو لأنهم يتمالؤون، أو لأنهم يملؤون القلوب هيبة، أو لأنهم ملاء بالأحلام، فهو من اللف التقديري، والوجه الأول أمتن الوجوه؛ لجعلهم في استقلالهم في الأمور وتمرنهم فيها كالأوعية لها، وإليه الإشارة بقوله: "لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور"، ثم الوجه الأخير، لأن المعنى: أنهم لحسن الآراء والتدابير الصائبة ملؤوا بالأمور، قال أبو الطيب: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني قوله: ((مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا) تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة): يعني: أننا في البشرية سواء، ولنا المزية بكوننا شرفاء عظماء، لأن القائلين الملأ الذين يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة، نحوه قولهم: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]. قوله: (فقالوا: هب أنك واحد من الملأ، ومواز لهم في المنزلة): تنبيه على مكان

فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل)؟ أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشر. والأراذل جمع الأرذل، كقوله: (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام: 123]، «أحاسنكم أخلاقاً». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعريض والتفكر في استحقاقهم لها دونه؛ لتنزلهم عن مراتبهم، قال الحريري: "يقولون: هب أني فعلت، وهب أنه فعل، والصواب: إلحاق الضمير المتصل به، فيقال: هبني فعلت، وهبه فعل، قال أبو دهبل الجمحي: هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير ومعنى "هبني": أي: عدني واحسبني، فكان فيه معنى الأمر من: وهب". قوله: (كان ينبغي أن يكون ملكاً، لا بشراً): يعني: دل قوله: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) على أن مطلق الأفضلية مطلوب في الرسالة، ونحن وأنت مستوون في البشرية، لا فضل لأحد الفريقين على الآخر، فينبغي أن تكونوا من جنس هو أفضل من البشر، لتختصوا بها دوننا، وليس ذلك إلا الملكية، ففيه اعتزال خفي، والمقام يدفعه. قوله: (والأراذل: جمع الأرذل، كقوله تعالى: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)): أراد أنه جمع اسم التفضيل مضافاً، كما في الآية، وفي الحديث النبوي: "ألا أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً"، أخرجه الترمذي عن جابر.

وقرئ: (بادى الرأي)، بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأي: أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها! على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (بَادِي الرَّايِ) بالهمز وغير الهمز): بالهمز: أبو عمرو وحده، قال أبو علي: "من لم يهمز أراد: فيما بدا من الرأي وظهر، ومن همز أراد: أول الرأي ومبدأه، والمعنى على الأول: ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي، أي: لم يعقبوه بنظر فيه، وعلى الثاني: اتبعوك في أول الرأي من غير أن يتبعوا الرأي بفكر وروية، والكلمتان متقاربتان معنى". وقال أبو البقاء: " (بَادِي): ظرف، وجاء على "فاعل" كما جاء على "فعيل"، نحو: قريب وبعيد، والعامل: (مَا نَرَاكَ)، أي: نراك فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول أمرنا،

(مِنْ فَضْلٍ) من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة، (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) فيما تدّعونه. [(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ* وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ* وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَاتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)]. (أَرَأَيْتُمْ): أخبرونى (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ): على برهان (مِنْ رَبِّي) وشاهدٍ منه يشهد بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بـ"البينة": المعجزة، وبـ"الرحمة": النبوّة. فإن قلت: فقوله (فَعُمِّيَتْ) ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر "فعميت بعد البينة"، وأن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو العامل: (اتَّبَعَكَ)، أي: اتبعوك في أول الرأي فيما ظهر منه من غير أن يبحثوا"، وهو المراد من قول المصنف: "أرادوا أن اتباعهم لك إنما هو شيء عن لهم بديهة"، والوجه الأول لأبي البقاء بعيد، وليس المعنى عليه. قوله: (على أن البينة في نفسها هي الرحمة): فعلى هذا العطف من باب: أعجبني زيد وكرمه، لأن كونه عليه السلام على برهان من ربه لم يكن إلا بإيتاء الله له ما يشهد بصحة دعواه من المعجزة، وهو الرحمة بعينه، فلما كان المراد من البينة هذا فسر بقوله: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ)، ولذلك أفرد الضمير في قوله: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ).

حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى "عميت" خفيت. وقرئ: (فعميت) بمعنى: أخفيت. وفي قراءة أُبي: "فعماها عليكم". فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هادٍ. فإن قلت: فما معنى قراءة أُبيّ؟ قلت: المعنى: أنهم صمموا على الإعراض عنها، فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) يعني أنكرهكم على قبولها ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (فَعُمِّيَتْ)): حفص وحمزة والكسائي بالتشديد وضم العين. قوله: (فما حقيقته؟ ): أي: فما تحقيق نسبة العمى إلى البينة؟ وأجاب: أن النسبة واردة على طريق الاستعارة، يدل عليه قوله: "فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد"، وقد ورد عكسه في قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 59]، أي: آية مبصرة، أي: كما جاءت هذه النسبة، كذلك ما نحن بصدده. قوله: (فما معنى قراءة أبي؟ ): "فعماها عليكم"؛ حيث أسند إلى الله تعالى، وهو قبيح على مذهبه. قوله: (والدليل عليه): أي: على أن المراد التخلية وعدم الإكراه، والإنكار في قوله: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) بمعنى: أنكرهكم على قبولها.

ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ ! وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً، كقولك: أنلزمكم إياها. ونحوه: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) [البقرة: 137] ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحُكي عن أبي عمروٍ إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله: (لا أَسْئَلُكُمْ) راجع إلى قوله لهم: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما تقريره على مذهب أهل السنة: قال نوح عليه السلام: إذا كان الله تعالى عماها عليكم فلابد لكم من الكراهية، فكيف ألزمكم عليه إذن، وقريب منه في المعنى قول نوح أيضاً: (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود: 34]. قوله: (وحكي عن أبي عمرو): أي: على طريق شاذ، والخلسة- بالضم-: اسم من: خلست الشيء إذا سلبته. قوله: (لا يسوغ [طرحها] إلا في ضرورة الشعر): نحو قوله: فاليوم أشرب غير مستحقب

وقرئ: "وما أنا بطارد الذين آمنوا" بالتنوين على الأصل. فإن قلت: ما معنى قوله (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت- كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم- أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأي من غير نظر وتفكر. وما عليّ أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، ونحوه: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية [الأنعام: 52]، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحقبه: احتمله، ومنه قيل: أحقب فلان الإثم. قوله: (أو على خلاف ذلك): عطف على قوله: "على ما في قلوبهم من إيمان صحيح"، يعني: أنكم تزعمون أنهم ليسوا على صحة من الإيمان واليقين فأطردهم، وليس ذلك إلي، فأنا أنظر إلى ظاهر الحال، إن حسابهم إلا على ربي، فهو كما علل الله سبحانه وتعالى نهي الطرد في قوله: (وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) بقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) إلى قوله: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 52]، وإليه الإشارة بقوله: "ونحوه: (وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ". قوله: (أن أشق عن قلوبهم): ضمن "شق" معنى "كشف"، وعداه تعديته، أي: ما علي أن أكشف عما في قلوبهم شقاً، يدل عليه الحديث: "هلا شققت قلبه".

أو: هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة. (تَجْهَلُونَ): تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم. (مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ): من يمنعني من انتقامه (إِنْ طَرَدْتُهُمْ)، وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء. (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) معطوفٌ على (عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) أي: لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: هم مصدقون): جواب آخر، يعني: تزعمون أنهم ما آمنوا على بصيرة منهم، فأطردهم، أي: ما أطردهم لأنهم فازوا بأعلى درجات الإيقان، وحازوا قطري الإيمان، حيث أيقنوا بلقاء الله في الدار الآخرة. قوله: (ألا لا يجهلن أحد علينا): تمامه: فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي: لا يسفهن أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي: نجازيهم بسفههم جزاء وافياً، سمى جزاء الجهل جهلاً للمشاكلة. قوله: (ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله) إلى آخر تفسير هذه الآية: إعلام بأنها تضمنت أجوبة عن شبه أوردها القوم في الطعن في نبوة نوح عليه السلام في الآية المتقدمة، وهي قوله: (فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) الآية [هود: 27].

فأدعي فضلاً عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم: (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ)، ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أولها: قالوا: (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا) [هود: 27]، أرادوا: أنك لست ملكاً حتى تكون رسولاً، ولئن سلم عدم استحالة الرسالة للبشر لم تكن أنت أحق بها منا، وذلك أنهم جزموا على أن الرسالة مقصورة على الملكية، وحين ادعاها استبعدوها وأنكروها، ولذلك أجابوه بما يجاب به المنكر من إيتاء (مَا) و (إِلَّا)، وأجاب عنه بقوله: (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)، يعني: مع أني أدعي النبوة لا أدعي الملكية، لأن البشرية غير قادحة في النبوة، لأن من حق الرسول أن يباشر أمته بالدليل والحجة، ثم بالهداية إلى طريق الحق، لا بالصورة والخلقة، فمن كان كذلك كان أحق بالنبوة كائناً من كان، وإليه الإشارة بقوله: (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا لي: ما أنت إلا بشر مثلنا. وثانيها: قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) [هود: 27]، يعني: لو كنت نبياً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، وأجاب بقوله: (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً)، يعني: ليس الشرف والرفعة بالحسب والمال، بل الشرف إنما يحصل بإيتاء الله العبد خير الدارين بسبب الإيمان والإخلاص، كقوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52، والكهف: 28]، وإليه الإشارة بقوله: "إن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه". وثالثها: قالوا: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) [هود: 27]، أي: مال وجاه، يعني: لو كنت صادقاً لكنت شريفاً حسيباً، وكأن الأشرف عندهم من له جاه ومال، وأجاب بقوله: (وَلَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ)، يعني: ماأثبت دعواي بكوني ذا مال وحسب لتتبعوني، بل ما جئت إلا لرفض الدنيا جاهها ومالها، لأنهما سببا الطغيان، وإليه الإشارة بقوله: "لا أدعي فضلاً عليكم في الغنى حتى تجحدوا فضلي". ورابعها: قالوا: (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [يونس: 27]، يعني: اتباع هؤلاء الأراذل الذين من صفتهم أنهم جهلاء يسرعون في متابعتك بديهاً من غير فكر وروية، وقبولك إياهم من غير أن تطلع على حالهم وتعرف سرهم: أمارات منصوبة على كونكم كاذبين. وأجاب بقوله: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)، يعني: ما علي أن أعلم الغيب حتى أطلع على ما في ضمائر أتباعي، فإن الأنبياء إنما يجرون الأحكام على ظواهرها، والله متولي السرائر، وإليه الإشارة بقوله: "حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائرهم". فإن قلت: إن كانت هذه الآية جواباً عن الشبه التي تضمنت تلك الآية، فما تلك الآيات الثلاث التي توسطت بينهما؟ قلت- والله أعلم-: هي مقدمة وتمهيد للجواب، فإن قوله: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) إثبات لنبوته، يعني: ما قلت لكم: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ) [هود: 25 - 26] إلا عن تقدمة بينة على إثبات نبوتي وصحة دعواي، لكن خفيت عنكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبهة الواهية، ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية، وأني لا أطمع أجراً، حتى ألازم الأغنياء منكم، وأطرد الفقراء، وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء! وأن الله ما بعثني إلا في الترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا، فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع في الجواب على سبيل التفصيل، كما سبق. ولما أطنب نبي الله في الجواب بتمهيد المقدمة، وأفحمهم بذلك التفصيل، وألقمهم الحجر، قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود: 32].

ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين - لفقرهم- أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم. (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه. وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه. [(قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادْلتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَاتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْصَّادِقِينَ)]. (جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك: جاد فلان فأكثر وأطاب (فَاتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب المعجل. [(قالَ إِنَّما يَاتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ* وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استرذلتم من المؤمنين): تفسير لقوله: (تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ)، قال القاضي: "إسناد الازدراء إلى الأعين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم". وقلت: هذا التفسير ما أحسنه طباقاً لقولهم: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّايِ). قوله: (جاد فلان فأكثر): كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل: 98].

(إِنَّما يَاتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ) أي: ليس الإتيان بالعذاب إليّ، إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه (إِنْ شاءَ) يعني إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: "فأكثرت جدلنا". فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ قلت: قوله: (إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ): جزاؤه ما دلّ عليه قوله (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي)، وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكننى. فإن قلت: فما معنى قوله (إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواءً وإضلالاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ ابن عباس: "فأكثرت جدلنا"): قال ابن جني: "الجدل: اسم بمعنى الجدال والمجادلة، والجدال: هو الاقتواء على خصمك بالحجة، قال تعالى: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54]، أي: مغالبة بالقول وتقوياً". قوله: (وهذا الدال في حكم ما دل عليه): يعني: قوله: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) جزاؤه محذوف، وقوله: (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) دال عليه، فيقدر له مثله، ثم هذا الدال على حكم المدلول- أي: الجزاء- على التوسع، لأن الجزاء لا يتقدم على الشرط. قوله: (فوصل): أي قيد ما هو في حكم الجزاء وساد مسده بشرط، وهو قوله: (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ)، كما قيد جزاء قولك: "إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني"- وهو "أحسنت" الثاني- بالشرط الثاني، وهو "إن أمكنني"، فصار التقدير: إن كان الله يريد

كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوى فلطف به: سمى إرشاداً وهداية. وقيل: (أَنْ يُغْوِيَكُمْ): أن يهلككم؛ من غوىً الفصيل غوىً: إذا بشم فهلك، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم. قال الإمام: "هذا الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في الوجود، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، كان المفهوم أن ذلك الطلاق من لوازم الدخول، فإذا قال بعده: إن أكلت الخبز، كان المعنى: أن تعلق الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول الشرط الثاني، والشرط مقدم على المشروط في الوجود، فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق الجزاء بذلك الشرط الأول، وإن لم يحصل الثاني لم يتعلق الجزاء بذلك الشرط الأول". وقال في "الانتصاف": "ونظيره قول القائل: أنت طالق إن شربت إن أكلت، وهي مسألة اعتراض الشرط، والمنقول عن الشافعية أنها إن شربت ثم أكلت لم يحنث، وإن أكلت ثم شربت حنث، وهذا الفرق مبناه على جعل الجزاء للشرط الأخير لا الذي يليه، ثم جعلهما معاً جزاء للشرط الأول، وعليه إعراب الزمخشري هذه الآية". وقال القاضي: "هذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام بلا طائل، وفيه دليل على أن إرادة الله يصح تعليقها بالإغواء، وأن خلاف مراده محال". قوله: (إذا بشم)، الجوهري: "البشم: التخمة، وبشم الفصيل من كثرة شرب اللبن".

ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم معها نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحى؟ (فَعَلَىَّ إِجْرامِي) و"إجرامي" بلفظ المصدر والجمع، كقوله: (والله يعلم إسرارهم) [محمد: 26] و"أسرارهم". ونحو: جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بـ"آثامي". والمعنى: إن صح وثبت أنى افتريته، فعليّ عقوبة إجرامي، أي: افترائى. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عنى وتتألبوا علىّ (وَأَنَا بَرِيءٌ) يعنى ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى (مِمَّا تُجْرِمُونَ): من إجرامكم في إسناد الافتراء إلىّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم. [(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) و"أجرامي"): بكسر الهمزة على المصدر وبفتحها على الجمع، والفتح شاذ، والأسلوب من باب الاستدراج والكلام المنصف، وهو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الإمام: "وأكثر المفسرين على أنه من كلام نوح عليه السلام، وقال مقاتل: هذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء قصة نوح"، وقال الإمام: "وهو بعيد جداً". وقلت: سبق في بيان النظم عند قوله: (فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [هود: 13] أنه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وتتألبوا علي)، الجوهري: "وألبت الجيش: جمعته، وتألبوا: اجتمعوا".

(لَنْ يُؤْمِنَ) إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع، (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ): إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، و (قد) للتوقع وقد أصابت محزها (فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن حزن بائس مستكين. قال: مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (قَدْ) للتوقع، وقد أصابت محزها): حيث طابقت (لَن)، لأنهما كالمتضادين. قوله: (فلا تحزن حزن بائس): بئس الرجل يبأس بؤساً وبأساً: اشتدت حاجته. "مستكين": من الاستكانة، وهي الخضوع. قوله: (ما يقسم الله) البيت: لأحيحة بن الجلاح، "ما"- في "ما يقسم"-: شرطية، و"أقبل" مجزوم على الجزاء، وهو حكاية عن نفسه، وكذلك "وأقعد"، يقول: أنا راض بما قسم الله تعالى لي غير حزين على ما فات مني، وأقعد ناعم البال طيب القلب، ونحوه في الألفاظ النبوية: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، وقال القائل: سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون

والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم. (بِأَعْيُنِنا) في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظاً، وحقيقته: ملتبساً بأعيننا، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. (ووحينا): وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد حان وقت الانتقام): يعني: قوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ) إيذان بمعنى المتاركة، أي: أنك- يا نوح- قد أنذرت وأبلغت وأديت ما عليك، فلا عليك منهم شيء، (فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، وذرني والمكذبين، فقد حان وقت الانتقام. قوله: (كأن لله معه أعيناً تكلؤه): أي: رقباء تحفظه، وهو من باب التجريد، دل عليه "الباء" في (بِأَعْيُنِنَا)، وهذا من أبلغ أنواع التجريد، لأنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته؛ مبالغة لكمالها فيه، قال ابن جنيك أنشد أبو علي: أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وأنشد المصنف: وفي الرحمن للضعفاء كاف ها هنا جرد من ذاته المهيمن جماعة الرقباء، وهو الرقيب نفسه.

عن ابن عباس رضي الله عنه: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا): ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ): إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضي به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله: (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود: 76]. [(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)]. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حالٍ ماضية (سَخِرُوا مِنْهُ) ومن عمله السفينة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جؤجؤ الطائر)، الجوهري: "جؤجؤ الطائر والسفينة: صدرهما، والجمع: الجآجئ". قوله: (وقد وجب ذلك، وقضي به القضاء، وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه): هذه التوكيدات يوجبها إخباره تعالى إياه عليه السلام بقوله: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ)؛ إقناطاً من إيمانهم، ثم نهيه بقوله: (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) المشتمل على علة الإهلاك، لوضع المظهر موضع المضمر، مع أنه عليه السلام لم يتوقع منه الاستشفاع فيهم

وكان يعملها في بريةٍ بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقتٍ عزَّ الماء فيه عزةً شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) يعني: في المستقبل (كَما تَسْخَرُونَ) منا الساعة، أي: نسخر منكم سخريةً مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا، أو: إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناءً على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وروي أنّ نوحًا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد ما سبق منه من الدعاء عليهم: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح: 26]، لكن جيء به لما عسى أن تدخله أريحية الرحم، ويؤكد ذلك إيقاع قوله: (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) جواباً لسائل، وتأكيده بـ "إن". قوله: (في برية بهماء): البهماء: الفلاة التي لا يهتدى لطرقها، ولا ماء فيها، ولا علم بها. قوله: (إن تستجهلونا فيما نصنع، فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر): سمى سخريتهم استجهالاً، لأن السخرية في مثل هذا المقام من باب السفه والجهل، لأنها التعرض لسخط الله وعذابه، نحوه جواب موسى عليه السلام: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [البقرة: 67] عن قولهم: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً)، وهو من إطلاق المسبب على السبب.

البطن الأوسط: الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء. وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومئتي ذراع، وعرضها ست مئة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفاً من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: أهكذا أهلكت؟ قال لا، مُت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: حدّثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومئتي ذراع، وعرضها ست مئة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير، ثم قال له: عُد بإذن الله كما كنت، فعاد تراباً. (مَنْ يَاتِيهِ) في محل النصب بـ (تعلمون)، أي: فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعني به إياهم، ويريد بـ"العذاب": عذاب الدنيا وهو الغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه (عَذابٌ مُقِيمٌ) وهو عذاب الآخرة. [(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ* وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حلول الدين): نصب على المصدر، وفيه أن في الكلام استعارة إما تبعية أو مكنية، شبه حكم الله بقوله: (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) في قضائه بالدين ولزومه.

(حَتَّى) هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن قلت: وقعت غايةً لماذا؟ قلت: لقوله: (ويصنع الفلك) [هود: 38]، أى: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد. فإن قلت: فإذا اتصلت (حتى) بـ"يصنع"، فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من "يصنع"، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه. فإن قلت: فما جواب "كلما"؟ قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل (سَخِرُوا) [هود: 38] جواباً، و (قالَ) استئنافاً، على تقدير سؤال سائل. أو تجعل (سَخِرُوا) بدلاً من (مَرَّ) أو صفة لـ (مَلَأٌ)، و (قالَ) جواباً. (وَأَهْلَكَ) عطفٌ على (اثنين)، وكذلك (وَمَنْ آمَنَ) يعني: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تجعل (سَخِرُوا) بدلاً من (مَرَّ)): بدل الاشتمال، يعني: أن مرورهم كان ملتبساً بالسخرية، بدليل تصدير الجملة بـ "كلما". قوله: ((وَأَهْلَكَ) عطف على (اثْنَيْنِ)): هذا إذا قرئ: "كل زوجين" بالإضافة، وهي قراءة الجماعة إلا حفصاً، فإنه قرأه بتنوين "كل" ها هنا وفي المؤمنين، قال أبو البقاء: "من قرأ "كل" بالإضافة: فمفعول (احْمِلْ): (اثْنَيْنِ)، أي: احمل فيها اثنين من كل زوج، و"من كل زوجين": حال، لأنه صفة نكرة قدم عليها، ومن قرأ بالتنوين: فمفعول (احْمِلْ): (زَوْجَيْنِ)، و (اثْنَيْنِ): توكيد له، و (مِنْ كُلٍّ) على هذا: يجوز أن يتعلق بـ (احْمِلْ)، وأن يكون حالاً، والتقدير: من كل شيء أو صنف".

وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه وإرادته به، تعالى الله عن ذلك. قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته. (إِلَّا قَلِيلٌ) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجالٍ وخمس نسوة. وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين: فالكلام الواحد: أن يتصل (بِسْمِ اللَّهِ) بـ (اركبوا) حالاً من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله. أو قائلين "بسم الله" وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن "المجرى" و"المرسى" للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: الزوج في كلامهم: واحد، والاثنان يقال لهما: زوجان، تقول: عندي زوجان من الطير، تريد: ذكراً أو أنثى فقط. قوله: (وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه وإرادته): هذا المعنى قد تكرر في كلامه بناءً على قاعدته، وقد ناقض صريحاً حيث أثبت القضاء والقدر قبل هذا في قوله: "قد وجب ذلك، وقضي به، وجف القلم"، وقد نفاه ها هنا، ويأبى الله إلا إظهار الحق، والله أعلم. قوله: (خمسة رجال وخمس نسوة): مرفوع؛ بدل من الواو في "كانوا".

الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج. ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في (بِسْمِ اللَّهِ) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. والكلامان: أن يكون (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) جملة من مبتدأٍ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى: أنه كان إذا أراد أن تجرى قال: "بسم الله" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومقدم الحاج): هو أيضاً يحتمل الأمرين؛ المصدر واسم الزمان، والمصدر هو المراد في الاستشهاد. قوله: (وانتصابهما): أي: (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، سواء كانا في معنى الوقت أو المكان بما ذكر، ولا يجوز أن ينتصبا بـ (ارْكَبُوا) في وقت الإجراء والإرساء أو في مكانهما، وإنما المعنى: اركبوا الآن متبركين باسم الله في الوقتين اللذين لا ينفك الراكبون فيهما من الإجراء والإرساء. قوله: (مقتضبة): أي: مرتجلة مقتطعة غير متصلة بما قبلها، الأساس: "ومن المجاز: اقتضب الكلام: ارتجله، وكان يحدثنا فلان فجاء زيد فاقتضب حديثه، أي: انتزعه واقتطعه". والاقتضاب عرفاً: الخروج من كلام إلى آخر لا علاقة بينهما، ويقابله التخلص، وهو الخروج إلى آخر برابطة مناسبة، ولا مناسبة بين الأمر بالركوب وبين الإخبار بأن مجرى السفينة بذكر اسم الله ومرساها؛ للإنشائية والخبرية، فوجب القطع، قال الشاعر: وقال رائدهم: أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجري لمقدار

فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله: .. ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرته وأمره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يقحم الاسم)، الانتصاف: "فر بهذا القول من أن الاسم هو المسمى، ولو اعتقد ذلك لما جعله مقحماً"، وقد سبق القول فيه بالتفصيل في أول البقرة عند قوله: (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) [البقرة: 33]. قوله: (ثم اسم السلام عليكما): تمامه: فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا الشعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر قاله لبيد بن ربيعة العامري؛ يوصي ابنتيه حين حضرته الوفاة بالندبة عليه قولاً. قوله: (ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها): أي: بقدرته، أي: يجوز الإقحام على إرادة تقدير قدرة الله، ومفهومه أنه لا يجوز الإقحام على تقدير: "مسمين" أو "قائلين"، إذ لا معنى لقولنا: قائلين بالله، هذا على تقدير المصدر، وأما على تقدير الزمان أو المكان فيكون من باب قولهم: نهاره صائم، وطريق سائر. هذا التقدير يجوز تنزله على كلام واحد وعلى كلامين أيضاً.

وقرئ مَجْراها وَمُرْساها بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين. وقرأ مجاهد: "مجريها ومرسيها" بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضية؟ قلت: معناه: أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضية بأن تكون في موضع الحال كقوله: وَجَاؤُونَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَينَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مجراها ومرساها): بفتح الميم: حمزة والكسائي، والباقون: بضمها، وقراءة مجاهد: شاذة. قوله: (بفتح الميم؛ من: جرى ورسى): قال أبو البقاء: "مجرى ومرسى: بضم الميم؛ مصدر أجريت مجرى، وبفتحهما؛ مصدر جريت ورسيت". قوله: (وجاؤونا بهم سكر علينا): تمامه: فأجلى اليوم والسكران صاح "بهم سكر": أي: سكرين، يعين: سكارى، بمعنى: غضاب علينا، "سكر": مبتدأ، و"بهم": خبر، والجملة حال- بلا واو- من ضمير "جاؤونا"، و"علينا" يتعلق بـ "سكر"، و"أجلى": بمعنى: جلى، أي: انكشف.

فلا تكون كلاماً برأسه، ولكن فضلةً من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن ضمير "الفلك"، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراةً ومرساةً باسم الله، بمعنى التقدير، كقوله تعالى: (فادْخُلُوها خالدين) [الزمر: 73]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ الحال إنما تكون مقدرة لو كانت مفردة، بمعنى: مجراة، أما إذا كانت جملة فلا، لأن الجملة معناها: اركبوا وباسم الله إجراؤها، وهذا واقع حال الركوب. وقلت: المصنف جعل (بِسْمِ اللهِ) متعلقاً بـ "مجراة" على هذا التفسير، ولهذا قال: "مجراة باسم الله"، وهي مفردة، فالجملة مؤولة بها لفقدان الواو، كقوله: كلمته فوه إلى في، فيكون قيداً لـ (ارْكَبُوا)، ولا يشك أن إجراءها لم يكن عند الركوب، فتكون مقدرة، كما تقول: اركب الفرس سائراً على اسم الله، وأما مع الواو فلا تفتقر إلى التقدير، كما تقول: اركب الفرس وبإذن الله سيره. على أن أبا البقاء أجاز أن تكون الجملة حالاً مقدرة، قال: " (مَجْرَاهَا) مبتدأ، و (بِسْمِ اللهِ) خبره، والجملة حال مقدرة، وصاحبها الواو في (ارْكَبُوا)، ويجوز أن تكون حالاً من الهاء، أي: اركبوا فيها وجريانها باسم الله، وهي مقدرة أيضاً"، وتبعه صاحب "الكواشي" والقاضي. وللشيخ مكي في هذا المقام كلام مبسوط، قال: " (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا): في موضع رفع بالابتداء، والخبر: (بِسْمِ اللهِ)، والجملة حال من الضمير المجرور في (فيها)، والعائد ضمير (مَجْرَاهَا)، لأنه للسفينة، والعامل في الحال: الفعل، ولا يحسن أن تكون حالاً من

(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ): لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم. [(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير في (ارْكَبُوا)، لأنه لا عائد فيها يرجع إلى ذي الحال، لأن الضمير في (بِسْمِ اللهِ) عائد إلى المبتدأ الذي هو (مَجْرَاهَا). ويجوز أن يرتفع (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) بـ (بِسْمِ اللهِ)، لأنه متعلق بـ (ارْكَبُوا)، ويجوز أن ينتصبا على الظرف من (بِسْمِ اللهِ)، أي: اركبوا فيها متبركين باسم الله في وقت إجرائها وإرسائها، نحو: آتيك مقدم الحاج. ولا يعمل فيهما (ارْكَبُوا)، لأنه لم يرد: اركبوا فيها في وقت الجري والرسو، ولا يحسن على هذا التقدير أن يكون (بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) حالاً من الهاء في (فِيهَا)، لأنه لا عائد يرجع إلى ذي الحال، ولا يكتفى بالضمير في (مَجْرَاهَا)، لأنه ليس من جملة الحال، وإنما هو ظرف ملغى، إذ يصير التقدير: اركبوا فيها متبركة باسم الله في وقت الجري، وليس المعنى عليه؛ لأن التبرك إنما هو لركابها لا لها. ولو جعلت (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) في معنى اسم الفاعل، لكانت حالاً مقدرة، والعامل ما في (بِاِسْمِ اللَّهِ) من معنى الفعل، أي: باسم الله جارية وراسية"، هذا تلخيص كلامه. ثم قال: "اعلم أن هذه المسألة من أمهات مسائل النحو وغررها". قوله: (لولا مغفرته لذنوبكم، ورحمته إياكم، لما نجاكم): يريد: أن قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي

فإن قلت: بم اتصل قوله (وَهِيَ تَجْرِي)؟ قلت: بمحذوفٍ دل عليه (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ)، كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: "بسم الله"، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ، أي: تجري وهم فيها (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) يريد: موج الطوفان، شبه كل موجةٍ منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة مستأنفة بيان للموجب، ولا تصلح أن تكون علة (ارْكَبُوا) لعدم المناسبة، فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال: امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته، أو يقال: اركبوا فيها ذاكرين الله ولا تخافوا الغرق بما عسى أن فرط منكم تقصير، لأن الله غفور رحيم. وفيه أن نجاتهم لم تكن لاستحقاق منهم بسبب أنهم كانوا مؤمنين، بل بمحض رحمة الله وغفرانه، كما عليه أهل السنة، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 6]؛ قال: "فإنه تنبيه على أنهم استوجبوا لمكابرتهم أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفور رحيم". قوله: (أي: تجري وهم فيها): يريد: أن قوله: (بِهِمْ) في موضع الحال من فاعل (تَجْرِي)، نحوه: تدوس بنا الجماجم والتريبا

فإن قلت: الموج: ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره، وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج؟ قلت: كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: (سآوى إلى جبل يعصمني من الماء)، قيل: كان اسم ابنه: كنعان. وقيل: يام. وقرأ علي رضي الله عنه: "ابنها"، والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير: "ابنه" بفتح الهاء، يريدان: ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه، فقلت: إنّ الله حكى عنه (إن ابني من أهلى)، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الموج: ما يرتفع فوق الماء): وجه السؤال: أن الرواية أنه تلاقى ماء الأرض والسماء، وكانت السفينة تجري في جوف الماء، ومعنى "الموج": ما يرتفع فوق الماء من هيئة كالجبال، فبينهما تناف. وأجاب: أن الجريان في الموج في زمان، وفي جوف الماء في زمان، وقال القاضي: "الرواية ليست بثابتة". قوله: (وزخيره)، الجوهري: "زخر الوادي: إذا امتد جداً وارتفع، يقال: بحر زاخر". قوله: (وكان الماء قد التقى): مقتبس من قوله تعالى: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: 12]، وقال: "يعني: مياه السماء والأرض".

واستدل بقوله (مِنْ أَهْلِي) ولم يقل: مني، ولنسبته إلى أمّه وجهان: أحدهما: أن يكون ربيباً له، كعمر بن أبي سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام. وقرأ السدي: "ونادى نوح ابناه"؛ على الندبة والترثى. أي: قال يا ابناه. و"المعزل": مفعل، من: عزله عنه: إذا نحاه وأبعده، يعني: وكان في مكانٍ عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: كان في معزل عن دين أبيه. (يا نبىّ) قرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: "يا بنيا"، أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين، لأنّ الراء بعدهما ساكنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستدل بقوله: (مِنْ أَهْلِي)، ولم يقل: مني): أي: قتادة، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ لو صح لما نفاه بقوله: (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، وتقريره: أنه لما قال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، أي: من جملة أهلي، لأنه كان من صلبه، أجيب بـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لقطع الولاية بين المؤمن والكافر، ومن ثم علله بقوله: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). قوله: (كعمر بن أبي سلمة): وفي "الاستيعاب": "هو عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد القرشي المخزومي، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمة أم سلمة أم المؤمنين، ولد في السنة الثانية من الهجرة، وتوفي في المدينة سنة ثلاث وثمانين، وعمر: بضم العين وفتح الميم". قوله: (لغير رشدة)، الجوهري: "هو لرشدة، بخلاف قولك: لزنية". قوله: (قرئ بكسر الياء اقتصاراً): قرأ عاصم: (يَا بُنَيَّ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ) إلا الراحم، وهو الله تعالى، أو: لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله. يعني: إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفوراً رحيماً في قوله (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، وذلك أنه لما جعل الجبل عاصما من الماء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "الكسر أجود، ووجهه: أن الأصل: يا بنيي، والياء تحذف في النداء، ويبقى الكسر ليدل عليها، أو تحذف الياء لسكون الراء من (ارْكَب)، وتقر في الكتاب على ما هي عليه في اللفظ. ووجه الفتح: أن الأصل: يا بنيا، فتبدل الألف من ياء الإضافة، ثم تحذف الألف لسكونها وسكون الراء، وتقر في الكتابة على حدها في اللفظ، أو أن تحذف الألف في النداء كما تحذف ياء الإضافة، لأن ياء الإضافة زيادة في الاسم، كما أن التنوين زيادة فيه، فيحذف أيضاً". قوله: ((إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) إلا الراحم) إلى آخره، الانتصاف: "الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم، والأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس، وزاد الزمخشري خامساً: ولا عاصم إلا مرحوم؛ على أنه من الجنس، على تأويل حذف المكان، والكل جائز". قلت: هذا إنما يتم إذا حمل قوله: " (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) إلا الراحم" على: لا عاصم إلا الراحم، ولا معصوم إلا الراحم. قوله: (إلا مكان من رحم الله): أي: مكان المؤمنين، لأنه تعالى رحمهم حين ركبوا في السفينة، بدليل إيقاع قوله: (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليلاً للأمر، وهو (ارْكَبُوا فِيهَا)، والوصف

قال له: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصمٍ واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني: السفينة. وقيل: (لا عاصم): بمعنى: لا ذا عصمةٍ إلا من رحمه الله، كقوله: (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق: 6]، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة: 21]. وقيل: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم، كقوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) [النساء: 157]. وقرئ: "إِلَّا مَنْ رَحِمَ" على البناء للمفعول. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مناسب للحكم، وإنما أتى في هذا الوجه بقوله: "وكان لهم غفوراً رحيماً" مع أن الرحمة شائعة في الوجوه؛ لأن الإضافة للتعريف، ولابد من معهود سابق، وهو السفينة. قوله: (وقيل: (لا عَاصِمَ): بمعنى: لا ذا عصمة): وقال الزجاج: "يجوز أن يكون (عَاصِمَ) في معنى: معصوم، أي: لا ذا عصمة، كما قالوا: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [الحاقة: 21]: أي: مرضية، و (مَن) في موضع رفع، أي: لا معصوم إلا المرحوم". وقال أبو البقاء: " (عَاصِمَ) بمعنى: ذي عصمة على النسب، مثل: حائض وطالق، والاستثناء متصل، وخبر (لا): (مِنْ أَمْرِ اللهِ)، و (الْيَوْمَ) معموله، ولا يجوز أن يكون (الْيَوْمَ) معمول (عَاصِمَ)، إذ لو كان لنون، ولا يجوز أيضاً أن يكون خبراً؛ لأن (الْيَوْمَ) ظرف، فلا يصح حمله على الجثة". قوله: (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم): قال الزجاج: "فعلى هذا موضع (مَن) نصب، المعنى: لكن من رحم الله فإنه معصوم"، فالمعصوم ليس من جنس العاصم، لأن اسم المفعول غير، واسم الفاعل غير، كما أن الظان غير العالم في قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157].

[(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)]. نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز، على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله (يا أَرْضُ) (وَيا سَماءُ)، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله (ابْلَعِي ماءَكِ) و (أَقْلِعِي) من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نداء الأرض): هو مبتدأ، والخبر: "من الدلالة على الاقتدار العظيم"، و"أن السماوات والأرض" إلى آخره: تفسير للاقتدار العظيم، وأدخل العاطف كما هو دأبه وعادته. قوله: (منقادة لتكوينه فيها ما يشاء) إلى آخره: مستفاد من تعقيب النداء بلفظ (ابْلَعِي)، فإن من عادة من يأمر المطيع- الذي إذا أمر لم يتوقف إذعانه- أن يقدم النداء على الأمر، ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المأمور، فيكون امتثاله للأمر أسرع مما لم يذكر معه النداء، سيما "يا"، فإنها تدل على أن الخطاب المتلو بعده معني به جداً، فالأمر بعد النداء هنا ترشيح للاستعارة؛ شبه السماوات والأرض بالمأمور الذي لا يتأتى منه العصيان لكمال هيبة الآمر، وأدخلهما في جنس ذلك المأمور، ثم خيل أنهما مأموران بعينيهما، فقيل: (يَا أَرْضُ) (وَيَاسَمَاءُ)، وجعلت القرينة الخطاب للجماد، ثم نسي التشبيه رأساً، وبني على الفرع الذي هو المشبه ما يبنى على الأصل المشبه به، قائلاً: (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي). قال الزجاج رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) [يس: 30]: "الفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة من يعقل، لأن النداء باب تنبيه، فإذا قلت: يا زيد، فإن لم تكن دعوته لتخاطبه بكلام غير النداء لم يكن له معنى، وإنما تناديه لتنبهه بالنداء، ثم تقول

وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا إبطاء. والبلع: عبارةٌ عن النشف. والإقلاع: الإمساك. يقال: أقلع المطر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له: فعلت كذا، وافعل كذا، ألا ترى أنك إذا قلت لمن هو مقبل عليك: يا زيد ما أحسن ما صنعت، كان أوكد مما إذا قلت: ما أحسن ما صنعت". قوله: (والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث): أي: بطء، هذا مبني على أن الأمر: هل يفيد الفور أم لا؟ فإن عند بعض الحنفية يفيده، قال صاحب "المفتاح": "الأمر والنهي حقهما الفور"، سيما المقام مقام العظمة والكبرياء وأن لا قول ثمة، بل هو التمثيل، قال المصنف في (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 117]: "لا قول ثمة، وإنما هو تمثيل أن ما قضاه وأراد كونه، فإنما يدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف". قوله: (فكما يرد عليهم): قال في "اللباب": وتستعمل الكاف للقران في الوقوع، نحو: كما حضر زيد قام عمرو، أي: اقترن القيام والحضور في الوقوع، فهما متشابهان في المقارنة في الوقوع. قوله: (والبلع: عبارة عن النشف): استعار لغور الماء في الأرض: البلع الذي هو إعمال الجارحة في المطعوم، وإدخاله في الحلق. قوله: (والإقلاع: الإمساك): خولف بين تفسير القرينتين؛ ليؤذن أن "البلع" جار مجرى

وأقلعت الحمى (وَغِيضَ الْماءُ) من غاضه: إذا نقصه (وَقُضِيَ الْأَمْرُ): وأنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه (وَاسْتَوَتْ): واستقرّت السفينة، (عَلَى الْجُودِيِّ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الترشيح، لأنه صفة ملائمة للمستعار منه، وأن الإقلاع يجري مجرى التجريد، لأنه صفة ملائمة للمستعار له، ولهذا قال: "أقلع المطر"، وإنما اختير الترشيح الذي هو أبلغ في جانب الأرض، والتجريد في السماء، لأن إذهاب الماء لما كان مطلوباً أولياً، وليس للسماء فيه سوى أن تمسك ما كانت تدر، فقيل: (أَقْلِعِي)، وإنما الأرض هي التي تقدر على الإذهاب المطلوب بأن تمسك ما كان ينبع منها، وتنشف ما فيها، فقيل: (ابْلَعِي) على المجاز. قوله: ((وَغِيضَ الْمَاءُ) من: غاضه: إذا نقصه): ظاهر هذا التفسير مشعر بأن قوله: (وَغِيضَ الْمَاءُ) إخبار عن حصول المأمور به من قوله: (وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي) و (يَا أَرْضُ ابْلَعِي)، فالتقدير: قيل ذلك لهما، فامتثلا لما أمرا، ونقص الماء. وكلام صاحب "المفتاح" بخلافه، حيث قدر: قيل: يا سماء أقلعي فأقلعت، ويا أرض ابلعي ماءك فبلعت، وغيض طوفان السماء. خص "غيض الماء" بطوفان السماء؛ لما علم من قوله: "فبلعت" نضوب ماء مختص بالأرض، ولما لم يعلم نضوب ماء مختص بالسماء، تبين ذلك به، فمعنى: "غيض الماء" على هذا: ما قاله الجوهري: "غاض الماء يغيض غيضاً: قل ونضب"، أي: غار وسفل. ولعل هذا الوجه أملأ فائدة وأدق مغزى، وبه تظهر فائدة تخصيص ذكر "الماء"، وإضافته إلى ضمير "الأرض". أما الأولى: فكما قال صاحب "المفتاح": "إنما لم يقل: (ابْلَعِي) بدون المفعول؛ لاستلزام تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء".

وهو جبل بالموصل (وَقِيلَ بُعْداً) يقال بَعُدَ بُعْداً وبَعَدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثانية: كما أشار إليه بقوله: "قال: (مَاءَكِ) بإضافة "الماء" إلى "الأرض" على سبيل المجاز؛ تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح"، تم كلامه. فإذن الإضافة أخرجت سائر المياه، وخصصت الماء بالماء الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب كالمطيع المنقاد الوارد عليه أمر الآمر المطاع، وهو المعهود في قوله: (وَفَارَ التَّنُّورُ)، وبهذا الاعتبار يحصل التوغل في تناسي التشبيه، والبناء على الأصل ترشيحاً، ولو أجريت الإضافة على غير هذا يكون كالتجريد للاستعارة، وأنت تعلم أن الترشيح أبلغ، ومقام التمثيل والتصوير له أدعى وأهنأ، ولو حمل على العموم لاستلزم ذلك ما ليس بمراد من تعميم ابتلاع المياه بأسرها لورود الأمر الذي هو مقام العظمة والكبرياء. وعلى هذا ينتظم "غيض" في سلك "قيل" و"قضي"، ولا يكون تابعاً للأمرين، وإليه أشار بقوله: "أصل الكلام: قيل: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) فبلعت ماءها، (وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي) عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، (وَغِيضَ الْمَاءُ) النازل من السماء، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة، وهو قوله: (وَقُضِيَ الأَمْرُ) ". قوله: (من حيث الهلاك): متعلق بـ "أرادوا"، أي: إنما يقولون: بعد بعداً، إذا أرادوا

ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البعد من جهة الهلاك والموت، لا من جهة المسافة. قوله: (فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك)، الانتصاف: "وقد تشبثت الشعراء بأذيال هذه المعاني، وهو أن يترك الموصوف اكتفاء بصفاته لشهرته، قال أبو الطيب يمدح عضد الدولة: فلا تحمدهما واحمد هماماً ... إذا لم يسم حامده عناكا أي: امدح نفسك، فإنك المنفرد بالمدائح، إذا ذكرت ولم تسم لم يسبق إلى فهم أحد غيرك"، تم كلامه. وقبله: وكم طرب المسامع ليس يدري ... أيعجب من ثنائي أم علاكا وذاك النشر عرضك كان مسكاً ... وذاك الشعر فهري والمداكا

ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم، لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله (ابْلَعِي) (وأَقْلِعِي) وذلك وإن كان لا يخلي الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير في "فلا تحمدهما" عائد إلى "الفهر والمداكا"، وهما حجران للعطار يسحق بهما الطيب، المداك: التحتاني، والفهر: الفوقاني، والهمام: عضد الدولة، والحامد: المتنبي، وهذا المعنى قريب من قول الأول: وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحة ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني قوله: (ورقصوا لها رؤوسهم): أي: تعجبوا لها، فهي كناية، قال القاضي: "هذه الآية في غاية الفصاحة؛ لفخامة لفظها، وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال". قوله: (لا لتجانس الكلمتين): أي: (أَقْلِعِي) و (ابْلَعِي)، وفيه إدماج في نهاية من الحسن، أراد أن يبالغ في وصف الكلام الذي مضى، أدمج فيه معنى التجانس، ثم نفاه، يعني: روعي فيهما صنعة الجناس اللاحق، على نحو: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، مع

وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب، وكانت في الماء خمسين ومئة يوم، واستقرّت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروي: أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد أعتقه الله من الغرق. وروي أنّ نوحاً صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى. [(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)]. نداؤه ربه: دعاؤه له، وهو قوله (رَبِّ) مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله. فإن قلت: فإذا كان النداء هو قوله: (رَبِّ) فكيف عطف "قالَ رَبِّ" على "نادى" بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ) [مريم: 3 - 4] بغير فاء. (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي: بعض أهلي، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، فما بال ولدي؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنها غير ملتفت إليها، فعلم فضل ذلك مع حسن هذه الصنعة، فهي مرادة من وجه وغير مرادة من آخر. قوله: (من اقتضاء وعده في تنجية أهله): أي: دعاؤه ربه كان طلباً لقضاء ما وعده ربه من نجاة أهله، فـ "من" بيان لـ "دعاؤه". في "المغرب": "تقاضيته ديني وبديني، واستقضيته: طلبت قضاءه، واقتضيت منه حقي: أخذته".

(وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي: أعلم الحكام وأعدلهم، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب عريقٍ في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة، ومعناه: أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر. ويجوز أن يكون من الحكمة، على أن يبنى من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل: "دارع" من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورب عريق في الجهل): أعرق الرجل؛ أي: صار عريقاً، وهو الذي عرق في الكرم. قوله: (قد لقب أقضى القضاة)، الانتصاف: "رأي الزمخشري: أن "أقضى القضاة" أرفع من "قاضي القضاة"، والذي يلاحظونه الآن عكسه، وذلك أن القضاة يشاركون أقضاهم في الوصف، وإن فضل عليهم، وأما "قاضي القضاة" هو الذي يقضي بين القضاة، لا يشاركه أحد في وصفه". "الإنصاف": وليس كذلك، لأنه فسر (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) بـ "أقضى القضاة"، فكما لا يتصور ذلك المعنى هناك لا يتصور ها هنا. قوله: (على أن يبنى من الحكمة: حاكم؛ بمعنى النسبة) إلى قوله: (على مذهب الخليل): يقال:

(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك - وإن كان أمس أقاربك رحماً - فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملا غير صالح، مبالغة في ذمّه، كقولها: فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ وقيل: الضمير لنداء نوح، أي: إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رجل كاس؛ أي: ذو كسوة، وطاعم: أي: أكل، قال الخليل: ومنه: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [الحاقة: 21]، أي: ذات رضا، لأن العيشة لا تكون راضية، بمعنى: فاعلة، ومن هذا القبيل: طالق وحائض، بمعنى: ذات طلاق وذات حيض، أي: أن ذلك ثابت وحاصل لها من غير تعرض لحدوثها في زمان، حتى لو أرادوا الإجراء على الفعل لأتوا بالتاء، فقالوا: حائضة الآن، وطالقة غداً، هذا مذهب الخليل. وحمله سيبويه على أنه صفة "شيء" أو "إنسان"، لأن المرأة شيء وإنسان. قال القاضي: "فعلى هذا: معنى (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ): أنت أكثر حكمة من ذوي الحكم". قوله: (وليس بذاك): لأن قوله: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) تعليل لقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

فإن قلت: فهلا قيل: إنه عمل فاسد؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) [التحريم: 10]. وقرئ: "عمل غير صالح"، أي: عمل عملا غير صالح. وقرئ: (فلا تسئلنّ)، بكسر النون بغير ياء الإضافة .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي): يعني: أن "غير" ها هنا تنفي ما بعدها، وتستبقي فيما قبلها من جنس ما نفاه، وهو الصلاح، كالاستثناء المفرغ، فإنه يدل على أن المستثنى منه أي جنس هو، فعلى هذا قوله: "إنما أنجي من أنجي من أهله" معناه: إنما أنجي من أهلك لصلاحهم، لا أنهم من أهلك، يعني: نفى أن ابنه من أهله، ثم نفى عنه صفتهم؛ ليدل على أن ذلك النفي لأجل انتفاء هذه الصفة فيه، فلو لم تكن هذه الصورة معتبرة في اعتبار معنى الأهلية، لم يصح (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). قال في "الانتصاف": "ومنه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، وإن كان الإنذار على العموم، لكن لما كانت الأهلية مظنة الاتكال خص، ولهذا أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا أملك لكم من الله شيئاً) ". قوله: (وقرئ: "عمل غير صالح"): بكسر الميم ونصب "غير": الكسائي، والباقون: بفتح الميم مع التنوين ورفع "غير". قوله: (فَلا تَسْأَلْنِي) بكسر النون): الجماعة غير نافع وابن عامر، فإنهما قرءا: "فلا

وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعني: فلا تلتمس منى ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسألن" بفتح اللام وكسر النون وتشديدها، على أن صله: تسألنني، فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات، وكسرت المشددة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة، وعن نافع: إثباتها في الوصل. قوله: (ملتمساً أو التماساً): يريد: أن "ما" في قوله: (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ): موصوفة، والصفة: الجملة، ثم "ما" إما اسم مفعول، فهو المراد من "ملتمساً"، أو مفعول مطلق، وإليه أشار بقوله: "التماساً"، لأن السؤال الذي بمعنى الاستجداء التماس. قوله: (حتى تقف على كنهه)، الأساس: "سله عن كنه الأمر، أي: حقيقته وكيفيته، واكتنه الأمر: بلغ كنهه"، وفيه: أن المراد بالعلم: المتيقن، قال أبو علي: "المراد بالعلم ها هنا: العلم المتيقن الذي يعلم به الشيء على حقيقته، ليس العلم الذي يعلم به الشيء على ظاهره، كالذي في قوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) [الممتحنة: 10] ونحوه". وقال: "الجار والمجرور في (بِهِ عِلْمٌ): إما أن يتعلق بما يدل عليه العلم المذكور، وإن لم يتسلط عليه، كقوله: ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا "بالعصا": متعلق بما دل عليه "أن أجلدا". تمعدد الصبي: غلظ وصلب وذهب عنه رطوبة الصبا.

وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت: لِمَ سمي نداؤه سؤالا ولا سؤال فيه؟ قلت: قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإما أن يتعلق بالمستقر في قولك: (لَكَ)، كما تقول: أليس لك فيه رضا". وحاصل هذا الوجه: أن (عِلْمٌ) اسم (لَيْسَ)، و (لَكَ) خبر، و (بِهِ) يتعلق بالجر، وكذلك قوله: (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ). قوله: (وذكر المسألة دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه): لأن المسألة كالشفاعة في حقه، وطلب نجاته، واستنجاز وعده، وذلك إنما ينفع إذا لم يكن قد غرق، بل كان على مشارفة الهلاك. فإن قلت: هذه المسألة مذكورة بعد قوله: (فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ* وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) الآية، فكيف يتصور أنه لم يغرق بعد، وأنه على مشارفة من الهلاك، ولهذا السؤال القوي قال القاضي: "فقال: إن ابني من أهلي، وما له لم ينج؟ ". قلت: مرد قصة سفينة نوح عليه السلام أولاً على الترتيب الأنيق إلى أن ختم بقوله: (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود: 44]، ثم ذكر نداءه ربه في شفاعته في ابنه الواقع في أثناء تلك القصة عند مشارفته الهلاك، لتكون القصة كالمستقلة، على وزان قصة البقرة في تقديم

فإن قلت: قد وعده أن ينجي أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً؟ قلت: إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهةٌ حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما هو مؤخر في الوجود، وها هنا عكس اعتناء بشأن هذا النداء وجوابه، وذلك لما اشتمل على أمر من أمور الدين، وهو أن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، قال أبو فراس: كانت مودة سلمان له نسب ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم وأما قول القاضي: "وما له لم ينج؟ " فيرده قول نوح عليه السلام أولاً: (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) [هود: 42]، فإنه قطع بكفره ودخوله في زمرة المغرقين على الطريق البرهاني، وجواب الله عنه آخراً: (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، كما سبق. قوله: (فلم زجر): أي: بقوله: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ). قوله: (وأن لا تخالجه شبهة)، الجوهري: "خالج في صدري منه شيء: إذا شككت". قوله: (فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه)، الانتصاف: "في كلامه ما يدل على اعتقاده أن نوحاً صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه، ومعاتبته على ذلك، وليس كذلك، فإنه تعالى وعده نجاة أهله إلا من سبق عليه القول، ولم يكن كاشفاً لحال ابنه، ولا مطلعاً عليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما كان يعتقد كفر ابنه حتى يخرج من الأهل، ويدخل في المستثنى، فلهذا سأل، وهذا بإقامة عذره أولى أن يكون عتباً، فإن نوحاً عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به. وأما قوله: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ): أي: في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنه إن سأل بعد ذلك كان من الجاهلين، أو نهي النبي عن أمر لا يقتضي صدوره عنه، ولذلك أمسك النبي واستعاذ منه". وقلت: قول المصنف: "وكان عليه أن يعتقد" إلى قوله: "وأن يخالجه شك حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين- أي: من الذين سبق عليهم القول-، لا من المستثنى منهم"، أي: من جملة الأهل في قوله: (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) حق، لأنه عليه السلام حين قال لابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) - أي: من زمرتهم والمعدودين فيهم، وهو أبلغ من أن لو قال: "ولا تكن كافراً"-، وأجابه بقوله: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ) إلى قوله: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ)، وجب عليه أن يعتقد أنه من المستثنين، ومثل هذه القضية من الأمارات، بل من الدلالات التي لا يبقى معه شك، فكيف قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، أي: من المستثنى منهم البتة؟ ! حيث صدر بقوله: (رَبِّ) مستعطفاً، وأردفه بـ "إن" المؤكدة، وضم معه (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ)، وذيله بقوله: (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ). قال القاضي: "استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال، وأغناه عن السؤال، لكن شغله حب الولد عنه، حتى اشتبه الأمر عليه".

[(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)]. (أَنْ أَسْئَلَكَ) من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني من ذلك (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة عليّ (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالاً. [(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)]. وقرئ: "يا نوح اهبط" بضم الباء، (بِسَلامٍ مِنَّا) مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) ومباركاً عليك، والبركات الخيرات النامية، وقرئ: "وبركة" على التوحيد، (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) يحتمل أن تكون "من" للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم: أمم، لأنّ الأمم تتشعب منهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبركات: الخيرات النامية): قال الراغب: "البرك: صدر البعير، وبرك البعير: ألقى بركه، واعتبر منه اللزوم، وسمي محبس الماء: بركة، والبركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال تعالى: (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96]، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة".

وأن تكون لإبداء الغاية أي: على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله (وَأُمَمٌ) رفع بالابتداء. و (سَنُمَتِّعُهُمْ) صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأنّ قوله: (مِمَّنْ مَعَكَ) يدل عليه. والمعنى: أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوحٌ عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن تكون لابتداء الغاية): يريد: أن "من" في قوله: (مِمَّنْ مَعَكَ): إذا جعلت بيانية فالمراد بـ "الأمم": هم الذين كانوا معه في السفينة، وصح تسميتهم بالأمم لأنهم كانوا جماعة، وكل طائفة منها أمة، أو إنما سموا أمماً باعتبار مصير حالهم ومآل أمرهم، وإذا جعلت ابتدائية فالمراد بـ "الأمم": الذين ينشؤون منهم إلى آخر الدهر، وهذا أوجه؛ لما يلزم من الأول تسمية الجماعة القليلة بالأمم، ومن الثاني اعتبارا لمجاز بغير المبالغة. وأيضاً لا يحسن التقابل بين قوله: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) وبين قوله: (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) في الأول، كما يحسن في الوجه الأخير؛ فإن الناشئ من الذين في صحبته في السفينة فرقتان: فرقة مؤمنون داخلون تحت سلام الله وبركاته، وفرقة أخرى ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وإليه الإشارة بقوله: "إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار"، ومن ثم قال: "وهو الوجه". وفي قطع الجملة الثانية بالابتداء عن سنن الجملة الأولى: الدلالة على أن التمتع الجسماني والاشتغال به يخرج الإنسان عن حكم الصالحين من عباده، وأن التبتل إلى الله يدخله في

وعن كعب بن محمد القرظي: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنةٍ إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب: كل كافر. وعن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب. وقيل: المراد بالأمم الممتعة: قوم هود وصالح ولوط وشعيب. [(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)]. (تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أي: تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك (مِنْ قَبْلِ هذا) مِن قبل إيحائي إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زمرة الأنبياء والصالحين، وينظر هذا إلى قوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، وأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب. قوله: (والجمل بعدها أخبار): قال القاضي: " (نُوحِيهَا) خبر ثان، والضمير لها، أي: موحاة إليك، ويجوز أن يكون حالاً من "الأنباء"، وأن يكون هو الخبر، و (مِنْ): إما متعلق به، أو حال من الهاء في (نُوحِيهَا)، وقوله: (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) خبر ثالث، أي: مجهولة عندك وعند قومك، ويجوز أن يكون حالاً من [الهاء في] (نُوحِيهَا)، أو الكاف في (إِلَيْكَ)، أي: غير عالم أنت وقومك بها".

(فَاصْبِرْ) على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه (إِنَّ الْعاقِبَةَ) في الفوز والنصر والغلبة (لِلْمُتَّقِينَ). وقوله (وَلا قَوْمُكَ) معناه: إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجلٍ منهم؟ ! كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده. [(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ* يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما قيض لنوح)، الجوهري: "قيض الله فلاناً لفلان؛ أي: جاءه به وأتاحه- أي: قدره- له"، والذي قدر لنوح: هو النجاة، ولقومه: الهلاك. قوله: (لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده): إشارة إلى أن الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى- كقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى) [البقرة: 120]- لقوله: "إن قومك على كثرتهم إذا لم يعرفوه، فكيف برجل منهم"، فوضع "برجل منهم" موضع "أنت" اعتباراً للقلة، لتحصيل الترقي. ويجوز أن يكون من باب التكميل، لأن تلك الأنباء مقصوصة لتسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء قومه له، يدل عليه ترتب قوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) عليها، ثم ضم إليه ما يتنبه به القوم على التهديد، كأنه قيل: إنما قصصنا عليك وعلى قومك قصة نوح ليكون تسلياً لك واعتباراً لقومك.

(أَخاهُمْ) واحداً منهم، وانتصابه للعطف على (أرسلنا نوحاً) [هود: 25]، و (هُوداً) عطف بيان. و (غَيْرُهُ) بالرفع: صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ: غيره، بالجرّ صفة على اللفظ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسولٍ إلا واجه قومه بهذا القول، لأنّ شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك. قيل: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) آمنوا به (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، و"المدرار": الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حراصاً عليها أشد الحرص، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي قول المصنف: " (فَاصْبِرْ) على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه": إشعار به، وفي قوله تعالى: (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ): تعريض بالمشركين، وتنبيه على الدمار. قوله: (لا يمحصها): محصت الذهب بالنار: إذا خلصته مما يشوبه. قوله: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) آمنوا به، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) من عبادة غيره): قال القاضي: "اطلبوا مغفرة الله [بالإيمان]، ثم توسلوا إليها بالتوبة، وأيضاً التبري عن الغير إنما يكون بعد الإيمان منهم بالله، والرغبة فيما عنده".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الفرائد": الاستغفار: طلب الغفران، ويستلزم اعتقاد أن ما مضى ذنب، وهو يستلزم الإيمان، لأن ما مضى منهم كفر، والاستغفار ها هنا هو التوبة عن الكفر، فعلى هذا: قوله تعالى: (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) معناه: دوموا على التوبة؛ بدلالة "ثم"، ولأن الفعل يذكر ويراد به الثبات، كقوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82]. وقلت: الذي يقتضيه النظم حمل (اسْتَغْفِرُوا) على الاستغفار عن الذنوب بعد الإيمان، وحمل (تُوبُوا) على الدوام، كما يؤمر المسلمون بذلك، لأن قول هود لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) متضمن للأمر بالإيمان واختصاص الله بالعبادة، كما سبق في الأعراف في قصة نوح: أن قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59]، أي: بيان لتضمنه معنى اختصاص العبادة بالله، لأنه عليه السلام قال لقومه وهم مشركون: (اعْبُدُوا اللَّهَ). وفائدة هذا الأمر الإيذان بأن العبادة المقرونة بالإشراك ليست عبادة في الحقيقة، فخصوه بالعبادة إن كنتم تعبدونه، ثم بين بقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذا المعنى، ثم لما أتبعه: (يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، وجب حمله على معنى زائد عليه، وهو ما قاله في مفتتح السورة: "استغفروا، والاستغفار التوبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها". وفيه أيضاً: أن الاستغفار سبب لإنزال البركات من السماء وكل خير، فيدخل في هذا

فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية. وقيل: أراد القوّة في المال. وقيل: القوّة على النكاح وقيل: حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً، فقال: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحدٍ سبع مئة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممَّ قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السلام (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ)، وقول نوح عليه السلام (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح: 12]. (وَلا تَتَوَلَّوْا) ولا تعرضوا عنى وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه (مُجْرِمِينَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمر المسلمون أيضاً، كما رواه المصنف عن الحسن بن علي رضي الله عنهما في حديث معاوية رضيا لله عنه، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التكرار لتعليق زيادة خلا عنها الكلام الأول، وهو قوله: (يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)؟ قلت: هذا سائغ، لكن هذا المعنى أليق بفصاحة القرآن، وأكثر فائدة. قوله: (وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة القوة)، الجوهري: "وهو يدل بفلان، أي: يثق به"، قال أبو البقاء: " (يزدكم) متضمن لمعنى: يضفكم، ولهذا عدي بـ "إلى"، ويجوز أن يكون صفة لـ (قُوَّةً)، أي: قوة مضافة إلى قوتكم"، وقيل: أراد القوة في المال، قال السجاوندي: أي: قوة الإيمان إلى قوة الأبدان.

مصرّين على إجرامكم وآثامكم. [(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)]. (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أُنزل عليه آية من ربه) [يونس: 20، الرعد: 7 و 27]، مع فوت آياته الحصر (عَنْ قَوْلِكَ) حال من الضمير في "تاركي آلهتنا"، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يمكن أن تفسر "القوة" بما في سورة نوح لقوله: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، [نوح: 10 - 12]. قوله: (وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك): قدر "عن قولك" حالاً من فاعل (بِتَارِكِي)، قال السجاوندي: "عن" يستعمل في معنى الباء حقيقة، لا قائماً مقامه، قال عن يقين وبيقين، وسأل به وعنه. وقلت: الأحسن أن يضمن "الترك" معنى: الصدور، فـ "عن" مثلها في قوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]، وقوله: ينهون عن أكل وعن شرب قوله: (وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك): على أسلوب قولك: مثلك يجود، ومثلك لا يبخل، بمعنى: ما يصح منا أن نصدقك، وفيه المبالغة، وأشار بهذا إلى أن قوله: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) تذييل للكلام السابق وتأكيد لمضمونه، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة: 51 و 92] على وجه، وذلك أنهم لما قالوا: (مَا

فيما يدعوهم إليه، إقناطاً له من الإجابة. [(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)]. (اعْتَراكَ) مفعول (نقول)، و (إلا) لغو، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) فهم منه أنه لا يصلح للنبوة وأن تصدق دعواه؛ لأن النبوة إنما تثبت بالمعجزة، ولا معجزة، ولما قالوا: (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا) مؤكداً للنفي بالباء، وللفاعل بإيلاء حرف النفي الضمير، علم أنهم ثابتون على ما هم عليه غير زائلين عنه، فجاؤوا بعد ذلك بقولهم: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) توكيداً لمضمون ذينك الكلامين، ليفيد ما قاله من الكناية. وتلخيصه: ما يصح منا- وصفتنا أنا ثابتون على ما نحن عليه- أن نصدقك، وصفتك أنك خلو عن حجة وبينة. فعمهما ليحسن التذييل. قوله: (إقناطاً [له] من الإجابة): مفعول له، أي: قالوا هذا القول إقناطاً له. قوله: ((اعْتَرَاكَ)) أي: أصابك، من: عراه يعروه: إذا أصابه. الراغب: "العرا- مقصور-: الناحية، وعراه واعتراه: قصد عراه، قال تعالى: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، والعروة: ما يتعلق به من عراه، أي: ناحيته". قوله: ((إِلَّا) لغو): أي: لا عمل لها في اللفظ، لكن لها عمل في المعنى، أما أنه لا عمل

والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أي: خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لها في اللفظ: فلأنه يؤتى بها لمعاونة الفعل في غير المفرغ، ذكره في "الإقليد"، ولا حاجة ها هنا إلى المعونة والواسطة، لأن الفعل فرغ للمعمول، وأما أن لها عملاً في المعنى: فلأن المراد: ما نقول قولاً إلا هذا القول، وهو اعتراك بعض آلهتنا، وقال ابن الحاجب: "العامل في الاستثناء ما قبله بواسطة "إلا" إذا كان فضلة". قوله: (ما نقول إلا قولنا: اعتراك): يريد: أن (اعْتَرَاكَ) مقول القول، أقيم مقام المصدر، وسبق الاختلاف فيه؛ أن المقول هل هو مفعول به أو مفعول مطلق؟ قوله: (خبلك)، الجوهري: "الخبل- بالتحريك-: الجن، يقال: به خبل، أي: شيء من أهل الأرض، وقد خَبَلَه وخبَّله واختبله: إذا أفسد عقله أو عضوه". قوله: (المبرسمين)، الجوهري: "البرسام: علة معروفة، وقد برسم الرجل فهو مبرسم"، وفي "الأسباب والعلامات": البرسام: ورم يحدث في الحجاب المعترض بين الكبد والمعدة،

وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عادٌ أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنونا والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عُشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة، وما ذاك إلا لعِرقٍ من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيزول العقل لاتصال هذا الحجاب بحجب الدماغ. قوله: (وهم عاد أعلام الكفر): ذكر "عاد" مقحم لمزيد تقرير كفرهم، وأنهم مشهورون فيه، حيث صار اسمهم في العتو كالوصف، كما يقال: هو حاتم الجود. قوله: (المتظاهرين بالإسلام): التظاهر: تفاعل؛ من الظهور. قوله: (وضب من الزندقة) أي: غل، الأساس: "ومن المجاز: في قلبه ضب؛ أي: غل داخل، كالضب المعن في جحره، قال سابق: ولا تك ذا وجهين يبدي بشاشة ... وفي صدره ضب من الغل كامن" قوله: (أن ينبض) و (أن يطلع): كالترشيحين، وإنما قلت: "كالترشيحين"؛ لأن "من الإلحاد" و"من الزندقة" أخرجا "العرق" و"الضب" أن يكونا مستعارين، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: 187].

وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبلهٍ متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشاً إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس: 71]، أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أنى لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أنى لا أفعله. فإن قلت: هلا قيل: إني أشهد الله وأشهدكم؟ قلت: لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد دلت أجوبتهم المتقدمة): وهي (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) إلى قوله: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [هود: 53]، ودلالتها على غلظ قلوبهم من حيث تلك التوكيدات التي أشرنا إليها، وهذا الأخير- وهو قوله: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) - دال على جهل مفرط. قوله: (من أعظم الآيات أن يواجه بهذا): "أن يواجه": مبتدأ، و"من أعظم": الخبر، والمشار إليه بقوله: "هذا": قوله: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ) إلى آخر الآية، لأنه عليه السلام قابلهم في التوكيد، وزاد عليهم. قوله: (إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد) إلى آخره، الانتصاف: "تلخيص

وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد علي أني لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلام الزمخشري أن صيغة الخبر تقتضي الإخبار بوقوع المخبر به، وإشهاده لله حقيقة، وإشهاده إياهم لما لم يكن حقيقة كان من مجاز ورود الأمر بمعنى التهديد، ويحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة لإقامة الحجة، وعدل عن الخبر إلى الأمر ليميز خطابهم عن خطاب الله تعالى". وقلت: الأول هو الوجه، لأنه قد تقرر في البيان أن إجراء الكلام على مقتضى الظاهر لا يتضمن من النكتة واللطيفة ما يتضمنه الإجراء على خلاف المقتضى، فإن قوله: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ) كلام جار على الإخبار عن براءته من شركهم، فيفيد ما قال: "إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما قوله: (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فغير جار على مقتضاه، لأن أحداً لا يقول لعدوه المناوئ: اشهد أني بريء عنك، إلا أنه ينبهه بأنه لا يبالي به، ولا يخاف غوائله، وإليه الإشارة بقوله: "فما هو إلا تهاون بهم". قوله: (يبس الثرى)، الأساس: "والتقى الثريان: مثل في سرعة تواد الرجلين، وأصله: أن يسقط الغيث الجود، فيلتقي نداه وندى الأرض العتيق تحتها. ولا توبس الثرى بيني وبينك؛ أي: لا تقاطعني، قال جرير: ولا توبسوا بيني وبينكم الثرى ... فإن الذي بيني وبينكم مثري" الجوهري: "ما بيني وبينك مثر، أي: أنه لم ينقطع، وهو مثل، كأنه قال: لم ييبس الثرى

(مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ) من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أي: أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطاناً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيني وبينك، وفي الحديث: (بلوا أرحامكم ولو بالسلام) "؛ استعار "البل" لمعنى الوصل، واليبس: بمعنى القطع. قوله: (أو مما تشركونه من آلهة): فعلى هذا: "ما" موصولة، ولهذا جاء بالضمير المحذوف، و"من آلهة" بيان "ما"، و"من دونه" صفة "آلهة"، أو حال من فاعل "تشركون"، أي: تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم، فإنهم إذا حكموا بغير ما حكم الله تعالى به فقد جاوزوا حكمه. وعلى الأول: "ما" مصدرية، و"دون" بمعنى: غير، صفة أيضاً، كما قدره: "من إشراككم آلهة من دونه"، أي: غيره.

(فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار، فإني لا أبالي بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرّتكم وإن تعاونتم عليّ وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلنى وتذهب بعقلي. [(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)]. ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعجل ما تفعلون): "أعجل": منصوب على الظرف من قوله: (فَكِيدُونِي)، أي: فكيدوني زماناً أعجل أوقات ما تفعلون، كقوله: أخطب ما يكون الأمير. قوله: (فكيف تضرني آلهتكم): هذا يؤذن أن قوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) جواب عن قولهم: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا) على المبالغة، وأن قوله: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مقدمة وتمهيد للجواب، فإنهم لما سموها آلهة، وأثبتوا لها الضرر، نفى هو بقوله: (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) كونهم آلهة رأساً، ثم نفى الضرر بقوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) على أبلغ وجه، كما قال: لا أخاف فسادكم ومضرتكم، فكيف بالجماد الذي هو أوهن من بيت العنكبوت. قوله: (نلت منها): أي: عبتها واشتفيت غيظي منها. قوله: (وصفه بما يوجب التوكل عليه): أي: في هذا المقام، ويدل أنه عليه السلام رتب

والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يريد: أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن تتولوا. فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسالات به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول (وَيَسْتَخْلِفُ) كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حكم توكله على الله والالتجاء إليه من كيدهم على الوصف المناسب، أثبت بقوله: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) صفة المالكية والقهارية، وبقوله: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وصف العدل، فلكونه مالكاً لا يفوته أحد، ولكونه قاهراً لا يعجزه شيء، ولكونه عادلاً لا يضع كل شيء إلا في موضعه، فمن يكون كذلك فمن حق الملتجئ أن لا يلتجئ إلا إليه. قوله: (الإبلاغ كان قبل التولي): يعني: من حق الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، والسبب مقدم على المسبب، فما باله مؤخر؟ والجواب: أن الجزاء مبني على الإخبار والإعلام والتوبيخ، يعني: توليكم عما جئت به من الحق سبب لأن أخبركم أني ما قصرت في التبليغ، وأنكم تجاوزتم حد الإنصاف، وأبيتم قبول الحق، وكنتم محجوجين، لأن الغرض في إرسال الرسل الإبلاغ، فقد حصل ذلك، فلزمتكم الحجة، قال القاضي: " (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة". قوله: ((وَيَسْتَخْلِفُ) كلام مستأنف): أي: ليس بداخل في حيز الجملة الشرطية جزاء عنه، كما في الوجه الثاني، بل يكون جملة مستقلة برأسها، معطوفة على الجملة الشرطية،

ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم، (وَلا تَضُرُّونَهُ) بتوليكم (شَيْئاً) من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله: "ويستخلف" بالجزم. وكذلك: "ولا تضروه"؛ عطفاً على محل (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي: رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم. [(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. مؤذنة بأن الحجة قد لزمتهم بإبلاغ الرسول ما عليه من التبليغ وتوليهم عنه، وأن الله يهلكهم ويستخلف في ديارهم قوماً غيرهم، فعلى هذا: الجملة الشرطية برأسها إخبار بإلزام الحجة عليهم، والجملة الثالثة ابتداء إخبار باستخلاف غيرهم بعد إهلاكهم. قوله: (أو: من كان رقيباً على الأشياء كلها): على هذا الوجه: (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) كالتعليل لقوله: (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً)، وعلى الأول: تعليل لقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) ولقوله: (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) على معنى: وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: (برحمة منا): يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له. [(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)]. (وَتِلْكَ عادٌ) إشارةٌ إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة): الحاصل: أن التكرير لتعليق أمر زائد على الأول؛ إما بحسب الإبهام والتفسير، على نحو: أعجبني زيد وكرمه، وإما بحسب التغاير في الذات. قوله: ((وَتِلْكَ عَادٌ) إشارة إلى قبورهم): قال القاضي: "أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم". وقلت: كأنه آذن بتصوير تلك القبيلة في الذهن، ثم أشار إليها وجعلها خبراً للمبتدأ لمزيد الإبهام، فيحسن التفسير بقوله: (جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) كل الحسن لمزيد الإجمال والتفصيل، وينصر الثاني أن هذه الآية واردة بعد هلاك القوم.

فقال: (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ)، لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة: 285]، قيل: لم يرسل إليهم إلا هود وحده (كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل. ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. و (أَلا) وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم: تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم. فإن قلت: (بُعْداً) دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله: إخْوَتِى لَا تَبْعَدُوا أبَداً ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهم إذا عصوا رسولهم): فيه حذف، أي: إنما قيل: (وَعَصَوْا رُسُلَهُ)، وما هو إلا رسول، لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، كقوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء: 105]. قوله: (ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم): يعني: لما تبع عاد أمر كل جبار عنيد، وعصوا رسل الله، وكذبوا بآيات ربهم، جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفيه: أنهم لو عكسوا جعلت الرحمة تابعة لهم في الدارين، يدل عليه قوله تعالى: (نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا). قوله: (و (أَلَا) وتكرارها): عطف على لفظة (أَلَا) على منوال التفسير. قوله: (إخوتي لا تبعدوا أبداً) البيت: أي: كانوا في حال حياتهم مستأهلين لأن يقال

(قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد: فإن قلت: ما الفائدة في هذا البيان والبيان حاصل بدونه؟ قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسماً، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأنّ عاداً عادان: الأولى: القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى: إرم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لهم: لا تبعدوا أبداً، كأنه يتعرض في المصراع الثاني على نفسه بقوله: "وبلى والله قد بعدوا"، على أنك لم قلت: لا تبعدوا؟ هذه ألفاظ يستعملونها عند المصائب، وليس فيها طلب ولا سؤال، وإنما هي تنبيه على شدة الأمر، وتفاقم الجزع، وتناهي التفجع. قوله: (الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسماً، وتجعل فيهم أمراً محققاً): وذلك أن قوله: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا) إلى قوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)، بعد قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً)، للدلالة على القطع في أنهم إنما استحقوا لعنة الدارين لما جحدوا بآيات الله، وعصوا رسله، وتجبروا، على منوال قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]، بعد قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: 3]. ولما أراد أن يسجل عليهم بالطرد والهلاك، ويجعله كالوسم بهم، أوقع هذا الدعاء خاتمة لقصتهم، مصدراً بحرف التنبيه المتلقية للقسم، وأوقع (قَوْمِ هُودٍ) بياناً وصفة لذكرهم، قال الإمام: "المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد". وأما الوجه الثاني- وهو قوله: "ولأن عاداً عادان"- فضعيف، لأنه لا لبس في أن عاداً هذه ليست إلا قوم هود، لتصريح اسمه وتكريره في القصة، قيل: عاد الأولى: هي عاد إرم ابن سام بن نوح، وعاد الآخرة: قوم لقيم بن هلال بن هذيم، هكذا في "العرائس".

[(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ* قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ* وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ* فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ* فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ* وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)]. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم ينشئكم منها إلا هو): الحصر مستفاد من تقديم الفاعل المعنوي، لأنه مثل: أنا كفيت همك، وأنا قضيت حاجتك. قوله: (والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه): فالواجب: مثل سد الثغور، والقناطر المبنية على الأنهر المهلكة، والمسجد الجامع في مصر، والمندوب: كالمسجد والقناطر والمدارس والربط، والمباح: كالبيوت التي يسكن فيها ويكن بها، والحرام: كأبنية الظلمة وغيرهم للمباهاة، واسأل الله المغفرة والتوبة.

وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. وعن معاوية بن أبي سفيان: أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل: لَيْسَ الفَتَى بِفَتيً لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَلَا تَكُونُ لَهُ فِى الأَرْضِ آثَارُ وقبل: استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون "استعمر" في معنى أعمر، كقولك "استهلكه" في معنى أهلكه، ومعناه: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره. (قَرِيبٌ) داني الرحمة سهل المطلب، (مُجِيبٌ) لمن دعاه وسأله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد جعل من العمرى)، الجوهري: "أعمرته داراً أو أرضاً أو إبلاً: إذا أعطيته إياها، وقلت: هي لك عمري أو عمرك، فإذا مت رجعت إلي، والاسم: العمرى". قوله: ((قَرِيبٌ) داني الرحمة سهل المطلب): نحو قول الشاعر: الله أنجح ما طلبت به وفي تعليل الاستغفار والتوبة بما يعلل به الدعاء من كونه قريباً مجيباً، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي) [البقرة: 186]: الدلالة على أن

(فِينا) فيما بيننا (مَرْجُوًّا) كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. وعن ابن عباس: فاضلاً خيراً نقدّمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه (يَعْبُدُ آباؤُنا) حكاية حال ماضية (مُرِيبٍ) من: أرابه: إذا أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من: أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازى. قيل: (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) بحرف الشك وكان على يقينٍ أنه على بينة، لأنّ خطابه للجاحدين، فكأنه قال: قدّروا أني على بينة من ربي، وأني نبيّ على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربى في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجرد الاستغفار أيضاً سؤال ودعاء، ويؤيده قوله تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) [نوح: 10 - 12] الآية، كما سبق في قصة الحسن ابن علي رضي الله عنهما. قوله: (نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور، ومسترشداً في التدابير): وذلك لإطلاق الرجاء في قولهم: (مَرْجُوّاً). قوله: (من: أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة): أي: لفي شك ذي ريبة، نحو قولهم: جد جده. قوله: (لأن خطابه للجاحدين): يعني: إنما قال: (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) بحرف

(فَما تَزِيدُونَنِي) إذن حينئذ، (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) يعني: تخسرون أعمالي وتبطلونها، أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملونني عليه غير أن أخسركم، أي: أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون. (آيَةً) نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل. فإن قلت: فبم يتعلق (لَكُمْ)؟ قلت: بـ (آية) حالاً منها متقدّمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشك، مع أنه على يقين، لأنه من الكلام المنصف، يستدرجهم ويقول: قدروا على زعمي أني على حق، ثم أني عصيت ربي، فلابد أن الله تعالى ينتقم مني، فتفكروا هل تقدرون أن تمنعوا عذاب الله مني، بل ما تزيدونني غير تخسير. قوله: (إذن حينئذ): أكد "إذن" بـ "حينئذ" ليختص بالظرفية. قوله: (فلما تقدمت انتصبت على الحال): قيل: هذا قول لم يقل به أحد، لما يلزم منه أن يكون الحال ذا الحال، والأولى: (لَكُمْ) حال عمل فيها معنى الإشارة، و (آَيَةً) حال من الضمير المستتر فيه، فيكونان حالين متداخلين. وقلت: وقد قال به أبو البقاء والكواشي، وقال الواحدي: " (آيَةً) جازت أن تكون حالاً بمعنى: دالة، فلا امتناع حينئذ [من] وقوعها ذا حال باعتبار الضمير"، وقال الزجاج: "إن نصب (آيَةً) على الحال، المعنى: إذا قال: هذه ناقة الله لكم آية أو آية لكم، فكأنه قال: انتبهوا لها في هذه الحال".

(عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجلٌ لا يستأخرُ عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم. (تَمَتَّعُوا) استمتعوا بالعيش، (فِي دارِكُمْ) في بلدكم، وتسمى البلاد: الديار، لأنه يدار فيه أي: يتصرف. يقال: "ديار بكر" لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالى مكة: نحن من عرب الدار، يريدون: من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) غير مكذوب فيه، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: المقصود من هذا التركيب اتصاف المشار إليه بالحال، وتنبيه المخاطب عليه، كما أنك إذا قلت لمن يعرف زيداً: هذا زيد قائماً، تفيده التنبيه على قيامه فقط، وسيجيء تحقيقه في قوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72]، فعلى هذا: فيه التنبيه للقوم على اتصاف الناقة بكونها آية، ثم بيان أن تلك الآية بمن تختص، وقد قال المصنف رحمه الله تعالى في الأعراف: " (لَكُمْ) بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان". قوله: ((تَمَتَّعُوا) استمتعوا بالعيش)، الراغب: "المتوع: الامتداد والارتفاع، يقال: متع النهار، ومتع النبات: ارتفع، والمتاع: انتفاع ممتد الوقت، يقال: متعه الله بكذا، وأمتعه، وتمتع به. وكل موضع ذكر فيه "تمتعوا" في الدنيا فعلى طريق التهديد، وذلك لما فيه من معنى التوسع، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 36] تنبيهاً على أن لكل إنسان من الدنيا تمتع مدة معلومة، وقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء: 77] تنبيهاً على أن ذلك في جنب الآخرة غير معتد به، ويقال لما ينتفع به في البيت: متاع، قال تعالى: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ) [الرعد: 17]، وكل ما ينتفع به على وجه فهو متاع، والمتعة: ما تعطى المطلقة لتنتفع بها مدة عدتها، ومتعة النكاح: أن تشارط المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم، فإذا انقضى فارقها من غير طلاق".

فاتسع في الظرف بحذف الحرف، وإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله: وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفي بك، فإذا وفى به فقد صدق ولم يكذب، أو وعد غير كذب، على أنّ "المكذوب" مصدر، كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (ويوم شهدناه): تمامه: .... سليمان وعامراً ... قليل سوى الطعن الدراك نوافله ويروى: "الطعن النهال". و"النهال": جمع ناهل، مثل: طلاب وطالب، والناهل: الريان والعطشان، وهو صفة "الطعن"، يريد: يروي الرماح العطاش؛ يصف معركة، "شهد": يتعدى إلى مفعول واحد، وها هنا تعدى إلى مفعولين، "قليل": صفة "يوم"، و"نوافله" فاعل "قليل"، والنافلة: العطية إذا كانت تطوعاً، وأسقط لفظة "في" من اللفظ، وسيجيء تمامه بعيد هذا.

(وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى "إذ"، وهو غير متمكن، كقوله: عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على (نجينا)، لأنّ تقديره: ونجيناهم من خزى يومئذ، كما قال: (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود: 58]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: ((وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) قرئ مفتوح الميم): نافع والكسائي، والباقون: بكسرها. قوله: (على حين عاتبت المشيب على الصبا): تمامه: وقلت ألما تصح والشيب وازع الهمزة في "ألما": للاستفهام، و"لما": من الجوازم، و"تصح": من: صحا يصو: إذا أفاق من سكره، "وازع": كاف مانع؛ من الوزع: الكف، يقول: إنه لما عرف الديار التي كان حل بها من يهواه بكى، وعاوده وجده، فعاتب نفسه على صبابتها وعذلها، وقال: "ألما تصح"، أي: آن لك أن تصحو ويزول عنك ما كنت تجده من الغرام في صباك، فإن الشيب كاف عن أمثال هذا. قوله: (على (نَجَّيْنَا)): لم يرد أن نفس الجار والمجرور عطف على نفس الفعل، فلا يقدر له متعلق، ويعطف، بل يقدر وتعطف الجملة على الجملة، ليكون على وزان قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) [هود: 58]، وتلخيصه: ولما جاء أمرنا نجينا صالحاً من عذاب الدنيا، ونجيناه من خزي يوم القيامة.

على: وكانت التنجية من خزى يومئذ، أي: من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بـ (يومئذ) يوم القيامة، كما فُسر "العذاب الغليظ" بعذاب الآخرة. وقرئ (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) و (لِثَمُودَ) كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحىّ أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة. [(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ* فَلَمَّا رَأي: أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ* وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)]. (رُسُلُنا) يريد: الملائكة، عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من خزي يومئذ، أي: من ذله ومهانته)، الراغب: "خزي الرجل: لحقه انكسار؛ إما من نفسه أو من غيره، فالأول: هو الحياء المفرط، ومصدره: الخزاية، والثاني: هو ضرب من الاستخفاف، ومصدره: الخزي، وعلى ما قلنا في "خزي" قولهم: ذل وهان، فإن ذلك متى كان من الإنسان نفسه يقال له: الهون والذل، ويكون محموداً، ومتى كان من غيره يقال له: الهوان والذل، ويكون مذموماً". قوله: (وقرئ: (أَلا إِنَّ ثَمُودَا)): حمزة وحفص، والباقون: بالتنوين. والكسائي: "ألا بعداً لثمود" بالتنوين، والباقون: بفتح الدال من غير تنوين.

وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة، وعن السدي: أحد عشر (بِالْبُشْرى) هي البشارة بالولد، وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر: الولد (سَلاماً) سلمنا عليك سلاماً (سَلامٌ) أمركم سلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والظاهر: الولد): اعلم أن البشارة هي الإخبار بما يظهر سرور المخبر به، والظاهر: هو اللفظ المحتمل الراجح أحد محتملاته بقرينة، وها هنا: (بِالْبُشْرَى) حال من (رُسُلُنَا)، أي: لقد جاءت رسلنا ملتبسين بالبشرى، وهي مطلقة صالحة لكل ما يحصل به سرور المخبر، فعقبت بقوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، وبقوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ). ومن قال: إن البشرى هلاك قوم لوط، ذهب إلى أن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن، قال الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45]، وإليه الإشارة بقوله: "فضحكت سروراً بهلاك أهل الخبائث". ولا شك أن الأول أظهر دلالة من الثاني؛ لتصريح ذكر البشارة فيه. ثم قوله: (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى): التعريف فيه للعهد الخارجي، فإذا جعل المعهود ما يفهم من قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) كان من قبيل التعريف في "الذكر" في قولها: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36] الراجع إلى معنى قوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران: 35]، فإنه دال على أن المطلوب كان ذكراً، وإذا جعل المعهود معنى قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ) كان من قبيل قولك: انطلق الرجل، والمنطلق ذو جد. ولا ارتياب أن الثاني أظهر، ولذلك قال محيي السنة: " (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى) بإسحاق ويعقوب"، وأشار إليه المصنف بقوله: "لما اطمأن قلبه بعد الخوف، وملئ سروراً بدل الغم، فرغ للمجادلة"، ولناصر الثاني أن يقول: إن هذه البشرى في مقابلة قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا)، فكما أن امرأته عليه السلام ضحكت وتعجبت من تلك البشارة، و (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا

وقرئ: "فقالوا سلماً قال سلم"؛ بمعنى: السلام. وقيل: سلمٌ وسلام، كحرم وحرام، وأنشد: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)، وهذا نوع من الجدال، كذلك إبراهيم عليه السلام لما بشر بهلاك القوم اهتم بشأن المؤمنين، وجادل الرسل فيهم، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "فقالوا سلماً"): حمزة والكسائي: بكسر السين وإسكان اللام، والباقون: بفتح السين واللام وألف بعدها، قال الزجاج: "وأما "سلم": فعلى معنى: أمري سلم"، أي: لست ممن يريد غير السلامة والصلح. الراغب: "السلام والسلامة: التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، قال تعالى: (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 89]، أي: متعر من الدغل، فهذا في الباطن، وقال تعالى: (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا) [البقرة: 71]، فهذا في الظاهر، والسلامة في الحقيقة ليست إلا في الجنة، لأن فيها بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعزاً بلا ذل، وصحة بلا سقم، قال الله تعالى: (فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ) [الذاريات: 25]، وإنما رفع الثاني؛ لأنه في باب الدعاء أبلغ، فكأنه تحرى في باب الأدب المأمور به في قوله: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) [النساء: 86]. ومن قال: "سلم"، فلأن السلام لما كان يقتضي السلم، وكان إبراهيم أوجس منهم خيفة، فلما رآهم مسلمين تصور من تسليمهم أنهم قد بذلوا له سلماً، فقال في جوابهم: "سلم"، تنبيهاً على أن ذلك من جهتي لكم كما حصل من جهتكم لي".

مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه، أو فما لبث مجيئه. و"العجل": ولد البقرة، ويسمى: الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو علي: "أما انتصاب (سَلَاماً): فإنه لم يحك شيئاً تكلموا به، فيحكى كما تحكى الجمل، وهو معنى ما تكلمت به الرسل، كما أن القائل إذا قال: "لا إله إلا الله"، فقلت: حقاً، أعملت القول في المصدر، لأنك ذكرت معنى ما قال، ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكى، وكذلك نصب (سَلَاماً)، لما كان معنى ما قيل، ولم يكن نفس المقول بعينه، وأما (سَلَامٌ) فهو مرفوع، لأنه من جملة الجملة المحكية، والتقدير: سلام عليكم، فحذف الخبر". والمصنف حكى كلامهم، وقدر الناصب، ليكون العدول منه إلى الرفع أبلغ، تأسياً بقوله تعالى: (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) [النساء: 86]، كما أشار إليه الراغب. قوله: (مررنا فقلنا: إيه) البيت: "إيه": اسم فعل، ومعناه: زد، ونظيرها: أف. النهاية: "هي كلمة يراد بها الاستزادة، وهي مبنية على الكسر، فإذا وصلت نونت فقلت: إيه حدثنا". اكتل البرق: لمع، سحاب مكتل: ملمع، يقول: سلمنا فردت السلام بالبشاشة والطلاقة مثل البرق اللامع.

(حَنِيذٍ) مشويّ بالرضف في أخدود، وقيل: (حَنِيذٍ) يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقاً، ويدل عليه: (بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات: 26]. يقال: نكره وأنكره واستنكره، ومنكور: قليل في كلامهم، وكذلك: أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى: وَأَنْكَرَتْنِى وَمَا كَانَ الَّذِى نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا قيل: كان ينزل في طرفٍ من الأرض، فخاف أن يريدوا به مكروهاً. وقيل: كانت عادتهم أنه إذا مسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر: أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. قوله: (بالرضف): الرضف: الحجارة المحماة. قوله: (وأنكرتني) البيت: يقال: أنكرت الرجل: إذا كنت من معرفته في شك، ونكرته: إذا لم تعرفه. يقول: إن المحبوبة شكت في معرفتي، وما نكرت إلا الشيب والصلع، فإنهما مبغوضان عندها. وقال المصنف في "الذاريات" في قوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات: 25]: "أي: أنتم قوم منكرون، فعرفوني من أنتم"، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه، كما إذا أبصر العرب قوماً من الخزر، ورأى لهم حالاً وشكلاً خلاف حال الناس وشكلهم.

ألا ترى إلى قولهم: (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ)، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا. (وَأَوْجَسَ) فأضمر، وإنما قالوا: (لا تَخَفْ) لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه، أو: عرفوه بتعريف الله، أو: علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى قولهم: (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)): أي: الدليل على أن الظاهر أنه عليه السلام أحس أنهم ملائكة، وإنما أنكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى على إبراهيم عليه السلام، لا لأنهم ما مسوا طعامه: تعليل النهي- أي: (لا تَخَفْ) - بقولهم: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، وإلا كان مقتضى الظاهر أن يقولوا: إنا رسل الله، وهذا على خلاف ما ذكره في سورة الحجر، قال: "وكان خوفه لامتناعهم من الأكل، وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت". روى محيي السنة عن قتادة: أن ذلك الخوف لأجل أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، ولم يأكل من طعامهم، ظنوا أنه لم يأت بخير، وإنما جاء بشر"، ولم يذكر غير هذا الوجه في هذا المقام. وقال القاضي: " (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) أي: أنكر ذلك منهم". وقلت: الحق- والله تعالى أعلم- أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكونهم ممتنعين عن الطعام، كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة، ولأنه لو عرفهم أنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام، ولم يحرضهم على الأكل، وإنما عدلوا إلى قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، ليكون الكلام جامعاً للمعاني، بحيث يفهم المقصود منه أيضاً. واعلم أن إيراد قصة واحدة في مقامات متعددة بعبارات مختلفة وأنحاء شت، بحيث لا تغير ولا تناقض البتة: من فصيح الكلام وبليغه، وهو باب من الإيجاز المختص بالإعجاز، ويحتاج في التوفيق إلى قانون يرجع إليه، وهو أن يعمد إلى الاقتصاصات المتفرقة، ويجعل لها أصل؛ بأن يؤخذ من المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص فيه من تلك المعاني شيء يلحق به. مثاله فيما نحن بصدده: أنه تعالى قص هذه القصة في هذه السورة على نمط، وفي الحجر على نمط، وفي الذاريات على نمط، قال في الحجر: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) إلى قوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الحجر: 51 - 58]، وفي الذاريات: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ* فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) إلى قوله: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الذاريات: 25 - 32]، فذكر في هود: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، ثم ذكر البشارة بعده، ولم يذكره في الموضعين، فينبغي أن يقدر فيهما قبل البشارة هذا المعنى، ويقدر في سورة هود بعد الفراغ من البشارة: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، لأنه لم يذكره فيه، وذكره في الموضعين، وزيد في هود حديث المجادلة عن قوم لوط، ولم يذكر في الموضعين، فيقدر فيهما، واختصر في الحجر- بعد قولهم: "سلاماً"- جوابهم: "قالوا: سلام"، فيقدر ذلك مع ما يتم به المعنى، حتى يتصل بقوله: (لا تَوْجَلْ).

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) قيل: كانت قائمةً وراء الستر تسمع تحاورهم، وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم، وفي مصحف عبد الله: "وامرأته قائمة وهو قاعد"، (فَضَحِكَتْ) بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث، أو كان ضحكها ضحك إنكارٍ لغفلتهم، وقد أظلهم العذاب. وقيل: كانت تقول لإبراهيم: اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سروراً لما أتى الأمر ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما معنى السؤال في قوله: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)، بعد تقدير ما سبق من قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، فهو: فما شأنكم وما تطلبون بقولكم: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، وفي تصريح ذكر "المرسلين" الدلالة على ذلك، لأن التعريف فيه كما في قولك: المنطلق ذو جد، بعد قولك: انطلق زيد إلى موضع كذا، فأجيب عليه السلام بما علم منه أن الإرسال لأجل الإهلاك؛ من قولهم: (إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، فالواجب على المفسر الماهر أن يراعي في تفسيره في كل مقام ما يسلم منه من الخطأ. وأما التوفيق بين مفردات الألفاظ فمن أجل المقاصد، ولا يعلم كنهه بحسب اقتضاء كل مقام إلا الله سبحانه وتعالى، والحمد لله على ما ألهمنا شمة منه. قوله: (فضحكت سروراً)، الراغب: "الضحك: انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس، ولظهور الأسنان عنده تسمى مقدمات الأسنان: الضواحك، ويستعمل في السرور المجرد، نحو: (مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ) [عبس: 38 - 39]، وفي السخرية، نحو: (وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون: 110]، وفي التعجب المجرد قال: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) [هود: 71]، وضحكها كان للتعجب، ويدلك عليه قولها: (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) ".

على ما توهمت، وقيل: (ضحكت) فحاضت، وقرأ محمد بن زيادٍ الأعرابى: "فَضَحِكَتْ" بفتح الحاء. (إسحاق يَعْقُوبَ) رفع بالابتداء، كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب مولودٌ أو موجود، أي: من بعده، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَضَحِكَتْ) فحاضت): قال محيي السنة: "هو قول مجاهد وعكرمة، والعرب تقول: ضحكت الأرنب، أي: حاضت". الانتصاف: "يبعده: (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ولو كان الحيض قبل البشارة لم يكن عجباً ولادة من تحيض، وهو معيار الحمل". وقلت: طريان الحيض في غير إبانه أيضاً داخل في حكم التعجب، لأن الاستفهام في قولها: (أَأَلِدُ) وارد على تقدير الولادة بعد الحيض، والتعجب من هذه القضية ×××× للعادة المستمرة. الراغب: "من قال: (فَضَحِكَتْ): حاضت، ليس تفسيراً له، كما تصوره بعضهم، وإنما ذلك تنصيصاً لحالها، وأن الله تعالى جعل ذلك أمارة لما بشرت به، فحاضت في الوقت لتعلم أن حملها ليس بمنكر؛ إذ كانت المرأة ما دامت تحيض فإنها تحبل". قوله: ("يعقوب" رفع بالابتداء): قرأ ابن عامر وحمزة وحفص: (يَعْقُوبَ) بالنصب، والباقون: بالرفع، قال الزجاج: "من نصب يحمل على موضع (فَبَشَّرْنَاهَا) على المعنى، أي:

وقيل: الوراء: ولد الولد، وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال: نعم، من الوراء، وكان ولد ولده، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهبنا لها إسحاق، ووهبنا لها يعقوب. ومن رفع فعلى ضربين: أحدهما: على التقديم والتأخير، المعنى: ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق. وثانيهما: هو مرفوع بعامل "من وراء"، أي: ثبت لها من وراء إسحاق يعقوب، ومن زعم أنه في موضع خفض فخطأ؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو العاطفة، لا يجوز: مررت بزيد في الدار والبيت عمرو". قال أبو علي: "من فتح "يَعْقُوبَ) أنه مجرور، أي: بشرناها بإسحاق ويعقوب، كان أقوى من الرفع؛ لأنها بشرت بهما، وفي إعمالها ضعف للفصل بين الجار والمجرور، نص سيبويه على قبح نحو: مررت بزيد أول من أمس، وأمس عمرو، وقال أبو الحسن: لو قلت: "مررت بزيد اليوم، وأمس عمرو" لم يحسن". قوله: (وقيل: الوراء: ولد الولد): القاضي: "ولعله سمي به لأنه بعد الولد، وعلى هذا تكون إضافته إلى "إسحاق" ليس من حيث إن يعقوب وراءه، بل من [حيث] إنه وراء إبراهيم، ومن جهته، وفيه نظر". وقال الإمام: "هذا الوجه عندي شديد التعسف، واللفظ كأنه ينبو عنه".

وقرئ: (يَعْقُوبَ) بالنصب، كأنه قيل: ووهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله: لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلَا نَاعِبٍ الألف في (يا وَيْلَتى) مبدلةٌ من ياء الإضافة، وكذلك في «يا لهفاً» و «يا عجباً» وقرأ الحسن: "يا ويلتى" بالياء على الأصل، و (هذا بعلي شَيْخاً) نصبٌ بما دلّ عليه اسم الإشارة، وقرئ: "شيخ"؛ على أنه خبر مبتدأٍ محذوف، أي: هذا بعلي هو شيخ، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليسوا مصلحين عشيرة): أوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها مضى شرحه، ووجه تشبيه الآية بالبيت: أن يقدر كأنه قيل: وهبنا له إسحاق، ثم عطف عليه "يعقوب"، أي: وهبنا يعقوب، كما أن الشاعر قدر أنه قال: "ليسوا بمصلحين"، فقال: "ولا ناعب"، فقدر في البيت المعدوم موجوداً، وفي الآية عكسه. قوله: ("يا ويلتي" بالياء على الأصل): قال الزجاج: "في المصحف: "يا ويلتي" بالياء، والقراءة بالألف: إن شئت على التفخيم، وإن شئت على الإمالة، والأصل: "يا ويلتي"، فأبدل من الياء والكسرة: الألف، لأن الألف والفتح أخف من الياء". قوله: (و (شَيْخاً) نصب بما دل عليه اسم الإشارة): قال الزجاج: "والحال ها هنا من

أو (بعلي): بدل من المبتدأ، و"شيخ": خبر، أو يكونان معاً خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مئة وعشرون سنة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فـ (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)؛ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: هذا زيد قائماً، فإن قصدت أن تخبر به من لم يعرف زيداً أنه زيد، لم يجز؛ لأنه يكون زيداً ما دام قائماً، فإذا زال عن القيام فليس بزيد، وإنما تقول: هذا زيد قائماً لمن يعرف زيداً، فيعمل في الحال التنبيه، أي: انتبه لزيد في حال قيامه، أو: أشير إلى زيد في حال قيامه، لأن "هذا" إشارة إلى ما حضر". وقلت: إنما جعل العلم مشاراً إليه؛ ليؤذن بأن المتكلم في هذا المقام يفيد المخاطب اتصاف المشار إليه بهذا المعنى، كقولها: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)، أي: انتبهوا أن المانع من التوالد هذا الذي حصل من الشيخوخة، لا أنه بعلي، وإذا لم يعلم كونه بعلاً لها فالفائدة العقلية مع كونها موصوفة بالشيخوخة، فينتفي كونه بعلاً لها عند انتفاء الشيخوخة. قوله: (أن تتوقر): بالقاف، ويروى بالفاء، يقال: توقر عليه: رعى حرمته، وتتوقر: من الوقار والرزانة. قوله: (ولا يزدهيها)، الجوهريك "ازدهاه: استخفه وتهاون به". قوله: (وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم: (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ)): أي: إلى هذا

أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. و"أمر الله": قدرته وحكمته، وقوله: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بنى إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المذكور، وهو: عليك أن تتوقري ولا يزدهينك ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبحي الله وتمجديه مكان التعجب، وذلك أنهم جاؤوا بهذه الجملة مقتطعة عما قبلها من غير عاطف، لتكون الجملة الأولى- وهي قوله: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) - كالمورد للسؤال، وتكون هذه الجملة جواباً عنه، وذلك أنهم لما أنكروا عليها بقوله: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) استبعادها بقولها: (يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)، تصوروا أنها أضمرت في نفسها: لم كان أمرنا خلاف أمر النسا؟ أجابوا بقولهم: (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، يعني: بأن الله خصكم بهذه الفضيلة والإنعام دون سائر الناس، وإليه الإشارة بقوله: "كلام مستأنف علل به إنكار التعجب"، ودل على الاختصاص النداء بقوله: (أَهْلَ الْبَيْتِ)، فإنه من قبيل قولهم: أنا أفعل كذا أيتها العصابة. لله دره، ما أدق إدراكه.

(حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده (مَجِيدٌ) كريم كثير الإحسان إليهم. و(أهل البيت): نصب على النداء أو على الاختصاص، لأن (أَهْلَ الْبَيْتِ) مدح لهم: إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن. [(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)]. (الرَّوْعُ) ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف ومليء سروراً بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة. فإن قلت: أين جواب "لما"؟ قلت: هو محذوف كما حذف قوله (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) [يوسف: 15]، وقوله: (يُجادِلُنا) كلام مستأنف دال على الجواب، وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب به الحمد) يعني: "فعيل" بمعنى: فاعل، وهذه الخاتمة كالتذييل والتعليل لما سبق، فإن قولهم: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متضمن لما أوجب عليها من الوقار والرزانة والتسبيح والتمجيد لا للتعجب- كما ذكر-، يعني: أنه تعالى (حَمِيدٌ) يفعل ما يستوجب به الحمد من عباده، سيما في حقها، (مَّجِيدٌ) كثير الإحسان إلى العباد، خصوصاً في أن جعل بيتها مهبط البركات. قوله: ((فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا)): فعلوا به ما فعلوا من الأذى. قوله: ((يُجَادِلُنَا) كلام مستأنف دال على الجواب): أي: ليس بجواب، لأنه مضارع، و"لما" للماضي، قال الزجاج: " (يُجَادِلُنَا) حكاية قد مضت، لأن "لما" وضعت لما قد وقع

ثم ابتدأ فقال (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) وقيل في (يُجادِلُنا): هو جواب "لما"، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال: وقيل: إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا: (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت: 31]، فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قال: (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [العنكبوت: 32]. (فِي قَوْمِ لُوطٍ) في معناهم. وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بوقوع غيره، تقول: لما جاء زيد جاء عمرو، ويجوز: لما جاء زيد يتكلم عمرو؛ لوجهين: أحدهما: أن ["إن"] لما كانت شرطاً للماضي وقع المستقبل في معنى الماضي. وثانيهما- وهو الذي أختاره-: وهو أن يكون حكاية حال قد مضت، المعنى: فملا ذهب عن إبراهيم الروع، وجاءته البشرى، أخذ يجادلنا في قوم لوط، ولم يذكر في الكلام "أخذ وأقبل"، لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه "أخذ وأقبل"، لأنك إذا قلت: قام زيد، دل على فعل ماض، وإذا قلت: أخذ زيد يقوم، دل على حالة ممتدة، من أجلها ذكر: أخذ وأقبل". قوله: ((فِي قَوْمِ لُوطٍ) في معناهم): أي: في شأنهم وأمرهم.

وعن قتادة: ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير. وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجولٍ على كل من أساء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوّه من الذنوب (مُنِيبٌ) تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم؛ رجاء أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه. [(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)]. (يا إِبْراهِيمُ) على إرادة القول: أي: قالت له الملائكة: (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك. [(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير): "ما": يجوز أن تكون نافية، أي: لا تسمى جماعة بـ "قوم": اسم "ما"، و"لا يكون" خبره، و"عشرة": اسم "يكون"، و"فيهم خير": جملة صفة لـ "عشرة". وأن تكون استفهامية، أي: أي جماعة تسمى قوماً، المعنى: لا تسمى جماعة قوماً لا يكون فيهم عشرة فيهم خير، وقيل: معناه: ما قوم خالون عن عشرة فيهم خير، وفيه نظر. قوله: (كثير التأوه): تأوه تأوهاً: إذا قال: أوه، وهي كلمة توجع.

كانت مساءة لوطٍ وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روي أنّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قريةٍ في الأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال: يوم عصيب، وعصبصب، إذا كان شديداً من قولك: عصبه، إذا شدّه. [(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ* قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ)]. (يُهْرَعُونَ) يسرعون كأنما يدفعون دفعاً (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل معناه: وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وضيق ذرعه)، الأساس: "ضاق بهم ذرعاً، أي: لم يطلقهم، وما لك علي ذراع، أي: طاقة"، وذلك أن "اليد" كما تجعل مجازاً عن القوة، فـ "الذراع" التي من طرف المرفق إلى طرف الوسطى كذلك. قوله: (مضى معهم منطلقاً بهم): "منطلقاً بهم" حال مؤكدة، على نحو قوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]، (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60، الأعراف 74، هود: 85، الشعراء: 183، العنكبوت: 36]. قوله: (وقيل: معناه: وقد عرف لوط عادتهم): عطف على قوله: "ومن قبل ذلك كانوا

(هؤُلاءِ بَناتِي) أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحى وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما ابنتيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعملون الفواحش"، ذكر الواحدي الأول، وقال صاحب "التقريب": "من قبل" متصل بـ (يُهْرَعُونَ)، أي: إنما يرعون لأنهم عملوا ومرنوا عليها، أو متصل بـ "ضاق"، أي: إنما ضاق ذرعاً لأنه عرف عادتهم قبله. وقلت: أما اتصاله بـ (يُهْرَعُونَ): فأن يكون حالاً من الضمير فيه، و (يُهْرَعُونَ) حال من فاعل "جاء"، واتصاله بـ (سِيءَ) من حيث إنه عطف على "جاء"، وهو حال من المرفوع في (سِيءَ)، ويعضده قول المصنف: "كانت مساءة لوط وضيق صدره لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه"، ولو لم يعرف عادتهم في عمل الفاحشة لم تلحقه المساءة وضيق الصدر عند مجيء القبيلين، ولا قال: (يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ). قوله: (وأبي العاص بن وائل): قيل: الصواب: أبي العاص بن أبي الربيع بن عبد العزى ابن عبد شمس، وفي "جامع الأصول": "هو أبو العاص بن الربيع، واسمها زينب، أكبر بناته صلوات الله عليه، فلما أسر زوجها يوم بدر، وفادى نفسه، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليه العهد أن ينفذها إليه إذا عاد إلى مكة، ففعل، فهاجرت إلى المدينة، ولما أسلم أبو العاص وهاجر ردها إلى نكاحه بعقد جديد، وماتت بالمدينة سنة ثمان".

وقرأ ابن مروان: "هنّ أطهر لكم" بالنصب، وضعفه سيبويه وقال: احتبى ابن مروان في لحنه. وعن أبي عمرو بن العلاء: من قرأ "هُنَّ أَطْهَرُ" بالنصب فقد تربع في لحنه، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في (هؤلاء) من معنى الفعل، كقوله: (وهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72]، أو ينصب (هؤلاء) بفعل مضمر، كأنه قيل: خذوا هؤلاء، و (بناتي): بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، و (هُنَّ) فصل، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأي: الجملة، ولا يقع بين الحال وذى الحال، وقد خرّج له وجه لا يكون (هُنَّ) فيه فصلاً، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما عتبة بن أبي لهب: فتزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن دخل بها، فلما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) [المسد: 1]، قال أبو لهب: فارق ابنة محمد، ففارقها، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بمكة، وماتت بالمدينة في غزوة بدر. قوله: (وقرأ ابن مروان): قال ابن جني: "وقرأها سعيد بن جبير والحسن ومحمد بن مروان وعيسى الثقفي: "هن أطهر لكم" بالنصب". قوله: (اجتبى ابن مروان): أي: تربع وتمكن، فهو استعارة مكنية، حيث جعل اللحن كمكان الوطء، وجعل تمكينه فيه كالاحتباء والتربع في ذلك المكان. الجوهري: "احتبى الرجل: إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته". قوله: (قد خرج له وجه): والوجه أخرجه ابن جني قال: "وأنا أرى أن لهذه القراءة وجهاً صحيحاً"، وذكر معنى ما ذكره المصنف.

وذلك أن يكون (هؤلاء) مبتدأ و (بَناتِي هُنَّ) جملة في موضع خبر المبتدإ، كقولك: هذا أخى هو، ويكون "أَطْهَرُ" حالاً. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) بإيثارهنّ عليهم (وَلا تُخْزُونِي) ولا تهينوني ولا تفضحوني، من الخزي. أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء (فِي ضَيْفِي) في حق ضيوفى فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) رجل واحد يهتدى إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرئ: (ولا تخزون) بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغةً في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثمّ (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ) مستشهدين بعلمه، (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابريّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلَا تُخْزُونِ) بطرح الياء): كلهم إلا أبا عمرو. قوله: (امتعاضه)، الجوهري: "معضت من ذلك الأمر أمعض معضاً، وامتعضت منه: إذا غضبت وشق عليك". قوله: (وما هو إلا عرض سابري)، الجوهري: "السابري: ضرب من الثياب رقيق، في المثل: "عرض سابري"، يقوله من يعرض عليه الشيء عرضاً لا يبالغ فيه، لأن السابري من أجود الثياب، يرغب فيه بأدنى عرض".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "في حديث حبيب بن أبي ثابت قال: "رأيت على ابن عباس ثوباً سابرياً استشف ما وراءه"، وكل رقيق عندهم سابري، والأصل فيه الدروع السابرية؛ منسوبة إلى سابورة. وفي بعض الحواشي: "شبه العرض الذي ليس من أصل النفس بعرض الثوب السابري"، فهذا لا يخلو: إما أن يكون من كلام المصنف تتمة لقوله: "ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه للملائكة، وإظهاراً لشدة غضبه من القوم"، وربما يصدر عن الإنسان في أمثال هذه المقامات ما لا يؤاخذ عليه من المقالات، أو أن يكون من كلام القوم: "لأنك لا ترى مناكحتنا، وما عرضك هذا إلا عرض سابري"، أي: ليس من عزم النفس، بل قول من الفم من غير مواطأة القلب، أو أنك غير مبالغ في العرض، كما أن الثياب السابرية لا تفتقر إلى المبالغة في العرض، فإنها في بدء الحال مرغوب فيها. قال صاحب "الفرائد": قوله: "لأنك لا ترى مناكحتنا": بعيد من الصواب لوجهين: أحدهما: أن منكوحته كانت كافرة، فكيف يقال: ما لنا في بناتك من حق لأنك لا ترى مناكحتنا، وأنهم علموا أن لا مناكحة بيننا وبينهم؟ ! وأما قولهم: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) فمعناه: لسن بزوجات لنا، وقيل: ما لنا فيهن حاجة. وثانيهما: أن قوله: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) - على ما ذكر-: تحريض على الزنى، لأنه لما لم تجز المناكحة كان إتيانهن زنى، فظهر أن الوجه هو الأول. والجواب عن الأول: هو أن قولهم: "لا ترى مناكحتنا" عام يراد به الخاص، وهو المناكحة في البنات، لأن الكلام فيه على أنه يجوز للمسلم أن ينكح الذمية، ولا يجوز أن ينكح

وقيل: لما اتخذوا إتيان الذكران مذهبا وديناً لتواطئهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأنّ نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا: ما لنا في بناتك من حق قط، لأنّ نكاح الإناث أمرٌ خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفى الشهوة. [(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بناته من الذمي. وعن الثاني: أن قوله: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) عرض سابري، لأن غرضه الدفع عن الأضياف، لا التحريض على البنات، وأمثال هذا العرض شائع بين الناس إذا أيقنوا أن لا رغبة البتة. قوله: (على وجه الخلاعة)، الأساس: "كان الرجل في الجاهلية إذا غلبه ابنه ينادي في الموسم: يا أيها الناس، هذا ابني فلان، قد خلعته، فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلب، أي: تبرأت منه، ثم قيل لكل شاطر: خليع، وقد خلع خلاعة، وهي خليعة، ومن المجاز: خلع فلان رسنه وعذاره، فعدا على الناس بشر". قوله: (والغرض نفي الشهوة): يعني الغرض من قولهم: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ): أن حقنا أن نقضي شهوتنا من ضيفك، ولم تكن بناتك مكان شهوتنا، فليس لنا فيهن حق، فالخلاعة: هي جعل ذلك الفعل الشنيع كالحق الثابت اللازم الذي لا يجوز العدول عنه.

(لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة. جواب (لو) محذوف، كقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد: 31] يعني: لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت. يقال: مالي به قوّة، وما لي به طاقة. ونحوه (لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) [النمل: 27]، و"مالي به يدان"؛ لأنه في معنى: لا اضطلع به ولا أستقلّ به. والمعنى: لو قويت عليكم بنفسي، أو أويت إلى قويّ أستند إليه وأ تمنع به فيحمينى منكم. فشبه القوىّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته، ولذلك قالت الملائكة - وقد وجدت عليه: إنّ ركنك لشديد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقال: ما لي به قوة): قال أبو البقاء: " (بِكُمْ) حال من (قُوَّةً)، وليس معمولاً لها، لأنها مصدر"، فالتقدير: لو ثبت واستقر لنفسي قوة بكم، ولهذا قال: "لو قويت عليكم بنفسي". قوله: (أو أويت): جعل (أَوْ آَوِي) معطوفاً على المقدر بعد "لو"، قال أبو البقاء: "هو في موضع رفع؛ خبر "أن" على المعنى، أي: "أو أني"، ويضعف أن يكون معطوفاً على (قُوَّةً)؛ إذ لو كان لكان منصوباً بإضمار "أن"، وقد قرئ به، أي: أو أن آوي". قوله: (فشبه القوي العزيز بالركن)، الراغب: "ركن الشيء: جانبه الذي يسكن إليه، ويستعار للقوة، قال تعالى: (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، وناقة مركنة الضرع، وأركان العبادة: جوانبها التي عليها مبناها، وبتركها بطلانها". قوله: (وقد وجدت عليه): جملة معترضة، الجوهري: "وجد عليه في الغضب موجدة

وقال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطاً، كان يأوي إلى ركن شديد». وقرئ: «أو آوى» بالنصب بإضمار «أن» كأنه قيل: لو أن لي بكم قوّة أو أويا، كقولها: لَلبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي وقرئ «إلى ركن» بضمتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجداناً أيضاً"، إنما غضبوا عليه لأن كلامه يدل على إقناط كلي ويأس شديد من أن يكون له ناصر ينصره، أليس الله بكاف عبده. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي لوطاً، كان يأوي إلى ركن شديد"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. قال الشارح: كأنه صلوات الله عليه استغرب عنه هذا القول، وعده بادرة منه؛ إذ لا ركن أشد من الركن الذي يأوي إليه. قوله: ("أو آوي" بالنصب): قال ابن جني: "رواه الحلواني عن قالون عن شيبة، وروى أيضاً عن أبي جعفر مثله، وأنكره ابن مجاهد، وقال: لا يجوز تحريك الياء هنا، وعندي هذا

[(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)]. وروي: أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سائغ، وهو أن يعطف "آوي" على (قُوَّةً)، فإذا صرت إلى اعتقاد المصدر، فقد وجب إضمار "أن"، ونصب الفعل بها، ومثله قول ميسون بنت بحدل الكلابية: للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف فكأنها قالت: للبس عباءة وأن تقر عيني أحب إلي من كذا وكذا"، تم كلام ابن جني. "الشفوف": جمع شف، وهو ما رق من الثوب، يقول: لبس الثوب الخشن من الحلال بلا رعونة، وبعده ما تقر به عيني: أحب إلي من ثياب ناعمة تجلب إلي سخنة في عيني في المآل. قوله: (ما حكى الله عنه): مفعول "يرادهم"، والذي حكى الله تعالى عنه: هو قوله تعالى: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) إلى قوله: (رَّشِيدٌ)، وردهم: قولهم: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)،

فتسوّروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا: يا لوط، إن ركنك لشديد (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه، وله جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوماً سحرة. (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) جملة موضحة للتي قبلها، لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره. قرئ: (فَأَسْرِ): بالقطع والوصل. و (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالرفع والنصب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورده أيضاً: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ). قوله: (النجاءَ النجاء): أي: انجوا بأنفسكم، وهو مصدر منصوب بفعل مضمر، أي: انجوا النجاء، وتكراره للتوكيد، وهو مقصور وممدود. قوله: (جملة موضحة للتي قبلها): وهو قوله: (يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ)، وإنما يستقيم بياناً، لأن هذا القول في جواب متمناه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، فكأنهم أجابوه بقولهم: (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ)، وتفسيره بـ (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) - و"لن" لتوكيد النفي- هو: أنك أويت إلى ركن شديد. قوله: (قرئ (فَاَسْرِ) بالقطع): الحرميان: "فاسر" و"أن اسر"، بوصل الألف حيث

وروي أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال: أريد أسرع من ذلك. فقالوا: (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). وقرئ «الصبح» بضمتين. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ)، والدليل عليه قراءة عبد الله: "فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك"، ويجوز أن ينتصب عن "لا يلتفت"، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعنى قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن (أحد). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقع، والباقون: بقطعها، قال أبو البقاء: "وهما لغتان، يقال: أسرى وسرى". وابن كثير وأبو عمرو: "إلا امرأتك" بالرفع، والباقون: بالنصب، قال الزجاج: "من قرأ بالنصب: فعلى معنى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ... إِلاَّ امْرَأَتَكَ)، ومن قرأ بالرفع: حمله على معنى: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)، وقراءة النصب محمولة على الاستثناء من الموجب من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ)، فإن القراءتين ثابتتان قطعاً، فيمتنع حملهما على وجهين أحدهما باطل قطعاً، والقضية واحدة، فهو إما أن يكون سرى بها أو ما سرى بها؛ فإن كان قد

وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي: أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها. وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. [(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سرى بها فليس مستثنى إلا من قوله: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)، وإن كان ما سرى بها فهو مستثنى من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ)، فقد ثبت أن أحد التأويلين باطل قطعاً، فلا يصار إليه في أحد القراءتين الثابتتين قطعاً. والأولى من هذا أن يكون (إِلاَّ امْرَأَتَكَ) في الرفع والنصب مثل قوله: (مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء: 66]. ولا بعد أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي دونه، بل قد التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء على قراءة غير الأقوى".

مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)]. (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم. (مِنْ سِجِّيلٍ) قيل: هي كلمة معربة من سنك كل، بدليل قوله (حجارة من طين) [الذاريات: 33]. وقيل: هي من أسجله، إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً) [الذاريات: 33]، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب عنه بعض فضلاء المغرب، وقال: قولك: "وإن كان ما سرى بها فهو مستثنى من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) "، غاية هذا الكلام أن لوطاً ما أسرى بها، فلم لا يجوز أنها سرت بنفسها؟ روى الواحدي عن قتادة: "ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هدة العذاب" إلى آخره. قال المالكي في "الشواهد": "امرأتك": مبتدأ، والجملة بعده خبره، و"إلا" بمعنى "لكن"، ولا يصح أن تجعل "امرأتك" بدلاً من (أَحَدٌ)، لأنها لم تسر معه، فيتضمنها ضمير المخاطبين، ودل على أنها لم تسر معه قراءة النصب، فإنها أخرجتها من أهله الذين أمر أن يسري بهم، وإذا لم تكن في الذين سرى بهم لم يصح أن تبدل من فاعل (يَلْتَفِتْ)، لأنه بعض ما دل عليه الضمير المجرور بـ "من"، وتكلف بعض النحويين الإجابة عن هذا بأن قال: لم يسر بها، ولكن شعرت بالعذاب فتبعتهم ثم التفتت فهلكت. وعلى تقدير صحة هذا فلا يوجب ذلك دخولها في المخاطبين بقوله: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ).

وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان (مَنْضُودٍ) نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب. وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: فإذن التقدير: فأسر بأهلك بقطع من الليل فإنا منجوكم، لكن امرأتك ليست بمنجية، ونظيره قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40]، فإن كونه "أبا رجالهم" مخالف لكونه خاتم النبيين. وقلت: هذا عذر واضح، به اندفع سؤال ابن الحاجب، لكن بقي على قول المصنف: "واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين" إشكال قوي، وهو أنه جعل القراءة تابعة للرواية، فيلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين، ولو قال: "واختلاف الروايتين لاختلاف القراءتين" لهان الخطب، ثم وافق هذا قول القاضي: "ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين؛ لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة، والأولى الحمل على ما اختاره ابن الحاجب، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات، بل عدم نهيها عنه استصلاحاً، ولذلك علله على طريقة الاستئناف بقوله: (إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)، ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعاً على قراءة الرفع". وأما الروايتان كما ذكرهما: فمسطور في "معالم التنزيل". قوله: (مما كتب الله أن يعذب من السجل): قال الزجاج: "هذا القول أثبت الأقوال

(مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياضٍ وحمرة. وقيل: عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمى به (وَما هِيَ) من كل ظالم (ببعيد)، وفيه وعيد لأهل مكة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال: يعني: ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وأحسنها، لأن في كتاب الله دليلاً عليه، قال الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين: 7 - 9]، وسجيل: في معنى: سجين". قوله: (وقيل: عليها سيما): مقصور من الواو، قال الله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) [الفتح: 29]. قوله: (وفيه وعيد لأهل مكة): يعني: سيق الكلام لوعيد قوم لوط، وأدمج فيه وعيد أهل مكة، فإن التعريف في (الظَّالِمِينَ) للجنس، بدليل قوله: "وما هي من كل ظالم ببعيد"، فعم جميع الظالمين، ولما كان الكلام مسوقاً في حق قوم لوط، دخلوا فيه دخولاً أولياً، وتضمن وعيد أهل مكة على التبعية. قوله: (بعرض حجر يسقط عليه): هو من قولهم: فلان عرضة للأمر، أي: معرض له، قال: فلا تجعلوني عرضة للوائم ذكره في البقرة.

وقيل الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم (بِبَعِيدٍ) بشيء بعيد. ويجوز أن يراد: وما هي بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمي، فكأنها بمكان قريب منه. [(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)]. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قوله: (وقيل: الضمير للقرى): وكذلك في (عَالِيَهَا سَافِلَهَا)، قال أبو البقاء: "و"بعيد" نعت لمكان محذوف، أو خبر (هِيَ)، ولم يؤنثه لأن العقوبة والعقاب بمعنى". قوله: (أو أراكم بخير فلا تزيلوه): قسيم لقوله: "أو أراكم بنعمة من الله"، وهو قسيم لقوله: " (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) يريد: بثروة"، لأن "الخير" في الوجه الأول: مفسر بالثروة والمال، وفي الوجه الثاني: بالنعمة المطلقة، ثم النعمة: إما أن توجب الأمر بالشكر، وهو المراد من قوله: "حقها أن تقابل بغير ما تفعلون"، أو النهي عن الكفران، وه المراد من قوله: "فلا تزيلوه عنكم".

كقول مؤمن آل فرعون (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا) [غافر: 29]. (يَوْمٍ مُحِيطٍ) مهلك من قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف: 42]، وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقول مؤمن آل فرعون): يعني: وزان هذه الآية وزان تلك الآية، فإن قوله: (لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ) [غافر: 29] كقوله: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ)، وقوله: (فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ) [غافر: 29] كقوله: (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ). قوله: (وأصله من إحاطة العدو): أي: الإغارة في الصبح بغتة، كقوله تعالى: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً) [العاديات: 3]. الراغب: "الإحاطة على وجهين: أحدهما: في الأجسام، نحو: أحطت بمكان كذا، والثاني: في المعاني؛ إما في العلم، نحو قوله تعالى: (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق: 12]، فالإحاطة بالشيء علماً: هو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى، وقال صاحب موسى عليهما السلام: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف: 68]؛ تنبيهاً أن الصبر التام إنما يقع بعد إحاطة العلم بالشيء، وذلك صعب إلا بفيض إلهي، وإما في القدرة، قال الله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس: 22]، وكذلك قوله: (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) ". قوله: (وصف العذاب بالإحاطة أبلغ أم وصف اليوم بها): قال أبو البقاء: " (مُّحِيطٍ) نعت "لليوم" في اللفظ، و"للعذاب" في المعنى، وذهب قوم إلى أن التقدير: عذاب يوم محيط

قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عذابه، وهو بعيد؛ لأن "محيطاً" قد جرى على غير من هو له، فيجب إبراز فاعله". قوله: (فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه): الضمير المستتر في "أحاط" والمجرور في "بعذابه"، والمستكن في "ما اشتمل": كلها عائد إلى "اليوم"، وفي "عليه" إلى "ما"، و"من" بيان "ما"، والضمير المجرور عائد إلى "العذاب"، وتحقيقه: إما إضافة المظروف إلى الظرف، نحو: ضرب اليوم، فحينئذ يكون اليوم مشتملاً على العذاب. ثم إذا وصف اليوم بالإحاطة لجميع الحوادث، ومنها المعذب، فيحيطه، فصح قوله: "فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه"، أي: ما اشتمل عليه اليوم من العذاب، وهذا في الكناية قريب من قوله: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج فإن كون هذه الصفات في قبة نحو كون العذاب في اليوم، وكون اليوم محيطاً للمعذب نحو كون القبة مضروب على ابن الحشرج. فأما إذا وصف العذاب بالإحاطة لا يكون هذا المعنى، غايته أن يكون استعارة مفيدة أن المعذبين لا يفوتونه، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط.

فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله (أوفوا)؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وصاحب "الفرائد" حين اعتبر ظاهر اللفظ، وترك إمعان المعنى، قال: ومن وصف العذاب بالإهلاك، وهو مضاف إلى اليوم، لا يلزم أن يكونوا هالكين في ذلك اليوم، لأنه لا يمكن أن تكون إضافة العذاب إلى اليوم بسبب أن ظهوره في ذلك اليوم، وإن وصف اليوم بالإهلاك، فيقتضي هلاكهم في ذلك اليوم، لأن ظاهر المعنى: اليوم مهلك، فهو من قبيل: نهاره صائم، فحاصل المعنى: أن ما في اليوم مهلك. قوله: (النهي عن النقصان أمر بالإيفاء، فما فائدة قوله: (أَوْفُوا)؟ )، الانتصاف: "لمن قال: إن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده أن يستدل بهذه الآية، وإلا لكانت تكراراً، وفي كلام الزمخشري وهم، فإنه ظن أن النهي قبل أمر بالوفاء، وهي غفلة منه، وتعليله بالحسن والقبح من قواعده". وقلت: وهم صاحب "الانتصاف"، لأن جوابه: "نهوا أولاً عن عين القبيح الذي كانوا عليه" لأجل التصريح بالقبيح، ليكون تعييراً، ثم ورد الأمر ثانياً لزيادة ترغيب فيه، يدل على أنه ليس من باب قوله: النهي عن الشيء أمر بضده، وإنما هو من باب التأكيد والتذييل للمبالغة، ففي الأول تصوير قبح القبيح، وفي الثاني إظهار حسن الحسن. قالا لإمام: "ليس للقائل أن يقول: النهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً، لأنا نقول: إنه تعالى جمع بين الأمر بالشيء وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقول: صل قرابتك ولا

وجيء به مقيداً (بالقسط): أي: ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد"، فسؤال المصنف لرد ذلك المذهب. وقال القاضي: "صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء، ولو بزيادة لا يتأتى دونها، ثم قيده (بِالْقِسْطِ) ليعلم أن الزيادة مندوب غير مأمور به، وقد يكون محظوراً". واختلف العلماء في هذه المسألة: اختيار إمام الحرمين والغزالي: أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده، ولا يقتضيه عقلاً. وقال القاضي أبو إسحاق: إنه نهي عن ضده، وإليه ذهب الإمام في "المعالم"، والقاضي في "المنهاج"، وقال القاضي أبو إسحاق: والنهي كذلك، يعني: النهي عن الشيء أمر بضده، وكذا يقتضيه عقلاً، لأن النهي طلب فعل الضد، فيكون أمراً بالضد، وتمام تقريره مذكور في موضعه. قوله: (أمراً بما هو الواجب): مفعول له لقوله: "وجيء به مقيداً (بِالْقِسْطِ) "، وقوله: "أي: ليكن الإيفاء على وجه العدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان": معترضة بين العامل والمعمول تفسيراً وبياناً، و"على وجه العدل": خبر "ليكن".

لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط، لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد. البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن ما جاوز العدل فضل): تعليل لقوله: "جيء به مقيداً (بِالْقِسْطِ) أمراً بالواجب"، يعني: تقييده بـ (الْقِسْطِ) لبيان أمر الوجوب، وأنه لا يجوز أن ينقص، لأنه لا يصح التجاوز عنه، لأن ما جاوز العدل فضل. قوله: (وفيه توقيف): أي: في القيد (بِالْقِسْطِ) إيذان بأن القسط مطلوب مطلقاً، وإنما حسن الإيفاء لأنه قسط وعدل، لا أنه إيفاء، وقد يكون محظوراً كما في الربا، فالواجب على من يوفي أن ينوي القسط. قوله: (فهذه ثلاث فوائد): فذلكة للجواب عن السؤال بقوله: "فما فائدة قوله: (أَوْفُوا)؟ " أي: في الإتيان بقوله: (أَوْفُوا)، وعدم الاقتصار على النهي عن النقصان: ثلاث فوائد: الأولى: زيادة الترغيب، والثانية: بيان الواجب، وأن الزيادة فضل، والثالثة: الإشعار بأن العدل مطلوب لذاته، وهذه الفائدة مدمجة في الكلام، ولهذا قال: "وفيه توقيف" إلى آخره. قوله: (البخس: الهضم والنقص): يعني: هو لفظ مشترك بين هذين المعنيين، وربما استعملوه في المكس أيضاً، وقوله: "وكانوا يأخذون" إلى آخره: بين استعماله في هذه المعاني، قال القاضي: " (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون مقداراً أو غيره، وكذا (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد".

وَفِى كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ وروي: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم): أوله: وفي كل أسواق العراق إتاوة "الإتاوة": الخراج، والجمع: الأتاوى، يريد به أخذ الخراج والعشور وما هو للقوم في الأسواق من رسوم الظلم. قوله: (السماسرة): "المغرب": "السمسار- بكسر الأول-: المتوسط بين البائع والمشتري، فارسية معرب، والجمع: السماسرة، وفي الحديث: "كنا ندعى السماسرة، فسمانا النبي صلى الله عليه وسلم التجار"، ومصدره: السمسرة"، وقال الأزهري في تفسير قوله: "لا يبع حاضر لباد": أنه لا يكون سمساراً". قوله: (يمكسون الناس): أي: يأخذون العشر، الجوهري: "مكس في البيع يمكس

والعثي في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض. (بَقِيَّتُ اللَّهِ) ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - بالكسر- مكساً، وماكس مماكسة ومكاساً، والمكس أيضاً: الجباية، والماكس: العشار". قوله: (والعثي في الأرض: نحو السرقة والغارة)، الراغب: "العثي والعيث: يتقاربان، نحو: جذب وجبذ، إلا أن العيث أكثر ما يستعمل في الفساد الذي يدرك حساً، والعثي فيما يدرك حكماً، يقال: عثي يعثى عثياً، ومنه: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60] ". قوله: (بشرط أن تؤمنوا، وإنما نهوا عن التطفيف والبخس ... - وهم كفرة- بشرط الإيمان)، الانتصاف: "المعتزلة يزعمون أن الكفار لا يخاطبون بالفروع، أمراً ولا نهياً، وهذه الآية تدل على خطابهم بما يشترط فيه الإيمان، وقد أقرها الزمخشري على ذلك". قوله: (فإن قلت: بقية الله خير للكفرة): فيه رمز خفي إلى مذهبه، يعني: أن المستحسنات المعقولة لا يتوقف حسنها على انضمام الإيمان، فإن الاحتراز عن رذائل الأخلاق حسن في نفسه. وخلاصة الجواب: أنها وإن كانت مستحسنة عقلاً، لكن لا تقع

قلت: لظهور فائدتها مع الإيمان؛ من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده؛ لانغماس صاحبها في غمرات الكفر. وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير لكم، كقوله: (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) [الكهف: 46]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موقعها، ولا تجدي صاحبها ما لم ينضم معها الإيمان، فجعل شرط الإيمان كالسمة لها شرفاً. وقال القاضي: " (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا، فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة، وذلك مشروط بالإيمان"، فعلى هذا: الإيمان متبوع، وعلى قول المصنف: تابع. قوله: (لظهور فائدتها مع الإيمان): يعني: إن حصلت لهم فائدة دنيوية من السلامة من الرذيلة، ومن نقص الأموال، لكن تفوت الفائدة العظمى، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب. قوله: (ويجوز أن يراد: ما يبقى لكم): معطوف على قوله: "ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه". قوله: (كقوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ))، الراغب: "البقاء: ثبات الشيء على الحالة الأولى، ويضاده: الفناء، والباقيات الصالحات: ما يبقى ثوابه للمكلف من الأعمال، وهي كل عبادة يقصد بها وجه الله، وعلى هذا (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) ".

وإضافة "البقية: إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً، وإذا أريد بها الطاعة فكما تقول: طاعة الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما الحرام فلا يضاف إلى الله تعالى، ولا يسمى رزقاً)، الانتصاف: "لا رازق إلا الله، وكل ما يقيم به الخلق بنيتهم فهو رزق حقيقة، وهو من الله، وأما الإضافة إلى الله للتخصيص فأمر خارج عن ذلك". وقال الإمام: "ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، أما عند الله فظاهر، وأما عند الناس فإنهم إذا عرفوه بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة، اعتمدوا عليه، ورجعوا في كل المعاملات إليه، فينفتح عليه باب الرزق، وبالعكس إذا عرفوه بالخيانة". قلت: فعلى هذا تكون الإضافة إضافة تشريف لا تخصيص، كما تقول: بيت الله، وناقة الله، تحريضاً لهم على ترك البخس وإيفاء الكيل، ولو حمل هذه "البقية" على الطاعة والثواب، كقوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً) [الكهف: 46]، كان أظهر، لأن الدنيا بأسرها تفنى وتنقرض، وثواب الله تعالى باق، ويوافق هذا التأويل قوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: كنتم تؤمنون باليوم الآخر. قوله: (وإذا أريد بها الطاعة): عطف على قوله: "وإضافة البقية إلى الله"، والمعطوف والمعطوف عليه متفرعان على تفسير (بَقِيَّةُ اللَّهِ)، فقوله: "وإضافة "البقية" من حيث إنها رزقه" متفرع على قوله: " (بَقِيَّةُ اللَّهِ) ما يبقى لكم من الحلال"، وقوله: "وإذا أريد بها الطاعة، فكما تقول: طاعة الله" متفرع على قوله: "أن يراد: ما يبقى لكم عند الله من الطاعات".

وقرئ: "تقية الله" بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً، وقد أعذرت حين أنذرت. [(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)]. كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم (أَصَلواتُكَ تَامُرُكَ) السخرية والهزء، والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقواه ومراقبته)، الأساس: "ومن المجاز: رقبه وراقبه: حاذره، لأن الخائف يرقب العقاب، ومنه: فلان لا يراقب الله في أموره، ولا ينظر إلى عقابه". قوله: (والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز): لكنهم طنزوا في جعلها آمرة، يعني: يجوز إسناد الأمر والنهي إلى الصلاة: إما على الإسناد المجازي مبالغة، لأنها سبب إلى ترك المنهيات، كأنها هي المحصلة، أو على الاستعارة المكنية؛ كأنها الشخص والناهي، هذا إذا كان المقام مقام مدح، ولو أريد الذم كان إثباته فيها على ضد تلك المبالغة، وإليه الإشارة بقوله: "إن مثله لا يدعوك إليه داعي عقل"، وجمع الصلاة وأضافها إليه، وأخبر عنه بفعل المضارع؛ ليدل على العموم بحسب الأزمان، ولهذا قال: "التي تداوم عليها في ليلك ونهارك"، قال القاضي: "فكان كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا بالذكر".

وأن يقال: إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه - إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعي عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى (تأمرك أَنْ نَتْرُكَ): (تأمرك) بتكليف (أن نترك ما يَعْبُدُ آباؤُنا) لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ: (أَصَلاتُكَ) بالتوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة: "أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء"، بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. وقيل: كان ينهاهم ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتولع به): هو يتفعل؛ من الولوع، الجوهري: "الولوع: الاسم من ولعت به تولع ولعاً وولوعاً، المصدر والاسم جميعاً بالفتح، وهو مولع به- بفتح اللام- أي: مغرى به". قوله: (لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره): تعليل لتقدير المضاف، أي: لابد من هذا التقدير، لأن الترك فعل الكفار، والمأمور بقوله: (أصلواتك تأمرك): شعيب، أي: أصلواتك تأمرك بتكليفك إيانا أن نترك. قوله: (بتاء الخطاب فيهما): أي: في "تفعل" وفي "تشاء"، الانتصاف: "على هذا: "أن تفعل" معطوف على (أَن نَتْرُكَ)، وعلى المشهورة يمتنع؛ لفساد المعنى، بل هو عطف على (مَا يَعْبُدُ)، فكأنه قيل: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نترك فعلنا في أموالنا

عن حذف الدراهم والدنانير وتقطيمها، وأرادوا بقولهم (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) نسبته إلى غاية السفه والغيّ، فعكسوا ليتهكموا به، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره فيقال له: لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل: معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما نشاء، وهذه نكتة". قوله: (وتقطيمها): عطف على "حذف الدراهم والدنانير"، الأساس: "حذف ذنب فرسه: إذا قطع طرفه، وزق محذوف: مقطوع القوائم". قوله: (نسبته إلى غاية السفه والغي): يريد: أن في قوله: (الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) استعارة تبعية، لأن الصفة المشبهة لا تقع فيها الاستعارة، لأن المستعار في الحقيقة موصوف، والصفات والأفعال والحروف بمعزل عن أن يقعن موصوفات، فتقع الاستعارة في مصادر الأفعال والصفات، وفي متعلق معاني الحروف، ثم تسري منها إلى الصفات والأفعال والحروف، فأشار بقوله: "السفه والغي" إلى المصدرين، يعني: استعار الحلم والرشد للسفه والغواية على التهكم، ثم سرت منهما إلى الحليم الرشيد. قوله: (لا يبض حجره): قال في "الأساس": "بض الجر بقليل من الماء بضيضاً، ومن المجاز: ما يبض حجره: إذا لم يند له بخير، وما بض له بشيء من المعروف". الجوهري: "بض الماء يبض بضيضاً وبضاً، أي: سال". قوله: (إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك): فعلى هذا لا يكون تهكماً، وهو أولى، لأن هذا القول مثل قول قوم صالح قبل هذا: (يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ

[(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَماتَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)]. (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) أي: من لدنه (رِزْقاً حَسَناً) وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة. وقيل (رِزْقاً حَسَناً) حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [هود: 62]، ومعناه على ما ذكره: "كنا نرجوك لننتفع بك، ونسترشدك في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا"، والدليل عليه موافقة الجوابين؛ قال هناك: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) [هود: 63] الآية، وها هنا: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) [هود: 88] الآية، وهو من باب إرخاء العنان والكلام المنصف، يعني: صدقتم فيما قلتم أني لم أزل مرشداً لكم حليماً فيما بينكم، لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم، انظروا بعين الإنصاف- وأنتم ألباء- إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي، وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي- وأنا مرشدكم وناصح لكم- أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك. ثم أكد معنى الإرشاد بقوله: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)، وأدرج معنى الحلم في قوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، وأنى يستقيم هذا المعنى مع التهكم. وأما معنى التعليل في قوله: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ): فإنهم كانوا يعدون صلاته- كما قال- من باب الجنون وما يتولع به المجانين والموسوسون، كأنهم قالوا: الذي أتيت به من

فإن قلت: أين جواب (أَرَأَيْتُمْ) وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوحٍ ولوط؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه. والمعنى: أخبروني إن كنت على حجةٍ واضحةٍ ويقين من ربي، وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟ فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى: (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يعني: أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المداومة على الصلاة من أفعال المجانين والموسوسين لا يطابق حالك وما شهرت به، لأنك كنت متواصفاً بالحلم والرشد في قومك، والله أعلم. قوله: (كما أثبت في قصة نوح ولوط عليهما السلام): والصحيح: قصة نوح وصالح؛ أما في قصة نوح: فهو قوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) [هود: 28]، الجواب: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا)، أي: أنكرهكم على قبولها وأنتم لا تختارونها، وأما في قصة صالح: فهو (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) [هود: 63]، الجواب: (فَمَنْ يَنصُرُنِي)، أي: أخبروني إن تركت البينة وتابعتكم، فمن يمنعني من عذاب الله، وليس في قصة لوط شيء من هذا. ولما كانت الآيتان قريبتي العهد؛ لكونهما في هذه السورة، صلحتا أن تكونا قرينتين للحذف، والمقدر ها هنا هو قوله: "أيصح لي أن لا آمركم"، وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوفات.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتى ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر (مَا اسْتَطَعْتُ) ظرف، أي: مدّة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً. أو: بدل من (الإصلاح)، أي: المقدار الذي استطعته منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعول له كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو مفعول له): أي: مفعول به للإصلاح، ففيه إيهام، فالحاصل: أن (مَا اسْتَطَعْتُ): إما ظرف زمان؛ أي: مدة استطاعتي، أو بدل من الإصلاح؛ أي: المقدار الذي استطعته منه، أو على حذف المضاف؛ أي: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعولاً به، فعلى هذا قوله: "ويجوز أن يكون" عطف من حيث المعنى على قوله: "المقدار"، وكلاهما مبنيان على البدلية؛ إما بدل البعض من الكل، وإما بدل الاشتمال. الانتصاف: "الظاهر أنها ظرف في قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، كذا ها هنا، وجعله معمولاً للمصدر المعرف باللام بعيد عن فصاحة القرآن، وقالوا: لم يوجد منه في التنزيل إلا عمله في المجرور في قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) [النساء: 148] ". قال القاضي: " (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) أي: من عنده وبإعانته بلا كد مني. وقوله: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) أي: ما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به، فلو كان صواباً لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلاً أن أنهاكم عنه، وقوله:

ضَعِيفُ النِّكايِة أَعْدَاءَهُ أي: ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتي وأذر، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده. والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ) أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهي عن المنكر ما دمت أستطيع الإصلاح. ولهذه الأجوبة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة: أهمها وأعلاها: حق الله، وثانيها: حق النفس، وثالثها: حق الناس، وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به، وأنهاكم عما نهيتكم عنه"، هذا كلام حسن. قوله: (ضعيف النكاية أعداءه): تمامه: يخال الفرار يراخي الأجل النكاية في الأعداء: الأثر فيهم بالجراحة والهزيمة، نصب "الأعداء" بالنكاية، وهو مصدر معرف، وهو ضعيف، لأنه يبعد حينئذ عن مشابهة الفعل، يقول: لا ينكي العدو خوفاً على نفسه، ويفر منا لمحاربة، ويظن أن الفرار يؤخر أجله. قوله: (استوفق ربه): أي: طلب التوفيق منه تعالى.

وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه. [(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)]. «جرم»: مثل كسب؛ في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول: جرم ذنباً وكسبه، وجرمته ذنباً وكسبته إياه، قال: جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي ضمنه تهديد للكفار): يعني: أدمج في قوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ) معنى التهديد، فإن ظاهره مسوق بأنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار، وفي ضمنه إشارة إلى تهديد الكفار، وهذا المعنى إنما يستقيم ظاهراً إذا حمل قوله: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) على أنك المتواصف بالحلم والرشد، يعني: كنت فينا مرجواً قبل هذا، فانته عما أنت عليه الآن، وصدق رجاءنا فيك، فأجابهم بما كان فيه حسم لأطماعهم، وموجب لوحشتهم وعداوتهم، وذيله بقوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، يعني: اقطعوا الطمع عني، فإني لا أرجع عن النصيحة وما يوجب الإصلاح، فافعلوا ما قدرتم أن تفعلوه، فإن لي من أستوفقه وأتوكل عليه، فهو كافكم عني ومهلككم بسبب إيذائكم إياي، كما قال نوح: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) [يونس: 71]. قوله: (جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا): أوله: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

ومنه قوله تعالى: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) أي: لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب. وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنباً، إذا جعلته جارماً له، أي: كاسباً، وهو منقول من "جرم" المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل: أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين "كسبته مالاً" و"أكسبته إياه"، فكذلك لا فرق بين "جرمته ذنباً" و"أجرمته إياه". والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظاً، كما إن كسبته مالا أفصح من "أكسبته"، والمراد بالفصاحة: أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالاً. وقرأ أبو حيوة، ورويت عن نافع: "مِثْلُ ما أَصابَ"، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله: لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى ظاهر. قوله: (أي: لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب): قال الزجاج: "لا يكسبنكم عداوتكم إياي أن يصيبكم عذاب الآجلة". قوله: (لإضافته إلى غير متمكن): لأن "مثل" و"غير" مع "ما" و"أن"- مخففة ومشددة-: يجوز بناؤهما على الفتح وإعرابهما. قوله: (لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت): تمامه: حمامة في غصون ذات أو قال

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يعني: أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت: ما لـ"بعيد" لم يرد على ما يقتضيه "قوم" من حمله على لفظه أو معناه؟ قلت: إما أن يراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في "قريب" و"بعيد"، و"قليل" و"كثير"، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. (رَحِيمٌ وَدُودٌ) عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه، من الإحسان والإجمال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير في "منها": للراحلة، أي: لا يمنعها من الشرب إلا أنها سمعت صوت حمامة، فنفرت، يريد أنها حديدة الحس فيها فزع وذعر لحدة نفسها، وذلك محمود فيها، "الأوقال": جمع وقل، وهي كالحجارة، أي: غصون نابتة بأرض ذات أحجار، وقيل: الوقل: شجر المقل. قوله: (ما لـ "بعيد" لم يرد على ما يقتضيه "قوم" من حمله على لفظه أو معناه): لأن لفظ "قوم" يقتضي "ببعيدة"، لأن "القوم" مؤنث، لقوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء: 105]، ومعناه يقتضي "ببعداء"، لأنه اسم جمع، فعلم من كلامه أن الأصل في "القوم" أن يؤنث، وإذا حمل على التذكير يؤول، وبخلافه قال الجوهري، وهو أن "القوم يذكر ويؤنث، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث، مثل: رهط ونفر وقوم، قال تعالى: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام: 66] ". قوله: (البليغ المودة): الود: محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل من المعنيين، على

[(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ* وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)]. (ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام: 25]، أو: كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول، أو: جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء؟ ! وقيل: كان ألثغ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن التمني يتضمن معنى الود، لأن التمني هو تشهي حصول ما توده، فمن المودة التي تقتضي المحبة المجردة قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى: 23]، وقوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: 14]، ومن المودة التي تقتضي مجرد التمني قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر: 2]. قوله: (وكيف لا ينفعهم كلامه، وهو خطيب الأنبياء): استفهام على سبيل الإنكار.

(فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن (ضَعِيفاً) مهيناً. وقيل (ضَعِيفاً) أعمى. وحمير تسمى المكفوف: ضعيفاً، كما يسمى ضريراً، وليس بسديد، لأنّ (فِينا) يأباه. ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاماً، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم "رهطاً". والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة. وإنما قالوا: ولولاهم، احتراماً لهم واعتداداً بهم، لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك شرّ قتلة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي: لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا. وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك قللوا): أي: لأن المراد بقوله: (فِينَا ضَعِيفاً): لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً، قللوا قومه حيث جعلوهم رهطاً. قوله: (وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام [واقع] في الفاعل، لا في الفعل): يعني: في كون التردد في الفاعل، لا في الفعل، وكذا عن صاحب "المفتاح"، وذلك بأن يكون هناك وجود فعل وعالم به، لكنه مخطئ في فاعله، أو في تفصيل فاعله، وأنت تقصد أن ترده إلى الصواب، وهذا يقتضي أن يكون أصل الكلام: "ما عززت أنت"، فقدم "أنت" للاختصاص.

كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما التزمنا التقديم لأن "ما" لنفي الحال، وللحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث وجد الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص، قال صاحب "الإيضاح"؛ في البيان: "في كلاهما نظر، لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعلياً يفيد الحصر"، يقال له على ما بينا: إن قياس "ما" أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، فحين وجد بعده الاسم دل على التقديم المفيد للتخصيص، سواء كان الخبر فعلاً أو شبهه، ولأن الذوق شاهد صدق بالفرق بين قولنا: "ما عززت علينا"، وبين: "ما أنت علينا بعزيز". على أن القائل صرح في كتابه: أن الشيخ عبد القاهر ذكر في كلامه ما يفهم منه: أن ما يلي حرف النفي يفيد التخصيص قطعاً، مضمراً كان أو مظهراً، معرفاً أو منكراً، من غير شرط، فكيف يخالفه ويشترط كونه فعلياً؟ ! قوله: (ولذلك قال في جوابهم: (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ)): وقال صاحب "الإيضاح" أيضاً: "هذا الاستدلال ليس بشيء، لجواز أن يفهم عزتهم من قوله: (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)، ونفي العزة عنه من قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) ". فيقال: استدلالنا بإفادة التخصيص على مطابقة الجواب لا عكسه، يعني: ما نقول إنه يفيد الاختصاص لمطابقة الجواب، بل نقول: الجواب إنما طابقه لأنه يفيد الاختصاص،

ولو قيل: وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب. فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ)؟ قلت: تهاونهم به - وهو نبيّ الله - تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإفادته الاختصاص بسبب التقديم والإيلاء. بل الاعتراض ليس بشيء، لأن قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) تقرير لقوله: (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) على الطرد والعكس؛ عناداً منهم، فلابد من اعتبار دلالتي المنطوق والمفهوم في كل من اللفظين، واستقلاله فيهما. قوله: (ولو قيل: "وما عززت علينا"، لم يصح الجواب): لأن الكلام حينئذ في عزته فقط، فالجواب المطابق: لِمَ لم أكن عزيزاً بما شرفني الله برسالته، أهديكم على سبيل الرشاد، وأخلصكم من ورطة الضلالات، فإذن لا مدخل للقوم فيه، ولا وجه لقوله: (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ)، بخلاف التقديم. قوله: (فالكلام واقع فيه وفي رهطه): الفاء فيه دل على تفريع السؤال على الأول، وفي "فكيف" على الإنكار، يعني: أن القوم نفوا العزة عنه رأساً، وأثبتوها لرهطه، فلم ذكر "الله" عز وجل، وأتى بـ "أفعل" الذي يقتضي الشركة في العزة المنفية؟ وأجاب بما ينبئ عن أن له نسبة إلى الله بكونه نبيه ومبعوثاً من عنده، وله أيضاً قرابة ورحم بالقوم، فتهاونهم لأجل أنه نبي الله، ومراعاته لأجل القوم: يقتضي أن يكون الرهط أعز من الله، تقرير آخر. وكان من حق الظاهر أن يجيب عليه السلام عنهم: "أرهطي عزيز دوني"، لكن أراد: إنكم

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ونسيتموه وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، و"الظهريّ": منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى "أمس": "إمسيّ" (بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قد أحاط بأعمالكم علماً، فلا يخفى عليه شيء منها. (عَلى مَكانَتِكُمْ) لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ راعيتم نسبة قرابتي إلى الرهط، وضيعتم نسبتي إلى الله سبحانه وتعالى بالنبوة، فكأنكم زعمتم أن القوم أعز من الله، فكما أن القوم بالغوا في المكافحة، حيث كرروا نفي العزة عنه، وإثباتها لهم، بالغ نبي الله في الرد عليهم، وأظهر مدح نفسه ومكانته من الله عز وجل، نظيره قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57]، أي: يؤذون رسول الله، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمنزلة ومكانة جعل أذاهُ أذاه. وقوله: (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تهديد عظيم، ومن ثم قال: "قد أحاط بأعمالكم علماً"، أي: يجازيكم لأجل استهانة نبيه المستلزم لاستهانته، وقوله: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً) اعتراض على نحو قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125]، قال المصنف: "لو جعلتها معطوفة على ما قبلها لم يكن لها معنى"، وفائدته: تأكيد التهاون بالله، وأنهم قوم عادتهم أن لا يعبؤوا بالله، ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وهذا من ذاك القبيل. قوله: (اعملوا قارين على جهتكم): هذا على أن تكون "المكانة" من المكان، فيجوز أن يكون تمثيلاً وأن يكون كناية، كقولهم: فلان يتحرك من مكانه، أي: مما نشأ فيه من سجيته

أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها (إِنِّي عامِلٌ) على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني (مَنْ يَاتِيهِ) يجوز أن تكون "مَنْ" استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقيّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب. فإن قلت: أي: فرق بين إدخال الفاء ونزعها في (سَوْفَ تَعْلَمُونَ)؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفي تقديريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهجيراه، قال في آخر الأنعام: "اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان". قوله: (الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان، تتكاثر محاسنه): قال صاحب "المفتاح": "الاستئناف لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة؛ إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا يقطع كلامك بكلامه، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف، أو غير ذلك".

(وَارْتَقِبُوا) وانتظروا العاقبة وما أقول لكم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي: منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) يعني في زعمكم ودعواكم، تجهيلاً لهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما أقول لكم): عطف تفسيري على قوله: "العاقبة"، وما قال هو قوله: (مَنْ يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ). قوله: (قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم): يعني: قوله: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) اشتمل على عمل الصادق والكاذب؛ منه ومنهم، فلم يذكر في قوله: (مَنْ يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) الآية، إلا الكاذب منهم، والآية بيان لذكر عاقبة العاملين من الفريقين، فما وجه ذلك؟ وأجاب: أن المراد من قوله: (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ): الصادق، لكن جرى "الكاذب" على مرون ألسنتهم تجهيلاً لهم. قال القاضي: " (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) عطف على (مَنْ يَأتِيهِ)،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا لأنه قسيم له، بل لأنهم لما أوعدوه وكذبوه قال: سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم". الانتصاف: "الظاهر أن الكلامين جميعاً للكفار، فقوله: (مَنْ يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) فيه ذكر جزائهم، (وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) ذكر جرمهم الذي هو الكذب، وهو من عطف الصفة، والموصوف واحد، كقولك: وستعلم من يهان ومن يعاقب، فيكون ذكر كذبهم تعريضاً بصدقه، وهو في بعض الأحيان أوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب استغناء عنها بذكر عاقبتهم، وفي أول السورة: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود: 39]، ولم يذكر القسم الآخر، وفي الأنعام: (مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) [الأنعام: 135]، فذكر عاقبة الخير وحدها، لأن "العاقبة" إذا أطلقت فهي للخير، كقوله تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128، والقصص: 83] "، ولأن اللام في (لَهُ) تدل على أنها ليست عليه، بل له. وقلت: ليس وزان هذه الآية وزان قوله: (مَنْ يَاتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) [هود: 39]، لأن السابق- وهو قوله: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) -، واللاحق- (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) - مشتملان على ذكر المحق والمبطل، كأنه قيل: اعملوا على عداوتي، إني عامل في عداوتكم، فسوف تعلمون عاقبة عملي وعاقبة عملكم، وانتظروا أنتم العاقبة، إني منتظر معكم. ومن ثم كرر لفظة "من"، ولو أريد ما قالاه لقيل: فسوف تعلمون من كذب وجوزي به، بخلافه هناك، فإنه عطف الصلة على الصلة.

فإن قلت: ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت: قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد، وذلك قوله (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود: 81]، (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود: 65]، فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصةٌ على قصة. "الجاثم": اللازم لمكانه لا يريم، كاللابد، يعني: أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصاً. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين متردّدين. "البعد": بمعنى البعد وهو الهلاك، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله (كَما بَعِدَتْ)؟ وقرأ السلمى: "بعدت" بضم العين، والمعنى في البناءين واحد، وهو نقيض القرب، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ساقتي قصة عاد وقصة مدين): أما سياقة قصة عاد فهو: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً) [هود: 58]، وأما سياقة قصة مدين فهو: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً) [هود: 94]، والوسيطان: الأولى: قصة ثمود: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً) [هود: 66]، والأخرى: قصة لوط: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) [هود: 82]. قوله: (لا يريم كاللابد)، الجوهري: "رامه يريمه ريماً، أي: برحه"، و"لبد الشيء بالأرض يلبد لبوداً: لصق بها". قوله: (قعصاً): بالقاف المفتوحة وسكون العين المهملة والصاد المهملة، الأساس: "قعصه وأقعصه: قتله مكانه، ومات فلان قعصاً"، وهو حال من فاعل "زهق".

كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا: وعد وأوعد، وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص، كما يقال: ذهب فلان ومضى، في معنى الموت. وقيل: معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)]. (بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) فيه وجهان: أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته، وأن يراد بـ"السلطان المبين": العصا، لأنها أبهرها. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل، وذلك أنه ادّعى الإلهية، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سلطان مبين لموسى)، الراغب: "السلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطته، ومنه سمي السلطان، وسمي الحجة سلطاناً؛ لما للحق من الهجوم على القلب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة، وقوله تعالى: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 29]: يحتمل السلطانين، وسلاطة اللسان: القوة على المقال، وذلك في الذم أكثر استعمالاً، يقال: امرأة سليطة". قوله: (وأن يراد بـ "السلطان المبين": العصا): من عطف الخاص على العام للشرف، وعلى الأول: من باب العطف التجريدي، نحو: مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة، كأنه جرد من الآيات الحجة، وجعلها غيرها، وعطفها عليها، وهي هي، ومن ثم قال: "إن هذه الآيات فيها سلطان مبين"، كقوله تعالى: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ) [فصلت: 28]. قوله: ((وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) تجهيل لمتبعيه): لأن حق الظاهر أن يقال: أمر فرعون غي وضلال، فأتى (بِرَشِيدٍ)، ونفاه تجهيلاً للقوم، وتصويراً لتلك الحالة التي وقع

وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد، ومثله بمعزلٍ من الإلهية ذاتاً وأفعالاً، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته. و"الأمر الرشيد": الذي فيه رشد، أى: وما في أمره رشد إنما هو غىّ صريح وضلال ظاهر مكشوف، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم، لا من يضلهم ويغويهم. وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط. (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي: كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغي فيها، يعني: ما نظرتم أيها الحمقى إلى ذاته، وأنه بشر مثلكم، وإلى صفاته وأفعاله، وأنه ظالم غاشم، فكيف اتخذتموه إلهاً، أما لكم مسكة؟ ! قوله: (ذاتاً وأفعالاً)، أي: مثله بمعزل الإلهية ذاتاً حيث هو بشر، وأفعالاً حيث جاهر بالعسف، لكن في قوله: "إلا من شيطان مارد"، رمز إلى ما قال في سورة الزخرف عند قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [الزخرف: 81]: "ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله خالقاً للكفر في القلوب ومعذباً عليه عذاباً سرمداً، فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله". قوله: (تتايعوا)، الفائق: "التتايع: التهافت والتسارع إليه؛ من: تاع؛ إذا عجل". قوله: (وفيه أنهم عاينوا الآيات)، أي: وفي جعل (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) قيداً

ويجوز أن يريد بقوله: (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) وما أمره بصالح حميد العاقبة. ويكون قوله (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) تفسيراً لذلك وإيضاحاً، أى: كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. و"الرشد" مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، كما استعمل "الغيّ" في كل ما يذم ويتسخط. ويقال: قدمه بمعنى: تقدّمه. ومنه: قادمة الرجل، كما يقال: قدمه بمعنى تقدّمه. ومنه مقدّمة الجيش. وأقدم بمعنى تقدّم. ومنه مقدّم العين. فإن قلت: هلا قيل: يقدم قومه فيوردهم؟ ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت: لأن الماضي يدل على أمرٍ موجود مقطوع به، فكأنه قيل: يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لـ "اتبعوا"، والمراد الغي، وترتب (فَاتَّبَعُوا) بالفاء على (أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ): الإشارة إلى تعكيس رأيهم، وهو أن إرسال موسى بالآيات الظاهرة والبراهين الساطعة موجب للهدى والرشد في الدنيا والفلاح في العقبى، فآثروا عليه متابعة من أوقعهم في الغي والضلال في الدنيا وأوردهم النار في العقبى، كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8]. قوله: (ويجوز أن يريد بقوله: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ): وما أمره بصالح حميد العاقبة): عطف على قوله: "الأمر الرشيد: الذي فيه رشد"، و"الرشد" على الأول: حقيقة، لأنه في مقابل "الغي"، ولهذا قال: "إنما هو غي صريح"، وعلى الثاني: مجاز عن العاقبة الحميدة، ومن ثم قال: "الرشد: مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى". (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ): حال من فاعل (فَاتَّبَعُوا)، أو من المفعول، وهو المختار عنده لقوله: "على أمره، وهو ضلال مبين". وقوله: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) على الأول: استئناف، كأنه قيل: ما مآل حالهم في متابعة هذا الضال المغوي؟ قيل: يقدمهم يوم القيامة فيوردهم النار. وعلى الثاني: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) بيان لقوله:

و (الْوِرْدُ) المورود. و (الْمَوْرُودُ) الذي وردوه. شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة، ثم قيل: بئس الورد الذي يردونه النار؛ لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضدّه. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) في هذه الدنيا (لَعْنَةً) أي: يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) رفدهم. أي: بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)، لأن معناه حينئذ: كان أمر فرعون مذموماً مسخوطاً عليه سيء الخاتمة، فجاء قوله: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ) موضحاً له، وبياناً لسوء العاقبة. قوله: (أي: بئس العون المعان): سميت اللعنة عوناً، لأنها إذا تبعتهم في الدنيا تبعتهم في الأخرى، لتبعدهم عن رحمة الله، وتعينهم على ما هم عليه من الضلال، وتمدهم في طغيانهم وعمههم، فسمي رفداً- أي: عوناً- لهذا المعنى على التهكمية، كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع وقولهم: "عتابه السيف". وأما كونه "معاناً" لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى، ليكونا هاديين إلى طريق الجحيم، (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 23]، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم، لأن اللعنة في الدنيا تبعتهم، وكذا في الآخرة، لقوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) [هود: 60]، ولكن أسند إلى الرفد- الذي هو اللعنة- على الإسناد المجازي، نحو: جد جده، وجنونك مجنون.

وقد رُفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى. [(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)]. (ذلِكَ) مبتدأ، (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر، أي: ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك (مِنْها) الضمير للقرى، أي: بعضها باق وبعضها عافي الأثر، كالزرع القائم على ساقه والذي حصد. فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بئس العطاء المعطى)، الجوهري: "الرفد: العطاء والصلة، وبالفتح: المصدر، يقال: رفدته أرفده رفداً: إذا أعطيته، وكذلك إذا أعنته، والإرفاد: الإعطاء والإعانة فيه"، واعتبار الاستعارة التهكمية والإسناد كما سبق. قوله: (هي مستأنفة): فإنه تعالى لما قص في هذه السورة أنباء الرسل وأممهم، ووخامة عاقبة المكذبين، اتجه لسائل أن يقول: هذه القرى المقصوصة، ما حالها؟ أباقية آثارها أم لا؟ فأجيب: بأن بعضها باقي الأثر، وبعضها قائم. قال أبو البقاء: " (مِنْهَا قَائِمٌ) ابتداء وخبر في موضع الحال من الهاء في (نَقُصُّهُ)، و (وَحَصِيدٌ) مبتدأ، والخبر محذوف، أي: ومنها حصيد، بمعنى: محصود"، قال القاضي: "الجملة مستأنفة، والحال ليس بصحيح؛ إذ لا واو، ولا ضمير". قلت: ويجوز أن يكون حالاً من (القُرَى).

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب ما به أهلكوا (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله (يَدْعُونَ) يعبدون وهي حكاية حال ماضية. و (لَمَّا) منصوب بـ"ما أغنت" (أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه ونقمته (تَتْبِيبٍ) تخسير. يقال تبّ إذا خسر. وتببه غيره، إذا أوقعه في الخسران. [(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)]. محل الكاف الرفع، تقديره: ومثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ)، والنصب فيمن قرأ: "وكذلك أخذ ربك"، بلفظ الفعل. وقرئ: "إذ أخذ القرى"، (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من (القرى)، (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمةٍ من كفار مكة وغيرها، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال. [(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)]. (ذلِكَ) إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تحذير): أي: في جعل (وَهِيَ ظَالِمَةٌ) حالاً من (الْقُرَى)، أي: تحذير من وخامة عاقبة الظلم، وذلك أن كاف التشبيه واسم الإشارة دلاً على أن التشبيه تمثيلي، والمشبه به تلك القرى السابقة الظالم أهلها، فيكون التقييد بهذه الحال لمزيد التوكيد، والإشعار بما ذكره من التحذير، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة.

(لَآيَةً لِمَنْ خافَ) لعبرةً له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأي: عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات: 26]. (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة، لأنّ (عذاب الآخرة) دلّ عليه، و (النَّاسُ) رفع باسم المفعول الذي هو (مجموع) كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت: لأي: فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ قلت: لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع الناس له، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضاً لإسناد "الجمع" إلى "الناس"، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لآيَةً لِمَنْ خَافَ) لعبرة له): قال القاضي: " (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) لمن ينزجر بها عن موجباتها، لعلمه بأنها من إله مختار، يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم: لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام، لا لذنوب المهلكين بها". قوله: (وهو أثبت أيضاً لإسناد "الجمع" إلى "الناس"): أي: في وصف "اليوم" باسم المفعول، وإسناده إلى "الناس": الدلالة على أن اليوم موصوف بذلك الوصف وصفاً لازماً، وأن الناس لا ينفكون عن الجمع، لأن كلا الأسلوبين مجرى على غير الظاهر للمبالغة،

وأنهم لا ينفكون منه، ونظيره قول المتهدد: "إنك لمنهوب مالك محروب قومك"، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن: 9]، تعثر على صحة ما قلت لك. ومعنى يجمعون له: يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) مشهود فيه، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقوله: وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْما وَعَامِراً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومقتضى الظاهر أن يقال: "ذلك يوم يجمع له الناس"؛ فإن الفعل مترقب، والناس غير مجموعين الآن، ولهذا وازن بينه وبين قوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن: 9]، واللام في (لَّهُ) كاللام في (لِيَوْمِ الْجَمْعِ)؛ بمعنى: لأجل، يدل عليه قوله: "يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب"، لأن "اليوم" لا يصح أن يكون علة لنفسه، بل لما فيه من الحساب والجزاء. قوله: (محروب)، الجوهري: "وقد حرب ماله؛ أي: سلب، وهو محروب وحريب". قوله: (فاتسع في الظرف): أي: في حذف الجار، يعني: كان من حقه أن يؤتى بما يسند إليه، لكن حذف وجعل كالمفعول به، نحو: زيد مضروب. الانتصاف: "حذف مفعول "المشهود" تفخيماً، كقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) [هود: 109] ". الإنصاف: "وفيه دليل على أن اسم المفعول من الفعل المتعدي بحرف الجر: يجوز أن يجرد عنه، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) [الإسراء: 34] على قول، وقد أخذ على بعض المصنفين قوله: المنطوق والمفهوم، قالوا: يجب أن يقال: المنطوق به، وهذا يدل على جواز ذلك، وإن لم يكن المشهود من هذا الباب". قوله: (ويوم شهدناه سليماً وعامراً): تمامه:

أي: يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بـ"المشهود": الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور. قال: فِى مَحْفِلٍ مِنْ نَوَاصِى النَّاسِ مَشْهُودِ فإن قلت: فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه، كما قال الله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ [البقرة: 185]؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قليل سوى الطعن الدراك نوافله الجوهري: "شهد شهوداً، أي: حضر، فهو شاهد، وقوم شهود، أي: حضور، وهو في الأصل مصدر، والمشهد: محضر الناس"، و"نوافله": فاعل "قليل"، وهو صفة "يوم"، يقول: ويوم حضرنا فيه سليماً وعامراً قليل عطاياه سوى الطعن الدراك، على التهكمية. قوله: (في محفل من نواصي الناس مشهود): أوله: ومشهد قد كفيت الغائبين به "نواصي الناس": أشرافهم والمقدمون منهم، كما وصفوا بالذوائب، يقال: فلان ذؤابة قومه وناصية عشيرته، يقول: رب مشهد عظيم الشأن تكلمت فيه ونبت عن الغائبين عنه، واليوم يوم مشهود، فيه رؤساء الناس وأماثلهم، يعني: كشفت الغمة بقلب ثابت. قوله: (ما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه): أي: ما دعاك إلى أن تجعل اليوم مشهوداً

قلت: الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه، لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده، وكذلك قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]؛ (الشهر) منتصب ظرفاً لا مفعولاً به، وكذلك الضمير في (فَلْيَصُمْهُ)، والمعنى: فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه، كقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ) [البقرة: 185]، أي: فيه، ثم تجعله على الاتساع مشهوداً، فلا تجعله ابتداء مشهوداً في نفسه، لأن الغرض تهويل ذلك اليوم، وتمييزه بكونه مشهوداً فيه؟ قوله: (الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه [من] بين الأيام): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ إذ يقال: سائر الأيام مشهود فيها، كما أنها مشهودات، والتحقيق أن في "اليوم المشهود فيه" إيهاماً في "المشهود"، أي: يشهد فيه حال، وفي "اليوم المشهود" لا إيهام، إذ يعلم أن المشهود اليوم، وأما تمييزه عن غيره بالتهويل فلذلك الإيهام مع القرينة والبيان. قلت: ما أدري ما غرضه من قوله: "سائر الأيام مشهود فيها"، لأن الفرق بين الصورتين في غاية من الظهور، لأنه لا يقال: "يوم مشهود فيه" إلا ليوم تشهد فيه الخلائق من كل أوب لأمر له شأن، أو لخطب يهمهم، نحو أيام الأعياد، وأيام عرفة، وأيام الحرب، وأيام قدوم السلطان، ويقال: يوم مشهود، أي: مدرك، كما تقول: أدركت يوم فلان، وشهر فلان، كما سبق في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].

يعني: فمن كان منكم مقيما حاضراً لوطنه في شهر رمضان فليصم فيه، ولو نصبته مفعولا فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر، لا يشهده المقيم، ويغيب عنه المسافر. [(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)]. "الأجل": يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، فيقولون: انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون: حل الأجل (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف: 34]، يراد: آخر مدة التأجيل، و"العدّ" إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ: وما يؤخره بالياء. [(يَوْمَ يَاتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)]. قرئ: (يَوْمَ يَاتِ) بغير ياء. ونحوه قولهم: لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتى ما هو؟ قلت: الله عز وجل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويقولون: حل الأجل) إلى آخره: عطف على "فيقولون: انتهى الأجل"، وهما نشر لقوله: "على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها" من غير ترتيب، وقوله: "والعد: إنما هو للمدة، لا لغايتها": تعليل، لأن المراد في الآية مدة التأجيل لا منتهاها. قوله: (قرئ: (يَوْمَ يَاتِ) بغير ياء): أثبت الياء في الحالين: ابن كثير، وأثبتها لمجيء الوصل: نافع وأبو عمرو والكسائي، والباقون: يحذفونها في الحالين. قال الزجاج: "الذي يختاره النحويون: إثبات الياء، والذي أختاره في المصحف وعليه القراءات: بكسر التاء،

كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ) [البقرة: 210]، (أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام: 158]، (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر: 22]، وتعضده قراءة: "وما يؤخره"، بالياء. وقوله: (بِإِذْنِهِ) ويجوز أن يكون الفاعل ضمير "اليوم"، كقوله تعالى: (أَوْ تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ) [يوسف: 107]. فإن قلت: بما انتصب الظرف؟ قلت: إمّا أن ينتصب بـ (لا تكلم)، وإمّا بإضمار «اذكر»، وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)، أي: ينتهي الأجل يوم يأتي، فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه؟ قلت: المراد إتيان هوله وشدائده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذيل تستعمله كذا، وقد حكى سيبويه: أن العرب تقول: لا أدر، وتجتزئ بالكسرة لكثرة الاستعمال، والذي أختاره إنما أختاره لمتابعة المصحف". وقال أبو علي: " (لَا تَكَلَّمُ) يحتمل أن تكون حالاً من الضمير في "يأتي"، وأن تكون صفة لـ "يوم"، وعلى الوجهين لابد من تقدير ضمير، أي: لا تكلم نفس فيه، فإن كان حالاً فحذف الياء من (يَاتِ)، لأنه كلام مستقل، فيشبه لذلك الفواصل، وإن جعلته صفة جاز أيضاً، لأن الصفة قد يستغنى عنها بالموصوف، كما أن الحال قد يستغنى عنها بالفعل، إلا أن من الصفات ما لا يحسن أن يحذف فيه، ولذلك يشبه بغير الكلام التام". قوله: (وتعضده قراءة من قرأ: "وما يؤخره" بالياء): يعني: فاعل "ما يؤخره" حينئذ: الله، وهذه الجملة تابعة لتلك الجملة صورة ومعنى، لأن التقدير: وما يؤخر الله اليوم المجموع

(لا تَكَلَّمُ) لا تتكلم، وهو نظير قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ: 38]. فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى (يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل: 111]، وقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35 - 36]؟ ، قلت: ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها: يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا لانتهاء مدة معدودة، تنتهي المدة إلى يوم يأتي الله. ولو جعلت الضمير "لليوم" لاختل النظم، ولأن المضير في (بِإِذْنِهِ) يقتضي ما يرجع إليه، ولو قلت: يأتي هول اليوم، لم يكن بذاك. فإذا جعلت الفاعل ضمير "اليوم"، فقد جعلت "اليوم" وقتاً لإتيان "اليوم"، قال أبو علي: "لا يجوز أني كون فاعل "يأتي" ضمير اليوم الذي يأتي، لما يلزم منه أن يضاف "اليوم" إلى فعل نفسه، ألا ترى أنك لا تقول: جئتك يوم يسرك، لأن معناه: يوم سروره إياك"، وإنما تضيف المصدر إلى الفاعل، كما إذا قلت: جئتك يوم يخرج زيد، أي: في يوم خروج زيد. قال أبو البقاء: "وأما فاعل "يأتي" فضمير يرجع على (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ)، ولا يرجع إلى "يوم" المضاف إلى "يأتي"، لأن المضاف إليه كجزء المضاف، فيؤدي إلى إضافة الشيء إلى نفسه".

(فَمِنْهُمْ) الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا، لأنّ ذلك معلوم، ولأنّ قوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يدل عليه، وقد مرّ ذكر الناس في قوله (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) و"الشقي": الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه. [(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)]. قراءة العامّة بفتح الشين. وعن الحسن شَقُوا بالضم، كما قرئ: (سُعِدُوا)، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأن قوله: (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يدل عليه): وفي هذا إشارة إلى أن الآية من باب الجمع مع التفريق والتقسيم، فالجمع قوله: (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) لأنها متعددة معنى، لأن النكرة في سياق النفي تعم، والتفريق: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، والتقسيم: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ)، والمساعدة: المعاونة فيما يظن به سعادة، والساعد: العضو؛ تصوراً لمساعدتها". قوله: (كما قرئ: (سُعِدُوا)): حفص وحمزة والكسائي، قال السجاوندي: قرئ:

و"الزفير": إخراج النفس. والشهيق: ردّه. قال الشماخ: بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ .. زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فيه وجهان: أحدهما: أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم: 48]، وقوله: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر: 74]، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم: إمّا سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (سُعِدُوا) مجهولاً، مع أنه لازم، أي: رزقوا السعادة، نحو: جن؛ إذا فعل به ما يصير به مجنوناً، ولو كان المراد: صيروا سعداء، لقال: أسعدوا، والتعدي لغة بني تميم، أو على حذف الزيادة من: أسعد، كمجبوب ومجنون. قال أبو البقاء: "نحوه: رجل مسعود". قوله: (والزفير): الراغب: "الزفير: ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، وازدفر فلان: إذا تحمله بمشقة، فتردد فيه نفسه، ومنه: زفر. والشهيق: طول الزفير، وهو رد النفس، والزفير: مد النفس، وأصله من: جبل شاهق، أي: متناهي الطول". قوله: (بعيد مدى التطريب) البيت: يصف حمار وحش، التطريب في الصوت: مده وتحسينه، وحشرج المريض: تنفس عند الاحتضار. قوله: (ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم): قال القاضي: "وفيه نظر، لأنه تشبيه

والثاني أن يكون عبارةً عن التأييد ونفي الانقطاع، كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فإن قلت: فما معنى الاستثناء في قوله (إلا ما شاء ربك)، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم، وهو رضوان الله، كما قال: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) [التوبة: 72]، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب، فلا يجدي له التشبيه". وأجيب عنه: بأنه ليس هذا من التشبيه بما لا يعرف، بل هو من تشبيه ما لا يعرف بما يعرف، فإنه شبه تلك الدار بهذه الدار، وأثبت لها ما لهذه من المظلة والمقلة، والجامع كونهما جسمين، وإثبات الدوام للمشبه به مبني على العرف والعادة، كما قال: ما لاح كوكب، ما دام تعار. قوله: (ما دام تعار)، النهاية: "تعار: جبل معروفن يصرف ولا يُصرف"، وفي الحديث ذكر ثبير، وهو الجبل المعروف عند مكة.

والدليل عليه قوله: (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، ومعنى قوله في مقابلته: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ): أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطى أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً. ولا يخدعنك عنه قول المجبرة: إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإنّ الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً"، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل عليه): أي: على أن الاستثناء في الخلود من عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة، لا الانقطاع من العقاب والثواب مطلقاً، لأن قوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) يدل على أن لا انقطاع للثواب، فكذلك ينبغي أن يراد من قوله: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، لأنه مقابله، وهو مذهبه، وسيجيء بطلانه. قوله: (النوابت)، الجوهري: "النوابت من الأحداث: الأغمار"، وقيل: النابتة: قوم من الحشوية لا رأي لهم. قوله: (الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم): قلت: كلا، بل كل من الاستثنائين في عويل وضجيج بتأويلك؛ أما الأول: فلأن اسم النار غلبت لدار العقاب، لقوله تعالى: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران: 191 - 192]، ولو لم يكن اسم النار مشتملاً على أنواع العذاب، كالنار والمهل والضريع والسلاسل والزمهرير، لكان طلب الوقاية عنها مطلقاً لا يغني عن المذكورات، ولأن من إطلاق اسم النار في عرف الشرع لا

وهذا ونحوه - والعياذ بالله- من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه: أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها، وأقول: ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ما يشغله عن عن تسيير هذا الحديث. [(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ* فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)]. (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية، كقوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [فصلت: 8، الانشقاق: 25]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. يتبادر إلا دار العقاب، كما أن من اسم الجنة لا يفهم إلا دار الثواب، قال المصنف في أول تفسير سورة البقرة: "الجنة: اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة"، وهي على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام. وأما الثاني: فلأن الذوق السليم والطبع المستقيم يأبى أن يقال: إن الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها إلا أن ينقلوا إلى رضوان الله، ورضوان الله أيضاً كائن في الجنة، عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك، والخير بيديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ! فيقول: ألا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: أي شيء أعظم من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً". هذا، ثم قوله: "الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم"- يعني: كما لا يوجب خروج أهل الجنة من الجنة، كذلك الأول-: يرده تذييل كل من الآيتين بما يخالف الأخرى، فإن اختلافهما يدل على اختلاف الحكمين، فإن قوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) رد لما عسى أن يقول المعتزلي في أفعال الله بالحسن والقبح، وأن الثواب والعقاب واجبان، رداً بليغاً، حيث جيء به مصدراً بـ "إن"، على وجه تقوي الحكم، وبناء "فعال" للمبالغة. ويعضد هذا التفسير: ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة ملؤها". ثم إن قوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) يدل على أن هذا الاستثناء ليس على طريقة الأول، لأنه اسم مصدر يؤكد مضمون الجملة، فلو جعل الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة لخرج عن أن يكون مؤكداً، فوجب أن يجعل الاستثناء من أسلوب قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى) [الدخان: 56]، يعني: أن انقضاء مدة بقائهم فيها محال، فيخلدون فيها أبداً إلا ما شاء الله، وقد علم اتفاقاً أن مشيئة الله على الخلود فيها، فإذن لا انقطاع لخلودهم. ثم إني وقفت بعد ذلك على ما يوافق هذا المعنى من نص الزجاج رحمه الله تعالى: " (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) معناه: هو لا يشاء أن يخرجهم منها، كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غير ذلك، ثم تقيم على ذلك الفعل، وأنت قادر على غير ذلك، والفائدة فيه: أنه تعالى لو شاء أن يخرجهم لقدر، ولكنه قد أعلمنا أنهم خالدون أبداً. هذا مذهب من مذاهب أهل اللغة". وصرح المصنف في الكهف في قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23 - 24]: "أن الاستثناء بمعنى التأبيد". وأما قوله: "قول المجبرة: إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة": فليس من تلقاء أنفسهم، لأنهم يرفعون حديث الخروج إلى الصادق المصدوق صلوات الله عليه، روى البخاري ومسلم عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير"، الثعارير- بالثاء المثلثة والعين المهملة-: صغار القثاء. وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن عمران بن الحصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين". والأحاديث في هذا الباب بلغت مبلغ التواتر كثرة وصحة. لكن الحديث الذي رواه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ونسبه إلى أهل السنة، فهم بريئون عنه، فقد صرح بوضعه ابن الجوزي في كتاب "الموضوعات"،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورواه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد، تصفق أبوابها، كأنها أبواب الموحدين". وأما تفسير الاستثناء بالنقل من النار إلى الزمهرير: فما جاء فيه نقل يعتمد عليه. وأما قوله: "أما كان لابن عمرو في سيسفيه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث": ففيه- والعياذ بالله- الطعن فيمن هو من أكابر الصحابة، ومن العلماء المشاهير منهم، ومن العابدين فيهم؛ من وجهين: أحدهما: أنه عمد إلى وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك اجتهد في تسييره. وثانيهما: أنه قاتل علياً رضي الله عنهما بسيفيه؛ لسانه وحسامه. هذا- والله- خسارة عظيمة لا يقدم عليه متدين. قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": "إنه كان فاضلاً حافظاً عالماً، وكان يسرد الصوم، ولا ينام الليل، وحديث مراجعته مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام وختم القرآن مشهور"، وقال: "إنه اعتذر من شهوده صفين، وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وإنما شهدها لعزمة أبيه عليه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال له: "أطع أباك"، وكان يقول: "ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين، وقال: أما والله ما ضربت فيها بسيف، ولا طعنت فيها برمح، ولا رميت بسهم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب في "الأمالي": "الاستثناء الأول متصل من وجهين: أحدهما: أن المراد بـ (مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ): جميع الزمان بعد البعث، فاستثني زمن إقامتهم في المحشر، فإنهم ليسوا في النار حينئذ. روى الواحدي هذا الوجه عن الزجاج، قال الإمام: "هذا بعيد، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار، ومن المعلوم أن الخلود فيها كيفية من كيفيات الحصول فيها، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود فيها، فإذا لم يحصل الخلود، لم يحصل المستثنى منه، وإذا لم يحصل المستثنى منه، وإذا لم يحصل المستثنى منه امتنع حصول الاستثناء. وثانيهما: أن يكون (الَّذِينَ شَقُوا) عبارة عن الكفار وعصاة المسلمين، فيكون (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) استثناء إما المدة التي تكون بعد إخراج العصاة، فإنهم ليسوا فيها حينئذ، وإما لمن يخرج؛ استمالاً لـ "ما" بمعنى: "من"، ويكون استثناء من (الَّذِينَ شَقُوا)، لا من (مَا دَامَتِ) ". قال الإمام: "هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار، لأن قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم، ثم قال: (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ)، فوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع، ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء، ولما ثبت أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخلود واجب للكفار وجب أن يقال: الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة". وتبعه القاضي حيث قال: " (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود في النار، لأن بعضهم- وهم فساق الموحدين- يخرجون منها، وذلك كاف في صحة الاستثناء، لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، وهم المراد بالاستثناء الثاني، فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم؛ فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء، كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم، فقد سعدوا بإيمانهم. لا يقال: فعلى هذا لم يكن قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيماً صحيحاً؛ لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين". وقال الزجاج والسجاوندي: "ما" بمعنى: "من"، لأن المراد العدد لا الشخص- كقوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3]-، و"إلا" بمعنى "سوى"، كقولك: علي ألفان إلا الألف الذي كان، يعني: سوى، أي: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السماوات والأرض. وقلت: الحق الذي لا محيد عنه: أن تحمل "ما" على معنى: "من"؛ لإرادة الوصفية، وهي

لما قصّ قصص عبدة الأوثان، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه، وما أعدّ لهم من عذابه قال: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي: فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال: (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) يريد: أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية. و«ما» في (مما)، و (كما): يجوز أن تكون مصدرية وموصولة، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرحومية، ليؤذن أن إخراجهم لمحض مشيئته وسبق رحمته، لا لاستحقاق منهم، فينطبق عليه: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ). وتحقيقه: أن قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا) حال مقدرة من ضمير الاستقرار في الظرف، أي: (فِي النَّارِ)، وأنت تعلم أن الحال قيد للحكم، فإذا انتفى الحكم من البعض بالاستثناء ينتفي مقيداً، المعنى: إن الذين شقوا مستقرون في النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله أن لا يستقر مخلداً. فيفيد إما أن لا يستقر فيها مطلقاً أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج، كما علم من النصوص الصحيحة. وقال المصنف: "زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه"، ونقول: زادنا الله اطلاعاً على كشف أستار التنزيل لنذب عن مذهب أهل الحق، ووقوفاً على الجمع بين الكتاب والسنة، ونعوذ بالله من الزيغ عن سنن المؤمنين، وسنن سيد المرسلين. قوله: (وتعرضهم بها لما أصاب): اللام: صلة التعرض. الجوهري: "عرضت فلاناً لكذا، فتعرض هو له"، والباء في "بها": للسبب، أي: تعرضهم لما أصاب أمثالهم بسبب العبادة. قوله: (وهو استئناف معناه تعليل النهي): يعني: لما نهاه بقوله: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ)، أي: لا تشك في سوء عاقبة عبادتهم، قدر السائل أن يقول: لم ما أشك في سوء عاقبتهم؟ فأجاب: لأن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم، فيهلكهم الله كما أهلك آباءهم.

أى: من عبادتهم، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي: حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت: كيف نصب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حالاً عن النصيب الموفى؟ قلت: يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول. وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملاً وناقصاً. [(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)]. (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القرآن (وَلَوْلا كَلِمَةٌ) يعنى كلمة الإنظار إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضاً. [(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: من عبادتهم وكعبادتهم): فيه نشر، يعني: على تقدير أن تكون "ما" في الصورتين مصدرية: معناه هذا، وعلى تقدير أن تكون موصولة: معناه: مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها. قوله: (يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل)، الانتصاف: "هذا وهم، لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى، كلا كان أو بعضاً، فوفاء النصف يلزم منه عدم نقصان النصف، فما وجه جعله حالاً؟ ! والأصح أن تستعمل "التوفية" بمعنى: الإعطاء، كما استعمل "التوفي" بمعنى: الأخذ، ومن قال: أعطيت فلاناً حقه، كان جديراً أن يؤكده بقوله: غير منقوص".

(وَإِنَّ كُلًّا) التنوين عوض من المضاف إليه، يعني: وإنّ كلهم، وإنَّ جميع المختلفين فيه (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف. واللام في لَمَّا موطئة للقسم، و «ما» مزيدة. والمعنى: وإن جميعهم والله ليوفينهم (رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) من حسن وقبيح وإيمان وجحود. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الحق أن سبيل قوله: (غَيْرَ مَنقُوصٍ) سبيل الحال المؤكدة، وهي أن تقرر مضمون الجملة لدفع توهم التجوز، كقوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]. قوله: ((وَإِنَّ كُلاًّ) التنوين عوض من المضاف إليه): أبو عمرو والكسائي قرءا بتشديد "إن" وتخفيف لَّمَّا). قوله: (واللام في (لَمَّا) موطئة للقسم، و"ما"مزيدة): قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر، لأن الموطئة لا تدخل إلا على شرط، فالوجه أن اللام الأولى: هي الداخلة على خبر "إن"، والثانية: جواب قسم، و"ما": مزيدة، لئلا تتلاقى لامان، تقديره: إن كلهم لوالله ليوفينهم"، تم كلامه. وهو قول أبي علي في "الحجة"، ذكر أن اللام في "إن زيداً لما لينطلقن"- على قول سيبويه-: هي اللام التي تقتضيه "إن"، واللام الأخرى: هي اللام التي تتلقى القسم، ودخلت "ما" لتفصل بين اللامين مع اتفاق اللفظين. وقلت: نظره نشأ من قولهم: "اللام الموطئة للقسم: هي التي في قولك: والله لئن أكرمتني لأكرمنك"، كما في "المفصل"، وتفسير ابن الحاجب له: "اللام الموطئة للقسم: هي اللام التي تدخل على الشرط بعد تقدم القسم لفظاً أو تقديراً، لتؤذن بأن الجواب له لا للشرط،

وقرئ: "وإن كلا" بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهذا معنى توطئتها، وليست جواب القسم، وإنما الجواب ما يأتي بعد الشرط". ويمكن أن يقال: معنى التوطئة فيها: هو أنها توطأت مكان القسم، من قولهم: توطأته بقدمي، وهو موطئ قدمي، أي: دلت على أن اللام التي تليها مما يصلح أن تكون جواباً لقسم محذوف، فهذا لا يوجب الاختصاص بأن يكون مدخولها شرطاً البتة، وبه تعلم علة التسمية؛ إذ رعاية التناسب بين الاسم والمسمى منظور فيه. فعلى هذا: الجملة القسمية بتمامها وقعت خبراً لـ "إن"، واستغني بمعنى التأكيد فيها عن ذكر اللام، ويعضد ما ذكرناه تقديره: "وإن جميعهم والله ليوفينهم"؛ حيث أوقع القسم خبراً لـ "إن"، واسقط اللام الأولى لإقامة المدلول مقام الدال. قال صاحب "التخمير": "أجمع الكوفيون وكثير من البصريين على أن اللام الأولى: خلف من القسم، والثانية: لام جواب القسم". وذكر صاحب "الإقليد": أن اللام في قوله: (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ): موطئة للقسم، والتقدير: والله لما، و"ما": مزيدة، وفي (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ): جواب القسم، أي: وإن كلاً والله ليوفينهم، وقال: التوطئة كثرة الوطء، وهي الرياضة، كقولك: وطئ الفرس ووطئ المركب، تقول: هذه اللام وطأت جواب القسم، أي: سهل تفهم الجواب على المقسم له. قوله: ("وإن كلا" بالتخفيف): قال ابن الحاجب: "هي قراءة ابن كثير ونافع، و"إن":

اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبيّ: "وإن كل لما ليوفينهم"، على أنّ "إن" نافية. و"لما" بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها: "وإن كل إلا ليوفينهم"، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: "وإن كلا لما ليوفينهم"، بالتنوين، كقوله: (أَكْلًا لَمًّا) [الفجر: 19]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مخففة من الثقيلة، و (كُلاًّ): منصوب بها؛ على إحدى اللغتين في الإعمال والإلغاء، وهي لغة فصيحة، واللام: هي الفارقة، و"ما": زائدة أو بمعنى: الذي، و (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جملة في موضع خبر "إن"، واللام فيها: لام القسم، وحسن زيادة "ما" لما قصد على جعل (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جواب قسم، فلم يحسن اجتماع اللامين؛ اللام الفارقة ولام جواب القسم، فلولا "ما" لقيل: لليوفينهم، فزيدت ليفرق بينهما، أو صلة لـ "ما" إن جعلناها موصولة، كأنه قيل: وإن هؤلاء للذين- والله- ليوفينهم ربك أعمالهم". وقال ابن مالك: "إهمال "إن" المكسورة بالتخفيف أكثر من إعمالها، وإذا أعملت وهي مخففة، فالمتكلم بالخيار في الإتيان باللام وتركها، كما كان قبل التخفيف، ومن إعمالها مخففة: (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ". قوله: ("وإن كل لما ليوفينهم"): قال ابن جني: "معناه: ما كل إلا والله ليوفينهم، كقولك: ما زيد إلا لأضربنه، أي: ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا". قوله: ("وإن كلاً لما ليوفينهم" بالتنوين): قال ابن جني: "لما- بالتنوين-: مصدر، كالذي في قوله تعالى: (وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً) [الفجر: 19]، أي: أكلاً جامعاً

والمعنى: وإن كلا ملمومين، بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنّ كلا جميعاً، كقوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر: 30، ص: 73]. [(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)]. (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق، غير عادل عنها (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) معطوفٌ على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى: فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عن حدود الله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم فهو مجازيكم به، فاتقوه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأجزاء المأكول، وكذلك تقدير هذا بمعنى: وإن كلاً ليوفينهم ربك أعمالهم لماً، أي: توفية جامعة لأعمالهم جميعاً، ومحصلة لأعمالهم تحصيلاً، فهو كقولك: قياماً لأقومن، وقعوداً لأقعدن". والمصنف ذهب إلى التوكيد، لقوله: "وإن كلاً جميعاً". وقال أبو البقاء: "وانتصابه على الحال من ضمير المفعول في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ضعيف". قوله: ((إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم فهو مجازيكم به فاتقوه): أشار بقوله: "فاتقوه" إلى أن قوله: (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تعليل للأمر والنهي وتهديد، قال القاضي: "في الآية دليل على وجوب اتباع النصوص، من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان".

وعن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية. ولهذا قال: "شيبتني هود والواقعة وأخواتهما". وروى أنّ أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب؟ فقال: "شيبتني هود". وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: روي عنك أنك قلت: شيبتني هود. فقال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يمكن أن يجعل (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تتميماً ومبالغة، المعنى: فاستقيموا حق الاستقامة، فإنه بصير لا يخفى عليه سركم وعلانيتكم، فهو من باب الإحسان والإخلاص. قوله: (قال: "شيبتني هود والواقعة"): روينا عن الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قد شبت، قال: "شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"، قيل: صح "هود" هنا غير منصرف، كـ "ماه" و"جور" في اسمي بلدتين للأسباب الثلاثة، لأن المراد به في الحديث السورة، لا النبي.

لا، ولكن قوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ). وعن جعفر الصادق رضي الله عنه (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال: افتقرْ إلى الله بصحة العزم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا، ولكن قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)): دل هذا القول على أنها كلمة جامعة، قال الإمام: "هي جامعة لكل ما يتعلق بالعقائد والأعمال، ولاشك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جداً، وأنا أضرب لك مثالاً يقرب صعوبة هذا المعنى؛ الخط الذي يفصل بين الظل والضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض، فإذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه في الحس، ولم يقو الحس على إدراك ذلك الخط، فالاستقامة بجميع أبواب العبودية كذلك، فأولها: معرفة الله، وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقي العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التشبيه، وفي طرف النفي عن التعطيل، في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة وسائر الأخلاق على هذا، فالقوة الغضبية والشهوانية حصل لكل واحد منهما طرفا إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين، والوقوف عليه صعب، ثم العمل به أصعب". وقس على هذا الشجاعة والسخاوة والعفة، على هذا ينظر قول المصنف: "فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق، غير عادل عنها"، وهذا لا يكون إلا بالافتقار إلى الله تعالى، ونفي الحول والقوة عن النفس بالكلية، فينطبق عليه قول الصادق: "افتقر إلى الله تعالى بصحة العزم". روى السلمي عن بعضهم: من يطيق مثل هذه المخاطبة بالاستقامة، إلا من أيد بالمشاهدات القوية، والأنوار البينة، والآثار الصادقة، ثم عصم بالتثبيت، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ

[(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)]. قرئ: (ولا تركنوا)، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبي عمرو: بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب "علم يعلم". ونحوه قراءة من قرأ "فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" بكسر التاء. وقرأ ابن أبي عبلة: "ولا تركنوا"، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) [الإسراء: 74]، قال أبو علي الجوزجاني: كن طالب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قوله: ((وَلا تَرْكَنُوا) بفتح الكاف وضمها): قال ابن جني: "قرأ طلحة وقتادة والأشهب، ورويت عن أبي عمرو: "ولا تركنوا" بضم الكاف، وفيها لغتان: ركن يركن؛ كعلم يعلم، وركن يركن؛ كقتل يقتل، هذا عند أبي بكر من اللغات المتداخلة". قوله: ("فتمسكم النار" بكسر التاء): قال ابن جني: "قراءة يحيى والأعمش وطلحة بخلاف، ورواه إسحاق الأزرق عن حمزة، هذه لغة تميم؛ أن تكسر أول مضارع ما ثاني ماضيه مكسور، نحو: علمت وركبت، وتقل الكسرة في الياء، نحو: يعلم، ويركب؛ استثقالاً للكسرة في الياء، وكذلك ما في أول ماضيه همزة وصل، نحو: ينطلق، وتسود،

والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله (وَلا تَرْكَنُوا) فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين. وحُكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتبيض، فكذلك (فتمسكم) ". قوله: (وحكي أن الموفق): والظاهر أنه أراد أبا أحمد طلحة الموفق بن المتوكل، قال ابن الأثير في "الكامل": "عقد له أخوه المعتمد على الله على الكوفة والحرمين واليمن وبغداد وواسط والبصرة والأهواز وفارس وكرمان، وولاه قتال الزنج بالبصرة، وصاحبهم رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأبادهم الله على يده، وكان عادلاً حسن التدبير حسن السيرة، يجلس للمظالم، وعنده القضاة وغيرهم، وكان عالماً بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك، توفي في سنة ثمان وسبعين ومئتين". وقال ابن حمدون صاحب "التذكرة": وكان العهد في الموفق بعد المعتمد أخيه، ثم في المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد، فمات الموفق قبل المعتمد، ثم بويع المعتضد بن الموفق بالعهد، وخلع المفوض، وقال: كان الموفق مستولياً على الأمر كله في خلافة أخيه المعتمد، حتى قال- وقد طلب ما راعى به مغنياً، فمنع منه-:

وعن الحسن رحمه الله: جعل الله الدين بين لاءين: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا). ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: "عافانا الله وإياك - أبا بكر - من الفتن، فقد أصبحت بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه ويؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه قوله: (جعل الله الدين بين لاءين: (وَلا تَطْغَوْا)، (وَلا تَرْكَنُوا)): لعل المراد: أن الله تعالى جعل الأمر بقوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) - الذي هو عبارة عن الثبات على الصراط المستقيم، وهو الدين- بين النهيين؛ أحدهما: الإفراط، وهو الطغيان والتجاوز عن الحد، والآخر: التفريط، وهو الميل القليل إلى الظلمة. قال القاضي: "خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه". قوله: (ولما خالط الزهري السلاطين): قال صاحب "الجامع": "هو أبو بكر محمد ابن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، أحد الفقهاء والمحدثين والعلماء من التابعين بالمدينة، المشار إليه في فنون علم الشريعة، قال عمر بن عبد العزيز: لا أعلم أحداً أعلم بالسنة منه. وقيل لمكحول: من أعلم من رأيت؟ قالك ابن شهاب، قيل: ثم من؟ قال: ابن شهاب. مات في رمضان سنة أربع وعشرين ومئة".

وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]. واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخفّ ما احتملت: أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشكّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليس كذلك أخذ الله الميثاق): اسم "ليس" محذوف، والكاف: اسم منصوب المحل؛ خبر "ليس"، و"أخذ الله الميثاق": جملة مستأنفة على تقدير السؤال، والأظهر أن تجعل "ليس" بمعنى: لا، كما في قول الشاعر: إنما يجزي الفتى ليس الجمل وفي شرح الدار الحديثي: روى أبو عمرو ابن العلاء: "ليس الطيب إلا المسك" بالنصب

ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]، فإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على المشهور، وبالرفع على جعل "ليس" حرفاً غير عامل، كما عند بني تميم، ذكره سيبويه، وروينا في "صحيح البخاري" عن رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر"، كأنه قيل: لا كذلك أخذ الله الميثاق، أي: ما أخذ الله الميثاق أخذاً يشبه فعلك. قوله: (وقال سفيان: في جهنم واد) الحديث: من رواية الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعوذوا من جب الحزن، قالوا: يا رسول الله، وما جب الحزن؟

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموت؟ فقال: دعه يموت. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حال من قوله (فَتَمَسَّكُمُ) أي: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه: وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه، لا يقدر على منعكم منه غيره (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت: فما معنى "ثم"؟ قلت: معناها: الاستبعاد، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له. [(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: واد في جهنم، تعوذ منه جهنم كل يوم أربع مئة مرة، قيل: يا رسول الله، من يدخلها؟ قال: أعد للقراء المرائين بأعمالهم". وزاد ابن ماجة: "وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزولون الأمراء"، قال المحاربي: يعني: الجورة. قوله: (فما معنى "ثم"): أتى في السؤال بالفاء للإنكار، يعني: فهم من قولك: "ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم": أن "ثم" ها هنا واقعة موقع الفاء السببية، لأن المعنى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، لأنكم إن ركنتم إلى الظلمة، فإن الله يعذبكم بالنار بأن يسلطها عليكم، فتمسكم، والحال أن لا ناصر سواه ليخلصكم منها، وهو لا ينصركم، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم، فإذن لا تنصرون البتة، فلم جاء بـ "ثم" دون الفاء؟

(طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وساعاتٍ من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه، وصلاة الغدوة: الفجر. وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأنّ ما بعد الزوال عشىّ. وصلاة الزلف: المغرب والعشاء. وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف، لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار وأوله وآخره، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. ونحوه (وَأَطْرافَ النَّهارِ) [طه: 130]. وقرئ: "وزلفاً" بضمتين. "وزلُفا"، بسكون اللام. وزلفى: بوزن قربى. فالزلف: جمع زلفة، كظلم في ظلمة. والزلف بالسكون: نحو بسرة وبسر. والزلف بضمتين نحو بُسُر في بُسَر. والزلفى بمعنى الزلفة، كما أن القربى بمعنى القربة: وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل: (وزلفا من الليل): وقرباً من الليل، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على (الصلاة)، أي: أقم الصلاة طرفى النهار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: ليفيد معنى الاستبعاد مع استيجاب العذاب الذي يعطيه الفاء، قال القاضي: " (ثُمَّ) نزلت منزلة الفاء، فإنه تعالى لما بين أنه معذبهم، وأن غيره لا يقدر على نصرهم، أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلاً". قوله: ((وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ): وقرباً من الليل)، الجوهري: "الزلفى: القربة والمنزلة، ومنه قوله تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) [سبأ: 37]، وهي اسم المصدر، كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا ازدلافاً، وازدلفوا: تقدموا، والزلفة: الطائفة من الليل، والجمع: زلف".

وأقم زلفا من الليل، على معنى: وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فيه وجهان، أحدهما: أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات، وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر» والثاني: إن الحسنات يذهبن السيئات، بأن يكن لطفاً في تركها، كقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]. وقيل: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إن في البيت أجود من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحقها على هذا التفسير أن تعطف على (الصَّلاةَ)، لأن معنى "قرباً من الليل": يتقرب إلى الله في بعض الليل، بأن تصلى صلاة التهجد، فتعطف على (الصَّلاةَ)، وهي الصلاة في طرفي النهار، لتجتمع صلاة النهار وصلاة الليل. قوله: (وفي الحديث: "إن الصلاة إلى الصلاة"): والرواية: أن عثمان دعا بطهور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله"، أخرجه البخاري ومسلم مع اختلاف. قوله: (بأن يكن لطفاً في تركها): لأن الصلاة الحقيقية هي أن تكون زاجرة عن ارتكاب المنكرات والفواحش، وإلا فتكون قاضية على صاحبها، قال ابن عباس: "من لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً". قوله: (أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري): الصحيح في "جامع الأصول": "هو أبو اليسر

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتظر أمر ربي، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال: نعم، اذهب فإنها كفارة لما عملت. وروي: أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال: استر على نفسك وتب إلى الله، فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فقال عمر: أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (فَاسْتَقِمْ) فما بعده (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين. [(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)]. ثم كرّ إلى التذكير بالصبر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - بفتح السين- كعب بن عمرو الأنصاري"، وفي "الاستيعاب": "كعب بن عمرو بن عباد، ويقال: كعب بن عمرو بن مالك". الحديث: أخرجه الترمذي عنه مع اختلاف وزيادات على ما رواه المصنف، والحديث ينصر القول الأول. قوله: (ثم كر إلى التذكير بالصبر): يعني: رجع إلى تذكير ما بدئ به ضمناً، وهو قوله: (وَاصْبِرْ)، لأن المذكور أولاً- وهو قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) إلى قوله:

بعدما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال: وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به. (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) جاء بما هو مشتملٌ على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات. [(فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) - كان مشتملاً على المعاني التي لا تتم ولا تكمل إلا بالصبر، فصرح به بعدما ذكر ضمناً؛ للدلالة على أن الصبر ملاك الكل، ولا يتم شيء منه إلا به. قوله: (بعدما جاء بما هو خاتمة للتذكير): أي: جاء بقوله: (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) تذييلاً لمجموع قوله: (فَاسْتَقِمْ) إلى قوله: (يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فذلكة له، على منوال قوله: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]، ثم علل كلاً من التذييل والمذيل بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ترغيباً وتحريضاً، وجاء بما هو أعم العام، لأن المحسن من لم يخل بما يدخل تحت مسمى الإحسان، فيدخل فيه دخولاً أولياً. قال القاضي: " (الْمُحْسِنِينَ) عدول من المضمر؛ ليكون كالبرهان على المقصود، ودليلاً على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص"، ولمح به إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

(فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل: كل «لولا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات (لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) [القلم: 49]، (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) [الفتح: 25]، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) [الإسراء: 74]. (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أو لو فضل وخير. وسمي الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلاً في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، وبه فسر بيت "الحماسة": إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَاتِينِى بَقِيَّتُكُمْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا التي في الصافات): وهي قوله تعالى: (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 57]. قوله: (فصار مثلاً في الجودة والفضل): أي: اشتهر معنى الكناية، وسار مسير الأمثال، ويقال: للشيخ بقية، أي: شيء من قوة الشبان. قوله: (إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم): تمامه: فما علي بذنب عندكم فوت يحتمل أن يراد بـ "البقية": خيارهم وأماثلهم، أي: إن تذنبوا ثم يأتيني خياركم يقيمون معذرة أنفسهم، وأنهم لم يساعدوكم، فما علي بجزاء ذنب فوت، وما يلحقكم من لائمة وعيب، وأن يراد: بقيتكم الذين لم يذنبوا، أي: يأتوني معتذرين بأنهم فارقوكم لعظيم جنايتكم، فلا تفوتني مؤاخذتكم.

ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون "البقية" بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى، أى: فهلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرئ: "أولو بقية"، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه: «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم» والبقية المرّة من مصدره. والمعنى: فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أولو بقية"): قال أبو البقاء: "الجمهور على تشديد الياء، وهو الأصل، وقرئ بتخفيفها، وهو مصدر بقي يبقى بقية، كلقيته لقية، فيجوز أن يكون على بابه، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى: فعيل، وهو بمعنى فاعل". قوله: ("بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم"): روينا عن أبي داود عن معاذ بن جبل قال: "بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تأخر لصلاة العتمة، حتى ظن الظان أنه ليس بخارج، فإنا كذلك إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له كما قالوا، فقال: أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، لم تصلها أمة قبلكم". "بقينا": بفتح الباء والقاف، أي: انتظرنا، والاسم منه: البقوى، قلبت الياء واواً، وكذلك كل "فعلى" اسماً، كالتقوى والشروى، وإذا كانت صفة لم تقلب، نحو: امرأة صديا وخزيا. قوله: (كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم): بيان لتفسير "أولو مراقبة" بقوله: "وخشية"، فإن المراقب للشيء ينتظر وقوع ما يترقبه، كما أن الخاشي يشفق عما ينتظر وقوعه من المكروه.

(إِلَّا قَلِيلًا) استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهى. و"مِنَ" في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأعراف: 165]. فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: إن جعلته متصلاً على ما عليه ظاهر الكلام، كان المعنى فاسداً، لأنه يكون تخصيصاً لأولي البقية على النهي عن الفساد، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلاً، كان استثناء متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"من"- في (مِمَّنْ أَنْجَيْنَا) - حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض): وذلك أن البيان والمبين شيء واحد، كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) [الحج: 30]، فالقليل إذن هم الناجون، ولهذا علله بقوله: "لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم"، أي: دون غيرهم، وأما إذا حمل "من" على التبعيض كان (مِمَّنْ أَنْجَيْنَا) بدلاً من (قَلِيلاً)، فيلزم أن يكون الناهون بعض الناجين، وهو فاسد. قوله: (على ما عليه ظاهر الكلام): واعلم أن حروف التحضيض تفيد مع الماضي معنى التنديم، ومع المضارع تتخلص للتحضيض، فإذا حمل على ظاهره في هذا المقام، كما يقال: ليتهم كانوا ينهون عن الفساد إلا قليلاً منهم فإنهم لم ينهوا، فسد المعنى، وأما إذا جعل كلمة التحضيض للإنكار لتولد معنى النفي، كما يقال: ما كان أولو بقية إلا قليلاً، صح المعنى واستقام، لكن المختار الرفع في "قليل"، ومن ثم قال: "وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل".

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أراد بـ"الذين ظلموا": تاركي النهي عن المنكرات، أي: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو- في رواية الجعفي-: "وأُتبِعَ الذين ظلموا"، يعني: واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة: أنهم أتبعوا جزاء إترافهم، وهذا معنى قويّ لتقدم الإنجاء، كأنه قيل: إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ أبو عمرو): وهي شاذة. قوله: (معنى قوي لتقدم الإنجاء): أي: النظم يستدعي هذا، لأن بعد تقدم الإنجاء للناهين المناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، كأنه قيل: وأنجينا القليل واتبع الذين ظلموا جزاءهم، أي: هلكوا، فيكون وصول الجزاء إلى الكثير في مقابلة إنجاء القليل، ولم يفتقر إلى تقدير معطوف عليه، لقوله: (وَاتَّبَعَ)، لأن الواو حينئذ للحال، وإليه الإشارة بقوله: "الواو للحال"، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. وعلى الأول: "واتبعوا" عطف على "نهوا" مقدراً، كما سيجيء في جواب السؤال. فإن قلت: قدر المعطوف عليه أولاً غير ما ذكر في الجواب، حيث قال: "لم يهتموا بما هو ركن عظيم في الدين، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم" إلى آخره، لأنه عطفه على "عقدوا" أو "لم يهتموا"؟

فإن قلت: علام عطف قوله (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟ قلت: إن كان معناه: واتبعوا الشهوات، كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت: فقوله (وَكانُوا مُجْرِمِينَ)؟ قلت: على (أترفوا) أي: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: على هذا التقدير لابد من إضمار "نهوا" وهذه المذكورات أيضاً، لأن قوله: "واتبعوا الشهوات" مستدع لذلك، أي: أنهم تركوا متابعة أضدادها، وهي دليل الهدى والاهتمام بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة في هذا المقام، واستمروا على ضلالهم في متابعة الهوى، فإذن يضمر بعد الاستثناء "نهوا" ليعطف عليه، كأنه قيل: ما كانوا ينهون عن الفساد، لكن القليل منهم نهوا فنجوا، والباقون ما اهتموا به، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا التترف فهلكوا، فوضع موضع "الباقين": (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ليؤذن بأن سبب ترك النهي عن المنكر انهماكهم في الشهوات واشتغالهم بحب الجاه والرئاسة، وأن ذلك ظلم عظيم يستأهل صاحبه النكال الشديد، وفيه أن "حب الدنيا رأس كل خطيئة". قوله: (فقوله: (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)): أي: فعلى أي شيء يعطف قوله: (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ). قوله: (أي: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأن

لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بـ"الإجرام" إغفالهم للشكر. أو على "اتبعوا"، أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون. [(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)]. (كانَ) بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. و (بِظُلْمٍ) حال من الفاعل، والمعنى: واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها (وَأَهْلُها) قوم (مُصْلِحُونَ) تنزيها لذاته عن الظلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ما"- في (مَا أُتْرِفُوا) - موصولة لا مصدرية؛ لعود الضمير من (فِيهِ) إليه، فكيف يقدر "كانوا" مصدراً، إلا أن يقال: رجع الضمير من (فِيهِ) إلى الظلم، بدلالة (ظَلَمُوا). قوله: (لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام): تعليل، لأن العطف تفسيري، وأن معنى الإتراف هو كونهم مجرمين، وهذا الجواب مبني على أن (وَاتَّبَعَ) حال، وهو إنما يحسن إذا قدر مضافاً، فكأنه قيل: واتبعوا جزاء آثامهم، وعلى هذا: "إذا أريد بـ "الإجرام": إغفالهم للشكر"، أي: اتبعوا جزاء الإتراف وجزاء كفران النعمة. قوله: (أو على: "اتبعوا"): هذا على أن يكون "اتبعوا" معطوفاً على المقدر، وهذا العطف من باب قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15] على رأي صاحب "المفتاح": عطف، لحصول مضمون الجملتين، وتعويل ترتب الأول على الثاني إلى الذهن، ولذلك قال: "وكانوا مجرمين بذلك". أو تكون الواو استئنافية، أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا قوماً عادتهم الإجرام، فاتبعوا الشهوات لذلك، ولو جعل حالاً من فاعل "اتبعوا"، أي: اتبعوا شهواتهم، والحال أنهم كانوا مجرمين؛ لكان حسناً، والاعتراض أحسن.

وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل: الظلم الشرك، ومعناه: أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر. [(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)]. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّةٍ واحدة أي: ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء: 92]، وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فساداً): قال القاضي: "ذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه، ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد، وقيل: الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم". قوله: (فلذلك قال: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)): أي: فلأجل أن الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه تعالى لم يضطرهم إلى الاتفاق، بل جعلهم متمكنين من الاختيار، قال: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يشير إلى أن المراد بالمشيئة في قوله: (وَلَوْ شَاءَ) مشيئة القسر والإلجاء. والسني يحمل هذه الآية على معنى قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13]، ويقول: لو تعلقت

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) "ذلك" إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه، يعني: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وهي قوله للملائكة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لعلمه بكثرة من يختار الباطل. [(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشيئة الله تعالى باتفاق الناس على دين الحق ما اختلفوا حقاً ولا باطلاً، وحين تعلقت مشيئته بهداية البعض وضلالة البعض؛ بأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، اختلفوا، يدل عليه قوله في هذه الآية: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وتؤيده الأحاديث الواردة في القدر. روى محيي السنة: "عن الحسن وعطاء: وللاختلاف خلقهم. وقال مالك: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. وقال أبو عبيدة: هذا القول أختاره". وقال القاضي: "في الآية دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه". قوله: ((كَلِمَةُ رَبِّكَ) هي قوله للملائكة: (لأَمْلأَنَّ)): يريد: أن المراد بـ "الكلمة": الإخبار، كما قال تعالى في الأنعام: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [الأنعام: 115]، أي: ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد، فر من إثبات العلم الأزلي، وجف القلم بما هو كائن، الذي

(وَكُلًّا) التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) و (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) بيان لـ"كل"، و (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بدل من "كلا". ويجوز أن يكون المعنى: كل واقتصاص نقصّ عليك، على معنى: وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك، يعني: على الأساليب المختلفة، (وما نُثَبِّتُ بِهِ) مفعول (نقصّ). ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستتبع الكائنات إلى تحقيقه، وجعل العلم تابعاً للمعلوم، حيث قال: "لعلمه بكثرة من يختار الباطل". قوله: (و (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) بدل من "كلا"): أي: نقص عليك من كل نبأ من أنباء الرسل، ث نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل، قال أبو البقاء: " (كلاً): منصوب بـ (نَقُصُّ)، و (مِنْ أَنْبَاءِ) صفة لـ (كلاً)، و (مَا نُثَبِّتُ بِهِ) بدل من (كلاً) ". قوله: (وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص): فعلى هذا: (مِنْ أَنْبَاءِ) حال من المفعول، وهو (مَا نُثَبِّتُ)، و"كلاً" منصوب على المصدر، أي: نقص ما نثبت به فؤادك كائناً من أنباء الرسل كل نوع من أنواع الاقتصاص، قال أبو البقاء: "يجوز أن يكون (مَا نُثَبِّتُ) مفعول (نَقُصُّ)، و"كلاً" حال من (مَا)، أو من الهاء عند من أجاز تقديم الحال من المجرور". وعليه قال القاضي: "يجوز أن يكون "كلاً" مصدراً".

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ) أي: في هذه السورة. أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من أهل مكة وغيرهم (اعْمَلُوا) على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها (إِنَّا عامِلُونَ). (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم. [(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)]. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه خافية مما يجرى فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك وكافلك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) أي: في هذه السورة) على آخره: إشارة إلى أن هذه الآية فذلكة لتفاصيل السورة، كما أسلفناه في قوله: (فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [هود: 13]، وأن السورة إلى خاتمتها تسلية لقلب الحبيب صلوات الله عليه. قوله: (فلابد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك): يريد: أن هذه الكلمة جامعة، فيدخل فيها تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد الكفار، والانتقام منهم، دخولاً أولياً. الراغب: "الأمر: الشأن، وجمعه: أمور، ومصدر "أمرته"؛ إذا كلفته شيئاً، وهو لفظ عام للأقوال والأفعال كلها، وعلى ذلك: إليه يرجع الأمر كله، (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)

وقرئ: (تعملون)، بالتاء: أي: أنت وهم على تغليب المخاطب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة هودٍ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [آل عمران: 154]، ويقال للإبداع: أمر، نحو: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54]، وقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: 40] إشارة إلى إبداعه، وعبر عنه بأقصر لفظ وأبلغ ما يتقدم فيه فيما بيننا، ومنه قوله: (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ) [القمر: 50]، والأمر: التقدم بالشيء، سواء كان بقولهم: افعل، أو: لتفعل، أو: بلفظ الخبر؛ نحو: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة: 228]، وقوله: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود: 97] عام في أقواله وأفعاله، وقيل: أمر القوم؛ إذا كثروا، لأن القوم إذا كثروا صاروا ذا أمير، من حيث إنه لابد من سائس يسوسهم". قوله: (وقرئ: (تَعْمَلُونَ) بالتاء) الفوقانية: نافع وابن عامر وحفص، والله أعلم.

سورة يوسف عليه السلام

سورة يوسف عليه السلام مكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)]. (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة، و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) السورة؛ أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة يوسف عليه السلام مكية، وهي مئة وإحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة)، إشارة إلى أن (تِلْكَ) مبتدأ، والمشار إليه ما في ذهن المخاطب، قال ابن الحاجب: "المشار إليه لا يشترط أن يكون موجوداً

أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حاضراً، بل يكفي أن يكون موجوداً ذهناً"، فقوله: "أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة" إشارة إلى المتصور، وقوله: "آيات السورة الظاهر أمرها" هو المذكور في التنزيل الواقع خبراً لاسم الإشارة الذي المشار إليه به ما في الذهن، قال المصنف في قوله: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78]: "تصور فراق بينهما عند حلول الميعاد، فأشار إليه، وجعله مبتدأ، وأخبر عنه". قوله: (أو: قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود)، الجوهري: "بان الشيء بياناً: اتضح، فهو بين، وكذلك أبان الشيء فهو مبين، وأبنته أنا، أي: أوضحته، يتعدى ولا يتعدى". فـ (الْمُبِينِ) ها هنا: يحتمل أن يكون من اللازم ومن المتعدي، وإذا حمل على الأول يحتمل وجهين؛ لأن ظهورها: إما بحسب الألفاظ من كونها معجزاً ظاهر الإعجاز، لا يخفى على أرباب البلاغة أن البشر لا تطيق الإتيان بمثلها، كقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة: 24]، فهو المراد من قوله: "الظاهر أمرها في إعجاز العرب"، أو بحسب المعاني، كقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وإليه الإشارة بقوله: "لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم". وإذا حمل على الثاني يحتمل وجهين أيضاً: أحدهما: أنها من الظهور والبيان بمنزلة المبين والمفسر، حيث تحمل التدبر على التقدير، كقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82]، وهو الذي عناه بقوله: "التي

(أَنْزَلْناهُ) أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تبين لمن تدبرها أنها من عند الله، لا من عند البشر". وثانيهما: مبين من جهة أن الله تعالى أبان فيها وأوضح مطلوب اليهود، وإليه الإشارة بقوله: "أبين فيها ما سألت عنه اليهود"، فعلى هذا هو من الإسناد المجازي، وإنما حمله على الاختلاف وترك الاتساق- وإن لم يجمع بين المتعديين واللازمين- أن الوجهين الأولين محمولان على معنى الكمال، بحيث لا يوجد في غيره من الكتب، ولا كذلك الوجهان الأخيران. قوله: (في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيّاً))، قال أبو البقاء: "فيه وجهان: أحدهما: أنه توطئة للحال التي هي (عَرَبِيّاً)، والثاني: أنه حال، وهو مصدر في موضع المفعول، أي: مجموعاً ومجتمعاً". وقلت: معنى التوطئة أنها تنبئ أن ما بعدها حال ومقصود بالذكر، لا أنها في نفسها حال، لأنها لا تدل حينئذ على الهيئة، قال الزجاج في قوله تعالى: (لِسَاناً عَرَبِيّاً): "هو منصوب على الحال. المعنى: مصدقاً لما بين يديه عربياً، وذكر (لِسَاناً) توكيداً، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً، وتذكر "رجلاً" توكيداً".

وسمي بعض القرآن قرآناً، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم؛ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت: 44]. "الْقَصَصِ" على وجهين: يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص، تقول: قصّ الحديث يقصه قصصاً، كقولك: شله يشله شللاً، إذا طرده. ويكون «فعلاً» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصيد. وإن أريد المصدر، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن القصص (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي: بإيحائنا إليك هذه السورة، على أن يكون (أحسن) منصوباً نصب المصدر، لإضافته إليه، ويكون المقصوص محذوفاً، لأنّ قوله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) مغن عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سمي بعض القرآن قرآناً)، أي: (قُرْآناً) - في (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً) - المراد به السورة، لقوله: "أنزلنا هذا الكتاب"، وسبق أن المراد منه السورة. قوله: (إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه)، قال القاضي: "أن تفهموه وتستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء". وفي التفسيرين خلاف؛ يظهر الفرق من تفسير "مبين" كما سبق، لأن تفسير القاضي موافق للوجه الأول والثاني، وتفسيره للوجه الثالث. قوله: (ويكون المقصوص محذوفاً)، أي: مفعول (نَقُصُّ) محذوف لدلالة (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، التقدير: نقص الموحى أحسن القصص.

ويجوز أن ينتصب (هذا القرآن) بـ (نقصّ)، كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك. والمراد بـ"أحسن الاقتصاص": أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ؟ ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن؟ وإن أريد بـ (القصص): المقصوص، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن ينتصب (هَذَا الْقُرْآنُ) بـ (نَقُصُّ))، والفرق بين هذا والأول: هو أن على الأول مفعول (نَقُصُّ) محذوف، ومفعول (أَوْحَيْنَا): (هَذَا الْقُرْآنُ)، وعلى هذا بالعكس، والمعنى على هذا: نحن نقص عليك هذا القرآن- أي: قصة يوسف- بواسطة الإيحاء أحسن الاقتصاص، وعلى الأول: نحن نقص عليك قصة يوسف بواسطة إيحاء هذا القرآن المعجز الباهر تبيانه القاهر سلطانه أحسن الاقتصاص، وهذا أبلغ، ويكون المصدر مؤكداً. قوله: (وإن أريد بـ (الْقَصَصِ))، معطوف على قوله: "فإن أريد المصدر فمعناه". قوله: (وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت)، قال محيي السنة: "والفوائد التي تصلح للدين والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء، ومكر النساء، وقصص الرؤيا، والصبر على أذى الأعداء، والتجاوز عنهم بعد الاقتدار، وغير ذلك".

والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، كما يقال في الرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه. فإن قلت: ممّ اشتقاق "القصص"؟ قلت: من قصّ أثره إذا اتبعه، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآن، إذا قرأه، لأنه يتلو أي: يتبع ما حفظ منه آية بعد آية. (وَإِنْ كُنْتَ): "إن" مخففة من الثقيلة. واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية. والضمير في (قَبْلِهِ) راجع إلى قوله: (بما أوحينا). والمعنى: وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أى: من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه. [(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه)، المعنى: أن قصة يوسف في الاقتصاص أحسن من سائر الأقاصيص فيه، فلا يلزم أن تكون قصته أحسن من قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه أحسن اقتصاصاً لأنها اقتصت على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. قوله: (مم اشتقاق "القصص"؟ )، أي: من أي معنى اشتق "القصص"، وما المنقول منه؟ وإلا فقد بين اشتقاقه فيما سبق حيث قال: "قص الحديث يقصه قصصاً". قوله: (من الجاهلين به)، هذه كبوة منه توهم أن الغافل عن الشيء هو الجاهل به، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يطلق عليه اسم الجاهل ويخاطب به أبداً، قال القاضي: " (لَمِنْ الْغَافِلِينَ) عن هذه القصة؛ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، وهو تعليل لكونه موحى".

(إِذْ قالَ يُوسُفُ) بدل من (أحسن القصص)، وهو من بدل الاشتمال، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قصَّ وقته فقد قص. أو بإضمار «اذكر». ويوسف اسم عبراني، وقيل عربى وليس بصحيح، لأنه لو كان عربياً لا نصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف. فإن قلت: فما تقول فيمن قرأ «يوسِف» بكسر السين، أو «يوسَف» بفتحها، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربي» لأنه على وزن المضارع المبنى للفاعل أو المفعول من آسف. وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت: لا، لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة، على أن الكلمة أعجمية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعاً، وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه، قيل للمخاطب: كنت من هذا غافلاً، يعني: كان يجب عليك أن تفتش عنه وتتوخى في تحصيله. الراغب: "الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وأرض غفل: لا منار بها، وإغفال الكتاب: تركه غير معجم، قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) [الكهف: 28]، أي: جعلناه غافلاً عن الحقائق، أو تركناه غير مكتوب فيه الإيمان، كما قال: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ) [المجادلة: 22] ". قوله: (وهو المقصوص)، وإنما خصه، وقد ذكر أيضاً أنه يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص، لأن زمان الاقتصاص زمان ما قص على النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي إليه، وزمان قول يوسف منقرض غير مشتمل على أحسن الاقتصاص، فلا يصلح البدل، فهو على هذا معمول "اذكر".

فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى، ونحو يوسف: يونس، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربى لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا قيل: من الكريم؟ فقولوا: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». (يا أَبَتِ) قرئ بالحركات الثلاث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكريم ابن الكريم)، الحديث: رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. قوله: ((يَا أَبَتِ) قرئ بالحركات الثلاث)، ابن عامر: بفتح التاء، والباقون: بكسرها، والضم: شاذ.

فإن قلت: ما هذه التاء؟ قلت: تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تاء التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة)، قال الزجاج: " (يَا أَبَتِ) بكسر التاء على الإضافة إلى نفسه، وحذف ياء الإضافة شائع في النداء، وأما إدخال تاء التأنيث فيختص بالأب والأم، والمذكر يوصف بما فيه تاء التأنيث، نحو: غلام يفعة، ورجل ربعة، والتاء إنما كسرت ولزمت في الأب عوضاً من ياء الإضافة، والوقف عليه: يا أبه، وزعم الفراء أنك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير، وإذا فتحت وقفت بالهاء والتاء، ولا فرق بين الكسر والفتح، وأما الرفع فضعيف، لأن الهاء بدل من ياء الإضافة". قوله: (قلبها هاء)، أي: لو كانت أصلية لبقيت ياء خالصة في الوقف، ولم تقل: يا أبه، كما في الثبت، وهو الحجة، وقرأ: "يا أبه"- بالهاء في الوقف- ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. قوله: (ربعة)، الجوهري: "أي: مربوع الخلق، لا طويل ولا قصير، وامرأة ربعة، وجمعها ربعات"، "وأيفع الغلام: ارتفع، وغلام يافع ويفعة، وغلمان أيفاع ويفعة".

فإن قلت: فما هذه الكسرة؟ قلت: هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك: يا أبى، قد زحلقت إلى التاء، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحاً. فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها، لأنها اسم، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً، لأنها حرف لين. وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتى» لا يجوز «يا أبت». قلت الياء والكسرة قبلها شيئان والتاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: فقد دلت الكسرة في "يا غلام" على الإضافة، لأنها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوّضة لغو: وجودها كعدمها؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (زحلقت)، الجوهري: "الزحلقة: كالدحرجة والدفع، يقال: زحلقته فتزحلق". قوله: (بالفتحة التي اقتضتها التاء)، وهي الفتحة التي قبل التاء في مثل طلحة وحمزة، أي: إذا اقتضت التاء فتح ما قبلها كان القياس أن يسقط هذا الاقتضاء تلك الكسرة، لوجود ما يقتضي عدمها، إلا أن تزحلق إلى التاء، لأنها اسم، قيل: ليست باسم، وإنما هي عوض من الاسم، فأجريت مجراه. قوله: (وجودها كعدمها)، لأن الكسرة لما دلت على الياء، فأي حاجة إلى ذكر التاء.

قلت: بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبي. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت: أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ويجوز أن يقال: حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبي». وأما من ضم فقد رأي: اسماً في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال: «يا أبت» كما تقول «يا ثبة» من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الاضافة. وقرئ: "إني رأيت"، بتحريك الياء. "وأحد عشر" بسكون العين، تخفيفاً لتوالي المتحركات فيما هو في حتم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثني عشر، لئلا يلتقي ساكنان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بل حالها مع التاء كحالها مع الياء)، يعني: الكسرة على التاء ليست كالكسرة على الميم في "يا غلام"، وإنما هي كالكسرة في "يا غلامي" مع الياء. قوله: (يا ثبة)، الجوهري: "الثبة: الجماعة، وأصلها ثبي، والجمع ثبات وثبون وأثابي. قوله: (و"أحد عشر" بسكون العين)، قال ابن جني: "قرأها أبو جعفر ونافع- بخلاف- وطلحة بن سليمان، والسبب أن الاسمين لما جعلا كالاسم الواحد، وبني الاسم الأول منهما لأنه كصدر الاسم، والثاني منهما لتضمنه معنى حرف العطف، لم يجز الوقف على الأول، لأنه كصدر الاسم من عجزه، فجعل تسكين أول الثاني دليلاً على أنهما قد صارا كالاسم الواحد، وكذلك البقية إلى "تسعة عشر"، إلا "اثنا عشر" و"اثني عشر"، فإنه لا يسكن لسكون الألف والياء قبلها، ومما يدل على أن الاسمين إذا أجريا مجرى الاسم الواحد

و (رأيت) من الرؤيا، لا من الرؤية، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام، لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آيةً عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت: ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت: روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن النجوم التي رآهنّ يوسف، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم»؟ قال: نعم. قال: «جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ. ووثاب، وذو الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له» فقال: اليهودي: أي والله، إنها لأسماؤها. وقيل: الشمس والقمر أبواه. وقيل: أبوه وخالته، والكواكب: إخوته. وعن وهبٍ: أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصاً صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنةً. وقيل: ثمانون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عوملا معاملته: ما حكاه أبو عمرو الشيباني من قولهم في حضرموت: حضرموت- بضم الميم-؛ ليكون كعنكبوت".

فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما ليعطفهما على "الكواكب" على طريق الاختصاص، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على عيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على طريق الاختصاص بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية)، وكان من حق الظاهر تقديم "الشمس والقمر" على "الكوكب" بعد إخراجهما من الجنس؛ تقديماً للفاضل على المفضول، كقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف: 54]، لكن خولف هذا الاعتبار بتأخرهما؛ قصداً إلى تغايرهما مطلقاً، وإخراجهما من الجنس رأساً، بحيث لا مناسبة بينهما، كتقديم الفاضل على المفضول. فإن قلت: ما نحن بصدده ليس من قبيل: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [البقرة: 98]، لأنه من عطف الخاص على العام، لأنهما داخلان في الملائكة، بخلافه ها هنا؟ قلت: يكفي في التشبيه بالفضل والاختصاص تأخيرهما وإخراجهما من جنس الكوكب، وجعلهما مغايرين لها بالعطف، وهو المراد من قوله: "كما أخر"، وقوله: "ثم عطفهما عليها". فإن قلت: فما فائدة العدول، ولمَ لم يقل: إني رأيت الكوكب والشمس والقمر؛ ليوازي تلك الآية؟ قلت: القصد الأولي في تلك الآية ذكر جبريل وميكائيل، كما دل عليه سبب النزول، وذكر الملائكة للتوطئة والتمهيد، بخلافه ها هنا، فسلك به مسلكاً علم منه المقصود، وأدمج التفضيل والاختصاص، وفيه إشارة إلى أن الآخرة مع تلك الهنات ما سلب عنهم نور الولاية والنبوة.

ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"، أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن تكون "الواو" بمعنى: مع)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لاتفاقهم على أن "عمراً" في "ضربت زيداً وعمراً" ليس مفعولاً معه. ويجاب: أنا لمعني بقوله: "بمعنى: مع" ليس أنه مفعول معه، فإن سؤاله: "لم أخر "الشمس والقمر"؟ ". ومعناه: كيف أخرهما وموضع التقديم ظاهر. وأجاب بجوابين: أحدهما: فيه التزام التأخير لإفادة المبالغة في التغاير، وثانيهما: أن "الواو" لا توجب الترتيب، لأن مقتضاها الجمعية، لأنها بمعنى: مع، كأنه قيل: رأيت الشمس والقمر والكواكب دفعة واحدة. يؤيده قوله في تفسير: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) [المائدة: 36]: "إنما وحد الراجع في "به"، لأن الواو بمعنى: "مع"، فيتوحد المرجوع إليه"، وقوله بعيد هذا: " (يَخْلُ لَكُمْ) إما مجزوم بإضمار "إن"، والواو بمعنى: "مع"، كقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) ". قال شارح "الهادي": الواو تدل على الجمع المطلق، ودلالتها على الجمع أقوى من دلالتها على العطف، فإنها قد تعرى عن معنى العطف، ولا تعرى من معنى الجمع، فإن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واو القسم وواو الحال بمعنى "مع"، ولا تفيد العطف، وتفيد الجمع، لأنها في القسم نائبة عن الباء، والباء للإلصاق، والحال مصاحبة لذي الحال، والواو في المختلفين بمنزلة التثنية والجمع في المتفقين إذا لم يمكنهم التثنية والجمع في المختلفين، فعدلوا إلى الواو. وتلخيص الجوابين يرجع إلى ما قاله في سورة النمل: "فإن قلت: ما الفرق بين هذا- أي: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل: 1]- وبين قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) [الحجر: 1]؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية، لا يترجح جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، والأول نحو قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ) (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً)، والثاني نحو قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) [آل عمران: 18] ". ونقل عن تلميذ ابن الحاجب أنه قال: ظاهر كلام الزمخشري لا يشترط في المفعول معه مصاحبة الفاعل، والحد المذكور في "الكافية" لا يمنع من مصاحبة المفعول، ونقل المالكي عن سيبويه أنه قال بعد تمثيله بـ "ما صنعت وأباك" و"لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها"، فـ "الفصيل" مفعول معه، و"الأب" كذلك. وقال المالكي أيضاً: ويترجح

فإن قلت: ما معنى تكرار (رأيت)؟ قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً): كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها؟ فقال (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). فإن قلت. فلم أجريت مجرى العقلاء في (رأيتهم لي ساجدين)؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن، فلو خيف به فوات ما تصرفوا به رجح النصب على المعية. كذلك ها هنا رجحنا المعية على العطف لتوخي حصول الأفضلية ليترجح معنى الآية إلى معنى قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69]. قوله: (أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة)، قال الزجاج: "إذا جعل الله غير المميز كالمميز كذلك تكون أفعالها وآثارها، وأما (سَاجِدِينَ) فحقيقته فعل كل من يعقل، فإذا وصف به غيرهم فقد دخل في المميزين، وصار الإخبار عنهم كالإخبار عنهم". قوله: (أن يلابس الشيءُ الشيء)، قيل: هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن يلابس، والجملة بيان لقوله: "هذا كثير في كلامهم".

[(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)]. عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم. والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفى التأنيث كما قيل: القربة والقربى. وقرئ: "روياك" بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي: "رُيَّاك" و"رِيَّاك" بالإدغام وضم الراء وكسرها، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والرؤيا: بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام)، قال أبو علي: "الرؤيا: مصدر كالبشرى والسقيا والبقيا، إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء، وخرج عن حكم الإعمال، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها على "رؤى"، فصار بمنزلة "ظلم"، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر"، وسيجيء الكلام في حقيقة "الرؤيا" بعيد هذا. قوله: (وقرئ: "روياك" بقلب الهمزة واواً)، قال أبو البقاء: "الجمهور أن الأصل الهمز، وقرئ بواو مكانها، لانضمام ما قبلها، ومنهم من يدغم، فيقول: رياك، فأجرى المخففة مجرى الأصلية، ومنهم من يكسر الراء لتناسب الياء".

وهي ضعيفة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار، و «اتجر» من الأجر. (فَيَكِيدُوا) منصوب بإضمار «أن» والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك. فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك، كما قيل: (فكيدوني) [هود: 55]؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر. (عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]، فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ، ليورّط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الاجتباء (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) يعني: وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام. وقوله (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك. والاجتباء. الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض: جمعته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي ضعيفة)، قال أبو علي: "فإن خففت قلت: "الرويا"، قلبتها ولم تدغم الواو في الياء، وإن كانت قد تقدمتها ساكنة، لأن الواو في تقدير الهمزة، فهي كذلك غير لازمة، وإذا لم يلزم لم يقع الاعتداد بها، فلم تدغم، كما لم تقلب الأولى في (وُورِيَ عَنْهُمَا) [الأعراف: 20] لما كانت الثانية غير لازمة، ومن ثم جاز "ضو" و"شيٌ"، فبقي الاسم على حرفين؛ أحدهما حرف لين، وجاز تحرك حرف اللين وتصحيحه مع انفتاح ما قبله، لأن الهمزة في تقدير الثبات".

والأحاديث: الرؤيا: لأنّ الرؤيا إمّا حديث نفس أو ملك أو شيطان. وتأويلها. عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم عبارة لها. ويجوز أن يراد بـ (تأويل الأحاديث): معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد بـ (تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ) معاني كتب الله وسنن الأنبياء)، فعلى هذا فيه إشارة إلى أن العلم أجل النعم، وأشرف العلوم: تأويل كتاب الله عز وجل. الراغب: "التأويل: من الأول، وهو الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه؛ علماً كان أو فعلاً، ففي العلم قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران: 7]، وفي الفعل قول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ) [الأعراف: 53] أي: بيانه الذي هو غايته المقصودة منه، والأول: السياسة التي يرعى مآلها، يقال: ألنا وإيل علينا".

يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث، لأنه يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 185]، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23]، وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة؟ ومعنى إتمام النعمة عليهم: أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل: أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد. وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل: علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال: (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو اسم جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة)، وقال في موضع آخر: "الأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه: أحاديث الرسول، وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً"، وقد يظن أنه ناقض؛ لأنه قال في "المفصل": "وقد يجيء الجمع مبنياً على غير واحده المستعمل، وذلك نحو: أراهط وأباطيل وأحاديث". قال الفراء: ترى أن واحد "الأحاديث": أحدوثة، ثم جعلوه جمعاً للحديث. وقال علم الدين السجاوندي في "شرح المفصل": كأنهم جمعوا "حديثاً" على "أحدثة"، ثم جمعوا الجمع على "أحاديث"، كقطيع وأقطعة وأقاطيع، فعلى هذا يصح أن يقال: وهو مبني على واحدة المستعمل.

وقيل: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضي أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه. وقيل: كان يعقوب مؤثرا له بزيادة المحبة والشفقة لصغره، لما يرى فيه من المخايل. وكان إخوته يحسدونه، فلما رأي: الرؤيا ضاعف له المحبة، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل: لما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل. و"آل يعقوب": أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل "آل": أهل، بدليل تصغيره على "أُهَيل"، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال: آل النبي، وآل الملك. ولا يقال: آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من المخايل)، وهي جمع مخيلة، وهي المظنة، وياؤه كياء "معايش". قوله: (هذا أمر مشتت يجمعه الله بلك) بعد دهر طويل)، يعني: أن رؤياك أمر يدل على تشتيت أمرك أولاً، ثم يجمع الله من شتاتك بعد دهر طويل، الجوهري: "الحمد لله الذي جمعنا من شت"، ودلالته عليه لأن سجود إخوته مع بغضهم إياه وحسدهم أمر بعيد، وكونه مسجوداً لأبويه أبعد، وذلك لا يحصل إلا بعد ضربات الدهر وشتات الأمور وتقلبات الأحوال.

وأراد بـ"الأبوين": الجد، وأبا الجد، لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون: ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدّة. و(إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيانٍ لـ (أبويك)، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) يعلم من يحق له الاجتباء (حَكِيمٌ) لا يتم نعمته إلا على من يستحقها. [(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)]. (فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي: في قصتهم وحديثهم (آياتٌ) علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل: آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب. وقرئ: "آية"، وفي بعض المصاحف: "عبرة". وقيل: إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغي إخوته عليه، لما رأى من بغى قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم: يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوى، وزبالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر؛ السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين: زلفة، وبلهة: فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للذين سألوه)، الضمير راجع للرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: "من اليهود" بيان "للذين"، والضمير في "عنها" للقصة، هذا مشعر بأن السائلين هم اليهود، وقال في أول السورة: "فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً عن قصة يوسف"، وذلك أنه نزل استدعاءهم المشركين سؤاله منزلة سؤالهم.

[(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)]. (قالوا لَيُوسُفُ) اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه (وَأَخُوهُ) هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوته، لأنّ أمّهما كانت واحدة. وقيل (أَحَبُّ) في الاثنين، لأن "أفعل من" لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من» ولا بد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) واو الحال. يعني: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة: العشرة فصاعداً. وقيل: إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك)، يعني: أن نسبة الضلال إلى أبيهم إن كان مطلقاً، يوهم سوء أدب، لكن مقيد بقرينة الأحوال، كقوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة: 16]، أي: في أمور التجارة، كقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6]، أي: رشداً في طريق التجارة. قوله: (لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور)، الراغب: "العصب: أطناب المفاصل، ولحم عصيب: كثير العصب، والمعصوب: المشدود بالعصب، ثم يقال لكل شد: عصب، نحو قولهم: لأعصبنك عصب السلمة، وفلان شديد العصب، ومعصوب الخلق، أي: مدمج الخلقة، والعصبة: جماعة متعصبة، قال تعالى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص: 76]،

ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن عليّ رضي الله عنه: "ونحن عصبة"، بالنصب. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنباري: هذا كما تقول العرب، إنما العامري عمته؛ أي: يتعهد عمته. [(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف: 14]، أي: مجتمعة الكلام متعاضدة، واعصوصب القوم: صاروا عصباً، والعصابة: ما يعصب بها الرأس والعمامة". قوله: ("ونحن عصبة" بالنصب)، الانتصاف: "هذا يؤيد قراءة من قرأ: "هن أطهر لكم"، كأنه قال: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن نَحْن، كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري فلا بعد لحذف الخبر لمساواته المبتدأ، فوقع الحال بعده، ومثله: "هؤلاء بناتي هن أطهر لكم"، فقوله: "هن" في حكم الكلام التام، أي: هن المشهورات بالأوصاف الكاملة". قوله: (إنما العامري عمته)، الجوهري: "فلان حسن العمة: أي: حسن الاعتمام، واعتم

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة ما حكى بعد قوله: (إذ قالوا) كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال: (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين (أَرْضاً) أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن: 27]. وقيل: (يَخْلُ لَكُمْ) يفرغ لكم من الشغل بيوسف (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف، أي: من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر (اقتلوا) أو (اطرحوه) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالعمامة وتعمم بها: بمعنى"، يقول: ليس العامري إلا عبارة عن تعهد عمامته واستعماله بما يتزين به، وليس من المكارم في شيء، قال الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي قوله: (وقيل: (يَخْلُ لَكُمْ): يفرغ لكم من الشغل بيوسف)، عطف على قوله: " (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقبل عليكم إقبالة واحدة"، وأما توسيط قوله: "ويجوز أن يراد بـ "الوجه": الذات" بين المعطوف والمعطوف عليه، فللدلالة على أن الوجه الأول محتمل لأن يراد بـ "الوجه": الجارحة المخصوصة، وأن يراد الذات كله؛ إطلاقاً لاسم معظم الشيء على كله، وعلى أن الثاني لا يحتمل غير الذات.

(قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله مما جنيتم عليه. أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم. و (تَكُونُوا) إمّا مجزوم عطفاً على (يَخْلُ لَكُمْ) أو منصوب بإضمار "أن" والواو بمعنى "مع"، كقوله (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) [البقرة: 42]. [(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى التقادير: التركيب من باب الكناية؛ أما بيان الوجه الأول- وهو أن يراد بـ "الوجه" الجارحة-: فإن من أقبل على الشيء بوجهه لا يلتفت إلى الغير، وملزوم ذلك إخلاص المحبة له، وإليه الإشارة بقوله: "والمراد سلامة محبته لهم، وإلى معنى الكناية أشار بقوله: "وكان ذكر "الوجه" لتصوير معنى إقباله عليهم"، وهو كما إذا عبرت عن جود زيد بقولك: "هو كثير الرماد"، وإذا أريد بـ "الوجه" الذات، ويكون كناية عن المحبة، فالأمر على هذا. وأما بيان الوجه الثاني: فإن من تخلى بذاته كله إلى الشيء تفرغ له من الشغل بالغير، وهذا لا يوجب المحبة، وعليه قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) [الرحمن: 31]، قال المصنف: "هو من قول الرجل لمن يهدده: سأفرغ لك؛ يريد: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، حتى لا يكون لي شغل سواه"، والمراد في هذا المقام التوفر على إصلاح أمورهم وانتظام أحوالهم. قوله: (أو: تصلح دنياكم)، عطف على "تائبين إلى الله"، لأن المراد بـ "الصلاح": إما الديني وإما الدنيوي، والديني: إما التوبة إلى الله تعالى أو التحري إلى رضا الوالد، لأنه أيضاً موجب رضا الله. قوله: (كقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ))، يريد قوله تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ

(قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال، (فلن أبرح الأرض) [يوسف: 80]. قال لهم: القتل عظيم (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل: وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِى غَيَابَتِى ... فَسِيرُوا بِسَيْرِى فِى الْعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرئ "غيابات" على الجمع. و"غيابات" بالتشديد. وقرأ الجحدري: غيبة ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) [البقرة: 42]، أي: لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقوله: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، والمعنى: اطرحوه أرضاً ليجتمع لكم إقبال أبيكم عليكم وصلاح أمر دنياكم. قوله: (وقال لهم: القتل عظيم)، وإنما وصفه بالعظم لأن الذي أبدل منه- وهو الإلقاء في الجب- معلل بالالتقاط، ولأنه مؤكد بالشرط، أي: إن كان لابد من أن تفعلوا به ما ترومونه، فهذا، لأنه أهون. قوله: (وإن أنا يوماً غيبتني) البيت، أي: غيابة حفرتي التي أدفن فيها، فسيروا بنعتي في القبائل والعشائر، وقيل: "فسيروا" من السيرة لا من السير، كانت العادة فيهم إذا مات رئيس عظيم الخطر يطوف أحد منهم على القبائل، ويصعد على الروابي، ويقول: أنعى فلاناً، يريدون تشهير أمره، وتعظيم التفجع به. قوله: (قرئ: "غيابات" على الجمع)، نافع في الموضعين، والباقون: على التوحيد. قوله: (و"غيابات" بالتشديد)، قال ابن جني: "وهي قراءة الأعرج، وقرأ الحسن: "في غيبة"، أما "غيابة" فإنه اسم جاء على "فعالة"، وكان أبو علي يضيفه إلى ما حكاه سيبويه

"والجب": البئر لم تطو، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير. (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه (بعض السيارة) بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرئ: "تلتقطه". بالتاء على المعنى، لأنّ بعض السيارة سيارة، كقوله: كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ومنه: ذهبت بعض أصابعه. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الأسماء التي جاءت على "فعال"، كالجبان، والكلاء، والفياد- لذكر البوم-، ووجدت أنا التيار- للموج-، والفخار- للخزف-، وغيرها. وأما "غيبة الجب": فيجوز أن يكون حدثاً فعلة من: غيب، فيكون كقولنا: وظلمة الجب". قوله: (والجب: البئر لم تطو، لأن الأرض تجب جباً)، يعني: إنما سمي البئر من غير المطوي جباً، إذ ليس فيه إلا جب الأرض، فإنه لم يطو بعد. "الأساس": "طوي البناء باللبن، والبئر بالحجارة، وهي الطوي والأطواء". قوله: (كما شرقت صدر القناة من الدم)، مضى شرحه في آل عمران.

[(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَامَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)]. (ما لَكَ لا تَامَنَّا) قرئ بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبالإدغام بإشمام)، قال صاحب "التيسير": "كلهم قرأ (مَا لَكَ لَا تَامَنَّا) بإدغام النون الأولى في الثانية، وإشمامها الضم، وحقيقة الإشمام في ذلك أن يشار بالحركة إلى النون لا بالعضو إليها، فيكون ذلك إخفاء لا إدغاماً صحيحاً، لأن الحركة لا تسكن رأساً، بل يضعف الصوت، فيفصل بين المدغم والمدغم فيه لذلك، هذا قول عامة أئمتنا، وهو الصواب؛ لتأكد دلالته وصحته في القياس". وقال الشيخ برهان الدين الجعبري شارح "القصيدة"- في قوله: "وتأمننا للكل يخفي مفصلاً"، وقوله: "وأدغم مع إشمامه البعض عنهم"-: يريد بقوله: "إخفاء الحركة": اختلاسها، ومعنى "مفصلاً": فصل إحدى النونين عن الأخرى، وهو حقيقة الإظهار، وهذا معنى قول أبي علي الفارسي: "ويجوز أن تبين ولا تدغم وتخفي الحركة، وهو أن تختلسها"، ومفهوم إطلاق البيت أن كلاً من النقلة رووه عن السبعة، وليس كذلك؛ لإطباق العراقيين على خلافه، وقوله: "وأدغم" وجه ثان، وهو إدغام النون في الأخرى والإشمام، وهو ضم الشفتين مع أول التشديد من غير حركة في النون، وبهذا قطع ابن مجاهد في قوله: وكلهم قرأ

و"تيمناً" بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة؟ وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه. (نَرْتَعْ) نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (تَامَنَّا) بفتح الميم وضم النون وإدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم، ونبه بقوله: "وضم النون" على أن الفعل مرفوع، لتفهم علة الإشمام. قوله: (والمقة)، الجوهري: "المقة: المحبة، والهاء عوض من الواو، وقد ومقه يمقه- بالكسر فيهما-: أي: أحبه، فهو وامق"، وفي قولهم: "وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة" إشارة على أن جملة قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) جار مجرى الاعتراض والتذييل، لا الحال، أي: نحن عصبة عادتنا في حقه النصح والشفقة. قوله: (استنزاله عن رأيه)، مفعول "أرادوا"، وقوله: "لما عزموا" ظرف له. قوله: ("نرتع" نتسع في أكل الفواكه)، وهذا أولى مما قيل: نرتع إبلنا؛ إذ المراد التنزه والخروج إلى الأرياف والمياه، كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلى الرياض والبساتين، ثم اتسع واستعمل في نيل الثواب الجزيل، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، فقيل: يا رسول الله، ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قيل: فما الرتع يا رسول الله؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. وتلخيصه: فإذا مررتم بالمساجد فقولوا: سبحان الله، والحمد لله، فلما وضع "رياض الجنة" موضع "المساجد"؛ بناءً على أن العبادة فيها سبب للحصول في رياض الجنة، روعيت

وقرئ: "يرتع" من: ارتعى يرتعي. وقرئ: (يرتع ويلعب) بالياء، ويرتع، من أرتع ماشيته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المناسبة لفظاً ومعنى، ووضع "الرتع" موضع القول، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل، كل ذلك للترغيب والتحريض. ولو لمح في "الرتع" تناول ثمرة الشجرة التي غرسها الذاكر؛ على ما روى الترمذي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم، فقال لي: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، فجاء أسلوباً بديعاً وتمليحاً عجيباً. قوله: ("يرتع" من: ارتعى)، الحرميان: بكسر العين من "يرتع"، وجزمها الباقون، أي: سكنها. الكوفيون ونافع: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء فيهما، والباقون: بالنون. وفي "المعالم": قيل: المعنى في "نرتع"- بالنون-: نرتع إبلنا، فحذف المضاف، وأسند الفعل إلى المضاف إليه. يريد: أن الأصل: يرتع إبلنا- بالياء-، والفاعل "إبلنا"، فلما حذف الفاعل أقيم المضاف إليه مقامه، وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب للمتكلم. كذا عن المصنف في سورة الكهف في قوله: (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ) [الكهف: 60].

وقرأ العلاء بن سيابة: "يرتع" بكسر العين، ويلعب، بالرفع على الابتداء. فإن قلت: كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت: كان لعبهم الاستباق والانتضال، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو، بدليل قوله (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) [يوسف: 17] وإنما سموه لعباً لأنه في صورته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ العلاء بن سيابة: "يرتع" بكسر العين)، قال ابن جني: "هو جزم، لأنه جواب (أَرْسِلْهُ)، و"يلعب" مرفوع استئنافاً، أي: هو ممن يلعب، كقولك: زرني أحسن إليك، إلا أن الرفع في "أحسن" ها هنا يضعف الضمان، ألا ترى أن معناه: أنا كذلك، وليس فيه قوة معنى الإحسان إليه مع الجزم، وأما (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) فمجزومان، لأنهما جوابان، أحدهما معطوف على صاحبه، وهو على حذف المفعول، أي: يرتع مطيته"، قال ابن جني: "فما أعربه وأعذبه في الكلام". قوله: (كان لعبهم الاستباق)، قال محيي السنة: هو تشاغل منهم بإجمام النفس من الجد بمباح يحصل به تعيش وقوة على العمل، وليس هذا كاللعب في قوله تعالى: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65]. قوله: (ليضروا أنفسهم)، الأساس: "ومن المجاز: ضري فلان بكذا، وعلى كذا: لهج". الجوهري: "ضري الكلب بالصيد؛ أي: تعود، وأضراه صاحبه؛ أي: عوده، وكذلك التضرية".

[(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَاكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ)]. (لَيَحْزُنُنِي) اللام لام الابتداء، كقوله (وإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [النحل: 124]، ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من سببي المضارعة)، وهما دخول اللام والسين للحال والاستقبال، وسببه: أن بين فعل المضارع وبين الاسم المشترك أمراً جامعاً، وهو أنهما موضوعان لمتعدد مخالف في الحقيقة، ثم يصير كل واحد منهما لمتعين بقرينة تدخل عليه بعد أن كان شائعاً، فدخول حرف الاستقبال قرينة يتضح بها مدلوله في قصد المتكلم من غير زيادة، هذا هو الوجه، لا ما قيل: هو مثل اسم الجنس، نحو: رجل، يقع على آحاد متعددة على البدل، ثم يتميز لكل واحد من آحاده إذا قصد إليه بحرف التعريف، لأن المضارع موضوع لكل واحد من مدلوليه، وهما مختلفان، واسم الجنس هو في المعنى لحقيقة واحدة، لا اختلاف فيه، وبهذا يتبين وجه قوله في "المفصل": "ويشترك فيه الحاضر والمستقبل"، هذا تلخيص كلام ابن الحاجب. قوله: (من عدوة الذئب)، أي: خطفته، الجوهري: "دفعت عنك عادية فلان؛ أي: ظلمه وشره".

وقيل: رأى: في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم: البلاء موكل بالمنطق. وقرئ (الذِّئْبُ) بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من تذاءبت الريح؛ إذا أتت من كل جهة. [(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ)]. القسم محذوف تقديره: والله (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ) واللام موطئة للقسم. وقوله (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط، والواو في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) واو الحال: حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم - وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب، إنهم إذاً لقوم خاسرون، أي: هالكون ضعفا وخوراً وعجزاً، أو: مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدّمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون. وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسرناها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (الْذِّئْبُ) بالهمز)، كلهم إلا ورشاً والكسائي وأبا عمرو، قال أبو علي: "قال الحسن: "الذئب" مهموز في الأصل، قالوا: تذاءبت الريح؛ إذا جاءت من كل جهة، كأن المعنى فيه أنها أتت كما يأتي الذئب"، والمصنف عكس بقوله: "اشتقاقه من تذاءبت الريح". قوله: (فقد هلكت مواشينا إذن وخسرناها)، وهو عبارة عن حفظ أخيهم على الوجه الأبلغ، أي: نحن لما كفينا عن مواشينا الذئب، فلأن نكفي عن أخينا بالطريق الأولى،

فإن قلت: قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت: هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمرّين فأعاروه آذاناً صما ولم يعبئوا به. [(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)]. (أَنْ يَجْعَلُوهُ) مفعول "أَجْمَعُوا"؛ من قولك: أجمع الأمر وأزمعه (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) [يونس: 71]. وقرئ: "في غيابات الجب"، قيل: هو بئر بيت المقدس. وقيل: بأرض الأردنّ. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب «لما» محذوفٌ. ومعناه: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روي: أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العداوة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح: يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتمونى موثقاً ألا تقتلوه فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ها هنا على حقيقتها، وعلى الوجوه السابقة مجاز عن الهلاك، ثم الهلاك إما محمول على الضعف والخور- وهو الوجه الأول-، أو على حقيقة الهلاك، وهو أيضاً على وجهين: إما استحقاق الهلاك أو الدعاء بالهلاك. قوله: (ويذيقهم الأمرين)، يقال: لقيت من فلان الأمرين، وهي الدواهي، من المرة، وهي القوة، المعنى: ما أجابوا عن هذا العذر لكونهم ما التفتوا إليه أول الأمر، لأن قوله: (لَيَحْزُنُنِي) دل على محبته، ومحبته إياه هي التي أورثتهم الحسد، وأوقعتهم في تلك الورطات. قوله: (فأعاروه آذاناً صماً)، الضمير للعذر، جعلوا العذر شخصاً، وأعاروه آذانهم

وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) قيل أُوحي إليه في الصغر كما أُوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل كان إذ ذاك مدركاً. وعن الحسن: كان له سبع عشرة سنة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) وإنما أُوحي اليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أَمره. ومعناه: لتتخلصن مما أَنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف؛ لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أَوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أَنه كان لكم أَخ من أَبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأَنكم انطلقتم به وأَلقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم: أَكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أَن يتعلق (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بقوله (وَأَوْحَيْنا) على أَنا آنسناه بالوحي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصم، كأنهم لم تصاموا عن سماع ذلك العذر، نزلوا العذر منزلة شخص على سبيل الاستعارة المكنية، وخلعوا عليه الصمم، والبسوه إياه؛ مبالغة.

وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أَنيس له. وقرئ: "لننبئنهم" بالنون على أَنه وعيد لهم. وقوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) متعلق بأوحينا لا غير. [(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ* قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)]. وعن الحسن: "عشياً" على تصغير "عشيّ"، يقال: لقيته عشيا وعشياناً، وأصيلاً وأصيلاناً ورواه ابن جني: "عشى" بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مرهق)، أي: مضيق عليه، وفي الحديث: "فإن رهق سيده دين" أي: لزمه أداؤه وضيق عليه. قوله: ((وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) متعلق بـ "أوحينا" لا غير)، أي: على قراءة النون، يعني: أوحينا إلى يوسف هذا التهديد والوعيد في حقهم، والحال أنهم لا يشعرون بهذا الوحي، لأن إنباء الله إياهم لا يجتمع مع عدم شعورهم به، بخلاف إنباء يوسف، لأنه حصل مع عدم شعورهم، كما ذكر في طنين الصواع. وفيه نظر؛ لجواز أن يتعلق بقوله: "لننبئنهم"، وان يراد بـ "إنباء الله": إيصال جزاء فعلهم بهم، وهم لا يشعرون بذلك. والظاهر أن هذا الإنباء هو قوله عليه السلام: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) [يوسف: 89]. قوله: (ورواه ابن جني: "عشى" بضم العين والقصر)، قال ابن جني: "رواه عيسى

وروي أَن امرأَة حاكمت إلى شريح فبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية، أما تراها تبكي؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة: ولا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. وروي أَنه لما سمع صوتهم فزع وقال: ما لكم يا بنيّ؟ هل أَصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما بالكم وأين يوسف؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي: نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل: والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى. نتسابق في العدو أو في الرمي. وجاء في التفسير: ننتضل. (بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدّق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا، غير واثق بقولنا؟ [(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)]. (بِدَمٍ كَذِبٍ) ذي كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن ميمون: "جاءوا أباهم عشى يبكون"؛ عشوا من البكاء، وطريق ذلك أنه جمع "عاش"، وكان قياسه: عشاة، كماش ومشاة، إلا أنه حذف الهاء تخفيفاً، وهو يريدها، وفيه ضعف، لأن قدر ما بكوا في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان، ويجوز أن يكون جمع عشوة؛ أي: ظلاماً، وجمعه لتفرق أجزائه".

والزور بذاته. ونحوه: فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ وقرئ، "كذباً" نصباً على الحال، بمعنى: جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولا له. وقرأت عائشة رضي الله عنها: "كدبٍ"، بالدال غير المعجمة، أي: كدر. وقيل: طري، وقال ابن جني: أصله من الكدب، وهو الفوف البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزلّ عنهم أن يمزقوه. وروي أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذنبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات: كان دليلاً ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دُبُر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهن به جود وأنتم به بخل)، الضمير المجرور في الموضعين للوصل، أي: هؤلاء النساء بالوصل جود. قوله: (وهو الفوف)، وأنشدوا: فأرسلت إلى سلمى ... بأن النفس مشفوفه فما جادت لنا سلمى ... بزنجير ولا فوفه الزنجرة: قرع الإبهام على الوسطى بالسبابة، والاسم: الزنجير. قوله: (كان دليلاً ليعقوب على كذبهم)، إلى آخره: بيان لقوله: ثلاث آيات.

فإن قلت: (عَلى قَمِيصِهِ) ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه. (سَوَّلَتْ) سهلت؛ من السول وهو الاسترخاء، أي: سهلت، (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) عظيماً ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (محله النصب على الظرف، كأنه قيل: جاؤوا فوق قميصه بدم)، قال صاحب "التقريب": في كونه ظرفاً للمجيء وبقاء المعنى المقصود حزازة، ويجوز أن يقال: إن (عَلَى قَمِيصِهِ) حال من "جاؤوا" بتضمينه معنى الاستيلاء، أي: مستولين على قميصه، و (بِدَمٍ) حال من "قميص"، أي: ملتبساً بدم كذب. قال أبو البقاء: "هو حال من "الدم"، [لأن التقدير]: جاؤوا بدم كذب على قميصه". قال صاحب "اللباب": ولا تتقدم صاحبها، أي: لا تتقدم الحال على صاحبها المجرور على الأصح، نحو: مررت جالسة بهند، إلا أن يكون ظرفاً. قوله: ((سَوَّلَتْ) سهلت)، الراغب: "التسويل: تزيين النفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن".

استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أُوحي إليه بأنهم قصدوه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ خبر) أو مبتدأ، لكونه موصوفاً أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وفي قراءة أبيّ: فصبراً جميلاً. والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع «أنه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» ألا ترى إلى قوله (نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86]، وقيل: لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت. وقيل: سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب. خطيئة فاغفرها لي. (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ) أي: أستعينه (عَلى) احتمال (ما تَصِفُونَ) من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص)، الانتصاف: "أقوى شاهد على التهمة أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي اتهمهم به أبوهم، وهو أكل الذئب إياه، وكثيراً ما تتلقف الأعذار الباطلة من في من يعتذر إليه". قلت: ومن الأسلوب قوله تعالى: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار: 6]. قوله: (ما هذا؟ )، أي: أي شيء ما نرى بك من الكبر، ولم تبلغ ما بلغ أبواك في السن؟

[(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ)]. (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحاً. فعذب حين ألقى فيه يوسف (فَأَرْسَلُوا) رجلاً يقال له مالك بن ذعرٍ الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم (يا بُشْرى) نادى البشرى، كأنه يقول: تعال، فهذا من آونتك. وقرئ: "يا بشراى" على إضافتها إلى نفسه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهذا من آونتك)، قال الزجاج: "معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب ولا تعقل إنما هو على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة، فإذا قلت: يا عجباً، فكأنك قلت: اعجبوا، ويا أيها العجب هذا من حينك، فكأنه قال: يا أيتها البشرى هذا من إبانك وأوانك". وقال أبو علي: "إن هذا الوقت من أوانك، ولو كنت ممن يخاطب، فخوطبت الآن". قوله: (وقرئ: "يا بشراي" على إضافتها)، قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، والكوفيون: (يَا بُشْرَى) على وزن فعلى، وأما فتحة الراء حمزة والكسائي. قال محيي السنة: "والوجه في إفرادها عن ياء المتكلم: هو أن "بشرى" نكرة ها هنا، فناداها كما تنادى النكرات، نحو قولك: يا رجلاً، ويا راكباً، إذا جعلت النداء شائعاً، فيكون موضعه نصباً على التنوين، إلا أن "فعلى" لا سبيل إليها للتنوين، ويجوز أن تكون "بشرى" منادى تعرف بالفصل، نحو: يا رجل".

وفي قراءة الحسن وغيره: يا بشري بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي وموليّ. وعن نافع: يا بشراي بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("يا بشري")، قال ابن جني: "هي قراءة أبي الطفيل والجحدري، ورويت عن الحسن، وهذه لغة فاشية فيهم". قوله: (جعلت الياء بمنزلة الكسرة)، قال الزجاج: "إن ياء الإضافة تغير ما قبلها، ولا يتبين معها الإعراب، فإذا كان قبلها ألف فالاختيار أن لا تغير، وبعض العرب يبدل معها ياء، فيكون بدلها بمنزلة تغير الحرف قبلها"، هذا الذي عناه المصنف بقوله: "جعلت الياء بمنزلة الكسرة"، يعني: في التغيير، قال أبو علي: "إن ما يضاف إلى الياء يحرك بالكسرة إذا كان الحرف صحيحاً، نحو: غلامي وداري، فلما لم تحتمل الألف الكسرة، وقربت الألف من الياء بقلبها إليها، كما كان الحرف يكون مكسوراً، والألف قريبة من الياء، فلذلك يبدل كل واحد منهما بالآخر". قوله: (أهل السروات)، النهاية: "السرو: محلة حمير، وفي حديث عمر: "ليأتين الراعي سروات حمير"، المعروف في واحد "سروات" سراة".

وقيل: لما أدلى دلوه أي: أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراي: هذا غُلامٌ وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. (وَأَسَرُّوهُ) الضمير للوارد وأصحابه؛ أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. و(بِضاعَةً) نصب على الحال، أي: أخفوه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أي: قطع (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) لم يخف عليه إسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (بِضَاعَةً) نصب على الحال، أي: أخفوه متاعاً للتجارة)، كذا عن أبي البقاء. قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: ضمن "أسروه" معنى: جعلوه، أي: جعلوه بضاعة مسرين، فهو مفعول ثان. قال ابن الحاجب: "يحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، أي: كتموه لأجل تحصيل المال فيه، لأنه كان على حال تقتضي التجارة كتمانه خوفاً من أن تمتد الأطماع من غيرهم، فلا يجوز أن يكون تمييزاً، لأنه ليس من باب "عشرين"، ولا من باب: حسن زيد وجهاً، لما يؤدي إليه أن الإسرار كان لبضاعته لا له، وهو خلاف المعنى". قوله: (والبضاعة: ما بضع من المال)، الراغب: "البضاعة: قطعة واحدة وافرة من المال

[(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)]. (وَشَرَوْهُ) وباعوه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس ناقص عن القيامة نقصاناً ظاهراً، أو زيف ناقص العيار (دَراهِمَ) لا دنانير (مَعْدُودَةٍ) قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقيه وهي الأربعون، وعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة، لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها. وعن ابن عباس: كانت عشرين درهماً. وعن السدي: اثنين وعشرين (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى (وَشَرَوْهُ) واشتروه، يعني الرفقة من إخوته (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) لأنهم اعتقدوا أنه آبق، ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقتنى للتجارة، يقال: أبضع بضاعة وابتضعها، والبضع- بالكسر--: المقتطع من العشرة". قوله: (ناقص العيار)، الراغب: "العيار: تقدير المكيال والميزان، ومنه قيل: عيرت الدراهم". قوله: (بما طف)، أي: بما قل. قوله: (لأنهم التقطوه)، النهاية: "لالتقاط: أن يعثر على الشيء من غير قصد طلب". قوله: (ويجوز أن يكون معنى (وَشَرَوْهُ): واشتروه)، عطف على قوله: " (وَشَرَوْهُ): وباعوه"، وعلى هذا: الضمير في (وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ) للرفقة، وعلى الأول: للإخوة البائعين، وقوله: "ممن يرغب عما في يده" بيان لقوله: (مِنْ الزَّاهِدِينَ)، والضمير

فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله (فِيهِ) ليس من صلة (الزَّاهِدِينَ) لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيدا من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أي: شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المستتر في "يرغب" والمجرور في "يده" عائد إلى "من"، و"لأنهم التقطوه" تعليل "ممن يرغب في يده". قوله: (كأنه قيل: في أي شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: تقديره: وكانوا من الزاهدين فيه، من قبيل الإضمار على شريطة التفسير. وقلت: الظاهر أنه ليس منه، لأنه ليس بمشتغل عنه بالضمير، فإن الأصل: كانوا من الزاهدين فيه، على أن "فيه" ليس من صلته، بل متعلق بجملة محذوفة على السؤال، كقوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، كأنه لما قيل: كانوا من الزاهدين، لم يعلم في أي شيء، اتجه لسائل أن يقول: في أي شيء زهدوا؟ فقيل: فيه. وهو من قول الزجاج: " (فِيهِ) ليست بصلة (الزَّاهِدِينَ)، المعنى: كانوا من الزاهدين، ثم بين في أي شيء زهدوا، فقال: زهدوا فيه، وهذا في الظروف جائز، وأما المفعولات فلا يجوز فيها، لا يجوز: كنت زيداً من الضاربين، لأن "زيداً" من صلة "الضاربين"، فلا يتقدم الموصول صلته". وذهب ابن الحاجب إلى الجواز، قال في قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 21]: "الظاهر أن (لَكُمَا) في مثل هذا ونحوه متعلق بـ (النَّاصِحِينَ)، لأن المعنى عليه، فإن

[(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَاوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)]. (الَّذِي اشْتَراهُ) قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذٍ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر: 34]. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللام إنما تجيء بها لتخصيص معنى النصح بالمخاطبين، وإنما فر الأكثرون لأن صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول، والفرق عندنا أن الألف واللام لما كانت صورتها صورة الحرف المنزل جزءاً من الكلمة صارت كغيرها من الأجزاء التي لا تمنع التقديم، ولذا لم توصل بجملة اسمية، لتعذر ذلك فيها، وهذا واضح، فلا حاجة إلى التعسف".

(أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي: حسناً مرضياً، بدليل قوله (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف: 23] والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعي حق نزولك به؟ واللام في (لِامْرَأَتِهِ) متعلقة بـ"قال"، لا بـ (اشتراه). (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيماً لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بحسن الملكة)، يقال: فلان حسن الملكة: إذا كان حسن الصنيع إلى مماليكه. قوله: (لمن ينزل به)، أي: للمضيف، أي: يقال للمضيف الذي يراعي حق الضيف إذا كان رجلاً: أبو مثوى الضيف، وإذا كان امرأة: أم مثواه، نزل الضيف- في طيبة نفسه وسكونه عند المضيف إذا كان يقوم بمراعاة حقه، ويشفق عليه شفقة الوالد- منزلة الولد، ثم كني بالمنزل والمقام عنه؛ رفعة لمنزلته وكرامة له، كما يقال: المجلس العالي، ولهذا قال: "تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا". قوله: (تدرب وراض الأمور)، الجوهري: "درب بالشيء ودردب به: إذا اعتاده وضري به، ورجل مدرب؛ أي: مجرب، وقد دربته الشدائد حتى قوي".

والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ) [القصص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما. وروي أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه. (وَكَذلِكَ) الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف (مَكَّنَّا) له، أي: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَاوِيلِ الْأَحادِيثِ) كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضي. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كله بيد الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي أنه سأله)، عطف على قوله: "وقد تفرس فيه الرشد"، أي: علم رشده بالفراسة، أو سأله عن نسبه فأخبره أنه من ولد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقاسه على آبائه الراشدين، وحكم عليه بالرشد. قوله: ((وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ) كان ذلك الإنجاء)، أي: معلله محذوف، وهذه الجملة معطوفة على قوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ)، ففهم من الجملة الأولى تمكينه في الأرض، وهو نعمة الملك، ومن الثانية: تعليمه الأحاديث، وهو نعمة العلم، ولما كان المقصود من الإنجاء والتمكين: التعليم، ومن التعليم: العمل، قال: "ليس المقصود إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل"، وفيه أن المقصود من إيتاء الملك العلم، ليدبر أمور

[(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)]. قيل في "الأشدّ": ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون. (حُكْماً) حكمة؛ وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكماً بين الناس وفقها (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عباده، لا أن يتمتع باللذات، ومن العلم العمل، لا ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه، والذي يدل على تأويل العلم بالعمل قوله بعده: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً). ثم الضمير في قوله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ): إما لله عز وجل، فالجملة تذييل، أي: غالب على أمره لا أحد فوقه، يفعل ما يشاء، لا راد لما أراده، وإما ليوسف، فيكون تتميماً لما دبره الله تعالى فيه، وأن العاقبة له، ومعنى مغلوبية الأمر على التمثيل، فإن المغلوب مذلل للغالب، فيتصرف فيه من غير مانع، ولذلك قال: "لا يكله إلى غيره" إلى قوله: "ولم يكن إلا ما أراد الله تعالى"، والأول صريح في مذهب أهل السنة، ولكن أهل الاعتزال لا يعلمون. قوله: ((حُكْماً) حكمة، وهو العلم بالعمل، واجتناب ما يجهل فيه)، هذا حد الحكمة، ويفهم منه أن الحكمة لا يعبر عنها بمجرد العلم، وأن لابد فيها من اجتناب ما يجهل فيه، أي: ما يعد به جاهلاً، وإن كان عالماً، فإن من علم علماً ولم يعمل بمقتضاه لا يسمى حكيماً، أو عمل ما يضاده عد سفيهاً لا حكيماً، ويعضده ما ذكره المصنف بعيد هذا في قوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33]، وتمام تحقيقه استقصيناه في سورة لقمان.

وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. [(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)]. المراودة: مفاعلةً، من راد يرود: إذا جاء وذهب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه)، لا يحمل هذا على الاستحقاق والوجوب، بل على التيسير والتسهيل، أي: أن الله خلقه للحكم والعلم، فوفق لأن يحسن ويكون متهيئاً لما خلق له، وعليه يحمل قول الحسن، أي: ومن وفق أن يحسن عبادة ربه في شبيبته يؤتى الحكم في اكتهاله، وعليه ما رويناه عن البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في حديث بدء الوحي، فقال: "زملوني زمِّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة- وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، الحديث. قوله: (المراودة: مفاعلة؛ من: راد يرود)، الراغب: "الرود: التردد في طلب الشيء برفق، يقال: راد وارتاد، ومنه: الرائد؛ لطالب الكلأ، وباعتبار الرفق قيل: رادت الإبل في مشيها ترود روداناً، ومنه: رويد. والإرادة منقولة من: راد يرود؛ إذا سعى في طلب شيء، والإرادة- في الأصل-: قوة مركبة من شهوة وحاجة وأمل، وجعل اسماً لنزوع النفس مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم تستعمل مرة في المبدأ، وهو نزوع النفس إلى الشيء، وتارة في المنتهى،

كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل لمواقعته إياها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنه تعالى يتعالى عن معنى النزوع، فمنى: أراد الله كذا: حكم فيه أنه كذا أوليس بكذا، وقد يراد بها معنى الأمر، نحو: أريد منك كذا، أي: آمرك بكذا، نحو قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. والمراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة، فتريد غير ما يريده، أو ترود غير ما يروده، وراودت فلاناً عن كذا، (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [يوسف: 26]، وقال: (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف: 30]، أي: تصرفه عن رأيه، وعلى ذلك: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: 32]، (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) [يوسف: 61] ". قوله: (خادعته عن نفسه؛ أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه)، قال صاحب "الفرائد": مراده: تضمين "راودت" معنى "خادعت"، فعلى ما ذكر "عن" متعلقة بـ "راودت"، لأن في المخادعة معنى التبعيد، وهو متعد بـ "عن"، كأنه قيل: بعدته عن نفسه، أي: من حفظ نفسه. قلت: ليس في كلام المصنف ما يشعر بالتضمين، لأن التضمين هو أن يضمن فعل معنى فعل، ويعدى تعديته مع إرادة معناهما، فلابد من ذكرهما في التفسير معاً، قال المصنف في الكهف: "الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد". وأما التعدية فإن "خدع" ورد في "الأساس" على استعمالات شتى، وليس فيها تعديته

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قيل: كانت سبعة. وقرئ (هَيْتَ) بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء "أين" و"عيط". و"هيت" كـ"جير" و"هيت" كـ"حيث". وهثت بمعنى تهيأت. يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. وهيئت لك. واللام من صلة الفعل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ "عن"، وأما ها هنا فليس على حقيقته، لقوله: "فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه"، لأنه وارد على التشبيه وتمثيل حاله بحاله، وأيضاً ما أتى في هذا التركيب بلفظ "المراودة"، وقد مر أن شرطه أن يذكر مع معنى المضمن فيه، وذكر في "الأساس" أيضاً: "راود روداناً: جاء وذهب، وما لي أراك ترود منذ اليوم"، وذكر في قسم المجاز: "وراوده عن نفسه: خادعه عنها"، ثم مجموع التمثيل كناية عن التمحل لمواقعته إياها. قوله: (قرئ: (هَيْتَ) بفتح الهاء وكسرها)، نافع وابن ذكوان: بالكسر- من غير همز- وفتح التاء، وهشام كذلك إلا أنه يهمز، وقد روي ضم التاء عنه، وابن كثير: بفتح الهاء وضم التاء، والباقون: بفتحهما. قوله: (كبناء "أين" و"عيط")، الأساس: "عيط: إذا مد الصوت بالصريخ، وهو العياط". قوله: (و"هيت" كـ "جير"، و"هيت" كـ "حيث")، قال ابن جني: " (هئت لك) بالهمز وضم التاء: قراءة علي رضي الله عنه، و"هيت" بفتح الهاء وكسر التاء: ابن عباس رضي الله عنهما، وفيها لغات: هيت وهِيتَ وهَيْتُ وهَيْتِ؛ كلها أسماء سمي بها الفعل، ومعناها: أسرع وبادر، والحركات في أواخرها لالتقاء الساكنين.

وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك. (مَعاذَ اللَّهِ) أعوذ بالله معاذاً (إِنَّهُ) إن الشأن والحديث (رَبِّي) سيدي ومالكى، يريد قطفير (أَحْسَنَ مَثْوايَ) حين قال لك أكرمى مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين يجازون الحسن بالسيئ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما "هئت" بالهمز وضم التاء: ففعل يقال فيه: هئت أهيء هيئة، كجئت أجيء جيئة، أي: تهيأت، وقالوا أيضاً: هئت أهاء، كخفت أخاف، أي: خذ. وأما "هيئت لك": ففعل صريح كـ "هئت"، أي: أصلحت لك فدونك، وما انتظارك؟ ! واللام فيه متعلقة بنفس "هئت" كتعلقها بنفس "هلم" في قولهم: هلم لك، وإن شئت كانت خبر مبتدأ محذوف، أي: إرادتي بذلك لك، وأما "هيئت لك": فاللام فيه متعلقة بالفعل، كقولك: أصلحت لكذا". قوله: (وأما في الأصوات فللبيان)، يعني: على تقدير سؤال وجواب، كما سبق في قوله تعالى: (وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ)، وإليه الإشارة بقوله: "كأنه قيل: لك أقول هذا"، يعني: لما قيل: هيت، قال: لمن تقول: هيت؟ قال: لك أقول هذا. قوله: (قال لك: أكرمي مثواه)، يعني: علل الامتناع عما أرادته المرأة منه بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)، فقوله: (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) خبر ثان، وقوله: "أراد الله لأنه مسبب الأسباب" عطف على هذا الوجه، يعني: أن الله تعالى أحسن مثواي، وجعل قطفير الواسطة بأن قال لك: أكرمي مثواه، فلا أكفر نعمة ربي.

وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم. وقيل: أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب. [(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأي: بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)]. همّ بالأمر: إذا قصده وعزم عليه. قال: هَمَمْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِى ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكى حَلَائِلُهْ ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً؛ أي: ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) معناه. ولقد همت بمخالطته (وَهَمَّ بِها) وهمّ بمخالطتها (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف، لأنّ قوله (وَهَمَّ بِها) يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت الله، معناه لولا أنى خفت الله لقتلته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: أراد الزناة)، عطف على قوله: "الذين يجازون الحسن بالسيئ". قوله: (هممت ولم أفعل)، البيت: قائله عمرو بن ضابئ البرجمي، أي: قصدت قتل عثمان رضي الله عنه، ومفعول "تركت" الجملة بعده، يريد: ليتني تركت هذه الكلمة عليه، وهو قول الناس: "تبكي حلائله"، كقوله تعالى: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) [الصافات: 78 - 79].

فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله (وَهَمَّ بِها) وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ميلاً يشبه الهم به)، اللام في "الهم" للعهد، وهو راجع إلى هم المرأة، والضمير في "به" راجع إلى يوسف، أي: ميلاً يشبه هم المرأة بيوسف، وكذلك في قوله: "والقصد إليه"، و"كما تقتضيه" معطوف على "يشبه"، أي: ميلاً كما تقتضيه صورة تلك الحالة، وهي أن المرأة البديعة الجمال إذا تهيأت للشاب البالغ حد الكمال في الخلوة، لابد من مجاذبات بين هوى النفس والدين. قوله: (وهو يكسر ما به)، أي: يوسف يكسر ما يلتبس به ويرده، وهو حال من قوله: "إن نفسه مالت إلى المخالطة". قوله: (في برهان الله المأخوذ على المكلفين)، وهو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) [الأعراف: 172] الآية، قال المصنف: "إنه تعالى نصب لهم الأدلة على وحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى" إلى آخره.

فإن قلت: قوله (وَهَمَّ بِها) داخل تحت حكم القسم في قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ويبتدئ قوله (وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأي: بُرْهانَ رَبِّهِ) وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت: لم جعلت جواب "لولا" محذوفاً يدل عليه "هم بها"، وهلا جعلته هو الجواب مقدما؟ قلت: لأن "لولا" لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدر خروجه من [حكم] القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ويبتدئ: (وَهَمَّ بِهَا))، قال صاحب "المرشد": "فإن وقف عند قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ثم يبتدئ: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا)؛ ليفرق بين ما كان منها وما كان منه؛ كان صالحاً، ولا بأس به، ليعلم أن المرأة همت على صفة، ويوسف على صفة أخرى". وقال بعضهم: معناه: اشتهته واشتهاها، وحرصت عليه، لولا أن رأى برهان ربه- والبرهان: دلالة الله إياه على تحريمه، وعلى أن من فعل ذلك الفعل استحق من الله تعالى الغضب والعذاب- لفعل ما دعته إليه من ذلك، فلأجل هذا البرهان امتنع من فعل ما اشتهاه، وضبط نفسه عنه. وقائل هذا الوجه يذهب إلى أن الشهوة قد تجري مجرى الهم في سعة اللغة، واحتج بقولهم: "هذا أهم الأشياء إلي" أي: أشهى، وهذا أحسن الوجوه عندي. قوله: (لأن "لولا" لا يتقدم عليها جوابها)، إلى آخره: قال صاحب "الفرائد": الوجه

فإن قلت: فلم جعلت «لولا» متعلقة بـ"همّ بها" وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها)، لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معا، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عندي أن يقال: لا شك أن "لولا" تتقدم بالطبع على الجواب، لأنه هو الذي يوجب الجواب، والموجب يتقدم بالطبع على الموجب ضرورة، فتقديمه عليه إخراج له من الأصل، والإخراج من الأصل لا يجوز إلا بموجب راجح على ما يوجب الإبقاء على الأصل، وهو كونه أهم بالذكر منه، ولما كان الاهتمام بذكره بعد "لولا"، لأنه هو الذي يقتضي ذكره ويوجبه، لم يكن أن يكون أهم منه، فلم يوجد الموجب الراجح لتقديمه، فوجب تأخيره عملاً بالموجب السالم عن المعارض، هذا اختيار الإمام في "تفسيره". قوله: (لا يتعلق بالجواهر)، أي: بالأعيان. فإذا قلت: هم فلان بزيد؛ فمعناه: هم بقتله أو بشتمه وما أشبههما، ولا تريد: أنه هم بعينه وجثته. حاصل السؤال: لم علقت "لولا" بالجملة الثانية، ولم تعلق بالجملتين معاً لما لم يمكن ذلك، لأن الهم لا يتعلق بالذوات، وإنما يتعلق بالمعاني، كالمخالطة والمعانقة والملامسة والمباشرة ونحوها، وهذا المعنى مما لا يحصل إلا من الجانبين، فينتزع من مجموع قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) معنى المخالطة، ثم يقيد هم يوسف بأن يقال: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما. وخلاصة الجواب: أن أخذ الزبدة وإن جاز، لكن يفوت معنى التفصيل المراد من التركيب، لأنه تعالى قصد فيه استقلال كل من الهمين، وتمييز أحدهما عن الآخر؛ بأن أتى بالفعلين، وعطف أحدهما بالآخر، وكان عنه مندوحة، بأن يقال: لقد هما بالمخالطة لولا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن منع مانع أحدهما، فعدل إلى هذا التركيب لفائدة، ولو أخذ الزبدة كان إغفالاً لترك التفصيل، وإلغاء لمجيئهما هكذا منسوقة، والفائدة: هي أن يبين أن همها كان متمادياً في الشهوة، وهم يوسف انقطع برؤية البرهان، وفيه ارتفاع شأن يوسف عليه السلام؛ حيث لم يشاركه معها في الهم، وجعل همه مميزاً عن همها. هذا يوافق ما روى محيي السنة في "المعالم"، وقال: "قال بعض أهل الحقائق: الهم همان: هم ثابت، وهو إذا كان معه عز وعقد ورضا، مثل: هم امرأة العزيز، فالعبد مأخوذ به. وهم عارض، وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا هم، مثل هم يوسف عليه السلام، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل". وقلت: ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا". هذا التفسير هو الذي يجب أن يذهب إليه ويتخذ مذهباً، وإن نقل المفسرون ما نقلوا، لأن متابعة النص القاطع وبراءة ساحة النبي المعصوم عن تلك الرذيلة، وإحالة التقصير إلى الرواة أولى بالمصير إليه، على أن أساطين النقل المتقنين الذين حموا صفو مشارب النقل عن كدورات الواضعين وتحريف الزائغين، مثل الإمامين مالك وأحمد، والشيخين البخاري ومسلم، ومن تبعهم مثل الترمذي وأبي داود والنسائي والدارمي وابن ماجة ما ذكروا في كتبهم ما يداني هذه الروايات، فضلاً عما يساويها، وما دخل على من نقل من المفسرين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمثال هذه الهنات على الأنبياء، إلا من التهاون في الضبط، إذ جلها بل كلها مأخوذ من مسلمة أهل الكتاب. وروينا في "صحيح البخاري" في "باب لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء": عن الزهري، أخبرني حميد، سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: "إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب". وعن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) [البقرة: 136] وما أنزل إليكم، الآية". وعن ابن عباس: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث، تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم"، كل ذلك في "الصحيح". ومنه ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر، فقال: كذب عدو الله، سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب، كيف لي به؟ فقال له: احمل حوتاً في مكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثم"، الحديث. واعلم أن هذا أصل عظيم في الباب، وعليه التعويل. وقال صاحب "الانتصاف": "الصحيح عندنا تنزيه الأنبياء عن الكبائر والصغائر، وأن يوسف بريء، وأن الوقف عند قوله: (هَمَّتْ بِهِ)، ويبتدأ: (وَهَمَّ بِهَا)، كما تقول: قتلت زيداً لولا أني أخاف الله، فإن كان الزمخشري يعرض بأهل السنة فليس هذا مذهبهم، وإن كان يعني به غيرهم فشأنه وإياهم". وقلت: أما دلالة كلام الله المجيد على البراءة فهو كما قال الإمام: "كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف، وأما يوسف فقال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [يوسف: 26] على التأكيد أو التخصيص، لأن التركيب نحو: أنا عرفت، وقال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]، وقال: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف: 52]، وقال: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف: 23]، وأما المرأة فقالت: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: 32] على القسمية- قال المصنف: "الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد"-، وقالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ) [يوسف: 51]، وأما الزوج فقال: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف: 28 - 29]، وأما النسوة فقلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف: 51]، وأما الشهود فقالوا: (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) [يوسف: 27] الآية، وأما الله عز شأنه فقد قال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24] ". وقلت: فيه من التأكيد أنه قرن "الفحشاء" بـ "السوء" لينفي عنه الزنى ومقدمتها، وسماه "عبده"، وأدخله في زمرة "المخلصين"، وعلل الصرف بقوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)، وأتى باسم الإشارة وكاف التشبيه تفخيماً للتثبيت، أي: مثل ذلك التثبيت العجيب الشأن لنصرف عنه السوء. "وأما إبليس فإنه قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82 - 83]، والله تعالى شهد له بالإخلاص، وأكد الشهادة بالطريق البرهاني حيث أدخله في جملة المخلصين"، وأما الملك فقد قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ) [يوسف: 54].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: "أما تفسير "الهم" فقد جاء على معان: أحدها: العزم على الفعل، قال تعالى: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا) [المائدة: 11]، أي: عزموا على ذلك. وثانيها: خطور الشيء بالبال، قال تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) [آل عمران: 122]، أي: خطر ببالهم دون أن يعزموا، بدليل قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)، لأن الله تعالى لا يكون ولي من عزم على المعصية. وثالثها: الشهوة وميل الطبع، يقول القائل فيما لا يشتهيه: لا يهمني هذا، وفيما يشتهيه: هذا أهم الأشياء إلي. والمراد بـ "الهم" في الآية: خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع بالشهوة، وذلك أن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تهيأت للشاب القوي لابد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارة تقوى داعية الشهوة والطبيعية، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب النبوة والحكمة. مثاله: أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الماء المبرد فطبيعته تحمله على شربه، إلا أن هداه ودينه يمنعه منه، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة [في القيام] بلوازم العبودية أكمل. ولو أريد به العزم كان أيضاً دليلاً على عصمته، لأنه تعالى لما أظهر ما يصرفه عن العزم وجب أن لا يكون منه عزم، فلما لم يكن منه عزم لم يكن منه فعل، لأن الفعل تابع للعزم".

ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير. ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها، (لولا أن رأى برهان ربه) فترك التوصل إلى حظه من الشهوة، فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بـ"همّ بها" وحده. وقد فسر "همّ يوسف" بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر "البرهان" بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً: أعرض عنها، فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته. وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار: 10 - 11]، فلم ينصرف، ثم رأي: فيها (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32] فلم ينته، ثم رأي: فيها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة: 281]، فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حل الهميان)، الجوهري: "هميان الدراهم- بكسر الهاء-: معروف"، وفي النهاية: "الهميان: تكة السراويل".

وقالت: أستحيي منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحيي من السميع البصير العليم بذوات الصدور! وهذا ونحوه مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذى النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّى إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الدحض)، الجوهري: "مكان دحض؛ أي: زلق".

لا يتحلحل ولا ينتهى ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقى بأدنى ما لقى به نبي الله مما ذكروا، لما بقي له عِرق ينبض ولا عضو يتحرّك! فياله من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه! (كَذلِكَ) الكاف منصوب المحل، أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أي: الأمر مثل ذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) من خيانة السيد (وَالْفَحْشاءَ) من الزنى (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح. الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يتحلحل)، "حلحلت القوم؛ أي: أزعجتهم عن موضعهم". قوله: (وأجلحهم)، الأساس: "رجل أجلح، وبرأسه جلح، ومن المجاز: فلان وقح مجلح، وفي وجهه تجليح، وهو الإقدام على الشر". قوله: (فيا له من مذهب): المنادى محذوف، أي: يا قوم احضروا له، ثم بين الضمير بقوله: "من مذهب"، وفيه تعجب وتعجيب. قوله: (وبالفتح: الذين أخلصهم الله): عطف على " (المخلصين)، الذين أخلصوا"، أي: قرئ: "المخلصين" بكسر اللام؛ والمعنى: الذين أخلصوا دينهم، وبالفتح؛ والمعنى: الذين أخلصهم الله، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: بالكسر، والباقون: بالفتح.

ويجوز أن يريد بـ (السوء): مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله (مِنْ عِبادِنَا) معناه بعض عبادنا، أى: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) [ص: 46]. [(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأي: قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)]. (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، على تضمين (واستبقا) معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت: كيف وحد الباب، وقد جمعه في قوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [يوسف: 23]؟ قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الباب البراني)، الأساس: "جلست براً، وخرجت براً: إذا جلس إلى ظاهر الدار، وخرج إلى ظاهر البلد. ومن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه، وافتح الباب البراني، ويقال: أريد جواً ويريد براً، أي: أريد خفية وهو يريد علانية".

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) اجتذبته من خلفه فانقد، أي: انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي. وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل: ألفياه مقبلا يريد أن يدخل. وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ) [يوسف: 32]. و«ما» نافية، أى: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أي: شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: من في الدار إلا زيد. فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا قلت: قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قصدت العموم، وأن كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن)، الانتصاف: "أو أرادت بالإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها: هذا أراد بي سوءاً، ولذلك كنت بالسوء عن الفاحشة بعداً عن القحة التي توهم الريبة، وقالت ابنة شعيب عليه السلام: (إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص: 26]، ولم تقل: إنه قوي أمين؛ حياء من أبيها".

وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ولولا ذلك لكتم عليها. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أغرت به)، الجوهري: "غري به- بالكسر-؛ أي: أولع به، والاسم الغراء". قوله: (تكلم أربعة وهم صغار)، وكذا في "المعالم"، ويرده دلالة الحصر في الرواية عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى

فإن قلت: لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ قلت: لما أدّى مؤدّى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة. فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل: وشهد شاهد فقال إن كان قميصه ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن مريم، وصاحب جريج، وكان رجلاً عابداً فاتخذ صومعة، وكانت امرأة بغي، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً يأوي إلى صومعته، فوقع عليها، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتى جريج الصبي وطعن في بطنه، وقال: من أبوك؟ قال: فلان الراعي. وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي فقال: اللهم لا تجعلني مثله"، هذا مختصر من ألفاظ الحديث. قوله: (الجملة الشرطية)، أي: الجملة الشرطية فيها معنى الترقب والتعليق، وفعل الشهادة يقتضي الأداء والإنشاء، فبينهما تناف؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: أن فعل الشهادة

فإن قلت: إن دل قدّ قميصه من دُبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قُبُلٍ على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟ قلت: من وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من إطلاق الخاص على العام، كأنه قيل: قال قائل: إن كان قميصه، على طريق أداء الشهادة، أو القول محذوف، كأنه قيل: وشهد شاهد، فقال: إن كان قميصه. قال صاحب "الفرائد": هذا التقرير غير مستقيم، وإنما يستقيم أن لو قيل: فإن كان قميصه، ووجهه أن يقال: وشهد شاهد قائلاً: إن كان قميصه. وقلت: ما المانع من تقدير ما يستقيم به المعنى، سواء كان حرفاً أو غيره، ولاشك أن ذلك التقدير أفصح، لأنه على وزان قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]. قوله: (من وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته) إلى آخره، الانتصاف: "ويمكن مثله في اتباعها له، فإنها إنما قدت قميصه من قُبُل؛ بتقدير أن تكون جذبته حين صارا متقابلين، بل ها هنا أظهر، لأن الموجب للقد غالباً الجذب لا الدفع". وقوله: (الثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها، فيتعثر في مقادم قميصه، فيشقه)، الانتصاف: "هذا بعينه محتمل إذا كانت هي التابعة، وهو فار منها، والحق أن الشاهد إن كان صبياً في المهد، فالآية في مجرد كلامه، كما كان كلام عيسى برهاناً على براءة مريم، فلا يظهر في وجه الأمارة المذكورة، وإن كنا الشاهد بعض أهلها فإنه بصر بها من حيث لا تشعر،

وقرئ: "من قُبُلُ" و"من دُبُرُ"، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قُبُلٌ، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: "من قُبُل" و"من دبر" بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا بسكون العين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له، وكان من حقه أن يصدق يوسف ويكذبها، لكن أراد أن لا يكون الفاضح لها، فتعلق بانقطاع القميص وأمارته على الصدق والكذب إبعاداً للتهمة، ولذلك قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه، وكذا فعل مؤمن آل فرعون في قوله: (وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر: 28]، وكذا فعل يوسف في كونه بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، والشاهد قصد الأمارة الأخيرة، وجعل الأولى توطئة لها. وأما إن كان الشاهد الحكيم فلابد من المناسبة، وأقربها أن قده من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله إليها بوجهه". قوله: (وقرئ: "من قُبُل" و"من دبر")، قال ابن جني: "هي قراءة ابن يعمر والجارود، وهي كقوله تعالى: (لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم: 4]، يريد: من دبره ومن قبله، فلما حذف المضاف إليه صار المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غاية له، فبني على الضم"، لأن المعنى أن يعلم أنه كان قميصه، يعني: أن الشرط وإن كان ماضياً، لكن في تأويل المضارع، لأن المراد إرشاد العزيز إلى إظهار الحق، وهو مثل قولك: إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك؛ في الإخبار والإعلام، وهذا تقوله لمن يمن عليك بإحسانه. قال ابن الحاجب: "وإنما صح ذلك لأن جواب الشرط لا يكون إلا جملة، وقد يكون

فإن قلت: كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان»؟ قلت: لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك: إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن علىَّ أمتنَّ عليك. (فَلَمَّا رَأى) يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها (قالَ إِنَّهُ) إن قولك (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف (مِنْ كَيْدِكُنَّ) الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق: 4]، والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. معنى الشرط فيه الإعلام بما هو المشروط"، ذكره في "الأمالي". وقال أيضاً: " (كَانَ) ها هنا بمعنى: ثبت، كأنه قيل: إن ثبت أن قميصه، وثبوت الشيء لا يلزم منه أن يكون قبل ذلك ثابتاً، والمعنى: إن ثبت هذا في المستقبل فهي صادقة". قوله: (نيقة)، نيقة: فعلة؛ من: تنوق في الأمر؛ إذا مهر فيه وحذق. قوله: (والقصريات من بينهن)، أي: اللاتي نشأن في القصور، أي: الحضريات دون البدويات. قوله: (من البوائق)، وهي جمع بائقة؛ الداهية، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، أي: ظلمه وغشمه.

وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء: 76] وقال للنساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). (يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر واكتمه ولا تحدّث به (وَاسْتَغْفِرِي) أنت (لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) من جملة القوم المتعمدين للذنب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الله تعالى يقول: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء: 76]، وقال للنساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ))، الانتصاف: "وفيه نظر؛ لأن الذي في هذه الآية من كلام العزيز، فيمكن أن تكون حكايته تصحيحاً لكلامه لا تحقيقاً، وقوله تعالى: ((إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) مقابل بكيد الله، فحقه أن يكون ضعيفاً، ولأن كيد الشيطان أصل لكيد النساء، فلا يكون كيدهن أعظم". قوله: (لأنه منادى قريب مفاطن للحديث)، يعني: يجاء بحرف "يا" الندائية لأمرين: إما أن المنادى بعيد، فيطلب إقباله به، وإما أنه قريب ساه بليد فينبه به، ويوسف عليه السلام لم يكن بهذه المثابة. قوله: (وفيه تقريب له وتلطيف لمحله)، نشر للمعنيين، يعني: في حذف حرف النداء تقريب له، أي: تنزيه عن بعده، ورفعة لمكانه، لأنه مفاطن ذكي، وليس بساه.

يقال: خطئ، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال (مِنَ الْخاطِئِينَ) بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروي أنه كان قليل الغيرة. [(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ* قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقال: خطئ؛ إذا أذنب متعمداً)، الراغب: "الخطأ: العدول عن الجهة، وذلك أضرب: أحدها: أن تريد غير ما تحسن إرادته، فتفعله، هذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، ويقال فيه: خطئ يخطأ خِطأً وخطَأً وخطأة، قال تعالى: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً) [الإسراء: 31]، (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف: 91]. وثانيها: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع خلافه، فيقال: أخطأ خطأ فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، ومنه الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وقوله: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [النساء: 92]. وثالثها: أن يريد ما لا يحسن فعله، ويتفق خلافه، فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل، فهو مذموم [بقصده] غير محمود بفعله، وهو المراد بقول الشاعر: أردت مساءتي فاجتررت مسرتي ... وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري

(وَقالَ نِسْوَةٌ) وقال جماعة من النساء، وكنّ خمساً: امرأة الساقي، وامرأَة الخباز، وامرأَة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة: اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقى كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها (فِي الْمَدِينَةِ) في مصر (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب (فَتاها) غلامها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجملة الأمر أن من أراد شيئاً واتفق منه غيره يقال له: أخطأ، وإن وقع منه كما أراد يقال: أصاب، ويقال لمن فعل فعلاً لا يحسن، أو أراد إرادة لا تجمل: أخطأ، ولهذا يقال: أصاب الخطأ وأخطأ الصواب وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، هذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها". قوله: (كتأنيث اللمة)، وهي اسم لجماعة النساء، النهاية: "وفي الحديث: "أن فاطمة خرجت في لمة من نسائها"، أي: في جماعة، قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: اللمة: المثل في السن والترب. الجوهري: "الهاء عوض" من الهمزة الذاهبة من وسطه، وأصلها: فعلة؛ من الملاءمة، وهي الموافقة".

يقال: فتاي وفتاتي، أي: غلامي وجاريتي (شَغَفَها) خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسان القلب. قال النابغة: وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِجٌ ... مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيِه الأَصَابِعُ وقرئ: "شعفها" بالعين، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، قال: كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالِى و(حُبًّا) نصب على التمييز، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في خطأٍ وبُعدٍ عن طريق الصواب. (بِمَكْرِهِنَّ) باغتيابهنّ وسوء قالتهنّ، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد حال هم دون ذلك) البيت، يقول: قد حال هم دون ذلك الأمر داخل بين القلب والفؤاد، بحيث تبتغيه الأصابع، فلا تجده من شدة الكمون فيه، وقيل: تبتغيه؛ أي: تلتمسه أصابع الأطباء، ينظرون أنزل في ذلك الموضع أم لا؟ قوله: (كما شعف المهنوءة الرجل الطالي)، أوله لامرئ القيس: أيقتلني وقد شعفت فؤادها قال ابن جني: "معناه: وصل حبه إلى قلبها، وكاد يحرقه بحدته، وأصله من البعير يهنأ بالقطران، فتصل حرارة ذلك إلى قلبه، قال الأصمعي: كل شيء يذهب بالفؤاد من خير وشر فهو شاغف"، وأنشد البيت. قوله: (ومقتها)، الجوهري: "مقته مقتاً: أبغضه".

وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) دعتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات (وَأَعَْدَتْ لَهُنَّ) ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي فعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولنهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل: (متكأ) مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك: نهي أن يأكل الرجل متكئا» وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل (مُتَّكَأً) طعاما، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا، على سبيل الكناية، لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكئ عليها. قال جميل: فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَانَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهْ وعن مجاهد (مُتَّكَأً) طعاماً يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين، لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتضع الخناجر)، الفاء تفصيل لما أجمل في قوله: "أن تقصد الجمع بين المكر به- أي: بيوسف- وبهن"، أي: بالنسوة. قوله: (فظللنا) البيت، "واتكأنا": أي: أخذنا متكأ نتكئ عليه، و"القلل": جمع قلة، وهي الجرة، و"الحلال": النبيذ.

وقرئ "متكاً" بغير همز. وعن الحسن: "متكاء" بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله «بُمْنتَزاحِ» بمعنى بمنتزح. ونحوه «يَنْبَاعُ» بمعنى ينبع. وقرئ: "متكاً" وهو الأترج، وأنشد: فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِي أبِيهَا ... تَخُبُّ بِهَا العثَمْثَمَةُ الْوِقَاحُ وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في "سننه" أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمنتزاح)، قال: وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح قوله: (ونحوه: "ينباع")، أي: في شعر عنترة، قال: ينباع من ذفرى غضوب جسرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم أي: ينبع العرق خلف ناقة غضوب، و"الجسرة": القوية، و"الزيافة": المتبخترة، و"الفنيق": الفحل، و"المكدم"؛ من الكدم، وهو العض. قوله: (فأهدت متكة) البيت، "لبني أبيها": أي: إخوتها، والعثمثمة: الناقة الصلبة، والوقاح: شذيد الحافر.

وقيل: الزماورد وعن وهب: أترجاً وموزاً وبطيخاً. وقيل: أعدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج: مُتَّكَأً مفعلا، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ. (رأينه أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق. قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال يوسف، فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال «كالقمر ليلة البدر». وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها. وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل: "أكبرن" بمعنى حضن، والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الزماورد)، الزماورد: بفتح الزاي، ذكره الأزهري، وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره، كأنه يتكئ عليه السكين، كذا وجدته في الحواشي. قوله: (كما يرى نور الشمس من الماء عليها)، أي: يرى انعكاس ضوء الشمس من الماء على الجدران. قوله: (والهاء للسكت)، قيل: تحريك هاء السكت لحن، فكأنه أجري الوقف مجرى الوصل، فيه جواب عن قول الزجاج: "ويقال: (أَكْبَرْنَهُ): حضن، وقد رويت عن مجاهد،

خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ ... فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ فِى الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها. (حاشَ) كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال: حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ ... ضَنَّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس ذلك بمعروف في اللغة، وأنشدوا بيتاً فيه: يأتي النساء على أطهارهن ولا ... يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا والهاء في (أَكْبَرْنَهُ) تنفي هذا، لأنه لا يجوز: "النساء حضنه يا هذا"، لأن "حضن" لا يتعدى إلى مفعول". ولهذا جعل المصنف الهاء للسكت، والأحسن أن يقال: إن الهاء ضمير مصدر، كأنه قيل: أكبرن إكباراً، كما في قولهم: "عبد الله أظنه منطلق". قوله: (خف الله) البيت، وفيه: "ذابت" بدل "حاضت"، قال الواحدي: "يقول: استر جمالك ببرقع ترسله على وجهك، فإنك إن ظهرت ذابت الشواب في خدورهن عشقاً لك. ويروى: "حاضت"، فإن المرأة إذا اغتلمت حاضت". قوله: (حاشا أبي ثوبان) البيت، قيل: كل مصراع من بيت، وترتيب البيتين هكذا: حاشا أبي ثوبان إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم عمرو بن عبد الله إن به ... ضناً عن الملحاة والشتم

وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا الله» براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ: "حاشا لله"، فنحو قولك: سقيا لك، كأنه قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيت- كما في الكتاب-: رواه ابن جني في "المحتسب". "ضناً": بكسر الضاد، أي: يضن بنفسه عن الملحاة، وهي المفعلة؛ من: لحيت الرجل: إذا لمته، واللحاء- مكسوراً ممدوداً-: اللعن والعذل، وهو مشتق من: لحوت العصا: إذا قشرتها، يقول: أذمهم وألومهم إلا أبا ثوبان، فإني أضن أن ألحاه، أي: أشتمه. قوله: (وهي حرف من حروف الجر)، قيل: إضافة "حاشا" إلى الله لا يستقيم على تقدير كون "حاشا" حرف جر، لأن حرف الجر لا يضاف، وإذا كان حرف جر لا يبتدأ به الكلام، وكذا إذا كان حرف استثناء، كقولك: أساء القوم حاشا زيد، وأما قول الشاعر: "حاشا أبي ثوبان"، فيمكن أن يكون قد تقدمه ما يكون هذا مستثنى منه؛ إذ المعنى: أذمهم وألومهم إلا أبا ثوبان. والجواب: أن قوله: "فوضعت موضع التنزيه والبراءة" يدفع هذا الزعم، وسيجيء عن الزجاج وأبي علي أنها ليست بحرف. قوله: (قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه)، قال ابن الحاجب: "إنه اسم من أسماء الأفعال، بمعنى: برئ الله من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في ( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) [المؤمنون: 36] ".

والدليل على تنزيل «حاشا» منزلة المصدر: قراءة أبي السمال: "حاشَ لِلَّهِ" بالتنوين. وقراءة أبي عمرو "حاشَ لِلَّهِ" بحذف الألف الأخيرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجه قراءة من قرأ بالإضافة أن يكون مصدراً مضافاً، ومن قرأ "حاشاً" بالتنوين، وهو إما أن يكون مصدراً أيضاً أو اسم فعل، والتنوين كما في "صه"، ونم قرأ "حاشا لله" وقلب التنوين ألفاً أجرى الوصل مجرى الوقف، أو يكون اسم فعل موضوع هكذا بغير تنوين. قوله: (وقراءة أبي عمرو: "حاش لله" بحذف الألف الأخيرة)، قال صاحب "التيسير": "قال أبو عمرو: "حاش لله" في الحرفين بألف في الوصل، فإذا وقف حذفها اتباعاً للخط، وروي ذلك عن اليزيدي، والباقون: بغير ألف في الحالين". قال الزجاج: "حاشا لله" و"حاش لله" يقرآن بحذف الألف وإثباتها، ومعناه الاستثناء، المعنى- فيما فسره أهل التفسير-: "قلن: معاذ الله ما هذا بشراً"، وأما على مذهب المحققين من أهل اللغة، فهي مشتقة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته، والمعنى: براءة من الله؛ من التنحي، والمعنى: قد نحى الله هذا من هذا، إذا قلت: حاشا لزيد، معناه: قد تنحى زيد من هذا وتباعد منه". وقال أبو علي: "لا يخلو (حَاشَ لِلَّهِ) أن يكون الحرف الجار في الاستثناء، مثل قول الشاعر:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. حاشا أبي ثوبان أو يكون "فاعل"؛ من قوله: حاشا يحاشي. لا يجوز الأول؛ لأن الجار لا يدخل على مثله، ولأن الحرف لا يحذف إذا لم يكن فيه تضعيف، فتعين الثاني، فـ "حاشا": فاعل؛ من "الحشا" الذي يعنى به: الناحية، أي: صار في حشا- أي: ناحية- مما قرف به، أي: لم يقترفه ولم يلابسه، وصار في عزلة عنه وناحية. وإذا كان فعلا فلابد من فاعل، وفاعله يوسف، أي: بعد عن هذا الذي رمي به لله، أي: لخوفه ومراقبة أمره. وأما حذف الألف فيه: فلأن الأفعال قد حذف منها، نحو: لم يك، ولا أدر، ولم أبل". وقال الجوهري: "حاشا: قد يكون فعلاً وقد يكون حرفاً، قال سيبويه: "حاشا" لا يكون إلا حرف جر، لأنها لو كانت فعلاً لجاز أن تكون صلة لـ "ما"، كما يجوز ذلك في "خلا"، فلما امتنع أن يقال: "جاءني القوم ما حاشا زيداً"، دلت على أنها ليست بفعل، وقال المبرد: "حاشا" قد تكون فعلاً، واستدل بقول النابغة: ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... وما أحاشي من الأقوام من أحد

وقراءة الأعمش حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف الأولى. وقرئ "حاشَ لِلَّهِ" بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتصرفه يدل على أنه فعل، ولأنه يقال: "حاشا لزيد"، فحرف الجر لا يجوز أن يدخل على حرف الجر، ولأن الحذف يدخلها، كقولهم: حاش لزيد، والحذف لا يكون في الحرف". وقلت: إن المصنف اختار مذهب سيبويه، وأناب الحرف مناب المصدر، كما أنهم أمالوا "بلى" و"يا"، مع أن الحروف لا تمال، لأنها أشبهت الجملة في الاستقلال، فكأنها من قبيل الأفعال، وينصره قول المفسرين: معناه: معاذ الله، كما نقله الزجاج. وقال المالكي: والتزم سيبويه فعلية "عدا"، وحرفية "حاشا"، فإن وليها مجرور باللام لم تتعين فعليتها خلافاً للمبرد، بل اسميتها لجواز تنوينها. وقلت: سبق في أول البقرة بيان مجازها. قوله: (وقرئ: "حاش لله")، قال ابن جني: "وهي قراءة الحسن- بخلاف-، وفيه ضعف من وجهين: أحدهما: التقاء الساكنين الألف والشين، وليست الشين مدغمة. والآخر: إسكان الشين بعد حرف الألف، ولا موجب لذلك. وطريقه في الحذف: أنه لما حذف الألف تخفيفاً أتبع ذلك الفتحة؛ إذ كانت كالعرض اللاحق مع الألف، فصارت كالتكرير في الراء، والتفشي في الشين، والصفير في الصاد والسين، والإطباق في الصاد والضاد والطاء والظاء، ومتى حذفت حرفاً من هذه الحروف ذهب معه ما يصحبه من التكرير والصفير والإطباق".

وقرئ: "حاشا الإله". فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى: براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى في قوله: غدت من عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "حاشا الإله")، قال ابن جني: "وهي أيضاً قراءة الحسن، هو كقولك: حاشا الرب، وحاشا المعبود". قوله: (جلست من عن يمينه)، أي: ناحية يمينه. قوله: (غدت من عليه)، [تمامه]: غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفعا ويروى: غدت من عليه بعدما تم ظمؤها ... تصل وعن قيض ببيداء مجهل

منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف: 51] فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله (ما هذا بَشَراً) نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناهٍ في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأنّ الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصف قطاة، واستعار الطمء لها، وهو للإبل خاصة، "تصل": أي: يصوت جوفها من شدة العطش، و"عن قيض": أي: ومن عن قيض، وهو القشر الأعلى من البيض. قوله: (منقلب الألف)، أي: ألا ترى إلى "على"- في قول الشاعر- منقلب الألف إلى الياء مع الضمير، وقلب الألف ياء لا يكون إلا في الحرف. قوله: (وبتتن بها الحكم)، يعني: نفين عنه البشرية بـ "ما"، ثم أثبتن له الملكية بـ "إلا"، وهما في الحصر أصل، وبهما يقطع الحكم. قوله: (إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك)، الانتصاف:

وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة: 2]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أكثر السفاهة، وحسب أن هذه المسألة من الضروريات، وقنع في ذلك بأنه ركز في الطباع، والمراد ها هنا طباع النساء وميلها إلى الشهوات وإيثار العاجلة". الإنصاف: "الآية دلت- إن صح كلام النسوة- على أن الملك أجمل وأحسن من البشر، وليس الخلاف إلا في أيهما أفضل، ولا يلزم من كونه أجمل أن يكون أفضل". قال الإمام: "الأولى أن يكون هذا التشبيه واقعاً في نفي دواعي الشهوة والحرص على طلب المشتهى، وإثبات ضد ذلك، وهو غض البصر وقمع النفس عن الميل إلى المحرمات، بدليل قولهن: (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)، سلمنا لكن تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة، لأن ظهور عذرها في شدة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال، فلم قلتم: إن ذلك يوجب المزيد في الفضل، بمعنى: كثرة الثواب". قلت: ويؤيد هذا قول المصنف في: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ): "قلن ذلك رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به، ولذلك أوثر (بَشَراً) على "إنساناً"، لأن البشر مأخوذ من البشرة، ومن هنا سميت البشارة بشارة، لأنها أخبار تبسط بشرة الوجه بسبب انتشار الدم فيه، ولو قيل: إنساناً لكان نفياً للإنسانية، وكان كلاماً في المعنى، ولزم من ذلك الفضل المطلوب، فملا نفيت عنه البشرية علم أن المنفي كمال حسن المنظر والطلعة البهية. قال الراغب: "الإنسان أوجد لأن يعلم ويعمل بحسبه، فكل إنسان لم يوجد كاملاً لما خلق له لم يستحق اسمه عليه مطلقاً، بل قد ينفى عنه، كقولهم: ليس بإنسان، أي: لا يوجد

ومن قرأ على سليقته من بني تميم، قرأ «بشر» بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: "ما هذا بِشرًى"، أي: ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) تقول هذا بشرًى، أي: حاصل بشرى، بمعنى: هذا مشترى. وتقول: هذا لك بشرى أم بِكرى؟ والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف، ومطابقة "بشرٍ" لـ"ملك". (قالَتْ فَذلِكُنَّ) ولم تقل فهذا وهو حاضر، رفعاً لمنزلته في الحُسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربأً بحاله واستبعاداً لمحله. ويجوز أن يكون إشارةً إلى المعنىّ بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعاني. تقول: هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعني: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتننى في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه المعنى الذي خلق لأجله". قوله: (سليقته)، الجوهري: "السليقة: الطبيعة، يقال: فلان يتكلم بالسليقة؛ أي: بالطبع لا عن تعلم". قوله: (ما هذا بشرى)، قال ابن جني: "هي قراءة الحسن وأبي الحويرث"، وقال الزجاج: "هذه القراءة ليست بشيء، لأن مثل "بشرى" يكتب في المصحف بالياء، وقولهن: (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) مطابق في اللفظ لـ (بَشَراً) ". قوله: (وربأ بحاله)، الجوهري: "يقال: إني لأربأ بك عن هذا الأمر؛ أيك أرفعك عنه".

كأنه في عصمةٍ وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه: استمسك، واستوسع الفتق، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيانٌ لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريءٌ مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. فإن قلت: الضمير في (آمُرُهُ) راجع إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية، فيرجع إلى يوسف. ومعناه: ولئن لم يفعل أمرى إياه، أي: موجب أمري ومقتضاه. قرئ (وَلَيَكُوناً) بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بل إلى الموصول)، أي: لا يرجع إلى يوسف، بل إلى الموصول، لأنه لو عاد إلى يوسف بقي الموصول بلا عائد، أو يلزم حذف الجار مع المجرور. وقال نور الدين الحكيم: بل الأولى أن يكون راجعاً إلى يوسف، والراجع إلى الموصول حذف بعدما نصب بنزع خافضه، كما قرر في قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]، حذف هناك كما استكن ها هنا. قوله: ((وَلِيَكُونَا) بالتشديد والتخفيف)، التخفيف هو المشهور، والتشديد شاذ، قال الزجاج: "القراءة الجيدة التخفيف، والوقف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف، تقول: اضربن زيداً، فإذا وقفت قلت: اضربا، وقرئت بالتشديد وأكرهها لخلاف المصحف، لأن النون الشديدة لا يبدل منها شيء".

[(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ* فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]. وقرئ "السِّجْنُ" بالفتح، على المصدر. وقال (يَدْعُونَنِي) على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزيّن له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: (ربِّ) نزولُ السجن (أحبّ إلي) من ركوب المعصية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يَدْعُونَنِي) على إسناد الدعوة إليهن جميعاً)، فالنون: ضمير جماعة النساء، ووزنه: "يفعلن"، وهذه الصيغة يشترك فيها النساء كما نحن فيه، والرجال كما في قول مؤمن آل فرعون: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر: 41]، قالوا: وفي المذكر ضميرهم، والنون علم الرفع، والواو في المؤنث لام الفعل، والنون ضميرهن. ذكر نحوه في قوله تعالى: (إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة: 237]. قوله: (تنصحن له)، تنصح: أي: تشبه بالنصحاء، وتكلف أن يكون ناصحاً. قوله: (فالتجأ إلى ربه عند ذلك، وقال: رب نزول السجن أحب إلي من ركوب المعصية)، وخوف الفضيحة التي يختار عندها الحمام، كما قالت مريم: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) [مريم: 23]. روى السجاوندي وصاحب "الإيجاز": علق بعض نساء المدينة من صميم شرفها

فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحسنات دهرها سليمان بن يسار، ودخلت عليه من كل مدخل، دخلت عليه مستفتية، وقالت: لئن لم تفعل ما آمرك لأصيحن ولأشهرنك، فسكتها، ثم خرج من المدينة، وجلا وطنه فراراً من المعصية، فرأى يوسف في المنام، فقال له: أنت يوسف عليه السلام؟ قال: نعم، أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم. قوله: (كانت أحب إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر)، قال القاضي: "وقيل: إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا، وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر"، روينا عن الترمذي عن معاذ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك الصبر، قال: "سألت الله البلاء، فاسأله العافية"، وعنه عن عبد الله ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أني سأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج". وقال الإمام: "إنه عليه السلام إنما أجاب بهذا قولها: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ)،

وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) فزعٌ منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أمل إليهنّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتقديره: إذا كان لابد من الإلزام بأحد الأمرين- أعني: الزنى أو السجن-، فهذا أولى، لأنه متى وجب إلزام أحد قسمين؛ كل واحد منهما شر، فأخفهما أولى بالتحمل". قوله: ((وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته)، التقدير: وإن لم تصرف عني كيدهن في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة، (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أمل إلى إجابتهن بطبعي ومقتضى شهوتي. قال الإمام: "كان قد حصل جميع الأسباب المرغبة إلى إجابة دواعي الشهوة، من المال والجاه والتمتع بالمنكوح، وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة، فالتجأ إلى الله تعالى في طلب ترجيح دواعي الحكمة على الشهوة"، قال: "واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى، وإن لم يصرفه فقد وقع فيها"، ومن هذا فر المصنف، وقال: "فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف"، ولا يخفى ضعفه. قوله: ((أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أمل إليهن)، الراغب: "الصبي: من لم يبلغ الحلم، ورجل مصب: ذو صبيان، وصبا فلان صبواً وصبوة: إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان، قال تعالى: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ)، وأصباني فصبوت".

والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا، لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. وقرئ: أصب إليهنّ، من الصبابة. (مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين لا يعملون بما يعلمون، لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي) فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف (السَّمِيعُ) لدعوات الملتجئين إليه (الْعَلِيمُ) بأحوالهم وما يصلحهم. [(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)]. (بَدا لَهُمْ) فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: (ليسجننه)، والمعنى: بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأي (ليسجننه)، والضمير في (لَهُمْ) للعزيز وأهله، (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الْأَيَاتِ) وهي الشواهد على براءته)، قال القاضي: "كشهادة الصبي، وقد القميص، وقطع النساء أيديهن، واستعصامه عنهن". قوله: (ياستنزال المرأة لزوجها)، وهي كناية عن الحيلة، ولهذا صرح بذكر المرأة والزوج، أي: المكيدة التي تجري بين المرأة زوجها من استنزاله من رأيه الصائب إلى ما أرادت، وفيه معنى التدرج، كما جاء في المثل الآتي بعده، الأساس: "ومن المجاز: استنزلته من رأيه". قوله: (وفتلها منه في الذروة والغارب)، مثل في الخداع، لأن رائض الصعبة إذا أراد رياضتها مسح سنامها وذروتها.

وكان مطواعةً لها وجملاً ذلولاً، زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أو عدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: "لتسجننه" بالتاء على الخطاب؛ خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. (حَتَّى حِينٍ) إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود: "عتى حين"، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضي الله عنه: أنه سمع رجلاً يقرأ «عتى حين» فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: "إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام". [(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَاسِي خُبْزاً تَاكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَاوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مطواعة)، المطواعة: بناء مبالغة، والهاء على تأويل النفس، كالهلباجة للأحمق. الأساس: "يقال: هو مطيع ومطواع ومطواعة، قال: إذا سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه".

«مع» يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحبا له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له. (فَتَيانِ) عبدان للملك؛ خبازه وشرابيه، رقي إليه أنهما يسمانه، فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام (إِنِّي أَرانِي) يعني في المنام، وهي حكاية حال ماضية (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر - بلغة عمان-: اسم للعنب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "سدته"؛ أي: اخترته للسيادة. قوله: ("مع" يدل على معنى الصحبة واستحداثها)، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له، قيل: ينتقض هذا بقوله: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ) [النمل: 44]، فيقال: لا ينتقض، بل يحمل ذلك على التخصيص للصارف، يدل عليه قول المصنف في قوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات: 102]: "لا يصح تعليقه بـ (بلغ)، لاقتضائه بلوغهما حد السعي معاً، ولا بـ (السَّعْيَ)، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، فيكون بياناً، كأنه لما قال: فلما بلغ السعي، أي: الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل: مع من؟ قال: مع أبيه". فـ "مع" ها هنا جار على الحقيقة، حال من فاعل "دخل"، وقيد للفعل، فيكون حدوثها مع حدوث الفعل، ولا صارف من الحمل على الحقيقة، فوجب حمله عليها. قوله: (رقي إليه)، الجوهري: "رقى عليه كلاماً ترقية: إذا رفع". قوله: (بلغة عمان)، النهاية: "عمان- بفتح العين وتشديد الميم-: مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأما بالضم والتخفيف: فهو صقع عند البحرين، وله ذكر في الحديث".

وفي قراءة ابن مسعود: "أعصر عنباً" (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أي: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو: من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم. أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روي أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الذين يحسنون عبارة الرؤيا)، قال الزجاج: "فيه أن أمر الرؤيا صحيح، وأن منها ما يصح، ومن دفعه فليس بمسلم، لأنه يدفع القرآن والسنة، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن "الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوة"، وتأويله: أن الأنبياء يخبرون بما سيكون، والرؤيا تدل على ما سيكون". قوله: (إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا)، وإنما قيد في هذا الوجه بالشرط، لأنهما حينئذ ما رأياه يقص عليه أحد رؤياه، وهو يؤولها، ولا سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم، بل أطلقا قولهما: (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فراسة، فناسب لذلك التعليق. قوله: (وإذا أضاق أوسع له)، الأساس: "ومن المجاز: وأصابته ضيقة: فقر، وقد أضاق إضاقة، ورجل مضيق".

وعن قتادة: كان في السجن ناسٌ قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا. اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجراً، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك! وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفيّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكني أحسن جوارك، فكن في أي بيوت السجن شئت. وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشدكما بالله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبنى أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل عليّ من حبها بلاء، فلا تحباني بارك الله فيكما. وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: إني أراني في بستان، فإذا بأصل حبلةٍ عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله (نَبِّئْنا بِتَاوِيلِهِ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنهما تحالما له)، النهاية: "تحلم: إذا ادعى الرؤيا كاذباً، ومنه الحديث: (من تحلم فقد كلف أن يعقد بين شعيرتين) ". قوله: (بأصل حبلة)، النهاية: "الحبلة- بفتح الحاء والباء، وربما سكنت-: الأصل والقضيب من شجر الأعناب"، وكذا في "الصحاح"، وفي "المغرب" بالفتح لا غير. قوله: (تنهش منها)، الأساس: "نهش اللحم وانتهشه: أخذه بمقدم فيه".

قلت: إلى ما قصا عليه، والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك. [(قالَ لا يَاتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّاتُكُما بِتَاوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَاتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)]. لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذى علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، فيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصفاه بالإحسان)، أي: بقوله: (إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ)، أي: من العلماء، الجوهري: "هو يحسن الشيء؛ أي: يعلمه"، وذلك أنهما سمعا يوسف يذكر للناس ما يعلم منه أنه عالم، فلما سمع يوسف هذا وصل به قوله: (لا يَاتِيكُمَا طَعَامٌ) إلى آخره؛ ليريهم أن علمه فوق ما يعلمه العلماء. قوله: (وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد)، أي: جعل وصف نفسه بالعلم الفائق وسيلة إلى ذكر التوحيد، وذلك أن الجواب عن فتواهم هو قوله: (يَا صَاحِبَيِ

فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية. (بِتَاوِيلِهِ) ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك بشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) الآية، لكن قدم عليه مقدمة الدعوة إلى التوحيد، لأنها أول ما يجب على الأنبياء، وبها بعثوا، ولها أمروا، فجعل قوله: (لا يَاتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ) إلى قوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) مخلصاً إلى قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ)، والمخلص: هو الرابطة بين الكلامين الأجنبيين، فتعلقه بالجواب من حيث إن تأويل الأحاديث من المغيبات وهنا كالمقدمة له ليوطن أنفسهما لقبول ما يرد بعده من الجواب وجعله مخلصاً لمطلوبه وإيذاناً بأن العلم بالمغيبات من المواهب التي اختصها الله بالمرتضين من الرسل، والمخلصين من عباده، وجعلت ذريعة إلى الشروع في إثبات التوحيد، ونفي الشرك عن نفسه، على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان، لئلا يلبس له جلد النمر إذا ابتدأ بقوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). وأدمج في المقدمة الرخصة في تزكية النفس عند الاحتياج، يدل عليه قوله: "وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده، لم يكن من باب التزكية". ففي الجواب التخلص إلى توخي المطلوب من إثبات التوحيد والنبوة، والاستدراج إلى إسماع الحق، والإدماج لمعنى التزكية. قوله: ((بِتَاوِيلِهِ) ببيان ماهيته وكيفيته)، النهاية: "التأويل: من: آل الشيء يؤول

(ذلِكُما) إشارة لهما إلى التأويل، أي: ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وأوحى به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم (إِنِّي تَرَكْتُ) يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلاً لما قبله. أي: علمني ذلك وأوحي إليّ، لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى كذا؛ أي: رجع وصار إليه، وتأويل الآية: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل، لولاه ما ترك ظاهر اللفظ". الأساس: "أول الحكم إلى أهله: رده إليهم، ومن المجاز: يقال: لا تعول على الحسب تعويلاً، فالتقوى أحسن تأويلاً؛ أي: عاقبة". والمراد ها هنا المجاز، يعني: إذا أخبرتكما بحقيقة ما يحمل إليكما من الطعام، ثم تجدانه كما أخبرتكما، فقد أنبأتكما بعاقبة ذلك، فهذا التأويل ليس من نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى الدليل، بل يشبه بيان المجمل والمشكل الذي يحتاج إلى تفصيله وكشفه، وذلك أن صاحبي السجن كانا يعلمان على الإجمال ما يحمل إليهما من الطعام، لكن ماهية ذلك الطعام وكيفيته لم تكن عندهم، فإذا بين ذلك لهما فقد فسر المبهم، وإليه الإشارة بقوله: "لأن ذلك يشبه تفسير المشكل". قوله: (ولتوكيد كفرهم بالجزاء)، معطوف على "للدلالة على أنهم" يعني: في تكرير ضميرهم وتقديمه على (كَافِرُونَ) دلالة على الاختصاص والتوكيد، فالتخصيص من التقديم، والتوكيد من التكرير، وقد أشار في تركيبه إلى ذلك بقوله: "إن غيرهم قوم مؤمنون بها"، ثم قوله: "وهم الذين على ملة إبراهيم": دل على التخصيص والتوكيد، وقوله: "للدلالة

ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مُني به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبىّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله. (ما كانَ لَنا) ما صحّ لنا معشر الأنبياء (أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ) أي: شيء كان من ملك أو جنيّ أو إنسيّ، فضلاً أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر، ثم قال (ذلِكَ) التوحيد (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي: على الرسل وعلى المرسل إليهم، لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) المبعوث إليهم (لا يَشْكُرُونَ) فضل الله فيشركون ولا يتنبهون. وقيل: إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة"، ثم قوله: "ولتوكيد كفرهم بالجزاء": دل على ما دل ذلك. قوله: (تعريض بما مني به)، أي: قدر له. النهاية: "يقال: منى الله عليك خيراً يمني منياً، ومنه سميت المنية، لأنها مقدرة بوقت مخصوص"، يعنيك تركت ملة قوم فعلوا بي ما فعلوا بعدما رأوا الآيات، ومن ثم قال: "وإن ذلك مالا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء". قوله: (وقيل: إن ذلك من فضل الله)، أي: عدم صحة الإشراك منا معاشر الأنبياء من فضل الله تعالى، لأنه نصب الأدلة التي ينظر فيها ويستدل بها، فالمشار إليه مضمون الكلام الدال على التوحيد، و"فضل الله" على الأول: سمعي؛ لقوله: "نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه"، وعلى الثاني: عقلي؛ لقوله: "نصب لنا الأدلة".

[(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)]. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) يريد: يا صاحبيَّ في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك: يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب)، الراغب: "الصاحب: الملازم؛ إنساناً كان أو حيواناً، مكاناً كان أو زماناً، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن، وهو الأصل والأكثر، أو بالعناية والهمة، وعلى هذا قال: لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي ولا يقال في العرف إلا لمن كثر ملازمته، ويقال لمالك الشيء: هو صاحبه، وكذلك لمن يملك التصرف فيه، قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) [الكهف: 37]، والإصحاب للشيء: الانقياد له، وأصله: أن يصير له صاحباً، ويقال: وأصحب فلان فلاناً: جعله صاحباً له".

ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول: رجلاً صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله: (أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر: 20]. (مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أربابٌ شتى، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا (خَيْرٌ) لكما (أَمِ) أن يكون لكما ربٌّ واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو (الْقَهَّارُ) الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما تقول: رجلا صدق)، يعني: كما دل الإضافة بمعنى اللام على أن الصدق مالكهما مبالغة، والأصل: رجلان صادقان، كذلك إضافة "صاحبي" إلى "الصدق"، والمراد: صدقتما في صحبتي، أي: بذلتما مجهودكما في حقي، وفعلتما ما يوجبه حق الصحبة. الراغب: "الصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً، ويستعمل في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد؛ نحو: صدق ظني، وفي فعل الجوارح؛ نحو: صدق في القتال: إذا وفى حقه، وفعل ما يجب في القتال". قوله: (وهذا مثل ربه لعبادة الله تعالى)، فيه إشكال؛ لأن الظاهر نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وبعبادته، فأين المثل؟ ! لكن التقدير: أسادات شتى تستعبد مملوكاً واحداً إلى عبادتها خير من سيد واحد قهار، فوضع موضع "الرب السيد": (اللهُ)؛ لكونه مقابلاً لقوله: (أَأَرْبَابٌ)، كقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) [الزمر: 29].

(ما تَعْبُدُونَ) خطابٌ لهما ولمن على دينهما من أهل مصر (إِلَّا أَسْماءً) يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهةً، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها. يقال: سميته بزيد، وسميته زيداً (ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها) أي: بتسميتها (مِنْ سُلْطانٍ) من حجة (إِنِ الْحُكْمُ) في أمر العبادة والدين (إِلَّا لِلَّهِ) ثم بين ما حكم به فقال: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الثابت الذي دلت عليه البراهين. [(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَاكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَاسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)]. (أَمَّا أَحَدُكُما) يريد الشرابي (فَيَسْقِي رَبَّهُ) سيده. وقرأ عكرمة: "فيسقى ربه" أي: يسقى ما يروى به على البناء للمفعول. روي أنه قال للأوّل: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضى في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل (قُضِيَ الْأَمْرُ) قطع وتم ما (تَسْتَفْتِيانِ) فيه من أمر كما وشأنكما. فإن قلت: ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا مسميات تحتها)، صح بالكسر، وهو مبني على ما ينصب به، وعند الأخفش: مبني على الفتح. قوله: (المراد بالأمر: ما اتهما به من سم الملك)، إشارة إلى قوله تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف: 36] الآية، وتفسيره له: "دخل معه السجن عبدان للملك، رقي إليه أنهما يسمانه، فأمر بهما إلى السجن" إلى آخره، كأنهما حين عرضا المنامين عليه طلبا منه تنزيلهما على شأنهما وقصتهما من التهمة، وإيقاعهما

وظنا أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما: (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)، أي: ما يجرّ إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل: جحدا وقالا: ما رأينا شيئاً، على ما روي أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما. [(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)]. (ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ) الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي، ويكون الظنّ بمعنى اليقين (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) صفني عند الملك بصفتي، وقص عليه قصتي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السجن لها، وهل لهما الخلاص من ذلك في العاقبة، فالأمر والشأن هو مجموع هذه الاعتبارات وزبدتها وخلاصتها، ولذلك عاد في بيانه بقوله: "أي: ما يجر إليه من العاقبة" إلى آخره. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: المراد بـ "الأمر": "التأويل" في قوله: (نَبِّئْنَا بِتَاوِيلِهِ)، وعبارة الرؤيا واحدة، وإن تعددت، وما ذكر لا يوافق ما قيل من أنهما تحالما ليمتحناه، وهو قوله: "وظنا أن ما رأياه في معنى ما نزل بهما". وقلت: هو ما عنى بـ "الأمر" إلا "التأويل" الذي هو بمعنى العاقبة، كما سبق أنه ذكر في "الأساس": "لا تعول على الحسب تعويلاً، فالتقوى أحسن تأويلاً، أي: عاقبة"، ألا ترى إلى قوله في الجواب الأول: "أي: ما يجر إليه من العاقبة"، وفي الثاني: "أن ذلك كائن"، والمشار إليه هو قوله: "هلاك أحدهما ونجاة الآخر"، وهو تفسير لقوله: "ما يجر إليه من العاقبة".

لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) فأنسى الشرابي (ذِكْرَ رَبِّهِ) أن يذكره لربه. وقيل فأُنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره (بِضْعَ سِنِينَ) البضع: ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين. فإن قلت: كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت: يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره، وأما الإنساء ابتداءً فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة: 106]. فإن قلت: ما وجه إضافة "الذكر" إلى "ربه" إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت: قد لابسه في قولك: فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير: فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار. فإن قلت: لم أنكر على يوسف الاستغاثة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة: 2]، وقال حكايةً عن عيسى عليه السلام: (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) [آل عمران: 52]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينتاشني من هذه الورطة)، أي: يخلصني، النهاية: "وفي حديث عائشة تصف أباها رضي الله عنهما: "فانتاش الدين بنعشه"، أي: استدركه"، واستنقذه، وتناوله، وأخذه من مهواته.

وفي الحديث «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم»، «من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة»، وعن عائشة رضي الله عنها: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه". وهل ذلك إلا مثل التداوي بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة؟ ! وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ. قلت: كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الله في عون العبد)، الحديث بطوله أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة. وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فأورده البخاري ومسلم والترمذي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر مقدمه المدينة ليلة، فقال: ليت رجلاً صالحاً يحرسني الليلة، قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال: أنا سعد بن أبي وقاص، وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له، ثم نام". قوله: (وإن كان ذلك)، عطف على قوله: "لم أنكر على يوسف الاستعانة في كشف ما كان؟ " أي: إن كان الإنكار لمطلق الاستعانة فليس كذلك، لأن الله تعالى قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2] إلى آخره، وإن كان ذلك لأن الملك كان كافراً فكذا، إلى آخره.

لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا. وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس. [(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَاكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)]. لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته: رأى سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابساتٍ قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها. (سِمانٍ) جمع سمين وسمينة، وكذلك رجال ونسوة كرام. فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع (سِمانٍ) صفة للميز وهو (بَقَراتٍ)، دون المميز وهو (سَبْعَ) وأن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات. فقد قصدت إلى أن تميز "السبع" بنوع من البقرات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها)، الجوهري: "يحسن: يعلم". الأساس: "ومن المجاز: فلان لا يحسن شيئاً، وقيمة المرء ما يحسن". قوله: (إذا أوقعتها صفة لـ (بَقَرَاتٍ)) إلى آخره، بين الفرق بين اللفظين، وأحال الفائدة إلى الذهن، ويمكن أن يقال: إن المميز إذا وصف، ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد، أذن بأنهما مقصودان في الذكر، بخلافه إذا ميز ثم وصف، بل وصف المميز أدعى من وصف العدد، لأن المميز إنما استجلب للوصف، ومن ثم ترك التمييز في القرائن الثلاث؛ (سَبْعٌ عِجَافٌ) و (أُخَرَ يَابِسَاتٍ) و (سَبْعٌ شِدَادٌ)، والمقام يقتضيه، لأن المقصود

وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ. ولو وصفت بها "السبع" لقصدت إلى تمييز "السبع" بجنس البقرات لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فإن قلت: هلا قيل: "سبع عجاف" على الإضافة؟ قلت، التمييز موضوع لبيان الجنس، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده. فإن قلت: فقد يقولون: ثلاثة فرسانٍ وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها: صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجر في غيرها. ألا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ. فإن قلت: ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه، ألا ترى أنه لم يقل بقراتٍ سبعٍ عجافٍ، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات؟ قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء بقولك (سَبْعٌ عِجافٌ) عما تقترحه من التمييز بالوصف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيان الابتلاء بالشدة بعد الرخاء، وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع. قوله: (والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده)، يعني: أن التمييز لبيان الجنس، ولا تدل الصفة على الجنس، لأن الوصف لا يدل على الحقيقة، وإنما يدل على شيء ما متصف بشيء، وإنما جاز "ثلاثة فرسان" و"خمسة أصحاب" لجري "الصاحب" و"الفارس"- بطرح موصوفهما- مجرى الاسم، ولذلك لا يجوز "ثلاثة ضخام" لأنه يلبس. قوله: (ذاك مما يشكل)، أي: "ثلاثة ضخام" و"أربعة غلاظ" مما يشكل، لأنا لا نعلم أن الضخم والغليظ ما هو؟ وما نحن بسبيله معلوم أن (عِجَافٌ) ليس غير البقرات؛ لوقوعه مقابلاً لقوله: (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ)، فهو إذن نحو قولك: "ثلاثة فرسان"؟ وأجاب: أن الأصل أن يجري الوصف على الوصفية، وإنما يترك الأصل إذا منع مانع، كما في قولك: "خمسة أصحاب"، وها هنا لما وصف السبع بالعجاف، فأي حاجة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى جعله تمييزاً، ثم ينتصب للتأويل. وتحريره: أن الكلام تردد بين قوله: "سبع عجاف" على الوصف، وبين "سبع عجاف" على الإضافة، فالحمل على الوصف أولى، لأنك إذا أضفته أزلت "عجاف" عن مقتضاه- وهو الوصف- إلى الجنس بالتأويل، فترك الوصف- الذي هو الأصل- والذهاب إلى الجنس مع حصول المطلوب من الكشف والبيان غير جائز. قال صاحب "الفرائد": لما كانت الصفة قائمة مقام الموصوف في قولنا: "عجاف" على الإضافة، والموصوف معلوم لما تقدم، فقولنا: "سبع عجاف" كقولنا: "سبع بقرات عجاف"، فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة؛ لقيامها مقام الموصوف، فكما يجوز "سبع بقرات عجاف" يجوز "سبع عجاف"، وقوله: "ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل" منظور فيه، لأن الأصل في العدد حصول تمييزه بالإضافة، والوصف على خلاف الأصل، فإذا أضفت وقلت: "سبع عجاف" فالموصوف محذوف، لأنه معلوم، والصفة قائمة مقامه، وإذا لم تضف وجعلته موصوفاً فلابد من تقدير المضاف إليه بأن تقول: "سبع بقرات عجاف"، فكان كل واحد على خلاف الأصل، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات، وهي موصوفة بـ "عجاف"، فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، وهي غير جائزة إلا بتأويل. وقلت: هذا كلام حسن، لأن الأصل "سبع بقرات عجاف" لقضية التقابل، فلما حذف المميز إيجازاً لعدم اللبس انقلب الوصف تابعاً للمميز، فارتفع اعتناء بشأن الوصف، كما سبق أن المقصود الابتلاء بالشدة بعد الرخاء، وأما التفادي عن إضافة الموصوف إلى الصفة دون اعتبار المعنى فأمر سهل.

والعجف: الهزال الذي ليس بعده، والسبب في وقوع «عجافٍ» جمعاً لـ «عجفاء» و"أفعل" و"فعلاء" لا يجمعان على "فعال": حمله على "سمان"، لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض. فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله (وَأُخَرَ يابِساتٍ) بمعنى وسبعاً أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله (وَأُخَرَ يابِساتٍ) على (سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ)، فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع، وهو أن عطفها على (سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) يقتضي أن تدخل في حكمها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حمل النظير على النظير)، قيل: نحو: غار، فإن مصدره "غوور"؛ حملاً له على نظيره ونقيضه، أما نظيره فـ "دخل دخولاً"، وأما نقيضه فـ "خرج خروجاً". قوله: (يؤدي إلى تدافع)، قال صاحب "التقريب": إذ عطفه يقتضي دخوله في حكم السبع المذكور، وكونه مميزاً بالسنبلات الخضر وبالأُخر، ولفظ "الأخر" يقتضي كونه غير السبع، فيصح "سبعة رجال قيام وقعود"، أي: بعضهم قيام وبعضهم قعود، ولا يصح "وآخرين قعود"، وفيه نظر، لأن الصحيح أن العطف في حكم تكرير العامل لا الانسحاب، فلو عطف "آخرين" على "رجال قيام" لكان "سبعة" مكررة في المعطوف، أي: وسبعة آخرين، أي: "رجال آخرين قعود"، ويفسد المعنى، لأن المفروض أن الرجال سبعة. وأما الآية فلو كرر فيها، وقيل: سبع أُخر، أي: وسبع سنبلات أخر، استقام، لأن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخُضر سبعة، واليابسات سبعة، نعم؛ لو فرعنا على المرجوح- وهو انسحاب العامل في العطف- أدى إلى أن السبع المذكورة مميزة بـ "سنبلات خضر" و"سنبلات أُخر يابسات"، وفسد، إذ المراد أن كلاً منهما سبعة، لا أنهما سبعة. فالمثال ليس وزان الآية؛ إذ هو على تكرير العامل يفسد، وعلى الانسحاب يصح، والآية بالعكس، والصحيح التكرير، فجاز العطف، لكن الأولى أن يعطف "أُخر" على (خُضْرٍ)، لا على (سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ)، ليدل على موصوف "أخر"، وهو "سنبلات"، ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق. والتدافع ممنوع؛ إذ العطف يقتضي دخوله في حكم "السبع" المذكور على تقدير الانسحاب، ولفظ "الأُخر" يقتضي أن يكون غير "السبع" المذكور على تقدير التكرير، فلا تدافع. والجواب عنه: أنه قد سبق مراراً وأطواراً أن مذهب المصنف في عطف المفرد على المفرد القول بالانسحاب قطعاً، وبطلانه بأنه مرجوح لا يجديه، على أن ابن الحاجب نص على القول برجحان الانسحاب، حيث قال بعد ذكر المذاهب الثلاثة: "والصحيح الانسحاب في الجميع، وجواز التقدير في المعطوف مطلقاً"، ثم علله بقوله: لأن به يتقوم المعنى المقتضي للإعراب، ولأن المعنى عليه، بدليل "اشتريت الجارية نصفها" و"جاءني غلام زيد وعمرو"، ألا ترى أنه لو قدر الأول لفسد المعنى، وكرر هذا البحث. أما بيان التدافع فيما نحن بصدده: فإن البيان والمبين شيء واحد، فإذا بينت "السبعة" في قولك: "سبعة رجال" بـ "رجال قيام وقعود" على طريق العطف صح، لأن المبين متعدد، ولا منافاة بينه وبين البيان، لأن المراد: بعضهم قيام وبعضهم قعود. وأما إذا

فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة، ولفظ "الأخر" يقتضي أن تكون غير السبع، بيانه: أنك تقول: عندي سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ، بالجرّ، فيصح، لأنك ميزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعود، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود، فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود، تدافع ففسد. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء. واللام في قوله (لِلرُّءْيا) إما أن تكون للبيان، كقوله (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف: 20]، وإما أن تدخل، لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل، إذا قلت: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوة. ويجوز أن يكون (للرؤيا) خبر "كان"، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه. و (تَعْبُرُونَ) خبر آخر. أو حال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعقبته بـ "آخرين"، وكان تفسير "السبعة" أيضاً، حصل الاختلاف وجاء التدافع. وتوهم أن الفساد من جهة أن المفروض أن الرجال سبعة: فاسد، فعلى هذا: في الآية إذا عطفت (يَابِسَاتٍ) وحدها على (خُضْرٍ) صح، وإن لزم الاختلاف في العدد، لأن الكلام في صحة التركيب لا العدد، وأما إذا أتيت بـ "أُخر" جاء التدافع، وأيضاً لو أوجبنا القول بالتقدير دون الانسحاب كان لفظ "أخر" تطويلاً، فوجب صون كلام الله منه، وللقائلين بالانسحاب أن يستدلوا بهذه الآية على وقوعه صريحاً في التنزيل. قوله: (إما أن تكون للبيان)، كأنه لما قيل: كنتم تعبرون، فقيل: لأي شيء؟ فقيل: للرؤيا، كما قال في قوله: (وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ) [يوسف: 20]: "في أي شيء زهدوا فقال: زهدوا فيه".

وأن يضمن (تَعْبُرُونَ) معنى فعلٍ يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره. ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. و"عبرت الرؤيا" بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد والتعبير والمعبر. وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب: رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا ... وَكُنْتُ لِلْأحْلَامِ عَبَّارَا [(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَاوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)]. (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفسٍ أو وسوسة شيطان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تنتدبون)، يقال: ندبته فانتدب؛ أي: دعوته فأجاب، ويعدى باللام. قوله: (وهو عبره)، الجوهري: "وعبر النهر: شطه وجانبه". قال القاضي: "عبارة الرؤيا: الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها؛ من العبور، وهو المجاوزة". قوله: (الذي اعتمده الأثبات)، الأثبات: جمع ثبت، يقال: فلان ثبت؛ أي: ثابت القلب، ولا أحكم بكذا إلا بثبت؛ أي: بحجة.

وأصل "الأضغاث": ما جمع من أخلاط النبات وحزم، الواحد: ضغث، فاستعيرت لذلك، والإضافة بمعنى «من» أي: أضغاث من أحلام. والمعنى: هي أضغاث أحلام. فإن قلت: ما هو إلا حلم واحد، فلم قالوا: (أضغاث أحلام) فجمعوا؟ قلت: هو كما تقول: فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة، تزيداً في الوصف، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان، فجعلوه أضغاث أحلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاستعيرت لذلك)، أي: استعيرت "الأضغاث" للتخاليط والأباطيل، شبهت تخاليط الأحلام وأباطيلها بما جمع من أخلاط النبات وحزم، والجامع الاختلاط من غير تمييز بين جيد ورديء، ثم استعمل "أضغاث" في موضع "الأباطيل"، وجعلت القرينة الإضافة. قوله: (أي: أضغاث من أحلام)، الراغب: "الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام، قال تعالى: (أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا) [الطور: 32]، قيل: عقولهم، وليس الحلم في الحقيقة: العقل، لكنه من مسبباته، وقد حلم وحلمه العقل وتحلم، وقال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ) [النور: 59]، أي: زمان الحلم، وقال تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات: 101]، أي: وجد فيه قوة الحلم، وسمي الحلم لكون صاحبه جديراً بالحلم، يقال: حلم حلماً وحُلماً، وتحلَّم واحتلم، وحلمت به في نومي، أي: رأيته في المنام". قوله: (فلان يركب الخيل، ويلبس عمائم الخز)، قال صاحب "الفرائد": ولما كانت (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) مستعارة لما ذكر، وهي تخاليطها وأباطيلها، وهي متحققة في رؤيا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء، كل واحد منها حلم، فكانت أحلاماً، فلا افتقار إلى ما ذكر من التكلف. وقلت: هذا كلام حسن، وكلام المصنف مبني على أن الحلم والرؤيا مترادفان، فكأنه قيل: أضغاث رؤى، ولا شك أنها رؤيا واحدة لا رؤى، ولذلك استشهد بقول الشاعر: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا ولولا أن الرؤيا والحلم واحد لم يصح قوله: "للأحلام عباراً". قال صاحب "النهاية": "والرؤيا والحلم: عبارة عما يراه النائم في النوم من الأشياء، ولكن غلبت "الرؤيا" على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب "الحلم" على ما يراه من الشر والقبيح، ومنه قوله تعالى: (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، وتضم لام "الحلم" وتسكن، وفي الحديث: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان) ". قال التوربشتي: الحلم عند العرب: مستعمل استعمال الرؤيا، والتفريق إنما كان من الاصطلاحات الشرعية التي لم يقتضها بليغ، ولم يهتد إليها حكيم، بل سنها صاحب الشريعة للفصل بين الحق والباطل، كأنه كرِه أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد، وجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما في صيغتها من الدلالة على مشاهدة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيء بالبصر والبصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان، لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلا فيما يخيل إلى الحالم في منامه من قضاء الشهوة مما لا حقيقة له. وقلت: لعله رحمة الله أراد بقوله: "ولم يهتد غليها حكيم": ما عرفتها الفلاسفة؛ على ما نقله القاضي في "تفسيره": "الرؤيا: انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت، لما بينهما من التناسب، عند فراغه من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها إلى الحس المشترك، فيصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى؛ بحيث لا يكون التفاوت إلا بأدنى شيء، استغنت الرؤيا عن التعبير". والذي يؤيد قول الإمام التوربشتي ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"، وزاد بعضهم: "فإنه لا يكذب"، قال محمد بن سيرين: "وأنا أقول هذه، قال: وكان يقال: والرؤيا ثلاثة: حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله"، هكذا ورد في "جامع الأصول". وإنما خص صلوات الله عليه رؤيا المؤمن، وجعلها جزءاً من أجزاء النبوة، ونص الأعداد، لئلا يشرع

ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها. (وَما نَحْنُ بِتَاوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) إما أن يريدوا بالأحلام: المنامات الباطلة خاصة، فيقولوا: ليس لها عندنا تأويل، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه الفلسفي أصلاً، ويدخلها في تعريفه المختل، لأنها من مشرع لا مجال للعقل فيه. قوله: (رؤى غيرها)، رؤى: كعلى؛ لجمع العليا، الجوهري: "جمع الرؤيا: رؤى، بالتنوين، مثل: رعى". قوله: (وإما أن يعترفوا بقصور علمهم)، الانتصاف: "هذا هو الظاهر، وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي: على لاحِب لا يهتدى بمناره كأنهم قالوا: أحلام باطلة، ولا تأويل للأحلام الباطلة، فيكونوا بها عالمين، وقول الملك لهم: (إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأن "إن" للشك، فجاء اعترافهم مطابقاً لشكه فيهم، وقول الفتى: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَاوِيلِهِ) إلى قوله: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) دليل على ذلك". وقلت: لا ارتياب أن التعريف في (الْأَحْلَامِ): إما للعهد، والمعهود وما صرحوا به من قولهم: (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، وإما للجنس، وهو ما يعلم كل واحد أن الأحلام ما هي؟

[(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَاوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)]. قرئ (وَادَّكَرَ) بالدال وهو الفصيح. وعن الحسن: "واذكر"، بالذال المعجمة. والأصل: تذكر، أي: تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه (بَعْدَ أُمَّةٍ) بعد مدّة طويلة، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك. وقرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّةٍ بكسر الهمزة، والإمّة النعمة. قال عدى: ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّـ ... مَةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ الْقُبُورُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوجهان مبنيان على هذا، والأول هو الظاهر، لأنهم ما جعلوا ذلك المنام أضغاث أحلام إلا لتمهيد عذرهم أنهم غير عالمين بها. قوله: ((وَادَّكَرَ) بالدال)، المهملة: المشهورة، وبالذال المعجمة: شاذة. قوله: ((بَعْدَ أُمَّةٍ) بعد مدة طويلة)، كقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ) [هود: 8]، أي: برهة من الزمان، وطائفة منه، والجملة معترضة. قوله: (ثم بعد الفلاح والملك)، البيت: ثم بعد الفلاح والملك والإمـ ... مة وارتهم هناك القبور أين كسرى كسرى الملوك أبو ... ساسان أم أين قبله سابور قائلهما عدي بن زيد. الفلاح: البقاء والفوز والظفر، يقول: أين عظماء الملوك الذين

أي: بعدما أنعم عليه بالنجاة. وقرئ: "بَعْدَ أُمَّةٍ" أي: بعد نسيان. يقال: أمه يأمه أمها، إذا نسي. ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَاوِيلِهِ) أنا أخبركم به عمن عنده علمه. وفي قراءة الحسن: "أنا آتيكم بتأويله" (فَأَرْسِلُونِ) فابعثوني إليه لأسأله، ومرونى باستعباره. وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة. [(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَاكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)]. المعنى: فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل، ولذلك كلمه كلام محترز فقال (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) لأنه ليس على يقين من الرجوع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانوا في النعمة والحبور، سترتهم القبور عن أعين الناس، ولا يدرى ما حالهم تحت التراب. قوله: (لأنه ذاق أحواله)، أي: إنما قال: (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) لأنه جرب نفسه وأحواله مراراً كثيرة، إذ لا يقال لأحد "صديق" حتى جرب وشوهد منه الصدق مرة بعد مرة، روينا عن البخاري ومسلم: "إن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقاً"، جيء بالمضارع الدال على الاستمرار، وقرن معه كلمة التدرج. قوله: (ولذلك كلمه كلام محترز)، أي: ولأجل أنه ذاق أحواله، وعلم أنه صديق لا

فربما اخترم دونه، ولا من علمهم فربما لم يعلموا. أو معنى (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك. [(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَاكُلُونَ* ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَاكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)]. (تَزْرَعُونَ) خبر في معنى الأمر، كقوله: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ) [الصف: 11]، وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ). (دَأَباً) بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدر: دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أي: دائبين: إمّا على تدأبون دأباً، وإمّا على إيقاع المصدر حالاً، بمعنى: ذوي دأب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصدر منه إلا الصدق، ولا يروج عنده إلا الصدق، كلمه كلام محترز عن الكذب؛ حيث لم يقطع برجوعه إلى الناس، لأن الموت واقع، ولم يقطع أيضاً بأن القوم يعلمون ذلك، لأنه لا اعتماد على فهم الناس، وكرر لفظ الرجاء في الموضعين. قوله: (اخترم دونه)، أي: يموت الشرابي بين يدي رجوعه، أي: قبله. الجوهري: "اخترمهم الدهر وتخرمهم؛ أي: اقتطعهم واستأصلهم". قوله: (مصدر: دأب في العمل)، الجوهري: "دأب فلان في عمله؛ أي: جد وتعب". وقرأ حفص: بالتحريك، والباقون: بالسكون، و (دَأَباً) حال من المأمورين؛ إما بتقدير الفعل وإضماره، وإقامة المصدر مقامه، أو بمعنى: ذوي دأب.

(فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) لئلا يتسوس، و (يَاكُلْنَ) من الإسناد المجازي؛ جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ (تُحْصِنُونَ) تحرزون وتخبؤون. (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الغوث أو من الغيث. يقال: غيثت البلاد، إذا مطرت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعل أكل أهلهن مسنداً إليهن)، قال القاضي: "أي: يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن، فأسند إليهن على المجاز؛ تطبيقاً بين المعبر والمعبَّر به"، يعني: لما كان سبب الادخار السنين المجدبة، كان الصرف إلى أهلهن للأكل الصرف إليهن، ومن هذا الباب قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبيـ ... ـر كر الغداة ومر العشي قوله: (تحرزون وتخبؤون)، قال القاضي: " (تُحْصِنُونَ) [تحرزون] لبذور الزراعة". قوله: (من الغوث أو الغيث)، الراغب: "الغيث: يقال في المطر، والغوث: في النصرة. واستغثته: طلبت الغوث أو الغيث، فأغاثني- من الغوث-، وغاثني- من الغيث-، وقوله: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف: 29] يجوز أن يكون من الغوث أو الغيث، وكذا (يُغَاثُوا) ".

ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا. (يَعْصِرُونَ) بالياء والتاء، يعصرون العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع. وقرئ: "يعصرون"، على البناء للمفعول، من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبنى للفاعل بمعنى ينجون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأعرابية: غثنا ما شئنا)، ذكر ابن دريد في كتاب "المطر" عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء عن ذي الرمة: "قاتل الله أمة بني فلان ما أغربها؛ سألتها عن المطر ببلادهم، قالت: غثنا ما شئنا، أي: أصابنا الغيث". قوله: ((يَعْصِرُونَ) بالياء والتاء)، حمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. قوله: (من: عصره؛ إذا أنجاه)، الجوهري: "واعتصرت بفلان وتعصرت: إذا التجأت إليه، قال الله تعالى: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، وقال أبو عبيدة: (يَعْصِرُونَ) أي: ينجون؛ وهو من العصرة؛ وهي المنجاة". قوله: (ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى: ينجون)، أي: (يَعْصِرُونَ) بمعنى: ينجون، كما أن "يعصرون" من: عصره؛ إذا أنجاه.

كأنه قيل: فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أي: يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل (يَعْصِرُونَ) يمطرون، من أعصرت السحابة. وفيه وجهان: إمّا أن يضمن "أعصرت" معنى مطرت، فيعدّى تعديته. وإمّا أن يقال: الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل. تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركا خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحى. وعن قتادة: زاده الله علم سنة. فإن قلت: معلومٌ أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لم توصف بالانتهاء، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحي؟ قلت: ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلاً. وقوله (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) تفصيلٌ لحال العام، وذلك لا يعلم إلا بالوحي. [(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ* قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من: أعصرت السحابة)، ومنه قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً) [النبأ: 14]، قال: "المعصرات: السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع؛ إذا حان له أن يجز". قوله: (علماً مطلقاً)، يعني: لا يشك أحد في معرفة انتهاء الجدب إلى الخصب، لكن

إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه. وفيه دليلٌ على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم» ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه: «هي فلانة»؛ اتقاء للتهمة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخصب يحتمل أن يكون تاماً وغير تام، ونصوصية أحدهما لا تُعلم إلا بالوحي، فقوله: (يَعْصِرُونَ) يدل على خصب تام لا مزيد عليه، كأنه قيل: ينتهي الخصب حتى يتجاوز من المأكول إلى المشروب والادخار فيه. وتكرير "فيه" تتميم لقوله: (يَعْصِرُونَ)، وفي تخصيص اسم "الناس" دون أن يقال: "تغاثون"، كما قيل: (تَزْرَعُونَ)، تعميم لأثر الخصب في سائر الأماكن، وفي إيثار (يُغَاثُ) دون "يمطر" تتميم للتتميم. قوله: (لئلا يتسلق الحاسدون)، الأساس: "سلقت اللحم عن العظم: قشرته، وهو يتكلم بالسليقة، وتسلق الحائط. ومن المجاز: سلقه بلسانه، ولسان مسلق، ومنه قوله تعالى: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) [الأحزاب: 19] ". قوله: (ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن)، استعمل الخلود في امتداد الزمان وطول المكث، دون الدوام والأبد، كما هو عليه مذهب أهل السنة. قوله: ("هي فلانة" اتقاء للتهمة)، الحديث من رواية أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع إحدى نسائه، فمر به رجل، فدعاه، وقال: هذه زوجتي، فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، أخرجه مسلم. قوله: (والله يغفر له)، قيل: هذا إشارة على ترك العزيمة بالرخصة، وهي تقديم حق الله بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه. وقلت: قد أسلفنا في سورة "براءة" على أن مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب وتوقيره وتوفر حرمته، وهو كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي؟ قوله: (لأسرعت الإجابة)، الحديث: من رواية الإمام أحمد بن حنبل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر". وعن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم جاءني الرسول لأجبت"، قال محيي السنة في "شرح السنة": إنه صلى الله عليه وسلم "وصف يوسف

إن كان لحليماً ذا أناة». وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث، حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالأناة والصبر حيث لم يبادر إلى الخروج حين جاء رسول الملك؛ فعل لامذنب حين يعفى عنه مع طول لبثه في السجن، بل قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ)، أراد أن يقيم الحجة في حبسهم إياه ظلماً، فقال صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع، لا أنه صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً، ولا يضع رفيعاً، ولا يبطل لذي حق حقاً، ولكنه يوجب لصاحبه فضلاً، ويكسبه جلالاً وقدراً". قوله: (إن كان لحليماً)، "إن" هي المخففة من الثقيلة، الأناة: الوقار، وقيل: هو اسم من التأني في الأمور. قوله: (لأن السؤال مما يهيج الإنسان)، أي: يحرك منه، يعني: قوله: (فَاسْأَلْهُ) يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي: سلة عن حقيقة شأنهن، وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهن، فحين قيده بلفظة (مَا) التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ظاهراً هيجه للتفتيش عن حالهن، لأن الإنسان حريص على تحصيل تحقيق الشيء، ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به، بخلاف ما لو قال: سله أن يفتش، أي: اطلب منه، فإنه لا يبالي بهذا الطلب، ولا يلتفت إليه، سيما عن أمثال الملوك. قوله: (وفص الحديث)، الأساس: "فلان حزاز الفصوص: إذا كان مصيباً في رأيه وجوابه، وأتيتك من فصه؛ أي: من محزه وأصله، ومنه فصوص الأخبار".

وقرئ "النُّسْوَةِ" بضم النون. ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ. (إِنَّ رَبِّي) إنّ الله تعالى (بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أراد أنه كيدٌ عظيمٌ لا يعلمه إلا الله لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه، وأنه بريء مما قرف به. أو أراد الوعيد لهنّ، أي: هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه. (ما خَطْبُكُنَّ) ما شأنكنّ (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ) هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ؟ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي: ثبت واستقرّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو استشهد بعلم الله على أنهن كدنه)، كأنه قال: "فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وأردن كيدي، والله شاهدي على ذلك"، وشهادة الله تلك الأمارات الدالة على براءته، والوجه الثالث بعيد وبعيد من كرم يوسف عليه السلام، والوجه هو الأول، ولهذا أتى بالموصولة، وأوقع صلتها قطع الأيدي؛ ليصور تلك الحالات واللاتي جلسن متكئات دهشات، وأردن الكيد بهن، ويستحضر صورتها في ذهن السامع، ويتعجب منها، فيكون وسيلة إلى الاستعلام. قوله: (هل وجدتن منه ميلاً إليكن)، فإن قلت: كيف دل قوله: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ) على هذا؟ قلت: من حيث إنه مطلق، ومقام الباعث للسؤال من قوله: (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) يستدعيه، ألا ترى كيف كان الجواب قولهم: (حَاشَ لِلهِ)؟ قوله: ((حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي: ثبت واستقر)، الراغب: "حصحص الحق: وضح، وذلك

وقرئ "حَصْحَصَ" على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة، قال: فَحَصْحَصَ فِى صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِهِ ... وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بانكشاف ما يغمره، وحص وحصحص: نحو: كف وكفكف، وكب وكبكب. وحصه: قطع منه، إما بالمباشرة أو بالحكم، فمن الأول قول الشاعر: قد حصت البيضة رأسي ومنه قيل: رجل أحص؛ انقطع بعض شعره. والحصة: القطعة من الجملة، واستعملت استعمال النصيب. قوله: (فحصحص في صم الصفا)، البيت: المستتر في "فحصحص" للبعير. "ثفناته": مباركه؛ جمع الثفنة، وهي ما ولي الأرض من كل ذي أربع إذا برك؛ مثل الركبتين والكلكل. وناء [به] الحمل: إذا أثقله. والتصميم: المضي في الأمر، يعني: ركبت عليه

واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهنّ خصومه. وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. وقالت المجبرة والحشوية: نحن قد بقي لنا مقال، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته. [(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)]. (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) من كلام يوسف، أي: ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) بظهر الغيب في حرمته. ومحل (بِالْغَيْبِ) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى: وأنا غائب عنه خفي عن عينه أو وهو غائب عني خفي عن عيني. ويجوز أن يكون ظرفاً، أي: بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة وَليعلم أَنَّ (اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) لا ينفذه ولا يسدّده، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سُلمى ونهض بها وسار، يقول: هذا البعير ألقى ثفناته، ثم قام بسلمى وقصد السفر، ومضى في السفر. قوله: (ذلك التثبت)، التعريف في "التثبت" للعهد، وهو قول يوسف عليه السلام للرسول: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) إلى آخره، أي: تلك الجسارة لأجل أن يعلم أني لم أخنه. قوله: (في حرمته)، أي: في امرأته، قال: تهوى حياتي وأهوى موتها شغفاً ... والموت أكرم نزال على الحرم

وكأنه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده. [(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكأنه تعريض بامرأته)، الراغب: "خص الخائنين تنبيهاً على أنه قد يهدي كيد من لم يقصد بكيده خيانة، ككيد يوسف بأخيه". قوله: (ويوز أن يكون تأكيداً لأمانته)، أي: اعتراضاً وتذييلاً، فيجب إثبات الكيد ليوسف عليه السلام لتظهر به أمانته، وتندفع عنه الخيانة التي نسبت إليه، وهو ما ذكره في قوله: "ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب"، لأن صورته صورة الكيد، يعني: لو كنت خائناً ما برأت ساحتي حتى بتشمري وتثبتي. قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، تمامه: "بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري.

وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إمّا أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإمّا أن يريد به عموم الأحوال (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أراد الجنس، أي: إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) إلا البعض الذي رحمه ربى بالعصمة كالملائكة. ويجوز أن يكون (ما رَحِمَ) في معنى الزمن، أي: إلا وقت رحمة ربي، يعني: أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، كقوله: (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً) [يس: 43 - 44]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يخلو: إما أن يريد في هذه الحادثة؛ لما ذكرنا من الهم الذي هو ميل النفس لا العزم، وإما أن يريد عموم الأحوال)، الانتصاف: "عموم الأحوال أبلغ في التنزيه وهضم النفس، وابعد عن تزكيتها". قوله: ((وَلا هُمْ يُنقَذُونَ* إِلاَّ رَحْمَةً))، أي: "ولا هم ينجون من الموت بالغرق إلا لرحمة منا"، هكذا ذكره، وهو استثناء متصل من أعم عام المفعول له، قال أبو البقاء: "هو مفعول له أو مصدر، وقيل: هو استثناء منقطع". وقلت: تقديره: ولا هم ينجون من الغرق البتة، ولكن رحمة ربي هي التي تنجيهم.

وقيل معناه: ذلك ليعلم أني لم أخنه لأنّ المعصية خيانة. وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، أي: ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن، وأودعته السجن، تريد الاعتذار مما كان منها - إنّ كل نفس (لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي) إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: ذلك ليعلم الله)، معطوف على قوله: "ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز". فإن قلت: ما معنى قول يوسف: ليعلم الله أني لم أخنه بالغيب؟ قلت: معنى قوله تعالى: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143]، وذلك أن الله لم يزل عالماً بأن يوسف لم يخنه، لكن المراد أن يسأل الملك ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ليجزي الله بصبري عن معصية الله، لأن معصيته خيانة، بأن يظهر بسؤاله براءة ساحتي، ويكرمني ويرفع منزلتي. قوله: (وقيل: هو من كلام امرأة العزيز)، معطوف على قوله: " (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ) من كلام يوسف"، والأول أوفق لتأليف النظم من غير تقديم ولا تأخير، وذلك أن النسوة لما بر أن ساحته على سبيل التأكيد، حيث جعلن (حَاشَ لِلهِ) تمهيداً وتشبثاً بقوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)، فنفين عنه السوء المنكر على سبيل الاستغراق، وكذا امرأة العزيز قدمت الفاعل المعنوي في قولها: (أَنَا رَاوَدتُّهُ) على سبيل الاختصاص، وأتبعته قولها: (وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ) تقريراً له، أي: هو من زمرة الصادقين، وله مساهمة في الصدق، وأن هذا الوصف كاللقب المشهور له، قال يوسف: (ذَلِكَ) أي: ذلك السؤال والجواب (لِيَعْلَمَ) الملك أني لم أخن العزيز بظهر الغيب في حرمته، ومن ذلك (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) براءة كلية كما

فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ قلت: كفى بالمعنى دليلاُ قائداُ إلى أن يجعل من كلامه. ونحوه قوله (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) [الأعراف: 109 - 110]، ثم قال (فَماذا تَامُرُونَ) [الأعراف: 110] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم. وعن ابن جريج: هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) [يوسف: 52] متصل بقوله: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول) [يوسف: 50]، ولقد لفقت المبطلة رواياتٍ مصنوعة، فزعموا أن يوسف حين قال: (أني لم أخنه بالغيب) [يوسف: 52]، قال له جبريل: ولا حين هممت بها، وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله. [(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشرف إليها على مر، كيف وأني هممت بها لولا أن رأيت برهان ربي، فعلى هذا: قوله: (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي) إشارة إلى ذلك البرهان، والاستثناء منقطع، وكان ذلك منه عليه السلام تفادياً عن الركون إلى إطراء المدح، وتصديقاً لقوله: (وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ)، أي: المتوغلين في الصدق. قوله: (هذا من تقديم القرآن)، أي: ذهب ابن جريج إلى أن قوله تعالى: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) متصل بقوله: (فَاسْأَلْهُ)، كأنه قيل: فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ليخبرنه ببراءتي، وذلك السؤال لأجل أن يعلم أني لم أخنه بالغيب.

يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) وشاهد منه ما لم يحتسب (قالَ) أيها الصديق (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء. روي أنّ الرسول جاءه فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جدداً» فلما دخل على الملك قال: اللهمّ إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصدّيق، إني أحب أن أسمع رؤياي منك. فقال: رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً، وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحدٍ قبلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تعم عليهم الأخبار)، الجوهري: "عميت معنى البيت تعمية، ومنه المعمى"، فقوله: "اعطف عليهم قلوب الأخيار" كناية عن طلب خلاصهم، وقوله: "ولا تُعم عليهم" كناية عن طلب ما به يحصل تسليهم في ذلك المكان من الاعتبار بالواقعات. قوله: (في الأهراء)، واحدها: هري، وهو الأنبار، ولم أجده إلا في الحاشية.

[(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)]. (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) ولِّني خزائن أرضك (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالمٌ بوجوه التصرف، وصفاً لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة". فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم: وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. [(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)]. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التمكين الظاهر (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) في أرض مصر. روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) قرئ بالنون والياء؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويرونه)، أي: يعتقدونه من الرأي، وهو الاعتقاد. قوله: ((حَيْثُ يَشَاءُ) قرئ بالنون والياء)، بالنون: ابن كثير، والباقون: بالياء.

أي: كل مكانٍ أراد أن يتخذه منزلا ومتبوّأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روي أنّ الملك توّجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت. وروي أنه قال له: أمّا السرير فأشدّ به ملكك. وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوّجه الملك امرأته زليخاً، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين: إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورداه بسيفه)، أي: وشحه، الأساس: "لبست المرأة رداءها؛ أي: وشاحها. وتردت وارتدت: توشحت". وأنشد: ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر عنه بشطر قوله: (أما السرير فأشد به ملكك)، أي: أضبطه وأسخره لك، ولما كان السرير يرادف الملك ويلازمه- حتى قيل: استوى فلان على السرير، واريد: سخر له الملك، ودان له الناس، وإن لم يقعد على السرير- قال ذلك، فهو كناية عن ذلك لا تنافي حقيقة الجلوس على السرير مع ضبط الملك، ولذلك عقبه بقوله: "فجلس على السرير، ودانت له الملوك". قوله: (وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي)، يخالفه قوله بعد هذا: "في عنقه طوق، وعلى رأسه تاج"، إلا أن يحمل قوله: "وضعته إجلالاً لك" على أنه من كلام يوسف لا الملك، أي: وضعته على رأسي إجلالاً لأمرك.

وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيءٌ منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً، فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجلّ ولا أعظم منه! فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني فما ترى؟ قال: الرأي رأيك. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم. ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطاً بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين. (بِرَحْمَتِنا) بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم (مَنْ نَشاءُ) من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أن نأجرهم في الدنيا. [(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)]. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الاخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. [(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)]. لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يعرفوه لطول العهد)، تفسير لقوله: (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)، فدل هذا وقوله بعيد هذا: "أخبروني من أنتم؟ وما شأنكم؟ فإني أنكركم" على أن الإنكار يضاد العرفان، ولذلك أوقع الله تعالى: (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) مقابلاً لقوله: (فَعَرَفَهُمْ).

مشرياً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل: رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوقٌ من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيدٍ بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك، ولأنّ همته كانت معقودةً بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن. وعن الحسن: ما عرفهم حتى تعرّفوا له. [(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَاتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. قال الراغب: "المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكر لأثره، فهو أخص من العلم، يقال: فلان يعرف الله، ولا يقال: يعلم الله، متعدياً إلى مفعول واحد، لما كان معرفة البشر لله تعالى بتدبر آثاره دون إدراك ذاته. ويقال: الله يعلم كذا، ولا يقال: يعرف، لأن المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر، وأصله من: عرفت، أي: أصبت عرفه؛ أي: رائحته، ويضاد المعرفة الإنكار، كالعلم للجهل، قال تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) [النحل: 83]، والعارف في تعارف القوم: هو المختص بمعرفة الله، ومعرفة ملكوته، وحسن معاملته". قوله: (على زي فرعون)، وفرعون إنما ملك بعد يوسف في عهد موسى عليه السلام، يقال لملوك مصر: الفراعنة، واليمن: التتابعة، والروم: القياصرة، والفرس: الأكاسرة.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي: أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة. وقرئ "بِجِهازِهِمْ" بكسر الجيم قالَ (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لا بد من مقدمةٍ سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبروني من أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟ . قالوا: نحن قومٌ من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال: لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي؟ قالوا: معاذ الله، نحن إخوة بنو أبٍ واحد، وهو شيخ صدّيق نبي من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا كنا اثنى عشر، فهلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون، وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بِجَهَازِهِمْ) أي: أصلحهم بعدتهم)، الراغب: "الجهاز: ما يعد من متاع وغيره، والتجهيز: حمل ذلك وبعثه، وضرب البعير بجهازه: إذا ألقى متاعه في رحله فنفر". قوله: (من الميرة)، قيل: هو بيان "ما"، بل هو صلة "أوقر"، لأنهم الممتارون، يدل عليه ما ذكر قبيل هذا: "فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا"، والباء في "بما جاؤوا له" بدلية، و"ما جاؤوا له" هو البضاعة التي في قوله: (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ). قوله: (عورة بلادي)، العورة: الخلل، أراد الخلل التي تكون في الثغور.

وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم. (وَلا تَقْرَبُونِ) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في حكم الجزاء مجزوماً، عطفاً على محل قوله (فَلا كَيْلَ لَكُمْ) كأنه قيل: فإن لم تأتونى به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهي. [(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)]. (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى تنتزعه من يده (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) وإنا لقادرون على ذلك لا نتعايى به. أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى. [(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً)، قال بعضهم: فيه نظر، لأنه يخالف ما قال قبل هذا في تفسير قوله: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) [يوسف: 10]: "هو يهوذا، وكان أحسنهم رأياً، وهو الذي قال: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ) [يوسف: 80] ". قوله: (وأن يكون بمعنى النهي)، يعني: يكون داخلاً في حكم الجزاء معطوفاً عليه، لكن جزمه لأجل النهي. قوله: (لا نتعايا به)، يقال: أعيا عليه الأمر وتعايا: إذا عجز عنه، وعلى هذا: قوله: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) تذييل وتوكيد لفعل المراودة، وأنه يصدر منهم البتة، إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، لأن الأفعال مصادرها القدرة، وعلى الثاني: توكيد للوعد، ومن ثم قال: "لا نفرط فيه".

(لِفِتْيتهِ) وقرئ (لفتيانه) وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، و «فعلة» للقلة. و «فعلان» للكثرة، أي: لغلمانه الكيالين (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرّم بإعطاء البدلين (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) وفرغوا ظروفهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها. وقيل: معنى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعلهم يردّونها. [(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)]. (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) يريدون قول يوسف (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي)، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معنى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))، عطف على قوله: "لعل معرفتهم" إلى آخره، فيكون من الرجع، لا من الرجوع. قوله: (بإعطاء البدلين)، أي: البضاعة والكيل. قوله: (لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل)، تعليل لتفسير (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) بقوله: (فَلا كَيْلَ لَكُمْ)، وذلك أنه عليه السلام منعهم من الاكتيال، وهذه العبارة تفيد أن الممنوع هو الكيل، فيكون كناية عنه.

(نَكْتَلْ) نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرئ «يكتل» بمعنى يكتل. أخونا، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه. [(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)]. (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) يريد أنكم قلتم في يوسف: (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف: 12]، كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً) فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم. و (حافِظاً) تمييز، كقولك: هو خيرهم رجلاً، ولله درّه فارساً. ويجوز أن يكون حالاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نرفع المانع)، يعني: جواب الأمر هذا، فوضع موضعه (نَكْتَلْ)، لأن يوسف عليه السلام لما علق المنع من الكيل بعدم إتيان أخيهم في قوله: (فَإِنْ لَمْ تَاتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ)، كان إرساله رفعاً لذلك المانع، فوضع موضعه (نَكْتَلْ)، لأنه المقصود، وقوله: "ونكتل من الطعام" شروع في تفسير الاكتيال. قال السجاوندي: سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن (نَكْتَلْ)، فقال: "نفعل"، قال المازني: فإذن ماضيه "كتل"، بل وزنه "نفتل". قوله: (أو يكن سبباً للاكتيال)، فعلى هذا: إسناد "يكتل" إلى أخي يوسف على المجاز. قوله: (ثم خستم بضمانكم)، الأساس: "ومن المجاز: خاس العهد وبوعده؛ إذا نكث وأخلف، وخاس بما كان عليه".

وقرئ «حِفظاً» وقرأ الأعمش: "فالله خير حافظٍ". وقرأ أبو هريرة: "خير الحافظين"، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجوا أن ينعم علىّ بحفظه ولا يجمع علىّ مصيبتين. [(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)]. وقرئ: "رُدَّتْ إِلَيْنا" بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب: ضرب زيدٌ. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد، (ما نَبْغِي) للنفي، أي: ما نبغي في القول، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "حفظاً")، (حَافِظاً): حفص وحمزة والكسائي، والباقون: "حفظاً". قال أبو البقاء: " (حَافِظاً) بالألف: تمييز، ومثل هذا يجوز إضافته، وقيل: هو حال، و"حفظاً": تمييز لا غير". قوله: (ولا يجمع علي مصيبتين)، يعني: جيء بقوله: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) تذييلاً لقوله: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) للاستعطاف والترحم، ومن ثم اعتبر في معناه الحفظ، وقال: "فأرجو أن ينعم علي بحفظه". قوله: ("ردت إلينا" بالكسر)، قال ابن جني: "هي قراءة علقمة ويحيى".

وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو: على الاستفهام، بمعنى: أي شيءٍ نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود: "ما تبغي" بالتاء، على مخاطبة يعقوب، معناه: أي شيءٍ تطلب وراء هذا من الإحسان؟ أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله: (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) جملة مستأنفة موضحة لقوله (ما نَبْغِي) والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) في رجوعنا إلى الملك (وَنَحْفَظُ أَخانا) فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أو ساق أباعرنا، فأي: شيء نبتغى وراء هذه المباغى التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط. فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما نتزيد)، قال أبو علي: تزيد في الحديث: تكذب فيه، المعنى: زاد فيه ما لم يكن منه. قوله: (أو ما نبتغي شيئاً ولا ما فعل بنا)، يعني: بالغ في الإكرام بحيث لا مزيد عليه فلا يطلب شيئاً آخر. قوله: (وسق بعير)، قال الخليل: الوسق: حمل البعير، والوقر: حمل البغل والحمار.

وهي قوله (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله: (ما نَبْغِي) على معنى: لا نبغي فيما نقول (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ)، أي: قوله: (وَنَمِيرُ). قال صاحب "الفرائد": لا تصلح الواو في الابتداء، ولا أن تكون للعطف أو للحال، وفي هذا المقام هو للعطف، والتقدير: ما نكذب، هذه بضاعتنا ردت إلينا، وكان الرد دليلاً على صدقنا فيما قلنا؛ من أنه أكرمنا كما وصفنا، نمشي بها، ونمير أهلنا، وكذا القول في الوجه الثالث والرابع. وقلت: نحو هذا- أي: المعطوف عليه- قدره المصنف في غير هذا الوجه، وهو ما ضبط معناه بقوله: "كلاماً مبتدأ"، فإنه أراد الاعتراض والتذييل، كقولك: فلان ينطق بالحق، والحق أبلج، ألا ترى إلى قوله: "وينبغي لي أن لا أقصر" مقابلاً لقوله: "وينبغي أن نمير"، وعليه قوله تعالى: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) كما سبق، ومن ثم قال: "وإنا لفاعلون ذلك لا محالة"، ألا ترى أنه كيف عقب بقوله: "واجتهدت في تحصيل غرضه" قوله: "سعيت في حاجة فلان"، ثم عقبهما مؤكداً بقوله: "وينبغي لي أن لا أقصر". وتوجيه السؤال أن قوله: (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) بيان لقوله: (مَا نَبْغِي)، بمعنى: لا نكذب، لكن (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا) لا يصلح أن يكون بياناً له، فلا يجوز العطف على البيان، وأما إذا جعلته جملة مؤكدة على سبيل التذييل والاعتراض استقام، لأن الكلام في الامتياز، وكل من الجمل في معناه. نعم؛ يصح أن يكون بياناً إذا حمل (مَا نَبْغِي) على معنى المشورة والرأي، كما قال: "وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير"، ويراد بقوله: (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا) العرض وما يرجعون به إلى طلب الميرة، وإليه الإشارة بقوله: "ونفعل ونصنع؛ بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم". وما قدره صاحب "الفرائد" أيضاً وجه يصار إليه.

كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: (هذه بضاعتنا) نستظهر بها (ونمير أهلنا) ونفعل ونصنع، بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح. (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى (كيل بعير)، أي: ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) [يوسف: 52]. [(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَاتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)]. (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) مناف حالي- وقد رأيت منكم ما رأيت-: إرساله معكم، (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ))، يعني: كما أن قوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) يحتمل أن يكون من كلام يوسف، وأن يكون من كلام زليخا، كذلك قوله: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) احتمل أن يكون من كلام الأخوة، وأن يكون من كلام أبيهم. قوله: (إرساله معكم)، متعلق بقوله: "مناف لحالي"، وقوله: "وقد رأيت منكم ما رأيت" إما حال أو جملة معترضة، قال في "الانتصاف": "لما اعتمد في نفي الرؤية على أن

أراد أن يحلفوا له بالله: وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه؛ لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه (لَتَاتُنَّنِي بِهِ) جواب اليمين، لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتننى به (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت: أخبرنى عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: (أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله (لَتَاتُنَّنِي بِهِ) في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أى: لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل إلا لعلةٍ واحدة، وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم: أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "لن" تأكيد للنفي، فإذا قلت: لن أفعل، فالمعنى: لن أفعله، وأن فعله ينافي حالي، قال: مناف لحالي". قوله: (وقد أذن الله في ذلك، فهو إذن منه)، تفسير لموقع (مِنَ اللهِ) في قوله تعالى: (مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ). قوله: (أقسمت بالله لما فعلت)، روي عن المصنف أنه قال: "أقسمت" هو إثبات في الظاهر، وليس به، لأنه في معنى النفي، وقسم وليس بقسم، لأنه في معنى الاستدعاء والطلب، وظاهر "لما" الوقت، وليس بوقت، لأنه في معنى الاستثناء، وما بعده فعل،

تريد: ما أطلب منك إلا الفعل (عَلى ما نَقُولُ) من طلب الموثق وإعطائه (وَكِيلٌ) رقيب مطلع. [(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ* وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)]. وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوى بهاء وشارةٍ حسنة، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس بفعل، لأنه في معنى الاسم، فالكلام كله- إذن- ليس على ظاهره، بل مؤول، ولذلك أعضل على سيبويه حتى قال: سألت الخليل عن قول العرب: "أقسمت بالله لما فعلت". قال في "الانتصاف": "إنما اختص قوله: (لَتَاتُونَنِي بِهِ) في النفي، لأن المستثنى منه مسكوت عنه، والنفي عام؛ إذ يلزم من نفي الإتيان نفي عوارضه، فكأنها مكررة، بخلاف الإثبات، فإنه لا إشعار له بعموم الأحوال، فلا توقف له إلا على أحدها، ولقد صدق القائل: "البلاء موكل بالمنطق"، قال: (وَأَخَافُ أَنْ يَاكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف: 13]، فقالوا: أكله الذئب، وقال: (إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)، فأحيط بهم". وقال أبو البقاء والقاضي: "التقدير: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم". قوله: (وشارة حسنة)، الجوهري: "الشارة: اللباس والهيئة".

فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق: هذا فعل الله، ويقول الحشوي: هو أثر العين، كما قال تعالى: (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية [المدثر: 31]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذ كما بكلمات الله التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهامّة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيعانوا لجمالهم)، الجوهري: "عنت الرجل: أصبته بعيني، فأنا عائن، وهو معين؛ على النقص، ومعيون؛ على التمام، وقال الشاعر في التمام: قد كان قومك يحسبونك سيداً ... وإخال أنك سيد معيون" قوله: (كان يعوذ الحسن والحسين)، روينا عن البخاري والترمذي وأبي داود عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة؛ من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم، ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. ثم قال (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي: متفرقين (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الجامع": "الهامة: واحدة الهوام، وهي الحيات وكل ذي سم يقتل، فأما ما لا يقتل ويسم فهو السوام، وواحدها: سامة، كالعقرب والزنبور، وقد تقع "الهوام" على كل ما يدب من الحيوان. واللامة: ذات اللمم، ولم يقل: ملمة، وإن كانت من: ألمت تلم؛ طلباً للازدواج بـ (هامة) "، ويجوز أن تكون على ظاهرها؛ بمعنى: جامعة للشر على المعيون؛ من: لمه يلمه؛ إذا جمعه. قوله: (ثم قال: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ))، عطف على مقدر، و"ثم" للتراخي في الأخبار. المعنى: أن الله تعالى حكى عن يعقوب عليه السلام أنه قال أولاً: (يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) صيانة لهم عن عين الكمال، وقال لهم ثانياً: (وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) صيانة للكلام عن شوب الاعتزال، ثم حقق ذلك المعنى بقوله: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ). وقال أبو البقاء: "في جواب "لما" وجهان: أحدهما: هو (آوَى)، وهو جواب "لما" الأولى والثانية، كقولك: "لما جئتك ولما كلمتك أجبتني"، وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف يعقب دخولهم من الأبواب.

حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع، على معنى: ولكن حاجة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثاني: محذوف، أي: امتثلوا وقضوا حاجة أبيهم". ويجوز أن يكون الجواب معنى (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ)، وعلى هذا كلام المصنف، وتلخيصه: فلما دخلوا متفرقين ليسلموا عما حذروا منه، ما أغنى عنهم ذلك شيئاً، حيث أصابهم ما أصابهم. قوله: ((إِلاَّ حَاجَةً) استثناء منقطع)، ويمكن أن يكون متصلاً من باب "لا عيب فيهم غير أن سيوفهم"، المعنى: ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئاً إلا شفقته، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدرة الله كالهباء، فإذن ما أغنى عنهم شيئاً قط. وفي تصريح اسم يعقوب إشعار بالتعطف والشفقة والترحم، لأنه اشتهر بالحزن والرقة. الراغب: "الحاجة إلى الشيء: الفقر إليه مع محبة، وجمعه: حاج وحاجات وحوائج، ويقال: جاج كوج".

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) يعني قوله (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ) وعلمه بأن القدر لا يغنى عنه الحذر. [(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضم إليه بنيامين. وروي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة. فبقى بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسنى معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه مع على مائدته وجعل يؤاكله، قال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلمه بأن القدر)، نصب؛ عطف على قوله: "قوله: (وَمَا أُغْنِي) " على سبيل البيان، وصفه الله تعالى بالعلم الفائق لمطابقة قوله معتقده، وذلك بإسناد التعليم إلى الله، وبتعظيم ضمير الجماعة، وأن لم يقل: "عالم"، وقيل: (لَذُو عِلْمٍ) على الكناية، ونكر (عِلْمٍ)، ونفي عن أكثر الناس. وفيه إشارة إلى تعظيم القول بالقضاء والقدر، ونفي الحول والقوة عن الخلق بالكلية، وأنه علم جليل دقيق يختص بالعظماء من الأنبياء والمرسلين، وأن أكثر عقول البشر قاصرة عن إدراكه، جاهلة عن إمعان حقيقته، إلا من وفقه الله تعالى، واختصه به. قوله: ((آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) ضم إليه بنيامين)، الراغب: "أوى إليه يأوي أوياً ومأوى، وآواه غيره إيواء. تقول: أوى إليه كذا: انضم إليه، يأوي أوياً ومأوى، قال

وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخاً مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرّف إليه. وعن وهب: إنما قال له: أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف: 10]، وقال تعالى: (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) [يوسف: 69]، وقال: (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) [الأحزاب: 51]. وقوله تعالى: (جَنَّةُ الْمَاوَى) [النجم: 15]: كقوله: (دَارُ الْخُلْدِ) [فصلت: 28] في إضافته إلى المصدر. وأويت له: رحمته، أوياً وأيةً ومأوية، وتحقيقه: رجعت إليه بقلبي". قوله: ((فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن)، الراغب: "البؤس والبأس والبأساء: الشدة والمكروه، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، نحو: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) [النساء: 84]، وقد بؤس يبؤس، (فَلا تَبْتَئِسْ) أي: لا تلتزم البؤس ولا تحزن". قوله: (وعن ابن عباس: تعرف إليه)، يعني: بقوله: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ). قوله: (إنما قال له: أنا أخوك بدل أخيك المفقود)، تفسير لقوله تعالى: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ).

وروي أنه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل. [(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)]. (السِّقايَةَ) مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعاً يكال وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقيل: كانت إناءً مستطيلاً يشبه المكوك. وقيل: هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل: كانت من فضة مموّهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل: كانت مرصعة بالجواهر (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) ثم نادى منادٍ. يقال: آذنه أعلمه. وأذن: أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روي: أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك. والعير: الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير: أي: تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل بـ"بيض" و"غيدٍ"، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعل به ما فُعل بـ "بيض")، الجوهري: "جمع الأبيض: بيض، وأصله: بيض؛ بضم الباء، وإنما أبدلوا من الضمة كسرة لتصح الياء". قوله: (و"غيد")، بالغين المعجمة؛ جمع "أغيد"؛ من الغيد بمعنى: النعومة.

والمراد أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. وقرأ ابن مسعود: وجعل السقاية، على حذف جواب "لما"، كأنه قيل: فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: تفقدون، من أفقدته إذا وجدته فقيداً. وقرئ: "صواع"، و"صاع"، و"صوع". بفتح الصاد وضمها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا خيل الله اركبي)، النهاية: "جاء في الحديث، وهو على حذف المضاف، أي: [يا] فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المجازات وألطفها". قال الراغب: "الخيل في الأصل: اسم للأفراس والفرسان، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]، ويستعمل في كل منهما منفرداً، نحو ما روي: "يا خيل الله اركبي"، فهذا للفرسان، ومنه الحديث: "عفوت لكم عن صدقة الخيل"، يعني: الأفراس". قوله: (من: أفقدته؛ إذا وجدته فقيداً)، الراغب: "الفقد: عدم الشيء بعد وجوده، فهو أخص من العدم، فإن العدم يقال فيه وفيما لم يوجد بعد، قال الله تعالى: (مَاذَا تَفْقِدُونَ)، والتفقد: التعهد، لكن حقيقة التفقد: تعرف فقدان الشيء، والتعهد: تعرفا لعهد المتقدم". قوله: (وقرئ: "صواع" و"صاع")، قال ابن جني: "قرأ أبو رجاء: "صوع الملك"؛ بفتح الصاد، وقرأ عبد الله بن عون: بضمها، ويحيى بن يعمر: بفتح الصاد وبالغين المعجمة،

والعين معجمة وغير معجمة. (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) يقوله المؤذن، يريد: وأنا بحمل البعير كفيل، أُؤدّيه إلى من جاء به، وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله. [(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ)]. (تَاللَّهِ) قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم، وإنما قالوا (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) فاستشهدوا بعلمهم؛ لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة، لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق. ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. (وَما كُنَّا سارِقِينَ) وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأبو هريرة: "صاع"، والناس: (صُوَاعَ). والصاع والصواع والصوع: واحد، وكلها مكيال، وقيل: الصواع: إناء الملك يشرب منه، وأما الصوغ: فمصدر وضع موضع اسم المفعول، أي: المصوغ". قوله: (قسم فيه معنى التعجب)، المعنى: ما أعجب حالكم، أنتم تعلمون علماً جلياً لا ريب فيه لما شاهدتم من أحوالنا أننا بريئون مما تصنعون إلينا. ثم تنسبونه إلينا، قال الزجاج: "التاء لا يقسم بها إلا في "الله"، وهي بدل من الواو كما في "وراث": تراث". قوله: (مكعومة)، الجوهري: "الكعامة: شيء يجعل على فم البعير، يقال: كعمت البعير، أي: شددت فمه في هياجه، فهو مكعوم".

[(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)]. (فَما جَزاؤُهُ) الضمير للصواع، أى، فما جزاء سرقته (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في جحودكم وادّعائكم البراءة منه؟ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي: جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوا في جزائه. وقولهم (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم، أى: فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أي: فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه. ويجوز أن يكون (جَزاؤُهُ) مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فيقول لك: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو، يرجع الضمير الأوّل إلى "من" والثاني إلى "الأخ"، ثم تقول فهو أخوه مقيما للمظهر مقام المضمر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَهُوَ جَزَاؤُهُ) تقرير للحكم)، قال أبو البقاء: " (جَزَاؤُهُ) مبتدأ، و (مَن وُجِدَ) خبره، والتقدير: استعباد من وجد في رحله، و (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) مبتدأ وخبر مؤكد لمعنى الأول". ومثله في دخول الفاء بين المؤكد والمؤكد قوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في أحد وجهيه. قوله: (مقيماً للمظهر مقام المضمر)، قال الزجاج بعدما حكى هذا الوجه: "الإظهار أحسن؛ لئلا يقع اللبس، ولئلا يتوهم أن "هو" إذا عادت ثانية ليست براجعة إلى الجزاء،

ويحتمل أن يكون (جزاؤه) خبر مبتدأٍ محذوف، أي: المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم: من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول: من يستفتى في جزاء صيد المحرم، جزاء صيد المحرم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعرب إذا فخمت أمر الشيء جعلت العائد إليه إعادة لفظه بعينه". قوله: (في جزاء صيد المحرم)، يتعلق بقوله: "يستفتى"، وقوله: "جزاء صيد المحرم" حكاية قول المستفتي؛ يحكيه المفتي توطئة لفتواه، ثم يشرع في الفتوى ويقول: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) [المائدة: 95] الآية. فإن قلت: قوله: "جزاء صيد المحرم" ليس مثل قوله: (جَزَاؤُهُ)، أي: المسئول عنه جزاؤه، لأنه خبر مبتدأ محذوف؟ قلت: إذا حكى المسئول عنه حكاية كلام السائل لابد من تقدير ما يتم به كلامه، فقوله: "جزاء صيد المحرم": تمامه ما أذكره؛ لدلالة قوله: "ثم يقول"، والمراد بالمسئول عنه ما يفهم من قوله: (فَمَا جَزَاؤُهُ)، وهو حكم السارق، لأن المعنى: فما جزاء من سرق؟ أيك سرقة السارق للصاع؟ أي: السارق الذي سألت عن حكمه هو جزاؤه.

ثم يقول: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95]. [(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَاخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)]. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) قيل: قال لهم من وكل بهم: لا بدّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه. وقرأ الحسن: وعاء أخيه، بضم الواو، وهي لغة. وقرأ سعيد ابن جبير: إعاء أخيه، بقلب الواو همزة. فإن قلت: لم ذكر ضمير "الصواع" مرّات ثم أنثه؟ قلت: قالوا رجع بالتأنيث على "السقاية"، أو أنث "الصواع" لأنه يذكر ويؤنث، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعاً. (كَذلِكَ كِدْنا) مثل ذلك الكيد العظيم كدنا (لِيُوسُفَ) يعني: علمناه إياه وأوحينا به إليه (ما كانَ لِيَاخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) تفسير للكيد وبيان له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مثل ذلك الكيد العظيم كدنا)، اعلم أن الكيد هو المكر والخديعة، وهو أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه، وهو في حق الله تعالى محمول على التمثيل، فكأن صورة صنع الله تعالى في تعليمه يوسف عليه السلام أن لا يحكم على إخوته حكم الملك بأن يغرم السارق مثلي ما أخذه، بل يجري عليهم الحكم على سنن مذهبهم بأن يستعبد السارق،

لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق: أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي: ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تشبه صورة صنع من يوهم الغير خلاف ما يخفيه، لأن مقصود يوسف عليه السلام إيواء أخيه إليه، وكان لا يتم ذلك إلا بهذه الحيلة. ولما كان قوله: (مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) هو عين الكيد، قال المصنف: هو "تفسير للكيد". الراغب: "الكيد: ضرب من الاحتيال، وقد يكون محموداً أو مذموماً، وإن كان في المذموم أكثر استعمالاً، وكذلك الاستدراج والمكر، ويكون بعض ذلك محموداً، قال تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)، وقال: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف: 183]، وفلان يكيد بنفسه، أي: يجود". قوله: (أن يغرم مثلي ما أخذ)، اسم "كان" في قوله: "كان في دين الملك"، و"ما"- في "ما كان يحكم به"- موصولة، وهو عطف تفسيري على "دين الملك"، والضمير في "لأنه كان" للشأن. قوله: (إلا بمشيئة الله تعالى وإذنه)، ويجوز أن يكون (إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) كلمة تأبيد، كأنه قيل: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أبداً، لأنه جل من انتصب لمنصب النبوة أن يحكم بدين الكفار، نحوه قوله تعالى: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الأعراف: 89]، لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاء الله على مذهبه كما قرره.

وقرئ: "يرفع" بالياء. و (درجات) بالتنوين (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم (عليم) هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: "موضع (أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) نصب؛ لما سقطت الباء أفضى الفعل". قوله: ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ))، عاصم وحمزة والكسائي: بالنون، والباقون: بالياء. قوله: (و (دَرَجَاتٍ) بالتنوين)، قال أبو البقاء: " (مَن) - على هذا- مفعول (نَرْفَعُ)، و (دَرَجَاتٍ) ظرف أو حرف الجر محذوف، أي: إلى درجات". قوله: (أو فوق العلماء كلهم (عَلِيمٌ) هم دونه في العلم، وهو الله عز وجل)، ولفظة "كل" على الأول استغراقية، وعلى الثاني مجموعية. قال القاضي: "واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته؛ إذ لو كان ذا علم، لكان فوقه من هو أعلم منه، والجواب: أن المراد: كل ذي علم من الخلق، لأن الكلام فيهم، ولأن العليم هو الله تعالى، ومعناه: الذي له العلم البالغ لغة، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا: فوق كل العلماء عليم، وهو مخصوص". وقلت: قضية النظم تقتضي أن يقال: إن قوله: (مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) تفسير وبيان لقوله: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)، والكيد: هو تعليم الله إياه أن يسرق أخاه، ويكذب إخوته؛ ليستعبده، ومثل هذا الحكم الذي ترى في الظاهر حرمته، وهو في الحقيقة

فإن قلت: ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أي: وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله: (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف: 70]، (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) [يوسف: 74]؟ قلت: هو في صورة البهتان، وليس ببهتانٍ في الحقيقة، لأنّ قوله (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف: 17]. هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) [ص: 44] ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: "هي أختي"، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ متضمن لأسرار وحكم لا يصل إلى كنهها كل ذي علم، فإن أصحاب العلم وأربابه تتفاوت درجاتهم؛ فمن عالم لا ينظر إلا إلى ظاهر الحال فينكر، ومن عالم يعلم السر والحكمة فيه كيوسف والخضر فيمضيه، فجاء قوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) تذييلاً للكلام السابق، فعلى هذا: يحمل "الكل" في قوله: (كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) على الاستغراقية دون المجموعية، ويحمل "العليم" على غير الله عز وجل قطعاً. قوله: (تورية)، وهي أن يطلق لفظ له معنيان؛ قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما، فقوله:

[(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)]. (أَخٌ لَهُ) أرادوا يوسف. روي: أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياءً، وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم. واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة: فقيل: كان أخذ في صباه صنما لجدّه أبي أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل: كانت في المنزل عناقٌ أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف وهي عمته بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت: فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومةً على يوسف، فقالت: إنه لي سلمٌ أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت. (فَأَسَرَّها) إضمار على شريطة التفسير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) معناه القريب: سرقة الصاع، والبعيد: فعلهم بيوسف ما فعلوا، وهو المراد ها هنا. قوله: (إضمار على شريطة التفسير)، من قول الزجاج: " (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً) إضمار

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على شريطة التفسير، لأنه بدل من "ها" في (فَأَسَرَّهَا) أي: أسر يوسف في نفسه قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً)، المعنى: أنتم شر مكاناً في السرقةبالصحة، لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم". وقال أبو علي في "الإغفال": الإضمار على شريطة التفسير على ضربين: أحدهما: أن يفسر بمفرد، نحو: نعم رجلاً زيد، ففي "نعم" ضمير هو الفاعل، و"رجلاً" تفسير له، ومثله: "ربه رجلاً". وثانيهما: أن يفسر بجملة، نحو قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، أي: الأمر الله أحد، ثم يدخل عليها عوامل المبتدأ، نحو: "كان" و"إن" و"ليس". وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي فيها الإضمار المشروط تفسيره، ومتعلق به، أما في المبتدأ ففي موضع الخبر، وأما في المفرد فمتعلق بما عمل في الضمير، ألا ترى أن "رجلاً" في قوله: "نعم رجلاً" منتصب عن الفعل، وفي "ربه رجلاً" منتصب عن تمام الهاء المضمر، فهو من باب "لي مثله رجلاً" و"أفضل رجل أنا".

تفسيره: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) وإنما أنث لأنّ قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). والمعنى: قال في نفسه: أنتم شر مكاناً، لأنّ قوله (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) بدل من "أسرَّها". وفي قراءة ابن مسعود: "فأسرَّه"، على التذكير، يريد القول أو الكلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فظهر أن تفسير المضمر المشروط تفسيره لا يكون إلا متعلقاً بالجملة التي تتضمن المضمر، ولا يكون منقطعاً عنها، والذي ذكره الزجاج منقطع". والوجه أن يحمل الضمير في "أسرها" على الإجابة؛ كأنهم لما قالوا: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، أسر يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في الوقت، ولم يبدها لهم، أو على المقالة؛ أي: أسر مقالتهم، والمقالة والقول واحد، والمراد المقول، كالخلق والمخلوق، فمعنى "أسرها": وعاها وأكنها في نفسه إرادة التوبيخ. وقال القاضي: "وأجيب بأن الحصر ممنوع، فإنهم سموا نحو: "زيداً ضربته" بهذا الاسم، ولا مناقشة في التسمية". وقال القاضي: "في جعل (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً) بدل من الضمير على تأويل الكلمة أو الجملة نظر؛ إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن". وفي قول المصنف: " (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً) بدل من (أسرها) " إثبات لكلام النفس.

ومعنى (أنتم شَرٌّ مَكاناً) أنتم شر منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أحاكم من أبيكم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة، وليس الأمر كما تصفون. [(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)]. استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان، وأنه مستأنس بأخيه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها. [(قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَاخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ)]. (مَعاذَ اللَّهِ) هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شر منزلة في السرق)، السرق: مصدر كالكذب، وقيل: الاسم من "سرق يسرق سرقاً": السرق والسرقة بكسر الراء فيهما. قوله: (أو: من عادتك الإحسان)، فالجملة على هذا معترضة، وعلى الأول استئنافية على بيان الموجب، فتكون متصلة. وبيانه على الأول: فخذ أحدنا مكانه كما كنت تحسن إلينا فيما سلف، فيكون هذا الإحسان من تتمته. وعلى الثاني: إثبات إحسانه على العموم في كل الناس. قوله: (كلام موجه)، أي: ذو وجهين، كقول أبي بكر رضي الله عنه حين سئل عن

وباطنه: إنّ الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي. ومعنى (مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَاخُذَ) نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف "من". و (إِذاً) جوابٌ لهم وجزاء، لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مهاجرتهما: "هذا رجل يهديني السبيل". قوله: (لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا)، تعليل لتصحيح معنى الجزاء، قال ابن الحاجب- في معنى قول الزجاج في قولهم: "يقول الرجل: (أنا آتيك، فتقول: إذن أكرمك): إن كان الأمر كما ذكرت فإني أكرمك-: "نبه الزجاج أن فيها معنى الجزاء حتى صح تقديره مصرحاً به"، وأما جواب المتكلم فإنه سأل ماذا يكون مرتبطاً بالإكرام، فأجابه بارتباط إكرامه به. وقال المرزوقي رحمه الله تعالى: "وفائدة "إذن" في قوله: إذن لقام بنصري معشر خشن هو أن هذا خرج مخرج جواب قائل قال له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذن لقام بنصري. قال سيبويه: [إذن] جواب وجزاء، فهذا البيت جواب لهذا

[(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَاذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)]. (اسْتَيْأَسُوا) يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في "استعصم" [يوسف: 32]. و «النجي» على معنيين: يكون بمعنى: المناجى، كالعشير والسمير؛ بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى (الأيمن وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم: 52]، وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل "النجوى" بمعناه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السائل وجزاء على فعل المستبيح". قوله: ((اسْتَيْئَسُوا) يئسوا)، الراغب: "اليأس: انتفاء الطمع، يقالك يئس واستيأس، مثل: عجب واستعجب، وسخر واستخسر، قال تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)، وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ) [يوسف: 110]، وقال تعالى: (قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13]، وقوله: (أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا) [الرعد: 31]: قيل: معناه: أفلم يعلم، ولم يرد أن اليأس موضوع في كلامهم للعلم، وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل بعد العلم بانتفائه، فإذن ثبوت يأسهم يقتضي حصول علمهم". قوله: (نحو ما مر في "استعصم")، والذي مر هو قوله: "الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ"، كأنه في عصمته، وهو يجتهد في الاستزادة منها، لأن السين للطلب، ولابد من رعاية معناها. قوله: (وبمعنى المصدر الذي هو التناجي)، كما تقول: قوم رضا، وإنما الرضا فعلهم، يجعل المصدر منزلة الوصف.

ومنه قيل: قوم نجيّ، كما قيل: (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء: 47]؛ تنزيلاً للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجي، كما قيل: هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال: إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ ومعنى (خَلَصُوا): اعتزلوا وانفردوا عن النسا خالصين لا يخالطهم سواهم (نَجِيًّا) ذوى نجوى، أو فوجا نجياً، أي: مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه قيل)، أي: ومن استعمال "النجي" بمعنى: التناجي، قيل: قوم نجي. قوله: (هم نجي)، أي: ويجوز أن يستعمل "نجي" مكان الجمع، فقوله: "ويجوز أن يقال" على تقدير سؤال يرد على الوجه الأول، معنى: سلمنا أن (نَجِيّاً) بمعنى: المناجي، فكيف يحمل على الجماعة، وهو مفرد؟ فقال: جاز كما جاز أن يقال: هم صديق، لأن المصدر جنس يحمل على القليل والكثير، وهو وإن أريد به الوصف، لكنه لما كان على زنة المصادر عومل معاملة المصدر، ومنه قوله تعالى: (خَلَصُوا نَجِيّاً). قوله: (إني إذا ما القوم كانوا أنجية)، بعده: ...... ... واضطرب القوم اضطراب الأرشية هناك أوصني ولا توص بيه "كانوا أنجية": أي: صاروا فرقاً لما حزبهم من الشر؛ يتناجون ويتشاورون، وفارقهم القرار من شدة الخوف، يقومون ويقعدون اضطراب الأرشية عند الاستقاء، "هناك": أي: في ذلك الوقت يوجد الغنى والكفاية عندي.

وأحسن منه: أنهم تمحضوا تناجياً؛ لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه يجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أي: صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. (كَبِيرُهُمْ) في السنّ وهو روبيل. وقيل: رئيسهم وهو شمعون: وقيل: كبيرهم في العقل والرأي: وهو يهوذا (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) فيه وجوه: أن تكون «ما» صلة، أي: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم. وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو (ومِنْ قَبْلُ) ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأحسن منه)، أي: مما ذكر- من أن يكون بمعنى: ذوي نجوى أو فوجاً مناجياً- أنهم تمحضوا؛ أي: يكون من باب قولهم: رجل عدل، مبالغة في التناجي، وقولها: وإنما هي إقبال وإدبار قوله: (وإفاضتهم)، من: أفاض الناس في الحديث؛ أي: خاضوا وشرعوا فيه. قوله: (على أي صفة يذهبون)، الجار والمجرور معمول "يذهبون"، كما أن "ماذا" معمول "يقولون"، وهو بيان لقوله: "في تدبير أمرهم". قوله: (تعايوا)، أي: عجزوا. قوله: (أن تكون "ما" صلة)، أي: زائدة، قال أبو البقاء: "من: متعلقة على هذا بالفعل، أي: فرطتم من قبل ذلك". قوله: (الرفع على الابتداء، وخبره: (مِن قَبْلُ))، قال أبو البقاء: "المعنى: وتفريطكم

ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفاً على مفعول (أَلَمْ تَعْلَمُوا) وهو (أَنَّ أَباكُمْ) كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي: قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَاذَنَ لِي أَبِي) في الانصراف إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ) لِي بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في يوسف من قبل هذا، وهذا ضعيف؛ لأن "قبل" إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة". قوله: (أو النصب عطفاً على مفعول (أَلَمْ تَعْلَمُوا))، قال أبو البقاء: "وقيل: هو ضعيف، لأن فيه فصلاً بين حرف العطف والمعطوف عليه". قوله: ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر)، قال الراغب: "البراح: المكان المتسع الظاهر الذي لا بناء فيه ولا شجر، فيعتبر تارة ظهوره فيقال: فعل ذلك براحاً، أي: صراحاً لا يستره شيء، وبرح الخفاء: ظهر، كأنه حصل في براح يرى، وبرح: ذهب في البراح، ومنه: البارح من الظباء والطير، وخص بما ينحرف عن الرامي إلى جهة لا يمكنه فيه الرمي، فيتشاءم به، ولما تصور معنى التشاؤم اشتقت منه: التبريح، فقيل: برح بي الأمر، ولقيت منه البرحين والبرحاء، [أي] الشدائد، وبرح بي فلان في التقاضي".

[(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ)]. وقرئ "سَرَقَ" أي: نسب إلى السرقة (وَما شَهِدْنا) عليه بالسرقة (إِلَّا بِما عَلِمْنا) من سرقته وتيقناه، لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق. أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ سَرَقَ فمعناه: وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، (وما كنا للغيب) للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الصواع استخرج من وعائه، ولا شيء أبين من هذا)، "الانتصاف": "إن كان في شرعهم أن مجرد وجود الشيء بيد من يدعى عليه بعد إنكاره يجعله سارقاً، فالعلم على ظاهره إذن، وإن لم يكن كذلك فهذا بمجرده لا يوجب علم كونه سارقاً، لكن ظناً بيناً". وقلت: على هذا يوافقه معنى قراءة "سرق"، ويلتئم عليه قوله: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) مؤكداً، وعلى ما ذهب إليه المصنف لا تلتئم القراءتان، ولا يجيء التذييل مطابقاً للمذيل على القراءة المشهورة- كما فسره- إلا مع التعسف. قال محيي السنة: " (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا) فإنا رأينا إخراج الصاع من متاعه، وقيل: (وَمَا شَهِدْنَا) أي: ما كانت شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمنا، وليست هذه شهادة منا، إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) ". قوله: (أسرق بالصحة أم دس)، الراغب: "الحفظ: يقال تارة لهيئة النفس التي بها

[(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ* قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)]. (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) هي مصر، أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأصحاب العير، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه: فرجعوا إلى أبيهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يثبت ما يؤدي إليه الفهم، وتارة لضبط الشيء في النفس، ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال تلك القوة، فيقال: حفظت كذلك حفظاً، ثم يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، قال تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [يوسف: 12]، (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) [الأحزاب: 35] كناية عن العفة، والتحفظ: قيل: هو قلة الغفلة، وحقيقته: إنما هو تكلف الحفظ لضعف القوة الحافظة، ولما كانت تلك القوة من أسباب العقل توسعوا في تفسيرها، كما ترى، والحفيظة: الغضب الذي يحمل على المحافظة، ثم استعمل في الغضب المجرد، فقيل: أحفظني فلان؛ أي: أغضبني". قوله: (معناه: فرجعوا إلى أبيهم)، هذا وجه اتصال قوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) بما قبله، لأن قوله: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) قول بعض بنيه في مصر، و (بَلْ سَوَّلَتْ) كلام لأبيهم في كنعان. رداً لعذرهم، فلابد من هذه المقدرات ليتصل الكلامان في الكلام، وإن

فقالوا له ما قال لهم أخوهم فـ (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم (بِهِمْ جَمِيعاً) بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي في الحزن والأسف (الْحَكِيمُ) الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوجب هذه المضمرات، لكن لا يقتضي ما يتضمن الاتصال بالفاءات كما قدرها، بل يأباه القطع على سبيل الاستئناف، فإن السامع لما سمع تلك المقالة اتجه له أن يقول: إلام عاد مآل هذه المقالة، وما كان جواب أبيهم حين رجعوا بها وأدوها إليه، فأجيب: بأنه قال: بل سولت لكم أنفسكم. قوله: ((بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً) أردتموه، وإلا فأي شيء أدرى ذلك الرجل)، الانتصاف: "قوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ) في الكرة الأولى ظاهر، وأما فيا لثانية فلم يكن من صنيعهم، لكن لما علم يعقوب عليه السلام أن أخذ السارق لم يكن من دين الملك، لكن من دين يعقوب كما قال: (مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)، كان تنبيهاً على وجه اتهام يعقوب بنيه، وأنه إنما فعل ذلك بفتواهم، وكان قد سبق قوله: (فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ* قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ)، فأفتوا- وإن لم يشعروا- أن المراد إلزامهم واتهام من تتطرق إليه التهمة، ويحتمل أن يكون الذي سوغ ذلك أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحله سرقة من غير أن يثبت الحكم عليه بوجه معلوم، وهذا لا تثبت به السرقة، وهذا هو التسويل إن كان شرعهم كشرعنا، وإلا فالعمدة هو الوجه الأول". قوله: (وروبيل أو غيره)، يعني: شمعون أو يهوذا، كما سبق في تفسير (كَبِيرُهُمْ).

[(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)]. (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به (يا أَسَفى) أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي "الأسف" و"يوسف" مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف)، وهو من التجنيس المضارع، وإن جعل يوسف عربياً- كقوله: (إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) [التوبة: 38]- فهو من الاشتقاقي، وأما قوله: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام: 26] فمن المضارع، لكون الهمزة والهاء مخرجهما الحلق، وقوله: (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف: 104] فمن الخطي، وقوله: (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) [النمل: 22] فمن المزدوج. قوله: (مما يقع مطبوعاً غير متعمل، فيملح ويبدع)، اعلم أن الترصيع والتصريع والتجنيس والترديد إنما يحسن قليله دون كثيره؛ لما فيها من أمارات الكلفة.

ونحوه (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) [التوبة: 38]، (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام: 26]، (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنعاً) [الكهف: 104]، (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإ) [النمل: 22]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تعط أمة من الأمم: "إنا لله وإنا إليه راجعون" عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال: "يا أسفى". فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت: هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طرياً. وَلَمْ تُنْسِنِى أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به. (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمى بصره. وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم تنسني أوفى المصيبات بعده)، [بعده]: ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

قرئ (من الحزن) و"من الحزن"، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: "فما كان له من الأجر"؟ قال: أجر مئة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط. فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكى وقد نهيتنا عن البكاء؟ ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هشام هذا فجع بأخيه أوفى، ثم أصيب بأخ آخر اسمه غيلان المشهور بذي الرمة، قال: إن الجزع بأوفى لم يزل، وما يعقبه من المصيبات لا يزيده إلا تفجعاً، كما أن الجرح إذا نكأ ثانياً وأدمى كان إنجاعه أشد، وإيلامه أبلغ. قوله: (القلب يجزع)، الرواية عن البخاري ومسلم عن أنس: "إن العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". قوله: (أنه بكى على ولد بعض بناته)، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي

فقال: "ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح". وعن الحسن: أنه بكى على ولدٍ أو غيره، فقيل لهفي ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب. (فَهُوَ كَظِيمٌ) فهو مملوة من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله (وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم: 48]؛ من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس. يقال: أخذ بأكظامه. [(قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)]. (تَفْتَؤُا) أراد: لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام والنون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أسامة قال: "أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابناً لي قبض، فأتنا"، وساق الحديث إلى قوله: "فقام وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعبن وزيد بن ثابت، ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". النهاية: "يجود بنفسه؛ أي: يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله يجود به، أي: كان في النزع وسياق الموت". قوله: (لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون)، يعني: أن القسم إذا لم تكن معه علامة

ونحوه: فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ومعنى "لا تَفْتَأُ" لا تزال. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين، يقال: ما فتئ يفعل. قال أوس: فَما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي ... وَيَلْحَقُ مِنهَا لَاحِقٌ وَتَقَطعُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإثبات كان على النفي، وهو من قول الزجاج: "وإنما جاز إضمار "لا" في قوله: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ) لأنه لا يجوز في القسم: تالله تفعل، حتى تقول: لتفعلن؛ في الإثبات، أو تقول: لا تفعل؛ في النفي". قوله: (فقلت: يمين الله أبرح قاعداً)، تمامه- لامرئ القيس-: ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي الأوصال: جمع وصل- بكسر الواو-، وهو المفصل، قيل: إن امرأ القيس سرى إلى ابنة قيصر، فقالت: تريد أن تفضحني، ألست ترى السمار والرقباء راقدين حولي؟ ! فقال مجيباً لها: إني لا أبرح حتى أنال منك حاجتي، ولو قطعت إرباً إرباً. قوله: (فما فتئت خيل) البيت، "فما فتئت": أي: ما زالت، و"التثويب": هو أن الرجل إذا استصرخ ولوح بثوبه، كان ذلك كالدعاء والإنذار، و"التداعي" في الحرب: أن يدعو قوم بعضهم بعضاً بأني قول: يا آل فلان، و"تقطع": أي: تتفرق، يقول: ما زالت الخيل

(تكون حَرَضاً) مشفياً على الهلاك مرضاً، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة: حَرِض، بكسر الراء-، ونحوهما: دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعاً. وقرأ الحسن: "حُرضاً" بضمتين، ونحوه في الصفات: رجل جنب وغرب. [(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)]. البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أي: ينشره. ومنه: باثه أمره، وأبثه إياه ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تستصرخ، ويدعو بعضهم بعضاً من المنهزمين والمنقطعين، ويلحق منها في الحرب اللاحقون والمنقطعون، استصرخني فأصرخته؛ أي: استغاثني فأغثته. قوله: ((حَرَضاً) مشفياً على الهلاك)، الراغب: "الحرض: ما لا يعتد به ولا خير فيه، ولهذا يقال لما أشرف على الهلاك: حرض، والتحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحرض، نحو: مرضته وقذيته؛ أي: أزلت عنه المرض والقذى". قوله: (في الصفات: رجل جنب وغُرب)، الجوهري: "الغربة: الاغتراب، تقول منه: تغرب واغترب، فهو غريب وغرب أيضاً؛ بضم الغين والراء". قوله: (البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس)، الراغب: "أصل البث: إثارة الشيء وتفريقه، كبث الريح التراب، وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والسر، يقال: بثثته فانبث، ومنه قوله تعالى: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً) [الواقعة: 6]، وقوله تعالى: (أَشْكُو بَثِّي) أي: غمي أبثه عن كتمان، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو غمي الذي

ومعنى (إنَّما أَشْكُوا): إني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أي: فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. وقيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. وروي أنه أوحي إلى يعقوب: إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جاريةً مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت. (وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي: أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله هو حيّ فاطلبه. وقرأ الحسن: "وحزني" بفتحتين، "وحزني" بضمتين: قتادة. [(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)]. (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في "الحجرات"، وهما "تفعَّل" من الإحساس وهو المعرفة؛ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) [آل عمران: 52]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بث فكري، نحو: توزعني الفكر، فيكون في معنى الفاعل".

ومن الجس، وهو الطلب، ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس. (مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) من فرجه وتنفيسه، وقرأ الحسن وقتادة: من روح الله، بالضم: أي: من رحمته التي يحيا بها العباد. [(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)]. (الضُّرُّ) الهزال من الشدّة والجوع (مُزْجاةٍ) مدفوعةٍ يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجى السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمنا. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط. وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الذي هو حقنا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أراد: أنها كانت حلالا لهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من: أزجيته؛ إذا دفعته)، قال الزجاج: "التزجية: الشيء الذي يدافع به، تقول: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي [به]، أي: إنا جئنا ببضاعة إنما يدافع بها ويتقوت، وليست مما يتسع به". قوله: (إلا بوضيعة)، "يقال: وضع في تجارته وضيعة؛ خسر"، كذا في "الأساس". قوله: ((فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الذي هو حقنا)، إنما قال: حقنا، لأنهم عطفوا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا) - المعني به الفضل- عليه، لأن الفضل إنما يتبع الواجب.

والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة: العطية التي تبتغى بها المثوبة من الله: ومنه قول الحسن - لمن سمعه يقول: اللهمّ تصدق عليّ: إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، قل: اللهم أعطني، أو تفضل عليّ، أو ارحمني. [(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)]. (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ) أتاهم من جهة الدين، وكان حليما موفقاً، فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: (هل علمتم) قبح (ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعني: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والظاهر أنهم تمسكنوا له)، أي: أظهروا المسكنة، وتكلفوها ليرق لهم ويرحمهم لما نالوا من النصب، فجعلوا طلب الصدقة وسيلة إليه، لأن طالب الصدقة لا يكون إلا مسكيناً، وينصره تذييله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)، لأن ذكر الله يدل على الاستشفاع. قوله: (هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه)، يعني: استفهم بـ "هل" من كان عالماً بما فعله، وجعل الفعل ماضياً، وقيده بقوله: (إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) ليفيد الحث على التوبة، يعني: هل استمر ذلك الجهل بقبح الفعل أم تدورك بالعلم الموجب للرجوع منه وتلافيه بالتوبة، فإن العاقل إذا تجلى له قبح القبيح لا يتوقف رجوعه منه، ولهذا الترتيب جاء بالفاء في قوله: "فتبتم".

فكان كلامه شفقة عليهم، وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً، إيثاراً لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ولله حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتثريباً)، الجوهري: "التثريب: كالتأنيب والتغيير والاستقصاء في اللوم". قوله: (المحنق)، الجوهري: "حنق عليه- بالكسر-؛ أي: اغتاظ، فهو حنق، وأحنقه غيره، فهو محنق". قوله: (وأسجحها)، الجوهري: "الإسجاح: حسن العفو، يقال: ملكت فأسجح". قوله: (ولله حصى عقولهم)، الأساس: "ومن المجاز: فلان ذو حصاة: وقور، وماله حصاة؛ أي: رزانة، قال طرفة: وإن لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لدليل

وقيل. لم يرد نفي العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل، سماهم جاهلين. وقيل: معناه إذ أنتم صبيانٌ في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روي أنهم لما قالوا: (مسنا وأهلنا الضر) وتضرعوا إليه ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: "من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدّى، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يقدم عليه إلا جاهل)، عطف من حيث المعنى على ما قبله، فإن قوله: "لم يفعلوا ما يقتضيه العلم" في معنى: فعلوا ما اقتضاه الجهل، فكأنه قيل: فعلوا ما اقتضاه الجهل، ولا يقدم عليه إلا جاهل. وقلت: يمكن أن يقال: لم يفعلوا ما يقتضيه العلم، وفعلوا ما لا يقدم عليه إلا جاهل، وعكسه قوله: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]. قوله: (وقيل: معناه: إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش)، وهذا تعليم منه للاعتذار عنه، كقول موسى عليه السلام: (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 20] في جواب (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [الشعراء: 19]، وهم لو طلبوا عذراً لم يجدوا كذلك، كقوله تعالى: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار: 6]. قوله: (ارفضت عيناه)، الجوهري: "ارفضاض الدمع: ترششه".

ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروي: أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: "اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا". فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. [(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَاتِ بَصِيراً وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعيل صبره)، الجوهري: "عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً: إذا أعجزك". قوله: (تعريضهم إياه)، أي: جعلوه عرضة للغم.

قرئ: (أَإِنَّكَ) على الاستفهام، و"إنك" على الإيجاب، وفي قراءة أُبيّ: "أإنك أو أنت يوسف"، على معنى: أئنك يوسف أو أنت يوسف. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه وشمائله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"إنك" على الإيجاب)، ابن كثير: "إنك" بهمزة مكسورة على الخبر، والباقون: على الاستفهام. قوله: (أإنك أو أنت يوسف)، يعني: قرأ بدل اللام "أو"، قال ابن جني: "ينبغي أن يكون هذا على حذف "إن"، حتى كأنه قيل: إنك لغير يوسف أو أنت يوسف؟ فكأنه قيل: بل أنت يوسف، فلما خرج مخرج التوقيف قال: أنا يوسف، وقد جاء عنهم حذف خبر "إن"، قال الأعشى: إن محلاً وإن مرتحلاً ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا أراد: إن لنا محلاً وإن لنا مرتحلاً، فحذف الخبر، والكوفيون لا يجيزون حذف خبر "إن"، إلا إذا كان اسمها نكرة، ولهذا وجه حسن عندنا، وإن كان أصحابنا يجيزونه مع المعرفة أيضاً". قوله: (يكرر الاستثبات)، يريد: أن المتعجب إذا سمع من المخاطب ما يتعجب منه يكرر ذلك الكلام تعجباً، أي: هل هو كذا؟ هل هو كذا؟ قوله: (في روائه)، أي: منظره، "ما شعروا به": مفعول "رأوا"، و"مع علمهم" حال.

حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلوماً لهم. قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه. (مَنْ يَتَّقِ) من يخف الله وعقابه (وَيَصْبِرْ) عن المعاصي وعلى الطاعات (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ) أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من سنح إبراهيم)، أي: أصله. قوله: (لأنه كان في ذكر أخيه)، بيان لما سألوه عنه، فإنهم سألوه عن حقيقة كونه يوسف؛ حيث أتوا بالهمزة المقررة المؤكدة للتعجب، وأدخلوا اللام في الخبر، فأجاب بقوله: (أَنَا يُوسُفُ) على الحقيقة، وهذا المتميز الشاهد من أبي وأمي. وفي ذكر الأخ وإيراد اسم الإشارة: مزيد تقرير وفضل تمييز له، وبيان أنه يوسف لا محالة. وكان من حق الظاهر أن يقول: بلى، أو: أنا هو، فعدل ليطابق تعجبهم واستبعادهم في قولهم: أأنت يوسف، ويمكن أن يجري على الأسلوب الحكيم، وهو أنهم لما سألوه متعجبين: أأنت يوسف؟ أجاب: لا تسألوا عن ذلك، فإنه ظاهر، ولكن اسألوا ما فعل الله بك من الامتنان والإعزاز بما صبرت على بلاء الله، وثبت على تقوى الله، وكذلك أخي. قوله: ((مَن يَتَّقِ) من يخف الله وعقابه، (وَيَصْبِرْ) عن المعاصي وعلى الطاعات)، قال صاحب "الفرائد": حمل (مَن يَتَّقِ) على المجاز، ولا مانع من الحمل على الحقيقة، والعدول منه إلى المجاز بغير ضرورة غير جائز، فالوجه أن يقال: (مَن يَتَّقِ) من احترز عن ترك ما أمر به، وعن ارتكاب ما نهي عنه، وصبر في المكاره، وذلك باختياره، وهذا بغير

(لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) أي: فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين، وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك. (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختياره: فهو محسن. وذكر الصبر بعد التقوى: كذكر الصلاة والزكاة بعد ذكر الأعمال الصالحة، وكذكر جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة. ويجوز أن يكون ذكر الصبر بعد التقوى لإرادة الثبات على التقوى، كأنه قيل: (مَن يَتَّقِ) ويثبت على تقواه. وقلت: ولا ارتياب أن قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) تعليل لقوله: (قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)، وتعريض بإخوته، يدل عليه قولهم في الجواب: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، أي: فضلك الله علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين، (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) متعمدين الإثم لم نتق؛ أي: لم نخف عقاب الله وسوء المعصية، ولم نصبر على طاعة الله تعالى وطاعة أبينا وعلى المعصية؛ حيث فعلنا بك ما فعلنا، فأثبتوا في يوسف ما نفوا عن أنفسهم، فإذن لابد من ارتكاب المجاز وتخصيص العام بحسب ما يقتضيه المقام.

كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في (عَلَيْكُمُ) من معنى الاستقرار، أو بـ (يغفر) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والقرع)، الجوهري: "القرع- بالتحريك-: بثر أبيض يخرج بالفصال، ودواؤه الملح، وجباب ألبان الإبل"، وهو شيء يعلو ألبان الإبل كالزبد، ولا زبد لها. قوله: (فضرب مثلاً للتقريع)، يعني: أن تثريب الحيوان- أي: إزالة الثرب عنه- يظهر غاية هزاله، وبه تظهر عيوبه، كذلك تقريع الإنسان، وهو ارتداعه، ومنه سمي آية الكرسي ونحوها: قوارع، كأنها تذهب الشيطان وتهلكه وتمزق أعراضه وتذهب بماء وجهه. قوله: (بالتثريب)، أي: أعلق "اليوم" بـ "التثريب"، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ يكون حينئذ مشابهاً للمضاف، نحو: "لا ضارباً زيداً"، فكيف يفتح، وقد ذكر في (لا غَالِبَ لَكُمْ) [الأنفال: 48]: إن (لَكُمْ) ليس مفعولاً، وإلا لقيل: "لا غالباً لكم"، بل هو خبر، كقوله: لا نسب اليوم ولا خلة

- والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال: غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لا تثريب في اليوم. وقال أبو البقاء: "في خبر "لا" وجهان: أحدهما: قوله: (عَلَيْكُمُ). وثانيهما: قوله: (الْيَوْمَ)، و (عَلَيْكُمُ) يتعلق بالظرف أو بالعامل في الظرف، وهو الاستقرار، ولا يجوز أن تتعلق "على" بـ (تَثْرِيبَ)، ولا ينصب (الْيَوْمَ) به، لأن اسم "لا" إذا عمل نون". قوله: (والمعنى: لا أثربكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة للتثريب، فما ظنكم بغيره)، قال في "الانتصاف": "هذا المعنى يتوجه على الإعراب الأول، وهو الأصح، لقولهم: (يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)، وقوله: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) دليل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب، ولو كان متعلقاً بـ (يَغْفِرُ) لقطعوا بالغفران بإخبار الصديق، ويحتمل أن يقال: قطع بالمغفرة فما يرجع إلى حقه دون أخيه". وقلت: لو علق بـ (تَثْرِيبَ) لكان (يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) دعاء لهم بالمغفرة، والنبي مستجاب الدعوة، فيلزم في هذا المقام القطع.

ومنه قول المشمت: «يهديكم الله ويصلح بالكم» أو (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) بشارةٌ بعاجل غفران الله، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: "ما ترونني فاعلاً بكم؟ " قالوا: نظن خيراً، أخ كريم وابن أخر كريم، وقد قدرت، فقال: "أقول ما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم". وروي: أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ)، ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك ولمن علمك". ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه: إنك تدعونا إلى طعامك بكرةً وعشية، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف: إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إلىّ بالعين الأولى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "روي عن عطاء: أن طلب الحوائج إلى الشبان أنجح منها إلى الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ)، وقول يعقوب عليه السلام: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ". قوله: (ومنه قول المشمت)، أي: من الوارد على لفظ المضارع للدعاء كالماضي: "يهديكم الله ويصلح بالكم" الحديث، رواه البخاري وأبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث. قوله: (أو (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ))، هذا على أن يتعلق الظرف بـ (يَغْفِرُ)، و (يَغْفِرُ اللهُ) بشارة لا دعاء. قوله: (بعضادتي باب الكعبة)، الجوهري: "أعضاد كل شيء: ما يشد حواليه من البناء وغيره، وعضادتا الباب: هما خشبتاه من جانبيه".

ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من حفدة إبراهيم. (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أَمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي (يَاتِ بَصِيراً) يصر بصيراً، كقولك: جاء البناء محكماً، بمعنى صار. ويشهد له (فَارْتَدَّ بَصِيراً) [يوسف: 96]، أو: يأت إليّ وهو بصير. وينصره قوله: (وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي: يأتني أبي، ويأتني آله جميعاً وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته. وقيل: حمله وهو حافٍ حاسرٌ من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً. [(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ* قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وينصره قوله: (وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ))، أي: يقوي هذا الوجه- وهو أن يجري (يَاتِ) على حقيقته، ويكون (بَصِيراً) حالاً من فاعله- عطف قوله: (وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) على (يَاتِ)، لأن المعنى: يأتيني أبي وأهلي كلهم. فإن قلت: أي الدليلين أظهر؛ قوله: (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أم (وَاتُونِي)؟ قلت: الثاني، لأنه أبلغ وأوجز وأقطع لحصول ما ترتب عليه إلقاء القميص- كأنه قيل: لا شك في ارتداد البصر، لأنه مقطوع به، بل الكلام في إتيانه بصيراً-، ولأن إتيان الأهل على سبيل التبعية أولى من العكس، ودخول الأب في زمرة الأهل.

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)]. (فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر، يقال: فصل من البلد فصولاً، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس: "فلما انفصل العير". (قالَ) لوَلَدِ وَلَدِه ومن حوله من قومه: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمانٍ. والتفنيد: النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي، فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني. (لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب. قدماً في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات. (أَلْقاهُ) طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو: ألقاه يعقوب، (فَارْتَدَّ بَصِيراً) فرجع بصيراً. يقال: ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من عريش مصر)، أي: من عمرانه، الجوهري: "قيل لبيوت مكة: العرش؛ لأنها عيدان تنصب، ويظلل عليها". قوله: (أوجده الله ريح القميص)، أي: جعله الله واجداً، الجوهري: "أوجده الله مطلوبه؛ أي: أظفره". قوله: ((لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب)، وأنشد السجاوندي للبيد: تمنى أن تلاقي آل سلمى ... بخطمة والمنى طرق الضلال قوله: (ولهجك بذكره)، الجوهري: "اللهج بالشيء: الولوع، وقد لهج به: إذا أغرى به، فثابر عليه"، أي: واظب عليه.

(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يعني قوله: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، أو قوله (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ). وقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ) كلام مبتدأٌ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله: (إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ). وروي: أنه سأل البشير: كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر. فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دينٍ تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة. [(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)]. (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: قوله: (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ))، هذا إذا كان الكلام مع ولد ولده ومن حوله، وقوله: (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) إذا كان الكلام مع ولده، ويحتمل الأمرين لمساعدة قرائن المقام، وقوله: (وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، وهو تعليل لظهور صدقه فيما قال. وعلى أن يكون مقولاً للقول: المعنى: إنما أشكو إلى ربي داعياً وملتجئاً لأني أعلم من صنيعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، فأتى (وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ) هناك بالواو تفويضاً لاستفادة الترتب إلى ذهن السامع، كما تقرر، وصرح هنا بـ "إن" للدلالة على التعليل. قوله: (إلى ليلة الجمعة)، روينا عن الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه سولم قال: "قال

وقيل: ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحي إليه: إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروي أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يُغني عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخي يعقوب لبنيه: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة". قوله: (أراد الدوام)، أي: في (سَوْفَ) زيادة تنفيس وتماد في الفعل، ولا يبعد أن يراد به الدوام، والدليل عليه ما روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. قوله: (واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم)، أي: فعلوا به من الإساءة. "الأساس": "أتى إليه إحساناً: إذا فعله". قوله: (وقد علتهم الكآبة)، الجوهري: "الكآبة: سوء الحال والانكسار". قوله: (وظنوا أنها الهلكة)، أي: الهلاك، والضمير للقصة، والمبتدأ ضمير يرجع إلى ما هم عليه من استبطاء إجابة الدعاء، وبلوغ جهدهم فيه، أي: أن القصة هي الهلكة.

نزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم. [(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَاوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)]. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) قيل: وَجَّهَ يوسف إلى أبيه جهازاً ومئتي راحلةٍ ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلافٍ من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة)، من قولهم: عقاد ألوية، جزاز ناصية، جواب قاصية، للخيل جرار. النهاية: "هلك أهل العقد ورب الكعبة، يعني: أرباب الولاية على الأمصار". قوله: (استنبائهم)، استنبأ الرجل وتنبأ: إذا جعل نبياً. قوله: (ليتجهز إليه بمن معه): النهاية: "تجهيز الغازي: تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومنه تجهيز العروس والميت". قوله: (وهو يمشي يتوكأ)، توكأت على عصا، وأوكأت فلاناً إيكاءً: إذا نصبت له متكئاً.

وقيل: إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومئتي ألف. (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبي إسحاق: كانت أمّه تحيا، وقيل: هما أبوه وخالته، ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين، لأنّ الرابة تدعى أمّاً، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله: (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة: 133]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تسلب دينك)، وهو مستند إلى ضمير المخاطب، و"دينك": بدل اشتمال. قوله: (وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة)، "ما" موصوفة، والظرف مع متعلقه: صفتها، أي: عدداً حصل وثبت بين رجل وامرأة. ويجوز أن يكون المجموع كناية عن المميز، أي: اثنان وسبعون ذكوراً وإناثاً، أو المميز محذوف، والجملة خبر بعد خبر.

فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيتٍ ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير (وَخَرُّوا لَهُ) يعني: الإخوة الأحد عشر والأبوين (سُجَّداً) ويجوز أن يكون قد خرج في قبةٍ من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة، فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر. فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفاً بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازى: ارجع سالماً غانماً إن شاء الله. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة، مكيفاً بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل [لهم]: اسلموا وائمنوا في دخولكم)، يعني: في التركيب معنى الدعاء، ولذلك أتى بهما على لفظ الأمر. قوله: (ثم اعترض بالجملة الجزائية- أي: الشرطية- بين الحال وعامله)، قال صاحب "الفرائد": التقدير: ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين، فـ (آَمِنِينَ) متعلق بالجزاء المحذوف، فعلى هذا لا يفتقر إلى التقديم والتأخير، وإلى أن تجعل الجزائية معترضة بين الحال وذي الحال.

ومن بدع التفاسير أن قوله (إِنْ شاءَ اللَّهُ) من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في كلام يعقوب، وما أدري ما أقول فيه وفي نظائره! فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل: معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضاً فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه. قال: أَسِيئِى بِنَا أَوْ أَحْسِنِى لَا مَلُومَةً (مِنَ الْبَدْوِ) من البادية، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع (نَزَغَ) أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال، نزغه ونسغه، إذا نخسه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ولا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك، قال تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23 - 24]، واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة، فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضاً. قوله: (وهذا أيضاً فيه نبوة)، لأن السجدة كانت تكرمة؛ لقوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4]. قوله: (أهل عمد)، الأساس: "يقال لأصحاب الأخبية هم: أهل عمود، وأهل عماد، وأهل عمد". والنجعة: طلب الكلأ.

(لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروي: أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحلىّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنيّ، ما أعقك! عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني فسله. قال جبريل عليه السلام: الله تعالى أمرني بذلك لقولك (وَأَخافُ أَنْ يَاكُلَهُ الذِّئْبُ)، قال: فهلا خفتني؟ وروي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبي قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه؛ كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي: أن عملوا له صندوقاً من مرمرٍ وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعًا واحداً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لطيف التدبير لأجله)، أي: لأجل ما يشاء، يريد: أن قوله: (لِمَا يَشَاءُ) مطلق، لكن قيد لقرنية المقام به، أي: لطيف التدبير في جميع الأشياء حيث دبر أمري كذلك، قال السجاوندي: ذكر الخروج من السجن دون الدخول لئلا يكون شكاية عن الله تعالى، ولم يذكر الجب لئلا يستحيي إخوته. قوله: (فتاقت)، اشتاقت. قوله: (وتشاحوا): يقال: تشاح الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما. قوله: (شرعاً واحداً)، الجوهري: "الناس في هذا الأمر شرع؛ أي: سواء، يحرك ويسكن، يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث".

وولد له: إفراثيم وميشا، وولد لإفراثيم نون، ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم. [(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)]. «من» في (مِنَ الْمُلْكِ) و (مِنْ تَاوِيلِ الْأَحادِيثِ) - للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل (أَنْتَ وَلِيِّي) أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) طلبٌ للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده: (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر) أي: بعد يوسف، إلى قوله: (إلى أن بعث الله محمداً صلوات الله عليه)، فيه بحث، ولو قال: إلى أن بعث الله موسى عليه السلام كان أولى، لأنه عليه السلام خلص بني إسرائيل من تحت يد فرعون، ونقلهم إلى الشام. قوله: (أو بعض ملك مصر)، ظاهره ينافي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) [يوسف: 56]، اللهم إلا أن يحمل الملك على المالكية، لا على التسلط والتصرف. قوله: (كما قال يعقوب لولده: (وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))، وجه المشابهة أنه عليه السلام أمرهم بأن يموتوا على الإسلام، والموت ليس بمقدورهم، فيكون أمراً بأن يكونوا

ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي أو على العموم. وعن عمر بن عبد العزيز: أنّ ميمون بن مهران بات عنده، فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له: صنع الله على يديك خيراً كثيراً؛ أحييت سنناً وأمت بدعاً، وفي حياتك خيرٌ وراحة للمسلمين! فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. فإن قلت: علام انتصب (فاطر السموات)؟ قلت: على أنه وصفٌ لقوله (رَبِّ) كقولك: أخا زيدٍ حسن الوجه، أو على النداء. [(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على حالة إن أدركهم الموت أدركهم وهم على تلك الحالة، وهي حالة الإسلام، فصح قوله: "طلباً للوفاة على حال الإسلام". قوله: (ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل)، أي: على ما سبق القول آنفاً، وهو قوله: "وقيل: ما تمناه نبي قبله ولا بعده". قوله: (أن ميمون بن مهران)، قال صاحب "الجامع": "هو أبو أيوب ميمون بن مهران مولى بني أسد، سمع ابن عمر وابن عباس وأبا الدرداء، ولد سنة أربعين، ومات سنة ثماني عشرة ومئة". قوله: (كقولك: أخا زيد حسن الوجه)، قيل: "حسن الوجه" نكرة، لأن الإضافة لفظية، و"أخا زيد" معرفة، فيكف تقع صفة له، وهو بدل في الظاهر؟ والجواب موقوف على المراد من إيقاع (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ) وصفاً لقوله: (رَبِّ)، وأنها من أي قبيل هي؟ وذلك أن

(ذلِكَ) إشارةٌ إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء. وقوله (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر "إنّ" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوسف عليه السلام لما قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ) أتبعه بذكر (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) استلذاذاً ودفعاً لما عسى أن يدخل في خلد غبي من الشركة، فكيف وقد سبق أنه قال: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)؟ ألا ترى إلى سحرة فرعون كيف ميزوا رب العالمين بقولهم: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 122]! وما ذلك إلا لتوهم الشيوع. ولما كان "أخا زيد" مثالاً له ينبغي أن يحمل على الشيوع أيضاً، وذلك بأن يكون لزيد إخوة فيهم حسن الوجه وقبيحه، فيميز أحدهم بحسن الوجه. ونحوه إيقاع "يسبني" صفة "اللئيم"، فيكون "أخو زيد" في تأويل "واحد من الإخوة"، وفيه بحث. وقيل: يمكن أن يقال: مراده من هذا التشبيه أنه مثله في أنه ليس منادى مستقلاً، فكما أن (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ) تابع لما قبله، وليس منادى مستقلاً، ولما اشتركا في هذا المعنى شبهه به، وإن اختلفا في أن أحدهما صفة، والآخر بدل.

ويجوز أن يكون اسماً موصولاً بمعنى الذي، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) صلته، و (نُوحِيهِ) الخبر. والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي؛ لأنك لم تحضر بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم، وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر، كقوله: (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ)؛ وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تهكم بقريش)، يعني قوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ) الآية، وذلك أنه صلوات الله عليه أخبرهم بهذه القصة العجيبة التي عجزت عنها رواته من غير أن يخرم منها حرفاً، فصدقوه في ذلك، مع استمرارهم على إنكار الوحي، فخوطب به صلوات الله عليه معرضاً بهم على سبيل التهكم، استركاكاً لعقولهم، وإليه الإشارة بقوله: "يا مكابرة"، يعني: أيها المكابرون، إنه لم يخف عليكم أنه لم يكن من حملة هذا الحديث، ولا لقي فيها أحداً، ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، ولم يكن مشاهداً لذلك أيضاً، فلم يبق إلا الوحي، فإذا أنكرتم الوحي لزم أنكم لم تصدقوه فيما صدقتموه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا أنكروه- أي: الوحي- تهكم بهم"، لأنه لزمهم نفي ما أثبتوه، فإن التهكم ينتزع من نفس التضاد. وأحسن منه قول القاضي: " (ذَلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف، والخطاب للرسول [صلى الله عليه وسلم]، وهو مبتدأ، وقوله: (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبران له، (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) الآية: كالدليل عليهم، والمعنى: إن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي، لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به في غيابة الجب، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحداً سمع ذلك، فتعلمه منه، وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة، كقوله: (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) [هود: 49] ".

لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقى فيها أحداً ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقصّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية. ونحوه: (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص: 44]. (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف ويبغون له الغوائل. [(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ* وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)]. (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يريد العموم، كقوله: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [هود: 17]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أهل مكة، أي: وما هم بمؤمنين (وَلَوْ حَرَصْتَ) وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم. (وَما تَسْئَلُهُمْ) على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظةٌ من الله (لِلْعالَمِينَ) عامةً، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقصة هذا القصص)، الضمير في "قصه" للحديث، و"هذا القصص": مفعول مطلق. قوله: ((لِلْعَالَمِينَ) عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله)، اعلم أن هذا الكلام إلى آخره بيان لمنافاة طلب الأجر، لأن كونه تذكيراً من الله وموعظة، وكونه عامة للثقلين، وكونه طلباً للنجاة، وكونه رسولاً واحداً من رسله، يأبى أن يطلب من كفار قريش الأجر؛ لأن كونه تذكيراً من الله تعالى لعباده، فلأنه تعالى مستغن عن العالمين، فينافي طلب الأجر من قريش، وكونه عامة للثقلين يبعد أن يطلب الأجر من قريش، وكونه طلباً

[(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)]. (مِنْ آيَةٍ) من علامةٍ ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده، (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرئ «والأرض» بالرفع على الابتداء، و (يمرون عليها): خبره. وقرأ السدّي «والأرض» بالنصب؛ على: ويطؤون الأرض يمرّون عليها. وفي مصحف عبد الله: "والأرض يمشون عليها"، برفع "الأرض"، والمراد: ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. [(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)]. (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب؛ معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم الذين يشبهون الله بخلقه. [(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَاتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)]. (غاشِيَةٌ) نقمة تغشاهم. وقيل: ما يغمرهم من العذاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للنجاة من الدنيا ينافي أن يطلب به حطام الدنيا، وكونه رسولاً واحداً من رسله له أسوة بسائر الرسل، وما طلب نبي قط أجراً من أمته. قوله: (معهم شرك وإيمان)، فإن اليهود والنصارى جمعوا بين الإيمان بالله والتوراة والإنجيل، وبين الشرك؛ قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. قوله: (وقيل: ما يغمرهم)، فعلى الأول: من الغشيان، وعلى الثاني: من الغشاء، وهو الغطاء.

ويجللهم. وقيل: الصواعق. [(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)]. (هذِهِ سَبِيلِي) هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق: يذكران ويؤنثان، ثم فسر سبيله بقوله (أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي: أدعو إلى دينه مع حجة واضحةٍ غير عمياء، و (أَنَا) تأكيدٌ للمستتر في (أَدْعُوا)، (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطفٌ عليه. يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون (أَنَا) مبتدأ، و (عَلى بَصِيرَةٍ) خبراً مقدّماً، (ومَنِ اتَّبَعَنِي) عطفاً على (أَنَا) إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان، لا على هوى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجللهم)، جلل الشيء تجليلاً؛ أي: عم، والمجلل: السحاب الذي يعم الأرض بالمطر. قوله: (هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد: سبيلي)، يشير إلى أن المشار إليه ما في الذهن، وهو معنى (سَبِيلِي)، ومعنى (سَبِيلِي) ما في قوله: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)، وهو الإيمان، وفي قوله: (وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ)، وهو التوحيد. قوله: (إخباراً مبتدأ)، عامله مضمر، أي: يخبر إخباراً، أو خبر بعد خبر لـ "كان"،

ويجوز أن يكون (عَلى بَصِيرَةٍ) حالاً من (أَدْعُوا) عاملة الرفع في (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). (وَسُبْحانَ اللَّهِ) وأنزهه من الشركاء. [(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو تمييزاً، أي: يجوز أن يكون كذا من هذه الجهة. قال صاحب "المرشد": " (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) وقف حسن، (عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) مثله، هذا مذهب أبي حاتم، وهو الجيد". قوله: (وأنزهه من الشركاء)، مؤذن بأن قوله: (وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) حال من فاعل "أسبح"، وأن قوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ) عطف على قوله: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ)، هذا يقوي أن يكون قوله: (عَلَى بَصِيرَةٍ) حالاً من (أَدْعُو). وفيه: أن من يدعو الناس إلى الله وإلى دينه ينبغي أن يكون على برهان وحجة من اله؛ لئلا يضلهم، ومن ينزهه عما لا يليق بجلاله ينبغي أن يكون موحداً؛ لئلا يميل إلى الإلحاد والإشراك، وهو تعريض بمن يثبت العقول، أو يقول: العبد مستقل بالخلق، تلخيصه: أنا هاد غير مضل، ومهتد غير ضال.

(إِلَّا رِجالًا) لا ملائكة، لأنهم كانوا يقولون: (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت: 14]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ليست فيهم امرأة. وقيل: في سجاح المتنبئة وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا وقرئ: (نوحي إليهم)، بالنون. (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم تزل أنبياء الله ذكراناً)، أوله: أضحت نبيتنا أنثى نطوف بها وفي رواية: .. نبيتنا فينا مؤنثة سجاح: هي بنت المنذر، تنبأت في أيام مسليمة، فأتت لتختبره، فآمنت به، وسلمت أمرها له. قوله: (وقرئ: (نُّوحِي) بالنون)، حفص: بالنون وكسر الحاء، والباقون: بالياء وفتح الحاء.

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ولدار الساعة أو الحال الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، بالتاء والياء. [(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَاسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)]. (حَتَّى) متعلقة بمحذوفٍ دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا)، فتراخى نصرهم حتى استيأسوا عن النصر (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي: كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم: رجاءٌ صادق، ورجاءٌ كاذب. والمعنى: أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أُخلفوا ما وعدهم الله من النصر وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة: 214]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون)، يعني: تحدثوا من عند أنفسهم أنهم ينصرون، فملا تراخى النصر وتوهموا أن لا نصر لهم جاءهم النصر، فهو من باب التجريد، كقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ) [البقرة: 9] في وجه. قوله: (أو رجاؤهم)، عطف على "أنفسهم"، ويجوز إسناد "كذب" إلى الرجاء؛ لما يقال: رجاء صادق وكاذب.

فإن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظنّ: ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح؟ ! وقيل: وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا، أي: أخلفوا. أو: وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أي: كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن صح)، قلت: ما أصحه! وقد رواه البخاري في "صحيحه" في رواية ابن أبي مليكة: "قرأ ابن عباس: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) - خفيفة- قال: ذهب بها هنالك، ثم تلا: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) الآية، قال: فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت ذلك له، فقال: قالت عائشة رضي الله عنها: معاذ الله! والله ما وعد الله رسوله من شيء إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى خافوا أن يكون من معهم من قومهم يكذبونهم. وكانت تقرؤها: (أنهم قد كذبوا) - مثقلة-". قوله: (أو: وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل)، يريد: أن الرسل كانوا وعدوهم بنزول العذاب، ثم إنهم إن كانوا معاندين: فوجه الظن ظاهر، وإن لم يكونوا معاندين فكذلك، لأنهم لابد من أن يشاهدوا من الرسل أمارات تدل على صدقهم في الحديث. يؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم عن ابن عباس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال

وقرئ: "كذبوا" بالتشديد على: وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد: "كذبوا" بالتخفيف، على البناء للفاعل، على: وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة، إمّا على تأويل ابن عباس، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم: إنكم قد كذبتمونا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقريش: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً". وفي "إيجاز البيان" حسب القوم أن الرسل كاذبون، فهم على هذا مكذوبون، لأن من كذبك فأنت مكذوبه، كما في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه الصادق المصدوق؛ أي: صدقه جبريل عليه السلام". وسئل سعيد بن جبير عنها في دعوة حضرها الضحاك مكرهاً، فقال: نعم، حين استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن القوم أن الرسل كذبوهم، فقال الضحاك: ما رأيت كاليوم؛ يدعى إلى علم رجل فلا يتلكأ، لو رحلت في هذا إلى اليمن لكان يسيراً. تلكأ عن الأمر تلكؤاً: تباطأ عنه وتوقف. قوله: (وقرئ: "كذبوا" بالتشديد)، عاصم وحمزة والكسائي: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد. قوله: (إما على تأويل ابن عباس)، أي: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا.

فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا. ولو قرئ بهذا مشدّداً، لكان معناه، وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. قرئ: "فننجي" بالتخفيف والتشديد، من أنجاه ونجاه. و (فنجى) على لفظ الماضي المبني للمفعول، وقرأ ابن محيصن: "فنجا". والمراد بـ (مَنْ نَشاءُ): المؤمنون؛ لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله: (وَلا يُرَدُّ بَاسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). [(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)]. الضمير في (قَصَصِهِمْ) للرسل، وينصره قراءة من قرأ: "فِي قَصَصِهِمْ" بكسر القاف. وقيل: هو راجع إلى يوسف وإخوته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيكونون كاذبين عند قومهم)، وعلى الأول: كانوا كاذبين في وسوستهم وبالهم. قوله: (قرئ: فننجي" بالتخفيف والتشديد)، محيي السنة: "قراءة العامة: بنونين، أي: نحن ننجي، وابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب: بنون واحدة مضمومة، وتشديد الجيم، وفتح الياء؛ على ما لم يسم فاعله، لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة". قوله: (وينصره قراءة من قرأ: "في قصصهم")، لأن "القصص" جمع قصة، ولكل

فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى)، فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن، أي: ما كان القرآن حديثاً يفترى لكِنْ كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: قبله من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد (وَلَكِنْ) للعطف على خبر "كان". وقرئ ذلك بالرفع على: ولكن هو تصديق الذي بين يديه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هؤن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نبي قصة، ولو أريد بالضمير يوسف وإخوته لم يصح إلا الفتح، لأنه لم يكن لهم إلا قصة واحدة. الجوهري: "القصة: الأمر والحديث، وقص عليه الخبر قصصاً، والاسم أيضاً: القصص- بفتح القاف-، وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، وبكسر القاف: جمع القصة التي تكتب". والله سبحانه وتعالى أعلم

سورة الرعد

سورة الرعد مختلف فيها وهي ثلاث وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)]. (تِلْكَ) إشارةٌ إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة، أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن كله هو (الْحَقُّ) الذي لا مزيد عليه، لا هذه السورة وحدها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الرعد مختلف فيها، وهي ثلاث وأربعون آية قوله: (الكاملة)، وذلك أن خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة، وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس، وأنه ليس نوعاً من أنواعه، وهو في الظاهر كالممتنع، ومن ثم قال: "العجيبة في بابها"، قال في البقرة: "إن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً".

وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة المفرعة، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد: الكَمَلة. [(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ* وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)]. (اللَّهُ) مبتدأ، و (الَّذِي) خبره، بدليل قوله (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قول الأنمارية)، هي فاطمة بنت الخرشب تصف أبناءها، ولدت لزياد العبسي: ربيعاً الكامل، وعمارة الوهاب، وقيساً الحفاظ، وأنس الفوارس، قيل لها: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان، لا بل فلان، ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة. والأسلوب من باب الرجوع من التفصيل إلى الإجمال، تنبيهاً على نفاذ الوصف دون الكمال. قوله: (تريد الكملة)، الجوهري: "رجل كامل، وقوم كملة، مثل: حافد وحفدة، وأعطه هذا المال كملاً"، أي: هم متناسبون في الخصال كاملون فيها، بحيث يمتنع تعيين فاضل بينهم ومفضول، كالحلقة المفرغة الممتنعة من تعيين بعضها طرفاً وبعضها وسطاً، وهو من التشبيه العقلي الذي الوجه فيه غير واحد، لكنه في حكم الواحد. قوله: ((اللهُ) مبتدأ، و (الَّذِي) خبره، بدليل قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ))، يريد: أن قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ) الآية، معطوف على قوله: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ

ويجوز أن يكون صفة. وقوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) خبرٌ بعد خبر، وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات. (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَرَوْنَهَا)، وهو مبتدأ وخبر، ليس إلا، فيحمل المعطوف عليه على ما هو المعطوف ليتوافقا لجامع شبه التضاد، وذلك أن الموصولة في الأول مشتملة على ذكر العلويات من السماء ورفعها، والعرش والاستواء عليه، والشمس والقمر وتسخيرهما، وفي الثاني مشتملة على ذكر السفليات من الأرض ومدها، والجبال وإرسائها، والأنهار وإجرائها، والثمرات وإخراجها. وفائدة هذه الطريقة الإيذان بتعظيم المنزل، لأن قوله: (اللهُ) مظهر وضع موضع المضمر، فإنه تعالى لما قال: (وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) صرح بالاسم الجامع، ونسب إليه العلويات والسفليات؛ على معنى: منزله من يفعل تلك الأفعال العظيمة. قوله: (وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات)، يعني: ينصر قول من قال: إن "الذي" صفة، وقوله: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ) خبر بعد خبر: أن الكلام السابق وارد في ذكر آيات الكتاب ووصفها بالكمال، وبلوغها فيه أقصى الغاية، فجيء بقوله: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ) بياناً للموجب، وفي إيقاع الموصولة المشتملة على تلك الأوصاف العظام التي تتحير فيها العقول والأوهام إشعار بتعظيم الخبر الذي هو التدبير والتفصيل، كأنه قيل: فما ظنك بآيات كتاب فصله، وقرآن أنزله ودبره على وجه المصالح وكفاء الحوادث، من دبر أمور العالم، وفصل الآيات الباهرات دلائل على توحيده! وأعظم بتدبير وتفصيل صفة مدبره ونعت مفصله أنه (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)!

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنشد صاحب "المفتاح" من هذا الأسلوب قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول وهذا الوجه من البلاغة بمنزل. وعلى الأول: (يُدَبِّرُ) جملة مستأنفة على تقدير سؤال، أي: الذي رفع السماوات على هذه الصفة، واستوى على العرش وسخر الشمس والقمر، ما داعي حكمته في إنشائها وتسخيرها والاستواء عليه؟ فقيل: يدبر الأمر يفصل الآيات الدالة على وجود منشئها، وحكمة مخترعها، ليوقن المكلفون أن المرجع إليه، ويؤمنوا أن لابد من لقائه، ليثيبهم ويعاقبهم على ما ابتلوا به، وإليه الإشارة بقوله: (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ): مثله ما في سورة يونس: (إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ) إلى قوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [يونس: 3 - 4] إلى آخر الآيات، والله أعلم. وقال صاحب "التقريب" في الفرق بين الخبر والصفة: "أنه إذا جعل "الذي" صفة، فهي كأنها معلومة، فذكرها ليستدل بها، وإذا جعل خبراً لم يلزم العلم بها قبل الإخبار، فيكون الإخبار بهذه الآيات دعاوى لا دلائل، والأولى أن يقول: إنما لا يلزم لو كان الخبر غير مصدر بـ "الذي"، أما إذا كان مصدراً به فيلزم، إذ الصلة حقها أن تكون معلومة كالصفة، فقد استويا"، تم كلامه. وفيه بحث، والتحقيق ما أسلفناه.

وقيل هي صفةٌ لـ (عمدٍ). ويعضده قراءة أبيّ. "ترونه"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((رَفَعَ السَّمَوَاتِ))، شروع في التفسير مفصول عما قبله، و" (تَرَوْنَهَا) " مبتدأ، والخبر "كلام مستأنف"، أي: جملة منقطعة واردة لبيان أن السماوات رفعت بغير عمد، كأنه لما قيل: (رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ)، فقيل: وما الدليل عليه، وما الذي يستشهد به لذلك؟ فأجيب: برؤية الناس لها غير معمودة، وإليه الإشارة بقوله: "استشهاد برؤيتهم لها كذلك". وأتى في "لقمان" بنظير لذلك حيث قال: "أنا بغير سيف ولا رمح تراني"، وذلك أني لما قلت: "أنا بغير سيف ولا رمح"، فقيل لك: ما الذي يدل عليه؟ أجيب: بأنك تراني بلا سيف ولا رمح. قوله: (وقيل: هي صفة لـ (عَمَدٍ))، قال الزجاج: "يجوز أن يكون (تَرَوْنَهَا) من نعت "العمد"، أي: بغير عمد مرئية، وعلى هذا فعمدها قدرة الله تعالى". وروي عن المصنف: يجوز أن يتناول النفي الصفة وحدها؛ على أن ثمة عمداً، إلا أنها غير مرئية، وهو إمساك الله إياها بقدرته، وأن يتناول الصفة والموصوف جميعاً، كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر قوله: (ويعضده قراءة أبي: "ترونه")، وقال صاحب "التقريب": تذكير "ترونه"

وقرئ: "عُمُد"، بضمتين (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يدبر أمر ملكوته وربوبيته، (يُفَصِّلُ) آياته في كتبه المنزلة (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن: "ندبر"، بالنون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشكل، لأن "العمد" جمع كثرة لـ "عمود"، فلعل الضمير للرفع، أو يجعل اسم جمع. قال صاحب "المرشد": قال أبو حاتم: الضمير يرجع إلى (عَمَدٍ)، والذي عندي أن الضمير يرجع إلى (السَّمَوَاتِ)، لأنه تعالى أراد أن ينبهنا على قدرته العظيمة التي لا يقدر عليها أحد، فدلنا؛ على: أنتم عاجزون أن تقيموا صغيراً من الأجسام في الجو بغير عمد، ولابد لهذه الأجرام العظام من مقيم يقيمها، لأن الفعل لا يوجد إلا من فاعل، فمقيم السماء في الجو على غير عمد مع عظم جسمها وثقلها لابد وأن يكون صانعاً قادراً، فالفائدة في هذا الوجه أكثر، وإن كان خلق السماوات يدل على قدرة عظيمة، عمدت أو لم تعمد. وقال أبو البقاء: "إذا رجع الضمير إلى "العمد": (تَرَوْنَهَا) تكون صفة له، وإذا رجع إلى (السَّمَوَاتِ) تكون حالاً منها". قوله: (لابد لكم من الرجوع إليه)، هذا التحقيق من استعمال "لعل"، قال: من ديدن الملوك وأوضاع أمرهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: "عسى" و"لعل".

(جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل: أراد بـ"الزوجين": الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً. وقرئ: "يغشي" بالتشديد. [(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)]. (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بقاعٌ مختلفة، مع كونها متجاورة متلاصقة: طيبةً إلى سبخة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) يلبسه مكانه)، تقديره: يلبس الليل النهار مكان ضوئه، يدل عليه ترتب قوله: "فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً"، وفي معناه قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس: 37]، قال فيه: "فاستعير- أي: السلخ- لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله"، ويوضح المعنى قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر: 5]، قال: "إن الليل والنهار خلفة؛ يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه، كما يلف اللباس على اللابس". قوله: ("يغشي" بالتشديد)، أبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالتخفيف. قوله: (طيبة إلى سبخة)، بيان لقوله: "مختلفة"، أي: انتهى اختلاف الطيبة إلى السبخة، أو طيبة منضمة إلى سبخة.

وكريمةً إلى زهيدة، وصُلبةً إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية، وذلك دليلٌ على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى زهيدة)، الأساس: "رجل زهيد: قليل الخير، وهو زهيد العين: يقنعه القليل". قوله: (إلى أخرى على عكسها)، أي: إلى أرض أخرى كائنة على عكس تلك؛ بأن تكون صالحة للشجر لا للزرع. قوله: (وذلك دليل على قادر مريد موقع لأفعاله على وجه دون وجه)، قال الإمام: "إنه تعالى في غالب الأمر يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي، ويجعل مقطعها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أو ما يقرب منه، والسبب فيه: أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، فأراد الله رد ذلك، قال: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، يعني: من أمعن التفكر علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث لأجل الاتصالات الفلكية، ومن ثم عقب هذا الإرشاد بقوله: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ) الآية"، ثم قال: "ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها، علم أن هذا الكتاب الكريم اشتمل على علوم الأولين والآخرين"، ثم قرر كيفية الاستدلال. وجاء القاضي بتلخيصه حيث قال: "الأرض بعضها طيبة، وبعضها سبخة، وبعضها رخوة، وبعضها صلبة، وبعضها تصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه، لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث إنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع".

وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع، مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلةً فيها. وفي بعض المصاحف: "قطعاً متجاورات" على: وجعل. وقرئ: "وجناتٍ" بالنصب للعطف على (زوجين)، أو بالجرّ على (كل الثمرات). وقرئ: "وزرعٍ ونخيلٍ" بالجرّ عطفاً على (أعناب) أو "جنات". و"الصنوان": جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان، وأصلهما واحد. وقرئ بالضم. والكسر: لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بني تميم وقيس. (يُسْقى) بالتاء والياء (وَنُفَضِّلُ) بالنون وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً (فِي الْأُكُلِ) بضم الكاف وسكونها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "وزرع ونخيل" بالجر)، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص: بالرفع؛ عطف على (وَجَنَّاتٌ). قوله: (وقرئ بالضم)، أي: "صنوان"، قال ابن جني: "قرأ الناس: (صِنْوَانٌ) بكسر الصاد، والحسن وقتادة: بفتحها، وأبو عبد الرحمن السلمي: بضمها". قوله: ((يُسْقَى) بالتاء والياء)، عاصم وابن عامر: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء، أي: يسقى المذكور وتسقى الجنة. قوله: (على البناء للفاعل والمفعول)، مبني على القراءة بالياء وحدها.

[(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)]. (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَإِن تَعْجَبْ) يا محمد)، يريد: أن المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشرط والجزاء من باب "من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى"، أي: مرعى لا يكتنه كنهه، ولذلك حققه بقوله: "حقيق بأن يتعجب منه" إلى قوله: "فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب". وقلت: ويجوز أن يكون الخطاب عاماً، وما يتعجب منه: ما يفهم من مبدأ قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) إلى آخر الآيات، لأنها من الأمور العجيبة الشأن الدالة على القدرة الباهرة، فلا يختص الخطاب بواحد دون واحد، المعنى: إن تعجبك- أيها المخاطب الناظر بعين البصيرة في هذا الإنشاء- سبب للإخبار عن شيء عجيب حقيق بأن تتعجب منه، بل هو العجب كله؛ لتقدم الخبر على المبتدأ، وهو "عجب قولهم"، وذلك أن

كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب (أَإِذا كُنَّا) إلى آخر قولهم، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من (قولهم) وأن يكون منصوباً بالقول. و"إذا" نصبٌ بما دل عليه قوله (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وصف بالإصرار، كقوله: (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا) [يس: 8]، ونحوه: لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنكار من العاقل الناظر في هذه الدلائل لما هو أهون من ذلك أعجوبة من الأعاجيب. قوله: (أهون شيء عليه)، أي: عندكم، كقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27]، أي: عندكم. قوله: (بما دل عليه قوله: (أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ))، قال أبو البقاء: "والعامل في "إذا" فعل دل عليه الكلام، تقديره: أإذا كنا تراباً نبعث، ودل عليه قوله: (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، ولا يجوز أن ينتصب بـ (كُنَّا)، لأن "إذا" مضافة إليه". وقال الزجاج: "فمن قرأ (أَءِذَا) على الاستفهام، ثم قرأ (أَءِنَّا)، فـ "إذا" منصوبة؛ بمعنى: نبعث، أي: إذا كنا تراباً نبعث، ومن قرأ: "إنا لفي خلق" أدخل همزة الاستفهام على جملة الكلام، وكانت "إذا" نصباً بـ (كُنَّا)، لأن الكلام في معنى الشرط والجزاء، ولا يجوز أن يعمل (جَدِيدٍ) في "إذا"، لأنه لا خلاف في أن ما بعد "إن" و"إذا" لا يعمل فيما قبلها". قوله: (لهم عن الرشد أغلال وأقياد)، أوله:

أو هو من جملة الوعيد. [(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)]. (بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالنقمة قبل العافية، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب؛ استهزاء منهم بإنذاره، (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة: العقوبة، بوزن السمرة. والمثلة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف الرشاد وقد خلفت في نفر الغل: جامعة تشد بها العنق واليد. والقيد: ما يوضع في الرجل. قوله: (أو هو من جملة الوعيد)، عطف على قوله: "وصف بالإصرار"، ومعنى قوله: "هو من جملة الوعيد": أن قوله: (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) وعيد، وقد عطف على هذا، فيكون وعيداً مثله، فإذن "الأغلال" مجرى على حقيقتها، وتكرير (أُوْلَئِكَ) لاستقلال كل من العذابين وشدته، وإذا حمل على المجاز يكون من جملة الوصف بالكفر، لكونه معطوفاً عليه، والوجه إدخاله في جملة الوعيد، لأن (أُوْلَئِكَ) الأول وارد للإشعار بأن ما بعده جدير بما سبق لاتصافهم بوصف، وهم المنكرون للحشر، وأما قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) فذكر مزيداً للتسجيل عليهم. قوله: (المثلة)، الجوهري: "المثلة- بفتح الميم وضم الثاء-: العقوبة، والجمع: المثلات، ومثل به مثلاً، أي: نكل به، والاسم: المثلة بالضم، ومثل بالقتيل: جدعه، وأمثله: جعله مثلة".

لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى: 40]. ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال: القصاص. وقرئ: "الْمَثُلاتُ" بضمتين لإتباع الفاء العين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الراغب: "المثال: مقابلة شيء بشيء هو نظيره، أو وضع شيء ما ليحتذى به فيما يعمل، والمثلة: نقمة تنزل بالإنسان، فيجعل مثالاً يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه: مثلات ومثلات، وقد أمثل السلطان فلاناً: إذا نكل به، والأمثل: يعبر به عن الأشبه بالأفاضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم: كناية عن خيارهم، قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) [طه: 104]، وقال تعالى: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى) [طه: 63]، أي: الأشبه بالفضيلة، وهي تأنيث الأمثل". قوله: (لما بين العقاب)، تعليل للتسمية، يعني: إنما سميت العقوبة مثلة ومثلة- بضم الثاء وسكونها- لما بين العقاب والمعاقب عليه- أي: الجناية-؛ من المماثلة- أي: الوفاق- من حيث الظاهر، ولأن الجناية سبب لأن يعاقب الجاني بمثل ما جناه، كما سمي جزاء السيئة سيئة لأنه مسبب عنها ومماثل لها. و"يقال": تعليل آخر بحسب الاستعمال، أي: يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، كما يقال: أقصصته منه، يقال: اقتص الأمير من فلان؛ أي: جرحه مثل جرحه، أو قتله قوداً، كما يقال: أمثل السلطان فلاناً: إذا قتله قوداً. قوله: (وقرئ: "المثلات" بضمتين)، قال ابن جني: "قرأ "المثلات" يحيى بن وثاب، وروي عن الأعمش عن يحيى: "المثلات"- بالفتح والإسكان-، وقراءة الناس: "المثلات" بفتح الميم وضم الثاء".

و"المثلات" بفتح الميم وسكون الثاء، كما يقال: السمرة. و"المثلات" بضم الميم وسكون الثاء، تخفيف "المثلات" بضمتين. و"المثلات" جمع مثلة، كركبة وركبات. (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي: مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب، ومحله الحال، بمعنى: ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه: أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر، أو الكبائر بشرط التوبة، أو يريد بالمغفرة: الستر والإمهال. وروي أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد». [(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)]. (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى، من انقلاب العصا حية، وإحياء الموتى، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل أرسلت منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة، وناصحاً كغيرك من الرسل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه أوجه)، يعني: إذا جعل (عَلَى ظُلْمِهِمْ) حالاً من "الناس"، كان إغراء على الظلم، لأن المعنى أن الله يغفر للناس مع كونهم ظالمين؛ لما فيه من المبالغة، فوجب التأويل، وفيه وجوه ثلاثة كما ذكرها، والوجه هو الثالث، لأن الآية على وزان قوله تعالى: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 6]، قال في تفسيره: "هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفور رحيم، يمهل ولا يعاجل".

وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسولٌ منذر، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطى كل نبى آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آياتٍ ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر، لا أن تثبت الإيمان في صدورهم، ولست بقادر عليه، (ولكل قوم هاد) قادر على هدايتهم بالإلجاء، وهو الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي تعقيبه بقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ): إيذان بأن الله تعالى بعد الإمهال يعاقبهم عقاباً شديداً، قال القاضي: " (عَلَى ظُلْمِهِمْ) نصب على الحال، والعامل فيه "المغفرة"، والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، ومن منع ذلك خص "الظلم" بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر، أو أول المغفرة بالستر والإمهال". قوله: (ووجه آخر، وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون)، عطف على قوله: "لم يعتدوا بالآيات المنزلة"، فعلى الأول: لم ينكروا أن المنزل آيات، بل لم يعتدوا بها، فالكلام إذن في التفرقة بين المعجزات وإثبات الرسالة بها، ولهذا قال: "إنما أنت رجل أرسلت، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت"، والتنكير في (هَادٍ) للإبهام والشيوع. وعلى الوجه الثاني: التنكير في (هَادٍ) للتفخيم، ولهذا قال: " (هَادٍ) قادر على هدايتهم بالإلجاء".

ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره: أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم، العالم بأي: طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره. [(اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ* عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ)]. (اللَّهُ يَعْلَمُ) يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وأن يكون المعنى: هو الله، تفسيراً لـ (هادٍ) على الوجه الأخير، ثم ابتدئ فقيل: (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) و (ما) في (ما تَحْمِلُ)، (وَما تَغِيضُ)، (وَما تَزْدادُ): إما موصولة وإما مصدرية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ) على الأول: جملة مستأنفة على تقدير سؤال عن موجب إعطاء كل منذر ما اختص به من الآيات، وإليه الإشارة بقوله: "ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ، مقدر بالحكمة الربانية"، وفي تقييد العلم بحمل كل أنثى وغيض الأرحام: أن دلائل الأنفس أدق وألطف، ولا يقدر على كنهها إلا الله عز وجل. وعلى الثاني: (اللهُ) خبر مبتدأ محذوف، والجملة مفسرة لقوله: (هَادٍ)، والاستئناف من قوله: (يَعْلَمُ) على بيان الموجب، كأنه لما قيل: ولست أنت بقادر على هدايتهم، لكن الله هو القادر على ذلك؛ اتجه لسائل أن يقول: فلأي حكمة ما هداهم الله؟ فقيل: يعلم- بكمال علمه القديم- الهادي والضال، فلابد من وقوع معلومه وسبق قضائه بذلك، لأن كل شيء عنده بمقدار، أي: بقضائه وقدره.

فإن كانت موصولة، فالمعنى: أنه يعلم ما تحمله من الولد على أن حالٍ هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسنٍ وقبح، وطولٍ وقِصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة، ويعلم ما تغيضه الأرحام: أي: تنقصه. يقال: غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى (وَغِيضَ الْماءُ) [هود: 44]، وما تزداده: أي: تأخذه زائداً، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا. ومنه قوله تعالى: (وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف: 25]، ويقال: زدته فزاد بنفسه وازداد. ومما تنقصه الرحم وتزداده: عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاماً ومخدجاً. ومنه: مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمسٍ عند مالكٍ. وقيل: إنّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. ومنه: الدم، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية، فالمعنى: أنه يعلم حمل كل أنثى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخداج)، الجوهري: "أخدجت الناقة: إذا جاءت بولدها ناقص الخلق، وإن كانت أيامه تامة. وخدجت تخدج خداجاً، وهي خادج: إذا ألقت ولدها قبل تمام الأيام، وإن كان تام الخلق". قوله: (أن شريكاً)، قال صاحب "الجامع": "هو أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، ويقال: الليثي، يعد من التابعين من أهل المدينة"، ولم يذكر من حديث

ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أنّ الفعلين غير متعدّيين، ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر. ومنه: الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام. (بِمِقْدارٍ) بقدرٍ واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولادته ما ذكره المصنف. قوله: (لا يخفى عليه شيء من ذلك)، "ذلك": إشارة إلى المذكور، وهو أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، والمراد به ما ينقصه الرحم ويزداده من عدد الولد، لأنه عطف: "ومن أوقاته وأحواله" عليه. والمراد بـ "الأحوال": التام والمخدج، وبـ "الأوقات": ما سبق، فذكر في قسم المصدر ما ذكره في الموصول من الوجوه الثلاثة. قوله: (ويجوز أن يراد: غيوض ما في الأرحام)، يريد: أن "غاض" و"ازداد" جاءا متعديين ولازمين، فالمعنى على المتعدي: ويعلم غيض الأرحام وازديادها، وعلى اللازم: يعلم غيوض الأرحام، على الإسناد المجازي. قوله: (ويعضده)، أي: ويعضد كون "ما" مصدرية قول الحسن: "الغيضوضة" و"الغيض" بلفظ المصدر.

(الْكَبِيرُ) العظيم الشأن الذي كل شيء دونه (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها. [(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ* لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)]. (وسارِبٌ) ذاهبٌ في سربه - بالفتح -، أي: في طريقه ووجهه، يقال: سرب في الأرض سروباً. والمعنى: سواءٌ عنده من استخفى، أي: طلب الخفاء في مختبأٍ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت: كان حق العبارة أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو الذي كبر عن صفات المخلوقين)، يعني: معنى (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) بالنظر إلى مردوفه- وهو (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) -: هو العظيم الشأن إلى آخره، ليضم مع العلم العظمة والقدرة، وبالنظر إلى ما سبق من قوله: (مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى) إلى آخره؛ أن يقال: كبر عن صفات المخلوقين؛ ليفيد تنزيهاً عما يقوله النصارى والمشركون. قال أبو البقاء: " (عَالِمُ الْغَيْبِ) خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ، و (الْكَبِيرُ) خبره". وقلت: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: (اللهُ) في (اللهُ يَعْلَمُ). قوله: (يضطرب)، أي: يسير في الأرض؛ من: ضرب في الأرض؛ إذا ذهب فيها. قوله: (كان حق العبارة)، توجيه السؤال: أن الأسلوب من باب الازدواج، فجملة

وإلا فقد تناول واحداً هو (مستخف) و"سارب"؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أنّ قوله (وَسارِبٌ) عطفٌ على من هو "مستخفٍ"، لا على (مستخف)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) معطوف على جملة قوله: (مَنْ أَسَرَّ) (وَمَن جَهَرَ)، على أن كليهما مرفوعان بالابتداء أو بـ (سَوَاءٌ)، فالظاهر أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار؛ ليتوافقا، وإن لم يكن التقدير هذا فقد تناول الاستواء شخصاً واحداً له وصفان، وهو المراد من قوله: "تناول واحداً هو (مستخف) (وَسَارِبٌ) "، فلم يستقم لاقتضاء الاستواء شيئين. قال أبو البقاء: " (مَنْ أَسَرَّ): (مَنْ) مبتدأ، و (سَوَاءٌ) خبره، و (مِنكُم) حال من الضمير في (سَوَاءٌ)، لأنه في موضع "مستو"، ومثله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) [الحديد: 10]، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في (أسَرَّ) لما يؤدي إلى تقيم ما في الصلة على الموصول". وقال الزجاج: "موضع (مَنْ) الأولى والثانية: رفع بـ (سَوَاءٌ)، لأنها تطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو؛ في معنى: ذوا سواء زيد وعمرو، لأنها مصدر، فلا يجوز أن ترفع ما بعده إلا على الحذف، تقول: عدل زيد وعمرو، والمعنى: ذوا عدل، لأن المصادر ليست بأسماء الفاعلين، وإنما يرفع الأسماء أوصافها، و"سواء" مما كثر استعماله، فجرى مجرى أسماء الفاعلين". قوله: ((وَسَارِبٌ) عطف على "من هو مستخف" لا على (مُسْتَخْفِ))، قال في

والثاني: أنه عطفٌ على (مستخف)؛ إلا أن (مَنْ) في معنى الاثنين، كقوله: نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: مستخف بالليل، وسارب بالنهار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الانتصاف": "ويحتمل أن يعطف عليه، والموصول محذوف، وصلته باقية، أي: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، ونمه قوله تعالى: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف: 9]، لأن الثانية لو عطفت على صلة الأولى لم يكن لدخول حرف النفي معنى. ومنه قول حسان: ومن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء أي: ومن يمدحه". قوله: (نكنمثل من يا ذئب يصطحبان)، أوله للفرزدق: تعال فإن عاهتني لا تخونني قبله: فقلت له لما تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان "تكشر"؛ أي: أبدى أسنانه، يصف ذئباً أتاه وهو في قفر، وأنه ألقى إليه ما يأكله، ومعنى

والضمير في (لَهُ) مردودٌ على (مِنْ) كأنه قيل: لمن أسرّ ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب. (مُعَقِّباتٌ) جماعاتٌ من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) [التوبة: 90] بمعنى: المعتذرون. ويجوز "معقبات" بكسر العين، ولم يقرأ به. أو هو مفعلات؛ من: عقبه: إذا جاء على عقبه، كما يقال: قفاه، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً. أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) هما صفتان جميعاً، وليس (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) بصلة للحفظ، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله، أي: من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة على رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمدٍ وعكرمة: "يحفظونه بأمر الله". أو: يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "وقائم سيفي في يدي بمكان": أي: أنا قابض قائم سيفي قبضاً قوياً تتمكن عليه يدي تمكناً ليس بعده. يظهر تجلده وشجاعته، يقول: إن عاهدتني على أن لا تخونني كنا مثل رجلين متصاحبين، و"يصطحبان": صلة "من"، و"يا ذئب": نداء اعترض بين الصلة والموصول، وثنى "يصطحبان" على معنى: من، لأن معناه التثنية. قوله: (هما صفتان جميعاً)، يعني: قوله: (يَحْفَظُونَهُ) وقوله: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، كأنه قيل: له معقبات كائنة من أمر الله يحفظونه من البلاء.

كقوله: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) [الأنبياء: 42]. وقيل: المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره. (من أمر الله)؛ أي: من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به. وقرئ: "له معاقيب" جمع معقب أو معقبة، والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ) [الأنبياء: 42])، أي: ما يحفظكم من بأس الرحمن أحد في الليل والنهار إلا أن يرحم عليكم، فيدفعه عنكم أو يشفع لكم شافع بإذنه، وهو المراد من قوله: "مسألتهم ربهم أن يمهلهم رجاء أن يتوبوا". قوله: (الحرس والجلاوزة)، الجوهري: "الحرس: حرس السلطان، وهم الحراس، الواحد حرسي، لأنه قد صار اسم جنس، فينسب إليه، ولا تقل: حارس، إلا أن تذهب به إلى معنى الحراسة دون الجنس"، وقال: "الجلواز: الشرطي، والجمع: الجلاوزة"، وهم أعوان السلطان. قوله: (أو على التهكم به)، عطف على قوله: "في توهمه وتقديره" من حيث المعنى، يعني: يتوهم الغافل المتمادي في غروره أن حرسه وجلاوزته يحفظونه من قضاء الله، كما يشاهد من بعض الملوك والسلاطين، وهذا على طريق الإخبار من الله عز وجل عن هذا الغافل، أو على سبيل التهكم، أي: يتهكم بمن ينصب الحرسي والشرطي، ويتكبر ويحجب الناس، بقوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: من قضاياه ونوازله. قوله: (وقرئ: "له معاقيب")، قال ابن جني: "قرأها عبيد الله بن زياد"، وقال: "مثله:

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الحال الجميلة بكثرة المعاصي (مِنْ والٍ) ممن يلي أمرهم ويدفعه عنهم. [(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ)]. (خَوْفاً وَطَمَعاً) لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما؛ لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف، أي: إرادة خوفٍ وطمعٍ. أو: على معنى: إخافة وإطماعاً. ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على: ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين، أي: خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع: أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقاديم، تكسير مقدم". قوله: (ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم)، قال القاضي: "فيه دليل على أن خلاف مراد الله محال".

فَتىً كَالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَا مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، ويطمع فيه من له فيه نفع، ويحيا به. (السَّحابَ) اسم الجنس، والواحدة سحابة. و (الثِّقالَ) جمع ثقيلةٍ، لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال، كما تقول: امرأة كريمة ونساء كرام، وهي الثقال بالماء. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أي: يضجون بـ"سبحان الله" و"الحمد لله". وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «سبحان من يسبح الرعد بحمده» وعن علي رضي الله عنه: سبحان من سبحت له. وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتى كالسحاب) البيت، قال الواحدي: "الجون: الأسود ها هنا، ورواه ابن جني بضم الجيم، ولذلك قال: الجون: بضم الجيم، لأنه جمع. المعنى: أنه مرجو مهيب يرجى نفعه ويهاب ضره، كالسحاب؛ يرجى مطره وتخشى صواعقه ورعده وبرقه". قوله: (في جرينه)، الجوهري: "الجرن والجرين: موضع التمر الذي يجفف". وقال: "وكف البيت وكفاً ووكيفاً وتوكافاً؛ أي: قطر، وأوكف البيت: لغة فيه". قوله: (اللهم لا تقتلنا بغضبك) الحديث، رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك»، وعن ابن عباس: أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نارٍ يسوق بها السحاب»، وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملكٍ. ومن بدع المتصوّفة: الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله. ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده، وما دلّ على قدرته الباهرة ووجدانيته ثم قال (وَهُمْ) يعني: الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته (يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ) حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس: 78] ويردّون الواحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم «الملائكة بنات الله» فهذا جدالهم بالباطل، كقوله تعالى: (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر: 5] وقيل: الواو للحال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد) الحديث، رواه أحمد بن حنبل والترمذي عن ابن عباس. النهاية: "المخاريق: جمع مخراق، وهو- في الأصل- ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً، وهي آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه". قوله: (وقيل: الواو للحال)، أي: في قوله: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ)، وهو معطوف على قوله: "ذكر علمه النافذ في كل شيء" إلى قوله: "ثم قال: (وَهُمْ) يعني: الذين كفروا"، فعلى هذا: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ) جملة معطوفة على جملة قوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى) إلى آخر الآيات إذا كان استئنافاً كما سبق، أي: أخبر الله تعالى عن علمه الشامل وقدرته

أي: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم، وذلك: أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حين وفد عليه معه عامر بن الطفيل قاصدين لقتله، فرمى الله عامراً بغدّةٍ كغدّة البعير، وموتٍ في بيت سلولية، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته: أخبرنا عن ربنا، أمن نحاس هو أم من حديد؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكاملة بقوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى) إلى قوله: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)، ثم أخبر عن استواء الظاهر والخفي عنده بقوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)، ثم أخبر عما دل على قدرته الباهرة (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ)، ثم أخبر عن وحدانيته بقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً)، وقوله: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، ثم قال: إنهم مع قال (يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ)، أي: في شأن الله من علمه وقدرته؛ حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث بقولهم: من يحيي العظام وهي رميم، ويردون الوحدانية باتخاذ الشركاء، ويجعلونه بعض الأجسام بقولهم: الملائكة بنات الله. هذا على تقرير المصنف. والأنسب لتأليف النظم: أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلوات الله عليه، فإنه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات نحو آيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم الذي جاء به صلوات الله عليه آيات، سلاه، بمعنى: هون عليك فإنك لست مختصاً به، فإنهم مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد، ومع شمول علمه وكمال قدرته ينكرون الحشر والنشر، ومع قهر سلطانه وشديد سطواته يقدمون على المكابرة والعناد، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. وقد أسلفنا في الأنعام عند قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) [الأنعام: 100] تقرير هذه الطريقة، فإنها من الأساليب الغريبة، ولا يكاد يوجد مثلها في غير التنزيل. قوله: (بغدة كغدة البعير)، النهاية: "الغدة: الطاعون للإبل، وقلما تسلم منه، يقال:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أغد البعير فهو مغد، ومنه حديث عامر بن الطفيل: "غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية". قال الميداني: "ويروى: "أغدة وموتاً"، أي: أؤغد إغداداً وأموت موتاً؟ يقال: أغد البعير: إذا صار ذا غدة، وهي طاعونه. ومنهم من روى بالرفع، أي: غدتي كغدة البعير، وموتي موت في بيت سلولية، وسلول عندهم أقل العرب وأذلهم، قال: إلى الله أشكو أنني بت طاهراً ... فجاء سلولي فبال على رجلي فقلت: اقطعوها بارك الله فيكم ... فإني كريم غير مدخلها رحلي" روى محيي السنة عن عبد الرحمن بن زيد: "نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل والوليد ابن ربيعة، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عامر وأربد- وهما عامريان- يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المجلس ونفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس بجمال عامر، وكان أعور، وكان من أجمل الناس، فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: "دعه، فإن يرد الله به خيراً يهده". فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد، ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك؟ قال: ليس ذلك إلي، وإنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر، وأنت على المدر؟ قال: لا. قال: فما تجعل لي؟ قال: أجعلك على أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك لي اليوم؟ ! قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوصى إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه، فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثم حبسه الله عنه، فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال: اللهم اكفنيهما بما شئت. فأرسل الله تعالى إلى أربد صاعقة في يوم صحو قائظ، فأحرقته، وولى عامر هارباً،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: يا محمد، دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها خيلاً جرداً وفتياناً مرداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله من ذلك، وأبناء قيلة- يريد: الأوس والخزرج-، ونزل عامر ببيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فجعل يركض في الصحراء، ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشعر، ويقول: واللات لئن أبصرت محمداً وصاحبه- يعني: ملك الموت- لأنفذنهما برمحي، فأرسل الله ملكاً فلطمه بجناحيه، فأرداه في التراب، وخرجت في ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه، ثم أجراه، حتى مات على ظهره". قال الميداني بعدما أتى على القصة بتمامها: "يضرب في خصلتين؛ إحداهما شر من الأخرى". وأما ما رويناه في "صحيح البخاري" عن أنس بن مالك، فهو: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف ألف، وطعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهره".

(الْمِحالِ) المماحلة، وهي شدّة المماكرة والمكايدة. ومنه: تمحل لكذا، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث: «ولا تجعله علينا ماحلاً مصدّقا» وقال الأعشى: فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ فِى غُصُنِ الْمَجْدِ ... غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ والمعنى: أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تجعله علينا ماحلاً مصدقاً)، قيل: تمامه: "واجعله لنا شافعاً مشفعاً"، والضمير للقرآن. النهاية: "ومنه حديث ابن مسعود: "القرآن شافع مشفع، وماحِلٌ مصدق"، أي: خصم مجادل مصدق، وقيل: ساع مصدق؛ من قولهم: محل بفلان؛ إذا سعى به إلى السلطان، يعني: أن من اتبعه وعمل بما فيه، فإنه شافع له مقبول الشفاعة ومصدق عليه فيما يرفع من مساوئه إذا ترك العمل [به]، ومنه حديث الدعاء: ولا تجعله ماحلاً مصدقاً". قوله: (فرع نبع) البيت، فرع كل شيء: أعلاه، يقال: هو فرع قومه: للشريف منهم،

وقرأ الأعرج بفتح الميم، على أنه مفعل، من: حال يحول محالاً إذا احتال. ومنه: أحول من ذئب، أي: أشدّ حيلة. ويجوز أن يكون المعنى: شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة والقدرة كما جاء: فساعد الله أشدّ، وموساه أحدّ، لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفرع أيضاً: القوس التي عملت من طرف القضيب، يقال: قوس فرع؛ أي: غير مشقوق، وها هنا بمعنى الثاني، إلا أنه مجاز عن الكريم. و"النبع": شجر تتخذ منه القسي، "الهشاشة": الارتياح والخفة للمعروف، "غزير الندى": كثير العطاء، "شديد المحال": شديد الكيد، وقيل: شديد العقوبة والمكر. يقول: الممدوح في الصلابة فرع النبع له نضارة في غصن المجد، كثير الندى شديد النكاية على الأعداء. قوله: (ومنه: "أحول من ذئب")، قال الميداني: "هذا من الحيلة، يقال: تحول الرجل؛ إذا طلب الحيلة". قوله: (شديد الفقار)، الأساس: "فرس قوي المحال، وهو الفقار، الواحدة: محالة، والميم أصلية". قوله: (فساعد الله أشد)، النهاية: "وفي حديث البحيرة: "ساعد الله أشد، وموساه أحد"؛

ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه. [(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)]. (دَعْوَةُ الْحَقِّ) فيه وجهان: أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك: كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لو أراد الله عز وجل تحريمها بشق آذانها لخلقها كذلك، فإنه يقول لها: كن، فتكون". قوله: (فقرته الفواقر)، الجوهري: "أي: كسرت فقار ظهره، الفاقرة: الداهية"، هذا مثال التوهين القوي لانهضام فقار الظهر. قوله: (فكانت دعوة ملابسة للحق)، الفاء نتيجة لقوله: "المعنى: أن الله سبحانه وتعالى يدعى فيستجيب"، واللام في "لكونه" تعليل لإثبات أن الدعوة لله ملابسة للحق، وذلك أن معنى قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ): لله الدعوة الثابتة غير الزائلة، فإذا كان كذلك كانت الدعوة ملابسة للحق البتة، لكونه تعالى حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من النفع، بخلاف آلهتهم التي لا نفع ولا جدوى في دعائها، يؤيده ما بعده: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ). قال صاحب "الانتصاف": "قوله: "فإن الله يستجيب الدعاء إذا كان مصلحة، أو معناه: أنه الحقيق أن يوجه إليه الدعاء، بخلاف الأوثان"، قيد استجابة الدعاء برعاية المصلحة، ولا يتقيد بذلك، ولا يجب رعاية المصالح على ما سبق".

لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدى دعاؤه. والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى: دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن: الحق هو الله، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت: ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله؟ قلت: أما على قصة أربد فظاهر، لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله: اللهمّ اخسفهما بما شئت، فأجيب فيهما، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تضاف إلى الحق الذي هو الله تعالى)، هذا مشكل لما يؤدي إلى أن يقال: لله دعوة الله، ويمكن أن يقال: معناه: ولله الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته، لكونه سميعاً بصيراً كريماً لا يخيب سائله، فيجيب الدعاء. والحاصل: أن قوله: (الْحَقِّ) وصف جعل علة لاستجابة الدعاء، فإن جعل بمعنى الحق الذي هو خلاف الباطل، فيجب أن يفسر بالمصلحة، لتترتب عليها الإجابة، وإن جعل وصفاً لله تعالى فيجب أن يثبت له وصف يصلح لترتب الإجابة، وهو أن يقال: إنه "المدعو الحق الذي يسمع فيجيب". قوله: (اتصال هذين الوصفين)، أي: قوله: (شَدِيدُ الْمِحَالِ) و (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) هما جملتان خبريتان سماهما وصفين لما قبله، وهو قوله: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ)، وهو إذا كان حالاً، والمراد بذي الحال: أربد وصاحبه؛ فظاهر، لأن أثر شدة بأس الله واقع، والدعاء قد استجيب فيهم، وإذا كان عطفاً على قوله: (اللهُ يَعْلَمُ) كما سبق- وهو الوجه الأول في تفسيره- فلم يحصل من مقتضى الوصفين شيء، ومن ثم قال: "فوعيد للكفرة على مجادلتهم".

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) والآلهة الذين يدعوهم الكفار (مِنْ) دون الله (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) من طلباتهم (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ) إلا استجابةً كاستجابة باسط كفيه، أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جمادٌ لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جمادٌ لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا استجابة كاستجابة)، الإجابة والاستجابة بمعنى، قال: وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب قوله: (كاستجابة الماء)، من إضافة المصدر إلى الفاعل، و"من" مفعوله. قوله: (وقيل: شبهوا في قلة جدوى)، عطف على قوله: "أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه". والوجه الأول: من التشبيه التمثيلي؛ شبه حالة عدم استجابة الأصنام دعاءهم، وأنهم لم يفوزوا من دعائهم الأصنام بالإجابة والنفع بحالة عدم استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب أن يبلغ فاه، والوجه عدم استطاعة إجابة الدعاء مع العجز عن إيصال النفع، وهو- كما يرى- منتزع من عدة أمور. روى محيي السنة عن علي وعطاء: "كالعطشان الجالس على شفة البئر، يمد يده إلى

فبسطهما ناشراً أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه. وقرئ: "تدعون" بالتاء، "كباسطٍ كفيه" بالتنوين. (إِلَّا فِي ضَلالٍ) إلا في ضياعٍ لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم. [(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)]. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أي: ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البئر، ولا يبلغ قعر البئر، ولا يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه". والثاني: من التشبيه المركب العقلي، شبهوا في عدم انتفاعهم بدعاء آلهتهم بشخص يروم من الماء الشرب، ويفعل ما لا يحصل منه على شيء، والوجه قلة جدوى توخي المطلوب. قال محيي السنة: "المعنى: كباسط كفيه ليقبض على الماء لا يكون في يده شيء، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء، كذلك الذين يدعون الأصنام، لا ينفعهم دعاؤها، وهي لا تقدر على شيء". قوله: (فلم تلق كفاه)، "تلق" من: لاق؛ أي: أمسك، وعن بعضهم: لاقت الدواة تليق؛ أي: لصقت، ولقتها- يتعدى ولا يتعدى- فهي مليقة: إذا أصلحت مدادها، وألقتها إلاقة: لغة فيه قليلة، وفلان لا يليق درهماً موجودة؛ أي: ما يمسكه، فلا يلصق به. قوله: ((وَللهِ يَسْجُدُ) أي: ينقادون)، جعل (يَسْجُدُ) مجازاً عن الانقياد؛ لينتزع منه القدر المشترك، فيصح إطلاقه على العقلاء الساجدين وغيرهم، وعلى ظلالهم أيضاً. قال القاضي: "يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون

وتنقاد له ظِلالُهُمْ أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ: "بالغدوّ والإيصال"، من: آصلوا: إذا دخلوا في الأصيل. [(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الثقلين طوعاً حالتي الشدة والرخاء، والكفرة كرهاً حالة الشدة والضرورة، وظلالهم بالعرض، وان يراد به انقيادهم لإحداث ما أراده فيهم؛ شاؤوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص، وانتصاب (طَوْعاً وَكَرْهاً) بالحال أو العلة". قوله: (والتقلص)، الجوهري: "يقال: قلص الظل، وقلص الماء: إذا ارتفع". قوله: (والفيء والزوال)، الفيء: ما بعد الزوال من الظل، وإنما سمي الظل فيئاً لرجوعه من جانب إلى جانب، قال ابن السكيت: الظل: ما نسخته الشمس، والفيء: ما نسخ الشمس. قوله: (وقرئ: "بالغدو والإيصال")، قال ابن جنيك "قرأها أبو مجلز، وهو مصدر "آصلنا"؛ أي: دخلنا في وقت الأصيل".

و (قُلِ اللَّهُ) حكاية لاعترافهم، وتأكيد لم عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بُدّ من أن يقولوا الله. كقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون: 86]، وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ ، فإذا قال: هذا قولي قال: هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقا منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً؛ أي: إن كعوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه. (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كعوا في الجواب)، الأساس: "كع الرجل وكعكعه الخوف فتكعكع، أي: حبسه فاحتبس". قوله: (أبعد أن علمتموه رب السماوات)، يريد: أن الفاء في قوله: (أَفَاتَّخَذْتُمْ) سببية مرتبة للكلام الثاني على الأول، وأدخل همزة الإنكار بين المسبب والسبب للتعكيس، كقوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]، وهذه الفاء مثل الفاء التي أتى بها في المثال، وهو قوله: "ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول: كيت وكيت". قوله: (من علمكم وإقراركم)، أما علمكم فأنكم تعلمون أنه رب السماوات والأرض، وأما إقراركم فجوابكم إذا سئلتم: من رب السماوات والأرض؟

(أَمْ جَعَلُوا) بل اجعلوا، ومعنى الهمزة الإنكار و (خَلَقُوا) صفةٌ لـ (شركاء)، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله (فَتَشابَهَ) عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى يقولوا)، غاية لقوله: "فتشابه"، ومعنى النفي في قوله: "لم يتخذوا" يعطيه معنى الهمزة الإنكارية في "أم"، فيكون المنكر الجعل مع مفعوليه والصفة. قال في "الانتصاف": " (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) في سياق الإنكار: تهكم، فإن غير الله لا يخلق شيئاً، لا مساوياً ولا منحطاً، فقد كان يكفي في الإنكار أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق، لكن قوله: (كَخَلْقِهِ) تهكم، والزمخشري لا يستطيع ذكر هذه النكتة، لأن الله ربهم يخلق الجواهر والأعراض، والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم، وفي قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلجام لأفواه المشركين والقدرية، فلذلك تقاصر لسان الزمخشري هنا، وقرت شقاشقه". وقلت: أما قضية المذهب هنا، وقوله: "لا يقدرون على ما يقدر عليه من الخلق": فبطلانه بقوله تعالى: (قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ظاهر، وأما إثبات التهكم فمتكلف، لأن التهكم هو ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقاراً للمخاطب، كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]، وقولهم: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87]، وها هنا قوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) مبالغة في إثبات العجز لها على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان،

فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالقٍ وخالقٍ، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق. (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالربوبية (الْقَهَّارُ) لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور. [(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ)]. هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولاً اتخاذهم من دون الله شركاء، ووصفها بأنها لا تملك لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم؟ ! أنكر ثانياً على سبي التدرج وصف الخلق أيضاً، يعني: هب أنهم يقدرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم، هل يقدرون أن يخلقوا شيئاً؟ وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء، هل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السماوات والأرض؟ . قوله: (كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلاً لهما)، بيان لاتصال الآيات،

فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أوديةُ الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذلك أنه تعالى لما أمره صلوات الله عليه أن يبكت المشركين بقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ)، ثم يؤنبهم بقوله: (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، ويوبخهم على تعكيس الأمر، وهو أنه من علم أنه رب السماوات والأرض وجب عليه أن يعبده ويوحده، فهم جعلوا العلم سبباً للإشراك به، ذيله بضرب المثل بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، ولما أضرب عن ذلك بقوله: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) أي: شركاء مخلوقين عاجزين لا يقدرون على نفع أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ ! وتركوا عبادة خالق كل شيء المتوحد المتفرد الغالب على كل شيء، عقبه بضرب مثل آخر. قوله: (وبالفلز الذي ينتفعون به)، النهاية: "الفلز- بكسر الفاء واللام وتشديد الزاي-: ما في الأرض من الجواهر المعدنية، كالذهب والفضة والنحاس والرصاص وغيرها، قيل: هو ما ينفيه الكير، ومنه حديث علي رضي الله عنه: (من فلز اللجين والعقيان) ". قوله: (مما يدخر ويكنز)، خبر لقوله: "والحبوب والثمار"، وفيه لف؛ لأن الادخار مختص بالحبوب، والاكتناز بالثمار.

وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزيد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت: فما معنى قوله (بِقَدَرِها)؟ قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافعٌ للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله: (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الكنز: جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من: كنزت التمر في الوعاء، زمن الكناز: وقت ما يكنز فيه التمر". قوله: (ألا ترى إلى قوله: (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ))، يعني: دل التفصيل- وهو قوله: (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ) - أن هذا المجمل أيضاً مشتمل على هذا المعنى، ليتطابق التفصيل والمجمل، وليس فيه ما يدل على النفع إلا قوله: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، فيجب تفسيره به، ويؤيده قوله: "الفائدة فيه- أي: في (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ) - كالفائدة في قوله: (بِقَدَرِهَا) "، لأنهما متقابلان. واعلم أن الآية من "باب الجمع والتقسيم مع الجمع" على أبدع ما يكون؛ جمع أولاً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الماء والفلز في حكم كونهما جامعين لمعنى ما ينتفع به الناس ولما لا نفع فيه، فإنزال الماء على القدر المحتاج إليه خالص للنفع، وحميله- الذي هو زبد السيل- لا نفع فيه، وكذا الفلز: ما يتخذ منه الحلي والأواني هو المنتفع به، وخبثه الذي هو زبده مما لا نفع فيه، ثم فصل ثانياً حكم كل من اللذين لا نفع فيهما على طريق الجمع، بقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ) إلى آخره، أي: كل مما لا نفع فيه من زبد الماء وزبد الفلز يذهب جفاء، وكل من المنتفع بهما- وهما الماء المنزل بقدر والفلز المتخذ منه الحلي والمتاع- يمكث في الأرض. قال محيي السنة: "قيل: قوله: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) مثل للقرآن، و"الأودية" مثل للقلوب، أي: أنزل القرآن، واحتمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل". وقلت: ومقتضى إدخال القرآن والقلوب الموصوفة باليقين والشك والعقل والجهل في هذا المقام قوله تعالى بعد ضرب المثل: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى) الآية، وقوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى). وقال السجاوندي: إن لله تعالى في الأنبياء والأصفياء ودائع وبدائع من خصائص الإنسانية، تحصل بالسهو وتذهب بالعبر، والأنوار العلوية- أعني: آثار الهداية- بالعلم والقرآن يتأثر بها من الأخلاق ما هو حلية الروح والعقل، ومن الأعمال ما هو قنية النفع والدفع، والعلم في الصدر الأول آت من الله تعالى نقداً خالياً من خلائط الزيف

لأنه ضرب المطر مثلاً للحق، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف. فإن قلت: فما فائدة قوله (ابْتِغاءَ حلية أو متاع)؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله (بِقَدَرِها)؛ لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله: (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ)، لأنّ المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) عبارةٌ جامعةٌ لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صافياً عن سؤال الكيف، ثم اختلط بشوائب النفسانية وهواجس الإنسانية، فلابد من نار الفتن، واختبار المحن؛ لزوال زبد الخبث، وقوام أود العبث، ومن تحمل التعليم، والاتصاف بالتسليم، ليذهب الزبد جفاء، وإلا مات عطشاً، ودام نجساً، قال: إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه هذا مختصر من كلامه. قوله: (والسيول الجواحف)، الجوهري: "سيل جحاف- بالضم-: إذا جرف كل شيء وذهب به". قوله: (على وجه التهاون به)، وذلك أن في قوله: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ)

كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص: 38]. و«من» لابتداء الغاية؛ أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل. (جُفَاءً) يجفاهُ السَّيل؛ أي: يرمي به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج: "جفالاً"، وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عدولاً من الاسم إلى تصوير حالة هي أحط حالات هذه الجواهر، أي: هذه التي ترفعون أنتم من مقدارها، وتعدونها أنفس الجواهر، وتتخذون منها الحلي، وتزينون بها مجالسكم وتيجانكم، هي هذه التي توقدون عليها، كقوله تعالى: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [الطارق: 5 - 6]، وقوله: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس: 18 - 19]، قال: "من أي شيء حقير خلقه". قوله: (أو للتبعيض)، قال أبو البقاء: " (زَبَدٌ) مبتدأ، و (مِثْلُهُ) الصفة، والخبر "مما يوقدون"، المعنى: ومن جواهر الأرض كالنحاس ما فيه زبد- وهو خبثه- مثله، أي: مثل الزبد الذي يكون على الماء". قوله: ((جُفَاءً) يجفاه السيل)، قال أبو البقاء: "هو حال، وهمزته منقلبة عن واو، وقيل: هي أصل".

وقرئ: يوقدون، بالياء: أي: يوقد الناس. [(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)]. (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) اللام متعلقة بـ (يضرب)، أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أي: هما مثلاً الفريقين. و (الْحُسْنى) صفةٌ لمصدر "استجابوا"؛ أي: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل: قد تم الكلام عند قوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) [الرعد: 17]، وما بعده كلام مستأنف و (الحسنى) مبتدأ، خبره: (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا)، والمعنى: لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) مبتدأ، خبره: (لو) مع ما في حيزه و (سُوءُ الْحِسابِ) المناقشة فيه، وعن النخعي: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (يُوقِدُونَ) بالياء)، التحتانية؛ حمزة وحفص والكسائي. قوله: (وقيل: قد تم الكلام عند قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ))، قال صاحب "المرشد": "هو وقف تام، وفي قوله: (لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى) حسن، وكذا (لافْتَدَوْا بِهِ) ".

[(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)]. دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله (أَفَمَنْ يَعْلَمُ) لإنكار أن تقع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: "قوله: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ) على أن يتعلق (لِلَّذِينَ) بـ (يَضْرِبُ): كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين". وقلت: النظم يستدعي الثاني، لأن الفصاحة على انقطاع ما بعد الفاصلة عنها، ولهذا انحط قول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل عن قول أبي الطيب: إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم ولأن لفظ (الْحُسْنَى) لما تعلق بأحد القرينتين أوجب أن لا يعطل ما يقابلها عن أختها؛ لئلا يخترم النظم، كأنه قيل: للذين استجابوا لربهم الحسنى، والذين لم يستجيبوا لربهم السوأى، فوضع موضعه: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) إلى آخره، وإنما اكتفى في الأول بـ (الْحُسْنَى) المطلقة ليعم، فيكون أبلغ، لأن جانب الحسنة أرجح. قوله: (دخلت همزة الإنكار على الفاء)، يريد: أن الفاء في (أَفَمَن) للتعقيب، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، والمعطوف عليه جملة قوله: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) الآية، المعنى: ضرب الله الأمثال للمؤمنين

شُبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم (أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي: الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا. [(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المستجيبين والكافرين الذين لم يستجيبوا، أفيستوي الذين يعلمون ما أنزل إليك، فيستجيبون، والذين لا يعلمون فلا يستجيبون؟ ! وإليه الإشارة بقوله: "إن حال من علم فاستجاب بمعزل من حال الجاهل فلم يستجب، كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز". ثم إنك إن أمعنت النظر وجدت قوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) وما ترتب هو عليه: متصلاً بفاتحة السورة، يعني: بقوله: (وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [الرعد: 1]. قوله: (كبعد ما بين الزبد)، صفة مصدر محذوف، أي: بعد حالهم من حال الجاهل بعداً مثل بعد ما بين الزبد والماء. قوله: (أي: الذين عملوا على قضيات عقولهم)، الراغب: "اللب: العقل الخالص من الشوائب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، فكل لب عقل، وليس كل عقل لباً، ولهذا علق الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الزاكية بأولي الألباب، نحو: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ

وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)]. (الذين يوفون بعهد الله) مبتدأ، و (أولئك لهم عقبى الدار) خبره، كقوله: (والذين ينقضون عهد الله) [الرعد: 25] أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لـ"أولي الألباب"، والأوّل أوجه. و"عهد الله": ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته؛ (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف: 172]. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه؛ من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [البقرة: 269]، ورجل لبيب من قوم ألباء، وملبوب: معروف باللب". قوله: (والأول أوجه)، وذلك لمكان الاستئناف عند قوله: (الَّذِينَ يُوفُونَ)؛ لبيان الموجب، كقوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 2 - 3]، على ما مر في البقرة، ولعطف قوله: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) عليه، وهو غير صالح لوصف أولي الألباب. قوله: (تعميم بعد تخصيص)، يعني: عطف قوله: (وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) - وهو عام لأن التعريف فيه للجنس- على قوله: (يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ)، والمراد: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وهو خاص، كما عطف: (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) على قوله: (يَصِلُونَ) على هذا، لأن خشية الله ملاك كل خير، وأما عطف (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) على "يخشون"،

(ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]- بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي: يخشون وعيده كله، (وَيَخافُونَ) خصوصاً (سُوءَ الْحِسابِ) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا. (صَبَرُوا) مطلقٌ فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف ابْتِغاءَ وَجْهِ الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله: وَتَجَلُّدِى لِلشّامِتِينَ أُرِيهِمُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فمن عطف الخاص على العام، ومن ثم قال: "ويخافون خصوصاً سوء الحساب"، ومثله عطف (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) على (صَبَرُوا). قوله: (وتجلدي للشامتين أريهم)، تمامه- لأبي ذؤيب: أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت، كقوله: مَا إنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلَعْـ ... ـتُ وَلَا يَرُدُّ بُكَأي: زَنْدَا وكل عمل له وجوهٌ يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعل كلا فعل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشماتة: الفرح ببلية تصل إلى العدو، والضعضعة: الخضوع. يقول: هذا التجلد الذي أريه من نفسي لدفع شماتة الشامتين. قوله: (ما إن جزعت) البيت، قيل: هو لعمرو بن معدي كرب، الهلع: أفحش الجزع، لأنه جزع مع قلة الصبر، قيل: إن زيداً أخ له، ومنهم من زعم أنه فتش فلم يجد له شقيقاً يسمى زيداً، ومنهم من روى "زنداً"- بالنون-، أي: يرد بكائي شرره من حرقتي، ذكر "الزند" وأراد ما يخرج منه عند القدح. روي عن المصنف أنه قال: الزند مثل في القلة، ومن ثم يقال للئيم: مزند، أي: محقر، "الأساس": "ومن المجاز قولهم للحقير: زندان في مرقعة، وعطاء مزند: قليل مضيق". قوله: (أن ينوي منها ما به كان حسناً)، "ما" موصوفة، أي: ينوي من الوجوه شيئاً به كان العمل حسناً عند الله، وهو أن يصبر ابتغاء وجه ربه، اقتبس قوله: "حسناً" من قوله صلوات الله عليه: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فإذا أحسن العبد هذا الحضور طاش عنده جميع الهواجس النفسانية التي ذكرها المصنف، بل

(مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله، (سِرًّا وَعَلانِيَةً) يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل، والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعونها. عن ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم. وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره (عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يفني حضوره في شهوده، فيتلذذ بالبلوى، ويستبشر باختبار المولى، هذا هو الصبر على الله عند العارفين. قوله: (وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا)، إلى آخره: مقتبس مما رويناه في "مسند أحمد ابن حنبل" عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك". قوله: ((عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها هي التي أراد الله)، الانتصاف:

و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلٌ من (عقبى الدار). وقرئ: "فنعم" بفتح النون. والأصل: نعم. فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرى: "يُدْخَلُونَها" على البناء للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة: "صَلُحَ" بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. و"آباؤهم" جمع أبوي كل واحدٍ منهم، فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "العاقبة المطلقة: هي الجنة، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، فاستنبط الزمخشري من ذلك أنها التي أرادها الله، والعاقبة الأخرى خلاف المراد، فلذلك قيدها في قوله: (وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35]، تفادى أن ينسب إلى الله إرادة الشر، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والمؤدي إلى حميد العاقبة مأمور به، والمؤدي إلى ما سواها منهي عنه، فعاقبة الجنة أصل باعتبار الأمر، لا باعتبار الإرادة". قوله: (لا تنفع إذا تجردت من الأعمال)، إنما قال: "إذا تجردت" ليؤذن بأنه إذا وجد منهم عمل ما كفاهم، وذلك من إيقاع الفعل- أي: (صَلَحَ) - صلة للموصول، كما قال في قوله: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود: 113]: "قيل: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، ولم يقل: "الظالمين"، لأن المعنى: الذين وجد منهم الظلم"، والمعنى: أن الله تعالى يلحق قرابات أولئك الكملة بهم، وإن لم يكونوا في مرتبتهم من العمل الصالح إكراماً لهم، نحوه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]، قال فيه: "أي: بسبب إيمان عظيم رفيع المحل- وهو إيمان الآباء- ألحقنا بدرجاتهم ذرياتهم، وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم".

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في موضع الحال، لأنّ المعنى: قائلين: سلامٌ عليكم، أو مسلمين. فإن قلت: بم تعلق قوله (بِما صَبَرْتُمْ)؟ قلت: بمحذوف، تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون: هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم. والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله: بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بدل)، ظرف؛ خبر قوله: "هذه الملاذ"، لأنه مبتدأ وصفة، والجملة معطوفة على مثلها، وهي "هذا الثواب بسبب صبركم" والصبر على الأول بمعنى الطاعات، لأن الطاعات عندهم سبب للثواب، وعلى الثاني بمعناه، ولذلك قال: "ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه"، وهو موجب للعوض والبدل. وعن بعض العدلية: الثواب: هو الجزاء على أعمال الخير، والعوض: هو البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن، والتفضل: هو إيصال منفعة خالصة إلى الغير من غير استحقاق. قال القاضي: " (بِمَا صَبَرْتُمْ) متعلق بـ (عَلَيْكُم)، أو بمحذوف، أي: هذا بما صبرتم، ولا يتعلق بـ (سَلَامٌ)، لأن الخبر فاصل، والباء للسببية أو البدلية". وأجيب: أن التعلق بمعنوي، ولذلك قدر: "ونكرمكم". قوله: (بما قد أرى فيها أوانس بدنا)، لم يوجد تمامه.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»، ويجوز أن يتعلق بـ (سلام)، أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم. [(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)]. (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول، (سُوءُ الدَّارِ) يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة (عقبى الدار)، ويجوز أن يراد بـ (الدار): جهنم، وبـ"سوئها": عذابها. [(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ)]. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي: الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"الأوانس": النساء، "البدن": من قولهم: بدن الرجل: إذا سمن، وهي جمع بادنة، وهي المرأة السمينة، يقول: أرى في عرصة الحمى الوحش، بدل ما كنت أرى فيها النساء الآنسات، والاستشهاد بالباء في "بما"، لأنها بمعنى البدل. قوله: ((اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي: الله وحده هو يبسط الرزق)، أي: لا غيره، ومثل هذا التركيب عند صاحب "المفتاح" نص في إفادة تقوي الحكم، ولا يحتمل التخصيص البتة،

وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن المبتدأ قار في مكانه، وليس مثل: "أنا عرفت" في احتمال التخصيص والتقوي. ويمكن أن يوجه تفسير المصنف بأن يقال: إن في التركيب تكرير الحكم، فاكتسى الحكم قوة، فيفيد التأكيد، فناسب أن يضمن التخصيص، لأن التخصيص ليس إلا تأكيد الحكم بالنفي والإثبات، والتأكيد أبداً يرفع إرادة التجوز عن الحكم، والوجه أن ذلك التخصيص من قبل اختصاص الاسم الجامع بالذكر، وبناء (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) عليه. يؤيده قوله في قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23]: "وإيقاع اسم "الله" مبتدأ، وبناء (نَزَّلَ) عليه: فيه تفخيم لـ (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، وتأكيد لإسناده إلى الله تعالى، وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز إلا أن يصدر عنه". قوله: (وهو الذي بسط رزق أهل مكة)، إشارة إلى أن اللام في (الرِّزْقَ) عوض من المضاف إليه، كقوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْباً) [مريم: 4]، وأن الضمير في "فرحوا" عائد إليه، والآية متصلة بقوله: (كَمَنْ هُوَ أَعْمَى)، وهم الذين لا يعلمون المراد من ضرب المثلين، ولا يستجيبون لربهم، وذلك لما بسط الله عليهم الدنيا، فنسوا حظاً مما ذكروا به، وفرحوا بالحياة الدنيا، ألا ترى كيف عقبه بقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، إذ لو سمعوا ما أنزل عليهم، وعلموا حقيقته، لما قالوا ذلك، وبقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)، حيث سمعوه وعرفوا أنه حق من الله عز وجل، فاستجابوا له،

وَفَرِحُوا) بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واطمأنت قلوبهم، فعلى هذا قوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) إلى قوله: (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) معترضة مؤكدة لمضمون الكلامين. وفيه: أن سبب تنور قلوب المستجيبين واطمئنانها: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، بشهادة المقابلة بين الضدين. قوله: (فرح بطر وأشر)، الراغب: "الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة، وأكثر ما يكون في اللذات البدنية الدنيوية، فلهذا قال تعالى: (لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23]، وقال تعالى: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ولم يرخص

وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزراً يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك. [(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)]. فإن قلت: كيف طابق قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ)؟ قلت: هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، (إن الله يضل من يشاء) ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الفرح إلا في قوله: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: 58]، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ) [الروم: 4 - 5] ". قوله: (هو كلام يجري مجرى التعجب)، يعني: أن قولهم: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) من باب العناد والاقتراح ورد الآيات الباهرة المتكاثرة، وإنما يستحق هذا الكلام بأن يقابل بقوله: ما أعظم كفركم وتصميمكم على الكفر، ومثل هذا التصميم لا يكون إلا بختم الله على القلوب، وإرادة الضلال منكم، ومن يضلل الله فلا هادي له، ما أدل هذه الآية على مذهب أهل السنة.

فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ) كان على خلاف صفتكم (أَنابَ) أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، (والَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مَنْ أَنابَ)، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23]، أو: تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها. (الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ، و (طُوبى لَهُمْ) خبره. ويجوز أن يكون بدلاً من (القلوب)، على تقدير حذف المضاف، أي: تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، و (طوبى) مصدرٌ من: طاب، كبشرى وزلفى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تطمئن بالقرآن، لأنه معجزة)، هذا الوجه ملائم لقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، ليكون تعريضاً بالكفار كما سبق. قوله: (ويجوز أن يكون بدلاً من (الْقُلُوبُ))، ويحتمل بدل الكل والبعض والاشتمال، بحسب التعريف في (الْقُلُوبُ)، وهذا أحسن توافقاً للموصول الأول، وفائدته التعريض بالكفار، وأنهم لا قلوب لهم، لأن عملهم غير صالح، وأن عنادهم بسبب أن أفئدتهم هواء، ولا يلقون أذهانهم وسمعهم كمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، و (طُوبَى لَهُمْ) - على هذا- جملة مستأنفة، كأنه قيل: فما لهم؟ وأجيب: طوبى لهم.

ومعنى «طوبى لك»: أصبت خيراً وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيبا لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلامٌ لك، والقراءة في قوله: (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في (لَهُمْ) للبيان، مثلها في سقياً لك، والواو في (طوبى) منقلبةٌ عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر. وقرأ مكوزة الأعرابي: "طيبى لهم" فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل: بيضٌ ومعيشة. [(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)]. (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) مثل ذلك الإرسال أرسلناك، يعني: أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَحُسْنُ مَئَابٍ) بالرفع والنصب)، بالرفع: السبعة، وبالنصب: شاذ. قال أبو البقاء: "الرفع والإضافة على أنه معطوف على (طُوبَى) إذا جعلتها مبتدأ، والنصب على أنه عطف على (طُوبَى) في وجه نصبها". قوله: (وقرأ مكوزة)، روي عن المصنف: أنها كما سمت العرب بـ "كوز"، سمت بـ "مكوزة"، وهي إما جمع كوز، كمشيخة ومسيفة ومأسدة، جمع شيخ وسيف وأسد. قوله: (يعني: أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل)، فالكاف صفة مصدر محذوف، والتنكير فيه للتعظيم، لأن اسم الإشارة في أمثال هذا المقام يدل على جلال شأن المشار إليه، وهو إما ما في الذهن، وهو الظاهر، أو ما سبق من الآيات الدالة على جلائل الشئون، و [في] في

ثم فسر كيف أرسله فقال: (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أي: أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك (وَهُمْ يَكْفُرُونَ) وحال هؤلاء أنهم يكافرون (بِالرَّحْمنِ) بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم (قُلْ هُوَ رَبِّي) الواحد المتعالي عن الشركاء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم (وَإِلَيْهِ مَتابِ) فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: (فِي أُمَّةٍ) ليست بصلة لـ (أَرْسَلْنَاكَ)، بل بيان، ليؤذن بالتفسير بعد الإبهام على تفخيم الشأن الذي يقتضيه المقام. قوله: (لتقرأ عليهم الكتاب العظيم)، والتعظيم مستفاد من وضع (الَّذِي أَوْحَيْنَا) موضع "القرآن"، قال في قوله تعالى: (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]: "في إيهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه"، وأتم معنى التفخيم بإيثار صيغة التعظيم. قوله: (وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن)، يريد: أن قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) حال من فاعل (أَرْسَلْنَاكَ)، و"الرحمن" مظهر وضع موضع المضمر لتلك الفائدة التي ذكرها، وهي أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، المعنى: إنا أرسلنا مثلك إليهم وأنت قائد الأنبياء وخاتمهم لتتلو عليهم مثل هذا القرآن العظيم المعجز المصدق لسائر الكتب؛ ليعبدوني ويوحدوني، وهم مع ذلك بدلوا الشكر بالكفران، ثم إنه تعالى أمره بأن ينبئهم على خاصة نفسه ووظيفته من الشكر، وما آل إليه أمره معهم تأنيباً، فقال: (قُلْ

[(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)]. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) جوابه محذوف، كما تقول لغلامك: لو أني قمت إليك، وتترك الجواب والمعنى: ولو أن قرآنا (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) حتى تتصدع وتتزايل قطعاً (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غايةً في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف، كما قال: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشرك 21]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هُوَ رَبِّي)، أي: العظيم الجامع لأوصاف الكمال الذي أرسلني إليكم، وجعلني خاتم النبيين، وأيدني بذلك الكتاب العظيم الشأن، والبليغ الرحمة الذي كفرتم نعمته: هو ربي، ولا رب لي سواه، وعليه اعتمادي وتوكلي لا على غيره، وإليه متابي ومرجعي، لا إلى غيره، فالضمير جار مجرى اسم الإشارة، وقوله: (لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) اعتراض أكد به إيجاب اختصاص التوكل عليه، وتفويض الأمور عاجلاً وآجلاً إليه. ومثله قوله تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 106]، قال المصنف: " (لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي"، على أن المفهوم من كلامه أن (لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) جار مجرى الحال، ولذلك أوقعه وصفاً لـ (رَبِّي)، حيث قال: "ربي الواحد المتعالي عن الشركاء". قوله: (لو أني قمت إليك)، أي: لرأيت ما لا تطيقه.

هذا يعضد ما فسرت به قوله: (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الرعد: 30] من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. وقيل: معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال، وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) الآية [الأنعام: 111]. وقيل: إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع، كما سُخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا يعضد ما فسرت به)، يعني: إذا جعلت جواب "لو" قوله: "لكان هذا القرآن"، لا ما يجيء: "لما آمنوا"، ولا ما دل عليه قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) كما ذهب إليه الفراء، كان دالاً على أن ذلك التفسير هو الوجه. وأما اتصاله على هذا بما سبق: فالظاهر أنه داخل تحت حيز القول، أي: قل: هو ربي، وقل: لو أن قرآناً، والله أعلم. قوله: (وقيل: معناه: ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال ... لما آمنوا)، فعلى هذا: الآية متصلة بقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، وقوله: "وقيل: إن أبا جهل" متفرع على هذا الوجه، ولا يلزم على هذا تعظيم القرآن، لكن يكون تسجيلاً على شدة شكيمتهم وغاية عنادهم.

أو: ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا: منهم قصى بن كلاب فنزلت. ومعنى تقطيع الأرض على هذا: قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء: هو متعلق بما قبله. والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ)، وما بينهما اعتراض، وليس ببعيد من السداد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا، منهم قصي بن كلاب)، وإنما لم يقل: وابعث رجلين أو ثلاثة كما بعث عيسى، كما صرح بذكر النبيين؛ لشهرته. قوله: (ومعنى تقطيع الأرض على هذا: قطعها بالسير)، وأنشد صاحب "المفتاح": وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحل الليل السماك فأبصرا وعلى الأول: جعلها القطائع، لأن المراد حينئذ الزراعة. القطائع: جمع قطيعة، وهي الأرض التي يزرع فيها. قوله: (وعن الفراء: هو متعلق بما قبله)، أي: جواب "لو" ما دل عليه قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)، قال أبو البقاء: "جواب "لو" مقدم عليه، أي: وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآناً؛ على المبالغة".

وقيل: (قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) شُققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) على معنيين: أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ) يعني: مشيئة الإلجاء والقسر (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ومعنى (أَفَلَمْ يَيْأَسِ): أفلم يعلم. قيل: هي لغة قومٍ من النخع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً) على معنيين)، أي: يكون إما إضراباً عما أجاب به قول أبي جهل، أي: أعرض عن هذا، فإن الله تعالى قادر على ما اقترحه، إلا أنه تعالى علم أن إظهاره مفسدة، أو عن قوله: "وقيل: معناه: ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال" إلى آخره، لأن جزاء "لو" على التقديرين: "لما آمنوا به"، والمعنى على هذا: بلغ تصميمهم إلى أنهم لو شاهدوا تلك الآيات العظام لما رجعوا عن تصميمهم، بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء، لولا أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار، بناءً على مذهبه، وهذا على الوجهين الآخرين. قال القاضي: "بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم، يؤيد ذلك قوله: (أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمانهم مع ما رأوا من الأحوال". قوله: (قيل: هي لغة قوم من النخع)، بفتح النون والخاء المعجمة، كذا في "جامع

وقيل: إنما استعمل "اليأس" بمعنى العلم لتضمنه معناه؛ لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل "الرجاء" في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأصول"، قال ابن جني: "روي عن ابن عباس: أنها لغة وهبيل؛ فخذ من النخع، قال: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا أي: ألم يعلموا. ويشبه عندي أن يكون هذا من اليأس، لأن المتأمل للشيء المتطلب لعلمه ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه، فإذا ثبت يقينه على شيء من أمره اعتقده وأضرب عما سواه، فلم ينصرف إليه، كما ينصرف اليائس من الشيء عنه، ولا يلتفت إليه". الراغب: "اليأس: انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، مثل: عجب واستعجب، قال تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً) [يوسف: 80]، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا)، قيل: معناه: ألم يعلم، ولم يرد أن اليأس موضوع في كلامهم للعلم، وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل بعد العلم بانتفائه، فإذن ثبوت يأسهم يقتضي حصول علمهم". قوله: (لتضمنه معناه)، أي: هو من دلالة التضمن وإطلاق الكل على الجزء، هذا في

قال سحيم بن وثيل الرياحي: أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أنِّى ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ ويدل عليه: أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبين، وهو تفسير (أَفَلَمْ يَيْأَسِ). وقيل: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام. وكان متقلباً في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه - والله - فريةٌ ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق (أَنْ لَوْ يَشاءُ) بـ (آمنوا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اليأس صحيح كما ذكر، وفي النسيان ظاهر، لأنه ترك الإنسان ضبط ما استودع ضعفاً أو غفلة أو قصداً، وأما في الرجاء فمشكل، لأن الرجاء والخوف متقابلان، قال تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة: 16]، و (يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد: 12]، ولأن الرجاء: ظن حصول ما فيه مسرة، والخوف: ظن حصول المكروه، اللهم إلا أن يراد بالتضمن الموضوع اللغوي، وهو ما يفهم منه معنى زائد. قوله: (بين دفتي الإمام)، الأساس: "حفظ ما بين الدفتين، وهما ضماما المصحف من جانبيه". قوله: (المهيمنين عليه)، في "الجامع": "المهيمن: هو الشهيد، وقيل: الأمين، وأصله: مؤتمن، فقلبت الهمزة هاء، وقيل: هو الرقيب والحافظ". قوله: (ويجوز أن يتعلق (أَن لَّوْ يَشَاءُ) بـ (آَمَنُوا))، عطف على قوله: " (أَفَلَمْ يَيْئَسْ

على: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم. (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وسوء أعمالهم، (قارِعَةٌ) داهيةٌ تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ) القارعة (قَرِيباً) منهم، فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها (حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) وهو موتهم، أو القيامة. وقيل: (ولا يزال) كفار مكة (تصيبهم) بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب (قارعة)؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ) يعني: مشيئة الإلجاء"، ولم يكن يستقيم المعنى إلا بجعل (يَيْئَسُ) بمعنى: يعلم، ولذلك قال: "ومعنى (أَفَلَمْ يَيْئَسُ): أفلم يعلم". قال أبو البقاء: " (أَن لَّوْ يَشَاءُ) في موضع نصب بـ (يَيْئَسُ)، لأن معناه: أفلم يتبين". وعلى الوجه الثاني: (يَيْئَسُ) بمعنى: يقنط، على حقيقته، و (أَن لَّوْ يَشَاءُ) نصب بنزع الخافض، متعلق بـ (آَمَنُوا)، لأن "آمن" يعدى بالباء، وإليه الإشارة بقوله: "آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، وعلى هذا معمول (يَيْئَسُ) محذوف، وهو: عن إيمان هؤلاء. قوله: (بما يحل الله بهم)، حل يحل- بالضم- أي: نزل، وأحللته: أنزلته. وفي بعض النسخ: "يحل"؛ بفتح الياء وكسر الحاء، وفي حاشيته: "أنه من: حل العذاب يحل- بالكسر-: وجب"، وهو سهو، والصواب بضم الياء وكسر الحاء؛ من: حل يحل- بالضم- أي: نزل، وأحللته: أنزلته، يعضده قوله: " (أَوْ تَحُلُّ) القارعة (قَرِيباً) منهم".

لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم، وتصيب من مواشيهم (أو تحل) أنت يا محمد (قريباً من دارهم) بجيشك، كما حل بالحديبية، حتى يأتى وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك. [(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)]. الإملاء: الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن، كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم. استهزاء به وتسلية له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ملاوة من الزمان)، الجوهري: "أقمت عنده ملاوة من الدهر- بفتح الميم وضمها وكسرها-، أي: حيناً وبرهة". الراغب: "الإملاء: الإمداد، ومنه قيل للمدة الطويلة: ملاوة من الدهر، وملي من الدهر، قال تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) [مريم: 46]، وملاك الله: عمرك الله، والملوان: قيل: الليل والنهار، وحقيقة ذلك: تكررهما وامتدادهما، بدلالة قول الشاعر: نهار وليل دائم ملواهما ... على كل حال المرء يختلفان فلو كان الليل والنهار لما أضيفا إليهما". قوله: (وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم) إلى قوله: (وتسلية له): أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم،

[(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)]. (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعنى أفا الله الذي هو قائم رقيب (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) صالحة أو طالحةٍ (بِما كَسَبَتْ) يعلم خيره وشره، ويعدّ لكل جزاءه، كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه (وجعلوا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما الوعيد والتسلية فظاهران، وأما الجواب: فإن أبا جهل حين قال: "سير بقرآنك الجبال، وسخر لنا الريح"، ولم يكن السؤال إلا اقتراحاً واستهزاء؛ لم يلتفت إليه، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تعريضاً على منوال قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8 - 9]. قوله: (أفالله الذي هو قائم)، هذا التأويل يؤذن أن قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ) معطوف على كلام سابق، والهمزة مقحمة بينهما لمزيد الإنكار، والذي يصلح أن يكون معطوفاً عليه هو قوله: (هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) [الرعد: 30]، المعنى: "هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم وإليه متابي، فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم"، أفالله الذي هو كذلك كمن هو ليس كذلك، لأن المعطوف عليه أيضاً متضمن لمعنى الرد والإنكار على الشرك، لأنه جواب عن قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) [الرعد: 30]، أي: يشركون به. قوله: (ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويعطف عليه (وَجَعَلُوا))، يعني: قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) لابد له من خبر؛ إما أن يقدر الخبر ما تتم به جملة، ويعطف (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) على الجملة برأسها، أو أن يقدر الخبر ما يصح أن يعطف

وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفةلم يوحدوه (وَجَعَلُوا) له - وهو الله الذي يستحق العبادة وحده (شُرَكاءَ)؟ ! (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي: جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال: (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) على "أم" المنقطعة، كقولك للرجل: قل لي من زيد؟ أم هو أقل من أن يعرف، ومعناه: بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفى أن يكون له شركاء. ونحوه: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس: 18]. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كقوله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة: 30]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَجَعَلُوا) عليه، ليكون من عطف الخبر على الخبر، وعلى هذا (لِلهِ) مظهر وضع موضع الراجع إلى المبتدأ. قوله: (وتمثيله)، أي: وتقدير هذا الوجه. قوله: (كقولك للرجل)، أي: لمن يقول بفضل زيد واشتهاره بين الناس ومكانته عندهم، وأنت تريد نقصه وحطه من منزلته: من زيد؟ وهو عندك مشهور، أي: لا أعرفه عرفنيه، ثم تضرب عن هذا السؤال بقولك: أم هو أقل، يعني: هو أقل من أن يسأل عنه أنه من هو؟ فضلاً عن أن يسأل عن فضله وشهرته. كذا جعلهم لله شركاء يبعث القائل على أن يقول لهم: سموهم، أي: إن صدقتم أنهم شركاء لله تعالى، فأثبتوا لها أسامي تدل على وجودها، ثم أضرب عن قوله: (سَمُّوهُمْ)، يعني: جعلهم لله شركاء إنباء لله عز وجل بوجود شركاء، ومثل هذه المنبأ به لا وجود لها حتى يعلق بها ما يتناوله من الاسم، ثم أضرب عن هذا القول بقوله: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ)، بمعنى: هب أنهم لشدة شكيمتهم سموهم شركاء، فهذه التسمية عندهم قول لا حقيقة لها، (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) [النجم: 23].

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) [يوسف: 40]، وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة)، أي: هذا الاحتجاج مبني على فنون من علم البيان: أولها: قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) كمن هو ليس كذلك؟ ! احتجاج عليهم وتوبيخهم على القياس الفاسد لفقدان الجهة الجامعة. وثانيها: قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) من وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه، كقوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم: 65]. وثالثها: قوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ)، أي: عينوا أساميهم، وقولوا: فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني، كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجوداً فسمه، لأن المراد بالاسم العلم الذي علق على الشيء بعينه، فما لم يكن موجوداً لم يكن معيناً، فلا يعلق عليه اسم، لأنه ليس بشيء، وهو من أسلوب الكناية الإيمائية. ورابعها: قوله: (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ) احتجاج من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وهو نوع من الكناية. وخامسها: قوله تعالى: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ) احتجاج من باب الاستدراج، والهمزة للتقرير ببعثهم على التفكر، يعني: أتقولون بأفواهكم من غير رؤية وأنتم ألباء، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه. وسادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه. وحين كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها على أبلغ ما يكون، قال: "وهذا الاحتجاج مناد على نفسه أنه ليس من كلام البشر"، وهو كلام عالي

منادٍ على نفسه بلسانٍ طلقٍ ذلقٍ: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ «أتنبئونه» بالتخفيف. (مَكْرُهُمْ) كيدهم للإسلام بشركهم، (وَصُدُّوا) قرئ بالحركات الثلاث، وقرأ ابن أبي إسحاق: "وصدٌّ" بالتنوين، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ) ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فما له من أحد يقدر على هدايته. (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرتبة، لكن تذييله بقوله: "فتبارك الله أحسن الخالقين" وضعه إلى أسفل السافلين. قال في "الانتصاف": "هي كلمة حق أريد بها باطل، يعرض فيها بخلق القرآن، فتنبه لها، فما أسرع ما يمر بك فتستحسنها وتغفل عما قصده بها". قوله: (بلسان طلق ذلق)، الجوهري: "ذلق اللسان- بالكسر- يذلق ذلقاً: أي: ذرب ذرباً"، و"الذرب: الحاد من كل شيء". قوله: (وَصُدُّوا) قرئ بالحركات الثلاث)، بفتح الصاد: نافع وأبو بكر وأبو عمرو وابن عامر، وبالضم: الباقون، وبالكسر: شاذ.

ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر، ولذلك سماه عذاباً، (وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ) وما لهم من حافظ من عذابه، أو ما لهم من جهته واق من رحمته. [(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)]. (مَثَلُ الْجَنَّةِ) صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه، أي: فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره: الخبر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تقول: صفة زيدٍ أسمر، وقال الزجاج: معناه: مثل الجنة تجري من تحتها الأنهار، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ على رضى الله عنه: "أمثال الجنة" على الجمع، أي: صفاتها. (أُكُلُها دائِمٌ) كقوله: (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة: 33]، (وَظِلُّها) دائم لا ينسخ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا عقوبة لهم على الكفر)، استثناء من أعم عام المفعول له، وفاعل "لا يلحقهم" ضمير "ما ينالهم"، أي: لا يلحقهم ما ينالهم لشيء من الأشياء إلا للعقوبة. قوله: (أو: ما لهم من جهته واق من رحمته)، "من" الثانية في التنزيل على الوجهين: زائدة، والأولى: على الأول: متعلقة بـ (وَاقٍ)، وعلى الثاني: متعلقة بالجار والمجرور، أي: (لَهُم)، و"من رحمته" صفة "واق"، أي: ما استقر لهم من جهة الله واق من رحمته، أي: شافع كائن من رحمته، أي: بإذنه. قوله: (وقال الزجاج: معناه: مثل الجنة)، لفظه- على ما أورده أبو علي في "الإغفال"-: "قال سيبويه: فيما نقص عليكم مثل الجنة، فرفعه على الابتداء وقال غيره: (مَثَلُ الْجَنَّةِ)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مرفوع، وخبره: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)، كما تقول: صفة فلان أسمر، معناه: صفة الجنة، وكلا القولين حسن جميل، والذي عندي أن الله عز وجل عرفنا أمر الجنة التي لم نرها ولم نشاهدها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه، فالمعنى: مثل الجنة التي وعد المتقون: جنة تجري من تحتها الأنهار". وقال أبو علي: تفسير "المثل" بالصفة غير مستقيم لغة، ولم يوجد فيها البتة، وإنما تفسيره: الشبه، يدلك عليه: مررت برجل مثلك، فوصفوا به النكرة مضافاً إلى المعرفة، كما قالوا: مررت برجل شبهك، ولم يختص بالإضافة لكثرة ما يقع به الاشتباه، كما لم يختص بالمماثلة، ومنه قولهم للقصاص: المثال، إلى غير ذلك. وأما النظر فيه من جهة التأويل فغير مستقيم أيضاً، ألا ترى أن "مثلاً" إذا كان معناه: صفة، كان تقدير الكلام: صفة الجنة فيها أنهار، وهو غير مستقيم، لأن الأنهار في الجنة نفسها لا في صفتها، ولأنه إذا حمل "المثل" على معنى الصفة، وأجرى في الإخبار عنه مجراه، وأنث الراجع إليه في (فِيهَا) و (تَحْتِهَا)، فقد حمل الاسم في قولهم على المعنى، وهو قبيح، نحو: ثلاث شخوص، وسبع أبطن. وأما الذي استخرجه أبو إسحاق فغير مستقيم أيضاً، لأن "المثل" أما إن يكون صفة أو شبهاً؛ أما أولاً فلا يستقيم أن يقال: صفة الجنة جنة، لأن الجنة ليست بصفة، وأما ثانياً فلأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث، والجنة غير حدث. فالصحيح ما قاله سيبويه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: ما تعلق قوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) بما قبله؟ قيل: تعلق التفسير، كما أن قوله: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) تفسير لقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران: 59]. والجواب: أما إنكار التأويل لمنع الحمل، وتمثيله بقوله: "كان تقدير الكلام: صفة الجنة فيها أنهار" فضعيف، ألا ترى إلى أنه كيف مثلها بقوله: "صفة فلان أسمر"، لأن معناه حينئذ: صفة الجنة جريان الأنهار من تحتها، ولا شك أن إرادة الصفة من المثل مجاز إنما يجوز إذا كانت الصفة مشتملة على قصة عجيبة الشأن، أو أمر عجيب، فجريان الأنهار من تحت الجنان مع دوام الأكل والظل من غير انقطاع من الأمور العجيبة. وأما تأنيث الضمير: فلكونه راجعاً إلى "الجنة" لا إلى "المثل"، وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف إليه، وذكره توطئة، وليس نحو: غلام زيد. وأما قوله: "إن "الشبه" عبارة عن المماثلة، وهو حدث، والجنة غير حدث" فضعيف، لأن التشبيه حينئذ تمثيلي، والوجه منتزع من عدة أمور متوهمة، فينتزع من أحوال الجنان المشاهدة- من جريان أنهارها، وغضارة أغصانها، وتكاثف أفنانها، وغير ذلك من الحسن والنضارة- ما يجعل مشبهاً به، وهو المرادم ن قول الزجاج: "إن الله عز وجل عرفنا أمر الجنة التي لم نرها ولم نشاهدها بما شاهدناه في أمور الدنيا وعايناه"، ولذلك صرح

[(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)]. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد: من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، هؤلاء (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعني: ومن أحزابهم، وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفى نجران وأشياعهما (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع. فإن قلت: كيف اتصل قوله: (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) بما قبله؟ قلت: هو جواب للمنكرين معناه: قل إنما أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله ولا أشرك به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصنف بلفظ التمثيل، ويكون قوله: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) بياناً لفضل تلك الجنان وتمييزها من هذه المشاهدة. قوله: (أسقفي نجران)، النهاية: "الأسقف: عالم رئيس من علماء النصارى ورؤسائهم، وهو اسم سرياني، ويحتمل أن يكون سمي به لخضوعه وانحنائه في عبادته، والسقف- في اللغة: طول في انحناء". نجران: موضع معروف بين الشام والحجاز واليمن. قوله: (هو جواب للمنكرين)، وذلك أن الله تعالى لما حكى عن بعض اليهود أنه ينكر بعض ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إثبات الإسلام ودعوى النبوة، قال صلوات الله عليه: يا رب،

فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران: 64]. وقرأ نافع في رواية أبي خليد: "ولا أشرك" بالرفع على الاستئناف كأنه قال: وأنا أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: أُمرت أن أعبد الله غير مشركٍ به. (إِلَيْهِ أَدْعُوا) خصوصاً لا أدعو إلى غيره، (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره مرجعي، وأنتم تقولون مثل ذلك، فلا معنى لإنكاركم. [(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)]. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء (حُكْماً عَرَبِيًّا) حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بماذا أجيبهم إذن؟ فقيل له: قل: إن إيتائي الإسلام والنبوة يوجب عبادة الله تعالى، وإثبات التوحيد، ونفي الشرك، وأن المرجع إليه في العاقبة، فإنكاركم هذا إنكار لما نحن وأنتم عليه، كما قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران: 64] الآية. قوله: (وقرأ نافع)، وهي شاذة. قوله: (ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله)، "ذلك" إشارة إلى مصدر "أنزلنا"، وهو المشبه به، والمشبه ما سبق من قوله: (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ)، ووجه التشبيه كون ذلك المنزل المأمور فيه مبيناً مكشوفاً على وجه محكم رصين، فقوله: "والدعوة إليه وإلى دينه" تفسير لقوله: (إِلَيْهِ أَدْعُو)، وقوله: "والإنذار

وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها، فقيل له: لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك فلا يقيك منه واقٍ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدار الجزاء" إشارة إلى قوله: (وَإِلَيْهِ مَآبِ)، يعني: أجبهم بقولك: (أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) الآية، واعلم أنا أنزلنا القرآن مثل ذلك الإنزال العجيب الشأن؛ تشجيعاً له وشرحاً لصدره صلوات الله عليه وتسلية عما قاسى من إنكارهم. قوله: (وانتصابه على الحال)، أي: انتصاب (حُكْماً) على أنها حال موطئة، كقوله تعالى: (قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2]. قوله: (ما هو إلا أهواء)، وشبه الحصر مستفاد من وضع أهوائهم موضع ما زعموا أنه الدين، ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من أن يصلي إلى قبلتهم، أي: ليس ذلك إلا عن شبه، وكذلك قابله بقوله: (بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ)، وأخرج الجملة مخرج القسمية، لأن اللام في (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ) موطئة للقسم. قوله: (وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: هذا من باب البعث للسامعين على الثبات والتصلب

كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام"، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ. فقيل: كان الرسل قبله بشراً مثله ذوى أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أى: يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه، (ويثبت) بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، وقيل: (يمحوا) من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتبة كل قولٍ وفعل (وَيُثْبِتُ) غيره. وقيل: يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسى وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الدين، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم أن يؤمر بما هو فيه من شدة الشكيمة والثبات على التصلب في الدين، بحيث لا يمكن أن يتصور فوقه، ومن ثم قال: "بمكان"، أي: بمكان لا مكان فوقه. تلخيصه: أنه صلوات الله عليه مخاطب به، ولكن المراد منه تعريض. قوله: (لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل، (وَيُثْبِتُ) غيره)، قال الكلبي والضحاك: إن الذي يمحوه ويثبته ما يصعد به الحفظة مكتوباً على بني آدم، فيأمر الله فيه أن يثبت ما فيه ثواب وعقاب، ويمحو ما لا ثواب فيه ولا عقاب، كقولك: أكلت وشربت ودخلت، ونحوها من الكلام. قوله: (والكلام في نحو هذا واسع المجال)، لأن علم الله لا نفاذ له، ومعلومات الله لا

وقرئ: ويثبت. [(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)]. (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم. أو توفيناك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم. [(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ)]. (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاتِي الْأَرْضَ) أرض الكفر (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما نفتح على المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه: (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَاتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء: 44]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نهاية لها، وكل يوم هو في شأن، ومن ثم كاد أقوال المفسرين فيه تفوت الحصر، قال الإمام: "يزيل ما يشاء، ويثبت ما يشاء من حكمه، ولا يطلع على غيبه أحداً، فهو المنفرد بالحكم، والمستقل بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والإغناء والإفقار، وغير ذلك". قوله: (وقرئ: "ويثبت")، ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد. قوله: (وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم)، أي: لابد من أن نفعل، وذلك من تأكيد

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) [فصلت: 53]، والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تبهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونُتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. وقرئ: "ننقصها" بالتشديد. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه. والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإراءة والتوفية بما قبلها، والنون بعدها، كما ذكرناه عن الزجاج وصاحب "المرشد" في أول البقرة، فقوله: "أريناك" و"توفيناك" بيان أحوال الدائرة، وسيجيء الكلام فيه في سورة "حم المؤمن". قوله: (ونفس عنها)، أي: أزال الغم عنها. قوله: (بما ذكر من طلوع تباشير الظفر)، وهو قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، كقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ). "تباشير الصبح": أوائله. قوله: (والمعقب: الذي يكر على الشيء فيبطله)، الراغب: "التعقيب: أن يأتي بشيء بعد آخر، قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الرعد: 11]، أي: ملائكة يتعاقبون عليه حافظين له، وقوله تعالى: (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي: لا أحد يتعقبه ويبحث عن فعله، من قولهم: عقب الحاكم على حكم من قبله؛ إذا تتبعه، قال الشاعر: وما بعد حكم الله تعقيب

وحقيقته: الذي يعقبه أي: يقفيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب، قال لبيد: طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقّهُ الْمَظْلُومُ والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت: ما محل قوله: (لا معقب لحكمه)؟ قلت: هو جملةٌ محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، تريد حاسراً. [(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)]. (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وصفهم بالمكر، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون ذلك نهياً عن الخوض في حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم، كالنهي عن الخوض في سر القدر، والاعتقاب: أن يتعاقب شيء بعد أخرى، كاعتقاب الليل والنهار، ومنه العقبة، وهي أن يتعاقب الإنسان على ركوب ظهر". قوله: (طلب المعقب حقه المظلوم)، أوله: حتى تهجر في الرواح وهاجها

ثم فسر ذلك بقوله: (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) لأنّ من علم ما تكسب كل نفس، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ: (الكفار) و"الكافرون" و"الذين كفروا" و"الكفر"؛ أي: أهله. والمراد بالكافر الجنس: وقرأ جناح بن حبيش: "وسيعلم الكافر"؛ من أعلمه أي: سيخبر. [(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)] ز (كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) لما أظهر من الأدلة على رسالتي (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصف أتاناً وحماراً، "تهجر": أي: خرج في الهاجرة، والضمير في "وهاجها" للأتان، يقول: تردد الحمار خلف الأتان يطلبها كطلب المعقب المظلوم حقه، وحمل "المظلوم" على محل "المعقب" لأنه فاعل أضيف إليه المصدر، والتقدير: كما طلب الدائن المظلوم حقه. قوله: (وقرئ: (الكُفَّارُ))، ابن عامر والكوفيون. قوله: (والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز)، قال صاحب "الفرائد": الذي عنده علم القرآن شهيد على أنه صلوات الله عليه وسلم مرسل من الله تعالى، لأنه معجزة بما ذكر، ولكن لم يكن شهيداً بينه وبينهم، لأن من لم يعلم إعجاز القرآن لما أنه لم يكن عنده علم القرآن لم يسمع شهادة من عنده علمه، فلم يكن شهيداً بينه وبينهم،

الفائت لقوى البشر. وقيل: ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم: وقيل هو الله عز وعلا والكتاب: اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. لأن النظم المعجز والفصاحة إدراكهما بالذوق بعد أن يعلم ما كان محصلاً له. وقلت: على الشاهد أن يشهد بين الخصمين، فمن أنصف من نفسه وأذعن للحق سمع الشهادة، ومن لم يترك العناد وإن سمع وعرف وذاق لم ينفعه معرفة نفسه، فكيف بشهادة الغير، ألا ترى إلى أبي جهل وعتبة بن ربيعة كيف عرفا المعجز وذاقا البلاغة وشهدا له بالفصاحة، ولم يذعنا للحق، كما ذكره المصنف في سورة "حم السجدة"، فالشاهد أرباب البلاغة من المؤمنين، كما قال صاحب "الانتصاف". قوله: (و"الكتاب": اللوح المحفوظ)، الانتصاف: "الكتاب- على الأول-: القرآن، و"الذي عنده علم الكتاب": المؤمنون، وعلى الثاني: جنس الكتب المتقدمة". قوله: (لا والله، ما يعني إلا الله)، هذا رد لزعم من ذهب أن قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) غير الله، وإثبات بالقسمية لما أراده، يعني: ليس كما زعموا، والله ما يعني الله بقوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) إلا الله. ولعل اختياره هذا لأن حمله على العارف بعلم القرآن- كما سبق: فيه تعسف، وعلى مؤمني أهل الكتاب: بعيد؛ لما روى محيي السنة عن قتادة: أنه عبد الله بن سلام. وأنكره الشعبي وقال: السورة مكية، وعبد الله أسلم بالمدينة. وكذا عن سعيد بن جبير. ولأن القراءتين

والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب، على من الجارّة، أى. ومن لدنه علم الكتاب، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرئ: "ومن عنده علم الكتاب" على "من" الجارّة، و"علم" على البناء للمفعول. وقرئ: "وبمن عنده علم الكتاب". فإن قلت: بم ارتفع (علم الكتاب)؟ قلت: في القراءة التي وقع فيها (عنده) صلة يرتفع "العلم" بالمقدّر في الظرف، فيكون فاعلاً، لأنّ الظرف إذا وقع صلةً أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فـ"أخوه" فاعل، كما تقول: بالذي استقرّ في الدار أخوه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مساعدتان لهذا الوجه، قال أبو البقاء: "ومن قرأ: "علم الكتاب" على ما لم يسم فاعله جعل معموله (من عنده) ". قوله: (والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة)، يعني: إذا عني بـ "من عنده علم الكتاب": الله عز وجل، يلزم عطف الشيء على نفسه، فأول اسم الذات بما يعطيه من معنى استحقاق العبادة، لكونه جامعاً لمعاني الأسماء، كما قال الأزهري: لا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً، فأتى بالموصولة ليتوافق المعطوف والمعطوف عليه، فيكون على وزان قول الشاعر: يا لهف زيابة للحارث الصـ ... صابح فالعائم فالآيب

وفي القراءة التي لم يقع فيها (عنده) صلة يرتفع "العلم" بالابتداء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "قدر في المعطوف عليه اسم "الله" بالذي يستحق العبادة؛ حذراً من عطف الصفة على الموصوف، وعدولاً إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى". قوله: (يرتفع "العلم" بالابتداء)، قال أبو البقاء: " (من عنده) خبر، والمبتدأ: (عِلْمُ الكِتَابِ) ". تمت السورة بحمد الله وعونه

سورة إبراهيم عليه السلام

سورة إبراهيم عليه السلام مكية وهي إحدى وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)]. (كِتابٌ) هو كتاب، يعني: السورة. وقرئ: "ليخرج الناس" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة إبراهيم عليه السلام مكية، وهي إحدى وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (هو كتاب)، هذا على تقدير أن يكون (الر) تعديداً للحروف؛ قرعاً للعصا وتقدمة لدلائل الإعجاز، لا على أنها اسم للسورة. فإن قلت: لم آثر هذا الوجه على أن المقام يقتضي أن يكن اسماً للسورة، لأن

و (الظلمات) و (النور): استعارتان للضلال والهدى (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخطاب بقوله: (أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) الآية، مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع القوم؟ قلت: معناه: أن المركب من هذه هو كتاب بلغ في البلاغة والإعجاز إلى مكان يخرج بسببه الناس من الظلمات إلى النور. قوله: (مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب)، قال المصنف: "استعارة "الإذن" للتسهيل والتيسير لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فملا كان الإذن تسهيلاً لما تعذر من ذلك، وضع موضعه، والمراد: عنده منح اللطف وتيسير الإيمان"، قال محيي السنة: "بأمر ربهم، وقيل: بعلم ربهم". وقوله: "مستعار من الإذن" بعد قوله: "والظلمات والنور: مستعاران": فيه وجهان: أحدهما: استقلال كل من الاستعارات. وثانيهما: أن يعتبر التركيب إما عقلياً أو وهمياً، فيتصور الهدى كأنه نور، والضلال كأنه ظلمة، ويتصور المكلف لانغماسه في ظلمات الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الإيمان إلا بأن يتفضل الله تعالى عليه بكرمه، ويبعث رسولاً، وينزل كتاباً، ثم يسهل ذلك عليه، كمن وقع في تيه مظلمة ليس منها الخلاص، ولات حين مناص، وإن ملكاً بعث توقيعاً إلى بعض خواصه في استخلاصه، وضمن تسهيل ذلك على نفسه. ثم استعمل هناك ما كان مستعملاً ها هنا، فقيل: "كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذننا"، ووضع موضع الضمير قوله: (رَبِّهِمْ)، للإشعار بالتربية واللطف والفضل، وبأن الهداية لطف محض، وفيه: أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون الله، كما قال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56].

(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله: (إلى النور) بتكرير العامل، كقوله: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف: 75]، ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي: نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله: (اللَّهِ) عطف بيانٍ لـ (لعزيز الحميد)؛ لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب "النجم" في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو الله. الويل: نقيض الوأل؛ وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك؛ إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) بـ"الويل"؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون: يا ويلاه! ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بدل من قوله: (إِلَى النُّورِ) بتكرير العامل)، قال القاضي: "إضافة "الصراط" إلى الله: إما لأنه مقصده أو المظهر له. وتخصيص الوصفين- أعني: (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) - للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سائله". قوله: (لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته، كما غلب "النجم" في "الثريا")، فيه بحث على ما سبق في أول الكتاب. قوله: (وقرئ بالرفع؛ على: هو الله)، نافع وابن عامر، والباقون: بالجر. قوله: (ما وجه اتصال [قوله]: (مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) بـ "الويل")، يعني: أن الظاهر يمنع

كقوله: (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان: 13]. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) مبتدأ خبره: (أولئك في ضلال بعيد)، ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين، ومنصوباً على الذمّ، أو مرفوعاً على: أعني الذين يستحبون أو: هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: "ويصدّون" بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صدّه عن كذا، وأصدّه. قال: أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ والهمزة فيه داخلة على: صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الاتصال: قال أبو البقاء: " (ويل) مبتدأ و (لِلْكَافِرِينَ) خبره، و (مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) صفة "الويل" بعد الخبر، وهو جائز، ولا يجوز أن يتعلق بـ "ويل" لأجل الفصل بينهما بالخبر". وأجاب: أنه يجوز، لأنه اتصل به معنى لا لفظاً، لأن المعنى أنهم يولولون ويضجون منه، وقوله: "ويقولون: يا ويلاه" تفسير لقوله: "يولولون". قوله: (أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم)، تمامه: صدود السوافي عن أنوف الخرائم

وليست بفصيحةٍ كـ"أوقفه"؛ لأنّ الفصحاء استغنوا بـ"صدّه" و"وقفه" عن تكلف التعدية بالهمزة. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أصد": جاء بمعنى: صد، وهي لغة كلب، و"السوافي": الرياح، و"الخرم"- بالخاء المعجمة والراء المهملة: أنف الجبل، يقول: هم أناس صدوا الأعداء عن أنفسهم كما تصد الريح عن أنوف الجبال. قوله: (وليست بفصيحة)، يمكن أن يراد: وليست قراءة الحسن بفصيحة، لأن المشهورة- وهي "يصدون" بفتح الياء- هي الفصيحة، ونحن مستغنون بها عن تكلف جعل "يصدون" منقولاً من: صد صدوداً، كما استغنينا عن "أوقفه" للتعدية، لأنه جاء "وقفه"، وهذا مبني على عادته بأن القراءة ليست بموقوفة على السماع، بل على الاجتهاد. قوله: (وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة)، قيل: هو عطف على "زيغاً"، أي: يطلبون لسبيل الله أن يدلوا الناس. والوجه أن يكون عطفاً على "يطلبون"، لأن ما يطلبونه معدوم محال، فلا يكون طلبهم إلا هذه الدلالة، ووصفهم بأنها سبيل ناكبة، وقدحهم فيه: عناد وتعنت.

فحذف الجار وأوصل الفعل (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي: ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت: هو من الإسناد المجازي، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذي بعدٍ، أو: فيه بعدٌ، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في ضلال ذي بعد، أو: فيه بعد)، قال صاحب "الفرائد": فعلى هذا "البعد" صفة للمكان، لا صفة للضلال. وقلت: هذا حق، وأما تحرير هذا المقام فأن يقال: إن أصل الكلام أنهم ضلوا عن طريق الحق ضلالاً أي ضلال، فاستعير له البعد، وقيل: بعدوا فيه، فالبعد من صفتهم، فوصف بالضلال الذي هو فعلهم وملتبس بهم، نحو: طريق سائر، وهو المراد من قوله: "فوصف به فعله"، أو أن الضلال كأنه مكان واسع ذو أطراف ومسافات، وهو من الكناية المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف، لأن القرب والبعد مما يضاف إلى المكان، فنبه به أن محل الضلال محل ذو بعد، والضلال معنى لابد له أن يقوم بذات يكون هذا المحل مكانه ومستقره، قال: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج وأما قوله: "أو: فيه بعد": فهو تمثيل، كأنه مثل طريق مستقيم، وصور أن العدول عن الجادة يمنة ويسرة ضلالة، وحينئذ تتفاوت الضلالات بحسب المعاصي والبدع والكفر، وإلى التمثيل الإشارة بقوله: "لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً".

[(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)]. (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي: ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال: (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت: 44]. فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف: 158]، بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفةٍ، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلو نزل بالعجمية)، جواب الشرط على التأويل، أي: ولئن منع أن يكون حجة لغير العرب فنحن نقول أيضاً: لو نزل، إلى آخره.

ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربيّ كل أمّةٍ بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من النزاع والاختلاف)، قال صاحب "الفرائد": وذلك أن الرسول إذا لم يكن له لسان مخالف للسان قومه تبين لهم كلهم ما أرسل به إليهم بلسانهم هم، ثم هم ينقلون ذلك إلى من سواهم من الأمم، وهلم جرا، فيحصل التواتر، وبه يحصل اليقين، وأما إذا كان لسانه مخالفاً للسان المبعوث إليهم، فيحتاجون إلى الترجمان والمبين، فيضعف النقل، فلم يحصل لهم اليقين، فيقع الاختلاف. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبض حتى صار النقل تواتراً. قوله: (وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها، كما كلم أمته) إلى قوله: (لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء)، قال في "الانتصاف": "وفي هذا نظر؛ إذ يتضمن أن إعجاز القرآن بلفظه خاصة، حتى لو قدر منزلاً بكل لغة لكان إلجاء إلى الإيمان، وهو بعيد، لأن الإيمان عند حصول العلم بالمعجزة ليس إلجائياً، ولا فرق بين حصوله بلغة واحدة ولغات كثيرة". وقلت: ولعل مراد المصنف من الإلجاء أن رجلاً واحداً عربياً إذا تكلم بالألسن التي لا تكاد تنحصر كثرة، ويكون كل منها مستقلاً بالإعجاز، كان ذلك مما يخرج عن حد المعجزة التي يصح أن يتحدى بها، فيكون كالأمور التي تلجئ إلى الإيمان، كالكشف عن قوارع الساعة، وحضور ملك الموت، وغير ذلك، ومن ثم قال: "قريباً من الإلجاء".

ومعنى (بِلِسانِ قَوْمِهِ): بلغة قومه. وقرئ: "بلسن قومه". واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام، والسين مضمومةٌ أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في (قومه) لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كقوله: (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن: 2]، لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التي هو منها)، الضمير المرفوع للرسول صلى الله عليه وسلم، والمجرور للأمة. وقوله: "يتلوه" حال من المرفوع في "كلم". قوله: (لأن قوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ضمير القوم، وهم العرب)، وللضحاك أن يقول: الضمير لكل قوم، كأنه قيل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليبين الرسول لقومه الذي أرسل إليهم؛ لدلالة السياق. قوله: ((فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ): كقوله تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، يريد: أن الفاء في (فَيُضِلُّ) تفصيلية، يعني: أن الله تعالى أرسل الرسول إلى القوم ليبين لهم طريق الهداية وطريق الضلالة، فعند ذلك حصل الاختلاف؛ فبعضهم اختاروا الهداية وبعضهم الضلالة، كقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ

[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)]. (أَنْ أَخْرِجْ) بمعنى أي: أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون "أن" الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر. وكذلك التقدير بأن أخرج قومك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) إلى قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة: 213]، لكن لما كان الإضلال والهداية مترادفين لمنع الألطاف ومنح التوفيق، والمنع والمنح لازمين للكفر والإيمان، كنى بها عنهما على التلويحية. وعندنا: الفاء ليست للتفصيل، لأن المعنى: ما كان إرسال الرسل إلا للبيان وإلزام الحجة وإزاحة العلة وتمييز الضال من المهتدي، لا ليوجدوا فيهم الهداية، ويزيلوا عنهم الضلالة، فإن ذلك من الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لأنه عزيز قوي لا يغالب، يفعل ما يشاء، حكيم لا يدرك أحد كنه حكمته، يحكم ما يشاء، هذا ظاهر لا تعقيد فيه ولا تعسف، وموافق لفاتحة السورة، والله أعلم. قوله: (أوعز إليه)، الجوهري: "أوعزت إليه في كذا وكذا؛ أي: تقدمت، وكذلك: وعزت إليه توعيزاً، وقد يخفف فيقال: وعزت إليه وعزاً". وفي الحاشية: "أوعز؛ أي: أمر". قوله: (فأدخلوا عليها حرف الجر)، ودخول حرف الجر مشعر بأن "أن" مصدرية، لأنه من خواص الاسم، ولو كانت مفسرة لزم خلاف ذلك، لأن حرف الجر لا يدخل على الحرف ولا على الفعل.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذي قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: نعماؤه وبلاؤه؛ فأما نعماؤه فإنه ظلل علل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، وفلق لهم البحر، وأما بلاؤه فإهلاك القرون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وملاحمها)، الجوهري: الملحمة: الوقعة العظيمة في الفتنة. "يوم ذي قار": يوم لبني شيبان، وكان أبرويز أغزاهم جيشاً، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب من العجم. و"الفجار": يوم من أيامهم، وهي أربعة أفجرة؛ كانت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان في الجاهلية، وكانت الدبرة على قيس، وإنما سميت هذه الحرب فجاراً؛ لأنها كانت في الأشهر الحرم. و"يوم قضة"- بكسر القاف وفتح الضاد المعجمة المخففة: موضع كانت به وقعة تحلاق اللمم. قوله: (وهو الظاهر)، أي: وحمل "الأيام" على معنى الوقائع هو الظاهر، لأن التذكير بالأيام أكثر ما يستعمل في التخويف والإنذار كما سبق. وأما دليل ابن عباس على قوله: "نعماؤه وبلاؤه": فهو قوله: (صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وكذا

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر. وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم. [(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)]. (إِذْ أَنْجاكُمْ) ظرفٌ للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بـ (عليكم)؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جمع "الأيام"؛ فإنها تقتضي اختلاف أنواعها، وقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، وقوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ)، لأنه كالتفصيل لهذا الإجمال. قوله: (وقيل: أراد لكل مؤمن)، عطف من حيث المعنى على قوله: "يصبر على بلاء الله"، فعلى الأول: "الصبار" و"الشكور" مراد بهما كل من قام به الصبر والشكر، وعلى الثاني: عبارتان عن معبر واحد، كما تقول في الكناية عن الإنسان: حي مستوي القامة عريض الأظفار. هو من قوله: "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر". قوله: (تنبيهاً عليهم)، مفعول له، أي: قال الله تعالى: (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وأراد: لكل مؤمن؛ لينبه السامع على مكان الشكر والصبر، وأنهما من سجية المؤمنين، وكشف عن حقيقتهم، كأنه قيل: المؤمن هو الذي يصبر ويشكر.

فإذا كان صلةً لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلةٍ بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاماً. ويجوز أن يكون (وإذ) بدلاً من (نعمة الله)، أي: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة (يُذَبِّحُونَ)، وفي الأعراف: (يُقَتِّلُونَ) وهاهنا (وَيُذَبِّحُونَ) مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35]، وقال زهير: فَأَبْلَاهُمَا خَيرَ البَلَاءِ الذِى يَبْلُوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم)، يريد: كيف نسب البلاء الصادر من آل فرعون إلى الله تعالى؟ وأجاب: أن ما صدر منهم لما كان من تمكين الله تعالى نسب إليه، وهذا تحريف؛ لأن لفظة التنزيل: (وَفِي ذَلِكُم) أي: وفي أفعالهم اختبار من الله، أي: أنه تعالى خلق فيهم تلك الأفعال؛ ليكون ابتلاء منه. قوله: (فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو)، أوله: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

[(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)]. (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله: (نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم. ومعنى (تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ): أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بدّ في "تفعل" من زيادة معنى ليس في "أفعل"، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك، وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) أو أجرى (تَأَذَّنَ) مجرى، "قال"، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: «وإذ قال ربكم لئن شكرتم»، أي: لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مضى شرحه في الأنفال. قوله: (ولابد في "تفعل" من زيادة معنى)، ومن ذلك قيل: تكلف فلان فيما فعل: أي: كدح فيه وتعمل. قوله: (أي: لئن شكرتم- يا بني إسرائيل- ما خولتكم من نعمة الإنجاء) إلى آخره، ولما كان اللفظان مطلقين- أعني: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) - غير مقيدين بأي شيء يشكرون، وما تلك النعمة التي وجب عليهم شكرها، وما تلك الزيادة التي يستزيدونها بالشكر، قيد كلاً بما يناسبه المقام، قال محيي السنة: "قيل: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود".

بالإيمان الخالص والعمل الصالح (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) وغمطتم ما أنعمت به عليكم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لمن كفر نعمتي. [(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)]. (وَقالَ مُوسى): إن كفرتم أنتم - يا بني إسرائيل- والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج، واللَّهَ غَنِيٌّ عن شكركم (حَمِيدٌ) مستوجبٌ للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالإيمان الخالص)، الباء متعلقة بقوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ). قوله: (وغمطتم)، أي: حقرتم، الجوهري: "غمط الناس: الاحتقار لهم والإزراء بهم". قوله: (فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لابد لكم منه، وأنتم إليه محاويج)، هذه المعاني إنما تستفاد من إيقاع قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) جزاء لقوله: (إِن تَكْفُرُوا)، فإنه على سبيل التقريع والتوبيخ، يعني: إني أنبهكم- أيها الجهلة- بسبب كفرانكم نعمة الله؛ على أنكم إنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لابد لمك منه، لأنه تعالى ما كلفكم إلا ليجزيكم على أعمالكم، فتنتفعوا بها يوم القيامة؛ يوم تحتاجون غليه، إذ لا يرجع نفعها ولا ضرها إليه، لأنه غني حميد، سواء حمدتموه أو كفرتم به، ولابد من الجزاء، وليس ذلك إلا في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو المراد من قوله: "وأنتم إليه محاويج"، أي: إلى الخير الذي يصل إليكم بسبب أعمالكم في ذلك اليوم.

[(أَلَمْ يَأتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)]. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ وقعت اعتراضاً، أو: عطف "الذين من بعدهم" على (قوم نوح)، و (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) اعتراض. والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعني أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو عطف "الذين من بعدهم" على (قَوْمِ نُوحٍ)، و (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) اعتراض)، هذا أحسن من الاعتراض الأول، لأن الاعتراض من التحاسين في الكلام، وحسن موقعه أن يكون مع التأكيد، كما قال: "والمعنى: [أنهم] من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله". وعلى الأول: والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله، ليس فيه رائحة من ذلك. قوله: (بين عدنان وإسماعيل)، قال صاحب "الجامع": "اختلف في نسب النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتفاقهم أنه من ولد إسماعيل عليه السلام، وأنه من ولد معد بن عدنان، وإنما الاختلاف في الأسماء التي قبل عدنان، ولا يكاد يصح لأحد الرواة رواية ولا ضبط الأسماء". وأما اتصال هذه الآية بما قبلها: فإنه لما أجمل الكلام في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل، كقوله (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران: 119]، أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو: وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) وهذا قول قوي. أو: وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وفصله مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام، عقبه مجملاً بقوله: (أَلَمْ يَاتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ) توبيخاً وتهديداً. قوله: (ألا ترى إلى قوله: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ))، يعني: الذي ينصر أن المراد من قوله: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أنهم أشاروا بأيديهم إلى ما نطقت به ألسنتهم؛ عطف قوله: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ)، أي: أشاروا إلى أفواههم، ثم تكلموا به، لتتصل الإشارة بالقول، ومنه قولهم: أقول قولي هذا. وهذا أقوى الوجوه؛ وذلك أنه تعالى عطف "قالوا" على (فَرَدُّوا)، والفاء للتعقيب، فكأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات ما أمهلوا، بل عقبوه بالتكذيب، وأكدوه غاية التأكيد، وما تفكروا في الآيات، وما قصروا في الرد. الانتصاف: "أقوى الوجوه هذا، لأن إقناطهم قولاً وفعلاً هو المناسب لحدهم، ومن ثم صدروا الجملة بـ "إن" المؤكدة، وواجهوا بالخطاب، وكرروا "إنا"، ولا يناسب

يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل: الأيدي، جمع يدٍ، وهي النعمة بمعنى: الأيادي، أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات (في أفواههم)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السياق الضحك والغيظ، ولا التصميت، إذ لم ينكروا عودهم إلى المجادلة". قوله: (أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم)، أي: يسكتونهم قسراً بوضع الأيدي على شفاهم، وفي الوجه السابق: لم يكن الوضع للقسر بل للإشارة. قال صاحب "الفرائد": الواجب أن يكون المراد منعهم من التحدث بما جاؤوا بقدر استطاعتهم، لأنه إن حمل على الحقيقة لزم أن يكون الكل وضعوا أيديهم على أفواههم، ومعلوم أنه غير واقع. وقلت: لا يلزم ذلك، لأنه حينئذ من باب "قتل بنو تميم فلاناً"، وإنما قتله واحد منهم. قوله: (وقيل: "الأيدي": جمع "يد"، وهي النعمة، بمعنى: الأيادي)، إنما قال: "بمعنى: الأيادي"؛ لأن "الأيادي" غلبت في النعم، و"الأيدي" في الجوارح، قال: سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت

لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان بالله. وقرئ: «تدعونا»، بإدغام النون (مُرِيبٍ) موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر. [(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَاتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)]. (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي: (يدعوكم) إلى الإيمان (ليغفر لكم)، أو يدعوكم لأجل المغفرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على طريق المثل)، أي: مثل ما جاء به الأنبياء من المصالح والنصائح والمواعظ، وأنهم ردوها أبلغ رد، وما قبلوها، بما يحاول رده إلى حيث جاء منه؛ من الكلام الخارج من الفم، فقيل: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، نحوه قوله تعالى: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة: 101]، قال المصنف: "نبذه وراء ظهورهم مثل لتركهم وأعراضهم عنه بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه"، فإذن لا يد ولا فم هناك. قوله: (لأن الكلام ليس في الشك)، يعني: من حق حرف الاستفهام أن يدخل على فعل الشك، لا على الظرف الذي هو متعلقه، وإنما أدخل عليه لأن التردد إنما وقع في المشكوك فيه، لأن الشك موجود لا كلام فيه. قوله: (أي: (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان (لِيَغْفِرَ لَكُم)، أو: يدعوكم لأجل المغفرة)، وعلى الثاني: الدعوة مطلقة أو المدعو إليه عام، قال القاضي: " (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان (لِيَغْفِرَ

كقوله: دعوته لينصرني، ودعوته ليأكل معي، وقال: دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِى مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: (من ذنوبكم)؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله: (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح: 3 - 4]، (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف: 31]، وقال في خطاب المؤمنين: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف: 10] إلى أن قال (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف: 12]، وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَكُم)، أو يدعوكم إلى المغفرة، كقولك: دعوته لينصرني؛ على إقامة المفعول له مقام المفعول به"، أراد: أن المدعو إليه في الأول: الإيمان، و (لِيَغْفِرَ لَكُم) تعليل قصداً، وفي الثاني: المدعو إليه المغفرة، والتعليل لازم لكن من غير قصد. قوله: (دعوت لما نابني مسوراً فلبا فلبي يدي مسور)، روي عن المصنف: أن ذكر "اليدين" على سبيل الإقحام، وأضاف "لبي" إلى المظهر، كما يضاف إلى المضمر، وفي حاشية "الصحاح": "قال أبو تمام: البيت لأعرابي من بني أسد، استشهد به على أن "لبيك" مثنى، والياء علامة التثنية، وليست مثل: عليك وإليك. وكتب ابن الحبيب الكاتب". فـ "لبا" الأولى بالألف، والثانية بالياء على إضافتها إلى "يدي" إضافة للمصدر إلى المفعول، وصححه الصغاني، والأول فعل وإن كانت الألف رابعة، ولعل ذلك للتمييز، والفاء الثانية سببية على حذف الفعل، وإقامة المصدر مقامه، دعا له أن يكون مجاباً كما كان مجيباً و"يدي" تأكيد.

ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد، وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الجوهري: "قولهم: هذا كما قدمت يداك، وهو تأكيد، كما يقال: هذا ما جنت يداك، أي: جنيته أنت". يقول: دعوت مسوراً لينصرني لما نابني من الشدائد، فأجابني، فأجاب الله دعاءه ونصره الله نصراً. قوله: (وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأنه مشترك بين الفريقين، أي: المؤمنين إذا تابوا، والكافرين إذا آمنوا. وقلت: الذي عليه الحديث الصحيح الذي رويناه في "صحيح مسلم" عن عمرو ابن العاص قال: "لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله"، يرد نظره وهذا القول أيضاً. قال التوربشتي: "اعلم أن الفضائل المرتبة بعضها على بعض مختلفة لا يجوز التسوية بينها في الحكم، وذلك أن الإسلام يهدم ما كان قبله على الإطلاق، مظلمة كانت أو غير مظلمة، كبيرة كانت أو صغيرة، فأما الهجرة والحج فإنهما لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما أيضاً بغفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيحمل الحديث على أن الهجرة والحج يكفران الصغائر والكبائر أيضاً فيما لا يتعلق بحقوق العباد، كما عرفنا ذلك من أصول الدين".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وروينا في "سنن ابن ماجة" عن عباس بن مرداس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأجيب: أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ للمظلوم منه. قال: أي رب، إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم. فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو تبسم-، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟ قال: إن عدو الله إبليس لما علم أن الله استجاب دعائي، وغفر لأمتي، أخذ التراب، فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه". قال صاحب "الفرائد": "من": زائدة للتأكيد، كما هو مذهب الأخفشن فيكون مبالغة واستغراقاً في غفران الذنوب الماضية من الكفر وغيره، وذلك أليق بأهل الكفر حين دعوا إلى الإيمان والعمل الصالح؛ لبعدهم عن ذلك وإنكارهم، فخصوا لذلك بذلك. ونقل عن الأصم: أن "من" للتبعيض، والمعنى: أنكم إذا تبتم يغفر الله لكم الذنوب التي هي الكبائر، فأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها، لأنها في نفسها مغفورة. وقلت: والذي يقتضيه المقام هذا، لأن الدعوة عامة، لقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والكفر والمعاصي، إن الله يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أجناس أنجاس الذنوب، فلا وجه للتخصيص، وقد ورد: (إِن

(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت. (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنسٍ أفضل منهم وهم الملائكة، (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً. [(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَاتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38]، و"ما" للعموم، سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، ولأن الكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه، لا في الصغائر. يؤيده ما روى المصنف: أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر، وعبدنا الأوثان، وقتلنا النفس التي حرم الله؟ ! فنزلت: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر: 53] الآية، وقصة وحشي مشهورة. على أن الزجاج نص في بعض المواضع من "تفسيره": أن "من" للبيان. قوله: (لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة)، الانتصاف: "تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك".

وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)]. (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون: أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم) إلى قوله: (فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم)، وهو كالقول بالموجب، لأن فيه إطماعاً بالموافقة، وكذا إلى إجابتهم بالإبطال بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، أي: إنما اختصنا الله بالرسالة بفضل منه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته، وفي قول المصنف: "إلا وهم أهل لاختصاصهم" شائبة من الميل إلى المذهب، وفي قول موسى عليه السلام: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء: 21] دلالة على أن الرسالة موهبة محضة من الله، لا مدخل لعمل العبد فيها.

واقتصروا على قولهم: (وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمرٌ منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) ومعناه: وأي: عذر لنا في أن لا نتوكل عليه (وَقَدْ هَدانا) وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين. فإن قلت: كيف كرّر الأمر بالتوكل؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأمروها به)، الضمير راجع إلى "الأنفس"، وهو عطف على "قصدوا". قوله: (الأول)، أي: الأول لاستحداث التوكل، والثاني: للثبات عليه، وذلك أن قوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) تذييل للجواب عن قول القوم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا)، كأنهم قالوا: من حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم هذه، فلما ذكروا رفع الموانع من التوكل، وأثبتوا السبب فيه، وهو الهداية، وتصريح الصبر على أذى القوم، كروا إلى اختصاص التوكل عليه، فاللام في (الْمُتَوَكِّلُونَ) للعهد التقديري، بدلالة قوله: (فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)، أي: الواجب علينا في اختصاصنا التوكل على الله أن نشمر له عن ساق الجد، وكلما تجدد الموجب نستجد توكلاً على التوكل.

[(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)]. (لَنُخْرِجَنَّكُمْ)، (أَوْ لَتَعُودُنَّ) ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها؟ قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليكونن أحد الأمرين لا محالة)، وقد استقصينا الكلام [فيه] في قوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح: 16] بسورة (إِنَّا فَتَحْنَا). قوله: (حالفين على ذلك)، هو حال، وعاملها مضمر، أي: قالوا: لابد من الإخراج أو العود حالفين، والدليل على القسم اللامان في "لنخرجن" و (لَتَعُودُنَّ). قوله: (ولكن "العود" بمعنى: الصيرورة)، قال صاحب "الفرائد": ولو كان "عاد" بمعنى: صار، لقيل: لتعودن إلى ملتنا، أي: لتصيرن إليها، فملا عدي بـ "في" ضمن معنى: دخل، كقوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) [الفجر: 29]، أي: لتدخلن في أهل ملتنا. وقلت: إنما يلزم ذلك أن لو كان (فِي مِلَّتِنَا) صلة (لَتَعُودُنَّ)، وليس كذلك، لأن "عاد" إذا كان بمعنى: صار، لم يكن "في" من صلة "العود"، بل يكون خبراً لـ "عاد"، لأن أخوات "كان" و"صار" من دواخل المبتدأ والخبر، ويمكن أن يقال: إنهم قالوا ذلك لظنهم الفاسد وجهلهم بأحواله، كقول فرعون: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [الشعراء: 19]، قال: "أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية".

لا تكاد تسمعهم يستعملون "صار"، ولكن "عاد"، ما عدت أراه عاد لا يكلمني، ما عاد لفلانٍ مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد. (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة: «ليهلكنّ»، و «ليسكننكم» بالياء اعتباراً لـ"أوحى"، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك: أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن. والمراد بـ"الأرض": أرض الظالمين وديارهم، ونحوه: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف: 127]، (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) [الأحزاب: 27]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من آذى جاره ورثه الله داره» ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خالٌ يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكراً لله (ذلِكَ) إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أي: ذلك الأمر حق (لِمَنْ خافَ مَقامِي) موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو على إقحام المقام)، وهو كقوله: .... ونفيت عنه ... مقام الذئب ...... وسبق بيانه في أنه كناية.

خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]. [(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ* يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)]. (وَاسْتَفْتَحُوا) واستنصروا الله على أعدائهم (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال: 19]، أو: استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم؛ من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 89]، وهو معطوف على (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ). وقرئ: «واستفتحوا»، بلفظ الأمر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أن ذلك حق للمتقين، كقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))، يريد: موقع قوله: (لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) - الذي هو كناية عن "المتقين" في هذه الآية- بعد قوله: (وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) موقع قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) في قصة موسى عليه السلام، حيث قال: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، ولهذا شبه قوله: (وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) [الأعراف: 137]، (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ) [الأحزاب: 27]، وهو في تلك القصة. قوله: (وقرئ: "واستفتحوا" بلفظ الأمر)، قال ابن جني: "قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن".

وعطفه على (لَنُهْلِكَنَّ) أي: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ، وقال لهم: استفتحوا. (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) معناه: فنصروا وظفروا وأفلحوا (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظناً منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) منهم ولم يفلح باستفتاحه. (مِنْ وَرائِهِ) من بين يديه. قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعطفه على (لَنُهْلِكَنَّ) داخلة في حكم الموحى- أي: الموحى إليه- لبيان الوعد بالإهلاك والأمر بطلب الفتح، ثم قوله: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) على التقديرين: إخبار عن مآل الحال، وهو معطوف على مقدر هو مرتب على الوعد بالاستفتاح، وإليه الإشارة بقوله: "فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد". فإن قلت: قوله: (وَاسْتَفْتَحُوا) طلب النصرة- سواء كان خبراً أو طلباً- موقعه قبل الوعد بالإهلاك، فما الحكمة في تأخيره؟ قلت: الواو للجمع المطلق، كأنه تعالى أخبر عن وجودهما، وعول الترتيب إلى ذهن السامع. قوله: (وقيل: واستفتح الكفار)، عطف على " (وَاسْتَفْتَحُوا) واستنصروا"، لا على "استفتحوا؛ بلفظ الأمر"، لأنه لا يدخل تحت الموحى، بل تحت الإخبار، فعلى هذا: (وَخَابَ) عطف على (وَاسْتَفْتَحُوا).

عَسَى الْكَرْبُ الَّذِى أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فإن قلت: علام عطف (وَيُسْقى)؟ قلت: على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عسى الكرب الذي) البيت، صح "أمسيت" على الخطاب، لأن القائل يبشر رجلاً محزوناً بالفرج القريب، وزوال الحزن، ووشك انكشافه، وحذف "أن" من الفعل بعد "عسى"، وهو قليل. قوله: (مرصد بجهنم)، بفتح الميم وبالباء، وفي نسخة: "مرصد لجهنم" بضم الميم وباللام. النهاية: "يقال: رصدته؛ إذا قعدت له على طريقه تترقبه، وأرصدت له العقوبة؛ إذا أعددتها له، وحقيقته: جعلتها على طريقه كالمترقبة له". قوله: (أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث)، عطف على قوله: "من بين يديه"، فسر "الوراء" بكلا معنييه لأنه من الأضداد، قال الجوهري: "وراء: بمعنى: خلف، وقد يكون بمعنى: قدام". قوله: (من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء)، قال صاحب "الفرائد": "ويمكن أن يقال: هو عطف على المقدر في قوله: (مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ)، أي: يحصل له من ورائه جهنم، ويسقى فيها من ماء صديد". وما قدره المصنف أبلغ، والمقام له أدعى،

فخصص بالذكر مع قوله (وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ). فإن قلت: ما وجه قوله تعالى (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)؟ قلت: (صديد) عطف بيان لـ (ماء)، قال: (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ) فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله (صَدِيدٍ)، وهو ما يسيل من جلود أهل النار. (يَتَجَرَّعُهُ) يتكلف جرعه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) دخل "كاد" للمبالغة. يعني: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور: 40]، أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ (وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل: (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعاطف إذا جيء بغير معطوف عليه دل على فخامة الأمر، ومن ثم قدر: "يلقى ما يلقى"، أي: لا يدخل تحت الوصف، والجملة استئنافية. قوله: (فخصص بالذكر مع قوله: (وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ))، وإنما جمعهما ليؤذن بالجمع بين الذوقين؛ ذوق مرارة الصديد، وذوق مرارة الغصص وما الموت دونه؛ تفظيعاً للأمر. فظهر من هذا أن قول المصنف: "تفظيعاً لما يصيبه من الآلام" على لمقدر، أي: إنما خصه بالذكر وجمعه مع قوله: (وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) تفظيعاً لما يصيبه. قوله: (قد تألبت)، الجوهري: "تألبوا: اجتمعوا، وهم ألب: إذا كانوا مجتمعين".

(وَمِنْ وَرائِهِ) ومن بين يديه (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا - أي: استمطروا، والفتح المطر - في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. و"اسْتَفْتَحُوا" على هذا التفسير: كلامٌ مستأنفٌ منقطعٌ عن حديث الرسل وأممهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنْ وَرَائِهِ) ومن بين يديه (عَذَابٌ غَلِيظٌ)، أي: في كل وقت يستقبله)، (مِنْ وَرَائِهِ) في الآية الأولى: ظرف مكان؛ يدل عليه قوله: "فكأنها بين يديه وهو على شفيرها"، وفي هذه: ظرف زمان؛ يدل عليه قوله: "في كل وقت"، وإنما فسره بالوقت لإردافه بقوله: (مِن كُلِّ مَكَانٍ) ليشمل الأمكنة والأزمنة. قوله: (ويحتمل أن يكون أهل مكة)، عطف على قوله: "واستفتح الكفار على الرسل". قوله: (كلام مستأنف منقطع)، فإن قلت: قد تقرر أن الاستئناف مناف لإدخال العاطف، فما هذه الواو إذن؟ قلت: قد ذكر أن الجملة منقطعة عن حديث الرسل وأممهم، ولم يذكر أنها منقطعة على الإطلاق، لأنها متصلة بقوله في مفتتح السورة: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً) [إبراهيم: 2 - 3]، والمراد منهم أهل مكة، ووسطت قصص الأنبياء بين الكلامين؛ ليذكرهم بأيام الله، فيعتبروا بعاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً، ولإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته ليهتدي بهديهم، ويقتفي آثارهم في الصبر على أذى القوم، والتشمر في الدعوة إلى الدين الحق. ألا ترى كيف طابق بين الإرشادين- أعني: قوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى

[(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)]. هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) و"المثل" مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) جملةٌ مستأنفةٌ على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ). ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدأ؛ ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النُّورِ) [إبراهيم: 1] في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 5] من خطاب موسى عليه السالم، ووافق بين التذكيرين، أعني: تذكير هذه الأمة بالأنبياء والأمم، وتذكير أمة موسى عليه السلام بقوله: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) [إبراهيم: 5]. وإنما أخر المصنف هذا الوجه، وفصل بينه وبين الوجوه السابقة، وأطال الكلام بينها، لأنه- بالنظر إلى الظاهر- بعيد التعلق، وعليه النظم المعجز كما ترى. وأما إيراده في هذا المقام فعلى سبيل الاستطراد، فإنه تعالى لما ذكر خيبة الجبارين الذين تجبروا على الرسل، فإنهم لما قالوا: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا) [إبراهيم: 13] خيبهم بقوله: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [إبراهيم: 13 - 14]، كما استفتح أهل مكة بالمطر، وخيبهم بالسقي من الماء الصديد. والمراد بـ "سني القحط": ما أكلوا فيها الجيف والعلهز، وهي الدخان في قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَليمٌ) [الدخان: 10 - 11]. قوله: (أو: هذه الجملة خبر للمبتدأ)، عطف على قوله: "ويجوز أن يكون المعنى"، يعني: قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) مبتدأ، والخبر: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) على تقدير

أي: صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون (أعمالهم) بدلاً من (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) على تقدير: مثل أعمالهم، و (كرماد): الخبر. وقرئ: (الرياح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف. (لا يَقْدِرُونَ) يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم (عَلى شَيْءٍ) أي: لا يرون له أثراً من ثوابٍ، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حذف مضاف؛ ليستقيم إيقاع (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) خبراً عنه، أو تكون هذه الجملة- أي: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) - خبراً على التأويل المذكور، ولا تقدر شيئاً، لأنه حينئذ من التركيب السببي. قوله: (أو يكون (أَعْمَالُهُمْ) بدلاً من (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا)؛ على تقدير: مثل أعمالهم، و (كَرَمَادٍ): الخبر)، قال أبو البقاء: "وهو بدل اشتمال". قوله: (وليلة ساكرة)، أي: ساكنة، عن الجوهري. قوله: (الملهوفين)، الجوهري: "لهف- بالكسر- يلهف لهفاً؛ أي: حزن وتحسر، والملهوف: المظلوم يستغيث".

(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب. (بِالْحَقِّ): بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة. [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)]. وقرئ: "خالق السموات والأرض" (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) أي: هو قادرٌ على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق)، أي: هذا الكلام إشارة إلى أن ضلالهم قد بعد عن الطريق القويم، والمراد أنهم قد بعدوا؛ على الإسناد المجازي أو الاستعارة المكنية كما سبق قبل هذا، وفيه من المبالغات ما بلغت غايتها، وذلك من إيقاع اسم الإشارة مبتدأ، وتعريف الخبر، ووصفه بالبعد، وتوسيط ضمير الفصل. قوله: ((بِالْحَقِّ) بالحكمة والغرض الصحيح)، الانتصاف: "هذا اعتزال خفي، سبقت أمثاله، ثم قال: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) لأنه قادر بالذات، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي وانتفى الصارف يكون من غير توقف، وصرح بما كان خفياً، وما أقبح قوله عن الله تعالى: خلص له الداعي وانتفى الصارف". قوله: (وقرئ: "خالق السماوات")، حمزة والكسائي.

يقدر على الشيء وجنس ضده. (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذرٍ، بل هو هين عليه يسير، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيءٍ وانتفى الصارف تكوّن من غير توقف، كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داعٍ ولم يعترض دونه صارف. وهذه الآيات بيانٌ لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء. [(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجنس ضده)، مبالغة في الاقتدار، يعني: أنه ليس بقادر على الضد فقط، بل هو قادر على الضد وأمثاله، كالتباين والتماثل والتقابل والنظير والند وغيرها. الجوهري: "يقال: لا ضد له ولا ند؛ أي: لا نظير له"، وقال المصنف: "معنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد: نفي ما يسد مسده، ونفي ما ينافيه"، وفيه إدماج لإبطال قول الثنوية.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ) ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه: (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 44]، (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف: 50]، ونظائر له. ومعنى بروزهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له-: أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت: لم كتب (الضعفؤا) بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره (علمؤا بني إسرائيل) [الشعراء: 197]. و(الضعفؤا): الأتباع والعوام، و (للذين استكبروا): ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم (تَبَعاً) تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعاً. فإن قلت: أي: فرقٍ بين "من" في (مِنْ عَذابِ اللَّهِ) وبينه في (مِنْ شَيْءٍ)؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أى: بعض بعض عذاب الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعض الشيء الذي هو عذاب الله)، فإن قلت: كيف طابق هذا التقدير قوله: "من: الأولى للتبيين، والثانية: للتبعيض"؟ قلت: من حيث إن (مِن شَيْءٍ) حينئذ مفعول (مُغْنُونَ)، والتنكير للتقليل، و (مِنْ عَذَابِ اللهِ) حال منه قدمت؛ لأن ذا الحال نكرة، والحال وصاحبها في الحقيقة صفة وموصوف. قوله: (بعض شيء هو بعض عذاب الله)، فعلى هذا: (مِن شَيْءٍ) بدل (مِنْ عَذَابِ اللهِ)،

فإن قلت: فما معنى قوله (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ)؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخاً لهم وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) من باب التبكيت، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم: بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله، كما حكى الله عنهم وقالوا: (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام: 148]، (لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل: 35] يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) [المجادلة: 18]. وإما أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل: معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أى: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أن لا يكون المبدل مطرحاً، والبدل لما كان كالبيان للمبدل قال: "هو بعض عذاب الله" فيرجع حاصل المعنى إلى قوله: "مغنون عنا بعضَ بعضِ عذاب الله". قوله: (الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخاً لهم)، أي: قولهم: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) توبيخ، لأنهم أخبروهم بما لم يخف عليهم، فأفاد الإخبار في ذلك المقام التقريع والتوبيخ، فهو من لازم فائدة الخبر على المجاز. قوله: (إما موركين الذنب)، الجوهري: "وورك فلان ذنبه على غيره؛ أي: قرفه [به] "، ولفظة "إما" تستدعي قرينتها؛ لأنها تفصيلية، وقرينتها ما يدل عليه قوله: "ويجوز أن يكون المعنى"، فالتقدير: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم، قالوه إما موركين الذنب، وإما معلقين فقدان هدايتهم على فقدان اللطف.

(سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة و"أم" للتسوية. ونحوه: (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور: 16]. وروي أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: (سواء علينا). فإن قلت: كيف اتصل قوله (سواء علينا) بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا)، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مستويان علينا الجزع والصبر)، الراغب: "الجزع أبلغ من الحزن، فإن الجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه، وأصله: قطع الحبل من نصفه، يقال: جزعته فانجزع، ولتصور الانقطاع قيل: جزع الوادي؛ لمنعطفه، ولانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز الملون: جزع". قوله: (كيف اتصل قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا) بما قبله؟ )، يعني: كان من الظاهر أن يقولوا: سواء عليكم أجزعتم أم صبرتم، لأنه جواب عن قولهم: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، وهو إظهار الجزع مما كانوا فيه؟ وأجاب: أنهم إنما شركوا أنفسهم معهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة. وقلت: وفيه أنا كيف نغني عنكم ذلك ونحن معكم فيه سواء، ولو قيل على ما يقتضيه الظاهر لم يفده، وهو من باب الإيجاز. قوله: (أطم)، النهاية: "طم الشيء: إذا عظم، وطم الماء: إذا كثر، وهو طام، ومنه

أو: لما قالوا (لو هدانا الله) طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي: منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً، كأنه قيل: قالوا جميعاً (سواء علينا)، كقوله: (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب) [يوسف: 52]. و"المحيص" يكون مصدراً كالمغيب والمشيب. ومكاناً كالمبيت والمصيف. ويقال: حاص عنه وجاض، بمعنى واحد. [(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حديث أبي بكر رضي الله عنه: "ما من طامة إلا وفوقها طامة"، أي: ما من عظيم إلا وفوقه ما هو أعظم منه". قوله: (كقوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ))، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ إذ الاحتمالان هناك على البدل، وها هنا على الجمع، إلا أن يريد بالتشبيه أنه من كلام الفريقين مع وروده ظاهراً عقيب قول المستكبرين، كما أن قوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف: 52] ورد عقيب قول المرأة، مع أنه قيل: إنه من كلام يوسف عليه السلام. وقلت: وجه التشبيه هو أن هذا الكلام يحتمل أن يكون مقولاً للمستكبرين وحدهم، وأن يكون مقولاً للضعفاء والمستكبرين جميعاً، كما أن ذلك الكلام يحتمل أن يكون مقولاً

{لما قضي الأمر} لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادُر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروي: أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا في الأشقياء من الجن والإنس فيقول ذلك: {إن الله وعدكم وعد الحق} وهو البعث والجزاء على الأعمال، فوفى لكم بما وعدكم، {ووعدتكم} خلاف ذلك، {فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان} من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها، {إلا أن دعوتكم} إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقلك: ما تحيتهم إلا الضرب. {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت: قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به؟ قلت: لو كان هذا القول منه ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليوسف عليه السلام، وأن يكون مقولاً لها، وهذا القدر كاف في صحة التشبيه. قوله: (ما تحيتهم إلا الضرب)، جعل "التحية" نوعين: متعارف؛ وهي ما يقال عند الملتقى، وغير متعارف؛ وهي الضرب على التهكمية والادعاء، فأخرج بالاستثناء أحد النوعين. قوله: (ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قضى عليكم الكفر)، وقلت: غاية هذا الاستدلال أن الشيطان أضاف اللوم إلى أنفسهم، ونحن نقول بموجبه، لأن العتاب والعقاب متوجهان إلى المكلف بسبب كسبه ومباشرته، لأنه في الظاهر كالمختار، ولأن قول الشيطان معطوف على قول الضعفاء، وكلتا القضيتين حكاية لقول الفريقين، ومخاصمة جرت بين الحزبين، وهما تفصيلان لما أجمل في قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً)، وذكر في الآية الأولى احتجاج المستكبرين على المستضعفين، وهو قولهم: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ

باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وهو مثل قول الله تعالى: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر: 42]، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ: الإغاثة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَهَدَيْنَاكُمْ)، فكما دل قول الشيطان على ظاهر مذهبكم، دل قول المستكبرين على خلافه. ولعمري إنه تفسير بالرأي، وذلك أنه حين سمع أن قول المستكبرين مخالف لمذهبه قال: "إما موركين الذنب وإما معتذرين بعدم اللطف"، وحين رأي الشيطان يقول بما يوافق مذهبه شنع على أهل السنة. ثم إني بعد برهة من الزمان وقفت على كلام من جانب صاحب "الانتصاف"، وهو قوله: "حمل كلام الكفار في الأول على الإبطال؛ إذ لا يوافق مذهبه، واستشهد على أن الذنب غير ممتنع بقوله: (فَيَحْلِفُونَ لَهُ)، ولما وافق قول الشيطان معتقده صوبه اتباعاً لهواه، ونحن نعتقد أن الملامة إنما تتوجه على المكلف، وتعالى الله عن توجه تلك إليه، ولله الحجة البالغة، لأن الله تعالى خلق للعبد اختياراً يجده من نفسه في الأفعال الإرادية ضرورة، وبذلك قامت الحجة عليه، وإن سلبنا تأثير قدرة الخلق، لأن الله تعالى قدرته سارية في الفعل، فلا تناقض لأن توجه اللوم إلى المكلفين"، فعلمت توارد الخواطر.

وقرئ: "بمصرخي" بكسر الياء، وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِىِّ ... قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِى وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو "عصاي"، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قال لها: هل لك يا تا في)، "تا": إشارة إلى المرأة، أي: هل لك رغبة في يا هذه. نقل الإمام عن الواحدي "أنها قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، قال الفراء: ولعل أنهم توهموا أن الباء في "بمصرخي" خافضة لجملة هذه الكلمة، كما توهموا في قوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ) [النساء: 115] بجزم الهاء، وظنوا أن الجزم في الهاء، وليس كذلك، لأن ياء المتكلم والهاء خارجتان من نفس الكلمة".

قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن الاستعمال المستفيض)، أي: فتح الياء، فالياء الأولى: ياء الجمع، والثانية: ضمير المتكلم، وفتحت لئلا تجتمع الكسرتان والياءان. قال الزجاج: "قرأ حمزة والأعمش: "بمصرخي" بكسر الياء، وهي عند جميع النحويين مرذولة، وأجازها الفراء، لأن أصل التقاء الساكنين الكسر، وأنشد: قال لها: هل لك يا تا في". قال الزجاج: "هذا الشعر مما لا يلتفت إليه، وقائله ممن لا يعرف، فلا يحتج به في كتاب الله".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونقل أبو علي في "الحجة" عن الفراء: "زعم القاسم بن معن أنه صواب، وكان ثقة بصيراً، وزعم قطرب أنه لغة بني يربوع؛ يزيدون على ياء الإضافة ياء"، وأنشد البيت، ووجهه في القياس: "أن الياء لا تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في "أكرمتك"، فكما أن الهاء قد لحقها الزيادة في "هذا لهو"، والكاف في "أعطيتكاه" و"أعطيتكيه"، فيما حكاه سيبويه، وهما أختا الياء، فكذلك ألحقوا الياء [الزيادة من المد، فقالوا: فيي، ثم حذفت الياء] الزائدة، كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: له أرقان

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - والأرقان: لغة في اليرقان-، وزعم أبو الحسن: أنها لغة، وحذفت الزيادة من الكاف في قول من قال: "أعطيتكه" و"أعطيتكه"، وكذلك حذفوا الياء اللاحقة للياء، وأقرت الكسرة التي كانت على الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرة، وكما لحقت الكاف والهاء والتاء الزيادة، فكذلك لحق الياء الزيادة بإلحاق الياء، نحو ما أنشد من قول الشاعر: رميتيه فأصميت ... وما أخطأت الرميه

«ما» في (بِما) مصدرية، و (مِن قَبلُ) متعلقة بـ (أَشْرَكْتُمُونِ)، يعني: كفرت اليوم بإشراككم إياي: من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا، كقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر: 14]، ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة: 4]، وقيل: (مِنْ قَبْلُ) يتعلق بـ (كفرت)، و"ما" موصولة، أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أَشركتمونيه وهو الله عز وجل. تقول: شركت زيداً، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أَشركنيه فلان، أي: جعلني له شريكاً. ونحو «ما» هذه: «ما» في قولهم: سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغة، وإن كان غيرها أفشى منها، وعضده القياس كما ذكرنا، لم يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن؛ لاستفاضة ذلك في السماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحناً"، تم كلامه. قوله: (ونحو "ما" هذه "ما" في قولهم: سبحان ما سخركن لنا)، يريد: أن "ما" على أن تكون موصولة يراد بها الله عز وجل، و"ما" لا تستعمل في ذوي العلم إلا باعتبار الوصفية

وهذا آخر قوله إبليس. وقوله (إِنَّ الظَّالِمِينَ) قول الله عزّ وجلّ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. وقرئ: "فلا يلوموني" بالياء؛ على طريقة الالتفات، كقوله تعالى: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22]. [(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)]. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: "وأُدخل الذين آمنوا" على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قوله إبليس (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بـ"أدخل" أي: أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه وتعظيم شأنه، كقولهم: سبحان ما سخركن لنا، أي: سبحان العظيم الشأن الذي سخر أمثالكن لنا. قوله: (ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس)، فإذا كان من قول الله تعالى كان استئنافاً فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أشد عذاب الظالمين، كما قال المصنف في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) [يونس: 45]: "فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم". وإذا كان من قول الشيطان كان نداء منه على الإقناط والإياس.

فإن قلت: فبم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك: وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بما بعده، أي: (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) بإذن ربهم، يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فبم يتعلق في القراءة الأخرى)، أي: قراءة المتكلم؛ لأنه غير ملتئم ظاهراً، قال ابن جني: "قوله: "وأدخل الذين آمنوا" على فعل المتكلم؛ قطع للكلام واستئناف، فقال الله تعالى: "وأدخل الذين آمنوا"، أي: أنا أدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار بإذن ربهم، أي: بإذني، إلا أنه أعاد ذكر "الرب" ليضيفه إليهم، فتقوى الملابسة باللفظ، فيكون أحنى عليهم وأذهب في الإكرام والتقريب منه، ومثله قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50]، وقال: (إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ) [الأعراف: 96]، هذا كله تقرب منه وانتساب". وقال في "الانتصاف": "لم لا يجعله الزمخشري من الالتفات، لأنه انتقل من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى: (طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه: 1 - 2]، ثم قال: (تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ) [طه: 4]؟ ". قال صاحب "الانتصاف": "لأن ظاهر "أدخل" أنه لم يكن بواسطة، بل من الله مباشرة، وظاهر الإذن يشعر بإضافة الدخول إلى الواسطة، وبينهما تنافر، والأحسن أن يتعلق بـ (خَالِدِينَ)، لأن الخلود غير الدخول، فلا تنافر". وقلت: القول ما قاله ابن جني، لأنه من باب التجريد، يعني: أنا أدخل بتيسير

[(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)]. قرئ: "أَلَمْ تَرَ" ساكنة الراء، كما قرئ: "من يتق"، وفيه ضعف. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) اعتمد مثلاً ووضعه، و (كَلِمَةً طَيِّبَةً) نصب بمضمر، أي: جعل كلمة طيبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهو تفسيرٌ لقوله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) كقولك: شرّف الأمير زيداً؛ كساه حُلة، وحمله على فرس. ويجوز أن ينتصب (مَثَلًا) و (كَلِمَةً) بـ (ضرب)، أي: ضرب كلمة طيبةً مثلاً، بمعنى: جعلها مثلاً ثم قال: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة (أَصْلُها ثابِتٌ) يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها (وَفَرْعُها) وأعلاها ورأسها (فِي السَّماءِ) ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من رحمهم ولطف بهم وأكرمهم بأن هداهم إلى الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ) [فصلت: 19] على قراءة النون، وقال صلوات الله عليه: (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) ثم قال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) [الأعراف: 158]. قوله: (اعتمد مثلاً)، أي: جعله ما يعتمد عليه، الجوهري: "العمدة: ما يعتمد عليه، واعتمدت على الشيء: اتكأت علي". قوله: (ويجوز أن يريد: وفروعها)، عطف على " (وَفَرْعُهَا) "، والفرع: إما أن يحمل

وقرأ أنس بن مالك: "كشجرة طيبة ثابت أصلها". فإن قلت: أي: فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أعلى الشجرة أو على أغصانها؛ بأن يكتفى باسم الجنس عن الجمع. الجوهري: "فرع كل شيء: أعلاه، وتفرعت أغصان الشجرة: كبرت". قوله: (قراءة الجماعة أقوى معنى)، قال ابن جني: "لأنك إذا قلت: "ثابت أصلها" فقد أجريت الصفة على "شجرة"، وليس الثبات لها، إنما هو للأصل، ولعمري إن الصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف جرت عليه، وإذا كانت له كانت أخص لفظاً به، وإذا كانت الثبات في الحقيقة إنما هو للأصل، فالمعتمد بالثبات هو الأصل، فالأحسن تقديم الأصل عناية به، ومن ثم قالوا: "زيداً ضربته"، فقدموا المفعول، لأن الغرض ها هنا ليس ذكر الفاعل، وإنما هو ذكر المفعول، فقدم عناية بذكره، ثم لم يقنع بذلك حتى أزالوه عن لفظ الفضلة، وجعلوه رب الجملة لفظاً، فرفعوه بالابتداء، وصار قوله: "ضربته" ذيلاً له وفضلة ملتحقة به، فكذلك قولك: "مررت برجل أبوه قائم" أقوى معنى من قولك: "قائم أبوه"؛ لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو "الأب" لا "رجل". ومن هنا ذهب أبو الحسن في نحو قولنا: "قام زيد" إلى أن "قام" في موضع رفع، لأنه وقع موقع الاسم، لأن تقدير المحدث عنه أسبق رتبة من الحديث. إلا أن لقراءة أنس وجهاً حسناً، وهو أن قوله: "ثابت أصلها" صفة لـ "شجرة"، وأصل الصفة أن تكون اسماً مفرداً، لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد، فإذا قال: "ثابت أصلها" فقد جرت الصفة على أصلها، وإذا قال: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ)

والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل: كل كلمةٍ حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك. وعن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ » فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبياً، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروي: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إلىّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شجرة في الجنة. وقوله (فِي السَّماءِ) معناه: في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها (بِإِذْنِ رَبِّها) بتيسير خالقها وتكوينه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقد وضعت موضع المفرد، فالموضع إذن له لا لها، فقوله: "ثابت أصلها" لا يبلغ صورة الجملة، لأن "ثابتاً" جار في اللفظ على ما قبله، وإنما فيه أنه وضع "أصلها" موضع الضمير الخاص لتضمنه إياه، وليس كذلك (أَصْلُهَا ثَابِتٌ)، لأنه جملة قطعاً. قوله: (وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم) الحديث، وفي أكثر النسخ: "عن ابن عباس"، والرواية الصحيحة عن البخاري ومسلم والترمذي والدارمي عن ابن عمر قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبروني بشجرة شبه- أو كالرجل- المسلم

[(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)]. (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) كمثل شجرة خبيثة، أي: صفتها كصفتها. وقرئ: ومثل كلمة بالنصب، عطفاً على كلمة (طيبة). والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة: فكل شجرةٍ لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك. وقوله (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ): في مقابلة قوله (أَصْلُها ثابِتٌ) [إبراهيم: 24]، ومعنى (اجْتُثَّتْ): استؤصلت، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي: استقرار. يقال: قرّ الشيء قراراً، كقولك: ثبت ثباتاً، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يتحات ورقها، ولا ولا ولا، تؤتي أكلها كل حين؟ قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أني أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخل. فقال: ما منعك أن تتكلم؟ فقلت: ما رأيتكم تكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً. فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا". قوله: (والكشوث)، بالثاء المثلثة، الجوهري: "الكشوث: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض". قوله: (وحقيقة الاجتثاث: أخذ الجثة كلها)، الراغب: "جثة الشيء: شخصه الناتئ، والجث: ما ارتفع من الأرض، كالأكمه والجثيثة سميت [به] لما بانت جثته بعد طحنه".

والذي لا يبقى إما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم: الباطل لجلج. وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في "كلمة خبيثة"؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة. [(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ)]. (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الباطل لجلج)، الجوهري: "اللجلجة والتلجلج: التردد في الكلام، ويقال: الحق أبلج والباطل لجلج؛ أي: يتردد من غير أن ينفذ"، واستشهد به لأن ما يتردد في نفسه ولا ينفذ في شيء لا يكون ثابتاً. قوله: (إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة)، يعني: الكلمة الخبيثة، وهو مقتبس من قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) [الإسراء: 13]، قال: "المعنى: أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل، لا يفك عنه". قوله: (كما ثبت جرجيس)، وجدت في كتاب "المبتدأ" المنسوب إلى أبي عبد الله محمد بن عبد الله الكسائي أنه قال: إن جرجيس كان من الحواريين أصحاب عيسى عليه السلام، وعلمه الله الاسم الذي يحيا به الموتى، وكان بأرض الموصل جبار يعبد الصنم، فدعاه جرجيس

وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى عبادة الله، ونهاه عن عبادة الصنم، فأمر به، فشد يديه ورجليه، ودعا بأمشاط من الحديد، فسرح بها صدره وبدنه، ثم صب عليه ماء الملح، فصبره الله عليه، ثم دعا بمسامير من حديد، فسمر عينيه وأذنيه، فصبره الله عليه، ثم دعا بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى ابيض، ثم ألقي عليه وأطبق رأسه، فجعله الله له برداً وسلاماً، وزاده حسناً وجمالاً، ثم قطع إرباً إرباً، فأحياه الله، ودعاهم إلى الله وإحياء الموتى، فلم يؤمن الملك، فأمر الله أن يغير بهم، وقلب بالمدينة عاليها وسافلها. قوله: (لم يتلعثموا)، الجوهري: "تلعثم الرجل في الأمر: إذا تمكث فيه وتأنى". قوله: (وعن البراء بن عازب)، تمام الحديث على ما رواه أبو داود عن البراء: "وأن الكافر- فذكر موته- فتعاد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه! لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن قد كذب، فأفرشوه من النار"، الحديث. ونظم الآيات إنما ينطبق على الحديث لو أريد بـ (الْظَّالِمِينَ): الكفار، لأن قوله:

فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت). (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا) [الزخرف: 22 - 23]، وإضلالهم في الدنيا: أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء، وهم في الآخرة أضل وأزل (وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) أي: ما توجبه الحكمة، لأن مشيئة الله تابعة للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) واقع في مقابلة (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)؛ إذ القول الثابت هو الكلمة الطيبة، وهي كلمة التوحيد، كأن المعنى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت المؤيد بالعمل، كما قال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، ويزل الله أقدام المشركين بكلمتهم الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهي الإشراك بالله. قوله: (لأن مشيئة الله تابعة للحكمة)، مذهبه.

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ* وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)]. (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ) أي: شكر نعمة الله (كُفْراً) لأن شكرها الذي وجب عليهم؛ وضعوا مكانه كفراً، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً، ونحوه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82] أي: شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً)، فعلى الأول: التبديل: التغيير في الوصف، وإليه الإشارة بقوله: "فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر"، لأنهم إذا بدلوا شكر النعمة بكفرانها فقد غيروا صفة النعمة، وعلى الثاني: التغيير في الذات، كما قال: "بدلوا نفس النعمة كفراً". فعلى الأول: النعمة باقية، لكنها موصوفة بالكفران، وعلى الثاني: النعمة زائلة مبدلة بالكفران، فهم إذن كفرة فقراء. قال في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48]: "التبديل: التغيير، وقد يكون في الذات، كقولك: بدلت الدراهم دنانير، وفي الأوصاف: كقولك: بدلت الحلقة خاتماً؛ إذا أذبتها وسويتها خاتماً". قوله: (أو أصابهم)، عطف على "أسكنهم الله حرمه"، فيه لف ونشر، والأول مبني على أن التبديل التغيير في شكر النعمة بالكفران، والثاني على أن التبديل التغيير في النعمة

فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم. وعن عمر رضى الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين. وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) ممن تابعهم على الكفر (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك. وعطف (جَهَنَّمَ) على (دار البوار) عطف بيان. قرئ: (لِيُضِلُّوا) بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد، فما معنى اللام؟ قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمني، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالكفر، وكذلك حين أسروا وقتلوا. قوله: ((دَارَ الْبَوَارِ) دار الهلاك)، الراغب: "البوار: فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد- كما قيل: كسد حتى فسد- عبر بـ "البوار" عن الهلاك، يقال: بار يبور بواراً وبوراً، قال تعالى: (تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29]، وقال: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) ". قوله: (قرئ: (لِيُضِلُّوا))، ابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء التحتانية، والباقون: بضمها. قوله: (وإن لم يكن غرضاً على طريق التشبيه)، أي: الاستعارة، نحو قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8].

(تَمَتَّعُوا) إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاعٌ لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة. والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ). ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية، ونحوه: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [الزمر: 8]. [(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)]. المقول محذوف، لأن جواب قُلْ يدل عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد الخذلان)، عطف على قوله: "قد أمرهم آمر مطاع، وهو آمر الشهوة"، فعلى هذا: الآمر الله على الخذلان، فقوله: "لانغماسهم في التمتع" علة الأمر على الوجهين. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: هذا أمر تهديد، فهو كقول الطبيب بعدما أمر المريض بالاحتماء مرات، ولم يقبل منه: كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، والمراد التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول، وهو المراد من قول المصنف: "إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر". وقال القاضي: "وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به، وأن الأمرين كائنان لا محالة، ولذلك علله بقوله: (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)، وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور فيه". قوله: (المقول محذوف، لأن جواب (قُل) يدل عليه)، قال ابن الحاجب: " (يُقِيمُوا):

وتقديره: (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا): أقيموا الصلاة وأنفقوا (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جواب (قُل)، أي: قل لعبادي يقيموا، وحذف ما هو المقول استغناء بتفسير الجواب، أي: قل لهم ما يقتضي الإقامة. وما اعترض عليه من أن الإقامة ليست بلازمة للقول ليس بشيء، فإن الجواب لا يقتضي الملازمة العقلية، وإنما يقتضي الغلبة، وذلك حاصل، فإن أمر الشارع للمؤمنين بإقامة الصلاة يقتضي إقامة الصلاة منه غالباً". وقال أبو البقاء رحمه الله: "قال الأخفش: (يُقِيمُوا) جواب (قُل)، وفي الكلام حذف، أي: "قل لهم: "أقيموا الصلاة" يقيموا"، أي: إن تقل لهم: "أقيموا" يقيموا. ورد بأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم لا يوجب أن يقيموا، وهذا باطل، لأنه لم يرد بـ "العباد": الكفار، بل المؤمنين، وإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الصلاة" أقاموها، ويدل على ذلك قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا). وروي عن المبرد: أن التقدير: "قل لهم: "أقيموا" يقيموا"، فـ "يقيموا" المصرح جواب "أقيموا" المحذوف- وكذا حكي عن أبي علي: أنه جواب "أقيموا"-، وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أن جواب الشرط ينبغي أن يخالف الشرط، إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما، وأما نحو: "قم تقم" فخطأ، والتقدير: إن يقيموا يقيموا. وثانيهما: أن الأمر للمواجهة، و"يقيموا" على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً، لأنه لا يجوز أن يقال للمخاطبين: "يقيموا" بالياء". وكذا رد ابن الحاجب.

وجوزوا أن يكون: (يقيموا) (وينفقوا)، بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو (قُلْ) عوض منه، ولو قيل: "يقيموا الصلاة وينفقوا" ابتداء بحذف اللام، لم يجز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجوزوا أن يكون (يُقيِمُوا) (وَيُنفِقُوا) بمعنى: ليقيموا ولينفقوا)، قال الزجاج: "وجائز أن يجزم باللام المحذوفة، لأن الأمر دل على الغائب، تقول: قل لزيد: ليضرب عمراً، وإن شئت قلت: قل لزيد: يضرب عمراً، ولا يجوز: يضرب زيد عمراً، لأن لام الغائب ليس لها عوض إذا حذفتها"، وذكر أبو البقاء نحوه. وقال صاحب "الإنصاف": وفائدة التزام اللام في الغائب: التنبيه بها على أن الصيغة أمر، فلما علم الأمر لمخاطب افتقر ما سواه إلى اللام من غائب ومتكلم وغير الفاعل في مثل: ليقم زيد لأقم أنا، ليضرب عمرو، فتقدير "قل" يغني عنها، لأن ذلك يرشد إلى أن المأمور مبلغ غير مخاطب، فقام مقام اللام. هذا أجود الأوجه في إعراب الآية واختيار الزجاج، والزمخشري تبرأ من عهدته ترجيحاً للأول. وقلت: نبه على بيان تبرئة صاحب "المفتاح" حيث قال: "إضمار الجازم نظير إضمار الجار"، يعني: أنه شاذ، نحو قول رؤبة: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ ثم قال: "فانظر! "، أي: انظر إلى شذوذه، ولا تحمل الآية عليه، بل على أن الجواب على تقدير "قل لعبادي: "أقيموا الصلاة وأنفقوا" فإنك إن قلت لهم: أقيموا وأنفقوا؛ يقيموا وينفقوا".

فإن قلت: علام انتصب (سِرًّا وَعَلانِيَةً)؟ قلت: على الحال، أي: ذوي سرّ وعلانية، بمعنى: مسرين ومعلنين. أو على الظرف؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يمكن أن يقال: إنه ليس نظير ذلك، لأن حذفاً فيه جائز، ألا ترى إلى حذف اللام عن الحاضر. وقال المصنف في قراءة من قرأ: (فَبِذَلِكَ فلتَفرَحُوا) - بالتاء: "هو الأصل والقياس"، وقد ذكرت عن ابن جني هناك: أن أصل الأمر أن يكون بحرف الأمر، وهو اللام، لكن لما كثر أمر الحاضر حذفوه تخفيفاً، ودل حاضر الحال على أن المأمور هو الحاضر المخاطب، فحذفوا حرف المضارعة، فلما حذفوا حرف المضارعة بقي ما بعده في أكثر الأمر ساكناً، فاحتيج إلى همزة ليقع الابتداء بها، فقيل: اذهب، ويدلك على تمكن أمر الحاضر أنك لا تأمر الغائب بنحو: "صه" و"مه" و"إيه" و"دونك" و"حيهل". تم كلامه. وإذا جاز أن تحذف اللام في الحاضر لكثرة الاستعمال جاز أن تحذف في الغائب لدلالة قرائن الأحوال، فصح قول الزجاج: "جاز أن يقال: قل لزيد: يضرب عمراً، ولا يجوز: يضرب زيد عمراً، لأن لام الغائب ليس لها عوض إذا حذفتها"، وإليه أشار المصنف بقوله: "لأن لام الأمر الذي هو "قُل" عوض منه". ومثله في النيابة عن الجار الإضافة، قال الدار الحديثي: إن المضاف في "غلام زيد" عمل الجر لنيابته عن حرف الجر لفظاً لأنه في موضعه، كذلك ها هنا.

أي: وقتي سر وعلانية، أو على المصدر، أي: إنفاق سرٍّ وإنفاق علانية، المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب. والخلال: المخالة. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)؟ قلت: من قِبَلِ أنّ الناس يخرجون أَموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أَمثالها أو خيراً منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله تعالى: (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى* إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل: 20]- فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أَموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرئ: (لا بيع فيه ولا خلال) بالرفع. [(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه (لا بيعَ فيه ولا خِلالَ))، يعني: أي فائدة في تقييد الإنفاق بقوله: (مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَ يَوْمٌ)؟ وأجاب: أن وجوه الإنفاق وأغراضها متعددة، مثل: أخذ البدل، وحسن الأحدوثة، واستجرار المثل في العاجل، والثواب في الآجل، فقيد بهذا الأخير ليختص به. وتلخيصه: أن الخطاب ليس عاماً، بل هو مع قوم مخصوصين، ووصف اليوم بذلك لمزيد البعث على الإنفاق، فإنهم لما جزموا وأيقنوا مجيئه، وعلموا أنه يوم لا ينفع فيه عمل، اغتنموا الفرصة في الإنفاق لوجه الله. قوله: (وقرئ: (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) بالرفع)، كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو.

الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ* اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ* وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)]. (اللَّهُ) مبتدأ، و (الَّذِي خَلَقَ) خبره، و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان للرزق، أي: أخرج به رزقاً هو ثمرات. ويجوز أن يكون (مِنَ الثَّمَراتِ) مفعول "أخرج"، ورِزْقاً حالاً من المفعول، أَو نصباً على المصدر من "أخرج"، لأنه في معنى "رزق" (بِأَمْرِهِ) بقوله كن. (دائِبَيْنِ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنَ الْثَّمَرَاتِ) مفعول "أخرج")، فـ "من" على هذا تبعيض، أي: أخرج بعض الثمرات. قوله: (يدأبان في سيرهما)، الجوهري: "دأب فلان في عمله؛ أي: جد وتعب"، وهو معنى التسخير. قوله: (درئهما)، الأساس: "درأ الكوكب: طلع، كأنه يدرأ الظلام، أي: يدفعه". قوله: (خلفة لمعاشكم)، يقال: هن يمشين خلفة؛ أي: تذهب هذه وتجيء هذه، ويقال أيضاً: القوم خلفة؛ أي: مختلفون، حكاه أبو زيد، والخلفة أيضاً: اختلاف الليل والنهار، يريد: أن معنى تسخير الليل والنهار لبني آدم: بيانه وتفسيره ما في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان: 62]، فبين التسخير

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) "من" للتبعيض، أي: آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ من كلّ" بالتنوين، و (ما سألتموه) نفى ومحله النصب على الحال أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه بأن جعلهما خلفة يتعاقبان؛ يجيء هذا ويذهب ذاك، وبين فيه حكمة التسخير من وجهين: أحدهما: إرادة التذكر، وهو أن يتفكر المكلف في هذه القدرة العظيمة، فيعرف كمال مسخرهما. وثانيهما: إرادة الشكر، وهو أن يعرف بذلك نعمة السكون بالليل وابتغاء الفضل بالنهار، ويشكر موليهما. الراغب: "التسخير: سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهراً، فالمسخر هو المقيض للفعل، والسخري: هو الذي يقهر أن يتسخر لنا، وسخرت منه: إذا سخرته للهزء منه، قال تعالى: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) [هود: 38]، وقوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً) [المؤمنون: 110] قد حمل على التسخير وعلى السخرية". قوله: (وقرئ: "من كل" بالتنوين"، قال ابن جني: "وهي قراءة ابن عباس والحسن وغيرهما، تقديره: وآتاكم ما سألتموه من كل شيء سألتموه أن يؤتيكم". قوله: (وآتاكم من كل ذلك)، "ذلك" إشارة إلى ما سبق من الآيات، فإنهم وإن لم يعطوها عن سؤالهم، ولكن لما يستغنوا في معايشهم وأحوالهم عنها، فكأنهم سألوها بلسان

(لا تُحْصُوها) لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حالهم، وهو من باب التمثيل، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172]. شبه حالة الإنسان في كونه غير قائم بنفسه مفتقراً إلى من يقوم به، وما تقام به نفسه، وتكمل به حياته، ويتصل به إلى غايته، وهو أن يقال في حقه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70] بحالة الطفل أو الفرخ الذي يحتاج إلى قيم يتعيش به حياته، ويقيم به أوده، إذ لولاه لسقط متنه، ويبقى مهملاً معطلاً، وإليه ينظر قوله تعالى حكاية عن الكليم عليه السلام: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50]، أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، ويرتفقون به، ثم عرفهم كيف يرتفقون بما أعطاهم، وكيف يتوصلون إليه، والله أعلم. قوله: ((لَا تُحْصُوهَا) لا تحصروها ولا تطيقوا عدها)، قال في "الأساس": "هذا أمر لا أحصيه؛ أي: لا أطيقه ولا أضبطه"، وقال القاضي: "يعني: لا تطيقوا عد أنواعها، فضلاً عن أفرادها، فإنها غير متناهية، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة". الراغب: "الإحصاء: التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا؛ من لفظ الحصا، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الأصابع".

وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله (لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها (كَفَّارٌ) شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. و"الإنسان" للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه. [(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما التفصيل فلا يقدر)، "أما" يقتضي التكرير، فالتقدير: أما الإجمال فإنكم إن أردتم أن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وأما التفصيل فلا كلام في أنه ليس إليكم، فلا يحتاج إلى البيان، لأنه لا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. قوله: (فيتناول الإخبار)، الفاء جزائية، أي: التعريف في "الإنسان" للجنس الذي هو العهد الذهني، وهو ما يعرفه كل أحد أن الإنسان ما هو، فلما أتى بقوله: (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تناولهما، فصار المطلق مقيداً، كما أن التعريف في "اللئيم" في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني للجنس، فيتناول من تعرض لسب الشاعر. ولو حمل التعريف على الاستغراق فيختص بمن عصمه الله تعالى منهما، لكان أولى، كقوله تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر: 2 - 3]، وقوله تعالى: (إِنَّ

(هَذَا الْبَلَدَ) يعني: البلد الحرام، زاده الله أَمناً، وكفاه كل باغٍ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام (آمِناً): ذا أمن. فإن قلت: أي: فرق بين قوله (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة: 126] وبين قوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)؟ قلت: قد سأل في الأوّل: أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً. (وَاجْنُبْنِي): وقرئ: "وأجنبني"، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد-، وأهل نجد جنبني وأجنبنى، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلاَّ الْمُصَلِّينَ) [المعارج: 19 - 22] إلى آخره. قوله: (قد سأل في الأول: أن يجعله من جملة البلاد) إلى آخره، وهو أحد معاني "جعل"، وهو تصيير شيء شيئاً، فعلى الأول: تقدير الآية: اجعل هذا البلد بلداً ذا أمن، أو آمناً من فيه، كقولك: نهاره صائم، فـ (آَمِناً) صفة (بَلَداً). وعلى الثاني: هذا البلد ذا أمن، فـ (آَمِناً) مفعول ثان، و"البلد" وصف للمفعول الأول، فلابد من تقدير الخوف ليصح تصييره ذا أمن. فعلى الأول: كأنه ليس بلداً في ذلك الوقت، فسأل أن يجعله بلداً آمناً، وعلى الثاني: السؤال لحصول الأمن بعد وجدانه. قال صاحب "التقريب": "وحيث قال: (بَلَداً آَمِناً) سأل جعله بلداً موصوفاً، وحيث قال: (هَذَا الْبَلَدَ آَمِناً) سأل صفة أمنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الراغب في "غرة التنزيل": "فيه وجهان: أحدهما: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان [قد جعل بلداً، فكأنه قال: رب اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت، وقد جعل الوادي بلداً]، فكأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، لقوله: (إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، ووجه الكلام فيه تنكير (بَلَداً) الذي هو مفعول ثان، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل الوادي بلداً، فكأنه قال: اجعل هذا المكان- الذي صيرته كما أردت، ومصرته كما سألت- ذا أمن، فـ (الْبَلَدَ) على هذا عطف بيان عند سيبويه، وصفة عند المبرد، و (آَمِناً) مفعول ثان. وثانيهما: أن تكون الدعوتان واقعتين بعدما صار المكان بلداً، والمطلوب الأمن، كما تقول: اجعل ولدك هذا ولداً أديباً، فلا تأمره بأن يجعله ولداً، لأن ذلك ليس إليه، وإنما تأمره بتأديبه، أي: اجعله على هذه الصفة، وتقول: كن رجلاً سخياً، ولا تأمره بأن يكون رجلاً، بل تأمره بما يجعله سخياً، فذكر الموصوف وأتبعه الصفة، وهو كما تقول: كان اليوم يوماً حاراً، فتجعل "يوماً" خبر "كان"، و"حاراً" صفة له، ولم تقصد أن تخبر عن اليوم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأنه كان يوماً، لأنه غير مفيد، وإنما القصد أن تخبر عن حر اليوم، فكأن الأصل: كان اليوم حاراً، وأعدت "يوم" لتجمع بين الصفة والموصوف، فكأنك قلت: كان هذا اليوم من الأيام الحارة، فكذلك قوله: (اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) يجوز أن يراد: واجعل هذا البلد آمناً، فتدعو له بالأمن من بعد ما قد صار بلداً، ويكون مثل قوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)، وتكون الدعوة واحدة، قد أخبر الله عنها في الموضعين. فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعاد ذكرها أعاد بلفظ المعرفة فليس بشيء". وأما بيان النظم: فإنه تعالى لما عجب رسوله صلى الله عليه وسلم من حال قريش بقوله: (أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً) يعني: ألم تتعجب من حال قوم أنعم الله عليهم بأنواع النعم الجسيمة؛ حيث أسكنهم حرمه، وجعلهم قوم نبيه، ليكونوا في كنف هذا البلد الذي جعله الله حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولهم، وأكرمهم ببعثة أفضل الرسل؛ ليشكروا الله ويوحدوه، فعكسوا وجعلوا ما هو وسيلة إلى الأمن من سخط الله سبباً للحلول في دار البوار، وما هو ذريعة إلى الهداية والتوحيد سبيلاً إلى اتخاذ الأنداد وإضلال الخلق! ثم أمر رسوله [صلى الله عليه وسلم] بأن يعرض عنهم ويكافحهم بكلمة المتاركة والمودعة إقناطاً وإياساً، وهي (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)، ويقبل إلى المخلصين من عباده، ويحرضهم على شكر تلك النعم التي لم يقوموا بشكرها بما هو أساس الحسنات، وأما العبادات- من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حالتي السر والعلانية- إلى قيام القيامة إلى يوم لا بيع فيه ولا خلال.

(وَبَنِيَّ) أراد: بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا: البيت حجر، .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم بعد ذلك يعد عليهم من النعم التي لا تحصى كثرة؛ منها خلق هذه السماء التي كالمظلة على هذا القرار الذي هو مستقرهم ومكان عبادتهم، ثم ما سواه من شبه النكاح بينهما بإنزال الماء وإخراج ما هو كالنتيجة من الثمرات رزقاً لهم؛ ليكون ذلك معتبراً إلى النظر الموصل إلى التوحيد، ونعمة يقابلونها بالعبادة، وحتى لا تجعلوا لله أنداداً، مثل أولئك الأنعام الذين لم يلتفتوا إلى هذه الآيات البينات، ولهذا قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). ونظيره قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) إلى قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21 - 22]. عقبه ليذكر بما يناسبه من قصة الخليل عليه السلام، ودعائه في حق هذا البيت المكرم والحرم المعظم، واعتنائه بشأن إقامة الصلاة فيه، وتوحيد الله، ومجانبة عبادة الأصنام، فمن قام بواجب ذلك من عبادة الملك العلام، والمجانبة عن عبادة الأصنام، صحح النسبة بينه وبين أبيه، وأمن في الدنيا والآخرة من سخط الله وحلول نكاله، ومن عكس استؤصل في الدنيا بالدمار، وفي العقبى أحل نفسه وقومه دار البوار، جهنم يصلونها فبئس القرار. والذي يؤيد أن قصة الخليل استطراد: العود إلى تهديد الكفرة بقوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ). قوله: (إنما كانت أنصاب)، أي: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً، وإنما التي تولعوا بها كانت أنصاب حجارة.

فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه: الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت. (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فأعوذ بك أن تعصمني وبنيّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات، لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويسمونه الدوار)، في حاشية "الصحاح": "قال ابن الأنباري: دوار: بد كانوا في الجاهلية يدورون حوله أسابيع، يتشبهون بأهل مكة"، وأنشد في "المغرب" لامرئ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل السرب: الجماعة من الظباء والبقر، والنعاج: جمع نعجة، وهي الأنثى من بقر الوحش، والعذارى: جمع عذراء، والدوار: صنم كانت تنصبه العرب وتدور حوله. الجوهري: "الملاءة- بالضم والمد-: الريطة، والجمع: ملاء"، والمذيل: الطويل الذيل، وإنما ذكر حملاً على اللفظ. قوله: (فاستحب أن يقال: طاف)، أي: "دار" بمعنى: طاف، ومنع أن يقال: "دار"، واستحب أن يقال: "طاف"؛ لئلا يتأسى بألفاظ المشركين.

(فَمَنْ تَبِعَنِي) على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي: هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي، وكذلك قوله: «من غشنا فليس منا» أي: ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه (ومن عصاني) فيما دون الشرك. [(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لعلهم يَشْكُرُونَ)]. (مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعض أولادي، وهم إسماعيل ومن ولد منه (بِوادٍ) هو وادي .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَإِنَّهُ مِنِّي) أي: هو بعضي)، لا يريد أن "من" في قوله: (مِنِّي) تبعيضية، وإن صرح بلفظ البعض، بل هي اتصالية، كقوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، ولهذا قال: "لفرط اختصاصه بي وملابسته لي". قوله: ((وَمَنْ عَصَانِي) فيما دون الشرك)، يدل على أنه حمل "العصيان" في الوجه الأول على الشرك، لأنه مقابل لقوله: (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ملتي، وكان حنيفاً مسلماً"، أي: موحداً، والكلام مبني على التخييل والتورية، كما سبق في قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة: 80]. قال القاضي: " (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء أو بعد التوفيق للتوبة، وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره".

مكة (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لا يكون فيه شيءٌ من زرعٍ قط، كقوله: (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر: 28] بمعنى: لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت: المحرم، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار، كالشئ المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه، أو لأنه حرّم على الطوفان أي: منع منه، كما سمي "عتيقاً" لأنه أعتق منه فلم يستول عليه (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام متعلقة بـ (أسكنت)، أي: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يكون فيه شيء من زرع قط)، هذه المبالغة يفيدها معنى الكناية، لأن نفي ذي الزرع يستلزم كون الوادي غير صالح، لأنه نكرة في سياق النفي. قوله: (انتهاكه)، الجوهري: "انتهاك الحرمة: تناولها بما لا يحل". قوله: (ما أسكنتهم ... إلا ليقيموا الصلاة) إلى آخره، هذا الحصر وتلك الفوائد إنما يفيدها تكرير ذكر (رَبَّنَا)، لأنه للاهتمام بشأن المدعو المطلوب، وجعل (لِيُقِيمُوا) علة للإسكان بواد موصوف بهذين الوصفين؛ كونه غير ذي زرع، وكونه عند بيتك المحرم، يعني: لا يختار أحد مثل هذا الموضع إلا للانقطاع للعبادة والتبتل إلى الله، والتبرك به لشرفه، وخص الصلاة لأنها عمود الدين. قوله: (البلقع)، الجوهري: "البلقع والبلقعة: الأرض القفر التي لا شيء بها". قوله: (مرتفق ومرتزق)، الأساس: "ارتفقت به: انتفعت به، تقول: بكرمك أثق، وعلى

وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك. (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روي عن مجاهد: لو قال أَفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل: (مِنْ) لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند. ويجوز أن يكون (مِنْ) للابتداء، كقولك: القلب منى سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير (أفئدة)، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سؤددك أرتفق، ومنه قوله تعالى: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 31]، ويقال: ما فيها مرفق من مرافق الدار؛ نحو المتوضأ والمطبخ". قوله: (القلب مني سقيم)، والظاهر أنه مثل قوله تعالى: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم: 4]، لكنه جعله ابتدائية لتفخيم الأمر، كأنه قيل: نشأ سقم هذا العضو الذي يصلح بصلاحه البدن، ويفسد بفساده مني ومن جهتي، فعلى هذا: التعريف في (النَّاسَ) للجنس، والمراد قوم مخصوصون، أي: نشأ جعل الأفئدة مائلة إلى جهة الكاملين من الناس. قوله: (وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل)، أي: في "الكشاف" في قوله: "فكأنه قيل: أفئدة ناس"، وفي الآية معرفة؛ ليتناول بعض الأفئدة، قال صاحب "الفرائد": لا يحتاج

وقرئ: "آفدةً"، بوزن عاقدة. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر. والثاني: أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أي: جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: "أفدةً"، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى جعل المعرفة نكرة لجواز أن يقال: المضاف مقدر، أي: بعض أفئدة من الناس، أو يقال: "الناس" للجنس، كقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173]. وقلت: هذا هو الذي أراده المصنف، فإنه أشار به إلى أن التعريف في (الْنَّاسِ) بمنزلة النكرة، كقولك: ادخل السوق في بلد كذا، أي: سوقاً من الأسواق. وأما الوجه الأول فساقط يظهر بالتأمل. قوله: (بوزن عافدة)، وفي "الأساس": "اعتفد الرجل: إذا أغلق الباب ليموت جوعاً ولا يسأل، ولقي رجل جارية تبكي، فقال: مالك؟ قالت: نريد أن نعتفد. وأنشد ابن الأعرابي: وقائلة ذا زمان اعتفاد" قوله: (من: أفدت الرحلة؛ إذا عجلت)، الجوهري: "أفد الرجل- بالكسر- يأفد إفداً؛ أي: عجل، فهو أفد؛ على "فعل"، أي: مستعجل، وأفد الترحل: إذا دنا وأزف". قوله: (أن تخفف بإخراجها بينَ بين)، قيل: فيه نظر؛ لأن الهمزة المتحركة الساكن ما قبلها إنما يكون تخفيفها بالحذف، كما في "مسألة" و"الخبء"، ولا يمكن فيها بينَ بينَ؛ المشهور ولا غيره، لأن بينَ بين: إما ساكن أو قريب من الساكن؛ على اختلاف المذهبين، فلو جعلت هذه الهمزة بين بينَ لزم التقاء الساكنين، أو ما هو في حكمه.

(تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله: يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ وقرئ: "تهوى إليهم" على البناء للمفعول، من: هوى إليه، وأهواه غيره. و"تهوى إليهم"؛ من هوي يهوى؛ إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يهوي مخارمها هوي الأجدل)، أوله: وإذا رميت به الفجاج رأيته قال المرزوقي: "الفج: الطريق الواسع في قُبُل جبل، والجمع: الفجاج، والمخارم: جمع المخرم، وهو منقطع أنف الجبل، والخرم: أنف الجبل، والأجدل: من جدل الخلق، والهوي- بضم الهاء-: هو القصد إلى الأعلى. يقول: إذا وجهت هذا الجلد في طرق الجبال رأيته يقصد أعاليها قصد الصقر". قوله: ("تهوى إليهم" ... من هوي [يهوى]؛ إذا أحب)، قال ابن جني: "قرأها علي رضي الله عنه، هو من: هويت الشيء؛ إذا أحببته، لا تقول: هويت إلى فلان، ولكن: هويت فلاناً، لكن لاحظ معنى: تميل إليهم، وهذا باب من العربية ذو عوز".

حاضرةً في وادٍ يبابٍ ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريفٍ وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أي: بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم. [(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في واد يباب)، الجوهري: "أرض يباب: خراب". قوله: (ثم فضله)، "ثم" للتراخي في الإخبار أو الزمان. قوله: (على كل ريف)، الريف: أرض فيها زرع وخصب. قوله: (وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب)، "أي" فيه استفهامية، و"التي" صفة الأعجوبة، فإنه لما قال: "ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد"، قال: "في أي بلد"، أي: لا ترى الأعجوبة التي يريكها الله تعالى في مكة في بلاد الشرق والغرب أي بلد شئت. قوله: (اجتماع البواكيل)، الجوهري: "الباكورة: أول الفاكهة".

النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعاً لعظمتك، وتذللاً لعزتك، وافتقاراً إلى ما عندك، واستعجالاً لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبةً في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم، فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: (ما نخفي) من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما تعلم العلن)، أشار إلى تكرير "ما"، وأن لم يقل: "تعلم ما نخفي ونعلن"؛ ليؤذن باستقلال إيقاع العلم على كل من السر والعلن، حيث لا يتفاوت العلم فيهما. قوله: (وقيل: (مَا تُخْفِي) من الوجد)، عطف على قوله: "تعلم السر كما تعلم العلن"، جعل (نُعْلِنُ) و (نُخْفِي) على الأول مطلقاً؛ على منوال "يعطي ويمنع" تتميماً لحسن المطلب، يعني: هذا الذي يظهر من الطلب ليس إلا التملق والرغبة إلى إصابة المعروف، لا الاستقصار والإعلام، وقريب منه قول الشاعر: أهزك لا أني عرفتك ناسياً ... لأمري ولا أني أردت التقاضيا

(وما نعلن) من البكاء والدعاء. وقيل: (ما نخفي) من كآبة الافتراق، (وما نعلن) يريد: ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف. (وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام، كقوله: (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]. أو من كلام إبراهيم، يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. و «من» للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا قوله: (ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ )، هذا في حديث طويل رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس قال: "جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عند هاجر إناء فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم ثنى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ". قوله: ((وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) من كلام الله أو من كلام إبراهيم)، وعلى التقديرين:

"عَلَى"- في قوله: (عَلَى الْكِبَرِ) - بمعنى "مع"، كقوله: إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو تذييل لما سبق وتأكيد له، ولهذا استشهد بقوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، لأنه من كلام الله تذييلاً لكلام بلقيس: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) [النمل: 34]. فعلى الأول: كان من الظاهر أن يقول: "صدقت يا إبراهيم ما يخفى علي شيء"، أقام المظهر موضع المضمر، وأتى باسمه الأقدس الجامع، أي: اقتضى عظمة جلاله وكبرياء سلطانه وشمول علمه أن لا يخيب دعاءك. وعلى الثاني: "وما يخفى عليك من شيء"، فعدل ليؤذن أنه كيف تخفى عليه حاجتي، وعلمه شامل لكل غيب وشهادة؟ ! قوله: ("على" في قوله: (عَلَى الْكِبَرِ) بمعنى: "مع")، ويجوز أن تجري على حقيقتها، ويقال: وهب لي وأنا متمكن على الكبر، كقوله تعالى: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف: 18]، وهذا أنسب؛ لقوله: "لأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية". قوله: (إني على ما ترين من كبري)، يقول: إني مع ما ترين من كبري أعرف الأشياء حق معرفتها، لأني جربتها ومارستها، وإني الآن على ما كنت مع كبر سني وتغير أحوال الحواس. وإليه أومئ بقوله: "وإنما ذكر حال الكبر، لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم". قوله: (أعلم من حيث تؤكل الكتف)، مثل في التجربة، لأن المجرب يأخذ

وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة وثنتي عشرة سنة، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مئة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: (رب هب لي من الصالحين) [الصافات: 100]، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته. فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتف من أعلاه، ليجذب اللحم عنه، وقيل: تؤكل من أسفلها ليسهل. قوله: ((إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) كان قد دعا ربه، وسأله الولد) إلى قوله: (فشكر لله ما أكرمه به من إجابته)، وقلت: قضية النظم أن يكون قوله: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) تعليلاً لإجابة دعائه السابق على سبيل التذييل، وأن يكون قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) تذكيراً لشكر نعمه السابقة، ووسيلة لاستجابة هذا الدعاء، فإن هذه الآية كالاعتراض بين أدعية إبراهيم عليه السلام في هذا المكان، كأنه عليه السلام يقول: "اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام، فإنك لم تزل سميع الدعاء، وقد دعوتك على الكبر، وسألت أن تهب لي إسماعيل وإسحاق، فأجبت لي"، فذكره وسيلة لاستجابة الدعاء. وفي تقييده تلك النعمة بالحمد دون إطلاقها: إشارة إلى التزام الشكر لهذه النعمة المستجدة. قوله: (الله يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه)، يعني: كيف استعمل (سَمِيعُ الدُّعَاءِ) بمعنى: مجيبه، فإنه تعالى يسمع الدعاء، أجابه أو لم يجبه؟ وما فائدة اختصاصه به؟

قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله، ومنه: سمع الله لمن حمده. وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن». فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة "السميع" إلى "الدعاء"؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه "فعيلاً" في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه. ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي. والمراد سماع الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: أن الفائدة أنه اعتد به وقبل منه، كما إذا رفع شخصان قصتهما إلى الأمير، وسمع كلامهما، وقبل من أحدهما وقضى حاجته، ولم يقبل من الآخر، يقال: سمع قصة فلان، ولم يسمع من الآخر، وهو من باب الكناية. قوله: (ما أذن الله) الحديث، رواه الشيخان عن أبي هريرة، يعني: لا يعتد بشيء كاعتداده لنبي يتغنى بالقرآن، قال في "الفائق": "الأذن: الاستماع، والمراد بالتغني: تخزين القراءة وترقيقها، ومنه الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) ". الراغب: "غنى أغنية وغناء وتغنى، وقيل: تغنى؛ بمعنى: استغنى، ومنه: "من لم يتغن بالقرآن". قوله: (من إضافة "فعيل" إلى فاعله)، أي: لسميع دعاؤك.

[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)]. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وبعض ذرّيتي، عطفاً على المنصوب في (اجعلني)، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124]. (وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي: عبادتي؛ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [مريم: 48]. يعني: أباه، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما: "ولولدي" يعني: إسماعيل وإسحاق. وقرئ: "لولدي" بضم الواو، والوُلُد بمعنى: الوَلَد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كـ"أُسدٍ" في: أسد. وفي بعض المصاحف: "ولذريتي". فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوزات العقل، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام، ويأباه قوله: (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) [الممتحنة: 4]؛ لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه، فكيف يُستنى الاستغفار الصحيح من جُملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم. في قراءة أبيّ: "ولأبويّ". وقرأ سعيد بن جبير: "ولوالدي"، على الإفراد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ))، استشهاد لأن الدعاء يجيء بمعنى العبادة. قوله: (ويأباه قوله: (إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ))، يعني: هذا القول مردود، لأنه لو نوى إبراهيم عليه السلام في قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ): "إن أسلما"، لكان مثل هذا الاستغفار مما يؤتسى به ومأموراً به، وقد قال الله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى قوله: (إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: 4]، فالله تعالى

(يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي: يثبت، وهو مستعارٌ من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً، أو يكون مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]. وعن مجاهد: قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نهانا أن نأتسي به في هذا الاستغفار، ولو كان مشروطاً بالإسلام لكان مأموراً بالاتباع، فضلاً عن أن يكون منهياً عنه، وقد استقصينا الكلام عليه في "مريم"؛ رداً على المصنف. قوله: (وهو مستعار من قيام القائم)، أي: القيام مستعار للثبات، شبه (الْحِسَابُ) في الوقوع والثبوت بإنسان إذا كان على أقوى حاله، وهو القائم، ثم خيل له ما يلازم الإنسان في هذه الحالة، وهو القيام، ثم شبه هذا المتخيل بمثله من المحقق، ثم أطلق المحقق على ذلك المتخيل، فهي استعارة مكنية مستلزمة للتخييلية. قوله: (وعن مجاهد: قد استجاب الله له)، بيان لربط الآيات من ابتداء دعوة إبراهيم عليه السلام، فقوله: "فمل يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته": مبني على ما سبق من جواب ابن عيينة: "ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً، وإنما كانت أنصاب حجارة"، وفي قوله: "وجعل في ذريته من يقيم الصلاة": إشارة إلى أن "من" في (مِن ذُرِّيَّتِي) للتبعيض، وقوله: "وأراه مناسكه وتاب عليه": إشارة إلى ما في البقرة: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا) [البقرة: 128]. وقول ابن عباس: إما من تتمة كلام مجاهد، أو أنه لما لم يذكره جاء به ليستوعب جميع ما اشتملت عليه الآيات من المعاني.

وجعله إماماً، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم: (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) [إبراهيم: 37]، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم. [(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)]. فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا)؟ قلت: إن كان خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان: أحدهما: التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً، كقوله: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14]، (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) [الشعراء: 213]، كما جاء في الأمر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: 136]. والثاني: أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإيذان بأنه عالم بما يفعله الظالمون)، يريد: أن قوله: (غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) كناية أو مجاز في المرتبة الثانية عن الوعيد والتهديد، أي: لا تحسبن الله يترك عقابهم، لأنه جائز في كرمه ولطفه أن يعفو عنهم، لكن لابد أن يعاقبهم على القليل والكثير. قوله: (يعاملهم معاملة الغافل)، فعلى هذا [هو] استعارة تمثيلية، كما مر في (يُخَادِعُونَ اللهَ) [البقرة: 9].

ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير. وإن كان خطاباً لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه. وقرئ: (يؤخرهم) بالنون والياء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (النقير والقطمير)، الجوهري: "النقير: النقرة التي في ظهر النواة"، و"القطمير: الفوفة التي في النواة، وهي القشرة الرقيقة". قوله: (تسلية للمظلوم، وتهديد للظالم)، يعني: الخطاب عام، فلا يختص به مخاطب دون مخاطب، لأن الناس بين ظالم ومظلوم، فإذا سمع المظلوم أن الله تعالى عالم بما يفعله الظالم وينتصر له هان عليه ظلمه، والظالم إذا تصور أن الله تعالى عالم بما يفعله، ولابد أن يجازيه على ظلمه، ربما ارتدع عن ظلمه. وإنما غضب عليه؛ لأن السائل قصر التأويل على التقليد، وطلب منه الرواية، ولهذا قال: "إنما قاله من علمه"، أي: قاله صاحب الدراية. وهذا مناسب لتأليف النظم؛ فإن الآية مردودة إلى قوله: (قُلْ تَمَتَّعُوا) و (قُل لِعِبَادِيَ) [إبراهيم: 30 - 31]، أمر صلوات الله عليه وسلامه بمتاركة القوم، وبأن يقول لهم: (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم: 30]، وبأن يشتغل بتبليغ الرسالة مع من ينتفع به بالعمل وباستعمال الفكر والاعتبار؛ بقوله: (يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) [إبراهيم: 31] الآية، وبقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) [إبراهيم: 32]، وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) [إبراهيم: 35]، ثم سلاه وهدد الظالم على سبيل العموم بقوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، وختم به وبما يتصل به السورة، والله أعلم.

(تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي: أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى. (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي. وقيل: الإهطاع: أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أي: لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير: مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أبصارهم لا تقر في أماكنها)، الراغب: "الشخص: سواد الإنسان القائم المتراءى من بعيد، وقد شخص من بلده: نفذ، وشخص سهمه وبصره، وأشخصه صاحبه، قال الله تعالى: (تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)، وقال: (شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء: 97]، أي: أجفانهم لا تطرف". قوله: (لا يرجع إليهم أن يطرفوا)، الجوهري: "طرف بصره يطرف طرفاً؛ إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر، الواحدة من ذلك: طرفة، يقال: أسرع من طرفة عين". قوله: (من الظلمان جؤجؤه هواء)، وأنشده الزجاج، صدره:

لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان: فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ وعن ابن جريج: (أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) صفرٌ من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم. [(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَاتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ* وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ* فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأن الرحل منها فوق صعل الصعل: الصغير الرأس من الرجال والنعام من غير قصر العنق، والجؤجؤ من الطائر والسفينة: صدرهما، يهمز ولا يهمز، يصف مطيته بالقلق، يقول: كأن رحل هذا المطي فوق ظليم- أي: نعامة- لا قوة في قلبه، لأن النعام يضرب به المثل في الجبن. قوله: (فأنت مجوف نخب هواء)، صدره: ألا أبلغ أبا سفيان عني يقال: رجل مجوف: لا قلب له، كأنه خالي الجوف من القلب، والنخب: الفاسد، رجل

(يَوْمَ يَأتِيهِمُ الْعَذابُ) مفعول ثانٍ لـ"أنذر" وهو يوم القيامة. ومعنى: (أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ): رُدّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمدٍ وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك. أو أريد بـ"اليوم": يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون: 10]. (أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً. (وما لَكُمْ) جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله (أَقْسَمْتُمْ)، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا مِنْ زَوالٍ والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث، كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) يقال: سكن الدار وسكن فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نخب- بكسر الخاء-: أي جبان لا فؤاد له، وهواء: صفر من الخير. قوله: (أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً)، إشارة إلى أن القول مضمر، أي: ألم يكونوا بطرين أشرين قائلين: والله ما لنا من زوال، أو أن يقولوه بلسان الحال، أي: لا قول ثمة ولا قسم، ولكن دل بطرهم وأشرهم من بناء القصور والأمل البعيد على هذا المعنى. قوله: (يعني: كفرهم بالبعث)، يريد: أن قولهم: "ما لنا من زوال" مبني على إنكار البعث، وأن القوم دهرية، يعني: لم نزل على هذه الطريقة، لأن القائلين بالقدم يقولون: (مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ) [الجاثية: 24]، خذلهم الله.

ومنه قوله تعالى (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنّ "السكنى" من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بـ"في"، كقولك: قرّ في الدار وغني فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوّأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: "سكنوا" من السكون، أي: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله، وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بالإخبار والمشاهدة (كَيْفَ) أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرئ: "ونبين لكم" بالنون. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي: صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون "سكنوا" من السكون)، عطف على قوله: "سكن الدار وسكن فيها" من حيث المعنى، يعني: (سَكَنتُم) في الآية: إما من السكون الذي هو بمعنى اللبث والتبوء، أو من السكون بمعنى القرار، فإن كان الأول فاستعماله بـ "في" بالنظر إلى أصل الاستعمال. لا بالنظر إلى النقل بحسب العرف، فإنهم يستعملونه بغير "في". وقوله: "لأن "السكنى" من السكون": تعليل لقوله: "ومنه قوله تعالى: (وَسَكَنتُمْ) "، أي: (وَسَكَنتُمْ) من هذا الاستعمال، لأن"سكن الدار"- بمعنى: السكنى والتبوء- يستعمل بالجار على الأصل، وبلا جار للنقل إلى العرف، فاستعمل ها هنا بالجار. قوله: (وكيف كان)، عطف على قوله: "ما لقي" على سبيل البيان؛ على تأويل جواب "كيف"، أي: لا يحدثونها بأحوال عاقبة ظلم الأولين من الهلاك والدمار.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي: مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) لا يخلو: إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: (وعند الله مكرهم) الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معداً لذلك. وقد جعلت "إن" نافيةً واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة: 143]، والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن مسعود: "وما كان مكرهم". وقرئ: "لتزول" بلام الابتداء، على: (وإن كان مكرهم) من الشدّة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما: "وإن كاد مكرهم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مكرهم العظيم)، إنما عظمه للإضافة، وهذا إنما يصار إليه إذا علم شدة شكيمة من أضيف إليه، وتماديهم في الطغيان، كأنه قيل: فما ظنك بمكر مباشره مثل صناديد قريش. قوله: (وقرئ: "لتزول" بلام الابتداء)، قال الزجاج: "قرئ: "لتزول" على الرفع وفتح اللام الأولى، المعنى: وعند الله مكرهم، وإن كان يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن

(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) يعني قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر: 51]، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]. فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأوّل؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران: 9]، ثم قال: (رُسُلَهُ) ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرئ: "مخلف وعده رسله" بجرّ "الرسل" ونصب "الوعد". وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم» [الأنعام: 137]. (عَزِيزٌ) غالب لا يماكر (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله ينصر دينه". وعلى هذا: "إن" مخففة من الثقيلة، وعلى الأول: شرطية. وقدر "مسوى" لتعلق به اللام، لأنه خبر لـ "كان"، وهو من الشرط الذي يعقب به الكلام مبالغة. قوله: (يعني: قوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، يعني: المراد بـ "الوعد" قوله هذا في غير هذا الموضع. وقلت: ويمكن أن يحمل "الوعد" على قوله: (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ)، لأنه إيماء إلى النصرة، يدل عليه قوله: "فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه"، وقوله: "وهو عذابهم". قوله: (قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً)، قال في "الانتصاف": "وفيه نظر، لأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع إطلاقه، فليس تقديم الوعد دالاً على إطلاق الفعل حتى يكون ذكر "الرسل" ثانياً كالأجنبي، فلا فرق بين تقديم الوعد وتأخيره، بل فيه الإيذان

[(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ* وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ* لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)]. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) انتصابه على البدل من (يوم يأتيهم)، أو على الظرف للانتقام. والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. ومنه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء: 56] و (وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ: 16]، وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان: 70]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعناية المتكلم، وهذه الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعدهم الله على ألسنة الرسل، فالمهم ذكر الوعد، أما كونه على ألسنة الرسل فلا يقف التخويف عليه". وقال في "الإنصاف": "هذا السؤال قوي، وإنما الذي ذكره الزمخشري هو القاعدة عند علماء البيان، قال الجرجاني مثل ذلك في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) [الأنعام: 100]: إنما قدم (شُرَكَاءَ) للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ الشركاء لله مطلقاً، ثم ذكر (الجِنَّ) تحقيراً لهم، أي: إذا لم يتخذ من غير الجن، فالجن أحق أن لا يتخذوا شركاء، وإن كان السؤال متوجهاً على هذا أيضاً". وقلت: صاحب "الإنصاف" ما أنصف من نفسه حيث قال: "هذا السؤال قوي" بعدما أقر السائل بأن لا فرق بين تقديم الوعد وتأخيره إلا الإيذان بعناية المتكلم، ألا تسمع سيبويه

واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد: وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ ... وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِى كُنْتَ تَعْلَمُ وتبدّل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبواباً. وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئةً. وعن علي رضي الله عنه: تبدّل أرضاً من فضة، وسماوات من ذهبٍ. وعن الضحاك: أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: "يوم نبدّل الأرض" بالنون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف قال: فإنهم يقدمون الأهم وما هم ببيانه أعنى، فإذا قدم المفعول الثاني على الأول وقع الكلام فيه أصالة، ويكون المفعول الأول تبعاً له، لا أن الفعل يصير مطلقاً كما توهم، حققنا المعنى في سورة الأنعام في قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) [الأنعام: 100]، فإذن المعنى ما قال المصنف: ليس من شأن الله إخلاف المواعيد، كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 9، والرعد: 31]، ثم قال: (رُسُلَهُ)، ولما كان السياق في تهديد الظالمين كان ذكر الرسل تتميماً لذلك التهديد ومبالغة فيه، وأن ذلك كائن لا محالة، لأنهم خيرته وصفوته، وهو على منوال قولها: كأنه علم في رأسه نار

فإن قلت: كيف قال: (الْواحِدِ الْقَهَّارِ)؟ قلت: هو كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر: 16]؛ لأنّ الملك إذا كان لواحدٍ غلابٍ لا يغالب ولا يعازّ، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة. (مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض، أو مع الشياطين، أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله: (فِي الْأَصْفادِ): إمّا أن يتعلق بـ (مقرّنين)، أي: يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرّنين مصفدين. والأصفاد: القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل: وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَاداً ... بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسقط أيضاً قول صاحب "الانتصاف": "أما كونه على ألسنة الرسل فلا يقف التخويف عليه". قوله: (كيف قال: (الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)؟ )، أي: كيف ضم هذا مع قوله: (وَبَرَزُوا لِلهِ)؟ وأجاب: أن انضمامه معه يفيد معنى الصعوبة والشدة كانضمام قوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) مع قوله: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر: 16]. قوله: (إما أن يتعلق بـ (مُقَرَّنِينَ))، أي: يكون (فِي الأَصْفَادِ) ظرفاً لغواً، وهو نشر لقوله: "قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين"، أيك في الأغلال، وقوله: "وإما أن لا يتعلق به"، أي: يكون ظرفاً مستقراً حالاً من ضمير المجرمين، وهو نشر لقوله: "قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين". قوله: (وزيد الخيل قد لاقى صفادا)، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": "هو زيد ابن مهلهل بن زيد الطائي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقال له: ما وصف

القطران: فيه ثلاثة لغات: قَطِران، وقِطْران، وقَطْران؛ بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه. وقرئ: "من قِطْرٍ آنٍ"، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآني: المتناهي حرّه. (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ): كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) [الزمر: 24]، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر: 48] لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لي [أحد] في الجاهلية فرأيته في الإسلام [إلا رأيته] دون صفته غيرك، ومات منصرفه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموماً". قوله: (وقرئ: "من قطر آنٍ")، قال ابن جني: "وهي قراءة ابن عباس وأبي هريرة وجماعة من التابعين، والآني: من: أنى الشيء يأني أنياً وإنى- مقصور-، ومنه قوله تعالى: (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) [الأحزاب: 53]، أي: بلوغه وإدراكه، قال أبو علي: ومنه: الإناء، لأنه الظرف الذي قد بلغ غايته المرادة فيه".

ولذلك قال: (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة: 7]. وقرئ: (وتغشى وجوههم)، بمعنى تتغشى: أي: يفعل بالمجرمين ما يفعل (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ) مجرمةٍ (ما كَسَبَتْ) أو كل نفسٍ من مجرمةٍ ومطيعة، لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى: تتغشى)، أي: يجب حمل هذه القراءة على المضارع، فحذف إحدى التاءين ليوافق المشهورة. فإن قلت: (مُقَرَّنِينَ) و (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) (وَتَغْشَى) ثلاثتها أحوال من ضمير (الْمُجْرِمِينَ)، فلم خولف بينها؟ قلت: ليؤذن بالترقي، فإن كونهم مقرنين في الأصفاد دون أن تكون سرابيلهم من قطران، فجيء بها جملة اسمية، وغشيان أكرم الأعضاء واستعلاء أقوى العناصر عليها فوق الكل، فجدد بالمضارع الدال على استحضار تلك الحالة الفظيعة في مشاهدة السامع. وإنما قلت: "فجدد" لأن إتيان "ترى" لذلك. قوله: (أي: يفعل بالمجرمين ما يفعل)، كناية عن قوله تعالى: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) الآيتين، واللام تعليل للمذكور. قوله: (لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم)، علة لإجزاء كل نفس بما كسبت على العموم، يعني: أن (كُلَّ نَفْسٍ) لما عقبت ذكر (الْمُجْرِمِينَ)، خصصت بنفس مجرمة وكانت مقيدة بها، أو يترك على الإطلاق، وإن كان تعليلاً للكلام السابق. قال القاضي: "ويتعين ذلك إن علق اللام بـ "برزوا لله الواحد القهار"، للدلالة على أنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم، علم بالمفهوم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم".

[(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)]. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) كفاية في التذكير والمواعظة، يعني بـ (هذا) ما وصفه من قوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ) [آل عمران: 169] إلى قوله (سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران: 199]. (وَلِيُنْذَرُوا) معطوفٌ على محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا (بِهِ) بهذا البلاغ. وقرئ: "ولينذروا" بفتح الياء؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني بـ (هَذَا) ما وصفه من قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّ) إلى قوله: (سَرِيعُ الْحِسَابِ))، قال القاضي: " (هَذَا) إشارة إلى القرآن أو إلى السورة أو ما فيها من العظة والتذكير". وقلت: إلى السورة هو الظاهر؛ ليكون كالخاتمة لها، فإن الفاتحة- وهي قوله: (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 1]- وهلم جرا إلى آخره دل على التذكير والعظة والإنذار، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "ولينذروا" بفتح الياء) والذال، قال ابن جني: "قرأها يحيى بن عمر وأحمد بن يزيد السلمي، يقال: نذرت بالشيء: إذا علمت به فاستعددت له، فهو في معنى: فهمته وعلمته، وطبنت له: في وزن ذلك، ولم تستعمل العرب لقولهم: "نذرت بالشيء"

من: نذر به: إذا علمه واستعدّ له، (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصدراً، كأنه من الفروع المهجورة الأصول، ومنه: "عسى" لا مصدر لها، وكذلك "ليس"، كأنهم استغنوا عنه بـ "أن" والفعل، نحو: سرني أن نذرت بالشيء، ويسرني أن تنذر به". قوله: (لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد)، قال القاضي: "اعلم أنه تعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد، هي الغاية الحكمة في إنزال الكتب: تكميل الرسل للناس، واستكمالهم النظر إلى منتهى كماله، وهو التوحيد، واستصلاحهم العمل الصالح، وهو التدرع بلباس التقوى. جعلنا الله من الفائزين بهما. والله سبحانه وتعالى أعلم تمت السورة

سورة الحجر

سورة الحجر مكية، وهي تسعُ وتسعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)] (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والكتاب، والقرآن المبين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحجر مكية، وهي تسع وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ((تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات)، وهو على منوال: هذا أخوك. قال المصنف: لا يكون "هذا" إشارة إلى غير الأخ. قال ابن الحاجب: المشار إليه لا يُشترط أن يكون موجوداً حاضراً، بل يكفي أن يكون موجوداً ذهناً. قال أبو البقاء: (تِلْكَ): يجوز أن يكون مبتدأ، و (آيَاتُ الْكِتَابِ) ": خبره، وأن يكون خبر (الر)، و (آيَاتُ الْكِتَابِ) بدل أو عطف بيان، واختار المصنف الأول لقوله: "والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا"، فقوله: "الكامل في كونه كتاباً"

السورة. وتنكير القرآن؛ للتفخيم. والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً، وأي قرآن مبين، كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستفاد من التعريف الجنسين وإيقاع (آيَاتُ الْكِتَابِ) خبراً من اسم الإشارة كما سبق في "البقرة". وقوله: "وآي قرآن" مستفاد من التنكير التفخيمي في "قرآن". وقوله: "الجامع للكمال" من توسيط العاطف بين الوصفين. قوله: (وآي قرآن مبين) بالجر عطفاً على "كتاب كامل". قوله: (والغرابة في البيان) من إيقاع (مُبِينٍ) وصفاً للقرآن بعد تعداد حروف التهجي، وأن المبين من: أبان، بمعنى بان، للمبالغة. قال محيي السنة: فإن قيل: لم ذكر الكتاب ثم قال: (قُرْآنٍ مُبِينٍ)، وكلاهما واحد؟ قيل: ليفيد أن المراد بالكتاب: ما يُكتب، وبالقرآن: ما يُجمع بعضه إلى بعض، ذهب إلى معنى العطف من الوصفين. فإن قلت: رجع المآل إلى أن (الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ)، وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه، فما ذلك الموصوف؟ وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة دفعه (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)، وإن ذهبت إلى أنه نكرة، أباه لفظ الكتاب؟ قلت: أقدره معرفة، (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ): في تأويل المعرفة، لأن معناه: البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز، فهو إذا محدود بل محصور، كأنه قيل: تلك آيات الكتاب الكامل المعجز، وإليه أشار بقوله: "الكتاب الجامع بين الكمال الغرابة في البيان"، فقوله: "الكتاب" هُو

[(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)]. قرئ: ربما، وربتما بالتشديد، (وربتما)، (وربما): بالضم والفتح مع التخفيف. فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموصوف المضمر، وأحد الوصفين ما دل عليه قوله: "للكمال"، لأنه معنى الكتاب المذكور في التنزيل، ومعنى "الكمال" فيه مستفاد من التعريف الجنسي، كما سبق، والآخر قوله: "الغرابة في البيان"، وهو المعنى من قوله: (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) على ما أسلفناه. فإن قلت: جعلت (الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وصفين لموصوف، والمصنف جعلهما في قوله: "والكتاب والقرآن المبين: السورة نفس السورة؟ " قلت: لما قلت: أقيما مقام الموصوف، صح ذلك، ولا منافاة. قوله: (قرئ: "رُبما")، نافع وعاصم: بتخفيف الباء، والباقون بالتشديد، والبواقي شواذ. قوله: (وقد أبوا دخولها إلا على الماضي). قال ابن الحاجب: لأنها لتقليل ما ثبت وتحقيقه. وقيل: هي لتقليل المحقق، وهو بالماضي أجدر، نص عليه المبرد. قيل: إن (يَوَدُّ)، بمعنى: ود؛ لأنه خبر من الله مقطوع به، فجرى مجرى الماضي المحقق، و (ما) في (رُبَمَا): اسم نكرة، و (يَوَدُّ) نعته، وإنما حذف فعل (رُب) لأن الصفة قد أغنت عنه، وسدت مسده. ذكره اليمني.

قلت: لأن المترقب في إخبار الله عز وجل بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ودّ. فإن قلت: متى تكون ودادتهم؟ قلت: عند الموت، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين. وقيل: إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار، وهذا أيضاً باب من الودادة. فإن قلت: فما معنى التقليل؟ قلت: هو وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل، ولا يشكون في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار، وهذا أيضاً باب من الودادة). يعني: تأول هذه الآية بهذا المعنى من الودادة الباطلة، وتفسيرٌ لها بما يُهوى ويُحب، قال الإمام: هذا قول أكثر المفسرين، كابن عباس، ومجاهد. والعجب من هذا الرجل كيف يجترئ على هذا الكلام؟ وقلتُ: بل فسرها من هبط إليه التنزيل على ما روينا عن الترمذي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في تفسير هذه الآية، قال: "إذا أُخرج أهلُ التوحيد من النار وأدخلوا الجنة، ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين"، وعليه معنى التمني؛ وإنما يحسن موقعه إذا رأى الكافرون حسن عاقبة المسلمين، وشاهدوا سوء مغبة الكافرين، وأيقنوا اليأس التام، والإقناط الكلي، كما يقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40] قال المصنف: "يُحشر الحيوان غير المكلف، حتى يُقتص للجماء من القرناء ثم تُرد تراباً، فيود الكافر حاله". وقال الراغب: ومن المودة التي تقتضي معنى التمني قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا: لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو كان الندم مشكوكاً فيه) يُشير لقوله: "لعلك ستندم"، وقوله: "ربما ندم الإنسان على ما فعل" أي: هذا الذي فعلت، ربما ندم الإنسان عليه. وخلاصة الجواب أن يقال: لا شك أنهم يكثرون الودادة، ولكن استعمل رُب لتقليلها على الاستعارة، أي: تقل ودادتهم للإسلام حينئذ على إرادة أنهم يبالغون في الودادة، ويكثرون منها لاقتضاء مقام التوبيخ لهم، ثم تفيد هذه الاستعارة على طريقة الكناية الإيمائية- وهي أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع- معنى توخي انتهاز فرصة الإسلام، أي: اغتنموا فرصة الإسلام، وسارعوا في تحصيله، فإنكم لو كنتم تودونه مرة واحدة فبالحري أن تُسارعوا فيها، فكيف والحال ما ذكرناها؟ الانتصاف: العرب تُعبر عن المعنى بضده، ومنه: قد أترك القرن مصفراً أنامله وإنما يُمتدح بالإكثار من ذلك، وعبر عنه بـ "قد" المفيدة للتقليل، ومنه (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) [الصف: 5]، فإن القصد توبيخهم على الأذى، مع توفر علمهم برسالته ونصحه. قلتُ: ومنه قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [البقرة: 144] أي: مِن حق اهتمامك بشان القبلة مع كثرة تقلب وجهك في السماء أن يكون أكثر مما وُجد منك وشوهد من حالك، لأن أصل أمرك أن تستقبل قبلة آبائك، ولكونه أدعى للعرب إلى الإيمان، ولوجوب مخالفة اليهود.

قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل؛ لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه، كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة، فبالحري أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة (لوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) حكاية ودادتهم، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة؛ لأنهم مخبر عنهم، كقولك: حلف بالله ليفعلنّ. ولو قيل: حلف بالله لأفعلنّ، ولو كنا مسلمين؛ لكان حسناً سديداً، وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فبالحرى أن يسارعوا): قيل: "أن يسارعوا": مبتدأ، و"بالحري": خبره، وهو مصدر، والباء غير زائدة، أي: المسارعة ثابتة بالحري، وإذا جُعل صفة مشبهة، فالباء زائدة، وبالحري: مبتدأ، و"أن يُسارعوا": الخبر، كقولك: بحسبك زيدٌ، وقلت: جواب لو محذوف، والفاء في فبالحري جواب لشرط محذوف، يعني: لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لكان الواجب المسارعة إليه، وإذا كان كذلك فبالحري أن يسارعوا غليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة؟ ويجوز أن يكون جواباً لـ "لو"، لمعنى الشرطية فيها، وجاء في "البقرة" في قصة المنافقين أن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق، وعقيدتهم عقيدتهم فهو كفر. قوله: (وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم)، قال صاحب "الفرائد": لابُد لقوله (يَوَدُّ) من مفعول، فـ"لَو" مع ما بعده نُزل منزلته، كأنه قيل: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما يلازم لو كانوا مسلمين، [وهو الخلاص من النار ودخول الجنة، ولو قيل: لو كنا مسلمين لكان التقدير: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الإسلام قائلين: لو كنا مسلمين] لما ابتلينا بالنار ولدخلنا الجنة، فظهر من هذا أن الغيبة أولى بالذكر، لأنها أقل احوجاجاً إلى التقدير. وقلت: ولهذا قدمه المصنفُ على الثاني، وقال: "ولو قيل: لكان كذا، لكان سديداً". قوله: (وقيل: تدهشهم) جواب آخر للسؤال معطوف على قوله: "هو وارد"، ورُب حينئذ: للتقليل حقيقة.

مبهوتين، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكوتهم تمنوا، فلذلك قلل (ذَرْهُمْ) يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم عن النهى عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم (يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم) وتنفيذ شهواتهم، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً (فَسَوْفَ يَعْلَمُون) سوء صنيعهم. والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً في العاقبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من ارعوائهم)، النهاية: لا يرعوي: أي لا ينكف ولا ينزجر عن القبيح. قوله: (وأن لا يلقوا) عطف على سبيل البيان على قوله: "لطول الأعمار واستقامة الأحوال"، أي: خلهم يشغلهم توقعهم أن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً. قوله: (حين لا ينفعهم): ظرف لقوله: "معاينة". قوله: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) مسبب عن قوله: "والغرض" أي: الغرض من إيراد قوله: (ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ) الإعلام بأنهم من أهل الخذلان على سبيل الكناية، لا حقيقة الأمر، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخليهم لذلك الغرض، كما أن الأمر في قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29] لطلب الكفر ظاهراً، والغرض منه التهديد والوعيد. قوله: (وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً)، فإن قلت: ليس

وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الآية أمرٌ، فكيف قال: حتى يأمرهم؟ قلت: قوله: (ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) كلمة موادعة ومُتاركة، ولا يُذهب إليه إلا بعد الإياس التام والإقناط الكلي، كأنه قيل: "كلوا وتمتعوا" كما في قوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم: 30]، وقوله تعالى: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات: 46]. وموقع قوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) إلى قوله: (وَمَا يَسْتَاخِرُونَ) موقع الاعتراض بين قوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وبين قوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كقوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ) [يونس: 1 - 2]، فإنه تعالى لما بالغ في وصف الكتاب على ما سبق حتى بلغ القضيا في كماله، وبالغوا في التكذيب حتى قابلوه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) سُلي صلوات الله عليه بقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) أي: هون على نفسك فإنك بالغت في الإرشاد والإنذار، وهم أيضاً أفرطوا في التكذيب، فهم قوم جهلة قليلو الدراية، لو كانوا يودون الإسلام مرة فبالحري أن يُسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه كل ساعة؟ وإذا كان كذلك فاقطع طمعك في ارعوائهمن ودعهم عن النهي عما هم عليهن والصد عنه بالتذكرة، بل مرهم بالأكل الأنعام والتمتع فيها أياماً قلائل، فسوف يعلمون سوء صنيعهم. والله أعلم. قوله: (وفيه إلزام) أي: في قوله: (ذَرْهُمْ)، وقلت: في الأمر بالتمتع والاشتغال بالتلذذ: إدماج لهذا المعنى، لأن هذا القول لا يصدر عن الرسول إلا بعد الإنذار البالغ حده، واليأس من الإيمان، أي: أبلغت في الإنذار وألزمت الحجة عليهم، فلله الحجة البالغة. قوله: (وإعذار فيه)، الجوهري: أعذر، أي: بالغ في الإنذار، وقيل: يجوز أن تكون الهمزة للسلب.

وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّى إليه طول الأمل- وهذه هجيرى أكثر الناس- ليس من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين. [(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ* ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَاخِرُونَ)]. (وَلَها كِتابٌ) جملة واقعة صفة ل (قريةٍ)، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه تنبيه) أي: في تخصيص الأكل والتمتع بالمشتهيات والتلهي بالأمل إدماج أيضاً بأن هذه الأشياء ليست من أخلاق المؤمنين، فقوله: "وهذه هجيري أكثر الناس" جملة معترضة، قال بعض المشايخ: التزين بالدنيا من أخلاق المنافقين، والتمتع بها من أخلاق الكافرين، والتمرغ فيها من أخلاق الهالكين. قوله: (وهذه هجيري أكثر الناس). الراغب: الهجرُ: الكلام المهجور لقبحه، وأهجر فلان: إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد، يقال: رماه بهاجرات فمه، أي بفضائح كلامه، وقولهم: فلان هجيراه كذا، إذا أولع بذكره، وهذى به هذيان المريض المهجر، ولا يكاد يستعمل الهجيري إلا في العادة الذميمة. قوله: (التمرغ في الدنيا)، الجوهري: مرغته في التراب فتمرغ، أي: معكته، وفي تخصيص التمرغ إشارة إلى دأب الحيوان. قوله: (أن لا يتوسط الواو) يعني: القياس أن لا يتوسط بين الصفة والموصوف العاطف

كما في قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لشدة اتصالها به، كما في قوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ) [الشعراء: 208]، لكن لما افترق الحكم بينهما اختصت هذه بها، فإن لصوق الصفة فيما نحن فيه أشد من لصوقها في قوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ)، فإن إهلاك قرية من القرى لكون أجلها مقدراً لا ينفك عن قضائه وقدره، بخلاف إهلاكها عن إنذار منذر، فإنه قد ينفك عنه، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) [الإسراء: 58]. قوله: (كما يقالُ في الحال)، يعني: هذه الواو الداخلة بين الصفة والموصوف كالواو الداخلة بين الحال وصاحبها، فكما أن معنى الحالية لا يتغير إذا قلت: جاءني زيدٌ عليه ثوب، وجاءني زيدٌ وعليه ثوب، كذلك هاهنا. وأيضاً، كما أن الواو هناك لمجرد الربط، فكذلك هاهنا، وذلك أن الأصل في الجملة إذا وقعت موقع الحال أن لا تدخلها الواو لفوات المغايرة؛ لأن حم الحال مع صاحبها حكم اخبر مع المخبر عنه، والخبر ليس موضعاً لدخول الواو، وإنما تدخل لمجرد الربط، لاسيما إذا كانت جملة اسمية فإنها أشد افتقاراً إلى الربط، فحكم الصفة كذلك، ويؤيده قول أبي البقاء: وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هاهنا كصورتها إذا كانت حالاً. وقال صاحب "التقريب": في قول المصنف نظر؛ لأن توسيط العاطف بين الصفات معهود لا بين الصفة والموصوف، والحال ليس وزانها وزان الصفة، إذ حقها الواو، وقد تُحذفن وإنما لم يجعله حالاً لتنكير ذي الحال، وهو (قرية)، وجاز أن يُقال: عمومها يصحح كونها ذا الحال، كما في المبتد، نحو: ما أحد خير منك، وهو تبع صاحب "المفتاح"، حيث

(كتابٌ مَعْلُومٌ مكتوب معلومً)، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين، ألا ترى إلى قوله (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها في موضع كتابها)، وأنث الأمّة أوّلا ثم ذكرها آخرا، حملا على اللفظ والمعنى: وقال (وَما يَسْتَاخِرُونَ) بحذف «عنه» لأنه معلوم. [(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)]. قرأ الأعمش: يا أيها الذي ألقى عليه الذكر، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء، كما قال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون. والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع. وقد جاء في كتاب الله في مواضع، منها (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]، (إَنكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد) [هود: 87] وقد يوجد كثيراً في كلام العجم، والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أنّ الله نزل عليك الذكر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: فالوجه عندي هو أن (وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ): حال (لقرية) لكونها في حُكم الموصوفة، أي: قرية من القرى، لا وصف، وحمله على الوصف سهوٌ لا خطأ، ولا عيب في السهو. وقد أطال المالكي في "شرح التسهيل" في الرد قياساً ونقلاً، وجعل مصحح وقوع النكرة ذا الحال كونها منفية، وقال: والمنفي صالح لأن يُجعل صاحب حالٍ بما هو صالح لان يُجعل مبتدأ، ومن أمثلة أبي علي في "التذكرة": ما مررت بأحد إلا قائماً إلا أخاك، فجعل الحال من أحد، لاعتماده على النفي. وسنذكر الجواب إن شاء الله في سورة "الكهف". قوله: (وأنت الأمة أولاً) يعني: في قوله: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) ثم ذكرها آخراً، أي: في قوله: (وَمَا يَسْتَأخِرُونَ).

[(لَوْ ما تَأتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)]. «لو» ركبت مع «لا» و «ما» لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض: قال ابن مقبل: لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى (لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان: 7]، أو: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟ . [(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)]. قرئ: (تنزل) بمعنى تتنزل وتنزل على البناء للمفعول من نزل، و: (ننزل الملائكة): بالنون ونصب الملائكة (إِلَّا بِالْحَقِّ): إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمعنيين) أي: على سبيل البدل، إما الامتناع أو التحضيض، فإن قوله: "لولا عليٌّ لهلك عمر" ليس فيه سوى الامتناع، كما أن قوله: (لَوْ مَا تَاتِينَا)، ليس فيه سوى التحضيض. قوله: (لو ما الحياء) البيت، عوري أي: خللي ونقصي، ويروي: عودي أي: أصلي، والبيت يستشهد به لـ "لوما" التي لامتناع الشيء لوجود غيره. قوله: (قرئ: "تنزل") كلهم إلا عاصماً وحمزة والكسائي، و"تنزل": أبو بكر، و"تنزل": حفص وحمزة والكسائي.

لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار. ومثله قوله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) [الحجر: 85]. وقيل: الحق: الوحي أو العذاب. و (إِذاً) جواب وجزاء، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم. [(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)]. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم واستهزائهم (في قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ولذلك قال: (إنا نحن)، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الحق: الوحي أو العذاب) عطفٌ على قوله: "بالحكمة والمصلحة". قوله: (لأنه جواب لهم، وجزاء لشرط مقدر)، أما كونه جواباً لهم فظاهر، وأما كونه جزاء لشرط مقدر، فإنهم لما قالوا: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك؟ أجيبوا بما ينبئ عن قولنا: "إن جاءتكم الملائكة وشهدوا بصدقي فلم تؤمنوا ما أُخر عذابكم" كما قدر الزجاج معنى قوله: "إذن أكرمك، جواباً لمن قال: أنا آتيك إن كان الأمر كما ذكرت فإني أكرمك، أو: إن جاءتكم ملائكة العذاب "ما أخرتم"، فقوله: "ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم" يُحمل على الوجهين المذكورين، لكون قوله تعالى: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) الآية، جواباً عن قولهم: (لَوْ مَا تَاتِينَا بِالْمَلائِكَةِ) الآية، وقد فسره فيما سبق بالوجهين. قوله: (على القطع): حال من الضمير في "فأكد"، أو: مفعول مطلق من المنزل، أي: إنزالاً على القطع، وإفادة القطع عن تصدر الجملة بـ "إن" وتوكيده بـ"نحن" والتعظيم بضمير الجمع.

وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها. وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رداً لإنكارهم واستهزائهم، فكيف اتصل به قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ؟ ) قلت: قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية، لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بعث به جبريل) أي: بعث بالقرآن جبريل، فالباء بمعنى "مع"، ويجوز أن تكون سببية. قوله: (قد جعل ذلك دليلا)، توجيه الجواب: أن الكفرة حين قالوا: مستهزئين: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) بمعنى: يا أيها المفتري، إن الله لم يُنزل عليك الذكر، وهذا الذي تزعمه أنه من عند الله ليس منه، بل هو من الجن، وإنك لمجنون، رد عليهم بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، يعني: أن الله تعالى هو المنزل على القطع والبت، فإنه هو الذي بعث جبريل إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وبين يديه ومن خلفه رصد من الملائكة حتى نُزلَ وبُلغ محفوظاً من الشياطين والجن، فما كان من الله ومحفوظاً من الجن، كيف يكون من الجن؟ قوله: (منزل من عند الله آية آية): حال من ضمير "منزل"، أي: دلالة وعلامة على كونه معجزة، يعني: قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) كالدليل ثبات المدعى، فإنه تعالى لما رد بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) قولهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) بمعنى: أن المنزل ليس من قبل الجن كما تزعمون، بل من قبل المليك المعظم شأنه، القاهر

كل كلام سواه. وقيل: الضمير في لَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ) [المائدة: 67]. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَما يَاتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم وطوائفهم. والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة. ومعنى أرسلناه فيهم: نبأناه فيهم وجعلناه رسولا فيما بينهم وَما (يَأتِيهِمْ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سلطانه، عقبه بقوله ليكون دليلاً على ذلك المدعى، وإليه الإشارة بقوله: "لو كان من عند البشر أو يكون غير آية أي: معجزة لتطرق إليه الزيادة والنقصان". وقال الإمام: إن الله حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر؛ لأنه يعجز الخلق عن الزيادة والنقصان فيه؛ لأنهم لو راموا ذلك لتغير نظمه، وظهر للخلق أنه من كلام البشر، وليس من خالق القوى والقدر. قوله: (والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب)، الراغب: الشياع: الانتشار والتقوية، تقول: شاع الحديث: إذا كثر وانتشر، وشاع القوم: انتشروا وكثروا، وشيعت النار: قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه. قوله: (أرسلناه فيهم: نبأناه فيهم وجعلناه رسولاً فيما بينهم)، يعني: أن (أَرْسَلْنَا) استعمل بـ "في"، والأصل: أرسلنا إليهم للإعلام بمزيد التمكن فيهم، فدل قوله: "نبأناه فيهم" على معنى: أعطيناه المعجزة، وقوله: "وجعلناه رسولاً فيما بينهم" على معنى: صيرناه

حكاية حال ماضية، لأنّ «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال. [(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)] يقال: سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته. وقرئ: (نسلكه)، والضمير للذكر، أي: مثل ذلك السلك، ونحوه: نسلك الذكر في (قُلُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صاحب كتاب وشريعة؛ لأن النبي كما تقرر صاحب المعجزة، والرسول صاحب الكتاب، فالآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من استهزاء المشركين. قوله: (ونحوه: نسلك الذكر) يريد أن المشار إليه بقوله: "ذلك" في (كَذَلِكَ) خلاصة معنى قوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)، ووجه التشبيه: التكذيب والاستهزاء، يعني: "مثل ذلك السل" مكذباً مستهزأ به نسلكه في قلب من هو مجرم مكذب مستهزئ، فقوله: "مكذباً به مستهزأ": حال مقدرة؛ لأن الذكر ما كان مكذباً حال إلقائه في قلوبهم، بل بعده بزمان، واللام في (الْمُجْرِمِينَ) للجنس، بدليل قوله: "كذلك أنزلها باللئام". قال في "الانتصاف": المراد إقامة الحجة على المكذبين بأن الله سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويداواتها، كما سلكه في قلوب المؤمنين، فكذب به هؤلاء، وصدق به هؤلاء، كل على علم وفهم، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42]، ولتقع الحجة على الكفار بعلمهم بوجه الإعجاز، كما فهمها المؤمنون، ولذلك عقبه بقوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ) الآية، أي لو أظهر لهم أي دليل أظهر من إعجازٍ أو صعود إلى السماء، وفي قوله: (فَظَلُّوا) التي لا تكون إلا في النهار، إشعارٌ بوضوح ذلك. وقال القاضي: "الضمير في قوله: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) للاستهزاء، وفيه دليل على

الْمُجْرِمِينَ) على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام، تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضيه. ومحل قوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) النصب على الحال، أي غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ). (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ): طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم، وقيل: للذكر، فإن الضمير الآخر في قوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) له، وهو: حال من هذا الضمير، والمعنى: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين، مُكذباً غير مؤمن به، أو بيان للجملة المتضمنة له، وهذا الاحتجاج ضعيف، إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالاً من الضمير، لجواز أن تكون حالاً من (الْمُجْرِمِينَ)، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول. قوله: (طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم). روى الإمام عن الزجاج أنه قال: "قد خلت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم". وقال الإمام: هذا أليق بظاهر اللفظ من ذلك. وقلت: بيانه أن التعريف في (الْمُجْرِمِينَ) للعهد، والمراد به المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم المذكورون بعد قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَاتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضية، نسلكه في قلوب هؤلاء المكذبين، ثم قرر ذلك وبينه بقوله: (لا يُؤْمِنُونَ)، وذيله بقوله: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)، والمقام يقتضي التأكيد والتقرير، لأنه تعالى لما وصف الكتاب بقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وبالغ

[(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)]. قرئ (يَعْرُجُونَ) بالضم والكسر. وسُكِّرَتْ حيرت أو حبست من الإبصار، من السكر أو السكر. وقرئ: (سكرت) بالتخفيف أي حبست كما يحبس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في بيان كماله وإعجازه الدرجة القُصيا، ثم حكى عنهم أنهم طعنوا فيه واستهزأوا بمن نُزل عليه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)، وما عدوه من المعجزة حيث قالوا: (لَوْ مَا تَاتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) وسلاه بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ)، قال: كذلك نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي فيه، وقد خلت سثنة الأولين، فيون على هذا مزيد تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. والوعيد بعيد؛ لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإنما آثر المصنف ذلك الوجه؛ لأنه أقرب إلى مذهبه. قوله: ((يَعْرُجُونَ)) بالضم: السبعة، وبالكسر شاذ، و (سُكِّرَتْ) بالتخفيف: ابن كثير. قوله: (من السُّكر أو السَّكر)، فيه نشر، الجوهري: السكران: خلاف الصاحي، وقد سكر يسكر سكراً، والاسم السكر بالضم، والسكر بالكسر: العزم، والسكر: مصدر سكرت النهر أسكره سكراً: إذا سددته، قيل: إن جُعل من السكر بالضم فالتثقيل للتعدية، وإن جُعل من "السَّكر" فالتثقيل للإسناد إلى الجماعة. قال ابن جني: كما أن السكر يعترض على الماء ويسد عليه مذهبه، كذلك حال السران في وقوف فكره، والاعتراض عليه بما ينغصه ويحيره، فلا يجد مذهباً، وينكفي مضطرباً.

النهر من الجري. وقرئ: (سكرت) من السكر، أي حارت كما يحار السكران. والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد: أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك. وقيل: الضمير للملائكة، أي: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك. وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: (إنما)، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: السُّكر: حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذلك قال الشاعر: سُكران، سُكر هوى وسكر مدامة ومنه سكرات الموت. والسكر: حبس الماء، وذلك باعتبار ما يعرضُ من السد بين المرء وعقله، والسكر: الموضع المسدود، وليلة ساكرة، أي: ساكنة، اعتباراً بالسكون العارض من السكر. قوله: وقال: ((إنَمَا) ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار)، قال الإمام: (إنَمَا): للحصر، والحصرُ هاهنا في الأبصار لا في التسكير، فكأنهم قالوا: ما سُكرت إلا أبصارُنا لا عقولنا، فنحن وإن نتخايل في أبصارنا هذه الأشياء، لكن نعلمُ بعقولنا أن الحال بخلافهن ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار، وقالوا: بل جاوز ذلك عقولنا بسحره.

[(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ* وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ* وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)]. مَنِ (اسْتَرَقَ) في محل النصب على الاستثناء. وعن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها (شِهابٌ مُبِينٌ) ظاهر للمبصرين (مَوْزُونٍ) وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل: ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها مَعايِشَ بياء صريحة، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما، فإن تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين. وقد قرئ: معايش، بالهمزة على التشبيه (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على (مَعيَشَ)، أو على محل (لَكُمْ)، كأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مَنْ اسْتَرَقَ): في محل النصب على الاستثناء)، قال أبو البقاء: هو استثناء منقطع، ويجوز أن يكون مجروراً على البدل، أي: إلا من استرق، والمبدل (كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)، والتقدير: لا يدخلها شيطان إلا من استرق، لدلالة "حفظناها" عليه، وقيل: فيه نظر؛ لأنه في كلام موجب، وأجيب: أن قوله: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) في معنى النفي، كقوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة: 249]. قوله: (أو على محل (لَكُمْ)) وهو النصب؛ لأنه مفعول به، كأنه قيل: جعلنا لم معايش ولمن لستم، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ العطف على محل (لَكُمْ) لا يقتضي إعادة اللام، بل كونُ (وَمَنْ لَسْتُمْ) منصوباً، فلعله على تقدير الجار تصحيحاً للمعنى، ثم نزعه.

قيل: وجعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم من لستم له برازقين، أو: وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين. وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإنّ الله هو الرزاق، يرزقهم وإياهم، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة، مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون. ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفاً على الضمير المجرور في (لَكُمْ) لأنه لا يعطف على الضمير المجرور. [(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)]. ذكر الخزائن تمثيل. والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "التخمير": قول النحويين: المفعول هو المجرور مع الجار سهوٌ، ألا ترى كيف أن الباء في: خرجت بزيد، بمنزلة الهمزة، وتثقيل الحشو في أخرجت وخرجت، فكما أنهما ليسا جزءاً من المفعول وإنما هما جزء من الفعل كذلك هاهنا، ولأن هذا الفعل المتعدي بحرف الجرن يُجعل مبنياً للمفعول، ولو لم يكن الجار جزءاً من الفعل لما جاز بناؤه للمفعول؛ لأن الفعل اللازم لا يُجعل مبنياً للمفعول، ولأن الجار هاهنا قد يُعدى به الفعل، فصار معه بمنزلة الفعل المتعدين وشيء من الفعل المتعدي لا يكون جزءاً من المفعول. قوله: (ويخطئون) جملة معترضة، أو: حال بحذف المبتدأ. قوله: (فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور) يعني: أن أصل الكلام: ما من شيء ينتفعً به العبادُ إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، فشبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء المهيأة المعدة، ليؤذن أن مقدوره كأنه حاصل موجودٌ،

[(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ)]. (لَواقِحَ) فيه قولان، أحدهما: أنّ الريح لا قح إذا جاءت بخير، من إنشاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو أقوى مما لو قيل: نحن قادرون على إيجاده وتكوينه، فيكون موقع قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) الآية كالتذييل للكلام السابق، إذا فُسر قوله: (مَوْزُونٍ) بأن كل شيء وُزن بميزان الحكمة، وقُدر بمقدار يقتضيه. وكالتكميل إذا فُسر بغير ذلك، قال القاضي: وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقةً وطبيعة، مع جواز أن لا يكون كذلك، على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك، ثُم ضرب الخزائن مثلاً لاقتداره. قوله: (أن الريح لاقح إذا جاءت بخير)، الجوهري: الأصل فيه ملقحة، ولكنها لا تُلقحُ إلا وهي في نفسها لاقحٌ، كأن الرياح لقحت بخير، فإذا أنشأت السحاب وفيها خير وصل ذلك إليه، وقال ابن جني: قالوا: ألقحت الريح السحاب وهي لاقح، هذا على حذف همزة أفعل، وإنما قياسه ملقح، كأنه خرج بحذف الزيادة تقديراً، وإن لم يخرج إلى اللفظ استعمالاً، كما قالوا: أبقل المكان فهو باقِل، وقال أيضاً: هو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب، فإنها إذا لقحت ألقحت غيرها. وقلتُ: لا يبعد أن يكون مجازاً باعتبار ما كان، فيكون الريح أولاً لاقحة ثم تصير ملقحة، فقيل: لاقحة وأريد ملقحة، كقوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) [النساء: 3]. قال أبو البقاء:

سحاب ماطر كما قيل التي لا تأتى بخير: ريح عقيم. والثاني: أن اللواقح بمعنى الملاقح، كما قال: وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ يريد المطاوح جمع مطيحة. وقرئ: وأرسلنا الريح، على تأويل الجنس (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فجعلناه لكم سقيا، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقحت الريح إذا حملت الماء، وألقحت الريح السحاب: إذا حملتها الماء، كما تقول: ألقح الفحل الأنثى فلقحت، وانتصابه على الحال المقدرة. قوله: (أن اللواقح بمعنى الملاقح)، الجوهري: الملاقح: الفحول، الواحد ملقح، والملاقح أيضاً: الإناث في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة، بفتح القاف، وقال أبو البقاء: أصلها ملاقح، لأنه يقال: ألقح الريح السحاب، كما يقال: ألقح الفحل الأنثى، أي: أحبلها، وحُذفت الميم لظهور المعنى، ومثله الطوائح، الأصل: المطاوح، لأنه من أطاح الشيء. الجوهري: طاح يطوح ويطيح: هلك وسقط، وطوحه: حيره وذهب به هاهنا وهاهنا، وطوحته الطائح: قذفته القواذف. قوله: (ومختبط مما تُطيح الطوائح)، أوله: ليبك يزيد؛ ضارع لخصومة القائل: الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد. ليبك يزيد: بُني مجهولاً، كأنه قيل: من يبكيه؟ فقال: ضارع، أي: ليبكه ضارع.

(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ كأنه قال): نحن الخازنون للماء، على معنى: نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها، وما أنتم عليه بقادرين: دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم. [(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَاجرِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)]. (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت، لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه «واجعله الوارث منا». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نفي عنهم ما أثبته لنفسه) في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)، هذا يؤذن أن قوله: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) عطف على قوله: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) عطف جبريل وميكائيل على ملائكته. قوله: (واجعله الوارث منا) عن الترمذي، عن ابن عمر، أنه قال: ما كان رسول الله صلى الله لعيه وسلم يقوم من مجلسه حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: "اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا ... " الحديث مختصر، وله ابتداء وانتهاء. النهاية: أراد بقاءها وقوتها عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقيين بعدها، والهاء في "واجعله" للإمتاع، ولذلك وحده.

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا) من استقدم ولادة وموتاً، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر. وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأجرين. وروى أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت (هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) باهر الحكمة واسع العلم، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب، وقد أحاط علماً بكل شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الأولين والآخرين): بيان على النشر، أي: لقد علمنا من استقدم منكم ولادة وموتاً ومن تأخر منكم ولادة وموتاً. قوله: (وروى أن امرأة حسناء) الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه والنسائي، عن ابن عباس. قوله: (أي: هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم، مع إفراط كثرتهم)، فيه إشعار بأنه اختار الوجه الأول في تفسير قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) لأن الكثرة التي تفوت الحصر ولا يحصيها إلا الله، إنما تحسن إذا قلنا: المراد من قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) الآية، من استقدم ولادة وموتاً ومن تأخر من الأولين والآخرين، ويؤيده السباق، وهو قوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ)، والسياق، وهو قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا

[(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)]. الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة. وقيل: هو تضعيف «صل» إذا أنتن. والحمأ: الطين الأسود المتغير. والمسنون: المصوّر، من سنة الوجه، وقيل: المصبوب المفرغ، أي: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. وقيل: المنتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين، ولا يكون إلا منتنا مِنْ حَمَإٍ صفة لصلصال، أي: خلقه من صلصال كائن (من حمإٍ) صفة لـ (صلصل)، أي: خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق (مَسْنُونٍ) بمعنى مصور، أن يكون صفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ) ودل على الحصر توسيط ضمير الفصل بين اسم "إنّ" وخبرها. قوله: (إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل - لما في "صليل" من حرف مد- وإن توهمت فيه ترجيعاً- أي: ترديداً - فهو صلصلة) لما في الصلصلة من ترديد وتكرير، رعاية لوجه المناسبة بين الاسم والمسمى. قوله: (المصور من سنة الوجه)، الجوهري: سُنة الوجه: صورته، قال ذو الرمة: تريك سُنة وجه غير مقرفة .. ملساء ليس بها خال ولا ندب والمسنون: المصور. قوله: (وحق (مَسْنُونٍ) بمعنى: مصور) أي: يكون صفة لـ (صَلْصَالٍ)، لأن الحمأ هو الطين، والطين هو الذي يقبل الصورة فيفرغ الحمأ ليصور منها التمثال ثم ييبس، فيصير

لـ (صلصال)، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر وَالْجَانَّ للجن كآدم للناس. وقيل: هو إبليس. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: (والجأن)، بالهمز مِنْ نارِ السَّمُومِ من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام. قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ. [(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ* قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صلصالاً، كأنه قيل: من صلصال مصور كائن من حمأ، ويُعلم منه أن المسنون إذا كان بمعنى المتصور، حقه أن يكون صفة لحمأ، لأن الحمأ هو المفرغ المصبوب لا الصلصال. قال أبو البقاء: (مِنْ حَمَإٍ) في موضع جر صفة لـ (صَلْصَالٍ)، أي: صلصال كائن من حمأ، ويجوز أن يكون بدلاً من (صَلْصَالٍ) بإعادة الجار. قوله: ((مِنْ نَارِ السَّمُومِ): من نار الحر الشديد النافذ في المسام)، قال القاضي في قوله تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المفردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي، وقوله: "من نارٍ": باعتبار الغالب، كقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) [فاطر: 11].

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ* لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)]. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) واذكر وقت قوله (سَوَّيْتُه) عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها. ومعنى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي): وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. واستثنى إبليس من الملائكة، لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب كقولك: رأيتهم إلا هنداً. (وأَبى) استئناف على تقدير قول قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما يحيا به فيه) المستتر في قوله: "يحيا"، والمجرور في "فيه" للبشر، وفي "به" لـ"ما"، أي معنى نفخ الروح: تحصيل شيء في قالب البشر يحيا بذلك الشيء البشر. قال القاضي (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) معناه: جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ: إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً، وإضافة الروح إلى نفسه للتشريف، كقوله: (نَاقَةَ اللَّهِ) [الشمس: 13]، و"بيت الله". وقال الواحدي: النفخ: إجراء الريح في الشيء، والروح: جسم رقيق يحيا به البدن، ولما أجرى الله الروح في بدن آدم على صفة إجراء الريح، كأنه قد نفخ الروح فيه. وقلت: رجع أقوالهم إلى أن قوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) على منوال قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) [النمل: 47] في أن لا قول ثم، بل هو تصور إيجاد الشيء وتحصيله من غير امتناع.

وقيل: معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع «أن» محذوف. وتقديره «مالك» في أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ بمعنى أىّ غرض لك في إبائك السجود. وأي داع لك إليه. اللام في لِأَسْجُدَ لتأكيد النفي. ومعناه: لا يصحّ منى وينافي حالي. ويستحيل أن أسجد لبشر رَجِيمٌ شيطان من الذين يرجمون بالشهب، أو مطرود من رحمة الله، لأن من يطرد يرجم بالحجارة. ومعناه: ملعون، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها. والضمير في مِنْها راجع إلى الجنة أو السماء، أو إلى جملة الملائكة. وضرب يوم الدين حداً للعنة، إما لأنه غاية يضربها الناس في كلامهم، كقوله ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود: 107] في التأبيد. وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه. (ويَوْمِ الدِّينِ)] الحجر: 35 [(ويَوْمِ يُبْعَثُونَ)] الحجر: 36 [(ويَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)] الحجر: 38 [في معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة البلاغة. وقيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت، لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وقيل: معناه: ولكن إبليس أبي)، عطفٌ على قوله: "واستثنى إبليس من الملائكة"، وأبي حينئذ: خبر "لكن"، وعلى الأول جملة مستأنفة كالتعليل عن امتناعه عن السجود. قوله: (لأن اللعن هو: الطرد) يريد أن "الرجيم" كناية تلويحية عن كونه ملعوناً؛ لأن الرجيم هو: المطرود؛ لأن من طرد يُرجم، والمطرود هو المعلون؛ لأن من لُعن طُرد. قوله: (في معنى واحد) أي: عُبرت بها عن معنى انتهاء المدة. قوله: (وقيل: إنما سأل الإنظار)، هذا وجه آخر، وفيه بيان اختلاف العبارات، فإن قوله: "لئلا يموت" يدل على أن ضرب هذه المدة إلى عند الحشر، وقوله: "إلى آخر أيام التكليف" يدل على أن المدة قبل الحشر، وقوله أولا: "إلى يوم الدين من غير أن يُعذب" يدل على أن المدة عند الحساب والجزاء، وهُو بعد الحشر.

(بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم. و «ما» مصدرية وجواب القسم (لَأُزَيِّنَنَّ) المعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم. ومعنى إغوائه إياه: تسبيبه لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به، ونحو قوله (بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ: قوله) (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في أنه إقسام، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله، وقد فرق الفقهاء بينهما. ويجوز أن لا يكون قسما، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (برئ من غيه ومن إرادته والرضا به). قوله: "من إرادته" مذهبه، و"الرضا به" مذهب أهل السنة. قوله: (وقد فرق الفقهاء بينهما) أي: بين الإقسام بصفة الله تعالى، وبين الإقسام بفعله، فقوله: " (فَبِعِزَّتِكَ) إقسام بالصفة، و (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) إقسام بالفعل". وفي "شرح الوافي": قال العراقيون: الحلف بصفات الذات، كالقدرة والعظمة والعزة والجلال والكبرياء، يمين، وبصفات الفعل، كالرحمة والسخط والغضب والرضا، ليس بيمين. وصفة الذات: ما لا يجوز أن يوصف بضده، وصفة الفعل ما يجوز أن يوصف بضده، فإنه تعالى يرضى بالإيمان، ولا يرضى بالكفر، ثم قال الشارح: والمذهب عندنا أن صفات الله لا هو ولا غيره، وكلها قديمة، فلا يستقيم الفرق، والأصح ما قلنا، لأن الأيمان مبنية على العرف، لأن اليمين إنما ينعقد للحمل أو المنع، وهذا إنما يكون بما يعتقد الحالف تعظيمه، وكل مؤمن يعتقد تعظيم الله وهو لجميع صفاته معظم، فصارت حرمة ذاته وصفاته حاملاً.

لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم (فِي الْأَرْضِ): في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف: 176]، أو أراد: أنى أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال حجة الإسلام: اليمين عبارة عن: تحقيق ما يحتمل المخالفة، بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. ثم اليمين تنقسم إلى: صريح وكناية، بالإضافة إلى أسماء الله تعالى، وهو على أربع مراتب. الأولى: أن يذكر اسماً لا يطلق إلا على الله تعالى في معرض التعظيم، كقوله: بالله والرحمن والخالق والرازق ... فهذا صريح. والثانية: أن يذكر اسماً مشتركاً يُطلق على الله وعلى غيره، كالعليم والحليم والرحيم والجبار والحق ... ، فهو كناية، إنما يصير يميناً بالقصد. والثالثة: أن يذكر ما يقبل التورية، وهو على وجهين، أحدهما: أن يكون من قبيل حق الله وحرمة الله وقدرته وعلمه، إذ قد يُراد بها حقوقه من العبادات وحرماته ومقدوره ومعلومه، وثانيهما: أن يكون من قبيل جلال الله وعظمته وكبريائه، ففيه طريقان، أحدهما: كالحلف بالله، وثانيهما: أنه كالحلف بالقدرة، إذ قد يقال: رأيت جلال الله، أي: آثار صنعته. والرابعة: ما لا يصير يميناً وإن نوى، وهو ما لا تعظيم فيه، نحو: الشيء والمربي والموجود، وإن أريد به الله. هذا خلاصة كلامه في "الوسيط". وفيه أن نحو: "بإغوائك"، ليس بيمين.

علىّ التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، ولأوقعن تزييني فيها، أى: لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها. ونحوه: يَجرَحْ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِى استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أي (هذا) طريق حق (عَلَيَّ) أن أراعيه؛ ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أراد: لأجعلن مكان التزيين) يريد أن تعدية (لأزَيِّنَنَّ) بـ "في" إما لإرادة الجهة السافلة بالأرض، وهي الدنيا، أو الأرض نفسها، فقاس تزيين أولاد آدم، وهم في الأرض، على تزيين أبيهم، وهو في السماء، وقطع بحصوله، فحلف بقوله: (لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ) و (وَلأغْوِيَنَّهُمْ) ومن ثم قال المصنف: "فأنا على تزيين أولاده في الأرض أقدر"، وإما لإرادة حقيقتها والتجوز في استعمال (في) بجعل الأرض مكاناً للتزيين، وظرفاً له على التوسع، فلا يخرج منها شيء منه، كقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [القصص: 179]، وإليه الإشارة بقوله: "ولأحدثنهم بأن الزينة في الدنيا وحدها" لا في الآخرة. قوله: (يجرح في عراقيبها نصلي) وصدره: وإن تعتذر بالمحل من ذي ضُروعها ... إلى الضيف الضمير في تعتذر: للناقة، والباء في "بالمحل": للتشبيه، يقال: اعتذر به، والمراد بـ"ذي ضُروعها" اللبن، "يجرح": متعد بنفسه، وقد عُدي بـ"في" لإجرائه مُجرى اللازم، نحو: فلان يُعطي ويمنع، ثم عومل به معاملة اللازم في تعديته بالجار للمبالغة، أي: ما أوقع الجرح في عراقيبها وأوجده فيها، ونحوه قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف: 15] أي: اجعل الصلاح مظروفاً لذريتي. قوله: (أي: (هذا) طريق حق (على) أن أراعيه) بناء على وجوب رعاية الأصلح،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... قال الإمام: إن الإخلاص طريق عليّ وإليَّ، أي: أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي، ومعناه: هذا صراط من مر عليه، فكأنه مر على رضواني وكرامتي، كما يقال: طريقك علي. وقيل: هذا صراط على تقريره، وهو مستقيم حق وصدق. وروى ابن جني عن أبي الحسن أنه قال: هو كقولك: الدلالة اليوم عليَّ. وقال صاحب "الفرائد": أي: دين الإسلام حق علي بيانه، فمن اختاره من عبادي ليس لك عليهم سلطان، ومن لم يختر فلك عليهم سلطان. وقال القاضي: والإشارة بقوله: (هذا) إلى ما تضمنه الاستثناء، وهو تخلص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص على معنى أنه طريق عليَّ يؤدي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج وضلال. وقال الزجاج: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي: على إرادتي وأمري أي: شأني. وقلت: هذا الذي يقتضيه النظمُ والعلمُ عند الله تعالى، فإن الإشارة بقوله: "هذا" إلى قول إبليس: (وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) أي: هذا هو الذي حكمت به وقدرت على عبادي، وهو حق وصدق. كقوله تعالى: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13]، وقوله صلوات الله عليه، على ما رواه الترمذي، عن عمرو بن العاص، أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يديه كتابان ... الحديث، ولهذا قرر قوله: بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ

وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم؛ لغوايته. وقرئ: (عليّ)، وهو من علو الشرف والفضل. (لَمَوْعِدُهُمْ) الضمير للغاوين. وقيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين. وقرئ: (جزء) بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الزهري: (جزّ)، بالتشديد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْغَاوِينَ) على طريقة القول بالموجب، وجعل ما جعله مستثنى منه: مستثنى، ليؤذن بأن المقصود الأولى نجاة المخلصين، كما أن مقصود اللعين أولاً الإغواء، وفيه أن اللعين استقل عباد الله المخلصين عدداً، حيث جعلهم مستثنى، وأن الله سبحانه وتعالى استكثرهم، اعتباراً وعدداً، حيث قلب القضية، ثم فرق ما لكل واحد من الفريقين بقوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)، ثم أمر حبيبه بالإنباء عن صفتي رحمته وغضبه بقوله: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ)، وفيه أن جانب الرحمة سابق، حيث وصف الثواب بالعظم، كما وصف العذاب بالألم، بل وصف ذاته الأقدس على سبيل التوكيد وتكرير الضمير وتعريف الخبر وإرداف "الغفور" بـ"الرحيم"، وكذا في قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) وإن لم يقل: وإنهم لفي جهنم، كما قال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) إشارة إلى المعنى، كل هذا يدل على أن المشار إليه ما قررناه، وأن سياق الآيات لبيان جريان المشيئة واستبداد الحكم، لا رعاية المصالح ووجوبها، لأن الكلام في بدو إنشاء الإنسان. قوله: (وقرئ (جُزْءٌ) بالتخفيف والتثقيل)، قال القاضي: قرأ أبو بكر: "جُز": بالتثقيل.

كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاى، كقولك: خبّ في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد، كقولهم: الرجل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. [(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ* لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)]. المتقى على الإطلاق: من يتقى ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه. وعن ابن عباس رضي الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المتقي على الإطلاق: من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نُهي عنه)، قال الإمام: قال جمهور المعتزلة: المتقون هم الذين اتقوا جميع المعاصي، لأنه اسم مدح، فلا يتناول إلا من يكون كذلك، وقال جمهور الصحابة والتابعين، وهو المنقول عن ابن عباس: المتقون هم الذين اتقوا الشرك بالله سبحانه وتعالى، والكفر به، وهذا هو الحق الصحيح؛ لأن المتقي هو الذي أتى بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضارب هو الذي أتى بالضرب مرة، وكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً كونه آتيا بجميع أنواع الضرب، فكذا هاهنا، ومن ثم ذهب المحققون إلى أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار، فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات لكل من اتقى عن شيء واحد، إلا أن الأمة مجتمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، ولأن الآية وردت عقيب قوله: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ)، فوجب أن يعتبر الإيمان فيه، لا يزاد قيد آخر؛ لأن التخصيص خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق. وقلت: قد سبق أن الناس فرقتان: المخلصون، والغاوون، وأن جهنم مقسومة سبعة أقسام كما جاء عن المفسرين أن الدركة الأولى للموحدين يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون،

عنهما: اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ادْخُلُوها على إرادة القول. وقرأ الحسن: (أدخلوها)، (بِسَلامٍ): سالمين، أو مسلما عليكم: تسلم عليكم الملائكة. الغل: الحقد الكامن في القلب، من انغل في جوفه وتغلغل، أي: إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم. وعن علىّ رضي الله عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وعن الحرث الأعور: كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له علىّ: مرحبا بك يا ابن أخي، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى: (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ) فقال له قائل: كلا، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ ! وقيل: معناه: طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التوادّ والتحاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذا لابد من تفسير المتقين في هذا المقام بمن يتميزون عن الغاوين؛ لئلا يختل النظم، وهو تفسير المصنف وإن لم يقصد به ذلك، لقوله: "المتقي على الإطلاق"، ولأن المتقين هم المخلصون المخصوصون في قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وأما إخراج العاصين من النار فيُعلم من نصوص أخر، لا من هذه الآية. وقوله: (وتغلغل)، الجوهري: تغلغل الماء في الشجر: إذا تخللها، الراغب: الغلل: الماء الجاري بين الشجر، وانغل بين الشجر: دخل فيه. قوله: (الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان) يعني: لما جرى بينهما يوم الجمل، وهي قصة مشهورة.

و (إِخْواناً) نصب على الحال. و (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) كذلك. وعن مجاهد: تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. [(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ *ونبئهم عن ضيف إبراهيم* إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون* قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم* قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون* قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين* قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)]. لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه (نَبِّئْ عِبادِي)؛ تقريراً لما ذكر، وتمكيناً له في النفوس. وعن ابن عباس رضى الله عنه: غفور لمن تاب، وعذابه لمن تاب، وعذابه لمن لم يتب. وعطف (وَنَبِّئْهُمْ) على (نبئ عبادي)، ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِخْوَاناً): نصب على الحال). قال أبو البقاء: هو حال من الضمير في قوله: (فِي جَنَّاتِ) أو من الفاعل في: (ادْخُلُوا) مقدرة، أو من الضمير في (آمِنِينَ). وقال القاضي: ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المضاف إليه، والعامل فيها معنى الإضافة، وكذا قوله: (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)، ويجوز أن يكونا صفتين لـ (إِخْوَاناً) أو حالين من ضميره؛ لأنه بمعنى متصافين، وأن يكون (مُتَقَابِلِينَ) حالاً من المستتر في (عَلَى سُرُرٍ). قوله: (وعطف (وَنَبِّئْهُمْ) على (نَبِّئْ عِبَادِي) ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة) يعني: لما اشتملت الآيتان على ذكر العذاب، عطف هذه القصة لتضمنها معنى العذاب عليهما على سبيل الاستطراد. ويُمكن أن يقال: إن الآيات السابقة لما اشتملت على

(سَلاماً) أي: نسلم عليك سلاماً، أو سلمت سلاماً، (وَجِلُونَ): خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت. وقرأ الحسن: (لا توجل)، بضم التاء، من أوجله يوجله؛ إذا أخافه. وقرئ: لا تأجل. ولا تواجل، من واجله بمعنى أوجله. وقرئ (نُبَشِّرُكَ) بفتح النون والتخفيف إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهى عن الوجل؛ أرادوا: أنك بمثابة الآمن المبشر؛ فلا توجل. يعنى: (أَبَشَّرْتُمُونِي) مع مس الكبر، بأن يولد لي! أي: أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر، (فَبِمَ تُبَشِّرُون) هي "ما" الاستفهامية دخلها معنى التعجب، كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني، أو أراد: أنكم تبشرونني بما هو غير متصوّر في العادة، فبأي شيء تبشرون، يعنى: لا تبشرونني في الحقيقة بشيء؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوعد والوعيد، وعُقبت بقوله: (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقوله: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) على الجمع ليكون تقريراً لما ذُكر وتمكيناً له في النفوس كما ذكر، كما فُصلت بقصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام، ليكون حكاية سلام الملائكة وبشارتهم بإسحاق وذكر الرحمة تفصيلاً لقوله: (أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقصة لوط ودمار قومه واستئصال شأفتهم تفصيلاً لقوله: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ). قوله: (وكان خوفه لامتناعهم من الأكل)، قال في "هود": قيل: كانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وألا خافوه، ويُقدر في هذا المقام بعد قولهم: (سَلاماً): قال سلامٌ، (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) [هود: 69 - 70]، وقال: (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) " إلى آخره، وقد سبق في "هود" تحقيقه. قوله: (وقرئ: "نبشرك"): حمزة. قوله: (أو أراد: إنكم تبشرونني)، قيل: على الأول: الاستفهام للتفخيم، وعلى هذا، للتحقير. وقلتُ: الظاهر أنه عليه السلام لما أدخل همزة الإنكار في قوله: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى

لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا يكون صلة لبشر، ويكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعنى: بأي طريقة تبشرونني بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة. وقوله (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ) يحتمل أن تكون الباء فيه صلة، أي: بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بطريقة هي حق؛ وهي قول الله ووعده، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وقرئ: (تبشرون)، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع، والأصل تبشرونني، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ) جاء باستفهام آخر، إما لبيان خرق العادة، وأنه أمر عجيب، أو لتقرير ذلك الإنكار، وأن تلك البشارة ليست ببشارة، وإليه الإشارة بقوله: "لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء". قوله: (وقرئ: (تُبَشِرُونَ) بفتح النون) قرأ نافع: "فبم تُبشرونِ" بكسر النون مخففة، وابن كثير بكسرها مشددة، والباقون: بفتحها. قال أبو علي في "الحجة": أراد: فبم تُبشرونني، فعدى الفعل إلى المضمر المنصوب؛ لأن المعنى عليه، فأثبت ما حذفه غيره من الكسرة التي تدل على الياء المحذوفة، وحذف النون الثانية؛ لأن التكرير بها وقع، ولم تُحذف الأولى التي هي علامة الرفع، والمصنف ذهب إلى أن المحذوف نونُ الجمع. وقال الإمام: أما الكسر والتشديد فتقديره: (تُبشرونني)، أدغمت نون الجمع في نون الإضافة، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع؛ استثقالاً لاجتماع المثلين. وقال أبو حاتم: حذف نافع الياء مع النون، وإسقاط الحرفين لا يجوز، وأجيب: بأن المحذوف حرف واحد، وهي النون التي هي علامة الرفع، على أن حذف الحرفين شائع،

وتبشرونِّ بإدغام نون الجمع في نون العماد. وقرئ: (من القنطين) من قنط يقنط، وقرئ: ومن يقنط، بالحركات الثلاث في النون، أراد: ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب، أو: إلا الكافرون، كقوله: (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف: 87]، يعنى: لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله. [(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ ءآلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)]. فإن قلت: قوله تعالى: (إِلَّا ءآلَ لُوطٍ) استثناء متصل أو منقطع؟ قلت: لا يخلو من من أن يكون استثناء من (قوم)؛ فيكون منقطعاً، لأنّ القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في (مجرمين)، فيكون متصلا، كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم، كما قال: (فَما وَجَدْنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: (وَلا تَكُ)، وأما فتح النون فعلى غير الإضافة، والنون علامة الرفع، وهي مفتوحة أبداً. قوله: ((وَمَنْ يَقْنَطُ) بالحركات الثلاث في النون): أبو عمرو والكسائي ويعقوب: بالكسر، والباقون: بالفتح، والضم: شاذ، قال ابن جني: وهي قراءة الأشهب. قوله: (وقرئ: "من القنطين")، قال ابن جني: قرأها الأعمش ويحيى وطلحة، وهو من: قنط يقنط، بكسر النون، و"القانطين" مِن: قنط، بفتحها. قوله: (استثناء من الضمير في (مُجْرِمِينَ)، فيكون متصلاً)، قال في "الانتصاف": جعله منقطعاً على الأول أولى وأمكنُ؛ لأن الاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في حُكمِ

فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات: 36]. فإن قلت: فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت: نعم، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً. ومعنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول، و (قَوْم) نكرة، فعوده إلى الضمير المعرفة متعذر، ولذلك قل أن يُستثنى من النكرة إلا في سياق النفي؛ لأنها تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، فلا يحسن: رأيت قوماً إلا زيداً، ويحسن: ما رأيت أحداً إلا زيداً. وقلت: ليس ما نحن بصدده من قبيل: رأيت قوماً إلا زيداً، بل من قبيل: رأيت قوماً أساءوا إلا زيداً، على أن قوماً في الآية قوم معروفون محصورون، وإن كان منكوراً، بدليل قوله تعالى في العنكبوت: (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [العنكبوت: 32]، فلو لم يكن آل لوط داخلين فيما سبق، لم يحسن منه أن يقال: (إِنَّ فِيهَا لُوطاً)، ولو لم يكونوا محصورين لم يقولوا: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا)، وهاهنا لما سأل الخليل عليه السلام عن الرسل: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أجابوا: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي: قومٍ معروفين، تعرفهم أنت، ونحن لا يخفى علينا ولا عليك شيء من أحوالهم. قوله: (وعلى أنهم أرسلوا) عطفٌ على محذوف عطف تفسير، كأنه قيل: إن آل لوط مُخرجون من حكم الإرسال، بناء على ما عُلم، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، وكذلك تقدير قوله: "وعلى أن الملائكة" أي: فهم داخلون في الإرسال، بناء على ما عُرف، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً.

إرسالهم إلى القوم المجرمين؛ كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمىّ، في أنه في معنى التعذيب والإهلاك، كأنه قيل: إنا أهلكنا قوما مجرمين، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، فلا يكون الإرسال مخلصا بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل. فإن قلت: فقوله: (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) بم يتعلق على الوجهين؟ قلت: إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر "لكنّ" في الاتصال بآل لوط، لأنّ المعنى. لكن آل لوط منجون، وإذا اتصل كان كلاما مستأنفاً، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم: فما حال آل لوط، فقالوا: إنا لمنجوهم. فإن قلت: فقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ممّ استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لَمُنَجُّوهُمْ وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثاً، إلا اثنتين، إلا واحدة. وفي قول المقرّ: لفلان علىّ عشرة دراهم، إلا ثلاثة، إلا درهما. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ (إِلَّا ءالَ لُوطٍ) متعلق ب (أرسلنا)، أو (بمجرمين). (وإِلَّا امْرَأَتَهُ) قد تعلق بـ (لمنجوهم)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد اختلف الحُكمان؛ لأن (إِلاَّ آلَ لُوطٍ) متعلق بـ (أَرْسَلْنَا) ... ، و (إِلاَّ امْرَأَتَهُ) قد تعلق بـ (لَمُنَجُّوهُمْ))، قال صاحب "التقريب": وقد يُتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك، فلا اختلاف إذ التقدير: إلا آل لوط لم نُهلكهم، فهو بمعنى (لَمُنَجُّوهُمْ). وجوابه: أن الاستثناء من الاستثناء شرطه أيضاً أن لا يتخلل لفظ بين الاستثناءين متعدد يصلح مستثنى منه، وههنا تخلل (إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ)، فلو قال: إلا آل لوط إلا امرأته، لجاز ذلك. وقلتُ: لا سيما أن قوله: (إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) على تقدير أن يكون الاستثناء متصلاً- جُملةٌ منقطعة عما قبلها على تقدير سؤال سائل، فيبعُدُ من البليغِ أن يجعلَ ما في حيزه متعلقاً بما قبله. وقال أبو البقاء: والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدأ،

فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم. فإن قلت: فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده- إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقولك: له عندي عشرة إلا أربعة إلا درهماً، فإن الدرهم مستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلا أربعة، أو: عشرة إلا ثلاثة. قوله: (وقرئ (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف والتثقيل)، بالتخفيف: حمزة والكسائي وأبو بكر. قوله: (ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم) أي: المعتزلة يقولون: إن معنى قوله: إن الله قدر على العباد: عَلِمَ، بدليل قوله في تفسير قوله تعالى: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: 71]: ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ، وتلك كناية معلوم، لا كناية مقدر ومراد، تعالى الله عن ذلك. والأصل: (قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ) فعلقه عن العمل باللام، ثُم جاء بـ (إنَّ). قال القاضي: ويجوز أن يكون (قَدَّرْنَا) مُجرى مَجرى قُلنا؛ لأن التقدير بمعنى القضاء قولٌ، وأصله جعلُ الشيء على مقدار غيره. وقال صاحب "الانتصاف": هذا من دفائن الزمخشري في الاعتزال في جحد القضاء والقدر، إذا المعتزلة يمنعون تعلق القدرة بالمعاصي، فالتقدير عندهم: هو العلمُ، لا الإرادة، ثم استدل على أن التقدير بمعنى العلم، بتعليق فعله. وفي كلامه شاهد على رده؛ لأن التضمين من شأنه أن يُبقي المعنى الأصلي مضافاً إليه المعنى الطارئ، فيفيدهما جميعاً.

أنفسهم، ولم يقولوا: قدّر الله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالتقدير: كما أفاد العلم الطارئ أفاد الإرادة أيضاً، على أن من الناس من جعل قوله تعالى: (قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ) من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة، وهو الظاهر؛ لأن القائل بالأول يحتاج إلى التأويل، كما قال الزمخشري: "إنه من باب قول خواص الملك"، لأنا إذا جعلنا (قَدَّرْنَا) بمعنى علمنا أنها من الغابرين فلا غرو في علم الملائكة ذلك بإخبار الله إياهم به، إنما يحتاج إلى التأويل من جعل قدرنا بمعنى قضينا، وجعله من قول الملائكة. الإنصاف: القول بأن التضمين يقتضي إرادة الفعلين: المضمن والمضمن فيه معاً مردود، فإنه يجوز أن يؤتى فيه بما يقتضيه أحدهما دون الآخر، فكأنه معمول أحدهما خاصة، ألا ترى إلى قوله: قد قتل الله زياداً عني ضمن "قتله" معنى: صرفه، وأتى بـ "عني" التي هي معمول "صرفه"، لا معمول "قتله". وقلت: هذا خطأ؛ لأن التقدير: قد صرف الله زياداً عني قتلاً، أو "قتل" مستعار للصرف على سبيل التبعية، والقرينة الجار. الراغب: الغابر: الماكث بعد مُضي ما معه، قال تعالى: (إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ)، يعني: قد طال أعمارهم. وقيل: فيمن بقي ولم يسر مع لوط. وقيل فيمن بقي في العذاب، ومنه الغبرة: البقية من اللبن في الضرع.

هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه. وقرئ: (قدرنا)، بالتخفيف. [(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)]. (مُنْكَرُونَ) أي: تنكركم نفسي وتنفر منكم، فأخاف أن تطرقوني بشرّ، بدليل قوله: (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون فيه ويكذبونك، (بِالْحَقِّ): باليقين من عذابهم، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الإخبار بنزوله بهم. وقرئ: فأسر، بقطع الهمزة ووصلها، من أسرى وسرى. وروى صاحب الإقليد: فسر، من السير والقطع في آخر الليل. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بدليل قوله: (بَلْ جِئْنَاكَ) يريد أن قوله: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) كناية عن أنكم قوم يخاف منكم الشر؛ لأن قوله: (َلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) كناية عن الفرح والتشفي، لأنه أضرب به عن الخوف، وذلك أن من ينكر شيئاً ينفر منه، وإنما ينفر منه إذا توهم شراً مخوفاً، وكذا قوله: (بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ): كناية عن العذاب؛ لأنهم كانوا يشكون نزوله، ونزوله عليهم سبب لتشفي لوط عن غيظه؛ لأنه كان يكابد منهم المشاق، كأنه قال: إنكم قوم يخاف منكم الشر، فقالوا مجاوبين: بل نحن ممن يُرجى منا الخير والفرح. قوله: (صاحب "الإقليد") هو تفسير لأبي الفتح الهمداني- بإسكان الميم-، منسوب إلى قبيلة من اليمن.

افْتَحِي الْبَابَ وَانْظُرِي في النُّجُومِ ... كَمْ عَلَيْنَا مِن قِطعِ لَيْلٍ بَهِيمِ وقيل: هو بعد ما يمضى شيء صالح من الليل. فإن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (افتحي الباب) البيت، كأنه طال عليه الليل، يُخاطب ضجيعته بذلك، أو كان يحب طول الليل للوصال. قوله: (شيء صالح من الليل) أي: قطعة طويلة منه، العرب تقول: مضى من عمري شيء، أي: مدة طويلة. قوله: (ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ ) يعني: كان يكفي في الهجرة أن يُقال: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) فما معنى التتميم بهذين القيدين؟ وخلاصة الجواب: أن تلك النجاة كانت نعمة من الله مطلوبة تستحق الإقامة بمواجب الشكر لها، وذلك الشكر لا يتم إلا بفراغ من البال من كل وجه فأمر باتباع أدبارهم لئلا يشتغل عن إدامة الشكل بسبب تعلق قلبه بمن خلفه، ونُهوا عن الالتفات، لئلا ترق قلوبهم إذا نظروا إلى ما ينزلُ على قومهم، فيشتغل قلبه عن إدامة الشُّكر. الانتصاف: اشتملت الآية مع وجازتها على آداب المسافرين في دين ودُنيا من أمير ومأمور، وتابع ومتبوع.

الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى إليه أخادعه، كما قال: تَلَفَّتُّ نَحْوَ الحَىّ حَتّي وَجَدتُنِي ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا أو جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف؛ لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قيل: هو مصر، وعدّى (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) تعديته إلى الظرف المبهم، لأن (حَيْثُ) مبهم في الأمكنة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقدم سربه)، النهاية: السربُ- بالكسر- والسربة: القطيع من الظباء والقطا والخيل ونحوها، ومن النساء على التشبيه بالظباء. قوله: (ويفوتُ به) فاتني بكذا: سبقني به، وذهب به عني. في "الأساس"، والضمير في "به" راجع إلى "السرب", قوله: (ويمضوا قُدماً) بضمتين، يقال: ومضى قُدماً: لم ينثن، ولم يُعرج. قوله: (تلفت نحو الحي) البيت، قال المرزوقي: يقول: أخذت مسيري لما أبصرت حال نفسي، وتأثير الصبابة فيها، ملتفتاً إلى ما خلفته من الحي، حتى وجدتُني وجع الليت، أي صفحة العنق، والأخدع، وهو عرق فيها، لطول إصغائي ودوام التفاتي كل ذلك تحسراً في أثر الفائت من أحبابي وديارهم، وتذكراً لطيب أوقاتي معهم فيها. قوله: (وُعدي (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) تعديته إلى الظرف المبهم) يعني: (حَيْثُ)

وكذلك الضمير في (تُؤْمَرُونَ). وعدى (وقَضَيْنا) بإلى؛ لأنه ضمن معنى: أوحينا، كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً. وفسر (ذلِكَ الْأَمْرَ) بقوله: (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ)، وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش: إن، بالكسر على الاستئناف، كأن قائلا قال: أخبرنا عن ذلك الأمر، فقال: إنّ دابر هؤلاء. وفي قراءة ابن مسعود: (وقلنا إنّ دابر هؤلاء). ودابرهم: آخرهم، يعنى: يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد. [(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قالُوا أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ * قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)]. (وجاء أَهْلُ الْمَدِينَة): ِ أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجو، مستبشرين بالملائكة (فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي، لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم (وَلاتُخْزُونِ): ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على تقدير النصب على الظرف لا يحتاج إلى (في)؛ لأنه مبهم، والظرف المبهم منصوب، والمؤقت حكمه حكم ما ليس بظرف، فيحتاج إلى (في)، وكذلك الضمير في (تُؤْمَرُونَ) مبهم، نُظر إلى تقديره، وهو راجع إلى حيث، ولو كان مؤقتاً لقيل: تؤمرون فيه. قوله: (يعني يستأصلون عن آخرهم)، الراغب: قطع دابرة الإنسان: إفناء نوعه. قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام: 45]. قوله: (أهل سدوم) في "تهذيب" الأزهري سذُوم بالذال المعجمة، وفي "الصحاح": بفتح السين والدال غير معجمة: قرية قوم لوط عليه السلام.

تذلونِ بإذلال ضيفي، من الخزي وهو الهوان. أو: ولا تشوّروا بي، من الخزاية؛ وهي الحياء. (عَنِ الْعالَمِينَ): عن أن تجير منهم أحداً، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهى عن المنكر، والحجر بينهم وبين المتعرّض له، فأوعدوه وقالوا: (لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين). وقيل: عن ضيافة الناس وإنزالهم، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط (هؤُلاءِ بَناتِي): إشارة إلى النساء؛ لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته، فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ، وخلوا بنىّ فلا تتعرضوا لهم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله، كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم (لَعَمْرُكَ) على إرادة القول، أى قالت الملائكة للوط عليه السلام: لعمرك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أى غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم، من ترك البنين إلى البنات (يَعْمَهُونَ): يتحيرون، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقسم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ولا تُشوروا بي)، الجوهري: شورت الرجل فتشور، أي: خجلته فتخجل. قوله: (وبين المتعرض له) الضمير في "له" عائد إلى اللام، لأنها موصولة. قوله: (إن كنتم تريدون قضاء الشهوة) عن المصنف: الأوجه أن يكون ذلك بناء على طريقتهم وحالهم في ركوب ما لا يحل لهم، كأنه قيل: إن كنتم ولابد راكبين ما لا يحل لكم، فعليكم بمحال المباشرة التي قد تعارفها الناس دون المنكر الذي لم تُسبقوا إليه. قوله: (وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال صاحب "الفرائد": لما أمكن الحمل على ما هو المفهوم من ظاهر الكلام وجب الحمل عليه، إذ التقدير بغير ضرورة لا يجوز، وإلا لم يبق للنقل اعتبارٌ أصلاً؛ لأنه ما من نقل إلا وأمكن التقدير فيه، فوجب الحمل على أنه تعالى أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم.

بحياته، وما أقسم بحياة أحد قط؛ كرامة له. والعمر والعمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح؛ لإيثار الأخف فيه؛ وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم؛ ولذلك حذفوا الخبر، وتقديره: لعمرك مما أقسم به، كما حذفوا الفعل في قولك: بالله. وقرئ: في (سكرهم) و (في سكراتهم). (الصَّيْحَة): ُ صيحة جبريل عليه السلام، (مُشْرِقِينَ) داخلين في الشروق؛ وهو بزوع الشمس. (منْ سِجِّيلٍ): قيل: من طين، عليه كتاب من السجل، ودليله قوله تعالى: (حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [الذاريات: 33 - 34]، أي: معلمة بكتاب. (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرّسين المتأملين. وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: أراد أن قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) إذا كان خطاباً للوط يجب أن يُقدر: قالت الملائكة: لعمرك. وإذا كان خطاباً لرسولنا صلى الله عليه وسلم لا يجب، ويكون جُملة معترضة للنعي عليهم، وتماديهم في ارتكاب تلك الفاحشة؛ لأن في عرض نبي الله لوط أفلاذ كبده على القوم، دليلاً على بلوغ الغاية في الأمر، وأنه بلغ السيل الزُّبى، وجاوز الحزامُ الطبيين، كأنه قيل: يا محمد، بحياتك أقسم، إنهم لفي سكرتهم يعمهون، مستمرون، فاستحضر تلك الحالة في مشاهدتك، وتعجب لها، يدلك عليه صيغة المضارع. وقال محي السنة: لعمرك يا محمد وحياتك، عن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله نفساً أكرم عليه من محمد صلوات الله عليه، وما أقسم بحياة احدٍ إلا حياته، وكذا عن الإمام. قوله: (المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء) كأنه حد المتفرسين، وهو

توسمت في فلان كذا، أى عرفت وسمه فيه. والضمير في (عالِيَها سافِلَها) لقرى قوم لوط. (وَإِنَّها): وإنّ هذه القرى، يعنى آثارها (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ): ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار، وهو تنبيه لقريش، كقوله: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) [الصافات: 137]. [(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)]. (أَصْحابُ الْأَيْكَة): ِ قوم شعيب. (وَإِنَّهُما): يعنى قرى قوم لوط والأيكة. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما، فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين؛ فجاء بضميرهما، (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ): لبطريق واضح، والإمام اسم لما يؤتم به، فسمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه؛ لأنها مما يؤتم به. [(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ * وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)]. (أَصْحابُ الْحِجْرِ): ثمود، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول مجاهد، قال السجاوندي: المتوسم: الذي يعلمُ باطن الشيء بسمة ظاهره، وروى الترمذي، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ). قوله: (ومطمر البناء)، الجوهري: المطمر: الزيج الذي يكون مع البنائين.

والحجر: واديهم، وهو بين المدينة والشام، (الْمُرْسَلِينَ): يعنى بتكذيبهم صالحاً؛ لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنهما كذبهم جميعاً، أو: أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين، كما قيل: الخبيبون؛ في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحجر واديهم)، الراغب: سُمي ما أحيط به الحجارة حجراً، وبه سُمي حجرُ الكعبة وديار ثمود. قوله: (لأن من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً)، يعني: التعريف في (الْمُرْسَلِينَ) للاستغراق، فهو هنا كناية؛ لأن الرسول: من أتى بكتاب بعد إظهار المعجزة، فكل من لم يصدق هذا المعنى ورده فقد أعم التكذيب والرد. قوله: (الخبيبون في ابن الزبير)، قال ابن عبد البر: كنيته أبو بكر، وله كنية أخرى: أبو خبيب. الجوهري: الخبخبة: رخاوة الشيء واضطرابه، وخبيب: اسم رجل، وهو: خبيب بن عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله يكنى بأبي خبيب، والخبيبان: عبد الله بن الزبير وابنه، وقيل: هو وأخوه مصعب، فمن روى: "الخبيبون"، على الجمع، يريد ثلاثتهم، قال ابن السكيت: يريد: أبا خُبيب ومن كان على رأيه. قوله: (وعن جابر) الحديث، رويناه عن البخاري ومسلم عن ابن عمر، مع تغيير يسير.

حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء"، ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها. (آمِنِينَ) لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه. (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد. [(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)]. (إلَّا بِالْحَقِّ): إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة، لا باطلا وعبثاً. أو: بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَة): ٌ وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك، (فَاصْفَحِ): فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلا بحلم وإغضاء. وقيل: هو منسوخ بآية السيف. ويجوز أن يراد به المخالقة فلا يكون منسوخاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا لذلك)، أي: للانتقام من الأعداء، وإعطاء الجزاء للأولياء، بيانُ الحصر هو: أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ) والحق: هو العدل والإنصاف، وهما إنما يستتبان بوجود جزاء المحسن والمسيء، وإن الدنيا ليست بدار جزاء، بل هي دار الابتلاء والتكليف، فلابد من يوم الدين ليصل إلى كل ذي حق حقه، كقوله تعالى: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس: 4]، ومثل هذه الآية قوله تعالى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف: 1 - 3].

[(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)]. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم، وهو (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجرى بينكم، وهو يحكم بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. إلى أن يكون السيف أصلح. وفي مصحف أبىّ وعثمان: إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير، والخلاق للكثير لا غير، كقولك: قطع الثياب، وقطع الثوب والثياب. [(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم): عطف على قوله: " (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ) الذي خلقك وخلقهم"، والوجهان مبنيان على تفسر (فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) لأنه كالتعليل له، فالوجه الأول مبني على أن الآية من باب المخالفة، وهي غير منسوخة. والثاني: على أنه من باب المداراة والاصطبار، هذا هو الظاهر؛ لأنه تعالى لما أتم الاقتصاص تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرشاداً له إلى الاكتساء بلباس الصبر اقتفاء بهم، أتى بخاتمة جامعة للتسلي، وهي الانتقام في العاقبة من أعدائه، وإيصال الجزاء إليه لحسناته، وللأمر بالمداراة والصبر على المكابرة، وجعلها تخلصاً إلى مشرع آخر، وهو قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي) الآيات، وفيه حديث الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا، وهو من أعظم أنواع الصبر. قوله: (كقولك: قطع الثياب)، قيل: فيه نظر؛ لأن باب التفعيل لا يختص بهذا، وشاهده الصيغة الموضوعة، كالنساج والقطاع، لأجل الحرف، وجوابه: أنه قد علم أن باب التفعيل إذا كان مما نُقل من أصل إليه أفاد بحسب المقام: إما المبالغة وإما التكثير، كما سبق في قوله تعالى: (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [الأنفال: 51]، وإذا كان موضوعاً كذلك - نحو: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) - لم يُفد ذلك، و (الْخَلاَّقُ) من قبيل الأول.

(سَبْعاً): سبع آيات وهي الفاتحة. أو: سبع سور؛ وهي الطوال، واختلف في السابعة فقيل: الأنفال وبراءة؛ لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية. وقيل: سورة يونس. وقيل: هي آل حم، أو سبع صحائف؛ وهي الأسباع. (والْمَثانِي) من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها، أو من الثناء؛ لاشتمالها على ما هو ثناء على الله، الواحدة: مثناة أو مثنية؛ صفة للآية. وأمّا السور أو الأسباع؛ فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء، كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. و (من) إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إدا أردت الأسباع. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني؛ لأنها تثني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي آل حم) عطف على قوله: "وهي الطول"، أي: السور المختصة بذكر حم في أوائلها، فإنهن جماعة: سُور اجتمعن اجتماع القرابات، ولأن الآل إنما يُستعمل في قرابات من له شأن ورفعة، كما يقول: آل محمد وآل إبراهيم، وقال تعالى: (مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ). قوله: (مُناة - ورُوي: "مَثناة" عن نسخة المصنف- أو مُثنية)، أي: المثاني واحدها: إما مَثناةٌ؛ موضع الشيء، أو مُثنية؛ اسم فاعل، والتأنيث لكونها صفة آية، فإن الآية إما أن تُتلى مكررة، أو هي مُثنية، كأنها تُثني على الله بصفاته الحسنى، على الإسناد المجازي، أو الاستعارة المكنية. قوله: (وأما السور) عطف من حيث المعنى على قوله: "لأن الفاتحة" مما تُكرر، والتقدير: أما الفاتحة فكذا، "وأما السور" فكذا، كقوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) [آل عمران: 7] بعد قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، كما سبق في موضعه. قوله: (وللبيان إذا أردت الأسباع) فلا يجوز على هذا البعضية كما جازت في الصورتين،

عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها. فإن قلت: كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عنى بالسبع للفاتحة أو الطوال، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف: 3] يعنى سورة يوسف؟ وإذا عنيت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين، وهو الثناء- أو التثنية- والعظم. [(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)] أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ): أصنافاً من الكفار. فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت: يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن القرآن في نفسه أسباع، قال الزجاج: دخلت "مِن" للتبعيض، أي: ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يُثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن العظيم، ويجوز أن تكون السبع هي المثاني، وأن تكون "مِن" للصفة، كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) [الحج: 30] أي: فاجتنبوا الأوثان. قوله: (ولقد آتيناك ما يُقال له: السبع المثاني والقرآن العظيم)، وهو كقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً) [الأنبياء: 48] أي: كتاباً جامعاً بين هذين الوصفين. قوله: (أصناف من الكفار) تفسير لقوله: (أَزْوَاجاً مِنْهُمْ). الراغب: الزوج يقال لكل من القرينين، من الذكر والأنثى، كالحيوانات المتزاوجة، وفي غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يُقرن بآخر مماثلاً له أو مضاداً، قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22].

قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة؛ وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به، ولا تمدّن عينيك إلى متاع الدنيا. ومنه الحديث "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن"، وحديث أبى بكر "من أوتى القرآن فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيما وعظم صغيراً". وقيل: وافت من بُصرى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم، قال تعالى: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) [الحجر: 88]، أي: أشباهاً وأقراناً. قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، قلت: هذا لا يصلح للاستشهاد، لما رويناه عن أبي داود، عن أبي لبابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، قال: فقلت لابن أبي مُليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع. النهاية: ويشهد له الحديث الآخر: "زينوا القرآن بأصواتكم"، وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء. قال في "الانتصاف": حمل كثير من العلماء الحديث على الغناء وقالوا: يُغني يبنى من الغناء الممدود، لا من الغنى المقصور، وإن فعله استغنى خاصة، وقد وجدتُ بناء "تغنى" من الغنى المقصور، ففي الحديث الصحيح: "وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنياً وتعففاً"، وإنما هو من الغنى المقصور، وهو مصدر "تغنى"، فدل على جواز استعماله في البناءين جميعاً. قال الجوهري: الغناء بالكسر: من السماع، والمقصور: اليسار، أي: استغنى وأغناه الله.

وأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم الله عز وعلا: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي: لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء، (وَقُلْ) لهم: (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم. [(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)]. فإن قلت: بم تعلق قوله: (كما أنزلنا)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بقوله: (ولقد آتيناك) [الحجر: 87]، أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون (الذين جعلوا القرآن عِضِينَ) حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعضوه. وقيل: كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن: ما يقرءونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعضوه) بفتح الضاد، أي: جعلوا القرآن أعضاء، أي: أجزاء، قيل: أمر الله أن يكونوا لرسول الله مُعزين فكانوا عليه عزين، وأن يجعلوا القرآن عظات، فجعلوه عضين. قوله: (وقيل: كانوا يستهزئون به) عطف على قوله: "قالوا بعنادهم وعُدوانهم".

وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم، وقولهم سحر وشعر وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني: أن يتعلق بقوله: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) [الحجر: 89]، أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين، يعنى اليهود، وهو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون (الذين جعلوا القرآن عضين) منصوباً (بالنذير)، أي: أنذر المعضين الذين يجزءون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين؛ وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين؛ لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، أجاب عن السؤال بوجهين: أحدهما: أن يتعلق (كَمَا أَنْزَلْنَا) بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً) والمقتسمون: اليهود والنصارى، وهم غما اقتسموا القرآن أجزاء استهزاء واقتسموا كتبهم تحريفاً فأقروا ببعض، وكذبوا ببعض، ومكان التسلية هذا الثاني، وذلك أن قريشاً لما جزأوا القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، قيل له صلى الله عليه وسلم: لا تحزن، ولا يكن في صدرك حرجٌ، وللقرآن أسوة بالتوراة والإنجيل، وإليه الإشارة بقوله: "وهذه تسلية" بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم بالقرآن بعنادهم وعداوتهم. قوله: (ويجوز أن يكون (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) منصوباً بـ (النَّذِيرُ) عطفٌ على قوله "وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين" لأنه على ذلك التقدير مجرور: صفة للمقتسمين، وعلى الأول النذير مطلق في المنذر والمنذر به، وعلى هذا المنذر: الذين جعلوا القرآن عضين، والمنذر به (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) وإليه الإشارة بقوله: "أنذر المعضين" وهو بفتح العين: جمع معض: اسم فاعل من: عضى الشاة؛ إذا جزأها.

منا فإنه ساحر، ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات، كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام، والاقتسام بمعنى التقاسم. فإن قلت: إذا علقت قوله: (كَما أَنْزَلْنا) بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْناكَ)] الحجر: 87 [، فما معنى توسط (لا تَمُدَّنَّ)] الحجر: 88 [إلى آخره، بينهما؟ قلت: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدد لمعنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن يبيتوا صالحاً)، وذلك في قوله تعالى: (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) [النمل: 49]، والقصة مذكورة في تفسير هذه الآية. قوله: (لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لما كان تشبيه إنزال السبع المثاني بإنزال الكتابين على المقتسمين من اليهود والنصارى على ما سبق تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قوله: (لا تَمُدَّنَّ) الآية تسلية مثلها، فلم يكن اعتراضاً تاماً، قال: "اعترض بما هو مددٌ لمعنى التسلية"؛ لأن الجملة المعترضة مؤكدة لمضمون المعترض فيه، وهذا مؤكد للازمه، وذلك أن التسلية إنما يصار إليها إذا وجد الحزن والكآبة من الشخص مما لا يلائمه، فكما يحصل ذلك من جهة المستهزئين الذين يجعلون القرآن عضين، كذلك يحصل من جهة الالتفات إلى ما مُتع به الكفار من زهرة الحياة الدنيا، وكما يُشغله الأول من أن يُقبل بمجامعه على المؤمنين كذلك الثاني، وإليه أشار بقوله: "ومن الأمر بأن يُقبل بمجامعه على المؤمنين". ويمكن أن يدخُل ذلك في حيز التشبيه، وأن يُقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ونهيناك عن أن تمد عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم، كذلك أنزلنا على أهل الكتاب الكتابين المعظمين، وقلنا لهم: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً)، فلا تكن مثلهم حيث أخلدوا إلى الأرض، ومالوا إلى حُطام الدنيا وزخرفها، وحرفوهما فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وهذا الوجه أحسن؛ لأن التشبيه تمثيلي، وكلما كان أكثر تفصيلاً كان أدخل في الحسن، وعلى هذا لا يكون تسلية، بل يكون من باب الإلهاب والتهييج، كقوله تعالى:

التسلية. من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين (عِضِينَ): أجزاء، جمع عضة، وأصلها: عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء. قال رؤبة: وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِي وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهته. وعن عكرمة: العضة السحر، بلغة قريش، يقولون للساحرة عاضهة. ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، نقصانها على الأوّل واو، وعلى الثاني هاء. [(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (لَنَسْئَلَنَّهُمْ) عبارة عن الوعيد. وقيل. يسألهم سؤال تقريع. وعن أبى العالية: يسأل العباد عن خلتين: عما كانوا يعبدون،وماذا أجابوا المرسلين. [(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) [يونس: 94] من المشركين، أو أن يخاطب صلوات الله وسلامه عليه، والمراد أمته، والله أعلم. قوله: ((عِضِينَ): أجزاء) قال الواحدي: (عِضِينَ): جمع عِضة، مثل: عزة وعزين، من عضيتُ الشيء: إذا فرقته، وكل فرقة عضة. قوله: (هي فعلة من عضهته)، قال السجاوندي: أو هو عضهة، كأصل "شفة": شفهة، أي: الكذب أو البهت أو السحر، مشتق من العضاه؛ لأنه يؤذين ويجرح كالشوك، وجمعُ صلامته عوض نقصان الواو والهاء، نحو: عزين وثبين. قوله: (وقيل: يسألهم سؤال تقريع) وعلى الأول، لم يُرد به السؤال، وإنما هو كناية عن مجرد الوعيد، كما تقول لمن تهدده: إنما تُسألُ عما تفعل، أي: نُجازيك به.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فاجهر به وأظهره. يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، كقولك: صرح بها، من الصديع وهو الفجر، والصدع في الزجاجة: الإبانة. وقيل: (فَاصْدَعْ) فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر، والمعنى: بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ، كقوله: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، أى بأمرك مصدر من المبنى للمفعول. [(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)]. عن عروة بن الزبير في المستهزئين: هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ماتوا كلهم قبل بدر. قال جبريل عليه السلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والصدع في الزجاجة)، الراغب: الصدع: الشق في الجسام، كالزجاجة والحديد، يقال: صدعته فانصدع، وصدعته فتصدع، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم: 43]، ومنه استعير: صدع الأمر، قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)، وكذا استعير منه: الصداع، وهو شبه الانشقاق في الرأس من الوجع، قال تعالى: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ) [الواقعة: 19]، ومنه: الصديع؛ للفجر، وصدعت الفلاة: قطعتها، وتصدع القوم: تفرقوا. قوله: (مصدر من المبني للمفعول)، أي: بمأموريتك، ومثله: (لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) [الحشر: 13] أي: مرهوبية. وقوله: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) [الروم: 1]، أي: مغلوبيتهم.

للنبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظماً لأخذه، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أحمص العاص بن وائل، فدخلت فيها شوكة، فقال: لدغت لدغت وانتفخت رجله، حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عينى الأسود بن المطلب، فعمى وأشار إلى أنف الحارث بن قيس، فامتخط قيحاً فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. [(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ)]. (بِما يَقُولُونَ) من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن (فَسَبِّحْ) فافزع فيما نابك إلى الله. والفزع إلى الله: هو الذكر الدائم وكثرة السجود، يكفك ويكشف عنك الغم. ودم على عبادة ربك (حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت، أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَسبح) فافزع فيما نابك إلى الله)، يريد أن قوله: (فَسُبْحَ) أمر بإزالة ما كان يلحقه من ضيق الصدر، وفي الحقيقة المزيل هو الفزع إلى الله تعالى، فوضع التسبيح موضع اللجأ، واللجأ إلى الخلق بالدخول في كنفه، واللحوق إلى خفارته، وإلى الله بالتضرع إليه بالذكر الدائم والخضوع بين يديه بالسجود المتوالي. قوله: (يكفك ويكشف عنك الغم): جواب الأمر، وهو (فَسُبْحَ). قوله: ((حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) أي: الموت، أي: ما دُمت حياً فلاتُخِل بالعبادة)، قال محيي السنة: هذا معنى قوله: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) [مريم: 31]. وقال الإمام: سُمي الموت يقيناً، لأنه أمر متيقن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقال الراغب: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علمُ يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، يقال: استيقن وأيقن. أما دلالة النظم عليه، فإن في عطف (وَاعْبُدُ) على (فَسَبِحْ) وترتيبه بالفاء، على قوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) بعد الأمر بالإعراض عن المشركين إشعاراً بمُتاركة القوم والإقناط من إيمانهم، أي: بذلت جُهدك واستفرغت ما في وُسعك من الإنذار والتبليغ، فأعرض عنهم، وفوض أمرهم إلى مقتضى قولنا: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) كما قال في حم: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 89] واشتغل بما هو مختص بك من العبادة حتى تختار جوار الرفيق الأعلى. وأما ما رواه السُّلمي عن الواسطي: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) لا تُلاحظ غيره في الأوقات (حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) فيتحقق عندك أنك لا تُحس بغير الحق، ولا ترى إلا الحق، ولا يجاذبك إلا الحق، فهو إشارة إلى الإرشاد إلى العروج في درجات العبودية والترقي إلى مقام رفع الحول والقوة إلا بالله كما ورد في الحديث القدسي: "ما يتقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، وإن استعاذني أعذته ... " الحديث، أخرجه البخاري عن أبي هريرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... ويمكن أن يُقال: إن قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) لما كان حكماً مرتباً على قوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) وفيه إرشاد إلى إزالة ذلك الضيق الذي هو نتيجة القلق والاضطراب لأجل النظر إلى الغير في ضيق عالم الشهادة بالأخذ بالتسبيح والعبادة المؤدي إلى حصول ثلج اليقين، وانشراح الصدر بسبب النظر إلى فُسحة عالم الغيب، وأن الكائنات تابعة لمراد الله ومقتضى مشيئته وحكمته، استقام إجراء اليقين على حقيقته، أي: اعبد ربك لكي يتحقق لك ذلك، فيزول عنك ذلك، وإلى هذا المعنى ينظر قوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 45]: انقطاعاً إليه واعتماداً عليه، (حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) بأن الأمر كله إلى الله، وهو متولي إضلال من ضل وهداية من هدى، وعن الواسطي: (حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) أنه لا غله يسوق إليك المكاره ويصرفها عنك إلا الله، ولا إله يسوق إليك المحاب ويصرفها عنك إلا هو. وبهذا انكشف أن عبادة الله هي العمدة العظمى، والمقصد الأقصى، وبها تُنال الدرجات العُليا، ولو أن أحداً استغنى عنها لكان أفضل الخلق أولى وأحرى، وكيف لا وما شرُف بما شرف به في أشرف مقاماته إلا بتشريف: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: 1]؟

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى السُّلمي عن ابن عطاء: لم يرض الله من نبيه صلى الله عليه وسلم لمحة عين إلا في عبادته. والله أعلم بأسرار كلامه.

سورة النحل

سورة النحل مكية، غير ثلاث آيات في آخرها وهي مئة وثمان وعشرون آية، وتسمى سورة النعم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)]. كانوا يستعجلون ما وعدوا به من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيباً بالوعد، فقيل لهم (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النحل وتسمى سورة النِّعَم مكية، وهي مئة وثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) أي: هو بمنزلة الآتي الواقع)، الراغب: الإتيان: مجيء بسهولة، ومنه قيل للسيل المار على وجهه: أتى وأتاوىٌّ، وبه شُبه الغريبُ، فقيل: أتاويٌّ، والإتيان: يُقال للمجيء بالذات وبالأمر وبالتدبير، ويقالُ في الخير والشر، وفي الأعيان والأعراض، قال تعالى: (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ) [الأنعام: 40] أي بالأمر والتدبير، وقال: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1].

كان منتظراً لقرب وقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) روى أنه لما نزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)] القمر: 1 [قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئاً، فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ)] الأنبياء: 1 [فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به، فنزلت أَتى (أَمْرُ اللَّهِ) فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا وقرئ: (تستعجلوه)، بالتاء والياء (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء. أو عن إشراكهم، على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية. فإن قلت: كيف اتصل هذا باستعجالهم؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضاً: والعجلة: طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهي من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة التنزيل، حتى قيل: العجلة من الشيطان، وقوله تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84] فذكر أن عجلته وإن كانت مذمومة فالذي دعا إليها أمرٌ محمود، وهو طلب رضي الله، وقوله تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]، قال بعضهم: من حمأٍ، وليس بشيء، بل ذلك تنبيه على أنه لا يتعرى من ذلك، وأن ذلك إحدى القوى التي رُكبَ عليها، وعلى ذلك قال: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11]، والعُجالة: ما يُعجل أكله، كاللهنة. وهي السُّفلة، وهي ما يتعلل به الإنسان قبل إدراك الطعام. قوله: (قرئ: (تَسْتَعْجِلُوهُ) بالتاء والياء)، بالتاء الفوقانية: هي المشهورة، وبالياء: شاذة. قوله: (عن أن يكون له شريك)، هذا على أن تكون "ما": موصولة، وقوله: "وأن تكون آلهتهم شركاء" عطفٌ على سبيل البيان، وقوله: "أو عن إشراكهم" على أن "ما" مصدرية.

لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب، وذلك من الشرك)، فـ"مِن" إما ابتدائية، فالمعنى: ذلك من أجل الشرك وبسببه، أو تبعيضية، أي: وذلك بعضُ الشرك، والمعنى على الوجهين هو: أن من استهزأ بوعد الله ووعيده، وكذبه فيما أثبت له العجز والقصور والاحتياج إلى الغير، أو أن أحداً يحجزه من إنجاز وعده وإمضاء وعيده، قال الإمام: قال الكفار: هب أنا سلمنا لك ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إلا أنا نعبدُ هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله، فتشفع لنا فنتخلص من العذاب، فأجاب الله تعالى بقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). وكذا لخص القاضي. وقلتُ: ويمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) عام يدل عليه ما رواه لما نزلت (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ) [القمر: 1] إلى قوله: فنزلت (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا. ورواه محيي السنة بتمامه، عن ابن عباس، كأنه يل: قرب وأتى أمر الله فلا تستعجلوه؛ لأن ما هو آتٍ، آتٍ، كما يُقال لمن يطلب الإغاثة، وقد قرب حصولها: جاءك الغوث، ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نعياً على المشركين خاصة إلى غيرهم واستبعاداً لسوء صنيعهم، يعني: ماذا يستعجل منه أولئك البُعداء مع هذه العظيمة التي ارتكبوها، كقوله تعالى: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) [يونس: 50]، فما أبعدهم من قوم، وما أجهلهم من جيل في إشراكهم بالله تعالى مع تعاضد الأدلة السمعية والعقلية في قلعه واستعجالهم فيما يُرديهم! . وإلى السمعية الإشارة بقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) [النحل: 2] الآية، أي: يُنزل الله تعالى ملائكته المقربين ملتبسين بوحيه وكلامه الذي هو بمنزلة الروح للجسد وبمثابة الحياة

وقرئ: (يُشْرِكُونَ)، بالتاء والياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للقلوب الميتة، ويختار لرسالته والإنذار بها الخيرة من عباده، والمصطفين من خلقه ليقيموا بالدعوة إلى التوحيد وبالأمر بالتقوى الذي هو ملاك الدين. وإلى العقلية الإشارة بقوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) [النحل: 3]، و (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ)، وهما من كلا نوعي الدليل: الآفاقي والأنفسي، وضُم إلى الأول ما ابتدئ به من قوله: (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقديراً، وإلى الثاني قوله: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) تقريعاً، أي: خصيم لربه مُنكرٌ على خالقه، وصفاً له بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة، ثم شرع في بيان النعم السابغة والآلاء المتتابعة إلى آخر السورة، ولذلك سُميت السورة بسورة النعم، وفي كل ذلك إشارة للمؤمنين إلى ترك الاستعجال والتأني في الأمور والاشتغال بالأهم والأخذ في الاستعداد، وتأهب الزاد ليوم المعاد، بالتزام التوحيد، والذكر الدائم، والاكتساء بلباس التقوى، وتقرير الدلائل للإرشاد، والتذكير بآلاء الله، شاكرين مستعصمين بحبله، مستمسكين بالعروة الوثقى. فإن قلت: ما موضع قوله: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ)؟ قلت: إما حال من واو (يُشْرِكُونَ) مقررة لجهة الإشكال، وإما استئناف لبيان الاستبعاد، وكذا قوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ). فإن قلت: فلم خولف بين العبارتين مستقبلاً وماضياً مع اتحاد المغزى؟ قلتُ: للإيذان بالاستمرار في الأول إنزالاً غب إنزال وإرسالاً بعد إرسال. والتحقيق في الثاني، والله أعلم. قوله: (وقرئ: (يُشْرِكُونَ)، بالياء والتاء)، حمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء، في الموضعين.

[(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) [. (يُنَزِّلُ) قرئ بالتخفيف والتشديد. وقرئ (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي تنزل (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه) ِ بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: الياء التحتانية على تلوين الخطاب، أو على الخطاب للمؤمنين، أو لهم ولغيرهم. قوله: ((يُنَزِّلُ) قرئ بالتخفيف والتشديد)، بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو. قوله: (بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه)، "مِن": بيان "ما"، تلخيصه: يُنزلُ الملائكة بالوحي، شبه الوحي تارة بالروح لما فيه من حياة الروح الميتة بالجهل، وأخرى بها لما يتزين به الدين كما تتزين الروح بالجسد، ثم أقيم المشبه به مقام المشبه، فصار استعارة تحقيقية مصرحة، والقرينة الصارفة عن رادة الحقيقة: إبدال (أَنْ أَنذِرُوا) من "الروح"، قيل: (مِنْ أَمْرِهِ) مخرجُ الاستعارة إلى التشبيه، كما في قوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: 187]. قلتُ: بينهما بونٌ بعيد؛ لأن نفس الفجر عين المشبه الذي شُبه بالخيطين، وليس مطلق الأمر هاهنا مشبهاً بالروح حتى يكون بياناً له؛ لأنه أمر عام بمعنى الشأن والحال، ولهذا يصح أن يُفسر الروح الحيواني به، كقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85] أي: من شأنه، ومما استأثر الله بعلمه، وأن يُفسر الروح المراد منه الوحي به، أي: من شأنه ومما أنزله على أنبيائه. نعم، هو مجاز أيضاً؛ لأن الأمر العام إذا أطلق على فرد من أفراده كان مجازاً، ومن ثم قال المصنف في قوله تعالى: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي) [غافر: 15]: الروح من أمره الذي هو سبب الحياة من أمره،

في الجسد، و (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح، أى ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره: بأنه أنذروا، أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن» مفسرة، لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول. ومعنى (أنذروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أعلموا بأنّ الأمر ذلك، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى: يقول لهم أعلموا الناس قولي (لا إله إلا أنا فَاتَّقُونِ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يريد الوحي الذي هو أمر بالخير، وبعث إليه، فاستعار له الروح. انتهى كلامه. فيكون البيان والمبين كلاهما مجازين مترادفين، ولما كان البيان والمبين كشيء واحد جمعهما في قوله: (الرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) الذي هو سبب الحياة، وأيضاً لو كان تشبيهاً لفُهم التشبيه على تقدير الوقف على أمره، والله أعلم. قوله: (بأن الشأن أقول لكم)، عن بعضهم: إنما زاد في التفسير "أقول" لأن الأمر لا يقع خبراً للمبتدأ، وهو الشأن. وقلت: يعني أن ضمير الشأن مبتدأ، و (أُنْذِرُوا): خبره، وهو إنشاء، فلابد من تقدير القول ليصح حملُ الإنشائي على المبتدأ، وأما تقدير "يقول" في الوجه الثاني، أي: يقول لهم الله: أعلموا الناس، فهو معنى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ)، لأنه حينئذ في تقدير القول، قال القاضي: الآية تدل على أن نزول الوحي بوساطة الملائكة، وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النبوة عطائية، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقدر على ذلك، فيلزم التمانع. قوله: (أعلموا بأن الأمر ذلك) إنما فسر الإنذار بالإعلام ليستقيم إيقاعه على قوله: (أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا)، كقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ).

[(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [. ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بدّ له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرئ: (يُشْرِكُونَ)، بالتاء والياء (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فيه معنيان، أحدهما: فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة، بعد ما كان نطفة من منىّ جماداً لا حس به ولا حركة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من خلق البهائم)، بيان ما يصلحه، و"خلقٌ" فيه مقحمٌ للتأكيد. قوله: (وقرئ: (يُشْرِكُونَ) بالياء التحتاني: حمزة والكسائي. قوله: ((فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ): فيه معنيان)، يعني: في ترتب (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) على كونه نطفة معنيان، أحدهما: الإيذان بانتهاء حالتي حقارته وعظمته، وإفراطه وتفريطه، وثانيهما: الإشعار بتعكيس أمره حيث إنه تعالى نقله من أخس أحواله إلى أشرفها ليشكر فكفر، كقوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82] وقلتُ: هذا المعنى مؤكد لما فسرنا به قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من قولنا: ما أجهلهم من جيل في إشراكهم بالله تعالى مع تعاضد الأدلة السمعية والعقلية في فعله.

دلالة على قدرته. والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: (مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ)] يس: 78 [، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة. وقيل نزلت في أبىّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ ! [(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَاكُلُونَ) [. الْأَنْعامَ: الأزواج الثمانية، وأكثر ما تقع على الإبل، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر، كقوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ)] يس: 39 [ويجوز أن يعطف على (الإنسان)] النحل: 4 [، أى: خلق الإنسان والأنعام، ثم قال (خَلَقَها لَكُمْ) أى ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. والدفء: اسم ما يدفأ به، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دلالة على قدرته)، نصبٌ؛ مفعول له لمقدر، أي: ذكر الله تعالى خلق الإنسان من نطفة وجعله خصيماً مبيناً دلالة على قدرته تعالى، وكذا قوله: "وصفاً للإنسان"، والفرق أن القصد الأولى في سوق الآية على الأول بيان قدرة الله الكاملة، وأنه تعالى خلق من الشيء الحقير هذا الخلق الخصيم، كقوله تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) إلى قوله: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات: 20 - 23]، وعلى الثاني: القصد إلى بيان وقاحة الإنسان وتعديه طوره، كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس: 87 - 88]، ويؤيد الأول قوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وقوله: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ)، والثاني قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وكذا قوله: (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، والثاني أوفق لتأليف النظم. قوله: (وأكثر ما تقع على الإبل)، "ما": مصدرية: أي: "الأنعامُ" أكثر وقوعها على الإبل. قوله: (ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم)، دل على الحصر لام الاختصاص في (لَّكُمْ)،

وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. وقرئ: (دفّ)، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء (وَمَنافِعُ) هي نسلها ودرّها وغير ذلك. فإن قلت: تقديم الظرف في قوله (وَمِنْها تَاكُلُونَ) مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجاري مجرى التفكه. ويحتمل أن طعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع فحوى الخطاب، ولذلك قال: "يا جنس الإنسان"، ويُمكن أن لا يُعلق (لَّكُمْ) بـ (خَلَقَهَا)، بل يكون خبر (دِفْءٌ) لتطابق قرينتها، وهي (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، فيحصل نوع من الاختصاص من تقديم الخبر، وأما تخصيص ذكر جنس الإنسان فلإفادة الالتفات، وهو الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وفائدة المكافحة: تتميم معنى الإنكار على كفران النعمة الذي يعطيه قوله: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). قوله: (من صوف أو وبر أو شعر)، أي: من الغنم أو الإبل أو المعز، والدف: آلة الدفء. قوله: (التفكه)، الأساس: ومن المجاز: تفكه بكذا: تلذذ به، وفاكهت القوم مفاكهة: طايبتهم. قوله: (ويحتمل أن طعمتكم منها)، فهو من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يُقال: ومنها ينتفعون، فيكون المجاز في "تأكلون"؛ لأن الكلام مع أرباب المواشي، وعلى الأول المجاز في الأنعام من إطلاق مُعظم الشيء على كله، وكل ذلك تعسف؛ لأن التقديم لمراعاة الفواصل، ويكون من عطف الخاص على العام؛ لأن الأكل أصل الانتفاع.

منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها. [(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)]. منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء - أنست أهلها وفرحت أربابها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الله تعالى بالتجمل بها)، الراغب: الجمال: الحسنُ الكثير، وذلك ضربان، أحدهما: جمال يختص به الإنسان في نفسه أو بدنه أو فعله، والثاني: ما يصل به منه إلى غيره، وعلى هذا الوجه ما روى: "إن الله جميل يحب الجمال"، تنبيهاً أنه منه تفيض الخيرات الكثيرة، فيحب من يختص بذلك، يقال: جاملت فلاناً وأجملت في ذا، والجمل يقال: للبعير إذا بزل، والجاملُ: قطعة من الإبل معها راعيها، وتسمية الجمل بذلك، يجوز أن يكون لما قد أشار إليه بقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ)؛ لأنهم كان يعدون ذلك جمالاً لهم. قوله: (وسرحوها بالغداة)، الراغب: السرح: شجر له ثمرة، الواحدة سرحة، وسرحت الإبل: إذا أرسلت أن ترعاه السرح، ثم جُعل لكل إرسال في الرعي، قال تعالى: (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، والسارح: الراعي، والتسريح في الطلاق: مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل. قوله: (الثغاء والرغاء)، الجوهري: الرغاء: صوت ذوات الخف، وقد رغا البعير يرغو رُغاء: إذا ضج، والثغاء: صوت الشاة والمعز وما شاكلها، وفي قوله: "وتجاوب فيه الثغاء والرغاء" معنى قول أبي العلاء:

وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)، (يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً)] الأعراف: 26 [. فإن قلت: لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأنّ الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملاء البطون حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة: (حينا تريحون وحينا تسرحون)، على أن (تُرِيحُونَ) و (تَسْرَحُونَ) وصف للحين. والمعنى: تريحون فيه وتسرحون فيه، كقوله تعالى (يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ)] لقمان: 23 [. [(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [. قرئ: (بِشِقِّ الأَنفُسِ)، بكسر الشين وفتحها. وقيل: هما لغتان في معنى المشقة، وبينهما فرق: وهو أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع. وأما الشق فالنصف، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت: ما معنى قوله: (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ)؟ كأنهم كانوا زمانا يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت: معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معان من أحبتنا معانُ ... يُجيب الصاهلات بها القيان وهو من باب التكميل، ولهذا قال: "وكسبتهم الجاه والحُرمة عند الناس، ومنه قوله: (لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) " جمع بين الانتفاع والزينة، كما جمع بين ستر العورة والزينة قوله تعالى: (يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) [الأعراف: 26]، لأن الريش: الجمال والزينة. قوله: (ملاء البطون)، الجوهري: والملء بالفتح: مصدر قولك: ملأت الإناء، فهو مملوء، والملء بالكسر: اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ، يقال: أعطى ملأه وملأيه، وضرعٌ حافل، أي: ممتلئ لبناً.

في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت: كيف طابق قوله: (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) قوله: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ)؟ وهلا قيل: لم تكونوا حامليها إليه؟ قلت: طباقه من حيث أن معناه: وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى: لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل: (أثقالكم) أجرامكم. وعن عكرمة: البلد مكة (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح. [(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم تكونوا بالغيه بها)، أي: بالأثقال، والباء فيه، ظرف لغوٍ للتعدية، وفي بشق الأنفس مستقر، قال أبو البقاء: (بِشِقِّ): في موضع الحال من الضمير المرفوع في (بَالِغِيهِ)، أي: مشقوقاً عليكم، وأما توجيه السؤال: كيف ناسب قوله: (لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ) قوله: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ)؛ لأن المناسب أن يقال: لم تكونوا حامليه، لأن الحمل شيء، والبلوغ شيء آخر؟ وأجاب: أن المناسبة بحسب المعنى، وهو على وجوه ثلاثة، أحدها: أن تجعل التنكير في (بَلَدٍ) للتفخيم والتكثير، أي: بلدٍ بعيدٍ شاسع، ليناسبه البلوغ، ويلزم منه الحديث في نفي الحمل بالطريق الأولى، كما قال: فضلاً أن تحملوا على ظهوركم. وثانيها: أن يُقدر في (بَالِغِيهِ) ما يعود إلى الأثقال. وثالثها: أن يُحمل الأثقال على الأجرام. قال في "الانتصاف": ويمكن أن يقال: إنه استغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها؛ لأن ذلك معلوم من العادة؛ لأن المسافر لا يستغني عن أثقال يستصحبها، والأول أولى.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على (الأنعام)] النحل: 5 [، أي: وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ): عطف على "الأنعام")، الراغب: الخيال أصله الصورة المجردة كالصورة المتصورة في المنام وفي المرآة، وفي القلب بعد غيبوبة المرئي، ثم يستعمل في صورة كل أمر متصور، وفي كل شخص دقيق يجري مجرى الخيال، والتخييل: تصوير خيال الشيء في النفس، والتخيل: تصور ذلك، وخلت: بمعنى ظننت، يقالُ اعتباراً بتصور خيال المظنون، ويقال: خيلت السماء: أبدت خيالاً للمطر، وفلانٌ مخيل بكذا أي: خليق، وحقيقته أنه مظهر خيال ذلك، والخيلاء: التكبر على تخيل فضيلة تراءت للإنسان في نفسه، ومنه الخيل لما قيل: إنه لا يركب أحدٌ فرساً إلا وجد في نفسه نخوة. قوله: (وقد احتج على حرمة أكل لحومهن)، قال الإمام: واحتج القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، ولو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر، وحيث لم يُذكر علمنا تحريمه، ولأنه تعالى قال في صفة الأنعام: (وَمِنْهَا تَاكُلُونَ)، والتقديم يفيد الحصر، ثم قرن بعده الخيل مع البغال والحمير، وذكر أنها مخلوقة للركوب والزينة، ولأن قوله: (لِتَرْكَبُوهَا) يقتضي أن يكون تمام المقصود من خلق هذه الأشياء هو الركوب والزينة، ولو حل أكلها لم يكن تمام المقصود من خلقها الركوب والزينة. وقال: أجاب الواحدي بجواب حسن، قال: لو دلت الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات، لكان هذا التحريم معلوماً في مكة، لأن السورة مكية، ولو كان كذلك، لكان قول عامة المفسرين والمحدثين: إن لحوم الحُمر الأهلية حرمت عام خيبر غير صحيح؛ لأن التحريم لما كان حاصلاً قبل يوم خيبر، لم يبق لتخصيصه بذلك اليوم فائدة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. ويعضده ما رُوينا عن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن المقداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا غني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتُم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا أكل ذي ناب من السباع"، والحديث صرح أن الحمار ما حُرم بالكتاب، بل بالسنة. وقال محي السنة: واحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس، وتلا هذه الآية فقال: هذه للركوب، وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة، وذهب جماعة إلى إباحتها، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير، وبه قال الشافعي واحمد وإسحاق، ومن أباحها قال: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، واحتجوا بما روى جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه، والتحقيق هذا. وبيانه: أنه سبحانه وتعالى لما نهى المشركين عن استعجال نزول العذاب استهزاء بقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) كأنه ما التفت إلى استهزائهم، وأخرج الكلام على الأسلوب الحكيم، أي: لم تستعجلون بنزول ما يُرديكم ويستأصلكم؟ فهلا تنتفعون بنزول ما يحييكم، وينجيكم منه، وهو هذا القرآن الذي هو بمثابة الروح لحياة القلوب الميتة، وهذا الرسول الكريم، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، يدعوكم إلى التوحيد والتقوى، ويبصركم الدلائل الدالة على وحدانيته لئلا تشركوا به شيئاً، وينبهكم على النعم السابغة التي توجب أن تشكروه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وتعبدوه من دلائل الآفاق والأنفس وما خلق لكم من الأنعام وغيرها لانتفاعكم بها بالأكل والركوب وجر الأثقال والزينة على ما ألفتم واتخذتم شعاراً لأنفسكم وافتخرتم بها؟ يدل عليه قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ). وأما الجواب عن قولهم: "لو كان أكل لحوم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر"، فقد أشار إليه القاضي بأن قال: لا دليل فيه، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد به غالباً أن لا يقصد منه غيره أصلاً، وأما الجواب عن الحصر بتقديم معمول (يَاكُلُونَ)، فهو النظر إلى رعاية الفواصل لا غير، كما سبق هذا، ولو فهم الصحابة رضوان الله عليهم من هذه الآيات غير ما هي عليه من بيان الامتنان، لم يكن فعلهم يوم خيبر رشيداً، على ما روينا في "صحيح البخاري"، عن البراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابوا حمراً فطبخوها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور. فإن قلت: لم لا يجوز أن يستنبط التحريم على طريقة إشارة النص؟ قلت: إشارة النص من الدلائل الدقيقة اللطفة المستخرجة من الأحكام، والكلام مسوق للامتنان كما سبق. نعم، فيه إشارة إلى جُل الغرض فيها، ومعظم الانتفاع منها ما ذكر من الركوب والزينة، وأما التحريم فلا، ولابد من دليل منفصل للتحريم والتحليل، والدليل من جانبنا، ولولا أن ورود الآية للامتنان بحسب ما ألفوا واعتادوا لم يذكر الزينة أصلاً، وكيف ذلك وقد ورد النهي عنها على ما روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة في حديث طويل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل ثلاثة: هي لرجل أجرن ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله"، وساق الحديث إلى قوله: "ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي لذلك الرجل ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء على أهل الإسلام، فهي على ذلك وزر" الحديث.

بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت: لم انتصب (وَزِينَةً)؟ قلت: لأنه مفعول له، وهو معطوف على محل (لتركبوها). فإن قلت: فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد؟ قلت: لأنّ الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ: (لتركبوها زينة)، بغير واو، أي: وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل (زينة) حالا منها، أي: وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما ذكره في الأنعام)، أي: في شأن الأنعام، وهو قوله تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ). قوله: (وأما الزينة ففعل الزائن، وهو الخالق)، يعني: يكفي في شرط حذف اللام أن يكون مصدراً وفعلاً لفاعل الفعل المعلل، وفيه دليل على أن المقارنة ليست بشرط، قال صاحب "التخمير": "المقارنة ليست بشرط، بدليل قوله: (وَزِينَةٌ) فـ"زينة" منصوب بمعنى اللام، ولم تكن موجودة وقت الخلق، فالمعنى: بالمقارنة أن لا يكون متقدماً، ولا بأس بالتأخر، نحو: شربت الدواء إصلاحاً للبدن، والإصلاح متأخر غير واقع عند الشرب". وقال السجاوندي في "شرح المفصل": ولابد من أن يكون المصدر واقعاً بعد الفعل. وقال صاحب "الانتصاف": والجواب القوي أن الركوب هو المقصود الأصلي من هذه الأشياء، والتزيين تابع، فاقترن المقصود باللام الصريحة؛ لأنه أهم الغرضين، وحُذفت من الزينة لأنها تبع، وكذا عن القاضي. قوله: (وخلقها زينة لتركبوها)، أي: خلق بمعنى: جعل، وزينة: ثاني مفعولية.

بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار، مما لم يبلغه وهم أحد، ولا خطر على قلبه. [(وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [. المراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال (وَمِنْها جائِرٌ). والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال: سبيل قصد وقاصد، أى: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أنّ هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه، كقوله (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى)] الليل: 12 [. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله (وَمِنْها جائِرٌ)؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك أضاف)، يعني: دلت الإضافة، وقوله: (وَمِنْهَا جَائِرٌ)، على أن المراد بالسبيل الجنس، وهو من إضافة الخاص إلى العام، ونحوه: خاتم الفضة، سحق الثوب، لأن السبيل إما مستقيم وهو المراد من القصد، وإما معوج وهو الجائر. وقال أبو البقاء: وقصد: مصدر بمعنى إقامة السبيل أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتيته. قوله: (كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك)، وهو من باب: طريق سائر ونهر جار. قوله: (ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل ... وعليه جائرها)، قال الإمام: أجاب أصحابنا عنه بأن المراد: على الله- بحسب الفضل والكرم- بيان الدين الحق، والمذهب الصحيح، فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فذاك غير واجب. وقلت: ويجوز أن يكون التقدير: على الله بيان استقامة الطريق بالآيات والبراهين على سبيل التفضل والكرم، وبيان اعوجاج الطريق، فمنها مستقيم كطريق الإسلام ليهتدوا بها،

(ومنكم جائر)، يعنى: ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) قسراً وإلجاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها جائرٌ كطريق سائر الأمم الضالة ليتجنبوا منها، فاختصر على تقدير اللف والنشر التقديري، وإضافة طريق الحق دون الجائر إلى الله تعالى على أسلوب قوله تعالى: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7]. وقوله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 80] ويعضد ما ذكرنا من أن على الله تمييز الطريقين وبيان السبيلين تفضلاً قول محيي السنة: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يعني: بيان طريق الهدى من الضلالة، فالقصد من السبيل: دين الإسلام، والجائر منها: اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر. قال في "الانتصاف": أين يذهب الزمخشري عن تتمتها: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)؟ لو كان بزعم القدرية لقال: فقد هديناكم أجمعين، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، ففسروها بالقسر والإلجاء وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأما المخالفة بين الأسلوبين، فلإقامة حجة الله على الخلق، وأنه بين السبيل القاصد والجائر، وهدى قوماً اختاروا الهدى، وأضل قوماً اختاروا الضلال، وقد عُلم أن للفعل اعتبارين، فإضافته على الله تعالى باعتبار خلقه له، وإضافته إلى العبد باعتبار اختياره له. قوله: (جائر جار عن القصد)، الراغب: الجار: من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايقة، ولما استعظم حق الجار شرعاً وعقلاً عُبر عن كل من يعظم حقه أو يستعظم حق غيره بالجار. قال تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) [النساء: 36] ويقال: استجرت فلاناً فأجارني، وقال: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) [الأنفال: 48]، وقال: (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ

[(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [. (لَكُمْ) متعلق (بأنزل)، أو ب (شراب)، خبراً له. والشراب ما يشرب (شَجَرٌ) يعنى الشجر الذي ترعاه المواشي. وفي حديث عكرمة: لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت. يعنى الكلأ (تُسِيمُونَ) من سامت الماشية إذا رعت، فهي سائمة، وأسامها صاحبها، وهو من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر بالرعي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88]، وباعتبار القرب، قيل: جار عن الطريق، ثُم جعل ذلك أصلاً في العدول عن كل حق، فبنى منه الجور. قال تعالى: (وَمِنْهَا جَائِرٌ) أي: عادل عن المحجة. قوله: (والشراب: ما يُشرب)، عن بعضهم: الشرب: تناول كل مائع، ماء كان أو غيره، والشريب: المشارب والشراب. قوله: (وفي حديث عكرمة: لا تأكلوا ثمن الشجر)، يعني: الكلأ، "النهاية": وفي الحديث: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" الكلأ: النبات، والعشب، سواء رطبه ويابسه، ومعناه: أن البئر تكون في البادية ويكون قريباً منه الكلأ، فإذا ورد عليها وارد، فغلب على مائها، ومنع من يأتي بعده من الاستقاء منها، فهو بمنعه الماء، مانع من الكلأ، لأنه متى ورد عليه رجل بإبله فأرعاها ذلك الكلأ، ثم لم يسقها، قتلها العطش، فالذي يمنع ماء البئر يمنع النبات القريب منه، وقال الزجاج: كل ما نبت من الأرض فهو شجر، قال الراجز: نعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر

علامات في الأرض. وقرئ: (ينبت)، بالياء والنون. فإن قلت: لم قيل (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)؟ قلت: لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة (يَتَفَكَّرُونَ) ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته. والآية: الدلالة الواضحة. وعن بعضهم: (ينبت)، بالتشديد. وقرأ أبىّ بن كعب: (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب)، بالرفع. [(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [. قرئت كلها بالنصب على: وجعل النجوم مسخرات. أو على أنّ معنى تسخيرها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يُنْبِتُ): بالياء والنون)، بالنون: أبو بكر. قوله: (لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة)، أي: إنما قيل: (مِنْ كُلِّ) بزيادة "مِنَ" التبعيضية ليدل على أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها. قوله: (بعض من كلها: للتذكرة)، أي: إذا رأوا ما في الجنة من الثمرات ذكروا ما في الدنيا ليعلموا التفاوت، كما ذكر في أول البقرة في قوله تعالى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) [البقرة: 25]. قوله: (على: وجعل النجوم مسخرات)، أي: يجعل ناصب النجوم مضمراً وهو جعل، ومسخرات: ثاني مفعوليه، والجملة معطوفة على جملة قوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)، ولا يجوز على هذا أن يُعطف على المنصوبات بـ (وَسَخَّرْ)، وهي (اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)؛ لأن (مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) حينئذ: حال من المذكورات، وقيل:

للناس: تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب (الليل والنهار) وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ: (والنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ)، بالرفع. وما قبله بالنصب، وقال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فجمع الآية. وذكر العقل، لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للفعل، فكان المعنى: سخر هذه الأشياء في حال كونها مسخرات بأمره، فهو خلق. نعم، يجوز أن يُستعار سخر لكم لقوله: نفعكم؛ لأن الغرض من تسخيرها النفع، فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له. قوله: (أنه سخرها أنواعاً من التسخير)، أي: جعل "مسخرات": مفعولاً مطلقاً، على تأويل مسخر بمعنى تسخير، ونما جمع لإرادة الأنواع. قوله: (وقرئ: (وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ) بالرفع، وما قبله بالنصب): ابن عامر: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" بالرفع في الأربعة، وحفص: برفع (وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ) فقط، والباقون: بالنصب، وقال القاضي: هذا على الابتداء والخبر، فيكون تعميماً للحكم بعد تخصيصه. قوله: (لأن الآثار العلوية أظهر دلالة)، أي من السفلية، يعني: حين ذكر الآثار

[(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [. (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) معطوف على (اللَّيْلَ والنَّهَارَ). يعنى: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيئات والمناظر. [(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [. (لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك، ووصفه بالطراوة، لأنّ الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السفلية أفرد الآية، وذكر التفكر، وحين ذكر العلوية جمعها، وذكر العقل، وذلك أن الآثار السفلية مخفية، فتحتاج إلى إمعان النظر، ودقة الفكر، والآثار العلوية تدرك في بدو العقل، وهي مع ذلك متشعبة، وفيها أنواع من الدلالات. قوله: (ووصفه بالطراوة، لأن الفساد يُسرع إليه فيسارع إلى أكله)، الراغب: طرياً: غضاً، من الطراء والطراوة، يقال: طريت كذا فطرى، ومنه: المطراة من الثياب، والإطراء: مدحٌ يجدد ذكره، وطرأ بالهمز: طلع. الانتصاف: وفيه إرشاد لأن يتناول طرياً، فقد قال الأطباء: أكله بعد ذهاب طراوته من أضر ما يكون.

ما بال الفقهاء قالوا: إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً، لم يخنث. والله تعالى سماه لحماً كما ترى؟ قلت: مبنى الإيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك، وإذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك، كان حقيقاً بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله: (إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)] الأنفال: 55 [، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث. (حِلْيَةً) هي اللؤلؤ والمرجان». والمراد بلبسهم: لبس نسائهم، لأنهنّ من جملتهم، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر: شق الماء بحيزومها. وعن الفراء: هو صوت جرى الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل: التجارة. [(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما بال الفقهاء) قيل: "ما" مبتدأ، و"بالُ": خبره، و"قالوا": حال من "الفقهاء"، لأنه في المعنى: فاعل، لأن قولك: ما بالك؟ معناه: ما تصنع؟ نحو: ما شأنك؟ قوله: (ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم)، الانتصاف: لله در مالك حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له [بالٌ] من مالها، وهو مقدار الثلث، فحقه فيه بالتجمل، وفي هذه الآية جعل حظ المرأة من زينتها للزوج، فجعل لباسها لباسه. قوله: (بحيزومها)، أي: السفينة، والحيزوم: وسط الصدر، وما يُضم عليه الحزام.

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب. والمائد: الذي يدار به إذا ركب البحر. قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أَحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة ممّ خلقت (وَأَنْهاراً) وجعل فيها أنهاراً، لأن (أَلْقى) فيه معنى: جعل. ألا ترى إلى قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً)] النبأ: 6 - 7 [؟ . (وَعَلاماتٍ) هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك. والمراد بالنجم: الجنس، كقولك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمائد الذي يُدار به)، أي: الشخص الذي يدور رأسه، "الأساس": والدهر بالإنسان دوار أي يدور بأحواله المختلفة، قال القاضي: إن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كالكرة بسيطة الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك، أو أن تتحرك بأدنى سبب، فلما خلق عليها الجبال تفاوتت جوانبها، وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها من الحركة. قوله: (لأن (أَلْقَى) فيه معنى: جعل)، يعني: لا يقالُ: ألقى فيها أنهاراً، لكن لما تضمن (أَلْقَى) معنى جعل، صح عطف (أَنْهَاراً) على (رَوَاسِيَ)، قلت: ويجوز أن يكون من باب قوله: علفتها تبناً وماءً بارداً أي: وأجرى فيها أنهاراً. قوله: (والمراد بالنجم: الجنس)، الراغب: أصل النجم: الكوكب الطالع، وجمعه نجوم، ونجم: طلع، نجماً ونجوماً، فصار النجم مرة اسماً ومرة مصدراً، ومنه شبه به طلوع النبات، والرأي، فقيل: نجم النبت والقرن، ونجم لي رأي نجماً ونجوماً، ونجم فلان على السلطان: صار عاصياً، ونجمت المال عليه: إذا وزعته، كأنك فرضت أن يدفع عند طلوع كل نجم

كثر الدرهم في أيدى الناس. وعن السدى: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدى. وقرأ الحسن: (وبالنجم)، بضمتين، وبضمة وسكون، وهو جمع نجم، كرهن ورهن، والسكون تخفيف. وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً. فإن قلت: قوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) مخرج عن سنن الخطاب، مقدم فيه (النَّجْمِ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصيباً، ثم صار متعارفاً في تقدير دفعه بأي شيء قدرت ذلك. قوله: (هو الثريا والفرقدان وبنات نعش)، الثريا: هي أنجم ستة منتظمة تشبه عنقود الكرم. والفرقدان: نجمان متوقدان من نجوم البنات، والجدي: نجم عند القطب تعرف به القبلة. المغرب: يقال: لكوكب القبلة: جديُ الفرقد، بفتح الجيم وسكون الدال، ومنه قول ابن المبارك في تحري القبلة: أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا. والمنجمون يسمونه جُديا، على التصغير، فرقاً بينه وبين البرج. قوله: (وقرأ الحسن)، بضمتين، قال ابن جني: قرأ الحسن: "وبالنُّجُم"، وقرأ يحيى: "وبالنُّجْم" بضم النون وسكون الجيم، النجم: جمع نجم، ومثله مما كسر من "فعل" على "فُعُل": سقف وسُقفٌ، ورهنٌ ورُهُنٌ، وإن شئت [قل: ] أراد النجوم فقصر الكلمة فحذف واوها، ومثله من المقصور من فعول: قول أبي بكر في أسُدٍ: إنه مقصور من أسودٍ، فصار أسُداً ثم أُسكن. قوله: ((وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) مخرج عن سنن الخطاب)، يعني: أن هذا التركيب مشتمل على خواص فن المعنى بالمسند إليه، أحدها: إن الآيات السابقة من لدن فاتحة السورة إلى هاهنا واردة على سنن الخطاب، فما بال هذه أخرجت عن الخطاب إلى الغيبة؟ وثانيها: فيه

مقحم فيه (هُمْ)، كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فمن المراد ب (هُمْ)؟ قلت: كأنه أراد قريشاً: كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم، والاعتبار ألزم لهم، فخصصوا. [(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)]. فإن قلت: (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) أريد به الأصنام، فلم جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟ قلت: فيه أوجه، أحدها: أنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم المجرور، وهو (وَبِالنَّجْمِ) على عامله، وهو (يَهْتَدُونَ)، وثالثها: توكيد التركيب بقوله: (هُمْ)، فدل تلون الخطاب على امتياز هؤلاء عن السابق ذكرهم، ودل تقديم (وَبِالنَّجْمِ) على اختصاص هؤلاء بالاهتداء بالنجم دون غيرها مما يُهتدى به، ودل التوكيد بإقحام (هُمْ) على اختصاصهم بهذه الهداية، دون غيرهم. وأجاب عن تلوين الخطاب بقوله: "كأنه أراد قريشاً"، وعن التوكيد بقوله: "كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم"، وعن التخصيص بقوله: "وكان لهم بذلك علمٌ لم يكن مثله لغيرهم". وقلت: ويمكن أن يُقال: إن قوله: "ألقى في الأرض سُبلاً" عام في أهل القرى والمدن والبوادي (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إما أن يتعلق بأول الآية أو بقوله: (سُبُلاً)، ويكون (لَعَلَّ) للتحقيق، وأما الاهتداء بالنجم فمختص بمن هو حاذق في سلوك البحر، والمهامه: البيدُ التي لا منار لها ولا سبيل، وتقديم (وَبِالنَّجْمِ) لأن معناه: وبالنجم خصوصاً لا بغيره يهتدون، أو لمراعاة الفواصل، وإقحام (هُمْ) لتقوي الحكم، والعدول إلى الغيبة للالتفات، والإيذان بأن هذا الاهتداء أغربُ من الأول، والمعرضُ عنه أدخلُ في الكفران، والفاء في "فكان الشكر": للسببية، وكذا في قوله: "فخصصوا".

العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)] النحل: 20 [والثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث: أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده، كقوله (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) يعنى أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا فإن قلت: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المشاكلة بينه وبين من يخلق)، يعني: جيء بـ"مَنْ" الذي هو مختص بأولي العلم للجماد الذي هو أصنام؛ لأنها مصحوبة مع ذكر من يخلق، كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40]. قوله: (لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يُعبدوا)، يريد أن الآيتين من باب المبالغة والإلزام بالطريق الأولى، لا لتصحيح العبودية للأصنام بحصول ما هو مفقود عنها موجود في الناس. الانتصاف: الزمخشري يجزم على أن العباد يخلقون أفعالهم، فالمراد ظهور التفاوت بينهم وبين من يخلق ومن لا يخلُقُ منهم، كالعاجزين والزمنى، حتى يثبت أن التفاوت بينهم وبين ما لا يخلق، كالأصنام، أولى. قوله: (هو إلزام للين عبدوا الأوثان)، وجهُ السؤال: أن المشركين ما شبهوا الخالق بالأصنام حتى ينكر عليهم بقوله: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)، وإنما شبهوا الأصنام بالخالق، فكان حق الإلزام أن يُقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ ووجه الجواب: أن وجه التشبيه إذا قوي بين الطرفين، أعني المشبه والمشبه به، يرجع التشبيه إلى التشابه، فيُقال:

فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ). [(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ)]. لا تُحْصُوها لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجه الخليفة كالقمر، والقمرُ كوجه الخليفة، والمشركون لما تعاملوا مع الأصنام بما ينبغي أن يُعامل به الإله الحق من تسميتها بالآلهة، والتوجه بالعبادة إليها، فلم يبق عندهم فرق بينها وبينه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، حصل التشابه، فقيل ما قيل، أو ذهب إلى التعكيس: لأن من حق المشبه أن يكون أحط من المشبه به فيما وقع فيه الشبه، فإذا قُلبَ انعكس مزيداً للتقريع والتجهيل. قوله: (اتبع ذلك)، أي: أتبع قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) ما عدد، أي: جميع ما عدد من أول السورة إلى هاهنا من النعم، فقوله: (ذَلِكَ): مفعول أول، وقوله: "ما عدد": مفعول ثانٍ، يعني: لما عدد النعم المتكاثرة، وأريد استيفاء جميع أقسامها، وأنواعها، وكانت مما لا تنحصر بحسب العباد، ختم بجامع يحتويها كلها تنبيهاً على أن وراء المذكورة مما لا يُعد، كقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ). قوله: ((إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث يتجاوز عن تقصيركم)، إلى آخره، فيه إشارة إلى أن التعليل بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) للتذييل، وفي قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) إشعارٌ بوجود تقصير في أداء شكر ما أولاهم من النعم، وذلك من مفهوم

ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) من أعمالكم، وهو وعيد. [(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)]. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) والآلهة الذين يدعوهم الكفار (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقرئ بالتاء. وقرئ: يدعون، على البناء للمفعول. نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب. ومعنى (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في (يُبْعَثُونَ) للداعين، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)، يعني: أن أنعام الله لا نهاية لها، فإذاً لا يقدر أحد أن يقوم بحقها، كما هو حقها، وهو يقتضي سلب تلك النعمة، وإنزال النقمة بدلها، (وَاللَّهُ غَفُورٌ) يتجاوز عن التقصير عاجلاً، (رَحِيمٌ) لا يقطع النعمة، لكن لابد أن يُجازيكم آجلاً على أعمالكم، لأنه يعلم (مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، وفيه إشعارٌ بأن تكليف ما لا يطاق جائز، لكن غير واقع من الله تعالى تكرماً وتفضلاً. قوله: (ومعنى: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) أنهم لو كانوا آلهة)، يعني: كان يكفي أن يُقال: هم أمواتٌ، فقرن بقوله: (غَيْرُ أَحْيَاءٍ) ليكون تعريضاً بالإله الحق في أنه حي لا يموت، فمن كان بعكسه لا يكون إلها. قوله: (وفيه دلالة)، أي: في قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) إدماج، يعني: أنه لابد من البعث، وأن البعث من لوازم التكليف، يعني: من شأن المعبود أن يُجازي عابده

بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها، (غير أحياء) يعنى أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة، كالنطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها، لأنّ شعور الجماد محال، فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه، ووجه ثالث: وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة، وكان ناس منهم يعبدونهم، وأنهم أموات: أي لا بدّ لهم من الموت، (غير أحياء): غير باقية حياتهم. (وما يشعرون): ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي كلفه على عبادته، وهو في الدنيا مفقود كما نشاهد في ظاهر الحال، فلابد من دار الجزاء وبعث الخلق للثواب والعقاب، ثم إذا كان كذلك، لابد للإله من العلم بالكائن الواجب، فنفى عنهم ذلك العلم لتنتفي إلهيتهم، وعليه قوله تعالى: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس: 3 - 4]. قوله: (ووجه آخر، وهو: أن يكون المعنى)، عطف على قوله: "نفي عنهم خصائص الإلهية". قوله: (وأنهم (أَمْوَاتٌ)، أي: لابد لهم من الموت، (غَيْرُ أَحْيَاءٍ): غير باقية حياتهم)، اعلم أن المؤلف حين أثبت الموت للأصنام، وكانت جمادات أول توكيده بقوله تعالى: (غَيْرُ أَحْيَاءٍ) بقوله: "أنه غير جائز عليها الحياة"، تنبيهاً على أنها أقل من الحيوان ودون النامي، لجواز إثبات الحياة لهما حقيقة ومجازاً، وحين أثبته للملائكة وجعله مجازاً باعتبار ما يؤول، أكده بما يناسبه من قوله: "غير باقية حياتهم"، كقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30].

[(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)]. (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يعنى أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها: استمرارهم على شركهم، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني أنه قد ثبت بما تقدم)، فاعل "ثبت" ضمير يرجع إلى قوله تعالى: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ): يريد أن قوله: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فذلكة لما سبق وإعادة للمدعي مجملاً بعد إقامة الحجة عليها مُفصلان المعنى: قد ثبت بالدلائل الدالة على أن الإلهية مختصة بالله تعالى، وأنه واحد متفرد بالألوهية، وهو المعبود الحق، وإذا كان كذلك، فمن حقه أن يختص بالعبادة، وان لا تنكر إلهيته، وهؤلاء عكسوا واستمروا على شركهم وقلوبهم منكرة للوحدانية، فقوله: "أنه قد ثبت بما تقدم" إلى آخر قوله: "وعن الإقرار بها" تفسيرٌ لقوله تعالى: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ)، فالفاء في قوله: "فكان من نتيجة" هي الفاء في قوله: (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)، ومجاز هذه الفاء، كمجاز اللام في قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8]. قوله: (وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها)، الراغب: الكبر والتكبر والاستكبار والكبرياء متقارب، فالكبر: الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم التكبرِ التكبرُ على الله بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة. ويقال: التكبر على وجهين، أحدهما: أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصفُ الله بالمتكبر، فهو محمود، يؤيده قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف: 146]. وثانيهما: أن يكون متكلفاً لذلك متشبعاً، وذلك في وصف عامة الناس، في قوله تعالى: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى

وعيد (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعنى المشركين. ويجوز أن يعمّ كل مستكبر، ويدخل هؤلاء تحت عمومه. [(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل: 29]. والاستكبار يقال على وجهين: أحدهما: أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً، وذلك متى كان على ما يجب وفي مكان يجب وفي زمان يجب فمحمود، والثاني: أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له، وهو مذموم، وعليه قوله تعالى: (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة: 34] ن وقال: (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف: 146]، وقال تعالى: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [يونس: 75]، نبه بقوله: (فَاسْتَكْبَرُوا) على إعجابهم بأنفسهم وتعظمهم عن الإصغاء إليه، ونبه بقوله: (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116] أن الذي حملهم عليه هو ما قدموا من جُرمهم، وأن ذلك كان دأبهم. والكبرياء: الترفع عن الانقياد، وذلك لا يستحقه غير الله، قال تعالى: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الجاثية: 37]. قوله: (ويجوز أن يعم كل مستكبر)، يعني: أن قوله: (الْمُسْتَكْبِرِينَ) إما من وضع المظهر موضع ضمير المشركين، ويُراد بالاستكبار: الاستكبار عن التوحيد فقط، لقرائن المقام، والمراد منه من عرف الحق أياً كان واستكبر، وتعرف النعمة فغمط وكفر، فيكون من المستكبرين مطلقاً، على منوال: فلان يُعطي ويمنع، ويدخل في هذا العام من سيق له الكلام دخولاً أولياً.

(ماذا) منصوب (بأنزل)، بمعنى: أى شيء (أَنْزَلَ رَبُّكُمْ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مَاذَا): منصوب بـ (أَنزَلَ)، بمعنى: أي شيء (أَنزَلَ)؟ )، قال صاحب "الفرائد": الوجه أن يكون مرفوعاً بالابتداء، بدليل قوله: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) بالرفع؛ لأن جواب المرفوع مرفوع، وجواب المنصوب منصوبٌ، ولم يقرأ أحد: "أساطير الأولين" بالنصب. وقال صاحب "التقريب": في كلام المصنف نظر، إذ لا مقتضى للتقدير في أحدهما بما فيه صورة فعل، وهو ما (يَدْعُونَ) وفي الآخر: "بالمنزل". وأيضاً، لم خالف بين لفظي الدعوى والإنزال في التقديرين مع انه حمل الإنزال على السخرية؟ ويُمكن أن يجاب عن الأول بأن الرفع أدل على ثبات الإنزال من النصب؛ لأنه جملة اسمية، فقال فيه: "المُنزل (أَسَاطِيرُ) "، وفي النصب: "ما يدعون أساطير"، أو أن (أَنزَلَ) في النصب باقٍ على فعليته فيقتضي في الجواب فعلاً، ولم يمكن مطابقة الجواب السؤال مطلقاً؛ لأن أساطير مرفوع، فأتى بما فيه صورة فعل على الجملة، وهو "ما يدعون"، "و (أَنزَلَ) في الرفع مقدرٌ بمفرد؛ لأنه خبر، أي: أي شيء المنزل؟ فأتى في الجواب بما يُجانسه، فقال: "المنزلُ: أساطير الأولين". تم كلامه. وقلت: مدار المطابقة بين السؤال والجواب على موافقة السائل المجيب ومخالفته، كما ذكره المصنف بعيد هذا في قوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً)، إنما نصب هذا ورفع الأول للفصل بين جواب المُقر وجواب الجاحد، فالمجيب بقوله: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) هاهنا: المشركون قطعاً، وأما السائل فيحتمل أن يكون أيضاً منهم، كما قال: "وهو كلامُ بعضهم لبعض"، وأن يكون من المسلمين أو الوافدين كما صرح بهما، والمجيب في تلك الآية ليس إلا المسلمون، فلذلك طابقوا في الجواب، فههنا على الأول، وهو أن يكون كلام بعضهم لبعض المطابقة اللازمة، فالوجه الرفع، وأن يجاب بقوله: "المنزلُ: أساطيرُ" فيردُ عليه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... السؤال الذي ذكره، وأجاب: أنه من باب السخرية، وعلى الثاني والثالث: الموافقة بين السائل والمجيب مفقودة، فيجب الاختلاف، وهو ما قدره: "ما تدعون نزوله أساطير الأولين"، فلا يردُ عليه السؤال، ولهذا قال القاضي: وإنما سموه منزلاً على التهكم أو على الفرض، أي: على تقدير أنه منزل، فهو أساطير الأولين، لا تحقيق فيه. وتمام التحقيق في المسألة ما ذكره ابن الحاجب، قال: وذكر- أي: الزمخشري- في ماذا صنعت؟ وجهين، وقال: جواب أحدهما بالرفع والآخر بالنصب على ما ذكر، وهذا على سبيل الاختيار، وإلا فالوجهان، ثُم المناسب في النصب أن يُقدر الفعل المذكور فينصب به، وفي الرفع أن يقدر مبتدأ على حسب المعنى، ليطابق الجواب السؤال، وهذا كله إذا كان المجيب موافقاً للسؤال في أحد جزأيه فيحذفه ويستغني بدلالة كلام السائل عليه، مثل قوله: ما كتبت؟ وهو قد كتب، فيقول: مصحفاً أو شبهه، فأما إذا لم يكن موافقاً له في الفعل تعذر تقديره لإخلاله بالمعنى، إذ يُفهم منه الإثبات، وهو غير مريد له، كما إذا قال له، وقد سمع صوتاً نه ضرباً منه، فيقول: من ضرب؟ فيقول له القائل: هو صوت مناد، فالنصب هاهنا لا يستقيم؛ لأنه قاصد نفيه في المعنى مثبت لغيره، فهو يفسد المعنى، ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، فلو نصب هاهنا لم يستقم؛ لأنهم ليسوا مقرين بإنزال من الله، متعلق بـ"أساطير الأولين"، بل منكرون الإنزال من الله مطلقاً، وقولهم: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ): في المعنى الإنزال، أي: هذا الذي تقول: إنه إنزال هو أساطير الأولين، فيفسد تقدير الفعل على هذا. وقلت: ولهذا الأمر لما جعله من كلام بعضهم لبعض وطابق الجواب السؤال، قال: هو على السخرية، ويجوز ان يقال: هو من أسلوب القول بالموجب على التهكم، كأنهم لما

أو مرفوع بالابتداء، بمعنى: أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِين) ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين، وإذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين، كقوله (ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219] فيمن رفع. فإن قلت: هو كلام متناقض، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت: هو على السخرية كقوله: إنّ رسولكم وهو كلام بعضهم لبعض، أو قول المسلمين لهم. وقيل: هو قول المقتسمين: الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا أَحاديث الأوّلين وأباطيلهم (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) أي قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا أوزار ضلالهم (كامِلَةً) وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضلّ والضال شريكان: هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سألوا: (مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) أجابوا: المنزل أساطير الأولين، أي: هو منزل، لكن أساطير، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 61]. قوله: (لأن المضل والضال شريكان)، تعليل لحمل المضل بعض أوزار الضال، الذي هو سبب فيه، كأن ما يعمله الضال مشترك بينه وبين المضل، وهما متحاملان الوزر، وإليه ينظر قوله تعالى: (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) [الأنعام: 128]، فإن استمتاع الناس بالجن: دلالتهم إياهم على استيفاء اللذات والتمتع بالشهوات، واستمتاع الجن بالإنس: اعترافهم بكونهم رؤساء متبوعين، وإليه أشار بقوله: "هذا يُضله وهذا يطاوعه"، وأما قوله: "وبعض أوزار من ضل بضلالهم" فمبنيٌّ على أن "مِن" في قوله تعالى: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ): تبعيض، وأن المضل غير حاملٍ كل أوزار الضال، وهذا غير مخالف لما روينا عن مسلم ومالك وأبي داود والترمذي، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك

فيتحاملان الوزر. ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً، كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر (بِغَيْرِ عِلْمٍ حال) من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من آثامهم شيئاً"؛ لأن المراد ببعض أوزار من ضل: الذي تسبب المضل فيه، وكذلك الآثام في الحديث، وذهب أبو البقاء إلى أن "مِن": زائدة، على مذهب الأخفش. قوله: (خرجت من البلد مخافة الشر)، ويجوز أن يكون اللام للصيرورة، قال القاضي: قالوا ذلك إضلالاً للناس، فحملوا أوزار ضلالهم كاملة، فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال، فعلى هذا اللام للصيرورة، كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) [القصص: 8]، ويجوز أن يكون لام الأمر الذي هو للغيبة. قوله: (وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه)، أي: إنما نسب التابع إلى الضلال في قوله: (الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ)، وأضيف الأوزار إليهم في قوله: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) أي: من أوزار الضالين، والحال أنهم غير عالمين بذلك لتقصيرهم، والواحدي جعل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حالاً من الفاعل، حيث قال: إنهم يفعلون ذلك جهلاً منهم بما كانوا يكسبون، ومثل أوزار من تبعهم، ثم ذم صنيعهم فقال: (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ). ويمكن أن يُجعل حالاً منهما، كما قال ابن جني في قوله تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا

[(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ* ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ) عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)]. القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس وهذا تمثيل، يعنى: أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَحْمِلُهُ) [مريم: 27]: (تَحْمِلُهُ): يجوز أن يكون حالاً من كل واحد منهما، ومنهما معاً. وهذا أنسب لاقتضاء المقام، ثم قول الواحدي أنسب منهما؛ لأن التذييل بقوله: (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) لا يحسن إلا على ذلك التقدير، وكذلك قوله: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وتعقيبه بقوله: (وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)، لأن الكلام وارد في ذم المشركين الذين اقتسموا مداخل مكة يضلون الوافدين والمسلمين، فتجب المبالغة في ذمهم وتجهيلهم. قوله: (منصوبات)، قال المصنف: المنصوبة الحيلة، يقال: سوى فلان منصوبه، وفي الأصل صفة للشبكة أو الحبالة، فجرت مجرى الأسماء كالدابة والعجوز، وفي الكلام حذف، أي: هذا تمثيل حالهم في أنهم سووا منصوبات ليمكروا الله، فجعل الله هلاكهم فيها، كحال قوم بنوا، إلى آخره، وهو استعارة تمثيلية؛ لأن التشبيه إنما وقع في الحال والأمور المنتزعة، وعلى هذا كان من الواجب فيه مراعاة مفردات المعاني من الجانبين، وعلى ما قرره أخل

كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين «فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقيل: هو نمرود بن كنعان حين بني الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا. ومعنى إتيان الله: إتيان أمره. (مِنَ الْقَواعِدِ) من جهة القواعد. (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون. وقرئ: فأتى الله بيتهم. فخرّ عليهم السقف، بضمتين يُخْزِيهِمْ بذلهم بعذاب الخزي (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران: 192]، يعني: هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة (شُرَكائِيَ) على الإضافة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في المشبه به معنى في المشبه؛ لأن من بنى بُنياناً وعمده بالأساطين، لا يعمد فيه المكر كمن يسوى المنصوبات. نعمن لو قدر بأن يبنى بنياناً ويسوي فيه شبه المنصوبات بلطائف الحيلن ويتخذ مأدبة ليكيد بها عدوه فينقلب عليه من حيث لا يشعرن ويسلم العدو، ونحو بناء نمرود الصرح، كما ذكر، لصح، ولعله قصد ذلك، ولذلك استشهد بها، وفي ذكر لفظة فوق مع الاستغناء عنه ظاهراً؛ لأن خرور السقف لا يكون إلا من فوق، مزيدٌ لتقرير التهويل. قوله: (فأتى البنيان)، أي: خرب، "الأساس": أتى عليهم الدهر: أفناهم. قوله: (بنى الصرح)، الجوهري: الصرحُ: القصر، وكل بناء عال. قوله: ((مِنَ الْقَوَاعِدِ): من جهة القواعد)، يُشير إلى أن (مِنَ): ابتدائية، أي: نشأ تخريب بنيانهم من القواعد مبالغة في الهدم؛ لأن المتعارف في التخريب الأخذ من السقف إلى أن ينتهي إلى القواعد، وكان أمرهم على العكس، وإليه الإشارة بقوله: "بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف"، الجوهري: أي: هدمه حتى الأرض، وضعضعت أركانه: أي: اتضعت. قوله: (هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة)، أي: العذاب الكامل، وهو الخزيُ

إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم (تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم. وقرئ: (تشاقون)، بكسر النون، بمعنى: تشاقونني؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والهوان، لدلالة "ثُمَ" على التفاوت بين العذابين، وفيه أيضاً معنى التراخي في الزمان، كما هو موضوع "ثُمَ"، فيجب أن يعتبر فيها معنى الكناية؛ وهو مطلق البعد، لا المجاز، لئلا يجتمع إرادة الحقيقة والمجاز معاً. قوله: (حكاية لإضافتهم)، بالرفع: خبر (شُرَكَائِي) على الحكاية، هو الصحيح، والنسخة الشائعة: بالنصب، والمعنى على الأول: هذا القول حكاية لإضافتهم، يعني كانوا يقولون: هؤلاء شركاء الله، فحكى الله الإضافة على ما كانوا يضيفونه. وعلى الثاني: قال الله تعالى: (شُرَكَائِي) على الإضافة حكاية، فهو إما حال أو مفعول له. قوله: ((تُشَاقُّونَ فِيهِمْ): تعادون)، الراغب: الشقاق: المخالفة، وكونُك في شق غير شق صاحبك، أو من: شق العصا بينك وبينه، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ويقال: المال بينهما شق الشعرة وشق الأبلمة، أي: مقسوم كقسمتهما. قوله: (وقرئ: "تشاقون" بكسر النون)، قرأها نافع، يقولون ذلك، أي: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ). قوله: (من أممهم)، "من": ابتدائية، أي: من جهة أممهم، كما في قوله: (مِنَ الْقَوَاعِدِ)،

فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه. وقيل: هم الملائكة. قرئ: تتوفاهم، بالتاء والياء. وقرئ: (الذين توفاهم)، بإدغام التاء في التاء (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: قال الأنبياء من جهة أممهم المكذبة: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) شماتة بهم. قوله: (قرئ: (تَتَوَفَّاهُمْ) بالتاء والياء)، قرأ حمزة في الموضعين بالياء التحتاني، والباقون: بالتاء. قوله: (وقرئ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ) بإدغام التاء في التاء)، قرأها البزي. قوله: (وأخبتوا)، الجوهري: الإخبات: الخشوع، يقال: اخبت لله، أي: تواضع، وأصله: الإلقاء في الأجسام، فاستعمل في إظهارهم الانقياد، إشعاراً بغاية خضوعهم واستكانتهم، وأنها كالشيء الملقي بين يدي الغالب القاهر. قوله: (وهذا أيضاً من الشماتة، وكذلك (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، فالشماتة الأولى قولهم: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)، أي الذين يموتون على الشرك، لقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، فلما ألقوا السلم، أي: ذلوا وخضعوا قائلين: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) رد عليهم أولو العلم:

[(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. (خَيْراً) أنزل خيراً. فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلاً بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بل كنتم تعملون السوء (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تحقيقا لذلك الرد وتعليلاً له على وجه استتبع إيجاب العقاب وشماتة الأعداء، وإليه الإشارة بقوله: "فهو يجازيكم عليه"، فلما ألزموهم بذلك عقبوه بقوله: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) تتميماً للشماتة. وقال محي السنة: قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من قول الملائكة، وقال صاحب "المرشد": إن جعلت (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ) في موضع جر صفة للكافرين، لم يكن الوقف على الكافرين حسناً ولا كافياً، وإن جعلته في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، كان الوقف على الكافرين تاماً، والوقف على (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) في هذا الوجه أصلح، وعلى ذلك الوجه صالح ليس بكافٍ ولا حسن. قوله (لم نصب هذا-أي: (خَيْراً) - ورفع الأول؟ )، أي: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) في قوله: (مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ). قوله: (لم يتلعثموا)، أبو زيد: تلعثم الرجل في الأمر: إذا تمكث فيه. قوله: (بينا)، صفة مصدر محذوف، أي: طباقاً بينا.

مفعولا للإنزال، فقالوا خيراً: أي أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء. وروى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الواقد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيراً لك، فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً. وقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) وما بعده بدل من خيراً، حكاية لقوله (الذين اتقوا)، أي: قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوا عليه (حَسَنَةٌ) مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مفعولاً)، حال مترادف، أو مفعول له، أي: نُصب هذا فصلاً بين الجوابين مفعولاً للإنزال. قوله: (بدل من (خَيْراً) حكاية) خبران لقوله: "وقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) ". قوله: (أي: قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيراً ثُم حكاه)، يريد أن جواب المتقين عن قولهم: (مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) كأن أنزل (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) إلى آخره، فقدم تعالى عليه (خيراً) وجعله توطئة لقولهم، ثم حكى قولهم: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلى آخره. قال القاضي: فعلى هذا قوله: (خَيْراً): مفعول (قَالُوا). قوله: (ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ)، عطف على قوله: "بدل"، فعلى هذا هو من كلام الله تعالى يمدح القائلين ويعدهم على ما أحسنوا فيه من القول، وجاء به عاماً في جميع ما أحسنوا ليدخل هذا القول فيه أيضاً. و (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) مُظهر وُضع موضع المضمر للإشعار بأنهم مستأهلون بأن يحسن إليهم دُنيا وعُقبى.

ما هو خير منها، كقوله (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)] آل عمران: 148 [(وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره. وجَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة. [(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ* فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. (تأتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) قرئ بالتاء والياء، يعنى: أن تأتيهم لقبض الأرواح. ومْرُ رَبِّكَ لعذاب المستأصل، أو القيامة. ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه في مقابلة (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)، يعني: يجب تفسير طيبين بطاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي للتقابل، أما الكفر فإن قوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ) إما مجرور: صفة للكافرين، أو مرفوع: خبر مبتدأ محذوف، والجملة بيان للكافرين، كما سبق، وأما المعاصي فإن قوله: (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) مجاب بقولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، فظهر من هذا أن قوله: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) عطف على قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) على التقابل، فينبغي أن يُراعي مضامين القصتين، ولذلك خُتمت الأولى بقوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ)، ولما كان ذكر المؤمنين وارداً على سبيل الاستطراد للتقابل، وفرغ منه، عاد إلى نوع آخر من حديث الكفار، أعني قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ) والله أعلم.

(كذلِكَ) أي: مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بتدميرهم (لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم. أو هو كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى: 40]. [(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)]. هذا من جملة ما عدّد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب)، يعني: المشار إليه بقوله ذلك في (كَذَلِكَ) ما دل عليه الآيات السابقة من الشرك والتكذيب، فعلى هذا لا يحسن ترتب قوله: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) على قوله: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) حسنه لو كان المشار إليه ما دل عليه قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ)؛ لأنه نوع آخر من قبائحهم كما سبق، وأي: ما لهم استمروا على الكفر والاستهزاء، ولم يُؤمنوا مع هذه البيانات الشافية والدلالات الواضحة هل ينظرون إلا مجيء الآيات الملجئة حين (لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام: 158]، (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)، فيكون قوله: (وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) معترضاً بين السبب والمسبب. قوله: (أو هو كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى: 40] يعني: قوله: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) دل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بهن فيجب أن يُقدر مضاف أو يُجعل من باب المشاكلة. قوله: (هذا من جملة ما عدد)، يعني قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) معطوف من حيث المعنى على ما سبق من أول السورة من أصناف كفرهم وعنادهم وشركهم بالله،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وإنكار وحدانيته بعد قيام الجج وإنكار البعث واستعجاله، وتكذيبهم الرسول وشقاقهم واستكبارهم. أما إنكار البعث واستعجاله ففهم من قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ). وأما شركُهم: فهو ما يلزم من استعجالهم العذاب على ما سبق. وأما إنكار وحدانيته: فهو ما دل عليه (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وأما الحجج السابقة، على هذا الإنكار، فهي من قوله: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) ومن قوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ) وخلق الإنسان والأنعام والخيل والبغال، ومن قوله: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً)، وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، و (سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ) [الجاثية: 12]، ومن قوله: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ). وأما تكذيبهم الرسول، فمن قوله: (قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ). وأما استكبارهم عن قبول الحق، فمن قوله: (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)، وفيه إنكارُ البعث. وخلاصته أن هذه السورة من مفتتحها إلى هذا المقام، واردة في بيان تعداد أصناف قبائح المشركين، ما قد تخلل بينها من ذكر أجنبي، فللتأكيد لإلزام الحجة وبيان العناد والإستكبار، وهذا كلام عالٍ وبيان شاف، لكن قوله: "وهذا مذهب المجبرة بعينه" جاء عقيبه خارجاً عن سنن الحق ومحض فيه التعصب، فخرم ذلك النظم السري، وذلك أنه تعالى لما عدد كُفرهم وشركهم وتكذيبهم إلى غير ذلك على ما سبق، أتى بقوله: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، ولما ذكر ما يدل على إفحامهم، وأن الحجة قد لزمتهم، ولم يبق لهم متشبث إلا التعليل بالمشيئة، وهو قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، كما استقصينا القول فيه في "الأنعام"، أعاد قوله: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ليريك أن

من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعنى: أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه. (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أشركوا وحرموا حلال الله، فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم (فهَلْ عَلَى الرُّسُلِ) إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه. [(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)]. ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحوال هؤلاء المشركين وأقوالهم لم تتجاوز عن أفعال الأمم الخالية، ولا عن أقوالهم حذو القُذة بالقذة، ثم بين أن الرسل سلفاً وخلفاً ما قصروا في الإنذار والتبليغ بقوله: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ثم عقب المجمل بالتفصيل بقوله: (ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحريضاً للقوم على الاعتبار، وأن ينظروا إلى وخامة عاقبة المكذبين وسوء خاتمتهم، وأن لاتذهب نفسه عليهم حسرات، ومن ثم خاطبه صلوات الله عليه بقوله: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) فأين يدخل في الكلام حديث إني لا أقدر الشر ولا أشاؤه. قوله: (وركوه)، الجوهري: ورك فلان ذنبه على غيره، أي: قرفه به. قوله: (ولقد أمد إبطال قدر السوء)، يعني: أبطل الله تعالى في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ

رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ) أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف و (مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنى لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار. [(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)]. ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا) إلى آخره، نسبة أفعال السوء إلى قدر الله تعالى، ثم أمد ذلك الإبطال بقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً). الانتصاف: وجه استدلاله بها أن الله قسم العباد قسمين، والأمر والنهي يرجعان إلى المشيئة، بناء على زعمهم في إنكار كلام النفس، فعنده أن الله شاء أن تعبدوه وشاء أن يجتنبوا الطاغوت، ولم يشأ إشراكهم، ومبنى استدلاله على إنكار كلام النفس، والعجب غفلته عن قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)، كما قال في الأنعام: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام: 149]، وتقدم هناك ما فيه كفاية. قوله: (في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه حيث أفعل ما أفعل بالأشرار)، يريد أن النظر في أحوال الأشرار من الهلاك والدمار، يدل على أني ما قدرت الشر فيهم ولا قضيته عليهم، لأني لو فعلت ذلك، ثم عاقبتهم به، لم أكن عادلاً، لكنهم إنما استحقوا ذلك لأنهم هم الذين فعلوا ما استحقوا به الهلاك، وعُلم من قبل أن ما ذكره خارج عن مقتضى المقام.

وقرئ: (لا يهدى)، أي: لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) دليل على أنّ المراد بالإضلال: الخذلان الذي هو نقيض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "لا يُهدى")، على ما لم يُسم فاعله، الكوفيون: (لا يَهْدِي) بفتح الياء وكسر الدال. والباقون بضم الياء وفتح الدال، قال أبو البقاء: في قراءة الضم وجهان، أحدهما: أن (مَنْ يُضِلُ) مبتدأ، و (لا يَهْدِي): خبره. والثاني: أن (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) بأسره: خبر (إنَّ)، كقولك: إن زيداً لا يُضربُ أبوه يعني: أن التركيب سببين ومعناه: أن زيداً بمكان من الشرف والكرامة بحيث استحق أن يُكرم أبوه ولا يُهان بالضرب، ونظيره في المعنى: خولان فانكح، ثُم ما في التنزيل مع ذلك التقدير واقع جزاء للشرط ولم يكن يصلح جزاء إلا بتأويل الإعلام والإخبار، وقد تقرر أن مثل هذا الأسلوب غنما يردُ للتقريع، أو التنبيه على أمر خطير خفي على السامع، ولا سيما في جعل اسم "عن" الاسم الجامع للأسماء الحسنى، كأنه قيل: (إِنْ تَحْرِصْ) أنت وكل مخلوق على هداية من أراد الله إضلاله، فاعلم وتنبه أنك قد حاولت مزاولة أمر لا يُرام، ومُحالٍ لا يُستطاع، هذا معنى قوله: "لا تقدرُ أنت ولا أحدٌ على هدايته"، ووجدتُ لبعض الفضلاء على الحاشية: هذه كلمة حق، وقد أخرجها الله تعالى من فمه بلا اختيار منه. قوله: ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان)، كأنه قيل: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ)، فاعلم أن الله لا يهدي من يخذله، وما له من ناصر ينصره. وقلتُ: ليس تأويل (مَنْ يُضِلُ) بالخذلان أولى من تأويل (مِنْ نَاصِرِينَ) بالهادين، أي: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ)، فاعلم أن الله لا يهدي من يضله وما له من هاد قط، لا أنت

النصرة. ويجوز أن يكون (لا يَهْدِي) بمعنى: لا يهتدي. يقال: هداه الله فهدى. وفي قراءة أبىّ: فإنّ الله لا هادى لمن يضل، ولمن أضلّ، وهي معاضدة لمن قرأ (لا يَهْدِي) على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله: يهدى، بإدغام تاء يهتدى، وهي معاضدة للأولى. وقرئ «يضل» بالفتح. وقرأ النخعي: إن تحرص، بفتح الراء، وهي لغية. [(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* ِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ)]. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ) معطوف على (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)] النحل: 35 [إيذاناً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا غيرك، وهذا أولى؛ لأن أول الكلام في الهداية لا في النصرة والخذلان، وأما الختم بعد النصرة فللمبالغة في عدم توخي الهداية والخيبة فيه وعدم الاهتداء. قوله: (ويجوز أن يكون (لا يَهْدِي) بمعنى: لا يهتدي)، الجوهري: هدى واهتدى بمعنى، قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)، قال الفراء: يريد: "لا يهتدي"، يعني: "لا يهتدي من يُضله". قوله: (هداه الله فهدى)، أي: "هدى" مطاوع "هداه"، كما أن "اهتدى" مطاوعه. قوله: (وهي مُعاضدة لمن قرأ: "لا يُهدى"، أي: لا هادي موجود لمن يُضله، فإذا لم يكن هاديه موجوداً فلا يُهدي أبداً. قوله: (وهي معاضدة للأولى)، أي: قراءة من قرأ: "لا يهدي" بمعنى: لا يهتدي.

بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا: توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه. وبَلى إثبات لما بعد النفي، أي: (بلى) يبعثهم. ووعد الله: مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى. لأن يبعث موعد من الله، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على الله، لأنهم يقولون: لا يجب على الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كفرتان)، الجوهري: الكفر، بالفتح: التغطية، قال ابن السكيت: ومنه سُمي الكافر؛ لأنه يستر نعم الله تعالى عليه، وفي التخصيص فائدة، وهي أن الكفار يحاولون تغطية ما هو في غاية الظهور والجلاء، والأولى أن يعطف الجملة كما هي على جملة الشرط والجزاء، كأنه تعالى يخبر عن مبالغة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، وعن تناهي ضلالهم مفوضاً ترتب إحدى الجملتين على الأخرى إلى فهم السامع. قوله: (أو أنه وعد واجب)، أي: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه وعد واجب على الله، لأنهم يقولون: "لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره"، وفيه تعريض بأهل السنة، قال صاحب "الفرائد": لا دلالة في الآية على ما قال، لكن المعنى: لا يعلمون كمال قدرته، وبالغ حكمته في بعثه بعد إماتته. وقلت: الذي دل عليه السياق أن معناه: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك الوعد الحق والقول الصدق لقوله: (وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً) كقوله تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس: 4]، فالمقدر الوعد الواجب بحسب أنه تعالى لا يخلف الميعاد، لا أن العبد يوجب عليه ذلك بسبب عمله. وأما الجزاء من الثواب والعقاب، فهو تابع للبعث، أو (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه تعالى يبعثهم، أي: بمسألة البعث التي مبناها على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات، قادراً على كل المقدورات، كالفلاسفة وأضرابهم خذلهم الله.

شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة. (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) متعلق بما دل عليه «بلى» أى يبعثهم (ليبين) لهم. والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذي اختلفوا فيه هو الحق (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ) كذبوا في قولهم: (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء)، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على الله الكذب. [(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)]. (قَوْلُنا) مبتدأ، (وأَنْ نَقُولَ) خبره. (كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم، والمعنى: أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيد أن الكلام في البعث قوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي: في البعث، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) أي: في قولهم: (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)، وكذا قوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؛ لأن فيه إثبات القدرة الكاملة والإرادة الشاملة، وإليه الإشارة بقوله: "والمعنى: أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات؟ ". قوله: (لأن مراداً)، نكرة، واللام متصل بـ "مثل"، أي: أي مراد يكون؟ وقوله: (وأن وجوده عند إرادته غير متوقف)، عطف تفسيري، على أن مراداً لا يمتنع عليه.

فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات. وقرئ: (فيكون)، عطفاً على (نَقُولَ). [(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)]. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين. ومنهم من هاجر إلى المدينة. وقيل: هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في شق المقدورات)، فيه توهين لأمر البعث، "الأساس": قعد في شق الدار: في ناحية منها، وخُذ من شق الثياب، من عُرضها ولا تختر. قوله: (وقرئ: "فيكون")، ابن عامر والكسائي: بالنصب، والباقون: بالرفع، قال الزجاج: فالرفع: على فهو يكون، أي ما أراد الله فهو يكون، والنصب: إما على: (إِنْ نَقُولُ)؛ أي: نقول فيكون، أو على أنه جواب (كُن). و (قَوْلُنَا): رفع بالابتداء، وخبره (إِنْ نَقُولُ) معناه: ماذا أراد الله فهو كائن على كل حال، ولو أراد خلق الدنيا والسماوات والأرض في قدر لمح البصر لقدر، لكن العباد خوطبوا بما يعقلون، فأعلمهم الله سهولة خلق الأشياء، فُعلِم أنه متى أراد الشيء كان، وليس أن الشيء قبل أن يُخلق موجودٌ. وقال أبو علي: (كُن) وإن كان على لفظ الأمر، فليس القصد هنا الأمر وإنما هو والله أعلم: الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإلى هذا ذهب أبو العباس، وسيجيء تمام بحثه في "يس".

وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم: منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار. وعن صهيب أنه قال لهم: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال له: ربح البيع يا صهيب. وقال له عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، وهو ثناء عظيم: يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه، فكيف وقد خلق! (فِي اللَّهِ) في حقه ولوجهه حَسَنَةً صفة للمصدر، أي لنبو أنهم تبوئه حسنة. وفي قراءة على رضي الله عنه: (لنثوّينهم). ومعناه: أثوأة حسنة. وقيل: لتنزلنهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر. وقيل: لنبوّئنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف)، متعلقة بمحذوف، تقديره: لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه، فكيف وقد خلق، أي: لا يُطيع الله لخوف النار فتكون طاعته لأغراض وعلل، والعارف من يطيع الله لله، ومعنى (لو) في الحديث ليس لامتناع الشيء لامتناع غيره، بل لمجرد الفرض والتقدير. قوله: ((فِي اللَّهِ): في حقه)، أي: الذين هاجروا مخلصين لوجه الله، لا لأمر آخر دنيوي، كقوله صلوات الله عليه: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إليه"، رواه الشيخان وغيرهما. قوله: (لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة)، يريد أن التبوئة في المكان بمعنى إعطاء المنزلة، فيجوز أن يُستعمل في التمكين في الأرض، نحو: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ) [الأعراف: 10]، ولذلك قال: وهي "الغلبة على أهل مكة" إلى قوله: "وعلى أهل المشرق المغرب"، ولا يبعدُ أن يُقال: إن هذا هو الوعد المذكور في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) الآية [النور: 55]، والله أعلم.

مباءةً حسنة وهي المدينة، حيث آواهم أهلها ونصروهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُون) الضمير للكفار، أي: لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم الَّذِينَ صَبَرُوا على: هم (الذين صبروا). أو أعنى الذين صبروا، وكلاهما مدح، أي: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله. [(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)]. قالت قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فقيل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) على ألسنة الملائكة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً. فإن قلت: بم تعلق قوله (بِالْبَيِّناتِ)؟ قلت: له متعلقات شتى، فإما أن يتعلق بـ (ما أرسلنا) داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و (الَّذِينَ صَبَرُوا) على: هم الذين صبروا)، أي: (الَّذِينَ صَبَرُوا) واردٌ على: هم الذين صبروا، أو: أعني، كلاهما لإرادة المدح. قوله: (قالت قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً)، هذا التقرير يقتضيه قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً) من جهة "ما" و"إلا"، لأنهما إنما يتلقى بهما المخطئ المُصرُّ على خطابه، المبالغُ في إنكاره.

لأن أصله: ضربت زيداً بالسوط وإما بـ (رجالاً)، صفة له: أي رجالا ملتبسين بالبينات. وإما بـ (أرسلنا) مضمراً، كأنما قيل: بم أرسلوا؟ فقلت بالبينات، فهو على كلامين، والأوّل على كلام واحد. وإما بـ (يوحى)، أي: يوحى إليهم بالبينات. وإما بـ (لا تعلمون)، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير: إن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن أصله: ضربت بالسوط)، يعني: "إلا" من حيثُ اللفظ لغوٌ، والاستثناء على خلاف المشهور، عن بعضهم، التقدير: لم يوجد ضرب منه أصلاً، لا بالسوط ولا غيره. وقال أبو البقاء: في تعلق (بِالْبَيِّنَاتِ) بـ (أَرْسَلْنَا) بمعنى: أرسلناهم بالبينات ضعفٌ؛ لأن ما قبل إلا لا يعملُ فيما بعدها إذا تم الكلام على (إِلاَّ) وما يليها، إلا انه قد جاء في قول الشاعر: نبئتهم عذبوا بالنار جارتهم ... ولا يُعذب إلا الله بالنار وقال صاحب "المفتاح": لك أن تقول: ما ضرب إلا عمراً زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ عمراً، فتقدم وتؤخر، إلا أن هذا التقديم والتأخير لما استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف، قل دوره في الاستعمال. قوله: (والأول)، قال: في الأولين والأول، نظراً إلى أنه لا إضمار فيه. قوله: (وإما بـ (لا تَعْلَمُونَ))، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، لأن (إن) استعملت في أمر مقطوع معلوم، وذلك أن الكلام مع قريش كما قال: "قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً"، فقيل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا

كنت عملت لك فأعطني حقي. وقوله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) اعتراض على الوجوه المتقدّمة، وأهل الذكر: أهل الكتاب. وقيل للكتاب الذكر، لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعنى ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا. [(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَاتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ* أَوْ يَاخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ* أَوْ يَاخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)]. مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)، وقد علم وحقق أن قريشاً لم يكونوا عالمين بالبينات والزبر، فتعليقه بالسؤال يفيد التبكيت والإلزام، يعني: لا ارتياب في أنكم غير عالمين بها، ولستم أيضاً مما تسألون عنهم، لأنكم تعلمون أنهم لا يجبونكم إلا بما ذكرنا، من أنا ما أرسلنا من قبله إلا رجالاً يُوحى إليهم، فلم يبق لكم طريق سوى التسليم والإذعان، وعليه قوله: "إن كنتُ عملتُ لك فأعطني حقي"، وصاحب "المفتاح" أخرج هذا المثال في معرض النفي، حيث قال: ومنه ما قد يقول العامل عند القاضي بالعمالة إذا امتد التسويف وأخذ يُترجم عن الحرمان: إن كنتُ لم أعمل فقولوا: أقطع الطمع، نزلهم لتوهم أن يحرموه منزلة من لا يعتقد أنه عمل مُجهلاً. قوله: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ): اعتراض على الوجوه المتقدمة)، يعني: في هذا الوجه، ليس باعتراض وليس بجواب للشرط، لتقدمه عليه، لكنه دال عليه. قوله: (وهم أهل مكة وما مكروا به)، أي: الضمير في (مَكَرُوا) لأهل مكة، والمراد

رسول الله صلى الله عليه وسلم (فِي تَقَلُّبِهِمْ) متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم (عَلى تَخَوُّفٍ) متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) وقيل: هو من قولك: تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته: قال زهير: تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعة السَّفَنُ أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا. وعن عمر رضى الله عنه. أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوّف التنقص. قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا. وأنشد البيت. فقال عمر: أيها الناس، عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالمكر: ما مكروا به في دار الندوة، الراغب: المكرُ: صرفُ الغير عما يقصده بحيلة. قوله: (وهو خلاف قوله: (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ))، كأنه قيل: أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ومن حيث يشعرونه. قوله: (من قولك: تخوفته وتخونته)، الراغب: تخوفناهم: تنقصناهم تنقصاً اقتضاه الخوف منه، والتخوف: ظهور الخوف من الإنسان، قال الله عز وجل: (أَوْ يَاخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ). قوله: (تخوف الرحل منها)، البيت: تامكا: أي: سناما مُشرفاً. الأساس: صوفٌ قردٌ: ملتصق متلبد. الجوهري: سحابٌ قردٌ: يركب بعضه بعضاً، والنبع: شجر يتخذ منه القسي، والسفن، بالتحريك: المبرد، يصف ناقة أثر الرحل في سنامها، وتنقصن كما ينقص المبرد من العود.

بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم. [(أوَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)]. قرئ: (أولم يروا) و (يتفيؤا)، بالياء والتاء. و (ما) موصولة بـ (خلق الله)، وهو مبهم بيانه: (مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ). واليمين: بمعنى الأيمان. (وسُجَّداً) حال من الظلال. وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في (ظلاله)، لأنه في معنى الجمع؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بديوانكم)، المُغرب: الديوان: الجريدة، من دون الكتُبَ: إذا جمعها، لأنه قطعٌ من القراطيس مجموعة. ويُروى أن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين، أي: رتب الجرائد للولاة والقُضاة. قوله: (لا يضل)، مجزومٌ؛ لأنه جواب لقوله: عليكم، وهو بمعنى الأمر، وفي "اللباب": عليكم بديوانكم لا تضلوا. قوله: (قرئ: "أولم يروا" و"يتفيؤا")، "أو لم تروا" بالتاء الفوقاني: حمزةُ والكسائي، والباقون: بالياء. أبو عمرو: "تتقيأ" بالتاء الفوقاني، والباقون: بالياء. قوله: ((سُجَّداً): حال من الظلام، (وَهُمْ دَاخِرُونَ): حال من الضمير في (ظِلالُهَ))، فالمعنى: ظلالهم ساجدة، وهم في أنفسهم متواضعون صاغرون، فيتفق الباطن مع الظاهر. فإن قلت: لم جعل الحال الثانية حالاً من الضمير في (ظِلالُهَ)، ولم يُجعل من الضمير المرفوع المحذوف العائد إلى الموصول؟

وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لأنه حال مؤكدة، فإذا جعلت الظلال ساجدة، يلزم منه المبالغة في سجود الأجرام بالطريق الأولى، وهو معنى الدخور، فيقع الحال تأكيداً، كما في قوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25] ولايفيد الأول هذا المعنى، وفيه إدماج لمعنى تسخير الأجرام العلوية، لأن الظل إنما يحصل من حركات الكواكب والشمس، ولما بين ذلك، وأراد أن يُبين الاختصاص وأنها تسجد لله لا لغيره، قال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ)، قال القاضي: قوله: (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) هما حالان من الضمير في (ظِلالهُ)، والمراد من السجود الاستسلام، سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال: سجدت النخلة: إذا مالت لكثرة الحمل، وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليُركب، والمعنى: ترجعُ الظلالُ بارتفاع الشمس وانحدارها منقادة لما قُدر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، والأجرام في أنفسها أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها. قال أبو البقاء: (سُجَّداً) حال من الظلال، (وَهُمْ دَاخِرُونَ) حال من الضمير في (سُجَّداً)، ويجوز أن يكون حالاً ثانية معطوفة. قوله: (وجُمع بالواو؛ لأن الدخور من أوصاف العقلاء)، وذلك أن من لا يعقل إذا وُصف بصفة العقلاء أجرى مجرى العقلاء في الاستعمال، وإذا حُكم على العقلاء، وغير العقلاء، تغلب العقلاء على غيرهمز قوله: (استعارة)، خبر مبتدأٍ محذوف، أيمان الظلال وشمائل الظلال في قوله تعالى:

جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع. [(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)]. (مِنْ دابَّةٍ) يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أنّ في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسي في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات: الملائكة. وكرّر ذكرهم على معنى: والملائكة خصوصا من بين الساجدين، لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم. ويجوز أن يراد بما في السموات: ملائكتهنّ. وبقوله (والملائكة): ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، فكيف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ): استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء. قوله: (من التفيؤ)، بيان ما سخرها له، تتفيأ: تنفعل من الفيء، يقال: فاء يفيء فيئاً، إذا رجع. قوله: (الخلق الذي يُقال له: الروح)، فعلى هذا الروح غير الملائكة، وقال فيه: الروح جبريل، أو أفرده عنهم لشرفه، لقوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) وقيل: خلقٌ من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة. قوله: (والملائكة خصوصاً من بين الساجدين)، يريد أنه تعالى لما عم من يتأتى منه السجود في قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، ثم خص من بينهم هذا الجنس من المكلفين في قوله: (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)، دل على أنهم أولى وأقدم في هذا النوع من العبادة، ثم تممه بقوله: (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت: المراد بسجود المكلفين: طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم: انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت: فهلا جيء بمن دون (ما) تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا)، "الانتصاف": استدل بالآية من أجاز استعمال المشترك في معنييه وفي حقيقته ومجازه شمولاً، والزمخشري يُنكره في مواضع من كتابه، فحمله على القدر المشترك وجعله متواطئاً ليسلم من الجمع بين الحقيقة والمجاز، ويبطله أن الآية آية سجدة، وفيه دليل على أن المراد من السجود المذكور: ما هو منسوب إلى المكلف من الفعل المتعارف شرعاً، فيبطل القول بالقدر المشترك. قلت: ويمكن أن يقال: إن قوله: (يَسْجُدُ) واردٌ على عموم المجاز الذي يكون كل من الحقيقة والمجاز فرداً من أفراده، والمكلف إنما يسجدُ لمقتضى ما يناسبه. الراغب: السجود أصله: التطامن والتذلل، وجُعل ذلك عبارة عن التذلل لله وعبادته، وهو عام في الإنسان وغيره، وذلك ضربان: اختياري: وليس ذلك إلا للإنسان وبه يستحق الثواب، قال الله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا). وتسخيري، وهو للإنسان وغيره، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد: 15] الآية، وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة، وأنها خلق فاعل حكيم، قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ينطوي على النوعين. قوله: (لم يكن فيه دليل على التغليب)، قلت: ما أبينه من دليل، فإنه لو جيء

فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم (يَخافُونَ) يجوز أن يكون حالا من الضمير في لا (يَسْتَكْبِرُونَ) أي: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيداً له، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته مِنْ فَوْقِهِمْ إن علقته بـ (يخافون)، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً، كقوله (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ "مِن"، وبُيِّنَ بقوله: (مِنْ دَابَّةٍ)، والدابة كما صرح في قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) الآية، بقوله: "ولما كان اسم الدابة موقعاً على المميز وغير المميز" لكفى به دليلاً ظاهراً على التغليب، ولكن إنما اختير "ما" للوصفية المشعرة بالتواضع والاستصغار، لاقتضاء السجود ذلك، كما في قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كأنه جاء بت "ما" دون "مَن" تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم. ومما يعضده أن هذه الآية معطوفة على الآية السابقة عطف الخاص على العام، وقد فُصلت السابقة بقوله: (وَهُمْ دَاخِرُونَ). وأما تكرير ذكر الملائكة على الوجه الثاني في الكتاب فتعريض بمن عند الملائكة، وأنهم أحرياء بأن يخضعوا لله تعالى، ويتضاءلوا لجلاله عز وجل، ومن ثمة: أتبعه بقوله: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ). والله أعلم. قوله: ((يَخَافُونَ) يجوز أن يكون حالاً)، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له، الانتصاف: الثاني أصح؛ لأن الحال تُعطي انتقالاً وتوهم تقييداً، والواقع عدم استكبارهم مطلقاً غير مقيد بحال. قوله: (إن علقته بـ (يَخَافُونَ))، أي: جعلته متصلاً به وتتمة لمعناه، ولم تُرد به تعلق المعمول بالعامل، فعلى هذا (مِنْ فَوْقِهِمْ): متعلق بمتعلق (يَخَافُونَ)، يدل عليه جعل المصنف "أن يُرسل" بدلاً من الضمير في "يخافونه"، ويمكن أن يُقدر: ويخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم.

عِبادِهِ) [الأنعام: 18، 61]، (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف: 127] وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء. [(وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)]. فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله (إلهين اثنين)؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دال على شيئين، على الجنسية والعدد)، وفيه أن العدد عار عن الدلالة على ماهية المعدود، فيجوز أن يكون بياناً لأحد مفهوميه. قوله: (والذي يُساق غليه الحديث هو العدد)، "هو العدد": خبر "أنَّ"، و"الذي يُساق إليه الحديث" تفسير لقوله: "المعنى به"، و"شُفع": جواب "إذا". قوله: (شُفع بما يؤكده)، لا ينافي قول صاحب "المفتاح": ففسر (إِلَهَيْنِ) بـ (اثْنَيْنِ) و (إِلَهٍ) بـ (وَاحِدَ)، بياناً لما هو الأصل في الغرض، فإن التأكيد أيضاً بيان من وجه، ألا ترى إلى قول المصنف قبيل هذا في قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ): "هو بيان لقوله: (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وتأكيدٌ له؛ لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته".

لو قلت: (إنما هو إله)، ولم تؤكده بـ (واحد): لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو قلت: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ)، ولم تؤكده بـ (وَاحِدٌ)، لم يحسنْ، وخيل أنك تثبتُ الإلهية لا الوحدانية)، قال صاحب "التقريب": فيه نظرٌ، إذ "إلهٌ" يُطلقُ على الجنس مجرداً عن العدد، فجاء فيه التخييل، وأما (إِلَهَيْنِ) فلا يتخيل فيه غير التثنية، مع أنه المبحث، وفي حاشية "التقريب": وفي الأصل نظرٌ؛ لأن نحو إلهٍ وُضع للجنسية، والوحدة لا يجيء التخيل أيضاً إذا جُرد عن الواحد، وإن وُضع للجنسية المطلقة لم يكن شفعه بالواحد تأكيداً، إذ التأكيد: تقوية ما فهم من الأول، والمقدر عدم دلالته على الوحدة. وقلت: إن المصنف لما بين دلالة الوضع أولاً، وأن مثل رجل ورجلين معدودان فيهما دلالة على العدد، بُني عليه معنى التأكيد، واستدل باستواء مؤدى اللفظين-أعني: ثلاثة رجال، ورجلين-في المقصود من إرادة المعدود من العدد، فلو لم يحمل شفعة بالواحد على التأكيد وبيان الغرض، لكان زائداً، فوجب المصير إلى التأكيد، ولأن التأكيد إنما يصار إليه لاحتمال ما عسى أن يتوهم السامع خلاف المقصود، وكل لفظٍ أخلي عن التأكيد لا يمنع الاحتمال، وقد نص الزجاج: أن (اثْنَيْنِ): توكيد لقوله: (إِلَهَيْنِ)، كـ"الواحد" في قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). وقال الإمام: إن (إِلَهَيْنِ): لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله، وثبوت التعدد، فإذا قيل: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ) لم يعرف منه أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما، فلما شُفع بقوله: (اثْنَيْنِ) ثبت أن النهي عن إثبات التعدد فقط، وكذا عن صاحب "المفتاح".

الوحدانية (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما بيان النظم فإن قوله: (وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية، معطوف على قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)، على منوال قوله: "متقلداً سيفاً ورمحاً"، أي: أولم ينظروا إلى ما خلق الله من الدلائل المنصوبة الشاهدة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا معبود سواه، وأولم يسمعوا إلى ما قال وأوحاه الله في الكتب المنزلة، من بيان التوحيد، ونفي الشركاء؟ قوله: (وجاز لأن الغائب)، أي: وجاز انقل؛ لأن الغائب في قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) هو بعينه المتكلم في قوله: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)؛ لأن شريطة الالتفات هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى، لمفهوم واحد. قوله: (وهو أبلغ في الترهيب من قوله: فإياه فارهبون)، لما أنك تجدُ في الانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من نفس المخاطب ما لا تجدُ إذا استمررت على لفظ الغيبة. وقوله: (ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم)، أي: هذا الانتقال والاختلاف أبلغ من أن يُجاء به على سنن واحد، وهو أن يجيء على لفظ الغيبة ما يقال: إنما هو إلهٌ واحدٌ فإياه فارهبون، وأن يجيء ما قبله على لفظ التكلم، كما يقال: إنما أنا إلهٌ واحدٌ فإياي فارهبون. قال صاحب "الفرائد": فائدة الالتفات أن يُعلم أن ذلك الواحد هو المتكلم، لا غيره؛ لأنه لما أفاد قوله: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ)، وأفاد قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الأمر باتخاذ الواحد، وجب أن يبين أن ذلك الواحد هو المتكلم، فعبر عن ذلك بقوله: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

[(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)]. الدِّينُ الطاعة واصِباً حال عمل فيه الظرف. والواصب: الواجب الثابت، لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه. ويجوز أن يكون من الوصب، أي: وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا. أو: وله الجزاء ثابتا دائما سرمدا لا يزول، يعنى الثواب والعقاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: وتحريره أن قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) إلى آخر الآيات، مفرغٌ في قالب واحد؛ لأن أصل الكلام: لا تُشركوا بي شيئاً في العبادة؛ لأن المعبود واحد، فانظروا بنظر الإنصاف أنه مَن هو؟ فإذا أدّاكُم النظرُ إلى أن ذلك المعبود أنا، فخصوني بالرهبة، مثله في الانتقال والتخصيص قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة 4] بعد قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، وإجراء الصفات عليه تعالى. ثُم عطف قوله: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) على قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) بعدما رتب عليه التقوى، ليؤذن بأن عظمة الإلهية، كما تقتضي الخوف، كذلك المالكية، فعلق به قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)، ثم وبخهم وأنكر عليهم بعد الشرك كُفرانهم نعم الله تعالى بقوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)، ثم استبعده بقوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) قال ابن الحاجب: الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعمٌ جهلوا معطيها، أو شكوا فيه، أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين، فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سببٌ للإخبار بكونها من الله تعالى. قوله: (أو: ولهُ الجزاء [ثابتاً] دائماً) ن عطفٌ على قوله: " (الِدَيْنِ): الطاعةُ ... والواصب: الواجب الثابت"، والدين إذا فُسر بالطاعة، والواصب يجوز أن يكون بمعنى الواجب، فيكون المعنى: الطاعة واجبة لله تعالى؛ لأن كل نعمة منهُ، وأن يكون بمعنى الكلفة والمشقة، ويكون المعنى: وله الطاعة التي فيها كلفة ومشقة، ابتلاء للعباد ليتميز المخلص من غيره، وإذا فُسر بالجزاء كقوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 3] فالواجب

[(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ* لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ*)]. (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَة) وأي شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من الله (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيـ ... ـكِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا وقرئ: (تجرون)، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف الضرّ على: فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة. فإن قلت: فما معنى قوله (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)؟ ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى: الثابت فقط، والمعنى: وله الجزاء دائماً ثابتاً، والضمير في قوله: "ولذلك سُمي" (الدِّينِ) المفسر بالطاعة. الراغب: الوصب: السُّقْم الدائم، وقد وصب فهو وصبٌ، وأوصبته كذا فهو يتوصب، نحو: يتوجع، قال تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) [الصافات: 9]، وقوله: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً) فتوعد لمن اتخذ إلهين، تنبيه أن جزاء من فعل ذلك لازم شديد، ومعنى الواصب: الدائم، أي: حق الإنسان أن يطيعه دائماً في جميع أحواله. قوله: (يُراوحُ من صلوات)، البيت، يصف راهباً. المراوحة في العملين: أني عمل هذا مرة وهذا مرة. قوله: (فما معنى قوله: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ)؟ )، أتى في السؤال بالفاء للإيذان بالإنكار

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... على الكلام السابق، يعني: مقتضى قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) الإخبار عن قوم استقرت بهم نعم جهلوا مُعطيها، وقد ذكرت أن قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً) ردٌّ لطعن قريش في رسالته صلوات الله عليه، وقولهم: "الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا"، وذكرتُ ثانياً أن قوله: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ) نازلة فيهم، وهي متصلة بتلك الآية، بمعنى: أفأمن منكرو الرسالة الباذلون جهدهم في المكر بإبطالها أن يخسف بهم وكيت وكيت؟ وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ) عطف على قوله: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا)، وقوله: (وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) عطفٌ على (أَوَلَمْ يَرَوْا) على منوال قوله: مُتقلداً سيفاً ورمحاً، أي: أو لم يروا إلى دلائله الدالة على القدرة القاهرة المسخرة لكل شيء، وأولمْ يسمعوا بآياته الشافية في إثبات التوحيد، وأن له الملك الواسع، والدين الواصب، ليعرفوا أن لابد من رسول ليقرر لهم تلك الدلائل، ويبلغ إليهم ذلك القول البليغ، ويُمهد لهم ذلك الدين الواصب، وان يضع الشريعة المستقيمة ليوضح منهاج الطريقة القويمة، وخصوصاً توبيخ هؤلاء أولاً على ما هم فيه من الإشراك بقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)، وثانياً على كفرانهم نعمة الله بقوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)، وثالثاً على تعكيسهم الأمر بقوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). وإذا كان كذلك فكيف يدخلُ في المعنى ذكرُ فريق وكأن بعضاً من أولئك الموبخين ما أشركوا؟ وأجاب بأنه يجوز أن يكون الخطاب (بِكُمْ) عاماً ويُرادُ بالفريق أولئك المشركون، على أن الناس كلهم فعلوا ما يؤدي إلى أن يستجهلوا أو يُنسبوا إلى الكفران، خصوصاً هؤلاء المشركين؛ ضموا مع الجهل والكفران ما هو أعظم منها، من أنهم إذا مسهم الضر تضرعوا إلى الله، ثم إذا كشف الله عنهم ذلك الضر ليوحدوه بدلوا بالشرك، وأن يكون الخطاب خاصاً في أولئك المشركين، ثم (مِنْ) إما بيانٌ، والمعنى على التجريد، وإليه الإشارة بقوله: "وهم أنتُم"، أو: تبعيض، على أن المراد من لم يصدر منه ذلك الإشراك الخاص فهو المقتصد المتوسط الذي خفض من غلوائه في الكفر، فظهر من هذا البيان أن (ثُمَّ) في قوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ) للتراخي في المرتبة. والثانية: على حقيقتها.

قلت: يجوز أن يكون الخطاب في قوله (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عاماً، ويريد بالفريق: فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين (ومنكم) للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال فإذا فريق كافر، وهم أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)] لقمان: 32 [، (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الكشف عنهم، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تخلية ووعيد. وقرئ: (فيمتعوا)، بالياء مبنيا للمفعول، عطفا على (لِيَكْفُرُوا) ويجوز أن يكون: (ليكفروا) فيمتعوا، من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قطعُ قوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) فلأنه جملة طبية واردة كالطبع على جملة الكلام، وكالتخلص إلى نوع آخر من قبائح المشركين، ولذلك عدل من الخطاب على الغيبة إيذاناً بالإياس عن إيمانهم، ونعياً عليهم بسوء الخاتمة، وبان يقال لهم: دوموا على كفركم فسوف تعلمون وخامة عاقبة أمركم. ولله دَرُّ فاءٍ فائقة، جلبت هذه المعاني الرائقة، رحم الله واضعها في هذا المقام، والله أعلم. قوله: (تخلية ووعيدٌ)، نشر لقوله: (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، يعني: خليناكم وأمهلناكم ونمتعكم بالدنيا ولذاتها، وعن قريب يظهر لكم سوء مغبته ووخامة عاقبته. قال أبو البقاء: الجمهور (فَتَمَتَّعُوا): على أنه أمرٌ، ويُقرأ بالياء، وهو معطوف على (لِيَكْفُرُوا) ثم رجع إلى الخطاب فقال: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، وقُرئ بالياء أيضاً. قوله: (من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية)، وهو كقوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) [الزمر: 8].

[(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)]. (لِما لا يَعْلَمُونَ) أي: لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذاً جاهلون بها. وقيل: الضمير في (لا يَعْلَمُونَ) للآلهة. أي: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر اجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا إليهم (لَتُسْئَلُنَّ) وعيد (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها. [(ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ* وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)]. كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم. (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني البنين. ويجوز في (ما يَشْتَهُونَ) الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات، أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. و (ظَلَّ) بمعنى صار كما يستعمل بات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الضمير في: (لا يَعْلَمُونَ) للآلهة)، يعني: لما نفوا عنها ما يصح أن يُنفى عن ذوي العلم، أجروها مجرى أولي العلم، وعلى الأول: الضمير للمشركين، ومفعول (لا يَعْلَمُونَ): ضمير "ما" المعبر عن الأصنام، وعلى الثاني: مفعول (لا يَعْلَمُونَ) غير منوي، ولذلك قال: "لأشياء غير موصوفة بالعلم"، وقوله: "لا تشعر، أجعلوا لها نصيباً": صفة أخرى لأشياء، وعلى هذا الراجع إلى الموصول ضمير الفاعل في (لا يَعْلَمُونَ). قوله: (الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على (الْبَنَاتُ)، أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور)، نقل الإمامُ عن الفراء أنه قال: المختار الرفع؛ لأنه لو كان

وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة. ويجوز أن يجيء ظل، لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصباً لقال: لأنفسهم ما يشتهون، لأنك تقول: جعلت لنفسك كذا ولا تقول: جعلت لك كذا، وقال الزجاج: لا يجوز النصب؛ لأن العرب تقول: جعل لنفسه ما يشتهي، [ولا تقولُ: جعلَ لهُ ما يشتهي]، وهو يعني نفسه، وقال أبوا لبقاء: وضعف قومٌ هذا الوجه، وقالوا: لو كان ذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ. وقال القاضي: يجوز النصب عطفاً على البنات، على أن الجعل بمعنى الاختيار، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد، لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف. قوله: (ويجوز أن يجيء: ظل)، أي: بمعناه، الجوهري: ظللت اعمل كذا، بالكسر ظلولاً: إذا عملته بالنهار دون الليل، قال صاحب "الانتصاف": وكذا الاحتمال في قوله: (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) [الحجر: 14] إما صاروا، وإما أن يُراد نهاراً لقصد المبالغة في الوضوح. قوله: (فيظل نهاره)، "نهاره": بالنصب والرفع، بالنصب: ظرف، وبالرفع: على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم. قوله: (مربد الوجه)، الجوهري: تربد وجه فلان، أي: تغير من الغضب، وتربد أيضاً: تعبس. قوله: (من الكآبة)، الكآبة: سوء الحال والانكسار من الحزن.

حنقاً على المرأة (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) يستخفى منهم (مِنَ) أجل (سُوءِ) المبشر به، ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به عَلى هُونٍ على هوان وذل (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أم يئده؟ وقرئ: (أيمسكها على هون أم يدسها)، على التأنيث. وقرئ: (على هوان). (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف. [(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)]. (مَثَلُ السَّوْءِ) صفة السوء: وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهو الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم. [(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)]. (بِظُلْمِهِمْ) بكفرهم ومعاصيهم ما (تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين. وعن أبى هريرة: أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إنّ الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو الغني عن العالمين)، مقابل لقوله: "وهي الحاجة إلى الأولاد"، وقوله: "والنزاهة عن صفات المخلوقين" في مقابل: "ووأدهن خشية الإملاق"، وقوله: "وهو الجواد الكريم" في مقابل: "وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ"، وكل ذلك نتيجة قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، وقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى) إلى قوله: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). قوله: (فقال: بلى والله، حتى إن الحُبارى لتموتُ في وكرها)، النهاية: وفي حديث أنس:

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة. وعن ابن عباس (مِنْ دَابَّةٍ) من مشرك يدب عليها. وقيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. [(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)]. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ) مع ذلك (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) عند الله كقوله (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)] فصلت: 50 [، وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوى اليسار: كيف تكون يوم القيامة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "إن الحُبارى تموتُ هزلاً بذنب بني آدم"، يعني: أن الله تعالى يحبس القطر بشؤم ذنوبهم، إنما خصها بالذكر لأنها أبعدُ الطير نجعة، فربما تُذبح بالبصرة ويوجدُ في حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبن منابتها أيام. وقلت: "بلى" إيجابٌ لما بعد النفي، والنفي هاهنا مستفاد من دليل الحصر، كأنه قيل: يضُر نفسه، ولا يتعدى الضرر إلى غيره، فأجاب: بلى والله، يتعدى الضرر إلى غيره حتى الحبارى، فظهر أن "حتى" غاية تتعدى المقدر. قوله: (أو من دابة ظالمة)، عطفٌ على قوله: "من دابة قط"، فعلى الأول التنكير فيها للجنس، وعلى هذا للنوع. قوله: (ومن الاستخفاف برسلهم)، أي: برسل المشركين الذين كانوا يرسلونهم.

إذا قال الله تعالى: هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة. وإذا قال: هاتوا ما دفع إلىّ فيؤتى بالكسر والخرق ومالا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية. وعن مجاهد: أنّ لهم الحسنى، هو قول قريش: لنا البنون، (وأن لهم الحسنى): بدل من الكذب. وقرئ (الْكَذِبَ) جمع كذوب، صفة للألسنة (مُفْرَطُونَ) قرئ مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلانا، وفرّطته في طلب الماء، إذا قدمته. وقيل. منسيون متروكون، من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته. والمكسور المخفف، من الإفراط في المعاصي. والمشدّد، من التفريط في الطاعات وما يلزمهم. [(تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)]. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ): حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. ومعنى (وَلِيُّهُمُ) قرينهم وبئس القرين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا قال الله: هاتُوا)، أي: قال للحفظة: هاتوا. قوله: ((مُفْرَطُونَ)، قرئ مفتوح الراء)، نافع: "مفرطون" بكسر الراء، والباقون: بفتحها مُشدداً ومخففاً، والمشدد شاذ، فالمفتوح بمعنى: مقدمون، يريد مخففاً ومشدداً.

أو يجعل (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يُجعل (فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ)، عطف على قوله: " (فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ) حكاية الحال الماضية"، بناء على أن هذا الكلام إما أن يُقال: في الآخرة أو في الدنيا. أما الأول: فعلى وجهين، أحدهما: أن يُراد باليوم: يوم الآخرة استحضاراً لما جرى على الكفرة في الدنيا من متولي أمورهم، الذي هو الشيطان وما زين لهم من سوء أعمالهم، وسول لهم من المعاصي والكفر، كأن السامع حينئذ يستحضر يوم الدنيا وتلك الحالة فيتعجب منها. وثانيهما: أن يُراد باليوم حينئذ: الزمان الممتد في الدنيا، فالتعريف في اليوم: للعهد، والمعنى بالولي: القرين، الذي هو قرينهم في الدنيا، وليس في هذا الوجه ذلك الاستحضار، بل مجرد الإخبار. وأما الثاني: فعلى أن إخبار الله عن الكائن بمنزلة الواقع الثابت، فيستحضر الآن ما يجري عليهم في القيامة، وهذا على عكس الوجه الأول. والوليُّ حينئذ بمعنى: الناصر، وإثبات النصرة على سبيل التهكم، وإليه أشار بقوله: "نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه"، ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سبأ: 31]، والغرض استحضار صورة الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين تلك المقالة. قوله: (ويجوز أن يرجع الضمير)، يعني في قوله: (وَلِيُّهُمَ)، وهو عطفٌ على قوله: (فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ) حكاية الحال الماضية؛ لأن الضمير على الأول، لكل من والاه الشيطان، المعني الشيطان قبل قريش، زين للأمم الماضية من الكفار أعمالهم، فهو الآن ولي هؤلاء الخلف؛ لأنهم متصلون بهم في الدينن كقوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67].

ولي هؤلاء، لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أى: فهو ولى أمثالهم اليوم. [(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)]. (وَهُدىً وَرَحْمَةً) معطوفان على محل (لِتُبَيِّنَ) إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على (لِتُبَيِّنَ): لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل. وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل. والذي اختلفوا فيه: البعث، لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع إنصاف وتدبر، لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا هو الوجه، وعليه النظم الفائق؛ لأن في تصدر القسمية بقوله: (تَاللَّهِ) بعد إنكارهم الرسالة، وتعداد قبائحهم، الإشعار بأنها كالتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمم الخالية مع الرسل السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بتلك الأنبياء، وقومك خلفٌ لتلك الأمم، فلا تهتم لذلك، فإن ربك ينتقم لك منهم بالقتل والدمار في الدنيا، وبعذاب النار في العقبى، فاشتغل أنت عنهم بتبليغ ما أُنزل عليك من الكتاب الفيصل بين الحق والباطل، الهادي إلى الصراط المستقيم، والرحمة للمؤمنين، وبتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية، وبالتنبيه على إقامة الشكر على نعم الله المتظاهرة، وهذا التقرير يؤاخي التقرير في فاتحة هذه السورة الكريمة، والله أعلم. قوله: (وإنما ينتصب مفعولاً له)، قوله: "مفعولاً له" تمييزٌ، والفاعل "ما" في "ما كان". قوله: (وأشياء من التحريم)، عطفٌ على قوله: "البعث".

[(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)]. ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً. وأمّا (فِي بُطُونِها في) سورة المؤمنين، فلأنّ معناه الجمع. ويجوز أن يقال: في (الأنعام) وجهان: أحدهما: أن يكون تكسير نعم، كأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع، كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله: في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ وإذا أنث؛ ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع. وقرئ: (نسْقِيكُم) بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل نسقيكم. (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثوب أكياش)، وفي الحاشية: الأكياش: ضربٌ من الثياب تُغزل مرتين. قوله: (في كل عام نعمٌ) البيت، وبعده: هيهات هيهات لما يرجونه أربابه نوكي، فلا يحمونه ولا يلاقون طعاناً دونه يروى: "أفي كل عام"، ذكر الضمير في "تحوونه"، الراجع إلى "نعم"؛ لأنه اسمٌ مفرد بمعنى الجمع، يخاطب لصوصاً، يقول لهم: تحوون كل عام نعماً لقوم ألقحوه، وأنتم تنتجونه في حكيم. قوله: ((نُسْقِيكُمْ) بالفتح والضم)، بالضم: كلهم إلا نافعاً وابن عامر وأبا بكر،

وَدَم) أي: يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: سقيته وأسقيته بمعنى. وقال سيبويه والخليل: سقيته- كقولك: ناولته- فشرب، وأسقيته: جعلت له سُقيا، وكذلك قول لبيد يحتمل المذهبين: سقى قومي بني مجدٍ وأسقى ... نُميراً والقبائل من هلال وهذا البيتُ وضعهُ النحويون على أن "سقى" و"أسقى" بمعنى، وهو يحتمل التفسير الثاني. وقيل: لا يريد الشاعر بسقي قومه: أن يروى عطاشهم، يريد: رزقهم الله سقياً لبلادهم يخصبون منها، وبعيدٌ أن يسأل لقومه ما يروي العطاش ولغيرهم ما يخصبون، ومعنى (نُسْقِيكُمْ) بالضم: جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا، فهو كقوله: أسقيته نهراً. الجوهري: سقيته لشفته، وأسقيته لماشيته وأرضه، والاسم السقي بالكسر، والجمع الأسقية. قوله: (قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها) إلى آخره. وقيل: الأطباء يزعمون على خلافه، قال الإمام: المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي من الأشياء الحاصلة في الكرش، فاللبن يتولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولاً ثم مما كانت حاصلة فيما بين الدم ثانياً، فصفاه الله تعالى عن تلك الجزاء الكثيفة الغليظة، فإذا تناول الحيوان الغذاء ووصل إلى معدته أو إلى كرشه، فإذا طُبخ وحصل الهضم الأول فيه، فما

لبنا، وأعلاه دَمَاً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش. فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل! وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم. (سائِغاً): سهل المرور في الحلق. ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: (سيغاً) بالتشديد. و (سيغاً) بالتخفيف، كهين ولين. فإن قلت: أي فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية لابتداء الغاية؛ لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لـ (نسقيكم)، كقولك: سقيته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، والحاصل في الكبد ينهضم ثانياً ويصير دماً، ثم الدم يدخل في الوردة، وهي العروق النابتة من الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضروع عروق، فيصب الدم منها إلى الضرع، وفيه لحمٌ غُدديٌّ رخوٌ أبيضُ، فينقلب الدم فيه إلى اللبن، وذلك تقدير العزيز العليم. قال القاضي بعد ما ذكر نحواً من هذا: "ومن تدبر صُنع الله في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقتٍ على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حمته وتناهي رحمته، وعلى هذا الأقرب أن يكون (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) حالاً من (لَبَناً خَالِصاً) ولا يكون ظرفاً لغواً. قوله: (لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء)، رُوي: "مكان" بالرفع. وقيل: "بين": اسمٌ لا ظرف وانتصابه على الحكاية، وليس (أن) بعامل هذا النصب، وإنما هو عاملُ نصبٍ آخر مقدر، والتقدير: لأن محل الفرث والدم مكان الإسقاء، أو أن المتوسط والمتخلل بين الفرث والدم مكان الإسقاء، وفيه نظر، لأنه حينئذ: ظرفٌ لا اسم، والظاهر أن التقدير: أن

من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله: (لَبَناً) مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أي: كائناً من بين فرث ودم. ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبناً من بين فرث ودم كان صفة له؟ وإنما قدم؛ لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا؛ لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً. [(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)]. فإن قلت: بم تعلق قوله: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ)؟ قلت: بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي: من عصيرها، وحذف لدلالة (نسقيكم) قبله عليه، وقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو تعلق بـ (تتخذون). و (منه) من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك: زيد في الدار فيها. ويجوز أن يكون (تَتَّخِذُونَ) صفة موصوف محذوف، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسط الفرث والدم مكان الإسقاء، كقراءة من قرأ: "لقد تقطع بينكم" بالرفع. قوله: (أو تعلق بـ (تَتَّخِذُونَ))، أي: قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ)، وقلت: البيان والكشف أولى لمقابلته قوله: (نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَ) وهو بيان لقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)، ولذلك جعل (وَمِنْ ثَمَرَاتِ) متعلقاً بالمحذوف لا بهذا الظاهر، لكونه غير صالح للبيان. قال أبو البقاء: وقيل: التقدير: وتتخذون من ثمرات النخيل سكراً، وأعاد (مِن) لما قدم وأخر وذكر الضمير؛ لأنه عاد على شيء المحذوف، أو على معنى الثمرات، وهو الثمرُ، أو على النخل، أي: من ثمر النخل، أو على الجنس أو على البعض أو على المذكور. قوله: (زيدٌ في الدار فيها)، قال في سورة "الأنبياء": "أورد سيبويه- في باب ما يُثنى فيه

جادت بكفي كَانَ مِنْ أرْمَى الْبَشَرْ تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقا حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في (منه) إذا جعلته ظرفا مكرّراً؟ قلت: إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير، كما رجع في قوله تعالى (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف: 4] إلى الأهل المحذوف. والسكر: الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً. نحو رشد رشداً ورشداً. قال: وَجَاؤُونَا بهم سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى اليَوْمُ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المستقر توكيداً: عليك زيدٌ حريص عليك، وغير ذلك". قوله: (بكفي كان من أرمى البشر)، وقبله: ما لك مني غير سهم وحجر ... وغير كبداء شديدة الوتر جادت بكفي كان من أرمى البشر كبد القوس: مقبضها، والضمير في "جادت" راجعٌ إلى "كبداء"، أي: صارت جيدة، قوله: "بكفي كان"، أي: بكفي رجل كان من أرمى البشر. قوله: (فإلام يرجع الضمير في (مِنْهُ)؟ )، في السؤال إنكار بشهادة الفاء، يعني: إذا جعلت (مِنْ ثَمَرَاتٍ) من باب: زيدٌ في الدار فيها، كان الضمير في "منه" لغير مدخول (مِن) والثمرات مؤنثة، وأجاب بأنها في تأويل العصير. قوله: (إلى الأهل المحذوف)، أي: في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَاسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) أي: ومن عصير ثمرات النخيل. قوله: (وجاؤونا بهم سكرٌ)، البيت، الضمير في "جاؤونا": للجنس، "سكرٌ": غضب

وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها: الشعبي والنخعي. والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة. وقيل: السكر: النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتدّ، وهو حلال عند أبى حنيفة إلى حدّ السكر، ويحتج بهذه الآية، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الخمر حرام لعينها ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسفه، أراد بصحوهم: علمهم بعجزهم عن مقاومتنا، "سكَر": مبتدأٌ، و"بهم" خبرٌ مقدمٌ عليه، و"علينا": متعلقٌ بـ"سَكَر"، والجملة: حال، فأجلى بمعنى جلى، أي: انكشف، قيل: استشهد بالبيت على أن السكر مصدرٌ في الأصل. قوله: (وفيه وجهان)، أي: في الجمع بين السكر والرزق الحسن، من عليهم قبل النسخ بتمكينهم على أن يتخذوا منه السكر والرزق الحسن كسائر ما عدد عليهم من النعم لقوله: "لأنهم كانوا يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر" ثم نسخ السكر. قوله: (أن يجمع بين العتاب والمنة)، يعني: خلقنا لكم ثمرات النخيل والأعناب، بأن تجعلوها ذريعة إلى الطاعات، فجعلتم بعضاً منها مادة المعاصي، ولهذا قيد إحدى القرينتين بقوله: (حَسَناً). قوله: (وهو حلالٌ عند أبي حنيفة، رضي الله عنه إلى حد السُّكر، ويحتج بهذه الآية)، وعن محيي السنة: وأولى الأقاويل قولُ من قال: إنها منسوخة؛ لأنها نازلة قبل تحريم الخمر، وإلى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، وقلتُ: في الآية نفسها دلالة على قبح تناولها تعريضاً، وذلك من عطف قوله: (وَرِزْقاً حَسَناً) عليه، وقد فُسر بالخل والرُّب. قوله: (الخمرُ حرامٌ لعينها)، فيحرم قليلها وكثيرها.

والسكر من كل شراب»، وبأخبار جمة. ولقد صنف شيخنا أبو على الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ، فلما شيخ وأخذت منه السنّ العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوى به، فأبى. فقيل له: فقد صنفت في تحليله، قال: تناولته الدعارة فسمج في المروءة. وقيل: السكر: الطعم، وأنشد: جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَا أي: تنقلت بأعراضهم. وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن: الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً، كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والسكر من كل شراب)، أي: السكر أيضاً حرامٌ من كل شراب، فلا يحرم شربه إلا إذا انتهى إلى حد السكر فيحرم. قوله: (تناولته الدعارة)، الأساس: رجلٌ داعر: خبيث فاجر، وفيه دعارة، فهو على حذف المضاف، أي: طعمه أصحاب الدعارة، فقبح في المروءة التشبه بهم. قوله: (أي: تنقلت)، أي: جعلت أعراضهم نُقلا. "وقيل: هو" أي: "سكراً" في البيت. قوله: (إذا ابترك)، قيل: ابترك فلانٌ في عرض فلان: إذا اعتمد في ذمه. الأساس: وابترك الفرس في عدوه: اعتمد فيه واجتهد. قوله: (ويجوز أن يُجعل السكر رزقاً حسناً)، عطفٌ على قوله: "أن يجمع بين العتاب والمنة"، فعلى هذا العطف من باب البيان والتفسير.

[(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)]. الإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيقتها في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها، كما أولى أولي العقول عقولهم. وقرأ يحيى بن وثاب: (إِلَى النَّحْلِ) بفتحتين. وهو مذكر كالنحل، وتأنيثه على المعنى. (أَنِ اتَّخِذِي) هي (أن) المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. وقرئ: «بيوتا» بكسر الباء؛ لأجل الياء. و (يَعْرِشُونَ) بكسر الراء وضمها: يرفعون من سقوف البيوت. وقيل: ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها. والضمير في (يَعْرِشُونَ) للناس. فإن قلت: ما معنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلا فنيقتها)، أي: حُسنُ صُنعها، وعن بعضهم: أي: إن لم يقل: بعلمها وإدراكها، لم يصح؛ لأن نيقتها دليل ظاهر على علمها، فأقام سبب الجواب مقام الجواب، أو يُقال (إنْ) شرطية، ولذلك دخلت الفاء في الجزاء، أي: وإن لم تصدقني على ما ذكرتُ فنيقتها ولطفها وإصابتها دلائل بينة على أن الله تعالى أودعها علماً، أما نيقتها في صنعتها فهي ما ترى في بنائها البيوت المسدسة من أضلاع متساوسة لا يزيد بعضها على بعض، فإنها لو كانت مربعة بقيت فُرجٌ ضائعة عند دخولها فيها، ولو كانت مستديرة بقيت الفرج بين البيوت ضائعة، وأما فطنتها كما أعطى أولي العلم، فهي ما ذكره الإمام: أنلها مقدماً كالرئيس يكون أعظم جثة منها، نافذ الحكم بينها، وأنها إذا نفرت عن أوكارها، ذهبت بأجمعها، ثم إذا أريد عودها ضربوا لها آلات الملاهي والموسيقا، وبواسطة تلك الألحان ترد إلى أوكارها.

(من) في قوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)؟ وهلا قيل: في الجبال وفي الشجر؟ قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها. (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها، أي ابني البيوت، ثم كلى من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو: فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو: إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ): إحاطة بالثمرات)، مبتدأ وخبر، أي: هذا اللفظ مفيد للإحاطة العرفية، كقوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]. قوله: (تجرسها النحل)، الجوهري: الجرس: الصوت الخفي، ويقال: سمعت جرس الطير: إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله. قوله: (من أجوافك ومنافذ مآكلك)، فيه إشارة إلى الخلاف في أن العسل هل يخرج من بطونها أو من منافذ مآكلها كالأفواه؟ قال القاضي: واحتج بالآية من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في باطنها عسلاً، ثم تقيء ادخاراً للشتاء، ومن زعم أنها تتلقط بأفواهها أجزاء طلية حلوةً صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وتضعها في بيوتها ادخاراً، فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل، فسر البطون بالأفواه وكذا عن الإمام، وقال: يُسمى كل تجويف داخل البدن بطناً، ألا تراهم يقولون: بطون الدماغ، والذي يدل على أنها تحاول بما تفعل الادخار، أن صاحبها بعدما يشتار منه يترك لغذائها بقية في بيوتها.

بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله: (ثُمَّ كُلِي): ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك (ذُلُلًا) جمع ذلول، وهي حال من السبل، لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) [الملك: 15] أو من الضمير في (فَاسْلُكِي)، أي: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة. (شَرابٌ): يريد العسل؛ لأنه مما يشرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أراد بقوله: (ثُمَّ كُلِي) ثم اقصدي)، عطفٌ على قوله: "كلي من كل ثمرة تشتهينها"، وهو على أسلوب قوله: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل: 98]، وعلى الأول: أي: على غير هذا الأسلوب، الفاء جواب شرط محذوف. وعلى الثاني: سلوك السبيل على الحقيقة قطعاً، وعلى الأول تحتمل المجاز أيضاً، وهو على وجهين، أحدهما: المرادُ: استعمال الصنعة الغريبة في العمل، ومنه سلوك العارف، ومن ثم قال: الطرق التي ألهمك، وثانيهما: المراد استعمال المأكول في أجوافها ومسالكها التي تُحيل فيها النور المر عسلاً، ومنه: سلكت الخيط في الإبرة. وأما الحقيقة فهو قوله: "فاسلكي إلى بيوتك راجعة (سُبُلَ رَبِّكِ) "، والفرق بين هذا الوجه وبين قوله: ثم اقصدي، أن السلوك على هذا من مراعيها إلى البيوت راجعة، وعلى ذلك: من بيوتها إلى مراعيها قاصدة. الانتصاف: وكل الأكل إلى شهوتها فلم يحجر عليها، كما حجر في البيوت؛ لأن مصلحة الأكل حاملة على الإطلاق. وأما البيوت، فلايحصل مصلحتها في كل موضع، ولذلك دخلت (ثُم) لتفاوت الأمر في الحجر في البيوت، والإطلاق في الأكل، كما تقول: راعِ الحلال فيما تأكله، ثم كل مما شئت. وقلتُ: إنما عدل من خطابها إلى الغيبة في قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا) للتخلص إلى امتنان الناس؛ لأن المقصود من خلق النحل وإلهامه: انتفاعهم به. قوله: (وأنت ذللٌ)، جمع الخبر، والمبتدأ مفرد؛ لأن الخطاب في قوله تعالى: (فَاسْلُكِي

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر، (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقلّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك. وتنكيره: إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخي يشتكى بطنه، فقال: «اذهب واسقه العسل» فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته فما نفع، فقال: «اذهب واسقه عسلا، فقد صدق الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سُبُلَ رَبِّكِ) لجنس النحل بدليل قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وقوله: "وتأنيثه على المعنى"، الجوهري: النحل والنحلة: الدبر، يقع على الذكر والأنثى، ونظيره قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) [الانشقاق: 6 - 7]، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحدةٍ منها فجمع الخبر للمبالغة في الذلة كجمع الوصف في قوله تعالى: (شِهَاباً رَصَداً) [الجن: 9]، وقوله: "ومعي جياعاً" والأول هو الوجه. قوله: (أن رجلاً جاء إليه فقال: إن أخي) الحديث، رواه البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي سعيد، مع تغيير فيهن وليس في آخره: "كأنما أنشط من عقال". النهاية: أنشط، أي: حل، يقال: نشطت العقدة: إذا عقدتها، وأنشطتها وأنشطتها: إذا حللتها، وكثيراً ما يجيء: كأنما نشط من عقال، وليس بصحيح لما ذكرنا.

وكذب بطن أخيك)، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال. وعن عبد الله بن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل. ومن بدع تأويلات الرافضة: أن المراد بالنحل علىّ وقومه. وعن بعضهم: أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم. فضحك المهدي وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم. [(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)]. (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ): إلى أخسه وأحقره، وهو خمس وسبعون سنة، عن علىّ رضي الله عنه، وتسعون سنة، عن قتادة؛ لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذب بطن أخيك)، النهاية: الكذب هاهنا مجازٌ، حيث هو ضد الصدق، والكذب يختص بالأقوال، فجعل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كاذباً؛ لأن الله تعالى قال: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) يريد أنه من المقابلة والمشاكلة، فلما قال: صدق الله، حسن أن يقول: كذب بطن أخيك. قوله: (وعن عبد الله بن مسعود: العسل شفاء)، الحديث، رواه ابن ماجه عن عبد الله مرفوعاً، رزين أيضاً. قوله: (أنه قال عند المهدي)، هو أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور، ثالث خلفاء بني العباس، كان أبوه أبو جعفر المنصور خليفة، عمه أبو العباس السفاح خليفة، وأخوه موسى الهادي، وابنه هارون الرشيد وإخوته وأولاده كلهم خلفاء.

عِلْمٍ شَيْئاً): ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً: وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه. [(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَة ِاللَّهِ يَجْحَدُونَ)]. أي: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكى عن أبى ذرّ: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما هم إخوانكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة)، يعني: قوله: (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) كناية عن النسيان؛ لأن الناسي يعلمُ الشيء ثم ينساه، فلا يعلمه بعد ما علمه، وهذه صفة الأطفال. قال تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ)، والعلم بمعنى الإدراك والتعقل، المعنى: لا يترقى في إدراك عقله الأول؛ لأن الشاب في الترقي، والشيخ في التوقف والنقصان، وعلى هذا إذا أجرى العلم على معناه، كما في الوجه الأخير، وإنما خص الزيادة به؛ لان العلم يزداد بالترداد. قال الشيخ الشاطبي: وخيرُ جليس لايمل حديثه ... وترداده يزداد فيه تجملا قوله: (كما يُحكى عن أبي ذر رضي الله عنه)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، قال

فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون)، فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت. (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟ ! وقيل: المعنى: أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق، فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه حُلة مثلها، فسألته عن ذلك، فذكر انه ساب رجلاً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، قلت: على ساعتي هذه من كير السن؟ فقال: "نعم، هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم". قوله: (فجعل ذلك)، أي: عدم المساواة أو الرد بفضل ما رزقوهم عليه، المعنى: الله الذي فضل بعضكم على بعض في الرزق، فشكر ذلك أن تواسوا إخوانكم فيه، فما بالكم لا تواسون، أولا تردون رزقكم عليهم فتستووا في الرزق؟ فسر الآية بوجوه، أحدها: بين فيه حكم حسن الملكة كما سبق. وثانيها: أن يكون تمثيلاً، والممثل به ما تُعورف بين الناس من أحوال السادات مع المماليك، فذكره لتوبيخ المشركين. وثالثها: بين أن جميع النعم التي عدها من أول السورة، واصلة من الله تعالى إلى العبيد، سواء كانوا أحراراً أو مماليك، لئلا يمن أحدٌ على أحد. فإن قلت: لا يجوز أن يكون تمثيلاً لخلو الكلام عن القرينة الداعية إلى التمثيل؟ قلت: يمكن أن تُجعل القرينة كون الآية تخلصاً إلى نوع آخر من بيان قبائح الكفار وكفرانهم نعم الله المتواترة، وهو قوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إلى قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ)، والتنبيه على القرينة قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).

على أيديهم. وقرئ: (يجحدون) بالتاء والياء. [(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)]. (مِنْ أَنْفُسِكُمْ): من جنسكم. وقيل: هو خلق حواء من ضلع آدم. والحفدة: جمع حافد؛ وهو الذي يحفد، أي: يسرع في الطاعة والخدمة. ومنه قول القانت: وإليك نسعى ونحفد. وقال: حَفَدَ الْوَلَائِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ واختلف فيهم؛ فقيل: هم الأختان على البنات، وقيل: أولاد الأولاد، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأوّل، وقيل: المعنى: وجعل لكم حفدة، أي: خدما يحفدون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (يَجْحَدُونَ) بالياء والتاء)، الفوقانية: أبو بكر، والباقون: بالياء. قوله: (وهو الذي يحفد، أي: يسرع في الطاعة)، الراغب: الحافد: المتحرك المتبرع بالخدمة، أقارب كانوا أو أجانب. قال المفسرون: هم الأسباط ونحوهم، وذلك أن خدمتهم أصدق، وفلان محفود، أي: مخدوم، وسيفٌ محتفد، أي: سريع القطع. قال الأصمعي: أصل الحفد: مقاربة الخطو. قوله: (حفد الولائد) البيت، الولائد: الإماء، يقول: إن الإماء يسرعن بينهن، وأزمة الجمال أسلمت بأكفهن، يريد أنهن متنعمات مخدومات ذوات الإماء والأجمال. قوله: (وقيل: المعنى: وجعل لم حفدة، أي: خدماً)، عطفٌ على قوله: "وهو الذي

في مصالحكم ويعينونكم، ويجوز أن يراد بالحفدة: البنون أنفسهم؛ كقوله: (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) كأنه قيل: وجعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أي: جامعون بين الأمرين (مِنَ الطَّيِّباتِ): يريد بعضها، لأنّ كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به، كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز: هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول. وقيل: الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحفد، أي: يُسرع في الطاعة"، فعلى الأول: الحفدة عام فيمن يسرع في الطاعة والخدمة من القرائب، وعلى هذا: في معنى الخدم نفسه، وعلى الوجه الأخير يون العطف من باب قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأنفال: 49]. قوله: (إلا أنموذج منها)، المغرب: النموذج - بالفتح- والأنموذج- بالضم- تعريب نموذجه. قوله: ((أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو ما يعتقدون)، إلى آخره، فيه إنكار وتوبيخ على ما آمنوا وعلى ما كفروا، وفي التركيب الأول تقديم، فيفيد التخصيص، وتكرير فيؤذن بالتأكيد والتحقيق؛ لأن الفاء تستدعي فعلاً يُعطف المذكور عليه، أي: كفروا بالحق فآمنوا بالباطل، وإلى التخصيص الإشارة بقوله: "فليس لهم يمان إلا به"، وإلى التحقيق بقوله: "كأنه شيء معلوم مستيقن". والتركيب الثاني أيضاً كذلك: التأكيد من بناء يكفرون على هم، وإلى التخصيص الإشارة بقوله: "ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز هم كافرون بها"؛ لأنهم إذا كفروا نعمة الله مع وجود ما يوجب الشكر من جلائها وظهورهان وأنها كالمحسوس المشاهد، فكأنهم أنكروا أنها نعمةٌ، أو أنها من الله، وإليه الإشارة بقوله:

وغيرهما. ونعمة الله: ما أحل لهم. [(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ)]. الرزق يكون بمعنى المصدر، وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به (شَيْئاً): كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً) [البلد: 14]، على: لا يملك أن يرزق شيئاً. وإن أردت المرزوق؛ كان (شيئاً) بدلاً منه بمعنى قليلاً. ويجوز أن يكون تأكيداً لـ (لا يملك)، أي: لا يملك شيئاً من الملك. و (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صلة للرزق إن كان مصدراً، بمعنى: لا يرزق من السماوات مطرا، ولا من الأرض نباتاً. أو صفة إن كان اسما لما يرزق. والضمير في (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) لـ (ما)؛ لأنه في معنى الآلهة، بعد ما قيل: (لا يَمْلِكُ) على اللفظ. ويجوز أن يكون للكفار، يعني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "منكرون لها كما ينكر المحال" وإلى التأكيد الإشارة بقوله: "هم يكفرون بها ومنكرون لها"، وقوله: "نعمة الله": مبتدأ، وقوله: "هم كافرون بها": خبره، وفيه ضرب من التأكيد. قوله: (ونعمة الله ما أحل لهم)، قيل: "ما": مصدرية، أي: إحلال الله، أو موصولة، أي: أحله الله، والأولى الثاني؛ لأنه مقابل لقوله: "الباطل ما يسول لهم الشيطان"، وهي موصولة؛ لأن "مِن" في قوله: "من تحريم البحيرة" بيان لها. قوله: (تأكيداً لـ (لا يَمْلِكُ) ") أي: (شَيْئاً) مفعول مطلق، ولذلك بينه بقوله: "من الملك" بكسر الميم، كما تقول: ضربت نوعاً منا لضرب. قوله: (بعدما قيل: (لا يَمْلِكُ)) على اللفظ إشارة إلى خلاف ذكرناه عن ابن جني. قال صاحب "الانتصاف" فيما سبق: إن العود إلى المعنى بعد الحمل على اللفظ أنكره بعضهم، لما يلزم من الإجمال بعد البيان، وهو خلاف البلاغة. وهو مردود لمجيئه في أفصح الكلام.

ولا يستطيع هؤلاء - مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب - من ذلك شيئاً، فكيف بالجماد الذي لا حس به! فإن قلت: ما معنى قوله: (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) بعد قوله: (لا يَمْلِكُ)؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت: ليس في (ولا يَسْتَطِيعُونَ) تقدير راجع، وإنما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلا؛ لأنهم موات، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفى الملك والاستطاعة للتوكيد، أو يراد: أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم. [(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)]. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ): تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به؛ لأنّ من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال وقصة بقصة، (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) كنه ما تفعلون وعظمه، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم؛ لأنّ العقاب على مقدار الإثم، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كنهه وكنه عقابه، فذاك هو الذي وجرّكم إليه وجرأكم عليه، فهو تعليل للنهي عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى قوله: (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ)؟ )، وجه السؤال أن مفعول (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) محذوف، وهو الضمير الراجع إلى الرزق، بدليل سياق الكلام عليه، فيلزم عطف الشيء على نفسه. وأجاب: "ليس في (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) " أي: لا نسلم اشتماله على الراجع، بل هو مطلق من باب: فلانٍ يُعطي ويمنع، فيكون "فلا يستطيعون" تذييلاً للكلام السابق، ثم قال: "إلا أن يقدر"، أي: ولن سُلم اشتماله على الراجع فيكون من باب التأكيد، نحو قوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6] أو من باب الترقي، فإن قوله تعالى: (لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) دل على نفي مُلك الرزق عنهم مطلقاً، وقوله: (لا يَسْتَطِيعُونَ) على نفي استطاعة أن يكونوا مالكين، وإليه الإشارة بقوله: "لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه"، ولا يتأتى ذلك فيهم. ويجوز أن يكون تتميماً. قوله: (وجرأكم عليه)، الجوهري: الجُرأة: الشجاعة، وتقول: جرأتك على فلان حتى اجترأت عليه.

الشرك. ويجوز أن يراد: فلا تضربوا لله الأمثال، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون. [(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يُراد: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ)، عطف على قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ): تمثيل"، وعلى التمثيل لا قول ثمة، ولا مثل، ولا ضرب، لأن الفاء في: (فَلا تَضْرِبُوا) رتب النهي على قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية، كأن حالهم في مزاولة عبادة الأصنام المستلزم لتشبيه حالها بحال المعبود الحق في استحقاق العبادة، حالُ من يحاول انتزاع أمور متعددة غير حقيقية بين المشبه والمشبه به ليلحقه به ويقيمه مقام تشبيه، وإليه الإشارة بقوله: "لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال"، وقوله: (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ): تعليل للنهي، كأنه قيل: لا تُشركوا بالله شيئاً وانتم قومٌ جهلة، ولذلك صدر منكم هذه الغفلة. وإليه الإشارة بقوله: "فذاك هو الذي جركم إليه". وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ): اعتراض وارد على الوعيد والتهديد، وهو المراد من قوله: "إن الله يعلم كنه ما تعملون، وهو معاقبكم عليه". وعلى الثاني: النهي واردٌ على مثل ضربوه، وتشبيه انتحلوه، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) برمته: تعليل، أي: ضربُ الأمثال من العلوم الدقيقة يستدعي لطف إدراك وخبرة لا سيما في ذات الله عز وجل، فلا يقدر على الشروع فيه إلا الله والراسخون في العلم. ومن ثم عقبه بقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً)، وأشار المصنف إليه بقوله: "ثم علمهم كيف تُضرب". وأما بيان اتصاله على الوجه الأول، فإنه تعالى لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي، وهو الإشراك بالله المستلزم له، عقبه بما يكشف لذي البصيرة عن حالهم في تلك الفعلة، وحال من يخالفهم فيها من قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية.

ثم علمهم كيف تضرب فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان: مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء. فإن قلت: لم قال: (مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف؟ قلت: أما ذكر المملوك؛ فليميز من الحرّ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا؛ لأنهما من عباد الله. وأما (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)؛ فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له؛ لأنهما يقدران على التصرف. واختلفوا في العبد: هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر: أنه لا يصحّ له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واختلفوا في العبد: هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصح له)، الانتصاف: مالك رحمه الله يرى أنه يملك، والآية تعضده، أي: مملوكاً ليس ممن ملكه سيده فملك، بل هو على أصل الملكة، عاجزٌ، فلو لم يتصور له مُلكٌ، لكان قوله: (لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) تكراراً، وقوله: "احترازا من المكاتب" بعيدٌ من فصاحة القرآن، إذ لو لم يملك من العبيد إلا مكاتب لكانت إرادته باللفظ إيجازاً مع إخلال لا يليق بالبلاغة. وأنكر إمام الحرمين حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها" على المكاتبة، لبُعد القصد إليها على شذوذها. وأما المأذون فينبني على القول بان المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف أوالملك، وبُعد الأول عن مطابقة قوله: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً). ولقائل أن يقول: إن قوله: (لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) صفة لازمة، كالإيضاح لفائدة ضرب المثل، أي: إنما ضربت المثل به؛ لأن حقيقته اللازمة له المعروفة به أنه لا يقدر على شيء، ومنه: (وَمَنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون: 117]، وكل مدعو مع الله لا برهان له به، إنما المراد به أنه من لوازم دعائه مع الله إلها. ولنا أن نقول في دفعه: الأصل في الصفة والحال التخصيص والتقييد، وما ورد بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل. وقال الإمام: احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يُملكُ شيئاً، فإن قالوا: ظاهر الآية يدل على أن عبداً من العبيد لا يقدر على شيء، فلم قلتم: إن كل عبدٍ كذلك؟ فنقول: الذي يدل عليه وجهان، الأول: أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، كونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذل والمقهورية، وقوله: (لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) حُكمٌ مذكور عقيبه، فهذا يقتضي أن العلة لعدم القدرة على الشيء، هو كونه عبداً، وبهذا الطريق ثبت العموم. والثاني: أنه تعالى قال بعده: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) فميز هذا القسم الثاني على القسم الأول، وهو العبد بهذه الصفة، وهو أنه يرزقه رزقاً، فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول، ولو مُلك العبدُ لكان الله قد آتاه رزقاً حسناً؛ لان الملكَ الحلالَ رزقٌ حسن، سواء كان قليلاً أو كثيراً. وقلت: لا شك أن قوله: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً) مقابل لقوله: (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ)، والمقصود من ذكرهما الحجرُ والمنعُ والإطلاق والتوسعة؛ لأن التمثيل في الأصنام والملك العلام، فلابد من تصور العجز التام، فإذا أجريناه على ما قال، لزم التصرف المحذور. والحاصل أن إتيان صفتين لمزيد التصوير والكشف عن حالة العجز لا للتمييز والتفصلة، ألا ترى كيف ترقى في التمثيل الثاني، وزاد البكم والكل، وعدم الإنجاح في المهمات ليدل على كمال ذلك المعنى؟ وكذا في

فإن قلت: (مَنْ) في قوله: (وَمَنْ رَزَقْناهُ) ما هي؟ قلت: الظاهر أنها موصوفة، كأنه قيل: وحراً رزقناه؛ ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة. فإن قلت: لم قيل (يَسْتَوُونَ) على الجمع؟ قلت: معناه: هل يستوي الأحرار والعبيد؟ [(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)]. الأبكم: الذي ولد أخرس، فلا يَفهم ولا يُفهم. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي: ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله، (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ): حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ) هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو (يَامُرُ) الناس (بِالْعَدْلِ) والخير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جانب المشبه به، فإنه ترقى من تصرفه كيف شاء إلى كونه آمراً بالعدل، ومن كونه مرزوقاً، إلى كونه مهدياً إلى صراط مستقيم. قوله: (ولا يمتنعُ أن تكون موصولة) يريد أن الآية من باب التضاد والطباق، فيحتمل من أن تكون موصوفة، كما يُقال: عبداً مملوكاً وحراً مرزوقاً، وأن تكون موصولة، بأن يقال: والحر الذي رزقناه، لكن المطابع ممن رُزق الذوق السليم لا يعرج عنه إليه، وهذا ينظر إلى قول المصنف في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة: 8]: "و"مَن" في (مَنْ يَقُولُ) [موصوفة] إن جعلت اللام للجنس، وإن جعلتها للعهد فموصولة". قوله: ((هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ) هو سليم الحواس؟ )، يعني: لابد من المقابل بين العدل وما سبق، ولا يأمر بالعدل إلا من يكون موصوفاً بصفات الكمال، وتخصيص المذكورات للتقابل.

(وَهُوَ) في نفسه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ): على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرئ: (أينما يوجه)، بمعنى: أينما يتوجه، من قولهم: (أينما أوجه ألق سعداً). وقرأ ابن مسعود: (أينما يوجه)، على البناء للمفعول. [(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)]. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي: يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه. أو: أراد بغيب السموات والأرض: يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم. (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي: هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه. ونحوه قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47] أي: هو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أينما أوجه ألق سعداً)، يُضربُ لمن يتلقى الشر أية سلك، وعن بعض: أصله أن أضبط كان سيد قومه، فأصابه منهم جفوة، فارتحل عنهم إلى آخرين، فرآهم يصنعون بساداتهم مثل صنيع قومه، فقال: "أينما أوجه ألق سعداً"، وسعد كان شريراً. قوله: (ونحوه قوله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ))، أي: نحوه في استعمال الله تعالى ما يستقرب المدة فيما هو بعيد عند الناس، قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47]، أي: ألف سنةٍ عندكم بعيدٌ، وعند الله مقدار يومٍ على عرفكم وعادتكم.

عنده دان وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى: أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه، (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق؛ لأنه بعض المقدورات. ثم دل على قدرته بما بعده. [(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)]. قرئ (أُمَّهاتِكُمْ) بضم الهمزة وكسرها، والهاء مزيدة في أمهات، كما زيدت في أراق، فقيل: أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأوحاه)، أي: أسرعه، الأساس: استوحيته: استعجلته. "النهاية": في الحديث: "إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته، فإن كان شراً فانته، وإن كان خيراً فتوحه" أي: أسرع غليه، والهاء للسكت. قوله: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على أن يقيم الساعة)، إشارة إلى أنه كالتعليل لإثبات أمر الساعة وسهولة تأتيها. ولما كان البعث والحشر موقوفاً على مسألتي العلم والقدرة، عطف جملة (أَمْرُ السَّاعَةِ) على جملة (غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) عطف "جبريل" على "الملائكة"، ثم علله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فكما عطف ذلك عقب قوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأتى بالواو إيذاناً بأن مقدور الله لا نهاية له، والمذكور بعض منها. وإليه أشار بقوله: "ثم دل على قدرته بما بعده". قوله: (قرئ (أُمَّهَاتِكُمْ) بضم الهمزة)، كلهم إلا حمزة والكسائي.

أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَالْيَاسُ أبي (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) في موضع الحال، ومعناه: غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون، وسوّاكم وصوّركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله: (وَجَعَلَ لَكُمُ) معناه: وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمهتي خندف والياس أبي)، لقُصي بن كلاب، قبله: إني لدى الحرب رخي اللبب ... معتزم الصولة عالي النسب يقال: فلان في لبيبٍ رخي، أي: في حال واسعة، "الاعتزام": لزوم القصد. قوله: (وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل)، الحصر مستفاد من فحوى الكلام وانصبابه في قالب جوامع الكلم، وهو أنه تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبد، ويُعرف لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، فأخبر تعالى أنه أخرجهم من ظلمات الرحم إلى فضاء عالم التكليف وهم غير عالمين لما خلقوا له، كما قال: غير عالمين شيئاً من حق المنعم، فخلق لهم السمع ليسمعوا آياته البينات، وبصراً لينظروا إلى الدلائل الدالة على وجوده، وفؤاداً ليتفكروا في آلائه وحكمته، فيجعلوها وسيلة إلى ما خُلقوا له من الشكر والعبادة، كما قال: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فظهر أن هذه آلات ما خُلقت إلا لاجتلاب العلم والعمل به، فمن جعلها آلات لغير ذلك فقد أبطل حكمة الله في خلقها، وانخرط في سلك (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف: 179]. قال القاضي: (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) جُهالاً مستحصبين جهل الجمادية (وَجَعَلَ لَكُمْ) أداة تعلمون بها فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها، ثم تتنبهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها بتكرير الإحساس، حتى تحصل لكم العلوم البديهية وتتمكنوا من

ولدتم عليه، واجتلاب العلم والعمل به؛ من شكر المنعم، وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقي إلى ما يسعدكم. والأفئدة في فؤاد، كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها، كما جاء: شسوع في جمع شسع لا غير، فجرت ذلك المجرى. [(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)]. قرئ: (لم يروا) بالتاء والياء. (مُسَخَّراتٍ): مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك. والجوّ: الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك أبعد منه، واللوح مثله (ما يُمْسِكُهُنَّ) في قبضهن وبسطهن ووقوفهن (إِلَّا اللَّهُ) بقدرته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحصيل المعالم الكسبية بالنظر فيها لكي تعرفوا ما أنعم عليكم طوراً بعد طور فتشكروه. وفي هذا التقرير إشعارٌ بأن قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعليل للجعل لا للإخراج، فيفيد معنى الحصر الذي قرره المصنف، كأنه قيل: خلقكم وأنتم كالجماد، ثم جعل لكم أدوات لتتميزوا عنه. قوله: (جرت مجرى جموع الكثرة والقلة)، أي: هي مشتركة تستعمل تارة في القلة وأخرى في الكثرة، واستعملت هنا في الكثرة؛ لأن الخطاب في (أَخْرَجَكُمْ) عام. قوله: ((مَا يُمْسِكُهُنَّ) في قبضهن وبسطهن ووقوفهن (إلا الله))، كقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ) [الملك: 19]، قال القاضي: إن ثقل جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها، ولا دعامة تحتها تمسكها، وخلق الجو بحيث يمكن الطيران فيه.

[(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)]. (مِنْ بُيُوتِكُمْ) التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها. والسكن: فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف. (بُيُوتاً) هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع، (تَسْتَخِفُّونَها): ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي: يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. أو: هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنْ بُيُوتِكُمْ) التي تسكنونها)، الراغب: أصل البيت: مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال بغير اعتبار الليل، وجمعه أبيات وبيوت، والبيوت بالسكن أخص، والأبيات بالشعر، وشبه به بيت الشعر، وصار "البيت" مطلقاً متعارفاً في آل النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه صلى الله عليه وسلم بقوله: "سلمان منا أهل البيت" أن مولى القوم يصح نسبته إليهم، كما قال: "مولى القوم منهم، وابنه من أنفسهم". قوله: (خفيفة المحمل) الراغب: الخفيف بإزاء الثقيل، ويقال ذلك باعتبار المضايفة بالقرن، وقياس أحد الشيئين إلى الآخر، تقول: درهم خفيف ودرهم ثقيل، وباعتبار مضايفة الزمان، نحو: فرس خفيف وفرس ثقيل، إذا عدا أحدهما أكثر في زمان واحد، وقد مر مبسوطاً في سورة التوبة.

على أنّ اليوم بمعنى الوقت. (وَمَتاعاً): وشيئاً ينتفع به (إِلى حِينٍ): إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو: إلى أن يبلى ويفنى، أو: إلى أن تموتوا. وقرئ: (يوم ظعنكم) بالسكون. [(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَاسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)]. (مِمَّا خَلَقَ): من الشجر وسائر المستظلات. (أَكْناناً): جمع كنّ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف. (سَرابِيلَ): هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيرها، (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) لم يذكر البرد؛ لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم، وقلما يهمهم البرد؛ لكونه يسيراً محتملا. وقيل: ما يقي من الحرّ يقي من البرد، فدل ذكر الحرّ على البرد، (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن اليوم بمعنى الوقت)، أي: الزمان الممتد؛ لأن عادتهم إما الإقامة أو الظعن، كقوله تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) [مريم: 62]، وإليه الإشارة بقوله: "في أوقات السفر والحضر جميعاً". الانتصاف: الوجه الأول أولى، إذ ظهور المنة في خفتها في السفر أتم، أما المقيم فلا عليه من ثقلها. قوله: (وقرئ: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ): بالسكون)، ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. قوله: (وقيل: ما يقي من الحر يقي من البرد)، الانتصاف: الوجه الأول أولى؛ لأنه قدم المنة بالظلال الواقية من الضحى بقوله: (مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً)، فالأهم إذن وقاية الحر، وليس ل ما يقي الحر يقي البرد كشفوف القمصان، بل لو لبس إنسان لبوس الحر في البرد أو عكس لعد من الثقلاء.

بَاسَكُمْ) يريد الدروع والجواشن، والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره. (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي: تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له. وقرئ: (تسلمون) من السلامة، : أي تشكرون فتسلمون من العذاب. أو: تسلم قلوبكم من الشرك. وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع. [(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)]. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر، وهو البلاغ؛ ليدل على المسبب. (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بعبادتهم غير المنعم بها، وقولهم: هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: إنكارهم: قولهم: ورثناها من آبائنا. وقيل: قولهم: لولا فلان ما أصبت كذا، لبعض نعم الله. وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله، وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي: الجاحدون غير المعترفين. وقيل: (نِعْمَتَ اللَّهِ) نبوّة محمد عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((تُسْلِمُونَ) أي: تنظرون)، أي: الإسلام هاهنا بمعنى الاستسلام والانقياد، وضع موضع سببيه، وهو ينظرون ويتفكرون، المعنى: مُنحوا كذا وكذا من النعم الظاهرة والباطنة يتفكروا وينظروا ويعرفوا المنعم فينقادوا له، يدل عليه قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)؛ لأن من تولى أبي الانقياد، ثم ترقى إلى بيان عنادهم وأنهم يعرفون المنعم المولى، ثم ينكرونها. قوله: (فذر سبب العُذر ... ، ليدل على المسبب)، يعني: كان من الظاهر أن يقال: فإن لم ينقادوا لله تعالى بعد تذكيرك إياهم آيات الله، فقد تمهد عذرك، لأنك قد أديت ما عليك من الواجب، فوضع موضع المذكور قوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وضعا للسبب موضع المسبب، ففي العدول الإشعار بإلزام الحجة واستئهال العقاب، وفي الظاهر تمهيدٌ للعذر.

الصلاة والسلام، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة، لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر. [(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ* وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)]. (شَهِيداً) نبيا يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق، والكفر والتكذيب، (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار، والمعنى: لا حجة لهم، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر، وكذا عن الحسن رحمه الله. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): ولا هم يسترضون، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل. فإن قلت: فما معنى (ثم) هذه؟ قلت: معناها أنهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة. وانتصاب اليوم بمحذوف، تقديره: واذكر يوم نبعث، أو: يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) كقوله: (بَلْ تَاتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) الآية [الأنبياء: 40]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يقالُ لهم: أرضوا ربكم)؛ لأن الاستعتاب: طلب إزالة العتاب، وعتاب الله عبارة عن سخطه وعدم رضاه، أي: لا يطلب منهم غزالة سخط الله عنهم. قوله: (أنهم يمنون)، أي: يبتلون، الجوهري: منوته ومنيته، أي: ابتليته. قوله: (وكذلك إذا رأوا العذاب)، قيل: "إذا رأوا العذاب" أيضاً منصوب بمحذوف، ويقال: إن وجه الشبه يقتضي أيضاً تأخير المحذوف في التقدير، أي: يوم يُبعث وقعوا فيما وقعوا، وكذلك إذا رأوا العذاب وقعوا فيما وقعوا أيضاً، وإليه أشار بقوله: "بغتهم" وكذا وكذا، وفي تركيبه- أعني: إذا راوا العذاب بغتهم وثقل عليهم، فلا يُخفف-إيذانٌ

[(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ* وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)]. إن أرادوا بالشركاء آلهتهم؛ فمعنى (شُرَكاؤُنَا): آلهتنا التي دعوناها شركاء. وإن أرادوا الشياطين؛ فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغيّ: (ونَدْعُوا): بمعنى نعبد. فإن قلت: لم قالوا (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت: لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأن قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، مُظهر وُضع موضع المضمر للإشعار بأن العذاب إنما لم يخفف عنهم؛ لأنهم ظلموا، وأن الفاء في: (فَلا يُخَفَّفُ) فصيحة، وليست بجواب "إذا"، والجزاء المقدر، هو قوله: "بغتهم وثقل عليهم"، والشاهد على المقدر قوله: (بَلْ تَاتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) [الأنبياء: 40]، فقوله: "بغته" مثل (تَاتِيهِمْ بَغْتَةً)، وقوله: "ثقل عليهم" مثل (فَتَبْهَتُهُمْ)، وقوله: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) مثل (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا)، وقوله: (وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) مثله في الآية المستشهد [بها]. قوله: (لما كانوا غير راضين)، يعني: المراد بالشركاء في قوله: (وَإِذَا رءا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ)، وهم كل من عُبد من دون الله من الملائكة والمسيح وعُزير والجن والإنس والشياطين كما سبق آنفاً، إذ المقامُ يقتضي العموم لقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)، ومن هو مثل الملائكة يكذبونهم لوجهين: أحدهما: يكذبونهم لما أنهم كانوا معرضين غير راضين بعبادتهم. وثانيهما: التكذيب راجعٌ على تسميتهم شركاء، وقولهم: (هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا) وعلى الأول إلى فعلهم وعبادتهم لهم، وإنما قلنا: مثلُ الملائكة لاستشهاده بقوله: (كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ).

والدليل عليه: قول الملائكة: (كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) [سبأ: 41] يعنون: أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، فهم المعبودون دوننا. أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة؛ تنزيها لله من الشريك. وإن أريد بالشركاء الشياطين؛ جاز أن يكون كاذبين في قولهم: (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) كما يقول الشيطان: (إنى كفرت بما أشركتمون من قبل) [إبراهيم: 22]، (وَأَلْقَوْا): يعنى: الذين ظلموا. وإلقاء السلم: الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا، (وَضَلَّ عَنْهُمْ): وبطل عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أن لله شركاء، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم. [(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)]. (الَّذِينَ كَفَرُوا) في أنفسهم، وحملوا غيرهم على الكفر: يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم. وقيل في زيادة عذابهم: حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جاز أن يكونوا كاذبين)، أي: الشياطين قالوا للمشركين: إنكم لكاذبون فيما تقولون علينا، فالشياطين كاذبون في هذا التكذيب؛ لأنهم في الدنيا زينوا وسولوا ووسوسوا وما قصروا فيه: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 202]، كما قال: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم: 22]، وكذب في هذا القول، وهذا لا يصح في حق الملائكة. قوله: (حُمَتَها)، الجوهري: حُمةُ العقرب: سُمها وضُرها، وأصلها حموٌ وحُمى، والهاءُ عوض.

[(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)]. (شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعنى: نبيهم؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم، (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ): على أمتك. (تِبْياناً): بيانا بليغاً ونظير، «تبيان»: «تلقاء» في كسر أوله، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لِكُلِّ شَيْءٍ؟ قلت: المعنى: أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة، حيث أمر فيه بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقيل: (وما ينطق عن الهوى) (النجم: 3). وحثاً على الإجماع في قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 115]، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه، والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد، مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثمّ كان تبيانا لكل شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى) [النجم: 3]، عطفٌ على قوله: "أمر فيه باتباع الرسول وطاعته"، يعني: أُحيل البيان على السنة بوجهين حيث أمر فيه، أي: في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النور: 54] ن وحيث قيل في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى). قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، مثله في "جامع الأصول"، رواه رزين العبدري عن ابن المسيب، وفي رواية "أخبار الشهاب": "أصحابي مثلُ النجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى"، وذكره الصغاني في قسم الحِسان.

[(إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)]. العدل: هو الواجب؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العدلُ هو الواجب)، فيه إيماءٌ إلى مذهبه، فكنى عن الواجب بالعدل؛ لأن الواجب ملزوم العدل؛ لأن الله تعالى جعل ما فرض على عباده واقعاً تحت طاقتهم، أي: لا يلفهم فوق طاقتهم، لئلا يون جوراً، ومن ثم سموا أنفسهم بالعدلية. هذا تخصيص من غير دليل، سيما المقام يقتضي العموم، ولهذا قال ابن مسعود: اجمع آية في القرآن هذه الآية. وقال القاضي: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهُدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقيب قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) للتنبيه عليه. وقال الإمام: إنما يحسن تفسيرُ اللفظ بمعنى إذا حصل بينهما مناسبة، وإلا كان فاسداً، وبناء على مجرد التحكم، فإن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان، فالعدل عبارة على المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وذلك أمرٌ واجبٌ في جميع ما يصح فيه هذا المعنى، والواجبات إما في الاعتقتاد، وغما في الأعمال، أو في الخلاق، فالعدل في الاعتقاد: أما في التوحيد فيجب أن يعتقد أن الإله موصوفٌ بصفات الكمال، فهذا وسطٌ بين التعطيل والتشبيه. وأما في الأفعال: فيجب أن يعتقد أن العبد يصدر عنه الفعل كسباً بواسطة داعية وقدرة يخلقها الله تعالى؛ لأنه وسطٌ بين الجبر والقدر. أما الأعمال: فالعدل فيها أن يأتي بالطاعات علاى الطريق السوي. قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286].

لأن الله تعالى عدل فيه على عباده، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم. وَالْإِحْسانِ: الندب؛ وإنما علق أمره بهما جميعاً؛ لأنّ الفرض لابدّ من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الفرائض فقال: والله لا زدت فيها ولا نقصت: «أفلح إن صدق»، فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس: خُذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله تعالى ما يملُّ حتى تملوا". وعن أبي داود، عن سهل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ... الحديث. وأما الأخلاق: فالعدل في الجود: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]، وفي الشجاعة: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54]، ثُم الزيادةُ على العدل قد تكون إحساناً، وقد تكون إساءة، والإحسان إما أن يكون بحسب الكمية أو الكيفية. فالكمية: كالتطوع بالنوافل، والكيفية: كالاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية، قال صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنهُ يراك"، وهذه الآية استئناف، كالبيان لكون الكتاب تبياناً لكل شيء. قوله: (فقال: والله لا زدتُ فيها ولا نقصت)، وفي رواية البخاري ومسلم: "لا أزيدُ على هذا ولا أنقص". قوله: (فعقد الفلاح)، أي: قيده، من قولهم: عقدتُ الحبل والبيع.

التفريط، وقال صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا» فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط ممن النوافل. والفواحش: ما جاوز حدود الله. وَالْمُنْكَرِ: ما تنكره العقول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استقيموا ولن تُحصوا)، الحديث، من رواية مالك وأحمد بن حنبل وابن ماجه، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". النهاية: أي: استقيموا في كل شيء حتى لا تملوا، ولن تطيقوا الاستقامة، من قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [المزمل: 20] أي: تطيقوا عده وضبطه. قوله: (فما ينبغي أن يُترك ما يجبُرُ كسر التفريط من النوافل)، هذا متصلٌ بقوله: "ولذلك قال"؛ وهو تعليلٌ قوله: "ولابد من أن يقع تفريط فيجبره الندب، أي: ولن تطيقوا، وجيء بـ"لن" التي للتوكيد، وإذا كان الأمر على هذا فلابد مما يجبر به هذا التفريط، وليس ذلك إلا النوافل، لما روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يُحاسب به العبدُ صلاتُه، فإن كان أتمها كُتبت له تامة، فإن لم يكن أتمها قال الله تعالى: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع، فتُكملوا بها فريضته؟ ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمالُ على حسب ذلك"، ورواه أبو داود عن أنس بن حكيم. قوله: (والمنكر: ما تُنكره العقول)، الانتصاف: هذا اعتزالٌ، والمنكر: ما أنكره الشرع.

وَالْبَغْيِ: طلب التطاول بالظلم، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: المنكر: كل فعلٍ تحكم العقول السليمة بقبحه أو تتوقف في استقباحه، فتحكم بقبحه الشريعة، وإلى ذلك قصد بقوله تعالى: (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ) [التوبة: 112]، وقال في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) يحثُّ على فعل الخير، وينهى عن الشر، وذلك بعضه بالشرع الذي شرعه لنا وبعضه بالعقل الذي ركبه فينا؛ والنهي حينئذ أعمُّ من حيث اللفظ والمعنى، فأما المعنى فكما في قوله: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى) [النازعات: 40] لأنه لم يعن أن يقول لنفسه: لا نفعلُ، بل أراد قمعها عن شهوتها ودفعها عما نزعت إليه، وهمت به، وكذا النهيُ عن المنكر يكون تارة باليد وتارة باللسان وتارة بالقلب. وأما اللفظ فكما تقول: اجتنب كذا، وأصل النهي: الزجرُ عن الشيء، وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره. قوله: (والبغي: طلب التطاول بالظلم)، الانتصاف: البغي أصله الطلب، ومنه (ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) [البقرة: 207]، وإطلاقه في العُرف مخصوص بالظلم. قوله: (وحين أسقطت من الخُطب لعنة الملاعين)، ذكر صاحبُ "الكامل في التاريخ": كان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلى أن وُليَّ عمر بنُ عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب إلى العُمال في الآفاق بتركه، وكان سببث محبته علياً أنه قال: كنتُ بالمدينة أتعلمُ العلم، وكنتُ الزمُ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنه، فبلغه عني شيء من ذلك، فأتيته يوماً وهو يصلي، فأطال الصلاة، فقعدت أنتظرُ فراغه، فلما فرغ التفت إليّ، وقال: متى علمت أن الله تعالى غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان

المؤمنين عليّ رضي الله عنه؛ أقيمت هذه الآية مقامها. ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالا وخزيا؛ إجابة لدعوة نبيه: «وعاد من عاداه» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد أن رضي عنهم؟ قلتُ: لم أسمع بذلكن قال: فما الذي بلغني عنك في علي؟ فقلت: معذرة إلى الله وإليك، وتركتُ ما كنتُ عليه. وكان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج في كلامه، فقلت: يا أبتِ، إنك تمضي في خُطبتك فإذا أتيت إلى ذر عليٍّ عرفتُ منك تقصيراً. قال: أو فطنت ذلك؟ قلتُ: نعمْ. فقال: يا بُني، إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم لتفرقوا عنا إلى أولاده، فلما وُلي الخلافة لم تكن عنده من الرغبة في الدنيا ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجلها، فترك ذلك، وكتب بتركه، وقرأ عوضه: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) الآية، فحل هذا الفعل عند الناس محلا عظيماً، وأكثروا مدحهُ، فمنه قول كُثير: وليت فلم تشتم عليا ولم تُخف ... بريا ولم تتبع مقالة مجرم تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم فصدقت معروف الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضياً كل مسلم ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوم فقال عمر رحمه الله حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذن. قوله: (وعاد من عاداه)، ذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب"، قال: روى بريدة وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، كل واحد منهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه"، وبعضُهم

وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون. [(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)]. عهد الله: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يزيد على: "من كنتُ مولاه فعلي مولاه". ورواه أحمد بن حنبل عن البراء وحده. قوله: (وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون)، وروى الإمام في "تفسيره" عن ابن عباس: أن عثمان بن مظعون الجُمحي قال: ما أسلمت أولاً إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقرر الإسلام في قلبين فحضرته ذات يوم، فبينا هو يحدثني غذ رأيت بصره شخص إلى السماء، ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك، فسألته، فقال: بينا أنا أحدثك إذ نزل جبريل عن يميني فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) إلى آخره، فقال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي، وأتيت أبا طالب فأخبرته، فقال: يا معشر قريش: اتبعوا ابن أخي، إن كان صادقاً أو كاذباً فنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق. ونحوه رأيت بخط مولاي المرحوم بهاء الدين القاشي رحمه الله. قوله: (عهد الله: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإنما أسند إلى الله لأن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدُ الله، لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح: 10] وهو مستشهد لفظاً ومعنى؛ لأنه في أهل بيعة الرضوان، وإنما خصه ببيعة الرضوان لأن قوله: (أَنْ تَكُونَ

يُبايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح: 10]. (وَلا تَنْقُضُوا) أيمان البيعة (بَعْدَ تَوْكِيدِها) أي: بعد توثيقها باسم الله. وأكد ووكد: لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل. (كَفِيلًا): شاهداً ورقيباً؛ لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه. (وَلا تَكُونُوا) في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أَن أحكمته وأبرمته فجعلته (أَنْكاثاً) جمع نكث؛ وهو ما ينكث فتله. قيل: هي ريطة بنت سعد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) في قريش يعني: أوفوا بما عاهدتم الله، ولاتنقضوه مخافة الأعداء من قريش، وتوفر عددهم وعُددهم، وإنما جعلكم مستضعفين، وأعداءكم أقوياء، ليتميز الثابت منكم والناكص على عقبيه، وإليه أشار بقوله: (إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ)، وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ): عطفٌ من حيث المعنى على قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)، الآية، عطف الخاص على العام اهتماماً بوفاء العهد والثبات عليه، ولذلك عقبه بالتمثيلين، وجيء بقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله: ((بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، أي: بعد توثيقها)، الراغب: وكدتُ القول والعهد وأكدته بمعنى أحكمته. والسير الذي يُشد به القربوس يُسمى التأكيد، ولا يقال: توكيدٌ، قال الخليل: "أكدتُ في عقد الأيمان" أجود، و"وكدتُ في القول" أجود، تقول: إذا عقدت فأد، وإذا حلفت فوكد. ووكد وكده: إذا قصد قصده وتخلق بخلُقِه. قوله: (أنحت على غزلها)، الأساس: أنحى عليه بالسوط: أقبل عليه. قوله: ((أَنكَاثاً): جمع نكث)، الأساس: نكث الحبل، ومن المجاز: نكث العهد والبيعة. الراغب: نكث الأكسية والغزل قريب من النقص، واستعير لنقض العهد، والنكث كالنقض، والنكيثة كالنقيضة، وكل خصلةٍ ينكث فيها القوم، يقال لها: نكيثة. قال أبو البقاء: (أَنكَاثاً): جمعُ نكث، بمعنى: المنكوث، أي: المنقوض، ونُصبَ

ابن تيم وكانت خرقاء؛ اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن. (تَتَّخِذُونَ) حال، و (دَخَلًا): أحد مفعولي اتخذ. يعنى: ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الحال من (غَزْلَهَا)، ويجوزُ أن يكون مفعولاً ثانياً على المعنى؛ لأن معنى (نَقَضَتْ): صيرت. وفي الحاشية: (أَنكَاثاً): نصب على المصدر؛ لأن معنى "نكثت": نقضت، وعلى ما في الكتاب: هو مفعولٌ به لفعل محذوف، لقوله: "فجعلته أنكاثاً"، وهذا أولى الوجوه، وأدخلُ في معنى التمثيل؛ لأن التركيب من باب: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة: 6]، ولذلك قد أنحت على غزلها، وجاء بالفاء في "فجعلته" فجمع بين القصد والفعل، والتشبيه التمثيليُّ كلما كان أكثر تفصيلاً وأوفر تصويراً كان أحسن، ولذلك أوثر الجمع في: (أَنكَاثاً) على الإفراد لتنويع النكوث، وأقيم الوصف في قوله: (كَالَّتِي نَقَضَتْ) منزلة الموصوف ليشعر بأن الناقضة جامعة لمعانٍ، توجبُ انحطاط شأنها من كونها خرقاء عاجزة عجوزاً إلى غير ذلك. وهذا التمثيل بجملته توكيدٌ لقوله: (وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، وهو إما استعارة مكنية بأن تكون الاستعارة في الأيمان، والنقض القرينة، وتوكيدها الترشيح، أو تمثيلية، والتمثيلان، أعني: "لا تنقضوا"، و (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا)، وأراد أن على الأمر بوفاء العهد، أعني: وأوفوا بالعهد، على اطرد والعكس؛ لأن منطوق الأمر بإيفاء العهد مؤكدٌ لمفهوم النهي عن النقض وبالعكس، فظهر أن الغرض من التشبيه إبراز حال ناقض العهد، وأنه خارج من جملة الرجال الكملة والعقلاء المراجيح، داخل في زمرة النساء، بل في أدونها حالاً وأنقصها عقلاً. قوله: (صُنارة)، الجوهري: "الصُّنارة: رأسُ المغزل".

دخلاً، (بَيْنَكُمْ) أي: مفسدة ودغلاً، (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ): بسبب أن تكون أمة، يعنى: جماعة قريش، (هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ): هي أزيد عدداً وأوفر مالا. من أمة من جماعة المؤمنين، (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ) الضمير لقوله: (أن تكون أمة)، لأنه في معنى المصدر، أى: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ) إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام. [(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، (وَلكِنْ) الحكمة اقتضت أن يضلّ (مَنْ يَشاءُ)؛ وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان. يعني: أنه بني الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء، لما أثبت لهم عملاً يسألون عنه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي: مفسدةً ودغلاً)، الراغبُ: الدخلُ كنايةٌ عن الفساد والعداوة المستبطنة، كالدغل، وعن الدعوة في النسب، يقال: دخل دخلاً، ويقال: دُخِلَ فلانٌ فهو مدخول، كناية عن بلهٍ في عقله، وفسادٍ في أصله، ومنه قيل: شجرة مدخولة. قوله: (ولو كان هو المضطر إلى الضلال والاهتداء لما أثبت لهم عملا يُسألون عنه)، "المُضطر": اسم فاعل. وقلتُ: إثبات العمل لهم على طريق الكسب، لا يدفع السؤال.

[(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)]. ثم كرر النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيداً عليهم، وإظهاراً لعظم ما يركب منه، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها، (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) في الدنيا بصدودكم (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وخروجكم من الدين. أو: بصدّكم غيركم، لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها، (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة. [(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)]. كأن قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم الله، (وَلا تَشْتَرُوا) ولا تستبدلوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء بالعهد وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنه تعالى بحكم الإلهية يُضل من يشاء، ويهدي من يشاء. يريد أن قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ) الآية، دخلت معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، أعني قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) توكيد لمعنى الابتلاء، وأنه بحم الإلهية يختبر القليل الضعيف القديم بالقوي الكثير ذي الشوكة كما أشار إليه بقوله: "هي أزيدُ عدداً وأوفر مالاً" إلى آخره، كما أنه بحكم الإلهية يُضل من يشاء ويهدي من يشاء، فقوله: (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) مقابل لقوله: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). قوله: (أن ينقضوا ما بايعوا)، متعلق بقوله: "زين لهم الشيطانُ".

(بِعَهْدِ اللَّهِ) وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثَمَناً قَلِيلًا): عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا، (إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ) من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة (خَيْرٌ لَكُمْ). [(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. (ما عِنْدَكُمْ) من أعراض الدنيا (يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّه) من خزائن رحمته (باقٍ) لا ينفد. وقرئ: (لَنَجْزِيَنَّ) بالنون والياء، (الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام. فإن قلت: لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت: لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟ [(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)]. فإن قلت: (مَنْ) متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) على التبيين، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً (حَياةً طَيِّبَةً) يعني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لَنَجْزِيَنَّ) بالنون والياء)، بالنون: ابن كثير وعاصم. قوله: (ليعم الموعدُ النوعين جميعاً)، قال صاحب "الفرائد": لو لم يذكر الأنثى لكانت داخلة في الحكم بطريق التغليب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دخلت

في الدنيا، وهو الظاهر، لقوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ)، وعده الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله: (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران: 148]؛ وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً؛ إن كان موسراً، فلا مقال فيه. وإن كان معسراً، فمعه ما يطيب عيشه؛ وهو القناعة والرضا بقسمة الله. وأمّا الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسراً؛ فلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً؛ فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الحياة الطيبة: الرزق الحلال. وعن الحسن: القناعة. وعن قتادة: يعنى في الجنة. وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه. [(فَإِذا قَرَاتَ الْقُرْآنَ (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)]. لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله: (فَإِذا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النساء في الخطاب بطريق التغليب؟ ولما كان المراد من (مَن) العموم والاستيعاب لحصول التسوية بينهما في الحكم، لا بطريق التغيب بين بقوله: (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى). وقال الإمام: إنه تعالى لما رغب المؤمنين في الصبر على ما التزموه من فعل الواجبات والمندوبات دون المباحات بقوله: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) ثم رغبهم في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً)، أتبع ذلك بقوله: (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) تقريراً للوعد وإزالة لوهم التخصيص كرماً وفضلاً. قوله: (لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) إيذاناً بأن الاستعاذة من جملة الأعمال الصالحة)، قال القاضي: وفيه دليلٌ على أن

والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6]، وكقولك: إذا أكلت فسمّ الله. فإن قلت: لم عبر عن إرادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصلي يستعيذ في كل ركعة؛ لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً. قلت: ويمكن أن يُقال: إن قوله: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) متصل بالفاء بما سق من قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، وذلك أنه تعالى لما من عليه صلوات الله عليه بإنزال كتاب جامع لصفات الكتاب، وأنه تبيان لكل شيء، ونبه على كونه تبياناً لكل شيء بالكلمة الجامعة، وهي قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) الآية، وعطف عليه: (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ) وأكده ذلك التأكيد، قال بعد ذلك: (فَإِذَا قَرَاتَ) أي: إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نُبهت على بعض ما اشتمل عليه، ونازعك فيه الشيطان بهمزه ونفخه ونفثه، فاستعذ بالله، والمقصود: إرشاد الأمة، ويظهر بهذا فائدة وضع القرآن موضع المضمر؛ لأن القرآن: الجمع والضم، ولهذا قلنا: الكتاب الشريف الجامع، وينتظم معه قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)، فإن ذلك من منشأ النزع الذي يورده حزب الشيطان، ويقول: لو كان من عند الله لما تطرق إليه النسخ والتبديل، والله أعلم. قوله: (كقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6]، قال صاحب "الفرائد": المستشهد ليس من قبيل ما نحن فيه؛ لأن هناك تركاً للظاهر بدليل، وهنا بغير دليل. قلت: دليله إجماع الفقهاء، وسنده ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن جبير بن مطعم، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد تكبير الصلاة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه".

الفعل بلفظ الفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: «يا ابن أمّ عبد. قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ» (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أى: تسلط وولاية على أولياء الله، يعنى: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. (إِنَّما سُلْطانُهُ) على من يتولاه ويطيعه (بِهِ مُشْرِكُونَ) الضمير يرجع إلى (ربهم). ويجوز أن يرجع إلى (الشيطان)، على معنى: بسببه وغروره ووسوسته. [(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)]. تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع؛ لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته. وهذا معنى قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وجدوا مدخلاً للطعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تبديل الآية مكان الآية هو النسخ)، يعني: أنه تعالى عبر عن النسخ بهذه العبارة. قال الإمام: التبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى مكانها، وهو نسخها بآية سواها. وقلت: فيكون التبديل مضمناً معنى الوضع، أي: وضعنا آية مكان آية تبديلا. وقال القاضي: وإذا بدلنا آية بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة. قوله: (وهذا معنى قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ))، قال الإمام: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ، وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا؛ فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟ قلت: فيه أن قرآناً ينسخ بمثله، وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها. [(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)]. في (يُنَزِّلُ) و (نَزَّلَهُ) وما فيهما من التنزيل شيئاً فشيئاً على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح، كالتنزيل، وأنّ ترك النسخ بمنزلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِمَا يُنَزِّلُ) اعتراض دخل بين الشرط وجزائه، أي: هو أعلم بما يُنزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف لمصالح العباد، وهذا توبيخ لكفار على قولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي: إذا كان هو أعلم بما يُنزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ، وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معناه: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، كما أن الطبيب الحاذق يأمر المريض بشربة، ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمر بضد تلك الشربة. قوله: (إن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن)، وقد سبق الكلام عليه في سورة البقرة.

إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. و (رُوحُ الْقُدُسِ): جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس؛ وهو الطهر، كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد: الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس: المطهر من المآثم. وقرئ: بضم الدال وسكونها. (بِالْحَقِّ) في موضع الحال، أي نزله ملتبساً بالحكمة، يعنى: أن النسخ من جملة الحق؛ (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا): ليبلوهم بالنسخ، حتى إذا قالوا فيه: هو الحق من ربنا والحكمة، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب، (وَهُدىً وَبُشْرى) مفعول لهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حكم لهم بثبات القدم)، جزاء لقوله: "إذا قالوا فيه، وحتى: داخلة على الجملة الشرطية"، وهي غاية لمقدر هو تعليل لقوله: (نزَلَهُ) في الحقيقة. وقوله: (على أن الله حكيم)، متعلق بـ"قالوا"، أي قالوا فيه ذلك، بناء على معتقدهم أن الله حكيم. وقيل: متعلق بثبات القدم، وفيه ضعف. المعنى: (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) ملتبساً بالحق، ليبلو المؤمنين بالنسخ فيجتهدوا، ويعلموا أنه لمصالح العباد حتى إذا قالوا فيه: هو الحق من ربنا، حكم لهم بثبات القدم، ويمكن أن يقال: إن من عرف أن الله تعالى أنزل كلامه المجيد على سيد المرسلين بواسطة الروح المقدسة، علم أن ذلك لا يكون إلا نوراً وهدى، وإن لم يقف على حقيقة المراد، حتى إذا قال: هو الحق من ربنا، وآمن به ووكل علمه إلى الله تعالى، سواء كان من قسم المتشابه، أو تبديل آية مكان آية، فحينئذ حُكم له بثبات القدم والرسوخ في العلم، كقوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]. ويعضد هذا التأويل مجيء قوله: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) عقيب هذا، أي: هُدى وبُشرى للذين ينقادون لحكم ربهم ويتسلمون لما ورد من جنابه الأقدس، لا كالزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وكالذين يطعنون في النسخ،

معطوفان على محل (ليثبت). والتقدير: تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. وقرئ: (ليثبت)، بالتخفيف. [(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)]. أرادوا بالبشر: غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب. وقيل: هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل عبدان: جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآان التوراة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا مُوافق لما ذهب إليه القاضي في "المنهاج" في الناسخ والمنسوخ: أن حُكمه أن يتبع المصالح فيتغير بتغيرها، وغلا فله كيف يشاء. قوله: (وفيه تعريض) أي: في إثبات التثبيت والهدى والبشارة للمؤمنين تعريض بحصول أضدادها في المشركين والزائغين، وذلك أن قوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) الآية جواب عن قول المشركين: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، وهو قريب من باب الأسلوب الحكيم، فإنهم أرادوا بقولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ): أن هذا ليس من كلام الله تعالى؛ لأن الله تعالى لا يسخر من أحد، يأمرهم اليوم بشيء وينهاهم غداً عنه، بل هو من تلقاء نفسك، فأجيبوا بان هذا من الله، فزيد في التصوير بأن قيل: (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) ثم زيد قوله: (بِالْحَقِّ) لينبه على الدفع عن الطعن بألطف الوجوه، أي: تنزيله ملتبس بالحق والحكمة ومصالح الخلق، ثم النعي على قبح أفعالهم بأن قيل: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره تعريضاً بأن أضداد هذه الخصال حاصلة فيهم، وأنهم متزلزلون ضالون موبخون منذرون بالخزي والنكال واللعن في الدنيا والآخرة، وأن أعداءهم على خلاف ذلك، ليزيد في غيظهم وحنقهم، ما أحسن هذا البيان! لله دره.

والإنجيل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآان، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال: بل هو يعلمني. وقيل: هو سلمان الفارسي. واللسان: اللغة. ويقال: ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا: ألحد فلان في قول، وألحد في دينه. ومنه الملحد، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقيل لأحدهما)، يعني: قيل لأحد هذين العبدين: أتعلمه أنت؟ فقال: بل هو يعلمني. وقيل: هذا المجيب هو سلمان الفارسي، وهو غير صحيح؛ لأن سلمان أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والآية مكية. قوله: (ثم استعير لكل إمالة عن استقامة)، الراغب: الإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُراه ولا يبطله، وقال: (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) والإلحاد في أسمائه على وجهين، أحدهما: أن يوصف بما لا يصح وصفه به، والثاني: أن يتأول أوصافه بما لا يليق به. قوله: (ومنه الملحد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها). قال الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل": "وفرق الباطنية أوردهم أصحاب التصانيف في كتب المقالات إما خارجة عن الفرق وإما داخلة فيها، وبالجملة هم قوم مخالفون، اثنين وسبعون فرقة، ثم إن الباطنية القديمة خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج، وسموا باطنية لأنهم يقولون: لكل ظاهر باطن، ولكل تنزيل تأويل، ولهم ألقاب كثيرة، فبالعراق: يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة، وهم يقولون: نحن إسماعيلية؛ لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم وبهذا الشخص، وقال: الإسماعيلية امتازت عن الموسوية والاثني عشرية بإثبات الإمامية لإسماعيل بن جعفر، وهو ابنه الكبر المنصوص عليه في بدء الأمر".

والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان (أَعْجَمِيٌّ): غير بين، (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ): ذو بيان وفصاحة ردّا لقولهم وإبطالا لطعنهم. وقرئ (يُلْحِدُونَ) بفتح الياء والحاء. وفي قراءة الحسن: (اللسان الذي يلحدون إليه) بتعريف اللسان. فإن قلت: الجملة التي هي قوله: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) ما محلها؟ قلت: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم. ومثله قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) بعد قوله: (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) [الأنعام: 124]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يلحدون" بفتح الياء والحاء)، قرأها حمزة. قوله: (مستأنفة: جواب لقولهم)، فإنه تعالى لما قال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ومرجعه أنه مُفترٍ، وأن ما جاء به ليس من عند الله، اتجه لقائل أن يقول: فماذا أجاب الله عن ذلك؟ فقيل: قال: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ). قوله: (ومثله قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، وجه التشبيه: هو أن قولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) [الأنعام: 123] كقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) في إثبات الشيء على خلاف ما ينبغي أن يكون عليه، ومرجعهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتر، وأن ما جاء به ليس من عند الله، بل من قبل غيره، ألا ترى كيف عقبه بقوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)؟ وخلاصة الردين: تجهيل القوم، وعدم تمييزهم بين الحق الصُّراح والباطل المحض، وأن كلامهم من الجُزاف الذي يُرمى من غير فكر وروية، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ) كأنه قيل: عن النبوة ليست بالمال والحسب، وإنما هي بفضائل نفسانية يختص بها من يمثله من عباده، فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها؟ فكيف تؤتونها وأنتم لستم بمكانها، بل تستحقون أن يُفعل بكم كل هوان وخزي ونكال بقولكم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)؛ لأن المتعلم إنما يستفيد من المعلم ما هو أعلم به، وأقدم منه، وما أتى به صلوات الله عليه كلامٌ

[(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)]. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّه) أى: يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون (لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) ردّ لقولهم: (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) يعنى: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يترقب عقاباً عليه، (وَأُولئِكَ) إشارة إلى قريش (هُمُ الْكاذِبُونَ) أي: هم الذين لا يؤمنون، فهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عربي مبين: أي: بليغٌ فصيحٌ بلغ غايته في البلاغة والفصاحة، حيث عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله، فكيف يؤخذ من عجمي ألكن جاهل؟ قوله: ((لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ): لا يلطف بهم)، وعند أهل السنة على الحقيقة. قوله: ((وَأُوْلَئِكَ) إشارة إلى قريش)، اعلم أن المشار إليه بقوله: (وَأُوْلَئِكَ) إما قوله: (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لأنه المذكور، أو قريش؛ لأن سياق الكلام فيهم، لأنهم هم الذين قالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، وقالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). فعلى الأول عام في قريش وغيرهم، وحينئذ يكون التعريف في (الْكَاذِبُونَ) للجنس، وإليه الإشارة بقوله: (هُمْ الْكَاذِبُونَ) على الحقيقة، الكاملون في الكذب، فيدخل في هذا العام قريش دخولاً أولياً، يعني: المفتري مطلقاً من لا يؤمن بالله ولا بآياته، وهو الكامل فيه؛ لأن تكذيب آيات الله لا شيء أعظم منه. وأما الثاني فعلى وجهين: أحدهما: (الْكَاذِبُونَ): مطلق فلا يقدر في أي شيء كذبوا، وهو أيضاً على وجهين: إما أن يكون قوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) عاماً والكلام واردٌ على الاستدراج، المعنى: اعلموا أن المفتري منا ومنكم: الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بعقابه، فلا يبالي بالكذب، وقد ظهر أنكم الموصوفون بذلك، فيلزم أنكم الكاذبون، ودل على هذا الاستلزام الفاء في قوله: "فهم الكاذبون". وإما أن يُراد

الكاذبون، أو: إلى الذين لا يؤمنون، أي: أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب. أو: أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو: أولئك هم الكاذبون في قولهم: (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101]. [(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)]. (مَنْ كَفَرَ) بدل من (الذين لا يؤمنون بآيات الله) [سورة النحل: 105]، على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالذين لا يؤمنون: قريش، وكان من حق الظاهر: لم يؤمنوا، فعدل إلى: (لا يُؤْمِنُونَ) لإفادة الاستمرار، أي: المفتري: من استمر على الكفر ولم يتوقع منه تجدد الإيمان، فيستمر على الكذب ويصير دأبه وعادته؛ لأن الرادع من الكذب المروءة، ومن لا إيمان له لا مروءة له، وإليه الإشارة بقوله: "أولئك هم الذين عادتهم الكذب" لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. وثانيهما: (الْكَاذِبُونَ) مقيدٌ بحسب اقتضاء المقام، وهو المراد من قوله: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ) في قولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ). قوله: ((مَنْ كَفَرَ): بدل من: (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ))، فإن قلت: كيف يصح البدل، وأن قوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ) رد لقول قريش: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) وهم ما كفروا بعد الإيمان؟ قلت: كلما كان الرد أبلغ كان في الإفحام أدخل. وإنما عدل من ظاهر قوله: "بل أنتم مفترون" إلى قوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ

أن يجعل (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النحل: 105] اعتراضاً بين البدل والمبدل منه. والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه. واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي: طاب به نفسا واعتقده، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) ويجوز أن يكون بدلا من المبتدأ الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يُؤْمِنُونَ) ليكون إشعاراً بأن بين الإيمان وبين الكذب منافاة، والكذب من شيمة من عدم الإيمان، تعريضاً بهم، وبعثاً على التفكر في أن الكاذب منه ومنهم من هو، ثم إذا ذهب إلى إبدال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) [النحل: 106] منه على أن المراد: من كان متمكناً من الإيمان، ثم أعرض للعناد والتمرد، كقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] بلغ الغاية القُصيا في المطلوب، وأيضاً جعل ذلك سُلماً وتخلصاً إلى ما فعلوا بأولئك السادة من المثلة، والصد عن الدين، فإنه أشنع وأقبح. قوله: ((شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي: طاب به نفساً)، بين بهذا مآل معناه وإعرابه، أما المعنى، فلأن الشرح هو الكشف، تقول: شرحت الغامض: إذا فسرته، فإن الغامض مما يضيق به الصدر ولا تطيب به النفس. وأما الإعراب، فلأن (نَفْساً): منصوب على التمييز، كذا (صَدْراً)، وفي "اللباب"، أي: شرح صدره، فصرف الفعل إلى المضاف فانتصب على التمييز، فكأنه قال: شرحه صدراً، أي: قبله على اختيار. الراغب: أصل الشرح: بسط اللحم ونحوه، يقال شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر، أي: بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح: 1]، وشرح المشكل من الكلام: بسطه وإظهار معانيه. قوله: (ويجوز أن يكون بدلاً من المبتدأ)، عطف على قوله: " (وَمَنْ كَفَرَ): بدل من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) ".

هو (أُولئِكَ) على: ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو (الكاذبون)، على: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه. ويجوز أن ينتصب على الذمّ. وقد جوّزوا أن يكون (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) شرطاً مبتدأ، ويحذف جوابه، لأنّ جواب (مَنْ شَرَحَ) دال عليه، كأنه قيل: من كفر بالله فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب. روى: أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه ياسر وسمية، وصهيب، وبلال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد جوزوا أن يكون (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) شرطاً مبتدأ)، وهو قول أبي علي الجبائي، أي: من كفر استحق الغضب والعقاب إلا من أكره. قوله: (رُوي أن ناساً من أهل مكة فُتنوا) إلى آخره، ذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب": عن ابن عمر: كان عمار وأمه سمية ممن عُذب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه واطمأن قلبه بالإيمان، فنزلت الآية، وهذا مما اجتمع عليه أهل التفسير. وروى النسائي، عن عمر بن شرحبيل، عن رجل من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُلئ عمارٌ إيماناً إلى مُشاشه". المُشاش، بالضم: جمعُ مشاشةٍ، وهي رؤوس العظام اللينة. قوله: (منهم عمارٌ)، مبتدأ وخبرٌ، "وأبواه" مع ما بعده معطوف على "عمار"، وقوله: "عُذبوا": جملة مستأنفة، فكأنه قيل: ما فُعل بهم؟ فقيل: عُذبوا، ونظيره قوله تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا) [الأحزاب: 23] إلا أن صدقوا: صفة لرجال، هذا على أن عماراً ممن عُذب على ما روي في "الاستيعاب"، فقوله: "فأما سُمية وأما عمارٌ" تفصيلٌ لقوله: "عُذبوا"، وقيل أبواه: مبتدأ والخبر: "عُذبوا"، وأن عماراً ما عُذبَ على ما عليه ظاهر كلام المصنف.

وخباب، وسالم: عذبوا، فأمّا سمية: فقد ربطت بين بعيرين ووجيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال. فقتلت، وقتل ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فقيل: يا رسول الله، إن عماراً كفر، فقال: «كلا، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: «مالك؟ ! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي، أكرهه سيده فكفر، ثم أسلم مولاه وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا. فإن قلت: أي الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت: بل فعل أبويه، لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام. وقد روى: أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال رسول الله. قال: فما تقول في؟ قال: أنت أيضا، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إعزازاً للإسلام)؛ لأن المخالف إذا رأى أن المسلم يبذلُ ماله وروحه دون دينه أيقن أن مثل هذا الدين لا يكون إلا حقاً، ينصره قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي: يشكون في دينهم، يقولون: ما رجعوا، وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمرٍ قد تبين لهم. يؤيده ما روينا في "صحيح البخاري" و"مسلم"، عن أبي سفيان: أن هرقل سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: "هل يرتد أحدٌ منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: ... وكذلك الإيمانُ إذا خالط بشاشته القلوب ... " الحديث.

قال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله. وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» (ذلِكَ) إشارة إلى الوعيد، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم، (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ): الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم، لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم)، جعل سبب وعيد من شرح بالكفر صدراً - وهم الذين ارتدوا بعدما دخلوا في الإسلام - شيئين؛ أحدهما: استحباب الحياة الدنيا على الآخرة، وفيه إشارة إلى فضل ما فعل أبو عمار على عمار. وثانيهما: استحقاق خذلان الله بكفرهم، وإنما علل الخذلان بالكفر؛ لأن قوله: (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) من وضع المظهر موضع المضمر للعلية. ثم آذن بأنهم أحقاء بأن يطبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم لذلك الوصفين بقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ)، وتمم بقوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)، واللام للجنس، ليفيد ما قال: "أولئك هم الكاملون في الغفلة"، أي: إن تصور حقيقة الغافلين، فهم لا يعدون تلك الحقيقة، ومن ثم قال: "الذين لا أحد أغفل منهم، ثم لما أراد أن يبين البون بين الفريقين والبُعد بين المرتبتين، أعني: الثابتين على الإسلام، والناكصين عنه، قيل: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا) الآية، وإليه الإشارة بقوله: "دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك". وقوبل تلك التوكيدات السابقة بمجرد اللام في قوله: (لِلَّذِينَ هَاجَرُوا) حيث أوقعه خبراً لـ "إن"، على ما قال: "إنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم"، يدل على المقابلة تفسير المؤلف قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) بقوله: "واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم"، ووضع المظهر موضع المضمر في المتقابلين؛ لأن قوله: (لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا) وُضع موضع الراجع إلى قوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)، ففي الآيات جمعٌ مع التقسيم والتفريق، فالجمع:

[(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)]. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى: إنّ ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم، كما يكون الملك الرجل لا عليه، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور. (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بالعذاب والإكراه على الكفر. وقرئ: (فُتِنُوا) على البناء للفاعل، أي: بعد ما عذبوا المؤمنين، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ)، والتقسيم: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ)، (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً)، والتفريق: (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي)، و (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا)، والله أعلم بمراده من كلامه. ونحن إنما ساعدنا تفسيره (لا يَهْدِي) بالخذلان، وتعليله بالكفر، ليقابله قوله: (لِلَّذِينَ هَاجَرُوا) إلى قوله: (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ لأن الغفران مقابل للخذلان؛ لأنا نثبت للعبد أيضاً قدرة تميز بين الفعل الاختياري والقسري لتقوم حجة الله على عباده، وعُلم من مفهوم كلامه أن قوله: (ِلَّذِينَ هَاجَرُوا): خبرُ "إن"، والمقدر نحو ناصرٌ وولي للذين هاجروا، لقرينة قوله: خذلان الله بكفرهم، لأنه مقابل له، كما سبق. وقال أبو البقاء: خبر "إن": (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، و"إن" الثانية واسمها: تكرير للتوكيد، ومثله في هذه السورة: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) [النحل: 119] الآية. وقيل: خبره محذوف؛ لأن خبر الثانية أغنى عن ذلك. قوله: (وقرئ: "فتنوا"، على البناء للفاعل)، قرأها ابن عامر.

كالحضرمي وأشباهه. (مِنْ بَعْدِها): من بعد هذه الأفعال؛ وهي الهجرة والجهاد والصبر. (يَوْمَ تَاتِي) منصوب بـ (رحيم). أو بإضمار: اذكر. فإن قلت: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت: يقال لعين الشيء وذاته: نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس: الجملة كما هي، فالنفس الأولى: هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالحضرمي وأشباهه)، بيان للفاعل في"عذبوا"، فإن الحضرمي كما سبق في "الكشاف" عذب عبده جبراً وأكرهه على الكفر، ثم أسلم الحضرمي. قوله: ((مِنْ بَعْدِهَا) من بعد هذه الأفعال، وهي الهجرة والجهاد والصبر)، بناء على أن الثانية ليست بتكرير، وعلى قول أبي البقاء: التقدير (إِنَّ رَبَّكَ) من بعد الفتنة والجهاد والصبر. قوله: ((يَوْمَ تَاتِي): منصوب بـ (رَّحِيمُ) أو بإضمار: اذكر)، والأول أدخل في تأليف النظم، ليقابل قوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ) [النحل: 109]. قوله: (فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته)، قال صاحب "الفرائد": المغايرة شرط بين المضاف والمضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين، فلذلك قالوا: يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه، إلا أن المغايرة قبل الإضافة كافية، وهي محققة هاهنا؛ لأن من مطلق النفس لا يلزم نفسك، ومن نفسك يلزم النفس، فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك، ومن نسك يلزم النفس، فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة، وإن اتحدتا بعد الإضافة، فلهذا جاز "عين الشيء"، و"نفس الشيء"، و"كل الشيء"، ونحوها، ولما لم تكن المغايرة قبل الإضافة في الأسد والليثن والحبس والمنع، لم يجز: أسد الليث: وحبس المنع، وإنما قلنا: إن الاتحاد بعد الإضافة لا

ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها، كقوله: (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف: 38]، (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]، ونحو ذلك. [(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَاتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ* وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ)]. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً) أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُخل بالإضافة؛ لأن الاتحاد يحصل بالاختصاص، والاختصاص يحصل بالإضافة، فيكون الاتحاد أثر الإضافة، فكيف يكون مانعاً للإضافة؟ وقلت: قول المصنف: "فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها، معناه: أن اعتبار الماهية غير اعتبار الجملة، فإن الجملة يقع فيها اعتبار الماهية مع اعتبار أفرادها. قوله: (أي: جعل القرية التي هذه حالها مثلاً)، ضمن (ضَرَبَ) معنى (جعلَ) ليصح المعنى؛ لأن معنى ضرب المثل: اعتماده وصنعهن من ضرب اللبن والخاتم، كأنه جعل القرية الموصوفة بما يليها مفعولاً أولاً، و"مثلاً": مفعولاً ثانياً، وقريبٌ منه ذكر مكي في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) [يس: 13] قال: أصح ما يعطي القياس والنظر في "مثل" و"أصحاب" أنهما مفعولان لـ"اضرب"، دليله قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [يونس: 34]، فلا اختلاف أن (مَثَلَ الْحَيَاةِ): ابتداء و (كَمَاءٍ): خبره. وقال في موضع آخر: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [الكهف: 45]، فدخل "اضرب" على الابتداء والخبر، فعمل فيهما، فقد تعدى "اضرب" الذي هو لتمثيل الأمثال إلى مفعولين بلا خلاف في هذا، فوجب أن يجري في غير هذا الموضع على ذلك. والفاء في قوله: "فيجوز أن يُراد قرية" تفصيلية، والفاء في "فضربها الله مثلاً" متعلق بقوله: "أن يكون في قرى الأولين قرية".

عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة؛ إنذاراً من مثل عاقبتها (مُطْمَئِنَّةً): لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف. (رَغَداً): واسعاً. والأنعم: جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع. أو: جمع نعم، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث: نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى: «إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا». فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنها أيام طُعم ونُعم)، وفي رواية لمسلم: أنه صلوات الله عليه أمر خادمه أن ينادي أيام التشريق: إنها أيام أكل وشرب. قوله: (الإذاقة واللباس استعارتان)، خلاصة السؤال: أنه سأل عن بيان استعارة (فَأَذَاقَهَا) واستعارة (لِبَاسَ الْجُوعِ)، وعن نسبة أحداهما إلى الأخرى، فإنه تعالى أوقع إحدى الاستعارتين مفعولاً للأخرى. قوله: (أما الإذاقة)، يريد أن الإذاقة بعدما كانت مستعارة للإدراك والإصابة، صارت حقيقة في الإصابة بسبب كثرة استعمالها وشيوعها فيها، ثم انتهض لبيان الجواب عن الاستعارة الأولى على سبيل الاستئناف، بأن قال: شبه ما يدرك، أي: شبه ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يحس من طعم أمر والبشع، ثم أدخل المشبه في جنس ما يدرك من الطعم ثم أطلق ما يدرك بالفعل على اسم ما يحس بالفم، هذا تقرير أصل الاستعارة، وأنها مسبوقة لمثل هذا التشبيه، لا بيان أنها استعارة تبعية؛ لأن قوله: "ما يدرك من أثر الضرر"، بفتح

الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب؛ شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراء، اسم مفعول، وهو مثل الفعل في امتناع إيقاع الاستعارة فيه لامتناع وقوعه موصوفاً، ولو أريد تقرير التبعية لقيل: شُبهت إصابة العذاب ولحوقه بهم بإذاقة الطعم البشع المر، ثم سرت الاستعارة من الإذاقة إلى "أذاق"، فيكون استعارة مصرحة تبعية؛ لأن المشبه المتروك أمرٌ عقلي، وإنما اضطر إلى هذا التأويل، لأن الاستعارة وقعت في لباس الجوع، وقد فرع عليها (فَأَذَاقَهَا)، وهو لا يناسبها ترشيحاً ولا تجريداً فيُجعل بمعنى الإصابة ليكون تجريداً. الراغب: الذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر، فإن ما يكثر منه يقال له: الأكل، واختير في التنزيل لفظ الذوق في العذاب لأن ذلك وإن كان في التعاريف للقليل فهو مستصلح للكثير، فخصه بالذكر ليعم الأمرين، وكثر استعماله في العذاب نحو: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء: 56]، وقد جاء في الرحمة نحو: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) [هود: 9] ويعبر به عن الاختبار، فيقال: أذقته كذا فذاق. ويقال: فلان ذاق كذا، وأنا أكلته، أي: خبرته أكثر مما خبر. وقال: الطعم: تناول الغذاء، ويسمى ما يتناول منه طعم وطعام، ورجل طاعم: حسن الحال. وقوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)، فاستعمال الذوق مع اللباس من أجل أنه أريد به التجربة والاختبار، أي: فجعلها بحيث تمارس الجوع والخوف. وقيل: إن ذلك على تقدير كلامين، كأنه قيل: أذاقها الجوع والخوف وألبسها لباسهما.

المرّ والبشع. وأما اللباس فقد شبه به؛ لاشتماله على اللابس: ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه هاهنا، ونحوه قول كثير: .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما اللباس)، هذا هو الجواب عن بيان الاستعارة الثانية، أي: شبه ما يغشى الإنسان ويتلبس به من أثر الجوع والخوف باللباس الحقيقي، والجامع: كونهما مشتملين على الإنسان وغاشيين له، ثم أطلق اسم اللباس على ما يغشى الإنسان من أثرهما، وجعل إضافته إليهما قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة، فهي استعارة مصرحة أصلية تحقيقية، لكون المشبه المتروك عقلياً. قوله: (وأما إيقاعُ)، هو الجواب عن نسبة إحدى الاستعارتين إلى الأخرى، وتقريره أن نسبة الاستعارة الأولى إلى الثانية بعدما جُعلت حقيقة في الإصابة والإدراك بسبب كثرة الاستعمال نسبة تفريع شيء على أصلن ولما كانت الإذاقة التي هي بمعنى الإصابة صفة ملائمة لغشيان الجوع والخوف المشبه باللباس جُعلت تجريداً لها، وهذا هو المراد من قوله: "فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى-أي: فلان اللباس لما وقع عبارة عما يغشى - منهما" فكأنه قيل: فأذاقهم، أي: أصابهم ما غشيهم. قوله: (ولهم في نحو هذا)، أي: العرب في نحو تفريع أذاقها على لباس الجوع، طريقان: طريق التجريد، وهو أن يُفرع على الاستعارة بعد تمامها صفة ملائمة للمستعار له كما نحن بصدده. وطريق الترشيح، وهي أن يُقرع عليها صفة ملائمة للمستعار منه كما في المثال الآتي,

غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكاً ... غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ استعارة الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظر إلى المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله: يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْر لِيَ الشّطْرُ الَّذِى مَلَكَتْ يَمِينِى ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غمرُ الرداء إذا تبسم) البيت، "غمر الرداء" أي: كثيرُ العطاء، يقال: غلق الرهن: إذا استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط. قال زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا أي: ارتهنت قلبه فذهبت به، يقول: إذا ضحك ضحكة أيقن السائل أنه بذلك التبسم استغلق رقاب ماله ويعطي بلا خلاف. قوله: (ووصفه بالغمر الذي هو وصف للمعروف)، أي: فرع على المستعار له، لأن الغمر مناسب للمعروف لا على المستعار؛ لأن الغمر غير مناسب للرداء. وقلت: وفيه عدول عن الظاهر؛ لأن الغمر ليس صفة حقيقية للنوال والمعروف، بل هو وصف للبحر المستعار أولاً للمعروف، يقال: غمره الماء يغمره غمراً، أي: علاه، والغمر: الماء الكثير، فهو هاهنا تجريد للاستعارة بعد أن كان ترشيحاً، وهذا المثال المستشهد به يشبه استعماله استعمال الآية في أن التجريد ليس تجريداً محضاً. قوله: (ينظروا فيه إلى المستعار)، أي: المستعار منه. قوله: (ينازعني ردائي)، البيتين، الاعتجار: لف العمامة من غير إدارة تحت الحنك.

أراد بردائه سيفه، ثم قال: (فاعتجر منه بشطر)، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكا. (وَهُمْ ظالِمُونَ) في حال التباسهم بالظلم، كقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النحل: 28] نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرئ: (وَالْخَوْفِ) عطفاً على اللباس، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أصله: ولباس الخوف. وقرئ: (لباس الخوف والجوع). [(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: الاعتجار: لف العمامة على الرأس. قال الراجز: جاءت به معتجراً ببرده يقول: يجاذبني سيفي عبد عمرو، يريد أن يأخذه مني، فقلت: رويدك! فلي النصف الأعلى منه الذي هو في يميني، وخُذ أنت النصف الأخير منه، فلف على راسك. ومثله قول الآخر: تقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها قوله: (ضافي الرداء)، أي: سابغه. قوله: (وما أوتيت به من كفرها)، أي: أهلكت، الضمير في (به) للموصول، يقال: أتى عليهم الدهر، أي: اهلكهم وأفناهم، وأصله من إتيان العدو.

وصل بذلك بالفاء في قوله: (فَكُلُوا)؛ صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب، وشكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصل بذلك بالفاء في قوله: (فَكُلُوا) صدهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة)، بيان لربط الآيات من لدن مفتتح السورة، ولقد أسلفنا أن هذه السورة في بيان سوء أفعال قريش وقبائحهم، وفي تذكارهم ما خول الله لهم من أنواع النعم، وفي إنذارهم بنقم الله، وما حل بمن سبق من الأمم الخالية، ولما عدد عليهم النعم المتكاثرة من ذكر الأنعام وفوائدها وثمرات النخيل ومنافع ما يصل إليهم من النحل، وأنذرهم بأنواع من النذر، ثم نعى عليهم ما كانوا يفترون على الله من اتخاذ البنات، وقال: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى) [النحل: 62]، وأراد أن يذكر نوعاً آخر من أفعالهم، وهو تحليلهم بأهوائهم ما حرم الله من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وتحريمهم ما أحله الله من البحائر والسوائب والوصائل والحام، وقولهم: (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [الأنعام: 139]، عقب ذلك ضرب المثل بقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً) الآية، ليكون التخلص إلى قوله: (فَكُلُوا)، فردف بقوله: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ)، ويدل عليه تكرير قوله: (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ). فظهر من هذا التقرير أن المأمور به هو ما عدد الله من أول السورة من المأكول والمشروب. أما المأكول فمنها قوله: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ) إلى (وَمِنْهَا تَاكُلُونَ) [النحل: 5] ومنها قوله: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [النحل: 11]، ومنها قوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً) [النحل: 14]، وأما المشروب فمنها قوله: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ) [النحل: 10]، ومنها قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل: 66]،

إنعامه بذلك، وقال: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يعنى: تطيعون. أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة، لأنها شفعاؤكم عنده. ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه. [(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)]. وانتصاب (الْكَذِبَ) بـ (لا تقولوا)، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم: (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) من غير استناد ذلك الوصف إلى وحى من الله أو إلى قياس مستند إليه. واللام مثلها في قولك: ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله: (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل من (الكذب). ويجوز أن يتعلق بـ (تصف) على إرادة القول، أى: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول: هذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل: 67]، ومنها: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل: 69]، والله أعلم. قوله: (أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله)، يعني: جاءت الشرطية مؤكدة للكلام، فإما أن تُحمل العبادة على الطاعة ليطابق الأمر، وهو: (فَكُلُوا)، أو أن تُجرى على حقيقتها، لكن على الزعم الكاذب. قوله: (وانتصاب "الكذب" بـ (لا تَقُولُوا))، وهو يحتمل أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مفعولاً مطلقاً، وقد مضى عن ابن الحاجب أن مثل هذا يبتني على أن القول يتعدى أو لا يتعدى، ففيه قولان: فإن تعدى فهو مفعول به، وإلا فمفعول مطلق. قوله: (ويجوز أن يتعلق- أي: (هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) - بـ (تَصِفُ) على إرادة القول)،

حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب (الكذب) بـ (تصف)، وتجعل «ما» مصدرية، وتعلق (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بـ (لا تقولوا)، على: ولا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام؛ لوصف ألسنتكم الكذب، أى: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالفاء في: "فتقول" في الكتاب كالفاء في قوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54]. قوله: (ولك أن تنصب (الْكَذِبَ) بـ (تَصِفُ)، عطف على قوله: "وانتصاب الكذب بـ (لا تَقُولُوا) "، و (مَا): مصدرية، واللام بمعنى: لأجل، وعلى الأول موصولة، واللام صلة لقوله: (لا تَقُولُوا). قوله: (جعل قولهم كأنه عينُ الكذب ومحضه)، قال الإمام والقاضي: كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم يكشف عن حقيقة الكذب ويوضح ماهيته، أراد أن قوله: (تَصِفُ) بمعنى: توضح وتبين؛ لأن بعض الصفات بمنزلة الكاشف عن المحدود، والتعريف في الكذب للجنس، فكأن ألسنتهم إذا أخذت في النطق وصفت ذلك الجنس وكشفت عن حقيقته، عليه قول أبي العلاء: سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا هذا، وأما ما عليه ظاهر كلام المصنف، فهو أن أصل الكلام لا تقولوا: هذا حلال وهذا حرامٌ، لأجل قولكم الكذب. فالقول وصف بالكذب في قوله: "لأجل قول تنطق به ألسنتكم" ليؤذن بأن ذلك تفوه وتقول من غير تحقيق، كقوله: (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ) [الأحزاب: 4]، وإليه الإشارة بقوله "لا لأجل حجة وبينة"، ثم زيد في المبالغة بأن قيل: (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ) ليُعلم أن قولهم- لكثرة اتصافه بالكذب- صار بمنزلة

بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم: ووجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر، وقرئ: «الكذب» بالجرّ صفة لـ (ما) المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الواصف له، فإذا نطقت ألسنتهم بالكذب، فقد حلت الكذب بحليته، ونحوه في المبالغة: نهاره صائم وليله قائم، فوصف اليوم الذي يصوم فيه هذا الشخص بصفته، لكثرة صدور هذا الفعل فيه، ولذلك وجهها كان موصوفاً بالجمال الفائق، ثم صار حقيقة الجمال ومنبعه، بحيث هو الذي يصف الجمال، كقول القائل: أضحت يمينك من جود مصورة ... لا بل يمينك منها صورة الجود فالأسلوب من الإسناد المجازي. أو تقول: إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال، على الاستعارة المكنية، بأن تقول: إنما بي من الشكل والغنج والدلال والملاحة، هو الجمال بعينه، وقريب منه: وبي ظبي أنس كمل الله حسنه ... وقال لأبصار الخلائق عوذي وعن بعضهم: يعني وجهه يذكر ويظهر فيه شيئاً فيه الجمال، وهو الملاحة التي هي سبب الجمال. قوله: (صفة لـ"ما" المصدرية)، وهي حرف، والحروف لا توصف، والمراد وصف "ما" مع مدخولها، وهو وصف ألسنتكم، ويُعلم منه أن "ما" مع ما بعدها معرفة؛ لأنها شبيهة بـ"أن" المصدرية وهي حرف والحروف لا توصف، وهي مع ما بعدها معرفة. قال أبو البقاء في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا): الجمهور على فتح اللام على أن اسم "كان" ما بعد "غلا"، وهو أقوى من أن يُجعل خبراً، والأول اسماً؛ لأن (أَنْ قَالُوا) يُشبه

الكاذب، كقوله تعالى: (بدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف: 18] والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرئ: «الكذب» جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابا، ذكره ابن جني. واللام في (لِتَفْتَرُوا) من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض. (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف، أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم. [(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، وذهب هنا إلى أن الكذب: بدل من "ما"، سواء جعلتها مصدرية أو بمعنى "الذي". وكذا عن ابن جني. قوله: ((بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف: 18]، قال أي: ذي كذب، أو وصفٌ بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب. قوله: (أو هو جمع الكذاب)، قال أبو البقاء: ويقرأ بضم الكاف والذال وفتح الباء، وهو جمع كذاب، بالتخفيف، مثل: كتاب وكتب، وهو مصدرٌ. وهي معنى قراءة من قرأ بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وهو منصوب بـ (تَصِفُ) و"ما" مصدرية. قوله: (ذكره ابن جني)، وعن بعضهم: ابن جنين بسكون الياء، وليست بياء النسب، وهو في الأصل ك ني فعُرب وبُني بالسكون، وكذا وجدت بخط مولاي بهاء الدين القاشي رحمه الله. قوله: (من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض)، فيكون للعاقبة والصيرورة.

(ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) يعني: في سورة الأنعام. [(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]. (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال، أى: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو: غير متدبرين للعاقبة؛ لغلبة الشهوة عليهم (مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة. [(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)]. (كانَ أُمَّةً) فيه وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمّة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير، كقوله: وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِى وَاحِدِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: في سورة الأنعام)، أي: قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام: 146] الآية، واتصال هذه بما قبلها كاتصالها به، وسيجيء بيان الربط إن شاء الله. قوله: (ليس من الله بمستنكر) البيت، يروى "لله"، يعني: أن الله تعالى قادرٌ على أن يجمع في واحد ما في اناس من معاني الفضل والكمال.

وعن مجاهد: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. والثاني: أن يكون (أمّة) بمعنى: مأموم، أي: يؤمّه الناس؛ ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى: مؤتم به كالرحلة والنخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله: (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعى عن ابن مسعود أنه قال: إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله، فقلت: غلطت، إنما هو إبراهيم. فقال: الأمّة: الذي يعلم الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله، وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضي الله عنه- أنه قال حين قيل له: ألا تستخلف؟ -: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته. ولو كان سالم حيا لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى: مأموم)، أي: مقصود، "يؤمه الناس" أي: يقصدونه ليأخذوا منه الخير. الجوهري: الأم، بالفتح: القصد. يقال: أمه وأممه وتأممه؛ إذا قصده. قوله: (أو بمعنى: مؤتم به)، الجوهري: أممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به، أي: اقتدى به. قوله: (كالرحلة النخبة)، الجوهري: الرحلة بالضم: الوجه الذي يريده، يقال: أنتم رحلتي، أي: الذين أرتحل إليهم، والانتخاب: الاختيار، والنخبة مثل النجبة، يقال: جاءني في نجب من أصحابه، أي: خيارهم. قوله: (وروى الشعبي عن فروة بن نوفل)، الحديث بتمامه روى قريباً منه ابن عبد البر في "الاستيعاب". قوله: (ولو كان سالمٌ حياً لاستخلفته)، وفي "الكامل" لابن الأثير: أن عمر رضي الله عنه قيل له لو استخلفت؟ قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، وقلت لربي إن سألني:

«أبو عبيدة أمين هذه الأمّة، ومعاذ أمّة قانت لله، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون، وسالم شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله لم يعصه. وهو ذلك المعنى، أي: كان إماما في الدين، لأنّ الأئمة معلمو الخير. والقانت: القائم بما أمره الله. والحنيف: المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيبا لكفار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سمعت نبيك يقول: "إنه أمين هذه الأمة"، ولو كان سالمٌ مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته، وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: "إن سالماً شديدُ الحب لله"، ولم يذكر فيه حديث معاذ. وهذا مؤولٌ لما ذكر في "الاستيعاب"، عن عمر أنه قال: لو كان سالمٌ ما جعلته شورى، وذلك بعد أن طُعن، وهذا عندي أنه كان يصدر فيها عن رأيه، يريد أنه لم يكن ممن يستحق الخلافة؛ لأن الأئمة من قريش، وسالمٌ كان مولى. قوله: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أميناً، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". قوله: (وهو ذلك المعنى)، أي: قول عمر رضي الله عنه: "ومعاذ أمة، قانت لله، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون"، ذلك المعنى الذي قاله ابن مسعود، وهو الأمة الذي يُعلم الخير. قوله: (والقانت: القائم بما أمره الله)، الراغب: القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، وفُسر بكل واحد منهما في قوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وقوله تعالى: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [البقرة: 116] قيل: خاضعون، وقيل: طائعون، وقيل: ساكنون، ولم يعن به كل السكوت، وإنما عني به ما قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي

قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم. (شاكِراً لِأَنْعُمِه) روى: أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً، فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال: الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم (اجْتَباهُ): اختصه واصطفاه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرآن وتسبيح"، وعلى هذا سُل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت"، أي: الاشتغال بالعبادة ورفض كل ما سواه، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً). قوله: (الآن وجبت مؤاكلتكم شُكراً لله تعالى)، يعني: إنما يصح الشكر في المؤاكلة إذا كان فيها التكلف والمشقة، ولا شك أن المؤاكلة مع المجذوم مما يتقزز منه الناس وتنفر منه النفس. قوله: ((اجْتَبَاهُ): اختصه)، قال الراغب: جببت الماء في الحوض: جمعته، والاجتباء: الجمعُ على سبيل الاصطفاء، واجتباء العبد: تخصيصه إياه بفيض إلهي، يتحصل له منه أنواعٌ من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء ومن يقاربهم من الصديقين والشهداء، قال تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13].

للنبوّة، (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيم) إلى ملة الإسلام. (حَسَنَةً) عن قتادة: هي تنوبه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: الأموال والأولاد، وقيل: قول المصلى منا: كما صليت على إبراهيم (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لمن أهل الجنة. [(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)]. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله» صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجلّ ما أولى من النعمة: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها. [(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي تنويه الله بذكره)، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، ناه ينوه: إذا ارتفع، ونوهته تنويها: إذا رفعته، ونوهت باسمه: إذا رفعت بذكره. قوله: (في (ثُمَّ) هذه ما فيها)، إبهامية، نحوها في قوله: (فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) [طه: 78]، وفيها تكرير للظرف، نحو قولهم: فيك زيدٌ راغبٌ فيك، أي: حصل من إتيان (ثم) التي تُعطي معنى التراخي في علو الرتبة مجازاً، تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذان أن أشرف ما أوتي خليل الله اتباع رسول الله ملته، يعني: لما أُمر حبيب الله باتباع ملة خليل الله حصلت لخليل الله منزلة عالية لا يُدانيها ما وُصف به من ابتداء قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً) إلى هنا. قال صاحب "الانتصاف": كأنه قال: وههنا ما هو أعلى من ذلك قدراً ورتبة، وهو أن سيد البشر مأمور بالوحي باتباعه، ونصيب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التعظيم أوفر وأكبر.

(السَّبْتُ) مصدر سبتت اليهود؛ إذا عظمت سبتها. والمعنى: إنما جعل وبال السبت؛ وهو المسخ (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) واختلافهم فيه: أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه. والمعنى في ذكر ذلك، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا، وغير ما ذكر، وهو الإنذار من سخط الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبالُ السبت)، أي: وبالُ ترك تعظيم السبت. قال محيي السنة: قيل: معناه إنما جُعل السبتُ لعنةً على الذين اختلفوا فيه، أي: خالفوا فيه، وقيل: معناه: ما فرض الله تعظيم السبت إلا على الذين اختلفوا فيه. قوله: (والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً وغير ما ذُكر)، عطفٌ على أنعم الله، أي: كفرتُ بأنعمِ الله وبغيرِ أنعم الله، ويأباهُ بيان غير ما ذُكر بقوله: "وهو الإنذار من سخط الله" إلى آخره؛ لأن مثل هذا الإنذار من أجل النعم. ويُمكنُ أن يقال: إنه عطفٌ على قوله: "في ضربِ القرية" من حيث المعنى، يريد: المعنى في ذكر هذه الآية نحو المعنى المذكور في قوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) الآية، وهو الاعتبار، وإيتاء النعمة والأمن والاطمئنان وكُفرانها، ثم استئصالها في الدنيا، ونحو غير ما ذُكر فيه، وهو أن أهل هذه القرية أنذرتهم أنبياؤهم بأن يُعظموا أمر السبت ولا يتعرضوا لسخط الله بهتك حرمته، فخالفوهم وخلعوا ربقة الطاعة عن أعناقهم، فيجبُ أن يقدر فيها هذا المعنى لكون الآيتين واردتين في الفريقين من المشركين واليهود، بعدما نعى عليهما تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه، وبعدما أُنذروا وكفروا بنعم الله وادعوا أنهم متبعون ملة إبراهيم، فكُذبوا بقوله: إن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً وشاكراً، وهؤلاء مشركون يعبدون من دون الله، واليهود يكفرون نعمه، ولم يكن متابعاً له إلا هذا النبي كما قال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ) [آل عمران: 68].

على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت: ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت: معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر: وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما معنى الحُكم بينهم؟ )، يعني: إنما يحسنُ إطلاقُ الاختلافِ والحكمُ بين الفريقين إذا وقع التنازعُ بينهم، بأن كان بعضهم مُحلين، وبعضهم محرمين. وأما إذا كانوا جميعاً محلين تارة، ومحرمين أخرى، فلا يقع التنازع والاختلاف، فما معنى قوله تعالى: (لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)؟ ووجه الجواب أن الاختلاف ما يقع بين المتنازعين، يقع أيضاً بين فعلين وإن لم يقع التنازع بين القوم. قوله: (ووجه آخرُ، وهو أن موسى عليه السلام أمرهم)، إلى آخره، هذا الوجه رواه الإمام عن ابن عباس، وقال: معنى "اختلفوا على نبيهم" حيثُ أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، لأن اختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم. وينصر هذا التأويل، ما رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحنُ الآخرونَ السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثُمّ هذا يومهم الذي فُرض عليهم، يعني: الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، وأضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع، اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، إن فيه لساعة لا يوافقها مؤمن يُصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه".

أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض؛ وهو السبت، إلا شر ذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت؛ لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة، فكانوا لا يصيدون فيه، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك، وهو يحكم (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيجازى كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى (جعل السبت): فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه. وقرئ: إنما جعل السبت، على البناء للفاعل. وقرأ عبد الله: (إنا أنزلنا السبت). [(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)]. (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ): إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ): بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوز أن يريد القرآن، أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): بالطريقة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: إنهُ تعالى أمر محمداً صلوات الله عليه بمتابعة إبراهيم عليه السلام، وهذه المتابعة إنما تحصلُ إذا قلنا: إن إبراهيم عليه السلام قد اختار يوم الجمعة. وعند هذا للسائل أن يسأل: فلم اختار اليهود السبت؟ فأجيب: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ). قوله: (ومعنى (جُعِلَ السَّبْتُ): فُرض عليهم تعظيمه)، فعلى هذا ضمن (جُعِلَ) معنى: فُرض، فأوجب باستعانة (عَلَى)، وعلى الوجه الأول قدر مضافاً لتعلق الجار به، وهو قوله: "جُعِلَ وبالُ السبت على الذين اختلفوا فيه".

التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) بهم، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)، إلى آخره، وضع المُضمر موضع قوله: (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، ثم فصله بفحوى القرينتين، ليؤذن بان المدعو في قوله: (إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) عام، وكذلك المجادل في قوله: (وَجَادِلْهُمْ)، كأنه تعالى يسليه صلوات الله عليه وسلامه على إذهاب نفسه حسراتٍ على إيمان القوم، أي: ما عليك إلا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة على طريق اللين. وأما الهداية والإيمان فلا عليك. وأشار إلى التسلية بالإياس في قوله: "وكأنك تضربُ منه في حديد بارد"، وإنما قدم في التنزيل ذكر الضالين؛ لأن الكلام فيهم، وبه تقع التسلية، وأخره المصنف بناء على قضية النظم ظاهراً، ثُم إنه صلوات الله عليه لما جد في الإبلاغ، وبالغ فيه وفي مجادلتهم حرصاً منه على إيمانهم، وظناً منه أنه المسيطر على الكل، والقادر على إيجاد الهداية فيهم، أُمر بالدعوة إلى الله بالحكمة والمجادلة باللين والرفق، وعلل الأمرين بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)، وكرر العلم، أي: ما عليك إلا البلاغ بالحكمة والمجادلة باللين، فمن علم الله فيه خيراً كفاه ذلك البلاغُ، ومن عَلِمَ أنه لا خير فيه، لا تُجديه تلك المبالغة. قوله: (كأنك تضرب منه في حديد بارد)، قال الميداني: هذا مثل يُضربُ لمن طمع في غير مطمع. قال الشاعر: فإذا تساعدت النفوس على الهوى ... فالخلقُ يضرب في حديد بارد (مِن) فيقوله: "مِنهُ": تجريدية؛ لأنه جرد منه مثل الديد البارد، و"في حديد" كـ"في" في قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف: 15].

[(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)]. سمي الفعل الأول باسم الثاني؛ للمزاوجة. والمعنى: إن صنع بكم صنيع سوء؛ من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرئ: وإن عقبتم فعقبوا، أى: وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم. روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد: بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به، وروى: فرآه مبقور البطن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سُمي الفعل الأول)، أي: (فَعَاقِبُوا) باسم الثاني، وهو: (بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)، وهو من باب المشاكلة، سماه المزاوجة لغة، وإنما المزاوجة: بين معنيين في الشرط والجزاء، كقول الشاعر: إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصاخ إلى الواشي فلج به الهجر قوله: (إن صُنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله)، قال القاضي: لما أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة وبين له طرُقها، أشار إليه وإلى من يُتابعه بترك المخالفة، ومراعاة العدل مع من يناصبهم، فإن الدعوة لا تنفك عنه، من حيث إنها تتضمن رفع العادات وترك الشهوات، والقدح في دين الأسلاف، والحكم عليهم بالكفر والضلال. قوله: (حنظلة بن الراهب)، وفي "الاستيعاب": هو حنلة بن أبي عامر، الراهب الأنصاري، أبوه: أبو عامر، يُعرف بالراهب في الجاهلية، قدم مع قريش يوم أحد محارباً، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، مات بالروم كافراً.

فقال: «أما والذي أحلف به، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك»؛ فنزلت، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده. ولا خلاف في تحريم المثلة. وقد وردت الأخبار بالنهى عنها حتى بالكلب العقور. إما أن رجع الضمير في (لَهُوَ) إلى صبرهم وهو مصدر (صبرتم). ويراد بالصابرين: المخاطبون، أي: ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع (الصابرون) موضع الضمير؛ ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما ابنه حنظلة فهو المعروف بغسيل الملائكة، قُتل يوم أحدٍ شهيداً. قالت امرأته: حنظلة أجنب وغسلت إحدى شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج، فقُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الملائكة تُغسله". قوله: (فوضع "الصابرون" موضع الضمير ثناء من الله)، الراغب: الصبر: الإمساك في ضيق، يقال: صبرت الدابة؛ حبستها بلا علف، وصبرتُ فلاناً: خلفته خلفةً لا خروج له منها، والصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو كلاهما، فالصبر: لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة، سُمي صبراً لا غير، ويُضاده الجزع، وإن كان في محاربة سُمي شجاعة، ويُضاده الجُبن، وإن كان في نائبة مضجرة، سُمي رحبَ الصدر، ويُضاده الضجر، وإن كان في إمساك الكلام سُمي كتماناً، ويُضاده المذلُ، وقد سمى الله تعالى كل ذلك صبراً، ونبه عليه بقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ) [البقرة: 177]، يقالث: رجُلٌ مذلٌ، أي: باذل لما عنده من مال أو سر.

الشدائد. أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة. وإما أن يرجع إلى جنس الصبر - وقد دل عليه (صبرتم) - ويراد بالصابرين جنسهم، كأنه قيل: وللصبر خير للصابرين. ونحوه قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)] الشورى: 40 [، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)] البقرة: 237 [ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَاصْبِرْ) أنت فعزم عليه بالصبر (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) أى بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على الكافرين، كقوله (فَلا تَاسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)] المائدة: 68 [أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) وقرئ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو وصفهم بالصفة)، عطفٌ على قوله: "ثناء عليهم من الله"، يعني: وضع "الصابرين" موضع ضمير المخاطبين مجازاً؛ لأنهم عند الخطاب ما كانوا صابرين، فسماهم الله به، إما لمجرد المدح والثناء؛ لأن الصبر من أعم أوصاف المتقين، وإما لاكتسائهم بلباس الصبر جُعلوا صابرين ترغيباً على الصبر، وعلى أن يُراد بالصابرين الجنس لا يكون من وضع المظهر موضع المضمر، فلا يكون مجازاً بل يكون من باب الكناية، فيدخل في هذا العام المخاطبون دخولاً أولياً. قوله: (كأنه قيل: وللصبر خير للصابرين)، حاصل الوجوه: أن معنى التركيب أن الصبر عن المعاقبة وترك المقابلة خير من استيفائها، كقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237]، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40]. قوله: (فعزم عليه بالصبر)، الأساس: عزمتُ عليك لما فعلت كذا، بمعنى: أقسمت، أي: وكد عليه أمر الصبر بأن أمره وحده بالصبر، بعدما حثهم عليه بالتركيب القسمي؛ لأن اللام في (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) موطئة للقسم، وفيه معنى الأمر، ثم بين بأداة الحصر أن الصبر عليه سهل لكونه بتوفيق الله وتسديده. قوله: (وما فعل بهم الكافرون)، أي: من المثلة.

و (لا تكن في ضيق)، أي: ولا يضيقن صدرك من مكرهم. والضيق: تخفيف الضيق، أي: في أمر ضيق. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين، كالقيل والقول. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي هو ولىّ الذين اجتنبوا المعاصي وَولى (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في أعمالهم. وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين احتضر: أوص. فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يضيقن صدرك)، وهو من باب "لا أرينك هاهنا"، أي: ولا تكن بحيثُ يضيق صدرك إذا نابك منهم مكروه، أي: لا تباشر القلق والضجر، وذلك مستفاد من نهي كينونته في ضيقن والعدول من: "ولا يضيق صدرك". قوله: (والضيق تخفيف الضيق)، قال أبو البقاء: (ضَيْقٍ)، بفتح الضاد، فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر ضاق، مثل: سار سيراً، والثاني: هو مخفف من الضيق، أي: في أمر ضيق، مثل سيد وميت. قوله: (أي: هو وليُّ الذي اجتنبوا المعاصي، وولي (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في أعمالهم)، راعى المطابقة في تفسير الصلتين، ففسر الفعلية بالفعلية، والاسمية بالاسمية. فإن قلت: ما الوجه في تخصيص إحدى الصلتين في كونها فعلية، والأخرى اسمية؟ قلت: ليؤذن بأن التقوى مقدمة الإحسان، فمن حاول ملازمة الإحسان والمواظبة عليه يجب استحداث التقوى قبله؛ لأن التحلية بعد التصفية، ثم تخصيص الإحسان بالذكر، وإيراد الجملة اسمية، وبناء (مُحْسِنُونَ) على (هُمْ) على سبيل تقوى الحكم: مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه، وهو مستلزم لاستمرار التقوى؛ لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة. وإليه الإشارة بما ورد "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقطعُ متعلقِ التقوى والإحسان - على طريقة قوله: "فلانٌ يعطي ويمنع - مشعرٌ باتحاد حقيقتهما، فلا تختص بمُتقٍ دون متقٍن وبمحسنٍ دون محسن، فيجبُ أن

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا، وإن مات في يوم تلاها أو ليلته، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتناول جميع ما يجب أن يُتقى منه، وما يجب أن يؤتى به من الإحسان، ومن ثم قدر المصنفُ متعلقهما جمعاً محلى باللام الاستغراقي، ومضافاً إلى المعرفة. والمعني بهذه المعية: معية المحبة كما ورد: "فإذا أحببته كنتُ سمعه ... " الحديث. وهذه التقوى بمنزلة التوبة للعارف، والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الوهم والوصول إلى مخدع الإنسان. وأما بيانُ النظم فإن الله تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين، ونهاه عن الحزن على عنادهم وإبائهم الحق، وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم، علله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية، أي: لا تُبال بهم وبمكرهم؛ لأن الله وليك ومحبك وناصرك، ومبغضهم وخاذلهم، فعم الحكم إرشاداً للمحسنين المتقين اقتداء بسيد المرسلين صلوات الله عليه، وفيه تعريض بالمخالفين وبخذلانهم، كما صرح تعالى في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11]. تمت السورة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والله أعلم

سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل مكية، وآياتها إحدى عشرة ومئة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)]. (سُبْحانَ): علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة بني إسرائيل مكية، وهي مئة وإحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ((سُبْحَانَ): علم للتسبيح، كعُثمان)، الراغب: السبحُ: المر السريع في الماء، أو الهواء، يقال: سبح سبحاً وسباحةً، واستُعير لمر النجوم في الفلك، نحو: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]، ولمجرى الفرس، نحو: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً) [النازعات: 3] ولسرعة الذهاب في العمل: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل: 7]. والتسبيح: أصله التنزيه للباري سبحانه، وأصله المرُّ السريع في عبادة الله، وجُعل ذلك في فعل الخير، كما جُعل الإبعادُ في الشر فقيل: أبعده الله، ثم جُعل التسبيح عاماً في العبادات، قولاً كان أو فعلاً أو نيةً،

ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله و (أَسْرى) و ((سرى)) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات: 143]، وقال: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة: 30]، و (سُبْحَانَ): أصله مصدرٌ كغفران. قال أبو البقاء: سُبحان: اسم واقعٌ موقع المصدر، وقد اشتق منه: سبحتُ والتسبيحُ، ولا يكادُ يستعملُ إلا مضافاً؛ لأن الإضافة تبينُ من المعظم، فإذا أُفرد عن الإضافة كان اسماً علماً للتسبيح لا ينصرفُ للتعريف، والألف والنون في آخره مثل عثمان. وقال ابن الحاجب: والدليل على أن سُبحان علمٌ للتسبيح قولُ الشاعر: قد قلتُ لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر ولولا أنه عَلمٌ لوجب صرفه؛ لأن الألف والنون في غير الصفات إنما يُمنع مع العلمية، ولا تستعمل علماً إلا شاذاً، وأكثر استعماله مضافاً، وليس بعلم؛ لأن الأعلام لا تضاف. والتسبيح مصدر سبح، أي: قال: سبحان الله، ومدلول سبحان: تنزيهٌ لا لفظ، لكن ورد التسبيح بمعنى التنزيه. قوله: (ودل على التنزيه البليغ)، وذلك في جلب هذا المصدر في أصل التركيب للتوكيد، وهو أسبحُ تسبيحاً، ثم أسبح سبحاناً، ثم في حذف العامل وإقامته مقام الدلالة على أن المطلوب بالذات المصدر، والفعل تابعٌ، فيفيد الإخبار بسرعة وجود التنزيه. وأما قوله: "التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يُضيفها إليه أعداء الله"، مما يأباه مقامُ "الإسراء" إباء العيوف الورد، وهو مزيفٌ، بل معناه التعجب، كما قال في "النور":

لغتان. و (لَيْلًا) نصب على الظرف. فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟ قلت: أراد بقوله (لَيْلًا) بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأصل في ذلك أن يُسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثُرَ حتى استعمل في كل متعجب منه. قوله: (أراد بقوله: (لِيلاً) بلف التنكير: تقليل مُدة الإسراء، وأنه أسري به صلى الله عليه وسلم في بعض الليل). قال صاحب "الفرائد": قوله: أراد بقوله: (لِيلاً) بلفظ التنكير تقليل المدة مسلمٌ، وأما قوله: "في بعض الليل"، فغيرُ مسلم؛ لأن (لِيلاً) يحتمل الكُل، لا يلزمُ البعضُ، فالبعضية بحسب العدد لا بحسب الجزء؛ ولأنه لو لم يذكر (لِيلاً) بعد الإسراء لم يُعلم مقدارُ الإسراء، لأنه يمكنُ أنه أسرى به ليالي، كقوله تعالى: (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي) [سبأ: 18]. ومن قال: إن ذكره للتأكيد ليس بشيء؛ لأنه لابد من ذكره، وقراءة عبد الله وحُذيفة لو كانت بدون لام التعريف، أعني: بعض ليل، لكانت شاهدة لذلك؛ لأن بعض الليل يُمكنُ أن يكون المراد به بعض الليالي، فيكون الذي أسرى به ليلاً. وأجيب أن الاسم الحامل لمعنى التنكير محتمل لأن يكون المراد به شخصاً أو نوعاً، ويحتملُ أن يكون للتعظيم والتهويل، أو التكثير، أو التقليل، فهو إذا كاللفظ المشترك، وإنما يتبينُ معناه بقيام قرينة مبينة، فقوله: (لِيلاً) يحتملُ أحد هذه المعاني، وغنما يتعين بمقيد. ولا خلاف أن الإسراء لم يكن أكثر من ليلة، فجيء بليل وقلل ليدُل على أنها كانت في بعض من تلك الليلة المعلومة، على أن تصدير السورة بالكلمة الدالة على التعجب البليغ، مُنادٍ بحدوث أمر خارق للعادة وآية عظيمة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، وهي كما قال: "أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة". وكذا دلالة قراءة عبد الله وحُذيفة، وما ذهب إليه أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعض الليل يُمكن أن يكون المراد به بعض الليالي بعيدٌ جداً، ولا يخفى على أحدٍ أن قوله: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) [الإسراء: 79] ليس المراد ما قاله. وقال في "الانتصاف": وقد جرى ذكرُ الليل في موضع لا يليق به الجواب الذي ذكره الزمخشري، وهو قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) [هود: 81] والظاهر أن ذكر الليل لتصوير السُّرى بصورته، أو لأن السُّرى دل على أمرين: السير وكونه ليلاً، فأفرد أحدهما بالذكر تقوية له في ذهن المخاطب، مثله قوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل: 51]، فإن الاسم الحامل للتثنية دالٌ عليها وعلى الجنسية، فأكد التثنية لأنها مقصودة بالإبطال كما مر. وأجيب: أن بين المقامين بوناً بعيداً؛ لأنه ما وقع النزاع في أن عروجه صلوات الله عليه كان ليلاً أو نهاراًن كما وقع في اتخاذ الإله والعدد في تلك الآية، وإنما هو بيان إبداء أمر غريب خارق للعادات. وأما قوله: (بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) فهو له لا عليه، لأنه أتى بالليل هناك، ونُكر ليُضمن المعنى المقصود في الإيراد من التبعيض. وجيء بقوله: (مِنْ اللَّيْلِ) هنا ليبين أن البعض ما هون فهذا مقصودٌ منصوصٌ فيه البعضية، وذاك مُضمن. والحاصل أن إعادة الشيء لإناطة أمر زائد أسلوبٌ من الأساليب. وأقول- والعلمُ عند الله-: ويُمكن أن يُراد بالتنكير التعظيم والتفخيم، والمقامُ يقتضيه، ألا ترى كيف افتتحت السورة بالكلمة المنبئة عنه؟ ثُم وصف المسري به بالعبودية، ثم أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبرة لما حوله تعظيماً للزمان، ثم تعظيم الآيات

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... بإضافتها إلى صيغة التعظيم وجمعها ليشمل جميع أنواع الآيات، وكل ذلك شاهدُ صدقٍ على ما نحن بصدده، والمعنى: ما أعظم شأن من أسرى به بمن حقق له مقام العبودية، وحقق استئهاله للعناية وصحح له النعمة السرمدية. (لِيلاً)، أي: ليل له شأن جليل، ليلٌ دنا فيه الحبيبُ من المحبوب، وفاز في مقام الشهود بالمطلوب، (فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 8 - 11]، فحينئذ ينطبق عليه التعليل بقوله: (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، أي: السميع بأحوال ذلك العبد، والبصير لأفعاله، العالمُ بكونها مهذبة خالصة من شوائب الهوى، مقرونة بالصدق والصفا، مُستأهلة للقرية والزلفى. ولا بُعد أن يرجع الضمير إلى العبد، كما نقل أبو البقاء عن بعضهم، قال: إنه السميع لكلامنا، والبصير لذاتنا. وأما توسيطُ ضمير الفصل فللإشعار باختصاصه بهذه الكرامة وحده. ولهذا عقبه بقوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)؛ لأنه جاء مستطرداً لحديث الإسراء، وسماع الكلام ومنح القربة والزلفى، والجامع أن موسى عليه السلامُ إنما أُعطي التوراة عند مسيره إلى الطور، وهو بمنزلة معراجه عليه السلام؛ لأنه هنالك شُرف بالكلام، ومُنح التكليم، وطلب الرؤية. وسيجيء في سورة النجم إن شاء الله تعالى الكلام في إثبات الرؤية لسيدنا صلوات الله عليه، وأقوال الصحابة والعلماء فيه مستوفى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعل السر في مجيء الضمير مُجملاً محتملاً للأمرين: الإشارة إلى المطلوب، وأنه صلوات الله عليه وسلم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به. روينا في "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ من أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، وإن استعاذني أعذته" الحديث. وفي "حقائق السُّلمي": قال ابن عطاء: طهُرَ مكانُ القربةِ وموقف الدنوِّ عن أن يكون فيه تأثير لمخلوق بحالٍ، فسار بنفسه، وسرى بروحه، وسير بسره، فلا السر عَلِمَ ما فيه الروح، ولا الروح علم ما يُشاهد السر، ولا النفس عندها شيء من خبرهما، وما هما فيه، وكل واقفٌ مع حده، مشاهدٌ للحق متلقياً عنه بلا واسطة ولا بقاء بشرية، بل حق تحقق بعبده، فحققه وأقامه حيث لا مقام، وأوحى إليه ما أوحى جل ربنا وتعالى. وقال: قال رجل لجعفر بن محمد: صف لي المعراج، قال: كيف أصف لك مقاماً لم يسمع فيه جبريل مع عظم محله؟ وقال النصراباذي: أسقط العلل والاعتراضات بقوله: (أَسْرَى)، ولم يقُلْ: "سرى"؛ لأن القدرة تحتملُ كل شيء.

من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة: (من الليل)، أي: بعض الليل، كقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً)] الإسراء: 79 [يعني: الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل: هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق وقيل: أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد. وروى أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ، وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال بعضهم: قيل: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) فغمض عينه عن الآيات شُغلاً منه بالحق، ولم يلتفت إلى شيء من الآيات والكرامات، فقيل له: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، حيث لم يشغلك ما لنا عنا. انتهى ما في "الحقائق". قوله: (فقيل: هو المسجد الحرام بعينه)، وهو الظاهر، لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي النسائي، عن قتادة، عن أنس بن مالك بن صعصعة، أن نبي الله حدثهم عن ليلة أُسري به، قال: بينا أنا في الحطيم، وربما قال: في الحجر، مضطجع، ومنهم من قال: بين النائم واليقظان، إذ أتاني آتٍ، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم، عن أنس قال: كان أبو ذر يُحدثُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرجَ سقفُ بيتي وأنا بمكة". قوله: (قال: "وإن كذبوني")، أي: أنا اخبرهم وإن كذبوني.

بحديث الإسراء، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي، هلم فحدّثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبًا وإنكارًا. وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبى بكر رضي الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمى الصدّيق. وفيهم من سافر إلى ما ثمّ، فاستنعتوه المسجد فجلي له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: "تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق"، فخرجوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هلُمَّ، فحدثهم)، أي: قال: هلُم فجاؤوا واستمعوا لحديثه فحدثهم، فالفاء فصيحة. قوله: (تعجباً وإنكاراً)، يشير لقوله: "مصفق وواضعٌ" من غير ترتيب، وتقديره: فلما سمعوا هذا الكلام افترقوا فرقتين من غير ترتيب، فبعضهم مصفقٌ منكر، وبعضهم واضعٌ يده على رأسه متعجباً. قوله: (من سافر إلى ما ثَمَّ)، ثَمَّ: عبارةٌ عن المسجد الأقصى، وما: كنايةٌ عن المواضع التي حول المسجد الأقصى. قوله: (فاستنعتوه المسجد)، روينا في "صحيح البخاري" عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كذبني قُريشٌ حين أُسرى بي إلى بيت المقدس، قمتُ في الحجر، فجلى الله تعالى بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن أبوابه وأنا انظر إليه". قوله: (جملٌ أورق)، قال الأصمعي: الأورق من الإبل: الذي في لونه بياضٌ إلى سواد.

يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشًا أيضًا بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث. واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» وعن معاوية: إنما عرج بروحه. وعن الحسن، كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك. والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد (بارَكْنا حَوْلَهُ) يريد: بركات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان العروج به من بيت المقدس)، روى البخاري ومسلم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أتيتُ بالبراق" إلى قوله: "فركبته حتى أتيت بيت المقدس" إلى قوله: "ثُم عُرج بنا إلى السماء" الحديث. قوله: (وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك)، وقال الشيخ محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم": قد لخص القاضي عياض رحمه الله في الإسراء جُملاً حسنةً نفيسةً، فقال: اختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنما كان جميع ذلك في المنام. والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظمُ السلف وعامةُ المتأخرين من الفقهاء والمحدثين

الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقرأ الحسن: (ليريه) بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم؛ فقيل: (أسرى) ثم (باركنا) ليريه، على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمتكلمين، أنه أُسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها، ولا يعدل عن ظواهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه، فيحتاج إلى تأويل. وقال محي السنة في "المعالم": والأكثرون على أنه صلوات الله عليه أُسري بجسده في اليقظة، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك. وقلتُ: وروينا عن البخاري والترمذي، عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60]، قال: هي رؤيا عينٍ أريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى بيت المقدس. وفي "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، رآه بعينه حين ذُهب به إلى البيت، ولأنه قد أنكرته قريش وارتدت جماعة ممن كانوا أسلموا حين سمعوه، وإنما يُنكر إذا كان في اليقظة، فإن الرؤيا لا يُنكر منها ما هو أبعد من ذلك، على أن الحق أن المعراج مرتان، مرة بالنوم وأخرى باليقظة. قال محيي السنة: رُؤيا أراه الله تعالى قبل الوحي، بدليل قول من قال: فاستيقظ وهو في المسجد الحرام، ثم عُرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنةٍ تحقيقاً لرؤياه، كما أنه رأى فتح مكة في المنام سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقه سنة ثمانٍ.

قراءة الحسن، ثم (من آياتنا)، ثم (إنه هو)، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال محمد (الْبَصِيرُ) بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك. [(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا) شَكُورًا)]. (أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرئ بالياء على: لئلا يتخذوا، وبالتاء على: أي لا تتخذوا، كقولك: كتبت إليه أن أفعل كذا، (وَكِيلًا): ربا تكلون إليه أموركم. (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) نصب على الاختصاص. وقيل: على النداء فيمن قرأ: (ألا تتخذوا) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي من طُرق البلاغة)، وذلك أن قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) يدل على مسيره من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فهو بالغيبة أنسبُ، وقوله: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) دل على إنزال البركات، وتعظيم شأن المُنزل، فهو بالحكاية على التفخيم أحرى، قوله: (لِيُرِيَهُ) بالياء: إعادةٌ إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم، فالغيبة بها أليق، وقوله: (مِنْ آيَاتِنَا): عودٌ إلى التعظيم على ما سبق، وقوله: (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، أشار به إلى مقام اختصاصه بالمنح والزلفى وغيبة شُهوده فيعين "بي يسمع وبي يُبصر"، فالعود إلى الغيبة أولى. قوله: ((أَلاَّ تَتَّخِذُوا) قرئ بالياء)، أبو عمرو، والباقون: بالتاء الفوقانية. قال أبو البقاء: أما تقدير الياء التحتانية، فهو (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى)؛ لئلا يتخذوا، أو: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) لئلا يتخذوا، وأما تقدير التاء ففيه وجهان، أنّ "أن" بمعنى: أي، وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي، وثانيهما: أن "لا" زائدة، والتقدير: مخافة أن تتخذوان وقد رجع في هذا من الغيبة إلى الخطاب.

بالتاء على النهي، يعني: قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا (ذرية من حملنا مَعَ نُوحٍ) وقد يجعل (وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) مفعولي (تتخذوا)، أي: لا تجعلوهم أربابًا كقوله: (وَلا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبابًا)] آل عمران: 80 [ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام. وقرئ: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) بالرفع بدلا من واو (تَتَّخِذُوا) وقرأ زيد بن ثابت: (ذِرِّيَّة)، بكسر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: لا تجعلوهم أرباباً)، يريد أن في اختصاص هذا الوصف، وهو كونهم ذُرية المحمولين مع نوحٍ، وترتيب حكم النهي عن الإشراك على ذلك إشعاراً بأنهم لا يصلحون أن يكونوا أرباباً من دون الله؛ لأنهم عاجزون محصورون في ذات ألواح ودُسُرٍ، فكيف يصح أن تتخذوا وكيلاً من دون الله؟ ! قوله: (وقرئ: "ذرية من حملنا" بالرفع، بدلا من واو (تَتَّخِذُوا))، قال أبو البقاء: هذا على القراءة بالياء، لأنهم غُيَّب. قال صاحب "التخمير": إنما لم يجز إبدالُ المظهر من المضمر المتكلم والمخاطب؛ لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يكون لغير واحد، بخلاف ضمير الغيبة، والإبدال للتبيين، فيختص بموضع فيه احتمالٌ، فلذا جاز: مررت به زيد، ولم يجز: مر بي المسكين، ولا عليك الكريم. فإن قلت: فما تقولُ في قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو) [الأحزاب: 21] فقد أُبدلَ فيه الغائبُ من المخاطب؟ قلتُ: لأن الخطاب ليس لقوم بأعيانهم، فنزلوا منزلة الغائب؛ لأن المعنى: لقد كان للناس فيهم أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله. وذكر الركسي: أن الكوفيين والأخفش أجازوا إبدال المُظهر من المضمر الحاضر

الذال. وروي عنه أنه قد فسرها بولد الولد، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق (إِنَّهُ): إن نوحًا عليه السلام (كانَ عَبْدًا شَكُورًا) قيل: كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني، ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى أذاه في عافية، ولو شاء حبسه. وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجًا آثره به. فإن قلت: قوله (إنه كان عبدًا شكورًا) ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت: كأنه قيل: لا تتخذوا من دوني وكيلا، ولا تشركوا بي، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبدا شكورا، وأنتم ذرية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مطلقاً، تمسكاً بقوله تعالى: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) [الأنعام: 12]، فإن (الَّذِينَ): بدلُ البعض، وأما غير بدل الكل، فيجوزُ لفقدان المانع، وهو أن يكون المقصود بالنسبة أقل دلالة، فإن بدل البعض والاشتمال ليس مدلولهما مدلول الأول، فيجوز: اشتريتك نصفك، وأعجبني علمُك، ومنه قول الشاعر: ذريني إن أمرك لن يُطاعا ... وما ألفيتني حلمي مُضاعا وهاهنا مفهوم قوله تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) أبين دلالة من مفهوم الضمير في (تتخذوا) المُعبر عن بني إسرائيل. قوله: (ولا تشركوا بي)، عطفٌ تفسيري لقوله: "لا يتخذوا من دوني وكيلاً". قوله: (إن نوحاً كان عبداً شكوراً)، أي: إنه كان موحداً؛ لأن الشاكر من يقوم بجملته وشراشره في خدمة المُنعم عليه. قال:

من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد. [(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)]. (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ): وأوحينا إليهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفادتكم النعماءُ منِّي ثلاثةً فإذا توهم أدنى شركٍ فيه لم يكن شاكراً حقاً، لا سيما والشكور من أبنية المبالغة. قوله: (فاجعلوه أسوتكم)، الراغبُ: الأسوة والإسوة كالقُدوة والقِدوة: وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان في اتباع غيره، إن حُسناً أو قبحاً، وإن سارا أو ضارا؛ ولهذا قال تعالى: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، فوصفها بالحسنة. قوله: (ويجوز أن يكون تعليلاً)، مبني على أن "ذرية" منصوب على الاختصاص والمدح، يعني: إنما خصصناكم بهذا الخطاب لأنكم أولادُ آباء مكرمين، كقوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [الكهف: 82]، قال القاضي: فيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شُكره، وحث للذرية على الاقتداء به. وقلتُ: اعتبر اختصاص الحمل بالذكر وأدمج هذا المعنى فيه. قوله: (على سبيل الاستطراد)، فعلى هذا لا يكون تعليلاً.

وحياً مقضياً، أي: مقطوعاً مبتوتًا بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أي: يتعظمون ويبغون. (فِي الْكِتَبِ) في التوراة، و (لَتُفْسِدُنَّ) جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجرى القضاء المبتوت مجرى القسم، فيكون (لَتُفْسِدُنَّ) جواباً له، كأنه قال: وأقسمنا لتفسدن. وقرئ: لَتُفْسَدُنّ، على البناء للمفعول. و (لَتَفْسُدُنَّ)، بفتح التاء من: فسد، (مَرَّتَيْنِ) أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم. (عِبادًا لَنا) وقرئ: (عبيدًا لنا). وأكثر ما يقال: عباد الله وعَبِيدُ الناس: سَنْحَارِيبَ وجنودَه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحياً مقضياً أي: مقطوعاً)، الراغب: القضاء: فصلُ الأمر قولاً كان أو فعلاً، وكل منهما على وجهين: إلهي وبشري، فمن القول الإلهي: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ)، فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحياً جزماً، ومن الفعل الإلهي: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 12]؛ لأنه إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه. قوله: (وقرئ: "لتفسدن" على البناء للمفعول، و"لتفسدن" بفتح التاء؛ من: فسد)، قال أبو البقاء: المعنى على الأول: يُفسدكم غيركم، وعلى الثاني: تفسدُ أموركم. قوله: (وأكثر ما يقالُ: عباد الله)، قال ابن جني: أكثر اللغة أن يُستعمل العبيد للناس والعباد لله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر: 42]، (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16]، وهو كثير، وقال: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]. قوله: (سنحاريب) نصبٌ عطفُ بيانٍ لـ"عباداً"، ويُروى بالرفع، أي: هم سنحاريب وجنوده.

وقيل بختنصر. وعن ابن عباس: جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفًا. فإن قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت: معناه: خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه، فهو كقوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)] الأنعام: 129 [وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه: خلينا بينهم وبين ما فعلوا)، يعني: معنى تسليط الكفرة على ذلك، أي: قتل العلماء وإحراق التوراة وتخريب المسجد والسبي. الانتصاف: السؤال يتوجه على القدرية، وأما السني فيقول: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء: 23]. قوله: (على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة عليهم)، يعني أن البعث مجازٌ، على أن الحقيقة جائزة أيضاً؛ لأن الله تعالى أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه؛ لأنهم ظلموا بقتل زكريا ويحيى، وقصد قتل عيسى عليه السلام، فهو كقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129]. قوله: (وكقول الداعي: وخالف بين كلمهم)، يعني: مثلُ هذا الإسناد جائزٌ بل مندوبٌ إليه، يقولون في الدعاء على الكفرة: اللهم زلزل أقدامهم ونكس أعلامهم، وخالف بين كلمتهم، وهو من قوله تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) [التوبة: 40]، وكلمتهم: دعوتهم إلى الكفر واتفاقهم عليه. قوله: (وأسند الجوس)، إلى آخره، مراده: أنه تعالى أسند إلى نفسه ما يصح أن يُسند إليه من بعث الكفرة عليهم؛ لأجل فسادهم، وأسند ما لا يصح أن يُسند إليه من الكفرة من تخريب المسجد وإحراق التوراة. فيقال له: لولا بعثه وتمكينه إياهم كيف قدروا على ذلك؟ فهو كإعطاء سيف باتٍ ظالماً يقطع الطريق ويسبي الحريم، فوقع فيما فر منه.

من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء. وقرئ: فَحَوّسُوا. وخلل الديار. فإن قلت: ما معنى (وَعْدُ أُولاهُما)؟ قلت: معناه: وعد عقاب أولاهما. (وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا) يعنى: وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي: الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل: هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وقيل: هي قتل داود جالوت. (أَكْثَرَ نَفِيرًا) مما كنتم. والنفير، من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نفر كالعبيد والمعيز. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ طلحة: "فحاسُوا")، قال ابنُ جني: قال أبو زيد أو غيره، قلتُ له: إنما هو فجاسوا بالجيم، قال: جاسوا وحاسوا واحدٌ، وهذا يدل على أن بعض القراء يتخير بلا رواية، ولذلك نظائر. قوله: (وقرئ "فحوسوا")، في "الموضح": "حوسوا" بالحاء غير المعجمة مشدد الواو. الراغب: (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ)، أي: توسطوها وترددوا بينها، ويُقارب ذلك "جاسوا" و"داسوا"، وقيل: الجوسُ: طلب ذلك الشيء باستقصاء، والخللُ: فرجةٌ بين الشيئين، وجمعه خلال، نحو: خلال الديار والسحاب والرماد، قال تعالى: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الروم: 48]، وعن بعضهم: خللٌ إما مُفرد جمعه: خلالٌ، كجبل، وإما بمعنى الخلال، والخلال حينئذ مفرد. قوله: (واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم)، قال القاضي: وذلك بأن ألقى الله في قلب بهمن بن أسفنديار لما ورث مُلك كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم، فرد أسراهم إلى الشام وملك دانيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من اتباع بخت نصر، والله أعلم بحقيقة ذلك.

[(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤًا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا)]. أي: الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ رضي الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) المرّة (الْآخِرَةِ) بعثناهم (لِيَسُوؤًا وُجُوهَكُمْ) حذف؛ لدلالة ذكره أوّلا عليه، ومعنى (لِيَسُوؤًا وُجُوهَكُمْ): ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك: 27]، وقرئ: (ليسوء)، والضمير لله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لدلالة ذكره أولاً)، يعني: جواب (إذا) قوله: "بعثناهم"، بدليل قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ)، فعلى هذا قوله: (وَلِيَدْخُلُوا) عطفٌ على (لِيَسُوءُوا) لاتفاقهما. فإن قلت: لا ارتياب أن قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) عطفٌ على قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) وهما تفصيلٌ لقوله: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)، وكان من حق الظاهر أن يترك القرينة الثانية عن الفاء إلى الواو، فما وجهُه؟ قلتُ - والله اعلم-: إن مدخول الفاء وإن كان قسيماً لقوله ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) لكن تخلل بين المعطوفين، قوله: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا)، فجره إلى نفسه، كأنه قيل: وإن أسأتم فلها، وقد حصل منكم الإساءة والإفساد مرة أخرى، وهما السبب ف يمجيء الوعد في الآخرة: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ). ألا ترى كيف وصل قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) بما ذيل به هذا الوعد الآخرة، وهو قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي: إن تبتم. قوله: (وقرئ: "ليسوء")، أبو بكر وابن عامر وحمزة: بالياء ونصب الهمزة على التوحيد، والكسائي: بالنون ونصب الهمزة على الجمع، والباقون: بالياء وهمزة مضمومة

عز وجل، أو للوعد، أو للبعث. (ولنسوء): بالنون. وفي قراءة علىّ: (لنسوأنّ): وليسوأنّ وقرئ لنسوأن، بالنون الخفيفة. واللام في (لِيَدْخُلُوا) على هذا متعلق بمحذوف وهو: وبعثناهم ليدخلوا. ولنسوأن: جواب إذا جاء ما (عَلَوْا) مفعول (ليتبروا)، أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى: مدة علوّهم. [(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا)]. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد المرّة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي، (وَإِنْ عُدْتُمْ) مرة ثالثة (عُدْنا) إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم. وعن الحسن: عادوا فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين واوين على الجمع"، قال أبو البقاء: التقديرُ على الجمع: ليسوء العبادُ، أو النفيرُ. ويُقرأُ "ليسوء" بغير واو، أي: ليسوء البعث أو المبعوث أو النفير أو الله تعالى. قوله: ("لنسوء"، بالنون) الخفيفة. قال ابن جني: قرأ أبي بن كعب: "لنسوءاً" بالتنوين، فطريق القول فيه أن يكون أراد ألفاً فحذفها، أي: فليسوءا وجوهكم، على لفظ الأمر، كما تقول: إذا سألتني فلأعطك، كأنك تأمر نفسك، ومعناه: فلأعطينك، واللامان بعده للأمر أيضاً، وهما (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا). يُقوي ذلك أنه لم يأتِ لـ"إذا" جوابٌ فيما بعدُ، فالتقدير: فلنسوءاً وجوهكم، أي: فلنسوءن. وهذا يدل على أن في "فلنسوءن" ألفاً مقدرة. قوله: (وضرب الإتاوة عليهم)، أي: الخراج، فإن قلت: ما وجه استقامة هذا الوجه، وهو تسليط الأكاسرة عليهم، وقد مضى، مع قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) وهو للاستقبال؟

فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة (حَصِيرًا) محبسا يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن: بساطا كما يبسط الحصير المرمول. [(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا* وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا)]. (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرئ: ويبشر، بالتخفيف، فإن قلت: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: استقامته من حيث إن هذه المذكورات كلها كانت مثبتة في التوراة مقضية عليهم، لقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ)، والكتاب: التوراة، كما نص عليه المصنف. قوله: (المرمول)، الجوهري: رملتُ الحصير، أي: سففته، بمعنى نسجته، وأرملته: مثله. قوله: (لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه)، فإنك إذا أضربت عن ذكر إحدى هذه المقدرات صفحاً بقي اللفظ مجملاً يصلحُ أن يتناول كلاً منها وما شاكلها، فإذا قيدتها بواحدة منها اختص بها، فكأنك قلت: يهدي لما لا يدخل تحت الوصف والحصر مما ذُكر في الكتاب، ومما لم يُذكر، كقولك: جاء بعد اللتيا والتي. قوله: ("ويبشر"، بالتخفيف): حمزة والكسائي. قوله: (وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك)، قيل: هذا من أبي حُذيفة

فإن قلت: علام عطف (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت: على (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) على معنى: أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابهم، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واصل بن عطاء. وقلتُ: هذا من جملة البدع المنهي عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". أخرجه مسلمٌ، والترمذي عن جابر. قوله: (ويجوز أن يُراد: ويُخبر بأن الذين)، يعني: هو عطفٌ على قوله: (يَهْدِي) أي: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ويخبر أن الذين لا يؤمنون معذبون، هذا أوجه من الأول وأحسن التئاماً، كأنه قيل: بشيرٌ للمؤمنين ونذيرٌ للكافرين. ويمكن أن يكون معطوفاً من حيث المعنى على قوله: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ)، أي: يُبشر المؤمنين وينذر الكافرين. وأما اتصالُ الآية بما قبلها، فقد قال الإمام: إنه قال لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيتاء التوراة لموسى عليه السلام، وما فعله في حق العصاة والمتمردين، وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيهاً على ان طاعة الله تُوجب كل خيروكرامة، ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ثم عطف عليه: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) الآية، لجامع دليلي السمع والعقل، أو نعمتي الدين والدنيا، وأما اتصال قوله: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) فهو أنه تعالى لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القُصيا في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه البُغية الأسنى والنعمة العظمى، قائلاً: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ) [الأنفال: 32]، فظهر أن الذي ذهب إليه ابن عباس: "هو النضر بن الحارث" هو المذهب.

[(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا)]. أي: ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، كما يدعوه لهم بالخير، كقوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ)] يونس: 11 [. (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً، فأقبل يئن بالليل، فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم القدّ، فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها" ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة. (وكان الإنسان عجولاً): يعني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يدعوه لهم)، أي: يدعو الله لأجل نفسه وماله وأهله، ففي الضمير تغليبٌ. قال: وجه النظم: أن الإنسان بعد إنزال الله هذا القرآن واختصاصه بهذه النعمة الجسيمة والمكرمة العظيمة، قد يعدل عن التمسك بشرائعه، ويقدم على ما لا فائدة فيه. قوله: (لا يستحق) أي: لايستحقها، يعني اللعنة. "من أهلي": بيانُ "مِن". و"رحمة": مفعول ثانٍ لـ"يجعل". قوله: (لأني بشرٌ أغضب ما يغضب البشر)، روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة"، وزاد أحمد: "تقربه بها يوم القيامة".

أن العذاب آتيه لا محالة، فما هذا الاستعجال، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو النضر بن الحرث قال: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) الآية [الأنفال: 32 [، فأجيب له، فضربت عنقه صبراً. [(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا)]. فيه وجهان، أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أي: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني: أن يراد: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ): أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلما، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ، وجعلنا النهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم (وَلِتَعْلَمُوا) باختلاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فضربت عنقه صبراً)، يقال: قُتل فلانٌ صبراً: إذا حُبس عن القتل حتى قُتل، وقد مضت قصة النضر. قوله: (ممحو الضوء مطموسه)، الراغب: المحو: إزالة الأثر، ومنه قيل للشمال محوة؛ لأنها تمحو السحاب والأثر، قال الله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد: 39]. قوله: (فترى به الأشياء)، جواب لقوله: "لم يخلق له شعاعاً"ن كقولك: ما تأتينا فتحدثنا.

الجديدين (عَدَدَ السِّنِينَ) وَجنس الْحِسابَ وما تحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات، ولتعطلت الأمور (وَكُلَّ شَيْءٍ) مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم (فَصَّلْناهُ) بيناه بيانا غير ملتبس، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا. [(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا* اقْرَا كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)]. (طائِرَهُ) عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة: هو من قولك: طار له سهم، إذا خرج، يعني: ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه، ومنه مثل العرب: "تقلدها طوق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد حققنا القول فيه في سورة النمل)، والمذكور فيها هو: كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحاً تيمن، وإن مر بارحاً تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، ومن عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أي: قدر الله الغالب الذي يُنسبُ إليه الخير والشر، لا طائرك الذي يتشاءم به ويتيمن به. قوله: (والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغُل لا يفك عنه)، قال الإمام: إنما خص العنق من بين سائر الأعضاء؛ لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه، أو شراً يشينه، مايزين يكون كالطوق والحلي، وما يشين يكون كالغل. واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم به في سابق علمه واجب الوقوع ممتنع العدم؛ لأن قوله: (أَلْزَمْنَاهُ) صريح في أن ذلك الإلزام

الحمامة". وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك: وقرئ (فِي عُنُقِهِ) بسكون النون. وقرئ (نُخْرِجُ) بالنون. ويخرج، بالياء، والضمير لله عز وجل. ويخرج، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج، والضمير للطائر. أى: يخرج الطائر كتابًا، وانتصاب (كتابًا) على الحال. وقرئ: يلقاه، بالتشديد مبنيا للمفعول. (ويَلْقاهُ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي لا ينفك عنه صدر منه تعالى، وأن كل ما حكم به في الأزل لابد أن يظهر أثره في الأبد، ويؤيده ما رويناه، عن أبي داود والترمذي، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فقال: يا رب، ما أكتب؟ قال: اكتُبْ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". قوله: (وقرئ: (َنُخْرِجُ) بالنون) وهي المشهورة، الراغب: خرج: برز من مقره أو حاله، سواء كان مقره داراً أو بلداً أو ثوباًن وسواء كان حاله حالة في نفسه أو أسبابه الخارجة، قال تعالى: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ) وقال: (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ) [الأعراف: 13]، وقال: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) [فصلت: 47]، (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ) [المائدة: 37]، والإخراج: أكثر ما يقال في الأعيان، كقوله تعالى: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) [الأنعام: 93]، وقال: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل: 56]، ويقال في التكوين الذي هو من فعل الله، نحو: (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) [النحل: 78]، والتخريج: أكثر ما يُقال في العلوم والصناعات. قوله: ("يلقاه"، بالتشديد): ابن عامر، والباقون: مخففاً والياء مفتوحة، قيل هو من: لقيتُ الكتابَ، فإذا ضعفتَ، قلت: لقانيه زيدٌ، فيتعدى إلى مفعولين، فإذا بُني للمفعول قام

مَنْشُورًا) صفتان للكتاب. أو (يَلْقاهُ) صفة (ومَنْشُورًا) حالٌ من يلقاه (اقْرَا) على إرادة القول. وعن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. (وبِنَفْسِكَ) فاعل (كفى). (وحَسِيبًا) تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه. وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا. ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّى بـ"على"؛ لأنّ الشاهد يكفى المدّعى ما أهمه. فإن قلت: لم ذكر (حَسِيبًا)؟ قلت: لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير، لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا. ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس. وكان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما مقام الفاعل، وعليه قوله تعالى: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً). قوله: (كضريب القداح)، الجوهري: الضريب الذي يضرب بالقداح وهو الموكل بها، والقدحُ، بالكسر: السهم قبل أن يُراش ويُركب نصله، وقدح الميسر أيضاً، والجمع: قداح. قوله: (بمعنى: الكافي)، أي: الحسيب، بمعنى: الكافي. الأساس: احتسبت بكذا: اكتفيت، واحتسبني: كفاني، وعلاقة المجاز أن الكافي كما يكفي الشخص مما أهمه، كذلك الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. قوله: (فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلاً حسيباً)، يعني: جرد من النفس رجلاً شاهداً، وهو هي. قوله: (يا ابن آدم، أنصفك - والله- من جعلك حسيب نفسك)، وفي "شرح السُّنة": قال الحسن في قوله تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً): لكل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله، فغذا مات طويت، وقلدها، وإذا بُعث نُشرت، وقيل له: (اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى

[(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)]. أي: كل نفس حاملة وزرا، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوما إلا بعد أن (نَبْعَثَ) إليهم (رَسُولًا) فتلزمهم الحجة. فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا: كنا غافلين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). يا ابن آدم، أنصفك من جعلك حسيب نفسك. قوله: (والحجة لازمة لهم قبل بعثه الرسل؛ لأن معهم أدلة العقل)، ثم قوله: (بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر). الانتصاف: هذا مذهبٌ باطلٌ اعتزاليٌ، ومذهب أهل السنة أنه لا حكم قبل الشرع ولا تكاليف إلا به، ولا تجب الحجة إلا بالبعثة، والآية دالة عليه، فلا معنى لتحريفها. وقال محيي السنة: وفي الآية دليل على أن ما وجب، وجب بالسمع لا بالعقل، وكذا عن الواحدي. قلت: يؤيده قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ) [النساء: 165]؛ لأن البشارة والنذارة إنما يكونان بالجنة والنار، والعقل لا مجال له في إثباتهما.

فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل. [(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا)]. (وَإِذا أَرَدْنا) وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم (فَفَسَقُوا) أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازًا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبًا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن قوله تعالى: (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) توكيدٌ لمعنى تلك الآية، وأن كل مكلفٍ مرهونٌ بعمله، وعمله كالقلادة في عنقه غير منفك عنه لا يفارقه ولا يتعدى إلى غيره، ثم جاء: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) تقريراً لهذا المعنى، ومفهوم ذلك كله أنه تعالى بين للمكلف ما عليه وما له وما يحتاج إليه وما خُلق لأجله، غزالة للأعذار، ثم أتى بقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) تذييلاً لها وتقريراً لإزالة الأعذار. قوله: ((وَإِذَا أَرَدْنَا): وإذا دنا وقت إهلاك قوم)، جعل الإرادة التي هي السبب في الإهلاك تابعة لدنو الوقت. قال القاضي: إذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق، أمرنا متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، أو إذا دنا وقته المقدر، كقولهم: إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة. قوله: (كأنهم) إشارة إلى انه من باب التمثيل، شبه إيلاء النعمة عليهم وجعلهم ذلك ذريعة إلى الفسق، بالمأمور الذي ورد عليه أمر الآمر المطاع، فامتثل لأمره من غير توقف، ثم أخرج مخرج الاستعارة لطي ذكر المشبه، والجامع ترتب الثاني على الأول لفظ الأمر.

مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشرّ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف بحذف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز)، يعني: إذا كان لفعل متعلقٌ غير مذكور، فإن وُجد في اللف ما يدل على ذلك المقدر، وكان مناسباً له، قيد المطلق به، كقولك: أمرته فقام، فإن قوله: "فقام" دليلٌ على أن المأمور به القيام، وعلى هذا: أمرناهم ففسقوا، معناه: أمرناهم بالفسق ففسقوا، كما قُدر، وعلى هذا القياس يقال في قولهم: أمرته فعصاني، لكنه لا يستقيم؛ لأن الأمر والعصيان متقابلان من حيث التضاد، وإليه الإشارة بقوله: "ولا تكون ما يناقض الأمر مأموراً به"، فإذن ليس في اللفظ ما يقيد به المطلق، فيترك على إطلاقه ويُجعل تمثيلاً، كما قال. فكأنهم مأمورون بذلك. قال الإمام: ولقائل أن يقول: كما أن قوله: أمرته فعصاني، يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك: أمرته ففسقن يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به. وهذا الكلام في غاية الظهور، فلا أدري لم أصر صاحب "الكشاف" على قوله! وقلتُ: هذا هو الحق، لقوله تعالى: (كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، وتفسير المصنف الفاسق بالخارج عن أمر الله، والمعنى: أمرناهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بالأعمال الصالحة وهم خالفوا الأمر وأقدموا على الفسق، فالآية من باب الطباق المعنوي، قال

ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض. يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمري؛ لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورًا به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأمورًا به، وكأنه يقول: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطى ويمنع، ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصحّ ذلك، لأن قوله (فَفَسَقُوا) يدافعه، فكأنك أظهرت شيئًا وأنت تدعى إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه، ونظير «أمر» شاء: في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد: لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت - وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة - لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم (أَمَرْنا) بـ (كثرنا)، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته ففعل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..... صاحب "الانتصاف": قول الزمخشري حسنٌ، إلا قوله: أنعم عليهم ليشكروا، والحق أنهم خولوا النعمة وأمروا بالشكر ففسقوا وكفروا مخالفة للأمر لا للإرادة. قوله: (وقد فسر بعضهم (أَمْرِنَا): بـ"كثرنا")، قال ابن جني: وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً) [الكهف: 71]، أي: كثيراً، من قوله

كـ"ثبرته فثبر". وفي الحديث: "خير المالك سكة مأبورة ومهرة مأمورة" أي كثيرة النتاج. وروى أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى أمرك هذا حقيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيأمر. أي سيكثر وسيكبر. وقرئ: (آمرنا) من أمر وأمره غيره. (وأمّرنا) بمعنى أمرنا، أو من أمر إمارة، وأمره الله. أي: جعلناهم أمراء وسلطناهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا)، ومن قولهم: أمر الشيء، إذا كثُر، ومنه قوله: "خيرُ المال سكة مأبورةٌ ومُهرةٌ مأمورة"، السكة: الطريقة المصطفة من النخل، مأبورة: ملقحة، مأمورة: مُكثرِةُ النسل، والأصل: مؤمرة؛ لأنه من أمرها الله، لكن أتبعها قوله: مأبورة للسجع، وأما قوله: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) فمنقول من: أمر القوم، أي: كثروا، كعلم وعلمته، وسلم وسلمته. ورُوي عن المصنف، أنه قال: ما عول من زعم أن "أمرته" بمعنى: كثرته، إلا على قوله: ومهرة مأمورة، وما هو إلا من الأمر الذي هو نقيض النهي، وهو مجاز أيضاً كما في الآية، لأن الله تعالى قال لها: كوني كثيرة النتاج، فكانت، فهي إذن مأمورة على ما تهبه. قوله: كـ (ثبرته)، الجوهري: الثبور: الهلاك. قوله: ("آمرنا" من: أمر)، الجوهري: آمرته- بالمد- وأمرته: لغتان بمعنى: كثرته. قوله: ("وأمرنا" بمعنى: آمرنا)، قال أبو البقاء: ويُقرأ بالتشديد والقصر، أي: جعلناهم أمراء، وقيل: هو بمعنى الممدودة؛ لأنه تارة يُعدى بالهمزة وأخرى بالتضعيف، واللازم منه: أمر القوم، أي: كثروا.

[(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)]. كَمْ مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم وتمييز له، كما يميز العدد بالجنس، يعني عاد وثموداً وقروناً بين ذلك كثيرا. ونبه بقوله (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها. [(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا* وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)]. من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة، تفضلنا عليه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غيرُ)، ولك من ترتب قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا) على قوله تعالى: (خَبِيراً بَصِيراً)، أي: خبيراً بذنوب العباد وبصيراً بها، لما يعلم أن الذنوب نتائجها الكفر والكفران وتكذيب آيات الله، وقتل الأنبياء وغير ذلك، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا)، فصح قوله: "إن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير"، والذي يدل على فظاعة شأنها قوله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ). قوله: (من كانت العاجلة همه ولم يُرد غيرها)، يدل على القيد معنى الإرادة، فإن الإرادة هي: عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه، وإنما قال: كالكفرة "والفسقة"؛ لأن الآية قوبلت بها. قوله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، فإن الكافر ينكر الأجل، والفاسق وإن لم ينكر لكنه منهمك في الشهوات، فكأنه معرض عن الآخرة، وفيه إيماء إلى مذهبه.

منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال: ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضًا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأمّا المؤمن التقى فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالى: أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتى فيها وإلا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده. وقوله (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من (له)، وهو بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة. وقرئ: (يشاء). وقيل: الضمير لله تعالى، فلا فرق إذًا بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا، وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن أوبي فبها)، النهاية: وفي الحديث: "من توضأ للجمعة فبها"، والباء متعلقة بفعل مضمر، أي: فبهذه الخصلة والفعلة يعني الوضوء، ينالُ الفضل. قوله: (لأن الضمير يرجع إلى "مَن")، أي: الضمير والمجرور في قوله: يرجعُ إلى (مَن) في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) ن وهو يقتضي العموم لأن مريدي العاجلة لا حصر فيهم. وأما المعجل له فمحصورون. قوله: (فلا فرق إذن بين القراءتين)، أي: قراءة "يشاءُ" بالياء، والضمير لله، والقراءة المشهورة بالنون في كون المشيئة لله تعالى، فدل النون على التعظيم، والياء على التجريد، كأنه قيل: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) من له المشيئة المطلقة وبيده أزمة كل الأمور يفعلُ بمشيئته ما أراد، لا يمنعه مانعٌ. قوله: (الدهماء)، الجوهري: الدهم: العدد الكثير، ودهماء الناس: جماعتهم. قوله: (يريد به الله)، ذلك الضمير للعبد، والمشار إليه ما يشاء من الدنيا، والجملة صفة لـ "واحد".

وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة، كالمنافق، والمرائي، والمهاجر للدنيا، والمجاهد للغنيمة والذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (مَدْحُورًا) مطروداً من رحمة الله (سَعْيَها) حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً: إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله)، الحديث مشهور، أخرجه الأئمة، وهو من باب قولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك. قوله: ((مَدْحُوراً): مطروداً)، الراغب: الدحرُ: الطرد والإبعاد، يقال: دحره دحوراً، قال تعالى: (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء: 39]، وقال: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) [الصافات: 9]، ولم يذكر الدحر في "الصحاح". قوله: (ويتجافى عن دار الغرور)، مقتبس مما روى المفسرون، أنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ما علامة شرح الصدر؟ قال: "التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود". قوله: (والسعي فيما كُلف من الفعل والترك)، استفاده من إقران الإيمان بالسعي ليكون على وزان قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [العصر: 3] والظاهر أن المراد من قوله: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ): السعي المختص بها، وما يُنسب إليها، وعرف أن ذلك السعي ما هو، وهو قمع الهوى وترك زينة الدنيا ومراقبة الأحوال بين يدي المولى، كما قال

الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله: الثواب على الطاعة. [(كُلًا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)]. (كُلًّا) كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه (نُمِدُّ) هم: نزيدهم من عطائنا، ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) وفضله (مَحْظُورًا) أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..... تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى) [النازعات: 40 - 41]، وفي الألفاظ النبوية: "ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا"، ولما كانت هذه الخصلة واسطة القلادة، جُعلت مقدمتها الإرادة، وقاعدتها الاستقامة على الإيمان، وبنى الجواب عليها. وقيل: (فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً). الراغب: السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيراً كان أو شراً. قال تعالى: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) [البقرة: 114]، (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) [النجم: 39]، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة، قال الشاعر: إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لا اجزه ببلاء يوم واحد وقال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات: 102]، أي: أدرك ما سعى في طلبه، وخُص المسعاة بطلب المكرمة والسعاية بأخذ الصدقة، وبكسب المُكاتب لعتق رقبتهن وبالنميمة والمساعاة بالفجور. قوله: (الآنف). الجوهري: الاستئناف: الابتداء، وكذلك الائتناف.

ممنوعا، لا يمنعه من عاصٍ لعصيانه. [(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)]. (انْظُرْ) بعين الاعتبار (كَيْفَ) جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروى أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلالٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة)، الضمير في "أنها" مبهم، يفسره ما بعده، كقوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) [الأنعام: 29]، قال: "هذا ضميرٌ لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه"، إلى قوله: "لأن الخبر يدل عليها". ويجوز أن يكون المضاف محذوفاً، أي: أفعال الآخرة، يعني: أفعال الله في الآخرة مع العبد ثواب وأعواض وتفضل. وفي بعض الحواشي الوارد على أصولهم: أفعال الله تعالى اليوم لا تخلو من صلا وإصلاح ولطف، وأفعاله غداً على سبيل الجزاء إما ثواب أو عوض أو تفضل، فالصلاح ضد الفساد، وكل ما عري عن الفساد سُمي صلاحاً، وهو: الفعل المتوجه إلى الخير من قوام العالم، وبقاء النوع عاجلاً، والمؤدي إلى السعادة السرمدية آجلاً. والأصلح، وهو إذا كان صلاحان أو خيران، وكان أحدهما أقرب على الخير المطلق فهو الأصلح. واللطف: هو وجه التيسير إلى الخير، وهوا لفعل الذي علم الرب سبحانه وتعالى أن العبد يطيع عندهن وليس في مقدور الله لطف وفعل لو فعله لأمن الكفار. ثم الثواب هو: الجزاء على أعمال الخير، والعوض هو: البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي في مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن، والتفضل هو: إيصال منفعة خالصة إلى الغير من غير استحقاق، يستحق، أي: الله، بذلك حمداً وثناء ومدحاً وتعظيماً، ووصف بأنه محسن مجمل، وإن لم يفعله لم يستوجب بذلك ملاماً وذماً. قوله: (وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه)،

وصهيب، فشق على أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو: إنما أُتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ: (وأكثر تفضيلاً). وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟ ! [(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)]. (فَتَقْعُدَ) من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت، كأنها حربة بمعنى صارت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب"، عن الحسن: حضر جماعة من الناس بباب عمر رضي الله عنه، وفيهم سُهيل بن عمرو القرشي، وكان أحد الأشراف في الجاهلية، وأبوسفيان بن حرب وأولئك الشيوخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، وكان قد أوصى بهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط! إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل، وكان أعقلهم: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون عليه. وروى أيضاً: أن الحارث بن هشام وسهيلاً هذا دخلا على عمر رضي الله عنه فجلسا وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون يأتون فيقول: هاهنا يا سهيل، هاهنا يا حارث، فينحيهما عنه، وجعل الأنصار يأتون فينحيهما حتى صارا في آخر الناس، فلما خرجا قال الحارث لسهيل: ألم تر ما صنع بنا؟ فقال سهيل: إن الرجل لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا، دُعي القوم فاسرعوا ودُعينا فأبطأنا، تمامه ذُكر في سورة التوبة.

يعني: فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له. [(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا)]. (وَقَضى رَبُّكَ) وأمر أمرًا مقطوعا به (أَلَّا تَعْبُدُوا) أن مفسرة ولا تعبدوا نهى. أو بأن لا تعبدوا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا) وأحسنوا بالوالدين إحساناً. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وقرئ: (وأوصى) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ووصى. وعن بعض ولد معاذ بن جبل: (وقضاء ربك). ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان، لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته (إِمَّا) هي «إن» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك)، يعني: أن المشرك قد ذمه الله، ومن ذمه الله يهلكه، وما يتبعه تفسير الذم. الخذلان: عطفٌ على الذم وإنما دل على الجمع إيقاع (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) خبراً بعد خبر لقوله: (فَتَقْعُدَ). قال القاضي: ومفهومه أن الموحد يكون ممدوحاً منصوراً. قوله: ((وَقَضَى رَبُّكَ)، وأمر أمراً مقطوعاً به)، ضمن "قضى" معنى الأمر؛ ليكون جامعاً للمعنيين: الأمر والقضاء الذي هو القطع، ولذلك كان "أن" في قوله: (أَلاَّ تَعْبُدُوا) مفسرة، وكأن النهي في معنى الأمر، أي: اعبدوا، ليناسب عطف "وأحسنوا" عليه، وسبق في "الأنعام" عند قوله: (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) [الأنعام 151] الآية، ما يقرب من هذا العطف. قوله: (أو: بأن تُحسنوا بالوالدين إحسانا)، هذا على أن تكون "أنْ" موصولة لا مفسرة، ففيه لف ونشر.

الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيدًا يكرمك، ولكن إما تكرمنه. (وأَحَدُهُما) فاعل (يبلغنّ)، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين. وكِلاهُما عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت: لو قيل إما (يبلغان) كلاهما، كان (كلاهما) توكيدا لا بد لا، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرّك لو جعلته توكيدًا مع كون المعطوف عليه بدلا، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل: كلاهما، فحسب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو فيمن قرأ: "يبلغان")، بالتشديد، حمزة والكسائي: "إما يبلغان" بسر النون والألف قبلها، والباقون بفتحها من غير ألف. قال أبو البقاء: ألفُ "يبلغان" بالتشديد: فاعل، و (أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا): بدلٌ منه، وقال أبو علي: هو توكيد. ويجوز أن يكون (أَحَدُهُمَا) مرفوعاً لفعل محذوف، أي: إن بلغ أحدهما أو كلاهما، وفائدته التوكيد أيضاً. ويجوز أن تكون الألف حرفاً للتثنية، والفاعل (أَحَدُهُمَا). قوله: (لو قيل: إما يبلغان كلاهما، كان (كِلاهُمَا) توكيداً لا بدلاً)؛ لأنه مثلُ قول: جاءني الزيدان كلاهما، فإن كلاهما: توكيد باتفاق؛ لأنه يدل على ما دل عليه الزيدان، فكذا يُفهم من كلاهما ما يفهم من ضمير الأبوين. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ جاز كونه تأكيداً. وقوله: (لو أريد توكيد التثنية لقيل: كلاهما، فحسب)، ممنوعٌ، وأنه إنما يلزم لو أريد التأكيد فحسب من غير تقدم ذكر أحدهما، فكأنه قال: إما يبلغان أحدهما، أو يبلغان كلاهما، والأول: بدلٌ، والثاني: تأكيد.

فلما قيل: (أحدهما أو كلاهما)، علم أنّ التوكيد غير مراد، فكان بدلاً مثل الأول (أُفٍّ) صوت يدل على تضجر. وقرئ: (أُفٍّ)، بالحركات الثلاث منونًا وغير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: كلام المصنف مبني على أن (كِلاهُمَا) عطفٌ على "أحدهما"، لا على التقديرين، فإنه يعود إلى عطف الجملة على الجملة، والمقصود أحد الأمرين لإفادة الشمول والإحاطة في أحدهما دون الآخر. وأيضاً، لو كان أريد الشمول لم يقل: أحدهما، لكونه منافياً للشمول والإحاطة، فنه لدفع التجوز في إرادة الوحدة. وقال صاحب "الفرائد": لما كان (أَحَدُهُمَا) لم يصلح أن يكون توكيداً للتثنية وهو ضمير "يبلغان"، وجب أن يكون بدلاً، والبدل في حكم تكرير العامل، فلزم أن يكون التقدير: يبلغ أحدهما، ولما كان (كِلاهُمَا) عطفاً على (أَحَدُهُمَا)، انقطع عن الضمير، فلم يُمكن أن يكون مؤكداً له؛ لأنه فاعل فعل آخر، والمؤكد لا فعل له إلا الفعل المذكور. قوله: (وقرئ (أفٍ) بالحركات الثلاث)، نافع وحفص: بالتنوين وكسر الفاء، وابن كثير وابن عامر: بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسرها من غير تنوين. وقال ابن جني: قرأ أبو السمال"أُفُّ" مضمومة غير منونة، وقرأ ابن عباس: "أف" خفيفة، وقال هارون النحوي: ويُقرأ "أفٌّ" بالتنوين، ولو قرئت "أفاً" لجاز، ولكن ليس في الكتاب ألفٌ. وقال ابن جني: فيها ثماني لغات: أفِّ، وأُفٍّ، وأفاً، وأُفٌّ، وأفي ممالٌ، وأفْ خفيفة ساكنة. وأما قوله: "والتشديد كثُمَّ" فمعناه أنه على وزنه. وقال أبو البقاء: من كسر بناه على الأصل؛ لأنه: اسم فعل، ومعناه التضجر والكراهة، أي: لاتقل لهما: كُفا، أو: اتركا. وقيل: هي: اسمٌ للجمل الخبرية، أي: كرهت، أو ضجرت من مداراتكما. ومن فتح طلب التخفيف مثل رب، ومن ضم أتبع، ومن نون أراد التنكير، ومن لم ينون أراد التعريف، ومن خفف الفاء حذف أحد المثلين تخفيفاً.

منون: الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كـ"ثم"، والضم إتباع كـ"منذ". فإن قلت: ما معنى عندك؟ قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلا عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع (وبالوالدين إحسانا) الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة (وَلا تَنْهَرْهُما) ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهى والنهر والنهم: أخوات (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلًا كَرِيمًا) جميلا، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة. وقيل: هو أن يقول: يا أبتاه، يا أماه، كما قال إبراهيم لأبيه: (يا أبت) [مريم: 42]، مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن جني: وكان القياس إذا خففت أن تُسكن آخرها؛ لأنه لم يلتق فيها ساكنان فتُحرك، لكنهم بقوا الحركة مع التخفيف أمارة ودلالة على أنها قد كانت مثقلة مفتوحة. الراغب: أصل الألف: كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر ونحوهما، ويقالُ ذلك لكل مستخف به استقذاراً له، نحو: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [الأنبياء: 67]، وقد أففت لكذا، إذا قلت ذلك استقذاراً له، ومنه قيل للضجر من استقذار شيء: أفف فلان. قوله: (هو أن يكبرا ويعجزا)، يعني: معنى (عِنْدِكَ) هاهنا: كناية عن العجز وعن كونهما كلا على ولدهما.

الدعار، قالوا: ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: نحلني أبو بكر كذا. وقرئ (جَناحَ الذُّلِّ)، والذل: بالضم والكسر فإن قلت: ما معنى قوله (جَناحَ الذُّلِّ)؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك كما قال (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)] الحجر: 88 [فأضافه إلى الذل أو الذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحاً خفيضًا، كما جعل لبيد للشمال يدًا، وللقرة زماماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الدعار)، الجوهري: الدعارة: الفسق والخبث، يقال: هو خبيث داعرٌ بين الدعارة. قوله: (نحلني أبو بكر كذا)، تمامه: ما ذُكر في النسائي من حديث أبي بكر رضي الله عنه: إني كنتم نحلتك جداد عشرين وسقاً بالعالية. قوله: (وقرئ: (جَنَاحَ الذُّلِّ) و"الذل" بالضم والكسر)، بالضم: السبعة، والكسر: قرأه ابن عباس وعروة بن الزبير، قال ابن جني: الذل بالكسر في الدابة: ضد الصعوبة، وبالضم للإنسان، وهو ضد العز، كأنهم إنما فرقوا لان ما يلحق الإنسان أكثر قدراً مما يلحق الدابة، فاختاروا الضمة لقوتها للإنسان، والكسرة لضعفها للدابة، ولاتستنكر مثل هذا ولا تنب عنه، فإنه من عرف أنسن ومن جهل استوحش، وفي قول المصنف: جناحك الذليل أو الذلول، لمحة من هذا المعنى. قوله: 0 جعل لبيدٌ لشمال يداً، وللقرة زماماً؛ مبالغة)، يعني: في قوله:

مبالغة في التذلل والتواضع لهما (مِنَ الرَّحْمَةِ): من فرط رحمتك لهما وعطفك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها شبه الشمال بالإنسان، ثم خيل أنها إنسانٌ بعينه، ثم أضيف إليه على سبيل الاستعارة التخيلية ما يُلازم الإنسان ند التصرف، وهو اليد قائلاً: بيد الشمال، وحكم الزمام مع القرة حكم اليد مع الشمال عند التصرف، كذا هاهنا: شبه الذل بالطائر، ثم أثبت له ما يلازم الطائر عند انحطاطه وانخفاضه من الجناح. وعلى الأول خفض الجناح كناية عن التواضع، وكان في الأصل استعارة تمثيلية، شبه ما يتصور من الإنسان في حال التواضع من الانخفاض، بما يشاهد من الطائر عند انحطاطه من الجو، ثم كثر استعماله فيه حتى صار عبارة عن مجرد التواضع، ثم أضيف إلى الذل تتميماً لإرادة التواضع. الراغب: الجناح: جناح الطائر، يقال: جنح الطائر: إذا كُسر جناحه، وسُمي جانبا الشيء جناحيه، كجناحي العسكر والسفينة والوادي. وقال تعالى: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) أي: جانبكن وقوله: (إِلَيْكَ جَنَاحَكَ) عبارة عن اليد لكون الجناح كاليد. وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) استعارة، وذلك أن الذل ضربان: ضرب يضع الإنسان، وضربٌ يرفعه، وقصد في هذا المكان إلى ما يرفعه، فكأنه قيل: استعمل الذل الذي يرفعك عند الله تعالى من أجل اكتسابك الرحمة أو من اجل رحمتك لهما. وجنح الليل: إذا أظل بظلامه، والجنح: قطعة من الليل مظلمة، وجنحت السفينة: إذا مالت إلى أحد جانبيها، وسُمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جناحا، ثم سمي كل إثم جناحاً، وجوانح الصدر: الأضلاع المتصلة رؤوسها في وسط الزور، الواحدة جانحة، لما فيها من الميل. قوله: (مبالغة في التذلل والتواضع لهما)، أي: للوالدين. قوله: ((مِنْ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك لهما)، جعل (مِن) في (مِنْ الرَّحْمَةِ) ابتدائية

عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فإن قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا بيانية، إذ لو بين الجناح بها لرجعت الاستعارة إلى التشبيه التجريدي، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: 187]، قال أبو البقاء: من أجل رفقك بهما، فـ"مِن" متعلقة بـ"اخفض"، ويجوز أن تكون حالاً من جناح، وقال صاحب "الفرائد": التواضعُ والتذللُ ربما يكونان لأمرٍ آخر لا للرحمة والعطف، فقوله: (مِنْ الرَّحْمَةِ) معناه: من أجل الرحمة، يعني ينبغي أن لا يكون ذلك التذلل للخوف أو لأمر آخر. قوله: (وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاءً لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك)، هذا المعنى يعطيه معنى كاف التشبيه. قال أبو البقاء: (كَمَا): نعت مصدرٍ محذوف، أي: رحمة مثل رحمتها لي، وقال القاضي: ارحمهما رحمةً مثل رحمتهما عليَّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاءً بوعدك للراحمين. وقلتُ: "ما" في (كَما): مصدرية، والوقت فيه مقدر، أي: ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة من جميع الأوقات، كوقت رحمتهما علي وأنا في حالة الصغر كلحم على وضم وليس ذلك إلا في القيامة، والرحمة هي الجنة. ولهذا قال: رحمته الباقية. هذا هو التحقيق. ونقل صاحب "اللباب" عن بعضهم: أنا لكاف في (كَمَا رَبَّيَانِي): لتأكيد الوجود. وذكر الشارح في توجيهه أنه ليس الكاف فيه للقران في الوقوع، كما في قولك: كما حضر زيدٌ قام عمرو، لأن التربية من الوالدين واقعة والرحمة لهما مطلوب الوقوع؛ لأنها مذكورة بصيغة الأمر في (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)، فالكاف ليس للمقارنة في الوقوع، بل لتاكيد وجود الرحمة،

مسلمين. قلت: وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد، ومن الناس من قال: كان الدعاء للكفار جائزًا ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار. ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أوجد رحمتهما إيجاداً مؤكداً محققاً كما أوجد الوالدان التربية إيجاداً محققاً في الزمان الماضي. قوله: (فقال: كل ذلك واصل إليه)، يعني: لا يسأل عن الصدقة وحدها، فإن كلا مما تعورف من الميراث واصلٌ إليه. قوله: (ولا شيء أنفع [له] من الاستغفار)، يؤيده ما روينا عن أبي داود وابن ماجه، عن أسيد الساعدي قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله هل بقي من بر والدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما". قوله: (لأمركم به في الأبوين): أي: المأمور به الاستغفار. وفي الآية المأمور به الاسترحام لقوله: (وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)؛ لأن الاسترحام بمعنى الاستغفار. قوله: (رضا الله في رضا الوالدين) عن ابن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"، أخرجه الترمذي.

وروي: «يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة». وروى سعيد بن المسيب: إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر، فهل قضيتهما؟ قال: لا، فإنهما كان يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما»، وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفًا وأنا قوى، وفقيرًا وأنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئًا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غنيّ، ويبخل عليّ بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك. وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال: لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟ قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورُوي: يفعل البارُّ)، إن رُوي بضم اللام يكون خبراً في معنى الطلب، كقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) [البقرة: 233]، وإن رُوي بكسرها، يكون من قبيل: محمد تفد نفسك كل نفس، أي: لتفد. قوله: (أنت ومالك لأبيك)، روى أبو داود، عن ابن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يجتاح مالي، قال: "أنت ومالك لأبيك". النهاية: يجتاح مالي، أي: يستأصله، ويأتي عليه أخذاً وإنفاقاً، والاجتياح من الجائحة، وهي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها.

عاتقي. قال: ما جزيتها ولو طلقة وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول: إنِّي لَهَا مَطِيَّةٌ لَا تُذْعَرُ ... إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَرُ ... اللَّهُ رَبِّي ذُو الْجَلَالِ الأَكْبَرُ تظنني جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا ولو زفرة واحدة. وعنه عليه الصلاة والسلام «إياكم وعقوق الوالدين، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء، إنّ الكبرياء لله رب العالمين». وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر. ويأخذ الإناء منه إذا شربها. وعن أبي يوسف: إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد. وعن حذيفة أنه استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال: دعه يليه غيرك. وسئل الفصيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال: أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شررًا إليهما، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما. فعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولو طلقة). النهاية: وفي حديث ابن عمر، أن رجلاً حج بأمه فحملها على عاتقه فسأله: هل قضى حقها؟ قال: "لا، ولا طلقة واحدة". الطلقة: وجع الولادة. والطلقة: المرة الواحدة. قوله: (لاتذعر)، الذعر: الفزع. قوله: (ولو زفرة واحدة). الأساس: على ظهره زفرٌ من الأزفار: حملٌ ثقيلٌ، يزفر منه وقد زفره يزفره: حمله.

"إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه". [(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)]. (بِما فِي نُفُوسِكُمْ) بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير إِنْ (تَكُونُوا صالِحِينَ) قاصدين الصلاح والبر، ثم فرطت منكم - في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر، أو لحمية الإسلام - هنة تؤدّى إلى أذاهما، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها، فإن الله غفور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن من أبر البر) الحديث من رواية مسلم والترمذي وأبي داود، عن ابن عمر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُد أبيه بعد أن تولى", قوله: (من قصد البر)، بيان لـ"ما في ضمائركم"، وإنما خصه ببر الوالدين، وهو عام، لما سبق من التوصية بهما، وفصل قوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ) عما قبله للاستئناف على سبيل التعليل، أي: أحسنوا إليهما؛ لأن ربكم أعلمُ بما في نفوسكم من قصد البر فلا تقصروا فيه، وابذلوا جُهدكم وطاقتكم، فإنه يجازيكم على إحسانكم، ثم اتجه لهم أن يقولوا: نحن بشرٌ ربما يفرط منا فرطات وتسبق هنات من غير اختيار منا في بعض الأوقات، فكيف يكون حالنا؟ فقيل: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ)، أي: قاصدين الصلاح، فإن الله غفور بكم. ولما كان قوله: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً) جزاء لقوله: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) ولم يستقم بظاهره أن يكون مسبباً عنه؛ لأن الغفران يستدعي الذنب، لا جرم قدر ما يقتضيه المقام منقوله: "ثم فرطت منكم" إلى قوله: "ثم أبتم إلى الله تعالى واستغفرتم منها". قوله: (هنه). الجوهري: في فلانٍ هناتٌ، أي: خصلات شر، ولا يقال ذلك في الخير.

(لِلْأَوَّابِينَ) للتوّابين. وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب: الأوّاب الرجل كلما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامًّا لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته، لوروده على أثره. [(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)]. (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، وأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لِلأَوَّابِينَ): للتوابين)، الراغب: الأوبُ: ضربٌ من الرجوع، ولا يقالُ إلا في الحيوان الذي له إرادة، والرجوع عام، والأواب كالتواب، وهو الراجع إلى الله تعالى من المعاصي، وفعل الطاعات، ومنه قيل للتوبة: أوبةٌ. قوله: (في البادرة). الجوهري: هي الحدة. الراغب: يُعبر عن الخطأ الذي يقع عن حدة: بادرة، يقال: كانت من فلان بوادر في هذا الأمر. قوله: (كلما أذنب): صفة للرجل لإرادة الجنسية منه. قوله: (ويجوز أن يكون هذا عاماً): عطفٌ على قوله: "فرطت، أي: فرطت هنة تؤدي إلى أذاهما"، وفُسرت بقوله: "هي البادرة تكون من الرجل إلى أبيه". قوله: (وصى بغير الوالدين). الأساس: وصيتك بفلان أن تبره، ووصى الشيء بالشيء: وصله له.

يؤتوا حقهم: وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين) بعد قوله: "وصى بغير الوالدين من الأقارب"، يوهم التناقض، وكذلك قوله: "وإن كانوا مياسير فحقهم صلتهم بالمودة"، مخالفٌ لقوله: "وهذا دليل على أن المراد بما يؤتي ذوي القربى من الحق هو تعهدهم بالمال"، ويمكن أن يقال: إن ذا القربى مطلق شائع [فيمن يوجد فيه معنى القرابة من الوالدين والولد وغيرهم، فقيد بغير الوالدين لعطف هذه التوصية على التوصية بالوالدين، وهو المراد بقوله: "وصى بغير الوالدين بعد التوصية بهما". وأما قوله: "وأن يؤتوا حقهم"، فعطف على مجموع قوله بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما. وأما قوله: "وحقهم"، فالضمير فيه راجعٌ إلى الأبوين وذوي القربى؛ وكذلك حقه مطلق شائع] فيما يجب فيه مراعاة حق الأقرباء من النفقة، والزكاة والمودة وحُسن المعاشرة، فيفيد أيضاً بالزكاة، لعطف (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) على ذي القربى، وهو الذي عني بقوله: "آت هؤلاء حقهم من الزكاة، وهذا دليلُ" إلى آخره. قال الإمام: "آت ذا القربى" مجمل، وليس فيه أن ذلك الحق ما هو؟ وعند الشافعي رضي الله عنه: لا يجب الإنفاق إلا على الوالد والولد بقدر الحاجة، واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم، لا حق لهم إلا المودة وحسن المعاشرة. وأما المسكين وابن السبيل فقد تقدم حكمهما في سورة التوبة. وقلت: ويمكن أن يُترك (ذَا الْقُرْبَى) و (حَقَّهُ) على إطلاقهما، ويُحمل (وَآتِ) على عموم المجاز، لتكون الآية من الجوامع، فيدخل فيه الإنفاق على الوالدين وبرهما فيها دخولاً أولياً، والله أعلم.

وفقراء عاجزين عن الكسب، وكان الرجل موسرًا: أن ينفق عليهم عند أبى حنيفة. والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب. وإن كانوا مياسير، أو لم يكونوا محارم: كأبناء العمّ، فحقهم صلتهم بالمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل) يعني: وآت هؤلاء حقهم من الزكاة. وهذا دليل على أن المراد بما يؤتى ذوى القرابة من الحق: هو تعهدهم بالمال. وقيل: أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم. التبذير. تفريق المال فيما لا ينبغي. وإنفاقه على وجه الإسراف. وكانت الجاهلية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفقراء عاجزين) عطفٌ على محارم"، و"أن يُنفق عليهم": خبرُ "حقهم". قوله: (وإن كانوا مياسير أو لم يكونوا محارم ... فحقهم): الجملة معطوفة على قوله: "وحقهم إذا كانوا محارم"، إلى آخره. قوله: (أراد بذي القربى: أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم)، قال الإمام: (وَآتِ) خطابٌ مع من؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، فأُمر أن يُؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المسكين وأبناء السبيل من هذين المالين. وثانيهما: أنه خطاب للكل لدلالة عطفه على قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا). قوله: (التبذير: تفريق المال فيما لا ينبغي). الراغب: وأصله إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكل مضيع لماله، فتبذير البذر تضييع في الظاهر لمن لم يعرف مآل ما يُلقيه، قال تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرّب منه ويزلف. وعن عبد الله: هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد: لو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمرو: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو في الوضوء سرف؟ قال. نعم وإن كنت على نهر جار (إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمّة، لأنه لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف. أو هم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعدٍ وهو يتوضأ) الحديث مخرج في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن ابن عمر رضي الله عنه. قوله: (أمثالهم في الشرارة)، يريد أن (إِخْوَانَ) في قوله: (إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) إما محمول على معنى التشبيه، كما جاء في الحديث: "كأخي السرار"، أي: كمثله، وهو المراد من قوله: "أمثالهم"، ولما كان هذا التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل قال: "لأنه شرٌ من الشياطين"، وإما مجاز، كما في "الأساس": بين السماحة والشجاعة تآخ، ولقيته بأخي الشر، أي: بالخير، فهو إما بمعنى الصديق، وذلك في الدنيا؛ لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم. أو بمعنى القرين، وذلك في النار، وهذا وارد على الوعيد والتهديد، والوجهان على الذم والتقبيح. قوله: (لأنه لاشر من الشيطان)، عن بعضهم: الأولى: لا شراً؛ لأن "مِن" صلة "شرا" فيكون مشابهاً للمضاف، نحو: لا خيراً من زيد عندنا.

قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا* فما ينبغي أن يطاع، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. وقرأ الحسن: (إخوان الشيطان). [(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا)]. وإن أعرضت عن ذى القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الردّ (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا* فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئًا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء. قوله (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) إمّا أن يتعلق بجواب الشرط مقدّما عليه، أي: فقل لهم قولاً سهلاً لينًا وعدهم وعدًا جميلا، رحمة لهم وتطييبًا لقلوبهم، ابتغاء رحمة من ربك، أي: ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم. وإما أن يتعلق بالشرط، أي: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فسمى الرزق رحمة، فردّهم ردًّا جميلا، فوضع الابتغاء موضع الفقد، لأنّ فاقد الرزق مبتغ له، فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببًا عنه، فوضع المسبب موضع السبب. ويجوز أن يكون معنى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) وإن لم تنفعهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما ينبغي أن يُطاع)، يعني قوله: "وكان الشيطان لربه كفورا" تذييل للكلام، ولذلك أجراهُ مجرى التعليل. قوله: (أي: ابتغ رحمة الله)، فسر المفعول له بالأمر ليؤذن بأنه داخلٌ في حيز الجزاء، عطفٌ على "قُلْ" مِن حيثُ المعنى، فيكون مأموراً بإنشاء القول اللين وإنشاء طلب الرمة. قوله: (ويجوز أن يكون معنى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ): وإن لم تنفعهم): عطفٌ على: "وإن أعرضت عن ذي القربى والمساكين وابن السبيل حياءً من الرد"، وقوله: "كناية بالإعراض عن ذلك" خبرُ: "أن يكونَ"، والإعراضُ عن الأول مُجرى على صراحته لقوله: "أعرض عن السائل وسكت حياءً"، ثم قوله: (ابْتِغَاءَ) على الأول: إما أن يتعلق بقوله: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)، والإضافة إلى المفعول لقوله: "ابتغ رحمة الله"، وإما أن يتعلق بالإعراض،

ولم ترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك، لأن من أبى أن يعطى: أعرض بوجهه. يقال: يسر الأمر وعسر، مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول، وقيل معناه: فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، كأن معناه: قولا ذا ميسور، وهو اليسر، أي: دعاء فيه يسر. [(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)]. هذا تمثيلٌ لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير (فَتَقْعُدَ مَلُومًا) فتصير ملوما عند الله، لأنّ المسرف غير مرضى عنده وعند ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى أن يكون كناية يختص تعلقه بالشرط، ويكون الابتغاء موضوعاً موضع عدم الاستطاعة وضعاً للمسبب موضع السبب. قوله: (خصاصتهم)، الأساس: أصابته خصاصةٌ: خلة، واختص الرجل: اختل، أي: افتقر، وسددت خصاصة فلان: جبرتُ فقره. قوله: (ولا يريد الإعراض) بالنصب، عطفٌ على "أن يكون". قوله: (فهو مفعولٌ)، أي: ميسوراً، والمعنى: قل لهم قولاً ليناً، وعدهم وعداً جميلاً. ويجوز أن يُراد بالقول الميسور الدعاء لهم باليسر، أي: يذكر فيه معنى اليسر وما أشبهه مثل: أغناكم الله ورزقنا الله وإياكم، فعلى هذا يكون مصدراً، وإليه الإشارة بقوله: قولاً ذا ميسور، وهو اليسر. قوله: (تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المُسرف) مثل حال من يمنع لشحه بحال من يده مغلولة إلى عنقه، فلا يقدر على شيء من التصرف، وحال من يسرف بحال من بسط كفه كل البسط لا يثبت شيء في كفه، ثم استعمل ألفاظ الممثل به في الممثل.

الناس، يقول المحتاج: أعطى فلانًا وحرمني. ويقول المستغنى: ما يحسن تدبير أمر المعيشة. وعند نفسك: إذا احتجت فندمت على ما فعلت (مَحْسُورًا): منقطعًا بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة، وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبى فقال: إنّ أمي تستكسيك درعاً، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت له قل له: إن أمي تستكسيك الدرع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند نفسك إذا احتجت): معطوفٌ على قوله: "عند الله"، أي: هو ملومٌ عند الله لأنه غيرُ راضٍ عنه، وملومٌ عند الناس، الفقير يلومه ويقول: أعطى فلاناً وحرمني، والغني يقول: ما تحسن تدبير المعيشة، وملومٌ عند نفسه: إذا احتاج ندم على ما فعل، والحاصل أن (مَلُوماً) قُطع عن متعلقه ليُعلم التقدير. الراغب: اللوم: عذلُ الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم، قال تعالى: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون: 6] ن ذكر اللوم تنبيهاً على أنه إذا لم يُلاموا لم يفعل بهم ما فوق اللوم، ورجٌ لومةٌ: يلوم الناس، ولومةٌ: يلومه الناس، واللائمة: الأمر يلام عليه الإنسان. قوله: (منقطعاً بك)، انقطع بالمسافر، على بناء المفعول: إذا أعطبت دابته أو نفد زاده، فانقطع به السفر دون طيته، فهو منقطع به، مثله في "الأساس". قوله: (إذا بلغ منه)، يقال: بلغ منه المرض، أي: أثر فيه تأثيراً بليغاً. قوله: (وحسره)، الجوهري: حسر البعير يحسر حسوارً: أعياه، وحسرته أنا حسراً، يتعدى ولا يتغدى. قوله: (من ساعة إلى ساعة)، قيل: من: متعلقٌ بمحذوف، أي: أخر سؤالك من ساعة ليس لنا يها درعٌ إلى ساعة يظهر لنا درع. ودرعُ المرأة: قميصها، ويمن أن يتعلق بقوله: يظهر.

الذي عليك، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانًا، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة. وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن، فجاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: يمكن أن يقال: إنه لما طلب الدرع قال صلى الله عليه وسلم: مطلوبك لا يحضرنا الآن، لكن تترقبه ونرجو حصوله وظهوره من ساعة إلى ساعة، وينطبق على هذا معنى قوله تعالى: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)، وبهذا اقتدى الفضل حين أجاب عن سؤال سائل: أكره أن أقول: نعم، فأكون ضامناً، أو لا، فأكون مؤيسا، ولكن ننظر فيسهلُ اللهُ. قوله: (وقيل أعطى الأقرع بن حابس)، الحديث من رواية مسلم، عن رافع بن خديج، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يوم حنين وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعلقمة بن علاثة كل إنسان منهم مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس الأبيات الثلاثة المذكورة. وفيه: "فما كان بدرٌ ولاحابسٌ"، و"من تخفض ايوم": بدل "تضع"، قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة. ورواية ابن عبد البر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فاقطعوا عني لسانه"، فأعطوه حتى رضي. النهاية: العبيد- بضم العين وفتح الباء الموحدة-: اسمُ فرس العباس بن مرداس السلمي. ومعنى: "اقطعوا عني لسانه": أعطوه حتى يسكتن فكنى بالقطع عن السكوت، ومنه أتاه رجلٌ فقال: إني شاعر، فقال: يا بلال، اقطع لسانه، فأعطاه أربعين درهماً. قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا ممن له حق في بيت المال، كابن السبيل وغيره، فتعرض له بالشعر فأعطاه لحقه أو لحاجته، لا لشعره.

عباس بن مرداس، وأنشأ يقول: أَتَجْعَلُ نَهْبِى وَنَهْبَ الْعَبِيـ ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ وما كان حصنٌ ولا حابسٌ ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْم لَا يُرْفَعِ وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال: يا أبا بكر، اقطع لسانه عنى، أعطه مائة من الإبل فنزلت. [(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)]. ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة، بأنّ ذلك ليس لهوان منك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرهقه من الإضافة)، أي: يغشاه، النهاية: أرهقني فلان إثما حتى رهقته، أي: حملني إثماً حتى حملته له، جعل قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ) تعليلاً له لقوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا)، يعني: إن أعرضت عن العفاة لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ولا تهتم بذلك، فإن ذلك ليس لهوان منك عليه، ولكن بيد الله مقاليد الرزق، وهو يقبض ويبسط كيف يشاء، وحكمته تابعة لمشيئته، لا بالعكس كما قال، ففوض الأمر إليه، فيكون قوله: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) معترضة تأكيداً لمعنى ما يقتضيه حكمة الله من القبض والبسط، وأمراً بالتأسي بسنة الله، كما هو في الوجه الثالث، وهو أن يُراد بالنهي عن البسط والقبض الأمر بالاقتصاد، على الوجهين الآخرين، تعليلٌ للأمر بالاقتصاد، وعلى الوجه الثاني التعليل مخالف لما ينبغي أني فعله العبد، يعني: البسط المفرط والقبض المفرط مختص بالله فاقتصد أنت واترك ما هو مختص بالله تعالى من البسط المفرط والقبض المفرط، وعلى الثالث موافق له، يعني أنكم إذا تحققتم فيما بسط الله تعالى وقبض، وأمعنتم النظر فيه وجدتموه مقتصداً، فاقتصدوا واستنوا بسنته.

عليه، ولا لبخل به عليك ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدّرها تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعى أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته. [(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطًْا كَبِيرًا)]. قتلهم أولادهم: هو وأدهم بناتهم، كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة وهي الاملاق، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم. وقرئ (خَشْيَةَ) بكسر الخاء. وقرئ (خِطْئا) وهو الإثم، يقال: خطئ خطأ، كاثم إثما، وخطأ وهو ضدّ الصواب، اسم من أخطأ. وقيل: هو والخطء كالحذر والحذر، وخطاء بالكسر والمدّ. وخطاء بالفتح والمد. (وخطأ) بالفتح والسكون. وعن الحسن: خطا بالفتح وحذف الهمزة كالخب. وعن أبى رجاء: بكسر الخاء غير مهموز. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"خطاء" بالكسر والمد)، قال أبو علي: قرأها ابن كثير، ويحتمل أن يكون مصدر "خاطأ"، وإن لم يُسمع. قال أبو عبيد: هو من قولهم: تخاطأة النبل أحشاءه يدل على خاطأ؛ لأن تفاعل مطاوع فاعل، وقرأ ابن عامر: "خطأ" بفتح الخاء والطاء من غير مد، وقرأ الباقون: (خِطْئاً) بكسر الخاء وسكون الطاء وقصرها. قوله: (أن تغصب على غيرك امراته). الأساس: غُصب على عقله، واغتصبت فلانة نفسها: جُومعت مقهورة.

[(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا)]. (فاحِشَةً) قبيحة زائدة على حد القبح (وَساءَ سَبِيلًا) وبئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله. [(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا)]. (إِلَّا بِالْحَقِّ) إلا بإحدى ثلاث: إلا بأن تكفر، أو تقتل مؤمنا عمدا، أو تزنى بعد إحصان. (مَظْلُومًا) غير راكب واحدة منهنّ (لِوَلِيِّهِ) الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولى فالسلطان وليه (سُلْطانًا) تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه (فَلا يُسْرِفْ) الضمير للولي. أى: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية: كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا بإحدى ثلاث)، يريد الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة"، أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي. قوله: (حتى قال مهلهل حين قتل بُجير بن الحارث) قصته سبقت في "البقرة" عند قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة: 179] مستقصى.

بؤ بشسع نعل كليب. وقال: كُلُّ قَتِيلٍ فِى كُلَيْبٍ غُرَّهْ ... حَتَّي يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن بواء. وقيل: الإسراف المثلة. وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرف، بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر. وفيه مبالغة ليست في الأمر. وعن مجاهد: أنّ الضمير للقاتل الأوّل. ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بؤ بشسع). الأساس: باء فلانٌ بفلان: صار كفؤا له، وأبأت فلاناً بفلان: قتلته به، يعني: قم مقام شسعه، فإنك لست كفؤاً له. قوله: (كل قتيل في كليب غره)، الغرة: من يفدي به في قتل الجنين، عبداً كان أو أمة، المعنى: كل قتيل يُقتل فداء لكليب كلا فداء؛ لأنه لا يساويه. قوله: ("فلا يُسرفُ" بالرفع)، قال ابن جني: رُفع هذا على لفظ الخبر، بمعنى الأمر، كقولهم: يرحم الله زيداً، ويجوز أن يكون معناه دون الأمر، أي: ينبغي أن لا يسرف، وعليه قوله: على الحكم المأتي يوماً إذا قضى ... قضيته ألا يجور ويقصد فرفعه على الاستئناف، ومعناه: أن يقصد. قوله: (وعن مجاهد أن الضمير للقائل الأول)، عطف على قوله: "الضمير للولي"، المعنى: لا يُسرف القاتل في القتل بأن يقتل من لا يحق قتله فيقتل، فيكون قد أسرف في القتل، حيث كان سبباً لهلاك نفسه وهلاك غيره، وفي الارتداع سلامة نفسه وسلامة نفس الغير، ففيه لمحة من معنى قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، وعلى هذا الضمير في

وقرئ: (فلا تسرف)، على خطاب الولي أو قاتل المظلوم. وفي قراءة أبىّ: فلا تسرفوا، ردّه على: (ولا تقتلوا) (إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا) الضمير إمّا للولي، يعنى حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأنّ الله قد نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإمّا للمظلوم، لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف. [(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا)]. (بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً) للمقتول، أي: لا يُسرف القاتل المبتدئ؛ لأن من قُتل مظلوماً كان منصوراً بأن يقتص له وليه أو السلطان. قوله: (وقرئ: "فلا تسرف" على خطاب الولي): حمزة والكسائي، والباقون: بالياء. قوله: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)، أي: مطلوباً، يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به)، الانتصاف: هذا التأويل أرح، ويحذف الجار والمجرور الذي هو (عنه) تخفيفاً كما جاء في قوله: (كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)، ويعضد سؤال العهد على وجه التمثيل وقوف الرحم بين يدي الله وسؤالها عمن وصلها أو قطعها في الحديث الصحيح. وقلت: الثاني أبلغ عند أرباب البلاغة وفرسان الطراد، وكان ترك (عنه) هنا دون الآية

ويجوز أن يكون تخييلا، كأنه يقال للعهد: لم نكثت؟ وهلا وفي بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للموءودة: (بأي ذنب قتلت)؟ ويجوز أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسؤولاً. [(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا)]. وقرئ (بِالْقِسْطاسِ) بالضم والكسر، وهو القرسطون. وقيل: كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرهما (وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا) وأحسن عاقبة، وهو تفعيل، من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المستشهد به دليلاً عليه، والحديث المذكور، وسؤال الموءودة معاضدين له. قوله: (ويجوز أن يكون تخييلاً) أي: المسؤول، فحينئذ يكون "العهد" استعارة مكنية، و (كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) استعارة تخييلية، شُبه العهد المنكوث بإنسان ظُلم عليه تشبيهاً بليغاً، وتوهم أنه هو، ثم أطلق اسم المشبه على المشبه به، ثم خُيل للمشبه ما يُلازم المشبه به من السؤال عنه تعريضاً، فقيل له: لم نكثت. قوله: (ويجوز أن يُراد) على تقدير السؤال على التبكيت، بأن يُقال: لم نكثت العهد؟ فعلى هذا يكون الإسناد مجازياً، وعلى الأول ليس في الكلام توبيخ، وعلى الثاني: توبيخ على سبيل التعريض به. وعلى الثالث: توبيخٌ على التصريح. قوله: (قرئ: (بِالْقِسْطَاسِ)): حفص وحمزة والكسائي: (بِالْقِسْطَاسِ) هنا وفي "الشعراء": بكسر القاف، والباقون بضمها. الراغب: القسطاس يُعبر به عن العدالة، كما يعبر بالميزان عنها، قال تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الإسراء: 35].

[(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا)]. (وَلا تَقْفُ) ولا تتبع. وقرئ: ((ولا تقف)، يقال: قفا أثره وقافه، ومنه: القافة، يعنى: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد: النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهى عن التقليد دخولا ظاهرا. لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده. وعن ابن الحنفية: شهادة الزور وعن الحسن: لا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك، فتقول: هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل، وسمعته، ولم تر ولو تسمع. وقيل: القفو شبيه بالعضيهة. ومنه الحديث «من قفى مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» وأنشد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القافة). النهاية: القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفُ شبه الرجل بأخيه وأبيهن والجمع: القافة. قوله: (شبيه بالعضيهة). الجوهري: هي البهيتة، وهي الإفك والبهتان. قوله: (ردغة الخبال)، الحديث من رواية أبي داود، عن يحيى بن راشد: "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال". النهاية: ومنه حديث حسان بن عطية: "من قفا مؤمناً بما ليس فيه وقفه الله في ردغة الخبال". جاء في تفسيرها: أنها عُصارة أهل النار، والردغة بسكون الدال وفتحها: طين

وَمِثْلُ الدُّمى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا أى التقاذف. وقال الكميت: وَلَا أرْمِي البَرِيَّ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الحَوَاصِنَ إنْ قُفِينَا وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح، لأنّ ذلك نوع من العلم، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم، وأمر بالعمل به أُولئِكَ إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، كقوله: وَالْعَيْشَ بَعْدَ (أُولَئِكَ) الأَيَّامِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووحلٌ كثير، وفي الحديث: "إن الخبال: عُصارة أهل النار"، وهو في الأصل: الفسادُ، وقوله: "حتى يخرج مما قال" أي: يخرج من عهدة قوله، يريد، والله أعلم: أنه يحملُ عليه من ذنوب المغتاب فيعذب في النار على مقداره، ثم يخرج منها. قوله: (ومثل الدُّمَى)، البيت. الدُّمَى: جمع دمية، وهي: الصنم والصور المنقوشة، والشمم: ارتفاع الأنف، وشُم العرانين: كناية عن التكبر، لا يُشعن، أي: لا يظهرن، التقافيا، أي: التقاذف. الأساس: يقال: ومالك تقفو صاحبك؟ أي: تقذفه، وإياك والقفو، وماهجا فلانٌ ولا قفا. يصف جماعة من النساء بالجمال والتكبر والحياء، وصون لسانهن عن القذف، مثله قول حسان في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حصانٌ رزانٌ ما تُزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل قوله: (ولا أرمي) البيت، الحواصن: النساء العفائف، قُفينا: أصله قفين. قوله: (والعيش بعد أولئك الأيام)، أوله: ذُم المنازل بعد منزلة اللوى

(وعَنْهُ) في موضع الرفع بالفاعلية، أى: كل واحد منها كان مسئولا عنه، فمسئول: مسند إلى الجار والمجرور، كالمغضوب في قوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، يقال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذُم: أمرٌ أي: العيشة الطيبة: ما مضى بمنزلة اللوى، وما سوى ذلك مذمومٌ في جنبه. والغرض من الاستشهاد أن لفظة: أولاء ليست مخصوصة بالعقلاء، بل تقع على جماعة الرجال والنساء والحيوان والجماد والأعراض، قال الكواشي: "أولئك": غالب لمن يعقلُ، وقال القاضي: الأصل: كل هذه الأعضاء، فأجراها مُجري العقلاء، لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها، أو إن "أولاءِ" وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لـ "ذا" وهو يعم القبيلين، جاء لغيرهم. قوله: (فمسؤول: مسند إلى الجار والمجرور)، قال أبو البقاء: ما ذكره الزمخشري غلط؛ لأن الجار والمجرور يقام مقام الفاعل إذا تقدم الفعلُ، أو ما يقوم مقامه، فأما إذا تأخر فلا يصح ذلك فيه؛ لأن الاسم إذا تقدم على الفعل صار مبتدأ، وحرفُ الجر إذا كان لازماً مبتدأ لا يكون مبتدأ، ونظيره قولك: بزيدٍ انطلق، ويدلك على ذلك انك لو ثنيت لم تقل: بالزيدين انطلقا، ولكن تصحيح المسألة أن يُجعل الضمير في "مسؤول" للمصدر، فيكون (عنه) في موضع نصبٍ كما يُقدر في قولك: بزيدٍ انطلق. وقال صاحب "التقريب": وإنما جاز تقديمه مع أنه فاعل لمحاً لأصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته، ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس هاهنا؛ لو أنه ليس بفاعل حقيقة، وجاز أن يكون فاعله ضمير كل لحذف المضاف، أي: كان مسؤولاً صاحبها عنه. وجاز أن تكون مرفوعة المصدر، وهو السؤال. سأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يُرغبُ، فقال: فيك لا يرتفع بما بعده، فأين المرفوع؟ فقال: المصدر، أي: فيك يرغبُ

للإنسان: لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرئ وَالْفُؤادَ بفتح الفاء والواو، قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح. [(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا)]. (مَرَحًا) حال، أي: ذا مرح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب، وفيك: ظرفٌ لا فاعل. وفي "شرح ابن المعطي في الألفية": إن كان مفعول المجهول جاراً ومجروراً فلا يتقدم على الفعل؛ لأنه لو تقدم اشتغل الفعل بضميره، ولا يمكن جعله مبتداً لأجل حرف الجر. ومنهم من أجاز محتجاً بهذه الآية؛ لأن ما لم يسم فاعله مفعولٌ في المعنى. قوله: 0 وقرئ: "والفواد")، قال ابن جني: قرأها الجراح: "والبصر والفواد"، وأنكر أبو حاتم فتح الفاء ولم يذكر هو ولا ابن مجاهد الهمز ولاتركه، وقد يجوز ترك الهمز مع فتح الفاء، كأنه كان (الْفُؤَادُ) بضمها والهمز ثم خففت، فخلصت في اللفظ واواً، وفتحت الفاء على ما في ذلك فبقيت واواً.

وقرئ (مَرَحًا) وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ): لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدّة وطأتك. وقرئ. (لن تخرق)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "مرحاً") وهي شاذة. الراغب: المرح: شدة الفرح والتوسع فيه، ومرحى: كلمة تعجب. قال أبو البقاء: "مرحاً" بكسر الراء: حالٌ، وبفتحها: مصدرٌ في موضع الحال أو مفعول له. وفي كلام المصنف تسامح؛ لأنه قال: وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل بعدما أول المصدر بقوله: ذا مرح، وبعد القراءة الدالة على أنه اسم فاعل، وإنما يكون المصدر مفيداً للمبالغة إذا تُرك على حاله، نحو: رجلٌ عدل. قوله: (لن تجعل فيها خرقاً بدوسك)، الراغب: الخرقُ: قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكرٍ وتدبر، قال تعالى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) [الكهف: 71]، وهو ضد الخلق، لأنه فعل الشيء بتقدير ورفق، والخرقُ بغير تقدير، قال تعالى: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 100] أي: حكموا بذلك على سبيل الخرق، وباعتبار القطع قيل: خرق الثوب وتخرقه، وباعتبار ترك التقدير، قيل: رجلٌ أخرق وخرقٌ وامرأة خرقاء، ومنه الحديث: "ما دخل الخرق في أمر إلا شانه"، ومن الخرق استعيرت المخرقة، وهو إظهار الخرق توصلاً إلى حيلة، والمخراق: شيء يلعب به، كأنه يخرق لإظهار الشيء بخلافه.

بضم الراء. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) بتطاولك. وهو تهكم بالمختال. قرئ (سيئة) و (سيئاً)، على إضافة سيئ إلى ضمير كل، (وسيئاً) في بعض المصاحف. (وسيئات). وفي قراءة أبى بكر الصديق رضى الله عنه: كان شأنه. فإن قلت: كيف قيل سيئه مع قوله (مكروها)؟ قلت: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه. ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئا. ألا تراك تقول: الزنا سيئة، كما تقول: السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. فإن قلت: فما ذكر من الخصال بعضها سيئ وبعضها حسن، ولذلك قرأ من قرأ (سَيِّئُهُ) بالإضافة، فما وجه من قرأ سيئة؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو تهكم بالمختار). الانتصاف: لقد حرس الله عوام زماننا من هذه المشية المنهي عنها، ووقع فيها قراؤنا وفقهاؤنا، إذا حفظ أحدهم مسألتين، وجلس بين يديه طالبان، أو نال طرفاً من رئاسة مشي خيلاء، وود لو حَك بيافوخه السماء، يمرون بهذه الآية وهم عنها معرضون، وماذا يفيد أن يقرأ القرآن، أو يُقرأ عليه، وقلبُه عن تدبره بمراحل. قوله: (وقرئ: "سيئة" و (سَّيِّئَةِ)): الكوفيون وابن عامر: (كَانَ سَيِّئُهُ)، بضم الهمزة والهاء على التذكير، والباقون: بفتحها مع التنوين على التأنيث. قال أبو البقاء: "سيئة" يُقرأ بالتأنيث والنصب، أي: كل ما ذُكر من المناهي وذُكر: (مَكْرُوهاً) على لفظ "كُل"، أو لأن التأنيث غير حقيقي. ويُقرأ بالرفع، أي: سيء ما ذُكر.

كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة. [(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)]. (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من قوله لا (تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) [الإسراء: 22 [إلى هذه الغاية. وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى، أوّلها، لا تجعل مع الله إلها آخر، قال الله تعالى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً)] الأعراف: 145 [وهي عشر آيات في التوراة. ولقد جعل الله فاتحتها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل ذلك إحاطة بما نُهي عنه خاصة، لا بجميع الخصال المعدودة)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: الإحاطة بالجميع، إلا أن المراد فيما يكون حسناً ما يقابله كنقض العهد، وهو قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ثم قال: (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الأنعام: 151]. قال المصنف في تفسيرها: "لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها. وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان" إلى آخره. قوله: ((ذَلِكَ) إشارة إلى ما تقدم)، وقال القاضي: (كُلُّ ذَلِكَ): إشارة إلى الخصال الخمسة والعشرين المذكورة في قوله: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ). قوله: (كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه)، أي: هي مما لا تنسخ ولا تحمل على وجه من وجوه التأويل التي يدخل فيها الفساد كالمتشابه. قوله: (وهي عشر آيات في التوراة) بعد قوله: "هذه الثماني عشرة آية"، فيه إشكال،

وخاتمتها النهي عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم. [(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعل المراد بالآيات في التنزيل: الكلام المميز بالفواصل، وبالآيات العشر في التوراة: المعاني المستقلة، وبالخصال الخمسة والعشرين: كل خصلة مأمور بها، ومنهي عنها، وروينا عن الترمذي، والنسائي، عن صفوان، أن يهوديين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا عن تسع آيات بينات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ... الحديث". قوله: (ما أغنت عن الفلاسفة- خذلهم الله - أسفار الحكم)، قيل: وُجد بخط المصنف رضي الله عنه: كان في زمن نبي حكيم صنف في الحكمة ثلاث مئة وستين تصنيفاً، فأوحى الله إلى نبي زمانه: قد ملأت الدنيا بقاقاً، وإن الله لم يقبل من بقاقك شيئاً. كذا ذكره حجة الإسلام رحمه الله في كتابه "الإحياء"، والبقاق، بالباء الموحدة: كثرة الكلام. قال الشهرستاني في "الملل والنحل": الفلسفة باليونانية: محبة الحكمة، والفيلسوف: هو فيلاسوفاً، وفيلا: هو المحب، وسُوفا: هو الحكمة، أما قوله: "أضل من النعم" فمقتبس من قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف: 179].

(أَفَأَصْفاكُمْ) خطاب للذين قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار. يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيبًا لنفسه، واتخذ أدونهم وهي البنات؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردأها وأدونها للسادات (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم أدون خلق الله وهم الإناث. [(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا)]. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) يجوز أن يريد (هذَا الْقُرْآنِ) إبطال إضافتهم إلى الله البنات، لأنه مما صرفه وكرّر ذكره، والمعنى: ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير. ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد. ولقد صرفناه، يعنى هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم. وقرئ: (صَرَّفْنا) بالتخفيف وكذلك (لِيَذَّكَّرُوا) قرئ مشدّدا ومخففًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد بـ (هَذَا الْقُرْآنُ) إبطال إضافتهم إلى الله البنات)، وهو من باب إطلاق الحال على المحل؛ لأنه تعالى لما كرر هذا الإبطال في هذا القرآن الكريم، سُمي الإبطال باسم القرآن لهذه الملابسة، أو أوقعنا التصريف فيه وجعلنا مكاناً للتكرير، يريد أنه من باب: يجرح في عراقيبها نصلي. والأول أبلغ لأنه جعل المعنى ظرفاً والقرآن مظروفاً، نحو قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). قوله: ((لِيَذَّكَّرُوا)، قرئ مخففاً ومشدداً): حمزة والكسائي: مخففاً بإسكان الذال وضم الكاف، والباقون: بفتحهما مشدداً، فالمعنى على التشديد: التدبر، كقوله تعالى: (كِتَابٌ

أي: كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا) عن الحق وقلة طمأنينة إليه. وعن سفيان: كان إذا قرأها قال. زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفوراً. [(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا)]. قرئ: (كما تقولون)، بالتاء والياء. (وإِذًا) دالة على أن ما بعدها وهو (لَابْتَغَوْا) جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل (لو). ومعنى (لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَاَركٌ لِيَّدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29]، وعلى التخفيف: معنى قوله تعالى: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) [البقرة: 63]، وفي هذا بعثٌ على النظر فيه والتدبر. قوله: (ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم)، إنما فُسِّرَ: (لِيَتَذّّكَّرُوا) بذلك ليُطابِقَ قوله: (وَمَا يَزِيدُهُمّ إلاَّ نُفُورًا)، فإن النفور يقابل الاطمئنان، ووضع ما يحتج به عليهم موضع الراجع إلى المشار إليه بقوله: هذا المعنى كأنه قيل: كررناه ليطمئنوا إليه كما قال: وقلة طمأنينةٍ إليه، وفيه تعكيسٌ، أي: كررنا عليهم هذا المعنى ليطمئنوا فعكسوا وزادوا نفوراً. قوله: (وقرئ (كَمَا يَقُولُونَ) بالياء والتاء): ابنُ كثيرٍ وحَفْصٌ: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. قوله: (و (إذًا) دالةٌ على أنّ ما بعدها .. جوابٌ ... وجزاء)، مضى بيانه في سورة يوسف عليه السلام. قال صاحب "الفرائد": إن في ذكر (إذًا) ها هنا- مع الاستغناء عنها لقيام ما بعدها جواباً وجزاءً لما قبلها- فائدة، وهي أن (إذًا) مشعرةٌ بأن الجزاء لا يكون إلا المذكور، فإن قولك لصاحبك: إنك ما أعطيتني، فيجيبك: لو أتيتني إذًا لأعطيتك، فهم منه

لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، كقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) [الإسراء: 7] وقيل: لتقرّبوا إليه، كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ). (عُلُوًّا) في معنى تعاليا. والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة. ومعنى وصف العلوّ بالكبر: المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به. [(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا)]. والمراد أنها تسبح له بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تنطلق بذلك، وكأنها تنزه الله عز وجلّ مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. فإن قلت: فما تصنع بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهذا التسبيح مفقوه معلوم؟ قلت: الخطاب للمشركين، وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا: الله، إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يقرّوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن الإعطاء مخصوص بإتيانه غير مرجو بدونه، فلو لم يُذكر لم يُفهم الاختصاص. قوله: (إلى من له الملك والربوبية)، وضع المُلك والربوبية موضع العرش على الكناية، كما سيجيء في سورة "طه" في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]. قوله: (كقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22]، وحاصله يرجع إلى دليل التمانع، كما سيجيء في سورة الأنبياء. قوله: (لتقربوا إليه)، أي: معنى (لابْتَغَوْا): لتقربوا إلى ذي العرش، قال صاحب "الفرائد": من تقرب إلى الغير وطلب الوسيلة لم يصلح لأن يُطلق عليه لفظ الإله، ومعنى كونهم آلهة منافٍ لذلك المعنى، على هذا، لو كان معه آلهة لم يكونوا آلهةً، بل عباد محتاجون إليه، فيلزم عدم الشيء على تقدير وجوده، ويُمكن أن يُجاب: لما كان عدم الشيء على تقدير وجوده مُحالاً، وهو لازم للتقدير، وهو كون الآلهة معه، فكان مُحالاً

لأنّ نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإذا لم يفقهوا)، أي: جُعلوا في أن نظرهم لم يُثمر التوحيد، كأنهم نظروا ولم يفقهوا، وتحريره أن المشركين لما نظروا إلى ملكوت السماوات والأرض وعلموا أن الله خالقه، ومع هذا الإقرار جعلوا معه آلهة، فكأنهم بالحقيقة ما فقهوا، وهو على هذا تجريد لاستعارة التسبيح للدلالة. ويمكن أن يُجرى على الترشيح لها على أن معنى: (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لا يفقهون نُطقهم به، كقوله تعالى: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) [الكهف: 93]، كأنه قيل: الكائنات تنطق بلسانها تنزيه ذات الباري عز شأنه وجل سلطانه عن الشريك، والمشركون صُمٌّ لا يسمعون ذلك. والأصل: ودلت الموجودات على توحيد صانعها، وهم لا يعقلون ذلك. قال صاحب "الانتصاف": إن كان الخطاب للمشركين، فما تصنع بقوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)؟ وإنما يُخاطب بالحلم والمغفرة المؤمن، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين، وأما عدم فقهنا لتسبيح الجمادات، فكناية عن عدم العمل بمقتضى تسبيحها، ولو تفطن الإنسان إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة في الكون تنزه الله تعالى وتشهد لجلاله وكبريائه وقهره، لشغله عن قوته، فضلاً عن فضولا لكلام والغيبة. والظاهر أن الآية وردت على الغالب من أحوال الغافلين، وإن كانوا مؤمنين، فالحمد لله الذي كان حليماً غفوراً. وقلت: أخطأ في جعل الخطاب للمؤمنين؛ لأن معنى النزاهة والبراءة في قوله: (سُبْحَانَهُ)، ومعنى العلو والكبرياء في قوله تعالى: (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) راجع على ما وصفوه من اتخاذ الملائكة بنات في قوله: (وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً) ومن اتخاذ الآلهة شُركاء في قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ)، وأن مجيء قوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) لتأكيد التنزيه وتذييله، فكيف يُقال: الخطاب للمؤمنين؟ وأما معنى قوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) فعلى التعجب، فكأنه قيل: ما أحلمه وأشد غفرانه! حيثُ يعلمُ من هؤلاء المعاندة

ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق. فإن قلت: من فيهنّ يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة والثقلان، وقد عطفوا على السموات والأرض، فما وجهه؟ قلت: التسبيح المجازى حاصل في الجميع فوجب الحمل عليه، وإلا كانت الكلمة الواحدة في حالةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، ولا يعاجلهم بالعقوبة، وإليه أشار بقوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) حين لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم. ويؤيده قوله تعالى: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 6]. قال المصنف رحمه الله تعالى: "نبه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه، أن يُصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم: "أنه غفور رحيم" يُمهلُ ولا يعاجل". قوله: (التسبيح المجازي حاصلٌ في الجميع، فوجب الحمل عليه). الانتصاف: تقدم منه منعُ هذا عند سجدة النحل، لكن ذكر هناك أنه يشملها الانقياد بطريق التواطؤ، وههنا جعله مجازا، ومن الجائز أنه أراد ثمة التواطؤ مع المجاز، وكما يتفق التواطؤ مع الحقيقة، فقد يتفق مع المجاز. الراغب: هذه الآية، وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد: 15]، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) [النحل: 49] يقتضي أن يكون تسبيحاً على الحقيقة، وسُجوداً له على وجه لا يفقه، بدلالة قوله: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ)، ودلالة قوله: (وَمَنْ فِيهِنَّ) بعد ذكر السماوات والأرض، ولايصح أن يكون تقديره يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض؛ لأن هذا مما نفقهه، ولأنه مُحال أن يكون ذلك تقديره، ثم يعطفُ عليه بقوله: (وَمَنْ فِيهِنَّ) والأشياء كلها تسبح له، ويسجد بعضها بالتسخير، وبعضها بالاختيار، ولا خلاف أن السماوات والأرض والدواب مسبحاتٌ بالتسخير من حيث إن أحوالها تدل على حكمة الله تعالى، وإنما الخلاف في السماوات والأرض: هل تُسبح بالاختيار؟ والآية تقتضي ذلك بما ذكرت، والله أعلم.

واحدة محمولة على الحقيقة والمجاز. (إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا) حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم. [(وَإِذا قَرَاتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا* وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا)]. (حِجابًا مَسْتُورًا): ذا ستر كقولهم. سيل مفعهم ذو إفعام. وقيل: هو حجاب لا يرى فهو مستور. ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب، فهو مستور بغيره. أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه: (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت: 5]، كأنه قال: وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه. أو لأنّ قوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) فيه معنى المنع من الفقه، فكأنه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه. يقال: وحد يحد وحدا وحدة، نحو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سيلٌ مفعمٌ)، بفتح العين، يعني جعل اسم المفعول بمعنى الفاعل، فإن الحجاب هو الساتر، والمستور ما وراءه، نحو: سيلٌ مفعمٌ، فإن السيل مفعمٌ والوادي مفعمٌ، فعكس مبالغة في ذلك، فهو من الإسناد المجازي. قوله: (فيه معنى المنع من الفقه)، يعني: (أَنْ يَفْقَهُوهُ)، إما مفعولٌ له على تقدير مضاف، أو مفعولٌ به على تأويل الجملة، بمعنى المنع، كقوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة: 249]، فإنه في معنى: لم يُطيعوه. قال القاضي: ولما كان القرآن مُعجزاً من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى بقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ)، وعن إدراك اللفظ بقوله: (وَإِذَا

وعد يعد وعدا وعدة، (ووَحْدَهُ) من باب رجع عوده على بدئه، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا، وحده. والنفور: مصدر بمعنى التولية. أو جمع نافر كقاعد وقعود، أي: يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا (بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) من الهزؤ بك وبالقرآن، ومن اللغو: كان يقوم عن يمينه إذا قرأ رجلان من عبد الدار، ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. (وبِهِ) في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزؤ، أي هازئين. (وإِذْ يَسْتَمِعُونَ) نصب بـ (أعلم)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قَرَأتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً). قوله: (و (وَحْدَهُ) من باب رجع عوده على بدئه)، أي: أنه مصدرٌ سادٌ مسد الحال، كأنه قال: عائداً على بدئه، فإن الأصل رجع عائداً على بدئه، ثم أقيم يعود مقام عائداً، ثم عوده مقام يعود. قوله: (وافعله جهدك) الجهدُ بالضم: الطاقة، وبالفتح: من قولهم: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلُغ غايتك، فهو أيضاً مصدرٌ أقيم مقام الحال. قوله: (أصله: يحد وحده) يعني: أصل الآية: (ذَكَرْتَ رَبَّكَ) يحد وحده، بمعنى: واحداً وحده، ثم حذف "يحد" وأقيم المصدر مقامه. قوله: (والنفور مصدر)، قال أبو البقاء: (نُفُوراً)، جمعُ نافر، ويجوز أن يكون مصدراً كالقعود، فإن شئت جعلته حالاً، وإن شئت جعلته مصدراً لـ (ولُوا)؛ لأنه بمعنى: "نَفَروا". قوله: (و (بِهِ): في موضع الحال)، أي: يستمعون ملتبسين بالهزء، قال أبو البقاء:

أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون (وَإِذْ هُمْ نَجْوى): وبما يتناجون به، إذ هم ذو ونجوى (إِذْ يَقُولُ) يدل من إذ هم (مَسْحُورًا) سحر فجنّ. وقيل: هو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل: الباء بمعنى اللام، وقيل: هي على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم. وقال القاضي: (بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ)، أي: بسببه ولأجله من الهُزء بك وبالقرآن، وهو مأخوذٌ من قول المصنف أولاً: (بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ) من الهزء بك وبالقرآن، ولابد من تقرير الهزء؛ لأن قوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ) وعيدٌ وتهديدٌ على ما كانوا عليه عند سماعهم بالقرآن من الهزء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن على ما قال: "كان يقومُ عن يمينه إذا قرأ ... إلى آخره". قوله: ((إِذْ يَقُولُ): بدلٌ من (إذ هُم))، وقال أبو البقاء: هو بدلٌ من (إذْ) الأولى. اعلم أن (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) ظرفٌ لقوله: (أَعْلَمُ)، و (بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ): متعلق به، و (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى): عطفٌ على الظرف، على أن يُقدر له ما يلائمه مما قُرن بالمعطوف عليه ليستقيم المعنى، فالتقدير: نحنُ أعلمُ بما به يستمعون وبما به يتناجون وقت استماعهم ووقت تناجيهم، وإنما قدم المصنف الظرف على المفعول به في قوله: بـ (أَعْلَمُ) بوقت استماعهم بما به يستمعون ليؤذن بأن (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) متعلق بـ (أَعْلَمُ) لا بـ (يَسْتَمِعُونَ بِهِ)؛ لأن تعلق (إذ) به يوهم فساد المعنى من حيث المفهوم، ثم المناسب أن يكون قوله: (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ): بدلاً من المعطوف، لا المعطوف عليه؛ لأن قولهم: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) كان خطاباً منهم مع أصحابهم على الحديث. وأما الاستماع عن النبي صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الهزء فبينهما تنافٍ. قال القاضي: (إِذْ يَقُولُ): بدلٌ من (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) على وضع (الظَّالِمُونَ) موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم كان ظُلماً، ولبيان أن تناجيهم هو قوله: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً).

من السحر وهو الرئة، أي: هو يشر مثلكم (ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ): مثلوك بالشاعر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من السحر، وهو الرئة). المعنى: هو بشرٌ مثلكم، في كونه ذا رئةٍ، قال القاضي: المعنى: إن تتبعون إلا رجلاً يتنفس، ويأكل ويشرب، كقوله تعالى: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ) [الفرقان: 7] أي: ليس بملك، والمناسب أن يُراد به الوجه الأول، أي: سُحر فجُن ليلائم قوله: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ) كما قال: مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون. الراغب: السحر: طرف الحلقوم والرئة، وقيل: انتفخ سحره، وبعيرٌ سحيرٌ: عظيم السحر، والسحارة: ما يُنتزع من السحر عند الذبح، فيرمى به، وجُعل بناءه بناء النفاية والسقاطة. وقيل: منه اشتق السحر، وهو إصابة السحر، والسحر يقال على معانٍ: الأول: خداعُ، وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعبذة من صرف الأبصار عما يفعله بخفةِ يدِ، وما يفعله النمام، بقول مزخرفٍ عائقٍ للأسماع، وعلى ذلك قوله تعالى: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف: 116]، وقال: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه 66]، وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحراً، فقالوا: (يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) [الزخرف: 49]. والثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه، كقوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء: 121 - 122]، وعليه دل قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [البقرة: 102]. والثالث: ما يذهب إليه الأغتامُ، وهو اسمٌ لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع، فيجعلُ الإنسان حماراً، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين، وقد تصور من اسحر حسنه، فقيل: إن من البيان لسحراً، وتارة دقة فعله حتى قالت الأطباء: الطبيعة ساحرة،

والساحر والمجنون (فَضَلُّوا) في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره لا يدرى ما يصنع. [(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا* أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)]. لما قالوا: (أَإِذا كُنَّا عِظامًا) قيل لهم (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا) فردّ قوله: كونوا، على قولهم: (كُنَّا)، كأنه قيل: كونوا حجارة أو حديدا ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسموا الغذاء سحراً من حيث إنه يدق ويلطف تأثيره، قال تعالى: (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر: 15] أي: مصروفون عن معرفتنا بالسحر، وعليه قوله تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء: 153]، قيل: ممن جُعل له سحرٌ، تنبيهاً أنه محتاج إلى الغذاء، كقوله تعالى: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ) [الفرقان: 7]، ونبه على أنه بشرٌ كما قال: (مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا) [الشعراء: 154]، وقيل: معناه: ممن جُعل له سحرٌ يتوصل بلطفه وبدقته إلى ما يأتي به ويدعيه، وعلى الوجهين حُمل قوله تعالى: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) [الإسراء: 47]، وقوله تعالى: (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً)، وعلى الثاني دل قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) [سبأ: 43]. قوله: ((فُضِّلُوا) في جميع ذلك ضلال من يطلُب)، إشارة إلى أن قوله: (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) تمثيلٌ، مثل حال هؤلاء في تحيرهم وضلالهم فيما يجادلونه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحال من ضل في التيه ويطلب طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه والجامع التحير وعدم الدراية فيما يصنع. قوله: (فرد قوله: (كُونُوا) على قولهم: (كُنَّا)، أي: أطبقه جواباً على طريقة المشاكلة، المعنى: أورد هذا القول على قولهم: وقذف بالحق على باطلهم، فإنهم لما استبعدوا أن يُبعثوا خلقاً جديداً بعد كونهم عظاماً قيل لهم: (كُونُوا) الآن أبعد شيء من الحياة، فإنكم

على إحيائكم والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحىّ وغضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أنّ العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردّها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحىّ ومن جنس ما ركب منه البشر - وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديدا مع أن طباعها الجسارة والصلابة - لكان قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعنى أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه. وقيل: ما يكبر في صدورهم الموت. وقيل: السموات والأرض (فَسَيُنْغِضُونَ) فسيحرّكونها نحوك تعجبا واستهزاء. [(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا)]. والدعاء والاستجابة كلامهما مجاز. والمعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله (بِحَمْدِهِ) حال منهم، أي حامدين، وهي مبالغة في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ستبعثون، والأمر للتسخير، وإنما فسره بقوله: (لَوْ كُنتُمْ) ليُعلم أن المراد بالعبارة الفرض والتقدير، إذ لو أريد به حقيقة التسخير لصاروا حجارةً من غير ريب وانقلبوا حديداً من غير مُكث، فيقولُ المصنف: لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة، لا يطابق ظاهراً قوله: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا)؛ لأن الكلام أولاً في حصول البعث لا القادر على البعث، ولذلك سألوا ثانياً عن الباعث بقولهم: (مَنْ يُعِيدُنَا) فأجيبوا بقوله: (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فإنه من الأجوبة الدامغة، فلذلك أنغضوا رؤوسهم قائلين ثالثا: (مَتَى هُوَ)؟ وقيل: ما يكبر في صدورهم الموت، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومعناه: لو كنتم نفس الموت لأحياكم، على المبالغة، كما يقالُ: لو كنتم عين الحياة لأماتكم الله، وإلا فالموت عرضٌ لا ينقلبُ الجسمُ إليه، ولا هو ينقلبُ إلى ضده الذي هو الحياة. قوله: (والمعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين)، إشارة إلى أن قوله:

انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتفسير قسرا حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه، وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وَتَظُنُّونَ وترون الهول، فعنده تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا، وتحسبونها يوما أو بعض يوم. وعن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة. [(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَا يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَا يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)]. (وَقُلْ لِعِبادِي) وقل للمؤمنين (يَقُولُوا) للمشركين الكلمة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وألين ولا يخاشنوهم، كقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125]. وفسر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ) تمثيل، على منوال قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) في أن لا دُعاء ثم. قال القاضي: استعار لهما الدعاء والاستجابة للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما، وأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء. قوله: (تلين لين المُسمح) أي: المنقاد، يقال: أسمحت قرونته، أي: ذلت نفسه وتابعت. "الأساس": أسمحت قرونته: إذا تبعته نفسه وأطاعته. قوله: (لين المسمح) فيه تمثيل مع رائحة من التهكم. قوله: ((يَقُولُوا) للمشركين الكلمة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وألين)، والذي يدُلُّ على أن المراد منه المشركون أنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في أن لا يخاشن المشركين في الرد عليهم ويجادلهم بالتي هي أحسن في الأجوبة الثلاثة في أمر البعث، أمره بأن يُعلم بأنْ يُعلم المؤمنين سلوك هذه

(التي هي أحسن) بقوله (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَا يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَا يُعَذِّبْكُمْ) يعنى يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) اعتراض، يعنى يلقى بينهم الفساد ويغرى بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي ربا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطريقة، وأن يستنوا بسنته، وذلك أنهم لما أنكروا البعث إنكاراً بليغاً بقولهم: (أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أمره بأن يجيبهم بقوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً)، أي: لابد من البعث للجزاء الموعود، ولا مجال للاستبعاد، إذ لو صرتم أبعد شيء من الحياة فإنكم مبعوثون له، كقوله تعالى: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) [يونس: 4] إلى آخره، وعند ذلك لابد أن يقولوا: هب أنه كذلك، فمن الذي يقدر على هذا الأمر العظيم؟ فأُمر بأن يجيبهم بقوله: هو الذي شاهدتم منه أعظم من هذا، وهو إخراجكم من العدم إلى الوجود. ثم إنهم إذا قالوا مستهزئين: سلمنا ذلك، فمتى إرساؤها؟ فقل لهم: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) ولعل مجيئها قد قرُب، لكن أمارتها: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ) له. وأما حُسنُ هذه الأجوبة وسلوك طريقة اللين فيها فإنهم ما أوردوا تلك الأسئلة للاسترشاد، بل للعناد والاستهزاء البليغ والانحراف عن الطريق المستقيم، لكن أخرجت الأجوبة على منوال الجد والطريق السوي، وعدم المبالاة بالاستهزاء أو الإنكار. قوله: (المشارة)، المفاعلة، من الشر. الجوهري: المشارة: المخاصمة. قوله: (وترك المحاقة)، الجوهري: حاقه: إذا خاصمه وادعى كل واحدٍ منهما الحق، فإذا غلبه قيل: حقه.

والمكاشفة، وذلك قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر رضي الله عنه: شتمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمكاشفة) هي من كاشفه العداوة، أي: بادأه بها. قوله: ((وَكِيلاً) أي: ربا موكولاً إليك أمرهم)، إلى قوله: "فدارهم ومُر أصحابك بالمداراة" إشارة إلى نظم الآيات، وفي سلوكه صعوبة، قد رمز إليه رمزاً خفيا لا يكاد يدرك في بدء الفكرة. فقوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَا يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَا يُعَذِّبْكُمْ) مقول لقوله: (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) توطئة وتمهيد له. وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية، اعتراضٌ بين المفسر والمفسَّر. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) كالتذييل لمجموع مجادلته مع المشركين، وأمره المؤمنين بها من لدن قوله: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً) إلى هاهنا. وقوله: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ) [الإسراء: 55] كما قال، رد على المشركين في إنكارهم واستبعادهم أمر النبوة بعد الرد على استبعادهم أمر البعث بقولهم: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً)، وذلك أنه تعالى لما استجهلهم بقوله: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ) وأراد قولهم: إنك شاعرٌ وساحرٌ ومجنون، وحكى عنهم مجادلاتهم، أتى بنوع آخر من الكلام الدال على ردهم استبعادهم نبوة محمد صلوات الله عليه وسلم، وأنه كيف يكون يتيم أبي طاب نبيا، وأن يكون العُراة والجياعُ أصحابه، فقيل له: إن كانوا لا يعلمون كيفية نبوتك، وتقدم أصحابك في الدين، فاعلم أن ربك عالمٌ بأحوال من في السماوات والأرض وبمقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم من الفضل، ولذلك تفاوتت مراتبُ الأنبياء، فبعضهم أفضلُ من بعض، ألا ترى كيف اصطفيناك من بينهم وجعلناك خاتماً لهم، وجعلنا أمتك خير المم، وهذه المنقبة ثابتة لك في الكتب السالفة، منها الزبور، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]، ومثله قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]. قوله: (وقيل: نزلت في عمر رضي الله عنه): عطفٌ على قوله: "وقل للمؤمنين:

رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: الكلمة التي هي أحسن: أن يقولوا يهديكم الله، يرحمكم الله. وقرأ طلحة: (ينزغ)، بالكسر وهما لغتان، نحو يعرشون ويعرشون. [(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا)]. هو ردّ على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبى طالب نبيا، وأن تكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم، يعنى: وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم. وقوله (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا) دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم، لأنّ ذلك مكتوب في زبور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقولوا للمشركين"، فعلى هذا (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) لا يكون تفسيراً (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ويكون معناه نحو ما قال: "يهديكم الله، يرحمكم الله". قوله: (وقيل: الكلمة التي هي أحسن: أن يقولوا: يهديكم الله)، فعلى هذا قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) يكون تعليلاً للأمر بقوله: (قُلْ)، أي: قل لهم أن يجاملوا في القول ولا يخاشنوا ولا يبالغوا في الجدال؛ لئلا تُنفرَ المشركين بنزغه ويُلبسهم جلد النمر ولا يورث المؤمنين الخيلاء؛ لأن المجادلة الباطلة مما تفسد ذات البين، فيكون قوله: ((رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ)) خطاباً للمؤمنين ليتركوا المراء، ويؤيده قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) يعني: إذا لم تكن أنت وكيلاً على المشركين فالمؤمنون أحرى به. قوله: ((وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) دلالة على وجه تفضيله) إلى قوله: (وإن أمته خيرُ الأمم)،

داود. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهم محمد وأمته. فإن قلت: هلا عرّف الزبور كما عرّف في قوله (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُور) [الأنبياء: 105]؛ قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس، والفضل وفضل، وأن يريد: وآتينا داود بعض الزبر؛ وهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجه الدلالة أنه سبحانه وتعالى عطف (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) على قوله: (فَضَّلْنَا) على طريق الوجود والحصول وعول التعليل إلى ذهن البليغ، كأنه تعالى قال: نحن أجملنا بيان تفضيل بعضهم على بعض، ونحن فصلناه بأن بينا ذلك فيما أعطينا عبدنا داود من الزبور، وفيه أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وإلى التعليل الإشارة بقوله: لأن ذلك مكتوب في زبور داود عليه السلام، ونحوه في التعويل إلى الذهن: ما رُوي أن المنصور وعد الهُذلي بجائزة ونسي، وحجا معاً، ومرا في المدينة ببيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتعزلُ فأنكر عليه ذلك، فلما رجع أمر القصيدة التي فيها هذا المصراعُ على قلبه، فإذا فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فذكر المواعيد وأنجز له واعتذر إليه، ويُسمى هذا الأسلوب بالتلميح. قوله: (كالعباس وعباس)، قال أبو البقاء: إنه علمٌ، يقال: زبور والزبور، كما يقال: عباس والعباس، أو هو نكرة، أي: كتاباً من جملة الكتب، وقال القاضي: الزبور في

الكتب، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسمى ذلك زبورا، لأنه بعض الزبور، كما سمى بعض القرآن قرآناً. [(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا* أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا)]. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هم الملائكة. وقيل: عيسى بن مريم، وعزير. وقيل نفر من الجن، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا، أي: ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه. (وأُولئِكَ) مبتدأ، (والَّذِينَ يَدْعُونَ) صفته، (ويَبْتَغُونَ) خبره، يعنى: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. (وأَيُّهُمْ) بدل من واو يبتغون، وأي موصولة، أي: يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأصل فعول للمفعول، كالحلوب، أو المصدر كالقبول، ويؤيده قراءة حمزة بالضم، فهو كالعباس والفضل. قوله: (أو ضمن "يبتغون الوسيلة" معنى: يحرصون)، معنى الجملة كما هي بمعنى: يحرصون. قال صاحب "التقريب": أي: موصولة، وهو بدل من واو يبتغون، أي: آلهتهم أولئك يبتغي من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب، أو (أَيُّهُمْ) استفهام، وضُمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، أي: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله بالطاعة وزيادة الخير، فعلى الأول: يطلب من هو أقرب الوسيلة، وعلى الثاني: يطلب آلهتهم أي:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... أن يكونوا أقرب إلى الله بما هو وسيلة. وقال أبو البقاء: (أَيُّهُمْ): مبتدأ، و (أَقْرَبَ): خبره، وهو استفهام، والجملة في موضع نصب بـ (يَدْعُونَ)، ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ) بمعنى الذي، وهو بدلٌ من الضمير في (يَدْعُونَ). واعلم أن لهم في مثل هذا مذهبين: أحدهما: أن (أَيُّهُمْ) استفهام، وهو مذهب الخليل. وثانيهما: هي موصولة، وصدر الصلة محذوف، وإليه ذهب سيبويه، وسيجيء تمام تقريره في قوله: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً) فالوجه الأول في "الكشاف" محمولٌ على مذهب سيبويه، ولذلك صرح بذكر صدر الصلة، وقال: "يبتغي من هو أقرب منه". والثاني على مذهب الخليل، حيث قال: "يحرصون أيهم"، ولابد من تقدير متعلق بـ "يحرصون"، كقوله تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) [التوبة: 128]، (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) [النحل: 37]، ومن تأويل الإنشائي لتصحيح استقامته بأن يقال: يحرصون على ما يقال فيهم: أيهم أقرب إلى الله: بسببه من الطاعة ازدياد الخير، ففي الآية تقديم وتأخير؛ لأن قوله: (إِلَى رَبِّهِمْ) حينئذ متعلقٌ بـ (أَقْرَبُ)، كما قُدر في قوله: "تحرصون أيهم أقرب إلى الله". وأما قول أبي البقاء: والجملة نصب بـ "يدعون" فتقديره: أن آلهتهم أولئك يدعون إلى الله، الذين يقالُ فيهم: أيهم أقرب إلى الله؛ لأنهم الذين ينتفعون بالدعوة، كقوله: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ) [الأنعام: 51]، وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) [عبس: 45]، وقوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2]. ويجوز أن يُقدر: أولئك يدعون إلى الهدى، وإلى ما يقال فيه: أيهم أقربُ إلى الله بسببه من العبادة والطاعة يبتغون إلى ربهم الوسيلة بتلك الدعوة، فقُدم "يبتغون" اهتماماً، والله أعلم.

فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبيّ مرسل، فضلا عن غيرهم. [(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا)]. (نَحْنُ مُهْلِكُوها) بالموت والاستئصال أَوْ (مُعَذِّبُوها) بالقتل وأنواع العذاب. وقيل: الهلاك للصالحة، والعذاب للطالحة. وعن مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فيخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فعذابها ضروب، ثم ذكرها بلدا بلدا (فِي الْكِتابِ) في اللوح المحفوظ. [(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)]. استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و (أن) الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما غيرهم)، أي: كغيرهم، "ما": كافةٌ، أي: كما هو غيرهم. قوله: (بأن يحذره كل أحدٍ من ملك مقرب)، هذا العمومُ يعطيه معنى التعليل، والعموم الذي في إطلاق قوله: (مَحْذُوراً). قوله: (والجبال بالصواعق)، وفي الحاشية: الجبال: من الري إلى بغداد. قوله: (استعير المنع لترك إرسال الآيات)؛ لأن أصل المعنى: وما تركنا إرسال الآيات التي اقترحتها قريش، إلا لأجل علمنا السابق والتقدير الماضي، وهو تأخير أمر من بُعثت إليهم إلى يوم القيامة، ولما كان الصارف وهو العلمُ والتقديرُ قوياً، استُعير المنعُ للترك، وذلك أن المنع حقيقة هو صرف الغير عن فعل يفعله، وذلك في حق الفاعل المختار مُحال، فوجب الحملُ على المجاز.

منصوبة والثانية مرفوعة، تقديره: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. والمراد: الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهبا ومن إحياء الموتى وغير ذلك: وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى: وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسالات لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل. وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. ثم ذكر من تلك الآيات - التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسالات فأهلكوا - واحدة: وهي ناقة صالح، لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم (مُبْصِرَةً) بينة. وقرئ: مبصرة، بفتح الميم (فَظَلَمُوا بِها) فكفروا بها (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها (إِلَّا تَخْوِيفًا) من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدّمة له، فإن لم يخافوا: وقع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن من اقترح)، "أن" مع اسمها وخبرها: خبرُ "وعادة الله"، وخبرُ "أن": "أنْ يعاجل". قوله: (وأنها لو أرسلت): عطفٌ على قوله: "إن كذب بها الأولون الذين هم أمثالهم"، على منوال: أعجبني زيدٌ وكرمه. قوله: (وقرئ: "مبصرة" بفتح الميم). قال أبو البقاء: أي: تبصرة. قوله: (لا نرسلها (إِلاَّ تَخْوِيفاً) من نزول العذاب العاجل). الراغب: الآيات هاهنا قيل: إشارة إلى الجراد والقُمل ونحوهما من الآيات التي أرسلت إلى الأمم المتقدمة،

عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. [(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيانًا كَبِيرًا)]. (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش، يعنى: بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم. وذلك قوله سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45]، (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) [آل عمران: 12] وغير ذلك، فجعله كأن قد كان ووجد، فقال: (أحاط بالناس) على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فنبه أن ذلك إنما يُفعل بمن يفعله تخويفاً، وذلك أخسُّ المنازل للمأمورين، فإن الإنسان يتحرى فعل الخير لأحد ثلاثة أشياء: إما أن يتحراه لرغبة أو لرهبة، وهو أدنى منزلة، وإما أن يتحراه لمحمدة، وإما أن يتحراه للفضيلة، وهو أن يكون ذلك الشيء في نفسه فاضلاً، وذلك أشرف المنازل، فلما كانت هذه الأمة خير أمة رفعهم عن هذه المنزلة، ونبه أنه لا يعمهم بالعذاب، وإن كانت الجهلة منهم كانوا يقولون: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال: 32]، وقيل: الآيات إشارة إلى الأدلة، ونبه أنه يقتصر معهم على الأدلة ويصانون عن العذاب الذي يستعجلونه. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش)، الجوهري: العريش: ما يُستظل به. روينا في "صحيح البخاري"، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تُعبد اليوم"، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، فقال: حسبُك.

بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول: «اللهم إني أسألك عهدك ووعدك» ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول (سيهزم الجمع ويولون الدبر) ولعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه، فقد كان يقول حين ورد ماء بدر «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر يوم بدر وما أرى في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء وحين سمعوا بقوله: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) [الدخان: 43 - 44] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو يومئ إلى الأرض، ويقول: هذا مصرع فلان). روى مسلمٌ وأبو داود، عن أنسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرعُ فلان"، ويضعُ يده على الأرض هاهنا وهاهنا. قال: فما ماط ادهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماط، أي: بعُدَ وذهب. قوله: (فتسامعت)، هو متصلٌ بقوله: "ولعل الله" وما عُطف عليه من قوله: "وحين تزاحف الفريقان" بدليل قوله من أمر بدرٍ، وما أُري في منامه، والمعطوف والمعطوف عليه تفسيران لقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)، ولقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ)، "وجعلوها سخرية": عاملُ" حين سمعوا"، وهو تأويل لقوله: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ). وأما قوله: "حين تزاحف"، فظرفٌ لقوله: "يدعو ويقولُ"، كما أن قوله: "حين ورد ماء بدر": ظرفُ "يقول"، أي: كان يدعو ويقول حين تزاحف الفريقان: اللهم إني أسألك، وقد كان حين ورد ماء بدر: والله لكأني انظرُ، وإنما جمع المعنيين في قرانٍ واحدٍ وأفرز الثالث لاتحاد قصتهما واختلاف الثالث، فقوله: "وحين سمعوا" عطفٌ على جملة قوله: "حين تزاحف الفريقان" مع ما عُطف عليه، وهو قوله: "ولعل الله"، ثم إنه لخص المعاني الثلاث في قوله: "والمعنى أن الآيات إنما نُرسل بها تخويفاً للعباد" إلى آخره.

جعلوها سخرية وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر. وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وما أنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار! فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل، إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار. وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها، فما أنكروا أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى: أنّ الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. فما كان ما أَرَيْناكَ منه في منامك بعد الوحي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما قدر الله حق قدره من قال ذلك)، "مَن": فاعلُ "قدروا". الانتصاف: العمدة في ذلك أن النار لا تؤثر إحراقاً، إلا أن الله تعالى أجرى العادة أن يخلُقَ الإحراق عقيب ملاقاتها بعض الأجسام. قوله: (وما أنكروا)، قيل: "ما" يجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعولٌ مطلق، أي: أي إنكار أنكروا؟ و"ما" استفهامية إنكارية. ويجوز أن تكون شرطية، والجزاء قوله: "فهذا وبرُ السمندل"، على طريق الإخبار والإنكار لقوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) [النحل: 53]، والمعنى متصلٌ بقوله: "ثم أقربُ من ذلك" أي: أقرب مما ذكرنا، أنه خلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها، وهم يشاهدونها، فأي إنكارٍ أنكروا هذا؟ قوله: (في كل شجرة ناراً)، وفي المثل: في كل شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار، شبههما بمن يُكثر العطاء طلباً للمجد؛ لأنهم يُسرعان الوري، خلاف سائر الأشجار.

إليك إِلَّا فِتْنَةً لهم حيث اتخذوه سخريا وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم، ثم قال فيهم (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي نخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فَما (يَزِيدُهُمْ) التخويف إِلَّا (طُغْيانًا كَبِيرًا) فكيف يخاف قوم هذه خالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات. وقيل: الرؤيا هي الإسراء، وبه تعلق من يقول: كان الإسراء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخوفوا بعذاب الآخرة): عطفٌ على قوله: "وقد خوفوا بعذاب الدنيا". والفاء في: "فما أثر فيهم" هي الفاء في قوله تعالى: (فَمَا يَزِيدُهُمْ)، والتخويف بعذاب الدنيا حصل من شيئين: من الوحي بإحاطة الناس، ومن الرؤيا التي أراها في مصارع القوم، والتخويف بعذاب الآخرة حصل من إنزال شجرة الزقوم في القرآن، ولذلك جعل المصنف عطف قوله: (وَمَا جَعَلْنَا) على (وَإِذْ قُلْنَا) بمنزلة شيء واحد، وأتى بالفاء، حيث قال: "فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحي إليك (إِلاَّ فِتْنَةً) ". قوله: (فكيف يُجاب قومٌ) بالجيم والباء، وفي أكثر النسخ: "يخاف"، بالخاء والفاء، وفيه إيماءٌ إلى اتصال قوله تعالى: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) بقوله: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ)، يعني: ما تركنا إرسال تلك الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً وإحياء الموتى وغيرها إلا لنزول عذاب الاستئصال، وقد عزمنا تأخير أمرهم. ثم قال: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) أي: وما نُرسل بآيات القرآن إلا تخويفاً وإنذاراً مما نزل بالأولين كعاد وثمود وفرعون من الاستئصال بسبب اقتراحهم على أنبيائهم لينزجروا ويعتبروا وتخويفاً مما حل بهؤلاء يوم بدر، وما يحل بهم يوم القيامة من أكل الشجرة الملعونة ليتعظوا، فما يزيدهم كل ذلك إلا طغياناً، فإذا كان الأمر على هذا فكيف يُجابوا إلى ما اقترحوا بإرسال الآيات، فوضع موضع ضمير يُجابوا قومٌ هذه حالهم، إيذاناً بأنهم قوم معاندة مكابرة، أو يقال: كيف يجابون بإرسال ما يقترحون من الآيات، وإنها كالطليعة المقدمة لعذاب الآجل، وقد خوفوا هذه التخويفات فما اتعظوا والله أعلم.

في المنام، ومن قال: كان في اليقظة، فسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له: لعلها رؤيا، رأيتها، وخيال خيل إليك، استبعادًا منهم، كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة، نحو قوله: (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات: 91]، (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل: 27]، (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان: 49] وقيل: هي رؤياه أنه سيدخل مكة. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة. فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن قال: كان في اليقظة، فسر الرؤيا بالرؤية)، يعني: على الأصل، قال المصنف في سورة يوسف: والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان فيها في المنام دون اليقظة. وفرق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل: القربة والقُربى، مثله استعمال الوعْدِ والوعيد. وروينا عن البخاري وأحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال: "هي رؤيا عينٍ أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى بيت المقدس". قوله: (وقيل: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين)، يعني: على زعمهم والتهكم بهم، ويُمكن أن يكون هاهنا من باب المشاكلة. قوله: (كما سمي أشياء بأساميها عند الكفرة)، سمي أصنامهم بالآلهة والشركاء في الآيتين، وأنفسهم بالعزيز الكريم في الآخرة على زعمهم، وكما هو عندهم. قوله: (فراغ)، الجوهري: راغ إلى كذا، أي: مال إليه سراً، (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات: 93]، أي: أقبل. قال الفراء مال عليهم. قوله: (رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره). الحكم هو ابن العاص بن أمية بن

لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة، لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل: وصفها الله باللعن، لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل: تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وسألت بعضهم فقال: نعم الطعام الملعون القشب الممحوق. وعن ابن عباس: هي الكشوث التي تتلوى بالشجر يجعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد شمس بن عبد منافٍ، وولده الذين ملكوا بعد معاوية: يزيدُ بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أولهم: مروان بن الحكم، ثم عبد الملك ابنه، ثم ابنه الوليد، ثم أخوه سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد بن عبد الملك، ثم إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، وآخرُهم مروان بن محمد الحمار. قوله: (لُعنت حيث لُعن طاعموها من الكفرة)، أي: أي موضع من القرآن وُجدت فيه لعنة الكافرين، فهي ملعونة هناك؛ لأن المراد بالشجرة الملعونة أن طاعمها ملعونٌ؛ لأن الشجرة لا ذنب لها. قوله: (وسألتُ بعضهم) عن صحة نقل المعنى، فقلت: هل تُسمى العرب كل طعام مكروه ملعوناً؟ قال: نعم. وزاد في الجواب أن الطعام الملعون هو المذموم الذي لا خير فيه. قوله: (القشب الممحوق)، الفائق: القشب: القذر، والقشبُ: الذي خالطه قذر، قيل: القشب أيضاً: السم، والجمع أقشابٌ، وقشبه أيضاً: إذا ذكره بسوء. قوله: (الممحوق): محقه يمحقه محقاً، أي: أبطله ومحاه، والكشوث: نبتٌ يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرقٍ في الأرض.

في الشراب. وقيل: أبو جهل. وقرئ: والشجرة الملعونة بالرفع، على أنها مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. [(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا* قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا* قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا)]. (طِينًا) حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على: أأسجد له وهو طين، أى أصله طين. أو من الراجع إليه من الصلة على: أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا (أَرَأَيْتَكَ) الكاف للخطاب. وهذَا مفعول به. والمعنى: أخبرنى عن هذا (الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي فضلته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي الشيطانُ)، أي: الشجرة الملعونة. الانتصاف: يُبعده قوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات: 65]، وقوله: (فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا) [الصافات: 66]. قلت: هو القائل لم يذهب إلى أن هذه الشجرة المذكورة هنا على هذا التأويل هي شجرة الزقوم بل ذهب إلى المجاز وسمي الشيطان بالشجرة وأن الله تعالى لعنه في كتابه المجيد في غير موضع. قوله: (أو من الراجع)، والفرق أنه إذا كان حالاً من المفعول يكون قيداً لـ"أسجد"، وإذا كان حالاً من الراجع، كان قيداً لـ (خَلَقْتُ) فيختلف التقديران، والأول أبلغُ؛ لأنه من باب المجاز باعتبار ما كان، أي: أسجد للطين، والطين لا يسجد له. والمعنى على الثاني: أأسجدُ لمن كان في وقت خلقه طيناً، أي: أصله طين.

لم كرمته علي وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) واللام موطئة للقسم المحذوف (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) لأستأصلتهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم كرمته عليَّ وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك)، أي: السؤال عن العلة، ويمكن أن يُقال: إن اللعين لما أنكر أن يسجد له تحقيراً لشأنه، وجعلُه طيناً مشاهداً ترقى منه إلى أبلغ، أي: أخبرني عن حال هذا المشاهد المحسوس المكون من الطين والصلصال كالفخار، المجبول بالشهوات، أي: كيف يرتفع عليَّ وأنا أقهره بالوساوس، وأجعله مطواعاً لي، سيما ذريته، فأستأصلهم إغواء؟ ومن ثم أتى بالجملة المؤكدة بلام القسم في قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ)، ولفظة "هذا" مثلُها في قوله: تقول ووقت نحرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس ويؤيده قول الإمام: (هذا): مبتدأ محذوفٌ عنه حرف الاستفهام، و"الذي" مع صلته: الخبر، أي: أخبرني: أهذا الذي كرمته عليَّ؟ وذلك على وجه الاستصغار، وإنما حذف الاستفهام؛ لأن حصوله في قوله: (أَرَأَيْتَكُ) أغنى عن تكراره. قوله: (وهو من الحنك). الراغب: الحنكُ: حنك الإنسان والدابة، وقيل لمنقار الغُراب: حنكٌ، لكونه كالحنك من الإنسان، وقيل: أسود مثل حنك الغراب، وحلك الغراب، فحنكه: منقاره، وحلكه: سواء ريشه. وقوله: (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) يجوزُ أن يكون من: حنكتُ الدابة: أصبتُ حنكها باللجام والرسن، فيكون كقولك: لألجمن فلاناً ولأرسنَنَّه، ويجوز أن يكون من قولهم: احتنك الجراد الأرض، أي: استولى بحنكه عليها،

ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي أكلهما. فإن قلت: من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت: إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها) [البقرة: 30]، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهوانى. وقيل: قال ذلك لما علمت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة اذْهَبْ ليس من الذهاب للذي هو نقيض المجيء، إنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) كما قال موسى عليه السلام للسامري (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) [طه: 97] فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأكلها واستأصلها، فيكون المعنى: استولى عليهم استيلاءه على ذلك، وفلانٌ حنكه الدهر، كقولك: نجذه وقرع سنه وافتره، ونحو ذلك من الاستعارات في التجربة. قوله: (والظاهر أنه قال ذلك)، أي: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي)، إلى آخره، داخلٌ في حيز القول، فيكون صدور هذا القول بعد الإباء عن السجود، ومكان الوسوسة الجنة، وهو مختلفٌ عن هذا بزمان، أي: هذا القول مردودٌ. قوله: (كما قال موسى عليه السلام للسامري)، يعني: كما رتب موسى عليه السلام على قوله: (فَاذْهَبْ) قوله: (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ) [طه: 97] للإيذان بأن المراد من الأمر الخذلان، لتعقبه بالعقاب، كذلك هاهنا، فقوله: "وعقبه" عطفٌ على محذوف، وهو معللٌ لقوله: "خذلاناً وتخليةً"، وقوله: (فَمَنْ تَبِعَكَ) ظرف لقوله: "تذكرة له"، أي: قال الله تعالى لإبليس: امض لشأنك خذلاناً وتخلية، وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره، حتى يقال في حقه: (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ).

ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: (جزاؤكم). ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب (جَزاءً مَوْفُوراً) بما (في فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال، لأنّ الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال: فر لصاحبك عرضه فرة. استفزّه: استخفه. والفز: الخفيف (وَأَجْلِبْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الجزاء موصوفٌ بالموفور)، هذا تصحيح وقوع الجزاء حالاً، وهو كقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2]، وقيل: التقدير: ذوي جزاء موفور، فيكون حالاً من الضمير في "تجازون"، وهو معنى جزاؤكم، وإلا فالعامل مفقودٌ، والأظهر أنه حالٌ مؤكدة، كقولك: زيدٌ حاتمٌ جُوداً. قال أبو البقاء: هو حالٌ موطئة. وقيل: هو تمييز. قوله: (فر لصاحب عرضه)، مثله في قول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره، ومن لا يتق الشتم يُشتم قال الزوزني: وفرتُ الشيء وفرة ووفراً: أكثرته، ووفرته وفوراً، تقول: ومن يجعل معروفه ذاباً عن عرضه وفر مكارمه. الراغب: الوفر: المال التام. يقال: وفرتُ كذا: تممته، أفرهُ وفراً ووفوراً ووفرةً، ووفرتُه: على التكثير، والوفرة: الشعر الوافر، ومزادة وفراءُ، وسقاءٌ أوفرُ: لم ينقص من أديمها شيءٌ، ورأيت فلاناً ذا وفارة وفرةً، أي: تام المروءة والعقل. قوله: (والفزُّ: الخفيف). الراغب: قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)

من الجلبة وهي الصياح. والخيل: الخيالة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا خيل الله اركبي). والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره: الركب والصحب. وقرئ: (ورجلك)، على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الإسراء: 64] أي: أزعج، وفزني فلانٌ: أزعجني، والفزُّ: ولدُ البقرة، سُمي به لما تُصور فيه من الخفة، كما سُمي عجلاً لما فيه من العجلة. قوله: (من الجلبة، وهي الصياح). الراغب: أجلبتُ عليه: صحتُ عليه بقهرٍ. قوله: (ياخيل الله اركبي)، النهاية: أي: يا أصحاب خيل الله. قوله: (وقرئ: (وَرَجِلِكَ)). قرأ حفص: بكسر الجيم، والباقون: بإسكانها قال ابن جني: رويناها عن قُطرُب، عن أبي عبد الرحمن، وقال: الرجِلُ: والرجال، وعليه قراءة عكرمة وقتادة: "رجالك"، ويقالُ: رجل: جمع راجل، [تاجر وتجرٍ، وهذا عند سيبويه اسم للجمع غير مكسر بمنزلة الباقر. الراغب: الرجُلُ يختص بالذكر من الناس، ويقالُ رجُلَةُ للمرأة إذا كانت متشبهة بالرجل في بعض أحوالها، وفلانٌ أرجلُ الرجلين، واشتق من الرجل رجلٌ] وراجلٌ للماشي بالرجل بين الرُّجلة، فجمع الراجل رجالةٌ ورجلٌ نحو ركب، ورجالٌ نحو: ركاب لجمع الراكب، ويقالُ: رجلٌ راجل، أي: قويٌّ على المشين وجمعه رجالٌ، نحو قوله: (فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) [البقرة: 239]، وكذا رجيلٌ ورجلةٌ. والأرجلُ: الأبيض الرجل من الفرس، والعظيم الرجلِ، واستعير الرجلُ للقطعة من الجراد ولزمان الإنسان، يقال: كان

أن فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب وتاعب. ومعناه: وجمعك الرجل، وتضم جيمه أيضا، فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس، وأخوات لهما. يقال: رجل رجل. وقرئ: (ورجالك) (ورجالك). فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك على رجل فلان، كقولك: على رأس فلان، وترجلَ الرجلُ: نزل عن دابته، وترجلَ النهارُ: انحطت الشمسُ عن الحيطان، كأنها ترجلتْ، ورجل شعره، كأنه أنزله إلى حيث الرجلُ، والمرجلُ: القدرُ المنصوب، وأرجلتُ الفصيل: أرسلته مع أمه، كأنما جعلتَ له بذلك رجلاً. قوله: (حدث): أي: حسنُ الحديثُ والندسُ: الفطن. قوله: (ورد مورد التمثيل)، وهو على وجهين: أحدهما: التمثيل المحض بأن مُثلتْ حالُ الشيطان في تسلطه وإغوائه من غير تصور استفزاز وصوتٍ وخيلٍ ورجلٍ بحالة مغوارٍ مقدرة فيها هذه المذكورات، فاستعمل في تلك الحال ما يستعمل في هذه، نحوه قوله تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67]. وثانيهما: التمثيل غير المحض، وذلك بأن يتصور له استفزاز وصوت ورجلٌ وخيل مجازي، كما قال: "بدعائه إلى الشر"، ورجله: كل راكب وماشٍ من أهل العبث. قوله: (بمغوار). الجوهري: رجلٌ مغوارٌ ومغاورٌ، أي: مقاتل، وقومٌ مغاوير، وخيلٌ مُغيرة.

مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر. وخيله ورجله: كلّ راكب وماش من أهل العيث. وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك (وَعِدْهُمْ) المواعيد الكاذبة، من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمما، وإيثار العاجل على الآجل إِنَّ عِبادِي يريد الصالحين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أى لا تقدر أن تغويهم (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغويا مضلا، داعيا إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها والاتكال على الرحمة وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبائر)، الانتصاف: "وعد الله المغفرة وعلقها بالمشيئة من غير توبة، وجعلها الزمخشري من وعد الشيطان، وكذلك جعل وعد الصادق المصدوق بالشفاعة من مواعيد الشيطان، وأقل عقوبته في ذلك حرمانها". قوله: (ونحوه قوله: (إِلاَّ عِبَادَكَ))، أي: نحو قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء: 65]. قوله: ((إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ))؛ لأن من كفاه مالك اللعين والقادر عليه وكيلاً، لا يكون إلا عبداً مكرماً مخلصاً.

الشر، صادّا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: (اعملوا ما شئتم)] فصلت: 40 [. [(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)]. (يُزْجِي) يجرى ويسبر. والضرّ: خوف الغرق (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين. ويجوز أن يراد: ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده على الاستثناء المنقطع. [(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)]. (أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض. فإن قلت: بم انتصب جانِبَ الْبَرِّ؟ قلت: بيخسف مفعولا به، كالأرض في قوله فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص: 81]. و (بِكُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الاستثناء المنقطع)، أي: على الوجه الأخير، ويُفهم أنه على الأول والثاني متصل، أما على الأول فـ" (ضَلَّ) مضمن لمعنى "ذهب"، وفاعله الذكر، أي: ذهب عن اوهامكم ذكرُ كل من تدعونه إلا ذكر الله، يدل عليه قوله: "لا يذكرون سواه"، وعلى الثاني: "ضَلَّ" مُجرى على حقيقته، ولذلك قال: أولم يهتد لإنقاذكم؟

حال. والمعنى: أن يخسف جانب البر، أى يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت. فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهي الريح التي تحصب أي ترمى بالحصباء، يعني: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر (وَكِيلًا) من يتوكل بصرف ذلك عنكم (أَمْ أَمِنْتُمْ) أن يقوّى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما معنى ذكر الجانب؟ ). دلت الفاء في السؤال على السببية، يعني: ذكرت أن (جَانِبَ الْبَرِّ): مفعولٌ به، كـ (الأَرْضِ) في قوله: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) [القصص: 81]، فما معنى زيادة الجانب في هذه الآية؟ وأجاب عنه: أن الزيادة دلت على أن الكلام في هذا المقام في الجانب، وأن جانبي البر والبحر سيان تحت قهره وسلطانه سبحانه وتعالى، وذلك أنهم قطعوا أن الهلاك مختص بجانب البحر، وأن جانب البر مكان المن ومنزلُ الرفاهية ومهبط البطر والأشر، دل على ذلك فِعلُهم: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65]. قوله: (أن يُقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم)، إعلام بأن "أمْ" في قوله: (أَمْ أَمِنتُمْ) منقطعة، والهمزة فيها للإنكار والتوبيخ، ويؤيده تقديره "نجوتُم" بعد الهمزة، وعطفُ (أَمِنتُمْ) عليه في القرينة الأولى، يعني: هبوا أنكم تخلصتم من الغرق في البحر، فكيف تتخلصون من الخسف في البر؟ ثم أضرب عنه، أي: دعوا الخسف، بل كيف تأمنون أن الله يقوي دواعيكم فتورث البخل الخالع والحرص الهالع، فتعودون إلى ما نجوتم منه فيغرقكم به. وفي تذييل كل من الآيتين معنى الترقي؛ ذُيلت الأولى بقوله: (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ

فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل عَلَيْكُمْ (قاصِفاً) وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أي تتكسر. وقيل: التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته (فَيُغْرِقَكُمْ) وقرئ بالتاء، أي الريح. وبالنون، وكذلك: (نخسف)، (ونرسل)، (ونعيدكم). قرئت بالياء والنون. التبيع: المطالب، من قوله (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ)] البقرة: 178 [أي مطالبة. قال الشماخ: كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..... وَكِيلاً)، أي: من يتوكل بصرف ذلك عنكم؟ والثانية بقوله: (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً) أي: مطالبنا يُطالبنا بما فعلنا دركاً للثأر؛ لأن طلب الثأر بعد الهلاك والتوكل قبله. قوله: (فأعرضتم فينتقم منكم، بأن يُرسل) الفاء في "فأعرضتم" عاطفةٌ عقبت "نجاكم" بـ"أعرضتُم"؛ وفي "فينتقم" مؤذنة بأن الفاء في قوله تعالى: (فَيُرْسِلَ) فصيحةٌ مقتضية لتقرير "فينتقم"؛ لأن مجرد إعادتهم في البحر ليس موجباً لإرسال ما يُغرقهم، بل سببٌ ذلك إرادةٌ الانتقام من الإعراض السابق بواسطة الريح القاصف. قوله: ((فَيُغْرِقَكُمْ)، وقرئ بالتاء): ابن كثير وأبو عمرو: بالنون، والباقون: بالياء التحتانية، وبالتاء: شاذة، وعلى هذا (نُعِيدُكُمْ). قوله: (كما لاذ الغريم من التبيع)، لاذ: أي التجأ. الأساس: ما وجدت لي على فلان تبيعاً، أي: متابعاً ناصراً لي عليه.

يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أي مسيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله (وَلا يَخافُ عُقْباها)] الشمس: 15 [(بِما كَفَرْتُمْ): بكفرانكم النعمة، يريد: إعراضهم حين نجاهم. [(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)]. قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم. وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم. وعن الرشيد: أنه أحضر طعاما فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) هو ما سوى الملائكة، وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا نحو قوله: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس: 15]، أي لايخاف الله عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقبٍ من الملوك فيُبقي بعض الإبقاء. قوله: (وحسبُ بني آدم تفضيلا)، يعني: دل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) على كرامتهم، ويكفيهم من هذه الكرامة أن يكونوا دون الملائكة فيها ونازلين عن منزلة الذين هم المشهورون الكاملون وبقرب من الله معروفون، أو يكونوا مفضلين على غيرهم، كما تقول: يكفيك من الشرف أن تكون ثاني الأمير في المنزلة. قوله: (وهُم هُم)، وقوله: "ومنزلتُهم منزلتهم"، مثلُ قول أبي النجم:

منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرّهم فرط التعصب عليهم إلى أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنا أبو النجم وشعري شعري أي: أنا ذلك المشهور الموصوف بالكمال، وشعري هو الموصوف المشهور بالبلاغة. قوله: (وتكثيره مع التعظيم ذكرهم)، أي: تكثير الله ذكرهم مع التعظيم في كتابه، "مع التعظيم" حالٌ من الفاعل والمفعول. قال صاحب "التقريب": ولقد تشنع هاهنا حتى أفحش، فالقول بتفضيل الملك احد قولي أهل السنة، ومذهب ابن عباس واختيار الزجاج، وأيضاً غايته التمسك بالمفهوم، وهو أن تخصيص الكثير يدل على أن القليل يضاد ذلك، واختلف في كونه حجة على أبي حنيفة رضي الله عنه يقول بالمفهوم، ثم المفهوم إنما يدل على أنه ليس مفضلاً على القليل، ولا يلزم منه مذهبه، وهو تفضيل القليل، فقد يستويان، ثم ليحتمل أن يُراد بـ (كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا): الملائكة، إذ هم كثيرٌ من العقلاء المخلوقين، فيكون بنو آدم أفضل منهم. وعلى الجملة فذلك التشنيع شنيع.

لفقوا أقوالا وأخبارا منها؛ قالت الملائكة: ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ورووا عن أبى هريرة أنه قال: لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا كثِيراً) بمعنى «جميع» في هذه الآية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون) الحديث، نحوه رواه محيي السنة في "المصابيح"، وفي "المعالم": وروى شيخي في "المعتمد"، والبيهقي في "شُعب الإيمان"، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. قال الله تعالى: لا أجعلُ من خلقته بيدي ونفخت فيه من رُوحي كمن قلت له: كن، فكان". وأما الحديث الآخر فقد رواه ابن ماجه، عن أبي هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته". قوله: (فسروا "كثيراً" بمعنى: جميع) قال محيي السنة: وظاهر الآية أنه فضلهم على

وخذلوا حتى سلبوا الذوق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كثير ممن خلقه، لا على الكل، وقال قومٌ: فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم، وقد يوضع الأكثر موضع الكل، كما قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) إلى قوله: (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) [الشعراء: 221 - 223]، وفسر المصنف في قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً) [يونس: 36] الأكثر: بالجميع. قوله: (سبوا الذوق)، أراد بالذوق: ما تجده نفس الفطن الذكي من التفاوت بين اللفظين، ووضع جميع موضع كثير، فإن هذا التركيب من باب تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات للدلالة على نفي الحكم عما عداه، ومعناه: أنه حصل في المخلوقات ما لا يكون الإنسان أفضل منه، وهم الملائكة، وهذا تقدير الإمام، وإلا فأي فائدة في العدول من لفظ الكل والجميع إليه؟ ونحوه ما رُوي عن أبي عبيدة - وهو من علماء العربية- أنه قال في مثل قولهم: الميتُ اليهودي لا يُبصر، أنه يتبادر منه إلى الفهم أن الميت المسلم يبصر، ولذلك يتعجب ويضحك منه كل أحد، وألا لم يكن لذلك الضحك والتعجب وجه. ولعل إحالته إلى الذوق تعريض بأصحابه الذين منعوا القول بالمفهوم، فنقول: الظاهر أن المفضل عليه كثيرٌ، و (مِمَّنْ خَلَقْنَا): بيان له، وفي الحقيقة بالعكس على ما سبق في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [يونس: 27]، قال: عامل (مُظْلِماً)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... (أُغْشِيَتْ) من قبل أن (مِنْ اللَّيْلِ): صفة لقوله: (قِطَعاً)، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. وحققه شيخي المغفور [له] أمين الدين الشرفشاهي بأن قال: إن نسبة (أُغْشِيَتْ) إلى (قِطَعاً) إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل، لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها، وإنما ذُكرت لبيان مقدار ما أغشيت به، وهو الليل، كما إذا قيل: اشتريت أرطالاً من الزيت، فإن المشترى الزيت، والأرطال مبينة لمقدار ما اشترى، وهاهنا المفضل عليه ممن (خَلَقْنَا) و (كَثِيرٍ) مبينٌ لمقدار كميته، وعليه قولك: رأيت أسداً منك، على التجريد، فإن المرئي المخاطب، والأسد: لبيان كيفية حال المرئي من الجرأة والشجاعة، ولا شك أن (مِمَّنْ خَلَقْنَا) متناولٌ لمن يعقلُ من المخلوقات، وهو منحصر في الملائكة والثقلين، وخرج منه بنو آدم؛ لأن الشيء لا يُفضل على نفسه، فيبقى الملائكة والجن. فظهر أن فائدة استجلاب الوصف ليس إلا لبيان كمية المفضل عليه الذي يقتضيه مقام المدح للمفضل، فلا يحمل على المفهوم، نحو: "في سائمة الغنم زكاة"، إذ لا فائدة فيه للوصف سوى التخصيص. وأما كونُ المقام مقام مدحٍ فإن الآية أُخرجت مخرج القسيمة، وكرر فيها ما يُنبئ عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي، كأنه قيل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) برامة أبيهم، ثم سخرنا لهم الأشياء (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ)، ثم فضلناهم تفضيلاً أي تفضيل، ولهذا عقب بها قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)، وهو لبيان كرامة أبيهم، بجعل سُجود الملائكة المقربين بعد ذكرهم فيه (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) [البقرة: 30] ن ومن ثم طُرد اللعين حيثُ قاس الفضل بالعقل وامتنع عن السجود

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... الذي يدُل على فضله وكرامته، وما توسطت بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض يدل عليه الاتفاق بين قوله: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ)، وقوله: (رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [الإسراء: 66] كما بين هذه الكرامة والكرامة بالسجود. ويعضده الحديث المروي عن جابر كما مر. هذا على أن يكون (مِن) بياناً، وإذا جُعل تبعيضاً كان (مِمَّنْ خَلَقْنَا): بدلاً، أي: فضلناهم على بعض المخلوقين، وذكرُ البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه، كما سبق في قوله تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [الأنعام: 165]، وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية، إذ جُعلوا مفضلين على الشياطين والجن؟ على أن صفة الكثرة، إذا جُعلت مخصصة لإخراج البعض، كانت بالملائكة أولى من الجن والشياطين؛ لأنهم هم الموصوفون بالكثرة، وإليه ينظرُ قول صاحب "التقريب". ثم يحتمل أن يُراد بـ (كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا): الملائكة، إذ هم كثيرٌ من العقلاء المخلوقين. روينا عن الترمذي، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، أطتِ السماء وحُق لها أن تئط، ما فيها موضعُ أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته لله ساجداً"، الحديث. وذكر شيخُنا شيخُ الإسلام في كتاب "الرشف"، أنه ورد أن البيت المعمور يطوفُ به كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وورد أن كل قطرةٍ تنزلُ منَ

فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم «على جميع ممن خلقنا» أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأنّ جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السحاب إلى الأرض يصحبها ثلاثة أملاكن فظهر أن ليس المراد من قولنا: "فُضلوا على الجميع"، أنه وضع "الكثير" موضع "الجميع" في التلاوة ليلزم البشاعة التي ذكرها، بل الجميع لازم المعنى. وأما قوله: (أشجى لحلوقهم) فلعل مراده أنهم إنما فروا من دلالة المفهوم وفسروا "الكثير" بـ"الجميع" لئلا يلزم فضلُ الملائكة عليهم، لكن لزمهم من هذا ما هو أفظع منه، وهو فضل الحدادين والحياكين، بل الكافرين، على النفوس الطاهرة الزكية. وأجيب عنه: أنه كما لا يلزم من قولنا: "الرجال أفضل من النساء" فضلُ كل فردٍ على كل فرد، كذلك لا يلزم ذلك. وفي حديث أبي هريرة: "المؤمن أكرمُ على الله من بعض الملائكة"، إشارة إلى تفضيل الآية، وحديث جابر، وهو ما قيل: خواص الإنسان مثل الأنبياء أفضلُ من خواصهم، وبعضُ عوام الإنسان من المؤمنين أفضل من عوامهم، والله أعلم. قوله: (السخيمة)، أي: الضغينة والموجدة في النفس. قاله الجوهري.

[(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)]. قرئ) نَدْعُوا)، بالياء والنون. (ويدعى كل أناس)، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: يدعوا كل أناس، على قلب الألف واوا في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)] الأنبياء: 3 [والرفع مقدّر كما في: (يدعى)] الصف: 7 [، ولم يؤت بالنون، قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة ب (ِإِمامِهِمْ) بمن ائتموا به من نبي أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن: بكتابهم. ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع (أمّ)، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (نَدْعُوَا)، بالياء والنون) بالنون: السبعة، وبالياء: شاذ. قوله: (وقرأ الحسن: "يُدعَو")، أي: بضم الياء وفتح العين، قال ابن جني: هذا على لغة من أبدل الألف في الوصل واواً، نحو: "أفعو" و"حُبلو"، ذكر ذلك سيبويه، وأكثر هذا القلب إنما هو في الوقف؛ لأن الوقف من مواضع التغيير، وهو أيضاً في الوصل محكي على حاله في الوقف. ومنهم من يبدلها ياء. قوله: (ولم يؤت بالنون؛ قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير). قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ، لأنها علامة الرفع، ولا موجب لحذفها. قوله: (ومن بدع التفاسير: أن "الإمام" جمعُ "أمُ")، روى محيي السُّنة، عن محمد بن كعب (بِإِمَامِهِمْ): الإمامُ: جمعُ أمٍّ، كخُف وخفافٍ، وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة، أحدها:

عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ (فَمَنْ أُوتِيَ) من هؤلاء المدعوّين (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع. فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت: بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أما التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأجل عيسى عليه السلام، والثاني: لشرف الحسن والحسين، والثالث: لئلا يُفتضح أولادُ الزنى. الانتصاف: وأما بدع لفظه، فإن جمع الأم المعروف: أمهات، وأما رعاية عيسى بذكر أمهات الخلائق لذكر أمه، فيوهم أن خلق عيسى من غير أب غضٌّ من منصبه، وهو عكس الحقيقة، بل ذلك ذكرٌ له وشرف. قوله: (ما يأخذ المُطالب)، وهو بفتح اللام، وفاعل "يأخذ" ضميرٌ يرجع إلى "ما"، و"مِن" في "مَن الحياء" بيانُ "ما" الثانية، والباء في "بالنداء" سببية متعلقة بـ"يأخذ"، و"أمام التنكيل" ظرفُ "يأخذُ"، المعنى: يأخذهم الخجل والانخزال وحبسة اللسان أخذاً مثل أخذ من طولب بجناياته ومساوئه وأوقف بين يدي جبار من الجبابرة، فيأخذه الحياء والخجل والحبسة بسبب النداء على جناياته، وبسبب اعترافه بمساوئه، والحال أنه مشاهد لتهيؤ أسباب نكاله وهلاكه.

اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة: 19]. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، كقوله (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً)، (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه: 112]. [(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)]. معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل مما لا، والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء)، الراغب: الفتيل: المفتول، وسُمي ما يكون في شق النواة فتيلاً لكونه على هيئته، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ، ويُضرب به المثل في الشيء الحقير. قوله: (ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالاً، والثاني مفخماً)، قال الزجاج: (فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) وهذا من عمى القلب، أي: هو في الآخرة أشد عمى. وقال أبو علي في "الحجة": وأما قراءة أبي عمرو: (أَعْمَى) الأول ممالاً والثاني مفخماً، فإنه يجوز أن لا يجعل الثاني عبارة عن العيوب في الجارحة، ولكنه جعله من

الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة. [(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باب: أبله من فلان، فجاز أن يكون فيه: أفعَل من كذا، وإن لم يُجز أن يُقال ذلك في المصاب ببصره، فإذا جعله كذلك لم يقع الألف في آخر الكلمة؛ لأن آخرها هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة في الأواخر، وقد حُذف من أفعل الذي هو للتفضيل، الجار والمجرور، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7]، أي: أخفى من السر، كذلك قوله: (أَعْمَى)، أي: أعمى منه في الدنيا، ومعنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب، ويؤكد لك ظاهر ما عُطف عليه من قوله: (وَأَضَلُّ سَبِيلاً)، فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل، كذلك المعطوف عليه، ومعنى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) في الآخرة أن ضلاله في الدنيا قد كان يُمكن الخروجُ منه، وضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه. قال صاحب "الانتصاف": هذه الآية قسيمةٌ، لقوله: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) [الإسراء: 71]، فهو يتبصره ويقرؤه، ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة غير متبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى على اختلاف التأويلين، فعلى هذا لا يكون قول المصنف: "لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم متوجها؟ ". وقال القاضي: وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع على ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) أيضاً مُشعرٌ بذلك، فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب.

لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)]. روى أنّ ثقيفاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا نجبى في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرني به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف: لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا نُعشر، ولا نحشر، ولا نجبي)، النهاية: في الحديث: "أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يُحشروا ولا يُعشروا ولا يُجبوا"، أي: لا يؤخذ عُشر أموالهم. وقيل: أرادوا به الصدقة الواجبة، وإنما فسح لهم في تركها لأنها لم تكن واجبة يومئذ عليهم، وإنما تجب بتمام الحول، وسُئل جابر عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليهم، ولا جهاد، فقال: علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا وقال: يجوز أن يُسمى آخذُ ما يجب على المسلمين من ربع العُشر: عاشراً، لإضافة ما يأخذه إلى العشر ونصف العشر، كيف وهو يأخذ العشر جميعه، وهو زكاة ما سقته السماء؟ وقوله: "ولا يُحشروا"، أي: لا يندبوا إلى المغازي ولا تُضرب عليهم البعوث. قوله: (ولا نُجبي)، النهاية: أصل التجبية: أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود، والمراد: لا يُصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع، لقوله في جوابهم "لاخير في دين ليس فيه ركوع"، فسمى الصلاة ركوعاً، لأنه بعضها.

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمدا فنزلت. وروى أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا) لتقول علينا ما لم نقل، يعنى ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ) أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك (خَلِيلًا) ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا (لقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لسنا نُكلمُ إياك)، بالياء تحتها نقطتان، ويروى: "أباك"، بالباء الموحدة، أي: لسنا نُكلم أباك حتى تتعصب لهن ولعل وجه فصل الضمير المنصوب للإبهام والتبيين تأكيداً، ولذلك قالوا: إنما نكلمُ محمداً. قوله: (أي: يخدعوك فاتنين)، إشارة إلى أن قوله: (لَيَفْتِنُونَكَ)، مضمن معنى الخداع ومُعدى تعديته. قوله: (ما أداروه عليه)، أي: على الافتراء والتقول، والضمير في "عليه": لـ"ما"، والمنصوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. و"ما" عبارةٌ عن الافتراء والتقول، أي: أداروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الافتراء. الأساس: ومن المجاز: أدرته على هذا الأمر: حاولتُ منه أن يفعله، وأدرته عنه: حاولت منه أن يتركه.

(إِذاً) لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف. ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل: (ضعف الحياة وضعف الممات)، كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة: عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار. والمعنى: لضاعفنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إذاً)، لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة (لأَذَقْنَاكَ))، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه. قوله: (ويجوز أن يُراد بضعف الحياة: عذاب الحياة الدنيا)، الفرق بين هذا الوجه والوجه الأول بعد إجراء الضعف على المضاعفة أن عذاب الممات في الأول عذاب القبر، وعذاب الحياة في الآخرة وهنا المراد بعذاب الممات عذاب القبر، وبعذاب الحياة: عذابُ الحياة الدنيا"، قال القاضي: أي: عذبناك ضعف ما نُعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك؛ لأن خطأ الخطير أخطر. وقيل: الضعفُ من أسماء العذاب. الراغب: الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجودُ أحدهما وجود الآخر، كالنصف والزوج، وهو تركب زوجين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: أضعفت

لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين - دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيء وضعفته وضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعداً، قال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعفت، ولهذا قرأ أكثرهم: (يُضَاعَفْ) [الأحزاب: 30]، وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160]، فالمضاعفة على قضية هذا القول تقتضي أن يكون عشر أمثالها. وقيل: ضعفته، - بالتخفيف- ضعفاً، فهو مضعوفٌ، فالضعف مصدرٌ، والضعف: اسم كالثني والثني، فضعفُ الشيء هو الذي يثنيه، ومتى أضيف إلى عددٍ اقتضى ذلك العدد ومثله، نحو أن يُقال: ضعفُ العشرة، فذلك عشرون بلا خلاف، وإذا قيل: أعطهِ ضعفي واحد، فإن ذلك اقتضى الواحد ومثليه، وذلك ثلاثة؛ لأن معناه: الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافاً، فأما إذا لم يكن مضافاً، فقلت: الضعفين، فإن ذلك يجري مجرى الزوجين في أن كلا منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين؛ لان كلاً منهما يضاعف الآخر، فلا يخرجان عن الاثنين، بخلاف ما إذا أضيف الضعفان إلى واحدٍ فيثلثهما، نحو: ضعفي الواحد، قال الله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) [سبأ: 37]. قوله: (وفي ذكر الكيدودة وتقليلها)، إلى قوله: (دليل بينٌ على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عم شأن فاعله، ومن ثم استعظم مشايخ العدل نسبة المجبرة القبائح إلى الله تعالى)، الانتصاف: أما تقليلُ الكيدودة فيحمل على كون الله تعالى يعلمُ ما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلم تعالى أن الركون الذي كاد يحصل لو كان قليلاً فهو عظيم، وهو خبر

عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله. فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين». [(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)]. (وَإِنْ كادُوا) وإن كاد أهل مكة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكة وَإِذاً لا (يَلْبَثُونَ) لا يبقون بعد إخراجك (إِلَّا) زمانا (قَلِيلًا) فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الواقع في علمه، فلا يليق حمله على المبالغة، فإنها لا تليق في الأخبار، فإنه لو كان الواقع كيدودة ركون كثير، كان تقليله خُلفاً في الخبر، والذنبُ يعظمُ بحسب فاعله. وأما تعظيم مشايخ المعتزلة نسبة القبائح إلى الله تعالى فقد استعظموا عظيماً، ولكن جهلوا في اعتقادهم القبح وصفاً ذاتياً للقبيح، وكل ما استقبحوه من العبد استقبحوه من الله تعالى، والقبيح عندنا: ما نهى الله عنه، ولله عز وجل أن يفعله، لا يُسأل عما يفعلُ، فالملكُ يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك، ولا يقبح ذلك منه، ولقد كان لمشايخه شُغلٌ بما لزمهم من الإشراك عن هذان لكن زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسناً. في أول كلامه نظر، وفي قول المصنف- أعني: "وفي ذكر الكيدودة وتقليلها"- إشكالٌ؛ لأن (شَيْئاً قَلِيلاً) مصدر (تَرْكْنُ) ظاهر، فيلزم التقليل فيه لا في الكيدودة، ويمكن أن يُقال: إن "كاد" لما كانت لمقاربة الخبر في الوجود فجُعلت القلة التي في الخبر فيها مجازاً. قله: ((إلا) زماناً (قَلِيلاً))، اعلم أن إخراج الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتملُ وجوها

إخراجه بقليل. وقيل: معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه. وقيل: من أرض العرب. وقيل: من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فاجتمعوا إليه وقالوا: يا أبا القاسم، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة، حتى يجتمع إليه أصحابه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من التأويل بحسب تفسير الأرض، فإذا فُسرت بأرض مكة فالتأويل على وجهين: أحدهما: أن (قَلِيلاً): صفة موصوفٍ محذوف، فقد حصل الإخراج وعدم لُبثهم وهلاكهم بعد حقيقة، وهو المراد من قوله: "فقد أهلكوا ببدرٍ بعد إخراجه بقليل"، وأن (قَلِيلاً) يعني العدم، كقوله تعالى: (قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) [الحاقة: 41] وإليه الإشارة بقوله: "لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم"، لكن لم يحصل الإخراج على الحقيقة، ولذلك لم يحصل هذا الاستئصال، وإذا فُسرت بأرض العرض فلم يحصل هذا الإخراج لا حقيقة ولا مجازاً، فلم يحصل الاستئصال أيضاً، وإذا فُسرت بأرض المدينة يعود معنى القليل على التقديرين. قوله: (لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم)، قال الميداني: أصلُ المثل: "جاءوا على بكرة أبيهم"، قال أبو عبيد: أي: جاءوا جميعاً لم يتخلف منهم أحدٌ، وليس هناك بكرةٌ في الحقيقة، والبكرة تأنيث البكر، وهو الفتى من الإبل، وقيل: البكرة هاهنا: التي يُستقى عليها، أي: جاءوا بعضهم على أثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد لم ينقطع. والبكرة إذا كانت لأبيهم اجتمعوا عليها مستقين لا يمنعهم عنها أحدٌ، فشبه اجتماع القوم في المجيء باجتماع أولئك على بكرة أبيهم.

ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله، فنزلت، فرجع. وقرئ: لا يلبثون. وفي قراءة أبىّ: لا يلبثوا على إعمال «إذا». فإن قلت: ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبىّ ففيها الجملة برأسها التي هي (إذا لا يلبثوا)، عطف على جملة قوله: (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ). وقرئ: (خلافك). قال: ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أما الشائعة)، يعني: القراءة المشهورة، وهي (لا يَلْبَثُونَ) بإثبات النون: مرفوعٌ، عطفٌ على (لَيَسْتَفِزُّونَكَ): خبر كاد، وهو مرفوعٌ، نحو: كاد زيدٌ يخرجُ، وفي "المفصل": خبرها مشروطٌ فيه أن يكون فعلاً مضارعاً، متأولاً باسم الفاعل. قال ابن الحاجب: إنما شرط أن يكون فعلاً مضارعاً، للتنبيه على أنه المقصود بالقرب، فعلى هذا: (إذاً) واقعةٌ في أثناء الكلام، لا جواب لها، لأن (إذاً) لا تعملُ إذا كان معتمداً ما بعدها على ما قبلها، قال أبو البقاء: وإثبات النون إلغاء (إذاً)؛ أن الواو العاطفة تُصير الجملة مختلطة بما قبلها، فتكون (إذاً) حشواً. قوله: (الجملة برأسها) إلى قوله: (عطفٌ على جملة قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، قال نور الدين الحكيم: فيه نظرٌ؛ لأنه على هذا التقدير لا يتحقق معنى قول سيبويه: إذاً: جوابٌوجزاء. قلت: ولا يمكنُ أن يُفهم كونه جواباً وجزاءً من حيث المعنى، نحو: وإذا كان كذلك إذاً لا يلبثوا. قوله: (وقرئ: (خِلافَكَ))، قال القاضي: قرأ ابن عامرٍ وحمزة والكسائي ويعقوب

عفت الدّيار خلافهم فكأنّما ... بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا أي بعدهم (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا يعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ونصبت نصب المصدر المؤكد، أي: سن الله ذلك سنة. [(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً* وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)]. دلكت الشمس: غربت. وقيل: زالت. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بى الظهر. واشتقاقه من الدلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحفصٌ: (خِلافَكَ)، وهو لغةٌ. قوله: (عفت الديار خلافهم)، البيت، "عفت": اندرست، "خلافهم": بعدهم، "الشواطبُ": النساءُ اللواتي يشتققن الجريد ليُعمل منه الحُصر، والشطبُ: سعفُ النخل الأخضر. يصفُ دروس ديار الأحباب بعدهم، وأنها غير مسكونة، كأنما بُسط فيها سُعفُ النخل. قوله: (دلكت الشمسُ: غربت)، الراغب: دُلوكُ الشمس: ميلها إلى الغروب، وهو من قولهم: دلكت الشمس: دفعتها بالراح، ومنه: دلكتُ الشيء في الراحة، ودالكت الرجل: إذا ماطلته، والدلوك: ما دلكته من طيب، والدليك: طعامٌ يتخذ من زُبدٍ وتمر.

لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر، سميت قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً. وهي حجة على ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن (مَشْهُوداً) يشهده ملائكة الليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي حجةٌ على ابن عُلية والأصم ... أن القراءة ليست برُكن) في صلاة الفجر، قال القاضي: واستدل به على وجوب القراءة فيها، ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز؛ لكونها مندوبة فيها، نعم، لو فسرنا بالقراءة في صلاة الفجر، دل الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصاً، وفي غيرها قياساً. والجواب عن الأول: أنه لو لم تكن ركناً لم يجز إطلاقه عليها، كالركوع والسجود والقيام؛ لأنه من باب إطلاق معظم الشيء على كله. والمندوب ليس كذلك. والجواب عن الأول: أنه لو لم تكن رُكناً لم يجز إطلاقه عليها، كالركوع والسجود والقيام؛ لأنهُ من باب إطلاق مُعظم الشيء على كله. والمندوب ليس كذلك. وقال أبو البقاء: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) فيه وجهان: أحدههما: هو معطوفٌ على (الصَّلاةَ)، أي: وأقم الصلاة صلاة الفجر، وعليه قوله: سُميت صلاةُ الفجر قُرآنا، لأنها رُكن. وثانيهما: هو على الإغراء، أي: عليك قرآن الفجر، أو: الزم. وعليه قوله: "ويجوز أن يكون (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) حثاً على طول القراءة في صلاة الفجر"، كأنه قيل: الزم قراءة القرآن في صلاة الفجر، أي: القرآن المنسوب إلى الفجر.

والنهار، ينزل هؤلاء، ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة. أو من حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة. ويجوز أن يكون (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مكثوراً عليها، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة (وَمِنَ اللَّيْلِ) وعليك بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) والتهجد ترك الهجود للصلاة، ونحوه التأثم والتحرّج. ويقال أيضا في النوم: تهجد (نافِلَةً لَكَ) عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع (نافلة) موضع (تهجدا)، لأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار). روى الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده"، عن أبي هريرة، في صلاة الفجر وصلاة العصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجتمعون في صلاة الفجر فتصعد ملائكة الليل، وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فيصعد ملائكة النهار وتثبت ملائكة الليل فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون". وفي رواية البخاري ومسلم: قال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً). قوله: (مكثوراً عليها)، أي: مغلوباً عيها بالكثرة. الجوهري: عن ابن السكيت: فلانٌ مكثور عليه: إذا نفد ما عنده وكثُرت عليه الحقوق. قوله: (ونحوه التأثم التحرج) أي: ترك الإثم والحرج. قوله: (وضع (نَافِلَةً) موضع "تَهجُّداً"، أي: (نَافِلَةً): مفعول مطلق، من حيث

التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم (مَقاماً مَحْمُوداً) نصب على الظرف، أي: عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا. أو ضمن (يبعثك) معنى يقيمك. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود. ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات. وقيل: المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق: تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم نفس، فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشرّ ليس إليك، والمهدىّ من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا قوله (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى، وفائدة العُدول ما ذكره: أن التهجد زيدَ لك على الصلاة المفروضة فريضة عليك خاصة. قوله: (فيقيمك مقاماً محموداً)، قال أبو البقاء: هُو على هذا نصبٌ على المصدر. قوله: (ليس أحدٌ إلا تحت لوائك)، وفي حديث أبي سعيد عن الترمذي: "وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه، إلا تحت لوائي"، وأما الحديث بطوله فمشهورٌ من رواية أهل هذه الصناعة.

[(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)]. قرئ: (مدخل) و (مخرج) بالضم والفتح: بمعنى المصدر. ومعنى الفتح: أدخلني فأدخل مدخل صدق، أي: أدخلني القبر مدخل صدق: إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً، ملقى بالكرامة، آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث. وقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مُدْخَل) و (مُخْرَجُ)، بالضم)، القراءة الشائعة، والفتح: شاذ. قال الزجاج: فمن قرأ بضم الميم فهو مصدر "أدخلته مدخلاً"، ومن فتح فهو على: أدخلته فدخل مدخَلَ صدق، وإنما ترك المصنفُ تقدير الضم لأنه ظاهرٌ لا يحتاج إلى تقدير فعلٍ مطابق للمصدر، كما في الفتح. قوله: (إدخالاً مرضياً على طهارة)، معنى الإضافة في (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) نحو الإضافة في "رجُل صدق" و"رجل سوء"، والصدق إنما هو من أوصاف ذوي العلم، فإذا وُصف غيره كان دالاً على أن ذلك الشيء مرضيٌّ في بابه. قال المصنف في قوله تعالى: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء: 7]: "وصف الزوج من النبات بالكرم، والكرمُ صفة لكل ما يُرضي ويحمد في بابه". ولما عقب هذه الآية قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) وجب اختصاص الوصف بما يناسب المقام، وكأن ما ذكره، وإليه أشار بقوله: "يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث"، وعلى هذا تجري جميع الوجوه المذكورة من تقدير وصف الإدخال والإخراج في كل مقام بحسب ما يناسبه.

وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر - وهو النبوّة - وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: الطاعة. وقيل: هو عام في كل ما يدخل فيه وبلابسه من أمر ومكان (سُلْطاناً) حجة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر مظهرا له عليه، فأجيبت دعوته بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس)] المائدة: 67 [، (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ)] المائدة: 56 [، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)] التوبة: 33 [، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)] النور: 55 [ووعده لينزعنّ ملك فارس والروم، فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديدا على المريب، لينا على المؤمن وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافياً، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنى رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير». [(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)]. كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما صنم كل قوم بحيالهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هو عامٌ في كل ما يدخل فيه ويُلابسه من أمر ومكان)، هذا أقرب لسباق الكلام وسياقه. أما السباقُ. فكما قال: "يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث"، وأما السياق فعطفُ، (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) على (أَقِمْ الصَّلاةَ)، وعطفُ (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) على (أَدْخِلْنِي)، وكل ذلك يقتضي غير واحدةٍ من الحالات والأمكنة. قوله: (فأجيبت دعوته)، الفاء فصيحة، يعني: أمره الله تعالى بالدعاء، فامتثل أمره ودعا، فأجيبت دعوتُه.

إلى الله عز وجل فقال: أي رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك، فأوحى الله إلى البيت: إني سأحدث لك نوبة جديدة، فأملأك خدودا سجدا، يدفون إليك دفيف النسور، يحنون إليك حنين الطير إلى بيضها. لهم عجيج حولك بالتلبية. ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال: يا على، ارم به، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمد صلى الله عليه وسلم. وشكاية البيت والوحي إليه: تمثيل وتخييل. (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ذهب وهلك، من قولهم: زهقت نفسه، إذا خرجت. والحق: الإسلام. والباطل: الشرك (كانَ زَهُوقا): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يدفون)، الجوهري: الدفيف: الدبيب، وهو السير اللين. قوله: (مخصرتك)، الجوهري: المخصرة: كالسوط، وكل ما اختصر الإنسان بيده فأمسكه من عصا ونحوها. روى الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي، عن ابن مسعد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً). وفي "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن علي رضي الله عنه قال: كان على الكعبة أصنامٌ، فذهبتُ لأحمل النبي صلى الله عليه وسلم فلم أستطع، فحملني فجعلتُ أقطعها، ولو شئتُ لنلتُ السماء.

كان مضمحلا غير ثابت في كل وقت. [(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً)]. (وَنُنَزِّلُ) قرئ بالتخفيف والتشديد (مِنَ الْقُرْآنِ) من للتبيين، كقوله: (من الأوثان)] الحج: 30 [. أو للتبعيض، أي: كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيماناً، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله ولا يزداد به الكافرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان مضمحلاً)، الراغب: زهقت نفسه من الأسف على الشيء، قال عز وجل: (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) بالتوبة: 55]. قوله: ((وَنُنَزِّلُ) قرأ بالتخفيف: أبو عمرو. قوله: ("مِن" للتبيين، كقوله: (مِنْ الأَوْثَانِ) [الحج: 30])، يعني: "من القرآن" بيان لمفعول "نُنَزْلُ"، وهو "ما هو شفاءٌ" وحال منه، كما أن (مِنْ الأَوْثَانِ) في قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ): حال من الرجس وبيانه، وعلى أن يكون تبعيضاً يكون (مِنْ الْقُرْآنِ): مفعولاً به، و (مَا هُوَ شِفَاءٌ): بدلاً منه، ولذلك قال: "كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء" أي: كل حصة ونصيب وبعض. فالتفسير الأول نازلٌ منزلة الجنس من حيث هوهو، والثاني منزلة الاستغراق، فـ"الكل" في كلام المصنف أفرادي. قوله: (فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى)، الراغب: إن الله تعالى جعل لنا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... طِبين: بدنيا ودينياً، وكلٌّ منهما إما إعادة للصحة أو حفظ لها، والطب البدني الذي تُعادُ به الصحة: العقاقير والأدوية، والذي يُحفظ بها الصحة: الغذاء والأطعمة. وأما الطبُّ الديني، فالذي تعودُ به الصحة صقل العقل واستعماله في تدبر الدلالات وتعرف المعجزات ومعرفة النبوات، والقرآن مشحون به، والذي تعود به الصة تدبرُ الكتاب المنزل، وتتبع سنن النبي المرسل، والعمل بمقتضاهما، وعلى ذلك قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً). وقلت: لمح في قوله: "تعود به الصحة" إلى قوله صلوات الله عليه: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ... " الحديث. وروينا عن الدارمي، عن قتادة "ما جالس القرآن أحدٌ، فقام إلا بزيادة أو نقصان" ثم قرأ: " وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) الآية. وعن الدارمي أيضاً: قال أبو موسى: "إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن لكم ذكراً، وكائن عليكم وزراً، اتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط

(إِلَّا خَساراً) أي نقصانا لتكذيبهم به وكفرهم، كقوله تعالى: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]. [(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً* قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)]. (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والسعة (أَعْرَضَ) عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه مستبدّ بنفسه (وَنَأى بِجانِبِهِ) تأكيد للإعراض، لأنّ الإعراض عن الشيء: أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم". يقال: زخه، أي: دفعه في وهده. ولما فرغ من بيان علمه شرع في بيان معجزاته صلوات الله عليه، وأنه مما لم يؤت أحدٌ من الأنبياء، قال: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) الآية، تخلصاً إلى ذكر حديث قومه بقوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية، ولهذا أخره عن سائر أنواع الإفضال والإكرام، والله أعلم. ولما احتوى القرآن علماً ومعجزةً قال صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله عز وجل إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة.

يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوى عنه عطفه ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأنّ ذلك من عادة المستكبرين (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)] يوسف: 87 [. وقرئ: وناء بجانبه، بتقديم اللام على العين، كقولهم «راء» في «رأى» ويجوز أن يكون من «ناء» بمعنى «نهض» (قُلْ) كُلٌّ أحد (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أى على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أراد الاستكبار)، يريد: قوله: (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) إما أن يكون كناية عن الإعراض؛ لأن من يلوي عن الشيء عطفه ويولي ظهره فقد حاول الإعراض عنه، فيكون تأكيداً لمعنى (أَعْرَضَ) ودخلت الواو بين المؤكَّدِ والمؤكّد، وإما أن يكون كناية عن الاستكبار؛ لأن ذلك من عادة المتكبرين، فيكون تكميلاً لكون مفهومه غير مفهوم الإعراض، فقد جمعوا بين الهيئتين. قوله: (وقرئ: "وناء بجانبه")، قرأها ابن ذكوان. الراغب: ناء بجانبه ينوء ويناءُ، أي: ينهض، قال تعالى: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص: 76]، ويقال: ناء بجانبه ينأى نأياً، مثل: نعى: أعرض. قال أبو عبيدة: تباعد، وقرئ: "وفاء بجانبه"، أي: تباعد، ومنه: النؤيُ؛ لحفيرة حول الخباء تُباعد الماء عنه. وقيل: نأي بجانبه مل نعين أي: نهض بهن عبارة عن التكبر كقولك شمخ بأنفه وازور بجانبه، وانتأى: افتعل، منه، والمنتأى: الموضع البعيد. قوله: (وطريقته التي تُشاكلث حاله في الهدى والضلالة)، إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً). الراغب: على شاكلته، أي: سجيته التي قيدته، من شكلت الدابة، وذلك أن سلطان

من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه، والدليل عليه قوله (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) أى أسدّ مذهبا وطريقة. [(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)]. الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أي مما استأثر بعلمه. وعن ابن أبي بريدة. لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح وقيل: هو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السجية على الإنسان قاهرٌ حسبما بينتُ في "الذريعة إلى مكارم الشريعة، هذا كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مُيسرٌ لما خُلق له"، والأشكلة: الحاجة التي تقيد الإنسان. وقلتُ: الحديث هو ما روينا عن البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد غلا وقد كُتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة"، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكلُ على كتابنا؟ فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل الشقاء"، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) [الليل: 5] الآية. قوله: (من أمرِ الله)، أي: مما استأثر الله بعلمه، يعني: من أمر ربي لا من أمري، فلا أقول لكم ماهي؟ والأمر بمعنى الشأن، أي: معرفة الروح من شأن الله لا من شأن غيره، ولذلك طابقه قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). قال الإمام: المختار: أنهم سألوه

خلق عظيم روحانى أعظم من الملك. وقيل: جبريل عليه السلام. وقيل: القرآن. (ومِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي: من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر، بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبىّ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبىّ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم. (وَما أُوتِيتُمْ) الخطاب عام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الروح، وأنه صلوات الله عليه أجاب عنه بأحسن الوجوه بقوله: (قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، يعني أنه موجود محدثٌ بأمر الله، وتكوينه، وتأثيره إفادة الحياة للجسد، ولا يلزمُ من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه، فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة، ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها، ويؤيده قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)، وقال القاضي: يجوز أن يكون السؤال عن قدمه وحدوثه، فأجيب: أنه وُجد بأمره وحدث بتكوينه. قوله: ((وَمَا أُوتِيتُمْ) الخطاب عامٌّ)، قال القاضي: يعني قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) أنكم تستفيدونه بتوسط حواسكم، فإن اكتساب العقل للعلوم النظرية مستفادٌ من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل: من فقد حسا فقد علما، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئاً من أحواله المعرفة لذاته، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به، فلذلك اقتصر على هذا الجواب، كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 23] بذكر بعض صفاته. تم كلامه. فإن قلت: ما موقع هذا السؤال في هذا المقام قلت- والعلم عند الله-: الروح والعلمُ توأمان وموهبتان وعظيمتان لا سيما الوحي، ولذلك قُرن بقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) وعقبه بقوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، وعقب به (وَنُنَزِّلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ)، وقد تقدم مراراً وأطواراً أن فواتح السور بمقتضى براعة الاستهلال مؤذنة باشتمال السور على ما تضمنت الفاتحة من المعنى، ولما افتتحت هذه السورة الكريمة بالكرامة السنية والموهبة الرفيعة لسيدنا صلوات الله عليه، وهي بيان مقام الدنو والزلفى، واستجلب ذلك حديث الكليم عليه السلام وبني إسرائيل، ثم حديث الكفار من هذه الآية، وأريد العود إلى البدء، وتعداد كرائم وموانح أخرى، ابتدئ بما يناسب "الإسراء" من إقامة الصلوات مقرونة بذكر أوقاتها، فقيل: (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) إلى قوله: (مِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)، ومن ثم قال صلوات الله عليه: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، وأخرى: "أن تعبد الله كأنك تراه"، وتارة: "أرحنا يا بلال"، وجعل ذلك ذريعة إلى ذكر منقبتين جليلتين: أخروية، وهي مقام الشفاعة. وقيل: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً). روينا عن الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال: هو الشفاعة. وعن الدارمي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال له: ما المقام المحمود؟ قال: "ذاك يوم ينزل الله تعالى على كرسيه، ويجاء بكم حفاة عُراةً غُرلاً، فيكون أول من يُكسى إبراهيم، فيؤتى بريطتين من رياط الجنة، ثم أكسى على أثره، ثم أقوم عن يمين الله مقاماً يغبطني الأولون والآخرون".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وعن الترمذي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه، إلا تحت لوائي، وأنا أولُ من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، قال: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا آدم فاشفع لنا إلى ربك. فيقول: إني أذنبتُ ... " وساق الحديث إلى قوله: "فأخر ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تُشفعن وقل يسمع لقولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً). وأما المنقبة الدنيوية فمفتتحها الأمر بالهجرة إلى دار النصرة، وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) إشارة إلى ذلك. روينا في "شرح السُّنة" عن ابن عباس والحسن وقتادة: أدخلني: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، أُمر بالهجرة، فنزلت عليه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ). ألا ترى كيف ذيل الإخراج والإدخال بما يُنبئ عن استنزال النصر من جناب الفردانية، والحضرة الصمدانية، من قوله: (اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً)، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8] ومن ثم قيل له: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً). وحين أراد الله أن يشرح غزارة علمه رمز إليه بقوله: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يعني: أنه صلوات الله عليه يغترف علمه من البحر الذي تنفد الأبحر السبعة دون نفاده، ولما كان السؤال عن

وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: "بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك: ساعة تقول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)] البقرة: 269 [وساعة تقول هذا، فنزلت: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ)] لقمان: 27 [ وليس ما قالوه بلازم، لأنّ القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: هو خطاب لليهود خاصة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الروح امتحاناً من المعاندين لعلمه، أورده في السنن، ألا ترى كيف كافحهم بنزارة علمهم بقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) وبغزارة علمه على سبيل النصفة والاستدراج بقوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)؟ روينا عن الإمام أحمد والترمذي، عن ابن عباس قال: قالت قريشٌ لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح. فسألوه: فأنزل الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ) الآية. قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزلت: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) الآية. فإن قلت: فما وجه اتصال قوله: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ) الآيتين، بالكلام؟ قلت: هو اعتراض لمعنى الزيادة والنقصان، جاء مستطرداً في أثناء الكلام؛ لأن السياق دل على كون القرآن رحمة وسبباً لمزيد المؤمنين، وما ينالون به الإفضال والقرب والزلفى عند الله، وخساراً وبُعداً للقوم الظالمين. وقد تقرر أن ذلك السؤال كان امتحاناً من الظلمة، وتضمن الإشعار بنزارة علمهم وغزارة علمه صلوات الله عليه، فلذلك كان مؤكداً للمعنيين، وينصره قوله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ).

لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة، وقد تلوت (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)] البقرة: 269 [فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. [(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً* إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)]. (لَنَذْهَبَنَّ): جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط. واللام الداخلة على إن موطئة للقسم. والمعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدرى ما الكتاب (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ) بعد الذهاب (بِهِ) من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مستوراً (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه، فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ. وعن ابن مسعود: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من يتوكل علينا باسترداده)، أي: يصير وكيلاً علينا. والتوكل والموكل بمعنى. قوله: (ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به) يريد أن الاستثناء منقطع والمستدرك قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ)، وعلى الأول الاستثناء متصل، والمستثني منه: (وَكِيلاً). وقال أبو البقاء: (إِلاَّ رَحْمَةً): مفعول له، أي: حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون مصدراً، أي: لكن رحمناك رحمة.

ولا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء. فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب. [(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)]. (لا يَاتُونَ) جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة، لجاز أن يكون جوابا للشرط، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا؟ )، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه والدارمي، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ذلك عند أوانِ ذهاب العلم" فقلتُ: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحنُ نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأراك من افقه رجلٍ بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيءٍ مما فيهما؟ ". وفي "شرح السُّنة": عن عبد الله بن عمرو "لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيثُ نزل، له دوي حول العرش كدوي النحل. يقول الرب: مالك؟ فيقول: يا رب، أُتلى، ولا يُعمل بي". وفيه أيضاً، عن ابن مسعود: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن، ثم يفيضون في الشعر.

يقول لا غائب مالي ولا حرم لأن الشرط وقع ماضيا، أي: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله، والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقول لا غائبٌ مالي ولا حرمُ)، أوله: وإن أتاه خليلٌ يوم مسغبة المسغبة: المجاعة، ورُوي: مسألة. البيت لزهير يمدح هرم بن سنان، يقول: إذا أتاه فقيرٌ وقد رفع إليه حاجته، لم يتشاغل بنوع العلل. وعني بالمال: الإبل. قوله: (لأن الشرط وقع ماضياً)، تعليلٌ بجواز وقوع (لا يَاتُونَ) جواباً للشرط، يعني: لو لم تكن اللام في (لئن) لجاز لا يأتون مع وجود النون أن يقع جواباً للشرط؛ لأن قوله: (اجْتَمَعَتْ) ماضٍ، فلما لم تعمل الأداة في الجزء الأول لا يعملُ في الثاني. قوله: (من النوابت)، والنوابت: الأحداث الأغمار. قال صاحب "التقريب": واستدل صاحب "الكشاف" بإعجازه على حدوثه، إذ لو كان قديماً لم يكن مقدوراً، فلا يكون معجزاً كالمحال، وجوابه: منع الملازمة، إذ مصحح المقدورية هو الإمكان، وهو حاصل، لا الحدوث. وأيضاً، المعجز لفظه ولا يقال بقدمه، والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه. وأيضاً، سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه، لكن لم لا يقدر على مثله؟ قال صاحب "الانتصاف": القديم: مدلول العبارات، وهو صفة قديمة قائمة بذات الله

وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة، فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه. وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه كثاني القديم، فلا يقال للفاعل: قد عجز عنه، ولا هو معجز. ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال، فإن رأس ما لهم المكابرة وقلب الحقائق. [(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)]. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) ردّدنا وكرّرنا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. والكفور: الجحود. فإن قلت: كيف جاز (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) ولم يجوز ضربت إلا زيدا؟ قلت: لأن "أبي" متأوّل بالنفي، كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفوراً. [(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى، ويُسمى قرآنا وكلمات أيضاً، والمعجز: الدليل لا المدلول، لكن أهل السُّنة يتحرزون من إطلاق المخلوق لوجهين: لإيهامه، ولأن السلف الصالح كفوا عنه، وكم من مُعتقدٍ لا يُطلق القول به خشية من إيهام غيره، فلا يصح إلزام الزمخشري. وقلتُ: الوجه الأخير لصاحب "التقريب" هو الوجه، لما قرره المصنف في قوله: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة: 23] فإن قلت: ما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حُسن النظم، ومن ثم لم تكن سائر الكتب السماوية معجزة، وإن كُن مثل القرآن في ذلك المعنى.

عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَاتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)]. لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات: فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لك حتى ... وحتى (تَفْجُرَ) تفتح. وقرئ: (تفجر)، بالتخفيف (مِنَ الْأَرْضِ) يعنون أرض مكة (يَنْبُوعاً) عينا غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع: «يفعول» من نبع الماء، كيعبوب من عب الماء (كَما زَعَمْتَ) يعنون قول الله تعالى (إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ: 9]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (تَفَجَّرُ)، بالتخفيف)، الكوفيون: بفتح التاء وضم الجيم مخففاً، والباقون: بضم التاء وكسر الجيم مشدداً. قوله: (لا تقطع)، مرفوع بعد حذف "أن"، أي: لا تنضب، القاضي: الينبوع: عينٌ لا ينضب ماؤها، كأن البناء دل على المبالغة. قوله: (عب الماءُ)، أي: زخر، من العباب. الجوهري: العباب: - بالضم-: معظم الماء وكثرته وارتفاعه. قوله: (كَمَا زَعَمْتَ): يعنون قول الله تعالى: (إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ))، وكان ذلك عناداً وتمرداً، بدليل قوله: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ

قرئ: (كسفاً) بسكون السين جمع كسفة، كسدرة وسدر. وبفتحه (قَبِيلًا) كفيلاً بما تقول شاهدا بصحته. والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا، وبالملائكة قبيلا، كقوله: .... كنت منه ووالدي ... بريّا فإنّى وقيّار بها لغريب أو مقابلاً، كالعشير بمعنى المعاشر، ونحوه: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) [الطور: 44]، قال: لو أسقطناه عليهم لقالوا: سحابٌ مركوم، ولم يصدقوا انه كسفٌ ساقطٌ للعذاب. قوله: (قرئ "كسفاً" بسكون السين) نافعٌ وعاصم وابن عامر: (كِسْفاً) بفتح السين، والباقون: بإسكانها. قوله: (أو مقابلاً): عطفٌ على قوله: "كفيلاً"، يعني: إذا كان (قَبِيلاً) بمعنى: كفيلاًن كان التقدير: أو يأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبيلاً، وإذا كان بمعنى "مُقابلاً" يعود المعنى: تأتي بالله مقابلاً وبالملائكة مقابلين، واستشهد للأول بقوله: (أَوْ نَرَى رَبَّنَا) [الفرقان: 21] بناء على مذهبه؛ لأن النظر إلى الشيء يقتضي المقابلة، وللثاني: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان: 21]، وقوله: "أو جماعة" احتمالٌ آخر، بمعنى قوله: (وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً). الجوهري: القبيل: الجماعة، تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتى، وعلى هذا يجوز أن يكون (قَبِيلاً): حالاً من الله تعالى والملائكة معاً، قال أبو البقاء: (قَبِيلاً): حالٌ من الملائكة، او من الله والملائكة.

رَبَّنا) [الفرقان: 21] أو جماعة حالا من الملائكة. (مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب (فِي السَّماءِ): في معارج السماء، فحذف المضاف. يقال: رقى في السلم وفي الدرجة وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ولن نؤمن لأجل رقيك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) من السماء فيه تصديقك. عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال عبد الله بن أبي أمية: لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما. ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتى معك بصك منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا: هذا سحر، كما قال عز وجل: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ)] الأنعام: 7 [، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ)] الحجر: 14 [وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه - بل هي أعظم- لم يكن إلى تبصرتهم سبيل (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) وقرئ: قال سبحان ربي، أي قال الرسول. وسُبْحانَ رَبِّي تعجب من اقتراحاتهم عليه (هَلْ كُنْتُ) إِلَّا رسولا كسائر الرسل (بَشَراً) مثلهم، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليّ، إنما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مِنْ زُخْرُفٍ): من ذهب)، الراغب: الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زُخرف، وقال: (أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا) [يونس: 24]. وقال تعالى: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) [الإسراء: 93]، أي: ذهب مُزوق. وقال تعالى: (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام: 112]، أي: المزوقات من الكلام. قوله: (وقرئ"قال سبحان ربي"): ابن كثير وابن عامر: "قال" بالألف، والباقون: بغير ألف.

[(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)]. (شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني بلغت ما أرسالات به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ المنذرين والمنذرين خَبِيراً عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة. وشهيدا: تمييز أو حال. [(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَاواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً* ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)]. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ) ومن يوفقه ويلطف به (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه (وَمَنْ يُضْلِلْ) ومن يخذل (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) أنصاراً. عَلى وُجُوهِهِمْ كقوله: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ)] القمر: 48 [. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والإثبات في السؤال والجواب، ولم يحسن هذا الحسن، ألا ترى إلى قول صاحب "المفتاح": قال في "سورة المؤمنون": (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا) [المؤمنون: 83]: فذكر بعد المرفوع وما تبعه المنصوب، وهو موضعه، وقال في "النمل": (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا) [النمل: 68]: فقُدم لكونه منها أهم. وإنما خالفنا المصنف في قولنا: لأن الجنس إلى الجنس أميل، لئلا يلزمنا الاعتزال الذي عناه بقوله: "وأما الإنس فما هم بهذه المثابة"، ولذلك عدل القاضي إلى قوله: (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً) لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، والإنس عامتهم عُماةٌ عن إدراك الملك والتلقف منه، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم. (ومن كان في هذه أعمى) فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤفى الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون (كُلَّما خَبَتْ) كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) إلى قوله (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً). [(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن الذي أمشاهم على أقدامهم)، روينا عن الترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنفاً مشاة، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم"، قيل: يا رسول الله، كيف يمشون؟ " الحديث. قوله: (ويجوز أن يُحشروا): عطفٌ من حيث المعنى على قوله: "كما كانوا في الدنيا"، وعلى "عُمياً وبكماً وصُماً" على المجاز، والحشر الثاني بمعنى: الجمع والسوق، كقوله تعالى: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه: 59]، والأول بمعنى: البعث وحشر الناس يوم القيامة. قوله: (مؤوفي الحواس)، الجوهري: الآفة: العاهة، وقد أُيفَ الزرعُ، على ما لم يُسم

فإن قلت: علام عطف قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا)؟ قلت: على قوله: (أَوَ لَمْ يَرَوْا) لأن المعنى: قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس؛ لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن، كما قال: (ءأنتم أشد خلقا أم السماء) [النازعات: 27]. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ): وهو الموت، أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحودا. [(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاعله، أي: أصابته آفة، فهو مؤوفٌ، مثل معُوف. قوله: (على قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا))، أي: (وَجَعَلَ لَهُمْ) عطفٌ على (أَوَلَمْ يَرَوْا)، يعني: لا يجوز أن يُعطف على (خَلَقَ) ويدخل في حيز صلة الموصول للفصل بخبر (إنّ)، وهو (قَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)، ولا (عَلَى أَنْ يَخْلُقَ) لفظاً ومعنى؛ لأنه لا يحسنُ إيقاعُ القدرة على الآجل، فينبغي أن يكون عطفاً على (أَوَلَمْ يَرَوْا). وأما قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) فليس تقديراً لتصحيح معنى العطف، إذ لا يلتئم أن يُقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا) وجعل لهم أجلاً، بل هو ابتداء تفسير بشهادة قوله: "وهو الموت أو القيامة"، فإذا التقدير: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم، كقوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس: 81] أي: في الصغر والقمأة، وأن من جعل لهم أجلاً لا ريب فيه، وهو يوم القيامة، لابد أن يأتي به، كقوله تعالى: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا) [الحج: 7]. فظهر أن المراد بقوله: "عطفٌ على قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا) " أنه عطفٌ على التقدير، وأن يُضمر في الكلام ما يتم به المعنى، ويؤيده قول الإمام: لما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمرٌ ممكنُ الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً عند الله تعالى.

(لَوْ) حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلا بد من فعل بعدها في (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ وتقديره لو تملكون)، وتقديره: لو تملكون، فأضمر (تملك)؛ إضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو: (أنتم)، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فـ (أنتم): فاعل الفعل المضمر، و (تملكون): تفسيره، وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأمّا ما يقتضيه علم البيان؛ فهو: أنّ (أنتم تملكون) فيه دلالة على الاختصاص؛ وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنظم يساعدُ هذا التقدير الذي قدرناه وتخصيص ما خصصناه من أن المراد بالأجل: القيامة لا غير، لورود الآية بعد إنكار ما أنكروه في قولهم: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء: 49]. قوله: ("لو" حقها أن تدخل على الأفعال)، قال ابن الحاجب في "الشرح": لابد أن يلهيا الفعل لأنها حرف شرط، والشرط إنما يُعقل بالفعل، فالتزم وقوع الفعل لفظاً أو تقديراً. قال صاحب "المفتاح": وأما كلمةُ "لو" فحين كانت لتعليق ما امتنع بامتناغ غيره على القطع امتنعت جملتاها عن الثبوت، ولزم أن يكونا فعليتين والفعل ماضٍ. قوله: (فأما ما يقتضيه علمُ البيان فهو أن (أَنتُمْ تَمْلِكُونَ) فيه دلالة على الاختصاص)، وقال صاحب "الفرائد": لما كان التقدير: لو تملكون تملكون، وهذا لا يفيد الاختصاص، وجب أن لا يفيده هذا أيضاً؛ لأنه غير مخالف في تأدية المعنى لذلك؛ لأن (أنتم) وُضع موضع الضمير المتصل، فالفعل مرادٌ والتكرارُ حاصلٌ على التقديرين، نفى أن يُقال: إن "أنتم تملكون"، على صورة الجملة الاسمية بدون معناها، فالاختصاص من لوازم معنى الاسمية لا من صورتها، ويمكن أن يقال في الجواب: الأصل "تملكون" بدون التكرار، فكرر ليفيد التأكيد، فلماترك الفعل الأول وأضمر لبقاء فاعله، وهو في المعنى غير ضمير الثاني

ونحوه قول حاتم: (لو ذات سوار لطمتني)، وقول المتلمس: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المتصل، عُلِمَ بأن الاهتمام بذكر فاعل هذه الجملة أكثر من ذكر فعلها، فكان تقديماً للفاعل على الفعل من حيث المعنى، والثاني بمنزلة المكرر للتأكيد، فأفاد الاختصاص. وقلتُ: نظرُ أصحاب المعاني في أمثال هذا التركيب إلى اللفظ، ألا ترى إلى قول صاحب "المفتاح": ترك "يودوا" إلى الماضي المؤذن بالتحقق نظراً إلى لفظه، فكذا هاهنا النظر إلى صورة (أَنتُمْ تَمْلِكُونَ) لا إلى أصله، وهو مثل: أنا سعيت في حاجتك، في وجه إفادة الاختصاص، وإلى هذا الإشارة بقوله: "برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر". قوله: (لو ذاتُ سوار لطمتني)، قال الميداني: لو لطمتني ذات سوار؛ لأن "لو" طالبة للفعل داخلة عليه، والمعنى: لو ظلمني من كان كفؤاً لي لهان عليَّ، ولكن ظلمني من هو دوني، وقيل: أراد: لو لطمتني حرة، فجعل السوار علام للحرية؛ لأن العرب قلما تُلبس الإماء السوار، فهو يقول: لو كانت اللاطمة حرة لكان أخف علي. قوله: (ولو غيرُ أخوالي أرادوا نقيصتي)، تمامه: جعلتُ لهم فوق العرانين ميسما

وذلك؛ لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، وبرز الكلام في صورة المبتدأ والخبر. ورحمة الله: رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم. وقيل: هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها. (قَتُوراً): ضيقا بخيلا. فإن قلت: هل يقدر لَـ (أَمْسَكْتُمْ) مفعول؟ قلت: لا؛ لأن معناه: لبخلتم، من قولك للبخيل: ممسك. [(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً)]. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العرانين: الأنوف: والميسم: العلامة، يقول: لو كان الظلم والنقيصة جاءتني من غير أخوالي لو سمتهم بسمة الذُّل ليشتهروا بها ولم يمكنهم إخفاؤها. قوله: ((قَتُوراً): ضيقاً بخيلا) الراغب: القترُ: تقليل النفقة، وهو بإزاء الإسراف، وكلاهما مذمومان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]، ورجلٌ قتورٌ ومقترٌ. وقوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً) [الإسراء: 100] تنبيه على ما جُبل عليه الإنسان من البخل، وقد قترت الشيء وأقترته وقترته أي: قللته، ومُقترٌ: فقير، قال تعالى: (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة: 236] وأصلُ ذلك من القُتار والقتر، وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما، فكأن المُقتر والمقترَ هو الذي يتناول من الشيء قتاره. قوله: (لا؛ لأن معناه: لبخلتم)، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون مضمناً معنى البُخل، والبُخلُ لا يتعدى بنفسه، وثانيهما: أن يُجعل مفعوله منسياً كقوله: فلانٌ يعطي ويمنعُ، فيكون كناية عن البخل، ذكره صاحب "الفرائد".

والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات -مكان الحجر، والبحر، والطور. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس، فقال له عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا! أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم وحمص وعدس، كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال: أنّ بعض اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (أوحى الله إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فذكر اللسان- وهو انحلال العقدة- والطمس)، وهو قلبُ أموال القبط حجارة، يعني: كما أن الحسن ذكر مكان الحجر والبحر والطور، فيما ذكره أولاً من الآيات التسع الطوفان والسنين ونقص الثمرات، ووضع محمدٌ مكان البحر والطور: اللسان والطمس، قال الواحدي: قال المفسرون: صارت أموالهم حجارة، وقال القُرظي: جعل سُكرهم حجارة. وقال قتادة: بلغنا أن حروثهم صارت حجارة، ولما وافق هذا القول دون ما عند عمر بن عبد العزيز قال: كيف يكون الفقيه إلا هكذا، إعجاباً وتعجباً، ثم أمر بإخراج الجراب تصديقاً له. قوله: (وعن صفوان بن عسال)، الحديث أخرجه الترمذي والنسائي عنه مع تفاوت يسير، وفيه إشكالٌ؛ لأن المذكور عشرة، والسؤال عن تسع، وقد أجاب عنه التوربشتي بأجوبة، والذي نقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلموا معاشر اليهود أن الآيات التي أوتي موسى ولم تنسخها شريعة، نحن وأنتم فيها سواء هذه المذكورات، لكن له آية أخرى

موسى: أن قل لبني إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت). (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ): فقلنا له: سل بني إسرائيل، أي: سلهم من فرعون، وقل له: أرسل معي بني إسرائيل، أو سلهم عن إيمانهم، وعن حال دينهم، أو: سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدلّ عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسال بني إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش. وقيل: فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه، عن الآيات؛ ليزدادوا يقينا وطمأنينة قلب، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة: 260]. فإن قلت: بم تعلق (إِذْ جاءَهُمْ)؟ قلت: أمّا على الوجه الأول: فبالقول المحذوف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تختص بكم، وهي هذه، وهذه الزيادة كالإيغال والتتميم، يعني: خُذوا ما سألتموني عنه وأزيدكم ما يختص بكم لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم. قوله: (أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف)، رُوي عن صاحب "التهذيب للكشاف" أنه قال: رأيت في "حاشية الكشاف" دلالة الآية على تقدير: "ما قلنا" من حيث إنه خبرٌ، كما أن ذاك خبر، والأولى عندي أن يُقال: إن دلالتها من حيث إنها تدل على أن السائل من بني إسرائيل هو موسى لا محمدٌ صلوات الله عليهما. وقلتُ: تحقيقه أن يُفصل ما أجمله المصنف ليظهر الحق، فنه ذكر في الآية وجوهاً كثيرة، لكن يجمعها معنيان؛ لأن السائل إما موسى عليه السلام أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يكون السائل موسى (إِذْ جَاءَهُمْ) إما أن يتعلق بـ"قُلنا" المحذوف أو بالسؤال نفسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... والأول على وجهين: أحدهما: المسؤول فرعون، والمسؤول عنه إنقاذ بني إسرائيل منه، المعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، وأرسلناه إلى فرعون وملئه وقلنا له إذ جاءهم: سل بني إسرائيل من فرعون؟ أي: قل له: أرسل معي بني إسرائيل وخلهم وشأنهم؛ لأنهم كانوا كالأسرى بيد فرعون، قال تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [البقرة: 49]، فالسؤال بمعنى الطلب. وثانيهما: المسؤول: بنو إسرائيل، والمسؤول عنه شيئان. والمعنى على الأول: قلنا لموسى: (فسْئلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ) عن حال دينهم، أنتم ثابتون على ملة إبراهيم؟ أم دخلتم في دين فرعون؟ والمعنى على الثاني: قلنا له إذ جاءهم: سلهم أن يُعاضدوك، وتكون قلوبهم وأيديهم معك، حتى يخلصهم الله من الأسر ويورثهم أرض أعدائهم، كما قال موسى لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بالأعراف: 128]، والثاني: وهو أن يتعلق بالسؤال نفسه على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ترتب عليه المعاني الثلاثة كلها، وهذه القراءة ترجح احتمال أن يكون الأمر بقوله: (فَسْئَلُ) في القراءة المشهورة، وهو موسى، دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى الثاني، وهو أن يكون السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعلق (إِذْ جَاءَهُمْ) إما (آتَيْنَا) المذكور، أي: ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيناتٍ إذ جاء بني إسرائيل وفرعون، وقلنا لك: سل عن ذلك مُسلمي أهل الكتاب يُخبروك به كما أخبرت، وهو من أسلوب قوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس: 94]، وهو من باب التهييج والإلهاب تثبيتاً ومزيد طمأنينة، أو متعلقة محذوف، وهو إما "اذكُر"، والمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات وأرسلناه إلى فرعون وملئه "اذكُر" إذ جاءهم فقال له فرعونُ، فيكون قوله: (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) على الوجهين معترضاً، أو "يُخبروك"

أي: فقلنا له: سلهم حين جاءهم، أو بـ (سال) في القراءة الثانية. وأمّا على الأخير: فبـ (آتينا)، أو بإضمار: اذكر، أو: يخبروك. ومعنى (إِذْ جاءَهُمْ): إذ جاء آباءهم. (مَسْحُوراً): سحرت فخولط عقلك. [(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً * فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً* وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)]. (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات إلا الله عز وجل (بَصائِرَ): بينات مكشوفات، ولكنك معاند مكابر: ونحوه: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (النمل: 14). وقرئ: «علمت» بالضم، على معنى: إني لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر، وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك (مَثْبُوراً): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على تقدير جواب الأمر، المعنى: سل بني إسرائيل عن حال الآيات التسع، فإنهم يُخبرونك القصة بتمامها من لدن مجيء موسى من مدين إلى مصر عند آبائهم وهم أسرى بيد فرعون وملئه يسومونهم سوء العذاب، ثم ذهابه إلى فرعون مطلبه منه إرسال بني إسرائيل معه وادعائه النبوة، وإظهار تلك الآيات القاهرات بأسرها وظهور عجز فرعون وعناده، وقوله: (إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً) فالفاء في قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) فصيحةٌ. قوله: ((بَصَائِرَ): بينات مكشوفات)، الأساس: هذه الآية مبصرة، وأبصر الطريق: استبان ووضح. قوله: (وقرئ: "علمتُ" بالضم)، الكسائي، والباقون: بفتحها. قوله: (ثم قارع ظنه بظنه)، الأساس: قرعه بالرمح، وقارعه، وتقارعوا بالرماح، وقارعته فقرعته.

هالكا، وظني أصح من ظنك؛ لأن له أمارة ظاهرة؛ وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها، وأما ظنك فكذب بحت؛ لأن قولك مع علمك بصحة أمري: إني لأظنك مسحورا: قول كذاب. وقال الفرّاء: (مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير مطبوعا على قلبك، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك وصرفك؟ وقرأ أبىّ بن كعب: (وإن إخالك يا فرعون لمثبوراً) على: (إن) المخففة واللام الفارقة (فَأَرادَ) فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينهيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه. (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التي أراد فرعون أن يستفزكم منها، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ): يعنى قيام الساعة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً): جمعا مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم. واللفيف: الجماعات من قبائل شتى. [(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً)]. (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ): وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو: ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا بالحق محفوظاً بالرصد)، فسر الحق تارة بالحكمة، وأخرى بالثابت الذي يُقابلُ الباطل، فقوله: "محفوظاً بالرصد" تفسيرٌ لمعنى الحق، وتوضيحٌ لمحله، وأنه نصبٌ على الحال، يعني: هو محفوظٌ بالرصد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونحوه قوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] قال المصنف: "أنزله وهو قريب عليه حافظ له من الشياطين برصدٍ من الملائكة، كما قال في آخر سورة الجن: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) [الجن: 28]. قال أبو البقاء: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ) أي: وبسبب إقامته الحق (أَنزَلْنَاهُ) فتكون الباء متعلقة بـ (أَنزَلْنَاهُ)، ويجوز أن يكون حالاً، أي: أنزلناه ومعه الحق، أو: وفيه الحق، ويجوز أن يكون

من تخليط الشياطين، (وَما أَرْسَلْناكَ) إلا لتبشرهم بالجنة، وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك. [(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)]. (وَقُرْآناً) منصوب بفعل يفسره (فَرَقْناهُ). وقرأه أبىّ: (فرّقناه) بالتشديد، أي: جعلنا نزوله مفرّقا منجما. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قرأ مشدّدا، وقال: لم ينزل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوّله وآخره عشرون سنة. يعنى: أن (فرق) بالتخفيف يدل على فصل متقارب. «على مكث» بالفتح والضم: على مهلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حالاً من الفاعل، أي: أنزلناه ومعنا الحق، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) فيه الوجهان الأولان دون الثالث، لأنه ليس فيه ضميرٌ لغير القرآن. قوله: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) إلا لتبشرهم بالجنة، وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك)، أي: التركيب من القصر الإفرادي، نُزل صلواتُ الله عليه- لحرصه على إيمان قومه- منزلة من يعتقد أنه بشيرٌ ونذير، ومع ذلك: يُكره على الدين أيضاً، فقُصِر على البشارة والنذارة، ونفي كونه مكرهاً. قوله: (يعني أن "فرق" بالتخفيف، يدل على فصل متقارب)، كأنه يرد القراءة بالتخفيف، فإنها تدل على خلاف الواقع، وهو الفصل المتباعد. وقال ابن جني: ويؤيده قوله: (عَلَى مُكْثٍ).

وتؤدة وتثبت. (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) على حسب الحوادث. [(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)]. (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا): أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل - وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع- قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم، فإذا تلي عليهم خرّوا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشربه من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله: (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا)، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً): أي: يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين. فإن قلت: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله: (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) وأن يكون تعليلا لـ (قل) على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتؤدة)، النهاية: يقال: اتأد في فعله: إذا تأنى وتثبت، ولم يعجل. قوله: ((قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا))، أُمرَ بالإعراض عنهم، يعني: إنما يؤمر بهذا القول من أيس من إيمانه ولم تعتد بحاله، فكأنه قال له: اتركهم ولا تُبال بهم. قوله: (تعظيماً لأمره، ولإنجازه ما وعد)، "لإنجازه" عطفٌ على "تعظيماً"، وهو مفعولٌ له: (خَرُّوا)، وإنما لم يأت باللام في الأول وأتى بها في الثاني، لأن الأول فعلٌ لفاعل الفعل المعلل، والثاني ليس كذلك.

وعلى الأوّل: إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين؛ لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلى الأول: إن لم تؤمنوا لقد آمن)، يعني: على الوجه الثاني: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم منه توبيخ القوم وتقريعهم، وعلى الوجه الأول بالعكس، لأن التعليل على الأول مقول القول بخلاف الثاني. وقلت: الوجه أني قصد التسلية، ويكون التقريع مفرعاً عليها؛ لأن في المعلل إشعاراً بأن الرسول قد قضى ما عليه من الإبلاغ، وأن الحجة قد لزمتهم، فعليه أن يُتاركهم ويشتغل بمن يُجدي فيهم الإنذار وينجعُ فيهم الوعظ، وبخاصة نفسه من عبادة ربه، وإلى الأول الإشارة بقوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) وإلى الثاني بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) ومن ثم قال: أُمر بالإعراض عنهم وأن لا يكترث بإيمانهم، فإن خيراً منهم وأفضل قد آمنوا، وإلى الثالث بقوله: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ)، وإنما استدعى المقام المتاركة والتسلية لأن الله تعالى لما عد مناقب حبيبه صلوات الله عليه في مفتتح السورة وختمها ببيان المعجزة، وهي قوله: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ)، فكانت متضمنة لما يتخلص منه إلى طعن القوم في القرآن ورسالته ومعاندتهم في دفع آيات الله البينات، فذكر شيئاً صالحاً منه، فأراد أن يُسلي حبيبه، ذكر حديث الكليم ومجيئه بالآيات البينات إلى قومه وتكذيبهم، ثم إهلاكهم، كان الأمر بقوله: (فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) تتميماً لمعنى التسلية، وذكر بعده هذا النوع من التسلية، وختم السورة بها، والله أعلم. قوله: (أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛

المعنى إذا قلت: خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في: خرّ لذقنه ولوجهه؟ قال: فخرّ صريعا لليدين وللفم قلت: معناه: جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به، لأن اللام للاختصاص. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن أول ما يلقى الأرض الجبهة أو الأنف، ووجهه أنه إذا ابتدأ الخرور، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، أو أراد مبالغة في الخضوع، وهو تعفير اللحى على التراب، والأذقان كناية عنها، أو أنه ربما خر على الذقن كالمغشي عليه لخشية الله تعالى، وقوله: فخر صريعاً لليدين وللفم أوله من رواية "المطلع": دلفت له بالرمح من دون ثوبه الدليف: المشيُ رويداً، دلفت الكتيبة في الحرب، أي: قدمت. ويُروى: أُمكنهُ بالرمح حضني قميصه الحضينُ: ما دون الإبط إلى الكشح، حضنا الشيء: جانباه. قوله: (جعل ذقنه ووجهه للخرور)، وقال صاحب "الفرائد": لما كان الذقن أبعد شيء من وجهه من الأرض في حال السجود، وهي حالُ وضع الجبهة، كان القصد بالخرور إلى وصول الأذقان إلى الأرض أبلغ من القصد إلى وصول الجبهة إليها، فكأنه قيل: يخرون

فإن قلت: لم كرّر (يخرون للأذقان)؟ قلت: لاختلاف الحالين؛ وهما: خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين. [(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)]. عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء: بمعنى التسمية، لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيدا. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. و (أو) للتخيير، فمعنى (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سموا بهذا الاسم أو بهذا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأجل وصول الأذقان إلى الأرض؛ لأن الانحطاط أكثر في وصول الأذقان من وصول الجبهة إليها، وحاصله أنهم يبالغون في الخرور، ويلصقون بالأرض ما أمكن إلصاقه بها من الوجه. تم كلامه. فإن قلت: قوله: "جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به" مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأنه جعل الخرور مختصاً بالذقن لقوله: (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ). قلت: إن الخرور إذا اختص بالذقن اختص الذقن به، وما عليه التلاوة أدل على خضوعهم وتواضعهم. قوله: (فمعنى (ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) سموا بهذا الاسم أو بهذا)، قال القاضي: المرادُ بالتسوية بين اللفظين، هو أنهما يُطلقان على ذات واحدة، وإن اختلف اعتبارُ إطلاقهما، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود، هذا إذا كان رداً لقول المشركين، وعلى أن يكون رداً لليهود، المعنى: أنهما سيان في حُسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود، وهو أجود، لقوله: (أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقلت: إنما كان أجود لأن اعتراض اليهود، كان تعييراً للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر، واعتراض المشركين كان تعييراً على الجمع بين اللفظين فقوله: (أَيّاً مَا تَدْعُوا) مطابق للرد على اليهود؛ لأن المعنى: أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن كما ذكره المصنف، وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين الجواب: هذا مسلم إذا كان أو للتخيير فلم يمتنع أن يكون للإباحة كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، فحينئذ: يكون ذلك أجوب، وتقريره: كل سموا ذاته المقدسة "بالله" أو بـ"الرحمن" فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب، وإن سميته بهما جميعاً فأنت أصوب؛ لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا بأن ندعوه بها في قوله: (فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فعلى هذا الآية من فنون الإيجاز الذي هو من حلة التنزيل وعلى ما قال المصنف، والمعنى (أَيّاً مَا تَدْعُوا) فهو حسن فوضع موضعه قوله: (فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) هو من باب الإطناب فظهر من هذا أن الإباحة أنسب من التخيير لأن أبا جهل حر الجمع بين الاسمين فرد إباحة أن يجمع بين أسماء يعني كيف يمنع من الجمع بين الاسمين وقد أبيح الجميع بين الأسماء المتكاثرة على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب التسوية لأن (أو) يقتضيها وكان الجواب العتيد أن يقال: إنما رجحنا "الله" على "الرحمن" في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف "الرحمن"، ويساعد ما ذكرنا من أن الكلام مع المشركين قوله تعالى: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) لأنه مناسب أن يكون تسهيلاً للرد على المشركين، ما يقول بعد إفحام الخصم: الحمد لله على ظهور الحق وزهوق الباطل، وأما بيان تنزيل الآية على الرد على المشركين فهو أن نداء ابن عباس: "يا الله يا رحمن" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد بهما المسمى فيلزم منه التعدد في المسمى، والثاني: أن يراد بهما الاسم فلا يلزم التعداد إلا في الاسم، فحمل أبو جهل على الأول وقال ما قال، فرد الله تعالى زعمه بأن نزله على الاحتمال الثاني قائلاً: (قُلْ ادْعُوا اللَّهَ) الآية، على ما سبق تقريره.

واذكروا إما هذا وإما هذا، والتنوين في (أَيًّا) عوض من المضاف إليه. و (ما): صلة للإبهام المؤكد لما في (أي)، أي: أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)، والضمير في (فَلَهُ) ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما؛ وهو ذاته تعالى؛ لأن التسمية للذات لا للاسم، والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله: (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء: أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم. (بِصَلاتِكَ) بقراءة صلاتك، على حذف المضاف؛ لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين (وَلا تُخافِتْ) حتى لا تسمع من خلفك (وَابْتَغِ بَيْنَ) الجهر المخافتة (سَبِيلًا) وسطا. وروى أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يخفى صوته بالقراءة في صلاته ويقول: أناجى ربى وقد علم حاجتي. وكان عمر رضي الله عنه يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرفع صوته بقراءته) الحديث مع التفسير متفق عليه، رواه البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قوله: (روى أن أبا بكر) الحديث مختصرٌ من رواية أبي داود والترمذي، عن أبي قتادة.

وقيل: معناه: ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وقيل: (بِصَلاتِكَ): بدعائك. وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف: 55]. وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة. [(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)]. (وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ): ناصر من الذل ومانع له منه؛ لاعتزازه به، أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت: لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مثلٌ لانتحاء الوجه)، يعني: شبه من ينبغي أن يتوسط في القراءة بمن يتوخى بين السبيلين قصداً سوياً. قوله: (أو لم يُوال أحداً)، جعل "ولياً" على الأول بمعنى الناصر، وعلق "مِن" به على تضمين معنى المنع، المعنى: ليس له ذُل ولا مانعٌ من الذل يمنعه لاعتزازه بنفسه؛ لأنه عزيزٌ بذاته، مانعٌ غيره منه، وعلى الثاني: إجراؤه على ظاهره، وجعلُ "مِن" ابتدائية، ومن ثم قال: "ولم يُوال أحداً" من أجل مذلة، وعلى التقديرين، التركيب من باب قوله: على لاحبٍ لا يهتدى بمناره قوله: (لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة)، وذلك أن من اتخذ ولداً يحتاجُ إلى الإمساك لأجله، ومن ثم قال صلوات الله عليه: "الولدُ مجبنةٌ مبخلة"، ومَن

الحمد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان له شريك في ما يتصرفه، فهو ممنوعٌ من التصرف التام، ومن احتاج إلى ناصر يدفع عنه الذُّل، كيف يقدرُ على دفعه عن الغير؟ والله سبحانه وتعالى منزه عن كل هذه الموانع، فهو يقدر على إيلاء كل نعمة، فلذلك يستحق كل الحمد. وإنما سلك هذا التأويل لأن الحمد هو: الثناء على الجميل الاختياري من نعمةٍ أو غيرها، وعدم اتخاذ الولد ونفيُ الشريك عنه ليس من الفضائل الاختيارية ظاهراً، وقد رتب عليه الحمد، فعدل إلى لازم هذه المذكورات، وهوا لقدرة على إيلاء كل نعمةن ورتب عليها الحمد. قال القاضي: نفي أن يكون له ما يواليه ويشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختياراً واضطراراً، وما يُعاونه ويقويه، ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه مستحق جنس الحمد؛ لأنه كامل الذات المنفرد بالإيجاد، المنعم على الإطلاق، وما عداه ناقصٌ، مملوك نعمةٍ أو منعمٌ عليه، ولذلك عطف عليه قوله: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). وقلت: والآية من باب التقسيم الحاصر؛ لأن المانع من الإيتاء: إما فوقه فهو القسم الثالث، أو دونه فهو القسم الأول، أو مثله فهذا القسم الثاني. ثم المناسب أن يُجعل التعريف في الحمد للاستغراق لا للجنس كما قال؛ لأن موجبه مستغرقٌ للمراتب كلها. وسورة الإخلاص واردة على هذا التقسيم فليحذُ حذوها. قوله: (إذا أفصح الغلام)، الأساس: أفصح الصبي في منطقه: فهم ما يقول في أول

كان له قنطار في الجنة، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يتكلمُ، يقال: أفصح فلان ثم فصح، وأفصح العجمي: تكلم بالعربية، وفصح: انطلق لسانه بها وخلصت لغته من اللكنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهت السورة

سورة الكهف

سورة الكهف مكية وهى مئة واحدي عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَاساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً* ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)]. لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الكهف مكية، وهي مئة وإحدى عشرة آيةً بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه)، ضمن "لقَّنَ" معنى العلم، ولذلك فسره بالفقه، والمفعول الأول: "عباده"، والثاني: الجملة الاستفهامية، وليس بتعليق لذكر

وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفعول الأول، يُريد ما ذكره في الفاتحة: " (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مقولٌ على ألسنة العباد، ومعناه: تعليمُ عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويُمجدونه ويُعظمونه". قوله: (وما انزل على عبده محمدٍ صلوات الله عليه)، عطفٌ تفسيري على قوله: "نعمة الإسلام"، وفيه: أن المذكور- من كونه مُنزلاً على عبده مستقيماً بريئاً من الاعوجاج بشيراً للموحدين الذين يعملون الصالحات، نذيراً لمن أشرك بالله وعمل عملاً غير صالح- هو الإسلام. الراغب: العبدُ يُطلق على الإنسان الذي يصح بيعه نحو: (الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة: 178]، وعلى عبدٍ بالإيجاد، وإياه عني بقوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) [مريم: 93]، وعلى عبدٍ بالعبادة والخدمة، والناسُ فيه ضربان: عبدٌ لله مخلصاً، وهو المقصود بنحو قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)؛ وعبدُ الدنيا، وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها، وإياه عني صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبدُ الدينار"، وعلى هذا يصح أن يُقال: ليس كل إنسان عبداً تعالى. وقلتُ: الحديث من رواية البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تعس عبدُ الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشفع" الحديث جمع بين النوعين من العبدين.

وفوزهم، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن معانيه، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه. فإن قلت: بم انتصب (قَيِّماً)؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب؛ لأنّ قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ) معطوف على (أنزل)، فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وتقديره: ولم يجعل له عوجا جعله قيما؛ لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعوجُ في المعاني)، الراغب: العوجُ: العطفُ عن حال الانتصاب، يقال: عُجتُ البعير بزمامه، وفلانٌ ما يعوجُ عن شيء يهم به، أي: لايرجعُ، والعوجُ: يقالُ فيما يدركُ بالبصر، كالخشب المنتصب، والعوج: فيما يدركُ بالبصيرة والفكر، كما يكون في أرض بسيطة، وكالدين والمعاش. قوله: (وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه)، الضمير المجرور في "فيه" عائدٌ إلى الشيء، المعنى: لا تجدُ شيئاً في القرآن المجيد، ولا كلمة إن أمعنت النظر فيه خارجاً عن إصابة مجز البلاغتين، من حيث اللفظ، ومتجاوزاً عن الاشتمال على الحكمتين، أعني: العلمية والعملية من حيث المعنى. قوله: (ولا يُجعل حالاً من الكتاب)، لئلا يلزم الفصلُ بين الحال وذي الحال بأجنبي، وهو (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)، وهو معطوفٌ على الصلة، قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في (له)، ويجوز أن تكون الواو في: (وَلَمْ يَجْعَلْ) للحال؛ فيكونان حالين، أي: أنزله منفياً عنه العوج قيماً.

عند السير والتصفح. وقيل: (قيما) على سائر الكتب مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع. وقرئ: (قيما). «أنذر» متعدّ إلى مفعولين، كقوله: (إنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ: 40] فاقتصر على أحدهما، وأصله (لِيُنْذِرَ) الذين كفروا (بَاساً شَدِيداً) والبأس من قوله: (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف: 165]، وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسًا وبآسة، (مِنْ لَدُنْهُ) صادراً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عند السير)، النهاية: وفي حديث الغار: قال له أبو بكر رضي الله عنه: لاتدخله حتى أسبره قبلك، أي: أختبره وأعتبره وأنر فيه، هل فيه أحدٌ أو شيء يؤذي. قوله: (وقيل: (قَيِّماً) على سائر الكتُب): عطفٌ على قوله: "لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة"، وعلى هذا لا يرد السؤال. وتلخيص الجواب: أن (قَيِّماً) إذا لم يقدر له متعلقٌ كان بمعنى مستقيماً، فكان توكيداً دفعاً للتجوز، من باب الطرد والعكس إذ مفهوم الثاني مؤكدٌ لمنطوق الأول، وبالعكس، وإذا قُدر له متعلق فإما أن يُقدر: (على)، كما في قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33] أي: رقيبٌ حافظٌ شهيد، كان تتميماً؛ لأنه حينئذٍ كاملٌ في نفسه مكملٌ لغيره، فيكون بالغاً في الاستقامة حدها، أو يقدرُ له الباء، على نحو قولهم: فلانٌ قيمٌ بهذا الأمر، فيكون تكميلاً؛ لأنه إذن مستقيمٌ في نفسه، قيمٌ بأمور غيره. وقال القاضي: (قَيِّماً): مستقيماً معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، أو: قيماً بمصالح العباد، فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفه بالكمال. قوله: ((بِعَذَابٍ بَئِيسٍ)، الأساس: وقع في البؤس والبأساء، وفي أمر بئيس: شديد.

من عنده. وقرئ: (من لدنه) بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون، (وَيُبَشِّرَ) بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم اقتصر على أحد مفعولي (ينذر)؟ قلت: قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه، فوجب الاقتصار عليه. والدليل عليه تكرير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ "من لدنه")، أبو بكر يقرأ: "من لدنه" بإسكال الدال وإشمامها شيئاً من الضم، وبكسر النون والهاء، ويصل الهاء بياء. والباقون: بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء، وابن كثير على أصله: يصلها بواو. قوله: ((وَيُبَشِّرُ) بالتخفيف والتثقيل)، بالتخفيف: حمزة والكسائي. قوله: (قد جعل المنذر به هو الغرض)، اعلم أن الفعل المتعدي إلى مفعول واحد إذا لم ينو مفعوله بقي مطلقاً فيكون الغرض منه الإطلاق، كقولك: فلان يُعطي ويمنعُ، فالغرض: إيجاد حقيقتهما، والمتعدي إلى المفعولين إذا اقتصر على واحدٍ يجري ذلك الحكم على المذكور، فيكون هو الغرض لا المنسي. قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن المنذر به هو الغرض الذي سيق له الكلام: تكرير (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) الآية، وجعلها قرينة لقوله: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) الآية، وهو موجب لأن يُذكر فيها المنذر والمنذر به كما ذُكر في أختها المبشر والمبشر به، وإنما تُرك المنذر به في الثالثة للاكتفاء بما سيق له الكلام، ولو لم يكن أصلاً [و] ثابتاً في نفسه وأنه هو الغرض الأولى لم يستغن به عن ذكر مثله في القرنية الثالثة. فإن قلت: لِمَ لم يُجعل قوله: (لِيُنذِرَ بَاساً شَدِيداً) قرينة لقوله: ((وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً)؟ فيُقدر المنذرُ فيه، وتترك القرينة الثالثة على إطلاقها ليكون الغرض في الإيراد ذكر المنذرين؟

الإنذار في قوله: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) متعلقا بالمنذرين من غير ذكر المنذر به، كما ذكر المبشر به في قوله: (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) استغناء بتقدّم ذكره. والأجر الحسن: الجنة. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي: بالولد أو باتخاذه، يعنى: أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء، وقد استملته آباؤهم من الشيطان وتسويله. فإن قلت: اتخاذ الله ولدا في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ليس جعلُ ساقةٍ الكلام أصلاً في الاعتبار ومقدتمه فرعاً أولى من العكس؛ لأنهم يُقدمون الأهم وما هم ببيانه أعني، على أن (بَاساً): ثاني مفعولي الإنذار، وهو أولى بالحذف، فترك الأول إلى ذكر الثاني أوغل في إرادة خلاف مُقتضى الظاهر، والذهاب إليه أحرى وأنسبُ؛ لأنه من حلية التنزيل، ولأن ذكر المنذر به، لا سيما اختصاصه بذكر البأس، أنفع للناس: مؤمنهم وكافرهم، فلو قُدر المنذر لاختص الإنذار بالكافرين، والمراد: الشمول. قوله: (متعلقاً)، هو: حالٌ من الإنذار، و"استغناء": مفعولٌ له، أي تكرير الإنذار - من غير ذكر المنذر به- لأجل الاستغناء، لتقدم ذر المنذر به ولذلك كرر الإنذار. قوله: (وقد استملته)، النهاية: يقال: أمللتُ الكتاب وأمليته: إذا ألقيته على الكاتب ليكتبه. الجوهري: استمليته الكتاب: سألته أن يمليه عليَّ. قوله: (اتخاذ الولد في نفسه محالٌ)، يعني: إنما ينبغي من الشخص العلمُ بالشيء إذا

به من علم؟ قلت: معناه ما لهم به من علم؛ لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. قرئ: (كبرت كلمة) و (كلمة)؛ بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية، والنصب أقوى وأبلغ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان ذلك الشيء ثابتاً في نفسه، وأنه فاقدٌ للطريق الموصل إليه، واتخاذ الولد ف نفسه مُحالٌ، فكيف قيل: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)؟ وتلخيص الجواب: جاز ذلك إرادة للمبالغة، وأن ما تفوهوا به معدومٌ بالطريق البرهاني، كأنه قيل: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)؛ لأنه ليس مما يتعلق به العلم؛ لأن العلم تابعٌ للمعلوم، والمحالُ لا يستقيم تعلق العلم به، لكن هذا السؤال مستدرك؛ لأنه قال أولاً: إن قولهم هذا لم يصدر عن علم لكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء. قوله: (وقرئ: (كَبُرَتْ كَلِمَةً)، و"كلمة")، قال ابن جني: بالرفع قرا يحيى بن يعمر، الحسن، وابن محيصن. سمى قولهم: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً): كلمة، كما سموا القصيدة- وإن كانت مئة بيت- كلمة، وهذا كوضعهم الاسم الواحد على جنسه، ولله فصاحة الحجاج وكثرة قوله على المنبر يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل. الراغب: وتستعمل الكبيرة فيما يشق ويصعب، نحو: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]، وقوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً) ففيه تنبيه على عظم ذلك من بين الذنوب، وعظم عقوبته، وكذلك: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ) [الصف: 3]. قوله: (والنصب أقوى)؛ لأنه فاعلٌ مُزالٌ عن أصله للإبهام والتبيين.

وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أكبرها كلمة. و(تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه معنى التعجب)، قال في قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ) [الصف: 3]: "قصد في (كَبُرَ) التعجب من غير لفظه، كقوله: . غلت نابٌ كليب بواؤها ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج من نظائره. قوله: (و (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): صفة للكلمة)، هذا إذا كانت مرفوعة ظاهر، وإن نُصبت تمييزاً يلزم وصفُ التمييز، وهو جائز، وقد جاء معرفة في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130]، وقول الشاعر: ولا بفزارة الشعر الرقابا على أن الوصف غير مخصص، بل هو مؤكد، نحو قوله: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) [الأنعام: 38]، وقال أبو البقاء: (كَلِمَةُ): تمييز، والفاعل مضمر، أي: كبرت مقالتهم، وفي: (َخْرُجُ) وجهان، أحدهما: هو في موضع نصب صفة لـ"كلمة"، والثاني: في موضع رفع تقديره: "كبرت كلمة كلمة تخرج"؛ لأن "كَبُرَ" بمعنى "بَئسَ"، فالمحذوف هو المخصوص بالذم.

فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ: (كبرت) بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت: إلى قولهم: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً)، وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها. [(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)]. شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم، ويبخع نفسه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان)، إلى قوله: (بل يكظمون عليه تشوراً من إظهاره)، مقتبسٌ من قوله صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه لأن يُحرق أو يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال: "ذلك محض الإيمان"، أخرجه مسلمٌ. قوله: (شبهه وإياهم)، يعني: شبه الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه في قوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ)، فالاستعارة تمثيلية لكون المشبه: حاله وحال قومه، والمشبه به: حال الرجل مع أحبته. قوله: (ويبخع نفسه). الراغب: البخع: قتل النفس غماً، وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) حث على ترك التأسف، نحو: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر: 8]، قال الشاعر: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه وبخع فلانٌ بالطاعة، وبما عليه من الحق: إذا أقر به وأذعن مع كراهةٍ شديدة تجري مجرى: بخع نفسه في شدته.

وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم. وقرئ: (باخع نفسك) على الأصل وعلى الإضافة، أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ: (إن لم يؤمنوا)، وللمضي فيمن قرأ: (أن لم يؤمنوا)، بمعنى: لأن لم يؤمنوا (بِهذَا الْحَدِيثِ) بالقرآن، (أَسَفاً) مفعول له، أي: لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالاً. والأسف: المبالغة في الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف. [(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً* أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً* فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)]. (ما عَلَى الْأَرْضِ) يعنى: ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وحسن العمل: الزهد فيها وترك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وللمضي فيمن قرأ: "أن لم يؤمنوا")، قال أبو البقاء: "أن لم يؤمنوا" بالفتح: شاذة، والجمهور على الكسر. ومُرادُ المصنف أن المناسب على قراءة من قرأ "أن لم يؤمنوا" بفتح (أنْ) حملُ (بَاخِعٌ) على المعنى بناء على حكاية الحال الماضية، قال أبو البقاء: كأنه قيل: لعلك بخعت نفسك لأجل عدم إيمانهم، فجيء باسم الفاعل لتصوير تل الحالة في ذهن السامع واستحضارها، وعلى من قرأ (إنْ) بالكسر، المناسب حملُ (بَاخِعٌ) على الاستقبال لأجل الشرط، كأنه قيل: لعلك تبخع نفسك الآن أو غداً إن لم يصدر منهم إيمانٌ. قوله: (رجلٌ أسفٌ وأسيف)، رُوي عن المصنف: الأسف أصلٌ معناهُ: الجهد دون العفو، ومنه الأسيف: الأجير، لجهده في العمل، ألا تراه سُمي عسيفاً من العسف؟ قوله: (وحسنُ العمل: الزهد فيها). قال القاضي: " (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في

الاغترار بها، ثم زهد في الميل إليها بقوله: (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من هذه الزينة، (صَعِيداً جُرُزاً) يعنى: مثل أرض بيضاء لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعاطيه، وهو من زهد فيه ولم يغتر به، وقنع منه بما يُزجي به أيامه وصرفه على ما ينبغي فيه، وفيه تسكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (ثم زهد في الميل إليها بقوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ))، يعني: قال أولاً: إنا زينا وجه الأرض ابتلاء واختباراً، ثم بينا أنها في عُرض الفناء ووشك الزوال ليزهدوا فيه، كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) [يونس: 24]. قوله: (من هذه الزينة)، جاء بـ (هذه) ليُشير إلى تحقير شأن الزينة. قوله: (بيضاء لا نبات فيها)، الراغب: (جُرُزاً)، أي: منقطع النبات من أصله، وأرض مجروزة: أُكل ما فيها، والجروز: الذي يأكل ما على الخوان، وفي المثل: "لا ترضى شانئة إلا بجرزة"، أي: بالاستئصال، والجرزُ: القطعُ بالسيف، وسيفٌ جُراز. قوله: (بهجته)، الجوهري: البهجة: السرور. الراغب: البهجة: حُسن اللون وظهور السرور فيه، قال تعالى: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) [النمل: 60]، وقد بهُجَ فهو بهيجٌ، ويقال: باهجٌ، وقد ابتهج بكذا، أي: سُرَّ به سُروراً بان أثره على وجهه، وأبهجه كذا.

ما به كان زينة: من إماتة الحيوان، وتجفيف النبات والأشجار، ونحو ذلك. ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال: (أَمْ حَسِبْتَ) يعنى: أن ذلك أعظم من قصة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما به كان زينةً)، أي: ما كانت الأرض مزينة به، أو: الذي كان ما على الأرض مزيناً به. قوله: (من إماتة الحيوان)، بيانٌ لقوله: "'إزالة بهجته" أو "ما" في "ما به". قوله: (ثم قال: (أَمْ حَسِبْتُ))، يعني: أن ذلك أعظمُ من قصة أصحاب الكهف، يعني: (أم): منقطعةٌ، والهمزة فيه للتعجب، يعني: يتعجب من قصة أصحاب الكهف ويتركُ ما سبق، والإنسانُ من عادته أن يتعجب من شيء قل إيناسه به، وإن كان الذي بحضرته أعجب منه، وتلخيص ما ذكره الإمام في هذا المعنى هو: أنه تعالى لما قال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) أي: أخرجنا أنواع زخارف الأرض وزينتها، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) [يونس: 24]، وأصناف المنافع الفائتة للحصر على طبائع مُتباعدة، وهيئاتٍ متخالفةٍ، من مادة واحدة، ابتلاء لبني آدم، قال بعده: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) أي: أحسبت أن أحوالهم كانت أعجب من آياتنا؟ فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها أعجب، فإن من كان قادراً على خلق السماوات والأرض، ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان، ثم تقليبها (صَعِيداً جُرُزاً) كيف يُستبعد من قدرته ورحمته حفظُ طائفةٍ في النوم سنين متطاولة؟ وقال محيي السُّنة: (أَمْ حَسِبْتَ): أظننت يا محمد (أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً)، أي: هم عجبٌ من آياتنا. وقيل: معناه: ليسوا بأعجب من آياتنا، فإن ما خلقتُ من السماوات والأرض وما فيهن أعجبُ منهم.

أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة. و (الكهف): الغار الواسع في الجبل، (وَالرَّقِيمِ) اسم كلبهم. قال أمية ابن أبي الصلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: تقريب هذين المعنيين إنما يظهر بتحقيق معنى الهمزة في "امْ"؛ لأنها منقطعةٌ متضمنة للهمزة و"بلْ"، كما قال الراغب: "أمْ"، إذا قُوبل به همزة الاستفهام، فمعناه: أي، نحو: أزيدٌ عندك أم عمروٌ، أي: أيهما؟ وإذا جُرد عن ذلك يقتضي معنى ألف الاستفهام مع "بل"، نحو: (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأَبْصَارُ) [ص: 63]، أي: بل زاغت. فإن حُملت على الإنكار أفاد النفي، أي: لا يُتعجب منه، وإن حُملت على التنبيه أفاد التقرير، أي: هم عجبٌ من آياتنا فاعلمه، ولعل هذا أقرب؛ لأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الكلام الثاني أغرب وأحسن ليحصل الترقي. وأيضاً، يقتضي المنكرُ أن يكون مقرراً عن السامع معلوماً عنده، وما لا يعلمه كيف يقال له: لا تتعجب منه؟ وكيف لا وإن هذا ابتداءُ إعلام من الله بقصتهم بشهادة سؤال المنكرين، وإمساك النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي أربعين أو خمسة عشر يوماً، ثم نزول الآيات تصديقاً له؟ فالوجه أن يُجرى الكلامُ على التسلي والاستفهام على التنبيه. ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم لما أخذه من الكآبة والسف من إباء القوم وامتناعهم عن الإيمان ما بلغ أن يبخع نفسه، قيل له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)، وعلل ذلك بقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، أي: جعلنا ذلك لنختبرهم، وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم بها، تلهوا بها، وتشاغلوا عن آياتنا، وغفلوا عن شُكرها، وبدلوا الإيمان بالكفران، فلا تُبال بهم، فإنا لجاعلون أبدانهم جرزاً لأسيافكم، كما إنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً، ألا ترى إلى أولئك الفتيان

وليس بها إلّا الرّقيم مجاورًا ... وصيدهم والقوم في الكهف همّد وقيل: هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم، جعل على باب الكهف. وقيل: إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل: الجبل. وقيل: قريتهم. وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين (كانُوا) آية (عَجَباً) من آياتنا، وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب، (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن عليه من مفارقة الكفار، (رَشَداً) حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله، كقولك: رأيت منك أسدا، (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف اهتدوا وفروا إلى الله وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا على الكهف قائلين: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)، وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا، يتعلق بإرشاد قومٍ من أمتك: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54]، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (وليس بها إلا الرقيم) البيت، الوصيد: فناء البيت، وهو مفعول "مجاوراً"، يعني: أن أصحاب الكهف كانوا رقوداً في الغار وكلبهم مجاوراً لوصيدهم. قوله: (أيلةَ): دون فلسطين. النهاية: أيلة- بفتح الهمزة وسكون الياء -: البلدُ المعروف فيما بين مصر والشام. قوله: (أو: اجعل أمرنا رشداً كله، كقولك: رأيت منك أسداً)، (مِن) على الأول: صلة (َهَيِّئْ)، وعلى هذا بيان وتجريد، جرد من الأمر رشداً وهو الأمر بعينه مبالغةً في رشاده، ولهذا قال: رشداً كله.

أي: ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، يعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب. كما يقال: بني على امرأته، يريدون: بني عليها القبة، (سِنِينَ عَدَداً) ذوات عدد، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة؛ لأن الكثير قليل عنده، كقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (الأحقاف: 35)، وقال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنمناهم إنامة ثقيلة)، يريد أن قوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ): كناية عن الإنامة الثقيلة: لأن المستثقل في نومه يُصاح به فلا يسمعُ، وإنما خُصت الآذان دون العيون، مع أن النوم يتعلق بها؛ لأن المراد المبالغة في النوم، فإن النائم في الأكثر يتنبه بسبب نُفوذ الصُّراخ في منفذ الصماخ. قوله: (بني على امرأته)، الأساس: بني على أهله: دخل عليها، وأصله أن المُعرس أن يبني على أهله خباء. قوله: (وقال الزجاج: إذا قل فُهِم مقدارُ عدده، فلم يحتج أن يُعد، وإذا كثُر احتاج إلى أن يُعد)، هذا مختصرٌ من كلامه، وكلامه أن (عَدَداً): منصوبٌ على ضربين، أحدهما: على المصدر، المعنى: يعد عدداً، ويجوز أن يكون نعتاً للسنين: والمعنى سنين ذات عدد، والفائدة في قولك: عددٌ في الأشياء المعدودات: أنك تريدُ توكيد كثرة الشيء؛ لأنه إذا قل فُهم مقدارُ عدده فلم يحتج إلى أن يُعد، وإذا كثُر يحتاج إلى أن يُعد، والعددُ في قولك: أقمت أياماً عدداً، تريد به الكثرة، وجائزٌ أن يؤد بعددٍ معنى الجماعة أنها قد خرجت من معنى الواحد. وقلتُ: ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها في حديث بدء

[(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)]. (أَيُّ) يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه (لِنَعْلَمَ) فلم يعمل فيه. وقرئ: (ليعلم) وهو معلق عنه أيضا؛ لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد «يعلم» إليه، وفاعل «يعلم» مضمون الجملة كما أنه مفعول «نعلم»، (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم في مدّة لبثهم؛ لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله: (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف: 19]، وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول، أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم، و (أَحْصى) فعل ماض، أي: أيهم ضبط (أَمَداً) لأوقات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوحي: وكان يخلو بغارِ حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد. الحديث، قيل: فيه نظرٌ؛ لأن العدد يعبر به عن القلة، كقوله تعالى: (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف: 20]، أي: قليلة تُعد عداً، ولأن الكثيرة يمنع من عدها كثرتها، فإنما تُهالُ هيلاً، أو تُكالُ كيلاً. وأجيب: بأن الكثرة والقلة بحسب اقتضاء المقام، فإن مقام التعجب من خرق العادة يقتضي الكثرة، على أن المراد بقوله: (سِنِينَ عَدَداً) [الكهف: 11]، (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف: 25]، ومقام التهاون بيوسف والزهد في قيمته يقتضي القلة. قوله: (أي الحزبين المختلفين)، الراغب: الحزب: جماعةٌ فيها غلظٌ، وحزبُ الشيطان. وقوله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ) [الأحزاب: 22] عبارة عن المجتمعين لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ). قوله: ((أَحْصَى) فعلٌ ماض)، الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصى، واستعمال ذلك فيه من حيثُ إنهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا

لبثهم. فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من (أفعل) التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه على الأصابع. قال تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن: 28]، أي حصله وأحاط به. وفي الحديث: "من أحصاها دخل الجنة"، وفيه: "نفسٌ تنجيها خيرٌ لك من إمارة لا تحصيها"، وفيه: "استقيموا ولن تحصوا"، أي: لن تحصلوا ذلك، ووجه تعذر إحصائه وتحصيله: هو أن الحق واحدٌ والباطل كثيرٌ، بل الحق بالإضافة إلى الباطل كالنقطة بالإضافة إلى سائر أجزاء الدائرة، وكالمرمى من الهدف، فإصابة ذلك شديد. وقال أبو البقاء: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ): مبتدأ، والخبر: (أَحْصَى)، و (أَمَداً): مفعوله: و (لِمَا لَبِثُوا): نعتٌ له، قُدم فصار حالاً أو مفعولاً له، أي: لأجل لُبثهم. قوله: (فما تقول فيمن جعله من "أفعل" التفضيل؟ )، هذا السؤال وجوابه إشارة على ما ذهب إليه الزجاج في "تفسيره"، وما أورد عليه أبو علي في "الإغفال". قال الزجاج: الأمد: الغاية، وهو منصوبٌ، إما على التمييز أو على أنه مفعول (أَحْصَى)، كأنه قيل: لنعلَمَ أهؤلاءِ أحصى للأمد أو هؤلاء؟ أو يكون منصوباً بـ (لَبِثُوا)، و (لِمَا): متعلق بـ (أَحْصَى). المعنى: أي الحزبين أحصى للُبثهم في الأمد. وقال أبو علي: الحمل على التمييز عندي غير مستقيم؛ لأن (أَحْصَى) لا يجوز أن يكون أفعل التفضيل لأمرين، أحدهما: أن أفعل يفعل لا يُبنى منه أفْعِلْ من كذا. وأما قولهم: ما أولاه للخير وما أعطاه للدرهم! فمن الشاذ النادر الذي لا يُقاس عليه.

السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس، ونحو: (أعدى من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: أن التمييز في نحو: هو أكثرُ مالاً وأحسنُ وجهاً: فاعلٌ في المعنى، وإن كان منتصباً في اللفظ؛ لأن الوجه هو الذي حَسُنَ، والمال هو الذي كثر، ليس الأمد هو الذي أحصى. كذا ذكر ابن الحاجب في "الأمالي". وقال أبو علي: وفيه وجهٌ آخر لو جُوز حملُ (أَحْصَى) على أفعل التفضيل في الشذوذ، يكون (أَمَداً) منتصباً بفعل يدل عليه (أَحْصَى). وقال صاحب "التقريب": التفضيلُ هو السابق إلى الفهم، والتقسيم غير منحصر، لجواز انتصابه تمييزاً (لِما)، والمعنى: أضبط للأمد الذي لبثوه. وقال صاحب "الانتصاف": لقائل أن ينصبه تمييزاً لقوله: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن: 28]، وإن كانت (َأَحْصَى) هناك فعلاً، ويؤيده أن الواقعة في اختلاف الأحزاب مقدار اللبث، (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) فأمثلهم طريقة هو أحصاهم أمداً. وقال صاحب "الإنصاف": لا بُعدَ فيما استبعده الزمخشري من إضمار فعلٍ من جنس أفعلَ، كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النحل: 125] يحتاجُ إلى إضمار فعل آخر من جنس أفعل؛ إذ الإضافة مستحيلةٌ هناك، وللزمخشري أن يجيب بأن هناك بناء على ضرورة، ولا ضرورة هاهنا؛ ولذلك قال: "أبعدت المتناول وهو قريب". قوله: (أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس)، الانتصاف: جعل بعضُ النحاة بناء أفعل من المزيد فيه الهمزة قياساً، ونسبه إلى سيبويه، وعلله بأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة، إنما هو تعويض همزة بهمزة.

الجرب)، و «أفلس من ابن المذلق» شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن (أَمَداً) لا يخلو: إما أن ينتصب بـ (أفعل)، فـ (أفعل) لا يعمل، وإما أن ينصب بـ (لبثوا)، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه (أحصى)، كما أضمر في قوله: وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأفلس من ابن المذلق)، قال الميداني: يُروى بالدال والذال، وهو رجلٌ من بني عبد شمس، وأبوه وأجداده يعرفون بالإفلاس. قال الشاعر في أبيه: فإنك إذ ترجو تميماً ونفعها ... كراجي الندى والعُرف عند المذلق قوله: (وإما أن يُنصب بـ (لْبَثُوا)، فلا يُسد عليه المعنى)، هو رد على الزجاج، أو يكون منصوباً بـ (لْبَثُوا) أي: أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد؟ لأن المعنى: أيكم أضبط للأمد الذي لبثوه؟ فالمحصي المد لا اللبث. وقيل: إنما لا يُسد عليه المعنى لأن "أمداً" معناه انتهاء المدة وغايتها، وليس المعنى على أنهم لبثوا انتهاء المدة، وفيه نظرٌ؛ لأن "الأمد" يُطلق على المدة كلها وعلى غايتها. النهاية: قال الحجاج للحسن: ما أمدُك؟ قال: سنتان لخلافة عمر، وللإنسان أمدان: مولده وموته. قوله: (فلا يُسد عليه) بفتح السين في النسخ. الجوهري: سد قوله يسد، بالكسر، أي: صار سديداً. الأساس: وسد الرجل يسد: صار سديداً، وسد قوله وأمره يسد، وأمره سديد، وقلت له سداداً من القول، وسدداً: صواباً. قوله: (وأضرب منا بالسيوف القوانسا)، قبله: ولم أر مثل الحي حياً مصبحاً ... ولامثلنا يوم التقينا فوارسا

على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون (أحصى) فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت: كيف جعل الله تعالى العلم بإحصائهم المدّة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت: الله عز وجل لم يزل عالما بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم؛ ليزدادوا إيمانا واعتبارا، ويكون لطفا لمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفاره. [(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً* وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً* هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأتُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا المصبح: المغارُ عليه وقت الصبح، وحقيقة الرجل: ما لزمه الدفاع عنه من أهل لبيته، والقوانس: جمع قونس: وهو أعلى البيضة، مدح كلا الفريقين عدوهم ونفسهم، يقول: لم أر مُغارا عليهم كالذين صبحناهم، ولا مُغيرا مثلنا يوم لقيناهم. قوله: (فقد أبعدت المتناول)، وهو انه منصوب بـ (أَحْصَى)؛ لأنك أثبت أولاً أنه منصوبٌ به، ثم يقدره بعد ارتكاب هذه التكاليف. قوله: (وإنما أراد ما تعلق به العلمُ من ظهور الأمر لهم)، يعني: ضربنا على آذانهم ليظهر معلومُ العلم، وهو أيهم أحصى أمد لُبثهم، فالتعليلُ ليس لحصول العلم، بل لظهور المعلوم، يعني: كان هذا الأمر العجيب معلوماً لله تعالى في الأزل، فتعلقت إرادته بإظهاره للمكلفين ليتعجبوا منه ويعتبروا به، فيكون مزيداً لإيمانهم ولُطفاً لمؤمني زمانهم، بأن يستنوا بسنتهم، ودليلاً ظاهراً على وجود الصانع لكافريهم، فيستدلوا به ثم يؤمنوا.

عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)]. (وَزِدْناهُمْ هُدىً) بالتوفيق والتثبيت، (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام (إِذْ قامُوا) بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم، (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... شَطَطاً) قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه، من: شط: إذا بعد. ومنه: أشط. في السوم وفي غيره، (هؤُلاءِ) مبتدأ، و (قَوْمُنَا) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر)، الأساس: ربط الدابة: شدها بالرباط، والمربطُ هو الحبلُ، ومن المجاز: ربط الله على قلبه: صبره، ورجلٌ رابط الجأش، فالربط هنا تمثيل، ومعنى الاستعلاء في (على) المبالغة؛ لأن ربط يتعدى بنفسه، فجُعل بمنزلة اللازم، وعُدي بـ"على"، نحو قوله: .. يجرح في عراقيبها نصلي قوله: (ومنه: أشط في السوم)، الأساس: أشط في السوم واشتط، يقال: "لا وكس ولا شطط"، وأشط في الحكم، وأشطوا في طلبه: أمعنوا. الراغب: الشطط: الإفراطُ في البُعد، يقال شطت الدارُ، وأشط، يقال في المكان، وفي الحكم، وفي السوم، قال: شط المزار بحزوى وانتهى الأمل

عطف بيان (اتَّخَذُوا) خبر وهو إخبار في معنى إنكار، (لَوْلا يَاتُونَ عَلَيْهِمْ) هلا يأتون على عبادتهم، فحذف المضاف بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ وهو تبكيت، لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه. [(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَاوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)]. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم (وَما يَعْبُدُونَ) نصب، عطف على الضمير، يعنى: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم (إِلَّا اللَّهَ) يجوز أن يكون استثناء متصلا، على ما روى: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل: هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعُبر بالشطط عن الجورِ، قال تعالى: (لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)، وشط النهر: حيث يبعُد عن الماء من حافته. قوله: (وهو دليلٌ على فساد التقليد)، قال القاضي: وفيه دليلٌ على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردودٌ، وأن التقليد فيه غير جائز. قوله: ((إِلاَّ اللَّهُ) يجوز أن يكون استثناء متصلاً)، فـ (ما) في (مَا يَعْبُدُونَ): موصولة، و (إِلاَّ اللَّهُ): يجوزأن يكون استثناء متصلاً، و ((إِلاَّ اللَّهُ)) مستثني من (ما)، أو من العائد المحذوف. قوله: (وقيل: هو كلامٌ معترض)، فالتقدير: وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف،

مِرفَقاً قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به: أي ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبىّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبياً. [(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)]. (تَتَزاوَرُ) أي تمايل، أصله: تتزاور، فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ: تزورّ. وتزوارّ: بوزن تحمرّ وتحمارّ، وكلها من الزور وهو الميل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاعترض بين الشرط والجزاء جملةٌ منفية مؤكدة لمعنى ما اعترضت فيه، وهو إخلاص العبادة لله تعالى. قوله: ((مِرفَقاً) قرئ بفتح الميم وكسرها)، نافعٌ وابن عامرٍ: بفتح الميم وكسر الفاء، والباقون: بكسر الميم وفتح الفاء. قوله: (ونصوع يقينهم)، الجوهري: الناصعُ: الخالص من كل شيء. قوله: (وقد قرئ بهما، وقرئ: "تزور")، ابن عامرٍ: بإسكان الزاي وتشديد الراء، والكوفيون: بفتح الزاي مخففة، وألفٍ بعدها، والباقون: يشددون الزاي ويثبتون الألف. قوله: (و"تزوارُّ")، قال ابن جني: قرأها الجحدري، وقلما جاءت "افعالَّ" إلا في الألوان، نحو: اسواد واحمار واصفار، أو العيوب الظاهرة نحو: احولَّ واحوالَّ، واعورَّ واعوارَّ، وقد جاءت افعالَّ وافعَلَّ، وهي مقصورةٌ من افعالَّ، في غير الألوان، قالوا:

ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين (تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة: إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالاً وعن أيمانهنّ الفوارس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ارعوى، وهو افعلَّ، واقتوى، أي: خدم وساس، من القتو، وهو الخدمة. وقالوا: اشعار رأسه، أي: تفرق شعره. الراغب: الزور: أعلى الصدر، وزُرت فلاناً: تلقيته بزوري، أو قصدت زوره، نحو: وجهته، والزور: ميل في الزور، (تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) أي: تميل، وقرئ: "تزور". قال أبوالحسن: لا معنى لـ"تزورُّ" هنا؛ لأن الازورار: الانقباضُ، وقيل للكذب: زورٌ لميله عن جهته. وقوله: ((تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم)، الراغب: القرضُ: ضربٌ من القطع، ويسمى قطع المكان وتجاوزه قرضاً، كما سُمي قطعاً. قال: (تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) أي: تجوزهم، وسُمي ما يُدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضاً، وسُمي المفاوضة في الشعر مقارضة، والقرضُ للشعر مستعارٌ استعارة النسج والحوك. قوله: (إلى ظُعُنٍ)، وقبله: نظرت بجرعاء السبية نظرة ... ضُحى وسوادُ العين في الماء شامس إلى ظُعن يقرضن أقواز مشرفٍ ... شمالاً، وعن أيمانهن الفوارس

(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أنّ الله يحجبها عنهم. وقيل: في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسبون كرب الغار (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أي ما صنعه الله بهم - من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة - آية من آياته، يعنى: أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم، اختصاصا لهم بالكرامة. وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش، فهم في مقنأة أبداً. ومعنى ذلِكَ (مِنْ آياتِ اللَّهِ): أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله، (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرّض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجرعاء: الرملة لا تنبت، والسبية: المرأة تُسبي. شامسٌ: من شمس الفرس شماسا، أي: منع ظهره، شبه كلال العين بشماس الفرس. الظُّعُن: النساء في الهودج. الأقوازُ: جمعُ قوز، وهو الكثيبُ، مشرفٌ: رملٌ معروفٌ، وكذا الفوارس: علمُ أرمالٍ معروفةٍ بالدهناء، ويمكنُ أن يكون مع فرسان. يقول: نظرتُ إلى ظُعُنٍ يقطعن الأرض في السير بحيثُ كانت الأقواز عن شمالهن وعن أيمانهن الفوارس تحميهن. قوله: (في متسع من الكهف)، الراغب: (فِي فَجْوَةٍ)، أي: ساحة واسعة، ومنه: قوسٌ فجاءٌ وفجواءُ: بان وترُها عن كبدها، ورجلٌ أفجي: بينُ الفجا، أي: متباعد ما بين العرقوبين. قوله: (فهم في مقنأة أبداً)، الجوهري: مقنأة: نقيضُ مضحاة، يُهمز ولا يهمز. قوله: (وان كل من سلك طريقة المهتدين)، يريد أن قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ) الآية، كالتذييل

[(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)]. (وَتَحْسَبُهُمْ) بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد. والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل: لكثرة تقلبهم وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للكلام السابق، وجيء به عاماً في كل من سلك طريق المهديين، ومن تعرض للخذلان ليدخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً فيكون ثناءً عليهم بأبلغ وجه، كلامٌ حسنٌ، لكن فهي اعتزالٌ خفيٌّ خفي على صاحب "الانتصاف"؛ حيثُ نسبهُ إلى أفعالهم، فهلا حمله على فعل الله تعالى لينظر إلى بيان إرادة الله تعالى ومشيئته واختصاصهم بهذ الكرامة السنية، وتحريم غيرهم عنها، فيكون تذييلاً لقوله: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) لقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ)؛ فيكون ثناء على الله تعالى. وفي تكرير أمر واحد في الشرط والجزاء في الموضعين للدلالة على ما قررناه. وأيضاً، لو أريد مدحهم لاكتفى بقوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فحسب، قال القاضي: المرادُ به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل والاستبصار. قوله: ((وَتَحْسَبُهُمْ)، بكسر السين): نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو والكسائي. قوله: (وقيل: لكثرة تقلبهم)، روى الإمام عن الزجاج: لكثرة تقلبهم فظُنَّ أنهم أيقاظٌ، والدليل عليه قوله: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ). وقلتُ: على هذا يجوز

وقرئ: (ويقلبهم) بالياء والضمير لله تعالى. وقرئ: وتقلبهم، على المصدر منصوبا، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) كأنه قيل: وترى وتشاهد تقلبهم. وقرأ جعفر الصادق: وكالبهم أي وصاحب كلبهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ حكاية حال ماضية، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة، كغلام زيد، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد: الفناء، وقيل: العتبة. وقيل: الباب. وأنشد: بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر وقرئ: (ولملئت) بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ بتخفيف الهمزة وقلبها ياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن تكون الواو في: (وَنُقَلِّبُهُمْ) للحال أيضاً بخلاف الأول. قوله: (وقرئ: "وتقلبهم"). قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، كأنه قال: وترى أو تُشاهدُ تقلبهم. قوله: (بأرض فضاءٍ)، البيت. قيل: يصف حاله في البدو، أي: ضيافتي في البدو مشهورةٌ. وقيل: نزلنا بأرض فضاءٍ لا يُسد بابها عليَّ، وعرفان الناس إياي بهذه الأرض غير منكرٍ عندهم. و"لا يُسد وصيدها": من قولهم: لا ترى الضب بها ينجحر قوله: ("ولمُلئتَ"، بتشديد اللام): نافعٌ وابن كثير، وبتخفيف الهمزة: أبو عمرو، و (رُعْباً)، بالتثقيل: ابن عامرٍ والكسائي، والباقون بالتخفيف.

و (رُعْباً) بالتخفيف والتثقيل، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم. وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال: وكشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) فقال معاوية، لا أنتهي حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم. وقرئ: لو اطلعت، بضم الواو. [(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَاتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً* إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)]. (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إذكارًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الرعبُ: الانقطاع من امتلاء الخوف، يقال: رعبته فرعب رُعباً فهو رعِبٌ، والترعابة: الفروق. قال تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ) [الأحزاب: 26]، (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)، ولتصور الامتلاء منه قيل: رعبت الحوض: ملأته، وسيل راعبٌ: يملأُ الوادي، وباعتبار القطع قيل: رعبت السنام: قطعته. قوله: ((وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ)، إذكاراً). الراغب: أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثته فانبعث، والبعث ضربان: إلهيٌّ، وهو أنواع، أحدها: إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن العدم. وثانيها: بعث الموتى، قال تعالى: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ)

بقدرته على الإنامة والبعث جميعا، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) جواب مبنى على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله. وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. فإن قلت: كيف وصلوا قولهم: (فَابْعَثُوا) بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الأنعام: 36]، أي: يخرجهم وينشرهم. وثالثها: بعثة الرسل لإرشاد الخلق وتكميل الناقصين. ورابعها: الإلهام، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ) [المائدة: 31]. وخامسها: مُشابه لبعث الموتى، قال تعالى: (بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) [الكهف: 12]. والضرب الثاني: بشريٌّ، نحو قولهم: بعثتُ زيداً في حاجة فلان، وبعثتُ الجيش والبعوث، وبعثتُ البعير: أثرته وسيرته. قوله: (كيف وصلوا قولهم: (فَابْعَثُوا) بتذاكر حديث المدة)، يعني: ما المناسبة بين قوله: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وبين قوله: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ)؟ وأجاب: أنه من باب الأسلوب الحكيم، كقوله: أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها: ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي قال القاضي: وقيل: إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم،

قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب. وقرئ: بورقكم، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير: (بورقكم) بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف. وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله عنها - لمن سألها عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا ذلك فلما نظروا إلى طُولِ أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا، ثم لما علموا أن الأمر مُلتبسٌ لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ). قوله: (يوم الكلاب)، النهاية: الكلابُ، بالضم والتخفيف: اسم ماءٍ، وكان به يومٌ معروف من أيام العرب، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": هو عرفجة بن أسعد بن صفوان التميمي، أصيب أنفه يوم الكُلاب في الجاهلية، فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب. قوله: (وقرئ: "بورقكم")، أبو بكر وأبو عمرو وحمزة: بإسكان الراء، والباقون: بكسرها.

محرم يشدّ عليه هميانه: أوثق عليك نفقتك. وما حكي عن بعض صعاليك العلماء» أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شدّ الهميان، والتوكل على الرحمن (أَيُّها) أيّ أهلها، فحذف الأهل كما في قوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82]، (أَزْكى طَعاماً) أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص، (وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) يعني: ولا يفعلنّ ما يؤدى من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعارا منه بهم، لأنه سبب فيه الضمير في (إِنَّهُمْ) راجع إلى الأهل المقدر في (أَيُّها). (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أوثق عليك نفقتك)، من الأسلوب الحكيم، أي: لا شك في جوازه، وإنما الذي يهمك هو هذا. قوله: ((أَزْكَى طَعَاماً): أحل وأطيب)، الراغب: أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية، يقال: زكا الزرع يزكو: إذا حصل منه نمو وبركة. وقوله: (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً) إشارةٌ إلى حلال لا يستوخم عقباه. ومنه الزكاة يخرجها الإنسان إلى الفقراء لما فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات، أو لهما جميعاً، فإن الخيرين موجودان فيها. قوله: (والنيقة). الأساس: تنوق في الأمر، وفلان له نيقة، ومن المجاز: تأنق فيعمله، وفي كلامه: أي: فعل فعل المتأنق. قوله: ((وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً)) من باب قولهم: لا أرينك هاهنا، ولهذا قال: "ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصدٍ منه إلى الشعور".

أخبث القتلة وهي الرجم، وكانت عادتهم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ) أو يدخلوكم (فِي مِلَّتِهِمْ) بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم، يقولون: ما عدت أفعل كذا. يريدون ابتداء الفعل (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إن دخلتم في دينهم. [(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)]. (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) وكما أنمناهم وبعثناهم، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهو البعث، لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. (وإِذْ يَتَنازَعُونَ) متعلق بـ (أعثرنا). أي: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث، فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح، ليرتفع الخلاف، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت فَقالُوا حين توفى الله أصحاب الكهف (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي على يأب كهفهم. لئلا يتطرّق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ) على باب الكهف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكما أنمناهم وبعثناهم ... اطلعنا عليهم)، يعني: المشار إليه بقوله: (وَكَذَلِكَ) ما سبق من الإنامة والبعث، وهو المشبه به، والمشبه: إطلاع الناس عليهما، ووجه التشبيه: ما اشتملا عليه من الحكمة، وفائدتها: حصول اليقين لمن يشك في البعث وفي (أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). قوله: (وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم)، هو: حالٌ من فاعل (غَلَبُوا)؛ لأن القوم لما

(مَسْجِداً) يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم أي: يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم، فقالوا: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. روى أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها، وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله فقال: ما تريدون منى، أنا أحبّ أحباء الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنازعوا في أمر دينهم، وعرفوا حقيقة الحال، فمن غالب صاحبه في النزاع، وأن البعث لابد منه، هو أولى من الآخر في اتخذا المسجد، وإيثار مكان أصحاب الكهف لتعبده. الأساس: تغالبوا على البلد، وغلبته على الشيء: أخذته منه، و"أيغلب أحدكم أن يُصاحب الناس معروفاً؟ " بمعنى: أيعجز. قوله: (وقيل: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ))، اعلم أن الأمر في قوله تعالى: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) هو الأمر من واحد الأمور والشؤون، ثم لا يخلو الضمير المضاف إليه: غما أن يكون للقوم فيُقدر مضافٌ آخر؛ ليكون الحديث في تدبير أمر دينهم، وهو المراد من قوله: (يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ) أمر دينهم، فالفاء في قوله: (فَقَالُوا): فصيحةٌ، فإن القوم لما فرغوا من أمر حقيقة البعث، وتيقنوا أن لابد منه، فآمنوا، ثم اهتموا بشأن أولئك الأصحاب، وتشاوروا فيه فقالوا: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) كما سبق. أو الضميرُ لأصحاب الكهف، فالكلام حينئذ من ابتدائه في شأنهم، وهو: إما في كون

فناموا وأنا أحرسكم. وقيل: مرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه، ثم ضرب الله على آذانهم، وقيل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن. وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس: اتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث، ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدا. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلام المتنازعين، كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. [(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك آية من آيات الله، فمعنى الفاء: ما سبق، أو: كيف يدبروا أمر الأصحاب، وكيف تجهيزهم؟ فالفاء حينئذٍ: تعقيبٌ أو تسبيبٌ عن قوله: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ)؛ لأن قوله: (فَقَالُوا) نتيجة لما دبروا في شأنهم واتفاق حتى ذلك بعد الاختلاف فيه. قوله: (فناموا): أمرٌ بالنوم.

(سَيَقُولُونَ) الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارا بما سيجرى بينهم من اختلافهم في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عباس رضى الله عنه: أنا من أولئك القليل. وروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب وكان نسطوريا: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين. وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبريل عليه السلام. وعن عليّ رضي الله عنه: هم سبعة نفر أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا: هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره. والسابع: الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس. واسم مدينتهم: أفسوس. واسم كلبهم: قطمير. فإن قلت: لم جاء بسين الاستقبال في الأوّل دون الآخرين؟ قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له (رَجْماً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تُدخل الآخرين في حكم السين)، قال صاحب "الفرائد": الواو لما كان لمطلق الجمع، كان (سَيَقُولُونَ) و (يَقُولُونَ) في حُم: ستحصل الأقوال منهم، ألا ترى أنك تقول: جاءني الزيدان، وجاءني زيدٌ وعمرو، ولا فرق في المعنى؟ إلا أن زيداً وعمراً لا يمكن جمعهما بلفظٍ واحد، كما أمكن زيدٌ وزيد. فجيء بواو العطف لذلك، فعلى هذا لو قيل: (سَيَقُولُونَ) بعد (سَيَقُولُونَ) كان تكراراً لما يدل على الاستقبال. قوله: (وأن تُريد بـ "يفعلُ" معنى الاستقبال) أي: يفعلُ: مشتركٌ بين الحاضر

بِالْغَيْبِ) رمياً بالخبر الخفي وإتياناً به كقوله: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) [سبأ: 53]، أي يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنه قيل: ظنا بالغيب، لأنهم أكثروا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والاستقبال، والسينُ قرينةٌ مخصصةٌ له، تخصص الأول به، والآخران مخصصهما صلاحيتهما له بواسطة قرينة المقام. قوله: (كقوله: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) [سبأ: 53]، أي هو استعارة مثله. قال صاحب "الفرائد": معنى (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميٌ بالغائب عن علمه عن الذهن، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه إخراج الكلام عن الذهن بإخراج السهم عن القوس، ويدل عليه قوله: رجم بالظن، مكان قولهم: ظن، والمراد بالظن هاهنا المظنون، كأنهم قالوا: رمى عن ذهنه بما كان غائباً عن علمه حاضراً في ذهنه، تكلم بما ليس بمعلوم. وقلت: بل شبه إيراد الكلام- الذي لم يخرج عن طمأنينة قلب، بلعن قلق واضطراب؛ لأن معرفة علم الغيب مختصة بالله - بقذف الحجر الذي يقذفه القاذف، فإن الحجر قلما يُصيب الغرض إصابة السهم المستوي، ولهذا قيل: (رَجْماً)، ولم يُقل: رمياً بالغيب، ثم استعير لجانب المشبه لفظ الرجم، فهو استعارةٌ مصرة بحقيقته؛ لأن المشبه المتروك عقلي؛ وإنما يصح تشبهي قوله: (رَجْماً بِالْغَيْبِ) بقوله: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) إذا اجتمعا في معنى القذف لا الرمي. الراغب: الرجامُ: الحجارة، والرجم: الرمي بها، ويستعارُ الرجم للرمي بالظن والتوهم، نحو: (رَجْماً بِالْغَيْبِ)، وللشتم والطرد، نحو: (لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) [مريم: 46]، أي: لأقولن فيك ما تكره، والشيطان رجيمٌ، مطرودٌ عن الخيرات، وعن منازل الملأ الأعلى، وقال في الشهب: (رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5]، والمراجمة: المسابة الشديدة: استعارة، كالمقاذفة. قوله: (أو وُضع "الرجمُ" موضع "الظن")، أي: صُيرَ حقيقة عرفية بعد الاستعارة، فاستعمل حقيقة فيه، كالألفاظ المترادفة.

أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير: وما هو عنها بالحديث المرجّم أي المظنون. وقرئ: (ثلاتّ رابعهم) بإدغام الثاء في تاء التأنيث. و (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأٍ محذوف، أي: هم ثلاثة. وكذلك (خَمْسَةٌ) و (سَبْعَةٌ) و (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) جملة من مبتدأٍ وخبرٍ واقعة صفة لـ (ثلاثة)، وكذلك (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)، (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأوّلين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما هو عنها بالحديث المُرجم)، صدره من رواية الزجاج: وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتم يقول: ليست الحرب إلا ماعلمتوها، وما هذا الذي أقولُ بحديث مُرجم محكوم عليه بالظن. قوله: (هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة) إلى آخره. قال صاحب "الانتصاف": هذا هو الصواب، لا كمن يزعم أنها واو الثمانية، ويضيف إليها: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73] في الجنة؛ إذ أبوابها ثمانية، وعدوا منه (وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ) [التوبة: 112] في "التوبة"، وهو الثامن من قوله: (التَّائِبُونَ)، فهب أن في اللغة واواً

على الواقعة حال عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر. ومررت بزيدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تصحب الثمانية، فأين ذكرُ العدد في أبواب الجنة؟ وفي "التوبة" ذُكرت لربط الأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر (وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ) [لقمان: 17]، (وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104]، ومنهم من عد (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) [التحريم: 5]، وهو غلطٌ فاحش، فإنها واو التقسيم التي لو حذفتها لم يصح الكلام. وقال أبو البقاء: الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن تدخلها الواو، وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في (وَثَامِنُهُمْ). وقال صاحب "الفرائد": دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم، لاتحاد الصفة والموصوف ذاتاً وحكما، وتأكيداً للصوق يقتضي الاثنين، مع أنا نقول: لا نسلم بأن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق؛ غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع، والجمع ينبئ عن الاثنينية، واجتماع الصفة والموصوف ينبئ عن الاتحاد بالنظر إلى الذات، وقد ذكر صاحب "المفتاح": أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر: 4] داخلةٌ بين الصفة والموصوف، سهو منه، وإنما هي واو الحال، وذو الحال (قَرْيَةٍ)، وهي موصوفة، أي: ما أهلكنا قرية من القرى. وأما قوله: "جاءني رجلٌ ومعه آخرُ"، فقلتُ: فيه وجهان: أححدهما: أن يكون "جاءني رجلٌ": جملة، و"معه آخر": جملة أخرى معطوفة عليها. وثانيهما: أن يكون "آخرُ": معطوفاً على "رجلٌ"، أي: جاءني رجلٌ ومعه رجلٌ آخر.

وفي يده سيف. ومنه قوله تعالى: (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر: 4]، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم. والدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وأتبع القول الثالث قوله ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وقال ابن عباس رضي الله عنه: .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قيل: فالوجه أن يُقال: جاءني رجلان، في مثل هذا؟ قلت: فائدته أن يُفهم أنهما جاءا مصاحبين. وأما الواو في مثل "مررت بزيد وفي يده سيفٌ" فإنما جاز دخولها بين ذي الحال والحال لكون الحال في حكم جملة، بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف، فإن: "جاء زيدٌ راكباً" في حكم "جاءني زيدٌ وهو راكبٌ" بخلاف: "جاءني زيدٌ الراكبُ"، فافهمه راشداً. سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق. فأما الدلالة على أن اتصافه بها أمرٌ ثابتٌ مستقرٌ، فغير مسلم، فأين الدليل على ذلك؟ وقوله: "وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس" في غاية البعد. قوله: (والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى) إلى آخره؛ إن كان المراد به أنه دال على إيذان الواو على ما ذُكر، فامتناع ذلك ظاهرٌ. فإن كان المراد به أنه دال على صدق من قال: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فحاصله ظن ضعيف بحسب أن (رَجْماً بِالْغَيْبِ) لم يؤخر إلى أن قيل: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وأما قوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ) فهو غير دال على ذلك البتة. وأما قول ابن عباس رضي الله عنه، فهو غير دال على أنه أراد ما ذُكر، بل الظاهر أنه علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حين وقعت الواو انقطعت العدّة، أي: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: "حين وقعت الواو انقطعت العدة"، الظاهر أن مراده منه أن الذي هو صدق، هو الذي وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به. فظهر من هذا أن الواو في (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ): واو العطف، وهي جملة معطوفة على الجملة المتقدمة. قلتُ- وبالله التوفيق-: واعلم أنا قبل الشروع في الجواب لابد أن نبين المقصود تحريراً للبحث، فالواو هاهنا ليست على الحقيقة، ولا يعتبر في المجاز النقل في الآحاد كما في الحقيقة، بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وأن المجاز في عرف البلاغة أولى بالذكر من الحقيقة، وأبلغ منها واحسن لتزيين الكلام والمبالغة فيه، ألا ترى إلى قول المصنف بُعيد هذا: "لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة"، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح - وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز، إلى آخره- وإلى كلام صاحب "المثل السائر": اعلم أن أقسام النحو أخذت عن واضعها بالتقليد، حتى لو عكس القضية فيها لجاز؛ لأن العقل لا يأبى أن لو جعل الفاعل منصوباً والمفعول مرفوعاً، وأما قسم البيان فليس كذلك؛ لأنه استنبط بالنظر وقضية العقل من غير واضع، ولم يُفتقر فيه إلى التوقيف، بل أخذت ألفاظٌ ومعان، على هيئة مخصوصة وحكم لها العقل بمزية من الحسن لا يشاركها فيها غيرها، فإن كل عارفٍ بأسرار الكلام أي لغة كانت، يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ جامعة رائقة حسنة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع خيرٌ من عكسه، ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك لما تقلدناه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقال أيضاً: اعلم أن مدار علم البيان على حكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم مضى كلامه. ثم إن المجاز كما يقع في الأسماء والأفعال، قد يقع في الحروف، ألا ترى إلى الاستعارة التبعية، فإن نوعاً منها الكلام في الحروف، ونقل شارح "اللباب" عن سيبويه أن الواو في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً، بمعنى: الباء، أي: بدرهم، وتحقيقه: أن الواو للجمع والاشتراك، والباء للإلصاق، والجمع والإلصاق من وادٍ واحد، فسلك به طريق الاستعارة. وذكر المصنف في أول سورة الأعراف: أن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، ولا شك أن واو العطف تقتضي المغايرة وتتضمن معنى الجمعية، فإذا أريد منها معنى الجمعية دون المغايرة كان من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، ونحوه في الاستعمال الاستفهام في قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 6]، فإن الهمزة هنا مسلوب الدلالة عن الاستفهامية لمجرد الاستواء والنداء في قولهم: إن نفعل كذا أيتها العصابة، لمجرد الاختصاص. وذكر المصنف في "مريم" عند قوله تعالى: (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) [مريم: 66] أن اللام هنا لام ابتداء أخلصت للتوكيد، ووافقه ابن الحاجب في سورة (وَالضُّحَى) فيه، وفي الأمثلة كثرةٌ. إذا عُلم هذا فقوله: "فائدتها: توكيد لصوق الصفة بالموصوف"، معناه: أن للصفة نوع اتصال بالموصوف، فإذا أُريد توكيدُ اللصوق وسط بينهما بهذه الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف، لازمة له غير مفارقة، وإليه الإشارة بقوله: إن اتصافها أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ، وليُعلم أيضاً أن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا في الاعتبار، ألا ترى أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... الصفة الواقعة عن النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالاً، ولو لم يكونا متحدين معنى لم يصح ذلك؟ ثم قولك: "جاءني رجلٌ ومعه آخرُ"، وقولك: "مررتُ بزيدٍ ومعهُ آخر" لما كانا سواءً في الصورة- اللهم إلا ي اعتبار المعرفة والنكرة- كان حكمهما سواء في الواو. وذكر نحوه أبو البقاء في إعراب قوله: (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 216]، هذا مراد المصنف من إيراد المثالين، لا ما فهم بعضهم. وأما قول صاحب "الفرائد": لاتحاد الصفة والموصوف ذاتاً وحكماً فمبنيٌّ على أن الواو عاطفةٌ، وهي تقتضي المغايرة كما قال صاحب "المفتاح"، وقدمنا وجه مجازه لمجرد الربط. وأما قوله: "جاءني رجلٌ ومعه آخر" وهي جملتان، فسيجيء جوابه. وأما قوله: فـ"إن: جاء زيدٌ راكباً، في حكم: جاءني زيدٌ وهو راكبٌ" فمن المعكوس؛ فإن الأصل في الحال الإفراد. قال ابن الحاجب في قوله: كلمته فوه إلى فيَّ: إنها بمعنى مشافها. وقال: ن الجمل تستعمل استعمال المفردات ولا تُعكس. وأما قوله: "سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف للتأكيد، وأما الدلالة على أن اتصافه به أمر ثابتٌ فغير مسلم"، فمما لا يقوله من به أدنى مُسكة: كيف سلم التأكيد ولم يسلم فائدته؟ وأما الأسئلة الباقية على كلام المصنف فمراده أنها أمارات تدل على ما ثبت وتقرر. وقال ابن الحاجب في "الأمال": يجوز أن يكون (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) جملة ابتدائية صفة لـ (ثَلاثَةٌ)، و (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأ محذوف، ولا يجوز أن يكون (كَلْبُهُمْ) مرفوعاً بـ (رَابِعُهُمْ) لأن المراد به المضي، ولا أن تكون الجمة حالاً، إذ ليس معنا ما يصح أن يكون عاملاً فيها؛ لأن التقدير: سيقولون: هم ثلاثة، وليس فيها أيضاً واوٌ، ويجو أن يكون (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) جملة خبراً للمبتدأ المحذوف بعد خبر، فيكون قد أخبر بخبرين: مفرد وجملة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... ويُقوي هذا الوجه أن الجملة الثالثة جاءت بالواو، والمعنى فيها كالمعنى فيما تقدم، ويتعذر أن تكون صفة مع الواو، مع أنك لا تقول: مررت برجل وعاقل، فتعين أن يكون خبراً بعد خبر، والأخبار إذا تعددت جاز أن يكون الثاني بواو وبغير واو. هذا إن سُلم أن المعنى في الجمل واحدٌ. وأما إن قيل: إن قوله: (َثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، فيفهم على ذلك بأن القائلين بأنهم سبعة أصابوا في ذلك، لوا يلزم على هذا أن يكون خبراً بعد خبر، ويقويه قول قبل ذلك: (رَجْماً بِالْغَيْبِ)، ثم ذكر بعد قوله: (رَجْماً بِالْغَيْبِ) الجملة الثالثة، فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب، وإذا خالفتها في ذلك وجب أن تكون صدقاً، إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ)، فلو جعلنا قوله: (َثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) تصديقاً لمن قال: سبعةٌ، لوجب أن يكون العالم به كثيراً، فإن أخبار الله صدق، فدل على أنه لم يصدق منهم أحدٌ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجمل كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تتكون الأخيرة وصفاً، فوجب أن يكون الجميع كذلك تم كلامه. وقد عُلم من مفهومه أن الواو هي المانعة من الوصفية، وداؤه داؤهم، فالدواء الدواء. وأما قوله: "وجب أن تكون الجمل كلها متساوية"، فكلام عن مقتضى البلاغة بمراحل؛ لأن في كل اختلاف فوائد، والبليغ من ينظر إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام. وأيضاً، لابد من قول صادق بين الأقوال الثلاثة لينطبق عليه قوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ) مع قوله: (رَجْماً بِالْغَيْبِ)؛ لأنهُ قد اندفع به القولان الأولان، فيكون الصادق هذا، وتعقيبه به أمارة على صدقه، وعلى ما ذهب إليه السائل مفقود ذلك، ومع هذا أين طلاوة الكلام؟ أم أين اللطف والمرام؟ وهاهنا نكتةٌ لابد من إظهارها؛ وذلك أن قصة الكهف لامحةٌ إلى قصة الغار، ومشابهة لها من حيث اشتمالها على حكم بديع الشأن.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " يعني: لسنا مثل كل اثنين اصطحبا، لما خُصصت بشرف صحبة حبيب الله، والتجأت بسببها إلى حرم كنف الله، كما قال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40] فالتربيع والتسديد في قصة الكهف ناظران إلى التثليث في قصة الغار، لكن نظراً كلا وإلا فعلى هذا يجب أن يُجعل (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) و (سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) تابعين لثلاثة وخمسة، والضمائر الأربعة فيها راجعة إليهما لا إلى المبتدأ. ومن ثم استغني عنه بالحذف، وألا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلبٌ، فلما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما هو عليه لينبه بالنعت الدال على التفصلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة أو خمسة او سبعة اصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوان ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إلى الله سبحانه وتعالى والمعتكفين في جوار الله، فقال: (كَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وأضافه إليهم مكرراً، واختلفت آراء الملتين في التنقير عن قصتهم والتفتيش عن أحوالهم. روى السلمي، عن أبي بكر الوراق أنه قال مجالسة الصالحين ومجاورتهم تؤثر في الخلق، وإن لم يكونوا أجناساً، ألا ترى أن الله عز وجل كيف ذكر أصحاب الكهف فذكر كلبهم معهم لمجاورته إياهم؟ " وإذا تقرر هذا فالواجب أن تُراعي هذه النكتة في الفقرات الثلاث، ثم ينظر إلى الزمرة الزائدة في الخيرة لاختصاصها بحرف زائد، وهي ما ذكره المصنف جزاه الله أحسن الجزاء على أن تأويل صدر الكلام والعدول من الوصف إلى الخبر لأجل عجزه بسبب الواو، ليس أولى من العكس، والله أعلم.

وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. وقيل: إلا قليل من أهل الكتاب. والضمير في (سَيَقُولُونَ) على هذا لأهل الكتاب خاصة، أي: سيقول أهل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: " (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ): استئنافٌ"، فقد ذهب إليه المفسرون، قال الزجاج: دخول الواو هاهنا وإخراجها من الأول واحدٌ، وقد يجوز أن يكون دخولها على الدلالة على انقطاع القصة، وهو من قول ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة. وقال أبو البقاء: وقيل: دخلت الواو لتدل على أن ما بعدها مستأنف حق، وليس من جنس القول برجم الظنون. ولعل مُراد ابن الحاجب من قوله: لوجب أن يكون العالم بذل كثيراً، أن القائل به المسلمون، وهم بالنسبة إلى القائلين- وهما السيد والعاقب - كثيرون، كما سبق، وجوابه من وجهين، أحدهما: أن القائلين من المسلمين ليسوا كلهم بل بعضهم، يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من ذلك القليل. ذكره محيي السنة. والمراد بالقائلين: السيد والعاقب، هما ومن تابعهما، بدليل قول المصنف: "إن السيد والعاقب وأصحابهما". وثانيهما: أن قوله: (إِلاَّ قَلِيلٌ): استئناف من أعم العام لكونه معاقباً لقوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)، ولا شك في قلة المسلمين في جنب الناس. والله أعلم بالصواب. قوله: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ): فلا تجادل). الراغب: المرية: التردد في الأمر، وهو أخص من الشك: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ (مِنْهُ) [الحج: 55]، وقوله: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ) [هود: 109]، والامتراء والمماراة: محاجةٌ فيما فيه مريةٌ. قال تعالى: (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [مريم: 34]، وقال تعالى: (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً)، وأصل ذلك [من]: مريتُ الناقة: إذا مسحت ضرعها للحلب.

الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم، وأكثرهم على ظنّ وتخمين (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم، كما قال (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]. (وَلا تَسْتَفْتِ) ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له، حتى يقول شيئا فتردّه عليه وتزيف ما عنده، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد، لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم. [(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)]. (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) أي: فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد الغد خاصة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) متعلق بالنهى لا بقوله: (إني فاعل)؛ لأنه لو قال: إني فاعل كذا إلا أنّ يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله). الانتصاف: وليت شعري! ما معنى قول الزمخشري: إلا أن تعترض المشيئة دون فعله؟ واعتقاده أن مشيئة الله لاتعترض على فعل أحدٍ، فلم يشأ - عندهم - فلا فتُرك، وتركاً ففُعِلَ، حتى إنهم يقولون: إن قول القائل: والله لا أفعل إلا أن يشاء الله أن أفعله، كذبٌ إذا كان مباحاً؛ لأن الله لا يشاؤه بزعمهم، فسثحقاً لاعتقادهم. وقال ابن الحاجب: الوجه فيه أن يكون استثناء مفرغاً، كقولك: لا يجيء إلا بإذن زيد ولا يخرج إلا بمشيئته، على أن يكون الأعم المحذوف: حالاً، أو مصدراً، وحُذفت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... الباء من بـ (أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، أي: إلا بذكر المشيئة، وقد عُلم أن ذكر المشيئة المستصحبة في الإخبار عن الفعل المستقبل هي المشيئة المذكورة بحرف الشرط أو معناه، كقولك: إن شاء الله وبمشيئة الله وما أشبههما، هذا هو المعنى من قول المصنف. والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله. وقال ابن الحاجب: وأما ما ذكر انه متصلٌ بقوله: (إِنِّي فَاعِلٌ) ففاسدٌ، إذ يصير المعنى: إني فاعلٌ بكل حال إلا في حال مشيئة الله، فيصير المعنى النهي عن أن يقول: إني فاعلٌ إن شاء الله، وهذا لا يقوله أحدٌ. وأما ما ذكر من أنه استثناء منقطع فبعيدٌ؛ لأنه يؤدي إلى نهي كل واحد عن أن يقول: إني فاعلٌ غداً، كذا مطلقاً، قيده بشيء أو لم يقيد، وهو خلاف الإجماع لجواز قول القائل: لأفعلن كذا إن شاء الله، وأما ما ذكره بعض المتأخرين أن "إلا" ليست باستثناء لا متصل ولا منقطع، فهو جهل وغباوة، ولا خفاء في أنه عني قوله: وهو أن يكون إن شاء الله كلمة تأبيد، كأنه قيل: ولا تقولنه أبداً. والجواب عنه: أنا نقلنا عن الزجاج في قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) [الدخان: 56]، وقد عُلم وحُقق أن ذوق الموتة الأولى في الجنة محالٌ، فيكون كناية عن التأبيد، فالمعنى: لا تقولن يما يتعلق بالوحي: أن أخبركم به إلا أن يشاء الله، والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك، فإذن لا تقولنه أبداً، وعليه قوله: "لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله"، وعلى هذا جُعل الاستثناء منقطعاً، لا تقولن يا محمد فميا يتعلق بالوحي: إني أخبركم به، لكن قل: أخبركم بإذن الله وبمشيئته، كقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]، فالمخاطب على التقديرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤيده قوله: "وهذا نهيُ تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش" إلى آخره. والحاصل أن خصوصية المقام تجوز كثيراً من نحو هذا.

وذلك مما لا مدخل فيه للنهى، وتعلقه بالنهى على وجهين، أحدهما: ولا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه. والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله، أي: إلا بمشيئة الله، وهو في موضع الحال، يعنى: إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا: إن شاء الله وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون أَنْ يَشاءَ اللَّهُ في معنى كلمة تأبيد، كأنه قيل ولا تقولنه أبدا. ونحوه قوله (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) [الأعراف: 89]، لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله. وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين. فسألوه فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي مشيئة ربك وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك. والمعنى: إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة. وعن طاووس: هو على ثنياه ما دام في مجلسه. وعن الحسن نحوه. وعن عطاء: يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو على ثنياه)، المُغرب: يقال: ثني العود: إذا حناه وعطفه؛ لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر، ثم قيل: ثناه عن وجهه: إذا كفه وصرفه؛ لأن مسبب عنه، ومنه: استثنيت الشيء: زويته لنفسي، ومنه: الثنيا بوزن الدنيا، وفي الحديث: "من استثنى فله ثنياه" أي: ما استثناه.

وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضي الله عنه في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه: فقال أبو حنيفة: هذا يرجع عليك، إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه. ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند عامة الفقهاء: أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً). قال القاضي: "لأنه لو صح ذلك لم يقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عتاق، ولم يُعلم صدقٌ ولا كذب، وليس في الآية أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق، بل هو مقدرٌ مدلولٌ به عليه" مثل أن يقول: أفعلُ إن شاء الله، أي: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) إلا أن تقول: أفعلُ إن شاء الله. قوله: (إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا عن عندك فيستثنوا؟ )، الانتصاف: ظاهر الآية الأمر بتدارك المشيئة عند التذكار ولو بعد طول، وأما حلها لليمين حينئذ، فلا دليل للآية عليه. وقلت: مسألة البيعة واليمين جاءت رادة لمن قاس الاستثناء في الأحكام على مسألة التدارك بالتذكار في نسيان ذكر الله في الأمور وصورة المبايعة بأن يقول: أبايعك على السمع والطاعة، ثم يؤكدها باليمين، بأن يقول: والله لا أخرج من هذه البيعة، ثم يخرج ويستثني إلا زمان كذا، ويوم كذا، ولأمر ذا، أو أوان يفعلُ كذا.

تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل: واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل: واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. و(هذا) إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تشديداً في البعث على الاهتمام)، يعني: الأمرُ بالاستغفار من باب التغليظ والتشديد، كأن ترك الاستثناء من الذنب الذي تجب فيه التوبة والاستغفار. قوله: (واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به)، فالنسيان قد يُستعمل في الترك مجازاً؛ لأن الترك سبب النسيان. الراغب: النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع؛ إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى) [الأعلى: 6] إخبارٌ وضمان من الله تعالى أنه يجعله بحيث إنه لا ينسى ما يسمعه عن الحق، وكل نسيان من الإنسان ذمه الله تعالى به، فهو ما كان أصله عن تعمد، وما عُذر فيه نحو ما رُوي في الحديث: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، فهو ما لم يكن سببه منه، وإذا نُسب ذلك إلى الله تعالى فهو تركه إياهم استهانة بهم، ومجازاة لما تركوه. قال الله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67]، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ) [الحشر: 19] فتنبيه أن الإنسان بمعرفته بنفسه يعرف الله، فنسيانه لله هو من نسيانه نفسه. وقال عكرمة: معنى (نَسِيتَ): ارتكبت ذنباً، ومعناه: اذكر الله إذا أردت وقصدت ارتكاب ذنب يكن ذلك دافعاً لك. قوله: ((هذا) إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف)، أي: لفظ (هذا) في قوله تعالى: (لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً).

ومعناه: لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبىّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلّ، والظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربك. وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربى أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسى أقرب منه (رَشَداً) وأدنى خيراً ومنفعة. ولعل النسيان كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: لعل الله يؤتيني من البينات .. ما هو أعظمُ في الدلالة وأقربُ رُشداً من نبأ أصحاب الكهف)، الانتصاف: يؤيده قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً)، افتتح القصة بتقليل شأنها، ثم ختمها بأمره صلوات الله عليه بما هو أرشد منها. الإنصاف: هذا يُوهم أن أي قصة ذُكرت في الكتاب العزيز ليتعظ بها ينبغي أن يُحقر شأنها ويُسأل إنزالُ ما هو خيرٌ منها وأرشدُ. جوابه: أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خبرهم، وقالوا: هم فتيةٌ ذهبت بهم في الأرض مذاهبُ، فقلل الله ما أكثروه وحقر ما استعظموه، ولم يقص الله نبأها إلا لإعلام المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي من السماء، وأنه لا يخلو عن فائدة وموعظة وعبرة. قوله: (يهديني لشيء آخر، بدل هذا المنسي أقرب) يقال: هداه لكذا، أو إلى كذا، لابد من تقدير شيء يصح الكلام معه، فالتقدير: يهديني لشيء آخر يكون ذلك الشيء بدل هذا المنسي أقرب نمه رشداً، قال الزجاج: عسى أن يعطيني من الدلالات ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصاب الكهف. وقال في "المُطلع": يهدي إلى ما هو أقرب، و"أقربُ" في تركيب المصنف يجوز أن يكون بدلاً من بدل، وأن يكون صفة إن جُعل "أقرب" من "معرفة"، أو حالاً إن جُعل نكرةً.

خيرة، كقوله (أَوْ نُنْسِها نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْها) [البقرة: 106]. [(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً* قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)]. (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ) يريد لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة، وهو بيان لما أجمل في قوله (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)، ومعنى قوله: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خيرةً) أي: مختاراً. قوله: (بيان لما أُجمل في قوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ))، فإن قلت: ما فائدة إيراد البيان في آخر القصة والمبين في أولها قلتُ، والله أعلم: جيء أولاً باختلاف الأحزاب في كمية لُبثهم في الكهف. وثانياً: باختلافهم في كمية أشخاصهم، فبين الثاني بقوله: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) وبين الأول بقوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) وسجل لكلتي الجملتين بإثبات العلم لله تعالى، وهذه الدقيقة تنهي لطف ما ذهب إليه المصنف في (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). وأما توسيط قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) الآية، بين البيان والمبين، فإنه من جملة التأديب الذي أدبه الله به، والتهذيب الذي هذبه مما هو خلقٌ له، وهو هذا القرآن المجيد؛ جاء مستطرداً عطفاً على قوله: (فَلا تُمَارِ)، (وَلا تَسْتَفْتِ) متضمناً معنى ما لأجله أبطأ عليه الجواب عن هذه القصة، قال الزجاج: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا): إخبارٌ عن الله تعالى بطول لُبثهم.

بمدّة لبثهم، والحق ما أخبرك الله به. وعن قتادة: أنه حكاية لكلام أهل الكتاب. و (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ) رد عليهم. وقال في حرف عبد الله: (وقالوا لبثوا). و (سنين): عطف بيانٍ لـ (ثلث مائة). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأعلم أنه أعلمُ بذلك، وكان هذا أبلغ من أن يُقال: الصحيح أنهم قد لبثوا هذا العدد كله. قوله (و (سِنِينَ) عطفُ بيان لـ (ثَلاثَ مِائَةٍ))، قال الزجاج: (سِنِينَ) جائز أن يكون نصباً وأن يكون جراً، فالنصب على معنى: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مئة، عطف "سنين" على "ثلاثٍ" عطف البيان والتوكيد، والجر على أن يكون نعتاً للمئة، وهو بالغ في المعنى إلى ثلاث، كما قال: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغُراب الأسحم جعل "سُوداً" نعتاً لـ "حلوبة"، وهو في المعنى نعتٌ لجملة العدد، هكذا في "تفسيره"، ونقل المصنف عنه في "المفصل" أنه قال: لو انتصب (سِنِينَ) على التمييز لوجب أن يكونوا قد لبثوا تسع مئة سنة. قال ابن الحاجب: وجهه أنه قد فُهم من لغتهم أن تمييز المئة واحدٌ من مئة، فإذا قلت: مئة رجل فمميزها رجل، وهو واحدٌ من المئة، فعلى هذا لو قلت: مئة سنين، فيكون السنين واحدة من المئة، وهي ثلاث مئة، وأقل السنين ثلاثة، فيجب أن يكون تسع مئة، وهذا الذي ذكره يرد: على قراءة حمزة والكسائي، إذ ليس لقراءتهما وجهٌ سوى التمييز. وهذا غير لازم، لأن الذي ذكره مخصوصٌ بأن يكون المميز مفرداً، وأما إذا كان جمعاً فيكون القصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعاً في نحو ثلاثة أثواب، على أن الأصل في

وقرئ: (ثلاث مائة سنين) بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) [الكهف: 103] وفي قراءة أبيّ: (ثلث مئة سنة). (تِسْعاً) تسع سنين، لأن ما قبله يدل عليه. وقرأ الحسن: (تسعاً) بالفتح، ثم ذكر اختصاصه بما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التمييز الجمع، وإنما عدل إلى المفرد لغرض، فإذا استعمل الجمع استعمل على الأصل لا على الوجه الذي ألزمه، فإن ذلك على المفرد. وقلتُ: الذي ذهب إليه المصنف عكس ذلك؛ لأنه جعل المفرد أصلاً والجمع مفرعاً عليه لقوله: "على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز"، وقال ابن الحاجب: (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ)، فيمن قرأ بالتنوين، محمولٌ على البدل، وإلا لزم الشذوذ من وجهين: أحدهما: جمع مميز مئة. والآخر: نصبه، فإذا جُعل بدلاً خرج عن الشذوذين واستقام الإعراب، كأنه قال: ولبثوا سنين. قوله: (وقرئ: "ثلاث مئة سنين" بالإضافة)، حمزة والكسائي: بغير تنوين، والباقون: بتنوين. قوله: (لأن ما قبله يدل عليه). قال الزجاج: أما قوله: (وَازْدَادُوا تِسْعاً) فلا يكون تسع ليال وتسع ساعاتٍ؛ لأن العدد يُعرف بتفسيره، فإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكره. وقال الإمام: فإن قالوا: لِمَ لم يقل: ثلاث مئة تسع سنين؟ وما الفائدة في العدول؟ قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلاث مئة سنة من السنين الشمسية وثلاث مئة وتسع سنين من القمرية، وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصح بالحساب، ويمكن أن يُقال: لعلهم لما استكملوا ثلاث مئة سنة قرب أمرهم من الانتباه، ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين.

غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به. وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: وقيل: إنه حكاية كلام أهل الكتاب، فإنهم اختلفوا في مدة لُبثهم كما اختلفوا في عدتهم، فقال بعضهم: ثلاث مئة سنة، وبعضهم: ثلاث مئة وتسع سنين. وقلتُ: ويمكن أن يُقال: إنه من كلام الله تعالى، فإن أهل الكتاب كما اختلفوا في عدتهم اختلفوا في مدة لبثهم، فكما جيء في ذلك المقام بما يرفع الاختلاف، جيء هاهنا ذلك، فإن قوله: (وَازْدَادُوا تِسْعاً) بيان لنصوصية اللبث وتقريرٌ له، ودفعٌ للاحتمال، ونظيره الاستثناء في قوله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) [العنكبوت: 14]، وسيجيء بيانه. فقوله: (قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) مثل: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) هناك. وهذا التأويل يُرجح قول من قال: إن هذا من كلام الله تعالى. والله أعلم. قوله: (وجاء بما دل عليه التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات). قال القاضي: والهاء تعود إلى "الله"، ومحله الرفع على الفاعلية، والباء مزيدة عند سيبويه، وكان أصله أبصر، أي: صار ذا بصرن ثم نُقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة، وهو أن ضمير الغائب لا يمكن استثناؤه في أمر المخاطب أو لزيادة الباء، كما في قوله: (وَكَفَى بِهِ) [النساء: 50]، والنصب على المفعولية عند الأخفش، والفاعل: ضمير المأمور، وهو كل أحدٍ، والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية. وقال صاحب "الكشف": وكان القياس إضمار "به" في الثاني؛ لأن الجار والمجرور في موضع الفاعل، لكن استغنى بذكره في الأول لأنه لا يجوز العطف على عاملين كما فعل في قول الشاعر:

أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يذرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السموات والأرض (مِنْ وَلِيٍّ) من متول لأمورهم (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه (أَحَداً) منهم. وقرأ الحسن: (ولا تشرك)، بالتاء والجزم على النهى. [(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)]. كانوا يقولون له: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) [يونس: 15]، فقيل له (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) من القرآن، ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكلمات ربك، أى: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، إنما يقدر على ذلك هو وحده، (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل: 101]. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونارٍ توقد بالليل نارا أي: وكل نارٍ، واستغنى بذكره أولاً عن ذكره ثانياً. الراغب: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) يقول فيه تعالى ذلك من وقف على عجائب حكمته، ولا يقال فيه: ما أبصره وما أسمعه؛ لأن الله تعالى لا يوصف إلا بما ورد به السمع. وقدر أبو البقاء: أوقع أيها المخاطب إبصاراً بأمر الكهف، فهو أمرٌ حقيقة والفاعل مضمرٌ. قوله: (وإنما يقدر على ذلك هو وحده)، أو: (إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)

[(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)]. وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحّ هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن، وهم: صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين، حتى نجالسك كما قال قوم نوح: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء: 111]، فنزلت: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) واحبسها معهم وثبتها. قال أبو ذؤيب: فصبرت عارفة لذلك حرّة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلّع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [النحل: 101]، أراد أن في هذه الآية الدلالة الظاهرة على أن الكتاب لا يُنسخ بالسُّنة؛ لأنه تعالى أمر نبيه صلوات الله عليه بأن يتلو ما أوحى إليه من كتاب الله حين قالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس: 15] وأعلمهُ أن لا تبديل لكلمات الله البتة، لا يبدلها هو ولا غيره، حيث نفى جنس التبديل وخص هذا العام بقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) [النحل: 101] ن فبقي العام فيما عداه على أصله، ولهذا أكد دلالة الحصر في قوله: إنما يقدرُ على ذلك هو بقوله وحده، ثم أتى بتذييل مؤكدٍ لذلك المعنى، وهو قوله: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) بـ (لن) المؤكدة، قال المصنف: تقول لصاحبك: لا أقيم غداً. فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في "أنا مقيم"، و"إني مقيمٌ"، نُزل صلوات الله عليه نزلة من هم أن له ملجاً يعدلُ إليه من أمره ونهيه، فقيل له: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تهييجاً وإلهاباً، وإليه الإشارة بقوله: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)، تعدل إليه إن هممت بذلك. قال الزجاج: ولن تجد معدلاً عن أمره ونهيه ولا ملجا إلا إليه. قوله: (فصبرت عارفةً) البيت، أي: حبستُ نفساً عارفة بأحوال الحرب.

(بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) دائبين على الدعاء في كل وقت. وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر. وقرئ: (بالغدوة)، و (بالغداة) أجود، لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال، وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال: ... والزّيد زيد المعارك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: العارف: الصبور. ترسو: ترسخ وتثبت، تطلع: ينقطع عن مكانه. وقيل: ينظر ساعة ويختفي ساعة، كما هو عادة الجبان، يصف صبره وتجلده عند الشدائد، وأن نفسه ثابتة صابرة على المكاره في حال تكون نفس الجبان فيها مضطربة. قوله: (وقرئ: بالغدوة): ابن عامر، والباقون: (بِالْغَدَاةِ). قال أبو البقاء: "بالغداة: أصلها غدوة، فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهي نكرةٌ، وتُقرأ بالعدوة، بضم الغين وسكون الدال، وواوٍ بعدها، وقد عرفها بالألف واللام، وأكثر ما تُستعمل معرفةً علماً" بغير اللام. قوله: (والزيد زيد المعارك)، أوله: وقد كان منهم حاجب وابن أمه ... أبو جندلٍ حاجب: هو ابن لقيط بن زُرارة، أراد بقوله: "زيدُ المعارك": شجاعته، ذكره شاهداً على صحة الإضافة وإدخال اللام على تأويل التنكير، وفيه ضعفٌ؛ لأن العلم إنما وُضع لشيء بعينه غير متناول ما أشبهه، فإذا نُكر فقد استعمل على خلاف ما وُضع له، ووجهه أنه لما وُضع لمسمى ثم وُضع لآخر صارت نسبته إلى الجميع نسبةً واحدةً، فأشبه أن يكون مثل قولك: رجُل.

ونحوه قليل في كلامهم. يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم. عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيدا. وإنما عدى بعن، لتضمين عدا معنى نبا وعلا، في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه: إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ. ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى (وَلا تَاكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء: 2]، أي ولا تضموها إليها آكلين لها. وقرئ: ولا تعد عينيك، ولا تعدّ عينيك، من أعداه وعدّاه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو. ومنه قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عدا طوره)، أي: جاوز حده. النهاية: في حديث سطيح: فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير الأطوار: الحالات المختلفة والنازلات والحدود، واحدها: طورٌ، أي: مرة مُلكٌ، ومرةً هُلك، ومرة بؤس، ومرة نُعم. ومنه حديث النبيذ: "تعدى طوره"، أي: جاوز حده وحاله الذي يخصه ويحل فيه شربه. قوله: (إذا اقتحمته)، الجوهري: اقتحمته عيني، أي: ازدرته. قوله: (وقرئ: "ولا تُعدِ عينيك"): ولا تصرفهما. قال ابن جني: هي قراءة الحسن، وهذا منقولٌ من: عدت عيناك، أي: جاوزتا، من قولهم: جاء القوم عدا زيداً، أي: جاوز بعضهم زيداً، ثم نُقل إلى أعديتُ عيني عن كذا، أي: صرفتها.

فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له لأن معناه: فعد همك عما ترى. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى زىّ الأغنياء وحسن شارتهم (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع الحال، (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان، أو وجدناه غافلا عنه، كقولك: أجبنته وأفحمته وأبخلته، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة، أي: لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له)، وتمامه: وانم القتود على عيرانةٍ أُجُد نميتُ الشيء على الشيء: رفعته عليه، والقتدُ: خشبُ الرحل، وجمعه أقتادٌ وقتود، والعيرانة: الناقة، شُبهت بالعير في سُرعتها ونشاطها، وناقة أُجُدٌ: قويةٌ موثقةُ الخلق، يقولُ: فعد همك عما ترى، فإنه قد فات عنك بحيث لا ارتجاع له، أي: انصرف عما ترى من تغير الدار وما أنت فيه إذا أيقنت أن لا رجعة، وتشاغل بالرحلة. قوله: (وحسن شارتهم). الشارة: اللباس والهيئة. قوله: (جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان، أو: وجدناه غافلاً)، الانتصاف: شمر الزمخشري هارباً من الحق، وتجرأ على نفي ما نسبه الله اتباعاً لهواه. قوله: (وأفحمته)، الجوهري: كلمته حتى أفحمته، أي: أسكته، وأفحمته أي: وجدته مفحماً لا يقول الشعر. قوله: (أو من: أغفل إبله؛ إذا لم يجعل لها وسماً)، الانتصاف: هذا يمكن مع خلق الغفلة، فلا ضرورة إلى صرف اللفظ عن ظاهره.

الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وقرئ: (أغفلنا قلبه)، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين، من: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)) حيث أسند الاتباع إليهم، وعطف بالواو ولم يُرتبه عليه بالفاء، فدل على الاستقلال، وأنهم بأنفسهم يتبعون أهواءهم، وليس (أَغْفَلْنَا) سبباً في الاتباع. الانتصاف: قدم وجه نسبة فعل العبد إلى نفسه، لكونه مقروناً بقدرته، وإلى الله لكونه مُوجداً له، فأدلة السُّنة تتبعه حيث سلك لا محيص له عنها. قلتُ: يمكن أن يُقال: إن العطف من أسلوب قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنمل: 15] على راي صاحب "المفتاح" أخبر الله تعالى أنه خق قلوبهم مختوماً عليها وجعل فيها الغفلة، وأخبرهم أنهم اتبعوا أهواءهم، ولم يرتب الثاني على الأول تفويضاً لاستفادته إلى فهم السامع، أو من الأضمار، كما ذهب إليه المصنف في تلك الآية، أي: جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر فضل واتبع هواه، كما قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً)، فعملا به وعلما الناس وعرفا حق النعمة (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15]. قوله: (وقرئ: "أغفلنا قلبه")، قال ابن جني: قرأها عمرو بن فائد، يقال: أغفلت الرجل، وجدته غافلاً.

أغفلته إذا وجدته غافلاً، (فُرُطاً) متقدّما للحق والصواب نابذاً له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدّم للخيل. [(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)]. (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُم ْ): (الحق) خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: جاء الحق وزاحت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الْحَقِّ): خبر مبتدأ محذوف)، أي: هوالحق، كذا قُدر في "آل عمران"، والخبر هو العامل في الظرف. فإن قلت: ما دعاه إلى هذا؟ ولِمَ لم يجعل (مِنْ رَبِّكُمْ) الخبر؟ ومع ذلك كيف قال: جاء الحق؛ فإنه ليس بمقتضى التقدير؟ قلتُ: دعاه مجيء قوله: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) كالفذلكة لما ذكر من مفتتح السورة أو جميع ما جاء به صلوات الله عليه، ثم ترتب ما بعده بالفاء عليه، فالضمير المقدر بمنزلة اسم الإشارة، ومن ثم قدر الواحدي: أي: هذا الحق من ربكم، قال الزجاج: الذي آتيكم به الحق من ربكم، فيكون المعنى: ما جئتكم به من حديثا لكتاب القويم المعري عن كل الاعوجاج، الظاهر الإعجاز، الكاشف عن المغيبات، المحتوي على مكارم الأخلاق، المزيح للعلل والأعذار، المزيل للريب والشبهات - حق واجب ثابت من الرب المالك الرحيم، ثم رتب عليه وعيد من كابر عقله وعاند ربه، ودفع الحق الصُّراح، ووعد من أذعن للحق وآمن وعمل بمقتضاه بقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وعلل ذلك بقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً) إلى آخر الآيات. ويؤيدُ هذا التأويل ما ذكرهُ الواحدي: قال: قال مجاهدٌ والسديٌّ: قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وعيدٌ من الله وإنذارٌ، وقد بيَّنَ

العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين. شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط، وبيت مسردق: ذو سرادق وقيل: هو دخان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعده ما لكل فريق من مؤمن وكافر، فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً) الآيات، فظهر أن قوله: " (جَاءَ الْحَقُّ)، وزاحت العللُ" تحرير للمعنى وتلخيصٌ له. والله أعلم. قوله: (وجيء بلفظ الأمر والتخيير؛ لأنه لما مُكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخيرٌ مأمورٌ بأن يتخير ما شاء من النجدين)، قال القاضي: وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله، فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئة. المعنى: لا أبالي بإيمان من آمن وكُفر من كفر. وقال الزجاج: هذا الكلامُ ليس بأمرٍ لهم، ما فعلوهُ منه فهم فيه مُطيعون ولكنه كلامٌ فيه وعيدٌ وإنذارٌ. قوله: (بالسرادق، وهو الحجزة). الراغب: فارسيٌّ معربٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردُ ثالثه ألفٌ وبعده حرفان، قال تعالى: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، وقيل: مُسردقٌ: مجعول على هيئة السرادق.

يحيط بالكفار قبل دخولهم النار. وقيل: حائط من نار يطيف بهم (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كقوله: ... فأعتبوا بالصّيلم وفيه تهكم. والمهل: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردىّ الزيت يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك، (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) متكا من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 31]، وإلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأعتبوا بالصيلم) أوله: غضبت تميمٌ أن تُقتل عامرٌ ... يوم النسار "النسار" بكسر النون: ماءٌ لبني عامر. و"الصيلمُ": الداهية والأمرُ العظيم. "أُعتبوا" أي: أرضوا. جعل الداهية لهم مكان العتاب الذي يجري بين الأحبة. قوله: (كعكر الزيت)، الحديث رواه الترمذي، عن أبي سعيد. النهاية: العكرُ: الدنس والدرن. قوله: ((مُرْتَفَقاً): مُتكئاً، من المرفق). الجوهري: بات مرتفقاً، أي: متكئاً على مرفق يده. والمرفقة بالكسرة: المخدةُ. قوله: (وهذا لمشاكلة قوله: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً))، أراد أن الآية الثالثة مقابلةٌ لهذه، وهي مفصلةٌ بذكر الارتفاق، فأوجب بموجب المشاكلة المجاوبة بين القرينتين وإن تأخر

فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء، إلا أن يكون من قوله: إنيّ أرقت فبتّ اللّيل مرتفقًا ... كأنّ عينى فيها الصّاب مذبوح [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)]. (أُولئِكَ) خبر إن (وإِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراض، ولك أن تجعل (إِنَّا لا نُضِيعُ) و (أُولئِكَ) خبرين معاً. أو تجعل (أُولئِكَ) كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم. فإن قلت: إذا جعلت إِنَّا لا نُضِيعُ خبرا، فأين الضمير الراجع منه إلى المبتدأ؟ قلت: (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ينتظمهما معنى واحد، فقام (مَنْ أَحْسَنَ) مقام الضمير. أو أردت: من أحسن عملا منهم، فكان كقولك: السمن منوان بدرهم. من الأولى للابتداء، والثانية للتبيين، وتنكير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المتبوع عن التابع، ولولا المشاكلة كان إثبات (مُرْتَفَقاً) للكفار على سبيل التهكم كإثبات (يُغَاثُوا) لهم. قوله: (إلا ان يكون من قوله): أي: هذا من المشاكلة، إلا أن يُراد معنى قول الشاعر، وذلك أن (مُرْتَفَقاً) وكأنه عيني إلى آخره: حالان مترادفان. ودلت الثانية على أن الأولى محمولة على غير المتعارف، جعل بالاعداء أفراد جنس المتكأ نوعين، على نحو قوله: تحية بينهم ضربٌ وجيعُ. فالمعنى إن صح: أن تكون النار متكأ، فكأنالمتكأ ذاك. قوله: (إني أرقت): سهرت، و"الصابُ": شجرةٌ لها لبنٌ إذا أصاب العين خلبها. الجوهري: الصابُ: عُصارة شجرٍ مُر.

(أَساوِرَ) لإبهام أمرها في الحسن. وجمع بين السندس: وهو ما رقّ من الديباج، وبين الإستبرق: وهو الغليظ منه، جمعا بين النوعين. وخص الاتكاء، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم. [(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً* وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)]. (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) أي ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل: هما المذكوران في سورة (والصافات) في قوله قالَ: (قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات: 51]، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف، فقال المؤمن: اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف، فتصدّق به. ثم بنى أخوه دارًا بألف، فقال: اللهم إني أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدّق به. ثم تزوّج أخوه امرأة بألف، فقال: اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف، فتصدّق به ثم أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه، فتعرّض له، فطرده ووبخه على التصدّق بماله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَسَاوِرَ). الراغب: سوار المرأة: مُعربٌ، وأصله دستواره، وكيف ما كان فقد استعمله العربُ، واشتق منه: سورت الجارية، قال تعالى: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف: 53]، وقال تعالى: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان: 21]، واستعمال أسورة في الذهب وتخصيصها بقوله: (أُلْقِيَ)، واستعمالها في الفضة وتخصيصها به بقوله: "حُلوا" فائدةٌ، فليُتأمل.

وقيل: هما مثل لأخوين من بنى مخزوم: مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأسد. (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) بستانين من كروم (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) وجعلنا النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة. يقال: حفوه، إذا أطافوا به: وحففته بهم. أي جعلتهم حافين حوله، وهو متعدّ إلى مفعول واحد «فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه، وغشيته به (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بما وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عبد الله بن عبد الأشد) بالشين المعجمة. وفي "الجامع": هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، الأسد، بالسين المهملة. وفي "الاستيعاب": هو زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (مؤزرة بالأشجار). الأساس: ومن المجاز: الزرعُ يؤازر بعضه بعضاً؛ إذا تلاحق والتف، وتأزر النبت. قوله: (من أمر الشرب): بيان ما هو أصل الخير. الشربُ: يروي بكسر الشين. الجوهري: شرب الماء وغيره شرباً، وقرئ: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة: 55] بالوجوه الثلاثة. قال أبوعبيدة: بالفتح: المصدر، وبالضم والكسر: اسمان. وهاهنا: اسمٌ.

السيح بالنهر الجاري فيها. والأكل: الثمر. وقرئ بضم الكاف (وَلَمْ تَظْلِمْ) ولم تنقص. وآتت: حمل على اللفظ، لأنّ (كِلْتَا) لفظه لفظ مفرد، ولو قيل: آتتا على المعنى، لجاز. وقرئ: (وفجرنا)، على التخفيف. وقرأ عبد الله: (كل الجنتين آتى أكله) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا المعنى ينظرٌ إلى ما قال في "البقرة" في قوله: (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [البقرة: 25]، ولولا أن الماء الجاري من النعمة العُظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض، وإن كانت أنقى شيء وأحسنهُ لا تروقُ النواظر ولا تبهج الأنفس حتى يجري فيها الماء، ثم قوله: "فجعله أفضل ما يُسقى به، وهو السيح بالنهر" إشارةٌ إلى فائدة تخصيص ذكر النهر وأنه تتميمٌ للمعنى، وترتيبه للفائدة المطلوبة. قوله: (السيح بالنهر الجاري). الأساس: ساح الماء علىوجه الأرض سيحا، وماءٌ سائح، وأساح فلانٌ نهرا: أجراه. قوله: (لأن (كلتا) لفظه لفظ مفرد، ولو قيل آتتا، على المعنى: لجاز). قال الحريري في "دُرة الغواص": يقولون: كلا الرجلين خرجا، وكلتا المرأتين حضرتا، والاختيار أن يوحد الخبر فيهما؛ لأن كلتا وكلتي: اسمان مفردان وضعا لتأيد الاثنين والاثنتين، وبهذا نطق التنزيل: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا)، وعليه قول الشاعر: كلانا ينادي يا نزارُ وبيننا ... قنا من قنا الخطي أو من قنا الهند حيث لم يقل: يناديان. وقال الآخر: كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتهُ ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا حيث لم يقل: غنيان، فإن وُجد في الأشعار تثنية الخبر عن "كلا" و"كلتا" فهو مما حُمل

بردّ الضمير على كل (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي أنواع من المال، من ثمر ماله إذا كثر. وعن مجاهد: الذهب والفضة، أي: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكنا من عمارة الأرض كيف شاء (وَأَعَزُّ نَفَراً) يعنى أنصاراً وحشماً. وقيل: أولادا ذكورا، لأنهم ينفرون معه دون الإناث، (يحاوره) يراجعه الكلام، من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على المعنى أو لضرورة الشعر. قوله: (الدثرة). الأساس: وهو يتدثر بالمال، وماله دثرٌ، وذهبأهل الدثور بالأجور. النهاية: الدثر: المال الكثير، يقع على الواحد والاثنين والجمع. قوله: (من: حار يحور؛ إذا رجع). الراغب: الحورُ: التردد إما بالذات أو بالتفكر. وقوله تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق: 14]، أي: لن يُبعث، وحار في الغدير: تردد فيه، وحار في أمره تحير، ومنه المحور: للعود الذي تجري عليه البكرة لتردده، وبهذا النظر قيل: "سيرُ السواني أبداً لا ينقطع"، محارة الأذُن: لظاهره المنقعر: تشبيهاً بمحارة الماء، لتردد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء في المحارة، والقوم في محور، أي: ترددٍ إلى نُقصان. وقيل نعوذُ بالله من الحور عبد الكور، أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه، أو من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها. وقيل: حار بعد ما كار، والمحاورة والحوار: المرادة في الكلام، ومنه التحاور، وكلمته فما رجع إلى حواراً أو حويراً او محورة، والحورُ: جمع أحور وحوراء.

[(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً* وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً)]. يعني: قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه. فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو معجب بما أوتى مفتخر به كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه: ودخل ما هو جنته)، أي: ما يقال له: إنه جنته. قال القاضي: المراد ما هو جنته، وهو: ما مُتع به من الدنيا تنبيهاً على أنه لا جنة له غيرها ولا حظ له في الجنة التي وُعد المتقون، والتعريف فيه للعهد الذهني، و"ما" موصولة منصوبة المحل بـ"دخل". قوله: (ما له جنةٌ غيرها). الجملة مؤكدة لمعنى الأولى؛ لأنه إذا كان جنسُ جنته هذا، لا يكون له غيرها. قال صاحب "الفرائد": هناك القصد إلى أن له كذا وكذا، فلابد من ذكر الثنتين، وما اكن بينهما وما يُضاف إليهما، وهاهنا القصد إلى أنه قال وقت الدخول ما لا ينبغي له أن يقول، فلا افتقار إلى ذكر التثنية، بل يكتفى بما يدل على جنس ما كان له، فالواحد والتثنية سواء بهذا الاعتبار. وقال القاضي: ويجوز أن يكون الجنتان لاتصال كل واحدةٍ من جنتيه بالأخرى كجنة واحدة، أو يكون الدخول واحدة واحدة. قوله: ((وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): وهو معجبٌ بما أوتي مفتخرٌ به). قال صاحب "الفرائد": هو ناقصٌ لنفسه؛ لأن من كفر النعمة نقص نفسه، باعتبارأن الكفران يوجب فقدان

نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. إخباره عن نفسه بالشك في بيدودة جنته: لطول أمله واستيلاء الحرص عليه وتمادى غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله. وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه، (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه، ليجدنّ في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه، كقوله: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت: 50]، (لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) [مريم: 77] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النعمة، فكأن نفسه منقوصة، أو لأن الكفران مؤد إلى الهلاك، كقوله: (لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]. وقلتُ: مرادُ المصنف أن معنى قوله تعالى: (ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) محمولٌ على معنى الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، كان من موجب دخول جنته ونظره أرضاً جامعةً للأقوات والفواكه مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، كما وصفه الله تعالى: أن يتواضع لله ويشكره على ذلك بما يستطيع من بذل الجهد واستفراغ الطوق، فوضع مكان الشكر والتواضع الإعجاب والافتخار والكفران، فعرض بذلك نفسه لسخط الله وغاية الهوان والنكال، كقوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]، أي: تجعلون شُكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. قوله: (في بيدودة جنته). الجوهري: باد الشيء يبيد بيداً وبيوداً: هلك. قوله: ((وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي): إقسام منه)، أي: اللام موطئة للقسم. قوله: ((لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً) [مريم: 77]): يريدُ أن هذا القول يشبه قول العاص بن وائل حين تقاضاه خبابٌ مالاً له عليه، فقال له: لا، تحى تكفر بمحمد. قال: لا والله، لا

وقرئ: (خيراً منهما)، ردّا على الجنتين (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة. وانتصابه على التمييز، أي: منقلب تلك، خير من منقلب هذه، لأنها فانية وتلك باقية. [(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)]. (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي: خلق أصلك، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له سَوَّاكَ عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكفرُ بمحمدٍ حياً ولا ميتاً، ولا حين تُبعث. قال: فإني إذا متُّ بعثتُ؟ قلتُ: نعم. قال: فإذا بُعثتُ جئني فيكون لي ثم مالٌ وولدٌ فأعطيك. قوله: (وقرئ: "خيراً منهما"): نافعٌ وابن عامر. قوله: (جعله كافراً بالله)، أي: جعل صاحبه كافراً بالله بقوله: (أَكَفَرْتُ) لأجل شكه في البعث، حيث قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)؛ لأن منشأة الشك في كمال قدرة الله وفي كونه عالماً بالحركات، كما يلزمُ من تكذيب المرسل الكفرُ بالمرسل، وفيه تغليظ إنكار الحشر. قال القاضي: ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن من قدر على ما خلقه منه قدر أن يعيده منه.

لشكه في البعث، كما يكون المكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم كافراً. [(لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)]. (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أصله: (لكن أنا)، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: إنما قرن المصنف قوله: "جاحداً لأنعمه" بقوله: "كافراً بالله" ليؤذن بأن قوله: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ) رد لقوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، ولدخوله ظالماً لنفسه واضعاً موضع الشكر الافتخار والإعجاب مكا سبق، فجعل (أَكَفَرْتَ) مستعملاً في الكفر بالله وكفران الننعمة ولكونهما متوافقين، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الأحزاب: 56] أو في القدر المشترك، وهو الستر والتغطية، فكما أن كافر النعمة يحاول في ستر ما يوجب الإشادة والظهور من النعم، كذلك الكافرُيزاول في لبس الحق بالباطل. وقوله: (لشكه في البعث) يجوز أن يكون تعليلاً لجعله كافراً بالله، وأن يكون له ولقوله: "جاحداًلانعمه"؛ لأن في الإعادة نعمةً للمؤمنين، وأي نعمةٍ ليست فوقها نعمة؟ قوله: ((لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أصله: "لكن أنا"). قال صاحب "التيسير": قرأ ابن عامر (لَكِنَّا) بإثبات الألف في الوصل، والباقون بحذفها، إثباتُها في الوقف إجماع. وقال ابن جني: قرأ أبي بن كعب والحسن: " لَكِنْ أنا)، وهي أصل قاءة أ [ي عمرو وغيره: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) فخففت همزة "أنا" بأن حُذفت وألقيت حركتها على ما قبلها فصارت "لكننا"، ثم التقت النونان متحرتين فأسكنت الأولى وأدغمت في الثانية فصارت "لكن" في الإدراج، فإذا وقفت ألحقت الألف لبيان الحركة، فقُلت: (لَكِنَّا) فـ"أنا" على هذا: مرفوعٌ بالابتداء، وخبره: الجملة، وهي مركبة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: (اللَّهُ)، والخبر: (رَبِّي)، والجملة خبر: (هُوَ)، و (هُوَ) وما بعده من الجملة: خبرٌ عن (أنا)، والعائدُ عليه من الجملة بعده الياء في (رَبِّي)، كقولك: أنا قام غُلامي.

نون "لكن"، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل: وترميننى بالطّرف أى أنت مذنبٌ ... وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى أي: لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن، والشأن الله ربي، والجملة خبر أنا، والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعا، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة. وغيره لا يثبتها إلا في الوقف. وعن أبي عمرو أنه وقف بالهاء: لكنه. وقرئ: (لكن هو الله ربي)، بسكون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فما العائد على (هُوَ) من الجملة بعده التي هي خبرٌ عنه؟ قلتُ: لا عائد على المبتدأ أبداًإذا كان ضمير الشأن والقصة؛ لأن المبتدأ إنما احتاج إلى العائد من الخبر إذا كانت جملةً؛ لأنها لست هي المبتدأ، نحو: زيدٌ قائمٌ أبوه؛ لأن "زيداً" ليس بقولك: "قائم أبوه" في المعنى، فاحتاجت إلى عود ضمير منها عليه ليلتبس ذلك الضمير بجملته. وأما ما نحن بصدده فهو الجملة نفسها. قوله: (وترمينني بالطرف) البيت، تقلينني: أي: تُبغضينني. قيل: "لكن" وجهُه أن يكون أصله: لكنه إياك، على أن الضمير للشان، ثم حُذف. ولو قيل: إن الأصل: لكنني إياك، ثم حُذف اسم "لكن" وهو ضمير المتكلم مع نون الوقاية لكان وجهاً. قوله: (وترمينني بالطرف). الأساس: ومن المجاز: رماه بعينه، ورماه بالفاحشة. قوله: (أي: لكن أنا لا أقلبك). يريد: أن "إياك" ليس منصوبا بـ"لكن"، وهو ضمير مفعول قُدم على عامله، إما للاختصاص أو القافية. قوله: (وقرئ: " لَكِن هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، قال ابن جني: هي قراءة عيسى الثقفي، و"هُو":

النون وطرح أنا. وقرأ أبيّ بن كعب: لكن أنا على الأصل. وفي قراءة عبد الله: لكن أنا لا إله إلا هو ربى. فإن قلت: هو استدراك لماذا؟ قلت: لقوله أَكَفَرْتَ قال لأخيه: أنت كافر بالله، لكنى مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب، لكن عمرا حاضر. [(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً* فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً* أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)]. (ما شاءَ اللَّهُ) يجوز أن تكون (ما) موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأٍ محذوف، تقديره: الأمر ما شاء الله. أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أي شيء شاء الله كان. ونظيرها في حذف الجواب (لَوْ) في قوله: (وَلَوْ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضمير الشأن، والجملة بعده: خبرٌ عنه. قوله: (أنت كافرٌ بالله، لكني مؤمنٌ موحدٌ)، هذا تلخيص الكلامين المتغايرين لتصحيح إدخال "لكنْ" بينهما، وأما اعتبار مفردات التركيب فمفوض إلى الذهن، فقوله: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) مقابل لقوله: (هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، وقوله: (أَكَفَرْتَ) مقابل لقوله: (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) دل هذا على التوحيد الصرف والإخلاص التام. قوله: (أو شرطية منصوبة الموضع). قال أبو البقاء: هي شرطية في موضع نصب بـ (شَاءَ)، والجواب محذوف، أي: ما شاء الله كان. قوله: (ونظيرُها)، أي: نظيرُ "ما" الشرطية في حذف الجواب: لفظةٌ "لو" في تلك الآية، فـ"نظيرُها": مبتدأٌ، والخبرُ: "لو".

قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد: 31]، والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها، وقلت (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى. وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب، فيدخل من شاء. وكان إذا دخله ردّد هذه الآية حتى يخرج. من قرأ أَقَلَّ بالنصب فقد جعل أنا فصلا، ومن رفع جعله مبتدأ وأقلّ خبره، والجملة مفعولاً. ثانياً لترنى. وفي قوله وَوَلَداً نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله (وَأَعَزُّ نَفَراً) [الكهف: 34]، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى، فيرزقنى لإيمانى جنة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أي: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسبانا مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق صَعِيداً زَلَقاً أرضا بيضاء يزلق عليها لملامتها زلقاً) و (غَوْراً) كلاهما وصف بالمصدر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحسبان مصدرٌ، كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب). قال صاحب "الفرائد": هو مصدرٌ بمعنى اسم المفعول، أي: شيئاً مما يُعد، أي: يدخل في الحساب ويعتد به، من أنواع العذاب المرتبة على الأمر المتوقع أن يقع بسبب الكفر. الراغب: (حُسْبَاناً): ناراً وعذابا، ً وإنما هو في الحقيقة: ما يُحاسب عليه، فيجازى بحسبه. قوله: (يزلق عليها لملاستها). الراغب: الزلق والزلل متقاربان. قال تعالى:

[(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً*وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً)]. (وَأُحِيطَ) به عبارة عن إهلاكه. وأصله من أحاط به العدوّ، لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ومثله قولهم: أتى عليه، إذا أهلكه، من أتى عليهم العدوّ: إذا جاءهم مستعليا عليهم. وتقليب الكفين: كناية عن الندم والتحسر، لأنّ النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن، كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عدّى تعديته بعلى، كأنه قيل: فأصبح يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي أنفق في عمارتها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي: دحضاً لا نبات فيه، كقوله تعالى: (فَتَرَكَهُ صَلْداً) [البقرة: 264]، يقال: زلقه وأزلقه فزلق، قال تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ) [القلم: 51]، وذلك كقول الشاعر: نظراً يزيل مواطئ الأقدام قال يونس: لم يُسمع الزلقُ والإزلاقُ إلا في القرآن، ورُوي أن أبي بن كعب قرأ: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: 64]، أي: أهلكنا. قوله: (ظهر البطنٍ). الأساس: قلبتُ الأمر ظهراً لبطن، قال عمر بن أبي ربيعة: وضربنا الحديث ظهرا لبطنٍ ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا نصب "ظهرا لبطنٍ" على أنه مفعولٌ مطلق، أي: يُقلبُ كفيه تقليباً.

عُرُوشِها) يعني أنّ كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم. قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها (يا لَيْتَنِي) تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان. وقرئ: (وَلَمْ تَكُنْ) بالياء والتاء، وحمل (يَنْصُرُونَهُ) على المعنى دون اللفظ، كقوله: (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ) [آل عمران: 13]. فإن قلت: ما معنى قوله (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)؟ قلت: معناه يقدرون على نصرته من دون الله، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (وَلَمْ تَكُنْ) بالياء والتاء)، حمزة والكسائي: بالياء التحتاني، والباقون: بالتاء. قوله: (وحُمل (يَنصُرُونَهُ) على المعنى)؛ لأن الفئة ناسٌ وجماعة، ولو كان (تَنصُرُونَهُ) بالتاء الفوقانية لكان حملاً على اللفظ، والاستشهاد بقوله: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ) [آل عمران: 13] بالتاء الفوقانية، لأجل الحمل على اللفظ. قوله: (معناه: يقدرون على نُصرته)، قال صاحب "الفرائد": "وضعُ "يَنصُرونَ" موضع "يقدرون": وضعُ الملزوم موضع اللازم، وهو من باب المجاز، وتركُ الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا بقرينة، وهي هاهنا: (مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ لأن حاصل (مِنْ دُونِ اللَّهِ): إلا الله، فكأنه قيل: لا ينصره أحد إلا الله، وهو كقولك: لم ينصرني أحدٌ من دون زيد، يُفهم منه أن زيداً ينصرك، ولما لم ينصره الله عثلم أن المراد من النصرة القدرة عليه. وقلتُ: نظيره قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] أي: قادرين، وقوله: (فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل: 98]، أي: إذا اردت القراءة فاستعذ؛ لأن الفعل يوجدُ بقدرة الفاعل تارة وأخرى بإرادته، فهو من إطلاق المسبب على السبب.

هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل (وَما كانَ مُنْتَصِراً) وما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام الله. [(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)]. (الْوَلايَةُ) بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما. والمعنى هنالك، أي: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه، تقريرا لقوله (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [الكهف: 43]. أو: هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطرّ. يعنى أنّ قوله (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف: 42]، كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو استيجابه أن يُخذل)، معناه: أنه تعالى أوجب على نفسه خذلانه بناء على مذهبه، اللهم إلا أن يقال: الإيجاب بمعنى الوعد، وفيه دليل أن قوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) لم يصدر عنه توبةً وندماً. نعم، يجوز ان يقال: إن تلك التوبة كانت عند مشاهدة البأس. قوله: (وقد قُرئ بهما)، بالكسرة: حمزة والكسائي، والباقون: بالفتح. قوله: (يعني: أن قوله: (يَا لَيْتَنِي) كلمة ألجيء إليها، فقالها)، تلخيصٌ لما حصل من تفسيره لقوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً)، وجعل قوله: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ) تقريراً له، بعد سبق ذكر قوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) يعني: لما رأى ألا ناصر هناك إلا الله، وهو قد خذله، قالها جزعاً مما دهاه، وهذا مؤذنٌ بأن قوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إلى قوله: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ) إما حالٌ من فاعل يقولُ، أو:

لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عطفٌ على يقول: وإيذانٌ بحصول مضمون الجملتين، وبعثٌ للسامع على التفكر واستنباط الرتب بينهما. ويجوز أن يتعلق قوله: "يعني" بالوجه الأخير، والظاهر أنه متعلقٌ بالوجوه الثلاثة المبنية على معنى الولاية من انصرة والتولي والسلطان والمُلك على سبيل اللف والنشر، فلما فرغ من ذلك أتى بما يجمعها من المعنى، يعني: إنما قال ذلك الخاسر النادم: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) لما رأى ألا ناصر أو لا مُتولي أو لا مانع له هنالك. الراغب: الولي: كون الشيء بجنب الآخر، ويعتبر ذلك تارةً بالمكان، فيقال له: الولايةُ وتارة بالنصرة، فيقال له: الولاء والموالاة، لكن الولاء على ضربين: ضربٌ باعتبار نسبة الأعلى إلى الأسفل، وضربٌ باعتبار نسبة الأسفل إلى الأعلى، ولهذا يُقال للخادم والمخدوم: مولى وولي؛ لأن كل واحدٍ منهما يوالي الآخر؛ الخادم بالطاعة والنصيحة، والمخدوم بالإشفاق والكفاية. وقال أهل اللغة: المولى: المالك والمملوك، والمعتق والمعتقن والناصر والمنصور، ابن العم، والحليف والجار والقيم، فاعتبروا في كل ذلك المتضايفين؛ لكون كل واحدٍ منهما موالياً للآخر بوجه. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى) ها معنى آخر متفرعٌ على معنى الولاية إذا كانت بمعنى النصرة، من قولك: انتصر منه: إذا انتقم منه، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) [الكهف: 44]، وذلك أن صاحبه لما افتخر وتعزز عليه بالمال والبنين وكفر بالله وبالبعث، وأجابه بما أجاب، ثم ختم بقوله: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ) - صدق الله قوله بأن أحاط بثمره وتركهُ مخذولاً

الكفرة وينتقم لهم، ويشفى صدورهم من أعدائهم، يعنى: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وصدّق قوله (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) [الكهف: 40]، ويعضده قوله (خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي: لأوليائه. وقيل (هُنالِكَ) إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله، كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر: 16]، وقرئ (الحق) بالرفع والجرّ صفة للولاية والله. وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقهوراً، وشفى صدره. والتشفي من أعداء الذين خيرٌ من الخيرات، وموهبة من المواهب، فيكون موقع (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ) مما سبق، موقع قوله: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) من قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) فهما كالتذييلين؛ لأن معناهما يلتقيان في التشفي عن أعداء الدين، ولذلك قال هناك: "هو إيذان بوجوب الجهر عند إهلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم وأجزل القسم"، وقال هنا: " (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ) ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم، ويشفي صدورهم". [قوله]: (وقرئ: (الْحَقَّ) بالرفع والجر) أبو عمرو والكسائي: بالرفع، والباقون: بالجر. قوله: (وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم). الانتصاف: وقد تقدم الإنكار عليه أن القراءة موولة إلى رأي الفصحاء، ولا يجوز لأحدٍ أن يقرأ إلا بما سمعهن ورُوي مفصلاً عن النبي مخبراً عن غنزاله من السماء، فلا وجه لفصاحة الفصيح، ولكن الزمخشري لا يفوت الثناء على راس البدعة ومعدن الفتنة عمرو بن عبيد، فإنه من كبار المعتزلة. ذكر الإمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه" أن سليمان بن أبي مطيع كان يقول: بلغ أيوب أني آتي عمرو بن عبيد، فأقبل عليَّ فقال: أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه،

وقرئ: (عُقْباً) بضم القاف وسكونها، و (عقبى) على فعلى، وكلها بمعنى العاقبة. [(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)]. (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف تأمنه على الحديث؟ قال الشيخ محيي الدين في "شرحه": أما عمرو بن عبيدٍ فهو القدري المعتزلي الذي كان صاحب الحسن البصري، قال مسلم أيضاً: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث. قال: قيل لأيوب: إن عمرو بن عبيد روى عن الحسن، قال: لا يُجلد السكران من النبيذ، فقال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يُجلد السكران من النبيذ. قوله: (وقرئ: (عُقْباً)، بضم القاف)، عاصمٌ وحمزة: بالإسكان، والباقون: بالضم. الراغب: العقبُ: مؤخر الرجل. وقيل: عقبٌ وجمعه أعقابٌ، واستعيرالعقب للولد ولولد الولد، ورجع على عقبه: إذا انثنى راجعاً، وانقلب على عقبه، نحو رجع على حافرته ونحو: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا) [الكهف: 64]، وعقبه: إذا تلاه، نحو: دبره وقفاه. والعقبُ والعقبى يختصان بالثواب، نحو: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً)، وقال تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 22]، (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 24]، والعاقبة إطلاقها يختص بالثواب، نحو: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة، كقوله تعالى: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ) [الحشر: 83] فيصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، كقوله تعالى: (بَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]، والعقوبة والعقابُ والمعاقبة يختص بالعذاب.

نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روي ورف رفيفاً، وكان حق اللفظ على هذا التفسير: فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه. والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نجع في النبات). الأساس: نجع فيه الدواء: نفعه، وماءٌ نجوعٌ: نميرٌ. قوله: (ورف رفيفاً). الأساس: رف النبات يرفُّ، وله وريفٌ ورفيفٌ؛ وهو أن يهتز نضارة وتلألؤا. قوله: (ووجه صحته أن كل مختلطين موصوفٌ كل واحدٍ منهما بصفة صاحبه)، قال صاحب "الفرائد": حقُّ اللفظ كما ذكره الله تعالى؛ لأن النبات هو المختلط؛ لأن الفعل من جهته؛ إذ هو الجاذب للماء، ولا فعل من جهة الماء يُعرف بالتأمل، فيُقالُ: إن المصنف في صدد تأويل قول القائل: نجع في النبات الماءُ، بدليل قوله: هذا على التفسير، وللماء أيضاً فعلٌ لسريانه في النامي للطافته، ولا نُسلمُ أن نفسَ الجذب الاختلاطُ؛ لأن الاختلاط من الجانبين. فإن قلت: الماءُ النازلُ من السماء إنما يخلطُ الأرض وأصل النبات، لا النبات، لأنه ينبتُ به جزءاً منه. قلتُ: للماء مع النامي أطوارٌ: ففي الطور الأول تختلطُ به الأرض وأصلُ النبات، ثم يختلط بالنبات فيصبح مخضراً رفيفاً، كما أشار إليه المصنفن ثم يخرج منه الحب، كما قال تعالى امتناناً: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً) [الأنعام: 99] الآية، والذي له سوقُ الكلام، هو الطور الثاني؛ لأن القصد تشبيه حياة الدنيا في حُسنها بهجتها في بدء الأمر باخضرار النبات وغضارته وأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ثم استصالها في العاقبة، فلا يدخل في الكلام الطور الأول ولا الثالث، والتشبيه مختصرٌ مما في سورة يونس: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [يونس: 24] إلى آخر الآية. الراغب: الخلطُ: هو الجمعُ بين أجزاء الشيئين فصاعداً، سواءٌ كانا مائعين أو جامدين.

وقرئ: تذروه الريح. وعن ابن عباس: تذريه الرياح، من أذرى: شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفاً ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإنشاء والإفناء (مُقْتَدِراً). [(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)]. (والْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا. وقيل هي الصلوات الخمس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو مختلفين، وهو أعمُّ من المزج، ويقالُ: اختلط الشيءُ، قال تعالى: (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) [يونس: 24]. ويقالُ للصديق والمجاور والشريك: خليطٌ، والخليطُ يقالُ للواحد والجمع، ويقالُ: أخلط فلانٌ في كلامه: إذا كان ذا تخليط فيه، وأخلط الفرس في جريه: كذلك، وهو كنايةٌ عن تقصيره فيه. قوله: (وقرئ: "تذروه الريحُ"): حمزة والكسائي مفرداً. قوله: (وارفاً). الأساس: ورف النباتُ وريفاً، فهو وارفٌ: له بهجة من الري. قوله: (ثم يهيج). الجوهري: هاج النبتُ هياجاً، أي: يبس. قوله: (وتفنى عنهُ كل ما تطمح إليه)، قيل: هو حالٌ، والظاهر العطف على "تبقى" لمجيء الواو في المضارع المثبت، أي: تبقى ثمرتها له، ويفنى عندها عنه كل ما يطمح إليه، كأنه عرف "الباقيات" بالصفة الكاشفة، أي: هي أعمال يبقى ثوابها للإنسان بعد فناء كل ما رجا منه الحظوظ؛ لأن البقية تقتضي ما يفضلُ عنه، كقوله تعالى: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ)

وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وعن قتادة: كل ما أريد به ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [هود: 86]، قال: ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرامٌ عليكم، خيرٌ لكم. وقريبٌ منه ما روينا عن مسلم والترمذي والنسائي، عن عبد الله بن الشخير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ "، أي: فأبقيت. قوله: (وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، روى أحمدُ بنُ حنبل في "مسنده"، عن النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن بحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات"، ونحوه رواه مال بن أنس، عن ابن المسيب. أقولُ - والعلمُ عند الله تعالى-: لعلهصلواتُ الله عليه خص هذه الكلمات بالباقيات الصالحات؛ لكونها جامعاتٍ للأمهات: فالتسبيح تقديس لذاته عما لا يليق بجلاله وتنزيه لصفاته عن النقائص. والتحميد مشتملٌ على معنى الفضل والإفضال المؤذنين بالصفات الذاتية والإضافية بعد السلبية. والتهليل: توحيد الذات ونفي الضد والند، وتنبيه على التبرؤ عن الحول والقوة إلا به. والتكبير: اعتراف بالقصور في الأفعال والأقوال، قال: "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، وفي هذا التدرج لمعةٌ من معنى

وجه الله (خَيْرٌ ... ثَواباً) أي ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل، لأنّ صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله، ويصيبه في الآخرة. [(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العروج للسالك العارف، ولهذه الأسرار ورد عن الصادق المصدوق: "لقيت ليلة أُسري بي إبراهيم، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبةُ الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". أخرجه الترمذي عن ابن مسعود. ثم إنه سبحانه وتعالى قابل بالباقيات الصالحات، الفانيات الزائلات، أعني (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) [الكهف: 45] وخص منها ما هو العمدة فيها، ويحصل منه تزيين المجالس والتفاخر في المحافل من المال والبنين، ألا ترى إلى أحد الرجلين في القصة السابقة وقوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)؟ وفيه تلويح إلى بيان النظم؛ فإن قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، ينظر إلى قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) إلى قوله: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) في معنى اجتماعهما على الابتداء المبهج والانتهاء المثمر للجنة، وكذا ما قوبل به هذه الآية من الباقيات الصالحات، خبرٌ مقاربق لما قوبل به تلك الآية بقوله: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) وقوله: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ).

قرئ: (تسير) من سيرت، و (نسير)، من: سيرنا. و (تسير) من: سارت، أي: تسير في الجو. أو يذهب بها، بأن تجعل هباء منبثاً. وقرئ: وترى الأرض على البناء للمفعول (بارِزَةً) ليس عليها ما يسترها مما كان عليها (وَحَشَرْناهُمْ) وجمعناهم إلى الموقف. وقرئ: (فلم نغادر)، بالنون والياء، يقال: غادره وأغدره؛ إذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تسيرُ" من: سُيرت)، قرأ الكوفيون ونافع: (نُسَيِّرُ) بضم النون وكسر الياء، و (الْجِبَالَ) بالنصب، والباقون: بالتاء وفتح الياء ورفع (الْجِبَالَ). و (تَسِيرُ) بفتح التاء: شاذة. قوله: ((وَحَشَرْنَاهُمْ): وجمعناهم إلى الموقف). الراغب: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وروي: النساء لا يحشرن، أي: لا يخرجن إلى الغزو، ولا يُقال: الحشرُ إلا في الجماعة، قال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير: 5]، وسُمي يوم القيامة يوم الحشر، كما سُمي يوم البعث ويوم النشر. قوله: (وقرئ: (فَلَمْ نُغَادِرْ) بالنون): الجماعة كلهم، وبالياء: شاذ. الراغب: الغدرُ: الإخلالُ بالشيء وتركه، والغدر يقالُ لترك العهد، ومنه قيل: فلان غادرٌ، وجمعه: غدرة، غدارٌ: كثيرُ الغدر، وأغدر واستغدر الغدير: صار فيه الماء، والغدير: الشعر الذي تُرك حتى طال، وجمعها: غدائر. وجمعُ غدير الماء: غدرٌ وغُدرانٌ، وغدرتِ الشاة: تخلفت، فهي غدرة.

تركه، ومنه الغدر. ترك الوفاء. والغدير: ما غادره السيل. وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان (صفًّا) مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحدا (لقَدْ جِئْتُمُونا) أي: قلنا لهم: لقد جئتمونا. وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير. ويجوز أن ينصب بإضمار: اذكر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((صَفّاً): مصطفين)، أي: (صَفّاً): حالٌ من الواو في: (وَعُرِضُوا)؛ وإنما قال: (ظَاهِرِينَ) لأن المقصود من عرض الجند على السلطان إظهارهم عنده، فجعل (صَفّاً) ترشيحاً لاستعارة (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ)، كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]. قوله: (وهذا المضمر هو عامل النصب في "يوم نُسير). قال أبو البقاء: وقيل: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ) معطوفٌ على قوله: (عِنْدَ رَبِّكَ)، أي: الصالحات خيرٌ عند الله وخيرٌ يوم نسير. الراغب: السيرُ: المُضي في الأرض، ورجلٌ سائرٌ وسيارٌ، والسيارة: الجماعة، يقال: سرتُ، وسرتُ بفلانٍ، وسرته أيضاً، وسيرته، على التكثير، فمن الأول قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) [الحج: 46]، ومن الثاني قوله (وَسَارَ بِأَهْلِهِ) [القصص: 29]، ولم يجيء في القرآن القسم الثالث. ومن القسم الرابع قوله تعالى: (وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) [النبأ: 20]. والتسيير ضربان، أحدهما: بالأمر والاختيار والإرادة من السائر، نحو: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس: 22]. والثاني: بالقهر والتسخير، كقوله تعالى: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: 3]. والسيرة: الحالةُ التي يكون عليها الإنسان وغيره غريزياً كان أو مكتسباً، يقالُ: فلانٌ له سيرةٌ حسنةٌ وسيرةٌ قبيحةٌ.

والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم (أوَّلَ مَرَّةٍ) وقيل جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أوّلا، كقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام: 94]. فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك (موْعِداً) وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور. [(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: لقد بعثناكم، كما أنشأناكم): تفسيرٌ لقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). قوله: (للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير)، قال صاحب "الفرائد": الواو للحال في (وَحَشَرْنَاهُمْ)، فلو كان للعطف، كان ينبغي أن يُقال: ونحشرهم. قلتُ: إن المصنف سأل عن فائدة الاختلاف الواقع بين هذه الأفعال الثلاثة، والجواب ما ذكره، يعني: خولف بين التسيير والرؤية، حيث جيء بهما مضارعين، وجيء بالحشر ماضياً، ليشعر بصيغة المضارع بأن المراد استحضار تلك الصورة العجيبة الشأن في مشاهدة السامع، ليتعجب لها، وإليه الإشارة بقوله: "ليعاينوا تلك الأهوال"، ولو قيل: نحشرهم على مقتضى الظاهر، لفات المقصود. ونظر أصحاب المعاني إلى فائدة العدول عن مقتضى الظاهر. وقال القاضي: ومجيئه ماضياً بعد (نُسَيِّرُ) و (تَرَى) لتحقيق الحشر، أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير.

(الْكِتابُ) للجنس وهو صحف الأعمال (يا وَيْلَتَنا) ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) هنة صغيرةً ولا كبيرة، وهي عبارة عن الإحاطة، يعنى: لا يترك شيئا من المعاصي إلا أحصاه، أي: أحصاها كلها كما تقول: ما أعطانى قليلا ولا كثيرا، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار. ويجوز أن يريد: وإما كان عندهم صغائر وكبائر. وقيل: لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة. وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس، والكبيرة الزنا. وعن الفضيل: كان إذا قرأها قال: ضجوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينادون هلتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات)، وذلك أن حرف النداء لاختصاص المنادى بالإقبال، وهاهنا خصوا الهلاك بالنداء، وأضافوا إلى أنفسهم قائلين: (يَا وَيْلَتَنَا) على الاستعارة، فإن الويل: الهلاك، قال في قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) [يس: 30]: نداءٌ للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة، فهذه من أحوالك التي من حقك أن تحضري فيها. قوله: (هنة صغيرة). الأساس: وفيه هناتٌ وهنواتٌ: خصالٌ سوء. قوله: (وهي عبارة عن الإحاطة)، أي: التكرير للاستيعاب، كما في قوله: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) [مريم: 62]. قوله: (وهي المناقشة). النهاية: وفي حديث عائشة: "من نوقش الحساب فقد هلك"، أي: من استقصى في محاسبته وحوقق. وأصل المناقشة من: نقش الشوكة؛ إذا استخرجها من جسمه وقد نقشها وانتقشها، وبه سُمي المنقاش.

والله من الصغائر قبل الكبائر (إِلَّا أَحْصاها) إلا ضبطها وحصرها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) في الصحف عتيدا. أو جزاء ما عملوا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) فيكتب عليه ما لم يعمل. أو يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم، كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يزعم من ظلم الله) أي: نسبه إلى الظلم، من قولك: خطأته، أي: نسبته إلى الخطأ، أو قلت له: يا خاطئ، وليس المعنى: صيره ظالماً، نحوه: فرحته. والأحاديث المروية في أطفال المشركين مشهورة، منها: ما رواه مسلمٌ وأبو داود والنسائي، في آخر حديث عائشة رضي الله عنها: "إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم وهم في أصلاب آبائهم". وفي رواية أبي داود: قالت: فقلتُ: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ فقال: "هم من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، قلتُ: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال: "من آبائهم"، فقلتُ: بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". و"مِن" فيه اتصالية. ومنها: ما روى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين عمن يموت منهم وهو صغيرٌ، قال: "الله أعلمُ بما كانوا عاملين". فظهر من هذه النصوص من ظلم الله بسبب نسبة رسوله إلى الظلم. قال القاضي: معنى: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) يكتب عليه ما لم يفعل. وقال أيضاً: كرر قوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال، وهاهنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم، قرر ذلك أنه من سنن إبليس، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها، وكان سببُ الاغترار بها حب الشهوات

[(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)]. (كانَ مِنَ الْجِنِّ) كلام مستأنف جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) والفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه، لأنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله، لأنّ الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء: 27]، وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم. فما أبعد البون بين ما تعمده الله، وبين قول من ضادّه وزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة، فعصى، فلعن ومسخ شيطانا، ثم ورّكه على ابن عباس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتسويل الشيطان، زهدهم أولاً في زخارف الدنيا بأنها عرضةٌ للزوال، والأعمال الصالحة خيرٌ وأبقى، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن. قوله: (ثم وركه على ابن عباس)، الأساس: عن الحسن: من أنكر القدر فقد فجر، ومن ورك ذنبهُ على الله فقد كفر. قال في "الانتصاف": الحق معه إلا في قوله: "وهذا الكلام المعترض تعمدٌ من الله"، فإنه يطلقُ من يفعلُ فعلاً حيناً خطأ، فلا يليقُ إطلاقه على الله تعالى.

ومعنى (فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) خرج عما أمره به ربه من السجود. قال: فواسقا عن قصدها جوائرا أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله (اسْجُدُوا لِآدَمَ). (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الهمزة للإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال محيي السُّنة: كان بين حي من الملائكة، يقال لهم: الجن، خُلقوا من نار السموم. وقال الإمام: وكونه من الملائكة لا يُنافي كونه من الجن، لقوله تعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) بالصافات: 158]، (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) [الأنعام: 100]، ولأن الجن إنما سُموا جناً للاستتار، والملائكة أيضاً يستترون، يعني أن تعالى كلما أراد أن ينقص من مرتبة الملائكة سماهم جناً، كذلك هاهنا. قوله: (فواسقاً عن قصدها جوائرا)، أوله: يذهبن في نجدٍ وغوراً غائراً مضى شرحه في "البقرة". قوله: (أو صار فاسقاً كافراً)، وعلى هذا (فَفَسَقُ) متعلقٌ بقوله: (اسْجُدُوا)، والفاء: للتعقيب، و (كَانَ مِنْ الْجِنِّ): اعتراضٌ، و (عَن) في (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) كما في قوله ينهون عن أكلٍ وعن شربِ أي: أُصدر فسقُه عن قوله تعالى: (اسْجُدُوا) أي: كان قولهم: (اسْجُدُوا) سبباً لفسقه.

تتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) وتستبدلونهم بي، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته (ما أَشْهَدْتُهُمْ) وقرئ: (ما أشهدناهم)، يعنى: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأعتضد بهم في خلقها (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29]. وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ بمعنى وما كنت متخذهم عَضُداً أي أعوانا، فوضع المضلين موضع الضمير ذمّا لهم بالإضلال، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما كانوا يكونون)، عن بعضهم: التقدير إنما يصح كما تبين، والظاهر أن قوله: "يكونون" مزيدةٌ، كما في قول الفرزدق. وجيرانٍ لنا - كانوا - كرامِ ويؤيده إسقاطه في بعض النسخ. قوله: ((عَضُداً) أي: أعواناً). الراغب: العضدُ: ما بين المرفق إلى الكتف، وعضدته: أصبت عضده، وعنه استعير: عضدت الشجر بالمعضد، ويُستعار العضد للمعين كاليد، قال تعالى: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً). قوله: (فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء؟ ) إشارة إلى تحقيق ما أنكر عليهم أولاً بقوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)؛ وذلك أنه تعالى لماعقب امتناع إبليس عن سجدة آدم- لعصيانه وفسقه- إنكار اتخاذه ولياً من دون الله استبعاداً، أراد أن يُقدر هذا الاستبعاد بوجهٍ برهاني، وقال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) يعني: إنما كانوا شركاء لي أن لو كانوا شركاء فيما يصح به اسم الإلهية،

العبادة؟ وقرئ: وما كنت، بالفتح: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ على رضى الله عنه: وما كنت متخذا المضلين، بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن: عضدا، بسكون الضاد، ونقل ضمتها إلى العين. وقرئ: عضداً، بالفتح وسكون الضاد. وعضدا، بضمتين وعضدا بفتحتين: جمع عاضد، كخادم وخدم، وراصد ورصد، من عضده: إذا قواه وأعانه. [(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً* وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً)]. (يَقُولُ) بالياء والنون. وإضافة الشركاء إليه على زعمهم: توبيخا لهم وأراد الجن. والموبق: المهلك، من وبق يبق وبوقا، ووبق يوبق وبقا: إذا هلك. وأوبقه غيره. ويجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو خلقُ السماوات والأرض، وإنكم مُقرون بأن الله تعالى هو وحده خالقُ السماوات والأرض: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25]، وإذا لم يكونوا كذلك فلا يكونوا شُراء لي، فقرر ذلك بقوله تعالى: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي: شركاء فلما لزم من هذه المقدرات تقرير قوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ) قال: فما لكم تتخذونهم شركاء؟ فالإشهاد بمعنى الإحضار، أي: ما أحضرتهم لأعتضد بهم، قال الإمام: ما أشهدت الذين اتخذتموهم أولياء خلق السماوات والأرض لأعتضد بهم، والدليل عليه قوله تعالى: (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً). قوله: ((يَقُولُ) بالياء والنون)، حمزة: بالنون، والباقون: بالياء التحتاني.

يعني: وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا. وعن الحسن (مَوْبِقاً) عداوة. والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاك، كقوله: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا. وقال الفراء: البين الوصل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: وجعلنا بينهم وادياً)، هذا على تقدير أن يكون الموبق اسم مكان. وقوله: (مَوْبِقاً): عداوةً على تقدير أن يكون مصدراً، فيكون مبالغةً، كقولك: رجلٌ عدل. قوله: (والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاكٌ)، أي: وضع المسبب موضع السبب؛ لأن العداوة تستلزم الهلاك، أو هو من باب المجاز باعتبار ما يؤول إليه، كأنه قيل: علنا بينهم عداوة تجرهم وتؤديهم إلى الهلاك والتلف، كقوله: "ولا بُغضك تلفاً" أي: لا يكن بُغضك بحيثُ يجر على التلف والهلاك. قوله: (كقوله: لا يكن حبك كلفاً). قيل: هو من كلام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. النهاية: الكلفُ: الولوع بالشيء مع شغل قلب ومشقة، ومنه قول عمر رضي الله عنه: عثمان كلفٌ بأقاربه، أي: شديد الحب لهم. قوله: (البين: الوصل). الراغب: بينٌ: موضوعٌ للخلل بين الشيئين ووسطهما، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً) [الكهف: 32]، يقال: بان كذا، أي: انفصل وظهر ما كان مستتراً منه، ولما اعتبر فيه معنى الانفصال والظهور استُعمل في كل منهما منفرداً، حتى قيل للبئر البعيدة القعر: بيونٌ، وبان الصبح: ظهر، يقال: بان واستبان وتبين، والبينةُ: الدلالة الواضحة، عقليةً كانت أو محسوسة، وسُميت شهادة الشاهدين بينةً، وهو أعمُّ من النطق؛ لأن النطق مختص بالإنسان.

أي: وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. ويجوز أن يريد الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم، وبالموبق: البرزخ البعيد، أي: وجعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان فَظَنُّوا فأيقنوا (مُواقِعُوها) مخالطوها واقعون فيها (مَصْرِفاً) معدلاً. قال: أزهير هل عن شيبة من مصرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد الملائكة): عطفٌ على قوله: وأراد الجن، والموبق: المهلك. المعنى على الأول: نادوا شركائي الذين زعمتهم من الجن، والحال أن بينهم وادياً من جهنم، أو بينهم عداوة. وعلى الثاني: أن بينهم أمداً بعيداً؛ لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان. المُغرب: (مَوْبِقاً)، أي: مهلكاً من أودية جهنم أو مسافةٍ بعيدة. قوله: (البرزخ). الجوهري: هو الحاجز بين الشيئين. قوله: (تهلكُ فيه الأشواط)، المُغرب: الأشواط: جمع شوط، وهو جري مرة إلى الغاية، يعني فيه السير، كناية عن البُعد البعيد. قوله: (أزُهير هل عن شيبةٍ من مصرف)؟ تمامه من "المطلع": أم لا خلود لباذلٍ متكلف؟ "زهير" يُروى بفتح الراء: ترخيم "زهيرة" اسم امرأة. "من مصرف"، الأساس: صُرف عن عمله: غُير، وإنه ليتصرفُ: يحتالُ. يقولُ: أيتها اللائمة، هل يقدر أحدٌ أن يحتال في تغيير الشيبة؟ بل أتزعمين أن من بذل ماله في إنفاقه لاي بقى اسمه مخلداً على وجه الزمان؟

[(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)]. (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحدا بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب جَدَلًا على التمييز، يعني: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل: 4]. [(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَاتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً)]. (أَنْ) الأولى نصب. والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره وَما مَنَعَ النَّاسَ الإيمان والاستغفار (إِلَّا) انتظار (أَنْ تَاتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، وهي الإهلاك (أَوْ) انتظار أن (يَاتِيَهُمُ الْعَذابُ) يعني: عذاب الآخرة (قِبُلًا) عياناً. وقرئ (قبلا) أنواعاً: جمع قبيل. و «قبلا» بفتحتين: مستقبلا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن فصلتها واحداً بعد واحدٍ)، وذلك من إضافة "أفعَل" التفضيل إلى الواحد، فإن الإضافة فيه إذا أريد بيانُ زيادته، يقتضي أن يكون المفضل داخلاً فيمن أضيف إليهم فرداً منهم ليحصُل المقصودُ من الشركة والزيادة، قال ابن مالك: إن أفعل إذا أضيف إلى نكرة، نحو: زيدٌ أفضلُ رجل، وهما أفضلُ رجلين، وهم أفضل رجال، معناه: زيدٌ أفضل من كل رجل قيس فضله بفضلهِ، وهما أفضل من كل رجلين قيس فضلُهما بفضلِهما، وعلى هذا. قوله: ((وَمَا مَنَعَ النَّاسَ) الإيمان والاستغفار) أي من الإيمان. قوله: (وقرئ: (قُبُلاً)) الكوفيون: بضمتين، والباقون: بكسر القاف وفتح الباء.

[(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً)]. (لِيُدْحِضُوا) ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن، موطئها وَما أُنْذِرُوا يجوز أن تكون ما موصولة، ويكون الراجع من الصلة محذوفا، أي: وما أنذروه من العذاب. أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم. وقرئ: هزأ، بالسكون، أى: اتخذوها موضع استهزاء. وجدالهم: قولهم للرسل: (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون: 24] وما أشبه ذلك. [(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)]. (بِآياتِ رَبِّهِ) بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكرا في قوله: (أَنْ يَفْقَهُوهُ). فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر (وَنَسِيَ) عاقبة (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي، غير مفكر فيها ولا ناظر في أنّ المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء. ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه (فَلَنْ يَهْتَدُوا) فلا يكون منهم اهتداء البتة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله (من إدحاض القدم)، الأساس: ومن المجاز: دحضت حجته، و (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) [الشورى: 61]. الراغب: يقالُ: أدحضتُ فلاناً في حجته فدحض، وأدحضت حُجته فدحضت، وأصلُه من دحضِ الرجلِ، وعلى نحوه في وصف المناظرة: نظرا يُزيلُ مواقع الأقدامِ

كأنه محال منهم لشدة تصميمهم (أَبَداً) مدة التكليف كلها. (وإِذاً) جزاء وجواب، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودحضت الشمس، مستعار من ذلك. قوله: (كأنه محالٌ)، يريد أنه نفي الاهتداء بـ"لن"، وهي لتأيد النفي. قوله: (و (إذاً): جزاءٌ وجواب)، فيه لفذٌ. قوله: (فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول) بيان أن يكون جزاءً، أي: جعل دعوة الرسول سبباً لانتفاء اهتدائهم، فإن الجزاء مسبب عن الشرط، ولا يصح هذا إلا على تقدير الإخبار والإعلام، كأنه قيل: إن تجتهد في دعوتهم فاعلم أن معهم ما يدعوهم إلى مزيد ما هم فيه من العناد وشدة الشكيمة، أي: يجعلون ما هو سببٌ للاهتداء سبباً لمزيد الضلال. وقوله: (وعلى أنه جواب للرسول) بيانٌ للجواب، ولما كان مورد السؤال قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) كما سيجيء، قدر: ما لي لا أدعوهم، وفيه تعسفٌ. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: (إذاً) هاهنا: جزاء، أي: إن تدعهم إلى الهدى- وحالهم ما ذُكر- لن يهتدوا، أي: جزاء ماهم عليه عدم الاهتداء، وجواب لسؤال الرسول على تقدير: لم لن يهتدوا بعد أن دعوتهم؟ فأجيب: لأنهم على تلك الحال؛ لأن (إذاً): إشارة إلى ما مر، وهو (أَنَّا جَعَلْنَا) الآية، وهذا أظهر، والنظم له أدعى، ولا يلزم من التعكيس الذي ارتكبه المصنف بالتعسف، كأنه قيل: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى) بعد ما جعلنا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقراً فلن يهتدوا إذاً أبداً. قال الإمام: والعجب أن قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) متمسك القدرية، وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) متمسك الجبرية، وقلما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... تجدُ في القرآن آية لأحدِ هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، والتجربة تكشف عن صدق قولنا، وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. وقلتُ - والله أعلم-: قلما تجدُ في القرآن المجيد كلاماً أكشف وأبين دليلاً على صحة مذهب أهل السنة من هذا؛ وذلك أن قوله: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) كالتذييل للآية السابقة. وقوله: (إَنَّا جَعَلْنَا): استئناف لبيان موجب إعراض الظالم ونسيانه، أي: تشاغله وتغافله عما يهمه من تدارك ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي بعدما ذُكر بآيات ربه، وإليه أشار المصنف بقوله: "ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم". ثم في بناء (جَعَلْنَا) على (إَنَّا) على سبيل تقوى الحكم والتخصيص وتوكيده بـ"أنْ"، وإيثارُ صيغة التعظيم الدلالة على أنه فعالٌ لما يشاءُ، ويحكم ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه، وأنه تعالى فعالٌ لذلك البتة وهو مختص به، ثم أوقع قوله: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) نتيجة عن التعليل مقرراً لما سيقت له العلة. والحاصل أن لا جبر ولا قدر، فقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) الآية، إشارة إلى الكتب، وقوله: ((إَنَّا جَعَلْنَا) الآية، إشارة إلى الخلق والإيجاد، والله أعلم. ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة، يعني: أخبر الله عز وجل أنه تعالى بليغ المغفرة والموصوف بالرحمة، ثم جاء بقوله: (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا) استشهاداً بأنه بليغُ الرحمة، يعني: أنهم استوجبوا بمكابرتهم أن يصب عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه الرب الغفور ذو الرحمة يمهل ولا يعاجل.

على تقدير قوله: ما لي لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل: (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا). [(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً)]. (الْغَفُورُ) البليغ المغفرة (ذُو الرَّحْمَةِ) الموصوف بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم بدرٍ (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) منجى ولا ملجأ، يقال: وأل إذا نجا، و «وأل إليه» إذا لجأ إليه. [(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)]. (وَتِلْكَ الْقُرى) يريد قرى الأوّلين من ثمود وقوم لوط وغيرهم: أشار لهم إليها ليعتبروا. (وتِلْكَ) مبتدأ، و (الْقُرى) صفة؛ لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، و (أَهْلَكْناهُمْ) خبر. ويجوز أن يكون (وتِلْكَ الْقُرى) نصباً بإضمار "أهلكنا" على شريطة التفسير. والمعنى: وتلك أصحاب القرى أهلكناهم (لَمَّا ظَلَمُوا) مثل ظلم أهل مكة (وَجَعَلْنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: وتلك أصحاب القرى)، إلى قوله: (مثل ظُلم أهل مكة)، هذا معنى الآية على التقديرين. وفيه أن المشار إليه بقوله: (تلك): ما دل عليه قوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ) يعني: إن كان مقتضى المغفرة والرحمة ترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً، لكن مقتضى الوعد إهلاكهم آجلاً، وبذلك مضت سنة الأولين، وكما أهلكنا القرون الماضية بعد إرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين وبعد مجادلتهم إياهم بالباطل ليدحضوا به الحق، كذلك يُهلك أهل مكة؛ لأنهم ظلموا مثل ظُلمهم.

لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر. والمهلك: الإهلاك ووقته. وقرئ لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم، واللام مفتوحة أو مكسورة، أي: لهلاكهم أو وقت هلاكهم. والموعد: وقت، أو مصدر. [(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً* فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً* فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً* قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً* قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً* فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (لِمَهْلِكِهِمْ))، أبو بكر: بفتح الميم واللام، وحفصٌ: بفتح الميم وكسر اللام، والباقون: بضم الميم وفتح اللام. قوله: (أي: لهلاكهم أو وقت هلاكهم، والموعد: وقتٌ أو مصدر)، قال صاحب "الإيجاز": (لِمَهْلِكِهِمْ) مصدرٌ، كقوله: (مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء: 80]، ويجوز " مهلكهم": اسم زمان الهُلك، أي: جعلنا لوقت إهلاكهم موعداً، ولكن المصدر أولى لتقدم أهلكناهم، والفعل يقتضي المصدر وجوداً وحصولاً، وهو المفعول المطلق. ويقتضي الزمان والمكان محلاً وظرفاً، وكل فعل زاد على ثلاثة أحرفٍ فالمصدر واسم الزمان والمكان منه على مثال المفعول، وإذا كان المهلك اسم زمان الهلاك لا يجوز الموعد اسم الزمان؛ لأن الزمان وُجد في المهلك فلا يكون للزمان زمانٌ، بل يكون الموعد بمعنى المصدر، أي: جعلنا الزمان هلاكهم وعداً وعلى العكس.

(لِفَتاهُ) لعبده. وفي الحديث: ليقل أحدكم فتاي وفتاتي، ولا يقل: عبدي وأمتي. وقيل: هو يوشع ابن نون. وإنما قيل: فتاه، لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. فإن قلت: لا أَبْرَحُ إن كان بمعنى لا أزول - من برح المكان - فقد دل على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بد من الخبر. قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر، لأنّ الحال والكلام معا يدلان عليه. أمّا الحال فلأنها كانت حال سفر. وأمّا الكلام فلأن قوله (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن (حتى أبلغ) هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي) الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في "مُسنده" في أبي هريرة. قوله: (كان يأخذ منه العلم) فيه إدماج أن من أخذ العلم بمنزلة العبد لمن يأخذُ منه. قوله: (نستدعي ما هي غايةٌ له)، أي: قوله: (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ): غاية معينة، وهي- أي: مجمع البحرين- مستدعية ذا غاية، وهو السير؛ لأنه لابد للسير من ابتداء الغاية وانتهائها. قوله: (المعنى: لا يبرحُ مسيري حتى أبلغ)، يعني: المراد من الآية هذا، لكن اختصر، فعلى هذا متعلقُ الخبر: فعلٌ خاصٌّ بقرينة المقام، وهو "يسيرُ" كما قُدر فيما مر "أسيرُ"، أي: لا يبرح مسيري حتى أبلغُ، على الإسناد المجازي، كأنه قال: أبالغ في السير وأبذل فيه مجهودي حتى يسير سيرين نحو: جد جده، وطريقه سائرٌ، ومن ثم قال: "وهو وجهٌ لطيفٌ"، وقد يقال: إن اللطف في التخريج هو الوجه النحوي.

المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون. المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام، وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق. وقيل: طنجة. وقيل: إفريقية. ومن بدع التفاسير: أن البحرين موسى والخضر، لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ (مَجْمَعَ) بكسر الميم، وهي في الشذوذ من يفعل، كالمشرق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: لا أبرح ما أنا عليه): عطفٌ على قوله: "هو بمعنى: لا أزالُ". قال أبو البقاء: " (لا أَبْرَحُ) يجوز أن تكون تامة، والمفعول محذوف، أي: لا أفارق السير حتى أبلغ، كقولك: لا أبرح المكان، أي: لا أفارقه". قوله: (وقرئ: "مجمع" بكسر الميم، وهي في الشذوذ)، يعني به: قراءة وقياساً. قال ابن جني: "وهي قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار، المصدر من فعل يفعل، والمكان والزمان كلهُن على "مفعل" بالفتح، نحو: "مذهب"، بمعنى: الذهاب، و"مذهب" بمعنى: مكان يُذهبُ فيه، و"هذا مذهبُك"، أي: زمان ذهابك، إلا أنه قد جاء "المفعِلُ" بالكسر، نحو: المشرق والمغرب المنسك والمطلع؛ لأنه من يشرقُ ويغربُ وينسكُ ويطلعُ. ونحو من هذا "مجمع البحرين"، وهو مكانٌ كما ترى؛ لأنه من جمع يجمعُ، فقياسه "مجمعً" لولا ما ذكرناه من الحمل على نظيره.

والمطلع من يفعل (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أو أسير زمانا طويلا. والحقب ثمانون سنة. وروى أنه لما ظهر موسى على مصر مع بنى إسرائيل واستقرّوا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه. فقالوا له: قد علمنا هذا، فأى الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذى القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إنّ موسى سأل ربه: أيّ عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأىّ عبادك أقضى؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: (مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) يجوز أن يكون "البينُ" مصدراً، أي: موضع المفترق. قوله: (فقام فيهم خطيباً) إلى قوله: (عند مجمع البحرين)، ما يقربُ منه رواه الشيخان والترمذي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وكان الخضر في أيام أفرديون)، قال ابن الأثير صاحب "الكامل في التاريخ": قولُ من قال: إن الخضر كان في أيام أفريدون وذي القرنين الأكبر قبل موسى بن عمران أشبه بالحديث، يعني الحديث الذي رواه أبي بن كعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلق بالكائن من الأمور، فيحتمل أن يكون الخضرُ على مقدمة ذي القرنين قبل موسى عليه السلام وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره. ولم يرسل في أيام إبراهيم عليه السلام، وبُعث في أيام بشتاسب بن لهراسب. وقال الإمام في "تفسيره": إن ذا القرنين ليس الإسكندر صاحب أرسطون؛ لأن الله تعالى مدحه في كتابه، وصاحب أرسطون ليس ممن يمدحه الله تعالى.

الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغى علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى، أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرنى، فذهبا يمشيان، فرقد موسى، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوبه، فسلم عليه موسى، فقال: وأنى بأرضنا السلام، فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى، أنا على علم علمنّيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمى وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر (نَسِيا حُوتَهُما) أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذي يبتغي علم الناس إلى علمه)، أي: الذي يضمُّ علم الناس إلى علمه مبتغياً له طالباً، على تضمين "يبتغي" معنى "يضمُّ". الجوهري: أبغيتك الشيء: أعنتك على طلبه، وأبغيتك الشيء: جعلتك طالباً له، وابتغيت الشيء وتبغيته: إذا طلبته. قوله: (كيف لي به؟ ) أي: كيف يتهيأ ويتيسر لي أن أظفر به؟ قوله: (تأخذ حوتاً في مكتلٍ) إلى قوله: (العصفور من البحر) من حديث أبي بن كعب بالإسناد السابق، مع تغيير يسير. النهاية: المكتل، بكسر الميم: الزنبيل الكبير، ويجمع على مكاتل. قوله: (فحيث فقدته)، النهاية: فقدت الشيء أفقده: إذا غاب عنك. قوله: (أي: نسيا تفقد أمره وما يكون منه، مما جُعل أمارةً على الظفر بالطلبة). "وما يكون منه": عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: "تفقد أمره"، و"مِن"- في "مما جُعل أمارة"- بيان

وقيل: نسي يوشع أن يقدّمه، ونسى موسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل: إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، ونام موسى، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت. وروى: أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء (سَرَباً) أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق، وحصل منه في مثل السرب معجزة لموسى أو للخضر (فَلَمَّا جاوَزا) الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه. ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ما"، وهو التوصية بأنه حيث فقدته فالخضر هناك. قوله: (وقد قيل نسي يوشع أن يقدمه)، أي: يُقدم الحوت بين يدي موسى عيه السلام، ونسي موسى أن يأمره بإحضاره ليُشاهدا منه تلك الأمارة التي جُعلت لهما، وذلك أن موسى عيه السلام وُعد أن لقاء الخضر عند مجمع البحرين كما سبق، وأن فقدان الحوت علامة للقائه، فلما بلغ الموعد كان من حقهما أن يتفقدا أمر الحوت، أما الفتى فلكونه خادماً له، كان عليه أن يُقدمه بين يديه، وأما موسى فلكونه أميراً عليه، كان عليه أن يأمره بالإحضار، فنسي كل واحدٍ ما عليه، وإنما احتيج إلى التأويل لأن النسيان لا يتعلق بالدواب، كما سبق عن الراغب في تعريفه: النسيان: ترك ضبط ما استودعه، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلةٍ أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكرُه. قوله: (فانتضح الماء)، الجوهري: النضح: الرش، نضحت البيت أنضحه، بالكسر. قوله: (وحصل منه في مثل السرب)، الأساس: ما حصل في يدي شيء منه، أي: ما رجع، وما حصلتُ منه على شيء، المعنى: ورجع من الماء في مثل السرب، و"في": تجريدية؛ لأنه انتزع من الماء شيئاً يُشبه السرب، نحو: رأيت زيداً في مثل الأسد. قال

ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وقيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر، وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك، فتذكر الحوت وطلبه. وقوله (مِنْ سَفَرِنا هذا) إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. فإن قلت: كيف نسى يوشع ذلك، ومثله لا ينسى لكونه أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين ثنتين: وهما حياة السمكة المملوحة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القاضي: نصب (سَرَباً) على المفعول الثاني، و (فِي الْبَحْرِ): حالٌ منه، أو من "السبيل"، ويجوز تعلقه بـ "اتخذ". النهاية: السربُ، بالتحريك: المسلكُ في الخفية. الراغب: السربُ: الذهاب في حدور، والسربُ: المنحدر. قال تعالى: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً)، يقالُ: سرب سرباً وسروباً، نحو: مر مراً ومروراً. وانسرب انسراباً: كذلك، لكن سرب يقالُ على تصور الفعل من فاعله، وانسرب على تصور الانفعال منه، وانسرب الدمعُ: سال، وانسربت الحية إلى جُحرها، وسرب الماء من السقاء، وماءٌ سربٌ وسربٌ: متقطرٌ من سقائه. والساربُ: الذاهب في سربه أي طريق كان. قال تعالى: (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10]. والسربُ: جمعُ ساربٍ كركبٍ وراكب، وتعورف في الإبل حتى قيل: ذُعرت سربُه، أي: إبله، وهو آمنٌ في سربه، أي: في نفسه، وقيل: في أهله ونسائه، فجُعل السربُ كناية، وقيل: اذهبي فلا أندهُ سربك، في الكناية عن الطلاق، ومعناه لا أرد إبلك الذاهبة في سربها، والسربةُ: قطعةٌ من الخيل من العشرة إلى عشرين، والسراب: اللامع في المفازة الماء، وذلك لانسرابه في مرأى العين، وكأن السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة. قوله: ((هذا) إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة)، وفي الإشارة بهذا إشعارٌ بأن هذا المسير كان أتعب لهما مما سبق، فإن رجاء المطلوب يُقربُ البعيد، والخيبة تُبعدُ القريب؛ ولهذا

المأكول منها - وقيل: ما كانت إلا شق سمكة - وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمرّ به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب، حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضرى بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، واستأنسا بإخوانه فأعان الإلف على قلة الاهتمام أَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني. فإن قلت: ما وجه التئام هذا الكلام؟ فإن كل واحد من (أَرَأَيْتَ) و (إِذْ أَوَيْنا) و (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى عليه السلام الحوت، ذكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورد في الحديث: أن موسى عليه السلام لم ينصب إلا منذُ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له. قوله: (وقيام الماء)، هو عطفٌ على "حياة السمكة"، والجملة- وهي: "وقيل: ما كانت إلا شق سمكة"-معترضة للتأكيد والمبالغة، فإن حياة السمكة المملوحة عجيبة، وكونها نصب سمكة أعجب. قوله: (قد شغله الشيطان بوساوسه)، قال القاضي: ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه. قوله: (لا متعلق له)، يعني: ليس لـ (أَرَأَيْتَ) مفعول، ولـ (إِذْ أَوَيْنَا) مظروفٌ، ولـ (فَإِنِّي) سبب؟ وأجاب: أن المتعلق: ما دهاني، وهو مفعول (أَرَأَيْتَ)، و"دهاني": مظروفٌ، وهو سببٌ أيضاً، فحذف لدلالة مقام الحيرة عليه كما أشار إليه بقوله: "فحذف

يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإني نسيت الحوت، فحذف ذلك. وقيل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت. و (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الهاء في (أَنْسانِيهُ) أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وفي قراءة عبد الله: أن أذكركه. وعَجَباً ثانى مفعولي اتخذ، مثل سَرَباً يعنى: واتخذ سبيله سبيلاً عجبًا، وهو كونه شبيه السرب. أو قال: عجبا في آخر كلامه، تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين، وقوله (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن عَجَباً حكاية لتعجب موسى عليه السلام، وليس بذاك ذلِكَ إشارة إلى اتخاذه سبيلا، أي: ذلك الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك"، ونظيره قوله تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف: 11] قال تقديره: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)، ظهر عنادهم (فَسَيَقُولُونَ)، وهذا المضمر صح به الكلام، حيث انتصب به الظرف، وكان (فَسَيَقُولُونَ) مسبباً عنه". قوله: (نهر الزيت) سمي به لكثرة أشجار الزيت على شاطئه، فقوله: "وقيل: هي الصخرة": عطفٌ على قوله: "فلما جاوزا الموعد" وهو الصخرة. قوله: (و (أَنْ أَذْكُرَهُ): بدل من الهاء في (أَنْسَانِيه) أي: بدل اشتمال. قوله: (إن (عَجَباً) حكاية لتعجب موسى، وليس بذاك)، أي: ليس هذا القول بذاك القول الذي يُعرج عليه، كقولك: ليس بشيء، أي: شيء يُعتد به، بيانه: أن موسى عليه السلام لما قال ليوشع: (آتِنَا غَدَاءَنَا)، أجاب بقوله: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ)، وهي كلمة تعجب، فلما بلغ قوله: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) تعجب موسى من ذلك فحكى الله تعالى تعجبه، ولا ارتياب في تعسفه وبُعده من بلاغة التنزيل، ولكن (عَجَباً) مقول فتى موسى: إما على أنه صفة موصوف محذوف، وهو ثاني مفعولي "اتخذ" كما قدره المصنف، أو:

كنا نطلب، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام. وقرئ (نَبْغِ) بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبي عمرو، وأمّا الوقف، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لخط المصحف (فَارْتَدَّا) فرجعا في أدراجهما (قَصَصاً) ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لما فرغ من كلامه قال: يا عجباً، فحكى الله تعالى ذلك منه. ويجوز أن يكون من كلام الله، أي: قال ذلك الكلام تعجباً. قال أبو البقاء: (عَجَباً): مفعولٌ ثان لـ (اتَّخَذَ)، وقيل: هو مصدرٌ، أي: قال موسى: عجباً، فعلى هذا يكون المفعول الثاني لـ (اتَّخَذَ): (فِي الْبَحْرِ). قوله: (قرئ: (نْبَغِ) بغير ياء في الوصل)، نافعٌ وأبو عمرو والكسائي: أثبتوا في الوصل، وابن كثير: في الحالين، والباقون: بالحذف في الحالين، قال أبو البقاء: الجيد إثباتُ الياء، والحذف على التشبيه بالفواصل، وسهل ذلك أن الياء لا تُضم هاهنا. روى صاحب "المرشد"، عن أبي حاتم، أنه قال: ومن الوقف التام قوله تعالى: (مَا كُنَّا نَبْغِ). وقلت: بيانه أن قوله تعالى: (فَارْتَدَّا) عطفٌ على جملة قوله: (فَلَمَّا جَاوَزَا) إلى آخره. وأما الفصلُ بين الأقوال الثلاثة، فالأولى: جوابٌ للشرط، والآخران مفصولان لما يستدعيه مقام المقاولة من السؤال، وهو: ماذا قال فتى موسى بعد قول موسى عليه السلام: (آتِنَا غَدَاءَنَا)؟ وماذا قال موسى عليه السلام بعد قول فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا)؟ قوله: (فرجعا في أدراجهما)، الجوهري: قولهم: خل درج الضب، أي: طريقه، والجمعُ: الأدراج، ومنه قولهم: رجعت أدراجي، أي: رجعت في الطريق الذي جئت منه.

يقصان قصصًا، أي: يتبعان آثارهما اتباعاً. أو فارتدّا مقتصين (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) هي الوحي والنبوة (مِنْ لَدُنَّا) مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب. [(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)]. (رُشْداً) قرئ بفتحتين، وبضمة وسكون، أى: علما ذا رشد، أرشد به في دينى. فإن قلت: أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه - كما قيل - موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران لأنّ النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقصان قصصاً). قال صاحب "الكشف": (قَصَصاً): مصدرٌ لفعلٍ مضمر يدل عليه: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا)، واقتصا الأثر: واحد. قوله: (مقتصين) أي: يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، فنصبه على الحال. قوله: ("رشداً" قرئ بفتحتين)، أبو عمرو، والباقون: بضمة وسكون. قوله: (أي: علماً ذا رشدٍ)، قال أبو البقاء: (رُشْداً): مفعول 0 تُعَلِّمَنِي)، ولا يجوز أن يكون مفعول (عُلِّمْتَ)؛ لأنه لا عائد إذن على الذي، وليس بحال ٍمن العائد المحذوف؛ لأن المعنى على ذلك يبعد. وقال القاضي: يجوز ان يكون علة لـ (أَتَّبِعُكَ)، أو: مصدراً بإضمار فعله. وقوله: (أنه كما قيل: موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران)، روينا عن البخاري

أبواب الدين؟ قلت: لا غضاضة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومسلم والترمذي، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر، قال: كذب عدو الله، سمعت أبي بن كعب يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قام موسى خطيباً في بني إسرائيل" إلى تمام الحديث. قال بعضهم: التعليم: تنبيه النفس لتصور المعاني، والتعلمُ: تنبهها لتصور ذلك، وربما استعمل في معنى الإعلام إذا كان فيه تكريرٌ، نحو: (أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ) [الحجرات: 16]، فمن التعليم قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن: 1 - 2]، وتعليم آدم الأسماء هو أن جعل له قوة بها نطق ووضع أسماء الأشياء، وذلك بإلقائه في روعه، وكتعليمه تعالى الحيوانات كل واحد ٍمنها فعلاً يتعاطاه. وقوله: (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)، قيل: عني بالعلم: الخاص الخفي على البشر الذي يرونه ما لم يعرفهم الله منكراً، وقيل: وعلى هذا العلم في قوله تعالى: (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) [النمل: 40]، العلمُ: الأثر الذي يُعلم به الشيء، وسُمي الجبل علماً لذلك، والعالم: اسم للفلك وما يلحق به من الجواهر والأعراض، وهو في الأصل: اسم لما يُعلم به كالطابع والخاتم لما يطبع به ويختم به، وجُعل بناؤه على هذه الصيغة لكونه كالآلة، العالمُ: آلة في الدلالة على صانعه، ولهذا أحالنا تعالى عليه في معرفة وحدانيته، فقال: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 185]. قوله: (لا غضاضة)، الجوهري: يقال: ليس عليك في هذا الأمر غضاضة، أي: ذلة ومنقصة، قال القاضي: لا ينافي نبوته وكونه صاحب الشريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن

بالنبي في أخذ العلم من نبيّ مثله: وإنما بغض منه أن يأخذه ممن دونه. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى، وأنّ موسى هو موسى بن ميشا، فقال: كذب عدوّ الله. [(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)]. نفي استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورًا هي في ظاهرها مناكير. والرجل الصالح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شرطاً في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بُعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقاً، ويؤيده قوله تعالى حكاية عن الهدهد مخاطباً سليمان عليه السلام: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل: 22]. الراغب: العلمُ: إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: إدراك ذات الشيء، والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجودٌ له، أو نفي شيء منفي عنه. فالأول متعد إلى واحد كقوله تعالى: (لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]، وأعلمته وعلمته - في الأصل - واحدٌ، إلا أن الإعلام اختص بما كان بإخبار سريع، والتعليم بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثرٌ في نفس المتعلم. قوله: (وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً)، أي: أكد نفي استطاعته بقوله: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً)، وهو علة لمنعه من اتباعه، فإن موسى عليه السلام قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ)، كأنه قال: لا؛ لأنك (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً)، ثم علل العلة بقوله: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)، أي: كيف تصبرُ على شيء هو في الظاهر منكرٌ مفسدةٌ وفي الحقيقة مصلحة وصلاح، ويحتاج في معرفته إلى دقة نظر وفضل خبرة مستفادة منالعلم اللدني. قوله: (والرجل الصالح): مبتدأ، وقوله: "لا يتمالك": الخبر، وقوله: "فكيف إذا كان

-فكيف إذا كان نبياً - لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار. و (خُبْراً) تمييز، أي: لم يحط به خبرك بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر. [(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)]. (وَلا أَعْصِي) في محل النصب، عطف على (صابِراً) أي: ستجدني صابرا وغير عاص. أولا في محل، عطفاً على (ستجدني). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نبياً؟ " موضعه التأخير، فاعترض بين المبتدأ والخبر اهتماماً، والكلامُ مجرى مجرى المثال لموسى عليه السلام، مثله قوله: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور: 26] في وجه تمثيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. المعنى: إني أتولى أموراً ظاهرها مناكيرُ، وأنت لا تتمالك أن تشمئز. قوله: (فكيف إذا كان نبياً لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض)، الانتصاف: يدل عليه أنه قال في خرق السفينة: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) ولم يقل: لتغرقنا، فنسي نفسه واشتغل بغيره في حالة يقول فيها المرء: نفسي نفسي. الجوهري: اشمأز الرجل اشمئزازاً: انقبض ومعضت من ذلك الأمر أمعض معضاً، وامتعضت منه: إذا غضبت وشق عليك. قوله: (أو في لا محل، عطفاً على (سَتَجِدُنِي))، لعل هذا القول مبني على أن الجملة الواقعة بعد "قال": مستأنفة، بيان للقول المضمر؛ فلا يكون لها محل، كما قال أبو البقاء في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) [البقرة: 11]: والمفعول القائم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... مقام الفاعل مصدرٌ، وهو القول، وأضمر؛ لأن الجملة بعد مفسرة، والتقدير: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) قول، وهو: (لا تُفْسِدُوا)، ونظيره: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف: 35]، أي: بدا لهم بداء ورأيٌ، كذا قدر المصنف هذه الآية، أو يقال: إن قوله: (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً): عطفٌ على مقول القول باعتبار الجملة لا باعتبار الإفراد، وكونه منصوباً على المصدرية أو المفعولية على الخلاف الذي سبق بيانه في "البقرة"، ونحوه في الاعتبار قوله تعالى: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح: 16]، على تقدير: أو هم يُسلمون، وسيجيء بيانه في موضعه. ورُوي عن الشيخ بدر الدين الجرجاني رحمه الله تعالى أنه قال: إن قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً) بجملته مقولٌ للقول، والشرط يقتضي الجزاء. وقوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً)، لا يصلح أن يكون جزاء لتقدمه، لنه دالٌ عليه، فلا يكون له محل. وقوله: (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً): عطفٌ عليه وحده، فيكون التقدير: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك إن شاء الله أمراً، والشرط مع الجزاء المحذوف معترضٌ بين المفعولين. وقدر المصنف في قوله تعالى: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99]: "ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين". أما بيانُ بلاغة هذا التركيب، فإنه لو قُدم الشرط بأن يقال: إن شاء الله ستجدني صابراً لفات التكرير والتوكيد المطلوب، ولو أخر بأن يقال: ستجدني صابراً إن شاء الله لاختل إرادة الاهتمام لكلمة التبرك، ولعُدم حُسنُ موقع الاعتراض، فإنه من تحاسين الكلام، فالتركيب قريبٌ من قوله: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6] فيكون من باب الطرد والعكس.

رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله، علما منه بشدّة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، برىّ من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لا بد لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم. [(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)]. قرئ: (فَلا تَسْئَلْنِي) بالنون الثقيلة، يعنى: فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فوعده بالصبر)، عطفٌ على "رجا"، و"أن يستطيع" مفعول "رجا"، والرجاء هو قوله: (سَتَجِدُنِي)، و"علماً" مفعولٌ له لوعده الصبر معلقاً. و"أن الحمية" عطفٌ على شدة الأمر على البيان والتفسير. قوله: (هذا) أي: كل هذه المبالغات متضمنة مع علم موسى أن الخضر مع جلالته بريٌّ أن يركب أمراً يُعابُ عليه، فكيف مما يُستسمج؟ ظاهره ممن لا يعلمُ مرتبته في الدين، فإنه لا يُطاق قطعاً، فالضمير في "مع علمه": راجعٌ إلى المصلح وهو موسى، مُظهر أقيم مقام المضمر إيذاناً أن المصلح شأنه أن لا يصبر على مثل تلك الحالة ويرى الصالح. قوله: (غميزة)، الأساس: ومن المجاز: ما فيه مغمزٌ ولا غميزةٌ، أي: معابٌ، وغمز فيه: طعن. قال القاضي: وتعليقُ الوعد بالمشيئة إما للتيمن، وخُلفُه ناسياً لا يقدح في عصمته، أو لعلمه بصعوبة الأمر، فإن مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديدٌ، فلا خُلفَ، وفيه دليلٌ على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله. قوله: (وأنه لابد) الضمير للشأن، والجملة معطوفةٌ على قوله: "أن النبي". قوله: (قرئ: "فلا تسألني")، نافعٌ وابن عامر: بفتح اللام وتشديد النون، والباقون:

مني شيئاً - وقد علمت أنه صحيح إلا أنه غبي عليك وجه صحته فحميت وأنكرت في نفسك - أن لا تفاتحنى بالسؤال ولا تراجعني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك. وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمتبوع مع التابع. [(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)]. (فَانْطَلَقا) على ساحل البحر يطلبان السفينة، فلما ركبا قال أهلها: هما من اللصوص، وأمروهما بالخروج، فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه ويقول (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وقرئ: (لتغرّق) بالتشديد و (ليغرق أهلها) من غرق، وأهلها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإسكان اللام وتخفيف النون. قوله: (أن لا تفاتحني)، خبرُ "إن"، و"إذا" ظرفٌ، والجملة في تأويل المبتدأ، وخبره: "من شرط اتباعك"، المعنى: من شرط اتباعك عند الرؤية عدم المفاتحة. قوله: (بغير نول)، النهاية: بغير أجرٍ ولا جُعلٍ: مصدر ناله يناوله: إذا أعطاه. قوله: (لججوا)، الأساس: لجج القوم: دخلوا في اللج. الجوهري: لجة الماء، بالضم: معظمه، وكذلك اللج. قوله: (وليغرق أهلها)، حمزة والكسائي: "ليغرق" بالياء مفتوحة وفتح الراء، و"أهلها": برفع اللام، والباقون: بضم التاء وكسر الراء ونصب اللام، والتشديد: شاذ.

مرفوع (جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أتيت شيئا عظيما، من أمر الأمر: إذا عظم، قال: داهية دهياء إدّا إمرا [(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)]. (بِما نَسِيتُ) بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني: أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسي. أو أخرج الكلام في معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان، يوهمه أنه قد نسى ليبسط عذره في الإنكار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (داهية دهياء إذا إمرا)، أوله: قد لقي الأعداء شيئاً نُكرا الدهياء: مبالغة في الشدة. الأساس: بقيت منه في داهية إدة، ولقيت منه كل شدة. الراغب: (امْرَاً)، أي: منكراً، وتحقيقه من: أمر الأمرُ، أي: كثر وكبر، كقولهم: استفحل الأمر. قوله: (أو أخرج الكلام في معرض النهي): عطفٌ على قوله: "أراد أنه نسي وصيته" فعلى الثاني: "نسيتُ": مطلقٌ، يعني: ما نسي في الحقيقة لكن عرض، ونهاه عن المؤاخذة بنسيانه؛ لان الإنسان مجبول عليه، وعن ابن عباس: أنه سُمي إنساناً؛ لأنه عهد إليه فنسي، وعليه قول إبراهيم عليه السلام: "هذه أختي: أي: في الدين"، و (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات: 89] أي: سأسقم، أو: سقيم لما أجدُ من الغيظ.

وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذب، مع التوصل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختي، وإني سقيم. أو أراد بالنسيان: الترك، أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرّة. يقال: رهقه إذا غشيه، وأرهقه إياه. أي: ولا تغشني عُسْراً من أمري، وهو اتباعه إياه، يعنى: ولا تعسر علىّ متابعتك، ويسرها علىّ بالإغضاء وترك المناقشة. وقرئ: (عسرا)، بضمتين. [(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)]. (فَقَتَلَهُ) قيل: كان قتله قتل عنقه. قيل: ضرب برأسه الحائط، وعن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكين. فإن قلت: لم قيل: (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) بغير فاء؟ و (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه، والجزاء (قالَ أَقَتَلْتَ). فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لقاء الغلام. وقرئ: (زاكية)، و (زكية)، وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت، وإما لأنها صغيرةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو من معاريض الكلام)، الأساس: عرفتُ ذلك في معراض كلامه، وقولهم: خُذ في عروضٍ سوى هذه، أي: في ناحية. قوله: (أو أراد بالنسيان: الترك)، الأساس: ومن المجاز: نسيتُ الشيء، أي: تركته. قوله: (وقرئ: "زاكية")، الكوفيون وابن عامر: (زَكِيَّةً) بتشديد الياء من غير ألف، والباقون بالألف والتخفيف، قال القاضي: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: زاكية، والأول أبلغ، وقال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تُذنب قطُّ، والزكية: التي أذنبت ثم غُفرت،

لم تبلغ الحنث (بِغَيْرِ نَفْسٍ) يعني: لم تقتل نفسا فيقتص منها. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه: كيف جاز قتله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل (نُكْراً) وقرئ بضمتين وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. وقيل: معناه جئت شيئا أنكر من الأوّل، لأن ذلك كان خرقاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعله اختار الأول لذلك، فإنها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم، أو أنه لم يرها أذنبت ذنباً يقتضي قتلها، أو قتلت نفساً فتقاد بها. قوله: (لم تبلغ الحنث). النهاية: أي: لم تبلغ مبلغ الرجال ولم يجر عليه القلم فيكتب عليه الحنث. قوله: (أن نجدة الحروري)، النهاية: الحرورية: طائفة من الخوارج نُسبوا إلى حروراء، بالمد والقصر، وهو موضع قريب من الكوفة، كان أول مجمعهم وتحكيمهم فيها، وهم إحدى فرق الخوارج الذين قاتلهم عليٌّ رضي الله عنه، وكان عندهم من التشدد في الدين ما هو معروفٌ. قوله: ((نُكْراً)، وقرئ بضمتين): نافع وابن ذكوان في الموضعين، والباقون: بإسكانها. قوله: (لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة). قال الإمام: النكر: ما أنكرته القول ونفرت عنه النفوس، وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر، وقيل: بالعكس؛ لأن الأمر هو الداهية العظيمة المآل. الراغب: النُكرُ: الدهاءُ والأمر الصعب الذي لا يُعرف.

يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا سبيل إلى تداركه. فإن قلت: ما معنى زيادة (لَكَ)؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. [(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)]. (بَعْدَها) بعد هذه الكرة أو المسألة (فَلا تُصاحِبْنِي) فلا تقاربني، وإن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وقرى «فلا تصحبنى» فلا تكن صاحبي. وقرئ «فلا تصحبنى» أي: فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك (مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد أعذرت. وقرئ: (لدنى) بتخفيف النون، (ولدني) بسكون الدال وكسر النون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الفرائد": خرقث السفينة أقرب إلى أن يؤول بما يصح، بخلاف قتل النفس، فإنه اهر الفساد، فكونه منكراً ظاهر، أو تقولُ: قتلُ النفس أقبحُ؛ لأنه إهلاك النفس، وخرق السفينة إهلاك المال، فاختير الإمر للخرق والنكرُ للقتل. وقلتُ: الذي يقتضيه النظمُ أن يؤخذ من الأغلظ ثم ينزل إلى الأهون، فقتلُ النفس أهون من الخرق وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة. قوله: (زيادة المكافحة)، الأساس: كافحه: لاقاه مواجهة، وكفحت الدابة وأكفحتها: تلقيت فاها باللجام. قوله: (والوسم)، ويروي: والوصم. الجوهري: والوصمُ: العيب والعار. قوله: (وإن طلبتُ صحبت فلا تتابعني). راعى في هذه العبارة معنى المفاعلة في (تُصَاحِبْنِي). قوله: (قد أعذرت)، أي: لم تُبق موضعاً للاعتذار، ويُروى: "أعذرتُ" على التكلم، أي: لم أبق موضعاً للاعتذار. قوله: (وقرئ: "لدُني" بتخفيف النون، و"لدني"، بسكون الدال وكسر النون)، قال

كقولهم في عضد: عضد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك)، وقال: (رحمة الله علينا وعلى أخي موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب). [(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)]. (أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي أنطاكية، وقيل: الأبلة، وهي أبعد أرض الله من السماء، (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وقرئ: (يضيفوهما). يقال: ضافه؛ إذا كان له ضيفا. وحقيقته: مال إليه، من: ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره؛ من الازورار. وأضافه وضيفه: أنزله وجعله ضيفه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا أهل قرية لئاما). وقيل: شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه، (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهمّ والعزم لذلك. قال الراعي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزجاج: أجود القراءات بتشديد النون؛ لأن أصل لدن: الإسكانُ، فإذا أضفتها إلى نفسك زدت نوناً ليسلم سكون النون الأولى، فتقول: من لدني، كما تقول: عني ومني. ومن قال: لدني لم يجز له أن يقول: عني ومني بحذف النون؛ لأن "لدُن" اسمٌ غير متمكن، و"مِن" و"عن": حرفان، والدليلُ على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم: قدى قدني في معنى حسبي؛ لأن قد: اسمٌ غيرُ متمكن، قال: قدني من نصر الخبيبين قدي ولأبي عليٍّ فيه كلامٌ طويل. قوله: (استعيرت الإرادة للمُداناة)، وذلك أن الإرادة لغة: هي مصدر: أردت الشيء؛ إذا طلبته نفسك، ومال إليه قلبك، واصطلاحاً: هي اسمٌ لنزوع النفس إلى أمرٍ مع الحُكم

في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفؤوس إذا أردن نصولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه بأنه ينبغي أن يُفعل أولاً، مضى بسطه في أول "البقرة" وسورة يوسف، وذلك في الجماد محالٌ، فشبهت مشارفة الجدار للانقضاض بإرادة من هم بالانحطاط بعد أن كان منتصباً، والوجه: الميلان، ثم استعير لجانب المشبه: الإرادة، ثم سرى من المصدر إلى الفعل، فهو استعارةٌ مصرحةٌ تبعية، ويجوز أن تكون مكنية. قال ابن جني: يريد: معناه قارب وشارف، فهو عائدٌ إلى معنى يكادُ، وقد جاء ذلك عنهم وحسن ذلك؛ لأن الإرادة أقوى في وقوع الفعل؛ لأنها داعية إلى وقوعه، وهي أيضاً لا تصح إلا مع الحياة، وليس كذلك كاد؛ لأنه قد يقارب الأمر مما لا حيلة له فيه نحو: ميلان الحائط وإشراق ضوء الفجر. قوله: (في مهمه قلقت به هاماتها) البيت، المهمه: المفازة، والهامة: وسط الرأس، إذا أردن، أي: شارفن الخروج من الخشب، ونصل السهم إذا خرج منه النصل. يصف شدة المفازة، وأن هامات النوق فيها قلقة قلق الفؤوس إذا شارفن الخروج من نصالها. قال الصولي: كان أبو فراس سيء الاعتقاد بالقرآن متعنتاً ظاهر الكفر، قال لي يوماً ونحنُ بمحضر من الناس: هل تعرفُ العرب إرادة لغير مميز؟ فقلت: إنهم يعبرون عن الجمادات بالقول، قال: امتلأ الحوض وقال قطني

وقال: يريد الرّمح صدر أبى براء ... ويعدل عن دماء بني عقيل وقال حسان: إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعارة للجماد ولما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ قال: إذا قالت الأنساع للبطن: الحق تقول سني للنّواة طني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: لم أُرد هذا، وكان غرضه قوله تعالى: (جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)، فأيدني الله تعالى بأن ذكرتُ قول الراعي: "في مهمه قلقت" البيت، فكأنني ألقمته الحجر، وسُرَّ بذل من كان صحيح النية، وسود الله وجهه. قوله: (إن دهراً يلف شملي)، البيت، يقال: لففت الشيء: إذا طويته وأدرجته، والشمل: تألفُ الأمور واستواؤها، وجُمل: اسم محبوبته، يقول: إن دهراً يجمع بيني وبين محبوبتي دهرٌ همه الإحسان لا الإساءة. قوله: (إذا قالت الأنساع). مضى شرحه في "البقرة". قوله: (تقول سني للنواة: طني)، أوله: ويلٌ لبرني الحزين مني ... إذا التقت نواته وسني

لا ينطق الّلهو حتى ينطق العود وشكا إلىّ بعبرة وتحمحم فإن يك ظني صادقا وهو صادقي (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف: 154]. تمرّد مارد وعزّ الأبلق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشكا إلى بعبرة وتحمحم)، أوله: فازور من وقع القنا بلبانه الازورار: الميلُ، ولبانُ الفرس: موضعُ اللبب، والتحمحم: من صهيل الفرس، ما كان فيه، شبه الحنين لفراق صاحبه، يقول: فمال فرسي مما أصابت صدره رماحُ الأعداء، وشكا إلي بعبرة وتحمحم. قوله: (فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي)، تمامه: بشملة يحبسهم بها محبساً وعرا قائله أم شملة، والباء في "بشملة" يتعلق بـ"ظني" أو بـ "صادقي"، والمرادُ بالظن: الفراسةُ، وهو صادقي، أي: ظني يصدقني، والجملة معترضةٌ، تقولُ: إن كنت صادقة الظن بابني شملة، وظني يصدقني لا محالة، فإن شملة يحبس القوم بتلك المعركة وياخذ بثأر أبيه. وقوله: (تمرد ماردٌ وعز الأبلق)، قال الميداني: ماردٌ: حصن دومة الجندل، والأبلق:

ولبعضهم: يأبى على أجفانه إغفاءه ... همّ إذا انقاد الهموم تمرّدا أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت: 11]. ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم، كان يجعل الضمير للخضر؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتحمل ليردّه إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حصن السموأل بن عاديا، وُصِفَ بالأبلَقِ؛ لأنه بُني من حجارة مختلفة بأرض تيماء، قصدتهما الزباء ملكة الجزيرة فلم تقدر عليهما، فقالت: "تمرد ماردٌ وعز الأبلق"، فصار مثلاً لكل ما يعُزُّ ويمتنع عن طالبه، عز، أي: غلب، من عز يعز بضم العين، ويجوز أن يكون من عز يعز بكسرها. قوله: (يأبى على أجفانه) البيت، أي: يأبي الهمُّ النوم على اجفانه، وذلك الهم هم متمرد إذا انقاد الهموم. النهاية: غفوت غفوةً، أي: نمت نومةً خفيفة، يقال: أغفى إغفاءة: إذا نام، وقلما يقال: غفا. قوله: (أبتِ الروادفُ) البيت، الروادف: جمعُ ردفٍ، وهو الكفل، وصفها بأنها ناهدةُ الثديين دقيقة الخصر لطيفة البطن عظيمة الكفل، فالثدي يمنعُ القميص أن يلتصق ببطنها، والردف يمنعه أن يلتصق بظهرها.

و (انقض): إذا أسرع سقوطه، من انقضاض الطائر، وهو انفعلّ، مطاوع قضضته. وقيل: انقض من النقض، كاحمرّ من الحمرة. وقرئ: (أن ينقض) من النقض، (وأن ينقاص) من: انقاصت السن؛ إذا انشقت طولا، قال ذو الرمة: ...... منقاص ومنكثب بالصاد غير معجمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (انقض: إذا أسرع سقوطه)، الراغب: انقض الحائط: وقع، وأقض عليه مضجعه: صار فيه قضضٌ، أي: حجارة صغار. قوله: (وقرئ: "أن ينقض")، قال ابن جني: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، برفع الياء وبالضاد المعجمة. وقرأ عليُّ بن أبي طالب وعكرمة: "ينقاص" بالصاد المهملة وبالألف، هو مطاوع قصته، فانقاص، أي: كسرته فانكسر، وقد قالوا: قضته فانقاض، بالضاد المعجمة، أي: هدمته فانهدم، وقراءة العامة: (أَنْ يَنقَضَّ) أشبه أولاً منها بآخر؛ لأن الإرادة في اللفظ له. قوله: (منقاصٌ ومنكثبُ)، أوله: يغشى الكناس بروقيه ويهدمه ... من هائل الرمل منقاض ومنكثب الكناسُ: موضعُ الوحش من البقر والظباء يستظل به، مشتق من الكنس؛ لأنها تكنسُ

(فَأَقامَهُ) قيل: أقامه بيده. وقيل: مسحه بيده فقام واستوي. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وقيل كان طول الجدار في السماء مائة ذراع، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء؛ وهو المسألة، فلم يجدا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) وطلبت على عملك جعلا حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرئ: (لتخذت)، والتاء في تخذ، أصل كما في تبع، واتخذ افتعل منه، كاتبع من تبع، وليس من الأخذ في شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرمل حتى يصير إلى برد الثرى، يقال: كنست الظباء وتكنست: استترت. والروق: القرن، ومنقاض: أي منهدم، منكثب: هائل. يصف الرملة يقول: الثور يغشى الكناس بقرنيه ويهدم الكاس، ما انهال من الرمل وتناثر وتساقط قطعة قطعة. و"منقاصٌ": يُروى بالضاد المعجمة، من: انقاض الطائر وانقض؛ إذا أسرع في سقوطه. ويروى بالصاد المهملة، من: انقاصت السن: إذا انشقت، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو منقاصٌ، وهو يعود إلى الكناس. قوله: (وقرئ: "لتخذت"): ابن كثير وأبو عمرو: بفتح التاء المخففة، والباقون: بتشديد التاء وفتح الخاء. قوله: (والتاء في "تخذ" أصلٌ)، ذكر في باب الواو مع الخاء في "الأساس": وخذ يخذُ وخذاً ووخذاناً. وفي باب التاء مع الخاء: اتخذته خليلاً، وهو المراد من قوله: "وليس من الأخذ في شيء"، قال أبو البقاء: وهو من "تخذ يتخذُ": إذا عمل شيئاً، وأما "اتخذ" بالتشديد

[(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)]. فإن قلت: (هذا) إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصوّر فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام: (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني)، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة إلى غير الأخ ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث، أي: هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل: هذا فراق بيني وبينك، وقد قرأ به ابن أبى عبلة، فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو: إما افتعل من "تخذ" أو من الأخذ، وأصله: أيتخذ، فأُبدلت اياء تاء وأُدغمت، وأصلُ الياء همزة. قوله: (هذا أخوك، فلا يكون "هذا" إشارة إلى غير الأخ)، قال ابن الحاجب في "الأمالي": المشار إليه لا يشترط أن يكون موجوداً حاضراً، بل يكفي أن يكون موجوداً ذهناً، والدلل عليه قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ) [القصص: 83] وهي معدومة، ومن شرط وجود المشار إليه، فهو حاصل. وقال القاضي: الإشارة بهذا إلى الفراق المعهود بقوله: (فَلا تُصَاحِبْنِي). أو إلى الوقت، أي: هذا الوقتُ وقتُ الفراق. قوله: (أي: هذا الاعتراض سببُ الفراق)، في تخصيصه دون الأولين الإشارة إلى أن الطمع أردأ الخصال، فإنه عليه السالم مهد عُذره فيهما لما في ظاهرهما من النفرة في جهة الإتلاف والإهلاك في الظاهر، وفي هذا الإهلاك من جهة الباطن وطلبُ حظ النفس، روى

[(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَاخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)]. (لِمَساكِينَ) قيل: كانت لعشرة إخوة؛ خمسة منهم زمنى، وخمسة يعملون في البحر (وَراءَهُمْ) أمامهم، كقوله تعالى: (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) [المؤمنون: 100]، وقيل: خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه، وما كان عندهم خبره، فأعلم الله به الخضر وهو «جلندى». فإن قلت: قوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدّم عليه؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القُشيري في "رسالته" عن بعضهم: لما نطق موسى عليه السلام بذكر الطمع، وقال: (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)، قال له الخضر: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ). قوله: (فكان حقه أن يتأخر عن السبب)، أي: كان حق النظم أن يتأخر قوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) عن قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)؛ لأن إرادة التعييب مسبب عن خوف الغصب. قوله: (وإنما قُدم للعناية)، وهي أن لا يحيط به علمُ موسى عليه السلام، وأنه العالم بمثل ما خفي على مثله، لقوله: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً)، قال صاحب "المُطلع": قُدم ليشير إلى العناية، أي: تتعجب منه يا موسى، وهذا مهمي وأنا مأمورٌ به. قوله: (ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده)، قال القاضي: إن السبب لما كان مجموع الأمرين: خوف الغصب ومسكنة المُلاك، رتبه على أقوى الجزأين وأدعاهما، وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم، وقال صاحب "الانتصاف": كأنه جعل السبب كونها

فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم، وقيل في قراءة أبىّ وعبد الله: (كل سفينة صالحة). [(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً* وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَاوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)]. وقرأ الجحدري: (فكان أبواه مؤمنان)، على أن «كان» فيه ضمير الشأن، (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغيانا عليهما، وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرا وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان، وإنما خشي الخضر منه ذلك؛ لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره. وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبىّ: (فخاف ربك)، والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للمساكين، ثُم بيَّن مناسبة هذا السبب بذكر عادة الملك في غصب السفن الصحيحة، وهذا هو الترتيب: أن يرتب الحكم على سبب ثُم يوضح المناسبة فيما بعدُ، فلا يُحتاج إلى جعلهِ متقدماً، وقلت: هذا هو الوجه. قوله: (زيدٌ ظني مقيمٌ)، قال المصنف: الظن يتعلق بالطرفين، بالمبتدأ والخبر جميعاً، كما أن التعليل في (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) متعلقٌ بالمسكنة والغصب، فوسط بينهما. قوله: (كاخترامه)، الجوهري: اخترمهم الدهر: اقتطعهم واستاصلهم، وخو خبرٌ، والمبتدأ: "أمرُه"، هذا بناء على رعاية الأصلح، يعني جواز أمر الله تعالى الخضر بقتل الغلام لرعاية الأصلح لجواز إهلاك الله واستئصاله إياه لمفسدة عرفها الله في حياته.

فغيره، ويجوز أن يكون قوله: (فَخَشِينا) حكاية لقول الله تعالى، بمعنى: فكرهنا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون (فَخَشِينَا) حكاية لقول الله عز وجل) عطفٌ على قوله: "وإنما خشي الخضر منه"، المعنى: أن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سره وقال له: اقتل الغلام؛ لأنا نكره كراهية من خاف سوء العاقبة أن يُغشي الغلام الوالدين المؤمنين طغياناً وكفراً، ولما قال الخضر: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ) جعل قول الله تعالى: (فَخَشِينَا) إيماء إلى اضمحلال إرادته في إرادة الله، وإعلاماً بأن علمه مقتبسٌ من المشكاة القدسية، ولا شوب فيه لرأيه، وتحقيقاً لقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً). روى السلمي عن الواسطي: الخضر شاهد الملك، وشاهد موسى الوسائط، كأنه أخبر الخضر أن السؤال نمه سؤال من الله، أي: لا تشهد الأسباب واشهد المسبب تسترح من هواجس النفس. وأما على الوجه الآخر: فهو عليه السلام إنما عظم نفسه؛ لأنه اختص من عند الله بموهبة لا يختص بها إلا من هو من خواص الحضرة، قال الإمام: إنه عليه السلام لما ذكر العيب أضافه إلى نفسه، وأضاف الرحمة في قوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ) إلى الله تعالى، على نحو (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، وعند القتل عظم نفسه تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة. وقلت: ويمكن أن يقال: إن في اختلاف الضمائر رمزاً إلى الترقي إلى معارج القدس، والتدرج إلى مخدع الفناء، ففي "أردتُ" إثبات، وفي (فَخَشِينَا) ثبوتٌ منه، وفي (فَأَرَادَ رَبُّكَ) فناءٌ محضٌ كقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال: 17].

كقوله: (لِأَهَبَ لَكِ) [مريم: 19]. وقرئ: (يبدّلهما) بالتشديد. والزكاة: الطهارة والنقاء من الذنوب، والرحم: الرحمة والعطف. وروى أنه ولدت لهما جارية تزوّجها نبي، فولدت نبيا هدى الله على يديه أمّة من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبيا، وقيل: أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما. قيل: اسما الغلامين: أصرم، وصريم. والغلام المقتول: اسمه الحسين. واختلف في الكنز، فقيل: مال مدفون من ذهب وفضة، وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: صحف فيها علم، والظاهر لإطلاقه: أنه مال. وعن قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا، وحرّمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا: أراد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34]، (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) اعتداد بصلاح أبيهما وحفظ لحقه فيهما. وعن جعفر بن محمد الصادق: كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء. وعن الحسين بن على رضي الله تعالى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله: (لأَهَبَ لَكِ) [مريم: 19]، أي: كقول جبريل عليه السلام لمريم: (لأَهَبَ لَكِ)، والواهب هو الله تعالى، لكنه مبلغٌ لكلام الله إليها. قوله: (وقرئ: "يبدلهما"، بالتشديد): نافع وأبو عمرو، والباقون: بالتخفيف. قوله: (الذي حُفظاً فيه)، أي: رُوعي جانبهما لأجله وكرامته. المُغرب: الحفظ: خلافُ

عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبى وجدي خير منه، فقال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون. (رَحْمَةً) مفعول له، أو مصدر منصوب بـ (أراد ربك)، لأنه في معنى: رحمهما، (وَما فَعَلْتُهُ) وما فعلت ما رأيت (عَنْ أَمْرِي) عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله. [(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً* فَأَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً* قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً)]. ذو القرنين: هو الإسكندر الذي ملك الدنيا. قيل: ملكها مؤمنان: ذو القرنين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النسيان، وقد يُجعلُ عبارة عن الصون وترك الابتذال. قوله: ((عَنْ أَمْرِي): عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله)، الأمر الأول: واحد الأمور، والثاني: واحد الأوامر. قال القاضي: ومبنى ذلك على أنه متى تعارض ضرران يجب أن يُحمل أهونهما لدفع أعظمهما، وهو أصلٌ ممهدٌ، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. ومن فوائد هذه القصة: أن لا يُعجب المرء بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال، وأن ينبه المجرم، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. قوله: (ذو القرنين هو الإسكندر)، قد مر عن الإمام أن في جعل إسكندر ذا القرنين إشكالاً قوياً، وهو أنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس، فكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حقٌّ، وذلك مما لا سبيل إليه.

وسليمان. وكافران: نمروذ، وبختنصر، وكان بعد نمروذ. واختلف فيه فقيل: كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه، وقيل: نبيا، وقيل: ملكا من الملائكة. وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفرا، ما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، وعن علىّ رضي الله عنه، سخر له السحاب، ومدّت له الأسباب، وبسط له النور، وسئل عنه فقال: أحب الله فأحبه. وسأله ابن الكوّاء: ما ذو القرنين، أملك أم نبىّ؟ فقال: ليس بملك ولا نبي، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللهم غفراً)، أي: اغفر لهم غفراً. قوله: (ومُدت له الأسباب)، أي: أمكنه الله من كل شيء وأقدره. قوله: (فأحبه)، أي: مكنه الله من كل شيء وأقدره. قوله: (ابن الكواء) قال الفقيه أبو حنيفة الدينوري في "تاريخه": هو: عبد الله بن الكواء من كبراء الخوارج، اختاروه ليحاج علي بن أبي طالب رضيا لله عنه في أمر الحكمين، وجرت بينهما مجادلات حتى قال ابن الكواء في آخر كلامه: أنت صادقٌ في جميع ما تقول، غير انك كفرت حين حكمت الحكمين، فقاتلهم عليٌّ رضي الله عنه، وكان عليهم عبد الله بن وهب الراسبي.

في طاعة الله فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمى (ذو القرنين) وفيكم مثله. قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمى ذا القرنين؛ لأنه طاف قرني الدنيا)، يعنى: جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان، أي ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب: لأنه ملك الروم وفارس. وروى: الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا؛ لأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم، ولد عجوز ليس لها ولد غيره. والسائلون: هم اليهود سألوه على جهة الامتحان. وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه، والخطاب في (عَلَيْكُمْ) لأحد الفريقين (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي: من أسباب كل شيء، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه (سَبَباً) طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب (فَأَتْبَعَ سَبَباً) يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق، فأتبع سببا، وأراد بلوغ السدّين فاتبع سببا. وقرئ: (فأتبع) وقرئ: (حمئة)، من حمئت البئر؛ إذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيكم مثله)، يعني به: نفسه، أي: لم يكن نبياً، بل كان ولياً. قوله: (كما يُسمى الشجاع كبشاً)، الأساس: ومن المجاز: هو كبش كتيبة. قوله: (وقرئ (فَاتَّبَعَ))، الكوفيون وابن عامرٍ: (فَاتَّبَعَ) في الثلاثة، بقطع الهمزة مخففة التاء، والباقون: بالوصل مشددة التاء. قوله: (قرئ: (حَمِئَةٍ))، ابن عامرٍ وأبو بكر وحمزة والكسائي: "حاميةٍ" بألفٍ من غير همزة، والباقون: بغير ألف مع الهمز.

صار فيها الحمأة، و (حامية) بمعنى: حارّة. وعن أبى ذرّ: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجمل، فرأى الشمس حين غابت، فقال: (يا أبا ذرّ، أتدري أين تغرب هذه؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تغرب في عين حامية). وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عمر وابن عمرو والحسن. وقرأ ابن عباس: حمئة. وكان ابن عباس عند معاوية؛ فقرأ معاوية: (حامية)، فقال ابن عباس: (حمئة). فقال معاوية لعبد الله بن عمرو: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار: كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة. وروى: في ثأط، فوافق قول ابن عباس، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع: فرأى مغيب الشّمس عند مآبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن أبي ذرٍّ)، الحديث، رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو داود في "سننه". قوله: (فرأى مغيب الشمس) البيت، أوله من "المُطلع": قد كان ذو القرنين عمي مُسلماً ... ملكاً تدين له الملوك وتسجد بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم يرشد الضمير: في "بلغ" لذي القرنين، مآبها، أي: مغيبها، والخلب: الطين الحمأة، والثأط: الحمأة، واحدها: ثأطة، وفي المثل: "ثأطةٌ مُدت بماء"، يُضرب للرجل يشتد حمقه، فإن الماء إذا زيد على الحمأة ازدادت فساداً، والحرمد: الأسودُ، ذكره في "النهاية"، وقال فيها:

أي: في عين ماء ذي طين وحمأ أسود، ولا تنافى بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً. كانوا كفرة فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإسلام، فاختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم، فقال: أمّا من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم الذي هو الشرك: فذلك هو المعذب في الدارين (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ) ما يقتضيه الإيمان (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) وقيل: خيره بين القتل والأسر، وسماه إحسانا في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنشد ابن عباس هذا البيت وقد حاجه عمر في قوله تعالى: (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ). قوله: (وقيل: خيره بين القتل والأسر): عطفٌ على قوله: "فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإسلام" المعنى بقوله: (أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)، وهو على الأول ظاهرٌ، فأما الأسرُ فليس فيه إحسانٌ، حتى يُقال: (أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)؛ ولهذا قال: "وسماه إحساناً في مقابلة القتل"؛ لأن من استحق القتل فإذا صُولح معه بالأسر فقد عُوملَ معهُ بالإحسان. قال القاضي: ويؤيدُ الأول قوله: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً) أي: اختار ذو القرنين الدعوة؛ ولذلك قال: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي: أما من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره وشركه؛ لأن الشرك ظُلم، فأعذبه أنا ومن معي بالقتل في الدنيا، ثم يعذبه الله في الآخرة عذاباً لم يُعهد مثله. وقلتُ: أما على الوجه الثاني فإنه تعالى لما خيره بين القتل والأسر، وكان حقه أن يقول لهم: اختاروا إما القتل وإما الأسر، فترك ذلك إلى الدعوة، وقال: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ)، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ)، فآثر حق الله على حق نفسه، وقال من ظلم، أي: بقي على شركه، فالقتل والأسر مني (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً)، ومن آمن وعمل صالحاً فجزاؤه عند الله الجنة، وعندي القول الميسور، فقدم في جانب العذاب ما كان منه على ما هو من الله، وعكس في جانب الرحمة.

مقابلة القتل (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) فله أن يجازى المثوبة الحسنى، أو: فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة. وقرئ: (فله جزاء الحسنى) أي: فله الفعلة الحسنى جزاء. وعن قتادة: كان يطبخ من كفر في القدور، وهو العذاب النكر. ومن آمن أعطاه وكساه (مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي: لا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك، وتقديره: ذا يسر، كقوله: (قَوْلًا مَيْسُوراً) [الإسراء: 28] وقرئ: (يسرا)، بضمتين. [(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً* كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً)]. وقرئ: (مطلع) بفتح اللام وهو مصدر. والمعنى: بلغ مكان مطلع الشمس، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)، أي: فله الفعلة الحسنى جزاء)، حفصٌ وحمزة والكسائي: (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)، بالتنوين ونصبه. والباقون: بالرفع من غير تنوين. قال مكي: من رفع "جزاء" جعله: مبتدا، و (فَلَهُ): الخبر، أي: فله جزاءُ خلال الحُسنى، فـ (الْحُسْنَى): مضافٌ إليه، وقيل: هي على تقدير الرفع على البدل من "جزاء"، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، والحسنى: الجنةن ومن نصب ونونه، جعل (الْحُسْنَى): مبتدأ، و"لهُ": الخبرُ، و (جَزَاءُ): نُصب على الحال، أي: فله الجنة مجزياً بها، وقيل: جزاء: نُصب على التمييز. وقيل: على المصدر، أي: يجزى بها جزاء، ومن نصب ولم ينونه، حذف التنوين لالتقاء الساكنين، والحسنى رُفع تقديراً، وفيه بُعدٌ. قوله: ("مَطلَعَ"، بفتح اللام، وهو مصدرٌ) وفي "الكواشي": (مَطْلِعَ) بالكسر:

كأنّ مجرّ الرّامسات ذيولها يريد: كأن آثار مجرّ الرامسات (عَلى قَوْمٍ) قيل: هم الزنج. والستر: الأبنية، وعن كعب: أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوها. فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. وعن بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هي المشهورة، وهي اسمٌ لوقت الطلوع او لموضع الطلوع، وبالفتح: مصدرٌ، أي: مكان الطلوع، وهي شاذة. قوله: (كأن مجر الرامسات ذيولها). تمامه: عليه قضيم نمقته الصوانع قال في "المطلع": يريد كأن أثر مجر الرامسات، أي: جرهن، والرامساتُ: المثيرات للرمس، وهو الترابُ، الريا الروامس: التي تُثيرُ التراب وتدفن الآثار، ورمست الرجل وأرمسه: دفنته، والقضيم: الجلد الأبيض، ونمقت الكتاب: إذا حسنته وجودته، ولابد من تقديرالمضاف ليحسن تشبيهه بالقضيم، وذيولها: مفعول مجر، أي: جرهن ذيولها. وقضيم: خبرُ "كأن"، وهو المشبه به، أي: كأن آثار مجر ذيولها جلدٌ نمقه الكاتب، ولابد من عامل في الذيول، واسم المكان لا يعمل. قوله: (والستر: الأبنية)، وفي "إيجاز البيان": المرادُ دوام طلوعها عليهم في الصيف، وإلا فالحيوان يختارُ الكِنَّ حتى الإنسانُ، وهذا المكان وراء برزة من تلقاء بُلغار، تدور فيه الشمس بالصيف ظاهرة فوق الأرض، إلا أنها لا تُسامت رؤوسهم.

أذنه ويلبس الأخرى، ومعى صاحب يعرف لسانهم، فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علىّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وقيل: الستر اللباس. وعن مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. (كَذلِكَ) أي: أمر ذي القرنين كذلك، أي كما وصفناه تعظيما لأمره (وَقَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كَذَلِكَ)، أي: أمر ذي القرنين كذلك)، اعلم أن "كذلك" إما: خبرُ مبتدأ محذوف، أو: صفة لموصوف مذكور، أو: صفة مصدر محذوف، فعلى الأول المشار إليه بذلك جميعُ ما سبق من أمر ذي القرنين، وفيه تفخيم للفذلكة بعد التفصيل؛ ولهذا قال: "تعظيماً لأمره"، وقوله: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً)، الجملة تكميلٌ؛ لأنه أردف التعظيم التكثير، كأنه قيل: أمرُ ذي القرنين كما وصفنا، وله أسبابٌ عدة غير ما ذُكر، لا يحيط بها علمُ أحد غير الله تعالى لقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) بالمدثر: 31]، (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن: 28]. وعلى الثاني: إما هو صفة لقوله: (سِتْراً)، وإليه الإشارة بقوله: "ستراً مثل ذلك الستر"، وليس بذلك؛ لأن قوله: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) لا يحسن التئامه على هذا؛ أو صفة لـ "قوم"، والمشار إليه بذلك أحوال القوم المار ذكرهم عند قوله: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا) إلى آخره، ويحسن التئام قوله: (وَقَدْ أَحَطْنَا)، أي: أحطنا بما لديه خبراً من التخبير والاختيار والدعوة والإحسان. وعلى الثالث: المشار إليه ما سبق من البلوغ في قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)، وإليه الإشارة بقوله: (بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)، كما بلغ مغربها، ومعنى (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ) على هذين التفسيرين: تتميم ومبالغة.

أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من الجنود والآلات وأسباب الملك (خُبْراً) تكثيرا لذلك. وقيل: لم نجعل لهم من دونها سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من كل صنف. وقيل: بلغ مطلع الشمس مثل ذلك، أي: كما بلغ مغربها. وقيل: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، يعنى أنهم كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر، وإحسانه إلى من آمن منهم. [(ثمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)]. (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين، وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما. قرئ: بالضم والفتح. وقيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح؛ لأنّ السد بالضم: فعل بمعنى: مفعول، أي: هو مما فعله الله تعالى وخلقه. والسدّ بالفتح: مصدر حدث يحدثه الناس. وانتصب (بَيْنَ) على أنه مفعول به مبلوغ، كما انجرّ على الإضافة في قوله: (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78] وكما ارتفع في قوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام: 94] لأنه من الظروف التي تستعمل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ بالضم والفتح)، نافعٌ وابن عامرٍ وأبو بكر: بضم السين، والباقون: بفتحها. قوله: (لأن "السد" بالضم: فُعلٌ)، قال صاحب "التقريب": ولا يخفى ضعفُ هذا التوجيه، قال محيي السنة: هذا قولُ عكرمة، وقاله أبو عمرو، وقيل: هما لغتان، وقيل: بالضم: اسم وبالفتح: مصدرٌ.

أسماء وظروفاً، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق (مِنْ دُونِهِما قَوْماً) هم الترك (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم إليكم، وقرئ: (يفقهون)، أي: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لأنّ لغتهم غريبة مجهولة. [(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)]. (يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ) اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، وقرئا مهموزين. وقرأ رؤبة: (آجوج ومأجوج)، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم (1). (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يُفقهون")، حمزة والكسائي: بضم الياء وكسر القاف، والباقون: بفتحهما. قوله: (وقرئا مهموزين): عاصمٌ، والباقون: بغير همز، نقل صاحب "المطلع" عن الأنباري، قال: وجه همزه- وإن لم يُعرف له أصل-: أن العرب قد همزت ما لا أصل للهمز فيه، نحو: لبأت بالحج، ورثأت الميت. وإذا فعلوا هذا في لغتهم لا يردهم ذلك في الألفاظ الأعجمية، وأما رؤبة فقلب الياء همزة كأثربي في يثربي.

وكانوا يلقون منهم قتلا وأذى شديدا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم: (لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح). وقيل: هم على صنفين: طوال مفرطو والطول، وقصار مفرطو القصر. وقرئ: (خرجا) و (خراجا)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (خْرِجَا) و"خراجا")، حمزة والكسائي: "خراجاً"، والباقون: (خْرِجَا). الراغب: قيل لما يخرج من الأرض ومن وكر الحيوان ونحو ذلك: خرجٌ وخراجٌ، قال تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [المؤمنون: 72]. فإضافته إلى الله تعالى تنبيه أنه هو الذي الزمه وأوجبه، والخرج أعم من الخراج، وجُعل الخرج بإزاء الدخل، قال تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) [الكهف: 94]، والخراجُ مختصٌّ - في الغالب - بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي: غلته، والرعية تؤدي إلى الأمير الخراج، وقيل: "الخراج بالضمان"، أي: ما يخرج من مال البائع فهو بإزاء ما سقط عنه من ضمان المبيع، والخارجي: الذي يخرج بذاته من أحوال اقرانه، ويقال على سبيل المدح إذا خرج إلى منزلة من هو أعلى منه، وتارة يقالُ على سبيل الذم إذا خرج على منزلة من هو أدنى منه، وعلى هذا يقال: فلانٌ ليس بإنسان، مدحاً وذماً، والخرج: لونان من سواد وبياض، يقال: ظليم أخرجُ، ونعامةٌ رجاء، وأرضٌ مخرجةٌ: ذات لونين، لكون النبات فيها في مكان دون مكان. وقال القاضي: كلاهما واحد، كالنول والنوال، وقيل: الخراج: على الأرض والذمة، والخرج: المصدر.

أي: جعلا نخرجه من أموالنا، ونظيرهما: النول والنوال. وقرئ: (سدا) و (سدا) بالفتح والضم. [(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)]. (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار، خير مما تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة بي إليه، كما قال سليمان صلوات الله عليه: (فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) بالنمل: 36]، قرئ بالإدغام وبفكه. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) بفعلة، وصناع يحسنون البناء والعمل، وبالآلات (رَدْماً) حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السدّ، من قولهم: ثوب مردم، رقاع فوق رقاع. قيل: حفر الأساس حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) لا ينافي رد الخراج والاتقصار على المعونة، كأن الإيتاء بمعنى المناولة، يدل عليه قراءة أبي بكر: "إيتوني" بمعنى: جيئوني. قوله: (قرئ بالإدغام وبفكه): ابن كثير: بالفك، والباقون: بالإدغام. قال صاحب "المُطلع": من فك لأن النونين اجتمعتا في كلمتين، الثانية غير لازمة، يقال: مكنه ومكنته، فلم يُدغم، ومن أدغمَ فلاجتماع المثلين.

بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وقرئ: (سوّى)، و (سووي). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّ رجلا أخبره به فقال: (كيف رأيته؟ ) قال كالبرد المحبر؛ طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال: «قد رأيته» والصدفان بفتحتين: جانبا الجبلين، لأنهما يتصادفان، أي: يتقابلان، وقرئ: (الصدفين) بضمتين، و (الصدفين) بضمة وسكون، (الصدفين) بفتحة وضمة. والقطر، النحاس المذاب؛ لأنه يقطر (قِطْراً) منصوب بـ (أفرغ)، وتقديره: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالبرد المحبر)، النهاية: الحبير من البرود: ما كان موشياً مخططاً، وهو بردُ يمان. قوله: (وقرئ: "الصدفين" بضمتين"): ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر: بضم الصاد وإسكان الدال، والباقون: بفتحتين، وبضم الدال: شاذ. قال القاضي: كلها لغاتٌ من الصدف، وهو الميل؛ لأن كلا منهما منعزلٌ عن الآخر، ومنه التصادف: التقابل. قله: (و (قَطِرَاً): منصوب بـ (أُفْرِغْ))، فأعمل الثاني على مذهب البصريين؛ لأنه لو أعمل الأول لقيل: آتوني أفرغه، غذ المختارُ أن لا يحذف الضمير المفعول في الثاني؛ لأنهُ

لدلالة الثاني عليه. وقرئ: (قال ائتوني)، أي: جيئوني، (فَمَا اسْطاعُوا) بحذف التاء للخفة؛ لأنّ التاء قريبة المخرج من الطاء. وقرئ: (فما اصطاعوا)، بقلب السين صادا. وأما من قرأ بإدغام التاء في الطاء، فملاق بين ساكنين على غير الحدّ (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي: يعلوه، أي: لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه وانملاسه، ولا نقب لصلابته وثخانته. [(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)]. (هذا) إشارة إلى السد، أي: هذا السد نعمة من الله و (رَحْمَةٌ) على عباده، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) يعنى: فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد (دَكَّاءَ) أي: مدكوكا مبسوطا مسوّي بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك. ومنه: الجمل الأدك: المنبسط السنام. وقرئ: (دكاء) بالمد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يؤدي إلى اللبس، فالهاء عائدةٌ إلى (قِطْراً) وهو المفعول الثاني، وإن جاز حذفه لكن لا يليق بفصاحة القرآن تركُ الاختيار. قوله: (وقرئ: "قال ائتوني"، أي: جيئوني)، أبو بكر وحمزة: بهمزة ساكنة بعد اللام من باب المجيء، وإذا ابتدأ كسراص همزة الوصل، وابدلا الهمزة الساكنة ياءً، والباقون: بقطع الألف ومدةٍ بعدها في الحالين. قوله: (وأما من قرأ بإدغام التاء)، قرأ حمزة: "فما اسطاعوا" بتشديد الطاء، والباقون: بتخفيفها. قوله: (وقرئ: (دَكَّاءَ) بالمد)، الكوفيون: بالمد والهمز من غير تنوين، والباقون: بالتنوين من غير همز.

أي أرضاً مستوية، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) آخر حكاية قول ذي القرنين. [(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً)]. (وَتَرَكْنا) وجعلنا (بَعْضَهُمْ) بعض الخلق (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي: يضطربون ويختلطون، إنسهم وجنهم حيارى، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج، وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد، وروى: يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر، ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله نغفاً في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون. [(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً* الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)]. (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) وبرّزناها لهم فرأوها وشاهدوها (عَنْ ذِكْرِي) عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها، ونحوه (صُمٌّ بُكْمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نغفاً في أقفائهم)، النهاية: النغفُ، بالتحريك: دودٌ يكون في أنوف الإبل والغنم، واحدتها: نغفةٌ. قوله: (عن آياتي التي يثنظر إليها، فأذكرُ بالتعظيم)، يعني: الذكرُ لا يقال فيه: أعينهم في غطاءٍ عنه، بل في آذانهم وقرٌ، لكن النظر على الآيات الدالة على القدرة الباهرة سببٌ لذكر الله عند مشاهدتها، كما يقال: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) [آل عمران: 191]،

عُمْيٌ) [البقرة: 18]، (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) يعنى: وكانوا صما عنه، إلا أنه أبلغ؛ لأنّ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع. [(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)]. (عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) هم الملائكة، يعنى: أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكي عنهم: (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) [سبأ: 41]، وقرأ ابن مسعود: (أفظن الذين كفروا)، وقراءة على رضي الله عنه: (أفحسب الذين كفروا) أي: أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء، على الابتداء والخبر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأُطلق المسبب وأريد السبب، وكذلك الباصرة لا تُستعمل في الذكر إذا أريد به القرآن، بل تستعمل فيه البصيرة؛ ولذلك قال: "وتأمل معانيه وتبصرها"، فقوله: (بُكْم) مناسبٌ للتفسير الأول، و (عُمْيٌ) للثاني. قوله: (كما حكى عنهم: (سُبْحَانَكَ) [سبأ: 41])، وجه المشابهة بين الآيتين هو أن قوله: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) إنكارٌ لحسبانهم فيما عبدوا الملائكة، جعلوها شفعاء لأنفسهم، وأنهم يوالونهم عند الحقيقة، وأن هذا الإنكار واقعٌ عند الحشر، لقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً) إلى قوله: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، كما أن قوله: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) [سبأ: 41] تخييبٌ من الملائكة فيما زعم الكفارُ أنهم ينصرونهم ويشفعون لهم بعد الحشر، لقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ: 40].

أو على الفعل والفاعل، لأنّ اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل، كقولك: أقائم الزيدان، والمعنى: أنّ ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. وهي قراءة محكمة جيدة. النزل: ما يقام للنزيل؛ وهو الضيف، ونحوه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: 21]. [(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً* ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)]. (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) ضاع؛ وبطل وهم الرهبان. عن على رضي الله عنه، كقوله: (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية: 3]، وعن مجاهد: أهل الكتاب، وعن علي رضي الله عنه: أنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو على الفعل والفاعل)، يعني: تحتمل قراءة علي رضي الله عنه أن تُحمل على الابتداء والخبر، بأن يقال: إن حسبُ: مبتدأٌ مضافٌ إلى الذين كفروا، و (أَنْ يَتَّخِذُوا): الخبرُ، وكذا أيضاً عن أبي البقاء، أو على الفعل والفاعل، بأن يُقال: إن "حسبُ" بمعنى "المحسب"، واسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة يعمل، والفاعل (أَنْ يَتَّخِذُوا). قوله: (أقائمٌ الزيدان؟ )، إنما مثل به دون: "أقائم زيدٌ"، لأنه أراد أن يُمثل بما يتعين فيه عمل اسم الفاعل في الظاهر. قوله: (وهي قراءة محكمة جيدة)، قال ابن جني: القراءة ساكنة السين غاية في الذم لهم وذلك؛ لأنه جعله غاية مرادهم ومجموع مطلبهم. قوله: (كقوله: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) [الغاشية: 3])، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تثجدي عليها في الآخرة.

ابن الكوّاء سأله عنهم؟ فقال: منهم أهل حروراء. وعن أبى سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان؛ لأنّ الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين. وقرئ: (فلا يقيم) بالياء. فإن قلت: الذين ضل سعيهم في أي محل هو؟ قلت: الأوجه أن يكون في محل الرفع، على: هم الذين ضل سعيهم؛ لأنه جواب عن السؤال، ويجوز أن يكون نصبا على الذم، أو جرّا على البدل (جَهَنَّمُ) عطف بيان لقوله (جَزاؤُهُمْ). [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً)]. الحول: التحوّل. يقال: حال من مكانه حولا، كقولك: عادني حبها عودا، يعني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أهل حروراء): قرية بالكوفة، والحرورية: فرقةٌ منالخوارج منسوبة إليها. قوله: ((جَهَنَّمَ) عطفُ بيان لقوله: (جَزَاؤُهُمْ)) فـ (ذَلِكَ) مبتدأ، و (جَزَاؤُهُمْ): الخبر، والمشار إليه بقوله: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ)، كما تقول: هذا زيدٌ، وتحقيقه ما سبق في قوله: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)، وفيه بحث؛ لأنه لا يحسنُ أن يقال: ذلك جهنمُ. قال أبو البقاء: (ذَلِكَ)، أي: الأمر ذلك، وما بعدهُ مبتدأ وخبر، وهذا جيدٌ. قوله: (عادني حبها عوداً)، النهاية: وفي حديث فاطمة بنت قيس "فإها امرأة يكثرُ عُوادُها"، أي: زُوارُها، وكل من أتاك مرةً بعد أخرى، فهو عائدٌ، وإن اشتهر ذلك في عبادة المريض حتى كأنه مختصٌّ به.

لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف؛ لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفى التحوّل وتأكيد الخلود. [(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)]. المداد: اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مدادا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو كُتِبَ) يعني: لو فُرضَ كتبتُها كما تُفرضُ المحالاتُ لابد لهذا المفروض من النفاد، مع هذا ينفدُ حبسُ البحر قبل نفادها. قوله: (كلماتُ علم الله وحكمته) يُشعرُ بأن الكلمات في قوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف: 27] أخصُّ منها؛ لأن المراد بها كلمات ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن المجيد، ومن اطلع على أسرار النظم، عرف موجب ذلك. والإضافة في قول المصنف: "كلمات علم الله تعالى"، تؤذن بأنها غير متناهية، ولفظة (قبلَ) توهم أن لها أيضاً نفاداً. قال الإمام: تمسكت المعتزلة بها، أن كلام الله محدث، بأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجاب: أن ذلك راجعٌ إلى الألفاظ والحروف، والجواب غير مُرضي؛ لأن التمثيل بالبحر يأباه، ولأن هذه الآية مما ساتدلوا بها على قدمها، فكيف يلتزم حدوثها؟ ألا ترى كيف استشهد بها صاحب "شرح السُّنة" في باب الرد على من قال بخلق القرآن، ووجهه أنها واردةٌ على التنزلات الربانية، حيث نزل غير المتناهي منزلة المتناهي فرضاً وتقديراً، تفهيماً للعباد وتقريباص لهم، وهو من التمثيل الذي يفرضُ الممثل به فرضاصح مُثلت حالةُ الكلمات التامات في سعتها وفرطِ كثرتها بحالة ما لو فُرضَ البحرُ مداداً له لنفد قبله، ثم أدخله الممثل

لها، والمراد بالبحر الجنس (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ) الكلمات (وَلَوْ جِئْنا) بمثل البحر مدادا لنفد أيضاً. والكلمات غير نافدة. و (مَدَداً) تمييز، كقولك: لي مثله رجلا. والمدد مثل المداد، وهو ما يمدّ به. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (بمثله مدادا)، وقرأ الأعرج: مددا، بكسر الميم؛ جمع مدّة، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في جنس الممثل به فأجرى عليه حُكم الإحصاء والكتب والنفاد تنزلاً وتفهيماً، والمعنى: لو فرضنا أن غير المتناهي داخلٌ تحت حكم المتناهي، وأنه نوعٌ من جنسه، لنفد قبل نفاده، فكيف وأنه ليس من جنسه؟ هيهات، أين الثريا من الثرى! ولذل مع كلماتٍ جمع قلةٍ تتميماً للمعنى، أي: إذا كان حُكمُ الكلمات بهذه المثابة، فما ظنُّكَ بالكلم، ووضعُ المظهر موضع المضمر في قوله: (قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) إشعارٌ بالعلية، وأنها حقيقٌ بأن تكون غير متناهية. وأما بيانُ النظم فهو أن المخالفين لما اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدل آية مكان آية، قيل له: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف: 27]، أي: دعهم وعنادهم، اشتغل بالتلاوة ودُم عليها، فإنه لا يقدر على تقدير كلمات ربك إلا هو، ثم كشف بعد ذلك من قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) إلى قوله: (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) عن نُبذٍ من أسرار عجيبة محتجبة وراء أستار الغيبن ثم عقبها بقوله: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً)، يعني: قللهم: لو ان البحر مداداً لهذا الجنس من الكلمات التامات، لنفد البحرُ قبل نفادها، فكيف أبدلها من تلقاء نفسي؟ وأنا بشرٌ مثلكم لا فرق بيني وبينكم في عدم القدرة على التبديل إلا أني خُصصتُ بتلقي الوحي، وفضلت بمزية الرسالة، وغلى هذا ألمح قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الانعام: 115]. وقريبٌ من هذه المعاني ما في قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) [يونس: 15].

وقرئ: (ينفد) بالياء. وقيل: قال حيىّ بن أخطب: في كتابكم (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة: 269]، ثم تقرءون: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]، فنزلت، يعنى: أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله. [(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)]. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول. وقد فسرنا اللقاء. أو: أفمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهى عن الإشراك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ينفد": بالياء): حمزةُ والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقاني. قوله: (قال حيي بن أخطب: في كتابكم)، إلى آخره، عن أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: اعطونا شيئاً نسألُ عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، سألوه عنها فنزلت: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية، قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فُأنزلت: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) الآية. قوله: (يخاف سوء لقائه)، الأساس: ومن المجاز استعمال الرجاء في الخوف والاكتراث، قال محيي السنة: الرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً. قال:

بالعبادة: أن لا يرائي بعمله، وأن لا يبتغى به إلا وجه ربه خالصا لا يخلط به غيره. وقيل: نزلت في جندب ابن زهير، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله، فإذا اطلع عليه سرني، فقال: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه». وروى أنه قال له: «لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدي به. وعنه صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال «الرياء». وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء»، وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ» والله أعلم بالصواب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. ولا كل ما ترجو من الخير كائن ... ولا كل ما ترجو من الشر واقع قوله: (وقد فسرنا اللقاء)، يعني: في سورة يونس، قال فيها: اللقاءُ مستعارٌ للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً، شُبه بنظر النار وعيان المعاين. وفسره في "العنكبوت" في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ) [العنكبوت: 5] أبسط وأشرح من ذلك، وقلت: إذا فسرت الآية بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا) يأمل حُسن لقاء ربه، يجوز أن يجري على ظاهرها على مذهب أهل السُّنة. انتهى بحمد الله

سورة مريم

سورة مريم مكية وهي تسعون وثماني أو تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)]. (كهيعص) قرأ بفتح الهاء وكسر الياء حمزة، وبكسرهما عاصم، وبضمهما الحسن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة مريم مكية، وهي ثمان وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (بفتح الهاء وكسر الياء) يريد بالكسر: الإمالة من: كسرت العُقابُ جناحها: إذا مالت للانقضاض، قال صاحب "التيسير": قرأ أبو بكر والكسائي: بإمالة فتحة الياء والهاء، وابن كثير وحفصٌ: بفتحهما، وابن عامرٍ وحمزة: بفتح الهاء وإمالة الياء، وأبو عمرو: بإمالة الهاء وفتح الياء، ونافعٌ: بالهاء والياء بيْن بيْن. وقال ابن جني: قرأ الحسن بفتح الهاء ورفع الياء، وقرأ أيضاً بضم الهاء وفتح الياء،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وقال: الإمالة والتفخيم في حروف المعجم ضربٌ من ضروب التصرف، وذلك أنها إذا فارقت موضعها من الهجاء صارت أسماء ودخلها ضربٌ من القوة فتصرفت، فحملت افمالة والتفخيم، فمن قال: (يا) جنح بالإمالة إلى الياء كما في نحو السيال، ومن فخم تصور أن عين الفعل في الياء منقلبة عن الواو، الباب والدار والمال، وذلك أن هذه الألفات، وإن كانت مجهولة، لأنه لا اشتقاق لها، فإنها تُحمل على ما هو في اللفظ مشابه لها، والألف إذا وقعت عيناً فجهلت، فالواجب فيها أن يعتقد أنها منقلبة عن الواو. على ذلك وجدنا سرد اللغة، هذا قول جامعٌ في هذا الضرب من الألفات، فاعرفه واغن به عما وراءه. وقال صاحب "التقريب": ولا تنقلب الألفُ واواً لهذه الضمة، بل تُسمى ألفها ألف التفخيم. في "اللوامح": هذه الكلماتُ الثلاثُ مترجمٌ عنها بالضم، وليست مضمومات بالحقيقة؛ لأنهن لو كُن كذلك لوجب قلبُ ما بعدهن من الألفات واواتٍ، بل نُحيت هذه الألِفاتُ نحو الواو، على لغة أهل الحجاز، وهي التي تسمى ألف التفخيم بضد الألف المُمالة. والمراد بالكلمات الثلاث: الكاف والهاء والياء؛ لأنه رُوي عن الحسن ضم الكاف أيضاً.

وقرأ الحسن: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) أي: هذا المتلوّ من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ: (ذكر) على الأمر، راعى سنة الله في إخفاء دعوته؛ لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيان، فكان الإخفاء أولى؛ لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن: نداء لا رياء فيه، أو: أخفاه؛ لئلا يلام على طلب الولد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ الحسنُ: "ذكر رحمة ربك")، قال ابن جني: فاعل "ذكر" ضميرُ ما تقدم، أي: هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف اوله وفاتحته يُذكر رحمة ربك، وإن شئت كان تقديره مما يُقص عليك أو يُتلى عليك: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). قال أبو البقاء: و (ذِكْرُ): مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، والتقدير: هذا إن ذكر ربُّكَ رحمته عبده. وقيل: هو مضافٌ إلى الفاعل، على الاتساع، والمعنى: هذا إن ذكرت رحمة ربك، فعلى الأول ينتصب عبده برحمة، وعلى الثاني بـ"ذكر". قوله: (راعى سنة الله)، "سنة الله" من إضافة المصدر إلى المفعول، لا إلى الفاعل، يعني: راعى زكريا سنة العبودية مع المعبود في إخفاء دعائه، فإذن ينطبق عليه التقليل بقوله: "لأن الجهد والخفاء عند الله سيان"، وأما قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) [الفتح: 23] فمن إضافة المصدر إلى الفاعل. قوله: (نداءً لا رياء فيه)، فيكون الإخفاء ملزوماً للإخلاص الذي هو: عدم الرياء؛ لأن الإخفاء أبعدُ من الرياء. ولما كنى عن عدم الرياء بالخفاء عُلم أن لا اعتبار للظاهر، وأن الأمر يدور على الإخلاص حتى إنه لو نادى جهراً بلا رياء دخل فيه، أو نادى سراً بلا إخلاص خرج منه، وفي الجمع بين النداء والإخفاء إيماءٌ إلى هذا المعنى. الراغب: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ): أشار بالنداء إلى الله تعالى؛ لأنه تصور نفسه بعيداً منه

في إبان الكبرة والشيخوخة. أو: أسره من مواليه الذين خافهم. أو خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات، وسمعه تارات. واختلف في سنّ زكريا عليه السلام، فقيل: ستون، وخمس وستون، وسبعون، وخمس وسبعون، وخمس وثمانون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بذنوبه وأحواله السيئة. وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ) [فصلت: 44]، فاستعمال النداء فيهم تنبيه على بعدهم عن الحق، وقوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ) [آعمران: 193]، فالإشارة بالمنادي إلى العقل والكتاب المنزل والرسول المرسل وسائر الآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله، وجعله منادياً للإيمان لظهوره ظهور النداء، وحثه على ذلك كحث المنادي. فإن قلت: كيف جمع بين النداء وهو رفع الصوت، وبين (خَفِيّاً) وهو خفتُ الصوت؟ قلت: جعل (خَفِيّاً) مجازاً عن الإخلاص لا كناية؛ لأن المجاز ينافي إرادة الحقيقة، والنداء عبارة عن إهار الاستكانة وإبداء التضرع والخشوع. قوله: (في إبان الكبرة)؛ الجوهري: إبان الشيء بالكسر التشديد: وقته، وقال: الكبرُ في السن، وقد كبر الرجل يكبر كبراً، أي: أسن، والاسم: الكبرة، بفتح الكاف وسكون الباء. يقال: علت فلاناً كبرةٌ. قوله: (أو: خفت صوته)، بالرفع والنصب. الجوهري: خفت الصوت خفوتاً: سكن، والمخافتة والتخافت: إسرار النمطق، والخفت مثله. قوله: (صوته خُفاتٌ). الأساس: خفت صوته خفوتاً، وصوته خافتٌ خفيتٌ، وخفت الرجل: سكت فلم يتكلم، وأخذه السُّكاتُ والخُفاتُ. قوله: (سمعه تاراتٌ)، أي: مسموعه، فلا يحتاج إلى التكرار. الأساس: فعل ذلك تاراتٍ وتارة بعد أخرى.

[(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)]. قرئ: (وَهَنَ) بالحركات الثلاث. وإنما ذكر العظم؛ لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده؛ لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر؛ وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبي عمرو ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَهَنَ): بالحركات الثلاث)، بفتح الهاء: السبعةُ، والضم والكسرُ: شاذ. الراغب: الوهن: ضعفٌ من حيث الخلقُ أو الخُلُق، قال تعالى: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)، وقال تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) [النساء: 104]. قوله: (ولأنه شد ما فيه)، عطفٌ على "لأنه عمودُ البدن"، يعني: أصلُ الكلام: ضعف بدني، وإنما كنى عنه بقوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) وخص العظم بالذكر؛ لأنه كالأساس للبدن وكالعمود للبيت، فإذا وقع الخللُ في الأُس وسقط العمود تداعي الخلل في البناء وسقط البيت، فالكناية مبنية على التشبيه، أو أن العظم أصلبُ ما في الإنسان فيلزم من وهنه وهنُ جميع الأعضاء بالطريق الأولى، فالكناية غير مسبوقة بالتشبيه. قوله: (وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها)، قال صاحب "الفرائد": ذُكر في أصول الفقه ان اللام إذا دخلت على الجمع بطل الجمعُ وتعلق الحكم بكل فردٍ فردٍ، باعتبار الجنس. سلمنا أن الجمع لم يبطل ولكن من أين يلزم المعنى الذي ذكره وهو القصد إلى أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها؟ غاية ما في الباب احتمال عدم وهن البعض لكن من الاحتمال لا يلزمُ الوجود، بل يمكن أن يكون القصد إلى كل واحدٍ من العظام؛ لأن هذا محتملُ اللفظ، كما أن ذلك محتمله، والوجه أن يقال: اختير الواحد احترازاً عن هذا الاحتمال.

شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار؛ ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأقولُ: إن الكلام إذا كان مُنصباً إلى غرضٍ من الأغراض جُعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوضٌ مُطرح، هذا نص المصنف في سورة "يس". المقصود من الإيراد في هذا المقام: إظهارُ الضعف في البدن وإبداءُ تساقط القوى؛ ألا ترى إلى أداة الحصر في قوله: "وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه" يعني: ما ذكر العظم لأن يكون الكلام فيه، بل لأن ينبه على ان هذا الجنس الذي هو عمود البدن وقوامه قد أصابه الوهن، ولو قيل: العاظم لرجع القصد إلى أن الكلام في العظام في أنه لم يهن بعضها فقط بل كلها؛ لأن ترك المفرد إلى الجمع ثم تحليته باللام الاستغراقية يُنبئ عن أن القصد إلى أنه لم يهن بعض العظام بل كلها، ويخرج عن المقصود، ألا ترى إلى تصريحه بالقصد في قوله: "لكان قصداً إلى معنى آخر" وتكريره. ونحوه قوله: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه: 69]، فإنه لو قيل: السحرة، لأوهم أن الجمعية معتبرةٌ في الحكم بعدم الفلاح، بخلاف المفرد، فإن القصد فيه أن هذا الجنس، وأن ما يقال له: الساحر، محكوم عليه بأنه لا يفلح. قوله: (شبه الشيب بشواظ النار)، إلى قوله: (وفشوه ... باشتعال النار)، كتب صاحب "الإيضاح". في حاشية كتابه: أن في جعل الآية من التشبيهين نظراً؛ لأن المذكور في طرفي التشبيه في الاستعارة بالكناية اسم المشبه دون المشبه به، والاستعارة بالكناية تستلزم الاستعار التخييلية، فإن التخييلية هي: إما إثبات أمر مختص بالمشبه به للمشبه، من يغر أن يكون هناك أمرٌ ثابت حساً أو عقلاً أطلق عليه اسم ذلك الأمر، وإما إطلاقُ لفظٍ على

ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا، ولم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صورة وهمية قُدرت مشابهة لصورة محققة هي معنى ذلك اللفظ، فلو كان تشبيه الشيب بشواظ النار كما ذكره مقصوداً في الآية لكانت استعارة بالكناية، ولو كانت استعارة بالكناية لكان قوله: (وَاشْتَعَلَ): استعارة تخييلية، وذلك لا يمكن؛ لأنه جعل انتشار الشيب في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذٍ تشبيهاً باشتعال النار، وهو ينافي ذلك الأمر لما مر أن الإستعارة التخييلية لا تعتمد المشبه أمراً محققاً، والأول أن يُجعل المشبه انتشار الشيب في الشعر، والمشبه به اشتعال النار، والجامع: فشو الشيء في الشيء. وقلتُ: إنما دخل عليه هذا من جعل التشبيهين تمهيداً لقاعدة الاستعارة المكنية؛ لأنها مستدعية لما ذكر، وذهب عنه أن التشبيهين تمهيدٌ للاستعارة التمثيلية وهو أن يُنتزع التشبيه من عدة أمور متصورة فلابد من سبق تشبيه حالة الشيب بحالة النار وحالة فشوه في الرأس وأخذه منه كل مأخذ بحالة اشتعال النار في الحطب الجزل. كما قال: واشتعل المبيض في مسوده ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا والجامع: سرعة انبساط بياض في سواد مع تعذر التلافي، ثم حُذف أحد طرفي التشبيه وهو المشبه وإخراج المشبه به مخرج المشبه ليتم أمر الاستعارة، وإليه الإشارة بقوله: "ثم أخرجه مخرج الاستعارة". وأما اختيار صاحب "الإيضاح": والأولى أن يجعل المشبه انتشار الشيب في الشعر، والمشبه به اشتعال النار، فمرجعه إلى الاستعارة التبعية، وهو لا ينافي ذلكا لتقرير، على أن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلاً كان أدخل في الحُسن. قوله: (ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر)، هذا أخذٌ في مشرع علم المعاني بعد الفراغ من مشرع علم البيان، يريد أن أصل الكلام: اشتعل شيب رأسي، فترك هذه المرتبة إلى ما هي أبلغ، هي اشتعل رأسي شيباً، وكونها أبلغ من جهات، إحداها: إسنادُالاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال؛ لأن وزان "اشتعل شيبُ رأسي" و"اشتعل رأسي شيباً"،

يضف الرأس؛ اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم: أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلىّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا. وقضى حاجته. [(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)]. كان مواليه وهم عصبته: إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدي به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزانُ "اشتعل النار في بيته" و"اشتعل بيته ناراً". وثانيها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز. ولثها: تنكير (شَيْباً) لإفادة التعظيم، ذكره صاحب "المفتاح" تفسيراً لقول المصنف. ولما بين المعنى من جهة البيان ومن جهة المعاني قال: "ومن ثم فصُحت هذه الجملة وشُهد لها بالبلاغة". قوله: (توسل إلى الله بما سلف له معه من الاستجابة)، قال القاضي: وفيه أيضاً تنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتاداً فإجابته معتادة، وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطعمه فيها، ومن حق الكريم ألا يجيب من أطعمه. قوله: (ويرتسم مراسمه). الجوهري: رسمت له كذا فارتسمه، أي: امتثله.

(مِنْ وَرائِي): بعد موتي. وقرأ ابن كثير: (من وراءي) بالقصر، وهذا الظرف لا يتعلق بـ (خِفْتُ) لفساد المعنى، ولكن بمحذوف، أو: بمعنى الولاية في الموالي: أي: خفت فعل الموالي؛ وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو: خفت الذين يلون الأمر من ورائي. وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضي الله عنهم: (خفت الموالي من ورائي)، وهذا على معنيين: أحدهما: أن يكون (وَراءِي) بمعنى: خلفي وبعدي، فيتعلق الظرف بالموالي: أي: قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه. والثاني: أن يكون بمعنى قدامى، فيتعلق بـ (خِفْتُ)، ويريد أنهم خفوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ ابن كثير)، وهي شاذةٌ. قال أبو البقاء: وهو من قصر الممدود. قوله: (لفساد المعنى)، إذ المراد بالموالي: العصبة، لقوله: "كان مواليه وهم عصبته". وإنما لزم فساد المعنى؛ لأن الخوف واقعٌ فيا لحال لا فيما يستقبل، ولو جعل (مِنْ وَرَائِي) متعلقاً بـ (خَفَّتْ) لزم أن يكون الخوفُ واقعاً فيما يُستقبلُ، فلابد من تقدير محذوف، أوجعل الموالي من الولاية بالكسر، أي: كل من يملك بعده لا العصبة فقط ليصح، فيقال على الأول: (خَفَّتْ) فعل عُصبتي بعد موتي. وعلى الثاني: خفتُ الذين يلون الأمر من بعد موتي، فاللامث في الموالي على هذا: موصولةٌ ليتعلق الظرفُ بصلتها، ولهذا قال: الذين يلون الأمر من ورائي، وعلى الأول: اللامُ: حرفُ التعريف. وفي الكلام لف ونشر. قوله: (خفتِ الموالي)، الأساس: ومن المجاز خفت حاله ورقت، وأخف فلانٌ: صار خفيف الال، وفاز المخفون. قوله: (فيتعلق الظرف بالموالي)، أي: خفت الذين يلون الأمر من ورائي. ويجوز أن يُراد بالتعلق أن يكون حالاً منه. قال ابن جني: (مِنْ وَرَائِي): حالٌ متوقعةٌ محكية، أي: خفوا متوقعاً متصوراً كونهم بعدي. ومثله مسألة الكتاب، مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، أي: متصوراً صيده غداً.

قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد. (مِنْ لَدُنْكَ): تأكيد لكونه وليا مرضيا، بكونه مضافا إلى الله تعالى وصادرا من عنده، وإلا فهب لي وليا يرثني كاف، أو أراد اختراعا منك بلا سبب؛ لأني وامرأتي لا نصلح للولادة. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ودرجوا)، الراغب: الدرجُ: طي الكتاب والثوب، ويقال للمطوي: درجٌ. واستعير الدرج للموتن كما استعير الطي له في قولهم: طوته المنية، وقولهم: من دب ودرج، أي: من كان حياً يمشي، ومن مات تطوى أحواله. قوله: (وإلا فهب لي ولياً يرثني كاف)، يعني (مِنْ لَدُنْكَ) يجب أن يُحمل على التأكيد، وإلا فالكلام مستغني عنه، وذلك أن قوله: (مِنْ لَدُنْكَ): تأكيدٌ لمعنى قوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي)؛ لأن هذا المطلوب، وما يكون من عند الله وموهبةً منه ومنسوباً إليه لا يكون إلا خيراً محضاً، فأكد بقوله: (مِنْ لَدُنْكَ) ذلك المعنى، فهو على هذا ظرفٌ لغوٌ، أو: صفةٌ لولي قُدمت فصارت حالاً مؤكدة، وهو معنى لطيف. والباء في قوله: "بكونه مضافاً" متعلقٌ بقوله: "تأكيدٌ"، أي: تأيدٌ بسبب كونه مضافاً إلى الله، ويجوز أن يكون (مِنْ لَدُنْكَ) حالاً منتقلة، وإليه الإشارة بقوله: "اختراعاً منك" أي: مخترعاً. قوله: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ))، بالجزم: أبو عمرو والكسائي، والباقون: برفعهما. قال الزجاج: "الجزم على جواب الأمر، والرفع على صفة الولي".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقال أبو البقاء: الجزمُ على الجواب، أي: ن يهب يرث، والرفعُ على الصفة لـ"ولي"، وهو أقوى من الأول؛ لأنه سأل ولياً هذه صفته، والجزمُ لا يحصلُ بهذا المعنى. وقال صاحب "المفتاح": وأما قراءةُ الرفع، فالأولى حملُها على الاستئناف دون الوصف، لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السلام. وقلتُ: وكان من قصتهما على ما رواه ابن الأثير في تاريخه "الكامل": أن الله بعث عيسى عليه السلام رسولاً فنسخ به بعض أحكام التوراة، وكان مما نُسخ آية حرمة نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، فنهاه يحيى عنها، كان لها كل يوم حاجة يقضيها لها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا سالك الملكُ: ما حاجتك؟ قولي: ان تذبح يحيى بن زكريا، فلما سألها قالت: أريد ذبح يحيى، وأبت إلا ذلك، فدعا بطستٍ وذبح يحيى، فقطرت من دمه قطرةٌ على الأرض، فلم تزل تغلي تى بعث الله بخت نصر، وألقى الله في قلبه أن يقتل على الدم من بني إسرائيل حتى يسكن، فقتل سبعين ألفاً حتى سكن. وروى السُّدي نحو هذا وأبسط. ولما قتل الملكُ يحيى وسمع أبوه قتله فر هارباً، فدخل بُستاناً فأرسل الملكُ في طلبه فمر زكريا بشجرة فنادته: هلُمَّ إلي يا نبي الله، فدخل وانطبقت عليه، فدلهم إبليس، فشقوا الشجرة بالمنشار، فمات زكريا فيها، فسلط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم منهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وأما سؤال صاحب "المفتاح" فواردٌ على الوجوه المذكورة في (يَرِثُنِي) كلها؛ لأن قوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً) مرتبٌ بالفاء على الدعاء، وهو: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إلى قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي)، وهو وصفٌ مناسبٌ لطلب ولدٍ شأنه أن يرث بعده. ويؤيده ما أورده محيي السنة في "المعالم": أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء، فسأل ربه ولداً صالحاً يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين، وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس. وروى قريباً منه المصنف. على أن الاستئناف أيضاً رابطٌ معنوي، سيما أنه في هذا المقام واردٌ لبيان الموجب، قال المصنف في أول "البقرة": "إن الكلام المبتدأ عقيب "المتقين" سبيله الاستئناف، وإنه مبنيٌّ على تقدير سؤال، فذلك إدراجٌ له في حكم "المتقين"، وتابعٌ له في المعنى، وإن كان مبتدأ في اللفظ، فهو في الحقيقة كالجاري عليه". والجواب الصحيح: أن الأنبياء وإن كانوا مستجابي الدعوة لكن ليس كل ما دعوه استجيب لهم؛ لأن قضاء الله لا يُدفع، ألا ترى إلى إبراهيم عليه السلام ودعائه في حق أبيه، وإلى دعوة نبينا صلوات الله عليه على ما رويناه عن الترمذي والنسائي، عن الخباب بن الأرت، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها، فقالوا: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها؟ قال: "أجل، إنها صلاة رغبة ورهبة، إني سألتُ الله فيها ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألته أن لا يُهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يُسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يُذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". وفي رواية

الجزم جواب الدعاء، والرفع صفة، ونحوه: (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص: 34]، وعن ابن عباس والجحدري: (يرثنى وارث آل يعقوب) نصب على الحال. وعن الجحدري: (أو يرث) على تصغير وارث، وقال: غليم صغير. وعن على رضي الله عنه وجماعة: (وارث من آل يعقوب) أي: يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النسائي: "وسألت ربي أن لا يُلبسنا شيعاً فمنعنيها". وروى ابن ماجه، عن مُعاذ بن جبل نحوه. وكان من قضاء الله وقدره: أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يُقتل ويغلي دمه ليتيح لثأره بُخت نصر، ويسكنه بقتل سبعين ألفاً، فاستجيب دعاء زكريا في أن بُشر بغلام اسمه يحيى، ولم يجعل له من قبل سميا، ونودي: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً)، ومُنع من أن يكون وارثاً لأبيه من بعده. كما كان من قضاء الله وقدره: أن يُقتل عثمانُ رضي الله عنه مظلوماً فيُهدر بسببه دمُ جم غفيرٍ من الصحابة والتابعين يوم صفين والجمل وغيرهما، فاستجيب دعاؤه صلات الله عليه في تينك الخصلتين دون الثالثة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، والله أعلم بحقائق الأمور. قوله: (يرثني وارث آل يعقوب)، بنصب "وارث"، قيل: هو: حالٌ، أي: يرث علمي ويرث علم آل يعقوب. وقال القاضي: هو نصبٌ على الحال من أحد الضميرين. قوله: (ويُسمى التجريد في علم البيان)، والتجريد هو: ان ينتزع من متصف بصفة آخر مثله فيها مبالغة لكمالها فيه، نحو: رأيت بفلانٍ أسداً، ولقيني منه أسدٌ. قال ابن جني: وهي قراءة علي وابن عباس وابن يعمر والحسن والجحدري وقتادة وجعفر بن محمد، وهو ضربٌ من العربية غريبٌ معناه التجريد، يريد: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي) منه أو به وارثٌ من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثاً، ومثله قوله تعالى: (لَهُمْ

والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم؛ لأنّ الأنبياء لا تورّث المال. وقيل: يرثني الحبورة وكان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال: ورثته وورثت منه، لغتان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ) [فصلت: 28]، وهي بنفسها دارُ الخلد، فكأنه جرد من الدار داراً. وقد أفردنا لهذا الضرب باباً من كتاب "الخصائص" فاعرفه، فنه موضعٌ غريب لطيف. قوله: (والمراد بالإرث: إرثُ الشرع والعلم)، قال الزجاج: قيل: لا يجوز أن يُقال: إن زكريا خاف أن يورث المال؛ لأن الأنبياء والصالحين لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جُعِلَ لهم، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة". الراغب: الوراثة: انتقال قُنيةٍ إليك عن غيرك من غير عقدٍ. ولا ما يجري مجرى العقد، وسُمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة: ميراثٌ وإرثٌ وتراثٌ، ويقال: ورثت مالاً عن زيد وورثت زيداً. قال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) [النمل: 16]، وقال: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) [النساء: 11]، وقال: الوراثة الحقيقية هي: ان يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعةٌ ولا عليه محاسبة، وعباد الله الصالحون لا يتناولون من الدنيا إلا بقدر ما يجب، وفي وقت ما يجب، على الوجه الذي يجب، ومن تناول الدنيا على هذا الوجه لا يحاسب عليه ولا يعاقب، بل يكون له عفواً صفواً، كما رُوي: "من حاسب نفسه في الدنيا لم يحاسب في الآخرة". قوله: (الحُبورة)، قيل: وُجد بخط المصنف: كأنها مصدرُ "حبُرَ" الرجل، كـ"قَضُوَ"؛ إذا تُعجب من قضائه، وإلا الحُبور: هو السرور.

وقيل «من» للتبعيض لا للتعدية؛ لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل: هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود. [(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)]. (سَمِيًّا): لم يسمّ أحد بـ (يحيى) قبله، وهذا شاهد على أنّ الأسامي الشنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية؛ لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، حتى قال القائل في مدح قوم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: الأحبار: العلماء، جمعُ حبرٍ بالفتح والكسر، وكان يقالُ لابن عباس: البحر والحبر، لسعة علمه. قوله: (وقيل: من: للتبعيض)، عطفٌ على قوله: "قيل: يرثني الحبورة"، على أن "مِن" على الأول: صلةٌ لـ"ورث"، لقوله: "ورثته وورثت منه". قوله: (على أن الأسامي الشُّنُعَ)، الأساس: شنعتُ عليه هذا الأمر: قبحته عليه، وله اسم شنيعٌ، وقومٌ شنع الأسامي. قوله: (جديرة بالأثرة)، الجوهري: استأثر فلانٌ بالشيء: إذا استبد به والاسم: الأثر. قوله: (وأنزه عن النبز)، الجوهري: النبز، بالتحريك: اللقب، وفلانٌ ينبز بالصبيان: يلقبهم. قال المصنف رحمه الله في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً) [الأنعام: 74]: "آزرُ: اسم صنمن يجوز ان يُنبز به للزومه عبادته، كما نُبز ابن قيس بالرقيات اللاتي يُشبب بهنَّ، وانشد بعضهم: أُدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... ان أسماء أضحت بعض أسمائي

شنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب وقال رؤبة للنسابة البكري - وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت. وقيل: مثلا وشبيها. عن مجاهد، كقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم: 65)، وإنما قيل للمثل «سمىّ»؛ لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه، والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمىّ لصاحبه، ونحو «يحيى» في أسمائهم: (يعمر)، و (يعيش) إن كانت التسمية عربية؛ وقد سموا بـ (يموت) أيضا؛ وهو يموت ابن المزرع، قالوا: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، وأنه كان حصورا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما كان أنزه؛ لأن الاسم القبيح لا يرغب فيه أحدٌ فيختص به ويُشتهر، فلم يحتج إلى التعريف والتلقيب به. و"عن" متعلقٌ بـ"أنزه"، و"مِن": محذوف، أي: التسمية بالسامي الشنُع لينفرد بها ويُشتهر أنزه من غيرها عن التلقيب والشهرة، ولهذا سمى كُليبا وعنترة وتأبط شرا، كأنهم اختاروا الاسم الشنيع لأجل الغرابة لئلا يُشاركهم فيه أحدٌ كـ"يحيى"، لا أن "يحيى" اسمٌ شنيع. قوله: (مُسبلي أزُر حُمر)، "حُمرٍ": صفة "أزُر"، "مُسبلي": كناية عن الكبر. قوله: (مثلاً وشبيهاً)، عطفٌ على قوله: "لم يُسم أحدٌ بيحيى قبله". قوله: (وأنه كان حصوراً)، يريد قوله تعالى فيه: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 39]. قال: الحصورُ: الذي لا يقرب النساء حصراً لنفسه، أي: منعاً لها من الشهوات. وقيل: هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسرن فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.

[(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)]. أي: كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد؛ لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السببان جميعا أرزقه؟ ! فإن قلت: لم طلب أولا وهو وامرأته على صفة العتىّ والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قلتُ: ليُجاب بما أجيب به)، قال صاحب "الانتصاف": لا يجوز لنبي النطقُ بما لا يسوغُ لطلب مثل ذلك، أي: لتثبيت المؤمن وردِّ المبطل، إذ يمكن حصوله بدونه، فإن زكريا طلب ولداً على الجملة، وليس في الآية ما يدل على أنه لا يوجد وهو هرمٌ، ولا أنه من زوجته وهي عاقرٌ، ولا أنه تعادُ إليهما قوتهما وشبابهما، كما فُعل بغيرهما، أوي كون الولد من غير زوجه العاقر، فاستخبر عن ذلك، فقيل له: (كَذَلِكَ)، أي: يكون الولد وأنتما كذلك. قلت: وخلاصته أن الاستفهام في الآية ليس للتعجب والاستبعاد، ولهذا قال الإمام: إن المقصود من قوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) هو التعجب منأنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد، والدليل عليه قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90]، وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد إليها قوة الولادة، أو انه ما ذكر ذلك للشكن لكن لتعيم القدرة، وهذا كالرجل

كان على منهاج واحد: في أنّ الله غنى عن الأسباب. أي: بلغت عتيا: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل. يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو: بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي يرى صاحبه وقد وهب الكثير الخطير فيقول: أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا؟ تعظيماً للموهوب، أو أن من شأن من فوجئ ببشارة ما يتمناه فرط السرور وفقد الاستثبات والذهول عن مقتضيات الفكر، كما قالت: (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود: 72]، حتى قيل لها: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [هود: 73]. قوله: (كالعود القاحل)، الجوهري: قحل الشيء يقحل قحولاً: يبس فهو قاحلٌ. قوله: (والطعن في السن العالية)، الأساس: ومن المجاز: خرج يطعن الليل: يسري فيه، وطعن في السن العالية. قوله: (ما يسمى عتيا)، قيل: "مِن" هنا للتبعيض، حالٌ من "عتيا"، أي: بلغتُ عتياً حال كونه بعض مراتب الكبر، وعلى الأول: ابتدائية، أي: بلغت سناً عالية ابتداؤها جهة الكبر، وقوله: "من أجل الكبر" يشير به إلى أن "مِنْ" مثلها في قولك: جئتك من أجل إكرامك، أي: لأجل إكرامك، وتحقيقه أن "مِن": ابتدائية، و (مِنْ الْكِبَرِ): مفعولٌ له. وقلتُ: ويمكن أن يكون "مِن" على الوجه الأخير: بيانية، هي مع المجرور: حالٌ من (عِتِيّاً) قُدمت لأن صاحبها نكرة. ولما كانت "مِنَ" البيانيةُ تجريدية قال: "ما يُسمى عتيا"، أي: انتزع من مدارج الكبر ومراتبه مرتبة تسمى عتيا، كقولك: لقيت منه أٍداً، يدل عليه قوله - في تفسير قوله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان 74]: " (مِن) يحتملُ أن تكون بيانية، كانه قيل هب لنا قُرة أعين، ثم بينت القرة بقوله: (مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا) [الفرقان: 74]، وهو من قولهم: رأيت منك أسداً، وعلى الوجه الآخر: ابتدائية"، ولما كان معنى الابتداء الإنشاء قال: "من أجل الكبر"، يدُل عليه قوله-

وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين، وكذلك (صليا) [مريم: 70]، وابن مسعود بفتحهما فيهما. وقرأ أبىّ ومجاهد: (عسيا). [(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)]. (كَذلِكَ) الكاف رفع، أي: الأمر كذلك تصديق له، ثم ابتدأ: (قالَ رَبُّكَ) أو نصب بـ (قال)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في تفسير قوله: (أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ) [المائدة: 83]-: " (من" ابتدائية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه". قوله: (وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص)، (عِتِيّاً) و (صِلِيّاً) و (جِثِيّاً) وجميع ما في هذه السورة بكسر أوله، والباقون: بضم أول ذلك. قوله: (بفتحهما فيهما)، أي: في (عِتِيّاً) و (صِلِيّاً). وروى ابن جني عن ابن مجاهد أنه قال: لا أعرف لهما في العربية أصلاً، ويُقرأ مع ذلك بضم الباء في "بُكياً"، وأقولُ: له في العربية أصلٌ وهو ما جاء من المصادر على فعيل، نحو: الحويل والزويل والنخير، وأما البُكيُّ فجماعةٌ، وهي فعولٌ، كالحُي والدلي والحلي. قوله: (أو نصبٌ بـ (قَالَ))، أي: "قال" الثانية، وكذا عن القاضي قال: الكافُ منصوبٌ بـ (قَالَ) في (قَالَ رَبُّكَ). وقلت: إنما أعمل الثاني دون الأول، لأنه لا يكاد يوجد في الكلام الفصيح، لا سيما في التنزيل "كذلك" وهو منصوب، وعامله مقدمٌ عليه، بل يكون موجزاً، نحو: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) إلى غير ذلك، وذلك لأنه واسطه يلحق ما بعده

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... على ما قبله على سبيل التشبيه، بخلاف ما إذا كان مرفوعاً، فإن الجملة حينئذ للتقرير، وعليه كلامُ صاحب "التقريب": الكافُ إما رفعٌ، وذلك إشارةٌ إلى قول زكريا أي: الأمر كذلك تصديقاً له. ثم ابتدأ (قَالَ رَبُّكَ) فينتصب (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، و"كذا" وهو على قراءة "الواو" بـ (قَالَ)؛ أي: قال: وهو على ذلك يهون علي، وإما نصب بـ (قَالَ) وذلك مبهمٌ تفسيره (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، فعلى قراءة الواو لا يكون تفسيراً لوجود العاطف، فالوجه أن يُشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله حتى لا يحتاج إلى تفسير، أي: قال قولاً مثل ذلك الوعد، فحينئذ يبقى (عَلَيَّ هَيِّنٌ) بالواو وبدونها غير منصوب بـ (قالَ) المُظهر، لاشتغاله بما قبله، فيُضمر "قال" على كلتا القراءتين لينصبه، أو لا يضمر؛ لأن الله هو المخاطب. وقلت: تمام تقريره أن المشار إليه بقوله: (ذَلِكَ) إما الكلام السابق وهو قول زكريا: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ... ) إلى آخره، أو اللاحق، وهو قول: (عَلَيَّ هَيِّنٌ)، فعلى الأول، (كَذَلِكِ): خبر مبتدأٍ محذوف، إذ التقدير: الأمرُ كما قلت، فتكون الجملة الثانية على تقدير جواب عن سؤال سائل: فماذا قال الله تعالى بعد تصديقه إياه؟ فأجيب: قال ربك- يا محمد-: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً). وعلى الثاني: المشار إليه ما في الذهن، والدال عليه قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ). وهذا إنما يصح على القراءة الأولى لا على إثبات الواو، لوجود العاطف، فحينئذ الواجب أن يستنبط وجه يشملهما، وهو أن يقال على تقدير النصب: إن المشار إليه ما تقدم من وعد الله، فلا يكون المقول مبهماً لما عُلم أنه قولٌ مثل ذلك الوعد في الغرابة، وهو المراد من قوله: "لاشتغاله بما قبله"، فكأنه قيل: قال الله قولاً مثل ذلك لقول العجيب الشأن، وهو: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ... ) إلى آخره، فاتجه لسائل ان يقول: ما ذلك القول

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... المُشبه بعينه؟ فقيل: قال: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أو قال: أفعل ذلك، و (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، وهو المعنى بقوله: "أي: قال: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ". ويجوز أن لا يُقدرَ "قال"، إذ لا ارتياب أن المتكلم هو الله تعالى في الحقيقة، فإذا اعتبر معنى التجريد في "قال" الثاني يقدر ثالث يحكي قول الله تعالى، فتقول: قال الله تعالى- يا محمدُ - لزكريا قولاً مثل ذلك القول، فيتجه له أن يقول: ما ذلك القول الذي قال ربي؟ فيجيبه: قال: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، وإذا لم يعتبر معنى التجريد، يُقدرُ: قال الله تعالى لمحمدٍ قلت لزكريا قولاً مثل ذلك القول: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، فلا يقدر سؤال ولا "قال" ثالثاً. و"قوله الحق" تذييل، كقولهم: فلانٌ ينطق بالحق والحق أبلج، وحاصله: أن المشار إليه بـ "ذلك" إما قول زكريا أو ما في الذهن أو وعد الله تعالى، فعلى الأول: والكاف مرفوع خبر مبتدأ محذوف، والجملة مقول القول، و"قال" الثاني استئناف، فتكون الجملة الثانية على هذا التقرير جواباً عن سؤال مقدر، وهو: فماذا قال الله تعالى بعد تصديقه إياه؟ فأجيب: قال ربك: هو علي هين، أو: قال: أفعل ذلك وهو علي هين، وعلى الوجهين الأخيرين: الكاف صفة مصدر محذوف، والعامل "قال" الثاني: وهو مع ما في حيزه مقول لـ"قال" الأول، فعلى أن يكون المشار إليه ما في الذهن قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) تفسير للمشار المبهم في الذهن، فلا يجوز إثبات الواو بين المفسر والمفسر، وعلى أن يكون المشار إليه الوعد يجوز أن يُقدر "قال" بعد "قال" الثانية، ليكون قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) قولاً له بإثبات الواو وإسقاطه، فالتقدير أنه تعالى لما قال قولاً قبل ذلك القول المبشر به اتجه لسائل أن يقول: ما مثل ذلك المبشر به؟ فأجيب: مثله: قال هو علي هين، أو أفعل ذلك وهو علي هين، ويجوز أن لا يقدر "قال" لأن المتكلم لما كان هو الله تعالى جاز أن لا يقدر، لما سبق أن "قال" الثانية مع قولها مقول القول الأول، فالمعنى قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: قلت لزكريا قولاً مثل ذلك القول هو علي هين، أو هو علي هين، فوضع "ربك" موضع ضمير المتكلم إشعاراً بالعلية، وأن كل ما يقوله الرب يكون حقاً ووعده صدقاً.

وذلك إشارة إلى مبهم يفسره: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، ونحوه: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر: 66]، وقرأ الحسن: (وهو على هين)، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر: وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله، لا إلى قول زكريا. و «قال» محذوف في كلتا القراءتين؛ أي: قال هو علىّ هين، قال وهو علىّ هين، وإن شئت لم تنوه؛ لأن الله هو المخاطب، والمعنى: أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق. (شَيْئاً) لأن المعدوم ليس بشيء. أو شيئا يعتدّ به، كقولهم: عجبت من لا شيء، وقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف موقع "قال" الأولى إذا كان المشار إليه وعد الله؟ قلت: استئناف أيضاً، وذلك أنه تعالى لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه بشر زكريا بالولد، ثم أخبر عن تعجيب زكريا من ذلك، سأل سائل: بماذا أخبر الله تعالى نبيه؟ أجاب: قال: قال ربك إلخ، إذ لا يحسنُ أن يُقال: قلتُ: قال: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، فوضع موضع المضمر المظهر، وهو (رَبُّكِ) للإشعار بأن قول ربك حق ووعده صدق، وهو المراد من قوله: "والمعنى: انه قال ذلك ووعده وقوله الحق"، و"قوله الحق" تذييلٌ، كقولهم: فلانٌ ينطق بالحق والحق أبلج. قوله: (عجبت من لا شيء) يجوز فيه الفتح، وهو ظاهرٌ، والجر وفيه وجهان، أحدهما: أن تكون "لا" زائدة لفظاً لا معنى، أي: لا تكون عاملة في اللفظ، ويكون مراده من حيث المعنى، فتكون صورتها صورة الزيادة، ومعنى النفي فيه: كقول النابغة: أمسى ببلدة لا عم ولا خال وقول الشماخ:

إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب: (خلقناك). [(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا ما أدلجت وصفت يداها ... لها إدلاج ليلة لا هجوع "لا هُجوعِ": صفةُ "ليلة"، أي: ليلةً النومُ فيها مفقودٌ؛ لأن الهجوع: النومُ. وثانيهما: أن يكون (لا) غير زائدة، لا لفظاً ولا معنى، كقولهم: غضبتُ من لا شيء، وجئتُ بلا مال. قال أبوعلي فـ"لا" مع الاسم المنكور: في موضع جر، بمنزلة خمسة عشر وقد بُني الاسمُ بـ"لا". قوله: (إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً)، أوله للمتنبي: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم هو مأخوذ من قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ) [المنافقون: 4]. قال صاحب "الانتصاف": قوله: "المعدوم ليس بشيء" هوا لحق، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن المعدوم الممكن شيءٌ، فلهذا مال إلى التأويل الثاني، فنفي كونه شيئاً معتداً به مع بقاء كونه شيئاً، وبقاء الآية على ظاهرها أولى. وقال القاضي: في الآية دليل على أن المعدوم ليس بشيء. قوله: (وقرأ الأعمش والكسائي)، قال صاحب "التيسير": وحمزة أيضاً.

أي: اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال: علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح سوىّ الخلق، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن. [(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)]. أوحى: أشار. عن مجاهد، ويشهد له (إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران: 4]. وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض (سَبِّحُوا): صلوا، أو على الظاهر، و (أن): هي المفسرة. [(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)]. أي: خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد. (الْحُكْمَ) الحكمة. ومنه: واحكم كحكم فتاة الحي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أوحى: أشار)، الراغب: الوحيُ: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: أمرٌ وحي، وذلك يكونُ بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد، إشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) فقد قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل: كتب. وعلى الوجوه المذكورة في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام: 112]. قوله: (واحكم كحكم فتاة الحي) تمامه: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد

يقال: حكم حكما كحلم؛ وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين. عن ابن عباس. وقيل: دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبى فقال: ما للعب خلقنا. عن الضحاك. وعن معمر: العقل. وقيل: النبوّة؛ لأنّ الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الثمد": الماء القليل الذي لا مادة له. "إلى حمامتنا" أي: مع حمامتنا. و"قد" بمعنى: حسب. الجوهري: قولهم: قدك أي: حسبك، فهو اسم، تقول قدي وقدني، وبالنون شاذ. قال الميداني: قال النابغة في زرقاء اليمامة، يخاطب النعمان: واحكم كحكم فتاة الحي، وكانت نظرت إلى سرب حمام طائر فيه ست وستون حمامة، وعندها حمامة واحدة، فقالت: ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه ونصفه قديه ... تم الحمام ميه وقال بعض أصحاب المعاني: إن النابغة لما أراد مدح هذه الحكيمة الحاسبة بسُرعة إصابتها، شدد الأمر وضيقه ليكون أحسن له إذا أصابت، فجعلها حزرة للطير، إذ كان الطيرُ أخف ما يتحرك، ثم جعله حماماً، إذ كان الحمام أسرع الطير، ثم كثر العدد، إذ كانت المسابقة مقرونة بها؛ لأن الحمام يشتد طيرانها عند المسابقة، ثم ذكر أنها طارت بين نيقين؛ لأن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع طيراناً منه إذا اتسع عليه الفضاء، ثم جعله وارداً لما أعانه الحرص على الماء على سرعة الطيران. قوله: (وقيل: النبوة)، قال الإمام: الأقرب هذا؛ لأنه تعالى ذكر هاهنا مناقب شريفة ليحيى على سبيل المدح، ولا ارتياب أن أشرفها النبوة، فوجب حمله عليها. وروى الواحدي عن ابن عباس، أن الحكم: النبوة، وقال أيضاً: المعنى: فوهبنا له وقلنا: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)، والكتابُ: التوراةُ.

[(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا)]. (حَناناً): رحمة لأبويه وغيرهما، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: ويحتملُ كتاباً خُص به، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأول أوجه؛ لأن حمل التعريف على المعهود السابق أولى، ولا معهود سوى التوراة. وقلتُ: يحمل على العهد الذهني لقرائن الأحوال، كقول عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) والكتاب هو الإنجيل. قوله: ("حناناً" رحمةً لأبويه)، وهو مصدرٌ بمعنى الاسم، أي: التحنن، بدليل قوله: "وتعطفاً". قال الراغب: الحنين: النزاعُ المتضمن للإشفاق، يقال: حنت المرأة والناقة لولدها، وقد يكون مع ذلك صوت، ولذلك يُعبرُ بالحنين عن الصوت الدال على النزاع والشفقة، أو متصور بصورتهن على ذلك حنين الجذع، ولما كان الحنين متضمناً للإشفاق، والإشفاق لا ينفك عن الرحمة، عبر عن الرحمة به في نحو قوله تعالى: (وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا)، ومنه قيل: الحنان المنان، وحنانيك: إشفاقُ بعد إشفاق. وقال أبو البقاء: (وَحَنَانَاً): معطوفٌ على الحكم، أي: وهبنا له تحنناً. وقيل: هو مصدرٌ، وقوله: (وَبَرّاً)، أي: وجعلناه براً، وقيل: براً: معطوفٌ على خبر "كان". وقلت: وسلامٌ: معطوفٌ من حيث المعنى على (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ)، كأنه قيل وآتيناه الحكم صبياً وجعلناه براً لوالديه وسلمناه في تلك المواطن المُوحشة، فعدل إلى

وقالت: حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف وقيل: حنانا من الله عليه. وحنّ: في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة، وقيل لله: «حنان» كما قيل: «رحيم» على سبيل الاستعارة. والزكاة: الطهارة، وقيل الصدقة، أي: يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجملة الاسمية لإرادة الثبات والدوام، هي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى. وفي قوله: (وَيَوْمَ يَمُوتُ) إشارة إلى أن القتل أيضاً موتٌ مقدرٌ بأجل، خلافاً للمعتزلة. قوله: (وقال: حنانٌ: ما أتى بك) البيت، رُوي عن المصنف أنه قال: "ما" في البيت: إبهامية، كما تقول: أمرٌ ما جءا بك هاهنا، رأى رجلاً غريباً أنكر مجيئه إلى الحي فقال: قل لي رحمةً منك: ما جاء بك هاهنا أقريبٌ ذو نسب أتى بك أم أنت عارفٌ بالحي وجئت لمعرفتك بهم؟ أوله: وأحدث عهداً من أميمةَ نظرةٌ ... على جانب العلياء إذ أنا واقفُ تقول حنانٌ ... البيت. قوله: (وحنَّ: في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة)، فيكون مجازاً؛ لأن العطف والرأفة سببا الاشتياق والارتياح. وفي "الأساس" بخلافه؛ لأنه ذكر في قسم الحقيقة: حن إلى وطنه، وحن عليه حناناً: ترحم عليه، وكيف ما كان استعماله في حق الله تعالى استعارةٌ تبعيةٌ لمعنى إنعامه على عباده ولُطفه بهم؛ لأن الوالد إذا عطف على ولده وأهر الشفقة فيحقه لطف به وأنعم عليه.

[(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)]. سلم الله عليه في هذه الأحوال، قال ابن عيينة: إنها أوحش المواطن. [(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)]. (إِذِ) بدل من (مَرْيَمَ) بدل الاشتمال؛ لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا؛ لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل: قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكرُ وقتها)، أي: في الإبدال إشارةٌ إلى أن المقصود الأولى في هذا المقام استحضارُ ذلك الوقت الذي حدثت تلك الحادثة الغريبة فيه في ذهن السامع ومشاهدته ليتعجب منه، وكذلك فعل في قصة زكريا عليه السلام في قوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ). قوله: (والانتباذُ: الاعتزالُ والانفراد)، الراغب: انتبذ فلانٌ: اعتزل اعتزال من تقلُّ مبالاته بنفسه فيما بين الناس، والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، ولذلك يُقال: نبذته نبذ النعل الخلق، قال تعالى: (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) [الهمزة: 4]، (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) [آل عمران: 187] لقلة اعتدادهم به، وصبيٌّ منبوذٌ ونبيذٌ، كقولك: لقيطٌ وملقوط، لكن يُقال: منبوذٌ باعتبار من طرحه، وملقوطٌ باعتبار من تناوله. قوله: (أو من دارها)، عطفٌ على "مما يلي" بأن يُقدر: مما يلي شرقي دارها، أي: مكاناً من الذي يقربُ شرقي بيت المقدس أو بقرب شرقي دارها. قوله: (في مشرقةٍ)، أي: موضع القعود لإشراق الشمس. الأساس: قعدوا في المشرقة وتشرقوا.

أو شيء يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر (سويا) سوىّ الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو: حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس؛ بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها، فانفجر السقف لها، فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل، فأتاها الملك. وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها، اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل: إنّ النصارى اتخذت المشرق قبلة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سَوِيّاً) سوى الخلق)، الراغب: السوي يقالُ: فيما يُصان عن الإفراط والتفريط من حيث القدرُ الكيفية، قال تعالى: (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) [طه: 135]، ورجلٌ سويٌّ: استوت أخلاقه وخلقته عن الإفراط والتفريط. قوله: (وسبراً لعفتها)، المُغرب: سبر الجرح بالمسبار: قدر غوره بحديدة أو غيرها. قوله: (زوج أختها) قيل: الصواب: خالتها، وقد سبق في آل عمران تحقيقه. قوله: (لتفلي رأسها). الأساس: فليت رأسي واستفليته واستفليت رأسي: طلبتُ أن يُفلي. ومن المجاز: فليتُ الشعر: تدبرته عن معاينة. الجوهري: فليت رأسه من القمل. قله: (في صورة تربٍ لها)، الجوهري: قولهم: هذه تربُ هذه، أي: لدتها، وهُنَّ أترابٌ.

لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح: جبريل، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه الله روحه على المجاز؛ محبة له وتقريباً، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقرأ أبو حيوة: (روحنا) بالفتح؛ لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الرّوح عند الله الذي هو عدّة المقرّبين في قوله (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة: 88 - 89]، أو لأنه من المقرّبين، وهم الموعودون بالروح، أي: مقرّبنا وذا روحنا. [(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)]. أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به، فإني عائذة به منك، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو سماه الله روحه على المجاز)، هذا يوهم أن الوجه الأول لا مجاز فيه، لكن هذا المجاز في الإضافة للتشريف على نحو: بيت الله وناقة الله، الأول من إطلاق المُسبب على السبب، لقوله: "لأن الدين يحيا به"، وإحياؤه الدين أيضاً مجازٌ عن إظهاره وتنويهه. قله: (وإصابة الروح)، بالرفع، عطفٌ على "روح العباد" على أن يُراد بالروح: القرآن، فيكون من باب عطف الخاص على العام اهتماماً؛ لأن قوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) [الواقعة: 88 - 89] بعضٌ منه. ويؤيده رواية الجر عطفاً على "ما" في "لِما". ويجوزُ أن يكونا لرفعُ عطفاً على سبيل البيان، كما أن قوله: "ونُوحيه" عطفٌ على الهاء في "به" كذلك، أي: أنه سبٌ لما فيه إصابة الروح عند الله؛ لأنه عليه السلامُ نزل بقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) [الواقعة: 88 - 89] وهو عدةُ المقربين. قوله: (أو لأنه من المقربين)، أي: إنما قال: "روحنا" لأنه من المقربين، وإنما سُمي المقربون بالروح، لأنهم وُعدوا به فيكون مجازاً بأدنى ملابسة، فالوجهان في هذه القراءة كالوجهين في القراءة الأولى مجازاً وإضافة. نعم الإضافة الأولى أعلى وأسنى. قوله: (وتحفل بالاستعاذة)، الجوهري: حفلت بكذا، أي: باليت به، يقال لا تحفل به.

كقوله تعالى (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [هود: 86]. [(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)]. أي: إنما أنا رسول من استعذت به، (لِأَهَبَ لَكِ) لأكون سببا في هبة الغلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله تعالى: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [هود: 86]، قال المصنف فيه: "ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرامٌ خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين"، ووجه الشبه أن المتقي إنما يكون متقيا إذا أشرف على محارم الله تعالى ولا يهتك حرمته فيها، كما أن المؤمن إنما يكمل إيمانه إذا اعتقد أن القليل من الحلال خيرٌ من الكثير من الحرام، وفائدة هذا الأسلوب: الانزجار على الوجه الأبلغ، ولا يُسلك إلا بمن يدعي أنه متصفٌ بتلك الصفة، وهو غالٍ فيها، ومن ثم روى البخاري، عن أبي وائل، قال: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: (إِنْ كُنتَ تَقِيّاً). ذو نُهية، أي ذو عقل، وقال محيي السنة: هذا كقول القائل: إن كنت مؤمناً فلا تظلمني، أي: ينبغي أن يكون إيمانُك مانعاً من الظُّلم. وقلت: مثاله في الشاهد قولك لمن تخاف غائلته وتعرفُ أنه ممن يتقي سطوات الملك العادل: أنا أستجير منك إلى الملك العادل إن كنت تتقي سطواته، فإذا بلغ تماديه في الغي إلى انه لا يرتدع بمثل هذا الرادع، قلت للملك العادل: أنا ألوذ إليك وأستجير بكنفك من معرة فلان، فقولها: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36] من هذا المقام. قوله: (لأكون سبباً لهبة الغُلام). الراغب: الهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير

بالنفخ في الدرع. وفي بعض المصاحف: (إنما أنا رسول ربك أمرني أن أهب لك). أو هي حكاية لقول الله تعالى. [(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)]. جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عوض، وقوله: (لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً) نسب الملكُ الهبة إلى نفسه لكونه سبباً، وقرئ: "ليهب لك" فنُسبَ على الله عز وجل، فهو على الحقيقة، ويوصف الله تعالى بالواهب والوهاب بمعنى أنه: يُعطي كلا على قدر استحقاقه. قوله: (أو هي حكاية لقوله عز وجل)، فالتقدير: أنا رسول ربك حاملاً لوحيه أني طهرتك واصطفيتك لأهب لك غُلاماً زكيا، أي: مطهراً. قوله: (جعل المس عبارة عن النكاح الحال)، قال الإمامُ: ولقائل أن يقول: قولها: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) يدخل تحته قولها: (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) فلماذا أعادها؟ ويُقوي السؤال قولها في آل عمران: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران: 47]، والجواب من وجهين، أحدهما: أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال. وثانيهما: أن إعادتها لتعظيم حالها، كقوله تعالى: (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98]؛ فذكرث البغي بعد دخوله في الكلام لأنه أعظمُ ما في بابه، لأن من لم تُعرف من النساء بالتزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولدٍ أن تكون زانية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... وقلت: الوجه الأول أقضي لحق البلاغة، ولهذا اختاره المصنف؛ لأن قوله: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ): حالٌ مقررةٌ لجهة الإشكال، وردت على الكناية عن النكاح الحلال مقرونة بأخرى لإرادة التقسيم الحاصر، فيفيد أن عُلقمة الولد ومظنة حصول الغلام عُرفاً، إنما يكون بطريق النكاح أو السفاح، وما لم يوجدا كيف يُتصور وجوده؟ لكن في تعليله جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كنايةٌ عنه، حزازة؛ لأنه جاء في آل عمران ولم يُرد به هذه الكناية، بل العبارة الجيدة أن يُقال جعل المس عبارة عن النكاح في هذا المقام لوقوعه قرينة لقوله: (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) لإفادة التقسيم الحاصر. فإن قلت: كيف طابق قولها: (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) قوله: (لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً)، فإنه نفي كل الريبة والتهمة بقوله: (زَكِيّاً)؟ قلتُ: كأنها من فرط تعجبها وغاية استبعادها نبذت الوصف وراءها ظهرياً، وأتت بالموصوف، وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه، أي: ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع، بله الوصف! وهو قريبٌ من الأسلوب الحكيم. ولما كان الاهتمام بشأن النفي في الثاني أتم "آثرته"، كأن الإيذان بأن انتفاء الفجور لازمٌ لها، وبعيدٌ أن تتصف بما يخالف العفة؛ لأنها كانت من بيت العفة ومعدن الطهارة، ألا ترى إلى قولهم: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) [مريم: 28]؟ وبهذا ظهر أن قول من قال: إن هارون كان رجلاً صالحاً أخاً لها هو القول. قال الراغبُ: كأن ما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصفٍ له تنبيهٌ على أن ذلك الوصف لازمٌ له قليل الانفكاك، كقوله تعالى: (وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) [الإسراء: 67]. وقلت: وقد جاء في فرد من أفراد الجنس باعتبار وصفٍ يجعله كالجنس، نحو: (مَّا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40] وما نحن بصدده من هذا القبيل. فإن قلت: قول الإمام: "ويُقوي السؤال ما في آل عمران"، يوهم أن القرينة الأولى كافية في الجواب عن قوله: (لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً)، فكيف وقوعها في هذا المقام دون ذلك، والقصة واحدة؟ قلت: يجوز أن يكون ما في آل عمران بشارة أخرى من الملائكة بعد هذه البشارة من جبريل، بشرت أولاً بموهوب زكي ثم بموهوب موصوف بتلك الصفات الكوامل، فحقيقة البشارة في الكرة الثانية: جعلُ ذلك المهول نبياً ذا آيات بينات، كقوله تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ) لأن البشارة هي الإخبار بما يُظهر سرور المخبر، فالسرور الثاني غير الأول، وإنما لم يُردف القرينة الثانية بها في البشارة الثانية؛ لأنه لم يلحقها ما تستشعر معه الخوف على نفسها كما لحقها في المرة الأولى، ولذلك استعاذت فيها بقوله: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً). وأيضاً، لا ارتياب أن سورة مريم مكية؛ لأنها تليت على النجاشي في أولى الهجرتين. وسورة آل عمران كما قيل: مدنية. ويمكن أن يقال: إن كلتيهما قصة واحدة، إنما اختلفت العبارات لما أنه عز شأنه ذكر قصتها الواحدة في كل مكان بحسب ما يقتضيه المقام من الإطناب والإيجاز، فهذا المقام مقام بيان المقاولة التي جرت بينها وبين الملك، والحالات الواقعة بينهما، لا بيان وصف الغلام بتلك الأوصاف المذكورة في آل عمران، فأطنب في الأول واختصر في الثاني، بخلافه في "آل عمران"، لأنه مقامُ تقرير الامتنان على مريم بموهوب عظيم القدر بديع الشأن، فأطنب في الأوصاف، وأوجز في بيان المقاولة، وقد ذكرنا في سورة هود قانوناً يُرجع إليه

لأنه كناية عنه، كقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 237]، (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء: 43]، والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها، وخبث بها، وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغي: الفاجرة التي تبغي الرجال، وهي فعول عند المبرد: «بغوي» فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جني في كتاب (التمام): هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل: «بغوّ» كما قيل: فلان نهوّ عن المنكر. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً): تعليل معلله محذوف، أي: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أي: لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أمر قصة واحدة تردُ على أنحاء مختلفة في مواضع شتىن وبسطنا الكلام فيه. والله أعلم بأسرار كلامه. قوله: (وليس بقمن)، يقالُ: أنت قمنٌ أن يفعل كذا، بالتحريك، أي: جدير خليقٌ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإذا كسرت الميم أو قلت: قمينٌ، ثنيت وجمعت. قوله: (وهي فعولٌ عند المبرد)، قال أبو البقاء: فلما اجتمعت الواو والياء قلبت الواو ياء وأدغمت، وكُسرت الغين إتباعاً، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث، كما لم تُلحق في امرأة صبور وشكور. قوله: (هي فعيل)، قال أبو البقاء: هي "فعيلٌ" بمعنى: فاعل، ولم تلحق التاء أيضاً؛ لأنه للمبالغة؛ ولأنه على النسب مثل: طالق وحائض. قوله: (فلانٌ نهو)، وهو شاذ، قيل: لأنه إذا اجتمع الواو والياء وسبق ساكنٌ قلبت الواو ياء وأدغم. وقال صاحب "التقريب": نصوا على أن "نهوا" شاذ ليس بقياس. قوله: (أو هو معطوفٌ على تعليل مضمر)، والمعنى: أهب لك وأنت كذلك لنبين، كقوله تعالى: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) [الجاثية: 22] ليستدل بها المكلف على

(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الجاثية: 22]، وقوله: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ) [يوسف: 21]. (مَقْضِيًّا) مقدّرا مسطورا في اللوح لا بدّ لك من جريه عليك. أو: كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى؛ لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة الله. وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح، فهو جدير بالتكوين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قُدرته، ولتُجزى كل نفس. وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) [يوسف: 56] ليتصرف فيها ولنُعلمه، ونظيرُ الأول قوله في "الأنفال": (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [الأنفال: 42] ليقضي: متعلقٌ بمحذوف، أي: ليقضي أمراً واجباً أن يُفعل دبر ذلك. الحاصل: أنه على التقدير الأول: عطف الجملة على الجملة، على الثاني: عطف المفرد على المفرد. فإن قلت: لم يُقدر المعلل مؤخراً؟ قلتُ: فائدةُ هذا الأسلوب، وهو أن تُجاء العلة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة؛ لأنه إما أن يُقدر علة أخرى ليعطف عليها، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهم، وإما أن يُقدر معلل، فيجب أن يكون مؤخراً، ليشعر تقديمه بالاهتمام. قوله: (أو كان أمراً حقيقاً بأن يكون ويقضى)، فعلى الأول: (وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) تذييلٌ للكلام وتوكيدٌ له، وكالموجب لتكوين ما يدل على القدرة الكاملة والرحمة الشاملة. وعلى الثاني: كالموجب بفتح الجيم، وذلك بالنظر إلى معنى الآية، وأنها البرهان على قدرة الله، ومفهوم الرحمة، وأن ابنها يصير نبيا مباركا، وأن كونهما من المصالح الموجبة أن تُراعي. والأول أنسب لمذهبنا، والثاني لمذهبه، ويدل على أن المراد رعاية الأصلح قوله: "وما كان سبباً في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح، فهو جديرٌ بالتكوين".

[(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)]. عن ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله، فدنا منها فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: كانت مدّة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل: حملته في ساعة، وصوّر في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. وقيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشر، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا: ما من مولود إلا يستهلّ غيره. (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي: اعتزلت وهو في بطنها، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاطمأنت إلى قوله، فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت)، إشارة إلى أن الفاء في: (فَحَمَلَتْهُ) تعطفُ هذه الجملة على ما قبلها بواسطة هذه المضمرات، فلا يبعد أن تُسمى فصيحةً؛ لأن الاطمئنان يستدعي سبق انزعاج، وذلك أنه حين تمثل لها الرسول بشراً سوياً انزعجت منه فاستعاذت بالرحمن، فلما جرى بينهما تلك المقاولة اطمأنت على قوله، فدنا ... ، إلى آخره. قوله: (كما حملته نبذته)، بيانٌ لمعنى الفاء في: (فَانتَبَذَتْ)، ولفظةُ "كما" فيها معنى المفاجأة. قال صاحب "اللباب": الكاف قد تأتي للقرآن في الوقوع، كقولك كما حضر زيدٌ غاب عمرو. قوله: (وقالوا: ما من مولودٍ إلا يستهل غيره)، "غيرهُ": بالنصب على الاستثناء، أشار بهذا إلى الحديث المشهور مضى شرحه في "آل عمران". وإنما أومأ إليه وهو أجنبي هاهنا؛ لأنه ذكر نُبذاً من أحوالها الخارقة للعادات.

تدوس بنا الجماجم والتّريبا أي: تدوس الجماجم ونحن على ظهورها، ونحوه قوله تعالى: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون: 20]، أي: تنبت ودهنها فيها، الجار والمجرور في موضع الحال. (قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف، فلما قيل: حملت من الزنى، خاف عليها قتل الملك، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها، فأتاه جبريل فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها. [(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا)]. (فَأَجاءَهَا) أجاء: منقول من جاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تدوس بنا الجماجم التربيا)، أوله: فمرت غير نافرةٍ عليهم قبله: كأن خيولنا كانت قديماً ... تُسقى في قحوفهم الحليبا الترائب: عظام الصدر، والقحفُ: العظم فوق الرأس. والضمير يعود إلى الأعادي، والعربُ تسقي اللبن كرام خيولهم. يقول: خيلنا كانت تُسقى اللبن في أقحاف رؤوس الأعداء لإلفها بها، ولهذا كانت تمر عليهم وعلى صدورهم ونحن عليها ولم تنفر عنهم. قوله: (فهرب بها)، أي: هرب ابن عمها مستصحباً إياها، ويجوز أن تكون الباء للتعدية.

إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية: (الْمَخاضُ) بالكسر. يقال: مخضت الحامل مخاضا ومخاضا؛ وهو تمخض الولد في بطنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء)، الجوهري: أجأته إلى كذا: ألجأته واضطررته إليه. قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء. وفي المثل: شرٌّ ما يجيئك إلى مخة عرقوب، قال الأصمعي: وذلك أن العرقوب لا مُخ فيه، وإنما يحوج إليه من لا يقدر على شيء. الراغب: المجيء: كالإتيان، لكن المجيء أعم؛ لأن الإتيان: مجيء بسهولة، ويقال: جاء في الأعيان والمعاني، وبما يكون مجيئه بذاته وبأمره، ولمن قصد مكاناً أو عملاً أو زماناً، يقال: جاء بكذا وأجاءه، قال تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ)، قيل: ألجأها، وغنما هو مُعدى عن "جاء"، قال الشاعر: أجاءته المخافةُ والرجاء قوله: (ولم يُقل: آتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ)، الجوهري: آتاه إيتاء، أي: أعطاه، وآتاه أيضاً، أي: أتى به، ومنه قوله تعالى: (آتِنَا غَدَاءَنَا) أي: ائتنا به. وقيل: معنى قوله: (آتِنَا غَدَاءَنَا): إيتنا به أظهرُ من قوله: أعطنا الغداء؛ لأنا موسى عليه السلام طلب من يوشع إحضار الغذاء لا إعطاءه إياه، وسيجيء في قوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاتِيّاً) [مريم: 61] اختياره لغير ما اختاره هاهنا. قوله: (تمخض الولد)، الجوهري: مخض اللبن وامتخض، أي: تحرك في الممخضة، كذلك الولد إذا تحرك في بطن الحامل، والمخاضُ: وجعُ الولادة.

طلبت الجذع؛ لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة، كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة؛ فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أي: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مُتعالم)، الجوهري: تعالمه الجميع أي: علموه. قوله: (خرسة النفساء)، الجوهري: الخُرسُ بالضم: طعامُ الولادة. الأساس: أطعموا النفساء خرستها، وهي طعامها خاصة، وقد خرست فتخرست، وعن بعضهم: الخُرسُ بالضم: طعامُ الولادة والوليمة، وبالتاء: طعام النفساء. قوله: (من جُمارها). الجوهري: الجمار: شحم النخلة، وفي تذكير ضمير هو بحثٌ؛ لأنه راجعٌ إلى الثمار، اللهم إلا أن يُتمحل أنه نظر إلى الخبر، ولعله سقط من النساخ. قوله: (فلموافقتها لها مع جميع الآيات اختارها لها)، الفاء: فصيحةٌ، والمراد بالموافقة مع جميع الآيات: ماذكره: أولاها: قوله: "ليطعمها منها"، وأنها احتاجت إلى الخرسة، وقد أُتيت بما هي محتاجة إليه.

وألجأها إليها. قرئ: (مِتُّ) بالضم والكسر، يقال: مات يموت، ومات يمات. النسىي: ما من حقه أن يطرح وينسى، كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح: اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى: (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصفات: 107]. وعن يونس: العرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيتها: قوله: "ولأن النخلة أقل شيء صبراً على البرد" فصبرت عليه بأن أثمرت، كذلك النفساء تتوقى منه لاستضرارها به، ثم إن الله تعالى حفظها منه كما حفظ النخلة. وثالثتها: قوله: "وثمارها إنما هو من جُمارها" أي: أثمرت من غير لقاح، وفي غير الأوان. قال الإمام: كأن الله تعالى أرشدها إلى النخلة ليُطعمها منها الرُّطب؛ لأنه أشد الأشياء موافقة للنفساء، ولا تثمر إلا عند اللقاح، وإذا قطعت رأسها لم تثمر، فكأنه كما قيل: كما أن الأنثى لا تلد إلا بالذكر، كذلك النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح، ثم إني أُظهر الرُّطب من غير اللقاح، ليدل على جواز ظهور الولد من غير الذكر. قوله: (وألجأها إليها)، فيه إشعارٌ بأن الإسناد في قوله: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) مجازي المعنى، ألجأها الله تعالى إلى جذع النخلة، وقت مخاضها واختارها لها. قوله: ((مِتُ) بالضم والكسر)، ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر: [بالضم]، والباقون: بالكسر. قوله: (النسيُ: ما من حقه أن يُطرح)، الراغب: النسيُ: أصله ما ينسى، كالنقض: لما يُنقض، فصار في التعارف اسماً لما يقل الاعتدادُ به. وقوله تعالى: (نَسْياً مَنْسِيّاً) أي: جارياً مجرى النسي القليل الاعتداد به، ولهذا عقبه بقوله: (مَنْسِيّاً) لأن النسي قد يُقال لما يقل الاعتدادُ به وإن لم يُنس. قوله: (عن يونس)، قال ابن الأنباري: هو يونس بن حبيب البصري، أخذ عن أبي

إذا ارتحلوا عن الدار قالوا: انظروا أنساءكم، أي: الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ. تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة، وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه؛ وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم الله، أو لشدّة التكليف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عمرو بن العلاء، وسمع من العرب كما سمع من كان قبله، أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء، وله مذاهب وأقيسةٌ تفرد بها. قوله: (والشظاظ)، الجوهري: هو العود الذي يدخل في عروة الجوالق. قوله: (تافهاً)، الجوهري: التافه: الحقير اليسير. قله: (وقد نُسي واطرح): حالٌ من فاعل "يُنسى"، وهو الضمير الراجع إلى: (نَسْياً) و"أن يُنسى": فاعلُ "من شأنه"؛ لأنه صفة (نَسْياً) قد اعتمد عليه، وإنما قال: "من شأنه أن يُنسى في العادة"، لما قال: النسيُ: ما من حقه أن يُطرح ويُنسى، وفائدة توكيده بـ (مَنْسِيّاً): الدلالة على المبالغة، فإن كل نسي لا يلزم أن يكون منسياً، وإليه الإشارة بقوله: "فوجد فيه النسيان الذي هو حقه". قوله: (لا كراهة)، قيل: هو عطفٌ على "لما لحقها"، وإنما حذف اللام؛ لأن الكراهة فعلٌ لفاعل الفعل المعلل، ولم يحذف في "لما لحقها" لأن ما لحقها وإن كان عبارة عن الحياء، وهو فعله، لكن لما أسند اللحوق إلى "ما" فكأنه ليس فعله، أو ليؤذن أن الحذف جائز عند وجود شرائط الحذف لا واجبٌ. وقلت: ويمكن أن يُقال: إنه عطفٌ على محل قوله: "على حكم العادة البشرية" من حيث المعنى؛ لأنه حالٌ من الضمير المنصوب في "لحقها". المعنى: لما لحقها من فرط الحياء جارية على حكم العادة البشرية لا كارهة لحكم الله، أو يقال: هو عطفٌ على ما يتعلقُ به

عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام؛ لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص: (نَسْياً) بالفتح. قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر، والجسر والجسر. ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر. ك (الحمل). وقرأ محمد بن كعب القرظي: «نسأ» بالهمز؛ وهو الحليب المخلوط بالماء، ينسؤه أهله؛ لقلته ونزارته. وقرأ الأعمش: (مَنْسِيًّا) بالكسر على الإتباع، كالمغيرة والمنخر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجار والمجرور، أي: بناء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله، يدل عليه عطف قوله: "أو لشدة التكليف" باللام، وقوله: "أو لخوفها على الناس" على "ما لحقها"، الخوف فعلها، ولأن "لما لحقها": خبرُ "ذلك"، ولا يسوغُ "ذلك كراهة لحكم الله"، بالنصب. قوله: (أن تعرف) في موضع النصب على أنه مفعولٌ مطلقٌ لقوله: "عارفةٌ"، أي: هي ببراءة الساحة معرفتك اغتباطك بأمر عظيم. وعن بعضهم أنه في موضع الرفع خبراً لمبتدأ محذوف، يعني: هو، أي: المقام الدحضُ أن تعرفَ أنتَ، إلى آخره. وقيل: "أن تعرف" بدلٌ من اسم "إن". قوله: (وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة: (نَسْياً) بالفتح)، وحفصٌ أيضاً.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [سورة مريم: 24] (مِنْ تَحْتِها) هو جبريل عليه السلام. قيل: كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل: هو عيسى، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل (تَحْتِها) أسفل من مكانها، كقوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة: 25]. وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، فصاح بها: لا تَحْزَنِي وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص. (مِنْ تَحْتِها) وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة: الضمير في (تحتها) للنخلة. وقرأ زرّ وعلقمة: (فخاطبها من تحتها). سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السريّ فقال: (هو الجدول). قال لبيد: فتوسّطا عرض السّري فصدّعا ... مسجورة متجاورا قُلامها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي قراءة عاصم)، أي: ((من تحتها))، قرأها عاصمٌ من رواية أبي بكر، وقرأها ابن كثيرٍ وابن عامرٍ أيضاً. قوله: (الأكمة)، الأساس: هي التل. قوله: (وقرأ زرٌّ وعلقمة)، في ((جامع الأصول)): هو أبو مريم زر بن حبيش الكوفي، وهو من أكابر القراء والمشهورين من أصحاب عبد الله بن مسعود. زرٌّ بكسر الزاي وتشديد الراء، أما علقمة فمن التابعين ثلاثةٌ: علقمة بن عبد الله المزني، وعلقمة بن أبي علقمة مولى عائشة رضي الله عنها، وعلقمة بن قيسٍ النخعي، روى عن عمر وعبد الله بن مسعود، وفي الحاشية ما يدل على أنه هو. قوله: (فتوسطا عرض السري) البيت، الضمير في ((توسطا)) للعير والأتان.

وقيل: هو من السرو. والمراد: عيسى. وعن الحسن: كان والله عبدا سريا. فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرض السري: جانب النهر الصغير، فصدعا: فشقا، مسجورةً: عيناً مملوءةً، فحذف الموصوف، والقلام: ضربٌ من النبت، متجاوراً: ملتفاًّ. يقول: فتوسط العير والأتان جانب النهر وشقا عيناً مملوءةً ماءً، فدخلا عرض نهرها الذي كثر على حافتيه حذو هذا الضرب من النبت. قوله: (وقيل: هو من السرو، والمراد عيسى عليه السلام)، الراغب: السرو: الرفعة، يقال: رجلٌ سريٌّ، وأشار بذلك إلى عيسى عليه السلام وما خصه به من سروةٍ، يقال: سروت الثوب عني، أي: نزعته، وسروت الجل عن الفرس، قيل: ومنه رجلٌ سريٌّ، كأنه سري ثوبه، بخلاف المتدثر والمتزمل. قوله: (من حيث إنهما معجزتان) في تسميتهما ((معجزتان)) بحثٌ؛ لأن المعجزة هي: إظهار خرق العادات على سبيل التحدي، وهذا لا يستقيم في حقها ولا في حق عيسى عليه السلام؛ لأن ما يتقدم على البعثة من خرق العادات يسمى إرهاصاً، كإظلال الغمام في طريق الشام، وارتجاس إيوان كسرى لنبينا صلوات الله عليه. والذي يصح أن يقال: إنهما كرامتان لها، ويؤيده ما ذكرنا في قوله: (لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) [آل عمران: 37]، وقد استقصينا القول هناك.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [سورة مريم: الآيات 25 - 26]. (تُساقِطْ) فيه تسع قراءات: (تساقط)، بإدغام التاء. و (تتساقط)، بإظهار التاءين. و (تساقط)، بطرح الثانية. و (يساقط)، بالياء وإدغام التاء. و (تساقط)، و (تسقط)، و (يسقط)، و (تسقط)، و (يسقط)، التاء للنخلة، والياء للجذع. و (رطبا) تمييز، أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد: جواز انتصابه "بهزّى" وليس بذاك. والباءُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((تُسَاقِطْ) فيه تسع قراءات)، حمزة: ((تساقط)) بالتخفيف وفتح التاء، والباقون: بالتشديد إلا حفصاً، فإنه يخفف بضم التاء وكسر القاف، والبواقي: شواذ. قوله: (و (رُطَبًا): تمييزٌ أو مفعولٌ على حسب القراءة)، فإذا قرئ بفتح الياء أو التاء يكون تمييزاً، أي: تتساقط النخلة رطباً، كقولك: تصبب الفرس عرقاً، وإذا قرئ بالضم يكون مفعولاً به، أي: تساقط النخلة رطباً جنياًّ، قال أبو البقاء: ورطباً فيه أوجه، أحدها: هو حالٌ موطئة، وصاحبها الضمير في الفعل. والثاني: هو أنه مفعولٌ به ل (تُسَاقِطْ). والثالث: هو مفعول (وهُزِّي)، والرابع: هو تمييزٌ. وتفصيل هذه الأوجه يتبين بالنظر في القراءات، فيحمل كلٌّ منها على ما يليق به. قوله: (وعن المبرد: جواز انتصابه ب ((هزي)))، قال الزجاج: قال محمد بن يزيد- يعني: المبرد-: هو مفعولٌ به، المعنى: وهزي إليك بجزع النخلة رطباً تساقط عليك، فالتاء ليست بمزيدةٍ، مثلها في قولك: كتبت بالقلم. قال أبو البقاء: المعنى: هزي الثمرة بالجذع. وقيل: التقدير: هزي إليك رطباً جنياًّ كائناً

في (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) صلة للتأكيد، كقوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، أو على معنى: افعلي الهزّ به، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بجذع النخلة، فقوله: ((بالجذع)): حالٌ. وقلت: فعلى هذا، يكون قد تنازع في (رُطَبًا): ((هزي)) و ((تساقط))، وقد أعمل فيه الأول، وهو ضعيف، ولأنه يكون ما في حيز الأمر متأخراً عن جوابه، ومن ثم قال المصنف: ((وليس بذاك)). قوله: (أو على معنى: افعلي الهز به) يعني: نزل المتعدي منزلة اللازم للمبالغة، نحو: فلانٌ يعطي ويمنع، ثم عدي كما يعدى اللازم، نحو قول الشاعر: فإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقبيها نصلي ((ذي ضروعها)): اللبن في الضرع، و ((يجرح)): جواب الشرط، و ((نصلي)): فاعله، و ((العراقيب)): جمع عرقوب، وهو العصب الغليظ فوق عقب الحيوان. يقول: إذا اعتذرت الناقة إلى الضيف قلة اللبن بالمحل أنحرها له. وذهب صاحب ((الكشف)) إلى أن الباء للتسبب، والمضاف محذوفٌ، أي: هزي إليك بهز جذع النخلة، أي: إذا هززت النخلة اهتزت، وبهزك النخلة تساقط عليك رطباً، و (رُطَبًا): منصوبٌ ب (تُسَاقِطْ)، فإن يتفاعل قد جاء متعدياً. قال تعالى: (أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا) [النساء: 128]، و (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس: 45] ومن قال: ضربني وضربت زيداً، كان (رُطَبًا) منصوباً ب (وهُزِّي)، أي: هزي إليك رطباً جنياًّ متمسكة بجذع

يجرح في عراقيبها نصلى قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة. وقيل: ما للنفساء خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب. عن طلحة بن سليمان (جَنِيًّا) بكسر الجيم للإتباع، أى: جمعنا لك في السرىّ والرطب فائدتين، إحداهما: الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين، وهو معنى قوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أى: وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك. وقرئ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النخلة تساقطه عليك، فأضمر ل (تُسَاقِطْ) مفعولاً، وجعل الباقي موضع الحال، هذا هو الجيد البالغ في الآية. وقيل: رطباً: نصب على الحال، أي: وهزي إليك بجذع النخلة، أي: بثمرة جذع النخلة، تساقط عليك ثمرة النخلة رطباً. قوله: (التحنيك)، وهو: إلصاق التمر بحنك الصبي. قوله: (أي: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين)، يعني: رتب بقوله: (فَكُلِي) الآية على قوله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًا) وقوله: (وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) معنى ما يحتاج إليه، وفي ضمنه التسلية بما أصابها من الحزن. الراغب: الهز: التحريك الشديد، يقال: هززت الرمح فاهتز، ويقال: هززت فلاناً للعطاء، واهتز النبات: إذا تحرك لغضارته، (فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج: 45]. قوله: ((وقَرِّي عَيْنًا) أي: وطيبي نفساً، يريد: أن (وقَرِّي عَيْنًا) كنايةٌ عن طيب النفس، ورفع الحزن.

(وَقَرِّي) بالكسر لغةُ نجد، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) بالهمز: ابن الرومي. عن أبي عمرو، وهذا من لُغةِ مَن يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: في حديث الاستسقاء: لو رآك لقرت عيناه، أي: لسر بذلك وفرح، وحقيقته: أبرد الله دمعة عينيه؛ لأن دمعة الفرح والسرور باردةٌ. وقيل: معنى أقر الله عينك: بلغك أمنيتك حتى ترضى نفسك وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره. الراغب: قر في مكانه يقر قراراً: ثبت ثبوتاً جامداً، من القر، وهو البرد؛ لأنه يقتضي السكون، ويوم القر يوم النحر، لاستقرار الناس فيه بمنىً، والإقرار: إثبات الشيء، قال تعالى: (وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) [الحج: 5]، وقد يكون ذلك إثباتاً إما بالقلب وإما باللسان وإما بهما. وأما الجحود فإنما يقال فيما ينكر باللسان دون القلب. وقيل: لمن يسر به: قرة عين. وقيل: أصله من القر أي: البرد، معناه: بردت فصحت. وقيل: بل لأن للسرور دمعةً قارةً وللحزن دمعةً حارة، ولذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه. وقيل: هو من القرار، والمعنى: حصول ما يسكن به عينه، فلا يطمح إلى غيره. قوله: (((ترئن)): بالهمز)، قال ابن جني: رويت عن أبي عمرو، وهي ضعيفةٌ؛ لأن الياء مفتوحٌ ما قبلها والكسرة فيها لالتقاء الساكنين، فليست محتسبةً أصلاً، وعليه قراءة الجماعة: (تَرَيِنَّ) بالياء. نعم، وقد حكي الهمز في الواو التي هي نظيرة الياء في قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ) [آل عمران: 186]، فشبه الياء، لكونها ضميراً وعلم تأنيثٍ، بالواو من حيث كانت ضميراً، وعلم تذكيرٍ، وهذا ليس بقوي.

لبأت بالحج، وحلأت السويق، وذلك لتآخ بين الهمزة وحرف اللين في الإبدال. (صَوْماً): صمتا. وفي مصحف عبد الله: (صمتاً). وعن أنس بن مالك مثله. وقيل: صياماً، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت، لأنه نسخ في أمته، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المُتَّهمين لها في الكلام لمعنيين، أحدهما: أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافها. قيل: أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة. وقيل: سوغ لها ذلك بالنطق (إِنْسِيًّا) أى: أكلم الملائكة دون الإنس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لبأت بالحج) أصله: لبيت تلبيةً، ثم أبدل التضعيف بالياء ثم أبدل الياء بالهمزة، وحلأت، أي: لطت بالشيء الحلو، وأصله حلوته، قلبت الواو ياءً، ثم أبدل الياء بالهمز. قوله: (وقيل: صياماً) هو عطفٌ على قوله: (((صَوْمًا): صمتاً))، يعني: (صَوْمًا)، إما مجازٌ عن: صمتاً، بقرينة ترتب: (فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِيًا)، أو هو على حقيقته، وأما معنى ترتب (فَلَنْ أُكَلِّمَ) عليه، فإنهم كما كانوا يمسكون عن الطعام والشراب، كانوا يمسكون عن الكلام أيضاً. قوله: (وفيه أن السكوت عن السفيه واجبٌ)، يريد: أن هذا المعنى مدمجٌ في الآية. وقوله: (من أذل الناس: سفيهٌ لم يجد مسافهاً)، ينظر إلى قول أبي الطيب: وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكله قوله: (أي: أكلم الملائكة دون الإنس) يعني: عدل من قوله: فلن أكلم اليوم أحداً، إلى: إنسياًّ، ليفيد- بدلالة المفهوم- هذه الدقيقة، ويدمج فيه معنى كرامةٍ أخرى، وهي رفعة منزلتها.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [سورة مريم: 27 - 28]. الفرىّ: البديع، وهو من فرى الجلد (يا أُخْتَ هارُونَ) كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل: هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما عنوا هرون النبىّ» وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة، بينها وبينه ألف سنة وأكثر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفري: البديع)، الأساس: فلانٌ يفري الفري: إذا أتى بالعجب. ويقال: قد أفريت وما فريت، أي: أفسدت وما أصلحت. ومن المجاز: يفري الليل عن بياض النهار، وتفرت الأرض بالعيون. الراغب: الفري: قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء: للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، ولذلك استعمل في القرآن للكذب والشرك والظلم، نحو: (ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى) [النساء: 48]، وقوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًا) قيل: معناه عظيماً، وقيل: عجيباً، وقيل: مصنوعاً. قوله: ((هَارُونَ) كان أخاها من أبيها)، يؤيده ما روينا عن مسلم والترمذي، عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون: (يَا أُخْتَ هَارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: ((إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم))، والنظم يساعد عليه، كما سبق في قوله تعالى: (ولَمْ أَكُ بَغِيًا). قوله: (وكانت من أعقابه)، أي: وكانت ممن يعقب هارون في مرتبة الأخوة، وذلك بأن تكون من نسل أخت هارون وأخيه. وقيل: ((في طبقة))، خبر ((كان))، أي: كانت في طبقة الأخوة من جهة أعقابه، أي: أخلاقه في النسك والعبادة. و ((من)): ابتدائية.

وعن السُّديّ: كانت من أولاده. وإنما قيل: يا أخت هارون، كما يقال يا أخا همدان، أى: يا أحداً منهم. وقيل: رجل صالح أو طالح في زمانها، شبهوها به، أى: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، ولم ترد إخوة النسب، ذكر: أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا به وباسمه، فقالوا: كنا نشبهك بهارون هذا. وقرأ عمر بن لجأ التيمي: (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ). وقيل: احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار، فلبثُوا فيه أربعين يوما حتى تعلت من نفاسها، ثم جاءت تحمله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو شتموها به) عطفٌ على قوله: ((شبهوها به))، و (شبهوها)) نشرٌ، لقوله: ((رجلٌ صالحٌ))، ومعنى التشبيه قولهم: كنا نشبهك بهارون، أو: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو ((شتموها)) نشرٌ لقوله: ((أو طالح))، والشتم هو: إما أن يقولوا: أنت مثله في الفساد، أو اتهموها به. والله أعلم. قوله: (تعلت من نفاسها)، أي: طهرت من بقايا ما كان يعتريها من نفاسها. الأساس: بقية كل شيءٍ: علالته، وللفرس بداهةٌ وعلالةٌ. وقال: وقد تعاللت ذميل العيس وهو يتعلل ناقته، أي: يحلب اللبن الذي يجتمع في ضرعها بعد الحلب الأول، وما هي إلا علالةٌ أتعلل بها، وهي اسم ما يتعلل به. قوله: (ثم جاءت تحمله) في ((إيجاز البيان)): (تَحْمِلُهُ): حالٌ منها أو منه أو منهما لحصول الضمائر في الجملة التي هي حالٌ. والبغي: الفاجرة، مصروفةٌ عن الباغية، أي: بمعنى المفعول، كقولك: نفسٌ قتيلٌ، وكفٌ خضيب. وقال صاحب ((الكشف)): ولم يقل: بغية، فيحتمل أن يكون (بَغِيًا) مصدراً، كما قالوا في قوله: (قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ) [يس: 8] ولم يقل: رميمةٌ، قالوا: لأنه أراد المصدر، ويجوز أن يكون ذلك للفواصل.

فكلَّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل: هَمُّوا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها. (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [سورة مريم: 29]. (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أى: هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها. وروى: أنه كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. (كانَ): لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهم يصلح لقريبه وبعيده، وهو هاهنا لقريبه خاصة، والدال عليه معنى الكلام، وأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإني عبد الله ومسيحه). النهاية: قيل: المسيح: الصديق، وهو بالعبرانية مشيحا فعرب، وقيل: إنما سمي لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهةٍ إلا برئ. قوله: (والدليل عليه معنى الكلام) يعني: لما قيد مضمون الجملة ب ((كان))، وهي وإن كانت قيداً، لكن بالنظر إلى دلالتها على الأزمنة الماضية مطلقةٌ مفتقرةٌ في الاختصاص بزمانٍ دون زمانٍ إلى قرينةٍ مقيدة، وها هنا القرينة المخصصة بالزمان القريب: سوق الكلام للتعجب، فعلى هذا (نُكَلِّمُ) للحال الحاضرة، و ((من)): موصولةٌ، والمراد عيسى عليه السلام. ويجوز جعلها موصوفةً، فالمراد كل من هو موصوفٌ بكونه في المهد صبياًّ، فيكون قوله: (((نُكَلِّمُ) بحكاية الحال الماضية)) وكان على إيهامها، قال أبو البقاء: قيل: (كَانَ) مثل (وكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وقيل: زائدةٌ، أي: من هو في المهد صبياًّ، و (صَبِيًا): حالٌ من

مسوق للتعجب. ووجه آخر: أن يكون (نُكَلِّمُ) حكاية حال ماضية، أى: كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا؟ ! (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [سورة مريم: 30 - 33]. أنطقه الله أوّلا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى. و"الْكِتابَ": هو الإنجيل. واختلفوا في نبوّته، فقيل: أعطيها في طفولته: أكمل الله عقله، واستنبأه طفلا؛ نظرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير في الجار والمجرور، ولو كانت زائدةً يستتر فيها الضمير فلا تحتاج إلى تقدير ((هو))، بل الظرف صلة ((من))، أي: كيف نكلم من في المهد صبياًّ. وقال الزجاج: الأجود أن يكون ((من)) في معنى الشرط، أي: من يكن في المهد صبياًّ، كيف نكلمه؟ وقال ابن الأنباري: هذا كما يقال: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟ أي: من يكن لا يقبل. والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء. قوله: (أنطقه الله أولاً بأنه عبد الله رداًّ لقول النصارى)، أي: قدم ما هو الأهم وأعنى بشأنه، وهو كتقدمة الإعجاز. قوله: (و ((الكتاب)): هو الإنجيل). الراغب: كل موضع ذكر في وصف الكتاب: ((آتينا)) فهو أبلغ من كل موضع ذكر فيه ((أوتوا))؛ لأن ((أوتوا)) قد يقال إذا أوتي من لم يكن منه قبولٌ، وآتيناهم يقال فيمن له قبول، والإيتاء: الإعطاء، وخص دفع الصدقة في التنزيل بالإيتاء

في ظاهر الآية. وقيل: معناه أنّ ذلك سبق في قضائه. أو: جُعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفاعا حيث كنت» وقيل: معلما للخير. وقرئ: (وَبَرًّا) عن أبى نهيك، جعل ذاته برا لفرط بره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا محالة)، الجوهري: لا محالة، أي: لابد، يقال: الموت آتٍ لا محالة. المغرب: أصل التركيب دالٌّ على الزوال والنقل، ومنه التحويل، وهو نقل الشيء من محلٍّ إلى آخر، فعلى هذا معنى لا محالة: لا تحول عنه، كما أن معنى لابد: لا فراق، والتبديد: التفريق، والاسم في البابين مبنيٌّ، والخبر محذوفٌ. قوله: (وقرئ: ((وبراًّ))) بكسر الباء، والبر، بفتح الباء: صفةٌ مشبهة، وبالكسر: اسم. قال ابن جني: قرأها أبو نهيكٍ وأبو مجلزٍ، وهو معطوفٌ على موضع الجار والمجرور من قوله: (بِالصَّلاةِ)، كأنه قال: وألزمني براًّ بوالدتي؛ لأنه إذا أوصاه به فقد ألزمه إياه، وعليه بيت ((الكتاب)): فإن لم تجد من دون عدنان والداً ... ودون معدٍّ فلتزعك العواذل عطف دون الثانية على موضع (من)، وإن شئت حملته على حذف المضاف، أي: وجعلني ذا برٍّ، وإن شئت جعلته إياه على المبالغة كقولها: فإنما هي إدبارٌ وإقبال فعلى هذا هو معطوفٌ على: (مُّبَارَكًا).

أو نصبه بفعل في معنى: أوصانى، وهو كلفنى، لأن أوصانى بالصلاة وكلفنيها واحد (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) قيل: أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى: ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلىّ. والصحيح: أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متهمى مريم عليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو نصبه بفعلٍ) عطفٌ على قوله: ((جعل ذاته براًّ))، يعني: جعل أبو نهيكٍ (وبَرًا) منصوباً بقوله: (وجَعَلَنِي) وعطفه على: (مُّبَارَكًا) أو نصبه بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قيل: وكلفني براًّ بوالدتي. قوله: (والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة)، يؤذن أن التعريف السابق غير صحيح، قيل: لأن التعريف في العهد الخارجي إشارةٌ إلى ذلك الشخص المعير المتوجه إلى يحيى عليه السلام، ويستحيل أن يتوجه ذلك السلام بعينه إلى عيسى عليه السلام. وقلت: يحمل على التشبيه ليصح كقوله تعالى: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) [البقرة: 25]، وليس ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات المرزوق في الدنيا، ومعناه: هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه، كأنه عليه السلام سأل ربه أن يفعل به مثل ما فعل بيحيى عليه السلام من السلامة في سائر أحواله، قاله الأزهري. والسلام: مصدر سلمت سلاماً وسلامةً، وهو دعاء الإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه ويتخلص من المكروه، كذا عن المبرد. وهذا معنىً صحيحٌ لو أريد به مجرد الدعاء، لكن المانع شيءٌ آخر، وهو اقتضاء المقام التعريضي الجنس؛ لأن الكلام مع القوم ولم يجر بين عيسى وبين القوم حديث سلام الله على يحيى عليه السلام ليشير بذلك إليه، بل إن أمه الصديقة لما أشارت إليه، وقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًا* قَالَ إنِّي

السلام وأعدائهما من اليهود. وتحقيقه أن اللام للجنس، فإذا قال: وجنس السلام علىّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم. ونظيره قوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه: 47]، يعنى: أنّ العذاب على من كذَّب وتولَّى، وكان المقام مقام مُناكرة وعناد، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [مريم: 34]. قرأ عاصم وابن عامر (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب. وعن ابن مسعود: (قال الحق)، و (قال الله) - وعن الحسن: (قول الحق)، بضم القاف، وكذلك في الأنعام (قَوْلُهُ الْحَقُّ) [الأنعام: 73]، والقولُ والقالُ والقُوْل في معنى واحد، كالرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق، كقولك: هو عبد الله الحق لا الباطل، وإنما قيل لعيسى: «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله: «كُنْ» من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَبْدُ اللَّهِ .... ) إلى آخر الآيات، براءةً لساحتها، وإظهاراً لكرامتها، فافتتح بالتعريض، وهو قوله: (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ) رداًّ لقول النصارى، واختتم بمثله من التعريض، كأنه قال: والسلام علي دائماً والعذاب على من كذَّب وتولى، ولذلك قال: وكان المقام مقام مناكرةٍ وعناد، فهو مئنةٌ لنحو هذا من التعريض. قوله: (فهو مئنةٌ). النهاية: أي: موضعٌ تستعمل فيه، أي: هي مفعلةٌ من معنى ((أن)) التي للتحقيق غير مشتقةٍ من لفظها، ووإنما ضمنت حروفها على أن معناها فيها كالحوقلة والحيعلة. قوله: (وعن ابن مسعود: ((قال الحق)))، والحق: الله، ولهذا عقبه بقوله: ((وقال الله)).

غير واسطة أب؛ تسمية للسبب باسم السبب، كما سمى العشب بالسماء، والشحم بالندى ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون الحق اسم الله عزّ وجل، وأن يكون بمعنى: الثبات والصدق، ويعضده قوله: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى: أمرُه حقُّ يقينٌ وهم فيه شاكون (يَمْتَرُونَ) يشكون. والمرية: الشك. أو: يتمارون: يتلاحون، قالت اليهود: ساحرٌ كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (تمترون)، على الخطاب. وعن أبىّ بن كعب: (قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون). (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم: 35]. كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه، وأنه مما لا يتأتى ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما سمي العشب بالسماء)، قال: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا قوله: (والشحم بالندى)، قال ابن الأحمر: كثور العداب الفرد يضربه الندى ... تعلى الندى في متنه وتحدرا العداب: ما استدق من الرمل، والندى الأول: المطر، والثاني: الشحم. قوله: (يتلاحقون) الجوهري: لاحيته ملاحاةً ولحاءً: إذا نازعته، وتلاحوا: إذا تنازعوا، وفي روايةٍ: يتلاحون من اللجاج. قوله: (كذب النصارى وبكتهم)، اعلم أنه تعالى لما أشار بقوله: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إلى الموصوف السابق وجعله علماً في العبودية بتلك الإشارة، وأكد الكلام بقوله: (قَوْلَ الحَقِّ) - أي: ما ذكر من صفته قول الحق، أو: أقول قول الحق- وقلع الريبة من

يتصور في العقول وليس بمقدور عليه، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد، ثم بين إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده بـ (كن)، كان منزها من شبه الحيوان الوالد. والقول هاهنا مجاز، ومعناه: أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل. (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [مريم: 36]. قرأ المدنيُّون وأبو عمرو بفتح ((أن)). ومعناه: ولأنه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله: (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شتمها، أتى بما يلقمهم الحجر، وشفع النص الساطع بالبرهان القاطع، فقال: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ سُبْحَانَهُ)، ثم علله بقوله: (إذَا قَضَى أَمْرًا فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فالآيتان معترضتان بين كلامي المسيح عليه السلام (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، (وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) تقريراً لمعنى العبودية، ينصر هذا النظم قول الواحدي: ((من كسر (وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ) جعله عطفاً على قوله: (إنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن عيسى عليه السلام أقر بالعبودية على نفسه وبربوبية الله تعالى أول ما تكلم)). قوله: (من إذا أراد شيئاً) موصولةٌ منصوبةٌ ب ((أن))، والجملة الشرطية من قوله: ((إذا أراد)) مع جوابه- وهو: ((أوجده)) - صلتها، و ((كان منزهاً)) خبر ((أن)). قوله: (قرأ المدنيون وأبو عمروٍ) وقرأ ابن كثيرٍ أيضاً: بفتح ((أن)). قوله: (كقوله: (وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18])، قال المصنف: ((لأن المساجد لله، اللام متعلقةٌ ب (لا تَدْعُوا)، أي: لا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله

والإستارُ وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبىّ: (إن الله)، بالكسر بغير واو، و: (بأن الله)، أى: بسبب ذلك فاعبدوه. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم: 37]. (الْأَحْزابُ): اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى؛ لتحزُّبهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى: من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى))، قال أبو البقاء: ولوحدانيته أطيعوه، فعلى هذا ما بعد فاء السببية يجوز أن يعمل فيما قبلها، بخلاف الجزائية. قوله: (والإستار) في ((الصحاح)) و ((الأساس)): الإستار بكسر الهمزة، في العدد: أربعةٌ. قال جرير: إن الفرزدق والبعيث وأمه ... وأبو الفرزدق قبح الإستار وقال الكميت: أبلغ يزيد وإسماعيل مألكةً ... ومنذراً وأباه شر إستار والمراد منه: عاصمٌ والأعمش وحمزة والكسائي. وقيل بدل الأعمش: ابن عامر. قوله: (وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء)، مؤذنٌ بأن التعريف في (الأَحْزَابِ): للجنس، والمراد قومٌ معهودون لكمالهم في الاختلاف، وقريبٌ منه قوله تعالى: (وقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) [الفرقان: 37]، وإنما كذبوه وحده، ولذلك جمع الأنبياء. قوله: (أي: من شهودهم هول الحساب) ذكر في (مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ستة أوجه؛ لأن

أو: من وقت الشهود. أو: من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو: من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَاتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [مريم: 38 - 40]. لا يوصف الله تعالى بالتعجب، وإنما المراد: أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جديرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشهود إما بمعنى الحضور، وهو إما مصدر ميمي، والمعنى من شهودهم هول الحساب، أو: اسم مكانٍ منه، أي: من مكان الشهود أو زمانه، والمعنى: من وقت الشهود. وإما بمعنى الشهادة فهو أيضاً إما: مصدرٌ والمعنى: من شهادة ذلك اليوم، أو: اسم مكان، أي: من مكان الشهادة، أو زمان، والمعنى: من وقت الشهادة. قوله: (وأن تشهد عليهم الملائكة) عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: ((شهادة ذلك اليوم))، يعني: أسند الشهادة إلى اليوم على المجاز نحو: (يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل: 17]، والأصل: تشهد عليهم الملائكة والأنبياء في ذلك اليوم. قوله: (لا يوصف الله بالتعجب)، يريد: أن قوله: (أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ) فعلا تعجب، والتعجب راجعٌ إلى العباد لا إلى الله تعالى؛ لأن المعجب هو ما يخفى سببه، وهو على الله محال. قال المالكي: منع بعض النحويين تنازع فعلي تعجب، والصحيح عندي جوازه، لكن بشرط إعمال الثاني، كقولك: ما أحسن وأعقل زيداً، بنصب ((زيداً)) ب ((أعقل))، لا ب ((أحسن))؛ لأنك لو نصبته به لفصلت ما لا يجوز فصله، ولا يمتنع على مذهب البصريين

بأن يُتعجَّب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوؤهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر -أعنى الظالمين- موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع (قُضِيَ الْأَمْرُ): فرغ من الحساب، وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه -أى: عن قضاء الأمر- فقال: «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» و (إذْ) بدل من (يوم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يقال: أحسن وأعقل بزيدٍ، ثم حذف الباء لدلالة الثانية عليها، ثم اتصل الضمير واستتر، كما استتر في الثاني من قوله تعالى: ((أسمع وأبصر))، فإن الثاني يستدل به على الأول، كما يستدل على الثاني بالأول، إلا أن الاستدلال بالأول على الثاني أكثر من العكس. قوله: (وقيل: معناه: التهديد بما سيسمعون): عطفٌ على قوله: ((وإنما المراد))، وعلى الأول المراد بالتعجب، وهو راجعٌ إلى العباد، لقوله: ((جديرٌ لأن يتعجب منهما))، ومتعلق الاستماع والإبصار منسيٌّ ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر، فهو كقول الشاعر: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصرٌ ويسمع داعي فقطع الفعل عن متعلقه الخاص ليصير مطلقاً، ثم كني به عن ذلك المتعلق بقرينة مقام التهديد. وعلى الثاني: هو كنايةٌ عن مجرد التهديد، والمتعلق المنوي هو ما يسوؤهم ويصدع قلوبهم. قوله: (حين يذبح الكبش) روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله ليه وسلم: ((يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت)). ثم قرأ: (وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ) الآية.

الحسرة)، أو منصوبٌ بالحسرة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) متعلِّق بقوله: (في ضلال مبين) عن الحسن. و (أنذرهم): اعتراض. أو هو متعلق بـ (أنذرهم)، أى: وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) [مريم: 41 - 45]. الصدّيق: من أبنية المبالغة. ونظيره: الضِّحيك والنطيق، والمراد: فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكأنَّ الرُّجحان والغلبة في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: وأنذرهم على هذه الحال) هذا التفسير غير ملائم لقوله تعالى: (إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) [النازعات: 45] والوجه أن يتعلق بقوله: (فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) لأن قوله: (وهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) نفي الإيمان منهم على سبيل الدوام مع الاستمرار في الأزمنة الماضية والآتية على التأكيد والمبالغة. قوله: (وأنه يفني أجسادهم) أي: يحتمل (إنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ) أن يراد به الوراثة الخاصة، وأن يراد العامة، فالتعريف في الأرض على الأول للعهد، ولذلك قال: ((تخرب ديارهم))، وعلى الثاني للجنس، وهو المراد بقوله: ((ويفني الأرض ويذهب بها)). والثاني هو الراجح لوجهين: أحدهما: أن الكلام من قوله: (مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في شأن القيامة. وثانيهما: أن فيه معنى (لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) [غافر: 16]. قوله: (وكثرة ما صدق به) الراغب: الصديق: من كثر الصدق منه. وقيل: بل من لم يكذب قط. وقيل: بل من لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل: بل من صدق بقوله

هذا التصديق للكتب والرسل، أى: كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى: (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 37]. أو: كان بليغاً في الصدق؛ لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومُصدقُ الله بآياته ومعجزاته حري أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعتقاده وحقق صدقه بفعله. قال تعالى: (واذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًا) [مريم: 41] وقال تعالى: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ) [النساء: 69]، والصديقون هم قومٌ دون الأنبياء في الفضيلة على ما بينت في ((الذريعة)). قوله: (أو كان بليغاً في الصدق). الظاهر أنه عطفٌ على قوله: ((والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به))، يعني: أن ((الصديق)) من أبنية المبالغة يجوز أن يحمل على فرط صدقه وكثرة ما صدق به، ويجوز أن يحمل على المبالغة، يدل عليه قوله في فاتحة البقرة: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] قرئ: ((يكذبون))، من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغةٌ في ((كذب)). ثم قال: ((أو بمعنى الكثرة))، ولما عد ها هنا أشياء في مثال الكثرة من قوله: ((غيوب الله وآياته وكتبه ورسله)) أراد أن يرجح بعضاً منها على بعض بمقتضى المقام. وقال: وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل، واستدل عليه بانضمام: (صِدِّيقًا) مع (نَّبِيًا) ليوافق قوله: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ) [الصافات: 3]، فقوله: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ) إشارةٌ إلى كونه نبياًّ، وقوله: (وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ) إشارةٌ إلى كونه صديقاً، أما قوله: ((أي: كان مصدقاً بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبياًّ))، فهو معنى مقاربة الوصفين، أعني: صديقاً ونبياًّ، وقوله: ((لأن ملاك أمر النبوة الصدق)) تعليلٌ لتفسير

يكون كذلك. وهذه الجملةُ وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. و (إِذْ قالَ): نحو قولك: رأيت زيداً، ونِعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق (إذ) بـ (كان) أو بـ (صديقاً نبيا)، أى: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (صِدِّيقًا) في هذا المقام بالمبالغة، يعني: إنما وصفه بقوله: (صِدِّيقًا) وقرن معه (نَّبِيًا) لأن ملاك أمر النبوة الصدق، و ((مصدق الله)) مع خبره معطوفٌ على الجملة التي قبله، واقترانه مع النبي على الوجه الأول: للتكميل، وعلى الثاني: للتتميم. قوله: (وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله). قال صاحب ((الفرائد)): كون الجملة اعتراضاً بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيدٌ عن الطبع وع الاستعمال، والذي ذكر من النظر ليس بمستعمل، وهو مع ذلك بالواو، ويمكن أن يقال: (إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا) في مقام التعليل، كأنه قال: واذكره لقومك؛ لأنه كان صديقاً نبياًّ. ثم ابتدأ وقال: (إذْ قَالَ) أي: اذكر لهم ما قال لأبيه، كأنه بيانٌ لبعض ما يكون به صديقاً نبياًّ. والعامل في: (إذْ): (واذْكُرْ)، والوقت في هذا قائمٌ مقام المفعول به. قلت: أما قوله: ((كون الجملة اعتراضاً بدون الواو بعيدٌ)، فكلام من لم يحقق معنى الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام متصلين معنىً بجملةٍ لا محل لها من الإعراب، ومرجعه إلى التأكيد، وهو يأتي تارةً بالواو، كقوله: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وأخرى بلا واوٍ نحو قوله تعالى: (ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ولَهُم مَّا يَشْتَهُونَ) [النحل: 5]، ومن القبيلين قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة: 75 - 76]، هذا إذا كان: (إذْ قَالَ) بدلاً من (إبْرَاهِيمَ)، وإذا تعلق ب (كَانَ) أو ب (صِدِّيقًا) كان تعليلاً.

خاطب أباه تلك المخاطبات. والمرادُ بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب: أن يتلُو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء: 69]، وإلا فالله عز وجل هو ذاكرُه ومُوردُه في تنزيله. التاء في (يا أَبَتِ): عوضٌ من ياء الإضافة، ولا يقال "يا أبتى"؛ لئلا يُجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل: "يا أبتا"، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة. انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلا فالله هو ذاكره ومورده في تنزيله) إشارةٌ إلى أن أصل الكلام: إنا قد أوردنا في التنزيل قصة إبراهيم، وذكرناها فيه، فاتلها أنت على الناس وبلغها إياهم، كقوله: (واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبْرَاهِيمَ) [الشعراء: 69]. ولما كان رسول الله صلى الله ليه وسلم خليفة الله في أرضه والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، جعله ذاكراً ومورداً في القرآن قصص الأنبياء عليهم السلام. قوله: (وقل: ((يا أبتا)) لكون الألف بدلاً من الياء)، يريد: ((يا أبتي)) غير جائزٍ لاجتماع العوض والمعوض عنه صريحاً، وهما الياء والتاء، بخلاف: ((يا أبتا))؛ لأن الألف بدلٌ من الياء، كما أن التاء بدلٌ منها، فلا يكون في الصراحة مثل الياء، ولكن قل استعماله للعود إليه، ولا يبعد اجتماع عوضين عن معوضٍ واحد، فإن صاحب الجبيرة يجب عليه التيمم والمسح، وهما عوضان عن الغسل. قوله: (بأينقٍ)، قد جمعت ((الناقة)) في القلة على ((أنوق))، ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها، وقالوا: ((أونق))، ثم عوضوا من الواو ياءً، فقالوا: ((أينقٌ))، ثم جمعوها على ((أيانق)). قوله: (أن ينصح أباه ويعظه فيما كان) تنازع ((ينصح)) و ((يعظه)) في الظرف، و ((من الخطأ)) بيان ((ما))، ويجب أن يقدر في ((وانسلخ عن قضية التمييز)): ((فيه))؛ لأن الجملة معطوفةٌ على صلة الموصول ولابد من الراجع. قوله: (متورطاً فيه). الجوهري: أورطه وورطه توريطاً: إذا أوقعه في الورطة، وهي: الهلاك، فتورط هو فيها.

آمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة-التي ليس بعدها غباوة- كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدّث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه، أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري"؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آمر العقل) معناه: العقل الآمر والفكر الصائب، وقوله: ((ومن الغباوة)) عطفٌ على ((من الخطأ)). قوله: (أرشق مساقٍ). الأساس: غلامٌ رشيقٌ: إذا كان في اعتدالٍ ودقة، ومن المجاز: رجلٌ رشيقٌ: ظريفٌ، وخطٌّ رشيق. قوله: (م استعمال المجاملة واللطف)، هذا الأسلوب يسمى بالاستدراج والكلام المنصف. قوله: (منتصحاً في ذلك) إشارةٌ إلى قوله: ((رتب الكلام معه في أحسن اتساقٍ)). اعلم أن ((حين)) في قوله: ((انظر حين أراد أن ينصح)) لا يجوز أن يكون ظرفاً لقوله: ((انظر))، إذ ليس المراد بالأمر بالنظر في ذلك الزمان، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لقوله: ((رتب))، إذ لا يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله، بل هو مفعولٌ به لقوله: ((انظر))، أي: انظر إلى زمان إرادته نصيحة أبيه، والمقصود من النظر في ذلك الزمان: النظر إلى ما هو فيه، لكن ذكر الزمان للإشعار بأن ذلك الزمان لغرابة ما وقع فيه، جديرٌ بأن ينظر فيه، وهذا المعنى مأخوذٌ من كلام المصنف في قوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ) [البقرة: 34]، (وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ) [البقرة: 126]، وفي الكلام حذفٌ، وهو فعل العلم المعلق عن العمل، أي: انظر لتعلم كيف رتب.

وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، -إلا أنه بعض الخلق- لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة، كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى: (وَلا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 80]؛ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره - وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره - لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع -يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علمُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكفرا وجحوداً)، الراغب: الجحود: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. قال تعالى: (وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) [النمل: 14]. قوله: (فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له) هذا الاعتراض فيه التنبيه على غباوة السامع والتمادي في الغفلة والانغماس في ورطة الجهل، قال الفرزدق: فانعق بضأنك يا جرير، فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا

الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان - الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم - هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استعصى على ربك) أبلغ من ((عصى))، لمعنى الطلب فيه. قوله: (لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه) لعله يريد أن قوله: (إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًا) من باب التلميح، وهو أن يشار في الكلام إلى نحو قصةٍ، وهي ما ذكره الله تعالى في قوله: (وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي) [الكهف: 50] من استعصاء اللعين على الله، وأنه عدوٌّ لبني آدم، فآثر خليل الله ما هو مختصٌّ بالله على ما يختص بالغير، لأنه أهم شيءٍ عنده، ومنه قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33]، قال المصنف: ((إن تكذيبك أمرٌ راجعٌ إلى الله فاله عن حزنك لنفسك، وأنهم كذبوك وأنت صادقٌ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم، وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه)). قوله: (كأن النظر في عظم ما ارتكب [من ذلك] غمر فكره) أي: لم يلتفت إلى ما هو في غير ما هو في جنب الله، وهو عداوته لآدم، وقد يعرض للمتكلم وهو في أثناء كلامه ما يذهله عن بعض ما هو فيه، فيأخذ في الأهم.

ثم رَبَّعَ بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجرُه ما هو فيه من التَّبِعة والوبال، ولم يخل ذلك من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة)، فإن قلت: قال: رتب الكلام معه أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، ثم أتى بكلمة الترتب، وعد أربعة أنواع من النصيحة وما بين وجه الاتساق؟ قلت: وفي كلامه إشعارٌ به وتلويحٌ إليه، وبيان ذلك: أن الواجب على الداعي الناصح والطبيب الحاذق بيان الضلال، وتشخيص الداء العضال، ثم الشروع في الدواء بإزالة المرض ورد الصحة، فبين عليه السلام أولاً خطأه في ارتكاب الشنيع من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً، وإليه الإشارة بقوله: طلب أولاً العلة في خطابه طلب منبهٍ على تماديه، إلى آخره، فإذا تنبه المنصوح والمريض على الضلال والمرض لابد أن يطلب من المنبه طريق الإزالة، فعليه أن يوقفه على الطبيب والمرشد، وإليه الإشارة بقوله: ((وعندي معرفةٌ بالهداية فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه))، فإذا أذن له عند ذلك يشرع في إزالة ما ينبغي إزالته، فيبتدئ بالأهم والأولى. ولا ارتياب في أن الشيطان هو الذي باض الضلال في بني آدم وفرح فيه من أول الزمان، وأوقعه في ورطة المهالك، وإليه الإشارة بقوله: ((وهو عدوك وعدو أبيك وأبناء جنسك، وهو الذي ورطك في هذه الضلالة))، وإن الشيطان هو الذي انتصب لاستجرارهم إلى الوبال وعذاب النار في آخر الأمر، وإليه الإشارة بقوله: ((ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة)) فلما لم ينجح في أبيه هذا الوعظ حيث أجاب جوابه الأحمق بقوله: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي)، لا جرم أنه عليه السلام لما لم يتمكن من التخلية بإزالة الشرك الذي هو المرض، فأسرع في التحلية من الأمر بالتوحيد الذي هو رد الصحة التي هي فطرة الله التي فطر الناس علليها، وبمكارم الأخلاق، فطلب الاعتزال

حُسن الأدب؛ حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: (أخاف أن يمسك عذابٌ)، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه، وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم حيث قال: (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72]، فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله، أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا (أَبَتِ)؛ توسلا إليه واستعطافا. (ما) في (ما لا يَسْمَعُ) و (ما لَمْ يَاتِكَ) يجوزُ أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في (لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار (شَيْئاً) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أى: شيئاً من الغناء، ويجوز أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: (وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّي) [مريم: 48] (واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4]. قوله: (فذكر الخوف والمس ونكر العذاب) ثم أسنده إلى ((الرحمن)) للإيذان بأن العذاب من الموصوف بالرحمة أشد، وإليه لوح المتنبي بقوله: فما يوجع الحرمان من كف حارمٍ ... كما يوجع الحرمان من كف رازق قوله: (وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب)، وجعل مسيس العذاب سبباً لكون الشيطان وليه ووسيلةً إلى الدخول في زمرة أشياعه. قوله: ((شَيْئًا) يحتمل وجهين) أي: في قوله: (ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، ولعل إيقاعه قوله: ((ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين)) يعني: لا يسمع ولا يبصر، اعتراضا بين الوجهين للإشعار باختصاص النصب على المصدر فيهما دون المفعول به، كما في الوجه الثاني، لئلا يفوت إرادة الإطلاق منهما على ما سبق له. واعلم أن (شَيْئًا) جيء به مراعاةً

يُقدَّر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك. (قَدْ جاءَنِي): فيه تجدُّد العِلْم عنده. (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم: 46]. لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لفواصل السورة ظاهراً، وكان من حقه أن يعلق بالأفعال الثلاثة، فترك تعلقه بالفعلين السابقين لذلك الغرض، فوجب تعلقه بالأخير. ثم من الوجهين الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى إرادة المبالغة. قوله: (أغن عني وجهك)، أي: بعد وجهك عني؛ لأن الشيء إذا استغني عنه فقد ترك وبعد. قال في ((المغرب)): أغن عني كذا، أي: نحق عني وبعده. قال: لتغني عني إنائك أجمعا وعليه حديث عثمان رضي الله عنه في صحيفة الصدقة التي بعثها عليٌّ رضي الله عنه على يد محمد بن الحنفية: ((أغنها عنا))، وهو في الحقيقة من باب القلب، كقولهم: عرض الدابة على الماء. قوله: ((قَدْ جَاءَنِي) فيه تجدد العلم عنده): بيانٌ لاتصال قوله: (يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ) بقوله: (ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) أي: لم تعبد الجماد وما لا يدفع عنك الأذى؟ وما أقول ذلك من تلقاء نفسي، ولا كنت عاملاً به قبل هذا، بل قد جاءني فيه تجدد العلم عند إمحاض نصحي هذا، فالضمير في ((فيه)) يعود إلى المذكور، ولما كان المذكور محض النصح، كان الضمير في ((عنده)) راجعاً إليه.

ناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخُ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل (يا أَبَتِ) بـ"يا بنىّ"، وقدَّم الخبر على المبتدأ في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ)؛ لأنه كان أهمَّ عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سُلوان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أقبل عليه الشيخ)، وفي تخصيصه تنبيهٌ على جسارة قلبه وشدة شكيمته، يعني: كان من حقه وكونه رجلاً شيخاً أن يأتي باللطف والمجاملة، لكن عكس. قوله: (وقدم الخبر على المبتدأ). قال أبو البقاء: (أَرَاغِبٌ): مبتدأ، و (أَنتَ): فاعله أغنى عن الخبر، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على الهمزة. وقال المالكي وغيره: إن (أَنتَ): مرفوعٌ ب (أَرَاغِبٌ)، وإلا يلزم الفصل بين (أَرَاغِبٌ) ومعموله وهو (عَنْ آلِهَتِي) بأجبني وهو (أَنتَ). وأجيب أن (عَنْ): متعلقٌ بمقدرٍ بعد (أَنتَ) دل عليه (أَرَاغِبٌ). قال ابن الحاجب في ((الأمالي)): لا يتوهم أحدٌ أن ((أقائمٌ هو)) من قبيل ((أقائمٌ زيدٌ))، بل قائمٌ: خبرٌ ل ((هو)) مقدمٌ عليه، ولذا يقال في التثنية والجمع: أقائمان هما، وأقائمون هم؟ وعورض بنحو: أراغبٌ أنتما وأراغبٌ أنت؛ لأنه متعينٌ أن يكون ((أراغبٌ)) مبتدأ. قوله: (وهو عنده أعنى)، أي: تقديم الخبر عند أبي إبراهيم أهم. الأساس: عني بكذا واعتنى به وهو معنيٌ به، ومنه قول سيبويه: وهم ببيانه أعنى. قوله: (سلوانٌ). الجوهري: السلوانة، بالضم: خرزةٌ كانوا يقولون: إذا صب عليها الماء من المطر فيشربه العاشق سلا، واسم ذلك الماء: السلوان.

وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأرمينك بلساني؛ يريد الشتم والذمّ، ومنه: "الرَّجِيمِ" المرمىّ باللعن. أو: لأقتُلنَّك، من رجم الزاني. أو: لأطردنك رميا بالحجارة. وأصل الرجم: الرمي بالرجام (مَلِيًّا) زمانا طويلاً، من الملاوة. أو: مليا بالذهاب عنى والهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتى لا تقدر أن تبرح. يقال: فلان ملىّ بكذا، إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف (وَاهْجُرْنِي)؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ) أى فاحذرنى واهجرني، لأن (لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد وتقريع. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 47 - 48]. (سَلامٌ عَلَيْكَ) سلامُ توديع ومتاركة، كقوله تعالى: (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وثلجٌ لصدر). الأساس: ومن المجاز ثلج فؤاده، وهو مثلوج الفؤاد، وثلجت نفسه بكذا: بردت وسرت. قوله: (الرمي بالرجام). الجوهري: الرجم: القتل، وأصله الرجم بالحجارة، والرجام: حجارةٌ ضخام. قوله: (من الملاوة). الجوهري: أقمت عنده ملاوةً من الدهر، أي: حيناً وبرهة، وعلى هذا (مَلِيًا): ظرفٌ، وعلى الوجه الثاني: حالٌ من الفاعل. قوله: (أثخنك بالضرب). الأساس: أثخن في الأمر: بالغ فيه. قوله: ((لأن (لأَرْجُمَنَّكَ) تهديدٌ وتقريع)، تعليلٌ لدلالة (لأَرْجُمَنَّكَ) على ((فاحذرني))، ولا يصلح المذكور أن يكون معطوفاً عليه؛ لأنه جواب القسم، ولا يصلح هذا أن يكون جواباً له، فيقدر ما يكون مسبباً عما تقدم، فيعطف عليه، على منوال قوله تعالى: (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل: 15].

سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص: 55]، وقوله: (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان: 63]، وهذا دليلٌ على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار؟ فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قلت: قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب. وقالوا: إنما استغفر له بقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 86]؛ لأنه وعده أن يؤمن. واستشهدوا عليه بقوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة: 114]. ولقائل أن يقول: إنّ الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأمّا القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما ترد الأوامر والنواهي)، قيل: النواهي مجمعٌ عليها في كونهم مخاطبين بها، وأما الأوامر فعند الشافعي رضي الله عنه أنهم مخاطبون بها بشرط الإيمان، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه أنهم مخاطبون مطلقاً، قيل: فيه نظرٌ؛ لأن التوحيد أصلٌ، فلا يجوز أن ينقلب شرطاً؛ لأن الشرط تبعٌ للمشروط، وأجيب: أن كونه شرطاً بسبب اقتضاء صحة هذا المأمور به، لا أنه شرطٌ في نفس الأمر. قوله: (والذي يدل على صحته) أي: صحة القول بجواز الاستغفار على قضية العقل، وبطلان القول باشتراط التوبة عن الكفر: هذه الآية، وبيانه: أنه لو كان إبراهيم عليه السلام شارطاً للإيمان لم يكن استغفاره مستنكراً ومستثنىً في قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: 4]، فلما استثنى دل على أنه ما شرط التوبة؛ لأن الاستغفار على شريطة التوبة مستحسنٌ من كل أحد، فلا يكون منكراً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب ((الانتصاف)): الحق أن التحسين والتقبيح باطلان، فلا حاجة إلى هذا التعليل. وقال صاحب ((الفرائد)): لو كان الوعد والوفاء على قضية العقل لقيل: ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا جرياً على قضية العقل، فلما ورد السمع بأن الاستغفار لا يجوز للكافر، ترك الاستغفار وتبرأ منه، ويمكن أن يقال: وعده الاستغفار بشرط التوبة، ولم يعلم بأنه ممن لا يؤمن البتة، فوفى بالوعد وقال: (واغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 86]، كأنه قال: أخرجه من الضلال واغفر له، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: 114] أي: ممن لا يؤمن، ترك الدعاء وتبرأ منه. قال الإمام: الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك، والمنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصيةً، فإن كثيراً من خواص النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز لنا التأسي بها مع أنها كانت مباحةً له. وزاد صاحب ((التقريب)) على هذا بأن قال: نفي اللازم ممنوعٌ أيضاً، فإن استثناءه عما وجبت فيه الأسوة إنما يدل على أنه غير واجب، لا على أنه غير جائزٍ ومنكر، وكان ينبغي له أن يقول- بدل قوله: ومستثنىً عما وجبت فيه الأسوة-: مستثنىً عما جازت فيه الأسوة لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ ... ) [الممتحنة: 6] الآية، ولا دلالة فيه على الوجوب. وقلت- واعلم عند الله-: كلام صاحب ((الفرائد)): وعده الاستغفار بشرط التوبة ولم يعلم بأنه ممن لا يؤمن، إلى آخره، حسنٌ، لكن مع زيادةٍ يسيرة، والنظم يساعد عليه. وبيانه: أنه عليه السلام لما أجاب عن قول أبيه: (لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًا) بقوله: (سَأَسْتَغْفِر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًا) جوابه الحكيم إظهاراً للتعطف والرأفة، وإبداءً للرقة والرحمة، كأنه عليه السلام ما التفت إلى جفائه وغلظته بناءً على ما وصفه الله تعالى: (إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114]، ولما لم يكن عارفاً بما يؤول إليه حال أبيه من الإصرار على الكفر، وأنه ممن لا يؤمن البتة، وفى بالوعد وقال: (واغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء: 86]، كأنه قال: أخرجه من الضلال واغفر له (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: 114]، أي: مصرٌّ على الضلالة والكفر، ترك الدعاء وتبرأ منه. فظهر من هذا أن استغفاره إنما لم يكن مستنكراً؛ لأنه عليه السلام لم يكن عالماً بإصراره على الكفر، لقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) [التوبة: 114]، بخلافه في تلك الصورة، فإنه تبين للمؤمنين أنهم أعداء الله بقوله: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة: 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجهٍ ما. ثم بالغ في تفصيل عداوتهم بقوله تعالى: (إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 2]، ثم حرضهم على قطيعة الأرحام بقوله: (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) [الممتحنة: 3]، ثم سلاهم بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ... ) إلى قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: 4]، فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله هذا المقام، كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع، يعني: لكم التأسي بإبراهيم مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير، فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم بالرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم لأبيه في قوله: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)؛ لأنه لم يتبين له حينئذٍ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم لكم. فظهر من هذا البيان أن لابد للمفسر من تعيين المقام والنظر إلى ترتيب النظام، لئلا يدحض في مزال الأقدام، والحمد لله الذي هدانا لهذا.

قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: 4]، فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأمّا (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة: 114]، فالواعدُ هو إبراهيمُ لا آزر، أى: ما قال (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء: 86] إلا عن قوله: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، وتشهد له قراءةُ حمادٍ الرواية: (وعدها أباه). والله أعلم (حَفِيًّا) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما (عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إيَّاهُ) [التوبة: 114] فالواعد إبراهيم لا آزر): إبطالٌ لاستشهاد الخصوم وقولهم: إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن، بدليل قوله: (ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وعَدَهَا إيَّاهُ) [التوبة: 114] بأن الواعد هو إبراهيم لا آزر، بدليل قراءة حماد. وقلت: أظهر منه سياق الآيات؛ لأن قوله عليه السلام: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) إنما صدر منه بعد فظاظة أبيه في الرد وغلظته في قوله: (لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيًا)، فيكون هذا هو الوعد، فالواعد في قوله: (وعَدَهَا إيَّاهُ) هو إبراهيم عليه السلام، فيعلم منه ضعف قول صاحب ((التيسير)): الاستثناء في قوله: (إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة: 4] منقطعٌ تقديره: لكن (قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)؛ لأنه كان لموعدةٍ وعدها أبوه، فظن أنه قد أنجزها، فلما تبين إصراره تبرأ منه، ولا تحل لكم ذلك مع علمكم. قوله: (ما قال: (واغْفِرْ لأَبِي) [الشعراء: 86] إلا عن قوله) أي: ما صدر قوله إلا عن قوله: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) وبسببه، كقوله: ينهون عن أكلٍ وعن شربٍ قوله: (قراءة حمادٍ الرواية)، قيل: حمادان، الرواية الكوفي، والراوية البصري، وهو المراد ها هنا، وتصحيفاته مشهورةٌ، من ذلك في قوله: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) [الأعراف: 156]

الحفيّ: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به (وَأَعْتَزِلُكُمْ): أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المرادُ بالدعاء العبادة؛ لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة». ويدل عليه قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) [مريم: 49]، ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء. عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، مع التواضع لله بكلمة (عَسى) وما فيه من هضم النفس. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم: 49 - 50]. ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوّضه أولادا مؤمنين أنبياء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه قرأ: أساء، وفي قوله: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى ائْتِنَا) [الأنعام: 71] أنه قرأ: إيتنا. قوله: (الدعاء هو العادة) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، عن النعمان بن بشير. ومعنى الحصر: أن المقصود من العبادة: إنشاء غاية الخضوع والتذلل، والدعاء ليس إلا إظهار الافتقار وإبداء التذلل لله تعالى. قوله: (الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء)، وهو قوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83] إلى آخره.

(مِنْ رَحْمَتِنا) هي النبوّة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامّة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال: إنى أتتنى لسان لا أسر بها يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]؛ فصيَّره قدوةً حتى ادّعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج: 78]، و: (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة: 135]، (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل: 123]، وأعطى ذلك ذُرِّيَّتَه فأعلى ذِكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما عبر باليد عما يطلق باليد)، هو من باب إطلاق السبب على المسبب، أو من باب إطلاق اسم المحل على الحال. قوله: (إني أتتني لسانٌ لا أسر بها)، تمامه: من علو لا عجبٌ منها ولا سخر علوة: اسم امرأة. الضمير في ((بها)) راجعٌ إلى الكلمة، والشعر لأعشى باهلة قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر، ويروى: ولا صخب، وهو الصياح مكان: ولا سخر، يقال: سخرت منه أسخر سخراً، بالتحريك، مسخراً وسخراً. قوله: (وأعطى ذلك)، يجوز أن يكون إشارةً إلى معنى قوله: (ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) الآية، ولذلك رتب عليه قوله: ((فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم)) وجعل ذلك تخلصاً إلى ذكر موسى عليه السلام بقوله: (واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا). قوله: (كما أعلى ذكره). الأساس: ومن المجاز: له ذكرٌ في الناس، أي: صيتٌ وشرفٌ (وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44]، ورجلٌ مذكور.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [مريم: 51]. المخلص بالكسر: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو: أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. وبالفتح: الذي أخلصه الله. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبىّ: الذي يُنبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم: 52]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المخلص، بالكسر): عاصمٌ وحمزة والكسائي، وبالفتح: الباقون. قوله: (النبي: الذي ينبيء عن الله عز وجل). الراغب: النبي بغير همز، فقد قال النحويون: أصله الهمز، واستدلوا بقولهم: مسيلمة نبيء سوء. وقال بعض العلماء: هو من النبوة، أي: الرفعة، وسمي نبياًّ لرفعة محله عن سائر الناس، المدلول عليه بقوله: (ورَفَعْنَاهُ مَكَانًا علِيًا)، فالنبي بغير الهمز أبلغ؛ لأنه ليس كل متنبئٍ رفيع المحل، ولذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن قال له: يا نبيء الله، فقال: ((لست بنبيء الله، ولكن نبي الله)) لما خاطبه بالهمز ليغض منه، والنبوة والنباوة: الارتفاع، ومنه قيل: بنا بفلانٍ مكانه، كقولهم: قض عليه مضجعه، ونبا السيف عن الضريبة؛ إذا ارتد عنه ولم يمض فيه، ونبا بصره عن كذا، تشبيهاً بذلك.

الأيمن: من اليمين، أى: من ناحيته اليُمنى. أو: من اليُمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قرّبه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك. وعن أبى العالية قرّبه حتى سمع صريف القلم الذي كُتبت به التوراة. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم: 53] (مِنْ رَحْمَتِنا) من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه، وهبنا له هارون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) [مريم: 50]. و (أَخاهُ) على هذا الوجه بدل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صريف القلم). النهاية: صريف الأقلام: صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله عز وجل ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ. قوله: (كما في قوله: (ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا))، يعني: ما ينصر أن ((من)): للتبعيض: قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًا (49) ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًا) لأن ((من)) في هذه الآية لا تحتمل ما تحتمله في تلك الآية من الوجهين؛ لأن (وهَبْنَا) يقتضي مفعولاً به وليس فيها غيره، بخلافه فيما نحن فيه؛ لأن (أَخَاهُ) إن جعل مفعولاً كان ((من)): ابتدائياً، وإذا جعل ((من)) مفعولاً، كان (أَخَاهُ) بدلاً منه، وبعض الرحمة أما دينيٌّ وهو النبوة والكتاب والحكمة وإرشاد الخلق، أو دنيويٌّ وهو الولد والمال وسعة الرزق، وفي كلام الواحدي إشعارٌ بهذا. فعلى هذا الأنسب أن يجعل (أَخَاهُ) بدل البعض من الكل؛ لأن معاضدته بأخيه، ومؤازرته به، بعض المذكورات، قال في قوله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ) [إبراهيم: 21]: يجوز أن يكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيءٍ، هو بعض عذاب الله؟ أي: بعضَ بعضِ عذاب الله، والمعنى على الابتداء: ووهبنا له من أجل سبق رحمتنا، وتقدير تخصيصه بالمواهب الدينية والدنيوية: (أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًا)، والأول

و (هارُونَ): عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته ومؤازرته كذا عن ابن عباس رضى الله عنه. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 54 - 55]. ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأوّاه، والصدّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه وعد صاحبا له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الوجه، لما فيه من تنبيهٍ على سعة رحمة الله، فإن الأنبياء مع جلالتهم ورفعة منزلتهم منحوا بعضاً منها. قوله: (وكان هارون أكبر من موسى فوقعت الهبة على معاضدته)، يعني: لما كان هارون أكبر سناً لم تكن الهبة في قوله: (ووَهَبْنَا) نحو قوله: (ووَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ)، فوجب الحمل على المعاضدة والمؤازرة. قوله: (كالتقليب، نحو: الحليم)، يعني: ذكر إسماعيل للشهرة بصدق الوعد، كذكر إبراهيم عليه السلام بالحليم والأواه في قوله: (إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114]، الأساس: هو ملقبٌ بكذا ومتلقبٌ به، ولقب به وتلقب، ونبز بلقبٍ قبيح: (ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) [الحجرات: 11]، وقال: الحماسي: أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوءة اللقبا قيل: الفرق بين اللقب والعلم، أن اللقب من معنىً في الغالب، كقفةً وبطة، سمي بها لقصره.

أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: 102]. كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه: 132]، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم: 6]، ألا ترى أنهم أحق بالتصدّق عليهم؟ فالإحسان الديني أولى. وقيل: أَهْلَهُ أمته كلهم من القرابة وغيرهم؛ لأنّ أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أنّ من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فانتظره سنةً)، عن أبي داود، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له بقيةٌ، ووعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاثٍ فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى، لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاثٍ أنتظرك)). قوله: (أنهم أحق بالتصدق عليهم)، روينا عن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، قال رجلٌ: يا رسول الله، عندي دينارٌ. قال: ((تصدق به على نفسك)). قال: عندي آخر. قال: ((تصدق به على ولدك)). قال: عندي آخر. قال: ((تصدق به على زوجتك)). قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على خادمك)). قال: عندي آخر. قال: ((أنت أبصر)). قوله: (وفيه أن من حق الصالح)، أشار إلى معنى الإدماج في هذا الوجه، وأن في وضع الأهل موضع الأمة إشارةً إلى الحض على النصح وإدخال الأجانب في زمرة الأهل والأقارب، وإذا كان حكم الأباعد بهذه المثابة، فكيف بالأقرباء؟

والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم: 56 - 57]. قيل: سُمى إدريساً؛ لكثرة دراسته كتاب الله عزّ وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرّب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى (إِدْرِيسَ) في تلك اللغة قريبا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. المكان العلى: شرف النبوّة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه: ((إنه رفع إلى السماء الرابعة)). وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إلى السماء السادسة. وعن الحسن رضى الله عنه. إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وعن النابغة الجعدي: أنه لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره: بلغنا السّماء مجدنا وسناءنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنه رفع إلى السماء الرابعة)، عن الترمذي، عن أنسٍ قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة))، وكذا في حديث المعراج، عن البخاري ومسلم. قوله: (بلغنا السماء مجدنا) البيت، قبله:

قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى أين يا أبا ليلى؟ » قال: إلى الجنة. (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم: 58]. (أُولئِكَ): إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و «من» في (مِنَ النَّبِيِّينَ) للبيان، مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح: 29]؛ لأن جميع الأنبياء مُنعم عليهم. و"من" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حكيمٌ إذا ما أوردا الأمر أصدرا قيل: ((مجدنا)): مفعولٌ له. ((مظهراً))، أي: مصعداً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بها قال: ((لا يفضض الله فاك))، وإنه نيف على مئةٍ وكان من أحسن الناس ثغراً، والله أعلم بصحته. قوله: (فاك) أي: أسنان فيك. قوله: (لأن جميع الأنبياء منعمٌ عليهم) تعليلٌ لجعل ((من)) للبيان لا للتبعيض، لما يلزم من الثاني خروج بعضهم من أن يكونوا منعماً عليهم، وقال تعالى: (ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ) [النساء: 69]، كذلك قوله: (وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29]؛ لأن الضمير في (مِنْهُم) عائدٌ إلى قوله: (والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] إلى آخره، فإن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات لا بعضهم، وإن الله تعالى وعد الكل مغفرةً وأجراً عظيماً لا البعض.

الثانيةُ للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبى نوح. وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح؛ لأنه من ذرية سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم. وموسى وهارون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل. وكذلك عيسى: لأنّ مريم من ذرّيته (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) يحتمل العطف على "مِن" الأولى والثانية. إن جعلت (الذين) خبرا لـ (أولئك) كان (إِذا تُتْلى) كلاما مستأنفا. وإن جعلته صفة له كان خبرا. قرأ شبل بن عباد المكي: (يُتلى)، بالتذكير؛ لأن التأنيث غير حقيقى مع وجود الفاصل. البكى: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد. عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نعم، المشار إليه بقوله: (أُوْلَئِكَ) بعض الأنبياء لا الكل، وهم المذكورون في هذه السورة، وقد أخبر عنهم بقوله: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) [النساء: 69] وبين قوله: (مِّنَ النَّبِيِّينَ) [النساء: 69] فوجب أن يحمل التعريف في الخبر على الجنس للمبالغة، كقوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 2]، أو أن يقدر مضافٌ بأن يقال: أولئك بعض الذين أنعم الله عليهم من النبيين. قوله: (لقربه منه)، وفي ((جامع الأصول)): ولد إدريس وآدم حيٌّ قبل أن يموت بمئة سنة. قوله: (جد أبي نوح) وهو نوح بن لمك. وقيل: ملكان بن متوشلخ بن إدريس. قوله: ((ومِمَّنْ هَدَيْنَا) يحتمل العطف على ((من)) الأولى والثانية)، فالمعنى على الأول: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) وممن هدينا واجتبينا. وعلى الثاني: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) الذين هم بعض ذرية آدم وبعض من حملنا مع نوح، وبعض من هدينا واجتبينا. وعلى التقديرين قوله: ممن هدينا غير الأنبياء تنويهاً بشأنهم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المري رضى الله عنه: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: «هذه القراءة يا صالح، فأين البكاء؟ » وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قرأتم سجدة "سبحان" فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن أنزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا» وقالوا: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ هذه، قال: اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اتلوا القرآن وابكوا). الحديث من رواية ابن ماجه، عن سعدٍ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نزل القرآن بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)). قوله: (وعن صالح المري)، قال الحافظ إسماعيل بن محمدٍ صاحب ((سير السلف)): هو صالح بن بشير المري قارئ أهل البصرة أحد الزهاد، وكان إذا قص قال: هات جؤنة المسك والترياق المجرب، يعني القرآن، ولا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]. خلفه: إذا عقبه، ثم قيل في عقب الخير «خلف» بالفتح، وفي عقب السوء: خلف، بالسكون، كما قالوا «وَعيدٌ» في ضمان الخير، و «وعيد» في ضمان الشر. عن ابن عباس رضى الله عنه: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم ومجاهد رضى الله عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) [مريم: 60]، يعنى: الكفار. وعن علىٍّ رضى الله عنه في قوله: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ): من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خلفه: إذا عقبه). الراغب: خلف: ضد تقدم وسلف، والمتأخر لقصور منزلته. يقال: له خلفٌ، ولذلك قيل: الخلف: الرديء، والمتأخر لا لقصور منزلته، يقال له: خلفٌ، ويقال: سكت ألفاً ونطق خلفاً. ويقال: تخلف فلانٌ فلاناً: إذا تأخر عنه، وإذا جاء خلف آخر، وإذا قام مقامه، ومصدره الخلافة، وخلف خلافةً، بفتح الخاء، أي: فسد، فهو خالفٌ رديءٌ أحمق، ويعبر عن الرديء ب ((خلف))، نحو: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [مريم: 59]. قوله: (وينصر الأول قوله: (إلاَّ مَن تَابَ وآمَنَ))، أي: ينصر الوجه الأول وهو أن يراد بالقوم: اليهود، وب (أَضَاعُوا الصَّلاةَ) تركوها لا أخروها عن وقتها؛ لأنه لا يقال: آمن، إلا لمن كان كافراً. ويجوز أن يحمل على التغليظ، كما قال تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ) [آل عمران: 97]، وبهذا التأويل يحسن قول قتادة: هو في هذه الأمة، أي: هذا الكلام نازلٌ في شأن أمة محمدٍ صلوات الله عليه، ولأن إضاعة الصلاة في مقابلة محافظتها في قوله: (والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المعارج: 34] والمحافظة كما قال: أن لا يسهوا عنها، ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها، فإضاعتها ما يضادها. قوله: (وركب المنظور)، أي: الفرس والبغل لا للجهاد، بل لأجل ما ينظر إليه، قال ابن نباتة:

هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى الله عنهم: (الصلوات)، بالجمع. كلُّ شرٍّ عند العرب: غىّ، وكل خير: رشاد. قال المرقش: فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما وعن الزجاج: جزاء غىّ، كقوله تعالى: (يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان: 68]، أى: مجازاة أثام. أو: غيَّا عن طريق الجنة. وقيل: «غىّ» واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وروي الأخفش: (يُلْقُونَ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه قوله: (فمن يلق خيراً) البيت. قبله: أمن حلمٍ أصبحت تنكت واجماً ... وقد تعتري الأحلام من كان نائماً نكت في الأرض: إذا جعل يخط وينقر، وهو كنايةٌ عن المهتم، والواجم: الحزين، يقول: أمن أجل أضغاث أحلام تصبح حزيناً تنكت في الأرض، ومن كان نائماً تعتريه الأحلام، ثم قال: فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي: ومن يفعل الشر لا يعدم من يلومه عليه، ((ومن يغو))، بالكسر، من: غوي، وبالفتح، من: غوى يغوي غياًّ وغوايةً فهو غاوٍ وغوٍ. قلت: ويجوز أن يكون التقابل معنوياًّ، كقول المتنبي: لمن يطلب الدنيا إذا لم يرد بها ... سرور محبٍّ أو مساءة مجرم

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم: 60]. قرئ: (يُدْخلون)، و (يَدْخلون) أى: لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف هم، بيانا لأن تقدّم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا؟ بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم. (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا) [مريم: 61]. لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و «عدن» معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس -فيمن لم يصرفه- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: ((يدخلون)) و (يَدْخُلُونَ))، ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وأبو بكرٍ: على صيغة المفعول، والباقون: على صيغة الفاعل. قوله: (بياناً لأن تقدم الكفر لا يضرهم) ((بياناً)): نصب على أنه مفعولٌ له، واللام في ((لأن)) صلة ((بياناً)). المعنى: قال تعالى: (ولا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) ليبين أن تقدم الكفر لا يضرهم، وأنه تعالى لا يمنع من جزاء أعمالهم شيئاً إذا تابوا من الكفر كما لم يمنع المسلم الأصلي. قوله: (أو: لا يظلمون البتة)، والتأكيد يستفاد من جعل (شَيْئًا) مفعولاً مطلقاً، ولهذا قال: (شَيْئًا) من الظلم، وعلى الأول: مفعولٌ به، والظلم متضمنٌ لمعنى النقص. قوله: (لما كانت الجنة مشتملةً على جنات عدنٍ أبدلت منها)، وهو من بدل البعض من الكل لاستشهاده بقوله: ((أبصرت دارك القاعة والعلالي)) لأن القاعة والعلالي بعض الدار، والعلالي: جمع عليةٍ، وهي الغرفة، وهي فعلية، أصله عليوة من علوت. وقيل: هي علية بالكسر، على فعلية، يجعلها من المضاعف. قال: وليس في الكلام فعليةٌ.

أعلاماً لمعاني: الفينة، والسَّحر، والأمس. فجرى مجرى العدن لذلك. أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها ب (الَّتِي). وقرئ: (جنات عدن)، و (جَنّةُ عَدنٍ) بالرفع على الابتداء. أى: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال في ((الأساس)): ولهم قاعةٌ واسعةٌ، وهي عرصة الدار، وأهل مكة يسمون أسفل الدار: القاعة، ويقولون: فلانٌ قعد في العلية، ووضع قماشه في القاعة، وعليه قول القاضي، حيث قال: (جَنَّاتِ عَدْنٍ): بدلٌ من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها. قوله: (أعلاماً لمعاني الفينة)، قال ابن الحاجب: وضعوا للأوقات أعلاماً كما وضعوا للمعاني الموجودة، وإن لم تكن الأوقات شيئاً موجوداً إجراءً لها مجرى الأمور الموجودة، ولهذا قال: لمعاني الفينة. وقال أيضاً: إن وضع الأعلام للأوقات كوضعها في باب أسامة، لا كوضعها في باب زيدٍ وعمرو؛ لأنه يصح استعمالها لكل فردٍ من الأوقات المخصوصة، كما يصح استعمال أسامة وفينة وقتك الذي أنت فيه. وقيل: ليس المراد بها الآن، وإنما يراد بها الساعة. يقال: فلان يأتي فينةً بعد فينة، أي: ساعةً بعد ساعة، وقال الجوهري: الفينات: الساعات، يقال: لقيته الفينة بعد الفينة، أي: الحين بعد الحين. قوله: (وهي غائبةٌ عنهم)، يريد أن قوله: (بِالْغَيْبِ) إما: حالٌ من المفعول الأول ل ((وعد))، وهو الضمير الراجع إلى ((جنات)) وهو محذوفٌ، فالتقدير: وعدها وهي غائبةٌ عنهم، أو: حالٌ من المفعول الثاني وهو ((عبادة)) فالتقدير: وهم غائبون عنها، أو: صلةٌ

قيل في (مَاتِيًّا) مفعول بمعنى فاعل. والوجه: أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أى: كان وعده مفعولا منجزا. (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم: 62]. اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان: 72]، (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لـ ((وعد)) بتقدير المضاف، والباء للسببية، أي: وعدها عباده بسبب تصديقهم الغيب وإيمانهم به. قوله: (قيل في: (مَاتِيًا) مفعولٌ بمعنى: فاعل)؛ لأن وعد الله يأتي ولا يؤتى. الراغب: مأتياًّ: مفعولٌ من أتيته. وقال بعضهم: معناه آتياً، وليس كذلك، بل يقال: أتيت الأمر، وأتاني الأمر، ويقال: أتيته بكذا وآتيته كذا، قال تعالى: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [البقرة: 25] (وآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54]. قال أبو البقاء: و (مَاتِيًا) على بابه؛ لأن ما تأتيه فهو يأتيك، وقال: الوجه أن الوعد هو الجنة، والجنة تؤتى؛ لأن المكلفين يأتونها. الأساس: أتى إليه إحساناً: إذا فعله، ووعد الله مأتيٌّ، وأتيت الأمر من مأتاه، أي: من وجهه. قال: البحتري: أعد سنيني فارحاً بمرورها ... ومأتى المنايا من سني وأشهري قوله: ((وإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان: 72])، قال: إذا مروا بأهل اللغو

لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص: 55]! نعوذُ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أى: إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب أو لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع. أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام. من الناس من يأكل الوجبة. ومنهم من يأكل متى وجد. وهي عادة المنهومين. ومنهم من يتغدى ويتعشى، وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشتغلين به مروا مُعرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم. الراغب: اللغو من الكلام: ما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن رويةٍ وفكر، فيجري مجرى اللغا، وهو: صوت العصافير ونحوها من الطيور. قال أبو عبيدة: يقال: لغوٌ ولغاً. قوله: (لولا ما فيه من فائدة الإكرام)، اعلم أن أصل السلام: الدعاء بالسلام. قال المبرد: هو دعاء الإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه ويتخلص من المكروه، ثم فشا استعماله في الإكرام حتى لا يفهم غيره، ولهذا لو تركتها لحمل صاحبك على الإهانة. قوله: (الوجبة) الجوهري: الموجب: الذي يأكل في اليوم والليلة مرةً. يقال: فلانٌ يأكل وجبةً، وعنه: النهمة: بلوغ الهمة في الشيء، وقد نهم فهو منهومٌ، أي: مولعٌ به، والنهم بالتحريك: إفراط الشهوة في الطعام. قوله: (وهي العادة الوسطى المحمودة)، يريد أن أكل الوجبة من طرف التفريط

نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودُروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، تريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين. (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم: 63]. (نُورِثُ) وقرئ: (نورّث)، استعارة، أى: نبقى عليه الجنة كما نُبقى على الوارث مال المورّث، ولأنَّ الأتقياءَ يلقَوْن ربَّهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأكل على الدوام إفراطٌ، والوسطى هي المحمودة، والمراد بمن يأكل الوجبة: المسكين الذي يتقنع بالبُلغةِ دون العارف الذي يتعانى التقشف. قوله: (ولأن المتنعم عند العرب) عطفٌ على قوله: "ولكن على التقدير"، أي: لا يكون ثمة ليلٌ ولا نهار، لكن يُقدران على ما أُلف في الدنيا أو لا يُقدرُ ذلك، فيكونُ كنايةً عن مجردٍ التنعم والتترف؛ لأن المتنعم عند العرب: من جد غداءً وعشاءً. قوله: (ولأن الأتقياء يلقون ربهم): عطفٌ على قوله: "أي: نُبقي عليه الجنة" من حيث المعنى، فعلى الأول: (نُورِثُ): استعارة لنُبقي، كقوله صلواتُ الله عليه: "واجعله الوارث منا" أي: أبقهما، وعلى الثاني: أعمالهم وثمرتُها بمنزلة المورث وتركته كما أن المورث إذا قضى نحبه يبقى للوارث مالُه، كذلك أعمالهم تنقضي وتبقى ثمرتها لهم، وهي الجنة، وعلى الأول: استعارةٌ تبعية، على الثاني: تمثيلية.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]. (وَما نَتَنَزَّلُ): حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك". قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى. والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله: فلست لإنسىّ ولكن لملأك ... تنزّل من جو السّماء يصوب لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صوابا وحكمة، وله ما قدامنا (وَما خَلْفَنا): من الجهات والأماكن (وَما بَيْنَ ذلِكَ): وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلست لإنسيٍّ) البيت، أي: لست ابناً لإنسيٍّ، و"يصوبُ": استئنافٌ على سبيل البيان والتعليل، وفي معناه قولُ صواحب يوسف: (مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف: 31].

في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه؟ ! وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى: أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل: معنى (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا): وما كان تاركا لك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معنى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً): وما كان تاركاً لك): عطفٌ على قوله: "لا تجوز عليه الغفلة والنسيان"، وقوله: "وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة": عطفٌ على قوله: (وَمَا نَتَنَزَّلُ) حكاية قول جبريل عليه السلام. نقل الإمام عن القاضي من المعتزلة، أنه رد هذا القول قوال: هذا مخالفٌ للظاهر؛ لأن التنزيل بنزول الملائكة أليقُ، والأمر في قوله: (بِأَمْرِ رَبِّكَ) بالتكليف أنسبُ، ولأن الخطاب هنا من جماعةٍ لواحد، وذلك لا يليقُ بمخاطبة بعض أهل الجنة لبعض. وقلتُ: وكلا الوجهين له اعتباراٌ في النظم. أما الأول: فلأنه صلواتُ الله عليه حين سُئل ن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرُّوح، وأبطأ عليه الوحيُ حتى لم يدر كيف يجيب، ثم أنزل الله الأجوبة إكراماً له وأراد الله تعالى أن يفرق هذه الأحوال في السور الثلاث، أودع سؤال الروح في بني إسرائيل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85]، وسؤال قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فيما يليها، وأودع ذكر استبطاء الأجوبة في هذه السورة، وللاختصاص أسرارٌ لا يعلمها إلا الله، ومن أيده بروح القُدس. وأما الوجه الثاني فترتيبه ما ذكره المصنف بقوله: "وما ننزلُ الجنة إلا بان من الله علينا" إلى آخره.

كقوله تعالى: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى: 3]، أى: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أى: وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال الله تعالى- تقريرا لقولهم-: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذى ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ! ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى الله عنه: (وما يتنزل)، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: (إلا بقول ربك). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (السالفة والمترقبة والحاضرة) قال أبو علي: هذه الآية تدل على أن الأزمنة ثلاثةٌ: مستقبلٌ، وهو قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا)، وماضٍ وهو: (وَمَا خَلْفَنَا)، وحالٌ وهو قوله: (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ). قوله: (واعبدهُ يثبك كما أثاب غيرك من المتقين)، أشار إلى ارتباط الأمر بالعبادة بكلام أهل الجنة، وأما اتصاله بحديث نُزولِ جبريل عليه السلام فكأن جبريل عليه السلام يقول: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ)؛ لأنه الحكيم الذي يعرفُ المصالح كلها والمحيط بكل شيء علماً، ونحن لا نقدم على فعل إلا بأمره وإذنه؛ لأنه المالك المتصرف، وليس لنا إلا الطاعة والامتثال لأمره، فعليك أيضاً لزوم العبادة والصبر عليها، لا التصرف؛ لأنه لا ملجأ ولا مفزع إلا إليه، فهل تعلمُ له سمياً يُلجأُ إليه. قوله: ((وَمَا نَتَنَزَّلُ) بالياء على الحكاية عن جبريل)، أي: يكونُ كلامُه ومقولُه وذلك بأن يقول: يا محمد، وما يتنزل الوحي إلا بأمر ربك.

يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في "البغي". (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ): بدل من (ربك)، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أى: هو رب السماوات والأرض (فَاعْبُدْهُ)، كقوله: وقائلة خولان فانكح فتاتهم وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يجب أن يكون الخلاف في "النسي" مثله في "البغي")، وقد سبق أنه فعولٌ أو فعيل. قوله: (وقائلةٍ: خولان فانكح فتاتهم)، تمامه: وأُكرومةُ الحيين خُلوٌ كما هيا "خولانُ": اسم قبيلة، و"الأكرومةُ" من الكرم، كالأعجوبة من العجيب، و"الخلوُ": التي لا زوج لها، أي: الخلية، كنى به عن كونها مطلقةً، "الحيينِ": حي أبيها وحيُّ أمها. ورفع بعد القول الجملة من المبتدأ والخبر، يقولُ: رب قائلةٍ، قالت: هؤلاء خولان فانكح فتاتهم. فأجبتها: كيف أتزوج والحال أن أكرومةٌ الحيين خلوٌ لا زوج لها وهي أولى بأن أتزوجها فالفاء في: (فَاعْبُدْهُ) كالفاء في البيت، وهي دلت على أن وجود هذه القبيلة علةٌ لأن يُتزوج منها لحسن نسائها وشرفها. وفيه إشارةٌ إلى ترتب الحكم على الوصف المناسب. قوله: (وعلى هذا الوجه، يجوز أن يكون (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة)، وعلى الوجه كان قوله: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ) حكاية

هلا عديَّ (اصْطَبِرْ) بـ"على" التي هي صلته، كقوله تعالى: (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول المتقين حين يدخلون الجنة، وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) من كلام الله تعالى تقريراً لقولهم. وفيه أنه إذا جُعل بدلاً من (رَبُّكَ)، لا يجوز أن يكون (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) من كلام المتقين، بل إما من كلام الله تعالى أو كلام الملائكة؛ لأن المتقين إذا قالوا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ويكون قوله: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) بدلاً منه، يبقى قوله: (فَاعْبُدْهُ) لا متعلق له، فإنه كما تقرر حكمٌ مرتبٌ على الوصف السابق، ولا جائز أن يكون من تتمة كلام المتقين؛ لأن الجنة ليست دار تكليف وعبادة. وأما إذا جُعل جملة مستقلة مقتطعةً عن كلام المتقين يترتبُ عليها (فَاعْبُدْهُ) ويصحُّ؛ اللهم إلا أن يُجعل الفاءُ جزاء شرطٍ محذوف، ويكون من كلام رب العزة، أي: لما عُرفَ من أحوال أهل الجنة وأقوالهم على هذه الصفة فأقبل على العمل واعبده. قال صاحب "التقريب": وقيل: هي حكاية قول المتقين، أي: وما ننزلُ الجنة إلا بإذن من الله علينا بثواب أعمالنا، وأمرنا بدخولها، وقرر الله ذلك، أي: وما كان ربُّك نسياً لأعمال المتقين. وفيه حزازةٌ لقوله: (بِأَمْرِ رَبِّكَ) دون ربنا، إلا أن يُخاطبوا به جبريل حين دُخولها. وقلتُ: المرادُ أنهم بسرورهم وتبجحهم بما فازوا به من الكرامة والنعيم يُقبلُ بعضهم على بعض يبشرون، وهو أبلغ من لو قيل ربُّنا؛ لأن دلك على أن البشارة بلغت بحيث لم يختص بها مبشرٌ دون مبشَّر، بل كل من يتأتى منه البشارة فهو مبشرٌ. قوله: (هلا عُدي "اصطبر" بـ"علي"؟ ) يعني: "اصطبر" يُعدى بـ"على" لا باللام، فلمَ خُولف؟ وأجاب أن التركيب من باب الاستعارة، وفيه تضمين معنى الثبات، شُبهت العبادة بالقرن، وهو كفؤك في الشجاعة، ثم أُمر المكلفُ بالمكابدة معها بما يؤمرُ به من يريد مدافعة قرنه ومزاولته في الحرب، وهو كقوله: اصطبر لهُ، وهذا هو المرادُ من قوله: "جُعلت العبادةُ بمنزلة القِرن". ولما ضمن "اصطبر" معنى "اثبُت" عُديَ تعديته، أي:

132]؟ قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى: اثبت له فيما يورد عليك من شداته أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اثبُت له صابراً، وإليه الإشارة بقوله: اثبُتْله فيما يوردُ عليك من شداته، أي: حملاتِه. وفيه لمحةٌ من بارقة "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، ما رويناهُ عن مسلمٍ ومالك والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ فذلكم الرباط"، أي: ذلكم المجاهدة الكاملة التي تستحق أن تُسمى مجاهدة، وكأن غيرها من المجاهدات بالنسبة إليها كلا مُجاهدةٍ. قال القاضي: إنما عُديَ باللام لتضمنه معنى الثبات وذكر الكواشي ما ذكره المصنف بعينه، ثم قال: ويجوز أن يُراد: اصطبر على الشدائد لأجل العبادة، أي: للتمكن من الإتيان بها. قوله: (عُداتك) الجوهري: العدا، بكسر العين: الأعداء، يقال: قومٌ أعداءٌ وعداً بكسر العين، فإذا دخلت الهاءُ قلت: عداةٌ بالضم. قوله: (الأغاليط). الجوهري: الأغلوطة: ما يُغلطُ به من الرسائل، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم

وعن احتباس الوحي عليك مدَّة، وشماتة المشركين بك. أى: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله. وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية. وقيل: مثلا وشبيها، أى: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها. (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أئِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم: 66 - 67]. يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة. فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الأغلوطات، والمراد بها هاهنا: ما سألته اليهود عن قصة الكهف وذي القرنين والروح. قوله: (هل تعلم من سُمي باسمه على الحق؟ ) أي: يستحقُّ أن يسمى بـ"إله"؛ لأن الإله ينبغي أن يكون خالقاً رازقاً لعابده مُثيباً، وما سُمي من دونه بإلهٍ تسميته باطلة، كقوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) [النجم: 23].

فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق: فسيف بنى عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد فقد أسند الضرب إلى بنى عبس مع قوله «نبا بيدي ورقاء» وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي. فإن قلت: بم انتصب (إِذا) وانتصابه بـ (أخرج) ممتنع لأجل اللام، لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت: بفعل مضمر يدل عليه المذكور. فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال، فكيف جامعت حرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فسيفُ بني عبس) البيت، ورقاءُ عبس ضرب رأس خالدٍ ونبا السيفُ عن الضربة، أي: " لم يثبت، قال صاحب "الانتصاف": التبس على الزمخشري إرادة العموم، فقال: أراد الله بالإنسان العموم، ومعناه: يريد الله نسبة الشك والكفر إلى كل فردٍ فردٍ من أفراد الإنسان، وقد صرح بأن الناطق بكلمة الشك بعضُ الجنس، ففي عبارته خللٌ، والصحيح أن يقال: يحتمل أن يكون التعريف جنسياً، فيتناول العموم، والمراد الخصوص، ويحتمل أن يكون عهداً، فيكون في أول وهلة خاصاً. وقلتُ: ما لبس عليه إرادة العموم لما لا يحتملها؛ لأن دليل الخصوص عندهم مستقلٌّ بنفسه كما سبق في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]، فقوله: (يَقُولُ) لا يخصص الإنسان، لأنه مستبدٌّ به، بل يفيده، ما ذهب إليه بأمر ثالثٌ، وفيه تهجيرُ ما وُجد في بني آدم من القول الشنيع، نحو قوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَاتُمْ فِيهَا) [البقرة: 72]، قال: خُوطبت الجماعةُ لوجود القتل فيهم. قوله: (لا تقولُ: اليوم لزيدٌ قائمٌ) لأن لام الابتداء تمنع ما بعدها عن العمل فيما قبلها. قوله: (بفعل مضمر يدل عليه المذكور)، قال أبو البقاء: أئذا العاملُ فيها فعلٌ دل عليه

الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في (أءِذا ما) للتوكيد أيضا، فكأنهم قالوا: أحقا أنا سنُخرج أحياءً حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ ! على وجه الاستنكار والاستبعاد. والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالما، وخرج شجاعا: إذا كان نادرا في ذلك، يريد: سأخرج حيا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكلامُ، أي: أُبعثُ إذا، ولا يجوز أن يعمل فيها (أُخرج)؛ لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها. قوله: (لم تُجامعها إلا مخلصةً للتأكيد)، قال ابن الحاجب في "الأمالي": هذه اللامُ لامُ تأكيد، وليست لام ابتداء، وإلا وجب أن يُذكر معها الابتداء. فإن قيل: قدرِ المبتدأ محذوفاً وأبقِ اللام داخلةً على الخبر، قلت: إن اللام مع المبتدأ كـ"قد" مع الفعل و"أن" مع الاسم، فكما لا يُحذف الفعلُ والاسم ويبقى"قد" و"أن"، فكذلك هذا، وهذا التقدير يخالف تقدير المصنف في سورة (وَالضُّحَى) حيث قدرَ: "ولأنتَ سوف يُعطيك". قوله: (و (مَا) في (أَئِذَا مَا) للتوكيد أيضاً)، وذلك أن حروف الصلات كلها وُضعت لتوكيد مضمون الكلام، فقد ضُمت مع اللام التوكيدي، ولذلك قال: "أيضاً". قوله: (أحقاً أنا سنُخرج أحياءً؟ )، قال المرزوقي: قال سيبويه: "أحقاً؟ " منصوبٌ على الظرف، كأنه قال: أفي الحق ذلك وإنما جاز ذلك لأنهم يقولون: أفي حق كذا، أو: في الحق كذا؟ فنصبوه على تلك الطريقة، والمعنى: أفي الحق أنا سنُخرج أحياء ونحوه: عندي إنك قائمٌ، وإتيانُ ضمير الجماعة، وفي التنزيل مفردٌ، إيذانٌ بن المراد بالإنسان: الجنس. قوله: (خرج فلانٌ عالماً، وخرج شجاعاً: إذا كان نادراً). الأساس: ومن المجاز: خرج

نادرا! على سبيل الهزؤ. وقرأ الحسن وأبو حيوة: (لسوف أخرج). وعن طلحة بن مصرف رضى الله عنه: (لسأخرج)، كقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: (ولسيُعطيك) [الضحى: 5]. وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسئ إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه: الواو عطفت (لا يَذْكُرُ) على (يَقُولُ)، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلانٌ في العلم والصناعة خروجاً: إذا نبغَ، وخرجهُ فلانٌ فتخرج. قال زهيرٌ يصفث الخيل: وخرجها صوارخ كل يوم ... فقد جعلت عرائكها تلين أراد أنه أدبها كما يُخرجُ المعلم المتعلم. قوله: (وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار) يعني: لما كان الوقت الذي تكون الحياة فيه منكرةً هذا الوقت، قرن به حرف الإنكار، ويمكن أن يُقال: دل إيلاءُ الظرف همزة الإنكارن وتقديمه على عامله، أن الكلام في الظرف، وأن المنكر وقت حياتهم بعد الموت، فكأنهم أنكروا مجيء وقت فيه حياةٌ بعد الموت، يعني: أن هذا الوقت لا يكون موجوداً، وهو أبلغُ من إنكار الحياة بعد الموت، لما يلزمُ إنكاره على وجه بُرهاني. قوله: (أحين تمت عليك نعمةُ فلانٍ أسأت إليه؟ )، وأنشد في معناه: أحين أتى أن أجتني ثمر الرضا ... أُرد على نزرٍ من العيش يُرضخ قوله: (الواو عطفت (لا يَذْكُرُ) على (يَقُولُ) ووُسطت همزةُ الإنكار)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأن الهمزة ليست من المعطوف عليه، لتأخُّرها عنهُ، ولأنه كيفَ يدخُلُ الإنكارُ على "يقول" مع تأخر الهمزة عنه؛

حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى: (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولأنه يبطل صدريتها، فالأولى أن يقال: (لا يَذْكُرُ) عطفٌ على (يَقُولُ) مُقدراً بعد الهمزة لدلالة الأول عليه، فيرتفع الإشكال. وقلتُ: قد سبق مراراً وأطواراً أن هذه الهمزة مقحمةٌ لتأكيد الإنكار السابق، وأوردنا فيه كلاماً من جانب أبي إسحاق الزجاج. وقال القاضي: وتوسيطُ همزةِ الإنكارِ بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمها، لا يدل على أن المنكر بالذات هو المعطوفُ، وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه؛ لأنه لو تذكر وتأمل فيما أنكر ما نشأ ذلك منه. قوله: ((وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى)، قال صاحب "الانتصاف": إعادة المعدوم جائزةٌ عقلاً واقعةٌ نقلاً، ووافقت المعتزلةُ لكن زعموا أن المعدوم له ذاتٌ ثابتةٌ في العدم، وتُسمى شيئاً، وليس عدماً صرفاً قبل الوجود، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة خذلهم الله في نفي إعادة المعدوم، والمطابق للآية معتقدنا، إذ النشأة الأولى لم يسبقها وجودٌ، ولا كان المنشأ شيئاً بخلاف النشأة الثانية، فإنه سبق لها وجود، وكان شيئاً، فظهر الفرق بين النشأتين، والمعتزلي إن قال: إن الأجسام يُعدمها الله ثم يوجدها وهو حقٌّ، لكن لا يتمُّ عندهم فرقٌ بين النشأتين، فإن المعدوم فيها كان شياً، وإن قالوا: لا تنعدمُ

عَلَيْهِ) [الروم: 27]، على أن ربَّ العزة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، وكشفا عن صفحة جهله. القراء كلهم على (لا يَذْكُرُ) بالتشديد إلا نافعا وابن عامر وعاصما رضى الله عنهم، فقد خففوا. وفي حرف أبىّ: (يتذكرُ). (مِنْ قَبْلُ): من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه. (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) [مريم: 68 - 70]. في إقسام الله تعالى باسمه -تقدست أسماؤه- مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: (فَوَرَبِّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأجسام، لكن تجتمعُ وتتفرقُ كما قال الزمخشريُّ فقد أبعدوا ومالوا إلى مهاوي الفلاسفة. وتفطن الزمخشري بأن القول بإعدام الأجسام وإعادتها يُبطلُ الفرق بين النشأتين، فلم يُطلقه، والقرآن قد نطق به، فالتزم أن الجسام لا تنعدم ليتميز له الفرق بين النشأتين، لأنها على هذا جمعٌ وتأليفٌ، بخلاف الأولى، فإنها إيجادٌ، فهرب من القطر فوقع تحت الميزاب، والفرقُ بين النشأتين أن الأولى أصعبُ بالنسبة إلى قياس العقل، إلا أن ذلك راجعٌ إلينا وإلا فالكل إلى قدرته سواء. قوله: (تفخيمٌ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: الإضافة إضافة تشريف، كبيت الله وناقةِ الله، ثم إذا ضُم معها القسمُ يزداد التفخيم، وأنه بمكان له مدخلٌ في الإقسام به من الفضائل النابهة والكرامة الفائقة، ثم في إيراد هذا القسم بين السبب والمسبب تأكيدٌ بليغٌ في شأن الوعيد، وذلك أنهم لما أنكروا الحشر بقولهم: (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) بعد

السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) [الذاريات: 23]، والواو في: (وَالشَّياطِينَ) يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى "مع"، وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت: هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسىُّ على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين. فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسرورا إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو. قال الله تعالى: (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية: 28]، على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معرفتهم أنهم لم يكونوا شيئاً فخلقهم وجعلهم بشراً سويا، رتب عليه الوعيد على سبيل التوكيد بقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ... ) الآية. قوله: (يعتلون). الأساس: عتلهُ: إذا أخذ في تلبيته فجره إلى حبس ونحوه (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) [الدخان: 47]. قوله: (والمناقلات). الأساس: ومن المجاز: ناقل الشاعرُ الشاعرَ: ناقضهُ، ورجلٌ نقلٌ وذو نقلٍ: إذا كان جدلاً. وفي "الأساس": دهمتهم الخيلُ: غشيتهم.

من تجاثي أهلها على الرُّكب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحُبَا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، فيحبون على ركبهم حبوا. وإن فسر بالعموم، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم، على أن (جثيا) حالٌ مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين؛ لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب. والمراد بالشيعة -وهي «فعلة» كفرقة وفتية- الطائفة التي شاعت، أى: تبعت غاويا من الغواة. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الأنعام: 159]، يريد: نمتازُ من كل طائفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإطلاقِ الحُبا) كنايةٌ عن خلاف الطمأنينة، ولذلك عطفه عليه على سبيل التفسير. قوله: (وإن فُسر بالعموم) وما يشعر بأن إرادة الخصوص أولى بإتيان "إذْ" للتحقيق في القسم الأول، وأن للشك في الثاني، ولأن الضمير في: (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) عائدٌ إلى الإنسان المنكر للبعث في قوله: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ)؛ لأنه مظهرٌ وُضع موضع المضمر؛ لأن المراد منه الإنسان المذكور في قوله: (يَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً). قوله: (على أن (جِثِيّاً) حال مقدرةٌ) يعني: أن قوله: (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً) إذا فُسر بالخصوص، أي: بالكفار، فيكون حالاً غير مقدرةٍ لاستمرار جثوهم من المحشر على شاطئ جهنم؛ لأن أهل المحشر كلهم يجثون على ركبهم قلقاً واضطرابا أو قلة طاقة وعجزاً. وإذا فُسر بالغموم كان: حالاً مقدرةً؛ لأن غير الكفار لا يستمر جثوهم إلى الإحضار إلى شاطئ جهنم، بل نهم بعد الجثو في المحشر يمشون إلى شاطئ جهنم بأرجلهم، ثم عند الإحضار يجثون، دل على هذا التقدير عطفُ (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ) على (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وأنه لابد من الجثو في المحشر لقوله: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) [الجاثية: 28]. قوله: (الطائفة التي شاعت، أي: تبعت غاوياً)، قاله بناءً على العرف، وإلا فالشيعة

من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم. أو أراد بالذين هم أولى به صليا: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصُّلى من بين سائر الصالين، ودركاتُهم أسفل، وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يريد بأشدّهم عتيا: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا ومضلين. قال الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88]، (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت: 13]. واختلف في إعراب (أَيُّهُمْ أَشَدُّ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لغةً: الأتباع. الجوهري: شيعةُ الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحدٌ يتبع بعضهم رأي بعضٍ فهم شيعٌ. قوله: (ويجوز أن يريد بأشدهم عتيا: رؤساء الشيع)، يريد أن (أَيُّهُمْ أَشَدُّ)، يجوز أن يُحمل على الاستفهام، فيفيد العموم في الجنس باعتبار أفراده، فالمعنى: يمتازُ من كل طائفةٍ أعصاهم فأعصاهم، والمراد بـ (بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً): المنتزعون إما باعتبار الترتيب السابق، كما يقالُ: يقدم أولاهم للعذاب فأولاهم، أو باعتبار المجموع، كما قال: "المنتزعين كما هم"، فيكون قوله: "أو أراد بالذين" عطفاً على قوله: "فإذا اجتمعوا"، فوضع المُظهر موضع المضمر، وأن يُحمل على الموصولة، ويكون التعريفُ للعهد، والإشارة به إلى أشخاص معينين وهم الرؤساء. قوله: (واختُلف في إعراب: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ))، قال ابن الحاجب في "الأمالي": مذهبُ الخليل: أنه مرفوعٌ على الحكاية، أي: لننزعن الذي يُقال فيه: أيهم أشدُّ فعلى هذا (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) استفهاميةٌ، ولذلك قدر القول ليصح وقوع الاستفهام بعده. ومذهب سيبويه: أن (أَيُّهُمْ) مبنيٌّ على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب، فقيل: أيهم هو أشدُّ، فعلى هذا هي موصولةٌ بمعنى الذي منصوبٌ مفعول (لَنَنزِعَنَّ)، هذا هو الصحيح؛ لأنه يلزمُ من قول الخليل إما حذفُ أشياءَ كثيرةٍ، أو حذفُ الصلةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والموصول، فهو بعيدٌ. وأيضاً، القولُ الذي يصحُّ حذفُه قولٌ مفردٌ غير واقعٍ صلة الموصول، نحو قوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) [الأنعام: 93] إلى غيرها، ولأن المعنى لا يستقيم إلا أن يُقدر الذي يقالُ فيه: أيهم هو أشدُّ، وليس الكلام على ذلك، ولأن الاستفهام لا يقع إلا بعد أفعال العلم أو القول على الحكاية، و"ننزعنَّ" ليس من أفعال العلم. فإذا قلت: ضربتُ أيهم قام، فالوجه أن يقال: إن "أيهم" موصولةٌ، لا أن يقال: ضربتُ الذي يُقال فيه: أيهم قام، وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم أو القول؛ لأن القول يحكي بعده كل شيء، وأفعالُ العلم إنما وقع بعدها الاستفهام لأحد أمرين: إما لكون الاستفهام مستعلماً به، فإذا قلت: زيدٌ عندك أم عمرو؟ كأنك قلت: أعلمني أيهما عندك؟ فإذا قلت: علمتُ أزيدٌ عندك أم عمرو؟ كان معناه علمتُ ما يُطلب به إعلامك، فبين الاستفهام والعلم اشتراكٌ في هذا. وإما لكثرتها في الاستعمال، فجُعل لها شيئانِ في الكثرة ليس لغيرها ما جُعل لها خصائصُ في غير ذلك، ولم يكثُر غيرها كثرتها. وأجيب عن قوله: "يلزمُ منه حذفُ أشياء كثيرةٍ" أن أمثال هذا الحذف من حلية التنزيل الذي هو معدنُ البلاغة على التقدير: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) المقول في حقه أيهم أشد، وعليه قراءة ابن عباس: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدخان: 30] على الاستفهام صفة للعذاب، أي: المقول في حقه من: فرعون؟ وأنشد الزجاج: ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ أي: فأبيت بمنزلها الذي يُقال له: لا هو حرجٌ ولا محرومٌ. وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله: وإنما القولُ الذي يصحُّ حذفه قولٌ مفردٌ عن قوله: إنما لم يقع الاستفهام إلا بعد القول.

فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لتنزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبنى على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعا على: (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ)، كقوله سبحانه: (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) [مريم: 50]، أى: لننزعن بعض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: "وليس الكلام على ذلك"، فمن المقلوب، ذكر أبو إسحاق الزجاج بعد ما حكى قول الخليل وسيبويه وينس: والذي أتوهمه أن القول في هذا قول الخليل، ثم لننزعن الذي يُقال لهم أيهم أشد على الرحمن، وتأويله: ثم لننزعن من كل شيعةٍ الذي من أجل عتوه يقال له: أي هؤلاء أشد عتيا، فيُستعمل ذلك في الأشد، وقال: كأنه يبتدأ بالتعذيب لأشدهم عتياًّ، ثم الذي يليه، وهو أوفقُ للتفسير. وروى محيي السنة عن مجاهدٍ: يريد الأعتى فالأعتى، وفي بعض الآثار: أنهم يُحضرون جميعاً حول جهنم مُسلسلين مغلولين، ثم يُقدم الأكفر فالأكفر، وعليه الوجه الأول من كلام المصنف: "يمتازُ من كل طائفة من طوائف الغي أعصاهم فأعصاهم"، وعليه ينطبق قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً)؛ لأن المعنى على ما قال: تقديم أولاهم بالعذاب فأولاهم على الترتيب، ولا يستقيم مثل هذا المعنى في الوجه الثاني. قوله: (ويجوز أن يكون النزع واقعاً على: (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ))، أي: يكون (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) مفعولا به لقوله: (لَنَنزِعَنَّ)، أي: لننزعن عن بعض كل شيعة، كقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا) أي: بعض رحمتنا كما سبق. وروى الزجاج عن يونس أن قوله: (لَنَنزِعَنَّ) معلقةٌ لم تعمل شيئاً، وأوله الزجاج بقوله: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) ثم استأنف فقال: (أَيُّهُمْ)، قال أبو علي: مرادُ

كل شيعة، فكأنّ قائلا قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتيا. و (أيهم أشد): بالنصب عن طلحة بن مصرف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. فإن قلت: بم يتعلق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يونُس: أن الفعل معملٌ في موضع (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ)، ولا يريدُ به انه غير معملٍ في شيءٍ البتة. والدليلُ عليه قوله: معلقةٌ، والمعلقُ يستعملُ في الموضع دون اللفظ، ألا تراهم قالوا في: علمتُ أزيدٌ في الدار إن الفعل معلقٌ، وهو معملٌ في موضع الجملة. وقال الكسائي: أي أن قوله: (لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) كقولك: أكلتُ من طعام، فأيهم منقطعةٌ مستأنفة، فهو كقول يونس. فإن قلتَ: لم زعم يونسُ أنه إذا حذف العائد من الصلة، وجب البناء على الضم؟ قلت: لان الصلة تبينُ الموصول وتوضحه، كما أن المضاف إليه يبينُ المضاف ويخصصه كما أنه لما حذف المضاف غليه من الأسماء التي تبينها بالإضافة، يبني كذلك هذا. والأمر الجامع كونهما موضحين ومبينين. تم كلامُ أبي علي. وقال أبو البقاء: إنما بُنيت هاهنا لأن أصلها البناءُ؛ لأنها بمنزلة "الذي" و"مَن" مِنَ الموصولات، إلا أنها أعربت حملاً على كل أو بعض، فإذا وُصلت بجملة تامة بقيت على الإعراب، وإذا حُذف العائدُ بنيت لمخالفتها بقية الموصولات، فرجعت إلى حقها من البناء لخروجها عن نظائرها، وموضعها: نصبٌ بـ"ننزعُ". قوله: (وعن معاذٍ ... الهراء)، قال الأنباري: هو أبو مسلم معاذٌ الهراءُ من موالي محمد ابن كعب القُرظي، أخذ عنه الكسائي، وأخذ الفراء عن الكسائي، ونسب الزجاج هذه القراءة إلى هارون الأعور، ونقله عن سيبويه، قال أبو البقاء: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) يُقرأُ

(على) والباء، فإنَّ تعلُّقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا للصلة. أو يتعلقان بأفعل، أى: عتوّهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا. (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم: 71 - 72]. (وَإِنْ مِنْكُمْ) التفاتٌ إلى الإنسان، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهما: (وإن منهم). أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالنصب شاذاً والعامل فيه: (لَنَنزِعَنَّ)، وهي بمعنى الذي. قوله: (فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه)؛ لأن معمول المصدر لا يتقدمُ عليه. قوله: (هما: للبيان) كقوله تعالى: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]، كأن سائلاً سأل: من عتوا؟ قيل: (عَلَى الرَّحْمَنِ) وبأي شيء صليُّهم؟ قيل: النار. قوله: (فإن أريد الجنس كله)، يجوزُ أن يكون تفريعاً على الوجهين وتفصيلاً لكل من القولين، إما على الالتفات، فالمرادُ بالإنسان هو: الذي ذُكر عنه قوله: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً)، وهو - على ما فسر- يجوز أن يُراد به الجنسُ، وأن يُراد به بعض الجنس وهم الكفرة، والالتفات لازمٌ لما ذكر بُعيدَ هذا من قوله: "وإن أريد الكفارُ خاصةً"، وإما أن يُراد به ابتداء كلام ولا التفات فيه، ولا يلتفت إلى الإنسان المذكور من قبلُ، فالمخاطبون: كل من يصلح أن يخاطب لعم الخطب، ولذلك عدل من الإنسان إلى الناس، فالفاء في قوله: فإن أُريد الجنسُ: تفصيلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الانتصاف": احتمالُ الالتفات مفرعٌ على إرادة العموم من الأول حتى يتحد المخاطبون، إلا أنهم ذُكروا أولاً بلفظ غيبةٍ، وثانياً بلفظ حضور، وإن أردنا بالأول الخصوص لم يكن التفاتاً بل عدولاً إلى خطاب العامة عن خطاب الخاصة المعينين. قلت: قوله: "وإن أردنا بالأول الخصوص لم يكن التفاتاً" غير مسلم؛ لأنه التفت فيه عن جماعة غائبين إلى الخطاب لهم. وأما العدول إلى خطاب العامة عن خطاب الخاصة فليس بمختص بمعين، بل هو مطلق؛ لأن (وَإِنَّ مِنْكُمْ) حينئذٍ: ابتداءُ كلام. وأما بيانُ الترتيب فإنه تعالى لما حكى عن جنس الإنسان أنه قال: (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) ثُم أنكر عليه بقوله: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ) الآية في أنه يعاند ولا يلتفت إلى البرهان القاهر، ولا يذكر خلقته من قبلُ، ووضع المُظهر وهو الإنسان موضع المضمر ليؤذن بحقارته ودناءته وأن إعادة مثله لا يؤبه بها، ولهذا صرح بقوله: (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)، ثم أقسم على تحقيق الإعادة بقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وأكده وفصله، بقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) مخاطباً للإنسان بعد الحكاية عنه، اعتناءً بشأن الإعادة وتقريراً لتحقيق ما أقسم عليه، وأن لابد من إبرار القسم ولا غنى عنه، ثم أردفه بقوله: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) تتميماً لمعنى القسم. ويُمكن أن يُحمل على هذا تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بتحلة القسم في قوله: "لا يموتُ لمسلمٍ ثلاثةٌ من الولد فيلجُ النار إلا تحلة القسم". أخرجه البخاري ومسلمٌ ومالكٌ والترمذيُّ، عن أبي هريرة. النهاية: أراد بتحلة القسم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) كما يقال: ضربته تحليلاً: إذا لم تبالغ في ضربه، وهو مثلٌ في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يٌقسم عيه المقدار الذي يُبر به قسمه.

وهي جامدة، فيعبُرها المؤمنون وتنهار بغيرهم. عن ابن عباس رضى الله عنه: يردونها كأنها إهالة. وروى: "دواية". وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة". وعنه رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إنّ للنار ضجيجا من بردها» وأما قوله تعالى: (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء: 101]؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي جامدة)، ورُوي: "هامدةٌ"، أي: باردةٌ أو ساكنةٌ لا تعملُ. الأساس: رجلٌ جامدُ الكف: بخيل، هو جامدُ العين، ولا زلت أضربه حتى جمد. الجوهري: جمد الماء يجمد جمداً وجموداً، أي: قام، وكذلك الدم وغيره إذا يبس. قوله: (إهالة)، الأساس: هو الودك وكل من الأدهان يؤتدم به كالزيت والحلا بالحاء المهملة. قوله: (دواية)، الأساس: يقالُ: ما على لبتك دوايةٌ، وهي جلدةٌ تعلو المرق والماء الراكد، شبه النار وحرارتها بالنسبة إلى المؤمنين بحرارة الإهالة والدواية مع دسمها ونعومتها، ليشير إلى السلامة المقرونة بالنعومة، فإن الجمود وإن دل على السلامة لكن لم يُعلم منه النعومةُ، فكلمةُ (بها) كقوله تعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69]، فإنه لو اقتصر على كونها سلاماً لم يُعلم معنى البرودة، وهو الإيناسُ بها. قوله: (حتى إن للنار ضجيجاً من بردها)، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن أبي سمية: اختلفنا في الورود، فمن قائل: لا يدخلها مؤمنٌ، ومنهم من يقول: يدخلونها جميعاً (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)، فسألنا جابراً عن ذلك، فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صُمتاً إن لم أكنْ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الورودُ الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها،

فالمراد عن عذابها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط؛ لأنّ الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله، كقوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص: 23]. ووردت القافلةُ البلد، وإن لم تدخُله ولكن قربت منه. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا، لقوله عليه الصلاة والسلام «الحُمى من فيح جهنم» وفي الحديث: «الحمى حظ كل مؤمن من النار». ويجوز أن يراد بالورود: جثوّهم حولها. وإن أريد الكفار خاصة، فالمعنى بيِّن. الحتم: مصدر حتم الأمر إذا أوجبه، فسمى به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير، أى: كان ورودهم واجبا على الله، أوجبه على نفسه وقضى به، وعزم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتكون على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، حتى إن لجهنم ضجيجاً من بردهم (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً). قال محيي السُّنة: وفي الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي". قوله: (الحمى من فيح جهنم)، وتمامه: "فأبردوها بالماء"، أخرجه البخاري ومسلمٌ والترمذيُّ، عن عائشة رضي الله عنها. النهاية: الفيحُ: سطوعُ الحر وفورانه.

على أن لا يكون غيره. قرئ (نُنَجِّي) و (ننجي)، و (ينجى) و (ينجى) على ما لم يسم فاعله. إن أريد الجنس بأسره فهو ظاهر، وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا): أنّ المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (نُنَجِّي))، بالتخفيف: الكسائي، والباقون: بالتشديد، والقراءتان: شاذتان. قوله: (فمعنى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا): أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار)، يعني: إذا جعل الورود للكفار خاصة، ينبغي أن يفسر (نُنَجِّي) بالسوق، ليتقابلا، لقوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر: 71]، وقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر: 73]، وعلى الأول قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) مقابلٌ لقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) لأنها برمتها بمعنى الهلاك. فإن قلت: إذا كانت الآية من التقابل، فلم خُولف بين قوله: (الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقوله: (الظَّالِمِينَ)؟ قلت: ليؤذن بترجيح جانب الرحمة، وبأن التوحيد هو المنجي، والإشراك هو المُردي، فكأنه قيل ثم ننجي من وُجد منه تقوى ما وهو احترازٌ من الشرك، ونهلكُ من اتصف بالظلم، أي: بالشرك ويثبت عليه، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، قال المصنف في قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود: 113]، أي: الذين وجدتُم منهم الظلم، ولم يقل: الظالمين، وفي إيقاع "نذر" مقابلاً لقوله: (نُنَجِّي) إشعارٌ بتلك اللطيفة أيضاً. قال الراغب: يقال: فلانٌ يذر الشيء، أي: يقذفه لقلة اعتداده به (وَنَذَرَ مَا كَانَ

لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس والجحدري وابن أبى ليلى: (ثم ننجي)، بفتح الثاء، أى هناك. وقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) دليل على أنّ المراد بالورود الجثوّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [الأعراف: 70]، والوذرة: قطعةٌ من اللحم، وسميت له لقلة الاعتداد بها، نحو قولهم فيما لا يُعتد به: هو لحمٌ على وضم. فإن قلت: أي الوجهين أحسن؟ قلت: أن يراد بـ (مِنْكُمْ) ضمير جنس الإنسان رواية ودراية، أما الرواية: فكما سبق، وأما الدراية فإن (نُنَجِّي) إذا تُرك على ظاهره ليقع مقابلاً لنذر كما سبق، ويكونان كالتفصيل لقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) على إرادة الجنس، كان أحسن من التأويل وفقدان التفصيل. فإن قلت: موقعُ "ثم" في قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي) على ذلك الوجه أحسنُ؛ لأنها حينئذٍ لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المتقين إلى الجنة، وأن أحدهما للإهانة، والآخر للكرامة. قلت: وعلى هذا الوجه ينبني على التفاوت بين فعلِ الخلق، وهو ورودهم النار، وفعل الحق سبحانه، وهو النجاة والدمارُ - زماناً ورتبة. قوله: (دليلٌ على أن المراد بالورود الجثو حواليها)، يعني: سبق أن المراد بالجثو إما الدخول أو الجواز على الصراط أو القرب والدنو من جهنم أو الجثو حولها، والذي يدل على ظهور الوجه الأخير قوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) لما قلنا: إن (نُنْجِي) و"نذَرُ" تفصيلٌ لقوله: (إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) فإذا قيل: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) بمعنى: نتركهم على ما كانوا عليه، عُلم أن حال المتقين بخلافه، فيلزم اشتراكهم في الجثو. ولا بُدَّ

الجنة بعد تجاثيهم، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم: 73]. (بَيِّناتٍ): مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها ولم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة: 91]؛ لأن آيات الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على هذا الوجه من تقدير مضاف، أي: نذرُ الظالمين في حول جهنم جثياً، ويؤيده أيضاً قوله: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً). قوله: (أو ظاهرات الإعجاز) عطفٌ على قوله: "مُرتلات الألفاظ"، وعلى الأول: (بَيِّنَاتِ) من: بان الشيءُ عن الشيءِ: انفصل وانقطع، وعلى الثاني من: بانَ الشيءُ بياناً: ظهر. الأساس: بانَ الشيءُ بيناً وبينونةً، وباينهُ مباينةً. فقوله: "مُرتلاتِ الألفاظ" اعتبارُها بحسب الفصاحة. وقوله: "ملخصاتِ المعاني" بالنظر إلى البلاغة. وقوله: "مبينات المقاصد" بالنسبة إلى الأصول والفروع؛ لأن المعنى إما نصٌّ ملخصٌ، فهو المحكماتُ، وإما مُؤولٌ مُبينٌ مقاصده فهو المتشابهات التي تبعها البيانُ، إما بالقرآن أو بالسنة. والسنة: ما قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره. قوله: (والوجه أن تكون حالاً مؤكدةً) يعني: (بَيِّنَاتِ) يحتملُ أن تكون حالاً منتقلةً من (آيَاتِنَا)، وأن تكون مؤكدة لمضمون الجملة. والوجه الثاني أوجه وإن لم تكن الجملة عقدها من اسمين؛ لأن المعنى عليه كقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18]. وأما بيان النظم، فإنه تعالى لما حكى عن المشركين طعنهم في البعث والحشر بقوله: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) [مريم: 66]، وأجابهم ذلك الجواب العتيد، شرع في طعنهم في القرآن المجيد، وقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) [مريم: 73] الآية.

لا تكون إلا واضحة وحججا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أنهم يناطقون المؤمنين بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف: 11]. قرأ ابن كثير (مَقاماً) بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد: المكان والموضع. والندىّ: المجلس ومجتمع القوم، وحيث ينتدون. والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أىّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص، والرفعة والضعة. ويروى أنهم كانوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينتدون)، الأساس: وانتدو وتنادوا: تجالسوا. الراغب: النداءُ: رفعُ الصوت وظهوره، وقد يقال للصوت المجرد، كقوله تعالى: (مَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً) [البقرة: 171]، أي: لا يُعرف، أي: الصوت المجرد دون المعنى الذي يقتضيه تركيبُ الكلام، ويقالُ للمركب الذي يُفهم منه المعنى ذلك كقوله تعالى: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى) [الشعراء: 10]، وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة: 58]، أي: دعوتم. ونداءُ الصلاة مخصوصٌ بالألفاظ المعروفة، وأصلُ من الندى، أي: الرطوبة، يقال: صوتٌ ندٍ، أي: رفيعٌ. واستعارةُ النداء للصوت من حيث إن من تكثر رطوبةُ فمه يحسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق، يقال: ندى وأنداءٌ وأنديةٌ، ويُسمى الشجرُ ندى لكونه منه، وعُبر عن المجالسة بالنداء حتى قيل للمجلس: النادي والمنتدى والنُّديُّ، وقيل ذلك للجليس، قال تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه) [العلق: 17]، ومنهُ سُميت دارُ الندوة بمكة، وهو مكانٌ يجتمعون فيه، ويعبر عن السخاء بالندى، فيقال: أندى كفا من فلان، ويتندى على أصحابه، أي: يتسخى، وما نديت بشيءٍ من فلان، أي: ما نلتُ منه ندى.

يُرجلون شُعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم: 74]. "كَمْ" مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنْ) تبيين لإبهامها، أى: كثيراً من القرون أهلكنا. وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. و (هُمْ أَحْسَنُ) في محل النصب صفة ل"كم". ألا ترى أنك لو تركت (هُمْ)؛ لم يكن لك بدّ من نصب (أَحْسَنُ) على الوصفية؟ . الأثاث: متاع البيت. وقيل: هو ماجد من الفرش. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكل أهل عصر قرنٌ لمن بعدهم) الراغب: القرنُ: القومُ المقترنون في زمنٍ واحد. النهاية: القرنُ: أهل زمان، وهو مقدارُ التوسط في أعمارِ كل زمان، مأخوذٌ من الاقتران، فكأنه المقدارُ الذي يقترنُ فيه أهلُ ذلك الزمان في أعمارهم، مثل: أربعون سنةُ. وقيل: ثمانون. وقيل: مئة. الجوهري: قرنُ الشمس: أعلاها وأولُ ما يبدو منها في الطلوع، وهُو المناسبُ لقوله: "لأنهم يتقدمونهم". قوله: (لم يكن لك بدٌّ من نصب (أَحْسَنُ) على الوصفية)، معناه: أن قولهم: (هُمْ أَحْسَنُ) يجب إجراؤه على الوصف دون الاستئناف، إذ لو جيء مفرداً لم يكن بُدٌّ من نصبه على الوصف. قال أبو البقاء: (هُمْ أَحْسَنُ) صفةُ "كم". قوله: (ما جد من الفُرُش). الجوهري: جد الشيءُ يجد، بالكسر، جدة: صار جديداً، وهو نقيضُ الخلق. الراغب: الأثاثُ: متاعُ البيت الكثيرُ، من أثَّ، أي كثُر وتكاثف. وقيل: للمال كله إذا كثُر: أثاثٌ ولا واحد له كالمتاع، وجمعُه أثاثٌ، ونساءٌ أُثائثُ: كثيراتُ اللحم، كأنّ

والخُرثي: ما ليس منها. وأنشد الحسن بن على الطوسي: تقادم العهد من أمّ الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثيّا قرئ على خمسة أوجه (رِئياً)؛ وهو المنظر والهيئة، فعل بمعنى مفعول، من رأيت. و (ريْئاً)، على القلب كقولهم راء في رأى. و (رِيَّا)، على قلب الهمزة ياء والإدغام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليهن أثاثٌ، وتأثث فلانٌ: أصاب أثاثاً. قوله: (والخرثيُّ: ما لُبسَ منها). وفي "الأساس": هو السقطُ من الثياب. قوله: (قرئ على خمسةِ أوجهٍ: رئياً)، قالون وابن ذكوان: "ريًّا"، بتشديد الياء من غير همز، والباقون: بالهمز إلا حمزة، فإن له في حالة الوقف ثلاثة أوجه: إدغامٌ وإبدالٌ وحذف. قال ابن جني: قرأ طلحةُ: "ورياًّ" خفيفة بلا همز، وقرأ: "وزياًّ" بالزاي سعيدُ بن جبير، والنظر من ذلك في "وريا"، وهو في الأصل فعلٌ بكسر الفاء وضم العين، من: رأيتُ، فأصله "ريا" ـ"رعيا" على قراءة أبي عمرو وغيره، أريد تخفيف الهمز فأبدلت الهمزة ياء لسونها وانكسار ما قبلها، ثم أدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام الفعل، فصارت "رِيا". ويجوزٌ أن يكون من: رويت، قال أبو علي: لأن للريان نضارة وحُسناً. وأما "رياً" مخففةً غير مهموزة فتحتمل أمرين، أحدهما: أن تكون مقلوبة من فعلٍ إلى فِلْع، فصارت في التقدير: "رِئياً"، ثم خُفف فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على الياء فصارت "ريا". وثانيهما: أن يكون "ريا" من: رويتُ، ثم خففت بحذف إحدى الياءين، وينبغي أن تكون المحذوفة الياء الثانية؛ لأنها هي المكررة، وبها وقع الاستثقال، ولأنها لامٌ وقد كثُرَ حذفُ اللام حرف علةٍ كمئةٍ ورئة وفئة. وأما "الزيُّ" بالزاي ففعلٌ من: زويت، وذلك أنه لا يقال لمن له شيء واحد من آلته زيٌّ حتى تكثُر آلته المستحسنة، فهي إذاً من "زويت"، أي: جُمعت، من قول النبي صلى الله عليه وسلم:

أو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: رَيَّان من النَّعيم. و (رِياً)، على حذف الهمزة رأسا، ووجهه أن يخفف المقلوب -وهو «ريِئاً» - بحذف همزته وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها. و (زِيًّا)، واشتقاقه من الزىّ وهو الجمع: لأن الزىّ محاسن مجموعة، والمعنى: أحسن من هؤلاء. (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) [مريم: 75]. أى: مدّ له الرحمن، يعنى: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة: (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر: 37]، أو كقوله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "زُويت لي الأرضُ"، أي: جُمعت، فأصلها: زويٌ، بكسر الزاي وسكون الواون فقلبت على ما مضىن وأدغمت في الياء. قوله: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ) [فاطر: 37] أي: عمرناكم العمر الذي يتذكر فيه من يتصدى للتذكير. قال مجاهدٌ: هو العمرُ الذي أعذر الله إلى ابن آدم. روينا في "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعذر الله إلى امرئٍ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة". النهاية: أعذر الله إلى امرئ، أي: لم يبق فيه موضعاً للاعتذار، حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر، يقال: أعذر الرجل: إذا بلغ أقصى الغاية في العُذر. قوله: (أو كقوله) عطفٌ من حيثُ المعنى على قوله: "ليقطع معاذير الضال"، أي: أخرج على لفظ الأمر ليقطع معاذير الضال، كقوله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) [فاطر: 37] أو ليكونن مبالغة في إرادة ازدياد الضلالة كقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً) [آل عمران: 178]، أي: ما نُملي لهم إلا لهذا.

تعالى: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران: 178]. أو: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَمد لَهُ الرَّحْمنُ، في معنى الدعاء بأن يمهله الله ويُنفس في مدّة حياته. في هذه الآية وجهان. أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أى قالوا: (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا)، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ)، أى: لا يبرحون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: من كان في الضلالة فليمدد له الرحمنُ مداً، في معنى الدعاء) وفي بعض النسخ: "فمد له الرحمنُ، في معنى الدعاء"، هو عطفٌ على قوله: "مد له الرحمنُ". فإن قلت: الآمِرُ والداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ)، فعلى التقديرين: دعاءٌ لا أمرٌ قلتُ: كل من الأمر والدعاء يقتضي الإنشاء، وأن لا يكون المطلوبُ حاصلاً، لكن الدعاء: طلبُ ما يتوقع حصوله، والأمرُ: طلبُ الإيجاد على الفور، وهو أقرب إلى التحقيق، وتقديره: قل لهم قولي لك: فليمدد له الرحمنُ. وفيه معنى التجريد؛ لأنه تعالى أمر به نفسه على سبيل الغيبة، وفي تخصيص ذكر الرحمن تتميم وتربية بمعنى الاستدراج والإمهال، كقوله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 44 - 45]، فلما أريد في الوجه الأول الإخبار عن الحصول قطعاً قال: أخرج على لفظ الأمر، ولهذا رح بالماضي حيث قال: أي: مد له الرحمن، وفائدته: تصوير تلك الحالة الماضية، وعدم انقطاعها وقتاً فوقتاً، وأتى في الثاني بالمضارع، وهو أن يمهله الله تعالى. قوله: (ويُنفس في مدة حياته)، الأساس: ومن المجاز: وأنتَ في نفس من أمرك: في سعة. وتنفس النهارُ: طال، وتنفس به العمر، وبلغك الله أنفس الأعمار. قوله: (في هذه الآية)، أي: قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ). قوله: (بالآية التي هي رابعتها)، أي: بالآية التي هذه الآية رابعة تلك الآية، وهي قوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ). قوله: (والآيتان)، أي: (كَمْ أَهْلَكْنَا)، (قُلْ مَنْ كَانَ). وأما بيانُ وجه الاعتراض فهو أن مضمون الآيتين الإنكارُ على الكفرة في أنهم حين تُتلى عليهم آياتُ الله ليهتدوا بها للإيمان يفتخرون بالحظوظ الدنيوية ويرجحونها على السعادة الأخروية، فأكد هذا المعنى بقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) إلى قوله: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ).

يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين (إِمَّا الْعَذابَ) في الدنيا؛ وهو غلبةُ المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسراً، وإظهارُ الله دينه على الدين كله على أيديهم؛ وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم (شرٌ مكانا وأضعف جندا)، لا خيرٌ مقاماً وأحسن نديًّا، وأن المؤمنينَ على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لاصق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها. فإن قلت: (حتى) هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله: (إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) في مقابلة (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وظهر من هذا أن حمل قوله: (فَلْيَمْدُدْ) على الأمر للاستمرار أولى من الدعاء، وتصريحُ "قل" لبيان الاهتمام، وأن سُنة الله جاريةٌ على هذان وأما إذا اتصل "حتى" بقوله: (مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ) فيكون قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أمراً بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) المعنى: أنكم تفتخرون على الفقراء بما نلتم من الحظوظ الدنيوية وتزعمون أنها كرامةٌ من الله، وما تدرون أن ذلك استدراجٌ وإملاءٌ وإمهال، فتزدادوا بها إثماً فيأخذكم عذابُ الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في العقبى، فيكون قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً) مُعترضة. وإنما لم يقُل: خيرٌ أثاثاً، كما قيل في الفواصل الثلاث اللاتي هذه الجملة معترضةٌ فيها، لأن ما عليه المشركون شر كله، ولا يليق بظاهر حالهم إلا أن يُقال: "أحسنُ"، وإنما أتى في الفاصلة الأخيرة بالخير للمشاكلة ومطابقة الجواب على السؤال، ولو حمل (فَلْيَمْدُدْ) في هذا الوجه على الدعاء لكان له وجهٌ. قوله: (لا ينفكون): حالٌ من ضمير الفاعل في "قالوا".

لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندىّ: المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند: هم الأنصار والأعوان. (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم: 76]. (يَزِيدُ): معطوف على موضع (فليمدد)؛ لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمدّ له الرحمن. ويزيد: أى يزيد في ضلال الضلال بخذلانه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن مقامهم هو مكانهم) تعليلٌ لمعلل مقدر، يعني: ذكرت أن هذه الآية مقابلة لتلك، وقد ذُكر هناك: (خَيْرٌ مَقَاماً) وفسرته بقولك: "أي الفريقين أوفر حظا من الدنيا"، والمذكور هنا (شَرٌّ مَكَاناً)، وذُكر هناك: (وَأَحْسَنُ نَدِيّاً)، والنديُّ: المجلس ومجتمع القوم، وهاهنا (وَأَضْعَفُ جُنداً) فأين التقابل؟ أجاب: وإنما كانا متقابلين، كذلك (جُنداً) مقابلٌ لقوله: (نَدِيّاً) لكن من حيث التصريح والكناية، فإن الجُند هم الأنصارُ والأعوانُ، والنديُّ: المجلسُ عُبرَ به عن وجوه الناس والأعوان، كما يُقال: المجلسُ العالي عزت أنصارُ دولته، فحصل التقابُل. قوله: (مد أو يمُدُّ له الرحمن) هذا الاختلاف مبنيٌّ على اختلاف التفسيرين هناك، فإذا كان (فَلْيَمْدُدْ) بمعنى الأمر على تأويل الإخبار عن الماضي يُقدرُ "مدَّ" ويُعطفُ عليه: "يزيدُ"، وإذا كان بمعنى الدعاء يقدر "يمدُّ" مضارعاً ويعطفُ عليه "يزيد"، ومن ثم قدرهُ هناك بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته، وفي قوله: "معطوفٌ على موضع (فَلْيَمْدُدْ) " بحثٌ؛ لأن المعطوف على جزاء الشرط ينبغي أن يصلح جزاءً له. ولو قُلتَ: من كان في الضلالة يزيدُ الله الذين اهتدوا هدى، لا يستقيم إذ لا عائد فيه ولا رابطة معنوية. قيل:

ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه. الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أعمال الآخرة كلها. وقيل: الصلوات. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أى: هي خَيْرٌ ثَواباً من مفاخرات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجواب: أن الجملة الشرطية جملةٌ خبرية مقيدة بقيد، كما ذكره صاحب "المفتاح"، فقوله: (فَلْيَمْدُدْ)، في معنى: يمد أو مد له، والشرط كالقيد، والعطف لا يقتضي الاشتراك في جميع القيود، فكأنه قال: مد الرحمن مداً لمن كان في الضلالة (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى). وأقول: إنما صح العطفُ لأن قوله: (الَّذِينَ اهْتَدَوْا) حكاية أعدائهم، فكأنه قال: من كان في الضلالة فيزيد الله ضلالته، ويزيد هداية أعدائهم من المؤمنين تشويراً لهم وغيظاً؛ لأن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا ًفي جملة التنكيل بهم، فوضع الظاهر موضع المضمر. وقال القاضي: (وَيَزِيدُ اللَّهُ) عطفٌ على الشرطية المحكية بعد القول، كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه، بل لأن الله تعالى أراد به ما هو خيرٌ. وقلتُ- والله أعلم-: قد سبق أن قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن قول المعاندين الذين إذا تليت عليهم آيات الله قالوا للذين آمنوا: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً)، فالواجبُ على المجيب أن يُراعي المطابقة في الجوابن ويذكر الفريقين أيضاً أصالة لا استطراداً، كما عليه كلام القاضي، فكأنه قيل: من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية يزيد الله هدايته فيجمع له خير الدارين، والجواب من الأسلوب الحكيم، وفيه معنى قول حسان: أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشركما الخيركما فداءُ في الدعاء والاحتراز عن المواجهة.

الكفار (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أى: مرجعا وعاقبة، أو منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ، وهل يرد بكاى زندا فإن قلت: كيف قيل: "خيرٌ ثواباً" كأنّ لمفاخراتهم ثواباً، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت: كأنه قيل: ثوابهم النار. على طريقة قوله: فأعتبوا بالصّيلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهل يرد بُكاي زندا). أوله: ما إن جزعتُ ولا هلعـ ... ـتُ وهل يرد بُكاي زندا الزند مثلٌ في القلة. مضى شرحه في سورة الرعد. قوله: (كأن لمفاخراتهم ثواباً)، والمراد بالمفاخرات قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) وتفسيرُ ما سبق، أي الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين أوفرُ حظاً من الدنيا. ويُروى: أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون، وهذا التفسير يعضد ما ذهبنا إليه أن قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أمرٌ بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً). قوله: (فأعتبوا بالصيلم)، أوله: غضبت تميمٌ أن يُقتل عامرٌ ... يوم النسار فأُعتبوا بالصيلم مضى شرحه في "البقرة".

وقوله: شجعاء جرّتها الذّميل تلوكه ... أصلا إذا راح المطي غراثا وقوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع ثم بُنى عليه خير ثوابا. وفيه ضربٌ من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركا فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شجعاء جرتُها الذميلُ) البيتُ، "شجعاءُ" من الشجاعة، والشجعُ في الإبل: سرعةُ نقل الأقدام، يقال: ناقةٌ شجعةٌ، الجرة بالكسر: ما تجتره الإبل من أجوافها من العلف، والذميلُ: ضربٌ من السير، واللوكُ: مضغُ الشيء. إذا راح، أي: دخل في الرواح، وهو من زوال الشمس إلى الليل، وغراثاً، أي: جياعاً من السير. تقولُ: تسير هذه الناقة الشجعاء لمفازة فسيرها لها بمثابة الاجترار لغيرها إذا كان سائرُ المطايا لا تسيرُ، ومثله في المعنى قول أبي تمام: وركبٍ يساقون الركاب زجاجة ... من السير لم يقصد لها كف قاطب جعل الشاعرُ بالادعاء أفرادَ جنس الجرة قسمين، متعارفٌ هو: ما تفعله الإبل عند إخراج العلف، غير متعارفٍ وهو: السير، وكنى عنه بأحدِ قسميه وهو الذميل. والبيت إنما استشهد به لهذا المعنى فقط. قوله: (هذا من وجيز كلامهم)، أي: في الكلام حذفٌ وإضمارٌ، ومن الأمثلة: العسلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحلى من الخل، وحاصل الجوابين أنه سأل أولاً عن الاشتراك في الثواب، وأجاب انه من باب التهكم على وجه لزم منه وجه التفصيل، ثم سال ثانياً عن وجه التفصيل، وأجاب بوجه عام غير ما لزم أولاً، أي: ثواب المؤمنين أبلغ في بابه من عقابهم في بابه، فلا يكون السؤال الثاني مستدركاً. قال صاحب "الفرائد": هذا بعيدٌ عن الطبع عن الطبع والاستعمال، ولم أظفر في تراكيبهم بما يفيد هذا المعنى، ولم يُذكر ما يكونُ دليلاً على تحقيقه في كلامهم، ثم إنه أراد بما قال، أن الأعمال الصالحة في ثوابها خيرٌ من مفاخرتهم في ثوابها، وهو النارُ، ويمكن أن يُقال: المرادُ ثوابُ الأعمال الصالحة في الآخرة خيرٌ من ثوابهم في الدنيا، وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم، ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما. وقال صاحب "التقريب": وفي قول المصنف نظرٌ، إذ يؤول إلى أن ثوابهم في بابه أبلغ من عقابهم في بابه، وهو غير محقق ولا مناسب للتهديد، بل الأولى أن تُجرى الخيرية أيضاً على التهكم كما ذكر في الثواب، كأنه قال: ثوابهم النار، وهو ثوابٌ حسن على التهكم، وهذا أحسنُ منه وخيرٌ. والجواب عن قوله: "ولم أفر في تراكيبهم ما يفيد هذا المعنى"، هو أن الزجاج ذكر في تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الفرقان: 15]: إن قال قائل: كيف يقال: الجنة خير أم النار، وليس في النار خيرٌ البتة؟ فيقال: إنما وقع التفضيل فيما دخل في صنف واحد، فالجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنفٍ واحد، فلذلك قيل: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) [الفرقان: 15]، كما قال: (خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

يقولون: الصيف أحرّ من الشتاء، أى: أبلغ من الشتاء في برَدْه. [(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً* كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا* وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَاتِينا فَرْداً)]. لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا «أرأيت» في معنى «أخبر» والفاء جاءت لإفادة معناها الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: والذي يقتضيه النظمُ أن قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً) تتميمٌ لمعنى قوله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ومشتملٌ على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيءٌ، كما أن قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً) تتميم لوعيدهم، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) ما قررنا، يدل عليه قول المصنف هاهنا قوله: "كأن لمفاخرهم شركاء فيه"، وتفسيرُ المفاخرة هو ما قال: " (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أوفر حظاً من الدنيا". وقال: "يدعون أنهم أكرمُ على الله منهم"، وتحقيقه: أن الكفرة لما بنوا الخيرية في قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً) على زعم المؤمنين جيء في الجواب بما يردُّ ذلك على طريق المشاكلة، وإطباق الجواب على السؤال، فقيل: (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً)، ولا يخلو من شائبة الوعيد والتهكم بهم. قوله: (استعملوا "أرأيت" في معنى: "أخبر")، قال صاحب "الفرائد": ذكر أهل التفسير هذا المعنى، أعني: إقامة "أرأيت" مقام "أخبرني"، ولابد فيه من ملاحة معنوية بينهما، بحيث ينتقل الذهن من المعنى المذكور إلى المراد، ولا شك أن الذهن ينتقل من معنى "أرأيت" إلى معنى "علمت" وينتقلُ أيضاً إلى معنى طلب الرؤية؛ لأن "أرأيت" سؤالٌ عن الرؤية في الماضي من الزمان، فإن لم تكن الرؤية حاصلة في الماضي كان هذا السؤال باعثاً له على تحصيلها في المستقبل منه، كأنه قيل: وإن لم تره فره لتتعجب من اله. هذا في الظاهر أقرب.

هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) من قولهم: أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية. قال جرير: لاقيت مطّلع الجبال وعورا ويقولون: مرّ مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مآل كلام المصنف يعودُ إلى التعجب؛ لأن طلب الله الإخبار، وهو عالمُ الغيب والشهادة، يعود إلى أن هاتين القضيتين مما لا ينبغي أن يُتركا، والمعنى تعجب أيضاً من قضية هذا الكافر عقيب تعجبك من تلك القضية. قوله: (لاقيت مطلع الجبال وُعورا)، أوله: إني إذا مُضرٌ عليَّ تحدثت الوعر: المكان الصلبُ، الجمع الوعور، مطلعُ الجبل: مصعده ومرتقاه، وعوراً انتصب على الحال من "مُطلع"، ويجوز أن يكون مفعولاً به. ويقول: إذا مُضرُ تحدثت عليَّ، أي: تقولوا في ما لا أرضى به، لقيتُ رؤوس الجبال التي هي بمثابة الحصون. قوله: (وتألى عليه) أي: حلف، وهو مستفادٌ من قوله: (لأوتَيَنَّ مَالاً)، فإنه جوابُ قسم محذوف.

حمزة والكسائي: (وُلْداً)، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر: (وولداً)، بالكسر. وقيل في العهد: كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد. قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك. وقيل: صاغ له خباب حليا فاقتضاه الأجر، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريراً، فأنا أقضيك ثم، فإنى أوتى مالا وولدا حينئذ. (كَلَّا): ردع وتنبيه على الخطأ أى: هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل في العهد كلمةُ الشهادة) شروعٌ في تفسير قوله: (أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) وتعداد الأقوال فيه، وسُميت كلمةُ الشهادة عهداً لأنه تعالى وعد قائلها إخلاصاً أن يُدخله الجنة البتة، فهو كالعهد الموثق الذي لابد أن يوفى به. قوله: (والمشهور أنها في العاص بن وائل). روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي، عن خباب بن الأرت، قال: كنت قينا في الجاهلية، وكان لي على العاص ابن وائل دينٌ، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفرُ حتى يميتك الله ثم تُبعث، فقال: إني لميتٌ ثم مبعوث؟ قلتُ: نعم. قال: دعني حتى أموت وأُبعث. فسأوتي مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ ... ) الآيات. قوله: (ولا حين تُبعث) أي: لا أكفرُ أبداً ما دمتُ حياً ولا ميتاً ولا في حال بعثك أيها الكافرُ وأنت مُعذب، يعني أومنُ بثوابي بعد الموت وعقابك بعد البعث، يدل عليه ذكره الموت والبعث. قوله: ((كَلاَّ): ردعٌ وتنبيه). الراغب: (كَلاَّ): ردعٌ وزجرٌ وإبطالٌ لقولِ

فليرتدع عنه. فإن قلت: كيف قيل: (سَنَكْتُبُ) بسين التسويف، وهو كما قاله كتب من غير تأخير، قال الله تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أى: تبيِّن وعُلِمَ بالانتساب أنى لستُ بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى: أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القائل، وذلك نقيضٌ، أي: في الإثبات. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا) إلى قوله: (أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ) إلى غير ذلك من الآيات. قوله: (وهو كما قاله)، أي: يُكتبُ عند صدور القول منه من غير تأخير، والكافُ لمقارنة الوجود. قال صاحب "اللباب": تجيء الكاف لقران الوقوع، وفي الحديث: "خيرُ الناس رجلٌ ممسكٌ بعنان فرسه، كلما سمع هيعة أو فزعةً طار إليها". رواه النسائي، عن أبي سعيد. قوله: (إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ)، تمامه: ولم تجدي من أن تُقري بها بُدا قيل: البُد: العوض. الجوهري: لابد من كذا، أي: لا فراق منه، ولم تلدني: جواب (إذا)، وهو ليس في معنى الاستقبال؛ لأن الولادة كانت قبلُ. والمعنى على البيتين: يقول: إذا انتسبتُ علمت - يا فلانةُ - أني لست بابن لئيمة، وظهر لك ما تضطرين به إلى الإقرار بذلك. قال: لم تلدني لئيمةٌ؛ لأن الأم إذا كانت من الكرام فالأب أولى.

فجُرِّدَ هاهنا لمعنى الوعيد. (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ) أى: نطوّلُ له من العذاب ما يستأهله، ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزئون. أو: نزيدُه من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، ويدل عليه قراءة عليِّ بن أبى طالب رضي الله عنه: (ونمد له) بالضمِّ. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب الله، نعوذ به من التعرّض لما نستوجب به غضبه (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أى: نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى ما يَقُولُ وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته أن تألَّى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجُرد هاهنا لمعنى الوعيد) أي: اشتمل التركيب على معنى إثبات العمل المؤدي إلى المُجازاة، فجُرد لأحد المعنيين، كأنه قيل: كلا سننتقم منه وإن استأخر الزمانُ. وحاصلُ الجواب أن القصد في كتابة الأعمال إظهار ما فيها على العامل وإعلامها إياه ليسر به أو يحزن، ثم مجازاته بمقتضاها: إن خيرا ًفخيرٌ وإن شراً فشر. فالجواب الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني. قوله: (أو: نزيدُه من العذاب ونضاعف له من المدد). فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما ذكر في "البقرة": (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة: 15] أنه من: مد الجيش، وأمده: إذا زاده، إلى آخره، وليس من المد في العمر والإملاء؛ ولأن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدٌّ له مع اللام، كأملي له. قلتُ: بلى، وقد تقرر هنا ما هو عليه. قوله: (ويدل عليه: "ونُمدُّ له")؛ لأنه جاء: أمددت الدواة بالمداد ومددتها، بمعنى: الزيادة. قوله: (ومعنى ما يقول) عطفٌ على مسمى ما يقول؛ على سبيل البيان.

على ذلك في قوله: (لَأُوتَيَنَّ) لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه، فيقول الله عز وعلا هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) ... الآية [الأنعام: 94]، فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له، أو لا ننسى قوله هذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُكذبه) وفي نسخة: "يكذبه" بالتشديد. الجوهري: أكذبت الرجل: ألفيته كاذباً، وكذبته: إذا قلت له: كذبت. قال الكسائي: أكذبته: إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته: إذا أخبرت أنه كاذبٌ. وقال ثعلبٌ: أكذبته وكذبته بمعنى. قوله: (أو: لا ننسى قوله هذا) هو عطفٌ على قوله: "نزوي عنه ما زعم أنه يناله"، يريد أن معنى "نرثه" إما: نزوي عنهُ. قال في "الأساس": زوى المال غيره: اختاره، وزوى عنه حقه، وزوى الرجل الميراث عن ورثته: عدل به عنهم، وقد انزويت عنا، أي: انقبضت، أو نثبته ولا ننساه، من قوله صلوات الله عليه وسلم: "واجعله الوارث منا"، قال صاحب "النهاية": أي أبقهما، أي: السمع والبصر، صحيحين سليمين. والقول الأول على وجهين، أحدهما: أن يُروى عن القائل مسمى ما قال، وهو ماله ولده حقيقة، يحال بينه وبينهما في الآخرة، ويعطى من يستحقه. وثانيهما: يحتمل وجهين أيضاً: أن يُزوى عنه ماله وولده تقديراًن وهو كما إذا تمنى ذلك، فيقال في حقه: هب أنا اعطيناه ما اشتهاه إما نزوي عنه في العاقبة ما تمناه ويأتينا فرداً بلا مال وولد، وان يُحال بينه وبين قوله ذلك ما قال: "إذا قبضناه حُلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا فرداً منفرداً عنه غير قائل له". ولما كان الوجه الأول هو الوجه، لما سبق من حديث العاص بن وائل، قال في الوجهين الآخرين: "ويحتملُ".

ولا نُلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به (وَيَاتِينا) على فقره ومسكنته (فَرْداً) من المال والولد، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه، فيجتمع عليه الخطبان: تبعة قوله ووباله، وفقد المطموع فيه. (فرداً) على الوجه الأول: حال مقدرة نحو (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر: 73]؛ لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى، ثم يتفاوتون بعد ذلك. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم: 81 - 82]. أى: ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: في (مَا) في (مَا يَقُولُ) وجهان، أحدهما: هي بدلٌ من الهاء، وهي بدلُ الاشتمالن أي: نرثث قوله. والثاني: هو مفعولٌ به، أي: نرثُ منهُ قوله. قوله: ((فَرْداً) على الوجه الأول: حالٌ مقدرةٌ. وهو أن يُراد بـ (مَا يَقُولُ): مسمى ما يقولُ، وهو المال والولد، ويُراد من الفردية الانقطاع منهما في العاقبة بالكلية، ولا شك أن مثل هذه الفردية لا تحصل إلا للكافر، وغلا فالمؤمن والكافر سواءٌ عند البعث في كونهما منفردين عن المال والولد، لقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 94]، ثم يتفاوتون بعد ذلك، فالمؤمن يلاقي أحبته وأولاده وما اشتهاه، والكافر يحالُ بينه وبين ما يشتهيه وينفرد عنه أبداً. ومثلُ هذا الانفراد لا يحصل في بقية الوجوه. قوله: (لأنه وغيره سواءٌ) تعليلٌ لشبه الحال المقدرة بقوله: (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73] في أن المراد منها خاتمة الأمر وعاقبته. وأما اتصال قوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً) [مريم: 81] بما قبله، فإنه عطفٌ على (وَيَقُولُ الإِنسَانُ)، وسبق أن قوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطفٌ عليه، حكى الله تعالى عنهم أولاً إنكارهم الحشر، ثم طعنهم في القرآن، والافتخار بالمال والولد، ثم إثبات الشريك لله تعالى.

العذاب (كَلَّا): ردعٌ لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أى: سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي "محتسب" ابن جنى: (كلا) بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي "كلا" التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في (قواريرا) [الإنسان: 15]. والضمير في (سَيَكْفُرُونَ) للآلهة، أى: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (زيداً مررتُ بغلامه)، أي: جُزتُ زيداً مررتُ بغلامه، كذلك (كلاً) منصوبٌ بفعلٍ يدل عليه (سَيَكْفُرُونَ) مناسب لهذا المفعول؛ لأن المراد من (سَيَكْفُرُونَ) إنكارُ الآلهة، وكل ما نسب المشركون إليها من الشفاعة والنصرة والإنقاذ من النار الدال عليه قوله: (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) فيُقدرُ الناصبُ: سيجحدون. قوله: (في "محتسب" ابن جني)، وفيه: "كلا سيكفرون": قراءةُ ابن نهيك، وينبغي أن تكون مصدراً لقولك: كل السيف كلاً، ومنصوباً بفعل مضمر، فكأنه تعالى لما قال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) قال الله رداً عليهم: كلا، أي: كل هذا الاعتقادُ كلا، كما يقال: ضعفاً لهذا الرأي، ثم استأنف (سَيَكْفُرُونَ)، والوقف إذاً على (عِزّاً)، ثم استأنف فقال: كل رأيهم كلا، ثم وقف، ثم قال: (سَيَكْفُرُونَ). قوله: (كما في قوله: (قَوَارِيرَا)، أي: قلب ألف إطلاقه نوناً، قال الشاعر: اقلي اللوم عاذلُ والعتابن

لَكاذِبُونَ) [النحل: 86]؛ أو للمشركين، أى: يُنكرون لسُوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23] (عَلَيْهِمْ ضِدًّا) في مقابلة (لَهُمْ عِزًّا)، والمراد: ضدّ العز وهو الذل والهوان، أى: يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضدّ: العون. يقال من أضدادكم؟ أى: أعوانكم وكأن العون سمى ضدا؛ لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه)، المعنى: طلب العز فانقلب ضدها وهو الذُل، فيكون من الطباق المقدر. قوله: (أو يكونون عليهم عوناً) والعونُ هاهنا على التهكم، كما في قوله تعالى: (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود: 99]، أي: بئس العون المُعان، فيلزمُ التقابل أيضاً لان ضد المعين لا يكونُ غلا الخاذل المُذل، قال القاضي: ومعنى كونهم ضداً أنها تكونُ معونةً في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم. قوله: (وأن العون سُمي ضداً لأنه يُضاد عدوك وينافيه). الراغب: الضدان: الشيئان اللذان تحت جنس واحد، وينافي كل منهما الآخر في أوصافه الخاصة، وبينهما أبعد البعد، كالسواد والبياض، والخير والشر، وما لم يكونا تحت جنسٍ واحدٍ لا يقال لهما: ضدان، كالحلاوة والحركة، وكثيرٌ من المتكلمين وأهل اللغة يقولون: الضدان: ما لايصح اجتماعهما في محل واحد. وقيل: الله تعالى لا ند له ولا ضد؛ لأن الند هو الاشتراك في الجوهر، والضد هو أن يعتقب الشيئان المتنافيان على جنسٍ واحد، والله تعالى منزهٌ عن أن يكون له جوهر، فإذاً لا ضد له ولا ند.

قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها وإن رجعت الواو في (سيكفرون) و"يكونون" إلى المشركين، فإن المعنى: ويكونون عليهم - أي أعداءهم - ضدا، أى: كفرة بهم، بعد أن كانوا يعبدونها. (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم: 83]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهم يدٌ على من سواهم)، الحديث من رواية النسائي، عن أبي حسان، عن علي رضي الله عنه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم". النهاية: تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوى في القصاص والديات، والكفؤ: النظير والمُساوي، وهم يدٌ على من سواهم، أي: مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضاً على جميع الأديان، كأنه جعل أيديهم يداً واحدة وفعلهم فعلاً واحداً، ونظيره: جعل الفُساق يداً يداً، أي: فرق بينهم، فإذا أفردت اليد في مقام الجمع، دل على الاتفاق والاجتماع، وإذا جمعت أريد الشتات والافتراق. وقال صاحب "الفرائد": إنما وحد لأنه ذكر في مقابله قوله: (عزاً) وهو مصدرٌ يصلح أن يكون جمعاً، فهذا وإن لم يكن مصدراً لكن يصلح أن يكون جمعاً بالنظر إلى ما يُراد منه، وهو الذل، وكأنه قيل: ويكونون عليهم خلافاً. قوله: (ويكونون عليهم أي: أعدائهم)، جاء في كلامهم: الناس عليكم، أي: أعداؤكم، ومنه: اللهم كُن لنا ولا تكن علينا، وعلى هذا الضمير في (عَلَيْهِمْ) للمعبودين، وفي (سَيَكْفُرُونَ) ويكونون للكفرة، أي: يكونون على معبوديهم كافرين بعد أن كانوا عابدين.

الأزّ، والهزّ، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أى: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين من تماديهم في الغىّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم. (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم: 84]. عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أى: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشدة الإزعاج). الراغب: قال تعالى: (تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) أي: تزعجهم إزعاج القِدْرِ إذا أزت. أي: اشتد غليانُها. ورُوي في الحديث: "كان يُصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيزِ المرجل"، و"أزهُ" أبلغُ من "هزه". قوله: (بعد الآيات التي ذكر فيها العُتاة)، وهي قوله تعالى: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً) وأشار بالعتاة والمراد إلى ما في قوله: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً) وبقوله: "وأقاويلهم" إلى قوله تعالى: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ)، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وبقوله: "مُلاجتهم ومُعاندتهم" إلى قوله: (لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً)، فهذه الآية واردةٌ كالتذييل لتلك الآيات، والتقرير لمضمونها لأن المقصود من أقاصيصهم تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلة اكتراثٍ منه إلى أحوالهم، ومنعٌ من الدعاء عليهم بالاستئصال، ومن ثم رتب عليها قوله: (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ). قوله: (عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه). الأساس: أعجلته عن إسلال سيفه، وتعجلتُ إخراجه: كلفته أن يعجله، واستعجل الكفار العذاب.

حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى: (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف: 35]، وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد. (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم: 85]. نُصب (يَوْمَ) بمضمر، أى: يوم نَحْشُرُ ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب ب (لا يملكون)] مريم: 87 [. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن عليٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنها في سرعة تقضيها الساعة)، يريد أن قوله: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً) كنايةٌ عن سرعة تقضي أجلهم. قال- في قوله تعالى: (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف: 20]-: "قليلةٌ تُعد عداً، وقيل للقليل: معدودٌ؛ لأن الكثير يمنع من عده كثرته". قوله: (إذا كانت الأنفاس بالعدد، إلى آخره)، وفي معناه قولُ القائل: إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بوابٌ ولا حرس وكيف تفرحُ بالدنيا ولذتها ... يا من يُعدُّ عليه اللفظ والنفس قوله: (كما يفدُ الوفاد على الملوك)، يعني: ذكر الوفد تمثيلٌ وتشبيهٌ لحالة المتقين بحالة الوفود.

رضي الله عنه: ما يُحشرون -والله- على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم: 86]. وذُكِرَ الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاشُ؛ لأنّ من يَردُ الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد، واحدهم وافدٌ، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارةٍ استرفادٍ وانتجاع وغير ذلك تقول: وفد يفد فهو وافدٌ. قال الراغب: وفد القوم تفد وفادةً، وهو وافدٌ، وهم وفدٌ ووفود، وهم: الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج، ومنه الوافد من الإبل، وهو السابق لغيره، قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً). قال القاضي: ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأنٌ، ولعله أن ساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام، وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها، كأنه قيل: يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وشملهم برأفته. وقلتُ: في التقابل بين "الوفد" و"الرحمن" وبين "الورد" و"جهنم" إعلامٌ بتبجيل الوافد وتحصيل مطالبه، وأنها من جلائل النعم وإعظامٌ بالوافد الذي الموفود إليه من اسمه الرحمن، وإشعارٌ بإهانة الوارد وتهكمٌ به، كقوله: عتابه السيفُ ومقومهم لهذمياتٌ. وكفى بالعطش الذي ورده النار التي هي أعظم النيران.

ردي ردي ورد قطاة صمّا ... كدريّة أعجبها برد الما فسمى به الواردون. وقرأ الحسن: (يُحشر المتقون)، و (يُساقُ المجرمون). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ردي ردي) البيت، صماء: قيل: إنها من الصمم لا تسمعُ صوت القانص فتفر. كُدريةٍ، أي: قطاةٌ كُدرية أي غبراء اللون، يُخاطب ناقته، أي: ردي الماء كما يرد القطا، يعبجها برد الماء. قوله: (فسمي به الواردون) أي: حقيقة الورد: المسير إلى الماء، فشبه من يقصد الجواد ويستجديه بمن يسير إلى الماء ليرتوي منه، فاستعير له، وقيل: الوارد. الراغب: الورورد أصله: قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، يقال: وردت الماء، قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) [القصص: 23]، والوردُ: الماء المرشح للورود، واستعمل في النار على سبيل الفظاعة، قال تعالى: (فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98]، والوارد: الذي يتقدم القوم فيستقي لهم، قال تعالى: (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) [يوسف: 19] أي: ساقيهم. وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) [مريم: 71] فقد قيل: هو مثلُ: وردت ماء كذا: إذا حضرته وإن لم تشرع فيه. وقيل: بل يقتضي ذلك الشروع فيه، ولكن من كان من أولياء الله لا تؤثر فيهم بل يكون حاله فيها كحال إبراهيم عليه السلام، ويعبر عن المحموم بالمورود، وعن الحُمى بالورد، وشعرٌ واردٌ: قد ورد العجز أو المتن. والوردُ قيل: هو من الوارد، تسميته بذلك لونه أول ما يرد من ثمار السنة، يقال لنور كل شجر: وردٌ، ويقال: ورد الشجر يورد: خرج نوره. وشُبه به لون الفرس فقيل: فرسٌ وردٌ، وقيل في صفة السماء: إذا احمرت احمراراً كالورد أمارة للقيامة، قال تعالى: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) [الرحمن: 37].

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم: 87]. الواو في لا (يَمْلِكُونَ) إن جعل ضميراً؛ فهو للعباد، ودلَّ عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل (مَنِ اتَّخَذَ)؛ لأنه في معنى الجمع، ومحل (مَنِ اتَّخَذَ) رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أى: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والفاعلُ: (مَنْ اتَّخَذَ))، هذا على أن يكون الضمير في: (لا يَمْلِكُونَ) علامة للجمع. قال أبو البقاء: (إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ) استثناء متصلٌ إذا كان الضمير في (يَمْلِكُونَ) للمتقين والمجرمين. وقيل: هو في موضع رفع بدل من الضمير في (يَمْلِكُونَ)، أو في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع". الانتصاف: في هذا الوجه تعسفٌ لأنه إذا جعله علامةً ثم أعاد على لفظها الإفراد بضمير اتخذ كان إجمالاً بعد إيضاح، وهو عكس طريق البلاغة التي هي: الإيضاح بعد الإجمال، فالواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على "مَن" إلا أنها كاشفةٌ لمعناها كشف الضمير العائد له. قوله: (وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم)، الحديثُ الدعاء إلى آخر، أورده الإمام أحمد بن حنبل عنه في مسنده مع تغيير يسير.

أحدُكمْ أن يتخذَ كل صباحٍ ومساءٍ عند الله عهداً» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة» وقيل: كلمة الشهادة. أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به، أى: لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَاذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم: 26]، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)] سبأ: 23 [(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) [طه: 109]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعهد إليك). الجوهري: عهدتُ إليه، أوصيتُه، ومنه اشتق العهدُ الذي يكتبُ للولاة. قوله: (طُبع عليه بطابع). النهاية: الطابع بالفتح: الخاتم، يريد أنه يُختمُ عليها وتُرفعُ كما يفعلُ الإنسانُ بما يعز عليه. قوله: (أو يكونُ من: عهد الأمير): عطفٌ على قوله: "واتخاذ العهد: الاستظهار"، وحقيقةُ هذا الوجه تعودُ إلى قولك: عهد إليه واستعهد منه: إذا وصاه أو شرط عليه في الأساس. قوله: (عهد الأمير إلى فلان بكذا) يريدُ أن عهده مضمنٌ معنى الأمر، وعُدي بالباء، فعلى هذا الباءُ في التنزيل محذوفٌ نحو قوله: "أمرتُك الخير".

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم: 88 - 91]. قرئ: (إِدًّا) بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإدّ والأدّ: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظُم علىّ أدّا (تَكادُ) قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ: (يَتَفَطَرنَ) الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود: (يَنصَدِعْنَ)، أى: تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى: لأنها تهدّ. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (إداً) بالكسر والفتح) بالكسر: السبعةُ، والفتحُ: شاذ. قوله: (قال ابن خالويه)، قال ابن الأنباري في "النزهة": إنه كان من كبار أهل اللغة، أخذ عن ابن دريد ونفطويه وابن الأنباري وأبي عمرو الزاهد، قيل: إنه اسمٌ مركبٌ مبنيٌّ على الكسر في ظاهر المذهب كسيبويه. قوله: ((تَكَادُ)، قراءة الكسائي ونافع بالياء) التحتاني، الباقون: بالتاء. قوله: (وقرئ: (يَتَفَطَّرْنَ)) الحرميان وحفصٌ والكسائي بالتاء الفقوانية وفتح الطاء مشددة، والباقون: بالنون ساكنةً وكسر الطاء مخففة. قال أبو البقاء: القراءة الأولى: هو مُطاوعُ "فطرَ" بالتشديد، وهو هنا أشبه بالمعنى، والثانية: مطاوع "فطر" بالتخفيف. قوله: (وكرر الفعل) يعني أن "فعل" للتكثير، نحو: قطعتُ وغلقتُ. قوله: (أو مفعولٌ له) يعني: (هْداً) إما: مفعولٌ مطلقٌ أو حالٌ أو مفعولٌ له، وهو إن لم ين من فعل الجبال، لكن إذا تُهدُّ يحصل له الهدُّ، فصح أن يكون مفعولاً له، وإليه الإشارة بقوله: لأنها تُهد.

الأرض وخُرور الجبال؟ ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من تفوّه بها، لولا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر: 41]. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأنَّ مثال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً)، يريد أنه من باب التمثيل والتصوير وأخذ الزبدة من الجُمل كلها من غير نظر إلى مفرداتها، كقوله تعالى: (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67]. قال صاحب "الإنصاف": ويظهر لي أنه استعار لدلالتها على وجود الله وعلى وصفه بصفات الكمال كونها مُسبحةً بحمده في قوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ) الآية [الإسراء: 44]، ولما دلت عليه هي وكل ذرةٍ أنه مقدسٌ عن نسبة الولد إليه، فالمعتقد لذلك عطل وجه دلالتها على تقدسه ووحدانيته، فاستعير لما فيه من إبطال روح الدلالة التي خُلقت لأجلها إبطال صورتها بالهد والانفطار. وقال صاحب "الانتصاف": استشهد هذا القائل على دلالة الموجودات على وحدانية الله بقول الشاعر: وفي كل شيء له آيةٌ ... تدل على أنه واحد وأقولُ: الموجوداتُ تدل على أنلها خالقاً قادراً عالماً حكيماً؛ لأن الأثر دال على المؤثر، والمقدور على القدرة، وإتقانُ العمل دليلٌ على العلم والحكمة. وأما دلالةُ الموجودات على الوحدانية، فلا وجه له، وأصعبُ ما تحققُ به هذا الأصل قول الشاعر، ظن أن الموجودات

ذلك الأثر في المحسوسات: أن يُصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخرّ. وفي قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ) وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة- وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة- زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرّض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في (أَنْ دَعَوْا) ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في (منهُ)، كقوله: على حالة لو أنّ في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أى: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل (هداً)، أى: هدها دعاء الولد (للرحمن). وفي اختصاص "الرحمن" وتكريره مرات من الفائدة: أنه هو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تدل على الوحدانية، والنكتة التي أبداها إنما تتم له بناء على أن الموجودات شاهدةً بنفي الولد، وقد ظهر لك ما فيه. وقلتُ: كلامُ صاحب "الانتصاف" أحسنُ ما ذُهب إليه في هذا المقام. قوله: (عُلل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد) يعني: هو من تداخل العلة، كقوله تعالى: (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ)، قالوا: محل (أَلاَّ يَجِدُوا) نصبٌ على أنه مفعولٌ له، وناصبه المفعول له الذي هو (حَزَناً). قوله: (أي: هدها دعاءُ الولد)، قيل: هو كما تقول: شاهدت ضرباً زيداً، أي: أن أضرب زيداً. قوله: (وفي اختصاص "الرحمن" وتكريره مرات)، اعلم أنه ذكر أحوال المتقين، وكرر فيها هذه الكلمة مرتين ليُعلق بها أولاً ما يخصهم من الله من فضيلة التبجيل والإكرام، وثانياً: ما ينبئ عن القرب من الله والزلفى عنده من مزية درجة الشفاعة، وعلل حصول هذه المرتبة باتخاذ العهد وهو التوحيد والقيام بمواجب الشكر والعبودية، وعقبه بقوله:

الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أنّ أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى "سمى" المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر: إنّا بنى نهشل لا ندّعي لأب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً) إعلاماً بعظم تأثير هذه الكلمة من الموافقين والمخالفين في الدنيا ليكون تكميلاً لتأثيره في العقبى، فأتى أولاً بذكر المخالفين، وكررها أربع مرات تشديداً لكفران النعم التي موليها الرحمن وتعكيساً لآرائهم، يعني: كان من حق مُولي أصول النعم وفروعها وخالق العالمين وما فيها أن لا يشكر غيره، فقد كفروا به بأن اتخذوا له ولداً، كقوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]، ثُم ثنى بذكر الذين اتخذوا عنده عهداً وأوثقوه توثقةً شديدة حتى علقت به عقدة المحبة والمودة تعريضاً بالمخالفين، وأنهم المبغوضون، ولذلك وُصفوا بالمغضوب عليهم. قوله: (طلباً للعموم والإحاطة) أي: لم يقل: دعوا عيسى ولداً ولا عُزيراً ولا الملائكة، طلباً للعموم على منوال: فلانٌ يُعطي ويمنعُ، لكن اقتصر على أحد مفعوليه. قوله: (إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ)، تمامه: عنه ولا هو بالأبناء يشربنا

أي: لا ننتسب إليه. (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم: 92]. انبغى: مطاوعُ «بغى»؛ إذا طلب، أى: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم -سبحانه- جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم: 93 - 95]. (مَنْ) موصوفة؛ لأنها وقعت بعد "كل" نكرة، وقوعها بعد رب في قوله: ربّ من أنضجت غيظا صدره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("انبغى" مطاوعُ "بغى") الجوهري: قولهم: ينبغي لك أن تفعل كذا، فهو من أفعال المُطاوعة. تقولُ: بغيته فانبغى. قوله: (وما ينطلبُ) أي: ما يحصل طلبته. قوله: ((مَن) موصوفةٌ؛ لأنها وقعت بعد "كل")، قال أبو البقاء: (مَن) نكرةٌ موصوفةٌ، و (فِي السَّمَوَاتِ) صفتها، و (إِلاَّ آتِي) خبرُ كل، ووحد (آتِي) حملاً على لفظ كل، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها، ومن الإفراد (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ). قوله: (رُب من أنضجت غيظاً صدره)، تمامه: قد تمنى لي موتاً لم يُطع وبعده:

وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة: (آتِي الرَّحْمنِ) على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير أنهم أولاد الله، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني: إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السماوات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أى: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعي لنفسه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويراني كالشجا في حلقه ... عسراً مخرجه ما يُنتزع نضج اللحم والعنبُ ينضج نُضجاً فهو نضيج، والشجا: ما نشب في الحلق من غُصة هم أو نحوه. و"مَنْ" في "من أنضجتُ" موصوفة، أي: أي رجل أنضجت. قوله: (فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات)، وأما الكفر الأول، وهو قوله: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً) فهدمه قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) الآية، وهذا غنما يصحُّ هدماً إذا ذهب إلى ما ذكره صاحبُ "الانتصاف"، أي: لو صح هذا لتعطل وجه دلالة المكونات على تقدسه سبحانه وتعالى ووحدانيته، فاستعير لما فيه من روح الدلالة التي خُلقت لأجلها إبطالُ صورتها بالهدم بالانفطار. وأما الكفر الثاني، وهو ما يلزم من إشراك الأولاد الآباء في المالكية، فهدمه قوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) الآيات؛ لأن من يأوي إلى الرحمن ويلتجيء على ربوبيته يكونُ عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً خاشياً لا يكونُ إلا ذليلاً فضلاً عن أن يكون شريكاً. قوله: (لا يدعي لنفسه) الضمير المرفوع راجعٌ إلى قوله: "ما من معبودٍ"، وهو الذي

ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء: 57]. وكلُّهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم: 96]. قرأ جناح بن حبيش (وُدًّا) بالكسر: والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه: «يا علىّ قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة» فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استتر في (ءاتى)، وقوله: "كما يجبُ عليهم" جملةٌ معترضةٌ تؤكدُ معنى: "كما يفعلُ العبيدُ" معطوفةٌ عليه، نحو: أعجبني زيدٌ وكرمه. قوله: (مهيمنٌ). الجوهري: أصله مؤأمنٌ، لينت الثانية، وقلبت ياء، وقلبت الأولى هاءً. قوله: (دجا الإسلام) الأساس: ومن المجاز: ثوبٌ داجٍ: سابغٌ غطى جسده كله، وكان ذلك مُذ دجا الإسلام، وثوبُ الإسلام داجٍ.

«يقول الله عز وجل: يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إنّ الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له المحبة في أهل الأرض» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [مريم: 97 - 98]. هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه (بِلِسانِكَ) أى: بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ وتنذر. واللدّ: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة. وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا) تخويف لهم وإنذار. وقرئ (تُحِسُّ) من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة: (تَسْمَعُ) مضارع "أسمعتَ". والرَّكْز: الصوت الخفي. ومنه: ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقول الله عز وجل: يا جبريل، قد أحببت فلاناً)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". قوله: (فكأنه قال) الفاءُ: جوابُ شرط محذوف، أي: إذا كانت الآية خاتمة للسورة "فكأنهُ قال: بلغ هذا المنزل"، وفيه إشعارٌ بأن الفاء التنزيلية، أعني (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ) فاءٌ فصيحة؛ لأن السبب المحذوف إما قوله: "بلغ هذا المُنزل"، أو قوله: "بشر وأندر"، يعني بلغ المُنزل لأنا أنزلناه بلُغتك لييسهُل عليك إبلاغه، فبشر وأنذر. وقال: بشر وأنذر فإنا

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سهلنا بلسانك، وفصلنا مواقع البشارة والنذارة، وإنما كان خاتمة للسورة، بل للقرآن بأسره، لأنها مشتملة على البشارة لأولياء الله والنذارة لأعدائه. قال القاضي: ضمن (يَسَّرْنَاهُ) معنى: أنزلناه بلغتك، وعُدي بالباء، وإلا فحقه: على لسانك.

سورة طه

سورةُ طه مكية وهي مئة وثلاثون وأربع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) [طه: 1 - 4]. (طه) أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضى الله عنه: (طه)، وفسر بأنه أمر بالوطء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة طه مكيةٌ، وهي مئة ثلاثون وأربع آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (أبو عمرو فخم الطاء)، قال صاحب "التيسير": قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بإمالة فتحة الطاء والهاء، وورشٌ وأبو عمرو بإمالة الهاء خاصة، والباقون بفتحهما.

الأرض بقدميه معا، وأن الأصل (طأ)، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في (يطأ) فيمن قال: لا هناك المرتع ثم بنى عليه الأمر، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما على المسلمين، والله أعلم بصحة ما يقال: إن «طاها» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو قُلبت في "يطأ")، أي: قُلبت الهمزة في "يطأ" ألفاً، وبنى الأمر عليه، كما قالوا في هنأك: لا هناك، وإذا بنى عليه الأمر فيكونُ: ط، كما يكون الأمر من "يرى": رَ، ثم ألحق هاء السكت فصار: طه. قوله: (لا هناك المرتع)، أوله: راحت بمسلمة البغالُ عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع الرواحُ: نقيضُ الغدو، لا هناك: دعاءٌ على الناقة من الهنو، أ]: لا هناك رعيُ هذا المرتع، راحت بمسلمة البغال، نحو: مر بفلانٍ فلانٌ، فزارةُ حي من الغطفان، يخاطب ناقته وقد رحل مسلمة بالبغال عشية، وقد فقد بنى فزارة، أي: ما مقامك هاهنا ورعيك مرعاها، فاقصدي بني فزارة ارعي مرعاها. قوله: (ويجوز أن يكتفى بشطري الاسمين)، أي: بنصف كل واحدٍ من الطاء والهاء، وقد سبق في فاتحة البقرة أنها أسماءٌ مسمياتها الحروف المبسوطة، فأسقطت الألفُ من كل واحد منهما، فقيل: (طه). عن نور الدين الحكيم: كأنه قصد بهذا الكلام الذب عن الحسن، فإنه أشهر القول بأن هذه السورة من السور الثمان والعشرين المبتدأ فيها بفواتح السور، فأراد أن يُدرج (طه) بالفواتح فقال: "يجوز أن يُكتفي بشطري الاسمين"، أي: بهذين الحرفين من طاها اللذين هما اسمان من الفواتح. قوله: (والله أعلمُ بصحة ما يقال)، وجهٌ آخر.

في لغة عك في معنى: يا رجل، ولعل عكا تصرفوا في «يا هذا» -كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء- فقالوا في «يا»: «طا»، واختصروا (هذا) فاقتصروا على (ها)، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به: إنّ السّفاهة طاها في خلائقكم ... لا قدّس الله أخلاق الملاعين والأقوال الثلاثة في الفواتح: أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون (ما أَنْزَلْنا) إن جعلت (طه) تعديداً لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ، و (الْقُرْآنَ) ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ: (ما نُزل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في لغة عك)، الجوهري: وهو عكُّ بن عدنان. أخو معد. وهو اليوم في اليمن. قوله: (تصرفوا في "يا هذا")، أي: في لفظة "هذا"، فقلبوا حرف النداء طاء، واختصروا لفظة "هذا" بحذف الذال، وقالوا: "طا ها"، قال الواحدي: وأكثرُ المفسرين على أن معنى (طه): يا رجلُن يريد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قولا لحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهدٍ وابن عباس في رواية عطاء والكلبي، غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة وبالنبطية والسريانية، ويقول الكلبي: بلغة عك، قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى، لأن الله لم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان غير قريش، وقد ذكر محيي السنة مختصراً من هذا، والمصنفُ ما رضي بهذا القول، حيث قال: والله أعلمُ بصحة ما يقال. وقال: والأقوال الثلاثة في الفواتح هي التي يُعول عليها الألباءُ المتقنون. قوله: (و (الْقُرْآنَ) ظاهر أوقع موقع الضمير)، يعني: (طه) إذا كان اسماً للسورة

عليك القرآن) (لِتَشْقى) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء: 3]، والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: "أتعب من رائض مهر"، أى: ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له: إنك شقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان مبتدأ خبره: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، ولابد في الجملة إذا وقعت خبرا ًمن عائد، وهنا أقيم مقام العائد (الْقُرْآنَ)، وهو إما اسمٌ للسورة، فاستغنى عن الضمير به إشعاراً بالعلية وإيذاناً بأن ما هو رحمةٌ لك لا يكون إنزاله لشقاوتك، أو القرآن كله، فاكتفى عن الضمير بالعموم، كما في قول: نعم الرجل زيدٌ، في وجه، وقد أشار إلى الوجهين بقوله: لأنها قرآن. قوله: (والشقاء يجيء في معنى التعب)، قال تعالى: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه: 117]، أي: فتتعب، الأساس: ولم يزل في شقاء من امرأته في تعب، وما زلت تُشاقي فلاناً منذ اليوم مشاقاة تعاسره ويعاسرك. قوله: (أتعبُ من رائض مُهر)، قال الميداني: هو كقولهم: لا يعدم شقي مهرا، يريد أن معالجة المهارة شقاءٌ، لما فيها من التعب. قوله: (فأريد رد ذلك)، أي: قوله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) رد لقول المشركين: إنك تشقى بتركك دين آبائك، وتعريضٌ بأنهم الأشقياء؛ لأن (طه) إذا جُعل اسماً للسورة و (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) خبره، يكون "القرآن" من وضع المُظهر موضع المضمر لما ذكرنا، وللتفخيم تعظيماً له، وأنه هو السُّلمُ في نيل كل فوزٍ وسعادة، ومن

وروي أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدَّتْ قدماه، فقال له جبريل عليه السلام: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا. أى: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وكل واحد من (لِتَشْقى) و (تَذْكِرَةً) علة للفعل، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حُرم فهو الشقي الخائب الخاسر، وإذا جُعل قسماً، و (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) المُقسم عليه، دال أيضاً على شرفه، كقوله: وثناياك إنها إغريض من كون القسم والمقسم عيه من وادٍ واحد، فقوله: طوما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها" إشارةٌ إلى معنى التعريض. قوله: (حتى اسمغدت قدماه)، النهاية: وفي الحديث: أنه صلى حتى اسمغدت رجلاه، أي: تورمتا وانتفختا، واسمغد الجُرحُ: إذا ورم. قوله: (لتنهك نفسك)، الجوهري: نهكته الحمى: إذا جهدته وأضنته، وفدحه الدين: أثقله، وأمرٌ فادح: إذا عاله وبهظه. قوله: (لاستجماعه الشرائط)، "الشرائط"، بالرفع في بعض النسخ، وفي الحاشية عن المصنف: "لاستجماع الشرائط بغيرها"، هذا هو الصحيح، لما ذكر صاحب "المُغرب": استجمع السيلُ: اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه، وهو لازمٌ كما ترى. وقولهم: استجمع الفرس جرياً: نصبٌ على التمييز، وأما قول الفقهاء مستجمعاً شرائط الجمعة، فليس يثبت. وأما قول الأبيودري:

أن تشقى، كقوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الحجرات: 2]؟ قلت: بلى، ولكنها نصبة طارئة، كالنصبة في (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، وأما النصبةُ في (تذكرةً) فهي كالتي في ضربت زيدا؛ لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شآميةٌ تستجمع الشول حرجفٌ فكأنه قاسها على ما هو الغالب في الباب، أو سمعه من أهل الحضر فاستعمله. تم كلامه. ويمكن أن تُصحح الرواية بالرفع بأن يقال التقدير: لاستجماع الشرائط فيه، كقول الشاعر: ويوم شهدناه سليماً وعامراً قوله: (نصبة طارئة)، أي: في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2]، يعني: كان من حقه دخولُ اللام لضعف دلالته على التعليل، لأنه ليس على الشريطة لكنها نصبةٌ عارضةٌ كما في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، قال صاحب "الفرائد": هذا السؤال مبنيٌّ على قوله: إلا أن الأول وجب مجيئه باللام، يعني: ذكرت الوجوب وليس به؛ لأنه يجوز مجيئه بدون اللام كما في قوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) [الحجرات: 20]، وخلاصة الجواب أن الواجب: أن يُجاء باللام، إلا أنه حذف اللام تخفيفاً لطول الصلة والموصول، ولذلك قالوا: يُحذف حرف الجر مع "أنّ" و"أنْ" كثيراً، واللامُ هاهنا متحققٌ حكماً، ولم يكن متحققاً في (تَذْكِرَةً) لا حقيقة ولا حُكماً.

وقوانين لغيرها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (تَذْكِرَةً) بدلا من محل (لِتَشْقى)؟ قلت: لا، لاختلاف الجنسين، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي (إلا) فيه بمعنى «لكن» ويحتمل أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لاختلاف الجنسين)، قال صاحب "الفرائد": هذا ليس بجواب. الجوابُ أن يُقال: المبدلُ منه لابد من أن لا يكون مقصوداً في الكلام، والمقصود هو البدل، ولهذا يجوز اطراحه إلا حيث لا يستقيم بقية الكلام، كما في قولك: زيدٌ أرأيت غلامه رجلاً صالحاً، وهاهنا (لِتَشْقَى) مقصود في الكلام، واطراحه يخل بالمقصود مع أن بقية الكلام يصح بعد اطراحه. وقال صاحب "التقريب": لا يجوز البدل لاختلاف الجنسين في الانتصاب، لكنه نُصب على الاستثناء المنقطع. وقلتُ: الظاهر أن مقصود المصنف من قوله: "اختلاف الجنسين" أن التذكرة والشقاوة لا تتراءى ناراهما، ولو أبدلته منه لكنت جعلت الشيء بدلاً مما لا يجانسه، والقائم مقام الشيء لابد أن يكون بينهما مجانسة، ولأن البدل كالبيان للمبدل من حيث الإيضاح وكالتأكيد له من حيث تكرير العامل، كما سبق في (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة 6 - 7]، ولهذا جاز أن يكون استثناء منقطعاً؛ لأن اختلاف الجنسية شرط فيه، إما تحقيقاً نحو: ما جاءني أحدٌ إلا حماراً، أو تقديراً نحو (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) [الحجر: 58 - 59]، على ما سبق، ويؤيده ما ذكره صاحب "الكشف": لا يجوز البدلُ؛ لأن التذكرة ليست من الشقاوة في شيء ليس هو إياه ولا بعضه ولا مشتملاً عليه. قوله: (المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتل متاعب التبليغ)، يريد أن (لِتَشْقَى) تعليلٌ لـ (أَنزَلْنَا)، ثم دخل النفيُ على المعلل والاستثناء متصلٌ إما على تقدير الحال، فيقال:

وتكاليف النبوّة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون (تذكرة) حالا ومفعولا له (لِمَنْ يَخْشى) لمن يؤول أمره إلى الخشية، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في حالٍ من الأحوال إلا في حال التذكرة، وإما على تقدير أن يكون مفعولاً له، فيكونُ التقدير ما أنزلنا هذا القرآن المتعب لأمر من الأمور إلا تذكرة. وقال صاحب "الانتصاف": في هذا الوجه بُعدٌ؛ لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول، وما جرت به عادة الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهاه عن الشقاء وضيق الصدر. قال تعالى: (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف: 2]، (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء: 3]. وقلتُ: ما ذكره ليس بشيء؛ لأن المراد بالشقاء التعبُ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5]، حيثُ فسره المصنف بقوله: إن المعنى بالقول الثقيل القرآنُ، وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليفُ شاقةٌ ثقيلة، لا سيما عليه صلوات الله عليه؛ لأنه متحملها بنفسه، فهي أثقلُ عليه. والمعنى على هذا التفسير: ما أنزلنا عليك القرآن المتعب إلا ليكون تذكرة، لا لأن تحملَ على نفسك قيام الليل وتُذيقها المشقة، فحسبك منه ما تلقاه من متاعب ومشاق مقاولة الأعداء. ومعنى قوله تعالى: (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف: 2] لا تخف تكذيب القوم وإعراضهم، ولا يضق صدرك من الأذى، فنهاه عن مبالاتهم، وهو صريحٌ في تلقي المكاره وتحمل المتاعب. وقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء: 3] معناه: لا تتساقط عليهم حسراتٍ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث، ودُم على التبليغ ولا تتهاون. وتلخيص ذلك أن الشفاء الذي نهاه عنه غيرُ الشقاء الذي هو سبب النزول، وهو الذي نحن بصدده. قوله: (لمن يؤول أمره إلى الخشية)، هذا لأن القرآن تذكيرٌ للناس كلهم الخاشي وغير الخاشي، خص الخاشي لأنه المنتفع به. قوله: (ولمن يعلمُ الله)، عطفٌ تفسيريٌّ لقوله: "لمن يؤولُ أمره".

(تَنْزِيلًا) وُجوه: أن يكون بدلا من (تذكرة) إذا جعل حالا، لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب ب (نُزًلَ) مضمرا، وأن ينصب بـ (أنزلنا)، لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بـ (يخشى) مفعولا به، أى: أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرىّ: (تنزيل)، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد (تَنْزِيلًا) إلى قوله: (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تعظيم وتفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الشيء لا يُعللُ بنفسه)، يعني تذكرةً علةٌ لأنزلنا، ولو أبدل تنزيلاً عنه، رجع إلى كونه علةً لـ (أَنزَلْنَا)، فيلزم تعليلُ الشيء بنفسه، وإذا جُعل حالاً يكون بمعنى مُنزلاً، فيكونُ حالاً موطئة، كقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) [يوسف: 2]، بخلافه إذا جُعل مفعولاً له، فإنه يبقى على مصدريته، فيكون تعليلا ًلنفسه بهذا التقدير؛ لأنه لو كان منصوباً بـ (أَنزَلْنَا) لا على هذا التقدير، بل على ظاهره، يكون تقدير الكلام: ما أنزلنا تنزيلاً ممن خلق الأرض، وهو فاسد. قوله: (لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة)، تعليلٌ لجواز أن يكون أنزلناه عاملاً في المصدر المؤكد بهذا التقدير؛ لأنه لو كان منصوباً بأنزلنا لا على هذا التقدير، بلعلى ظاهره، يكونُ تقدير الكلام: ما أنزلنا تنزيلاً ممن خلق الأرض، وهو فاسد. قوله: (وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن)؛ لأن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكيراً لمن يخشى المنزل الذي شأنه أنه من جهة القادر العظيم القاهر السلطان الواسع الملك، فإذا خشيه بدل الكفر إيماناً، والعصيان طاعةً، ولا يتقدم على التكذيب والارتياب. وقوله: (ما بعد (تَنزِيلاً) إلى قوله: (الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)؛ تعظيم وتفخيم لشأن المنزل)، فيه إيماءٌ إلى ترتب الحكم على الوصف.

ولا يخلو من أن يكون متعلقُه إما (تَنْزِيلًا) نفسه فيقع صلة له، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا: (أَنْزَلْنا) ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين: ويجوز أن يكون (أَنْزَلْنا) حكاية لكلام جبريل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يخلو من أن يكون متعلقه)، الضمير في "لا يخلو": راجعٌ إلى قوله: "ما بعد (تَنزِيلاً) ". وعليه قول صاحب "التقريب" في قول المصنف: "فيقع صلة"، ويُمكن أن يقال: إن "مَن" فاعل، أي: لا يخلو من أن يكون، يعني (مِمَّنْ خَلَقَ) إما أن يكون معمولاً لـ (تَنزِيلاً) أو لمُقدر، وهو صفة (تَنزِيلاً)، والصفة أدخل في التفخيم والتعظيم المطلوب؛ لأن الصفة حينئذ تكون مادحة. قوله: (أن هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة)، يعني قوله: (وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ... اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، فلو دام على لفظ المتكلم لم يحسن سرد هذه الصفات على ما هو عليه؛ لأن المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن تذكرة لمن يخشى، تنزيلاً ممن هو مستحقٌّ لأن يُطاعَ فيما أمرَ ونهى، وأن يُعبد ويُخضع له، وأن لا يُستعان إلا به لأنه متصفٌ بهذه الصفات الكاملة، ومن الأسلوب قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ) بالنساء: 64]، فلم يقل: استغفرت لهم؛ تعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتفخيماً لاستغفاره، وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وأما قوله: "إن هذه الصفات إنما تسردت على لفظ الغيبة"، فمعناه: أنه ما انتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة كما عليه ظاهرُ الالتفات، وإنما انتقل منه إلى ما من حقه أن يكون على لفظ الغيبة، وهو المُظهر، كما في هذه الآية من لفظ الرسول، فهو في الحقيقة من وضع المُظهر موضع المضمر لتوخي بيان العلة؛ لأن حق العود بعد المضمر أن يُجاء بالمضمر. قوله: (فضوعفت الفخامة من طريقين)، يعني: إذا ابتدئ الكلامُ بنوع من التعظيم،

والملائكة النازلين معه. وصف السموات بالعلى: دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) [طه: 5 - 6]. قرئ: (الرَّحْمنُ) مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير: هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى "من خلق". فإن قلت: الجملة التي هي: (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ما محلُّها - إذا جررت "الرحمن" أو رفعته على المدح؟ قلت: إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع "الرحمن" خبرين للمبتدأ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو إتيان الضمير الدال على أن المتكلم به معظمٌ مطاعٌ ذو سلطان، ثم ثنى بما يتمكن من إجراء الأوصاف الجليلة على الموصوف بنوع التعظيم وتكرر المعنى المقصود، ويفوت هذا لأن أجري الكلام على سنن واحد. قوله: (وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى "من خلق")، يريدُ أن التعريف فيه كالتعريف في قوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36]، فإن المشار إليه ما يُعلم من مفهوم قوله: (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران: 35]، من الذكورة، فإنه لما قيل: (مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا) فُهِم منه معنى الرحمن، وأنه مولى جلائل النعم، ولا نعمة أجل من إيجاد الأشياء من العدم، فأشير باللام إلى ذلك المعهود، كأنه قيل: ذلك الخالقُ (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وفيه إثباتُ وصفين مستقلين، أي: الخالقية والمالكية. قوله: (قالوه أيضاً)، جزاءٌ لقوله: "وإن لم يقعد"، وقوله: "ملك" مفعولٌ لقوله:

ذلك المعنى ومساواته "ملك" في مُؤدّاه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر. ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: هو جواد. ومنه قول الله عز وجل: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]. أى: هو بخيل، (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة: 64]، أى: هو جواد، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ومُساواته"، يعني: أنهم يكنون بقوله: استوى فلانٌ على العرش، عن: ملك، سواءٌ قعد على السرير أو لم يقعد؛ لأن اللازم مساوٍ في تأدية المعنى، كما يقال: يدُ فلانٍ مبسوطةٌ ويد فلان ٍمغلولةٌ بمعنى أنه جوادٌ أو بخيلٌ، حتى إن لم يكن له يدٌ رأساً قيل هذا الكلام في حقه. قوله: (وإن كان أشرح)، اسم "كان": ضميرٌ يرجعُ إلى قولهم: استوى فلانٌ على العرش، لا إلى: ملك، كما ظُن: فالمعنى: قالوا: استوى فلانٌ على العرش، يريد: ملك، سواءٌ قعد على السرير أو لم يقعد؛ لمساواة هذا اللفظ "ملك" في تأدية المقصود، وإن كان هذا اللفظ أبسط من "مَلكَ" وأبلغ منه، كما عُلم في البيان أن الكناية أوقع من الإفصاح بالذكر؛ لأنك مع الكناية كمُدعي الشيء بالبينة، ولأنه لا يقال: فلانٌ استوى على العرش إلا بعد تمكنه على الملك استقراره له، بخلاف ما إذا قيل: ملك، ولأن في تلك العبارة تصويراً لصورة العرش في الذهن، وتخييلاً لحالة الاستواء عليه، ويلزمه لمزيد المعنى الآخر لا عكسه، فيكونُ أبسط وأدل. قوله: (والتمحل للتثنية من ضيق العطن)، يريدُ أن قولهم: إن معنى اليد: النعمة، فمعنى (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]: نعمةُ الله مقبوضةٌ، ومعنى (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ): نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة. نقله الواحدي عن بعضهم. قوله: (من ضيق العطن)، أي: من ضيق مجاله في المعاني والبيان، الأساس: ضرب القومُ

(وَما تَحْتَ الثَّرى) ما تحت سبع الأرضين: عن محمد بن كعب وعن السدى: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. [(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى* اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [طه: 7 - 8]. أي: يعلمُ ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعطنٍ: إذا أناخوا حول الورد، وإذا أناخُوا حول الماء بعد السقي، والعطنُ والمعطنُ: المناخُ حول الورد، وأما في مكان آخر فمُراحٌ ومأوى. ومن المستعار: فلانٌ واسعُ العطن، إذا كان رحب الذراع، وقال الإمام في قوله: من غير تصوير يدٍ ولا غلٍّ ولا بسط، نظرٌ؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلاتُ الباطنية، فإنهم يقولون أيضاً: المراد من قوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى) [طه: 12]: الاستغراق في خدمة الله من غير تصور فعل، وقوله تعالى: (بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69]: المرادُ منه تخليصُ إبراهيم من يد الظالم من غير أن يكون هنا نارٌ وخطابٌ البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله المجيد، بل القانون: أنه يجب حملُ كل لفظٍ ورد في التنزيل على حقيقته إلا إذا قامت دلالةٌ عقلةٌ قطعيةٌ توجبُ الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئاُ لم يخض فيه. وأقولُ: سلمنا أن الأصل إجراءُ اللفظ على حقيقته إلا إذا منع مانعٌ، لكن طريق العدول غير منحصر في المجاز في المفرد جاز العدول من الإسناد إلى الإسناد، في مثل قولنا: أنبت الربيع البقل وهزم الأمير الجُندَ، ومن المركب إلى المركب ما نحن بصدده، فإنه عدولٌ إلى أخذ الزبدة الخلاصة من المجموع لمانع إجرائها على مفهومها الظاهري، ويُسمى هذا بالكناية الإيمائية. قوله: ((وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) ما تحت سبع الأرضين)، والثرى هو: التُّرابُ الندي.

أسررته في نفسك (وَأَخْفى) منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم: أن "أخفى" فعل يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه، هو كقوله تعالى: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110]، وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن بعضهم أن "أخْفَى" فعلٌ)، قال محيي السنة: رُوي عن زيد بن أسلم؛ أي: يعلمُ أسرار العباد، وأخفى سرهُ عن عباده، فلا يعلمه أحدٌ، تحريرهُ أنه يعلمُ أسرار العباد، العبادُ لا يعلمون أسراره، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110]. قوله: (وليس بذاك) أي: الشرط لا يلائمه، لأن الكلام ليس في إثبات العلم لله تعالى ونفيه عما سواه. قال صاحب "الانتصاف": يلزمُ منه عطفُ الجملة الفعلية على الاسمية إن عطفته على الجملة الكبرى، أو عطفُ الماضي على المضارع إن عطفت على الجملة الصغرى، هذا من اللفظ، ومن المعنى: القصد: الحض على ترك الجهر وسقوط فائدته، يعلم الله ما هو أخفى منه، وإذا جعلته فعلاً ماضياً خرج عن قصد السياق، وليس مثله قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110]، إذ بين السياقين اختلاف. قوله: (فاعلم أنه غنيٌّ عن جهرك)، فيه إيذانٌ بأن السُّؤال عن وجه ترتب الجزاء على الشرط، يعني: أن من شرط الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، وهاهنا الشرطية مفقودة. وأجاب بوجهين مآلهما إلى تقدير الإعلام والتنبيه والتوبيخ، والجواب الأول مبنيٌّ على نفي الجهر وإثبات الغير، والثاني على الإرشاد إلى وجه حكمته، أما قوله أولا: "فاعلم أنه غني عن جهرك" فتوبيخٌ؛ يعني: جهرك بالقول سببٌ لأن أوقفك على قلة جدواه؛ لأن السامع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قريبٌ يسمعُ السر وأخفى، ومنه: تأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اربعوا على أنفسكم، إنكم ما تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم" الحديث. وأما قولُه ثانياً: "أن يكون نهياً عن الجهر" فمعناهُ: لا تجهروا بالقول في الدعاء، بل اعتمدوا الخُفية، فإنها أبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخضوع وأهضمُ للنفس، كما قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ) [الأعراف: 205]. وأما قوله ثالثاً: تعليماً للعباد، فتأويله: إني ما كلفتكم الجهر لأني لا أسمع إلا الجهر، فإني أسمع السر وأخفى، وإنما كلفتكم لأمر آخر فروموه من مظانه، كأنه قيل: شرعية الأمر بالجهر سببٌ للتنبيه على وجه الحكمة ودفع الريبة، قال القاضي: الغرض في شرعية الجهر يس لإعلام الله، بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها، ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار. وقلتُ: وقد أسلفنا في خاتمة الأعراف مراتب الدعاء بحسب اختلاف المقامات على لسان العارفين. ومن الاعتبارين ما روينا عن أبي داود والترمذي، عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً، فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يخفض من صوته، ومر بعمر رضي الله عنه يُصلي يرفع صوته، فسأل أبا بكر فقال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، وسأل عمر رضي الله عنه فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. وأخرج الإمام أحمد نحوه عن علي، وزاد الحسن في حديثه فقال: "يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً"، وقال لعمر: "اخفض من صوتك شيئاً". ورواه أبو داود، عن أبي هريرة أيضاً.

فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) [الأعراف: 205]، وإما تعليماً للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر، (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث كقولك: الجماعة الحسنى، ومثلها (مَآرِبُ أُخْرى) [طه: 18]، و (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [طه: 23]. والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن هذه المعاني المذكورة مستنبطةٌ من الآية باستعانة إشارة النص. وأما عبارتُه فلإثبات علمه الشامل للكائنات من جزئياتها وكلياتها وما يتصل بها من باطن أحوالها وظاهرها؛ لأن قوله تعالى: (خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا) بيان لكمال الخالقية، وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) إيماءٌ على التدبر التام، وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [البقرة: 255]، إشارةٌ إلى المالكية العامة، فيكون قوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) [طه: 7]، إثباتٌ للعالمية، فالمعنى: تنبه أيها السامعُ على أن علمه محيطٌ بكل شيء وإن أردت أن تجهر بالقول وتخفي في نفسك خلافه فاعلم أنه يعلمُ المضمر وأخفى منه مما ستسره فيها، وهو في المبالغة في جانب العلم مثل (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) في جانب المُلك فينطبق على هذا التأويل مجيء اسمه المقدس الجامع لأجل ترتب الحكم بالتوحيد عليه وإرداف قوله: (لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، به على التتميم. قوله: (سائر الأسماء)، الجوهري: سائر الناس: جميعهم، وذكره في السين مع الياء، وقال ابن الأثير في "النهاية": السائر مهموزٌ، ومعناه: الباقي، والناسُ يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح. وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء، ومنه: فضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" أي: باقيه، وفي "المُغرب": الأسارُ: جمعٌ على أفعالٍ، جمع سؤر، هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء، ثم استعير

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طه: 9 - 10]. قفاهُ بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب (إِذْ) ظرفا للحديث؛ لأنه حدث. أو لمضمر، أى: حين (رَأى ناراً) كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لبقية الطعام وغيره، وقال الحريري في "درة الغواص": يستعملون "سائر" بمعنى: جميع، وهو في كلام العرب بمعنى الباقي، والدليلُ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان حين أسلم وعنده عشرُ نسوة: "اختر أربعاً منهن وفارق سائرهن"، وما أنشد سيبويه: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره بادٍ إلى الشمس أجمعُ قوله: (قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به)، الضمير راجعٌ إلى معنى قوله: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه: 1 - 3] على أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العُتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم وغير ذلك، كما أنزلنا على موسى التوراة كذلك، فتكون الواو عاطفةً قصة باستقلالها على قصة مثلها. قوله: (أعباء النبوة)، الجوهري: العبء، بالكسر: الحملُ، والجمع الأعباء. قوله: (ظرفاً للحديث)؛ لأنه حدثٌ، أي: مصدرٌ هنا بدليل قوله: (فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا) [طه: 10] بخلاف قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) [الغاشية: 1] فإنهُ بمعنى الخبر، قال الجوهري: والحديثُ: الخبرُ، يأتي على القليل والكثير.

كيت وكيت. أو مفعولا لـ (اذكُر) استأذن مُوسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده فرأى النار عند ذلك. قيل: كانت ليلة جمعة. (امْكُثُوا) أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال: (لَعَلِّي) ولمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه، يقال له حديثٌ، قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً) [التحريم: 3] وقال: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف: 101]، أي: ما يحدث به الإنسان في نومه، وسمى تعالى كتابه حديثاً، قال: (فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور: 34]، وقال: (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء: 78]، والحديث: الطري من الثمار، ورجلٌ حدوثٌ: حسنُ الحديث: ورجلٌ حدثٌ وحديثُ السن: بمعنى. قوله: (شاتية)، قيل: هي من قولهم: شتوت بموضع كذا؛ أقمت به الشتاء. قوله: (مثلجة)، أي: ذاتُ ثلج. قوله: (وقدح فصلد زنده)، الجوهري: وصلد الزند يصلدُ - بالكسر- صُلوداً: ذا صوت ولم يُخرج ناراً. قوله: (لما وجد منه الإيناس)، يُروى "وجد" معروفاً ومجهولاً، والأولُ أوجه لمطابقة "خيفةً" لهم، أي: لما وجد موسى من نفسه الإيناس حققهُ للأهل بأن قال: (إِنِّي آنَسْتُ) بكلمة التحقيق.

يقطع فيقول: إنى (آتِيكُمْ)؛ لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس: النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل: المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها (هُدىً) أى: قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في (مررت بزيد): أنه لصوق يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من سعفةٍ)، السعفة: الخرقة بلغة أهل مكة، والسعافُ: الخزاف. قوله: (إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى)، يريد أن أطلق "الهدى" وأريد "الهدى" إطلاقاً للازم على الملزوم، ويمكن أن تكون الآية من باب قول ابن المناذر: إن عبد الحميد لما تولى ... هد رُكنا ما كان بالمهدود ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود لأنه إذا وجد الهدى في ذلك المكان ولا ارتياب في أنه لا يتقوم فيه بنفسه، فقد وجد الهداة، وعليه البيت المستشهد به في "الكتاب". قوله: (كما قال سيبويه)، يعني: جعل استعلاء مكانٍ يقربُ منها بمثابة استعلائها، كما جعل اللصوق بما كان يقربُ من زيدٍ بمثابة اللصوق بمكان زيد. قوله: (أو لأن المصطلين بها)، اعلم أن (عَلَى النَّارِ): ظرفٌ مستقرٌ حالٌ من (هُدًى)، و"كان": صفة قُدمت، صارت حالاً. قال صاحب "الفرائد": (عَلَى): حرفُ جر لا بد له من متعلق، فالتقدير: أو أجدُ ذوي هدى مشرفين على النار؛ لأنه لابد في الاصطلاء بالنار من أن تكون النار تحت أذيالهم.

والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى: وبات على النّار النّدى والمحلّق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تكنفوها)، الجوهري: تكنفوه واكتنفوه، أي: أحاطوا به، والتكنيف مثله. قوله: (وبات على النار) البيت، أوله لعمري لقد لات عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق ريعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجٍ عوضُ لا نتفرقُ قال الحريري في "درة الغواص" بعد إنشاد البيتين الأخيرين: يعني أن المحلق الممدوح والندى ارتضعا ثدي أم وتحالفا على أنهما لا يفترقان أبداً؛ لأن عوض: من أسماء الدهر، هي مما بُني على الضم والفتح، وهو للمستقبل، كما أن قط للماضي، وعني بالأسحم الداجي: ظُلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) [الزمر: 6]، وقيل: بل عُني به الليلُ. ومعنى "تقاسما" على التقديرين: تحالفا. وقيل: تقاسما: اقتسما، وأن المراد بالأسحم الداجي: الدمُ. و"اليفاعُ": المكان المرتفع، وهو أشهر النار للقاصدين. "تُشبُّ": توقد، و"المقرور": من أصابه القُر، أي: البردُ، و"المحلقُ" بكسر اللام وفتحها: اسم رجلٍ من بني عُكاظ، كان خاملاً فقيراً له عدةُ بناتٍ لا يرغبُ فيهن فانعزل عن قومه إلى بعض المهامه، فنزل به الأعشى ذات ليلةٍ، فأحسن قراه، ونحر ناقته ولم يكن عنده غيرها، فوقع صنعه من الأعشى موقعاً جليلاً، فلما أراد الانصراف قال: ألك حاجةٌ؟ قال: أريد أن تسير بذكري في بني عُكاظ؛ لعلي أشتهر ويرغب في بناتي، فقد مسهن الضر، فتوجه الأعشى على قومه ومدحه بقصيدة ذكر فيها محاسن شيمته ومكارم أخلاقه واستمال به قلوبهم إلى مواصلته، فمل يمض قليلٌ حتى خُطب إليه جميعُ بناته.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه: 11 - 14]. قرأ أبو عمرو وابن كثير (أِنِّي) بالفتح، أى: نودي بأنى (أَنَا رَبُّكَ) وكسر الباقون، أى: نودي فقيل يا موسى. أو لأنّ النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روى أنه لما نودي (يا مُوسى) قال: من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ)، وأن إبليس وسوس إليه فقال: لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأنى أسمعه من جميع جهاتى الست، وأسمعه بجميع أعضائي. وروي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: نُودي فقيل: يا موسى)، قال صاحب "الكشف": فعلى هذا الذي قام مقام الفاعل في الحقيقة في (نُودِي) هو: المصدر، دون قوله: (يَا مُوسَى)؛ لأنه جملةٌ، والجملة لا تقوم مقام الفاعل، ألا ترى أنه قال في قوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّه) [يوسف: 35]، أن التقدير: ثم بدا لهم بداءٌ، ولا يقوم (لَيَسْجُنُنَّه) مقام الفاعل؛ لأنه جملةٌ والجملُ نكرات، والفاعلُ يضمرُ، والمضمر أعرف المعارف، فإذن التقدير: نودي النداء، ثم فسر فقيل: (يَا مُوسَى). قوله: (بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي)، قال صاحب "الانتصاف": إن كان الزمخشري قصد بهذا التعصب لمذهبه في حدوث الكلام لا يبعد منه، وإن كن نقلهن كما وجده في كتب التفسير، فلا عليه، والمعتقد الحق أن الذي سمعه موسى ليس حرفاً ولا صوتاً، إذ لو كان صوتاً عرضٌ، والعرضُ الواحدُ لا يوجد في الجهات الست، فعبر بنفي لازم كونه صوتاً عن ني الصوت، كقوله صلوات الله عليه: "وكلتا يديه يمينٌ"، أي: لو كانتا جارحتين لكانت أحداهما يُسرى.

أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وبهت، فألقيت عليه السكينة ثم نودي، وكانت الشجرة عوسجة. وروى: كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت. وعن ابن إسحاق: لما دنا استأخرت عنه، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم. قيل: أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ عن السدى وقتادة. وقيل: ليباشر الوادي بقدميه مُتبركاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما أن الصوت لا يختلف بقُربٍ وبعدٍ فمما يجبُ تغليطُ رواته. والذي يثبت صوتاً وجسماً يقول: إن موسى قال: سبحانك أسمعُ صوتك ولا أرى شخصك. وقلتُ: روى الواحدي ومحيي السنة عن وهب: نودي من الشجرة فقيل: يا موسى، فأجاب سريعاً - ما يدري من دعاه - فقال: إني أسمعُ صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقربُ إليك من نفسكن فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله عز وجل فأيقن به، هذا كله لايدل على لزوم الجسمية، وكذلك القرب والبعدُ. وقال القاضي: وهذا إشارةٌ إلى أنه عليه السلام تلقى من ربه كلامه تلقياً روحانياً ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقل إليه من غير اختصاص بعضو وجهة. قوله: (فألقيت عليه السكينة)، السكينة: فعيلةٌ من السكون، وهي الطمأنينة. قوله: (عوسجة)، الجوهري: العوسج: ضربٌ من الشوك، الواحد منها عوسجةٌ. قوله: (لأنهما كانتا من جلد حمار)، عن الترمذي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم

به. وقيل: لأن الحفوة تواضع لله، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلا تصدق، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها. وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي، (طُوىً) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "كان على موسى يوم كلمه ربه سراويل صوفٍ وكُمةُ صوف ونعلان من جلد حمارٍ ميت". الراغب: الخلعُ: خلعُ الإنسان ثوبه، والفرس جُله وعذاره، وإذا قيل: خلع فلانٌ على فلان، معناه: أعطاه ثوباً، واستفيد معنى العطاء من هذه اللفظة بأن وصل به على فلان لابمجرد الخلع. النعل معروفة، وشبه به نعل الفرس ونعل السيف، وفرس منعل: في أسفل رسغه بياض، ورجلٌ ناعلٌ ومنتعل، ويعبرُ به عن الغنى كما يعبر عن الفقير بالحافي. قوله: (الحفوة: تواضع)، الجوهري عن الكسائي: رجلٌ حافٍ بين الحفوة والحفاء بالمد، وقد حفي يحفى. وهو الذي يمشي بلا خُف ولا نعل. وأما الذي حفي من كثرة المشي أي: رقت قدمه أو حافره - فإنه حفٍ. قوله: ((طُوًى) بالضم والكسر، مُنصرفٌ وغير منصرف)، في "معالم التنزيل": قرأ أهلُ الكوفة الشام بالتنوين والآخرون بلا تنوين؛ لأنه معدولٌ عن طاوٍ.

بتأويل المكان والبقعة. وقيل: مرتين، نحو ثنى، أى: نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة. وقرأ حمزة: (وأنا اخترناك)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: طويت طياً، وذلك كطي الدرج، وعليه قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ) [الأنبياء: 104]، ومنه طويتُ الفلاة، ويعبرُ بالطي عن مُضي العمر، يقال: طوى الله عمره. وقوله تعالى: (وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) بالزمر: 67]: يجوزُ أن يكون من الأول وأن يكون من الثاني، والمعنى: مُهلكاتٌ. وقوله تعالى: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) [طه: 12]، قيل: هو اسمٌ للوادي الذي حصل فيه، وقيل: إن ذلك جُعل إشارة إلى حالةٍ حصلت له على طريق الاجتباء، فكأنه طوى عليه مسافةً لو احتاج إليها أن ينالها بالاجتهاد لبعد عليه. وقيل: هو اسم أرض، فمنهم من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقيل: مصدرُ طويتُ فيصرف ويفتح أوله ويكسر، نحو: ثني وثني، ومعناه: ناديته مرتين. قوله: (وقيل: مرتين، نحو: ثنى)، الجوهري: قال بعضهم: مثل طوى، وهو الشيء المثني، وقال: "ثُنيت فيه البركة والتقديس مرتين". قله: (كرة بعد كرة)، نحو: لبيك وسعديك. قوله: (وقرأ حمزةُ: "وأنا اخترناك")، يعني: "أنا" بتشديد النون، والباقون: بتخفيف النون. الراغب: الاختيارُ: طلبُ ما هو خيرٌ وفعله، وقد يقال لما يراه الإنسان خيراً، وإن لم يكن خيرا، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) بالدخان: 32]، يجوز أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خيراً، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم، المختار في عرف المتكلمين يقال لكل فعل يفعله الإنسانُ لا على سبيل الإكراه، فقولهم:

(لِما يُوحى): للذي يوحى، أو للوحى. تُعلَّقُ اللام بـ (استمع)، أو بـ (اخترتك) (لِذِكْرِي): لتذكرني فإن ذكرى أن أعبد ويصلى لي. أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. أو: لأنى ذكرتها في الكتب وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق. أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وطلب وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو مختارٌ في كذا، فليس يريدون به ما يراد بقولهم: فلانٌ له اختيار، فإن الاختيار أخذُ ما يراه خيراً. قله: (لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار)، هذا هو الوجه. وقوله: (أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين)، إلى آخره، متقاربان، لكن المراد بالإقامة على الأول: تعديل أركانها، وعلى الثاني: إدامتها، وجُعلت الصلاة في الأول مكاناً لذكر ومقره وعلته، وعلى الثاني: جُعلت إقامة الصلاة، أي: إدامتها، علة لإدامة الذكر، أي: أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمتك في الذكر، كقوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 45] ولخصهما القاضي حيث قال: خص الصلاة بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها، وهو تذكر المعبود وشُغلُ القلب واللسان بذكره يعني: ولتنويه الذكر أفردت الصلاةُ عن جنس العبادات وجُعلت جنساً أشرف وأعلى منها، ثم نيط بها الذكر للعلية ليؤذن بأن الذكر مُخ العبادة تم كلامه. واعلم أنه تعالى كلما خاطب كليمه عليه السلام في مقام القدس بخطاب رتب عليه بالفاء حُكماً، قال أولاً: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فعقبه بقوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)، قال الإمام: نبه به على تعظيم البُقعة وعلى أن لا يطأها إلا حافياً، ولذلك علله بقوله: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طُوًى) وإكرام الديار لساكنيها، كأنه أُشير به، إنك بوادي فقد سجلال الله وطهارة عزته، فتجرد عما سوى الله. ويمكن أن يُقال: خلع النعلين إشارة إلى تجريد ما وقع النظر عن السعي بالكلية؛ لأن بالقدم يعبر عن السعي، كما أن باليد يعبر عن القوة، ويوافقه ما رواه السلمي في "الحقائق" عن الشبلي: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية، فيكون ولا يكون، فتحقق في عين الجمع ليكون إخبارك عنا وفعلك فعلنا، وقال ابن عطاء: اخلع نعليك: انزع عنك قوة الاتصال والانفصال إنك بوادي الانفراد معي، ليس معك أحدٌ سواي. الله أعلم. وثانياً: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) فعقبه بقوله: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)، قال الإمام: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) لذلك المنصب العالي ابتداء لا أنه استحقاقٌ منك على الله فتأهب له واجعل نفسك وعقلك مصروفاً إليه، فقوله: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) يفيد نهاية اللطف والرحمة، وقوله: (فَاسْتَمِعْ) غاية الهيبة والرهبة. وثالثا: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي)، قال الإمام: الفاء دلت على أن إلهيته هي التي ألزمت العبادة، هذا هو تحقيق قول العلماء (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) معناهُ: المستحقُ للعبادة ورابعاً: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا) رتب نهي المخاطب عما يصده عن الآيات على مجيء الساعة، كما رتب نهي مد النظر على إيتاء السبع المثاني في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) بالحجر: 87 - 88]، أي: لا يصدنك النظر إلى متمتعاتهم التي هي زهرةث الحياة الدنيا عن التهيئة لزاد المعاد، (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ

في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، قال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]، أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة، كقوله تعالى: (فَإِذاَ قَضَيْتُمُ الصَلاَةَ فَاذكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً) [النساء: 103]، واللامُ مثلُها في قولك: جئتك لوقت كذا، وكان ذلك لست ليال خلون. وقوله تعالى: (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر: 24]، وقَدْ حُملَ على ذكر الصلاةِ بعد نسيانها من قوله عليه السلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه: 15]. وقال الإمام: قوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تخليةٌ. والثلاثة الأخرى تحلية، فقوله: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا) إشارةٌ إلى علم المبدأ، وقوله: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) علمُ الوسط، وهو مشتملٌ على العمل بالجارح وبالقلب، (فَاعْبُدْنِي): إشارةٌ إلى الأول، (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): إلى الثاني، وقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) علمُ المعاد. وقلتُ: إذا تقرر هذا المعنى انخرط فيه معنى قول سيد المرسلين: "من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها"، روينا عن مالك ومسلم والترمذي وأبي داود، وغيرهم، عن أبي هريرة، في حديث طويل: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه سلم-أي: صلاة الصبح حين نام عنها- قال: "من نسي صلاةً فليقضها إذا ذكرها"، فإن الله تعالى قال: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لأن الحكمة في وضع إقامة الصلاة كما سبق تذكر المعبود فيها، وأنها مكانهُ ومحله، فإذا ذكرت الصلاة بادرت الحكمة في شرعيتها في الذهن، فتكون الحكمة حاملة للمكلف على إقامتها، فصح أن يكون وجود ذكر الله سبباً لإقامة الصلاة، فالعدول عن هذا التأويل إلى الوجوه التي ذكرها المصنف في تأويل الحديث، وجعلُها متمحلة تعسفٌ وتمحل. قوله: (وكان ذلك لست ليالٍ خلون)، قال الحريري في "دُرة الغواص": والاختيارُ أن يقال من أول الشهر إلى منتصفه: خلت وخلون، وإن يُستعمل في النصف الثاني بقيت

وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكرها» ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله. أو بتقدير حذف المضاف، أى: لذكر صلاتي. أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للذكرى). (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه: 15]. أى: أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية؛ لفرط إرادتى إخفاءها؛ ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مُطرح. والذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبقين، على أن العرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير، فيقولون: لأربع خلون، وإحدى عشرة خلت. قوله: (وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرها")، يعني: حمل (لِذِكْرِي) على ذكر الصلاة بعد نسيانها غير صحيح؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: أقم الصلاة لذكرها، ولا يُجاء بضمير الله سبحانه وتعالى، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد هذا المعنى أتى بضمير الصلاة دون ضمير الله في قوله: "إذا ذكرها". قوله: (ومن يتمحل له)، تمحل، أي: احتال، فهو متمحلٌ. قاله الجوهري. قوله: (أو لان الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة)، يعني: لما كان الذكر والنسيان من الله تعالى حقيقةً أسند إليه في الآية كما أسند في قوله: أنبت الله البقل، والمستعمل: انبت الربيع البقل. قوله: (من اللطف)، لأن في الإعلام بتعيين وقوعها قطعاً، وفي إخفاء الوقت مع الانتظار ساعةً فساعةً تحذيراً. قوله: (ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف)، يريد أنه لابد لهذا الكلام من وجود

غرهم منه أن في مصحف أبى: أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف: أكاد أُخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير: (أخفيها) بالفتح، من خفاه إذا أظهره، أى: قرب إظهارها كقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر: 1]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرينة على تعيين المحذوف، والذي دل عليه الكلام الإتيان، فيجبُ أن يُقدر: أكادُ أخفي إتيانها، على حذف المضاف، وقيل: والذي يدل على ذلك المقدر إيجاب أخفيها من متعلقٍ، وهو على من أخفيها، فلا يجوز أن يُقال: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) من الخلق؛ لأنه تعالى أخفاها عنهم ونص عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34]، وبقوله: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف: 187]، وغير ذلك، فتعين أنه تعالى كاد يخفيها من نفسه على سبيل المبالغة، قال محيي السنة: وأكثر المفسرين على أن معناها: أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي بن كعب، عبدالله بن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لكم؟ وهو على عادتهم إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون: كتمت سرك من نفسي، أي: أخفيته غاية الإخفاء. روى صاحب "الانتصاف"، عن أبي علي: (أُخْفِيهَا): أزيل خفاءها وأُظهرها، تقول: أخفيته: أزلت خفاءه، مثل: أشكيته وأعتبته، ويؤيده القراءة بالفتح من: خفاه: إذا أظهره. قوله: ("أخفيها" بالفتح)، قال ابن جني: أخفيت الشيء: كتمته وأظهرته جميعاً، وخفيته بلا ألف: أظهرته البتة، وقال أبو علي وابن جني: إذا كان "أخفيها" بالفتح و"أخفيها" بالضم بمعنى: أظهرها، فاللام في قوله: (لِتُجْزَى) متعلقةٌ بنفس (أُخفيها)، ولا يحسن الوقف دونها، وإذا كان بمعنى الإخفاء والستر فمتعلقةٌ بنفس "آتيةٍ" فالوجهُ أن يقف بعد أخفيها وقفةً قصيرةً.

وقد جاء في بعض اللغات: أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس: فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد فـ (أكاد أخفيها) مُحتمل للمعنيين (لِتُجْزى) متعلق بـ (آتيةٌ) (بِما تَسْعى): بسعيها. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [طه: 16]. أى: لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن تدفنوا الداء) البيت، الأساس: ومن المجاز: فيه داءٌ دفين، وهو الذي لا يعلم به حتى يظهر شره، يقول: إن ترجعوا إلى الصلح لا تظهر العداوة، وإن تبعثوا الحرب، أي: تعودوا إلى الحرب، نعد إليها. قوله: (فـ (أَكَادُ أُخْفِيهَا) محتمل للمعنيين)، أي: القراءةُ المشهورة تحتمل: "أخفيها"، أي: أكتمها، و"أخفيها"، أي: أُظهرها على ما سبق. قوله: ((لِتُجْزَى) متعلقٌ بـ (آتِيَةٌ))، فيكون قوله: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) معترضاً بين المتعلِق والمتعلَّق مؤكداً لمعنى الإخفاء؛ لأن قوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى)، دل على الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها وبيان الحكمة فيها. قوله: (والضمير للقيامة، ويجوز أن يكون للصلاة)، هذا هو الوجه، وعليه تأليفُ النظم؛ لأن قوله: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) من عطف الخاص على العام، وهو (فَاعْبُدْنِي) أي: أعبدني وانتظر وقت الجزاء ولا تقصر في العبادة فيلحقك فيها فتورٌ؛ لأنك لا تدري متى تأتيك الساعة، لقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، وإن اعتراك صاد يصدك عن العبادة فلا تلتفت إليه، فعلى هذا المراد بقوله: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): أدم الصلاة لتكون ذاكراً غير ناسٍ فعلَ المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على

قُلت: العبارة لنهي من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السببُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالٍ منهم وتوكيل همهم وأفكارهم به، كما قال: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]، يدل عليه سياق الكلام، وينطبق عليه تأويل نبي الله صلوات الله عليه: "من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها"، يعني: دوموا على إقام الصلاة، فإذا طرأ النسيانُ الذي هو خلافُ العادة فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ لأن الشرط: تعليقٌ للحادث الطارئ. قوله: (العبارة)، يعني: قوله: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا)، وهو لنهي الكافر الغائب، والمقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث، تهييجاً أو أمرةً بالمداومة على التصديق له. قوله: (فيه وجهان)، أي: في صلاح هذه العبارة لأداء هذا المقصود طريقان، أحدهما: أن الكافرين إذا صدوه عليه السلام عن تصديقه البعث، وأثر فيه ذلك، كان سبباً بأن يُكذب بالبعث، فنهاهم عن الصد الذي هوا لسبب، وأريد المسبب وهو نهي موسى عن التكذيب تهييجاً وإلهاباً. وثانيهما: أن الكافر إنما يُنهي عن الصد إذا وجد في موسى ما يتأثر عن صد الكافر من الرخاوة واللين. فيكون تأثره سبباً للنهي، فذكر المسبب وهو النهي، ليدل على المسبب وهو الرخاوة واللين، فيرجع المعنى إلى قوله: كن شديد الشكيمة صليب المعجم، وفي اعتبار العكس إيذانا بأن الملازمة بين المذكور والمطلوب مساوية، وهذا شأن الكناية، ويجوز أن يكون الأول مجازاً والثاني كناية. قال صاحب "المفتاح": الانتقال من اللازم إلى ملزوم مُعين يعتمدُ مساواته إياها، لكنهما عند التساوي يكونان متلازمين، فيصير الانتقال من اللازم إلى الملزوم إذ ذاك بمنزلة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وفي قوله: "عن رخاوة الرجل" أدبٌ حسنٌ، حيث كنى به عن نبي الله.

ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب، كقولهم: لا أرينك هاهنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب، كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، يعنى: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الشكيمة)، الأساس: إن فلاناً لشديد الشكيمة: إذا كان ذا جد وصرامة. قوله: (صليب المعجم)، الجوهري: عجمت العود أعجمه بالضم: إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره، والعواجم: الأسنان، ورجلٌ صليبُ المعجم: إذا كان عزيز النفس. قوله: (يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة)، شروعٌ في بيان كون موسى عليه السلام على الوصف الذي يُراد نهيه عنه، فجعل نهي الكافر وسيلةً إلى ذلك النهي، وهو كونه في رخاوة وعدم تصلب في الدين، بحيث يهوله وفور دهماء الكفرة، ولذلك لخص المعنى بقوله: "ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك" إلى آخره، وقلتُ- والله أعلم: ويمكن أن يحمل (مَنْ لا يُؤْمِنُ) على المُعرض عن عبادة الله المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها، بدليل قوله: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)، ويُحمل نهي الصد عن نهي النظر إلى متمتعاتهم من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) [الحجر: 87 - 88]، كما سبق، وتُحمل متابعةُ الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض، كقوله تعالى: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: 176] يعني: تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما هم فيه، فإنها مُرديةٌ مؤديةٌ إلى المهالك، فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسني، فإن شئت فانظر إلى أحقر ما معك، وهو العصا، فإنها تبطل ما معهم، وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجرٌ بليغٌ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها.

كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه، لا البرهان وتدبره. وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه: 17 - 18]. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) كقوله تعالى: (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72]، في انتصاب الحال بمعنى الإشارة: ويجوز أن تكون (تِلْكَ) اسماً موصولاً صلته (بِيَمِينِكَ) إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزرّاد زبرة من حديد ويقول لك: ما هي؟ فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبى إسحاق: (عصىّ)، على لغة هذيل. ومثله: (يا بُشْرى) [يوسف: 19] أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه، فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72] في انتصاب الحال)، قال أبو البقاء: "ما": مبتدأ، و (تِلْكَ): خبره، و (بِيَمِينِكَ): حالٌ يعمل فيها معنى الإشارة. قوله: (نضناضة)، الأساس: حيةٌ نضناضةٌ تنضنض لسانها: تُحركها، قال: تبيت الحية النضناض منه ... مكان الحب يستمع السرارا قوله: (زبرة)، الجوهري الزبرة: القطعة من الحديد.

وقرأ الحسن: (عَصايَ) بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وهو مثل قراءة حمزة (بِمُصْرِخِيَّ)] إبراهيم: 22 [، وعن ابن أبى إسحاق: سكون الياء (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. هش الورق: خبطه، أى: أخبطه على رؤس غنمي تأكله. وعن لقمان بن عاد: أكلت حقا وابن لبون وجذع. وهشة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ الحسن: "عصاي"، بكسر الياء)، قال ابن جني: وقرأ الحسن وأبو عمرو أيضاً بخلاف عنهما، وكسرُ الياء في نحو هذا ضعيفٌ استثقالاً للكسرة التي فيها هرباً إلى الفتحة، وله وجه آخر، أنه قرأ حمزة: "ما أنتم بمصرخي"، بكسر الياء لالتقاء الساكنين، مع أن قبلها كرة وياء، والفتحة والألف في (عَصَايَ) أخف من الكسرة والياء في "بمصرخي" [إبراهيم: 22] وروينا عن قُطربٍ وغيره: قال لها هل لك يا تافيٍّ أراد (في) ثم أشبع الكسرة للإطلاق فأنشأ عنها ياء، نحو: منزلي وحولي، وقول ابن مجاهد: هو مثل: غُلامي لا وجه له؛ لأن الكسرة في ياء "عصاي" لالتقاء الساكنين، الكسرة في ميم "غلامي" هي التي تحدثها ياء المتكلم. قوله: (أكلت حقا وابن لبون وجذع)، "الحق" بالكسر: ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرابعة، سُمي لاستحقاقه أن يُحمل عليه وينتفع به، وابن لبون: إذا استكمل الثانية ودخل في الثالثة؛ لأن أمه وضعت غيره فصار لها لبن، وهي نكرة تعرف بالألف واللام، والجذع، قيل: الثني، وهو من الإبل ما طعن في السنة الخامسة، وهو اسم زمن، ليس بسن تنبت ولا تسقط، أراد بهشة نخب: ثمار ذلك الوادي؛ وسيلاً دفع: ما انصب دفعاتٍ.

نخب وسيلا دفع، والحمد لله من غير شبع، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب: واد قريب من الطائف كثير السدر. وفي قراءة النخعي: (وأهش)، وكلاهما من هش الخبز يهش: إذا كان ينكسر لهشاشته. وعن عكرمة: (أهس) بالسين، أى: أنحى عليها زاجرا لها. والهس: زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه. ويجوز أن يريد عزّ وجلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأساس: جاء الوادي بدفاع، أي: بالسيل العظيم، وفي المثل: "آكل من لُقمانَ"، قال الميداني: يعنون لقمان بن عاد، زعموا أنه كان يتغدى بجزورٍ ويتعشى بجزور، وهذا من أكاذيب العرب. قوله: (وأهش)، "أهش" بكسر الهاء: لغةٌ في "أهش"، فقد جاء "يفعلُ" في مثل هذا متعدياً، كذا في "المنتقى" و"اللوامح"، وأما في "الموضح"، فنقل عن قراءة النخعي: "أُهشُّ"، بضم الهمزة وكسر الهاء والشين المعجمة. قوله: (ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه)؛ لأنه تعالى إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه من الخشبة اليابسة، وموسى عليه السلام تفطن لذلك، وأتى بالجواب مطابقاً للغرض، وقال: (هِيَ عَصَايَ) إلى آخره. وكان يكفي أن يقول: عصا، أي: ليست إلا هذه الخشبة اليابسة التي منافعها معلومة عند كل أحد. قوله: (ويجوز أن يريد عز وعلا)، عطف على قوله: "ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا"،

التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة، كأنه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل بشأنها، وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته. وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه، وقالوا: انقطع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الأول: التعداد لأجل تحقير شأنها، والمراد بقوله: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) التتميم للتحقير، أي: مآرب معدودة، وعلى الثاني: التعداد لأجل التعظيم، و (مَآرِبُ أُخْرَى): تتميم للتفخيم، أي: لا تُحصى ولا تُعد، ولعل هذا الوجه أحسن الوجوه، ولذلك نبهه في النداء بقوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، أي: تفطن لها؛ لأنها مما اشتملت على مرافق عجيبةٍ وآياتٍ عظيمة، ومن ثم أجاب موسى بما عرفه منها من المنافع والمآرب ثم نبهه تعالى على منفعة أعظم منها بقوله: (أَلْقِهَا يَا مُوسَى)، فكرر النداء اهتماماً بشأنها، وإليه الإشارة بقوله: "أين أنت عن هذه المنفعة العظمى؟ " إلى آخره، فإجراء هذه الصفات على العصا كإجراء النعوت المادحة نداء على الجميل وإبداء للصنيع الذي يستزيد مواجب الشكر، لا للتفصلة والتمييز، كما ظن بعضهم، وأورد على صاحب "المفتاح" ما أورد، وقد بسطناه في "شرح التبيان"، فلينظر هناك. ومما يشد من عضد ما ذكرنا من أن المقام مقام الامتنان على موسى قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) [طه: 37] إلى آخره. قوله: (ليبسط منه)، الأساس: وقد بسط بساطه، وبسط إلينا يده ولسانه: أتى بما يُحب أو بما يُكره، وإنه ليبسطني ما بسطك، ويقبضني ما قبضك، أي: يسرني ويطيب نفسي ما سرك، ويسوؤني ما ساءك، كأن الإنسان إذا سُرَّ انبسط وجهه واستبشر، وبعكسه إذا اغتم. الجوهري: الانبساطُ: ترك الاحتشام، يقال: بسطت من فلانٍ فانبسط. قوله: (إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه)، ونحوه قول بعضهم:

لسانه بالهيبة فأجمل، وقالوا: اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب: كانت ذات شعبتين ومحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظلّ وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا، وتكونان شمعتين بالليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تصاممت إذ نطقت ظبية ... تصيد الأسود بألحاظها وما بين وقرٌ ولكنني ... أردتُ إعادة ألفاظها ولعل موسى عليه السلام أطنب أولاً للاستصغاء انبساطاً، وأوجز آخراً للاستصغاء استلذاذاً. قوله: (اسم العصا: نبعة)، وهي غير منصرفة للعلمية التأنيث. قوله: (والحلاب)، وهو المحلب، وهو الذي يُحلب فيه اللبن، قال: صاح هل ريت أو سمعت براعٍ ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب قوله: (وعرض الزندين على شعبتيها)، الجوهري: عرض العود على الإناء والسيف على فخذه يعرضه ويعرضه أيضاً، الأساس: الزندان: هما الزند الأعلى والزندة السفلى. قوله: (وتكونان شمعتين بالليل)، قال بعضهم: يدفع هذا قوله: "وقدح فصلد زنده" في تفسير قوله تعالى: (إِنِّي آنَسْتُ نَاراً)، وأجيب أن المطلوب حينئذٍ هو النار لاستدفاء النفساء بها، لا الضوء وحدهن وما يدل على أن العصا لم تكن للنار: قوله هاهنا: "وعرض الزندين على شعبتيها"، لأن الزند إنما يُعد للنار، ولكن يدفعه هناك قوله: "في ليلةٍ شاتيةٍ

وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه، ويركزها فينبع الماء، فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام. (قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه: 19 - 20]. السعى: المشي بسرعة وخفة حركة. فإن قلت: كيف ذكرت بألفاظ مختلفة: بالحية، والجان، والثعبان؟ قلت: أمّا الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير. وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف، لأنّ الثعبان العظيم من الحيات، والجان الدقيق. وفي ذلك وجهان: أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا، فأريد يا لجان أوّل حالها، وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. والدليل عليه قوله تعالى: (فلما رآها تهترّ كأنها جانّ). وقيل كان لها عرف كعرف الفرس. وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعا. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) [طه: 21]. لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر. وعن بعضهم: إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُظلمةٍ مثلجةٍ وقد ضل الطريق"، ولعل الجواب: أن الله طمس نورها كما جعل الزند صلداً اضطراراً إلى الطلب ليفوز بالمطلوب الحقيقي. قوله: (عرف ما لقي آدمُ منها)، يريد الحية التي كانت سبباً لإخراجه بسببٍ تمكن منه إبليس من الوسوسة.

وقيل: لما قال له ربه (لا تَخَفْ) بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. السيرة من السير: كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأوّلين، فيجوز أن ينتصب على الظرف، أى: سنعيدها في طريقتها الأولى، أى: في حال ما كانت عصا، وأن يكون. (أعاد) منقولا من (عاده) بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير: وعادك أن تلاقيها عداء فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث حسن: وهو أن يكون (سَنُعِيدُها) مستقلا بنفسه غير متعلق ب (سِيرَتَهَا)، بمعنى أنها أنشئت أوّل ما أنشئت عصا، ثم ذهبت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى: عاد إليه)، الجوهري: عاد إليه يعود عوداً وعودةً: رجع. قوله: (وعادك أن تلاقيها عداء)، أوله: فصرم حبلها إذا صرمته الحبلُ: العهدُ، قال أبو عمرو: وعادك بمعنى: شغلك، وقال الأصمعي: صرفك، والعداء: البُعد والشغل، وقال الأصمعي: الحورُ، وعادك: عطفٌ على "صرمته"، تقول: اقطع عهدها إذا قطعتهُ هي وعاد إليك وشغلك البُعدُ والحورُ عن ملاقاتها. وتلخيص الآية (سَنُعِيدُهَا) إلى سيرتها الأولى. قوله: (وهو أن يكون (سَنُعِيدُهَا) مستقلاً بنفسه غير متعلقٍ بـ (سِيرَتَهَا))، أي: لا يكون عاملاً في (سِيرَتَهَا)، بل يكون عاملها مضمراً، ويكون حالاً من الهاء في (سَنُعِيدُهَا)، كما قدر: سنعيدها سائرة سيرتها الأولى، والفرقُ بين هذا وبين الوجهين الأولين أن الحية في الوجهين انقلبت عصا خشبةً كسائر ما يُسمى عصا، على هذا انقلبت

وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أوّلا. ونصب (سِيَرَتهَا) بفعل مضمر، أى: تسير سيرتها الأولى: يعنى سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [سورة طه 22 - 23]. قيل لكل ناحيتين: جناحان، كجناحى العسكر لمجنبتيه، وجناحا الإنسان: جنباه، والأصل المستعار منه جناحا الطائر. سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران. والمراد إلى جنبك تحت العضد، دل على ذلك قوله (تَخْرُجْ). السوء: الرداءة والقبح في كل شيء، فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكان جذيمة صاحب الزباء أبرص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى عصا ذات شُعبتين ومحجن، فإذا طال الغُصن جناهُ بالمحجن، إلى سائر ما ذكره المصنف من المآرب، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (سِيرَتَهَا) بدل اشتمال من ضمير المفعول في (سَنُعِيدُهَا)؛ لأن معنى سيرتها: صفتها أو طريقتها. الراغب: السيرة: الحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره، غريزياً كان أو مُكتسباً، يقال: له سيرة حسنة وسيرة قبيحة، وقوله تعالى: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) أي: الحالة التي كانت عليها من كونها عوداً. قوله: (لمجنبتيه)، وهي الميمنة والميسرة. قوله: (والأصل المستعارُ منه جناحا الطائر)، هذه الاستعارة غير مسبوقة بالتشبيه؛ كاستعارة الأسد للمقدام، بل هي من المجاز الخالي من الفائدة، نحو إطلاق المرسن على لطف الإنسان.

فكنوا عنه بالأبرش، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكنوا عنه بالأبرش)، الجوهري: البرشُ في شعر الفرس: نكتٌ صغارٌ تخالفُ سائر لونهن والفرس أبرش، والبرص: البياض في ظاهر الجلد، وفي زعم الأطباء: مادة نفاحةٌ بسبب اجتماع الرطوبات اللزجة، وكان من أخبار جذيمة على ما ذكره ابن الأثير في "الكامل": أنه كان من أفضل الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم العرب، وكان به برص، فكنت العرب عنه فقيل: الوضاح والأبرش إعظاماً له، وكانت منازله بين الحيرة والأنبار، وكان ملك العرب بأرض الجزرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب العمليقي، فحاربه جذيمة وقتله، وملكت بعد عمرو ابنته الزباء واسمها: نائلة، فلما استحكم مُلكها أجمعت لغزو جذيمة تطلب ثأر أبيها، فأشارت لها أختها زينب بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك، وكتبت إلى جذيمة تدعوه على نفسها وملكها، فلما انتهى الكتاب إلى جذيمة استخفه ما دعته إليه، وجمع إليه ثقاته واستشارهم، وأجمع رأيهم على المسير إليها، فخالفهم قصير، وكان أريباً حازماً ناصحاً قريباً منه، وقال: "رأيٌ فاتر وعدو حاضر" فذهبت مثلاً، اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لا تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها، فلم يُوافق جذيمة رأيه. فاستخلف جذيمة عمرو بن عدي ابن أخته على مُلكه فسار في وجوه أصحابه، فلما نزل الفرضة استقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال: يا قصير، كيف ترى؟ فقال: "خطبٌ يسير في خطب كبير" فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُباري، فإني راكبها ومسايرك عليها، فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصيرٌ ونظر إلى جذيمة مولياً على متنها، فقال: "ويلُ أمةٍ حزمها على ظهر العصا"، فذهبت مثلاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلما دخل جذيمة على الزباء تكشفت، فإذا هي مضفورة الأسب، بالباء الموحدة، وهو شعر الاست، وقالت: يا جذيمة، "أدأب عروس ترى؟ " فذهبت مثلاً، وقالت: أنبئت أن دماء الملوك شفاءٌ من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وسقته الخمر حتى أخذت منه، ثم أمرت براهشيه فقُطعا، وقدمت إليه طستاً وقيل لها: إن قطر من دمه شيءٌ في غير الطست طُلب بدمه، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير لطست، فقالت: لا يُضيعوا الدم، فقال جذيمة: "دعوا دماً ضيعه أهله"، فذهبت مثلاً، فهلك جذيمة وخرج قصيرٌ حتى قدم على عمرو بن عدي، فقال له قصير: تهيأ واستعد ولا تُطل دم خالك، فقال: "وكيف لي بها وهي أمنعُ من عقاب الجو؟ " فذهبت مثلاً. وكانت الزباء سألت عن هلاكها فقيل: سبب هلاكها عمرو بن عدي، ولكن حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، وصورت صورة عمرو فلا تراه إلا وعرفته، وقال قصيرٌ لعمرو بن عدي: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فأبي عمرو، فجدع قصير أنفه وأثر بظهره وهر كأنه هاربٌ، وأظهر أن عمراً فعل ذلك به، وقدم على الزباء فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزينت له المسير إليك ومالأتك عليه، ففعل ما ترين، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فأكرمته وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك، فلما عرف أنها قد وثقت به، فقال لها: إن لي بالعراق أموالاً كثيرةً، وبها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها، فدفعت إليه أموالاً وجهزت معه عيراً، فسار حتى قدم على عمرو بن عدي مستخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالمز والطرف وغير ذلك، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك، فأعطاه حاجته، فلما عُرض عليها سرها وازدادت به ثقةً، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به أولاً، ثُم عاد الثالثةَ فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع ثقات أصحابك

والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. يروى أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشى البصر. (بَيْضاءَ) و (آيَةً) حالان معا. و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجُندك وهيء لهم الغرائر واحمل كل رجلين في غرارتين اجعل معقد رؤوسها من باطنها، وقال له: إذادخلت مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وتخرج الرجال من الغرائر فيصيحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، ففعل ذلك ثم ساروا، فملا قربوا تقدم قصيرٌ إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا؟ أم صرفاناً تسارزاً شديدا ... أم الرجال جُثما قعودا؟ فلما توسطت الإبلُ المدينة خرج الرجال من الغرائر، فدل عمرو على باب النفق وأقبلت الزباء مولية تريد الخروج من النفق، فأبصرت عمراً قائماً فعرفته بالصورة، فمصت لما في خاتمها، وقالت: "بيدي لا بيد عمرو"، فتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة، ثم عاد إلى العراق وصار الملك له. والصرفان: الرصاص، والصرفان: نوعٌ من التمر، والله أعلم. قوله: (أحز للمفاصل)، الأساس: وهو أصفى من المفاصل، وهو الماء الذي يقطر من بين العظمين إذا فُصلا. وتقول رب كلام بالمفصل أشد من كلام بالمقصل، وتكلم فأصاب المحز. قوله: ((َيْضَاءُ) و (آيَةً): حالان معاً)، قال الزجاج: آية: اسمٌ في موضع الحال، أي تخرج بيضاء مبينة آية أخرى.

(مِن) صلة ل (بَيضَاءَ)، كما تقول ابيضت من غير سوء، وفي نصب (آيَةً) وجه آخر، وهو أن يكون بإضمار نحو: خذ، ودونك، وما أشبه ذلك، حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف (لِنُرِيَكَ) أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا. أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك. [(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى* قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)]. لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: (بَيْضَاءَ): حالٌ، و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يجوز أن يتعلق بتخرج، وأن يكون صفة لـ (بَيْضَاءَ) أو: حالاً من الضمير في (بَيْضَاءَ)، و (آيَةً): حالٌ أخرى بدلٌ من الأولى، وحالٌ من الضمير في (بَيْضَاءَ)، أي: تبيض آية، أو: حالاً من الضمير في الجار مع المجرور، وهو قوله: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ). قوله: (أو: لنريك من آياتنا الكبرى)، فعلى ذلك عطف على قوله: "وقد تعلق بهذه المحذوف لـ (نُرِيَكَ) "، ومن في قوله: (مِنْ آيَاتِنَا) إما للتبعيض، وإليه الإشارة بقوله: بعض آياتنا، أو للبيان، وإليه الإشارة بقوله: أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا، يؤيده قول ابن عباس: (كانت يد موسى أكبر آياته)، فيكون (مِنْ آيَاتِنَا) حالاً من (الْكُبْرَى) قُدمت عليها وإن كان ذو الحال معرفة، مراعاةً للفواصل. قوله: (لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنه كُلف أمراً عظيما)، إلى قوله: (فاستوهب ربه أن يشرح صدره)، يعني: لما علل الله سبحانه وتعالى الأمر بالذهاب إلى

جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فرعون بوصفه بالطغيان، عرف موسى ذلك وطلب ما طلب، والإمام علق قول موسى عليه السلام (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بما خاطبه من لدن قوله: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إلى هذا المقام، قال تارةً: إن شرح الصدر مقدمةٌ لسطوع الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع أيضاً مقدمة لفهم كلام الله المجيد، فلما كلفه الله بالمقدمة التي هي الاستماع في قوله: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) نسج عليه السلام على ذلك المنوال وطلبا لمقدمة، وقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) حتى يتمكن قلبي في بهو ضوء المعرفة ووسادة قذف النور من تلقي سماع كلامك. وقال أخرى: لما نُصب موسى عليه السلام لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي وتبليغه إلى المعاندين والمواظبة على خدمة الباري وإصلاح العالم السفلي، فكأنه كلف بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، فطلب عليه السلام شرح الصدر حتى يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية لضبط تدبير العالمين. الراغب: شرحُ الصدر: بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى. قال الله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر: 22]. وقلتُ: يؤيد هذا التأويل قوله عليه السلام: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً) بعد طلب تيسير الأمر وحل العقدة ومؤازرة أخيه للتبليغ ليطابق قوله: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، وقوله: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، وعلى ما فسره المصنف يكون قوله: (كَيْ نُسَبِّحَكَ) الآية أجنبياً، وفيه نُكتةٌ أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى: كما علل إقامة الصلاة بذكره سبحانه وتعالى في قوله: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). وقوله (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، كذلك علل عليه السلام مطالبه كلها بالقيام على تكثير ذكر الله عز وجل فآذن بأن ذكر الله لا مطلب فوقه. وفي "حقائق" السلمي عن عطاء أنه قال: اكشف

إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت: (لِي) في قوله (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه «2» والكلام بدونه مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال والتفصيل. عن ابن عباس: كان في لسانه رتة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لي عن صدري حتى لا أشاهد غيرك؛ ويسر لي أمري حتى لا أنظر إلا بمعرفتك، واحلل عقدة من لساني حتى لا أتكلم إلا بما أبلغه عنك. وقال جعفر: قيل لموسى: استكثرت تسبيح ونسيت بدايات فضلنا عليك في اليم وردك إلى أمك وتربيتك في حجر عدوك، وأكبر من هذا كله خطابنا معك وكلامنا إياك، وأكبر منه إخبارنا باصطناعنا لك. قوله: (ذو جأش رابط)، الأساس: والجأش والجؤشوش: الصدرُ، يقال: فلانٌ قد ربط لذلك الأمر جأشاً. ويقال لمن يربط نفسه عن الفرار لشجاعته: رابط الجأش. قوله: (يستقبل ما عسى يردُ عليه)، استعمل "عسى" بغير "أنْ" تشبيهاً لها بـ "كاد" كما في قوله: عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب قوله: (مستتب)، أي: مستقيم، الأساس: استتب الطريق: ذل وانقاد كما يقال: طريق معبدٌ، واستتب له الأمر. قوله: (بذكرهما)، أي: بذكر المشروح والميسر.

لما روي من حديث الجمرة. ويروى أن يده احترقت، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ، ولما دعاه قال: إلى أى رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة. واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل: ذهب بعضها وبقي بعضها، لقوله تعالى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً)] القصص: 34 [وقوله تعالى (وَلا يَكادُ يُبِينُ)] الزخرف: 52 [وكان في لسان الحسين بن على رضى الله عنهما رتة «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ورثها من عمه موسى". وقيل: زالت بكمالها لقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وفي تنكير العقدة -وإن لم يقل عقدة لساني-: أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا، ولم يطلب الفصاحة الكاملة. و (مِنْ لِسانِي) صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني. الوزير من الوزر، لأنه يتحمل عن الملك أو زاره ومؤنة. أو من الوزر، لأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما رُوي من حديث الجمرة)، روى محيي السنة: أنه نشأ موسى عليه السلام في حجر فرعون وامرأته، فبينا هو يلعب وبيده قضيبٌ فضرب رأس فرعون، فغضب حتى هم بقتله، فقالت آسية: أيها الملك، إنه صغيرٌ لا يعقل، جربه إن شئت، فجاءت بطستين في احدهما الجمر وفي الآخر الجوهر، فأراد موسى أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل عليه السلام يده فوضعها في النار فاخذ جمرةً فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة. الراغب: اللسان: الجارحة وقوتها، وقوله تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) يعني به: من قوة لساني فإن العقدة لم تكن في الجارحة وإنما كانت في قوته التي هي النطق به، يقال لكل قوم لسانٌ ولسنٌ. قوله: (أو من الوزر)، أي: الملجأن وأصلُ الزر: الجبل. الراغب: الوزر: الملجأ الذي

الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره. أو من المؤازرة وهي المعاونة. عن الأصمعى قال: وكان القياس أزيرا، فقلبت الهمزة إلى الواو، ووجه قلبها أنّ فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيئا صالحا، كقولهم: عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظرا إلى يؤازر وإخواته، وإلى الموازرة. (وَزِيراً) و (هارُونَ) مفعولا قوله (واجْعَل لِّي وزِيرًا مِّنْ أَهْلِي) قدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة. أو (لِي وَزِيراً) مفعولاه، وهارون عطف بيان للوزير. و (أَخِي) في الوجهين بدل من هارون، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: (كَلاَّ لا وَزَرَ) [القيامة: 11]، الوزرُ: الثقلُ تشبيهاً بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإثم، قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً) بالنحل: 25]. قوله: (أو من المؤازرة، وهي المعاونة)، قال في "الأساس": وزير الملك: الذي يؤازره أعباء الملك، أي يحامله، وليس من المؤازرة؛ لأن واوها عن همزةٍ، وفعيلٌ منها: أزيرٌ، يقال: ازره، أي: شد به أزره، وأردت كذا فآزرني عليه فلانٌ: إذا ظاهرك وعاونك، وأجاز في الكتاب أن يكون منه بناء على الوزن وحمل النظير على النظير، وذلك أن أزيراً أخو المؤازر، كما أن العشير والجليس والخليل أخواتُ المعاشر والمجالس والمخال، وإذا ثبت أنه أخو المؤازر فكما قُلبت الهمزة في أخيه، وهو المؤازر، واواً. وقيل: مؤازرٌ، لانضمام ما قبله، تُقلب فيه، وإن لم ينضم ما قبله حملاً للنظير على النظير، ونُظرٍ إلى المضارع منه والمصدر، وهما: يؤازر والمؤازرة، فقوله: "ونظراً إلى يؤازر" عطفٌ على قوله: "إن فعيلاً جاء من حيث المعنى", قوله: (أو (لِي وَزِيراً): مفعولاه)، فعلى هذا أيضاً قدم الثاني على الأول عناية بشأن نفسه، وأنه محتاجٌ إلى عون، ولذلك عقب به قوله: (يَفْقَهُوا قَوْلِي) كما قال: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص: 34]. قوله: (وإن جُعل عطف بيان آخر جاز وحسن)، يعني: (هَارُونُ) عطفُ بيانٍ للوزير،

قرؤوا جميعا (اشْدُدْ) (وَأَشْرِكْهُ) على الدعاء. وابن عامر وحده: (أشدُد). و (أُشرِكه)، على الجواب. وفي مصحف ابن مسعود: (أخى واشدُد). وعن أبى بن كعب: (أشركه في أمرى، واشدد به أزرى). ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر: أن يجعل (أَخِي) مرفوعا على الابتداء: و (اشْدُدْ بِهِ) خبره، ويوقف على (هارُونَ). الأزر: القوة. وأزره: قواه، أى: اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك، فإن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أى: عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا، وأن هارون نعم المعين والشادّ لعضدى، بأنه أكبر منى سنا وأفصح لسانا. (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه: 36] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و(أخِي) مثله، وإنما جاز ذلك وحسن وإن لم يكن أشهر الاسمين، مثل: (هَارُونُ) لكونه بمنزلته في الشهرة. وقليلاً ما نسمعه في التنزيل، ولم يشعبه، وفي "جاز وحسن" إيماءٌ إلى أن تقدير البدل أحسنُ. قوله: (قرؤوا جميعاً (اشْدُدْ))، وفي "التيسير": قرأ ابن عامر: "أشدد به"، بقطع الألف وفتحها في الحالين، و"أشركه": بضم الهمزة، والباقون: بوصل الألف في الأول، ويبتدئونها بالضم وفتح الهمزة في الثاني. قال الزجاج: أما قطع الألف وفتحها وضم الألف في "وأشركه" فعلى جواب الأمر، المعنى: اجعل لي أخي وزيراً، فإنك إن فعلت ذل أشد به أزري وأشركه في أمري، على الإخبار عن النفس، وأما من قرأ (أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) بوصل الألف، (وَأَشْرِكْهُ) بفتح الهمزة، فعلى الدعاء. المعنى: اللهم اشدد به أزري وأشركه في أمري.

السؤل: الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك: خبز، بمعنى مخبوز. وأكل، بمعنى مأكول. [سورة طه (20): الآيات 37 إلى 39] (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه: 37 - 39]. الوحى إلى أم موسى: إما أن يكون على لسان نبىّ في وقتها، كقوله تعالى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ)] المائدة: 111 [، أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة، كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه. أو يلهمها كقوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)] النحل: 68 [أى أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحى ولا يخل به، أى: هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم، مثله يحق بأن يوحى (إذْ أَوْحَيْنَا إلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) «أن» هي المفسرة لأن الوحى بمعنى القول. القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع. ومنه قوله تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)] الأحزاب: 26 [، وكذلك الرمي قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أوحينا إليها أمراً لا سبيل إلى التوصل إليه ... إلا بالوحي)، هذا يؤذن أن الوحي الذي هو بمعنى الإلهام، لا يكون إلا في أمر يعز على كل أحد. قوله: (ولا يُخل به)، بضم الياء وفتح الخاء، من: أخل الفارس بمركزه؛ إذا ترك موضعه الذي عينه الأمير له. قوله: (القذف مستعمل في معنى الإلقاء)، الراغب: القذفُ: الرمي البعيدُ، ولاعتبار البُعد فيه قيل: منزلٌ قذفٌ وقذيفٌ وبلدةٌ قذوفٌ: بعيدةٌ. وقوله عز وجل: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أي: اطرحيه فيه، واستعير القذف للشتم والعيب، كما استعير للرمي.

غلام رماه الله بالحسن يافعا أى: حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى. ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت: فيه هجنة، لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت، وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت: المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن. والقانون الذي وقع عليه التحدّى، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وجصصته وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون تهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غلامٌ رماه الله بالحسن يافعا)، تمامه في "المطلع": له سيمياءٌ لا تشق على البصر غلامٌ يافعٌ ويفعة: تحرك ولما يبلغ. والسيماءُ السيمياء: العلامة، وأصله الواو. قوله: (فيه هجنةٌ)، والهجنة: مصدر الهجين، وهو الذي ولدته أمةٌ. الأساس: أنا أستهجنُ فعلك، وفيه هجنةٌ، وفي زناده هجنةٌ: إذا كان أحد الزندين واريا والآخر صلودا. قوله: (سلك في ذلك)، جواب "لما"، والمشار إليه قوله: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ)، والمجاز من باب الاستعارة المكنية، شبه اليم بمأمورٍ ذي تمييز أورد عليه أمر آمر مطاع، وجعل القرينة أمره بقوله: (فَلْيُلْقِهِ).

مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح، فإذا صبى أصبح الناس وجها، فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، لأنّ الماء يسحله أى يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة (مِنِّي) لا يخلو إما أن يتعلق ب (ألقيت)، فيكون المعنى على: أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يتمالك أن يصبر عليه)، الجوهري: ما تمالك: ماتماسك. قوله: (وظاهر اللفظ)، عطفٌ على قوله: "رُوي" أو حالٌ من الضمير في "رُويَ"، يعني ظاهر لفظ القرآن يخالف الرواية المذكورة؛ لأن اليم: البحر، الساحل: هو شاطئه، والقذف من اليم إنما يكون بالساحل، وكذلك الالتقاط منه، وليس فيه دخول التابوت البركة فيلتقط منها إلا أن يُحمل اللفظُ على أن الساحل كان متصلاً بفوهة نهر فرعون، وقلتُ: رواية الواحدي ومحيي السنة: أن اليم هو نهر النيل والشاطئ هو شاطئ النيل، وكان يشرعُ من النيل نهر كبيرٌ في دار فرعون، فبينما فرعون جالس مع امرأته على رأس البركة إذا بتابوت يجيء به الماء، فأمر بإخراجه فأخرجوه. قوله: (لأن الماء يسحله)، الجوهري: الساحلُ: شاطئ البحر، قال ابن دريد: هو مقلوبٌ، وإنما الماء سحله. قوله: (وقذف به ثمة)، الفاعل المستتر في "قذف" للبحر، وهو عطفٌ تفسيريٌّ على "ألقاه بساحله"، وما بينهما معترض. قوله: (فوهة نهر فرعون)، الجوهري: وأفواه الأزقة والأنهار، واحدتها فوهة بتشديد الواو.

وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أى: محبة حاصلة أو واقعة منى، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك. روى أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه (عَلى عَيْنِي) لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإما أن يتعلق بمحذوفٍ)، يعني: الجار والمجرور، يحتمل أن يكون ظرفاً لغواً، وأن يكون مستقراً، على الأول: "من" ابتدائي، فيكون إنشاء إلقاء المحبة من الله، ثم يسري منه إلى الخلق، وإليه الإشارة بقوله: "من أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ"، وعلى الثاني: إما أن يُقدر عاملاً عاماً، كما هو المشهور، وهو المراد من قوله: "أي: محبةً حاصلةً - أي كائنة موجودة- مني"، أو خاصاً لقرائن الأحوال، وهو أن الله تعالى أوقع محبته في قلب آسية وأعدى عدوه فرعون وغيرهما، وإليه الإشارة بقوله: "قد ركزتها أنا في القلوب"، فلذلك أحبك فرعونُ، وكل من أبصرك، والوجه الثاني أشمل من حيث المنطوق، والأول أدخلُ في البلاغة من حيث المفهوم، ويساعد عليه ما روينا عن البخاري ومالك والترمذي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"، ورواية مسلم أبسط من هذا. قوله: (مسحة جمال)، الأساس: مسحه بالماء والدهن، ومسح رأسه: أمر يده عليه، ومن المجاز: به مسحةٌ من جمال، يعني: كأن الجمال مسح وجهه، ومنه بيت الحماسة: على الوجه مني مسحةٌ من ملاحةٍ ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا قوله: (وأنا مُراعيك وراقبك)، وفي نسخة: "ورافيك" من: رفوته سكينة من رُعب، يريد أن (عَلَى عَيْنِي): حالٌ من المستتر المرفوع في "لتُصنع"، وليس بصلة "لتُصنَعَ".

كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع: اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتي. (ولتصنع): معطوف على علة مضمرة، مثل: ليتعطف عليك وترأم «1» ونحوه. أو حذف معلله، أي: ولتصنع فعلت ذلك. وقرئ: (ولتصنع) ولتصنع، بكسر اللام وسكونها. والجزم على أنه أمر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يراعي الرجل الشيء بعينيه: إذا اعتنى به)، إشارةٌ إلى أن في التركيب تمثيلاً واستعارة، قال الواحدي: وتفسير قوله: (عَلَى عَيْنِي): بمرأى مني صحيح، ولكن لا يكون في هذا تخصيصٌ لموسى، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. الصحيح: لتُغذى على محبتي وإرادتي. وهذا قول قتادة اختيار أبي عبيدة وابن الأنباري، وقال أبو زيد: العرب تقول: اتخذ شيئاً على عيني: على محبتي. وقلت: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السلام بكلمة الله، والكعبة ببيت الله، فإن الكل موجودٌ بـ "كُن"، وكل البيوت بيت الله، على أن خلاصة الكلام وزبدته تفيد مزيد الاعتناء بشأنه، وأنه من الملحوظين بسوابق إنعامه. قوله: (وترأم)، الجوهري: رئمت الناقة ولدها رئماناً: إذا أحبته. قوله: ((وَلِتُصْنَعَ) بكسر اللام وسكونها) قال ابن جني: وهي قراءة أبي جعفر، وليس دخول لام الأمر هنا كدخولها في قوله: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: 58] بالتاء؛ لأن المأمور في (فَلْيَفْرَحُوا) مخاطبٌ، وهاهنا غائبٌ، وهو كقولنا: ولتعن بحاجتي ولتوضع في تجارتك؛ لأن المعاني بها، والواضع فيها غير المخاطبين، نحو: ليضرب زيدٌ ولتكرم هندٌ، فأما قول الرجل: خُذ طرفك لآخذ طرفين وقولهم: لنمش كلنا، وإنما جاء باللام ولم يخفف تخفيف "قُم" و"سِرْ" ونحوهما؛ لأنه لم يكثر أمرُ الإنسان لنفسه كرة أمره لغيره، فلما قل استعماله لم يخفف.

وقرئ: (ولتَصنَعَ)، بفتح التاء والنصب، أى: وليكون عملك وتصرفك على عين منى. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 40 - 41]. العامل في (إِذْ تَمْشِي) (أَلْقَيْتُ) أو (ِتُصْنَعَ) ويجوز أن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا). فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح - وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه - أن يقول لك الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. يروى أن أخته واسمها مريم جاءت متعرفه خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت: هل أدلكم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها. ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته، وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع. هي نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلى. قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ولتصنع" بفتح التاء والنصب)، وكسر اللام، قرأها أبو نهيك. قوله: (العامل في (إِذْ تَمْشِي): "ألقيتُ" أو"تُصنع")، قال صاحب "الانتصاف": (وَلِتُصْنَعَ) أولى؛ لأن معناه: إنك محفوظٌ مكلوءٌ وزمانُ التربية هو زمان رده إلى أمه، وأما إلقاء المحبة عليه، فقيل: ذلك من أول ما التقطه فرعون. وقلتُ: والأولى تقدير: اذكر؛ لأن كونه مراقباً محفوظاً قبل زمان رده إلى أمه من حين وجوده وإلقائها له في التابوت واليم وغير ذلك، وكأن الكلام سيق للامتنان فاستقلاله، بالذكر أحرى.

اغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)] القصص: 16 [ونجاه من فرعون أن ينشب فيه أظفاره حين هاجر به إلى مدين. (فُتُوناً) يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدّى، كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة: أى فتناك ضروبا من الفتن. سأل سعيد بن جبير ابن عباس رضى الله عنه، فقال: خلصناك من محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير. وألقته أمّه في البحر. وهمّ فرعون بقتله. وقتل قبطيا. وأجر نفسه عشر سنين. وضلّ الطريق وتفرّقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان. وكل ما يبتلى الله به عباده: فتنة. قال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)] الأنبياء: 35 [. (مَدْيَنَ) على ثماني مراحل من مصر. وعن وهب: أنه لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة، منها مهر ابنته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونجاه من فرعون أن يُنشب فيه أظفاره)، بدلٌ من فرعون بدل اشتمال، أي: نجاه من أن ينشب فرعون فيه الأظفار، شبه فرعون بسبعُ ضارٍ لقوة غضبه وشدة شكيمته وأثبت له لازمه. كقول الهُذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها قوله: (هاجر به)، الباء للتعدية، أي: جعله الله مهاجراً إلى مدينة قوله: (على فعول في المتعدي)، إشارة إلى أن ذلك قليل، وهو مع قلته قد جاء كالأمثلة المذكورة. قوله: (وجمع فتن)، من قولهم: فتن الذهب بالنار: إذا خلصته بها.

وقضى أوفى الأجلين. أي سبق في قضائي وقدرى أن أكلمك وأستنبئك، وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر. وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. هذا تمثيل لما خوّله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم. مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقضى أوفى الأجلين)، أي: المذكورين في قوله تعالى حكاية عن شُعيب: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ... ) إلى قوله: ( ... فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) [القصص: 29]. قوله: (قد وقته لذلك)، أي: التكليم والاستنباء. المُغرب: الوقت من الأزمنة المبهمة، ثم استعمل في كل حد، وقد اشتقوا منه فقالوا: وقت الله الصلاة ووقتها، أي: بين وقتها وحدده، ثم قيل لكل محدودٍ: موقوتٌ وموقت. قوله: (هذا تمثيل لما خوله)، يعني قوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) لا يجوز أن يجري على ظاهره لاستغنائه تعالى عن ذلك، فهو استعارةٌ تمثيلية وبيانها قوله "مثل حاله بحال من يراه" إلى آخره. الراغب: الصنيعة ما اصطنعته من خير. وفرس صنيع: أُحسن القيام عليه، عُبر عن الأمكنة الشريفة بالمصانع، قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) بالشعراء: 129]، وكُني عن الرشوة بالمصانعة، والاصطناع: المبالغة في إصلاح الشيء، قال تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه: 41]، قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) إشارة إلى نحوٍ ما قال بعض الحكماء: إن الله إذا أحب عبداً تفقده كما يتفقد الصديقُ الصديقَ، والصنعُ: إجادةُ الفعل، ولا ينسبُ إلى الحيوانات والجمادات، كما ينسب إليها الفعل، قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88]، وللإجادة يقالُ للاذق المجيد: صنعٌ وللمرأة صناع.

لجوامع خصال فيه وخصائص، أهلا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، ولا ألطف محلا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه. ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه: 42 - 44]. الونى. الفتور والتقصير. وقرئ: (تِنيا)، بكسر حرف المضارعة للإتباع، أى: لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكرى جناحا تطيران به ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لئلا يكون أقرب منزلة)، "يكون" تامة، والفاعل "أقربُ"، أي: لئلا يوجد أحدٌ أقرب منزلةً منه. قوله: (ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره)، الأساس: سواءُ الشيء: وسطه، وضرب سواءه: وسطه ومستوى مفرقه، (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) بالصافات: 55] أي: وسطها. قوله: (الوني: الفتور والتقصير)، الأساس: ونى في الأمر: ضعف وفتر، وفلانٌ عمل فونى: تعب، وأونيته: أتعبته. قوله: (واتخذا ذكري جناحا)، ولما عقب النهي عن الونى في الذكر بالأمر بالذهاب، وكرره إجمالاً وتفصيلاً حسن قوله: "واتخذا ذكري جناحاً تطيران به"، يعني: اذهبا بآياتي وأسرعا فيه استعينا على إمضائها بمداومة ذكري، فإن الأمر الذي وجهتما إليه ما يتمشى إلا بمداومة الذكر والاصطبار عليها، وفيه تلويح إلى إشارات العارفين، وأن الترقي إلى المقامات العالية والعروج إلى مظان الزلفى إنما يحصل بملازمة الذكر وشد أعضاده بالأعمال الصالحة، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، انظر

مستمدين بذلك العون والتأييد منى، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر. روى أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقبله. وقيل: ألهم ذلك. قرئ (لَيِّناً) بالتخفيف والقول اللين. نحو قوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)] النازعات: 18 - 19 [لأنّ ظاهره الاستفهام والمشورة، وعرض ما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره، والطفا له في القول، لما له من حق تربية موسى، ولما ثبت له من مثل حق الأبوّة. وقيل: كنياه وهو من ذوى الكنى الثلاث: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرّة. والترجي لهما، أى: اذهبا على رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف كرر الذكر من أول ما بدأ بالكليم ليعرف عائدته، ومن ثم قال: إن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحدٍ إلا بذكري. قوله: (سمع بمقبله)، أي: بإقباله، الأساس: رأيتُ بذلك القبل شخصاً وهو ما استقبلك من نشز أو جبل. قوله: (وعرضُ ما فيه من الفوز العظيم)، عطفٌ تفسيري على قوله: "والمشورة"، وهي على قوله: "الاستفهام"، يعني: القول اللين من مثل موسى عليه السلام لمثل فرعون لا يكون إلا على المشورة التعريض، فصح الاستشهاد بقوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) [النازعات: 18 - 19]. قوله: (عداه)، وهو أمر للاثنين، من الوعد. قوله: (لا تجبهاه بما يكره)، الأساس: جبهته، ومن المجاز: لقيه بما يكره، ولقيت منه جبهة، أي: مذلة. قوله: (والترجي لهما)، إشارةٌ إلى أن معنى الترجي راجع إليهما لا إلى الله تعالى؛ لأنه يعلمُ

من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد بأقصى وسعه. وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ)] طه: 134 [، أى: يتذكر ويتأمّل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق (أَوْيَخْشى) أن يكون الأمر كما تصفان، فيجرّه إنكاره إلى الهلكة. (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) [طه: 45]. فرط: سبق وتقدّم. ومنه الفارط: الذي يتقدّم الواردة. وفرس فرط: يسبق الخيل، أى: نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرئ (يَفْرُطَ) من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة. خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب من شيطان، أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما كان وما سيكون (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) [يونس: 61]، وقوله: "وجدوى إرسالهما" إلزام عطفٌ على قوله: "والترجي لهما". قوله: (يتقدم الواردة)، أي: الذين يردون الماء. قوله: (وقرئ: "يفرط"، من: أفرطه غيره)، هذه القراءة وما بعدها شاذتان. والمشهور: (أَنْ يَفْرُطَ) بفتح الياء وضم الراء، قال ابن جني: القراءة بفتح الراء وضم الياء لابن محيصن، وهي منقولة من (يَفْرُطَ عَلَيْنَا) أي: يسبق ويُسرع، فكأنه يفرطه مفرطٌ، أي: يحمله حاملٌ على السرعة وترك التأني بنا، والحم على العجلة في بابنا. قال أبو البقاء الجمهور على فتح الياء وضم الراء، فيجوز أن يكون التقدير (أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا) منه قولٌ، فأضمر القول، كما تقول: فرط مني قول. أو الفاعل: ضميرُ فرعون كما في (أَنْ يَطْغَى).

من جبروته واستكباره وادّعائه الربوبية. أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين حكى عنهم ربّ العزّة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ)] الأعراف: 60 [(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ)] المؤمنون: 33 [وقرئ: (يفرط)، من الإفراط في الأذية، أى: نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة. أو يجاوز الحدّ في معاقبتنا إن لم يعاجل، بناء على ما عرفا وجرّبا من شرارته وعتوّه (أَوْ أَنْ يَطْغى) بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته عليك وقسوة قلبه. وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز: باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوّه بالعظيمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بمجاوزة الحد)، عطفٌ على قوله: "بالمعاجلة"، ويروى: "أو يجاوز الحد" عطفٌ على: "يحول بيننا"، والمعنى على الأول، أي: على القراءتين الأوليين: نخاف من أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة بالعقاب، فإنه لا أذية فوقها لماعهدنا من التوصية بإبلاغ الرسالة، وعلى الثاني المعنى: نخاف من الإفراط في الأذية، فإنه شرير عاتٍ عذابه شديدٌ، فقوله: أن يحول: مبني على القراءتين السابقتين، أو بمجاوزة الحد على الأخيرة على اللف والنشر. قوله: (من شرارته)، الأساس: شر فلانٌ يشر شرارةً، وهو شريرٌ. قوله: (على الإطلاق وعلى سبيل الرمز)، يريد أنهما عليهما السلام لم يذكرا متعلق (يَطْغَى)، وهو: عليك، بمعنى القول فيك بما لا ينبغي، وذكرا متعلق (يَفْرُطَ) وهو: (عَلَيْنَا)؛ لأن معرته عائدة إليهما إجلالاً لله تعالى وتهيباً من عزته واستزادة لرأفته واستنزالاً لرحمته، وذلك أن الجاهل بالله وبرسوله يخاف منه على الرسول بالإفراط في التكذيب أو في العقوبة، وعلى الله سبحانه وتعالى بما لا ينبغي من القول فيه (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَاتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه: 46 - 48]. (مَعَكُما) أى حافظكما وناصركما (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما، فجائز أن يقدّر أقوالكم وأفعالكم، وجائز أن لا يقدّر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر. وإذا كان الحافظ والناصر كذلك، تمّ الحفظ وصحت النصرة، وذهبت المبالاة بالعدّو. كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط، يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة: من الحفر والبناء ونقل الحجارة، والسخرة في كل شيء، مع قتل الولدان، واستخدام النساء. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جملة جارية من الجملة الأولى وهي (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجائز أن يُقدر)، الفاء تفصيل لقوله: "ما يجري بينكما وبينه من قول أو فعل"، يعني: يجوز إرادة هذا المعنى من التركيب، إما بالتقدير بحسب القرائن، وإما بغير التقدير على سبيل الكناية، بأن يجعل الفعل المتعدي لازماً ليعم، ثم يكنى به عن فعل خاص ما فعل البحتري في قوله: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع أي: يكون ذو رؤية وذو سمع، فعبر به عن قوله: أن يرى مبصرٌ آثار محاسن الممدوح، ويسمع واع صيت محامده. قوله: (مجرى البيان والتفسير)، وإنما لم يكن بياناً تاماً؛ لأنه في الظاهر كالعلة، والعلة غير المعلول، كأنه لما قالا: (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ)، فقيل: لم قالا: (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ)؟ لان دعوة الرسالة لا تثبت إلا ببينتها، إلى آخره.

بالآية، إنما وحد قوله (بِآيَةٍ) ولم يثن ومعه آيتان، لأنّ المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة، وكذلك (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)] الأعراف: 105 [، (فَاتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)] الشعراء: 154 [، (أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)] الشعراء: 30 [. يريد: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين. (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه: 49 - 50]. خاطب الاثنين، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى، لأنه الأصل في النبوة، وهارون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين)، إلى آخره، فيه إشارة إلى التعريض، والسلام محمول على التحية والتعريف فيه للعهد، والأحسن ما قال الزجاج: والسلام ليس يعني به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله وسخطه، الدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء، وتحقيقه ما ذكر المصنف في قول عيسى عليه السلام: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) [مريم: 33]: "اللام: للجنس، فإذا قال: جنسُ السلام عليَّ خاصةً فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد، فهو مظنة لنحو هذا من التعريض". وقلت: ولما دل قوله: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى) على التوبيخ لمكان التعريض، كان قوله: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا) استئنافاً منطوياً على تعليل ذلك المفهوم المقصود في الإيراد، كأنه قيل: العذاب على من كذب وتولى؛ لأن الله تعالى أوحى إلينا ذلك، وفيه لمحة من كلام المصنف.

ويدل عليه قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)] الزخرف: 52 [، (خَلْقَهُ) أول مفعولي (أَعطَى)، أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. أو ثانيهما، أى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان: كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة، غير ناب عنه. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة، حيث جعل الحصان والحجر «2» زوجين، والبعير والناقة، والرجل والمرأة، فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه. وقرئ: (خلقه)، صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويدل عليه قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ))، أي: يدل على أن فرعون كان عارفاً من فصاحة هارون والرتةِ في لسان موسى: هذا الكلام. قوله: (أعطى خيفته)، الجوهري: الخليقة: الخلائق، يقالُ: هم خليقةُ الله، وهم خلق الله أيضاً، وهو في الأصل مصدر. قوله: (أو ثانيهما، أي: أعطي كل شيء صورته)، فالضمير في (خَلَقَهُ) لـ (شيءٍ)، وعلى الأول لله تعالى. قال القاضي: إنما قدم المفعول الثاني على الأول لأنه المقصود بيانه. وقلتُ: لأن مقصود موسى عليه السلام إيجاب العبودية على فرعون واستجلابُ الشكر على الوجه الثاني منه وأنه مغمورٌ في إنعام الله وعطائه، يؤيده قراءة من قرأ: "خلقَهُ" صفة، أي: كل شيءٍ خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه، وتنزيلُ الجواب على الوجه الثاني يناسب قوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 7 - 8].

كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه (ثُمَّ هَدى) أى عرّف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق. (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه: 51 - 54]. سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه)، يؤذن أن ثاني مفعولي (أَعْطَى) محذوفٌ، إما للعموم أو الإطلاق، قال أبو البقاء: المفعول الثاني محذوفٌ للعلم به، أي: أعطى كل شيء ما يُصلحه. قوله: (ولله در هذا الجواب ما أخره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن)، يعني: وكان من حق الظاهر أن يقولا: رب العالمين، لكن سلكا طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم. قوله: (وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد)، يُريدُ به على سبيل التفصيل والتشخيص، يدل عليه الفاء في قوله: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)؛ لأنه طلبُ تفصيل ما سبق من قوله: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، وقوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، ومن ثم حسُنَ جوابه عليه السلام بقوله: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي)، وتعليله بقوله: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)، قال الإمام: إن موسى عليه السلام لما هدد في قوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، فقال فرعون: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فإنها كذبت ثُم ما عُذبوا.

مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، لا يجوز على الله أن يخطئ شيئا أو ينساه. يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له، كقولك: ضللت الطريق والمنزل. وقرئ: (يُضِلُّ)، من أضله إذا ضيعه. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم، فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون، وتمادى كثرتهم، وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟ فأجاب بأنّ كل كائن محبط به علمه، وهو مثبت عنده في كتاب، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان، كما يجوزان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أى: لا يضل كما تضل أنت، ولا ينسى كما تنسى يا مدعى الربوبية بالجهل والوقاحة (الَّذِي جَعَلَ) مرفوع صفة (لربي). أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح، وهذا من مظانه ومجازه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يجوزان عليك أيها العبدُ الذليل)، إشارةٌ إلى أن قوله: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) على سبيل التعريض، كما مر؛ لأنه زعم أن الربوبية مشتركةٌ ينه وبين الله لقوله: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) [النازعات: 24]، فإجراء الأوصاف الباقية على المدح أحرى وأولى، كأنه قال: ربي المعروفُ بالمالكية المشهور بالربوبية الذي لا يخفى على كل عالم وجاهل: خالقُ كل شيء في السماء والأرض وما بينهما من الخلائق والمرافق. ومن صفات كماله أنه جعل لكم الأرض مهاداً، وأنزل من السماء ماءً، ولو جُعل صفةً لـ (رَبِّي) أفاد تمييزاً وأن الرب مشتركٌ بينه وبين الله على زعمه، لقوله: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) وفاتت الفوائد.

(مَهْداً) قراءة أهل الكوفة، أى: مهدها مهدا. أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي (وَسَلَكَ) من قوله تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)] المدثر: 42 [، (سَلَكْناهُ)] الشعراء: 200 [، (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)] الحجر: 12 [أى حصل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري (فَأَخْرَجْنا) انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مهداً) قراءةُ أهل الكوفة)، والباقون: (مِهَاداً). قوله: (انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المُطاع)، قال صاحب "الانتصاف": هذا ليس بالتفاتٍ؛ لأن الالتفات يكون في كلام مُتكلم واحد، وهاهنا حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) إلى قوله: (وَلا يَنسَى)، وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) إلى قوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ)، إما أن يكون من كلام موسى، فيكون كلام بعض خواص الملك: أمرنا وفعلنا، يريدون الملك، وليس بالتفات، وإن كان الله تعالى ابتدأ وصف ذاته فليس التفاتاً، وهو انتقال من حاكية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا يوقف على (وَلا يَنسَى)، ويحتملُ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفة على لفظ الغيبة، وقال: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) فلما حكاه الله عنه أسند الضمير إلى ذاته؛ لأنه الحاكي هو المحكي عنه، فمرجعُ الضميرين واحدٌ. وقلتُ: هذا الأخير له وجهٌ؛ لأنه إذا نُظر إلى أن الله تعالى حكى عنه وغير العبارة يكون التفاتاً، وإذا نُظر إلى أن الله تعالى حكى عنه وغير العبارة يكون التفاتاً، وإذا نُظر أن موسى عليه السلام سمع هذه الكلمات بعينها من الله تعالى فاقتبسه وأُدرج في كلامه، كان التفاتاً أيضاً، ونحوه في الإدراج قوله تعالى في الزخرف: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً) [الزخرف: 9 - 10] إلى قوله: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً

والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئة، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ)] الأنعام: 99 [، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها)] فاطر: 27 [، (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ)] النمل: 60 [، وفيه تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد (أَزْواجاً) أصنافا، سميت بذلك لأنها مزدوجة ومقترنة بعضها مع بعض (شَتَّى) صفة للأزواج، جمع شتيت، كمريض ومرضى. ويجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سمى به النابت كما سمى بالنبت، فاستوى فيه الواحد والجمع، يعنى أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. قالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف: 11]، ومعنى (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى آخره: لينسُبن خلقها إلى الذي وُصف بهذه الأوصاف وقيل في حقه تلك النعوت. قوله: (والإيذان بأنه مُطاعٌ تنقاد الأشياء المختلفة لأمره)، يعني: في وضع ضمير الجمع موضع المفرد على سنن الملوك في هذه الآيات الدالة على سرعة تأتي المكونات على اختلافها لإرادته، فإن الملك لا يأبى من تحت تصرفه مع اختلاف أصنافهم لسرعة إجابته وامتثال أمره، وقد أدمج في الكلام معنى الاختصاص رداً لزعم الطبيعيين على منوال: إنا نفعلُ كذا أيتها العصابة، كما قال: بأنا نحن نقدرُ على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة أحد، أي: الماء واحدٌ والأرض واحدةُ والمخرج مختلفٌ ألوانه، فلا يكون ذلك إلا بإيجاد قادرٍ مختارٍ لا يمتنع شيءٌ من إرادته ومشيئته، كقوله تعالى: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ) [الرعد: 4].

أي قائلين: (كُلُوا وَارْعَوْا) حال من الضمير في (فَأَخْرَجْنا) المعنى: أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه: 55]. أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم هو آدم عليه السلام منها. وقيل إن الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معا. وأراد بإخراجهم منها أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردّهم كما كانوا أحياء، ويخرجهم إلى المحشر (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً)] المعارج: 43 [، عدّد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عدد الله عليهم ما علق بالأرض)، بيانٌ للنظم وأن الآية كالتتميم للآية الأولى، والتكميل للمنافع المنوطة بالأرض، دلت الأولى على بيان مرافقهم وأصناف انتفاعهم، وهذه على أنها أصلهم وفيها تقلبهم حياً وميتاً، فكانت كالأم البارة بولدها في جميع ما يفتقر إليه، ومن ثم استشهد بقوله: "تمسحوا بالأرض فإنها أم بارة". النهاية: أراد به التيمم، وقيل: أراد به مباشرة ترابها بالجباه في السجود من غير حائل، وهذا أمر تأديب واستحباب لا وجوب، فإنها أم برةٌ، أي: مُشفقة كالوالدة بأولادها، يعني أن منها خلقكم ومنها معاشكم وإليها بعد الموت معادكم.

كفاتهم إذا ماتوا. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة». (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) [طه: 56]. (أَرَيْناهُ) بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها. وإنما كذب لظلمه، كقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)] النمل: 14 [وقوله تعالى (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ)] الإسراء: 102 [وفي قوله تعالى (آياتِنا كُلَّها) وجهان، أحدهما: أن يحذى بهذا التعريف الإضافى حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها، أعنى أنها كانت لا تعطى إلا تعريف العهد، والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل. والثاني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كفاتهم إذا ماتوا)، هو من قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً) [المرسلات: 25]، قال: الفاتُ من كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفتُ أي: كافتةً أحياءً وأمواتاً. قوله: (بصرناه أو عرفناه صحتها)، يعني: يجوزُ أن يكون (أَرَيْنَاهُ) من الرؤية بمعنى الإبصار، وأن يكون من الرؤية بمعنى المعرفة، وعلى التقديرين متعد إلى مفعولين، وعلى الثاني المضاف محذوفٌ، ولا يجوز أن تكون الرؤية بمعنى العلم؛ لئلا يلزم حذفُ المفعول الثالث من الإعلام وهو غير جائز. قوله: (العصا واليد وفلقُ [البحر و] الحجر)، إلى آخره، وليس في "معالم التنزيل" ذكرُ الحجر ولا نتقِ الجبل، وفيه في روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنه: والعقدة التي كانت بلسانه فحلها، وفي رواية عكرمة: والسنون ونقصٌ من الثمرات، وفي رواية محمد بن كعبٍ: الطمسُ، وأما الحجرُ ونتقُ الجبل فغيرُ مناسبين؛ لأنهما من الآيات التي اختصت ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون.

أن يكون موسى قد أراه آياته وعدّد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبىّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به، فكذبها جميعا (وَأَبى) أن يقبل شيئا منها. وقيل: فكذب الآيات وأبى قبول الحق. (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) [طه: 57]. يلوح من جيب قوله (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون موسى قد أراه)، والإضافة على هذا بمعنى اللام الاستغراقي، ومعنى (أَرَيْنَاهُ): عرفناه؛ لأنه قدرٌ مشتركٌ بين الإراءة بالبصر بالنسبة إلى الآيات التي أظهرها الله علىي د موسى وبني الإراءة التي هي الإعلام والإخبار بالنسبة إلى ما أوتيه غيره، ولهذا قال: لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به. قال القاضي: (كُلَّهَا) تأكيدٌ لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد على أن المراد بآياتنا: آياتٌ معهودةٌ، هي الآياتُ التسعُ المختصةُ بموسى، وأنه عليه السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات. وقال السجاوندي: (كُلَّهَا) أي: كل أجناس الآيات، إيجادُ المعدوم كإيجاد الضوء من اليد، وإعدام الموجود كإعدام حبال السحرة، وتغيير الموجود كقلب العصا حيةً وإعادتها حيةً. قوله: (بين ما يشاهد به)، بكسر الهاء، أي: يحاضر به ويريه، قاله نور الدين الحكيم. قوله: (وقيل: فكذب)، عطفٌ على "فكذبهما جميعاً"، يعني: (أَبَى)، حذف مفعوله إما بواسطة القرينة الظاهرة أو المعنوية، فعلى الأول: "أبى": تتميمٌ، وعلى الثاني: تكميل؛ لأن الحق أعمُّ من المعجزات. قوله: (يلوحُ من جيب قوله)، الرواية: "جيب" بالجيم والباء الموحدة، ويُروى: "من خيث" بالخاء المعجمة والثاء المثلثة، وهو تصحيفٌ، والصحيح الأول، وقد تضمنت الاستعارة الموشحة بالترشيح، وذلك أن قوله: (لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا) فيه إظهارُ تجلدٍ من اللعين للقوم، وفي ضمنه استشعارُ خوفٍ عظيم، وقوله: " (بِسِحْرِكَ): تعميةٌ وإلباسٌ على

أن فرائصه كانت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، لعلمه وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره، وأنه غالبه على ملكه لا محالة. وقوله (بِسِحْرِكَ) تعلل وتحير وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر. (فَلَنَاتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه: 58 - 60]. لا يخلو الموعد في قوله (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا. فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله تعالى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَة) ِ مطابق له، لزمك شيئان أن تجعل الزمان مخلفا، وأن يعضل عليك ناصب (مَكَاناَ): وإن جعلته مكانا لقوله تعالى (مَكاناً سُوىً) لزمك «1». أيضا أن توقع الإخلاف على المكان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحمقى والجهلة"؛ لأن هذا الكلام ما صدر عن اللعين إلا بعد ما أيقن وحقق أن ما جاء به ليس من قبيل الباطل الذي هو السحرُ، بل هو من الحق الساطع الغالب على كل باطلٍ ارتكبه، فإبرازه في معرض السحر استشعار للخوف، فشبه بالثوب الساتر على عيوب لابسه مع اطلاع ذي الدرية على عيبه من جيبه. قوله: (فرائصه)، الجوهري: عن الأصمعي: الفريصةٌ: اللحمةُ بين الكتف والجنب التي لا تزال ترتعد من الدابة. قوله: (أن تجعل الزمان مخلفاً)، قال ابن الحاجب في "الأمالي": الظاهر أن الموعد: الوعد، لأنه وصف بقوله: (لا نُخْلِفُهُ)، والإخلاف إنما يتعلق بالوعد، يقال: أخلف وعده لا بمكانه ولا بزمانه، ولو جُعل مكاناً وزماناً لوقع الإخلافُ على غير الوعد، وهو بعيدٌ.

وأن لا يطابق قوله (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وقراءة الحسن غير مطابقة له مكانا وزمانا جميعا، لأنه قرأ (يَوْمُ الزِّينَةِ) بالنصب، فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف، أى: مكان موعد، ويجعل الضمير في (نُخْلِفُهُ) للموعد و (مَكاناً) بدل من المكان المحذوف. فإن قلت. فكيف طابقه قوله (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن لا يطابق قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)؛ لأنه يكون حينئذٍ (فَاجْعَل) طلباً لمكان الوعد، فلا يكون تعيين زمان الوعد مطابقاً للسؤال. قوله: (وقراءة الحسن غير مطابقة له)، أي: للموعد من جهة المكان والزمان، أما المكانُ فظاهر وأما الزمان فلأن زمان الوعد زمانُ التكلم لا زمان الزينة، وإنما يُتوقع إنجازه فيه. قال ابن جني: أما نصب (يَوْمُ الزِّينَةِ) فعلى الظرف، والموعد مصدرٌ، والظرفُ بعده خبرٌ عنه على حذف المضاف، أي: إنجاز موعدنا إياكم في ذلك اليوم. ألا ترى أنه لا يراد: في ذلك اليوم نعدكم، وكيف ذا والوعدُ قد وقع الآن وإنما يتوقع إنجازه في ذلك اليوم؟ وإليه الإشارة بقوله: "فالموعد في قراءة الحسن: مصدرٌ لا غيرُ"؛ لأن التقدير: اجعل بيننا وبينك يوم إنجاز وعد، فقيل: إنجاز وعدكم في يوم الزينة. وقال أبو البقاء: تقديره: موعدكم واقعٌ يوم الزينة. قوله: (و (مَكَاناً): بدل من المكان المحذوف)، وجاز الإبدال لتغغايرهما بوصف الثاني بـ (سُوًى). قوله: (فكيف طابقه؟ )، أتى بالفاء إنكاراً، يعني: قررت أنه لا يجوز جعلُ الموعد مكاناً، لما يلزمُ منه عدم المطابقة بينه وبين قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)، وحين جعلته مصدراً على تقدير المضاف وقعت فيما فررت منه. وأجاب: أنه كان يلزمُ من الأول محذوران: جعلُ

بد من أن تجعله زمانا، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا، لأنهم لا بدّ لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه، مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير. والمعنى: إنجاز وعدكم يوم الزينة. وطباق هذا أيضا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه. فإن قلت: فبم ينتصب (مَكَاناَ)؟ قلت: بالمصدر. أو بفعل يدل عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المكان مخلفاً، وعدم المطابقة، ومن الثاني محذورٌ واحدٌ وهو: عدما لمطابقة، فتأول كما أشار إليه وذلك كما يقالُ لمن يقولُ لصاحبه: أين أراك يوم عرفة؟ أي: في عرفات. وقال صاحب "الانتصاف": ويحتملُ أن يجعل موعدٌ اسم مكانٍ فيطابق مكاناً والزمان بما ذكره ويعود الضمير في (لا نُخْلِفُهُ) على المصدر المفهوم من اسم المكان، إذ حروفه فيه. والموعد إذا كان اسم مكان حاصله مكانُ وعد، وكذا إذا كان اسم زمان حاصله زمانُ وعد، وإذا جاز عودُ الضمير إلى ما دلت عليه قوة الكلام فرجوعه إلى ما هو المنطوق به أولى. قالوا: من صدق كان خيراً له، فأعادوا الضمير على مصدر "صدقٍ" لدلالة الفعل عليه، ويكون على هذين التأويلين جواب موسى من جوامع الكلم، سألوه مكاناً فعلم أن الزمان لابد أن يُسأل عنه فأجاب جواب مفردٍ كافٍ في الجميع. فإن قيل: المسؤول عنه جُعل ضمناً وهو المكان وصرح بما لم يطلب، وهو الزمان. فالجواب: أن قرينة سؤالهم دلت على المضمن، ما لم يسألوا عنه صرح به، إذ لا قرينة معه. وقلتُ: في قوله: "يعودُ الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم المكان" نظرٌ؛ لأن قوله: (لا نُخْلِفُهُ) صفةٌ لـ"موعد"، أو المضير فيه لا يرجع إلا إليه قطعاً. قوله: (بالمصدر)، أي: انتصب (مَكَاناً) بالمصدر. قاله أبو البقاء. وكلامُ صاحب "التقريب" و"الانتصاف" فيه نظرٌ؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل، وغايةُ ما يُقال فيه:

المصدر. فإن قلت: فكيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر. وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: (وعدكم وعد يوم الزينة). ويجوز على قراءة الحسن أن يكون (مَوْعِدُكُمْ) مبتدأ، بمعنى الوقت. و (ضُحًى) خبره، على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه. وقيل في يوم الزينة: يوم عاشوراء، ويوم النيروز، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن عمله في الظرف من الاتساع. وقال ابن الحاجب: لا يستقيم نصب مكاناً بالوعد وإن كان مصدراً؛ لأنه قد فُصل بينه وبينه بالوصف، فصار مثل قولك: أعجبني ضربٌ حسنٌ زيداً، وهو غير سائغ: لأن المنصوب بالمصدر من تتمته، ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه، فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته. وقال صاحب "الفرائد": إن جعلته مصدراً فالتقديرُ: اجعل لنا وعداً لا نُخلفه، جاء يبين (مَكَاناً سُوًى) , وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (مَكَاناً) مفعولاً ثانياً لـ"اجعل". قوله: (كيف يطابقه الجواب؟ )، أي: قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) كيف يستقيم جواباً لقوله: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً)، فإن يوم الزينة حُمل على موعدكم؟ وأجاب: أنه على قول الحسن: ظرفٌ مستقرٌ، وعلى المشهورة: يقدر في الخبر مضافٌ بأن يقال: وعدكم وعدُ يوم الزينة. قوله: (لأنه ضُحى ذلك اليوم بعينه)، أي: يوم الزينة، فـ"يوم الزينة": ظرفٌ، والظرفُ من المخصصات، والمراد من قوله: "على نية التعريف فيه" - أي: في (ضُحىً) - أنه لما وقع خبراً من المجموع لم يلتبس على أحد أنه ضُحى غير ذلك اليوم، فإنه وإن كان نكرةً لفظاً إلا أنه وقع معرفةً معنى ونية، إذ التقدير: موعدكم في يوم الزينة ضُحاه. قال صاحبُ "التقريب": وعلى هذا في نصب "يوم الزينة" نظرٌ، إلا أن يُجعل صفة

ويوم عيد كان لهم في كل عام، ويوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم. قرئ (نُخْلِفُهُ) بالرفع على الوصف للموعد. وبالجزم على جواب الأمر. وقرئ (سُوىً) و (سوى)، بالكسر والضم، ومنونا وغير منون. ومعناه: منصفا بيننا وبينك عن مجاهد، وهو من الاستواء لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للضحى تقدمت عليه، أي: ضُحى كائناً في ذلك اليوم، وحينئذٍ يُستغنى عن نية التعريف فيه، وقلتُ: لا يجوز أن يكون حالاً من (ضُحىً) لفقد العامل. قوله: (وقرئ: "سوى" و (سُوىً))، عاصمٌ وابنُ عامرٍ وحمزةُ: بالضم، والباقون: بالكسر، ووقف أبو بكر وحمزة والكسائي: "سوى" بالإمالة، وورشٌ وأبو عمرو: بين بين، والباقون: بالفتح. قال محيي السنة: وهما لغتان، مثلُ: عُدى وعِدَى، قال مُقاتلٌ وقتادة: مكاناً عدلاً بيننا وبينك، ابن عباس: نصفاً يستوي مسافةُ الفريقين إليه قال مجاهدٌ: منتصفاً. قوله: (لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية)، تعليلٌ لتصحيح قول مجاهد، أي: لما كان أصل (سُوىً) من الاستواء جعله بمعنى: منصفاً؛ لأن المسافة: أي: البعد، لكل فريق من السحرة والمؤمنين إلى ذلك المكان مُستوٍ لا تفاوت فيه. قال الزجاج: منصفاً، أي: مكاناً يكون النصفُ فيما بيننا وبينك. الراغب: سواءٌ: وسطٌ، ويقال: سواءٌ وسُوى، قال تعالى: (مَكَاناً سُوًى)، أي: يستوي طرفاه، ويُستعملُ ذلك وصفاً وظرفاً، وأصلُ ذلك مصدرٌ، والشيء المساوي كعدلٍ ومعادل وقتلٍ ومقاتل، تقول: سيان زيدٌ وعمرو، والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا.

فيها. ومن لم ينون فوجهه أن يجرى الوصل مجرى الوقف. قرئ: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) بالتاء والياء. يريد: وأن تحشر يا فرعون. وأن يحشر اليوم. ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي يخاطب بها الملوك، أو خاطب القوم بقوله (مَوْعِدُكُمْ) وجعل (يُحْشَرَ) لفرعون. ومحل (وأَنْ يُحْشَرَ) الرفع أو الجرّ، عطفا على "اليوم" أو "الزينة": وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن لم يُنون فوجهه أن يُجري الوصل مجرى الوقف)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه وقفٌ حقيقةٍ فعدمُ التنوين وقفاً لإجراء الوصل مجرى الوقف، إلا أن يثبت عدم التنوين في الوصل أيضاً. وقال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وتركُ صرفه مُشكل؛ لأنه وصفٌ على "فُعَل" وهو مصروفٌ، يقال: رجلٌ حُطمٌ ودليلٌ ختعٌ ومالٌ لبدٌ، إلا أنه ينبغي أن يُحمل على أنه محمولٌ على الوقف عليه فجاء بترك التنوين، فإن وصل على لك فعلى نحو قولهم: سبسباً وكلكلاً، فيجري في الوصل مجراهُ في الوقف. "دليلٌ خُتعٌ"، أي: ما هو في الدلالة. قوله: (ومحلُّ (وَأَنْ يُحْشَرَ) الرفع أو الجر عطفاً على "اليوم" أو "الزينة")، قال أبو البقاء: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ): معطوفٌ على "الزينة"، أي: ويومُ أن يُحشر الناسُ، فيكونُ في موضع جر، ويجوزُ أن يكون في موضع رفع، أي: موعدكم أن يُحشر الناسُ. وقال ابن جني: [لكن] في قوله تعالى: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) النظر، فظاهر حاله أنه مجرورٌ، كأنه قيل: موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ضُحى، ويجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على "الموعد"، كأنه قال: إنجاز موعدكم وحشرِ الناس ضُحى في يوم الزينة، فكأنه

وكبت الكافر وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حدّ المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) [طه: 61]. (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أى لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا. قرئ (فَيُسْحِتَكُمْ) والسحت لغة أهل الحجاز. والإسحات: لغة أهل نجد وبني تميم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعل الموعد عبارة عن جميع ما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر، ثم عطف (وَأَنْ يُحْشَرَ) عليه، فهو على منوال (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98]، ومن رفع فقال: (يَوْمُ الزِّينَةِ)، فإن الموعد إذن زمانٌ، أي: وقتُ وعدكم يومُ الزينة، وعطفُ (وَأَن يُحْشَرَ) يؤكد الرفع؛ لأن "أنْ" لا تكونُ ظرفاً، ألا ترى أن من قال: زيارتك إياي مقدم الحاجٌ، لا تقول: زيارتك إياي أن يقدم الحاج، وذلك أن لف المصدر الصريح أشبه بالظرف من "أنْ" وصلتها التي بمعنى المصدر إذا كان اسماً لحدث، والظرفُ اسمٌ للوقت، والوقتُ يكادُ يكون حدثاً. قوله: (وكبت الكافر)، الجوهري: الكبتُ الصرفُ والإذلالُ، يقالُ: كبت الله العدو، أي: صرفه وأذله. قوله: (قُرئ (فَيُسْحِتَكُمْ))، حفصٌ وحمزة والكسائي: بكسر الحاء وضم الياء، والباقون: بفتحها، قال الزجاج: يقال: سحته الله وأسحته: إذا استأصله وأهلكه، قال الفرزدق:

ومنه قول الفرزدق: إلّا مسحتا أو مجلّف في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه: (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) [طه: 62 - 64]. عن ابن عباس: إن نجواهم: إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب لما قال (وَيْلَكُمْ) ... الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعض زمانٌ يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مُسحت أو مجلفُ لم يدع: لم يستقر، من الدعة، إلا مسحت بالرفع. والأكثر بالنصب، فهذا بناء على قولهم: أسحت فهو مسحتٌ. الجوهري: المُسحتُ: المهلكُ، والمجلفُ، بالجيم: الذي بقيت منه بقيةٌ، يريد إلا مُسحتاً وهو مجلفٌ، قيل: معنى لم يدع: لم يبق، حيث رفع به مجلفٌ. ومن روى مسحتاً، فهو على معناه، وتمامُ تقريره مضى في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة: 249]. قوله: (لا تزال الرُّكبُ تصطك)، مثلٌ في عقده وعضله. قوله: (وعن وهب: لما قال: (وَيْلَكُمْ)، قالوا: ما هذا بقول ساحر) مؤذنٌ بأن قوله: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ) كلامٌ مع السحرة، وبه صرح الواحديُّ، وعليه ينطبق قوله:

والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم قالوا: إن هذان لساحران. فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره، خوفا من غلبتهما. وتثبيطا للناس عن اتباعهما. قرأ أبو عمرو (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: (إن هذان لساحران)، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين (إن) النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ أبىّ: (إن ذان إلا ساحران). وقرأ ابن مسعود: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)، أي: ثُم أتى بجميع ما رأى أن يؤتي به من القوم والسحرة والآلات، فلما حضر موسى للميقات ونظر إلى السحرة وما استعدوا به قال: (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فحينئذ تنازع السحرة أمرهم وأسروا النجوى، وقالوا: ما هذا بقول ساحر، ثم اتجه لسائل أن يقول: ما فعل فرعونُ وقومه عند هذا التقاعد والتواني وما قالوا للسحرة؟ أجيب: قالوا: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) إلى قوله: (اسْتَعْلَى). قوله: (وتجاذبوا أهداب القول)، استعارةٌ، وتجاذبوا ترشيحها، والمجموع كنايةٌ عن أن الكلام ذو شجون. وفيه أن كلامهم كان أقوالاً ملفقةً لا حقيقة لها؛ لأن هدبة الثوب مثل في الرخاوة، يدل عليه قوله: "في تلفيق هذا الكلام وتزويره"، ويروى: "وترويزه"، من الروز، وهو الذوق، يقال: راز العدل، أي: حركه، هل يقدرُ على حمله أم لا؟ قوله: (خوفاً من غلبتهما)، يريد أن نجواهم في السر كان لتلفيق قوله: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) يعني: إن صرحنا بالحق نخافُ من غلبتهما علينا بأن يقولا: فاتبعونا إذن. ومن تثبيط الناس أيضاً، فإنهم إذا سمعوا ذلك رغبوا في اتباعهما، فالواجب أن يقول: إن هذين لساحران، فيأمن من ذلك، هذا يقوي رواية من روى "تزويره" بالراء بعد الزاي. قوله: (قرأ أبو عمرو: "إن هذين")، وفي "التيسير": وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفص: (إِنْ هَذَانِ) بإسكان النون والباقون بتشديدها. وقرأ أبو عمرو: "هذين" بالياء، والباقون: بالألف.

(أن هذان ساحران): بفتح (أن) وبغير لام، بدل من (النجوى). وقيل في القراءة المشهورة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) هي لغة بلحارث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("أن هذان ساحران" بفتح "أنْ" وبغير لام)، بدلٌ من (النَّجْوَى)، هذا على أن يكون قوله: "أن هذان لساحران" من كلام السحرة كما قال، والظاهر أنهم تشاوروا في السر، فيكون قوله: (قَالُوا) مقحماً توكيداً لأن "أسروا" نوعٌ من القول، وقوله: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) كلام بعضهم مع بعض، وفي "الموضح": بحذف (قَالُوا) من البين. قوله: 0 جعلوا الاسم المُثنى نحو الأسماء التي آخرها ألفٌ كعصا)، قال الزجاج: حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأسٌ من رؤساء الرواة، أنها لغةٌ لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، وينشدون: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما ويقولون: ضربته بين أذناه، وكذلك روى الكوفيون أنها لغة لبني الحاث بن عب، وقالت النحاة القدماء: إن الضمير فيه مضمر، أي: إن هذان لساحران، وقالوا أيضاً: إن معنى "إنْ": نعم، وينشدون. ويقلن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت فقلتُ إنه وحكى صاحب "المطلع": أن أعرابياً أتى ابن الزبير يستجديه فلم يعطه شيئاً. فقال: لعن الله ناقةً حملتني إليك، قال ابن الزبير: إن وراكبها، أي: نعم. وقال ابن الحاجب في "الأمالي": وهذه القراءة مشكلة، وأهرها أن (هذان) مبني لأنه من أسماء الإشارة، فجاء في الرفع والنصب والجر على حالٍ واحدة، وهي لغةٌ واضحةٌ،

وقال بعضهم: "إِنْ" بمعنى نعم. و (ساحِرانِ) خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران. وقد أعجب به أبو إسحاق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومما يُقويها أن اختلاف الصيغ في اللغة الأخرى ليس إعراباً في التحقيق، لوجود علة البناء من غير معارض؛ لأن العلة في هذا وهؤلاء كونها اسم إشارة. وقال: "إنْ" بمعنى "نعم": شاذ. قوله: (وقال بعضهم: "إنْ" بمعنى: نعم)، وقد أُعجب به أبو إسحاق، أي: الزجاج، قال بعدما نقل كلام النحويين: هذا جميعُ ما اتجوا به، والذي عندي - والله أعلمُ - وكنتُ عرضته على عالمينا: محمد بن يزيد، يعني: المبرد، وعلى إسماعيل بن إسحاق فقبلاه وذرا أنه أجود ما سمعاه في هذا المعنى: أن تقديره: نعم هذان لهما ساحران، وأن اللام قد وقعت موقعها، أي: دخلت على المبتدأ لا الخبر. وقال النحاة أصل هذا اللام أن تقع في الابتداء ووقوعها في الخبر جائزٌ، وأنشدوا: أم الحليس لعجوزٌ شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة أي: لأم الحُليس عجوزٌ. وقال أبو عليٍّ في "الإغفال": هذا غيرُ مرضي؛ لأن اللام للتأكيد، ويقبح أن يُذكر للتأكيد ويُحذف نفسُ المؤكد؛ لأن التأكيد إنما يُحتاج إليه فيما خيف لبسه على السامع، فإذا بلغ به الحال التي يستجاز معها حذفه لعلم المخاطب به استغنى لذلك عن التأكيد، ولهذا حمل النحويون قوله: "أمُّ الحُليس لعجوزٌ" على الضرورة، حيث أدخل اللام على الخبر وحقها أن تدخل على المبتدأ، ولو كان للي ذكره وجهٌ ما حملوا هذا على الضرورة بلقدروا فيه ما قدروه في قوله: ويحذفُ نفسُ المؤكد نظراً لأن المؤكد مضمونُ الجملةِ، كما نص

سموا مذهبهم الطريقة المثلى (بِطَريقَتِكمً الْمُثْلى) والسنة الفضلى، وكل حزب بما لديهم فرحون. وقيل: أرادوا أهل طريقتهم المثلى، وهم بنو إسرائيل، لقول موسى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه المصنف في قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]. ثم قال أبو علي: فإن قلت: أليسوا قد أجازوا حذف الخبر في نحو: إن مُحلاً وإن مُرتحلاً وإذا لم يُمنع الحذفُ في الخبر مع "إنْ" لم يمتنع في المبتدأ مع اللام؟ قلتُ: لا يلزمُ من جواز هذا جوازُ ذاك وإن اجتمعا في التأكيد وتلقي القسم؛ لأن "إنْ" مشبهةٌ بـ"لا" من حيث كانت تعملُ عملها وكانت نقيضتها، وحملُ النقيض على النقيض شائعٌ، وإنما حسُن الحذفُ مع "لا"؛ لأن المنفي في تقدير التكرير لأنه لا يقعُ إلا بعد إثبات مُثبت وبعد إثباته يحسنُ الحذفُ، وكفى بدخول اللام شاهد صدقٍ، ما روي عن أفصح من نطق بالضاد من قوله: "أغبطُ أوليائي عندي، لمؤمنٌ خفيفُ الحاذ". أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، عن أبي أمامة. قوله: (سموا مذهبهم الطريقة المثلى)، الراغب: الطريقُ: السبيلُ الذي يُطرقُ بالأرجل، قال تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) [طه: 77]، وعنه استعير كل مسلكٍ يسلكه الإنسان في فعلٍ، محموداً كان أو مذموماً، قال تعالى: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى).

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وقيل «الطريقة» اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. يقال: هم طريقة قومهم. ويقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) يعضده قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) وقرئ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أى أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه، حتى لا تختلفوا ولا يتخلف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها. أمروا بأن يأتوا صفا لأنه أهيب في صدور الرائين. وروى أنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة. وعن أبى عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى، لأن الناس يجتمعون فيه لعيدهم وصلاتهم مصطفين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الطريقة: اسم لوجوه الناس وأشرافهم)، قال الزجاج: يعني بـ "طريقتكمُ المثلى": جماعتكم الأشراف، والمثلى تأنيثُ الأمثل، والأمثل والمثلى ذو الفضل الذي به يستحق أن يُقال: هذا أمثلُ قومه، والعربُ تقوله للرجل الفاضل: وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعله قومُه قُدوةً ويسلكوا طريقته، والذي عندي أنه أهلُ طريقتكم، كقولهم: هذا طريقةُ قومه، أي: صاحب طريقة قومه. وقال القاضي: (بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى) أي: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما، وإعلاء دينهما، لقوله: (أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) [غافر: 26]. قوله: (فاجمعوا كيدكم)، بوصل الألف وفتح الميم، قرأها أبو عمرو، والباقون: بقطع الألف وكسر الميم. قال صاحب "الكشف": من قال: (فَأَجْمِعُوا) بقطع الألف حذف الجار كما حذفها في قوله: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) [البقرة: 235]، أي: على عقدة النكاح، كقوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) [يونس: 71]، ومن قال: "فاجمعوا" فوصل لم يحتج إلى حذف الجار لأنه متعد بنفسه.

ووجه صحته أن يقع علما لمصلى بعينه، فأمروا بأن يأتوه. أو يراد. ائتوا مصلى من المصليات (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) اعتراض. يعنى: وقد فاز من غلب. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه: 65 - 66]. (أَنْ) مع ما بعده إما منصوب بفعل مضمر. أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف. معناه: اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجه صحته)، أي: صحة هذا المجاز والعدول من الحقيقة وإرادة المُصلى بـ (صفاً) في قول فرعون: (ائْتُوا صَفّاً) بعد تقرير المجاز هو أن يقع علماً ويُراد مُصلى من المصليات. قوله: (إما منصوبٌ بفعلٍ مضمر أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف)، قال أبو البقاء: أي: إما أن تفعل الإلقاء أو أمرنا الإلقاء. قوله: (وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن)، قال في "الانتصاف": سبق أدبهم في قولهم: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ)، جعلوا الموعد من موسى ثم قالوا: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) وألهم الله تعالى موسى عليه السلام أن يجعل الموعد يوم عيدهم ليفتضحوا على رؤوس الأشهاد، وألهمه بأن يبدؤوا ليكون إلقاؤه قذفاً بالحق على الباطل. وقال القاضي: أمرهم بأن يبدؤوا في الإلقاء إسعافاً إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في جانبهم وتغير النظم إلى وجه أبلغ وهو: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى).

وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم أولا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر. ويستنفدوا أقصى طوقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا: أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين. يقال في «إذا» هذه: إذا المفاجأة. والتحقيق فيها أنها (إذا) الكائنة بمعنى الوقت، الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة الجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله تعالى (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم. وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعى. وقرئ (عِصِيُّهُمْ) بالضم وهو الأصل، والكسر إتباع، ونحوه: دلىّ ودلىّ، وقسىّ وقسىّ. وقرئ «تخيل» على إسناده إلى ضمير الحبال والعصى وإبدال قوله (أَنَّها تَسْعى) من الضمير بدل الاشتمال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا تمثيلٌ، والمعنى على مفاجأته)، قال صاحب "التقريب": والتقدير: فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيلٌ وليس عين المدعى؛ لأن وقت في التقدير: مفعولٌ به لـ"فاجأ"، والمدعى أنه ظرفٌ، فالأولى أن يقال: فاجأ موسى حبالهم في وقت تخييلها السعي، وقد نبه في قوله: "والمعنى على هذا". وقلتُ: المراد من قوله: "هذا تمثيلٌ" أن ما ذكره، وهو قوله: "فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم"، واردٌ على سبيل تنظير الآية به، بحسب هذه القاعدة، لكن معنى الآية: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلةً إليه السعي، بناء على قولهم: "إذا" هذه للمفاجأة، كأن الظرف سد مسد فعله، قال ابن الحاجب: ولا يقع بعد "إذا" المفاجأة إلا المبتدأُ والخبرُ، والعاملُ فيها معنى المفاجأة، وهو عاملٌ لا يظهر، استغنوا عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة عليه. قوله: 0 وقرئ: "تخيلُ"، على إسناده إلى ضمير الحبال)، ابن ذكوان، والباقون: بالياء

كقولك: أعجبني زيد كرمه، و (تُخَيلُ) على كون الحبال والعصىّ مخيلة سعيها. و (تَخَيَّل). بمعنى تتخيل. وطريقه طريق (تخيل). و (نُخيل): على أنّ الله تعالى هو المخيل للمحنة والابتلاء. يروى أنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيلت ذلك. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه: 67 - 69]. إيجاس الخوف: إضمار شيء منه، وكذلك توجس الصوت: تسمع نبأة يسيرة منه «1» منه، وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية، وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله. وقيل: خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فيه تقرير لغلبته وقهره، وتوكيد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التحتاني، قال ابن جني: القراءة بالتاء الفوقانية: للحسن والثقفي، (أَنَّهَا تَسْعَى) بدلٌ من الضمير في (يُخَيَّلُ)، وهو عائدٌ إلى الحبال والعصي، كقول: إخوتك يعجبونني أحوالهم. وقوله تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ) فيمن جعل "الأبواب" بدلاً من الضمير في (مُفَتَّحَةً)، وهذا أمثل من أن يعتقد خلوُّ (يُخَيَّلُ) من الضمير. قال أبو البقاء: (حِبَالُهُمْ): مبتدأ، والخبرُ "إذا"، و (يُخَيَّلُ): حالٌ. قوله: (نبأة يسيرة)، الجوهري: النباوة: الصوت الخفي. قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) فيه تقريرٌ لغلبته وقهره، وتوكيدٌ)، يجوز أن يكون قوله: "وتوكيدٌ" عطفاً على قوله: "تقريرٌ لغلبته" على البيان، وقوله: "بالاستئناف وبكلمة التشديد" أي: التحقيق، وهي "إن" إلى آخره تعدادٌ للمؤكدات، ويجوزُ أن يكون "توكيدٌ"

بالاستئناف وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلوّ وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل. وقوله (ما فِي يَمِينِكَ) ولم يقل عصاك: جائز أن يكون تصغيرا لها، أى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أى: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة، فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، فألقه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غير الأول فيتعلق قوله: "بالاستئناف" بقوله: "تقريرٌ لغلبته" ويتعلقُ البواقي بقوله: "وتوكيدٌ". أما دلالةُ الاستئناف على تقرير الغلبة والقهر فهي أنه لما قيل له: (لا تَخَفْ)، أي: لا تُبالِ، سأل: لم ذاك والحالُ حالُ استشعار الخوف؟ فأجيب: (إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)، وأما دلالة لام التعريف على تقرير الغلبة فإنها للجنس. وقد دخلت على الخبر فأفادت أن حقيقة العُلو والغلبة مختصةٌ بك لا تتعدى إلى غيرك. وقوله: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) أمرٌ عُطف على النهي وهو: (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)، وفصل فيه ما كان مجملاً في (أَنْتَ الأَعْلَى) بقوله: (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا) إلى قوله: 0 آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى). قوله: (جائزٌ أن يكون تصغيراً لها)، خبرٌ لقوله: (مَا فِي يَمِينِكَ)، فـ"ما" حينئذٍ: موصولةٌ، والصلة تدل على التحقير، أي: ألق الذي اشتمل عليه يمينك من العُويد الخفيف الحقير، وعلى تقير أن يكون تغظيماً لها: "ما" موصوفة أنها منه، والتنكير للتعيم، أي: ألق شيئاً استقر في يمينك، أي: شيئاً عظيماً، وإلى الأول الإشارة بقوله: "الصغير الجرم الذي في يمينك"، وإلى الثاني بقوله: "لا تحتفل" إلى قوله: "فإن في يمينك شيئاً أعظم منها"، قال صاحب "الانتصاف": ويحتملُ وجهاً آخر، وهو أن الله تعالى غنما قال لموسى عليه السلام: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قيل له: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ) وأظهر له معجزتها فآنسه بأن خاطبه مما خاطبه به وقت ظهور آيتها لينبه على ما فيها من المعجزة القاهرة، ويقوي قلبه.

يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وقرئ (تَلْقَفْ) بالرفع على الاستئناف. أو على الحال، أى: ألقها متلقفة. وقرئ: (تلقف)، بالتخفيف. (صَنَعُوا) هاهنا بمعنى زوّروا وافتعلوا، كقوله تعالى (تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ)] الأعراف: 117 [. قرئ (كَيْدُ ساحِرٍ) بالرفع والنصب. فمن رفع فعلى أنّ (ما) موصولة. ومن نصب فعلى أنها كافة. وقرئ: (كَيدُ سِحرٍ)، بمعنى: ذى سحر: أو ذوى سحر. أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته. أو بين الكيد، لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما تبين المائة بدرهم. ونحوه: علم فقه، وعلم نحو. فإن قلت: لم وحد "ساحر" ولم يجمع؟ قلت: لأنّ القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع، لخيل أنّ المقصود هو العدد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتلقفها بإذن الله ويمحقها)، الراغب: لقفت الشيء ألقفه وتلقفته: تناولته بالحذق، سواءٌ كان تناوله بالفم أو اليد. قوله: (وقرئ: "تلقفُ" بالرفع)، ابن عامر: في "المعالم"، وفي "التيسير": ابن ذكوان، والباقون: بالجزم على جواب الأمر. قوله: (وقرئ: "كيدُ سحرٍ")، حمزة والكسائي: بكسر السين بلا ألف، والباقون: بفتحها وألفٌ بعدها، وإضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى المفعول، قال الزجاج: ويجوز: "كيد ساحر"، بنصب الدال. وأما رفعها فعلى أن الذي صنعوه كيدُ ساحر، على خبر "إنّ"، و"ما" اسمٌ. ومن قرأ بالنصب جعل "ما" مانعةً لـ"إن" من العمل، وتسوغُ الفعل أن يكون بعدها، ونصب "كيد ساحر" بـ"صنعوا". قوله: (لأن القصد ... إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد)، مضى بيانه في أول مريم عند قوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) مستوفى.

ألا ترى إلى قوله (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أى هذا الجنس. فإن قلت: فلم نكر أوّلا وعرف ثانيا؟ قلت: إنما نكر من أجل تنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج: في سعى دنيا طالما قد مدّت وفي حديث عمر رضى الله عنه «لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة. المراد تنكير الأمر، كأنه قيل: إن ما صنعوا كيد سحري. وفي سعى دنيوى. وأمر دنيوى وآخري (حَيْثُ أَتى) كقولهم: حيث سير، وأية سلك، وأينما كان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في سعي دنيا طالما قد مُدت)، قبله: يوم ترى النفوس ما أعدت ... من نُزلٍ إذا الأمور غبت ما أعدت، أي: جعلته عُدةً، غبتِ الأمورُ: إذا بلغت أواخرها، "ما" في "طالما": كافةٌ، أو مصدريةٌ، مضى شرحه في الخطبة، مُدت، أي: أمهلت، في جمعها وتهيئة أسبابها. وإنما نكر "دنيا" لتنكير السعي، إذ لو عرف الدنيا صار السعي معرفة، والمراد تنكيره، المعنى: في سعي دنيوي. وقوله: "في سعي دنيا" ظرفُ "غبت"، يقول: يوم القيامة ترى النفوس ما جعلته عدة، من نُزل يوم القيامة، حتى تبلغ الأمور أواخرها. قوله: (وفي حديث عُمر رضي الله عنه)، النهاية: في حديث عمر رضي الله عنه قال: "إني لأكرهُ أن أرى أحدكم سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة". سبهللاً: أي: فارغاً، يقال: جاء يمشي سبهللاً: إذا جاء وذهب فارغاً في غير شيء. التنكيرُ في "دنيا" و"آخرة" يرجعُ إلى المضاف، وهو العمل، كأنه قال: لا في عمل من أعمال الدنيا، ولا في عمل من أعمال الآخرة. قوله: ((حَيْثُ أَتَى) كقولهم: حيثُ سير)، الراغب: حيثُ عبارةٌ عن مكان مبهمٌ،

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه: 70]. سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! وروى أنهم لم يرفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) [طه: 71]. (لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم، يريد: أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم. أو لمعلمكم، من قول أهل مكة للمعلم: أمرنى كبيرى، وقال لي كبيرى: كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء. قرئ (فَلَأُقَطِّعَنَّ) (ولأصلبنّ). بالتخفيف. والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأنّ كل واحد من العضوين خالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال. و «من» لابتداء الغاية: لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه. ومحل الجار والمجرور النصب على الحال، أى: لأقطعنها مختلفات، لأنها إذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يشرحُ بالجملة التي بعده، نحو قوله تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ)، (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ). قوله: (قد ألقوا حبالهم ... ثم ألقوا رؤوسهم ... ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين)، قال في "الانتصاف": في تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن قوله: فسجدوا إشعارٌ بلطفه في نقلهم من غاية الكفر إلى غاية الانقياد، ويحصلُ ذلك بتكرير لفظٍ واحدٍ لمعنيين متناقضين، وفيه مناسبةٌ لما قدمه (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ)، (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ).

خالفت بعضها بعضا فقد اتصفت بالاختلاف. شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه، فلذلك قيل (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ). (أَيُّنا) يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله (آمَنْتُمْ لَهُ) واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله تعالى (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)] التوبة: 61 [، وفيه نفاجة «1» باقتداره وقهره، وما ألفه وضرى به: من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به: لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه: 72 - 76] (وَالَّذِي فَطَرَنا) عطف على ما جاءنا أو قسم. قرئ: (تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء المُوعي)، بيانٌ لمجاز استعمال "في" موضع "على". قوله: (بدليل قوله: (آمَنْتُمْ لَهُ))، يعني: دل هذا على أن المراد من قوله: (أَيُّنَا أَشَدُّ) نفسه وموسى عليه السلام؛ لأن معنى (آمَنْتُمْ لَهُ): آمنتم لأجله وبسببه؛ لأنكم خفتُم على أنفسكم أن يعذبكم إن لم تؤمنوا له استهزاء بموسى؛ لأنه لم يُعذب قط. قوله: (وفيه نفاجةٌ)، النهاية: النفاج: الذي يُمتدح بما ليس فيه، من الانتفاج: الارتفاع، يعني: تعلمون عادتي في العذاب، ولا تشكون في ضعف موسى.

ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف، قاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك في «صمت يوم الجمعة»: «صيم يوم الجمعة» وروى أن السحرة - يعنى رؤسهم - كانوا اثنين وسبعين: الاثنان من القبط، والسائر من بنى إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر. وروى أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر، لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه (تَزَكَّى) تطهر من أدناس الذنوب. وعن ابن عباس: قال لا إله إلا الله. قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قولهم. وقيل: خبر من الله، لا على وجه الحكاية. (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه: 77 - 79] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن "الحياة" في القراءة المشهورة منتصبةٌ على الظرف)، قال القاضي: المعنى: فاقض ما أنت قاضيه، أي: صانعهُ أو حاكمٌ به (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، أي: إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا، والآخرةُ خيرٌ وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده. قوله: (والسائر من بني إسرائيل)، مؤذنٌ أن "سائراً" من السؤر الباقي، لا بمعنى الجميع، كما مر عن صاحب "النهاية". قوله: (قيل في هذه الآيات الثلاث)، أي: قيل في شأنها وحقها: من كلام السحرة، وهي حكاية الله قولهم، والآيات: قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) إلى قوله: (جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)، كذا عن القاضي وصاحب "التقريب".

(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. وضرب اللبن: عمله. اليبس: مصدر وصف به. يقال: يبس يبسا ويبسا «1». ونحوهما: العدم والعدم. ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبنها. وقرئ: (يبسا)، و (يابسا). ولا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس. أو صفة على فعل. أو جمع يابس، كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدا، كقوله: ... ومعى جياعا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يبسا" و"يابساً")، قال الزجاجُ: فمن قرأ "يابساً" جعلهُ نعتاً للطريق، ومن قرأ "يبساً"، فإنهُ نعتهُ بالمصدر، أي: ذا يبسٍ، يقال: يبس الشيء ييبسُ يبساً ويُبساً ويبساً، ثلاثُ لغاتٍ: بفتح الياء والباء، وبضمها وسكون الباء، وفتحها وسكون الباء. قوله: (ومعي جياعاً)، تمامه أنشد صاحب "المطلع": كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غُرزا ومعي جياعا القتادُ: خشبُ الرحل، والجمعُ أقتادٌ وقتود، الحاليان: عرقان متنفان بالسرة، والغارزُ: الناقةُ التي قل لبنها، والجمع الغرزُ، والغازرُ بتقديم الزاي على الراء: ضدها، من الغزارة، وحوالبُ: خبرُ "كأن"، ومعي: عطفٌ عليه، وغُرزاً، جياعاً: حالان، وقيل: خبرُ "كأن" في البيت الذي يليه، و"حوالب": مفعولُ "ضمت"، أي: شُدت على حوالب ناقتي. وقلتُ: الأظهرُ أن يُقدر مضافٌ، أي: ذات حوالب، وهو مفعولُ ضمت بفتح الضاد، فحُذف المضافُ على حوالبَ، وأقيم المضافُ إليه مقامه، وغُرزاً: صفة "حوالب"، و"معي" مع صفته: عطفٌ على "حوالب"، وخبرُ "كأن": في البيت الذي يليه، وهو قولُ: "على وحشيةٍ"، شبه حالة قتود رحله حين وُضعت على ناقةٍ موصوفةٍ بالضمور بحالة وضعها على وحشية فقدت ولدها، فحينئذ التشبيه مُركبٌ، فهذه الرواية أصحُّ معنى وإعراباً. أما

جعله لفرط جوعه كجماعة جياع (لا تَخافُ) حال من الضمير في (فَاضْرِبْ) وقرئ: (لا تخف)، على الجواب. وقرأ أبو حيوة (دَرَكاً) بالسكون. والدرك والدرك: اسمان من الإدراك، أى: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في (وَلا تَخْشى) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من حيث المعنى: فلأن غرض الشاعر تشبيهُ ناقته بالوحشية في الضمور والنفور، لا تشبيه القتود بالحوالب، وأما من حيث الإعرابُ: فلأن حوالب ومعى نكرتان، فلا يصح وقوعهما ذا الحال مقدماً، وبعده: على وحشيةٍ خُذلت خلوج ... وكان لها طلا طفلٌ فضاعا فكرت تبتغيه وصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا والخلوجُ من النوق: التي اختلج عنها ولدُها فقل لذلك لبنُها، قال الأصمعي: إذا تخلفَ الظبيُ عن القطيع قيل: خذله. قوله: (جعله لفرط جوعه كجماعة جياع)، كذا جعل الطريق، لفرط يبسها، كاليبس، والمعنى: ليس فيها ماءٌ ولا طينٌ ولا ندوة. الانتصاف: أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقاُ يابساً، فكانت لذلك اثنتي عشرة طريقاً، لكل سبط طريقٌ. قوله: (وقرئ: "لا تخف")، على الجواب: حمزةُ، والباقون: برفعها وألفٌ قبلها. قال الزجاجُ: لا تخافُ، أي: لست تخافُ، ولا تخف، أي: ولا تخف أن يدركك فرعون ولاتخشى الغرق، فعلى هذا: الألفُ للإطلاق. قوله: (الدرك والدركُ: اسمان من الإدراك)، الراغب: الدركُ كالدرج، لكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ومنه درجات الجنة ودركات النار.

إذا قرئ: (لا تخف)، ثلاثة أوجه: أن يستأنف، كأنه قيل وأنت لا تخشى، أى: ومن شأنك أنك آمن لا تخشى، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)، (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)] الأحزاب: 10 [وأن يكون مثله قوله: كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا (ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولتصور الحدور بالنار سميت هاوية، والدركُ أقصى قعرِ البحر، ويقال للحبل الذي يوصل به حبل آخر ليدرك الماء: درك، ويقالُ لما يلحقُ الإنسان من تبعةٍ: دركٌ، كالدرك في البيع، قال تعالى: (لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى)، أي: تبعةً، وأدرك الصبي: بلغ غاية الصبا، وذلك حين البُلوغ. قوله: (لا تخشى، أي: ومن شأنك أنك آمنٌ لا تخشى)، أي: أنها جُملةٌ معترضة. قوله: (كأن لم تري قبلي أسيراً يمانيا)، قبله: وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميةٌ القائل كان أسيراً يمانياً، فمرت به عجوزٌ من عبد شمس ضحكت منهُ، فقال البيت، وعبشميةٌ: منسوبٌ إلى عبد شمس، كعبدري: منسوبٌ إلى عبد الدار، وأثبت الألف مع الجازم في "لم تر" لضرورة الشعر، قيل: تري، كأنه جاء على الأصل ترى، ثم سكنه بالجازم.

تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أى: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ: (فغشاهم من اليم ما غشاهم) والتغشية: التغطية. وفاعل غشاهم: إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون، لأنه الذي ورّط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله (وَما هَدى) تهكم به في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر: 29]. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) [طه: 80 - 81] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة)، الأساس: ومن المجاز: هو مستقلٌ بنفسه، إذا كان ضابطاً لأمره، وهو لا يستقل بهذا الأمر، أي: لا يُطيقه. قوله: (ورط جنوده)، الأساس: وقع في ورطة لا يتخلص منها، في بلية، وأورطه شر مورطٍ. قوله: ((وَمَا هَدَى) تهكم به)، قال في "الانتصاف": التهكم: أن يُؤتي بعبارة والمقصود عكس مقتضاها، كقوله: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87]، وأما (وَمَا هَدَى) فهو إخبارٌ عن عدم الهداية. قال في "الانتصاف": الأمرُ كذلك، لكن في العرف في قولك: ما هدى زيدٌ عمراً، إثبات كون زيد مهتدياً عالماً بطريق الهداية، وفرعونُ أضل الضالين، فكيف يُتوهمُ أن يهدي غيره، ولأن (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ) كافٍ في المقصود من عدم الهداية زائداً عليه الإضلال، فإن من لا يهدي قد يكون غير مُضلّ. وقلتُ: وتوضيح معنى التهكم: أن قوله: (وَمَا هَدَى) من باب التلميح، وهو: أن يُشار في أثناء الكلام إلى قصةٍ أو حالٍ؛ فإن مجيء (وَمَا هَدَى) إشارةٌ إلى ادعاء اللعين الرشاد في قوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29]، فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها، فإذا حان وقتُها ولم يأتِ بها قيل له: ما أتيت بما ادعيت، تهكماً.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون. وقيل: هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأوّل، أى: قلنا يا بنى إسرائيل، وحذف القول كثير في القرآن. وقرئ «أنجيتكم» إلى «رزقتكم»، وعلى لفظ الوعد والمواعدة. وقرئ (الْأَيْمَنَ) بالجر على الجوار، نحو «جحر ضب خرب». ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم، وفيما واعد موسى صلوات الله عليه من المناجاة بجانب الطور، وكتب التوراة في الألواح. وإنما عدى المواعدة إليهم لأنها لا بستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. طغيانهم في النعمة: أن يتعدّوا حدود الله فيها بأن يكّفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها، وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والوجه هو الأول)، إذ النظمُ يستدعيه؛ لأن السابق واللاحق وهو قوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) فيهم. قوله: (وقرئ: "أنجيتكم")، أي: بتاءٍ مضمومةٍ: حمزة والكسائي، والباقون: بالنون المفتوحة وألفٍ بعدها. قوله: (وأن يزووا)، أي: يصرفوا، الجوهري: زوى فلانٌ المال عن ورائه زياً. قوله: (أن يبطروا فيها ويأشروا)، الجوهري: البطرُ: الأشرُ، وهو شدةُ المرح والفرح والنشاط، وقد بطر بالكسر يبطر بفتح الطاء.

قرئ (فَيَحِلَّ) وعن عبد الله: (لا يحلن) «1» (وَمَنْ يَحْلِلْ) المكسور في معنى الوجوب، من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه. ومنه قوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)] البقرة: 196 [والمضموم في معنى النزول. وغضب الله عقوباته ولذلك وصف بالنزول (هَوى) هلك. وأصله أن يسقط من جبل فيهلك. قالت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الأشر: شدة البطر، والأشر أبلغ من البطر، والبطرُ أبلغُ من الفرح، فإن الفرح وإن كان في أغلب أحواله مذموماً كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76]، فقد يُحمد إذا كان على قدر ما يجب، وفي الموضع الذي يجب، وفي الموضع الذي يجب، كما قال تعالى: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس: 58]. قوله: (قرئ: (فَيَحِلَّ))، بالنصب، جواباً للنهي، والفاء عاطفةٌ بتأويل المصدر على مصدر ما قبلها، فيقدر: لا يكن منكم طغيانٌ فحلولُ غضبٍ مني، ونحوه: ائتني فأكرمك، أي: ليكن منك إتيانٌ فإكرامٌ مني، و"أن" مقدرةٌ، وقرأ الكسائي: "فيحلُّ": بضم الحاء، "ومن يحلل": بضم اللام الأولى، والباقون بكسر الحاء واللام. قوله: (وغضب الله: عقوباته، ولذلك وُصف بالنزول)، الانتصاف: لا يسعه أن يذكر الغضب إلا بالعقوبة؛ لأنه ينفي الإرادة في جملة ما نفاه نم صفات الكمال، وعند أهل السُّنة: يجوز أن تكون الإرادة من صفات الذات، وعاملهم معاملةَ الغضبان لأنه صفةُ فعل، ولا يأبى وصفه بالحلول أن يكون صفة ذات ويكون كقوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربُّنا إلى سماء الدنيا" بتأويله المعروف، أو عبر عن حلول أثرِ الإرادة بحلول أمرها، كقولك: انظر إلى قدرة الله

هوى من رأس مرقبة ... ففتّت تحتها كبده ويقولون: هوت أمّه. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أثر قدرته. قال المصنف في "المنهاج": وليس لله مثل صفة المريد منا، وهي القصد والميل. وقال الإمام في "نهاية العقول": القائلون بنفي الإرادة من المعتزلة: أبو الهذيل والنظام والجاحظ والبلخيُّ والخوارزمي، وقد استقصينا القول فيه في أول البقرة عند قوله تعالى: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) [البقرة: 26]. قوله: (هوى من رأس مرقبةٍ)، القائلة: الخنساء. والمرقبة: مكانُ الدبران، مفعلةٍ، من: رقب؛ إذا نظر. قوله: (فَقُتتَ)، أي: صارت فتاتاً دقاقاً. قوله: (هوت أمهُ)، الجوهري: يقالُ: لا أم لك، وهو ذم، وربما وُضع موضع المدح، قال كعبُ بن سعدٍ يرثي أخاه: هوت أمه ما يبعثُ الصبح غادياً ... وماذا يؤدي الليلُ حين يؤوبُ أي: أي رجلٍ بعثه الصبح، وأي رجل يؤديه الليلُ، على أن "ما" إبهاميةٌ للتفخيم والتعظيم، أي: حسدت أمه.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه: 82] الاهتداء: هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)] فصلت: 30 [وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في «جاءني زيد ثم عمرو» أعنى أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنها أعلى منها وأفضل. (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه: 83 - 84] (وَما أَعْجَلَكَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الاهتداءُ هو الاستقامة والثباتُ على الهدى المذكور)، يعني: لما أفاد قوله: (لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) الهُدى، حُمل قوله: (اهْتَدَى) على الاستقامة عليها، قال الإمامُ: المرادُ الاستمرارُ على تلك الطريقة، إذ المُهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه، ويؤكدهُ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30]، وكلمةُ التراخي ليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين، فكأنه قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد، وإنما الصعوبة في المداومة عليها بعد ذلك. وقلتُ: ومعنى قوله: "وكلمةُ التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين": ان مرتبة الاستقامة والدوام أعلى من مرتبة الإحداث والإبداع. قال: لكل إلى شأوِ العلى حركاتُ ... ولكن عزيزٌ في الرجال ثباتُ

أي شيء عجل بك عنهم؟ على سبيل الإنكار، وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب. ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به، بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى، وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة، وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم: النقباء، وليس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي شيء عجل بك عنهم؟ على وجه الإنكار)، الراغب: العجلةُ: طلبُ الشيء وتحريه قبل أوانه، وهي من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومةً في عامة القرآن، حتى قيل: "العجلةُ من الشيطان"، وقوله تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37] فيه تنبيهٌ على أنه لا يتعرى من ذلك، وأن ذلك أحدُ القوى التي رُكب عليها، وعلى ذلك قال: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11]، وأما قوله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84]، فذكر أن عجلته وإن كانت مذمومة فالذي دعا إليها أمرٌ محمودٌ وهو رضى الله. قوله: (وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب)، إلى قوله: "وزل عنه أنه تعالى ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة فيه"، إشعارٌ بأنه عليه السلام ما تقدم القوم تقدم الموعد المضروب أيضاً. وقال الإمام: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عينه الله تعالى له. وقلت: يرد هذا التأويل قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142] إلى قوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا)، قال المصنف: (لِمِيقَاتِنَا): لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، وإنما المراد بـ"عجلتُ إليك": عجلتُ عن قومي، لا عن المقيات، لقوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)، والله أعلم.

لقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح، يأباه قوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) وعن أبى عمرو ويعقوب: (إثرى)، بالكسر وعن عيسى بن عمر: (أثرى) بالضم. وعنه أيضا: (أولا) بالقصر. والأثر أفصح من الأثر. وأما الأثر فمسموع، والمراد فالأفصح كثرة جريانه على ألسنة الفصحاء في فرند السيف «1» مدوّن في الأصول. يقال: إثر السيف وآثره، وهو بمعنى الأثر غريب. فإن قلت: (وما أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) كما ترى غير منطبق عليه. قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين)، يريد أن قوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) في الظاهر سؤالٌ عن سبب العجلة، ولما تضمن معنى الإنكار أفاد أيضاً إنكار نفس العجلة؛ لأن نفس العجلة لو لم تكن مُنكرةً لم يكن الحاملُ عليها منكراً، ولهذا قدم عُذر نفس العجلة في الجواب على العُذر على السبب الحامل عليها اهتماماً بشأنه، وإليه الإشارة بقوله: فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط عذره تمهيداً لعلةٍ في نفس ما أنكر عليه، وقال القاضي: (وَمَا أَعْجَلَكَ): سؤالٌ عن سبب العجلة يتضمنُ إنكارها من حيث إنها نقيصةٌ في نفسها، وانضم إليها إعفال القوم وإيهامُ التعظيم عليهم. وقال صاحب "الفرائد": الواو لمطلق الجمع، والجواب مجموعُ الكلام، فلا يلزم التقدم الذي ذكر، ألا ترى إلى أنه قال: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة: 58]، وقال في موضع آخر: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) [الأعراف: 161]، والقصة واحدةٌ، فظاهر كلامه يقتضي أن يكون موسى عليه السلام رد قوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ) بقوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)؛ لأنه قال في معناهُ: ما هذا تقدمٌ يعتدُ به، فلم يكن هذا تعجلاً مني في العادة. والوجه أن يقال: إني خشيت أن مثل هذا التقدم غير معتدٍ به نظراً إلى العادة. وقلتُ: الأحسنُ أن يقال: إن الجواب هو قوله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، وقوله (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) كالتوطئة والتمهيد للجواب، يعني: ما كانت عجلتي إلا لرضاك، وأن أكون من السابقين الذي يتقدمون على متابعتهم مسافةً يسيرة يتقدم بمثلها الوفد رئيسهم، فجاء قوله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) كالبيان لذلك. ويؤيده ما في "المعالم": أن موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً حتى يذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم، ثم عجل نم بينهم شوقاً على ربه وخلفهم وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله تعالى له: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)، فقال مجيباً: هم بالقرب مني يأتون على أثري، وعجلتُ إليك لتزداد رضا. ودل قوله: "لتزداد رضا" على وجود رضا. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الذي رُكب في هذا المقام وما سبق في "الأعراف" أن قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية منه عليه السلام غير قصة الميقات للاعتذار لأجل عبادتهم العجل وأنه عليه السلام اختار السبعين في الكرة الثانية، وأنه لم يحضر معه القوم في الكرة الأولى، وما طلب الرؤية إلا لنفسه؟ قلتُ: وجهه أنه تعالى بعد هلاك فرعون واعد بني إسرائيل بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ) إحضارهم جانب الطور، ثم إنه عليه السلام اختار منهم سبعين فسار بهم، ثم عجل من بينهم إلى الجبل شوقاً إلى ربه فكلمه ربه وطلب الرؤية، وليس فيه أنهم لحقوه وطلبوا الرؤية. والحاصل أنه اختار السبعين مرتين، ففي الثانية كانوا معه. وأما في الأولى فليس في التنزيل ولا في الروايات أنهم حضروا معهُ في

أحدهما: إنكار العجلة في نفسها. والثاني: السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدّم يسير، مثله لا يعتدّ به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المكالمة وطلب الرؤية، على أنه يجوز أن يُراد بالقوم: جميعُ قومه الذين خلفهم مع هارون، ويفسرُ (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) بأنهم بالقرب مني ينتظرونني، كما أورده الإمام. وقلتُ: ويؤيدُ هذا الوجه التعقيبُ بقوله تعالى: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا) بحرف الترتيب، أي: الفاء، قول موسى عليه السلام: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، كما عطف إبراهيمُ عليه السلام قوله: (مِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة: 124] على الكاف في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) [البقرة: 124]، ثم التصريح بقوله: (قَوْمُكَ) بعد قوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) يدل على أنهم هم؛ لأن المُعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، ولأن المفتونين ليسوا السبعين من المتخلفين، ويُحتمل التعجيلُ على أنه عليه السلام ما صبر لانقضاء الميقات المضروب عند القوم، بل حسب الميقات تمامه عند مجيئه إلى الميقات، بدليل اللام في قوله: (لِمِيقَاتِنَا)، أي: لوقت ميقاتنا، ولهذا كان من جواب الله: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) يعني: إن فعلت ذاك فإنا قد فتناهم. وقال صاحب "الانتصاف": والمرادُ بسؤال موسى تعليمُه أدب السفر، وهو أن يتأخر رئيس القوم ليحيط بصره بطائفته، كما علم لوطاً بقوله: (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) [الحجر: 65] وموسى إنما أغفل ذلك لعلة طلب الرضى بمسارعته إلى الميعاد الذي يود لو ركب أجنحة الطير.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) [طه: 85]. أراد بالقوم المفتونين: الذين خلفهم مع هارون وكانوا ست مائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت: في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين مع أيامها، وقالوا: قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه، وأخذ في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)؟ )، قال صاحب "الفرائد": لو كانت الفاءُ داخلةٌ على "قال" لزم أن يكون عند مقدمه؛ لأن المعنى حينئذ: قال عقيب قول موسى: إنا قد فتنا قومك، لكنها داخلة على ما بعد "قال"، فلا يلزم ذلك، وعلى تقدير التسليم المراد من قوله: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أردنا فتنتهم أو حكمنا بوقوع الفتنة، كقوله تعالى: (وَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ) [الإسراء: 45]، وقوله تعالى: (فَجَاءَهَا بَاسُنَا) [الأعراف: 4]، أي: من بعد انطلاقك، و (مِن): للابتداء، فوجه التوفيق: لا نُسلمُ أن (مِن) للابتداء، بل بعدك ومن بعدك سواءٌ في الاستقبال، فيصح من بعدك ولو بعد عشرين ليلةً، والفاءُ وقد ليستا لتعقيب الفتنة، بل هما للإخبار بالفتنة لأنفسهما. وقلتُ: مرادُ المصنف من السؤال انه تعالى كيف قال: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا) بلفظ الماضي، والمقتضي المستقبل، يدل عليه جوابه: قد أخبر الله عن الفتنة المرتقبة بلفظ الموجودة الكائنة، أي: الماضي. والمقتضي المستقبل، يدل عليه جوابه: قد أخبر الله عن الفتنة المرتقبة بلفظ الموجودة الكائنة، أي: الماضي. وإنما قال: (فَتَنَّا) لما أن مقدمات الفتنة كانت موجودةً، فجعلها لذلك أنها وُجدت، وإليه الإشارة بقوله: "فكان بدءُ الفتنة موجوداً".

تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ "وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ" أى وهو أشدّهم ضلالا: لأنه ضال مضل، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم: وقيل: كان من أهل باجرما. وقيل: كان علجا من كرمان، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه: 86 - 88]. الأسف: الشديد الغضب. ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة «رحمة المؤمن وأخذة أسف للكافر» وقيل: الحزين. فإن قلت. متى رجع إلى قومه؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من أهل باجرما)، في الحاشية: أنها قريةٌ من قُرى الموصل. وقال الزجاج: الأكثرُ في التفسير أن السامري كان عظيماً من عُظماءِ بني إسرائيل من قبيلةٍ تُعرفُ بالسامرة، وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين. قوله: (علجا من كرمان)، النهاية: العلجُ: الرجلُ القوي الضخم، والعِلجُ: الرجلُ من كُفار العجم وغيرهم، والأعلاج والعلوجُ: جمعُه. قوله: (في موت الفجأة: "رحمةٌ للمؤمن")، الحديثُ من رواية رجُل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موتُ الفجأة أخذةُ أسفٍ للكافر، ورحمةٌ للمؤمن"،

بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل، حكى لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا (الْعَهْدُ) الزمان، يريد: مدّة مفارقته لهم. يقال: طال عهدى بك، أى: طال زماني بسبب مفارقتك. وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل (بِمَلْكِنا) قرئ بالحركات الثلاث، أى: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده. أى: حملنا أحمالا من حلىّ القبط التي استعرناها منهم. أو أرادوا بالأوزار: أنها آثام وتبعات، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب. وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ (فَقَذَفْناها) في نار السامري ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي روايةٍ عن عبيدة بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: مرةُ عن عبيدة: "موتُ الفجأة أخذُ أسف"، أخرج الثانية أبو داود، والأولى ذكرها رزينٌ. النهاية: أي: أخذةُ غضب أو غضبان، يقال: أسف يأسفُ أسفاً فهو أسيف: إذا غضب. قوله: (فأخلفوا موعده)، أي: ما وعدوه، قال تعالى: (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)، أي: ما وعدتموني من الإقامة على الإيمان، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. قوله: ((بِمَلْكِنَا) قرئ بالحركات الثلاث)، بالضم: حمزة والكسائي، وبالفتح: نافعٌ وعاصم، والباقون: بالكسر، فالفتح: مصدرُ ملكت الشيء أملكه ملكاً، والملكُ: ما مُلك، ويستعملُ استعمال المصدر كالرزق، وبالضم: السلطانُ والقدرة، أي: لو ملكنا وقدرنا عليه وخلينا وراءنا. قوله: (وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي)، أي: ليس له أن يأخذه إلا بإذنه، حتى

التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلىّ. وقرئ (حملنا)، (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل. أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلىّ التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل. فإن قلت: كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت: أما يصحّ أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهذه الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات، وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جمادا أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيوانا. ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع. فإن قلت: فلم خلق الله العجل من الحلىّ حتى صار فتنة لبني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لو أخذ ماله بطريق الربا حل عند أبي حنيفة، وإن جرى بينه وبين مسلم أسلم هناك، كما يجوز للمسلم المستأمن أخذه من الحربي برضاه. قوله: (وقرئ: (حُمِّلْنَا))، الحرميان وابن عامر وحفصٌ: بضم الحاء وكسر الميم مشدداً، والباقون: بفتحهما تخفيفاً. قوله: (حيزوم)، النهاية: في حديث بدرٍ: "أقدم حيزومُ" جاء في التفسير أنه: قال في قوله تعالى: (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) [البقرة: 102]: والسحرُ حيلةٌ وتمويهٌ كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يُحدثُ الله تعالى عند الفرك والنشوز ابتلاءً منه؛ لأن السحر له أثرٌ. قوله: (فلم خلق الله العجل من الحُلي حتى صار فتنةً؟ )، الانتصاف: قد ثبت أن الله

إسرائيل وضلالا؟ قلت: ليس بأوّل محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل، فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) هو خلق العجل للامتحان، أى: امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال، وأوقعهم فيه حين قال لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أى: فنسي موسى أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه لاعن علل أفعالهن وحتم ذلك بقوله: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء: 230]، والزمخشري يُراعي قاعدة رعاية الأصلح. قوله: ((فَنَسِيَ)، أي: فنسي موسى)، يجوز أن يكون من كلام القوم، والفاء فصيحةٌ، أي: قال بعضهم لبعض: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) الذي كنتم ترومونه منه فالزموا عبادته ولا تطلبوه في الموضع الذي ذهب إليه موسى للطلب، فإن موسى اعتراه النسيانُ فغفل عن ذلك، ودل على المبالغة إتيان اسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم، كقوله: هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه وتكريرُ "إله" وتخصيصُ موسى بالذكر وإتيان الفاء، أي: قد ظهرت لكم إلهيته، فلا تتركوا عبادته، ولم يوفق موسى لذلك، فغفل ونسي، ومثله قول الشاعر: خولانُ فانكح أي: هؤلاء القومُ يستحق أن يُنكح منهم لجمال نسائهم ووفور حُسنها، فلا يُغفلُ عن النكاح فيهم، وان يكون من كلام الله، و (وَنَسِيَ) بمعنى ترك، وإليه الإشارة بقوله: أي: ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر

يطلبه هاهنا، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري: أى ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه: 89 - 91] (يَرْجِعُ) من رفعه فعلى أنّ "أن" مخففة من الثقيلة. ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال (مِنْ قَبْلُ) من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أوّل ما وقعت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يَرْجِعُ) من رفعه فعلى أن "أنْ" مخففةٌ من الثقيلة) قال الزجاجُ: هذا الاختيارُ، والمعنى: أفلا يرون أنه لايرجع إليهم قولاً، كما قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) [الأعراف: 148]، ويجوز أن "لا يرجع" يُنصبُ بـ"أنْ"، والاختيارُ مع "علِمتَ" و"رأيتَ" أن يكون "أن لا يفعلُ" في معنى: قد علمت أنه لا يفعلُ، وكذا قال أبو البقاء في قوله: (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة: 71]: لا يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة مع أفعال الظن والشك، ولا الناصبة للفعل مع "علمتَ"، وما كان في معناها. قوله: (من قبلِ أن يقول لهم السامري ما قال)، قال الواحدي: ولقد قال لهم هارون من قبل رجوع موسى: يا قوم، إنما ابتليتم بالعجل (وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي) في عبادة الله وأطيعوا أمري في ترك عبادة العجل، (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)، وقيل: هذا أشدُّ ملاءمةً من كلام المصنف، لقوله: (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى).

عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون عليه السلام بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه: 92 - 93]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: تفسيرُ المصنفِ أدخلُ في المعنى وأولى بالقبول؛ لأن الكلام واردٌ على توبيخ القوم وتقريعهم على الغباوة، وأن دليلي العقل والسمع تعاضدا على بطلان إلهية العجل، وأنهم ما التفتوا إليهما وما رفعوا لهما رأساً، وهذا إنما يستقيم على تقدير المصنف، والنظمُ أيضاً يساعد عليه، وذلك أنه تعالى لما حكى عن السامري أنه حين قال للقوم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) قبلوا منه (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 93] عقب ذلك بقوله: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) الآيات، تنبيهاً على غباوتهم، فأتى بهمزة الإنكار داخلةً على الفاء العاطفة المستدعيتين تقدير فعلٍ يصلُحُ أن يكون معطوفاً عليه لما بعد الفاء، وهو أن يقال: أحرموا العقل الهادي، فلا يتفكرون ولا ينظرون بنظر البصيرة أن هذا المتخذ نم هذه الأجرام لا يصلح للإلهية، أم عموا وصموا فلا يهتدون إلى أن الإله ينبغي أن يكون سامعاً لدعاء عابده، عالماً بأفعاله، دافعاً عنه المضار، مثيباً ومعاقباً، مع أن دليل السمع شاهدٌ ببطلانه، وهو تنبيهُ نبي الله هارون بقوله: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ) على سبيل التوكيد والحصر قد سبق على وقوعهم في تلك الفتنة، وأيضاً، في إيثار المضارع في قوله: (أَفَلا يَرَوْنَ)، وعطفِ (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ) عليه للدلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الأفكار عليهم، ويجوز أن تكون الجملة القسمية حالاً من فاعل (يَرَوْنَ) مقررةً لجهة الإشكال، أي: (أَفَلا يَرَوْنَ) والحالُ أن هارون نبههم قبل ذلك ببطلانها، وأما جوابهم، وهو قوله: (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ) فمن باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم؛ لأنهم قالوه عن قلة مبالاةٍ بالأدلة الظاهرة، كما قال نمرود في جواب الخليل: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة: 258]، وذكر القاضي الوجهين في "تفسيره".

"لا" مزيدة. والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟ وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدا؟ أو مالك لم تلحقني. (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَاخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَاسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه: 94]. قرئ (لِحْيَتِي) بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز، كان موسى صلوات الله عليه رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحمية، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدّو المكاشف قابضا على شعر رأسه - وكان أفرع - وعلى شعر وجهه يجرّه إليه. أى: لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك، المتلافى برأيك وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتنى به من ضم النشر ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما لك لم تلحقني)، قال محيي السُّنة: أي: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم، فتكون مفارقتك إياهم زجراً لهم عما أتوه؟ . قوله: (العدو المكاشف)، الجوهري: كاشفه بالعداوة، أي: بادأه بها، ويقال: لو تكاشفتم ما تدافنتم. قوله: (وكان أفرع)، أي تام الشعر. الأساس: امرأة طويلةُ الفروع، ولها فرعٌ تطؤه. قوله: (فاستأنيتكَ)، الجوهري: واستأنى به، أي: انتظر به.

وحفظ الدهماء، ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها. (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) [طه: 95 - 96] الخطب: مصدر (خطب الأمر إذا طلبه)، فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه: ما طلبك له؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحفظ الدهماء)، الجوهري: الدهمُ: العددُ الكثيرُ، يريد بقوله: ضم النشر، أي: المنشور، وحفظ الدهماء، قوله: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) [الأعراف: 142]. قوله: (ما خطبُك؟ )، ما شأنك، فمعناه: ما طلبك له؟ الجوهري: الخطبُ: سببُ الأمر، تقول: ما خطبك؟ الأساس: ومن المجاز: فلانٌ يخطبُ عمل كذا: يطلبه، وما خطبك؟ ما شأنك الذي تخطبه؟ ومنه: هذا خطبٌ جليلِ. والظاهر أن المراد بما في الآية هذا الأخير؛ لأن هذا السؤال المترتب بالفاء على ما سبق من السؤال عن القوم وعن هارون وجوابهم ما يدل على جلالة الخطب، وعليه النظم؛ لأنه عليه السلام لما وبخ القوم بقوله أولاً: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) إلى آخره وأجابوا (مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) أي: بأن ملكنا أمرنا، بل بسبب أن صدر كيت وكيت ورأينا خطباً جليلاً، ثم ثنى إلى أخيه بالمعاتبة وأجاب بما ظهر عجزه من جلالة الخطب، ثم التفت ثالثاً إلى السامري بقوله: (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)؟ أجاب بما ينبئ عن عظم الشأن حيث قال: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي: علمتُ ما لم تعلموه وفطنتُ ما لم تفطنوا له، كما نص عليه المصنفُ، أي: كان من خطبي أن أُظهر للقوم أني تفوقتُ عليك بالعلم والبصارة، وأنا أحق بالاتباع منك، لكن تذييله الكلام بقوله: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) دل على حمقه وأن جوابه من الأسلوب الأحمق وأنطقه الذي أنطق كل شيء به.

قرئ (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالكسر «4»، والمعنى: علمت ما لم تعلموه، وفطنت ما لم تفطنوا له. قرأ الحسن (قَبْضَةً) بضم القاف وهي اسم المقبوض، كالغرفة والمضغة. وأما القبضة فالمرة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. وقرأ أيضا: (فقبصت قبصة)، بالصاد المهملة. الضاد: بجميع الكف. والصاد: بأطراف الأصابع. ونحوهما: الخضم، والقضم: الخاء بجميع الفم، والقاف بمقدمه: قرأ ابن مسعود: (من أثر فرس الرسول). فإن قلت: لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ)، إلى قوله: (فطنت ما لم تفطنوا له)، قال القاضي: وهو أن الرسول الذي جاءك روحانيٌّ محضٌ لا يمس أثره شيئاً إلا أحياه. قوله: (فقبضت قبضةً)، بالصاد، قال ابن جني: تقارب الألفاظ لتقارب المعاني، وذلك أن الضاد المعجمة لتشيها واستطالة مخرجها جُعلت عبارةً عن الأكثر، وهو القبض بكل اليد، وأن الصاد المهملة لصفائها وضيق محلها وانحصار مخرجها جُعلت عبارةً عن القبض بأطراف الأصابع، ولعلنا لو جمعنا من هذا الضرب لكان أكثر من ألف موضع. قوله: (ونحوهما: الخضم والقضم)، الجوهري: الخضمُ: هو الأكل بجميع الفم، والقضمُ: الأكلُ بأطرافِ الأسنان، قال الأصمعي: أخبرنا ابن أبي طرفة قال: قدم أعرابيٌّ على ابن عم له بمكة فقال له: إن هذه بلادُ مقضم وليست ببلاد مخضم. قوله: (لم سماه الرسول)، يعني: السامريُّ كان يعرف جبريل، فلم عدل عن اسمه وسماه الرسول؟ قالوا: تلخيص الجواب أنه عرف منه أنه رسولٌ مبعوثٌ له شأنٌ، ولعله لم يعرف أنه جبريل حين جاء إلى موسى راكباً الحيزوم، فيكون جواباً واحداً، وعليه ظاهرُ كلام صاحبِ "التقريب". وقلتُ: الظاهر أنه جوابان، أحدهما: أن السامري عرف جبريل،

موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إنّ لهذا شأنا، فقبض قبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل. (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) [طه: 97]. عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة، حم الماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحشي النافر في البرية. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما عدل إلى الرسول عن اسمه ليُصور تلك الحالة البديعة، وهو كونه راكب حيزوم جاء لأمرٍ له شأنٌ غريب، وهو عرف الحال، يدل عليه قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)، على ما فسره الإمام: علمتُ أن تُراب فرسِ جبريلَ له خاصيةُ الإحياء، وفي كلام محيي السُّنة أنه إشعارٌ بأنه عرف أنه جبريل عليه السلام. وثانيهما: أنهُ لم يعرف إلا كونه رسولاً مبعوثاً لأمرٍ، فأتى بما عرفه. قوله: (أوحش من القاتل اللاجيء إلى الحرم)، قال المصنف: عند أبي حنيفة رضي الله عنه: من لزمه القتلُ في الحل فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يُطعمُ ولا يُسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. قوله: (باقٍ فيهم ذلك إلى اليوم)، قيل: الصوابُ: النصبُ، روى سيبويه عن بعض العرب: اليومُ يومُ الجمعة، وعلى ذلك قوله:

وقرئ (لا مِساسَ) بوزن (فجار). ونحوه قولهم في الظباء. إذا وردت الماء فلا عباب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اليوم يومٌ باردٌ سمومهُ ... من جزع اليوم فلا تلومه "اليوم" إذا كان بمعنى الوقت يُفتح، ورُدَّ بأنه يلزمُ أن يكون للزمان ظرفٌ، ولذلك أولوا اليوم الجمعة، واليوم السبت، من سبتتٍ اليهودُ، أي: قامت بأمرِ سبتها، ومن ثم لم يجز في سائر الأيام، فلا يقال: اليوم الأحد، وأولوا قولهم: اليوم يومُك على غلبتك. ومثلُ هذه التأويلات تبعدُ في "الكتاب"، فإنه اسمٌ معربٌ دخل فيه حرفُ الجر فلا وجه لنصبه. قوله: ("لا مساس" بوزن "فجارٍ")، قال ابن جني: قرأها أبو حيوة. وأما قراءةُ الجماعة: (لا مِسَاسَ) فواضحةٌ. وفي هذه القراءة نظرٌ، وذلك بأنها كنزال ودراك وحذار، وليس هذا الضرب من الكلام. أعني: ما سُمي به الفعلُ مما يدخل فيه "لا" النافية للنكرة، نحو: لا رجُل عندك، فـ"لا" إذن في قوله: (لا مِسَاسَ) نفيٌ للفعل، كقولك: لا أمسُّك ولا أقربُ منك. قوله: (فلا عباب)، علمٌ للعبةِ، من: عب الماء: شربه من غير مص، والأبابُ: علمٌ للأبة، من الأب: الطلب، يصفُ الظباء بالصبر عن الماء، أي: إذا وردت الماء فلا تفعل العبَّ، وإذا لم ترد لم تفعل الأب. قال الميداني: يقال: إن الظباء إذا أصابت الماء لم تعب فيه، وإن لم تصبه لم تؤب إليه، أي: لم تتهيأ لطلبه، يقال: أب يؤب أبا: إذا قصد وتهيا. قال: وليس شيءٌ من الوحوش من الظباء والنعام والبقر يطلبُ الماء إلا أن ترى الماء قريباً منه فترده، وإن تباعد عنها لم تطلبه، ولم ترده كما يردُ الحمير، يُضربُ للرجل يُعرضُ عن الشيء استغناء.

وإن فقدته فلا أباب: وهي أعلام للمسة والعبة والأبة، وهي المرة من الأب وهو الطلب (لَنْ تُخْلَفَهُ) أى لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقرئ (لن تخلفه) وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى: أثوى وأقصر ليله ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا وعن ابن مسعود: (نخلفه)، بالنون، أى: لن يخلفه الله، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في (لِأَهَبَ لَكِ)] مريم: 19 [. (ظَلْتَ) وظلت، وظلت والأصل ظللت، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء، ومنهم من لم ينقل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) و (لنحرقنه) و (لنحرقنه). وفي حرف ابن مسعود: (لنذبحنه)، و (لنحرقنه)، و (لتحرقنه): القراءتان من الإحراق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "لن تُخلفهُ")، ابن كثير وأبو عمرو: بكسر اللام، والباقون: بفتحها. قوله: (أثوى وقصر) البيت، أثوى: أقام، وقيل: أثوى، أي: صار ضيفاً. وقصر ليله: أي: صيره قصيراً ليُزود، وقتيلةَ: اسمُ المحبوبة. يقولُ: صار العاشقُ ضيفاً في الحي ليرى معشوقه، وقصر ليله برجاء الوصال، فمضى الليلُ ووجد الموعد من قتيلة خُلفاً ولم يتمتع بوصالها. قوله: (كما مر في (لأَهَبَ لَكِ))، قال: " (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أمرني أن أهب لك، أو: هي حكايةٌ عن قول الله". قوله: (القراءتان من الإحراق)، أي: "لنحرقنه" و"لتحرقنه"، بمعنى.

وذكر أبو علي الفارسي في (لنحرقنه) انه يجوز أن يكون "حرّق" مبالغة في "حرق" إذا برد بالمبرد. وعليه القراءة الثالثة، وهي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه (لَنَنْسِفَنَّهُ) بكسر السين وضمها، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن به وفتن، وإهدار سعيه، وهدم مكره (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران: 54]. (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه: 98]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذكر أبو علي الفارسي في (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أنه يجوز أن يكون "حرق" مبالغةً في "حرق" إذا بُرد بالمبرد)، وقال الزجاج: (لَنُحَرِّقَنَّهُ) إذا شثدد فالمعنى: نحرقه مرةً بعد مرة. وقرئت: "لنحرقنه"، أي: لنبردنه بالمبرد، يقال: حرقتُ الشيء أحرقه وأحرقُ الشيء، إذا بردته. قال أبو علي: أن من قرأ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) فحملهُ على الحرق بالنار بعيدٌ؛ لأنه لا يحتمل الإحراق. يعني: لم يستعمل حرقته بالنار، لكن أحرقته وحرقته. قوله: (وعليه القراءة الثالثة)، قال ابن جني: قرأ عليٌّ وابن عباس رضي الله عنهما: لنحرقنه، بفتح النون وضم الراء، يقالُ: حرقتُ الحديد: إذابردته فتحات وتساقط. ومنه قولهم: إنه ليحرقُ علي الأرم أي: يحك أسنانه بعضها ببعضٍ غيظاً علي. قوله: ((لَنَنسِفَنَّهُ) بكسر السين)، المشهورة، وبضمها: شاذة. قوله: (وهذه عقوبة ثالثة)، أولاها: الدعاء عليه، ب قوله: (لا مِسَاسَ)، وثانيها: (لَنُحَرِّقَنَّهُ)، قال القاضي: المقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

قرأ طلحة: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وعن مجاهد وقتادة: وسع، ووجهه أن (وَسِعَ) متعدّ إلى مفعول واحد، وهو كل شيء. وأمّا (عِلْماً) فانتصابه على التمييز، وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين، فنصبهما معا على المفعولية لأنّ المميز فاعل في المعنى، كما تقول في «خاف زيد عمرا» خوفت زيدا عمرا، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا. [سورة طه (20): الآيات 99 إلى 101] (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [طه: 99 - 101]. الكاف في (كَذلِكَ) منصوب المحل، وهذا موعد من الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أى: مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقصّ عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم، تكثيرا لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعنى القرآن مشتملا على هذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فنصبهما معاً على المفعولية)، قال ابن جني: معناه: خرقَ كل مُصمتٍ بعلمه لأنه بطنُ كل مُخفى ومستبهم، فصار لعلمه فضاءً متسعاً بعد ما كان متلاقياً. قوله: (تكثيراً لبيناتك)، إلى آخره: بيانٌ لفائدة ذكر الأقاصيص في التنزيل، فقوله: "زيادة لمعجزاتك" تفسيرٌ لقوله: "تكثيراً لبيناتك"؛ لأن القرآن كما دل بنظمه الفائق على الإعجاز دل بذكر الأقاصيص فيها كما هي عليه من غير نقصان ولا زيادة على الإعجاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سمعها من أحدٍ ولا قرأها في الكتب. قوله: (ويزداد المستبصر)، وتتأد الحجة، أي: السامعُ إن كان الموافق فيزداد بصيرةً على بصيرة، وإن كان المخالف فيزدادُ الإلزام على الإلزام. قوله: (وأن هذا الذكر الذي آتيناك)، إلى آخره، تفسيرٌ لقوله: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا

الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار، لذكر عظيم وقرآن كريم، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقى. يريد بالوزر: العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذِكْراً)، وقد أشار فيه إلى وجه منه مع الآية السابقة واللاحقة. أما ربطه بالسابقة فهو أن العطف فيه للتفسير، ولذلك أعاد ذكر الأخبار والأقاصيص فيه واعتبر التفكر والاعتبار، وأما بيانُ التئامه مع الآية الثالثة فهو قوله: "وإن هذا الذكر الذي آتيناك" إلى قوله: "لمن أقبل عليه"، فآذن به أنه مقابلٌ لقوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)، فكأنه قيل: نحو ما قصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقص عليك أخبار الأمم وقصص الأنبياء لتكثير بيناتك ومزيد معجزاتك، من أقبل عليه فاز بالقدح المُعلى، ومن أعرض عنه فقد شقي وتردى. وأما دلالته على قوله: "وإنهُ لذكرٌ عظيم، وقرآنٌ كريم، فيه النجاةُ والسعادة"، فإن التنكير في (ذِكْراً) وإيثار ضمير الجماعة في (آتَيْنَاكُ)، واختصاص (مِنْ لَدُنَّا) مُنادٍ بلسانٍ طلق: إن المؤتى مما لا يُقادرُ قدرته ولا يكتنه كنهه، كأنه قيل: أعظم بمؤتى موليه عظيمُ الشأن قوي السلطان، وأنه من عنده ومن خزائن لطفه وكرمه. وفي تخصيص اليوم بالذكر وتكرير الجُمل في التذييل، وهو سائلهم يوم القيامة حِملاً: الإشعارُ بأن الموجب للحمل في الدنيا أمرٌ عظيمٌ وخطبٌ جسيم، وهو الإعراض المؤدي إلى تفويت السعادات والكمالات: الدنيوية والأخروية، وبأن تبعة الحمل في ذلك اليوم مما لا يدخل تحت الوصف، فيجبُ أن يُقدر مثله في مقابله، والمصنفُ اقتصر على لفظ النجاة والسعادة اختصاراً وإيجازاً. قوله: (لذكرٌ عظيم وقرآنٌ كريم)، من عطف الشيء على نفسه تجريداً، نحو قولهم: مررتُ بالرجل الكريم والنسمة المباركة. قوله: (الباهظة)، الجوهري: بهظه الحملُ يبهظه بهظاً: إذا أثقله وعجز عنه، وهذا أمر باهظٌ، أي: شاقٌّ.

الذي يفدح الحامل، وبنقض ظهره، ويلقى عليه بهره: أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وقرئ: (يحمل). جمع (خالِدِينَ) على المعنى، لأنّ "من" معلق متناول لغير معرض واحد. وتوحيد الضمير في (أعرض) وما بعده للحمل على اللفظ. ونحوه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)] الجن: 23 [. (فِيهِ) أى في ذلك الوزر. أو في احتماله (ساءَ) في حكم (بئس). والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهما يفسره (حِمْلًا) والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)] ص: 30، 44 [، أيوب هو المخصوص بالمدح. ومنه قوله تعالى (وَساءَتْ مَصِيراً)] النساء: 97، 115 [، أى وساءت مصيرا جهنم. فإن قلت: اللام في (لَهُمْ) ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت: هي للبيان، كما في (هَيْتَ لَكَ)] يوسف: 32 [. فإن قلت. ما أنكرت أن تكون في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يفدحُ الحامل)، الجوهري: فدحه الدينُ: أثقله، وأمرٌ فادحٌ، إذا عالهُ وبهظه. قوله: (وينقبض ظهره)، الجوهري: وأنقض الحملُ ظهره، أي أثقله، وأصله الصوتُ، والنقيضُ صوتُ المحامل والرحال. قوله: (ويُلقي عليه بُهره)، بهره بهراً، أي: غلبه، والبهر بالضم: تتابع النفس، وبالفتح: المصدر، يقال: بهره الحملُ بهراً، أي: أوقع عليه البهرة فانبهر، أي: تتابع نفسه. قوله: (أو لأنها جزاءُ الوزر)، عطفٌ على "تشبيهاً"، فالوزرُ على الأول، بمعنى الثقل، وُضع موضعَ العقوبة على الاستعارة، وعلى الثاني؛ بمعنى الإثم إقامةً للسبب مقام المسبب. قوله: (جمعُ (خَالِدِينَ) على المعنى)، أي: حملاً على المعنى. قوله: (هي للبيان، كما في (هَيْتَ لَكَ))، قال في قوله تعالى: (هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)

(ساء) ضمير الوزر؟ قلت: لا يصح أن يكون في (ساء) وحكمه حكم (بئس) ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت: فلا يكن (ساء) الذي حكمه حكم (بئس)، وليكن (ساء) الذي منه قوله تعالى (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)] الملك: 27 [، بمعنى أهم وأحزن؟ قلت: كفاك صادّا عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك: وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملا، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذه اللام وعهدة هذا المنصوب. [(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً* يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [المؤمنون: 36]: "اللامُ: لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللامُ في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، لبيان المُهيت به"، كأنه لما قيل: (وَسَاءَ) قبل أن يُقال، فأجيب: (لَهُمْ)، فالعامل القولُ المقدر. قوله: (وأحزن الوزرُ لهم يوم القيامة حملاً)، قال أبو البقاء: (حِمْلاً) تمييزٌ لاسم (سَاءَ)، "وساء" مثلث "بئس"، والتقديرُ: وساء الحِملُ حملاً، ولا ينبغي أن يكون التقدير: وساء الوزرُ؛ لأن المميز ينبغي أن يكون من لفظ اسم "بئس". قوله: (بعد أن تخرج من عهدة هذه اللام)، لأن "ساء" يتعدى بنفسه، الجوهري: ساء يسوءه سوءاً، بالفتح: نقيضُ سرهُ، قيل: إنما كان صاداً لأنه لا يفهم من هذا التركيب معنى يصح التعبير عنه، مع أن اللام لا وجه له في هذا الموضع، إذ لا يقال: أحزن لهم، بل أحزنهم، المنصوب لايصح أن يكون تمييزاً؛ لأن الضمير إذا كان عائداً إلى الوزر لا يصح أن يميز بالوزر، غير التمييز لا وجه له. وفيه نظرٌ لجواز أن يكون اللام للبيان كما في قوله تعالى: (إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]، وحملاً: تمييزٌ، أو المعنى: أحزنهم حملُ الوزر وثقله.

أسند النفخ إلى الآمريه فيمن قرأ: (ننفخ)، بالنون. أو لأن الملائكة المقرّبين -وإسرافيل منهم- بالمنزلة التي هم بها من رب العزة، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى. وقرئ: (ينفخ)، بلفظ ما لم يسم فاعله. و (ينفخ). و (يحشر)، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام. وأما (يحشر المجرمون) فلم يقرأ به إلا الحسن. وقرئ (فِي الصُّورِ) بفتح الواو جمع صورة، و (في الصور): قولان، أحدهما: أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه. والثاني: أنه القرن. قيل في (الزرقة) قولان، أحدهما: أن الزرقة أبغض شيء من ألوان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيمن قرأ "ننفخ" بالنون)، أبو عمرو: بالنون مفتوحةً وضم الفاء، والباقون: بالياء مضمومة وفتح الفاء. قوله: (أو لأن الملائكة)، عطفٌ على محذوف؛ لأن المعنى: أسند النفخ إلى الله تعالى لأنه الآمر به، ولأن المقربين بالمنزلة العظيمة من رب العزة، والحاصلُ أن هذا الإسناد مجازي، أسند النفخ إلى الله تعالى لأنه سببٌ، كما في: بنى الأمير المدينة، أو لأن الملائكة المقربين بمنزلة عظيمة عنده، فيكون فعلهم فعله، كأنه لما قيل: ساء يوم القيامة حملاً، قيل: لمن؟ فقيل: لهم. قوله: (وإسرافيل منهم)، هو جملةٌ معترضةٌ دخلت بين اسم "إنّ" وخبرها، ولا يجوز أن يكون "إسرافيل" عطفاً على "الملائكة"؛ لأنه لا يبقى لقوله: "منهم" محلٌّ، و"من رب العزة" خبرٌ لقوله: "هم"، و"بها": متعلقٌ بالفعل المقدر في الخبر نحو: مقربون، أو: حالٌ من ضمير الاستقرار في و"بها" وهو الخبر، وهو أيضاً متعلق به، والمعنى: والملائكة المقربون أو المتصلون من رب العزة بالمنزلة التي هم بتلك المنزلة، أي: بمنزلة عظيمة معلومة عند كل أحد، وذلك من إيقاع "هُم" بها صلة للموصول؛ لأن "من" حقها أن تكون معلومة الانتساب عند السامع.

العيون إلى العرب لأنّ الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدوّ: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. والثاني: أنّ المراد العمى، لأنّ حدقة من يذهب نور بصره تزراقّ. تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت «أطال الله بقاءك»: «كفى بالانتهاء قصرا» وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشدّ تقاولا منهم في قوله تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ونحوه قوله تعالى (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ)] المؤمنون: 112 - 113 [، وقيل: المراد لبثهم في القبور. ويعضده قوله عز وجل (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصهب السِّبَالِ)، النهاية: الصهبة مختصةٌ بالشعر وهي حمرةٌ يعلوها سواد. قوله: (تخافتهم)، التخافت من: خَفت صوته إذا أخفضه. قوله: (لأن أيام السُّرورِ قصارٌ)، قال: تمتع بأيامِ السرور فإنها ... قصارٌ وأيامُ الغموم طوال قوله: (ويتقالُّ لبثُ أهلها)، أي: يُعد قليلاً. النهاية: وفي الحديث: "كأنهم تقالوها"، أي: استقلوها، أي: عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفاعل من القلة. قوله: (ويعضده [قوله عز وجل: ] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ))، أي: يعضد إرادة استقصار

ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم: 55]، (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الروم: 56]. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه: 105 - 107]. (يَنْسِفُها) يجعلها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما يذرى الطعام (فَيَذَرُها) «1» أى فيذر مقارّها ومراكزها. أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ)] فاطر: 45 [. فإن قلت: قد فرّقوا بين العوج والعوج، فقالوا: العوج -بالكسر- في المعاني. والعوج بالفتح: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لُبثهم في القبور هذه الآية. وفيه نظرٌ؛ لأنه فسرها في موضعها في آخر الروم بقوله: أرادوا: لُبثُهم في الدنيا أو في القبور، أو ما بين فناء الدنيا إلى البعث. والاستشهاد للوجه الأول - وهو "يستقصرون مدة لُبثِهم في الدنيا بقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [المؤمنون: 112] "- صحيحٌ، لتصريح ذكر الأرض. قوله: (يجعلها كالرمل)، الراغب: نسفت الريح الشيء: اقتلعته وأزالته، وكذا انتسفته، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) [طه: 105]، ونسف البعيرُ الأرض بمقدم رجله، قال تعالى: (ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)، أي: نطرحه فيه طرح النسافة، وهي ما يثور من غبار الأرض، وانتسف لونه، أي: تغير عما كان عليه نُسافُه، كما يقال: اغبر وجهه. قوله: (العوج- بالكسر-: في المعاني)، قال الزجاج: العوجُ في العصا والجبل: أن لا يكون مستوياً، والأمتُ: أن يغلُظَ مكانٌ ويدقَ مكان، قال القاضي: عوجا بالقياس، وأمتا بالإحساس.

في الأعيان، والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عزّ وعلا ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك، اللهمّ إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني، فقيل فيه: عوج بالكسر. الأمت: النتوّ اليسير، يقال: مدّ حبله حتى ما فيه أمت. (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه: 108 - 109]. أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله (يَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ نسفت، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يوم القيامة. والمراد: الداعي إلى المحشر. قالوا: هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس يدعو الناس، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الفلاحة)، الأساس: الفلاحةُ: الأكرةُ، جمع أكار؛ لأنهم يفلحون الأرض، أي: يشقونها. قوله: (بدلاً بعد بدل)، يعني (يَوْمَئِذٍ) بدلٌ من (يَوْمَ يُنْفَخُ) وهو من قوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في قوله: (وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً)، والعامل ساء، فيكون قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ) الآية، وحدها استطراداً، وعلى الأول العاملُ: (يُتْبِعُونَ) (وَيَسْأَلُونَكَ) إلى قصة أدم استطراداً، والأول أوجه لمجيء قوله: (يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ) فيكون بدلاً ثالثاً على الترقي. قوله: (يدعو الناس فيقبلون من كل أوب)، قال محيي السنة: يقول: أيتها العظام البالية،

لا يعدلون (لا عِوَجَ لَهُ) أى لا يعوجّ له مدعوّ، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته. أى: خفضت الأصوات من شدة الفزع وخفتت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) وهو الركز الخفي. ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت، أى: لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر (مَنْ) يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف، أى: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من (أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) والنصب على المفعولية. ومعنى (أذن له) (وَرَضِيَ لَهُ) لأجله. أى: أذن للشافع ورضى قوله لأجله. ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف: 11]. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه: 110]. أى يعلم ما تقدّمهم من الأحوال وما يستقبلونه، ولا يحيطون بمعلوماته علما. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه: 111]. المراد بالوجوه وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا - يوم القيامة - الخيبة والشقوة وسوء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إلى عرض الرحمن. قوله: (لا يعوج له مدعو)، قيل: هو كما يقال: لا عصيان له، أي: لا يعصي، ولا ظلم له، أي: لا يظلم. قوله: (المراد بالوجوه: وجوه العصاة)، قال القاضي: ظاهره يقتضي العموم، ويجوز أن يُراد بها وجوه المجرمين، فتكون اللام بدل الإضافة، ويؤيده قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ

الحساب، صارت وجوههم عانية، أى ذليلة خاشعة، مثل وجوه العناة وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)] الملك: 27 [، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ)] القيامة: 24 [. وقوله تعالى (وَقَدْ خابَ) وما بعده اعتراض، كقولك: خابوا وخسروا. وكلّ من ظلم فهو خائب خاسر. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه: 112]. الظلم: أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم: أن يكسر من حق أخيه فلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ظُلْماً)، وهو يحتمل الحال والاستئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم، وكذا عن أبي البقاء. قوله: (وقوله: (وَقَدْ خَابَ) وما بعده: اعتراضٌ)، يعني: في هذا الكلام معنى التوكيد لما قبله، وكان من الظاهر: وذلت وجوه العصاة وقد خابوا وخسروا، فوضع موضعه ذلك، وفيه رائحةٌ من الاعتزال، والأولى أنه حالٌ من الوجوه ووضع موضع الراجع (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)، كما في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف: 30] أي: لا نُضيع أجرهم. والمرادُ بالظلم: الشركُ، لقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، وروى محيي السُّنة، عن ابن عباس: خسر من أشرك بالله، والظلم هو الشرك، ولأنه واقعٌ في مقابلة قوله: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، والمراد بالوجوه، الرؤساء والمتكبرون؛ لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بوجوههم أولى: (وَقَدْ خَابَ): مقابلٌ لقوله: (فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)، المعنى: فلا يخاف الخيبة وإليه الإشارة بقوله: فلا يخاف جزاء ظُلم ولا هضم؛ لأنه لم يظلم ولم يهضم، فلا يستقيم حينئذ أن يكون اعتراضاً.

يوفيه له، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أى: فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ: (فلا يخف) على النهى. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) [طه: 113]. (وَكَذلِكَ) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُّ)] طه: 99 [أى: ومثل ذلك الإنزال، وكما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "فلا يخف")، على النهي: ابن كثير، والباقون: (يَخَافُ) بالرفع، وهذه القراءة توافق ما يُقابله منهما - وهو قوله: (وَقَدْ خَابَ) - من حيث الإخبار، وأبلغُ من القراءة الأولى من حيث الاستمرار، والأولى أبلغ لأنها لا تحتمل التردد في الإخبار، قال الواحدي: "فلا يخف": فليأمن لأنه لم يُفرط فيما وجب عليه، ونهيه عن الخوف أمرٌ بالأمن. قوله: (وَكَذَلِكَ): عطفٌ على (كَذَلِكَ نَقُصُّ))، إشارةٌ إلى بيان النظم، وأن التكرير للترديد والترجيع إلى ما هو مهتمٌ بشأنه وما سيق الكلام لأجله، ذكره هناك وعلق به مدح القرآن، ومن أقبل عليه ومن أعرض عنه، وأشار إلى أن المقبل مربح مفلح والمعرض خاسرٌ دامر. واستمر على وعيد المعرض ووعد المقبل إلى أن عاد إلى ما له سوق الكلام وهو مدح القرآن، فحرض على التمسك به واستعمال التؤدة والرفق في أخذه، وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه، وضرب حديث آدم مثلاً للنسيان وترك العزيمة. واستوفى حقه، ثم رجع إلى ما هو المقصد في الإيراد حيث قال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه: 124] إلى أن قال: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)، وأنت إذا تأملت حديث موسى عليه السالم بطوله وجدته متمماً لحديث القرآن وما افتتح به السورة من قوله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه: 1 - 2]، وهلُمَّ جرا، إلى آخر السورة، وقوله تعالى: (وَلا

أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة، مكرّرين فيه آيات الوعيد، ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر - كما ذكرنا - يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ: (نحدث) و (تحدث)، بالنون والتاء، أى: تحدث أنت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) [طه: 131] إلى قوله: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ)؛ لأنه على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً) [الحجر: 87 - 88]، وينصره قوله تعالى: (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً) [طه: 132]، ولأمر ما صدر عن أمر النبوة ومشكاة الرسالة صلوات الله عليه: "إن الله تعالى قرأ (طه) و (يس) قبل أن يخلُقَ السموات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبي لأمةٍ ينزلُ هذا عليها، وطوبى لأجوافٍ تحمل هذا، وطوبى لألسنةٍ تتكلمُ بهذا"، أخرجه الدارمي عن أبي هريرة. قوله: (الوتيرة)، الجوهري: هي الطريقة، يقال: ما زال على وتيرة واحدة. قوله: (ليكونوا بحيث يُراد منهم تركُ المعاصي أو فعلُ الخير)، قال في "الانتصاف": الصوابُ: ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر، إذ لو أراد اللهُ تقواهم لكان. والعجبُ أن الزمخشري نقل عن سيبويه في أول هذه السورة في: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]، أي: كُونا على رجائكما، ثم كع عنه هاهنا لمعتقده. قوله: (والذكرُ كما ذكرنا)، أي عند قوله: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14]، أي: لتذكرني، فإن ذكري أن أعبد، والذكر يُطلقُ على العبادة والطاعة، أي: مجازاً؛ لأن الطاعة: أثرُ الذكر والتذكير. ومراده من هذا التأويل اعتبارُ المطابقة لتفسيره التقوى بالاجتناب عن

وسكن بعضهم الثاء للتخفيف، كما في: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعاصي ليجمع بين فعل الطاعة وترك المعصية، وفيه إيذانً بأن التقوى قد يُراد منه الاحترازُ عما لا ينبغي كا قررناهُ في فاتحة البقرة، وقال محيي السنة والواحدي: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: يجتنبون الشرك، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي: يُجددُ لهم القرآنُ عبرةً وعظةً ليعتبروا ويتعظوا بذكر عقاب الله للأمم. وقال الإمامُ: وفيه وجهان: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي: يصيرون متحرزين عما لا ينبغي أو يحدث لهم القرآن ذكراً يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي، أو: أنزلنا القرآن ليتقوا، فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يُحدث لهم ذكراً شرفاً وصيتاً حسناً أو كلمة، أو كما في قولك: جالس الحسن وابن سيرين. وقال القاضي: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي، فتصير التقوى لهم ملكةً، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) عظةً واعتباراً حين يسمعونها فتثبطهم عن المعاصي: ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن. وقلتُ: والذي يحضرنا الآن - والله أعلم: أن المعنى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: فصيحاً ناطقاً بالحق ساطعاً تبيانه يحدث لهم التأمل والتفكرُ في آياته وبياناته الواقية الشافية فيُذعنون ويُطيعون (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) العذاب، فقيه لفٌّ من غير ترتيب، فالآية على وزان قوله تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]، قال المصنف: يتذكرُ، أي: يتأملُ فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق ويخشى أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة. قوله: (وسكن بعضهم الثاء للتخفيف)، أي: يحدث، قال ابن جني: قرأ بها الحسنُ، وينبغي أن يكون هذا مما يسكن استثقالاً للضمة. وأنشدنا أبو علي لجرير:

فاليوم أشرب غير مستحقب (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه: 114]. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهرُ تيرى ولا تعرفكم العرب أي: لا تعرفكم. قوله: (فاليوم أشرب غير مستحقبٍ)، تمامه في "المطلع": إثماً من الله ولا واغل مستحقبِ الاثم، أي: محتملٍ، يقال: استحقب الإثم: إذا احتمله واكتسبه، مأخوذٌ من الحقيبة، ووغل يغلُ: إذا دخل على القوم في شربٍ من غير أن يدعى كالوارس في العظام. قبله: حلت لي الخمرُ وكنتُ امرءاً ... عن شُربها في شغلٍ شاغل قائله امرؤ القيس، وكان حلفَ أن لا يشربَ الخمرَ حتى يُقتل بني أسدٍ بأبيه حُجرن فوقع ببعضهم فقتل جماعةً منهم فقال عند ذلك: حلت ... البيت. قوله: (ولما يُصرفُ عليه)، عطفٌ على "لهُ"، أي: استعظامٌ لما يُصرفُ عليه عباده. وقوله: يُصرف، بضم الياء وفتح الصاد وكسر الراء المشددة. الأساس: صرفه في أعماله وأموره فيتصرفُ فيها، وتصرفت به الأحوال. وليس فيه ولا في "الصحاح": تصرف عليه، ولعله ضمنه معنى العلو والاستيلاء، أي يجبر الخلق على امتثال أوامره والانتهاء من نواهيه تصريفاً كما ترى الملك الغالب النافذ التصرف في رعيته، وهذا لا يوافق مذهبه.

ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي هذا التقدير إيذانٌ في ترتب حكم الإنزال والتصريف في (أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ) على قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) بالفاء، أمراً عظيماً وخطباً جليلاً، فدل وصفُ الباري بالملك على التصريف القوي في الملك والملكوت على مقتضى مشيئته بالأمر والنهي والوضع والرفع والثواب والعقاب، فكان مناسباً لقوله: (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ)، ودل وصفه بالحق على البيان والظهور، وعلى الثبات في الصفات الكاملة، فكان مناسباً لقوله: (أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) أي: بينا بُرهانه ساطعاً نُوره لا يحوم الباطلُ حوله، فأعظم بمنزلٍ ومتصرفٍ منزله الحق ومتصرفه الملك، وفيه أيضاً معنى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، وقوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 16 - 17]، يعني: لا تستعجل بالقرآن خوفاً من أن ينفلت منك؛ لأن المصرف قاهرٌ والمبين محق لابد من إمضاء ما أراده (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك لتحفظه، وإجرائه على لسانك لتدفع الباطل بالحق، وهذه السُّنةُ قائمةٌ في أمتك إلى يوم القيامة (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، فإن له تحت كل كلمة، بل كل حرفٍ من هذا الكتاب العزيز، أسراراً ورموزاً تتحير فيها الأوهامُ، زادنا الله اطلاعاً على أسرار تنزيله والتوفيق للعمل بما فيه بقدر الوُسع والطاقة. قال صاحب "المطلع": الذي بيده الثواب والعقاب فهو يملكهما، والحق الثابت: ذاته وصفاته الكاملة. قوله: (ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد)، قلتُ: قد سبق بأن قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) كالرابطة بين الكلامين، وذلك أنه تعالى لما عظم شأنه في إنزال القرآن العربي وتصريف الوعيد فيه بأن أتى بصيغة العظمة والكبرياء في قوله: (أَنزَلْنَا)، (وَصَرَّفْنَا) امتناناً على حبيبه صلوات الله عليه، وبين أن القصد في الإنزال والتصريف: الترغيب والترهيب، وأراد أن يُرشده إلى حُسن تلقيه لهذا المنزل العظيم الشأن، وأن يترك من عادته من العجلة فيه، وشط بين الكلامين قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، وعطف عليه (وَلا تَعْجَلْ) على تنزيل الإخباري منزلة الإنشائي؛ لأن فيه إنشاء التعجب معنى،

جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)] القيامة: 16 [، وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ: (حتى تقضى إليك وحيه). وقوله تعالى (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) متضمن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حين نُبهت على عظمةِ جلالة المنزل وأُرشدت إلى فخامة المنزل، فعظم جناب الملك الحق المتصرف في المُلك والملكوت وأقبل بشراشرك في تحفظ ألفاظ كتابه وتحقق مبانيه، وإذا وعيت فادعُ الله لاستزادة العلم لتدبر حقائقه ومعانيه، وقد سبق وجه نظمه مع قوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا). قوله: (ريثما يُسمعك)، الأساس: ما ريثك وما بطأ بك؟ وما قعدتُ لفلانٍ إلا ريثما قال كذا، النهاية: وفي الحديث: "فلم يلبث إلا ريثما"، قلت: أي: إلا قدر ذلك، وقد يُستعملُ بغير (ما)، والمعنى: ارفق على نفسك قدر ما يُسمعُك. قوله: (مساوقةً لقراءته)، الأساس: فلانٌ في ساقة العسكر: في آخره، جمعُ سائق، وهو يساوقه، وتساوقت الإبل: تتابعت، وهو يسوق الحديث، النهاية: المساوقة: المتابعة. أن بعضها يسوق بعضا. قوله: (لا تبلغ ما كان منه مجملاً) إلى آخره. هذا منتقض بنزول (مِنْ الْفَجْرِ) بياناً لقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187]، لأنه صلى الله عليه وسلم بُلغه قبل نزول (مِنْ الْفَجْرِ)، وكذا قوله تعالى: (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) [النساء: 95]، نزل بعد تبليغه (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، ولضعف هذا الوجه ذكر لفظ (قبل). قوله: (وقرئ: "حتى نقضي")، قال محيي السنة: قرأ يعقوبُ: "نقضي"، بالنون وفتحها وكسر الضاد وفتح الياء، "وحيهُ" بالنصبِ.

للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أى علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلما. وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه: 115]. يُقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)] طه: 113 [والمعنى: وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عندما عَلِم)، ظرفٌ يتعلقُ بـ"الشكر"، "والشكر لهُ" عطفٌ تفسيريٌ على قوله: "للتواضع لله"؛ لأن التواضع هاهنا عينُ الشكر. كأنه قيل: يا رب إني لا أعلم شيئاً، وإن اتقاري إلى جنابك الأقدس لا يزول، فكما علمتني كيفية ترتيب التعلم، وهو التحفظ بعد التعلم، فلا تقطع هذه النعمة عني في كل ما أنا فيه من الأقوال والفعال. قوله: (أي: علمتني يا رب)، يعني: أدبتني في باب العلم أدباً جميلاً، وهو التأني عند تلقين المعلم ثُم الإقبالُ عليه بالتحفظ، وهذا ما كنتُ أعلمه، فزدني علماً أي: أدبني تأديباً إلى تأديبِ فإن لك في كل شيء حكمة. فقوله: "ما كان عندي" معترضةٌ. قوله: (تقدم الملكُ إلى فُلان)، الراغبُ: قدمتُ إليه بكذا: أمرتهُ قبل وقت الحاجة إلى الفعل. أي: قبل أن يدهمه الأمر أو الناس، وعهد فلانٌ إلى فلان: ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه. قوله: (وأوعز إليه)، الجوهري: أوعزتُ إليه في كذا وكذا، أي: تقدمتُ، وكذلك: وعزتُ إليه توعيزاً، وقد يُخفف. فيقال: وعزتُ إليه وعيزاً. قوله: (عطفَ اللهُ سبحانه وتعالى قصة آدم عليه السلام على قوله: (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ

أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بنى آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْوَعِيدِ))، فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما ذهبت إليه في النظم، وقولك: وضرب حديث آدم مثلاً للنسيان وترك العزيمة، وأنه متصلٌ بقوله: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)؟ قلت: هيهات! ما أشد التئامه بما أسلفناه من أن تصريف الوعيد لأجل اتقاء العذاب، وأن قوله: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) متصلٌ بقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا)، وذلك عليه الوعيد لعلهم يخافون العذاب ويجتنبون عنه، كذلك نهيناك عن التعجيل لتلقي التنزيل متأنياً متدبراً بجد وعزيمةٍ، فكأنا عهدنا إليك بذلك لئلا تقع فيما لا ينبغي، كما نهينا آدم عن أكل الشجرة لئلا يشقى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)، فالضميرُ في قوله: قبل وجودهم لمن قيل في حقهم: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) من قوم محمدٍ صلوات الله عليه، فسبيل حديث العجلة سبيل الاستطراد، وسبيلُ حديث آدم سبيلُ التذييل، وإليه الإشارة بقوله: "إن أساس أمر بني آدم على ذلك". قوله: (فخالف إلى ما نُهي عنهُ)، هو من قوله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هود: 88]، قال المصنف: خالفني فلانٌ إلى كذا: إذا قصده وأنت مولٍّ عنه، وتقولُ: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إيه وارداً وأنت صادرٌ. قوله: (مخالفتهم)، مفعولٌ مطلقٌ، لقوله: "فخالف"، "وتوعد": عطفٌ على "نُهيَ عنهُ". أي: خالف المنهي والمتوعد في قوله: وصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناهُ بالدخول في جملة الظالمين مخالفةً مثل مخالفةِ هؤلاءِ في النهي والوعيد.

وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ: (فنسي)، أى: نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضىّ على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه (لَهُ عَزْماً) وأن يكون نقيض العدم كأنه قال: وعدمنا له عزما. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى) [طه: 116]. (وإِذْ) منصوب بمضمر، أى: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)] الكهف: 50 [، فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب، حتى إن لم يقم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يُعْنَ بالوصية)، أي: لم يعتد بها الاعتداد الصادق، الجوهري: عُنيت بحاجتك، أعني بها عنايةً، وأنا بها معنيٌّ، والأمرُ: لتُعْنَ بحاجتي بضم التاء وسكون العين. قوله: (من الاحتراس)، الجوهري: تحرستُ من فلانٍ واحترستُ منه، أي تحفظتُ منه. قوله: (علية أهلِه)، الجوهري: فلانٌ من علية الناس، وهو جمعُ رجلٍ علي، أي: شريفٍ رفيع، مثل صبي وصبية. قوله: (وسراتهم)، الجوهري: وهو جمعُ السريِّن لا يُعرفُ جمعُ "فعيلٍ" على "فعلةٍ" غيره. الأساس: هو سريٌّ، من السراة ومن أهل السرو، وهو السخاء والمروءة.

عنف. وقيل له: قد قام فلان وفلان، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال (أَبى) جملة مستأنفة، كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدّر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله (فَسَجَدُوا) وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه: 117]. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حوّاء بعد إشراكهما في الخروج، لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة. أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه. (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه: 118 - 119]. قرئ: (وَأَنَّكَ) بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على (أَلَّا تَجُوعَ). فإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك معصوبٌ برأس الرجل)، أي: موكلٌ إليه. الأساس: الأمورُ تعصبُ برأسه. النهاية: سموا السيد المُطاع معصباً؛ لأنه تعصبُ به أمورُ الناس، أي: تُردُّ إليه وترادُ به. قال عتبةُ بن ربيعة: ارجعوا ولا تقاتلوا واعصبوها برأسي، يريد السبة التي تلحقهم بترك الحرب. أي: انسبوها إلي وإن كانت ذميمةً. قوله: (قرئ: (وَأَنَّكَ) بالكسر والفتح)، بالكسر: ابنُ كثير، وبالفتح: الباقون،

قلت: "إن" لا تدخل على"أن" فلا يُقال: إن أن زيداً منطلق، والواو نائبة عن "إنّ" وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبداً نابة عن "إنْ"، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا ًموضوعاً للتحقيق خاصة كـ"إن" لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن. الشبع والرىّ والكسوة والكنّ: هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج إذا كُسرت فعلى الاستئناف وعطفِ جملةٍ على جملة، وإذا فُتحت فعلى معنى أن لك أن لا تظمأ فتنسقَ بأنك على قوله: (أَلاَّ تَجُوعَ) ويكونُ (أَنَّكَ) في موضع نصب. ويجوزُ أن يكون ف موضع رفع والعطفُ على محل إن واسمها. لأن معنى إن زيداً قائم: زيدٌ قائمٌ، فالمعنى: وذلك أنك لا تظمأ، وقال أبو البقاء: وجاز أن تقع "أن" المفتوحة معمولة لـ"إن" لما فُصلَ بينهما، التقديرُ: إن لك الشبع والري، وقيل: يجوز: إن عندنا أن زيداً منطلق. قوله: (الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن "إنّ" إنما هي نائبة عن كل عامل)، قال صاحبُ "التقريب": يريدُ أن الواو تنوبُ عن كل عامل، ولم توضع للتحقيق خاصةً، والممتنعُ تلاقي حرفين موضوعين للتحقيق: وقلتُ: يعني أن الواو نابت مناب "إنّ"، لكن بالنظر إليها واعتبار وضعها ليست نصاً في التحقيق مثل "إنّ"، فلا يُهملُ وضعُها الحقيقيُّ. وقال القاضي: حرفث العطف وإن ناب عن "إنّ"، لكنهُ نابَ من حيث إنهُ عاملٌن لا من حيث إنه حرفُ تحقيق. وقيل: الواوُ وإن كانت نائبةً إلا أنها ليست في قوة المنوب عنه، فلذلك عومل معها ما لا يُعاملُ معه، كقولك: ليس زيدٌ قائماً ولا قاعداً، ولا يجوزُ أن تقول: ليس لا قاعداً قوله: (الشبعُ والريُّ والكسوةُ والكِنّ)، أُوردَ على خلاف ما عليه ترتيبُ الآية ليشيرَ

فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى أنه من باب التتميم والاستيعاب، يعني كان من الظاهر أن يُضم الشبعُ والريُّ في قرنٍ واحد، و"الكسوةُ والكِنُّ" في آخر، فخولفَ لينبه على أن المذكور هي الأقطابُ التي يدورُ عليها الكفافُ، يعني إنما ضم الشبع واللبس ليؤذن بعدم استغناء الإنسان عنهما، وأنهما من أصولِ النعم، وجمع الاستلال والري ليُشير إلى أنهما تابعان لهُما ومُكملانِ لمنافعهما، وهذا أدخل في الامتنان من الظاهر، لما في تقديم أصول النعم وجلائلها، وإرداف توابعها ولواحقها: الإعلام باستجلابها لسائر ما يُفتقرُ إليها في الكفاف، كما سبق في تقديم (الرحمن) على (الرحيم). وينصرُ هذا التأويل اختلاف العبارتين في الفقرتين، وهو: (إِنَّ لَكَ) و (وَانُكُ) و (أَلاَّ) و (لاَ)، فدلت الأولى على استقرار الإكرام وثبوت الاحترام بتقدير متعلقِ الخبر، وإتيانِ اللام، وكذا في تنسيق المذكورات الأربعة مرتبةً هكذا مُقدماً ما هو الأهمُّ فالأهمّ، ثم في جعلها تفصيلاً لمضمون قوله: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وتكرير لفظةِ (فيها)، وإخراجها في صيغة النفي مُكررةَ الأداء، الإيماءُ إلى التعريض بأحوالِ الدنيا، وأنه لابد من مقاساتها فيها، لأنها خُلقت لذلك، وأن الجنةَ ما خُلقت إلا للتنعيم ولا يتصور فيها غيره، وما ذكره من تصوير ما يُنفر السامع ويحذره حتى يُتحامى بعضٌ من ذلك. قوله: (استجماعها)، وفي بعض النسخ: "اجتماعها"، هو ثاني مفعولي "ذَكَّرَ"، أي: ذكر اللهُ تعالى آدم استجماع هذه الأشياء له في الجنة، أي: اجتماعها. المُغرب: استجمعت للمرء أموره: اجتمع له ما يحبه. وهو لازمٌ، وقولهم: استجمع الفرس جرياً. نصبٌ على التمييز، وأما قول الفقهاء: مستجمعاً شرائط الجمعة، فليس بثَبْت. واللامُ في لنقائضها لضعفِ عملِ النفي بسبب التعريفِ أو الفرعية.

كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها. (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه: 120]. فإن قلت: كيف عدى "وسوس" تارة باللام في قوله (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ)] الأعراف: 20 [، وأخرى ب (إلى) قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى «1» ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه: وسوس المبرسم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف عدى "وسوسَ"؟ )، سؤالٌ عن موقع استعماله مع حرفِ الجرِّ، ووجهِ صحته وتحقيق وضعه، قال الجوهري: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ) يريدُ: إليهما، ولكن العرب تُوصلُ بهذه الحروف كلها الفعل. وأجاب: أن "وسوس" مأخوذٌ من الوسوسة، وهي: حكايةُ صوتٍ وحكمها حم "صوت"، وكذا وكذا، وهو فعلٌ لازمٌ، فإذا عُدي باللام كان لبيان الموسوس له كما في قوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23]، وقوله: أجرس لها، واللامُ من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان، وإذا عُدي بـ"إلى" ضُمنَ معنى الإنهاء. المُغرب: الوسوسة: الصوتُ الخفي. يقال: وسوس الرجلُ بلفظ ما سُمي فاعله: إذا تكلم بكلام خفي يكرره، وهو فعلٌ لازمٌ، كولولت المرأة، ووعوع الذئب، ورجلٌ موسوسٌ بالكسر، ولا يقال بالفتح، ولكن موسوسٌ إليه أو له، أي: تُلقى إليه الوسوسةٌ، وقال أبو الليث: الوسوسةُ: حديثُ النفس، وإنما قيل: موسوس لأنه يحدثُ بما في ضميره. قوله: (وسوس المُبَرْسَمُ)، المُغرب: بُرْسِمَ الرجل، على ما لا يسم فاعله، فهو مبرسمٌ

وهو موسوس بالكسر. والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى: وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق فإذا قلت: وسوس له، فمعناه لأجله، كقوله: أجرس لها يا ابن أبي كباش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بفتح السين: إذا أخذه البرسامُ، بالكسر، وفي "التهذيب": بالفتح، وهو معربٌ، عن ابن دُريد، وفي "الأسباب والعلامات": هو ورمٌ يحدثُ في الحجاب المعترض بين الكبد والمعدة، فيزولُ العقلُ لاتصالِ هذا الحجاب بحجُبِ الدماغ. قوله: (وهو موسوسٌ بالكسر، والفتحُ لحن)، قال الحريري في "دُرةِ الغواص": يقولون: باقلاء مُدود، وطعامٌ مسوس، ورجلٌ موسوس، وخبزٌ مُكَرَّجن ومتاعٌ مقارب، يفتحون ما قبل الحرف الأخير من كل كلمة، والصوابُ كسره. ويقالُ في الفعل من المدود: قد داد، وأداد، ودود، وديد. قوله: (وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق)، تمامُه: سراً وقد أون تأوين العقق ... في الزرب لو يمضغ شريا ما بصق أون البعيرُ: إذا عظُم بطنه من شُرب الماء. والعقق: جمعُ عقوق، وهي الحاملُ. وسوس: صوتُ حكايةً للصوت؛ لأن رؤبة يصفُ قانصاً يُخفي شخصه ويخفتُ صوته حتى إنه لو مضغ حنظلاً ما بصق خوفاً من أن يُحسه الصيدُ فينفر. الأساس: ومن المجاز: الصائد في زربه وزريبته وهي قترته، شُبهت بزرب البُهم. قوله: (أجرس لها يا ابن أبي كباش)، تمامه في "المطلع":

ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة، كقولك. حدّث إليه. وأسرّ إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه، كما قيل لحيزوم: فرس الحياة، لأنّ من باشر أثره حيي (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضى الله عنهم: (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)] الأعراف: 20 [بالكسر. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه: 121] «طفق يفعل كذا» مثل: جعل يفعل، وأخذ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر. وكاد لمشارفته والدنوّ منه. قرئ (يَخْصِفانِ) للتكثير والتكرير، من خصف النعل وهو أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما لها الليلة من إنفاش أجرس لها، أي: أحدُ للإبل لتسمع الحُداء فتسير، وهو مأخوذٌ من الجرس وهو الصوتُ، وجرس الطيرُ: صوتتْ بمناقيرها على شيء تأكله، قوله: "لها"، أي: لأجلها، الإنفاشُ: من: أنفش الغنم: إذا تركها ترعى ليلاً بلا راعٍ، أي: سر بها ولاتتركها الليلة لترعى. قوله: ((وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) دليلٌ على قراءة الحسن ... : "إلا أن تكونا ملكين" بالكسر) في الأعراف؛ لأن المُلك غيرُ مطابق للملكين بالفتح، وقلتُ: يجوزُ أن يطابقه من حيث انضمام (لا يَبْلَى) مع الملك؛ لأنه حينئذ كنايةٌ عن الخلود، فهو بمنزلة (أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ) هناك.

يخرز عليها الخصاف، أى: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس: لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، فكان غيا لا محالة، لأنّ الغى خلاف الرشد، ولكن قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات: فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن تجسروا على التورّط في الكبائر. وعن بعضهم (فَغَوى) فبشم «1» من كثرة الأكل، وهذا - وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في «فنى، وبقي»: «فنا، وبقا» وهم بنو طىّ - تفسير خبيث. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان لباسهما الظُّفر)، النهاية: أي: شيءٌ يشبه الظفر في بياضه وصفائه وكثافته. قوله: (فيه لطفٌ للمُكلفين ومزجرةٌ بليغة)، خبرُ "لكن"، أي: لكن قوله كيت وذيت فيه لطف، يعني: كان من الظاهر أن يُقال في حقه: زل وأخطأ، فجعلهُ عاصياً ثم أوقع الغي مسبباً عنه للتغليظ، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، يدُلُّ عليه قوله بهذه الغلظة. قوله: (فَبشِم)، الجوهري: البشمُ: التخمة، يقال: بشمتُ من الطعام، وبشم الفصيلُ من كثرةِ شُربِ اللبَن.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه: 122]. فإن قلت: ما معنى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) قلت: ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه، من جبى إلىّ كذا فاجتبيته. ونظيره: جليت علىّ العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل (وَإِذا لَمْ تَاتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها) أى هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون: اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. و (وهَدى) أى وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) [طه: 123]. لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا: جعلا كأنهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) على لفظ الجماعة ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جُبي إليّ كذا فاجتبيتُه)، من قولك: اجتبى الشيء بمعنى جباهُ لنفسه، أي: جمعه، فقوله: هلا جُبيت إليك فأجتبيتها؟ معناه: هلا جُمعت إليك فاجتمعتها افتعالاً من عند نسك؟ فإنهم كانوا يقولون: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ) [الفرقان: 4]. قوله: (جُليت عليَّ العروسُ فاجتليتُها)، أي: نظرتُ إليها مجلوةً. قوله: ((وَهُدًى) أي: وقفه لحفظ التوبة)، فسر الهداية المطلقة لاقترانها بالتوبة بما يناسبها تتميماً، فعلى هذا ينبغي أن يفسر الغواية في قوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) بما يناسب العصيان من متابعة هو النفس بتسويل الشيطان، لا بالغواية الحقيقية، كقول إخوة يوسف: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف: 8]. قوله: (ونظيره: إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب)، نحو: بنى الأميرُ المدينة، وكسى الخليفةُ الكعبة، يعني: خوطب آدمُ وحواءُ بقوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)

(هُدىً) كتاب وشريعة. وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه حالٌ من الضمير في (اهْبِطَا)، أي: متعادين، عقب بقوله: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) على لفظ الجماعة، ولم تحصل منهما العداوة ولا كانا تابعين لأحدٍ من الأنبياء، لكن لما كانا سببي البشري ومنهما نشؤوا، جُعلا كأنهما البشرُ فخوطبا مخاطبتهم، وفي عكسه خطابُ اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بنحو قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ) [البقرة: 155]. قوله: (وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)، ونحوه في "المعالم" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعن الشعبي، عن ابن عباس. وقلتُ: هذا إشارة إلى الترجيع الذي بُنيت هذه السورة الكريمة عليه كما سبق، وإلا فلم خصه بالقرآن هاهنا وتركه في البقرة على العموم والقصة القصةُ؟ حيث قال: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) [البقرة: 38] برسولٍ أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، بدليل قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) [البقرة: 39] في مقابلة قوله: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)، روينا عن أبي داود عن سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم"، وزاد رزين: واقرؤوا إن شئتم: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، وإنما خص خير الأمة بأنها لا تضل بالدنيا ولا تشقى بالآخرة؛ لأن قصة آدم عليه السلام كانت مصدرةً بقوله: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) ومختتمة بقوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121]، وأنهما

والمعنى أنّ الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه: 124 - 126]. الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ (ضَنْكاً) على (فعلى). ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافغا كما قال عز وجل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقابلان لقوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124]. قوله: (الضنك: مصدر)، الراغب: (ضَنكاً) أي: ضيقاً، وقد ضنُكَ عيشه، وامرأةٌ ضناكُ: مكتنزةٌ. والضناك: الزكامُ، والمضنوك: المزكوم. قوله: (أن مع الدين التسليم)، تأويل المعنى قوله: (ذِكْرَى) [طه: 124] المرادُ به القرآن؛ لأن الدين منه، ويؤيده قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة: 66]. قوله: (فيعيش عيشاً رافعاً)، الجوهري: الرفعُ: السعةُ والخصبُ، يقالُ: رفع عيشه- بالضم- رفاعةً: اتسع فهو عيشٌ رافعٌ ورفيع، أي: واسعٌ طيب. الراغب: العيشُ: الحياةُ المختصةُ بالحيوان، وهو أخص من الحياة؛ لأن الحياة تقالُ في الحيوان، وفي البارئ وفي الملك، وتشتق منه المعيشة لما يُتعيشُ منه؛ قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزخرف: 32]، وقال في أهل الجنة: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [القارعة: 7]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيشُ الآخرة".

(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره: قال الله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ)] البقرة: 61 [، وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)] المائدة: 66 [وقال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)] الأعراف: 96 [، وقال (فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)] نوح: 11 - 12 [وقال (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)] الجن: 16 [، وعن الحسن: هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري: عذاب القبر. وقرئ (وَنَحْشُرُهُ) بالجزم عطفا على محل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسنِ: هو الضريع)، عطفٌ على قوله: "إن مع الدين التسليم والقناعة" إلى آخره من حيث المعنى، يعني: معنى (مَعِيشَةً ضَنكاً): إما ما يلقاه المعرضُ في الدنيا من الضيق في العيش بسبب الحرص وجمع المال أو الذلة والمسكنة أو قلة الرزق أو الابتلاء بالجدب والقحط، وغما ما يلقاه في الآخرة من أكل الزقوم والضريع، وقال الله: (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) [إبراهيم: 17]، فتلخيصه: المعرضُ عن الدين شأنه في الدنيا كيت وكيت، وعيشه ضنك، وعن الحسن: المُعرِضُ عن الدين شأنه في الآخرة أكلُ الضريع والزقوم، يشهدُ للقول الأول رعاية التقابل، فإن قوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) مقابلٌ لقوله: (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) كما سبق.

لأنه جواب الشرط. وقرئ: (ونحشره)، بسكون الهاء على لفظ الوقف، وهذا مثل قوله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا)] الإسراء: 97 [وكما فسر الزرق بالعمى (كَذلِكَ) أى مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر، وتركتها وعميت عنها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا مثل قولهم)، (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً) [الإسراء: 97]؛ لأنه من أعمى البصر. وقيل: أعمى عن الحجة لقوله: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا)، والوجه هو الأول لقوله: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً). قوله: (وكما فُسر الزرقُ بالعمى)، يعني: في قوله تعالى: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه: 102]، قال: العمى؛ لأن حدقة من يذهب بنور بصره تزراق. قوله: (ثم فُسر بأن آياتنا أتتك)، يعني: لما قال القائل: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً) وأجيب بقوله: (كَذَلِكَ) والمشار إليه السابق، أي: كما أنا حشرناك أعمى وكنت بصيراً، مثل ذلك فعلتَ أنت، قال: ما فعلتُ يا ربِّ؟ فقيل: أتتك آياتنا واضحة مستنيرةً، وأنت بصيرٌ صحيحٌ، فعميت عنها. فلما وضع في التنزيل موضع فعميت عنها: فنسيت وضعاً للمسبب موضع السبب؛ لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه، رتب عليه: (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، ولذلك بدل المصنفُ الواو بالفاء. وأما معنى (َكَذَلِكَ) الثالث فالتذييلُ والتقرير، ولذلك عم المعنى بقوله: (مَنْ أَسْرَفَ) فالمشبهُ في التشبيه الأول فعلُهم، وهو عماهم عن الآيات، والمشبه به حشرهم أعمى، وفي التشبيه الثاني المشبه: فعلُ الحق وهو تركه إياهم على عماهم، والمشبه به: تركهم آيات الله، وفي التشبيه الثالث المشبه به: الجزاء الخاص والمشبه الجزاء العام. قوله: (أتتك واضحةً مستنيرةً). هذا إذا فسر الآيات بالدلائل الظاهرة والمعجزات

فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك. (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه: 127]. لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة - ختم آيات الوعيد بقوله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) كأنه قال: وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضى. أو أراد: ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه: 128]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الباهرة، ويجوزُ أن تُحمل الآياتُ على آي القرآن، وإتيانُها حفظُها وتعاهدها ليلاً ونهاراً، وقضية النظم يساعدُ؛ فإن قوله تعالى: (فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) [البقرة: 38]، دالٌّ عليه، لما أن المراد باهلدى، رسول يبعثه، وكتابٌ ينزله كما مر في أول البقرة؛ فقوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)، معطوفٌ على قوله: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ)، وهو جوابٌ للشرط، فيكون المعنى: ومن أعرض عن هداي، ومن الهُدى الكتابُ المنزل. والإعراضُ عنه: غما بأن لا يقبل رأساً، أو لا يُعمل بهن أو يحفظُ ولا يتعاهدُ فينسى، فيقالُ له: أتتك آياتنا، أي حفظتها ثم نسيتها، وكذلك اليوم تترك من لطفنا ورمتنا، ويؤيده ما روينا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرضت عليَّ أجورُ أمتي، حتى القذاةُ يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت ذنوبُ أمتي، فلم أر ذنباً أعم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجلٌ ثم نسيها". رواه الترمذي، وأبو داود. قوله: (لما توعد المعرض)، يريد: أن قوله: (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ) إما مؤكدٌ لمعنى قوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ومبينٌ لما قصد به، أو لقوله: (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى).

فاعل (لمْ يَهْدِ) الجملة بعده يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)] الصافات: 79 - 80 [، أى تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون. وقرئ (يَمْشُونَ) يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون (فِي مَساكِنِهِمْ) ويعاينون آثار هلاكهم. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه: 129]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفاعلُ (أَفَلَمْ يَهْدِ) الجملة)، قال صاحبُ "الكشف": فاعلُ (يَهْدِ) مضمرٌ، والمعنى: أفلم يتبين لهم إهلاكنا؟ ولا يكونُ كم في (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ) فاعلاً ولا مفعولاً؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولكنه منصوبٌ بـ (أَهْلَكْنَا)، فهو مفعولٌ مقدم، أي: وكثيراً من القرى أهلكنا، وإذا كان الضمير في (يَهْدِ) لله أو للرسول، فـ (كَمْ أَهْلَكْنَا) لجملة في تأويل المفعول. قال المصنف في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) [الأعراف: 100]، إنما عُدي فعل الهداية باللام؛ لأنه بمعنى التبيين. فإذا قرئ بالنون كان المعنى: أولم يهد لهم هذا الشأن؟ كذلك المعنى: أولم يتبين لقريش هذا الشأن، وهو إهلاكنا كثيراً من القرى الخالية والحالُ أنهم يمشون في مساكنهم، والبيان مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الروم: 9]. في "اللباب": قال الكوفيون: فاعله: (كَمْ أَهْلَكْنَا)، وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً، وقالوا: فاعله مضمرٌ يفسره (كَمْ أَهْلَكْنَا) والباء في قول المصنف بمعناه، مثله: كتبتُ بالقلم، أي: فاعلُ (أَوَلَمْ يَهْدِ) هذا بواسطة مضمونه.

الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر (لازَمَ) وصف به، وإما فعال بمعنى (مفعل)، أى ملزم، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه، كما قالوا: لزاز خصم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لا يخلو من أن يكون معطوفا على (كَلِمَةٌ) أو على الضمير في (كَانَ) أى لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) [طه: 130]. (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال، أى: وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلا، والأوقات على الفعل آخرا، فكأنه قال: صل لله قبل طلوع الشمس يعنى الفجر، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي العدةُ بتأخير جزائهم إلى الآخرة)، قال القاضي: أي: تأخير عذاب هذه الأمة. قوله: (لزأزُ خصم)، أي: مُلِحٌّ. الأساس: هذا لزازُ الباب؛ لنجافه الذي يُلز به، وإنهُ لزازٌ خصمٌ، ولزاز مالٍ: مصلحٌ له، والنجافُ: العتبةُ. قوله: (من أن يكون معطوفاً على (كَلِمَةُ)، قال صاحب "الكشف": التقدير: لولا كلمةٌ سبقت من ربك لكان لزاماً وأجلٌ مسمى لكان العذابُ لازماً لهم، فصل بين المعطوف والمعطوفِ عليه بـ"كان" واسمها وخبرها.

وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال الله عز وجل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا)] المزمل: 6 [، وقال (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً)] الزمر: 9 [، ولأنّ الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار، إرادة الاختصاص، كما اختصت في قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)] البقرة: 238 [عند بعض المفسرين. فإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتعمد آناء الليل)، قال صاحب "المطلع": أي: بعض ساعات الليل، واحدها: أني، مثل: رحى، وإني: كمعي، وإني: كنحي. قوله: (مختصاً لهما بصلاتك)، اعتبر في تقديم الظرف الاختصاص، وقدر "تعمدْ" لقرب معناهُ من قوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40] أي: إياي ارهبوا فارهبون، وأريد بالاختصاص: الاهتمام؛ لأنه ليس المراد: خصص هذين الوقتين بالصلاة دون غيرهما، ويجوز أن يراد الاختصاص، أي: تعمد هذين الوقتين بالفضل وخصص فضيلتهما على سائر الأوقات. قوله: (وهدوء الرجل)، الجوهري: أتانا فلانٌ هدوءاً، أي: بعد نومه، وبعدما هدأ الناس، أي: ناموا، والرواية: "هدو الزجل" بالزاي والجيم المفتوحة: الصوت. قوله: (عند بعض المفسرين)، وهو مجاهدٌ، لقوله في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [البقرة: 238]: الوسطى هي الفجر؛ لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وبيان التشبيه هو أن (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) تناول صلاة الفجر والظهر والعصر، و (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ): صلاة العتمة، ثم جيء بقوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) فعُلِمَ

قلت: ما وجه قوله (وَأَطْرافَ النَّهارِ) على الجمع، وإنما هما طرفان كما قال (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)] هود: 114 [؟ قلت: الوجه أمن الإلباس، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين: مجيئهما في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه صلاةُ المغرب وصلاةُ الفجر، على أن صلاة الفجر كررتْ على تلك الوتيرة، أي: على عطفِ الخاص على العام، فقوله: "على التكرار" متعلقٌ بصلاة الفجر بدليل قوله: "كما اختصت" أي: صلاةُ الفجر، لا صلاةُ المغرب والفجر كما ظن. قوله: (مجيء الأمرين)، أي: التثنية والجمع. قوله: (ظهراهما مثل ظهور الترسين)، قبله: ومهمهين فدفدين مرتين وبعده: جبتهما بالنعت لا بالنعتين المهمه: المفازة البعيدة، والرتُ، بسكون الراء: مفازةٌ لا نبت فيها ولا ماء، والفدفدُ: الأرض المستوية. والواوُ بمعنى رُبَّ وجوابُها: جُبتهُما، وظهراهُما: صُلباهما؛ لأن ظهرَ التُّرسِ يأتي بالنعتِ بالفرس، فرس نعتٌ: متناهٍ في الجري؛ لأن النعت: وصفُكَ الشيء بما فيه من الحُسن، هكذا ذكر الخليلُ، وكل شيءٍ جيدٍ بالغٍ فيه فهو نعتٌ. وقيل: المرادُ قطعُها ولم ُنعت لي إلا مرةً واحدةً يصفُ نفسه بالفطانة الخبرة بسلوك المفاوز. وقيل: إنما قال: ظهورُ الترسين، كراهة الجمع بين التثنيتين أحداهما في المضاف وثانيتهما في المضاف إليه، كقوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4].

وقرئ: (وأطراف النهار)، عطفا على (آناء الليل)، و (لعل) للمخاطب، أى: اذكر الله في هذه الأوقات، طمعا ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ: (ترضى)، أى يرضيك ربك. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه: 131]. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى نظر عينيك، ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، وتمنيا أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)] القصص: 79 [، حتى واجههم أو لو العلم والإيمان ب (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)] القصص: 80 [وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولعل للمخاطب)، أي: الترجي راجعٌ إلى المخاطب، كما أن الشك في قوله تعالى: (أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] راجعٌ إلى المخاطب لا إلى المتكلم سبحانه وتعالى. قوله: (وقرئ: "تُرْضَى")، بضم التاء: الكسائي. الراغبُ: رضي يرضى رضاً فهو مرضي ومرضُوٌّ، ورضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو: أن يراه مؤتمراً لأمره ومنتهياً عن نهيه، قال الله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة: 8]. قوله: (باده الشيء)، بادهه: فاجأه، والاسم البداهة والبديهة

من أبصر منها شيئا أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه: قيل (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على (مِنْهُمْ) كأنه قال: إلى الذي متعنا به -وهو أصناف- بعضهم وناسا منهم. فإن قلت: علام انتصب (زَهْرَةَ)؟ قلت: على أحد أربعة أوجه: على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين (مَتَّعْنا) معنى أعطينا وخوّلنا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أَزْوَاجاً مِنْهُمْ): أصنافاً من الكفرة)، الراغبُ: الزوجُ يقال لكل من القرينتين من الذكر والأنثى، في الحيوانات المتزاوجة وفي غيرها، كالخُف والنعل، ولكل ما يقترنُ بآخر مماثلاً له أو مضادا. قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22]. أي: أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم. وقال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) [طه: 131] أي: أشباهاً وأقراناً. قوله: (ويجوزُ أن ينتصب حالاً من هاء الضمير)، أي: في (بهِ)، وتقديره: وهو أصنافٌ. وقوله: (منهم) على هذا: مفعولٌ به، والعاملُ (مَتَّعْنَا)، و"مِن": للتبعيض، و"ناسا" في الكتاب تفسيرٌ لقوله: بعضهم، المعنى: لاتمدن عينيك إلى أصناف الزخارف التي متعنا بها بعضاً من الكفرة كالملابس الفاخرة والمناكح المؤنقة والمراكب الفائقة والروائح الطيبة، وعلى الأول كان الفعلُ واقعاً على (أَزْوَاجاً) و (مِنْهُمْ): صفةٌ، و"مِن": بيانٌ، أي: لا تُمدنَّ عينيكَ إلى الزخارف التي متعنا بها أصنافاً من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، قال صاحب "التقريب": (مِنْهُمْ) هو المفعولُ به. قوله: (وعلى تضمين (مَتَّعْنَا) معنى أعطينا وخولنا)، أي: ملكنا، قال صاحبُ

وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "التقريب": فالباء في (بهِ) على هذا: للآلة، أي: إلى المال الذي أعطينا بسببه الكُفار (زَهْرَةَ)، إذ لو كان صلة (مَتَّعْنَا) لزم أن يكون له ثلاثةُ مفاعيل. وقال ابن الحاجب في "الأمالي": الأظهر أن تكون (زَهْرَةَ) منصوباً بفعل مضمرٍ دل عليه الكلام أي: جعلنا لهم أزواجاً، أو آتيناهم؛ لأنه إذا متعهم بها جعلها لهم وآتاها إياهم، وهذا قولُ الزجاج. وقال ابن الحاجب: ويجوزُ أن يكون الفعلُ المقدر: قولنا، أعني: بياناً لـ (مَا) أو للضمير في (به) أو لـ (أَزْوَاجاً) وهو الذي يُسمى نصباً على الاختصاص، وان يكون بدلاً من (أَزْوَاجاً) على حذف المضاف، أي: أهل زهرة الدنيا بدل الكل من الكل على المبالغة، كأنه جعلهم الزهرة على الحقيقة، وجعلهُ بدلاً من (به) ضعيفٌ؛ لأنه لا يقالُ: مررتُ بزيدٍ أخاك، ولأن الإبدال من الضمير العائد إلى الموصول يجعله من باب قولك: زيدٌ رأيتُ غلامه رجلاً صالحاً. وفي جوازها قولانِ، وكذا عند صاحب "التقريب". قوله: (وعلى إبداله من محل الجار والمجرور)، هذا اختيار صاحب "الكشف"، قال: هو عندي بدلٌ من موضع "ما" في قوله: (إِلَى مَا مَتَّعْنَا)؛ لأن موضع الجار والمجرور نصبٌ، كقوله تعالى: (دِيناً قِيَماً) [الأنعام: 161]، وقوله: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) بعد قوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقوله تعالى: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). وقلتُ: أما وجه النصب على الاختصاص والذم فيقتضي تحقير شأنها وازدراء حالها، كقوله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ) [العنكبوت: 64] والمقامُ يأباه؛ لأن المعنى

(أزواجا)، على تقدير ذوى زهرة. فإن قلت: ما معنى الزهرة فيمن حرّك؟ قلت: معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ: (أرنا الله جهرة)] النساء: 153 [. وأن تكون جمع زاهر، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون، وتهلل وجوههم وبهاء زيهم وشارتهم، بخلاف ما عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن النفوس مجبولةٌ على النزوع إليها راغبة فيها حق رغبتها حتى لا تكاد ترغبُ عنها نفوسُ الأنبياء، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مد العينين إليها، ويعضده ما رويناه عن البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا"، قالوا: وما زهرةُ الدنيا يا رسول الله؟ قال: "بركاتُ الأرض". وعن مسلم والنسائي عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون". ولتوافقه التعليل في قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، ولاستشعار الخوف بسبب زخرفها وزينتها وبهجتها، ويجوز أن تكون (زَهْرَةَ) بدلاً من (أَزْوَاجاً) على تقدير أن تكون حالاً من هاء الضمير، فلا يحتاج إلى تقدير ذوي. قوله: (كما جاء في الجهرة: الجهرةُ)، وهي إما: مصدرٌ كالغلبة، وإما جمعُ جاهر، قرأ يعقوب: زهرة، بفتح الهاء، والباقون: بسكونها. قوله: (وتهلل وجوههم)، الجوهري: تهلل السحاب ببرقه: تلألأ، وتهلل وجه الرجل من فرحه واستهل. قوله: (وشارتهم)، الشارة: اللباس والهيئة.

المؤمنون والصلحاء: من شحوب الألوان والتقشف في الثياب (لِنَفْتِنَهُمْ) لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه (وَرِزْقُ رَبِّكَ) هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال (خَيْرٌ وَأَبْقى) لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى رزقا أصلا. وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودى وقال: «قل له يقول لك رسول الله أقرضنى إلى رجب» فقال: والله لا أقرضته إلا برهن، فقال رسول الله «إنى لأمين في السماء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتقشف)، الجوهري: والتقشفُ: أن يتبلغ بالقوت والمرقع. قوله: (هو خيرٌ منه)، أي: مما متع به الكافر في نفسه؛ لأنه الخيرُ المحضُ الذي لا يشوبه مما يُكدرهُ في نسه، ولا يلحقه ما يفنيه. قوله: (أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوة)، هذا الوجهُ أوفقُ لتأليف النظم على ما سبق، وعليه ينطبق قوله: (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي: دينُ الإسلام والنبوة من الكتاب والسنة خيرٌ فاشتغل بذلك وتمسك بالحبل المتين، (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)؛ لأن الذي بُعثتَ لأجله هؤلاء الخصال، لا لتكون تاجراً كسُوباً أو حريصاً بجمع الدنيا، فلا تهتم بأمر رزقك فن رزقك مكفيٌّ عندنا، ونحن رازقوك، ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، ففرغ بالك في التبليغ والإنذار والاشتغال بالعبادة والأمر بالمعروف لأهلك وأمتك، والعاقبة -أي: الجنةُ - لأهل التقوى، ولمن اتقى حُطام الدنيا وزينتها، كما جاء عن خير البرية: "ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا". قوله: (لا أقرضته)، قيل: هو على سبيل الدعاء، كأنه قال: لا كان إقراضي إياه إلا برهن، كما تقول: لا رحمك الله، وأوجه من هذا أن يكون حاكياً لما يقوله بعد إقراضه برهن للمبالغة، هذا الوجه منقول من خطه.

وإنى لأمين في الأرض، احمل إليه درعي الحديد» فنزلت: (ولا تمدّنّ عينيك). (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه: 132]. (وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أى وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإنّ رزقك مكفىّ من عندنا، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرّغ بالك لأمر الآخرة. وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله. وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية. (وَقالُوا لَوْلا يَاتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَ لَمْ تَاتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه: 133]. اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوّة، فقيل لهم: أو لم تأتكم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعنى القرآن، من قبل أنّ القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كان الله في عمله)، قيل: كان ملائكة الله الموكلون بكفاية الأعمال في تحقيق عمله. قوله: (خصاصة)، النهاية: الخصاصة: الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء. قوله: (أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة)، قال القاضي: لأن القرآن مشتمل على زُبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكُلية، مع أن الآتي به أميٌّ لم يرها ولم يتعلم ممن

شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. وقرئ: (الصحف). بالتخفيف. ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه: 134] قرئ (نَذِلَّ وَنَخْزى) على لفظ ما لم يسم فاعله. (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) [طه: 135]. (كُلٌّ) أى كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم. وقرئ: (السواء)، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علمها، وفيه إشعارٌ بأن القرآن، كما يدلُّ على نبوته، برهانٌ لما تقدمه من الكتب، من حيثُ إنه مصداقٌ لها وهو معجزٌّ وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهدُ على صحتها. قوله: (ذكر الضمير)، أي: في قوله: (مِنْ قَبْلِهِ)، والظاهر أنه راجعٌ إلى معنى (تَاتِيهِمْ)، أي: قبل مجيء البينة ويؤيده قوله: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) لأن مجيء هذه البينة لا يكون إلا مع إرسال الرسول. قوله: (كل واحدٍ منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) للعاقبة وما يؤول إليه أمره)، فيه معنى المتاركة وأن الإنذار والتذكير بلغ غايته. كقوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 89]. اعلم أن هذه خاتمةٌ شريفةٌ ناظرةٌ إلى الفاتحة، وهي قوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه: 2 - 3]، فإنه تعالى لما أمر حبيبه صلوات الله عليه

والسوي تصغير السوء. وقرئ: (فتمتعوا فسوف تعلمون). قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة (طه) أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار» وقال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا (طه) و (يس)» , ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالإعراض عن الكفار وعما أوتوا من زهرة الدنيا والإقبال بكليته إلى دين الحق والاشتغال بالعبادة والصبر عليها وبأمر أهله، أي: أمته به رمز إلى ما بُدئ به، أي: اشتغل بالعبادة على مقدار طاقتك وصبرك، وأمُر من ينجعُ فيه تذكيرك ووعظُك. وأما هؤلاء المعاندون الذين ما توانيت في إنذارهم، وألزمت الحجة عليهم، وظهر إفحامهم حيث اقترحوا الآيات (وَقَالُوا لَوْلا يَاتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وأنت قد أتيت بأم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز، يعني: القرآن، فأعرض عنهم واتركهم؛ لأن التذكير إنما ينفع فيمن يخشى، وأوعدهم بقولك: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى) [طه: 135]. والحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على خير أنبيائه تمت بحمد الله وحسن توفيقه

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومئة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 1]. هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة ل (اَقَتَرَبَ)، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأنبياء مكية، وهي مئة واثنتا عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم)، الأصل: اقترب حسابُ الناس، كقوله: أزف رحيلُ الحي. ثم اقترب للناس الحساب، كقوله: أزف للحي الرحيلُ، فقدم المضاف إليه، وعرفا لناس تعريف جنس: ليفيد ضرباً من الإبهام والتبيين، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف؛ لأنه ليس صلة (اقْتَرَبَ) فصار مثل: حسابٌ للناس الحساب، فحذف المفسر

كقولك: «أزف للحي رحيلهم» الأصل: أزف رحيل الحىّ، ثم أزف للحىّ الرحيل، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبا لك: لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأوّل. والمراد اقتراب الساعة. (وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب) والعقاب وغير ذلك. ونحوه (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) [الأنبياء: 97] .. فإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لدلالة المفسرِ عليه. ولما كان الحسابُ لا يتعداهم جيء بضمير الناس ليعود إليهم فيحصل تأيدٌ آخرُ نحو: أزف للحي رحيلهم، فعلى هذا: فيك زيدٌ راغبٌ فيك. الأصلُ: زيدٌ راغبٌ في، ثم قدم "فيك" فصار معمولاً لمقدرٍ لإعادة "فيك"، وإليه الإشارةُ بقوله: "وهذا الوجه أغربُ". وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون التقدير: اقترب لمجازات الناس حسابهم، فيكون (لِلنَّاسِ) مفعولاً له، كقولك: جئتك للسمن، أي: لحصوله، وقيل: إذا جُعِل اللامُ صلةً كان المقترب له، أي: المدنو منه مذكوراً، وإذا جُعِل تأكيداً للإضافة لم يكن مذكوراص. قوله: (أزف للحي رحيلُهم) يأزف أزفاً، أي: دنا. قوله: (المستقر) وهو الظرفُ الذي يقع خبراً محتاجاً إليه، وسُمي مستقراً؛ لتعلقه بفعل الاستقرار، فهو مستقرٌّ فيه، فحذف "فيه" اختصاراً، والظرفُ اللغو: ما كان فضله، ولو حُذف لكان الكلام مستقيماً، الظرفُ في المثال لغوٌ، فسماه مستقراً مجازاً. قوله: (وقد عدت دون هذا القول أكثر من خمس مئة عام) أي: عدت أزمنة أكثر من خمس مئة عام بعد هذا القول.

قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عزّ وجلّ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47] ولأنّ كلّ آت - وإن طالت أوقات استقباله وترقبه - قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «بعثت في نسم الساعة» وفي خطبة بعض المتقدّمين: "ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء". وإذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بُعثتُ في نسم الساعة)، قيل: بقيته: "إن كادت لتسبقني". النهاية: في الحديث: "بُعثتُ في نسم الساعة"، وهو جمع نسمة، أي: بُعثتُ في ذوي أرواح خلقهم الله قبل اقتراب الساعة، كأنه قال: آخر النشء من بني آدم، النسمةُ: النفس والروح. الجوهري: "نسم الساعة": حين ابتدأت وأقبلت أوائلها، ونسمُ الريح: أولها حين تُقبل، ويؤيده ما جاء: "بُعثتُ في الساعة فسبقتها كما سبقت هذه لهذه" لإصبعيه: السبابة والوسطى، أخرجه الترمذي عن المستورد. قوله: (وفي خطبة بعض المتقدمين 9، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": هو عتبة بن غزوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها، وهو الذي اختط البصرة. وخطبته بعد الحمد لله والثناء عليه: "أما بعدُ، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْمٍ وولتْ حذاء، وإنما بقي منها صبابةٌ كصبابة الإناء، وأنتم منقلبون عنها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما

كانت بقية الشيء -وإن كثرت في نفسها- قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ المراد ب"الناس": المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بحضرتكم" وفيها: "ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلا ورقُ الشجر حتى تقرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت ببعضها، واتزر سعدٌ ببعضها، فما أصبح منا اليوم واحدٌ إلا وهو أميرٌ على مصرٍ من الأمصار، فإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الناس صغيراً". ورواه صاحب "رياض الصالحين" عن مُسلم، عن خالد بن عمير العدوي. آذنت: أعلمتْ. بصُرْم: بانقطاع وفناء. الصبابةُ، بضم الصاد المهملة: البقية اليسيرة. النهاية: حذاءَ، بالحاء المهملة، الذال المعجمة مشددة، وبالمد: الخفيفة السريعة، وفي حديث علي رضي الله عنه: بيدٍ حذاء، أي: قصيرةٍ لا تمتد إلى ما تريد. قوله: (من إطلاقِ اسم الجنس على بعضه للدليل القائم). قد سبق أن تعريف الجنس يحتملُ الكل والبعض، وهو كاللفظ المشترك، مفتقرٌ في تعيين المراد إلى انتهاض القرينة. فـ"الناسُ" في قوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ): للجنس، مُحتملٌ لأن يُراد به الناسُ من لدُنْ آدمَ على تلك المدة، وأن يُراد البعضُ، والقرينة هاهنا لإرادة الثاني قوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) الآية، وهو المراد من قوله: "هو ما يتلوه من صفات المشركين". قوله: (وصفهم بالغفلة مع الإعراض)، أي: أوقع (مُعْرِضُونَ) خبراً بعد خبرٍ لضميرِ

لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا. (ما يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء: 2 - 3]. قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأنّ الله يجدّد لهم الذكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "هم"، ألا ترى كيف أوقع "غافلون عن حسابهم" خبر "أنّ" في قوله: "على معنى أنهم غافلون"؟ وقال أبو البقاء والقاضي: ويجوز أيضاً أن يكون الظرفُ حالاً من الضمير في (مُعْرِضُونَ). قوله: (وإذا قُرعت لهم العصا). أصلُ المثل على ما قاله الميداني: "إن العصا قُرعت لذي الحلم" أولُ من قُرعت له عمرو بن مالك الكناني، يُضربُ لمن إذا نُبه انتبه. مضى بيانه في أول "البقرة". قوله: (قُرر إعراضُهم) على ما لم يُسم فاعله، عطفٌ على "ما وصفهُم". ولو قرئ معروفاً كان ظاهراص، يعني: جيء بقوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) بغير عاطفٍ مؤكداً للجملة الأولى، مقرراً لها، لما فيه من معنى الإعراض والغفلة، مع تنبيه المنبه وقتاً فوقتاً.

وقتا فوقتاً، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر - التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ - إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و"الذكر": هو الطائفة النازلة من القرآن. وقرأ ابن أبى عبلة "مُحْدَثٍ" بالرفع صفة على المحل. قوله (وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ "لاهِيَةً" بالرفع فالحال واحدة، لأن "لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" خبر بعد خبر، لقوله (وَهُمْ) واللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا، وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمّل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حالان مترادفتان)، وهي أن يُجعلا حالين من الضمير في (اسْتَمَعُوهُ)، أو متداخلتان بأن يُجعل (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حالاً من الضمير في (اسْتَمَعُوهُ) و (لاهِيَةً) حالاً من الضمير في (يَلْعَبُونَ). قوله: (كأنهم لم يفطنوا أصلاً)، يعني: أفاد قوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ) أنهم فطنوا كل ما تجدد لهم من الذكر آية فآية، وسورةٌ فسورة، فطنةً لا مزيد عليها، بدلالة "مِن" الاستغراقية وأداة احصر، وأفاد قوله: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أنهم ذاهلون غافلون عن ذلك، فنفى آخرُ الكلام ما أثبته أولاً على سبيل التوكيد؛ ليؤذن بأنهم لما لم ينتفعوا بذلك الاستماع والتفطن، حيث استهزؤوا بالذكر، كأنهم لم يفطنوا أصلاً، وثبتوا على رأس غفلتهم، ونحوه قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]، أكد إثبات العلم أولاً بالقسيمة، ثم نفاهُ نفياً كلياً لعدم جريهم على موجب العلم.

والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: (النجوى) وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله (وَأَسَرُّوا)؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون. أبدل (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من واو (وأسرّوا)، إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو جاء على لغة من قال «أكلونى البراغيث» أو هو منصوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اسمٌ من التناجي). الجوهري: النجوُ: السر بين اثنين، يقال نجوتُه نجوى، أي: ساررته، والاسم: النجوى، وقال الفراء: قد يكون النجي والنجوى اسماً ومصدراً، قال تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [الإسراء: 47] فجعلهم هم النجوى، وإنما النجوى فِعلُهم. قوله: (بالغوا في إخفائها)، أي: أسروا قول التناجي، تلخيصه: وأسروا السر. قوله: (أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد)، معناه: وأسروا فعل التناجي، أي: جعلوها في الخلوة، ولا يبعد في الأول أن يعلم تناجيهم، لكن لا يفطن قطعاً ما أسروا به. قوله: (إشعاراً بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش)؛ لأن في الإبدال فائدة البيان والتوكيد كما سبق في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ) [الفاتحة: 7 - 8] والذي خص هذا الموضع من الفائدة ما ذكره؛ لأنه أبدل المظهر من المضمر وخصه بذكر الظلم للإشعار بقُبح ما أسروا به وأنه الظلمُ الفاحش. قوله: (أو جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث)، قيل: هي لغة أزدِ شنؤةَ، وفيه شذوذان، أحدهما: تعددُ الفاعل، وثانيهما: جعلُ ضمير اولي العلم لغيره. واعتذر للأولِ أبو عبيدة، وقال عن بعضهم: إن العرب قد يُظهرون عدد القوم في فعلهم إذا بدؤوا بالفعل. قال أبوعمرو الهذلي: أكلوني البراغيث، فجاء بلفظ الجمعِ في الفعل، وأظهر الفاعلين بعده.

المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) قدم عليه: والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: الواو حرفٌ للجمع لا اسمٌ. قيل جيء بالواو وهي حرفٌ للدلالة على أن الفاعل جمعٌ، كما يُجاءُ بالتاء للدلالة على أن الفاعل مؤنث. واعتذر للثاني الزجاج، حيث قال لما وُصفت البراغيثُ بالأكل، قيل: أكلوني. قال الشاعر: تمززتُها والديكُ يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا قوله: (فوضع المظهر موضع المضمر)، هذا يوهم أن "هؤلاء" في تقديره: "وهؤلاء أسروا النجوى" مُضمرٌ وُضع موضع (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وليس بذلك؛ لأنه مثلُ "الذين" على قول من قال: "أولاءِ" موصولةً، إذ الأصلُ: هم أسروا النجوى، لاقتضاء قوله: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ذلك. كشف الله تعالى عن معنى قوله: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) بثلاثة أنواع من القبائح، أحدها: أنهم استمعوا الذكر استماع تفطن، لكنهم قرنوا بذلك الاستهزاء. نقل الواحديُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى (إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ): يستمعون القرآن مستهزئين. وثانيها: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)، قال القاضي: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يستهزئون لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب؛ جعل (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) علةً لقوله: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) على تداخل الحالين، والأولى أن يجعل لاهية قلوبهم أمراً مستقلاً عن ترادف الحالين، أنه قيل: يستمعون مستهزئين، كأنهم ما يستمعون؛ لأنهم ما انتفعوا

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من (النجوى)، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق ب"قالوا" مضمرا: اعتقدوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه. وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طىّ سرّهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه. (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنبياء: 4]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به؛ ليؤذن به أن استماعهم ذلك لم يكن استماعاً؛ لأنهم ما عملوا بموجبه، بل عكسوا حيث لعبوا، فهم على رأس غفلتهم. ثالثها: أنهم ما اكتفوا في العناد على هذا المقدار حتى بالغوا في التناجي خُبثاً ودهاءً ليُظهروا للأتباع أن ذلك ليس للعناد، بل لأنه سحرٌ باطل، فهو الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه، وظهر بهذا أن الجواب الثاني للمتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ عن قوله: "لم أسروا" وهو قوله: "ويجوز أن يُسروا نجواهم بذلك" ضعيفٌ. قوله: (وعمل المنصوبة). الجوهري: النصيب: الشركُ المنصوبُ، ويقال: فلانٌ سوى منصوبةً، وهي في الأصل صفةٌ للشبكة أو الحبالة، فجرت مجرى الأسماء كالدابة.

فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)] الأنبياء: 3 [؟ «1»؟ قلت: القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرهم. ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القول عام). الراغب: القول يستعمل على وجه: أظهرها: أن يكون للمُركبِ من الحروف المبرز بالنطق مفرداً كان أو جملةً. الثاني: للمتصور في النفس قبل الإبراز باللفظ فيقال: في نفسي قولٌ لم أظهره، قال تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ) [المجادلة: 8]، فجعل ما في اعتقادهم قولاً. الثالث: للاعتقاد، نحو: فلانٌ يقولُ بقول أبي حنيفة. الرابعُ: للدلالة على الشيء، قال الشاعر: امتلأ الحوضُ وقال قطني الخامس: للعناية الصادقة بالشيء نحو: فلانٌ يقول بكذا، والسادس: يستعمل في معنى الحد فيقال: قول الجوهر كذا، وقول العرض كذا أي: حدهما. السابع: للإلهام نحو: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) [الكهف: 86]، فإن ذلك لم يكن بخطاب فيما رُوي، وقيل في قوله تعالى: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]: إن ذلك [كان] بتسخير لا بخطاب. وكذا في قوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً) [الأنبياء: 69]. قوله: (ثم بين ذلك بأنه السميع العليم) يحتملُ أن يراد أن الجملة حالٌ من فاعل (يَعْلَمُ)، والحالُ بيانٌ، أو مُذيلة، وفيها نوعٌ من التأكيد والبيان، لكن قوله: "بأنه السميع العليم لذاته" مذهبه. وفي "شرح السنة": على العبد أن يعتقد أن الله تعالى عالمٌ له علمن وسميعٌ له سمع،

فإن قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الفرقان: 6 [؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا، وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة: 255]، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 17]، (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 134]، (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]. قال في "الانتصاف": (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إثباتُ صفتين لله تعالى، والزمخشري يحرفهما عن مواضعهما، فيكونُ سميعاً بصيراً لذاته، والصفات مشتقاتٌ من المصادر لا تثبتُ إلا بمصادرها، فمن أنكر السمع والعلم فقد تسارع على إنكار السميع العليم، وتحقيقُ هذا يُعلمُ من الكلام، وإنما الزمخشري إذا ادعى أن الآية ظاهرةٌ له بينا خلافه، أو حرف شيئاً عن موضعه نبهنا عليه، وهذه الآية خاصة تعسف فيها، وخالف نصها. قوله: (ليفتن الكلامُ). الجوهري: الفنُّ: واحدُ الفنون، وهي الأنواع، والأفانينُ: الأساليبُ، وهي أجناسُ الكلام وطرقه. وافتن الرجل في حديثه: إذا جاء بالأفانين. قال صاحب "الفرائد": ما ذكر يوجب أن يكون البعضُ في الدرجة العليا من البلاغة والفصاح، والبعض نازلا ًعنها، ومنحطاً في الدرجة، هذا لا يجوز. والافتنان إنما يحسنُ إذا كان غير مفضٍ إلى نزول البعض؛ لأنه يُنبئ عن نقصان البعض، بل الافتنان المستحسن: أن يكون الكل في الدرجة العليا ويبدل بعض اللفظ بالبعض باعتبار اقتضاء الموارد والموضع، لا بالنزول من الأعلى إلى الأسفل؛ لأنه يكون اختلافاً وتفاوتاً في البلاغة والفصاحة. والجواب عن قوله: "بل الافتنان المستحسنُ أن يكون الكل في الدرجة العُليا" أنْ

تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: إن أردت به أن التراكيب بأسرها ينبغي أن تكون مفرغةً في قالب المبالغة، فهو غير مسلم، فكم من تركيب في كلام الله المجيد تجده ابتدائياً ليس فيه رائحة المبالغة، وترى تراكيب فيه بلغت في المبالغة الدرجة القُصيا، وإن أردت أن التركيب في استعماله في مقامه ينبغي أن يكون في الدرجة العليا، فهذا لا ننكره؛ لأن مقامات المقاولة ومقتضيات الأحوال تتغيرُ وبحسبها يتغير اللامُ، فمن مقام يقتضي الخلو عن التأكيد، فإثباته خروجٌ عن مقتضى البلاغة، ومن مقام يستدعي توكيداً ما، فلا يؤتي بالآكد؛ لأن البلاغة هي: إصابة المحز، وتطبيق المفضل، ومراعاةُ وجه النظم، ومن ثم لم يقع التحدي بأقل من سورة. قوله: (من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى) إلى قوله: (فوضع القول موضع ذلك للمبالغة)، قال صاحب "التقريب": فيه نظرٌ؛ لأن تلخيص كلامه يؤول إلى أن اللام في القول للعهد، وقد تقدم هاهنا معهودٌ دون ثم؛ إذ لو أراد الجنس لم يؤثر تقدم شيء عليه، لكنه حينئذٍ يفوت كونه أوكد، إذ القول المعهود والسرُّ واحد. وقلت: مغزى كلامه: أن اللام إن جعلته للعهد لم يحصل التأكيدُ. قُلنا: نختارُ الأول. فلا نُسلمُ عدم تأثيره؛ لأن المراد من الثاني العامُّ الذي سيق لقصد الخاص، فيدخل فيه الأول دخولاً أولياً؛ ولذلك كان آكد، فعلى هذا مبنى لامه حيثُ قال: "على أن أسلوب تلك الآية خلافُ أسلوب هذه"، يعني: إيرادُ هذا القول الذي هاهنا مسبوقق بإيراد إخفائهم سرهم

وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله: (علام الغيوب) (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ)] سبأ: 3 [. وقرئ (قالَ رَبِّي) حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَاتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء: 5]. أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونجواهم أقصى الغاية لينبههم به على أن إخفاءهم ذلك لا يجديهم شيئاً؛ لأنه تعالى يعلمُ القول، الذي هو الجنسُ الشائعُ للجهر، والهمس والسر وأخفى منه، فيدخل سرهم في هذا العام بالطريق البرهاني كما سبق غير مرةٍ. وأما سياقُ قوله (أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ) [الفرقان: 6] فعلى ابتداء إثبات صفة العلم من كلام سابق؛ لأن المراد من قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ) ما أسروه في قولهم: (إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: 4 - 5]؛ لأنهم أيقنوا أن الأمر على خلافه، ولكن قصدوا بذلك إيقاع الشبه في قلوب الناس؛ ولهذا قال: ومن جملته ما تسرونه من الكيد لرسوله مع علمكم أنما تقولونه باطل. فالمراد من السر ما يتضمنه قولهم: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) فقيل: لا يعلمُ ذلك إلا عالمُ الغيب والشهادة، كقوله: (عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109] (عَالِمَ الْغَيْبِ) [الجن: 26] (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) [سبأ: 3]، فإذن القصدُ في الثاني إجراءُ الوصف على الله عز وجل. وفي الأول تقريرُ ما مر من المعنى السابق والمبالغة فيه. قوله: (وقرئ: (قَالَ رَبِّي)): أبو عمرو، وحفص، والكسائي.

عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الباطل لجلج) هو من قولهم: الحق أبلج، والباطلُ لجلج. قال الميداني: يعني: أن الحق واضحٌ، يقالُ: صبحٌ أبلج، أي: مشرق، ومنه قوله: حتى بدت أعناقُ صبح أبلجا وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "أبلج الوجه" أي: مشرقه. "والباطلُ لجلج" أي: ملتبسٌ. قال المبردُ: قولٌ لجلج، أي: يترددُ فيه صاحبه ولا يصيب منه مخرجاً. ومقصودُ المصنف من هذا الاستشهاد: بيانُ أن إضراب الكفرة عن قولهم: هو سحرٌ، إلى أنه تخاليطُ أحلام، إلى آخره، ليس على النسق السوي، بل هو خبط عشواء، وفعل المتحير من غير تمييز بين مضربٍ عنه ومُضربٍ عنه، يدل عليه قوله بعد ذلك: "ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله لأقوالهم"، يعني: انه تعالى أتى بأقوالهم، ونزلها على سبيل التدرج والترقي ليؤذن بفاسدها وأفسدها، فظهر من هذا أن الإضراب فيا لوجه الأول واقعٌ في لام الكفرة، وانه تعالى حاك إضرابه الواقع في كلامهم. وفي الثاني الإضراب واقعٌ في كلام الله تعالى، وأنه تعالى حكى كلامهم. وفي الوجه الأول إشكالٌ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: قالوا بل أضغاث أحلام. ويمن أن يقال: إن (قَالُوا) زيادةُ تأكيدٍ لما يتضمن قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ) من القول، يؤيده قوله تعالى: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ)، فإنه يدل على أنه صدر منهم قولٌ سراً لطول الكلام. وسبق مثله في "يونس" عند قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) إلى قوله: (قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس: 59] في وجهٍ. وأما بيانُ الترقي في الوجه الثاني: فأن يقال: إن نسبتهم القرآن إلى السحر فاسدٌ؛ لأن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا حقٌ، وذلك باطلٌ، وأنى يُشبه هذا السحر (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور: 15]؟ ثم إن قولهم: إنه أضغاث أحلام، أي: تخاليطها، أفسد منه؛ لأن تشبهي النظم المعجز الفائق بالسحر أقربُ من ذلك، كقوله: "إن من البيان لسحرا"، لكن أين هذا من التخاليط: إنه (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1] ثم قولهم: إنه كلامٌ مفترى من عنده أبعد من ذلك؛ لأنهم لم يحرروا أنفسهم، ولم يدركوا أن قوى البشرية وإن استفرغت طوقها، لا تطيق على الإتيان بمثله: (فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) [هود: 13]؛ ولأن المفترى مبطل، وكلامه باطل، وهذا (لا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]. ثم قولهم: إنه قول شاعر، أبعد وأفسد؛ لأن الشعر: متخيلات ملفقة وتخرصاتٌ مزخرفةٌ تدعو إلى الهوى والشيطان، وهذا يدعو إلى الهدى وطاعة الرحمن: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس: 69 - 70]، وهذا الوجه أدل على التحير من حيث الحقيقة. الراغب: (بل): للتدارك، وهو ضربان: ضربٌ يناقض ما بعده ما قبله لكن ربما يقصد لتصحيح الحكم الذي بعده، وإبطال ما قبله، قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [المطففين: 13 - 14]، أي: يس الأمر كما قال، بل جهلٌ، أو يقصد به تصحيح الأول، وإبطال الثاني، كقوله تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) إلى قوله: (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [الفجر: 15 - 17]، أي: ليس إعطاؤه من الإكرام، ولا منعه من الإهانة، لكن جهلوا وظلموا، حيثُ وضعوا المال في غير موضعه، والضرب الثاني: أن يكون (بل) مبيناً للحكم الأول وزائداً عليه بما بعده، نحو: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ)، فإنه نبه أنهم يقولون: أضغاثُ أحلام، ويزيدون على ذلك بأن

والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد. ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث. صحة التشبيه في قوله (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من حيث أنه في معنى: كما أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وبين قولك: أتى محمد بالمعجزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي أتى به مُفترىً، بل يزيدون ويدعون أنه كذاب؛ فإن الشاعر في القرآن عبارةٌ عن الكاذب بالطبع. قوله: (لا فرق بين أن تقول: أرسل محمدٌ صلى الله عليه وسلمن وبين قولك: أتى محمدٌ بالمعجزة)، قيل: فيه نظرٌ؛ لأن قوله: أرسل محمدٌ، إثباتٌ للرسالة؛ لأنها ثبتت بإرسال الملك، وقوله: أتى بالمعجزة، إظهارٌ للرسالة، وما تثبت به النبوة غير ما تظهر به الرسالة. قلتُ: ليس مراده من قوله: "لا فرق ... " أن معنى العبارتين سواءٌ، بل مراده أن مؤدى العبارتين سواءٌ، فإن قولك: أُرسل محمدٌ صلواتُ الله عليه معناه: أنه ادعى الرسالة، وأتى بالمعجزة، فثبتت رسالته، وقولك: أتى محمدٌ بالمعجزة، مؤداه: ادعى الرسالة وأتى بالمعجزة، فيكون رسولاً. والأول كنايةٌ، والثاني تصريحٌ، ومؤداهما واحدٌ، ألا ترى إلى تفسيره لقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]؟ قولك: يد فلانٍ مبسوطةٌ، بمعنى أنه جواد، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلتُ، يعني: كون أحدهما كنايةً، والآخر صريحاً، والكناية أشرح وأبسط. فإن قلت: ما فائدة العدول؟ قلتُ: لو قيل: كما أتى الأولون لكان من القصد بمعزل؛

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 6]. (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا أو خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7]. أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن قصدهم: فليأتنا بآية مثل ما أتى به المرسلون نحو موسى وعيسى عليهما السلامُ من قلبِ العصا ثعباناً، وإحياء الموتى، لا كغيرهما من الأنبياء. قوله: (فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم)، وكان أصلُ الكلام: ما آمنت قبل هؤلاء المشركين أهل قريةٍ أردنا إهلاكها بسبب عنادهم، فهؤلاء أيضاً لا يؤمنون، ثم أدخل همزة الإنكار والاستبعاد؛ لتدل على الإدماج، وأن هؤلاء أعتى من السابقين. فقوله: (مَا آمَنَتْ) متعلقٌ بقوله: (فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ)؛ لأنهم لما طعنوا في القرآن، وأنه معجزةٌ وبالغوا فيه حتى أخذوا من قوله: (أَفَتَاتُونَ السِّحْرَ) إلى أن انتهوا إلى قوله: (فَلْيَاتِنَا بِآيَةٍ) وأرادوا انه ليس من جنس اليد البيضاء، والعصا، وإبراء الأكمه وإحياء الموتى، علم أنهم مُعاندون، فقيل مُسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الإنذار لا يُجدي فيهم بقوله: (مَا آمَنَتْ) الآية. قوله: (يشايعون المشركين). الجوهري: شيعةُ الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يُقال: والاه، والمشايعُ أيضاً: اللاحق.

قال الله تعالى (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً)] آل عمران: 186 [فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَاكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) [الأنبياء: 8]. (لا يَاكُلُونَ الطَّعامَ) صفة ل (جَسَدَاً)، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوى جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوى ضرب من الأجساد. وهذا ردّ لقولهم (مالِ هذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان: 7]. فإن قلت: نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشرا يأكل ويشرب بما ذكرت.فماذا ردّ من قولهم بقوله (وَما كانُوا خالِدِينَ)؟ قلت: يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً) [آل عمران: 186]) استشهدبها على اتفاق كلمتهم على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عطف (من الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على (مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ونبه بصلة الموصول على علة الأذى. قوله: (ردءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: عونٌ له، أي: لا يكاذبُ أهلُ الكتاب المشركين، أي: لا يكذبُ في الذي هم [فيه] عونٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا ملائكة، يعني: كانوا متفقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وكيف لا وفي مخالفتها إبطالُ دينهم؟ وقيل [قوله]: "لرسول الله" متعلقٌ بـ"فلا يكاذبونهم"، أي: لأجل الرسول، وفيه نظرٌ؛ لبقاء "ردءٌ" لا متعلق له، وأن المعنى لا يساعد عليه. قوله: (ذوى ضربٍ من الأجساد)، أي: نوع منها. قال أولاً: لإرادة الجنس، وفسره بالنوع لأن الجسد جنسٌ تحته نوعان من الحيوان والجماد، فالحيوانُ الجنسُ السافل. قوله: (يحتمل أن يقولوا: إنهُ بشرٌ)، أجاب أن قوله: (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) ردٌّ لما لزم من

يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا: هلا كان ملكا لا يطعم ويخلد: إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلودا. (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء: 9]. (صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) مثل (واختار موسى قومه) [الأعراف: 155]. والأصل "في الوعد": و"من قومه". ومنه: صدقوهم القتال. وصدقنى سنّ بكره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولهم: إنه بشرٌ مثلنا يعيشُ كما نعيشُ، ويموتُ كما نموتُ، أن النبي يجب أن يكون خالداً كالملك، أو ردٌّ لما صرحوا به من قولهم: هلا كان ملكاً لا يطعم، ويخلد؟ قوله: (صدقني سن بكره)، قال الميداني: البكر: الفتيُّ من الإبل، يقال: صدقته الحديث، وفي الحديث، يُضربُ مثلاً في الصدق. أصله أن رجلاً ساوم رجلاً في بكرٍ، فقال: ما سنه؟ فقال: بازلٌ، ثم نفر البكر فقال صاحبه: هدع هدعْ، وهذه لفظةٌ يسكنُ بها الصغار من الإبل، فلما سمع المشتري هذه الكلمة قال: صدقني سن بكره، ونصب سن على معنى عرفني سنَّ، أو: صدقني خبر سنِّ، ثم حذف، ويُروى بالرفع، فجعل الصدق للسنِّ توسعاً. الراغب: صدق قد يتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ) [آل عمران: 152]، وصدقته؛ نسبته إلى الصدق، وأصدقته: وجدته صادقاً، وقيل: هما واحدٌ، ويقالان فيهما جميعاً، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) [البقرة: 101]، ويستعمل التصديق في كل ما هو تحقيقٌ. يقال: صدقني فعله وكتابُه، قال الله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) [البقرة: 89]، والصداقة: صدقُ الاعتقاد في المودة، وذلك مختصٌّ بالإنسان، قال تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: 100 - 101].

(وَمَنْ نَشاءُ) هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة. (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]. (ذِكْرُكُمْ) شرفكم وصيتكم، كما قال (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44] أو موعظتكم. أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر، كحسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء، وما أشبه ذلك. (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَانا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَاسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ذْكُرْكُمْ): شرفكم وصيتكم). الأساس: ذكرته ذكراً وذكرى، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55]، ومن المجاز: له ذكرٌ في الناس، أي: صيتٌ وشرف. قوله: (أو موعظتكم)، قال الزجاج: فيه تذكرةٌ لكم فيما تلقونه من رحمة أو عذاب كما قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) [عبس: 11]. قوله: (تطلبون بها الثناء الحسن) أي: فيه ما يطلبون به الصيت والشرف، والفرق بين هذا، وبين الوجه الأول هو أن- على الأول - المراد بالكتاب كما هو موجبٌ لصيتكم؛ لأنه منزلٌ بلسانكم ولغتكم، فإذا اشتهر اشتهرتم. وعلى الثاني: إذا عملتم بما فيه حصل لكم مكارمُ الأخلاق فحسن بذلك صيتكم، فذكر "الذكر"، وأراد مكارم الأخلاق الموجبة للثناء الحسن، فيكون من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب أو يكون كناية تلويحية، ويعني: فيه ذكر ما تطلبونه من مكارم الأخلاق فتحروا فيه، واجتهدوا على العمل بما فيه. فإذا عملتم به كنتم أصحاب الأخلاق، فحينئذ ينتشر بذلك صيتكم.

لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) [الأنبياء: 11 - 15]. (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية: أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال (قَوْماً آخَرِينَ) لأن المعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين. وعن ابن عباس: أنها «حضور» وهي و «سحول» قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين» وروى «حضوريين» بعث الله إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم. وروى: أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء، ندموا واعترفوا بالخطإ، وذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومناديةٌ على سخطٍ عظيم)؛ لأنه استعير ما استعمل في الجسم للمعنى، واختير ما هو الأبلغ فيه؛ ليدل على إبادة بليغة. قوله: (في ثوبين سحوليين)، عن البخاري ومسلم وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفنَ في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كُرسُفٍن ليس فيها قميصٌ ولا عمامة. وفي "الجامع": سحولٌ: قريةٌ من اليمن ينسب إليها الثياب. وقيل: السحولية: المقصورة، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصارُ؛ لأنه يسحلها أي: يغسلها. ورُوي بضم السين. قوله: (يا لثارات). الجوهري: "يا لقتلة فلان". النهاية: ومنه: يا ثارات عثمان! أي:

حين لم ينفعهم الندم. وظاهر الاية على الكثرة. ولعل ابن عباس ذكر «حضور» بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حسّ ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل. ومنه قوله تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب. ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم، فقيل لهم. (لا تَرْكُضُوا) والقول محذوف. فإن قلت: من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلفاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل. أو يقوله رب العزة ويسمعه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يا أهل ثاراته، ويا أيها الطالبون بدمه، فحُذف المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مقامه، فيكون قد نادى طالبي الثأر ليعينوه على استيفائه وأخذه، وعلى قول الجوهري: نداءُ القتلة لتعريف الجرم والتقريع وتفظيع الأمر حتى يجتمع لهم عند أخذ الثأر بين القتل وبين تعريف الجرم وقرع أسماعهم به؛ ليصدع به قلوبهم، ويكون أدعى في الإنكاء فيهم، والتشفي منهم. وإلى تعريف الجرم الإشارة بقوله: "لما نادى منادٍ من السماء ندموا واعترفوا بالخطأ". قوله: (وظاهر الآية على الكثرة)، يعني: يقتضي قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا) أن يجري على العموم، وعلى كثير من القرى. قوله: (ويجوز أن يشبهوا)، فعلى الأول الركضُ مجازٌ في العدو، ومستعملٌ استعمال المرسن في أنف الإنسان، وعلى الثاني حقيقةٌ، وعلى الثالث استعارة. قوله: (أو يُجعلون خلقاء بأن يقال لهم ذلك)، يعني: أنهم بالغوا في الركض والفرار من العذاب بعد ذلك الإتراف والتنعم بحيثُ من رآهم قال هذا الكلام بلسان الحال. الراغب: الركضُ: الضربُ بالرجل، فمتى نُسب إلى الراكب فهو إعداءُ مركوبٍ،

ملائكته لينفعهم في دينهم. أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم. (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من العيش الرأفة والحال الناعمة. والإتراف: إبطار النعمة وهي الترفة (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ، أى: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم. وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدّمين؟ أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحو: ركضت الفرس، ومتى نُسب إلى الماشي: فوطء الأرض، نحو قوله تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص: 42]، وقال تعالى: (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ) [الأنبياء: 13] فنهوا عن الانهزام. الترفه: التوسعُ في النعمة، يقالُ: أُترفَ فلانٌ فهو مترفٌ، قال تعالى: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [المؤمنون: 33]. قوله: (أو يلهمهم ذلك) أي: يُلهم الله تعالى بهذا الكلام نفوس الملائكة، فتحدث الملائكة به فيكون كلاماً نفسياً يخاطبون به الفار الراكضين وليس هناك مخاطبةٌ، وإنما هو شيءٌ يفيد الملائكة في دينهم. قوله: (ترتبوا في مراتبكم)، أي: تمكنوا فيها، الأساس: رتب فلانٌ رتوبَ الكعب، في المقام الصعب، ورتب في الصلاة: انتصب قائماً.

ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم: إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ. (تِلْكَ) إشارة إلى (يا ويلنا)، لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويمترون أخلاف معروكم). الجوهري: مريتُ الناقة مرياً: إذا مسحت ضرعها ليدر، والريح تمري السحاب، تمتريه، أي: تستدره. الأساس: ومن المجاز: وأخلفت النجومُ والشجر: لم تُمطر ولم تثمر. وناقةٌ مخلفة: ظُنَّ بها حملٌ ثم لم يكن، وهو خالفةُ أهل بيته، أي: فاسدهم وشرهم، ودرت لفلانٍ أخلافُ الدنيا. يمترون: ترشيحٌ لاستعارة أخلاف معروفكم، ويستمطرون: ترشيحٌ لسحائب أكفكم. اعلم أنه فُسر (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) بوجوه، بناء على أنه مطلقٌ يحتملُ أن يقيد بما يقتضيه المقام بحسب الاستعمال، وأن يُترك على إطلاقه. قال في "الأساس": سألتُ عنه مسألةً، وسألته حاجةً. وأصبتُ منهُ سُؤلي: طلبتي، فعلٌ بمعنى مفعول. فقدر في الوجه الأول "عن" حيثُ قال "تسألون غداً عما جرى عليكم"، وأطلق في الثاني حين قال: "حتى يسألكم عبيدكم وحشمُكم ومن تملكون أمره"، فهو إما يجري مجرى اللام، أو يُقدر أشياء مما يليقُ بحالهم لا تُحصى. وبنى الثالث والرابع على أنه من قولهم: سألته حاجةً مما يقتضي مفعولين، فهو إما أنهم شجعانٌ يستنجدهم الناس، ويطلبون منهمُ المعونة، وإليه الإشارة بقوله: "يسألكم الناس المعاون"، أو أسخياء يستجدون من نائلهم، ويستمطرون سحائب أكفهم. المعاونُ: جمعُ المعونة. قوله: (تهكماً إلى تهكُّم)، أي: منضماً إلى مثله. أوله: يقالُ لهم: ارجعوا إلى ما أُترفتُم فيه حين ولات حين مناص. وثانيه: يقالُ لهم: يسألكم الوافدون ويستمطرون سحائب أكفكم، وهم الجامدون البخلاء.

(دَعْواهُمْ) والدعوى بمعنى الدعوة. قال تعالى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس: 10]. فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت: لأن المولول كأنه يدعو الويل، فيقول تعالى: يا ويل فهذا وقتك. و (تِلْكَ) مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم. "الحصيد": الزرع المحصود، أى: جعلناهم مثل الحصيد، شبههم به في استنصالهم واصطلامهم «2» كما تقول: جعلناهم رمادا، أى مثل الرماد. والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية. فإن قلت كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد، لأنّ معنى قولك «جعلته حلوا حامضا» جعلته جامعا للطعمين. وكذلك معنى ذلك: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَكَذَلِكَ) مرفوعٌ أو منصوبٌ اسماً أو خبراً)، وفيه نظرٌ؛ لأن (تِلْكَ) اسمٌ لفظاً ومعنىً؛ لأن المعنى: لا زالت تلك الدعوى دعواهم، ولأن الاسم المبهم أشدُّ توغلاً في التعريف من المضاف؛ لأنهُ قريبُ من المضمر على أنه مقدم. قوله: (واصطلامهم) أي: استئصالهم، قاله الجوهري. قوله: (جامعين لمماثلة الحصيد والخمود) يعني: كما يجتمع الحلو والحامض في معنى واحد، وهو المزُّ، كذا الحصيدُ والخمود؛ لأن النار إذا خمدت فصارت رماداً، كانت كالزرع المحصود المدقوق. الراغب: قوله: (جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ) [الأنبياء: 15] كنايةٌ عن موتهم، من خمدتِ النارُ: إذا طُفئ لهبُها. وعنه استعير: خمدت الحُمي: سكنتْ. فيكونُ "والخمود"

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء: 16 - 17]. أى: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوّى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعدّ والمرافق التي لا تحصى. ثم بين أنّ السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالى: هو أن الحكمة صارفة عنه، وإلا فأنا قادر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في المتن عطفاً على الحصيد، لا على المماثلة كما ظنَّ؛ لأن قوله: (حَصِيداً خَامِدِينَ) كلاهما مشبهٌ بهما، والمشبه (هم) في قوله: (جَعَلْنَاهُمْ). قوله: (ونظر لعبادنا)، قال القاضي: (خَلَقْنَاهُمَا) تسبيباً لما ينتظمُ به أمورُ العباد في المعاش والمعاد، فينبغي أن يتسلقوا إلى تحصيل الكمال، ولا يغتروا بزخارفها، فإنها سريعةُ الزوال. قوله: (هو أن الحكمة صارفةٌ [عنه] وإلا فأنا قادرٌ)، عن بعضهم: هذا بناء على أن الله تعالى عندهم قادرٌ على السفه والظلم، وإن كان لا يفعله. وعند أهل الحق: أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الظلم والسفه، لأن القدرة مصححةٌ للإمكان، والمحالُ لا يدخلُ تحت الإمكان، وقيل: إنه لما قال: (لَوْ أَرَدْنَا) إلى آخره عُلم أن المانع عدمُ الإرادة، فينبغي أن يكون مقدوراً؛ لأنه لا يقال فيما لا يكون مقدوراً: لو أردتُ فعلته، وقيل: هذا منظورٌ فيه؛ لأن تفسير اللهو بالولد أو بالمراة، يأباه؛ لأنه لا يقال: إن اتخاذ الولد أو المرأة لو أراده لفعله؛ لأنه من قبل المستحيل. وقلتُ: لا يخفى سقوط هذا النظر على من تأمل في كلام الزجاج كما مر، ولا ارتياب بين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علماء الأصول ومعتني علم البيان أن حمل اللفظ على المجاز والعدول عن الحقيقة من غير صارفٍ وداعٍ قوي غير جائز، لا سيما إذا انضم معه قرينة إرادة الحقيقة، هو مقتضى المقام؛ وذلك أن مجيء قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) عقيب قوله: (وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) من باب وضع المُظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق؛ لأن اللهو: ما يُتلهى به ويُلعب، وليس في الكلام السابق رائحةٌ من معنى الولد والمرأة، فلا يُحمل الآتي إلا على ظاهره. وسيجيء الكلام في الولد في مشرع آخر، ولأن قوله تعالى: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) على الشرط، أظهرُ من النفي، والذوقُ له أدعى، ولأن تفسير اللهو بالولد والمرأة يخرجُ الكلام عن سنن النظام. قال الإمامُ: الغرضُ من سوق هذه الآيات تقريرُ نبوة محمدٍ صلوات الله عليه، والرد على منكريه؛ لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه، ولو كان غير صادق كان إظهار المعجزة عليه من باب العبث، وإن كان صادقاً يفسدُ ما ذكروه من المطاعن. وقلتُ: تحريرُ النظم: أنهذه السورة من مفتتحها واردةٌ في أمر النبوة وما يتصل بها، ومن ثم سميت بسورة الأنبياء، ألا ترى كيف بدأ بقوله: (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)، وثنى بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ثم ثلث بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [الأنبياء: 10] فوبخهم وسفههم وسجل بحرمان عقلهم حيث دفعوا ما فيه شرفهم وعزهم، ثم ربع بقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) [الأنبياء: 16] ليُنبههم عن رقدةِ الجهالة، وأنهم في ارتكابهم العناد كمن يحاول في إبطال الحكمة في خلق السماء والأرض، وهي العبادةُ والمعرفة، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وقال: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]. قال المصنف: "المعنى: ما خلقته خلقاً باطلاً، بل لداعي حكمةٍ عظيمة، وهو أن يجعلها مساكن المكلفين، وأدلةً لهم على معرفتك،

على اتخاذه إن كنت فاعلا لأنى على كل شيء قدير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك، ولذلك وصل قوله: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191] به؛ لأنه جزاءُ من عصى ولم يُطع". وقال في "النجم" في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم: 31]: "إن الله تعالى إنما خلق العالم، وسوى هذا الملكوت، ليُجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم"، ولا يتم ذلك إلا بإنزال الكتاب، وإرسال الرسول، وإظهار المعجزة على يده، فإذا حصلت هذه المطالب وجبت المتابعة، وإنكارها يؤدي إلى إنكار هذا المطلوب. ثم علل استحقاق العبادة بقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي: هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومتولي أمورهم، فيجب عليهم أن يخصوه بالعبادة، وإن استكبر هؤلاء وعاندوا فله من لا يستكبر ولا يعاند، فهو مستغنٍ عن هؤلاء كقوله تعالى: (وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف: 203]. فلما فرغ من هذا النوع من الكلام رجع إلى توبيخ المعاندين وقال: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً) وساق الحديث إلى ما هو سوق الكلام له من قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، والله أعلم. قوله: (إن كنتُ فاعلاً)، جعل "إنْ" في قوله: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) شرطيةً، قال الزجاجُ: اللهو في لغة حضرموت: الولدُ. وقيل: اللهوُ: المراةُ، وتأويله في اللغة أن الولد لهوُ الدنيا، أي: فلو أردنا أن نتخذ ولداً إذ اللهو يُلهى به، ومعنى: (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي: لاصطفيناه مما نخلُقُ، معناه: ما كنا فاعلين؛ وكذلك جاء في التفسير: ويجوزُ أن يكون للشرط، أي: إن كنا ممن يفعلُ ذلك، ولسنا ممن يفعله. والقول الأول قول المفسرين، والثاني قول النحويين. وهم أجمعون يقولون: إن القول هو الأول ويستجيدونه؛ لأن "إنْ" تكونُ

وقوله (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) كقوله (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا)] القصص: 57 [أى من جهة قدرتنا. وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن. وقيل المرأة. وقيل (من لدنا)، أى من الملائكة لا من الإنس، ردّا لولادة المسيح وعزير. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18]. (بَلْ) إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في معنى النفي، إلا أن أكثر ما جاءت مع اللام، تقول: إن كنت لصالحاً، أي: ما كنت إلا صالحاً. وقال ابن الحاجب: هذا مذهب الكوفيين، وأما البصريون فيقولون: إن اللام الفارقة لا تدخل بعد "إن" النافية. فإذا قلت: إن زيداً لقائم فالمفهوم إثبات القيام، وإذا قلت: إنْ زيدٌ قائمٌ فالمفهومُ نفيُ القيام. وقال صاحبُ "المطلع": فإن قيل على الثاني: ما معنى تكرار كلمة الشرط؟ قُلنا: دخلت على جواز الوصف به، والأولى على جواز الإيجاد، وكلاهما منفيان. قوله: (سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب)، هذا التنزيه يفيده صيغةُ الكبرياء والتعظيم، وتكريره مراراً ثمانية وإلى التعظيم الإشارةُ بقوله: "كما تُسوي الجبابرةُ سُقوفهم"، كأنه قيل: أيها الناظرُ المنكرُ، ألا ترى إلى هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، كيف سويناهما؟ وكيف جعلناهما مطارح الافتكار، ومطامح الاعتبار، ومناطاً لمرافق العباد في المعاش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعاد؛ إذ لا يليقُ بعظمتنا وجلالتنا أن نخلقهما باطلاً؛ فسبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب؛ إذ من شأننا محقُ الباطل ودمغُه، وإليه الإشارة بقوله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ). ثُم اعلمْ أن قوله: "أن الحكمةَ صارفةُ عنه، وإلا فانا قادرٌ على اتخاذه" كلامٌ مبنيٌّ على قاعدة مذهبه، وأما تقريره على مذهب أهل السنة والجماعة فهو أن يقال: له أنيخلق ما يشاء، وإن توهمه المعتزلي قبيحاً وحسناً، وأنه فاعلٌ مختارٌ له أن يختار خلق هذا دون ذلك. فقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) إخبارٌ عما وُجِدَ، لا عما وجب، وقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) إيذانٌ بأن له أن يختار خلق هذا دون ذلك، وقد تقرر في البلاغة أن مفعول الإرادة والمشيئة يجب أن لا يُذكر إلا إذا تعلقت به غرابة. ولا شك أن اتخاذ اللهو بالنسبة إلى الله تعالى غريب، كأنه قيل: إن العظمة والكبرياء اقتضيا التنزيه عن اتخاذ اللهو، كما أنهما استدعيا أن لا يُمنع من ذلك وإن خفي على بعض الخلق؛ لأنه فاعلٌ لما يشاء لا يسأل عما يفعلُ وهم يسألون، لكن من شأنه أن يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وأن يتصف بما فيه التعظيم والكبرياء وإن كان الكل منه، (وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي: تنسُبون إيه ما لا يليقُ بجلاله من اتخاذ اللهو واللعب حيثُ تطعنون في رسله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (اللهو: الولدُ ... ، وقيل: المرأة)، في "المطلع": اللهوُ: طلبُ الترويح عن النفس، ثم المرأة تُسمى لهواً وكذا الولد؛ لأن النفس تستروح بكل واحدٍ منهما، والمعنى: امرأة ذات لهو، أو ولدٌ ذو لهو. الراغب: اللهوُ: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا ولهيتُ عن كذا: اشتغلت عنه بلهو. قال تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [محمد: 36]، ويعبرُ عن كل ما به استمتاعٌ باللهو، قال تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) [الأنبياء: 17]، ومن قال: أراد باللهو:

بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف والدمغ، تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا، قذف به على جرم رخو أجوف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرأة والولد فتخصيصٌ لبعض ما هو من زينة الحياة الدنيا التي جعل لهواً ولعباً. وقلتُ: ومما يقربُ منه من حيث إرادة التخسيس قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) [آل عمران: 14] الآية. قوله: (وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القيح)، قال صاحب "الانتصاف": أراد باستغنائه عن القبيح وجوب رعاية المصالح، وفعل ما ينونه حسناً بعقولهم، فلا يستغني الحكيمُ عن خلقِ الحسن، والحكمة تقتضي الاستغناء عن القبيح، ويقولون: ليس في الإمكان ذلك ولو أمكن لفعله؛ إذ لو تركه لكان إما بخلاً أو عجزاً تعالى الله عنهما، والحق أن الله تعالى مستغنٍ عن الأفعال، وله أن يخلق ما يتوهمه القدري حسناً أو قبيحاً، وليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاتُه. قوله: (واستعار لذلك القذف والدمغ)، قال صاحب "المفتاح": أصلُ استعمال القذف والدمغ في الجسام، ثم استعير القذفُ لإيراد الحق على الباطل، والدمغُ لإذهاب الباطل، فالمستعارُ منه حسيٌّ، والمستعارُ له عقليٌّ. قوله: (فجعله كأنه جرمٌ صلبٌ كالصخرة [مثلاً] قُذف به على جرم رخوٍ أجوف)، يعني: بولغ في طرفي الإفراط والتفريط؛ لأن القذف غنما يستعمل في رمي الحجارة، والدمغ

فدمغه، ثم قال (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته. وقرئ: "فيدمغه" بالنصب، وهو في ضعف قوله: سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا وقرئ "فيدمغه". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يكونُ إلا في الدماغ، وهو جسمٌ رخوٌ مجوف، وقيل: إنما اختير الدماغُ دون سائر البدن؛ لأن الدماغَ مجمعُ الحواسِّ، وهو مقتلٌ، يقال: دمغهُ دمغاً، أي: شجهُ حتى بلغت الشجةُ الدماغ. قوله: ("فيدمغه" بالنصب، وهو ضعيف)، قال النحاة: لا ينتصب بإضمار "أن" بعد الكلام الموجب، لا يقال: يقومُ زيدٌ فيغضب، إلا في الضرورة، كما في قوله: سأتركُ منزلي لبني تميمٍ ... وألحقُ بالحجاز فأستريحا لأن إضمار "أنْ" إنما يجبُ إذا لم يتسق الكلامُ بإدخال الثاني تحت حُكم الأول فينصب الثاني إظهاراً لإرادة المخالفة. وفي الموجب هما متحدا الحكم، فكأن الشاعر توهم معنى غير الموجب في الأول إما بالتمني أو بالشرط فنصب بعد الفاء. ووجه ضعفه أنه ليس في جواب الستة. والعذر أن فعل المضارع كالتمني والترجي في كونهما مترقبين. قوله: (وقرئ: "فيدمغه")، أي: بضمتين، في "المطلع": هي كما جاء في الحروف الحلقية من البابين، كطبخ وصبغ.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 19 - 20]. (وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون - لكرامتهم عليه - منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه. فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه) يعني: اختصاصُ لفظ "عند" مع عطفِ الخاص على العام دليلٌ على ذلك، قال الإمام: إنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الانقياد، بيَّنَ في هذه الآية أنه تعالى منزهٌ عن طاعتهم؛ لأنه المالك لجميع المخلوقات؛ ولأن الملائكة مع جلالتهم مطيعون خائفون منه، فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه. وقلتُ: عنى أن الكلام في أقوام مخصوصين معاندين، وهو حق كما سبق، ومجرد لفظ "عند" لا يدل على المطلوب. وقد جاء (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54 - 55]، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ) [ص: 47]، وغير ذلك، وغاية معنى الترقي والتدرج في الضعف والقوة الدلالة على أنهم لا يفترون في العبادة، وأن أحداً من البشر لا يدرك شأوهم في هذا المعنى، وهذا مما لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أمر آخر. قوله: (الاستحسارُ مبالغةٌ في الحسور)، وذلك أن السين فيه: طلب الحسور، ولا طلب هنا، فدل على المبالغة، فنفيُ الأبلغ لا يفيد نفي الأدونِ فيفيد إثبات التعب مطلقاً، والحالُ أنهم لا يتعبون رأساً، وأجاب أن في بناء المبالغة الإشعار بأن ما هم فيه من الطاعات في غاية من الثقل والتعب وإن كانوا لا يتعبون، نحوه قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)

عنهم أدنى الحسور؟ . قلت في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. أى، تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء: 21]. هذه "أم" المنقطعة الكائنة بمعنى "بل" والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [فصلت: 46] في أحد وجهيه، وهو أن الذنب في العظم بحيثُ من نظر إلى العذاب العظيم علم أن الذنب ما هو؛ لأن عظم العقوبة بحسب عظم الجناية، وفيه أنهم أحقاءُ لتلك العبادات الباهظة لأن اختصاصهم بنعمٍ لم ينعم بها على غيرهم يوجبُ ذلك، وفيه رائحةٌ من الاعتزال. قوله: (الباهظة) أي: المثقلة، يقال: بهظه الحملُ: أثقله. قوله: (أي: تسبيحهم متصل دائم)، تفسيرٌ لقوله (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) ويجوز أن يكون ذلك بياناً للجملة الأولى، قال الزجاج: (لا يَفْتُرُونَ): لا يشغلهم عن التسبيح رسالةٌ، ومجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا، لا يشغلنا عن النفس شيءٌ، كذلك تسبيحهم دائم. قوله: (قد آذنت) أي: دل تضمنُ "أمْ" معنى "بَل" على الإضراب عما سبق، كما أعلم تضمنها معنى الهمزة بالإنكار لما بعدها. وأما الإضراب فهو أن الكلام السابق واردٌ في شان طعنهم في النبوات، وما يتصلُ بها على ما سبق، أي: دع هذا النوع من الكلام، وافتح مشرعاً آخر، وهذا دل على أن الأوجه لتفسير اللهو بالولد لما يتلوه من قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً).

قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) الموتى، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات. فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا - مع إقرارهم لله عزّ وجل بأنه خالق السماوات والأرض (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)] لقمان: 25 [وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى - منكرين البعث ويقولون: من يحيى العظام وهي رميم، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثانى القديم، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟ قلت: الأمر كما ذكرت، ولكنهم بادّعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار، لأنه لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكنهم بادعائهم لها الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار)، قال الإمام: لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها، ولابد للعبادة من فائدة، وهي الثواب، فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب. وكذلك قال القاضي. والذي أقولُ - والعلمُ عند الله-: أن سبيل قوله تعالى: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) مع الكلام السابق سبيل قوله تعالى: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم: 40]؛ ولذلك قُيد بقوله: (مِنْ الأَرْضِ)، وذلك أن معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) كما مر: إنما خلقناهما لنجعلهما مساكن المكلفين وأدلةً لهم على المعرفة ووجوب الطاعة، والاحتراز عن المعصية، ثم بعد ذلك لابد من البعث والحشر (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس: 4]، الآية، يعني: ينبغي أن يكون الإله كما وصفناه، وألا لا يستقيم ولا يصح أن يكون إلهاً، ثم نزل من ذلك، وقال: دع ذلك كله، فالذي اتخذوه إلها هل يصح

يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأنّ ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأنّ الإلهية لما صحت صحّ معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. ونحو قوله (مِنَ الْأَرْضِ) قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد: مكياً أو مدنىياً. ومعنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض: لأنّ الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية. ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك»؟ فأشارت إلى السماء، فقال "إنها مؤمنة" لأنه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يُطلق عليه ما يتم به أمر الإلهية، وهو إثابة مطيعها وعقاب عاصيها؟ لأن مصحح المعبودية الحشرُ والنشرُ. يدل على التنزيل قوله تعالى بعد ذلك: (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) يعني: اترك ذلك، ألهم آلهةُ يقدرون على إثباتها بدليل من السمع والعقل، فـ"هم"- في قوله تعالى: (هُمْ يُنشِرُونَ) -: للدلالة على قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا على الاختصاص، لما قُلنا: أن لابد للمعبود من الإثابة العقاب. قال محيي السنة: ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإماتة، والإنعام بأبلغ وجوه النعم. قوله: (وفيه بابٌ من التهكم بهم، والتوبيخ والتجهيل)، يعني: أنهم إذا كانوا غير قادرين على أن يحييوا ويُميتوا ويضروا وينفعوا فبأي عقلٍ يجوزُ أن يتخذوا آلهةً؟ قوله: (ومن ذلك حديثُ الأمة)، وهو ما روى معاويةُ بن الحكم، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ن جاريةً لي كانت ترعى غنماً لي، فجئتها وقد فُقدت شاةٌ من الغنم، فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئبُ، فأسفتُ عليها، وكنتُ من بني آدم فلطمتُ وجهها وعليَّ رقبةٌ، فأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ "، فقالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ "، فقالت: أنت رسول الله صلى الله لعيه وسلم، فقال: "أعتقها". هذا لفظُ مالك، وقد أخرجهُ مسلمٌ

الأرضية التي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا لله عزّ وجلّ. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض. فإن قلت: لا بدّ من نكتة في قوله (هُمْ)؟ قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية، كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأبو داود والنسائي من حديث طويل كلهم عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه، إلا مالكاً، فإنه أخرجه عن هلال بن أسامة. قوله: (كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم)، والنُكتةُ فيه تتميمُ معنى التهكم والمبالغةُ فيه، قال في "الانتصاف": وفيه نظرٌ؛ لأن أداة الحصر مفقودة، وليس من قبيل: صديقي زيدٌ؛ فن المبتدأ في الآية أخص شيء؛ لأنه ضميرٌ. وعندي أن فائدة "هم": الإيذانُ بأنهم لم يتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون، و"هم": استئنافٌ، كأنه قال: أم اتخذوا آلهةً من الأرض مع الله فهم إذن ينشرون، إذ هو لازمُ قولهم، ومما يوضحه دليلُ التمانع الذي اقتبس من نور هذه الآية. وقلتُ: ليس لصاحب "الانتصاف" أن يشرع معه في البحث عن خواص التراكيب؛ لأنه ليس من رجاله. قال المصنف في "الفرقان": "هذا الفعلُ- أعني (اتَّخَذَ) - يتعدى إلى مفعولٍ واحد كقولك: اتخذ ولياً"، وإلى مفعولين كقولك: اتخذ فُلاناً ولياً"، فهنا إن جُعل متعدياً إلى مفعولين، وأُحلق بباب أفعال القلوب مثلاً، لاستقامة الحمل في الآية، وفي أمثال وفي قوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125] بأن يقال: (مِنْ الأَرْضِ) صفةٌ لـ (آلِهَةً)، والخبر: (يُنشِرُونَ)، كان (هُمْ) ضمير فصل فيفيد التخصيص، وإن جُعل متعدياً إلى مفعولٍ واحد، وجُعل (مِنْ الأَرْضِ) ثاني مفعوليه، كان (هُمْ يُنشِرُونَ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قبيل: أنا عرفتُ وهو عرفَ، في إفادة معنى التخصيص، ثم الذي عليه السياق الدلالة على قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا الاختصاص كما سبق. وليتصل دليلُ التمانع به، أي اتخذوه إلها لا يصح أن يُطلق عليه ما يتم به أمر الإلهية، ويسند إليه ذلك على الحقيقة، ثم قيل: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، يعني: لو فُرض ذلك وقُدر كما يُقدرُ المحالاتُ لانقلبت تلك الفائدة- التي ذكرناها في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)؛ لأن ضمير التثنية عائدٌ ليهما- مفسدةً، وذهب كل غله بما خلق. والفائدة أن جعلها مساكن المكلفين، وأدلةً على المعرفة، وجوب الطاعة، والاحتراز عن المعصية؛ ليجزيهم بالثواب والعقاب، قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ) [الزمر: 29]، وإليه أشار المصنفُ بقوله: "لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين" إلى قوله: "وهذا ظاهرٌ"، ولاحتمال الغير قال: "وأما طريقةُ التمانع فللمتكلمين فيها تجاول"، أي: ليس من اقتضاء المقام. ثم فرع على بيان التوحيد قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) كما فرعَ فيما سبق على النبوة قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)؛ ولذلك فسره بقوله: "سبحاننا أن نتخذ الله واللعب". ثم المطلوبُ في التنزيه إما تنزيهُ ذاته عن جميع ما ينسبُ غليه أهلُ الشرك، فهو المراد من قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ) وإما تنزيه ذاته عن جميع ما يتوهمه المتوهمون من نسبة القبائح إليه قياساً على المشاهد، فهو المراد من قوله: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) يدل عليه قوله: "عادةُ الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم"، يعني: لا يجو أن تُسأل الملوك ما يجوز ان يُسأل عنه غيرهم، ويرد عليهم تهيباً وجلالةً. وهذا المعنى مناسبٌ لقول

وحدهم. وقرأ الحسن "يُنْشِرُونَ" وهما لغتان: أنشر الله الموتى، ونشرها. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22]. وصفت (آلهة) ب (إلا) كما توصف "بغير"، لو قيل "آلهة غير الله". وإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصنف في قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ): "كما تُسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم"، فسبحان الذي دقت حكمته في كلامه، وعظمت جلالته في مُلكه وملكوته. قوله: (لأن "لو" بمنزلة "إنْ")، رُوي عن المصنف: "لوْ" بمعنى "إن" الشرطية في أن الغرض محضُ الملازمة. وقال ابن الحاجب: "لوْ" بمنزلة "إنْ" في أن الكلام معه موجب؛ لأن النفي المعنوي لا يجري مجرى الني اللفظين ألا ترى أنك تقولُ: أبي القوم إلا زيداً، بالنصب ليس إلا؟ ولو كان النفي المعنوي كاللفظي لجاز: أتى القوم إلا زيدٌ، وكان المختار، وهاهنا أولى؛ إذ النفيُ في "أتى" محققٌ غير مقدر، وفي "لو" مقدرٌ ما بعدها الإثبات. وقال صاحب "الكشف": ومما يدل على بطلان القول بالبدل هو أن قولك: ما جاءني في القوم إلا زيدٌ، ونحوه، مما يكون ما بعد "إلا" بدلاً مما قبلها عائدٌ إلى الإثبات، فمعنى: ما جاءني القوم إلا زيدٌ: جاءني زيدٌ، فكذلك هاهنا: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) لو كان بدلاً لكان معناه: لو ان فيهما الله لفسدتا، وهذا فاسدٌ، فثبت أن قوله: (إِلاَّ اللَّهُ) بمنزلة الوصف لآلهة. وقال المالكي في "شرح التسهيل": ولا يجوز أن يُجعل (اللَّهُ) بدلاً؛ لأن من شرط البدل في الاستثناء صحةُ الاستغناء به عن الأول، وذلك ممتنعُ بعد "لو"، كما يمتنعُ بعد

موجب، والبدل لا يسوّغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)] هود: 81 [وذلك لأنّ أعم العامّ يصح نفيه ولا يصح إيجابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "إن"؛ لأنهما حرفا شرط، والكلامُ معهما موجبٌ. ولذلك قال سيبويه: "لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكنا، لكنت قد أحلتَ"، أي: أتيت بممنوع، فصح قول سيبويه أن "لو" لم تُفرغ العامل من بعدها لما بعد "إلا" كما فُرغ بعد النفي، وإن كان ما تدل عليه من الامتناع شبيهاً بالنفي، ولو كانت بذلك مستحقةً لتفريغ ما يليها من العوامل لكانت مستحقةً لغير ذلك مما يختص بحروف النفي، كزيادة "مِن" في معمول ما يليها وإعماله في "أحد". قال السيرافي شارحاً لقول سيبويه: "لكنت قد أحلت"؛ لأنه يصير المعنى: لو كان معنا زيدٌ لهلكنا؛ لأن البدل بعد "إلا" موجبٌ، وكذا: لو كان فيهما الله لفسدتا، وهذا فاسدٌ. وحكى ابن السراج أن أبا العباس المبرد قال: لو كان معنا إلا زيدٌ أجودُ كلامٍ وأحسنهُ، وكلام المبرد في "المقتضب" مثلُ كلام سيبويه، وأن التفريغ والبدل بعد "لو" غيرُ جائز. انتهى كلامه. قوله: (وذلك لأن أعم العام يصح نفيه، ولا يصح إثباته)، قيل: مراده أن الاستثناء من أعم العام في طرف النفي غير ممتنع، وفي طرف الإثبات ممتنع؛ يجوز أن تقول: ما في الدار أحدٌ إلا زيدٌ، ولا يصحٌُّ: كان في الدار إلا زيداً، أي: في الدار جميعُ الأشياء إلا زيدٌ. وقال أبو البقاء: لا يجوز نصبُ "غير" على الاستثناء لوجهين، أحدهما: أنه فاسدٌ في المعنى، وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القومُ إلا زيداً لقتلتهم، كان معناه: أن القتل امتنع لكون زيدٍ مع

والمعنى: لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين، أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القوم، فلو نصبت في الآية لكان المعنى: أن فساد السماوات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله تعالى، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك؛ لأن المعنى: لو كان فيهما آلهةٌ غير الله لفسدتا. والوجه الثاني: أن (آلِهَةٌ) هنا نكرةٌ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يستثن منه عند جماعةٍ من المحققين؛ لأنه لا عموم له بحيث يدخلُ فيه المستثنى لولا الاستثناء. وإلى هذا يشير ابن الحاجب بقوله: لو كان معنى قوله: (إِلاَّ اللَّهُ) معنى الاستثناء، لجاز أن يقول: إلا الله بالنصب، ولا يستقيم المعنى؛ لأن الاستثناء إذا سُكتَ عنه دخل ما بعده فيما قبله؛ ألا ترى أنك لا تقولُ: جاءني رجالٌ إلا زيداً؟ فكذلك لا يستقيم أن تقول: لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا. قوله: (وفيه دلالة على أمرين) إلى آخره وقال صاحب "الفرائد": قوله: "وجوب ألا يكون مدبرهما إلا واحداً"، منظورٌ فيه من وجهين، أحدهما: أن من نفي الجماعة لا يلزم منه نفي الاثنين ولا الواحد، فكيف يلزم من نفي الآلهة وجوب التدبير للواحد؟ والثاني: لا يلزم من هذا التركيب كونه تعالى مدبراً، وإنما يلزم أن يكون منتفياً، كما انتفت الآلهة. والجواب: أنه لما تقرر أن هذه الآية متصلة بقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) وأن قوله: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) إنكارٌ عليهم، وتسجيلٌ على قلة نظرهم في تلك الدلائل، كان قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) برهاناً على تلك الدعوى، فالرد واردٌ على اتخاذهم الآلهة، فلايعمل بالمفهوم، كما في قوله تعالى: (لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران: 130]، ولأنه قد سبق أن المراد بالفساد فسادُ أمر المكلفين وعدم تمكنهم منا لعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لأجلها،

والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله (إِلَّا اللَّهُ). فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واستشهدنا بقوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) [الزمر: 29] الآية. ولكونه بُرهاناً على تلك الدعوى، ورداً على المشركين جمع الآلهة ولم يقل: لو كان فيهما إلهٌ، ولزم من إشارة النص على طريقة الإدماج المشار إليه بقوله: "وفيه دلالةٌ على أمرين" التوحيدُ؛ لان هذا الفساد كما يلزمُ من المجموع يلزمُ من الاثنين، ولذلك أورد السؤال: "لِم وجب الأمران وأجاب: "لعلمنا أن الرعية تفسدُ بتدبير الملكين"ن وأما لزوم التدبير من هذا التركيب فمن إيقاع (فِيهِمَا) ظرفاً لـ (آلِهَةً)، على منوال قوله: (هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ) [الزخرف: 84]، وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) [الأنعام: 3]، ولأن اسمه الجامع حاملٌ للمعاني الإلهية كما نقل الأزهري عن أبي الهيثم: لا يكونُ إلها حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعباده خالقاً ورازقاً ومدبراً وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله. قوله: (حين قُتِلَ عمرو بن سعيد)، وفي "التاريخ الكامل": هو عمرو بن سعيد بن أبي العاص بن أمية الأشدق. وأما عبد الملك فهو ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص. وكانت أمُّ عمرو أم البنين بنتُ الحكم عمة عبد الملك. وكان سبب قتله على ما رواه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوريُّ في "الأخبار الطوال"، أن عبد الملك لما ملك خرج عليه عمرو بن سعيد، ثم اصطلحا على أن يكونا مشتركين في المُلك، وأن يكون اسم الخلافة لعبد الملك، وعمروٌ بعده يلي أمر الخلافة، وكتبا بذلك كتاباً وأشهدا أشراف أهل الشام عليه،

الأشدق: "كان والله أعزّ علىّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول" وهذا ظاهر. وأمّا طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان روحُ بن زنباع من أخص الناس بعبد الملك، فقال له وقد خلا به: يا أمير المؤمنين، هل من رأيك الوفاءُ بعمرو؟ فقال: ويحك يا ابن زنباع! وهل اجتمع فحلان على هجمةٍ قطُّ إلا قتل أحدهما صاحبه؟ فدخل يماً عمرو على عبد الملك وقد استعد للغدر بهن فأُخذ وذُبح ذبحاً، فأحس أصحابه فتنادوا، وكان عبد الملك قد هيأ خمسين صُرةً، فأمر بها فألقيت إليهم مع رأسه، فترك أصحابه الرأس وأخذوا الصرر وتفرقوا. وفي ذلك يقولُ قائلهم: غدرتم بعمرو آل مروان ضلةً ... ومثلكم يبني البيوت على الغدر وما كان عمرو عاجزاً غير أنه ... أتته المنايا بغتةً وهو لا يدري أن بني مروان إذ يقتلونه ... بُغاثٌ من الطير اجتمعن على صقر الهجمةُ من الإبل: أولها الأربعون إلى ما زادت. قوله: (الأشدق). الجوهري: الشدقُ: جانبُ الفم، والجمعُ: الأشداقُ. والشدقُ بالتحريك: سعةُ الشدق، يقال: خطيبٌ أشدقُ، بيِّنُ الشدق. والشولُ: النوقُ التي قل لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعةُ أشهرٍ وثمانية، والواحدةُ: شائلةٌ، وهو جمعٌ على غير قياس. قوله: (وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد)، ويُروى: "تجاولٌ"، من الجولان، وهو أنسبُ لصنعةِ مراعاة النظير بين التمانع والتجاول والطراد. قال الإمام: قال المتكلمون: القول بوجود إلهين يُفضي إلى المحال؛ لأنا لو فرضنا إلهين، ولابد أن يكون كل واحدٍ منهما قادراً على كل المقدورات، فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريك زيد، والآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محالٌ أو لا يقع مراد ٌواحدٌ منهما وهو محالٌ؛ لأن المانع من وجود مُرادِ كل واحدٍ منهما مرادُ الآخر فلا يمتنعُ مرادُ هذا إلا عند وجود مراد ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبالعكس، فلو امتنعا معاً لوُجدا معاً، وذلك محالٌ، أو يقع مرادُ أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محالٌ؛ لأنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالذي وقع مراده يكون قادرا، والآخر عاجزاً، والعجز نقصٌ، وهو على الله تعالى مُحال. فإن قيل: الفسادُ إنما يلزمُ عند اختلافهما في الإرادة، وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما، بل أقصى ما تدعونه أنه ممكن، فكان الفسادُ ممكناً لا واقعاً، فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد؟ قُلنا: الجواب من وجهين، أحدهما: لعله تعالى أجرى الممكن مُجرى الواقع بناءً على الظاهر، ولعل مراد المصنف من قوله: "وهذا ظاهرٌ" هذا. وثانيهما: أنا لو فرضنا إلهين لكان كل واحدٍ منهما قادرً على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور عن قادرين مستقلين من وجه واحد، وهو محالٌ؛ لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحدٍ منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعلُ لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيلُ استناده إلى هذا، لكونه حاصلاً منهما جميعاً، فيلزم استغناؤه عنهما، احتياجه إليهما معاً. وهذه الحجةُ قائمةٌ في مسألة التوحيد، فثبت أن القول بوجود إلهين يُفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحدٍ منهما، فلا يقع البتة، فيلزمُ وقوعُ الفساد. وقال صاحبُ "الانتصاف": دليلُ التمانع الذي يقتبس من نور هذه الآية أن يقال: لو فُرضَ وجودُ إلهين فإما أن يتم لكل واحدٍ منهما القدرة على ما يشاء، أو لا يتم لواحدٍ منهما، أو لأحدهما دون الآخر، وأدقُّ الأقسام إبطالا ًأن يكونا قادرين، فاقتصر في الكتاب العزيز عليه.

ولأنّ هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقرّ. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء: 23]. إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: "وأما طريقةُ التمانع فللمتكلمين فيها تجاولٌ وطراد" جُملةٌ مستطردة دخلت بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لأن قوله: "ولأن هذه الأفعال" معطوفٌ على قوله: "ولعلمنا أن الرعية"، وملزوزٌ به، وبانضمامه معه يتم الجواب قطعاً، والمراد من قوله: "هذه الأفعال" هو خلق السماوات والأرض وما بينهما وما بين يدينا وبحضرتنا من المصنوعات، يدل عليه قوله - فيما مر في تفسير (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ) الآيات-: "أي: ما سوينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق" إلى قوله: "اللهو واللعب"، يعني: أن هذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة محتاجةٌ إلى ذات له الحكمة الفائقة والقدرة الكاملة، والعلمُ النافذ حتى تثبت وتستقر: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر: 41]. قوله: (بتلك الصفات) متعلقٌ بقوله: "المتميزة"، قيل: فيه إشارة إلى مذهبه، وهو أن ذاته تُساوي سائر الذوات في كونه ذاتاً؛ إذ المعنى بالذات: مايصح أن يُعلم ويُخبر عنه، وهو مشتركٌ، ويخالفه الأحوال الأربعة: الحيةُ، والواجبية، والعالمية، والقادرية، وهذا قول أكثر المعتزلة، وأثبت أبو هاشم حالةً خامسةً، وهي علةٌ للأحوال الأربعة مميزةٌ للذات، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: ذاته المقدس تخالف سائر الذوات في كونه ذاتاً، أي: حقيقة لا تماثل غيرهن ويمنعون أن يقال: معنى الذات: ما يصح أن يُعلم ويُجبر عنه؛ لجواز

وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطإ والزلل وأنواع الفساد عليهم - كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله، مع ما علم واستقرّ في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح. (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أى هم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما خلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 24]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون هذا المفهوم أمراً عارضاً لما صدق عليه، واشتراكُ العوارض لايستلزمُ اشتراك المروضات وتماثلها، وتحقيق هذه المسألة في الكتب الكلامية. قوله: (مفعولٌ بدواعي الحكمة). الانتصاف: ما أقبح هذا في حق الله تعالى! فالدواعي والصوارفُ تُستعملُ في أفعال المحدثين. وقوله: "ولا يجوزُ عليه فعلُ القبائح"، لقد نسيت. وما بالعهد من قدم حيثُ يجعلُ مع الله شريكاً في خلق الأفعال، وغيرهم أشركوا الملائكة، وهؤلاء أشركوا أنفسهم والجن والحيوانات، نعوذُ بالله تعالى من ذلك. قوله: (هم مملوكون مُستعبدون خطاؤون) يُشير إلى أن قوله: (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) كنايةٌ عن هذا المعنى؛ لأن من يسألُ عنه: لم فعلتَ؟ لم يكن إلا مقهوراً خطاءً، وبضده إذا لم يُسأل عنه ما فعل.

كرّر (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه. أى (هَذَا) الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد علىّ فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمّته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ "ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" بالتنوين. و"من" مفعول منصوب بالذكر كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد: 14 - 15] وهو الأصل، والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم: 3]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كرر (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)، أي: قال: "أم اتخذوا آلهةً من الأرض هم ينشرون" ثم عاد إلى هذا القول استفظاعاً لشأنهم، يعني: خلقنا السماء والأرض لداعي المعرفة والعبادة، ثم الجزاء، وهم اتخذوا آلهةً ليس من شأنها ذلك، بل اتخذوا من لم يُنزل فيه سلطاناً، فانظروا إلى هذا الأمر الفظيع. وقلتُ: وليكون وسيلةً إلى الرجوع إلى ما سبق الكلام له، وهو قوله تعالى: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)، ثم قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية، ثم في مجيء هذا، والإضراب بقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) إلى آخر الآية تتميمٌ لذلك الاستفظاع ومبالغةٌ فيه، فقوله: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) نفيُ البرهان من جهة الوحي، وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) نفيُ البرهان من جهة العقل، وقوله: (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) مسببٌ لفقدان دليل العقل، وإليه الإشارة بقوله: "فمن ثم جاء هذا الإعراضُ". قوله: (متوعدٌ عليه فيه) الضمير في "فيه" راجعٌ إلى قوله: "كتابا"، وقوله: "مدعو "ومنهيٌّ" و"متوعد"، قد تنازعت في الظرف.

وقرئ (مَنْ مَعِيَ) و"مَنْ قَبْلِي" على "من" الإضافية في هذه القراءة. وإدخال الجار على «مع» غريب، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف، نحو: قبل، وبعد، وعند، ولدن، وما أشبه ذلك، فدخل عليه «من» كما يدخل على أخواته. وقرئ: "ذكر معى وذكر قبلي". كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار. وقرئ «الحق» بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب. والمعنى: أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على "مِن" الإضافية)، قال ابن جني: "هذا ذكرٌ من معي وذكرٌ من قبلي" بالتنوين، وكسرُ الميم من "مِن" هي قراءة يحيى بن يعمُرَ وطلحة بن مُصرف. وهذا أحدُ ما يدل على أن "مع" اسمٌ. حكى صاحبُ "الكتاب" وأبو زيدٍ ذلك عنهم، يقولُ: جئتُ من معهم، أي: من عندهم، فكأنه قال: هذا ذكرُ من عندي ومن قبلي، أي: جئتُ أنا به كما جاء به الأنبياء من قبلي. قوله: (وقرئ: "الحقُّ" بالرفع)، قال ابن جني: هي قراءة الحسن وابن محيصن. قال ابن جني وصاحب "المرشد": يجوز حينئذ الوقفُ على قوله: (لا يَعْلَمُونَ)، ويُبتدأ "الحق" بمعنى: هو الحقن والوقف التام عند قوله: (مُعْرِضُونَ). وقُلتُ: فعلى هذا (لا يَعْلَمُونَ) مطلقٌ من قبيل: فلانٌ يعطي ويمنع؛ ولذلك عبر عنه بالجهل. وقوله: "وهو الحقُّ" معترضٌ بين السبب والمسبب لتأكيد هذا الحكم، فإذا وقف على (مُعْرِضُونَ) كان الوقفُ تاماً من حيث المعنى؛ لأن السبب والمسبب كالشيء الواحد. وإذا وقف على (لا يَعْلَمُونَ) كان جائزاً من حيث اللفظ، فقول المصنف: "أن إعراضهم بسبب الجهل"، كلامٌ تامٌ، وقوله: "هو الحقُّ" توكيدٌ له، فهو وزان قوله: هذا عبد الله الحق

إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل. ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على هذا المعنى، كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]. (يوحى) و (نُوحِي): مشهورتان. وهذه الآية مقرّرة لما سبقها من آي التوحيد. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 26 - 29]. نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا الباطلُ، فلا تعلق لقوله: "بسبب الجهل" بقوله: "إعراضهم" ليُجعل الخبر "هوا لحق"، وقول من قال: الحكم بأن إعراضهم بسبب الجهل حقٌّ، يُحملُ على تلخيص المعنى كما مر آنفاً أن قوله: هو الحق معترضٌ لتأكيد الحكم، لا أنه عمد به إلى أن يبين تعلق قوله: "بسبب الجهل" بقوله: "بإعراضهم" كما توهم. قوله: ("يوحى، و (نُوحِي))، بالنون: حفصٌ وحمزة والكسائي، والباقون: بالياء. قوله: (وهذه الآية مقررةٌ لما سبقها من آي التوحيد)، وقلت: قد مر مراراً أن السورة نازلةٌ في شأن النبوة وما يتعلق بها، وكلما فرغ من الكلام كرَّ إلى ما سيق له الكلام ليتعلق به نوعٌ آخر، فلما قيل: " (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ) وعلق به منشور التوحيد، وتوقيع (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا)، جُعل ذريعةً وتخلصاً إلى قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً).

بأنهم عباد والعبودية تنافى الولادة، إلا أنهم (مُكْرَمُونَ) مقرّبون عندي مفضلون على سائر العباد، لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادى، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا. وقرئ "مكرّمون". و"لا يَسْبِقُونَهُ" بالضم، من: سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى: أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله. والمراد: بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدّمون قوله بقولهم، كما تقول: "سبقت بفرسي فرسه"، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره: لا يعملون عملا ما لم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مَن زعَمَ): مفعولُ "غَرَّ"، و"منهم": بيانُ "مَن"، أو: للتبعيض، وهو مفعولُ "غَرَّ"، و"مَن زعَمَ": بدلٌ منه. قوله: (مُفضلون على سائر العباد)، قال في "الانتصاف": جعل الزمخشري القرآن تبعاً لرأيه، وليس غرضُنا إلا بيان ذلك خاصة، فإن لفظ (مُكْرَمُونَ) لا يفيدُ إلا إكراماً مطلقاً. أما على كونه مفضلين على سائر العباد، أو على بعضهم فلا. قوله: (أي: لا يتقدمون قوله بقولهم)، قيل: جعل "تقدم" متعدياً إلى واحدٍ وعداه بالباء إلى اثنين، ولم يوجد ذلك في اللغة، لكن يُجعلُ تركيبه بمنزلة نقله. قلتُ: لعل هذا السائل ما نظر إلى قوله في الحجرات: "قدمَه"، وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة، مِن: قدمه: إذا تقدمه في قوله تعالى: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) [هود: 98]، ونظيرهُ معنى ونقلاً: سلفه وأسلفه ... "، وأنشد الجوهريُّ للبيد: فمضى وقدمها ... البيت، أي: تقدمها. قوله: (كما تقولُ: سبقتُ بفرسي فرسه)، قال القاضي: أصلُه: لا يسبقُ قولهم قوله، فنسب السبق إليه تعالى وإليهم، وجعل القول محله وقرينته تنبيهاً على استهجان السبق، وتعريضاً بالقائلين على الله ما لم يقُلهُ، ونحوه قال المصنفُ في قوله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ

يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم إنهم مع هذا كله من خشية الله (مُشْفِقُونَ) أى متوقعون من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدي اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]: هو تمثيلٌ، وفيه تصويرُ الهُجنةِ والشناعةِ فيما نهُهوا عنهُ من الإقدام على أمرٍ من الأمور دون الاحتذاء على الكتاب والسُّنة. قوله: (بعين الله)، أي: بمراقبة الله، وهو حالٌ، وقال في طه: (عَلَى عَيْنِي) [طه: 39] أي: أنا أراقبُك كما يُراقبُ الرجلُ الشيء بعينه: إذا اعتنى به. قوله: (فلإحاطتهم بذلك)، معناه: بسبب إحاطة الملائكة بأن الله تعالى مراقبٌ لأحوالهم كلها، وأنه يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم يضبطون جميع أحوالهم، وبعضُ ذلك الضبط أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فدل هذا الكلام على أن قوله تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ) عطفٌ على محذوفٍ هو مسببٌ عن جملة قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، وأن ذلك المحذوف عامٌّ في جميع ما يجب أن يُراعى ويحفظ من الأحوال، وقوله: (وَلا يَشْفَعُونَ) بعض منها، وإليه الإشارة بقوله "يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم ويعمرون أوقاتهم"، فقوله: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) تتميمٌ في غاية الحُسن لضبط أنفسهم، ورعاية أحوالهم كلها سابقها ولاحقها؛ ولذلك قال: "من أمارةٍ ضعيفةٍ كائنون على حذر"، وعن بعضهم، أي: يقولون: لعلنا نقصرُ في عبادة الله، والمؤمنون متوقعون من أمارة قوية لكثرة ذنوبهم. وفيه أن الصغيرة جائزةٌ للتعذيب. قوله: (للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم)، مذهبه.

أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله"، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية. فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون، كما قال (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)] الأنعام: 88 [قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد. (أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]. قرئ «ألم تر» بغير واو. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورقبة). الأساس: رقبهُ وراقبه: حاذره؛ لأن الخائف يرقُبُ العذاب. قوله: (كالحلس). النهاية: هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب، شُبه به للزومه. قوله: (فاجأ بالوعيد الشديد)، يعني: أتى بما لم يحتسب، وكان من مقتضى الظاهر بعد إجراء كل الصفات الكاملة على الملائكة المقربين أن يُعقب بالوعد العظيم، وبالثواب والتكريم، لكن جيء بقوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ)، أي: من دون الله، وهو وعيدٌ شديد؛ ليؤذن بأن الشرك أمر فظيع، وأنهم مع جلالتهم إن صدر منهم الشركُ، ترتب عليه ذلك العذاب نحو قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65]. قوله: ("ألم ير" بغير واو)، أي: بعد الهمزة: ابن كثيرٍ، والباقون: بالواو.

و"رَتْقاً" بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول، كالخلق والنقض، أى: كانتا مرتوقتين. فإن قلت: "الرتق" صالح أن يقع موقع "مرتوقتين" لأنه مصدر، فما بال الرتق؟ قلت: هو على تقرير موصوف، أى: كانتا شيئا رتقا. ومعنى ذلك: أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"رتقاً" بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول)، قال ابن جني: قراها الحسنُ وعيسى الثقفيُّ، وقد كثُرَ عنهم مجيءُ المصدر على "فعل" ساكن العين، واسمُ المفعولِ منه على "فعلٍ" مفتوحها، فالرتق بفتح التاء هوالمرتوقُ، كالنقض والطرد بمعنى المنقوض والمطرود. قوله: ("الرتقُ" صالحٌ أن يقع)، تلخيصه: المصدر يصح أن يُراد به التثنية والجمعُ والواحدُ، فما بالُ: "الترقُ" بفتح التاء؛ فإنه اسم مفعول استعمل بمعنى: مرتقوتين. وأجاب: أن السماوات والأرض يقع عليهما اسمُ الشيء، فكأنه قيل: شيئاً رتقاً. الراغب: الرتق: الضمُّ والالتحامُ خلقةً كان أو صنعةً، قال تعالى: (كَانَتَا رَتْقاً)، أي: منضمتين، والرتقاءُ من الجارية: المنضمة الشفرتين، وفلانٌ راتقٌ وفاتقٌ في كذا أي: هو عاقدٌ وحال. قوله: (أن السماء كانت لاصقة) ن روى محيي السنة، عن مجاهد والسدى: كانت السماوات مرتقةً طبقةً واحدة، ففتقها فجعلها سبع سماواتٍ، وكذلك الأرضُ. وقال عكرمةُ وعطيةُ: كانت السماءُ رتقاً لا تُمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. وقال الزجاجُ: ويدل على هذا التفسير قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا

الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها. وقيل: ففتقناهما بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة، وإنما قيل: (كَانتَاَ) دون "كنّ"، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، ونحوه قولهم: "لقاحان سوداوان"، أى: جماعتان، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر. فإن قلت: متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وقال القاضي: فعلى هذا المراد بالسماوات: سماءُ الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق، أو: السماوات بأسرها على أن لها مدخلاً ما في الأمطار. قوله: (مُصمتةً): الأساس: شيءٌ مصمتٌ: لا جوف له، وقُفلٌ مصمتٌ: قد أُبهم إغلاقه. قوله: (لقاحان سوداوان)، الجوهري: اللقاح بالكسر: الإبل بأعيانها، الواحدة لقوح، وهي الحلوب، وقولهم: لقاحان سوداوان كما قالوا: قطيعان؛ لأنهم يقولون: لقاحٌ واحدةٌ، كما يقولون: قطيع واحدٌ، وإبلٌ واحد. قوله: (فُعِلَ في المضمر)، أي: في (كَانَتَا)، حيثُ جعل ضمير "السماوات"، وضمير "الأرض"، كل واحدٍ منهما بمنزلة جماعة، كما في المظهر، "أي": "لقاحان". قوله: (متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك)، أي: الهمزة في (أَوَلَمْ يَرَ) للتقرير، وتحريرُ السؤال والجواب ما ذكره الإمام، قال: لقائل أن يقول: إن المراد بالرؤية إما النظر وإما العلمُ، والأولُ مشكل؛ لأن القوم ما رأوهما قطُّ، لقوله تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الكهف: 51]، والثاني كذلك؛ لأن الجسام قابلةٌ للفتق والرتق في أنفسها، فالحكم عليها بالرتق أولاً، وبالفتق ثانياً، لا سبيل إليه إلا بالسمع، والمناظرةُ مع المنكرين للرسالة؟ والجوابُ: أن المراد من الرؤية: العلمُ، ودفعُ السؤال من وجهين، أحدهما: إنا نثبتُ نبوةَ محمدٍ صلواتُ الله وسلامه عليهن ثم نستدل بقوله، ثم نجعله دليلاً على حصوله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: أن يُحمل الفتقُ والرتقُ على إمكانهما، والعقلُ يدل عليه، لأن الأجسام يصحُّ عليها الاجتماعُ والافتراق، فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً. ويجوزُ أن يقال: إن أهل الكتاب كانوا عالمين بذلك، وكان بين عبدة الأوثان وبينهم مخالطة، فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قولهم. وقال صاحب "الفرائد": أما الجواب الأول لصاحب "الكشاف" فمنظورٌ فيه؛ لأنهم كُفار، فكيف يكون لهم اعتقادٌ بما في القرآن لكونه في القرآن؟ فإن قيل: لما كان القرآن معجزةً وجب أن يؤمنوا به ثم يروا ذل. قُلنا المراد من هذا إنكارُ إشراكهم، وأنهم لم يستدلوا به على أنه واحدٌ لا شريك له؛ لأنهم مقرون بأن السماوات والأرض وما يتعلق بهما لم يكن إلا مخلوقاً لله تعالى، وأنه لا يمكن مثلُ ذلك مما جعلوه له شركاء. فكيف يستقيمُ أني قال لهم: لِمَ لمْ تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حقٌّ بما أتى به من الكتاب؛ لتروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، أي: لتعلموا، لأنكم وجدتموه في الكتاب، ثم تعلموا أنه واحدٌ لا شريك له، ولا يتوقفُ العلم بالتوحيد على العلم بالنبي صلى الله عليه ولم، وكما يدل الرتق يدل الفتق مع أن العلم بالفتق ضروريٌّ، وبالرتق استدلالي. والاعتراضُ على الثاني أن يقال: كما أنه لابد للتباين من مخصص، لابد للتلاصق من مخصص؛ لأنه يمكن أن يكون متلاصقين، كما يمكن أن يكونا متباينين، ووجوب المخصص باعتبار الجواز، فكان لا الطرفين مفتقراً إلى المخصص فقوله: "فلابد للتباين دون التلاصق من مخصص" مع أنه موهم بتخصيص المخصص بالتباين في جواب السائل: "متى رأوهما رُتِقا؟ " منظورٌ فيه. وقلتُ: إذا حُمل على فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات، فالمعنى ظاهرٌ. وإذا حُمل أن السماوات كانت طبقةً واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبعاً، وكذا الأرض،

قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئىّ المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالمراد من قوله: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) فليعلموا ذلك، على هذا المعنى حُمل في "التفسير"، وقال في هذا الوجه: (أَفَلا يُؤْمِنُونَ): أفلا يصدقون. تم كلام صاحب "الفرائد". وقلتُ: ولا ارتياب في بُعد ذلك الاستدلال، فنهم إذا استدلوا بأن القرآن حقٌّ، فأيُّ حاجة إلى العلم بأن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؛ فإن علم التوحيد والتنزيه فيه أشد سطوعاً من ذلك، فيجوزُ إثبات التوحيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، لما تقرر في الأصول: أن إثبات للرسالة موقوفٌ على وجود الصانع، لا على وحدته. فنقول: إن هذا الإنكار وقع مع الذين نسبوا الولد إلى الله تعالى، فهم لا ينكرون البتة بأنه سبحانه وتعالى خالقُ السماوات والأرض ومبدعهما ومخترعهما، ألا ترى إلى قوله تعالى في البقرة: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 116 - 117]، وفي الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام: 101]؟ فكأنه قيل لهم: كيف تتفوهون بهذه العظيمة، وتغفلون عما أنتم مقرون به وتعتقدونه من أنا أبدعنا هذه الأجرام العظام، واخترعناها ابتداءً، فهلا تتفكرون فتعلمون أن مبدع السماوات والأرض لا يستقيم أن يوصف بالولادة كما سبق في "الأنعام"، فوضع موضع "أبدع السماوات والأرض" قوله تعالى: (أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) مزيداً للتصور، أنه تعالى يصورُ لهم تلك الحالة التي وقعت الخلقةُ والإبداعُ عليها ليكون أردع وأزجر. وإذا كانوا مقرين بأصل الإبداع فأي بُعدٍ في إثبات العلم بذكر الفتق والرتق الذي هو بيان حالة الإبداع وتفصيلهن بل هو آكد؟ ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، حيث وضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع الضمير للإشعار بأن القائلين ستروا الحق، وغطوا على عقولهم بهذا القول الفظيع، والله تعالى أعلم.

(وَجَعَلْنا) لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدّى إلى واحد، فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)] النور: 45 [، أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)] الأنبياء: 37 [وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى: صيرنا كل شيء حىّ بسبب من الماء لا بدّ له منه. و «من» هذا نحو «من» في قوله عليه السلام «ما أنا من دد ولا الدد منى» وقرئ: "حيا"، وهو المفعول الثاني. والظرف لغو. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فالمعنى: خلقنا من الماء)، يعني: إذا جعل (وَجَعَلْنَا) متعدياً إلى مفعولٍ واحد فهو بمعنى: خلقنا، فـ"مِنْ" إما ابتدائيةٌ أو بيانيةٌ، فعلى أن تكون ابتدائيةً: الجار والمجرورُ متصل بالفعل، و (كُلَّ شَيْءٍ): مفعولٌ به، و (حَيٍّ): صفةٌ للشيء، فالمعنى: أنشأنا كل حيوان من الماء، وهو المراد من قوله: "خلقنا من الماء كل حيوان"، فقدم الجار والمجرور على المنصوب، وعلى الثاني: الجار والمجرورُ حالٌ قُدمت على صاحبها؛ لكونها نكرةً، وأنت تعلمُ أن "مِن" البيانية قد تكونُ تجريدية، نحو: رأيتُ منك أسداً، جُردَ من الماء الحي مبالغةً، كأنه هو، وإليه الإشارة بقوله: "أو كأنما خلقناه من الماء لفرطِ احتياجه إليه"، فأخر الظرف، وإذا جُعِلَ متعدياً إلى مفعولين كان المعنى صيرنا، فـ"مِنْ": إما اتصاليةٌ، أو صلةٌ، فعلى الأول المعنى: كل حيٍّ متصلٌ بالماء وملابسٌ له، كقوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67]، أي: مُشتبكٌ ببعض متصلٌ بالأسباب، وإليه الإشارة بقوله: "بسببٍ من الماء"، أي: مخالطٌ به غير منفك عنه؛ لأن السبب هو: ما تُوصل به إلى المقصود من علم أو آلةٍ أو قدرة، وعلى الثاني الظرف: لغوٌ، فيحتاجُ "جعلنا" إلى مفعولين؛ لأن اللغو: ما يتم الكلام بدونه، وإليه الإشارة بقوله: "حياً"، وهو المفعول الثاني، والظرف لغوٌ. قوله: (ما أنا من ددٍ، ولا الددُ مني)، النهاية: الددُ: اللهوُ واللعبُ، وهي محذوفةُ اللام، ولا يخلو المحذوفُ من أن يكون ياءً، كقوله: يدٌ في يدي، أو نوناً كقولهم: لدُ في لدن، ومعنى التنكير في الأول: الشياعُ والاستغراق، وأن لا يبقى شيءٌ منه إلا وهو منزهٌ

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 31 - 32]. أى: كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وتضطرب. أو لأن تميد بهم، فحذف «لا» واللام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه صلواتُ الله وسلامه عليهن أي: ما أنا في شيءٍ من اللهو واللعب، والتعريفُ في الثاني: للعهد، أي: ولا ذلك النوع مني، وإنما لم يقل: ولا هو مني لأن الصريح آكد وأبلغ. وقيل: اللامُ للجنس. قال: واختار الزمخشري الأول وقال: ليس يحسنُ أن تكون للجنس؛ لأنه يخرجُ الكلام عن التئامه، والكلام جملتان وفي الموضعين المضافُ محذوف، أي: ما أنا من أهل ددٍ، ولا الددُ من أشغالي. قال أبو عليٍّ: قد جاء: "موالي القوم منهم"، و"الأذُنانِ من الرأس" وقال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67]، أي: بعضٌ يُلابس بعضاً ويوالي بعضاً، وليس المعنى على النسل والولادة؛ لأنه قد يكونُ من نسل المنافق مؤمنٌ وبالعكس. وعن بعضهم: أي: ما أنا لعبي ولا الددينوي، كقوله تعالى: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ) أي: آلهةً أرضيةً، أي: جعلنا كل رطبٍ مائياً. قوله: (أي: كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وتضطرب، أو لأن لا تميد بهم)، الانتصاف: وأولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك: أعددتُ هذه الخشبة أن يميل الحائط، أي: أعددتها أن أدعم الحائط بها إذا مال، وقدم ذكر الميل عنايةً بأمره، ولأنه السبب في الإدعام، والإدعامُ سببُ إعدادِ الخشبة، فعامل سبب السببِ معاملةَ السبب، فكذا هذا، أي: يُثبتها إذا مادت. المعنى: خلقنا في الأرض رواسي لأن تستقر الأرضُ بها إذا مادت، قال: هذا أقربُ من قول الزمخشري، إذ مكروه الله تعالى محالٌ أن يقع، ولأن المُشاهد خلافُه،

وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس، كما تزاد لذلك في نحو قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهلُ الكِتَابِ)] الحديد: 29 [وهذا مذهب الكوفيين. الفج: الطريق الواسع. فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً)] نوح: 20 [؟ قلت: لم تقدّم وهي صفة، ولكن جعلت حالا كقوله: لعزّة موحشا طلل قديم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكم من زلزلة أمادت الأرض، وعلى تقديرنا معناه: أن الله تعالى يُثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وذلك لا ينافي الميد. قوله: (الفج: الطريق الواسع)، الراغب: الفج: شقةٌ يكتنفها جبلان، قال تعالى: (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27]، وقال: (فِجَاجاً سُبُلاً)، والفجج: تباعد الركبتين، وهو أفج، من الفجج، ومنه: حافرٌ مفججٌ، وجرحٌ فجٌّ: لم ينضج. قوله: (لعزة موحشاً طللٌ قديمُ)، تمامه: عفاه كل أسحم مستديم مذهب الكوفيين والأخفش أن "طللٌ" فاعلٌ "لعزةَ"، والحالُ مقدمٌ على ذي الحال. ومذهب سيبويه أن ذا الحال هو الضمير المستتر في "لعزةَ"، و"طللٌ" مبتدأ، والتقديرُ: طللٌ قديمٌ حصل لعزة موحشاً، فلا تكون مقدمةً على ذي الحال النكرة، والتمثيل إنما يصح على مذهب الكوفيين والأخفش.

فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة. والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة. (عَنْ آياتِها) أى عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس «2» والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، وأىّ جهل أعظم من جهل من أعرض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما الفرقُ بينهما من جهة المعنى؟ )، أي: بين قوله: (سُبُلاً فِجَاجاً) [نوح: 20] وبين قوله: (فِجَاجاً سُبُلاً)، وخلاصةُ الجواب: أن (سُبُلاً فِجَاجاً): دل على أنه تعالى جعل فيها طرقاً واسعة، ولكن لم يعلم كيفية خلقها، أي: أنها خُلقت ابتداءً كذلك أم غُيرت من حالة إلى حالة، فبين بقوله: (فِجَاجاً سُبُلاً) أنها كانت فجاجاً غير نافذةٍ مانعة لقاصديها من السلوك، ثم جعلت نافذةً مسلكةً امتناناً، كقوله تعالى: (أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)، وهو المراد من قوله: "فهو بيانٌ لما أبهم ثمةَ"، أي: في تلك الآية. وقال محيي السُّنة: الفج: الطريق الواسع بين جبلين، و (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج. معناه ما قال صاحب "المطلع": (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج، وبيانُ أن تلك الفجاج نافذةٌ مسلوكةٌ، فقد يكون الفج غير نافذ. وقال الزجاجُ: كل مخترق بين جبلين فهو فج. فإن قلت: لم قُدم هاهنا، وأخر هناك؟ قلتُ: تلك الآية واردةٌ لبيان الامتنان على سبيل الإجمال، وهذه لبيان الاعتبار، والبعث على إمعان النظر فيه، وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم عقب قوله: (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) بهذه، وهذا يُقوي ما ذهبنا إليه في إيثار "الفتقِ" و"الرتْقِ" على "الإبداع" لاقتضاء المقام التفصيل.

عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها، والاعتبار بها، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو عزت قدرته ولطف علمه. وقرئ "عن آيتها"، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس أى: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية، كالاستضاءة بقمريها، والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها، وهم عن كونها آية بينة على الخالق (مُعْرِضُونَ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذه النصبة)، "النصبةُ": مصدرٌ بمعنى النوع، كالركبة والجلسة، أي: نوعٌ منه عجيبٌ. قوله: (وقرئ: "عن آيتها" على التوحيد اكتفاءً بالواحدة في الدلالة على الجنس)، يعني: المرادُ بالآية ما يدل على وجود الصانع القادر العليم الحكيم، وذلك كما يحصلُ من مجموع ما وضع في السماء من الشمس والقمر والنجوم ومسايرها وغير ذلك، قد يحصل من واحدةٍ منها. والمرادُ بالإعراض: إنكارُ كونها دالةً على المطلوب، يعني: أنهم متفطنونَ لتلك التفاصيل، ويدركون أوضاعها وينتفعون منها بالمنافع الدنيوية، لكنهم معطلةٌ ينكرون المنفعة العظمى، وهي دلالتها على وجود مُنشئها، وأنه فاعلٌ مختار، ومعبودٌ مستحقٌّ أن يُعبد، فيدخل فيه المنجمون والطبيعيون والمعاندون، وهؤلاء أسوأ حالاً من الأولين، وأما المعنى بالآيات على قراءة الجمع فهو ما وضع فيها من الدلائل والعبر المتكاثرة. والمرادُ بالإعراض: الذهول، وعدم إجالة الفكر، فهم كالأنعام ساهون غافلون، كقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105]، أي: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون، ومن ثم قال: "وأيُّ جهلٍ أعظمُ من جهلِ من لم يذهب وهمه إلى مدبرها والاعتبار بها".

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33]. (كُلٌّ) التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أى: كلهم فِي (فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة. فإن قلت: الجملة ما محلها؟ قلت: محلها النصب على الحال من الشمس والقمر. فإن قلت: كيف استبدّ بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت: كما تقول: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جنسُ الطوالع كل يوم)، ["كل يوم"] متعلقٌ بـ"الطوالع". قوله: (وهو السبب في جمعهما، بالشموس والأقمار)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لما ذكر الشمس والقمر جعل الضمير لكل ما يسبح وهو الكواكب السيارة. وقوله: "وهو السبب في جمعهما" منظورٌ فيه؛ لأن الجمع - باعتبار كل واحد منهما-: اسمُ جنس، وفي صيرورة اسم الجنس جمعاً لا يفتقرُ إلى وجود الجمع، وهذا ظاهرٌ. قلتُ: في كلامه غموضٌ وإن قال: "هذا ظاهرٌ"، لعل مُراده أن الجمع في الآية ليس كالجمع في المثال؛ لأن الجمع في المثال باعتبار استقلال كل واحدٍ من الشمس والقمر في إرادة الجمعية منه؛ لطلوعه كل يوم وليلةٍ من مشرق، ومنه قوله تعالى: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج: 40]، وهذا لا يقتضي الجمعية في (يُسَبِّحُونَ) باعتبار أن كل واحدٍ من الشمس والقمر اسمُ جنس، ولذلك غير صاحبُ "التقريب" العبارة حيثُ قال: الضمير للشمس والقمر، والمراد جنس الطوالع، أوالكثرةُ باعتبار كثرة مطالعها؛ ولذلك جُمعا بالشموسِ والأقمار. والوجه الأول من باب التغليبن غُلبَ القمرانِ على سائر السيارة لشرفهما، والثاني من أسلوب المثال المذكور في الكتاب، وأما قولُ المصنفِ: "المرادُ بهما جنسُ الطوالع كل يوم وليلة"، فهو أن ذكرهما لإرادة مطالعهما كل يوم وليلة، يدل عليه قوله: جعلوه متكاثرة لتكاثر مطالعها.

"رأيت زيدا وهندا متبرجة" ونحو ذلك، إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل. ومنه قوله تعالى في هذه السورة (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً)] الأنبياء: 72 [أو لا محل لها لاستئنافها. فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة، فكيف قيل: جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم «كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا» أى كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس. (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 34 - 35]. كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا كقولهم: كساهُم الأمير حُلةً)، قال صاحب "الفرائد": قولنا: كلهم في دار، مثلاً، يحتملُ وجهين: أن يكونوا مجتمعين في دار، وأن يكون كل واحدٍ منهم في دار على حدة، فلابد هاهنا من قرينة، والأول أسبق إلى الفهم، وهو أنه كونه حقيقةً، ولما كان كل واحدٍ منهما في فلك على حدة ظاهراً عُلم أن المراد هو الثاني. قوله: (أو كساهم وقلدهم)، قال بعضهم: فالمجاز في الأول في "هم" من كساهم، وفي الثاني في "حُلةً"، كأنه أطلق فرداً وأراد به الجنس، وفي الثاني أراد به الجنس كما في قولهم: تمرةٌ خيرٌ من جرادةٍ. قوله: (كانوا يقدرون أنه سيموتُ فيشتمون بموته)، إشارةٌ إلى الرجوع إلى ما سيق له الكلامُ في السورة من حديث النبوة، ليتخلص به إلى تقرير مشرع آخر، وذلك أنه تعالى لما أفحم القائلين باتخاذ الولد، وبكتهم بالدليل الإلزامي كما مر، ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله: (أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)؛ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبثٌ في الحجة تمنى هلاك خصمه، قال القاضي: الفاء في (أَفَإِيْنْ مِتَّ) لتعليق الشرط بما قبله، والهمزةُ لإنكاره بعد ما تقرر.

قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل: فقل للشّامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا أى نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار. و (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء: 36]. الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا عرضةٌ للموت)، الجوهري: جعلتُ فلاناً عرضةً لكذا، أي: نصبته له. قوله: (فقل للشامتين)، قبله: إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا فقُل للشامتين بنا: أفيقوا ... سلقى الشامتون كما لقينا الكلاكلُ: جمعُ كلكلة، وهي الصدرُ، يقول: إذا الدهرُ ألقى على أناس كلاكلُه، أي: عصرهم فأهلكهم، أناخ بعدهم على آخرين فيفنيهم، فقُل للشامتين أن ينتهوا ولايشمتوا فسيلقون من حوادث الزمان أكثر ما لقينا؛ لأن الإناخة أصعبُ من جر الكلاكل. قوله: (أطلقَ ولم يُقيدْ)، وفيه لطيفةٌ، يعني: أن "الذكْرَ" من الألفاظ المطلقةِ كالمشترك يحتاجُ في تقييده بمتعينٍ إلى قرينة، فإذا حصلت القرينةُ ينبغي أن لا يقيدَ، أي: لا يُذكر معهُ

للرجل: "سمعت فلانا يذكرك"، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوّا فذمّ. ومنه قوله تعالى: (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبايء: 60] وقوله: (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخيرُ أو الشر؛ لكون القرينة تكفي في التقييد. فقولهم: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) متضمنٌ لتحقير شأن الآلهة، فالذكرُ متعينٌ للذم، وقوله: (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) إنكارٌ عليهمُ الإعراض عمن هو موصوفٌ بصفة العظمة، وأن جلائل النعم وعظائم الأفضال ليس إلا منه، فالذكرُ لا يكونُ إلا للمدح، وتخصيصُ ذكرِ "الرحمنِ" كالتتميم لقوله: (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ)؛ لأنه حالٌ مقررةٌ لجهة الإشكال، وإليه الإشارةُ بقوله: "أنهم عاكفون ... بهممهم" إلى آخره، إذ المعنى: العجب أنهم بمجامع هممهم يذكرون بالتعظيم ما يجب أن لا يُذكر إلا بالمذمة، الحالُ أنهم معرضون كافرون عن ذكر ما يجب أن يذكر بكل الفضائل، لكونه رماناً له الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة. وفي تكرير "هم" وتقديم الجار والمجرور على عامله: شأنٌ في الإنكار، وتوبيخٌ عظيمٌ يقتضي أكثر مما قال: "لا يُصدقون به أصلاً". قوله: (ويسوؤهم أن يذكرها ذاكرٌ بخلاف ذلك)، الانتصاف: وإنما لم يقولوا: أهذا الذي يذكرُ آلهتكم بكل سُوء، استفظاعاً منهم أن يحكوا ما قال من رميها بأنها لا تسمعُ ولا تُبصر ولا تنفعُ ولا تضرُّ، حاشوها من نقل ذمه فرموا إليه بالإشارة، كما يتحاشى المؤمنُ من حكاية كلمةِ الكفر فيومئ إليها، فسبحان من أضلهم فتأدبوا مع الأوثان، وأساؤوا الأدب مع الرحمن! وفي قول المصنف: "أن لا يذكر به من كونهم شُفعاء وشُهداء" إيماءٌ إلى هذا المعنى. الراغبُ: الذكرُ: تارةً يقالُ ويرادُ به هيئةٌ للنفسِ بها يمكنُ للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه

ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلا فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا منك، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل معنى (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) قولهم: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقولهم (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَامُرُنا)] الفرقان: 60 [وقيل (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بما أنزل عليك من القرآن. والجملة في موضع الحال، أى: يتخذونك هزؤا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله. (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء: 37 - 38] كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أو لا ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. وعن ابن عباس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يُقالُ اعتباراً بإحرازه، والذكرُ اعتباراً باستحضاره، وتارةً يقالُ لحضور الشيء بالقلب والقول، ولذلك قيل: الذكرُ ذكران: ذكرٌ بالقلب، وذكرٌ باللسان، وكل منهما ضربان: ذكرٌ عن نسيانٍ وذكرٌ لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقالُ له: ذكرٌ. قوله: ((بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ): قولهم: ما نعرفُ الرحمن)، يعني: يرادُ بـ"الذكر": الاسمُ، أي: باسم الرحمن، أي: ما نعرفُ من يُسمى به سوى مُسيلمة. قوله: (فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم)، قال القاضي: كأنه خُلق منه لفرط استعجاله، وقلة تأنيه، كقولك: زيدٌ من الكرم، جعل ما طُبع عليه منزلة المطبوع عنه مبالغةً في لزومه له. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر، واستعجاله الوعيد.

رضي الله عنه: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم. وروى أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام. وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه النضر بن الحارث. والظاهر أن المراد الجنس. وقيل «العجل»: الطين، بلغة حمير. وقال شاعرهم: والنّخل ينبت بين الماء والعجل والله أعلم بصحته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يتبالغ فيه)، أي: لم يتمكن من البلوغ فيه. قوله: (والظاهر أن المراد الجنسُ)، يعني به القول الأول، وهو قوله: "فقدم أولاً ذم الإنسان"، يدل عيه قوله: "ليس ببدع منكم أن تستعجلوا، فإنكم مجبولون على ذلك". وقوله: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النضر" عطفٌ على قوله: "عن ابن عباس أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلامُ"، على هذين القولين التعريفُ في الإنسان للعهد، وقوله: "قيل: العجلُ: الطين" متفرعٌ على القول بالجنس، فيكونُ القصدُ تحقير شأنه تتميماً لمعنى التهديد في قوله: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي)، أي: لا تستعجلوا أيها المُهانون سأريكم ما تستعجلونه من العذاب، ونظيره في التحقير: (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس: 17 - 19]. قوله: (والنخلُ ينبتُ بين الماء والعجل)، أوله في "المعالم": والنبعُ في الصخرة الصماء منبته النبعُ: شجرةٌ يُتخذُ منها القسيُّ.

فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وقوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا)] الإسراء: 11 [، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وقرئ: خلق الإنسان. (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَاتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [الأنبياء: 39 - 40]. جواب لَوْ محذوف. و (حِينَ) مفعول به ل (يعلم)، أى: لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدّام، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من وراء وقُدامُ)، صح بالرفع على معنى الغاية، كـ: بعدُ وقبلُ. قوله: (لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال)، هذا هو جواب "لو" المقدرُ، والمراد بالكفر: ما في قوله: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وبالاستهزاء: قوله: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)؛ لأنه بيانٌ لقوله: (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً) وفي اسم الإشارة معنى التعظيم كما في قوله: هذا أبو الصقرِ فرداً في محاسنه ليستقيم الاستهزاءُ، أي: هذا النبيُّ المعظمُ يذكرُ آلهتكم، أي يعبها، قال الواحدي: (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً) ما يتخذونك إلا هُزواً، نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف. وبالاستعجال: قوله: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، وقد أشار

هو الذي هوّنه عندهم. ويجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروكا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و (حين): منصوب بمضمر، أى حين (لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم، أى: لا يكفونها، بل تفجؤهم فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجة: "مبهوت". ومنه: (فبهت الذي كفر)] البقرة: 258 [، أى: غلب إبراهيم عليه السلام الكافر. وقرأ الأعمش: "يأتيهم ... فيبهتهم"، على التذكير. والضمير للوعد أو للحين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بهذا إلى وجه توفيق النظم بين الآيات، وذلك أن قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تكريرٌ لقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) في (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ)، وهو كما سبق، مُظهرٌ وُضع موضع مضمر، المعنيُّ به القائلون: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، فالمعنى: أنهم إنما استحقوا أن يُسموا كفاراً؛ لأنك لما عددت عليهم تلك الآيات الدالة على القدرة الباهرة، والحكمة البالغة، من الآثار: العلوية والسُّفلية، وأدمغت باطلهم وألقمتهم الحجر، أعرضُوا عنها وتمنوا موتك، واستهزؤوا بك وصغروا شأنك. ولما أنذرتهم بالعذاب، وأوعدتهم بنزول الهوان استعجلوه تكذيباً، وذلك لجهلهم؛ لأنهم لو علموا ذلك الوقت الصعب لما ارتكبوا هذا الصعب، ولما أريد أن ينقل من الكفر والاستهزاء أتى بقوله: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) تمهيداً؛ ويتخلص منه إليه، وإليه الإشارة بقوله: "فأراد نهيهم عن الاستعجال فقدم أولاً ذم الإنسان ... ثم نهاهم وزجرهم", قوله: (ويجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروكاً): عطفٌ على قوله: " (حِينَ): مفعولٌ به لـ (يَعْلَمُ) "، أي: متروكاً مفعوله: نسياً منسياً، ومن ثم قال: "لو كان معهم علمٌ"، فحينئذ لابد لقوله: (حِينَ) من متعلق، فيقدرُ ما دل عليه (يَعْلَمُ)، والجملة مستأنفةٌ، كأنه لما قيل: لو وُجد منهم علمٌ لما استعجلوا، اتجه لسائل أن يقول: فحين لم يحصل لهم العلمُ الآن فمتى يحصلُ به؟ فقيل: يعلمون حين لا يقدرون أن يدفعوا النار عن أنفسهم. قوله: (أي: غلب إبراهيمُ الكافر). الراغب: قال الله تعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)

فإن قلت: فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت: إلى النار أو إلى الوعد، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة. أو إلى الحين، لأنه في معنى الساعة. أو إلى البغتة. وقيل في القراءة الأولى: الضمير للساعة. وقرأ الأعمش: بغتة، بفتح الغين. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله، وتفسيح وقت التذكر عليهم، أى: لا يمهلون بعد طول الإمهال. (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنبياء: 41]. سَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [البقرة: 258] أي: دهش وتحيَّر، وقد بهته. وقال الله تعالى: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16] أي: كذبٌ يُبهتُ سامعه لفظاعته. ويقال: يا للبهيتة، أي: الكذب. وقال: البغتُ: مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب، يقال: بغتَ كذا فهو باغتٌ، قال الشاعر: إذا بغتت أشياءُ قد كان مثلها ... قديماً فلا تعتدها بغتاتِ قوله: (تذكيرٌ بإنظاره إياهم)، أي: يُذكرهم الله تعالى أنهم لا ينظرون الآن هناك ليغتنموا هذه الفرصة. قوله: (سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوةً)، إشارة إلى ما عليه أساس هذه السورة الكريمة من الكرِّ إلى ذكر النبوة وما يتصلُ بها بعد الشروع في نمطٍ من الكلام، فأتى هاهنا بقوله: (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) لينصبَّ الكلامُ معه إلى مشرع ذكر الأنبياء عليهم السلامُ مفصلاً إلى آخر السورة تسلياً

ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا. (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 42] (مِنَ الرَّحْمنِ) أى من بأسه وعذابه (بَلْ هُمْ) معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه. والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ما فعلوا) فاعل "حاق". قوله: (والمرادُ أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، اعلم أن في هذه الآيات إضراباتٍ توجبُ أن يُراعى فيها ما يوجبه من التدرج، والمصنفُ نظر- في تقريره - إلى ذلك المعنى. قوله: "والمرادُ أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، يريد أنه صلوات الله عليه وسلامه أُمر أولاً بقوله: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ) أن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، يعني: أنتم تستعجلون العذاب وتقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) تكذيباً واستهزاءً بالبعث، وذلك وقتٌ صعبٌ شديدٌ تحيطُ بكم النارُ من كل جانب، ومجيء ذلك مفروغٌ عنه، فمن يكلؤكم من بأسه ونقمته إن قدر إنزاله الآن؟ ثم أضربَ عن هذا السؤال بقوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) وترقى فيه أي: دعهمُ الآن عن هذا السؤال؛ لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عن ذكر الله فلا يُجدي فيهم، واتركهم حتى إذا ورطوا في الهلاك عرفوا من الكالئ، فحينئذ سلهم سُؤال تقريع: من يكلؤكم؟ كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، إلى قوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْحَقِّ) [يونس: 22 - 23]، وهو المراد من قوله: "حتى إذا رُزقوا الكلاءة منه، عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال". هذا المعنى يُعطيه هذا الإضرابُ تعريضاً، ثم ترقى إلى ما هو أبلغ منه، وقيل: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا) أي: دع هذا، وسل: متى يُتصور أنهم لم يكونوا تحت كلائنا وحفظنا، وأن أصنامهم متى كانت تحميهم وتمنعهم من الآفات؟ أفلا يعقلون أن ما ليس بقادرٍ على نصر نفسه ومنعها، كيف يمنعُ غيره وينصره؟ وإليه الإشارة بقوله: "ثم أضرب عن ذلك" أي: ذلك السؤال وهو "من يحرسكم"، ثم قال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ) أي: بل ما هم فيه من الحفظ إنما هو من استدراج، فهو إضرابٌ من نفس السؤال، أي: لا تسألهم عن شيء لأنه لا يجديهم، ولا ينفعُ الإنذار فيهم؛ لأنه طال عليهم الأمدُ فقست قلوبهم؛ فإنك قد أبلغت وأديت ما عليك، بقي أن تُعاملهم بالإهلاك على سبيل التدرج بالاستئصال في الدنيا، والنار في العقبى، أغفلوا وعملوا، فلا يرون كيف شرعنا في ذلك، حيث إننا ننقص دار الكفر، ونحذفُ أطرافها بتسليط المسلمين عليها، وإهارهم على أهلها، فينظروا هل يقدرون على دفعه، فهم الغالبون أم المغلوبون؟ فالفاء في (أَفَلا يَرَوْنَ) لعطفِ الجملة على المقدر، وفي (أَفَهُمْ) على المذكور، والهمزة الثانية مكررةٌ مقحمةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، لتأكيد التقرير على سبيل التعكيس، أ]: أفلا ينظرون كيف نغلبهم وننقص من أطراف أرضهم فهم الغالبون أم نحن؟ وإنما خولف في الإضراب الثاني بأن أتى "بأم" المتضمنة للهمزة وبل؛ ليؤذن بالاهتمام، وأن الجملة مستطردةٌ بين الإضرابين بـ"بل".

بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) [الأنبياء: 43]. ثم أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» وقال (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا. ثم استأنف فبين أنّ ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد، كيف يمنع غيره وينصره؟ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَاتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء: 44]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولما أُريد أن ينتقل من عذاب الاستئصال إلى عذاب النار، وهو قوله: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ) الآية، وسط بينهما ما هو مهم بشأنه من حديث الوحي، وهو قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ) توكيداً ليتخلص منه إليه، وإليه الإشارة بقوله: "ولئن مستهم من هذا الذي يُنذرون به أدنى شيء لأذعنوا"، وفيه أن قوله: (مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ) وُضع موضع المضمر. والذي يدل على أن قوله: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) متعلقٌ بأحوال القيامة: إيقاعُ قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) حالاً من الضمير في (لَيَقُولُنَّ) بتقديرِ: نحنُ نضعُ، خالياً عن الضمير، على منوالِ: جئتُكَ والشمسُ طالعةٌ. نقلَ بعضُ الشارحين "للكافيةِ" عن المصنفِ أنه قال في حواشي "المفصل": إن مثل قولك: أتيته وزيدٌ قائمٌ، ليست الحالُ هنا بيان هيئة الفاعل ولا المفعول، ولكنها بيانُ لازم الفاعل أو المفعول، وقد استمر في كلام العرب: العبارةُ عن الملزوم باللازم، فاللازمُ هنا: زمانُ الإتيان، فكأنه بيان ذاتهما، على أن من الجائز أن يكون الحالُ هنا لبيان هيئة الفاعل صريحاً؛ لأن الذي أقيم مقام العائد العمومُ في قوله: (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)، المعنى: ليقولُنَّ: إن كنا ظالمين، الحالُ أنهم لا يُظلمون شيئاً.

ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ) الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمل كاذب. (أَفَلا يَرَوْنَ) أَنَّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام. فإن قلت: أى فائدة في قوله (نَاتِي الْأَرْضَ)؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها. (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء: 45 - 46]. قرئ (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ) "ولا تسمع الصم"، بالتاء والياء، أي: لا تسمع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحدقُ أطرافها)، بفتح النون، وفي أكثر النسخ: "نحذفُ" بالفاء. الجوهري: حدقوا بالرجل وأحدقوا به: أحاطوا. وقال: حذفته بالعصا، أي: رميته بها، وحذفتُ رأسه بالسيف: إذا ضربته وقطعت منه قطعةً. قوله: (أي فائدةٍ في قوله: (نَاتِي الأَرْضَ)؟ )، يعني: كان ذلك واقعاً فلم جيء بالمضارع؟ قوله: (غالبةً عليها)، وفي نسخةٍ: بالياء. الأساس: تغالى النبتُ: ارتفع. قوله: (قرئ: (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ))، ابن عامر: "ولا تُسمعُ" بالتاء الفوقانية مضمومةً وكسر الميم، و"الصُّمَّ": بالنصب، والباقون: بالياء مفتوحةً وفتح الميم، و"الصُمَّ": بالرفع.

أنت الصم، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ولا يسمع الصم)، من أسمع. فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل (إِذا ما يُنْذَرُونَ)؟ قلت: اللام في "الصم" إشارة إلى هؤلاء المنذرين، كائنة للعهد لا للجنس. والأصل: "ولا يسمعون إذا ما ينذرون"، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أى: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ من آيات الإنذار. (وَلَئِنْ) مَسَّتْهُمْ من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء، لأذعنوا وذلوا، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا. وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فيه التفاتٌ. قوله: (وفي المس والنفحة ثلاثُ مبالغات): واحدةٌ في المس، وثنتان في النفحة، وزاد صاحب "المفتاح" فيها التحقير بواسطة التنكير، واعترض عليه صاحب "التلخيص" وقال: خلافُ التعظيم، مستفادٌ من بناء المرة ومن نفس الكلمة. وقلتُ: لا ارتياب في أن اعتبار التنكير غير اعتبار البناء؛ لأنك إذا أدخلتَ على هذا البناء حرف التعريف أفاد المرة دون التحقير؛ ولذا أكد البناء في قوله تعالى: (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) بالوحدة لما كان المقصود منه الوحدة لا التحقير، فعُلم أن البناء لا يستلزمُ التحقير بل يحتمله باقتضاء المقام كذلك التنكير، ولما اقتضى المقام المبالغة في التقليل والتحقير كما قال: "ولئن مستهم نفحةٌ من هذا الذي يُنذرون به أدنى شيء لأذعنوا" وجب اعتبارُ ما يؤذن بالتحقير من نفس الكلمة، ومن البناء والتنكير، على أن قول صاحب "الكشاف": "في المس والنفحة ثلاث مبالغات" محتملٌ لأن يكون إحداهن بالتنكير.

لأنّ النفح في معنى القلة والنزارة. يقال: "نفحته الدابة وهو رمح يسير، ونفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]. وصفت الْمَوازِينَ بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط. أو على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: نفح الريحُ ينفح نفحاً، وله نفحةٌ طيبة، أي: هبوبٌ من الخير، وقد يُستعارُ ذلك للشر، قال تعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ)، ونفحه بالسيف: ضربه، والنفوحُ من النوق: التي يخرج لبنها من غير حلب، وقوسٌ نفوحٌ: بعيدةُ الدفع للسهم. ونقل في "المطلع" عن المبرد: النفحةُ: الوقعةُ من الشيء التي دون معظمه، يقالُ: نفحهُ بنائلٍ، أي: بشيءٍ يسيرٍ منه، ويقالُ: نفحةٌ بالسيف: للضربة الخفيفة. الأساس: نفحته الدابةُ: ضربته بحدِّ حافرها. قوله: (وُصفت الموازينُ بالقسط)، الراغب: القسطُ: هو النصيب بالعدل، كالنصف والنصفة، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن: 9]، والقسط-بالفتح- هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور، والإقساطُ: أن يُعطي قسط غيره، وذلك إنصافٌ؛ ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل، قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن: 15]، وقال: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الجرات: 9].

حذف المضاف، أى: ذوات القسط. واللام في (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) مثلها في قولك: "جئته لخمس ليال خلون من الشهر". ومنه بيت النابغة: ترسّمت آيات لها فعرفتها .. لسنّة أعوام وذا العام سابع وقيل: لأهل يوم القيامة، أى لأجلهم. فإن قلت: ما المراد بوضع الموازين؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: إرصاد الحساب السوىّ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة، فمثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. والثاني: أنه يضع الموازين الحقيقية ويزن بها الأعمال. عن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان. ويروى: أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشى عليه، ثم أفاق فقال: يا إلهى من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: "يا داود، إنى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ترسمت آياتٍ لها)، البيت، ويُروى: توسمتُ. الترسُم: التأمل في رسم الشيء كالتوسم: التطلبُ في وسمه، يقول: درست آثارُ المحبوبة، وتوسمتها فعرفتها بالوسم لشدة تبدلها وتغيرها، بعد سبعة أعوام مضت عليها. قوله: (وقيل لأهل يوم القيامة)، قال صاحب "الفرائد": والظاهر أن نحو هذا مفعولٌ له، كقولك: جئتك للسمن واللبن، ثم توسع في الاستعمال، وأجرى ما يُغايره في المعنى مجراه للاختصاص المشترك بينهما، والبيت الذي ذكره ليس بنظيرٍ للآية؛ لأنهُ يصلح أن يُقال: لأجل يوم القيامة، ولا يصلح لأجل ستة أعوام. وقلت: استشهد به لأحد الوجهين، وقال غيره: معنى جئته لخمس ليالٍ، جعلتَ المجيء مختصاً بخلو خمس ليالٍ، كقوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 24].

فإن قلت: كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: توزن صحائف الأعمال. والثاني: تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وقرئ "مِثْقالَ حَبَّةٍ" على «كان» التامة، كقوله تعالى (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)] البقرة: 280 [. وقرأ ابن عباس ومجاهد: "أَتَيْنا بِها" وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء. وقرأ حميد: "أثبنا بها"، من الثواب. وفي حرف أبىّ: "جئنا بها". وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة، كقولهم: "ذهبت بعض أصابعه". (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء: 48]. أي: آتيناهما (الْفُرْقانَ) وهو التوراة وَأتينا به ضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آتينا بها)، أي: أحضرناها، قال ابن جني: "آتينا بها" بالمد، ينبغي أن يكون "فاعلنا" لا "أفعلنا"؛ لأنه لو كانت "أفعلنا" لما احتيج إلى الباء، ولقيل: آتيناها، كقوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء: 59] ومضارعها: يُؤاتي مؤاتاةً، وأنا مُؤاتٍ وهو مؤاتي. قوله: (وأتينا به ضياء وذكرا)، أتى بالباء التجريدي، نحو: رأيتُ بك أسداً، ليوقفك أن العطف من باب قولك: مررتُ بالرجل الكريم، والنسمة المباركة، جُرد من الفرقان- وهو التوراة- شيءٌ يُسمى ضياءً وذكراً، وهما نفسُ التوراة ثم عطف عليه، وإليه الإشارةُ بقوله: "أنه في نفسه ضياءٌ وذكرٌ" وسيجيء في أول ص بيانه إن شاء الله. وقال صاحبُ "الكشفِ": أدخل الواو على الضياء وإن كانت صفةً في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظاً، كقوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

أنه في نفسه ضياء وذكر. أو وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "الفرقان: الفتح"، كقوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ)] الأنفال: 41 [وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد ابن كعب: المخرج من الشبهات. وقرأ ابن عباس: "ضياء"، بغير واو: وهو حال عن الفرقان. و"الذكر": الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم. أو الشرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الأحزاب: 12]، قال سيبويه: مررتُ بزيدٍ وصاحبك، فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ فصاحبك، بالفاء: لم يجز كما جاز بالواو؛ لأن الفاء تقتضي التعقيب، وتأخير الاسم عن المعطوف عليه، بخلاف الواو. وأما قولُ القائل: يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب فإنما ذُكر بالفاء وجاد؛ لأنه ليس بصفةٍ على ذلك الحد؛ لأن الألف واللام بمعنى الذين أي: فالذي صبح، فالذي غنم فالذي آب. وأبوا لحسن يُجيز المسألة بالفاء كما يجوز بالواو. قوله: (أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ)، فعلى هذا لا يُراد بالفرقان التوراةُ، بل ما يفرق بين الحق والباطل. قوله: (وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "ضياءً" بغير واو)، قال ابن جني: هو حالٌ، نحو: دفعتُ إليك زيداً محملاً لك، ومسدداً من أمورك، وأصبحتك القرآن دافعاً عنك ومؤنساً لك. وأما في قراءة الجماعة فهو عطفٌ على (الْفُرْقَانَ) على أنه مفعولٌ به على ذلك.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 49]. محل (الَّذِينَ) جرّ على الوصفية. أو نصب على المدح. أو رفع عليه. (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء: 50]. (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) هو القرآن. وبركته: كثرة منافعه، وغزارة خيره. (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء: 51 - 54]. "الرشد": الاهتداء لوجوه الصلاح. قال الله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء: 6] وقرئ: "رشده". والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله. وأنه رشد له شأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى إضافته إليه أنه رشدٌ مثله)، يعني: الإضافة فيه بمعنى اللام والاختصاص، والمعنى: والله لقد آتينا بجلالتنا وعظم شأننا إبراهيم رُشداً يليقُ بمثله وبحال من انتصب للرسالة وخلة الرحمن، ولإرادة هذه الوصفية قال: "رشدٌ مثله" على الكناية، ولو قيل: الرُشد أو ترك الكلام خلواً من القسم وضمير الجماعة، لم يُفخم هذا التفخيم، ثم جاء قوله تعالى: (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) تذييلاً لهذا المعنى، كما قال: "إنه علم منه أحوالاً بديعة، وأسراراً عجيبة"، إلى قوله: "حتى أهله لمخالته ومخالصته. الراغب: الرشدُ والرشدُ: خلافُ الغي، يستعملُ استعمال الهداية، يقال: رَشَدَ يَرْشَد ورَشِدَ يَرْشَد، قال تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6]، وبين الرُّشدين، أعين الرشد المؤنس من اليتيم، والرشد الذي أوتي إبراهيم، بونٌ بعيد. وقال بعضهم: الرشد بالفتح أخص من الرشد بالضم، فإن الرشيد يقال في الأمور الدنيوية، والرشد لا يقال إلا في الأمور الأخروية، والراشدُ والرشيدُ يقالُ

(مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس: "أنا عالم بفلان". فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيهما، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7]، (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود: 97]. قوله: ((من قبلُ) من قبل موسى وهارون)، قال الإمامُ: هذا قولُ ابن عباس وابن عمر. وفي "معالم التنزيل": من قَبْلِ البلوغ حين خرج من السربِ. وقال القاضي: من قبل محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه. قلتُ: والذي يقتضيه النظمُ: الأولُ؛ لما سبق أن السورة أسس مبانيها على ذكر النبوة وما يتصلُ بها من ذكر الوحي، وأن ذكر الأنبياء واردٌ لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من حق الظاهر تقدمُ نوحٍ على إبراهيم، وهو على موسى، صلوات الله وسلامه عليهم، لكن المناسبة استدعت تقدم موسى عليه السلام؛ لأن حاله أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث إيتاء الكتاب، وكثرةُ الدلائل القاهرة، ومقاساةُ الشدة، وثقلُ أعباء النبوة والدعوة، وكثرةُ التوابع والأمة، وأن حال إبراهيم عليه السلام أقربُ إليه من حال نوح عليه السلام، فقد رُوعي في تأخرهم تلك اللطيفة، وهي أن قيل: من قبلُ، ويؤيدُ هذا التأويل قوله تعالى: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ) [الأنبياء: 76]، أي: من قبل المذكورين. وفي "المعالم": من قَبْلِ إبراهيم ولُوطٍ عليهما السلامُ. والله اعلمُ بأسرارِ كلامه.

(إِذْ) إما أن يتعلق ب (آتينا)، أو ب (رشده)، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. قوله (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: "عليها عاكفون"، كقوله تعالى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف: 138]؟ قلت: لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي «على». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إذْ) إما أن يتعلق بـ (ءآتينَا)، أو بـ (رُشدَهُ)، أو بمحذوفٍ)، والثالثُ أبلغُ من الأول، ولاستدعاء المقام أوفق، وهو من الثاني لاختصاص الوصف به عند إرشاده الناس وقت هذا القول. قال أبو البقاء: (إذْ) ظرفٌ لـ (عَالَمِينَ)، أو لـ (رُشْدَهُ)، أو لـ (ءآتينا)، ويجوز أن يكون بدلاً من موضع (مِنْ قَبْلُ)، أو أن ينتصب بإضمار: أعني أو اذكُرْ. قوله: (تجاهلٌ لهم وتغابٍ)، الجوهري: تغابي: تغافل، وأنشدوا: ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي قوله: (لو قصد التعدية لعداه بصلته)، يعني: قد ذكرنا أن اسم الفاعل يجري مجرى اللازم، فال يكون اللام صلته، بل جيء بالجار والمجرور بياناً لمن عكف له، كقوله تعالى: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43] في أحد وجهيه. إنما أورد هذا السؤال والجواب؛ لأنه لما قال: "لم ينو للعاكفين مفعولاً"، وقدر "فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها" اتجه لسائل أن

ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أنّ عبدة الأصنام منهم. (أَنْتُمْ) من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه: (اسكن أنت وزوجك الجنة)] البقرة: 35 [، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لاستناد الفريقين إلى غير دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا. (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ) [الأنبياء: 55]. بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: لم قيل: لها، وكان الواجب: عليها؟ وأجاب: أن ذلك ليس للتعدية، بل للبيان؛ إذ لو أراد التعدية لعداه بما يختص به من الجار به. والحاصل أن مقام المبالغة اقتضى أن يترك عاكفون على إطلاقه، سواءٌ كان المتعلقُ مفعولاً بواسطةٍ أو بغير واسطة. الجوهري: عكفه: أي: حبسه ووقفه، يعكفُ عكفاً، ومنه قوله تعالى: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) [الفتح: 25]، وعكف على الشيء يعكفُ عكوفاً، أي: أقبلَ عليه مواظباً. قوله: (ومجادلون لأهل الحق)، ضمن "مُجادلون" معنى الدفع؛ ولذلك عُدِّي بـ"عَنْ". قوله: (هذا الذي جئتنا به أهو جدٌّ وحقٌّ، أم لعبٌ وهزل؟ )، فإن قلت: ما الفرقُ بينَ هذا القول وبينَ قولِ صاحبِ "المفتاح": أجددتَ تعاطي الحقِّ أم أحوالِ الصبا بعدُ على الاستمرار؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: نظر صاحبُ "المفتاح" إلى ما يلي حرف الاستفهام ومعادلتها، فأوقع السؤال على التجدد والاستمرار، ونظر المصنفُ إلى متعلقهما وهو الحقُّ واللعب، وإلى ظاهر الجواب قال: (بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فأوقع السؤال على ما يطابقه، أي: ما جئت إلا بالحق الساطع، وهو الذي لا تُنكرونه أنتم ولا آباؤكم الأقدمون. ويمكن أن يُوجه قولُ صاحب "المفتاح" بأن يُقال: ما جددتُ شيئاً بل جئتُ بما استمر عليه آباؤكم الأولون، وأنتُم لا تُنكرونه إذا تركتم العناد. وقلت: والذي عليه النظمُ المعجز حملُ "أم" في قوله: (أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ) على المنقطعة لا المتصلة، كما عليه اهرُ كلام هذين البحرين؛ لأن هذا الاستفهام وقع في مقام المقاولة بين خليل الله عليه السلام وبين أعداءِ الله، فإنه عليه السلام لما قال لأبيه وقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) استجهالاً لهم؛ حيث جاء بما الاستفهامية التي تُستعملُ غالباً بما لا معرفة فيه ولا علم، وضم معه لفظة (هذِهِ) التي تدُل على تحقير شأن المشار إليه في مثل هذا المقام، وجعلها تماثيل صور لا يعتد بها من له مسكةٌ، بالغ في إبطال عبادة تلك التماثيل، وكما نسبها إلى الإفراط في الحقارة، نسبهم إلى الإفراط في العُكوف لها حيثُ قال: (أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) بالضمير المرفوع وبناء الخبر عليه المفيد لتقوي الحكم وتخصيص العكوف بالذكر. ولما لم يكن جوابهم إلا أن قالوا: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) ضللهم وجعلهم منغمسين في الضلال بالجملة القسمية، وقرن آباءهم معهم، وأكد الضمير المرفوع، ووصف الضلال بالمبين، ولما سمعوا منه هذه الغلظة، وشاهدوا هذا الجد، طلبوا منه البرهان، يعني: هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه، فهل معك دليلٌ على ما ادعيت أجئتنا بالحق، ثم أضربوا عن ذلك، وجاءوا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة للتقرير، فأضربوا بـ "بل" عما أثبتوا له، وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت والقطع، وذلك أنهم قطعوا أنه

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء: 56]. الضمير في (فَطَرَهُنَّ) للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاعبٌ وليس بمحقٍّ البتةَ؛ لأن إدخالهم إياه في زُمرة اللاعبين، أي: أنت غريقٌ في اللعب، داخلٌ في زُمرة الذين قُصارى أمرهم في إثبات الدعاوى اللعبُ واللهوُ على سبيل الكناية الإيمائية، دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان. وهذه الكناية توقفك على أن "أمْ" لا يجوز أن تكون متصلة قطعاً، وكذا "بل" في قوله: (بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ). وهذا الجواب واردٌ على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم بقوله: بل أنا من المحقين وليستُ من اللاعبين، فجاء بقوله: (بَل رَبُّكُمْ) الآية؛ لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لاحاجة فيه لوضوحه إلى الدليل، ولكن انظروا إلى هذه العظيمة، وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم، ورازقكم ومالك العالمين، والذي فطر ما أنتم لها عاكفون، وتشتغلون بعبادتها دون، فأي باطل أظهر من ذلك؟ وأي ضلال أبين من هذا؟ ثم ذيل الجواب بما هو مقابلٌ لقولهم، وهو قوله: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ) من حيث الأسلوب، وهي الكناية، ومن حيث التركيب، وهو بناء الخير على الضمير أي: لست من اللاعبين في الدعاوى، بل أنا من القائمين فيها بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة، كالشاهد الذي تُقطعُ به الدعاوى، وبه يتقوى قول المصنف: "كونُ الضمير للتماثيل أدخلُ في تضليلهم، وأثبتُ للاحتجاج عليهم"، قال القاضي: (قَالَ بَل رَبُّكُمْ): إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقال: معنى (مِنْ الشَّاهِدِينَ): من المحققين له، والمبرهنين عليه، فإن الشاهد من يحقق الشيء.

وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم. (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 58]. قرأ معاذ بن جبل: "بالله". وقرئ: "تولوا"، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)] الصافات: 90 [. فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: إن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شهادته على ذلك)، أي: شهادةُ إبراهيم على معنى قوله: (بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، ولما كانت الشهادة على خلاف المتعارف، كقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) [آل عمران: 18] الآية، قال: "شهادته على ذلك، إدلاؤه بالحجة عليه"، أي: توصله بها على ما قال. وفي "المُغرب": أدليتُ الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه أدلى بالحجة: أحضرها، وفي التنزيل: (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) [البقرة: 188]، أي: لا تلقوا أمرها والحكومة فيها. وفلانٌ يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل. قوله: (وأبرهن عليه)، "الأساس": حُكي عن الفراء: أبره فلانٌ: جاء بالبرهان، وبرهن مولد، والبرهان: بيانُ الحجة وإيضاحها، من البرهرهة، وهي البيضاء من الجواري. قوله: (قرأ معاذُ بن جبل: "بالله")، قال الزجاجُ: ولا يصلح التاء في القسم إلا في "الله"، تقول: وحق الله لأفلعن، ولا يجوزُ: تحق الله، والتاء بدلٌ من الواو، ويجوزُ: تالله لأكيدن، وقراءة العامة: بالتاء الفوقانية. قوله: (وإن التاء فيها زيادة معنى)، وهو التعجب، وذلك أن المقسم عليه بالتاء يجبُ

كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه ولكن: إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد. (جُذاذاً) قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: "جذذا". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون نادر الوقوع، فإن الشيء المعجب لا يكثر وقوعه، وألا لم يكن معجباً. ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الله تعالى. قوله: (إذا الله سنى عقد شيء تيسرا)، أوله: ولا تيأسا واستغورا الله إنه ويُروى: "واستعونا الله". وقيل: أوله: وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا الله سنى عقد شيء تيسرا سنى الأمر: سهله، وسنى العقدة: حلها، والضمير في أنه: للشأن. قوله: (وقر بالكسر الفتح)، أي: (جُذَاذاً). الكسائي: بكسر الجيم، والباقون:

جمع "جذيذ"، و"جذذا" جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) وعن الكلبي (إِلَيْهِ) إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها. أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: إذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بضمها. روى ابن جني عن أبي حاتم قال: فيها لغاتٌ: "جُذاذٌ" بالضم والفتح والكسر، وأجودها الضمُّ، كالحطام والرفات. وقال الزجاج أبنيةُ كل ما كُسرَ وقُطع وحُطم على فُعال، ومن قال: "جِذاذٌ" بالكسر فقال: هو جمعُ جذيذ، نحو: ثقيل وثقالٍ وخفيفٍ وخفاف، ويجوزُ "جذاذاً" بالفتح على القطاع والحصاد. ويجوزُ "جُذُذاً" بضم الجيم والذال: جمع جذيذ، و"جُذُذ" مثل: جديدٍ وجُدُد، وقال أبو عبيدة: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً)، أي: مستأصلين. ولفظ "جُذاذ" يقعُ على الواحد والاثنين والجمع من الذكر والمؤني بمنزلة المصدر. الراغب: الجذُّ: كسرُ الشيء وتفتيته، ويقالُ لحجارة الذهب المكسورة، ولفُتاتِ الذهب: جُذاذٌ، وما عليه جُذَّةن أي: متقطعٌ من الثياب.

غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم. (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 59]. أى: أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها. (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) [الأنبياء: 60 - 61]. فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد (سَمِعْنا فَتًى) وأى فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأوّل وهو (يَذْكُرُهُمْ) لا بد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيدا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: إن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم)، هذا تفسيرٌ لقوله: (مَنْ فَعَلَ) إلى آخره، أوقع (إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ) خبراً للموصولة. قال أبو البقاء: (مَن): يجوز أن يكون بمعنى "الذي"، و (إنهُ) وما بعده: الخبرُ، وأن يكون استفهاماً، و (إنَّهُ): استئناف. فدل إيقاعُ (فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) صلة للموصول على تحقيق الخبر، أي: هذا الفعل الشنيع الفظيع لا يفعله إلا ظالمٌ، كما قال: "إنهم رأوا إفراطاً في حطمها، وتمادياً في الاستهانة بها"، ودل "أنّ" واللامُ في الخبر على مزيد التأكيد، وإليه الإشارة بقوله: "لشديد الظلم"، ودل اللامُ الاستغراقي في الظالمين على أنه غريقٌ فيه، وإليه الإشارة بقوله: "معدودٌ في الظلمة"، وهذه المبالغات إنما ذهبوا إليها لاعتقادهم أنها آلهةٌ حقيقةً يجب توقيرهم وإعظامهم، وإليه الإشارة بقوله: "إما لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم". قوله: (لابد منه لسمع)، قال أبو البقاء (يَذْكُرُهُمْ): مفعولٌ ثانٍ لـ (سَمِعْنَا)،

وتسكت، حتى تذكر شيئا مما يسمع. وأمّا الثاني فليس كذلك. فإن قلت: (إِبْراهِيمُ) ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدأ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل "يقال"، لأن المراد الاسم لا المسمى (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) في محل الحال، بمعنى معاينا مشاهدا، أى: بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في "على"؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أى: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أنّ الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره. (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 63]. هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يكونُ ذلك إلا مسموعاً، كقولك: سمعتُ زيداً يقولُ كذا، أي: سمعتُ قول زيد. وعند المصنف: "يقولُ كذا" حالٌ عن المفعول. قوله: (هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو مُنادى)، والصحيح أنه فاعل (يُقالُ)؛ لأن المراد الاسم لا المسمى، أي: يقالُ له هذا اللفظُ. هذا التعليلُ يؤذن أن في الوجهين الأولين ليس المراد منه الاسم، قال صاحب "الفرائد": قوله: (لَهُ) إما أن يكون بالخطاب، كقولك: قلتُ لزيدٍ إذا خاطبته، فكان منادى، كأنه قيل: يقال له: يا إبراهيم، إذ نودي، أو بالغيبة، كقولك: قلت لزيدٍ، إذا قلت في بابه من غير أن يكون مخاطباً، فكأنه قيل: إذا أُخبر عنهُ يقال: هو إبراهيم، وإذا كان المراد من إبراهيم اللفظ فلابد من اعتبار التسمية في قوله: (يُقَالُ لَهُ) كأنه قيل: يُسمى إبراهيم، ويمكن أن يكون (عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ): حالاً من الفاعل، أي: فأتوا به عارضين على أعينِ الناس، أو ناوين العرض، او مُريدين العرضَ.

أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه، وإثباته لها على أسلوبٍ تعريضي)، قال صاحب "الفرائد": هذا بعيدٌ؛ لأن ذلك إنما يستقيمُ إذا كان الفعلُ دائراً بين الاثنين، فإذا انتفى من أحدهما ثبت بالآخر بالضرورة، وهاهنا ليس كذلك؛ لأن الكسر لم يكن دائراً بين إبراهيم عليه السلامُ وبين الصنم الكبير؛ لاحتمال أن يكو كسرها غير إبراهيم. والنظيرُ الذي ذكره لذلك، ليس الفعلُ دائراً بين الاثنين أيضاً؛ لأنه يمكن أن يكون الفعل للثالث، فإن اتفق أن يكون دائراً بينهما كان صحيحاً، إلا أنه لم يطابق لما نحن فيه. والوجه الثاني وهو أن يقال: "غاظته تلك الأصنامُ" إلى قوله: "كما يُسندُ الفعلُ إلى مباشره، يُسندُ إلى الحامل عليه"، أيضاً ضعيفٌ؛ لأن غيظه من عبادة غير الله تعالى، فاستوى فيه الكبير والصغير. والجوابُ: أنه دل تقديم الفاعل المعنوي في قوله: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) على أن الكلام ليس في الفعل لأنه معلومٌ، بل في الفاعل كما مر في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود: 91]، ودل قولهم: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) وقولهم: (قَالُوا فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) على أنهم لم يشكوا أن الفاعل هو، فإذن لا يكون قصدهم في قولهم: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا) إلا بأن يُقر بأنه هو، فلما رد بقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) تعريضاً، دار الأمر بين الفاعلين. وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يُقال: القضية كما كانت فعلية كانت إمكانية، تقول: زيدٌ كاتبٌ بالإمكان، تريد أنه يمكن الكتابة منه، ولذلك قيل في قوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88]: أي: كان قابلاً للهلاك؛ إذا عرفت هذا فنقول: قوله: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) هذا مرتبطٌ بقوله: (إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)، المعنى: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم إن أمكن هذا الفعلُ من كبيرهم إن كان

وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّىّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّىّ أو المخرمش، لأنّ إثباته - والأمر دائر بينكما للعاجز منكما - استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقول إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميفع: "فعله كبيرهم"، يعني: فلعله، أى فلعلّ الفاعل كبيرهم. (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) [الأنبياء: 64]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو وغيره -مما تعبدون من الأصنام- من أهل النطق؛ لأنها إذا كانت من أهل النطق كانت علماء قُدراء. قوله: (خرمشة)، الجوهري: المخرشُ: خشبةٌ يخط بها الخرازُ. قوله: (فعلهُ كبيرهم)، في "المطلع": قال أبو العباس: أصلُ لعل: علَّ، زيدت اللامُ للتوكيد، وأنشد: يا أبتا علَّك أو عساكا

فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 65]. "نكسته": قلبته فجعلت أسفله أعلاه، و"انتكس": انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء - مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق - آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألقمهم الحجر)، كنايةٌ عن الإفحام والإسكات. قوله: (بمخانقهم)، الجوهري: المخنقةُ - بالكسر-: القلادة. قوله: (مضارةً منهم)، مفعولٌ له لقوله: "في المجادلة"، وقيل: مفعولٌ مطلقٌ، أو: حالٌ من فاعل "أخذوا". قوله: (أو قُلبوا على رؤوسهم حقيقةً): عطفٌ على قوله: "وانقلبوا عن تلك الحالة، فاخذوا في المجادلة" وكذلك: "أو انتكسوا عن كونهم مُجادلين لإبراهيم"، فهذه وجوهٌ ثلاثةٌ: الوجهان الأولان واردان على التمثيل، قال القاضي: شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيء مُستعلياً على أعلاه. تم كلامُه. أما على الأول فقوله: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) عبارةٌ عن انقلابهم من الفكرة الصالحة إلى الفاسدة، وذلك أنهم لما سمعوا من الخليل كلمة الحق رجعوا إلى أنفسهم، وأصابوا في الفكر، وقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون بعبادة ما لا ينطقُ ولا ينفعُ ولا يضُر، لا من نسبتم إليه الظلم بقولكم: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ)، ثم انقلب رأيهم من الاستقامة إلى التسفل قائلين: هؤلاء معبودةٌ لا شك فيها مع كونها غير ناطقة، ومع أنها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُتضررةٌ بالكسر، وإليه الإشارة بقوله: "وهؤلاء مع تقاصُرِ حالها عن حال الحيوان الناطق معبودةٌ مضارةً منهم"، وهو معنى قوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، أي: اشتهر عند كل واحدٍ أن هذه الآلهة لا تتحدث، والتاءُ في علمت خطابٌ لكل أحدن ويدل على قولهم: "هؤلاءِ معبودةٌ" قوله: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) لما ادعوه من عبادتهم لها مع كونها غير قادرة. وأما الثاني فهو عبارة عن انقلابهم من الفكرة الفاسدة إلى الصحيحة، وإليه الإشارةُ بقوله: "انتكسوا عن كونهم مُجادلين لإبراهيم عليه السلام مُجادلين عنه"، أي: أنهم جادلوا إبراهيم عليه السلام أولاً في قولهم: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) ونحوه، ثم انقلبوا فصاروا مُجادلين عنه ذابِّين بقولهم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، فهذا يدل على أنها لا تنطق، ولا تصلح للإلهية، وهذا أوفق لما في الكتاب، فاللامُ في قوله: "مجادلين لإبراهيم" كاللام في مثل: أنا ضاربٌ لزيدٍ، أو أنهم جادلوا قومهم ذابين عن إبراهيم مُجادلين لأجله حين قالوا: (إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ)، لا إبراهيم، ثم انقلبوا عن هذه المجادلة لأجله بقولهم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، فكيف يأمرنا بالسؤال عنها؟ فهذا جدال مع إبراهيم، فقد انقلبوا عن الدفع عنه إلى المجادلة معه؛ إذ المرادُ: لقد علمت أنهم لا ينطقون فكيف تأمرنا بالسؤال عنهم؟ وأشار إليه في تفسير "اللُّباب". وأما على الثالث فالمعنى: أنهم لما رجعوا إلى أنفسهم، وتفكروا زمانا ًطويلاً، عرفوا الحق فقُلبوا على رؤوسهم لفرط خجلهم قائلين: والله لقد صدق إبراهيمُ فيما قال، وعلمت- أيها المخاطبُ- ما هؤلاء ينطقون، وهو المراد من قوله: "فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجةٌ عليهم" لاعترافهم بعدم قدرة آلهتهم على النطق المستلزم لعجزهم. وعلى هذا الوَجه والوَجْهِ الذي قبله: على تقدير أن يكون اللامُ في "إبراهيم" صلةً ينطبقُ قوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ)؛ لأنه تذييلٌ لهذا المعنى كما سيجيءُ.

لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ: "نكسوا"، بالتشديد. و"نكسوا"، على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود. (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 66 - 67] (أُفٍّ) صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به. أي: لكم ولآلهتكم هذا التأفف. (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 68 - 70]. أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وانخزالاً)، الجوهري: انخزل الشيءُ: انطقع. والاختزالُ: الانقطاع. قوله: (فما أحاروا جواباً)، الجوهري: المحاورةُ: المجاوبةُ، يقال: كلمته فما أحار إليَّ جواباً، وما رجع إلى حويراً ولا حواراً، أي: ما رد جواباً. قوله: (إلا ما هو حجةٌ عليهم)، هو من أسلوب قوله: ما معه من العقل شيءٌ إلا ما يوجب الحجة عليه، وهو المسمى بالرجوع. قوله: (واللام لبيان المتأفف به)، وأنشد صاحب "المُطلِع": أفا وتُفا لمن مودته ... إن غبتُ عنه سويعةً زالت قوله: (إلا مناصبته). الجوهري: نصبتُ لفلانِ نصباً: إذا عاديته، وناصبته الحرب مناصبةً.

فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمرود. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل عليه السلام (قُلنَا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالى علمه بحالي. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنما نجا بقوله: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إنى مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه -إذ ذاك- ابن ست ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من أعراب العجم، يريدُ الأكراد)، تشبيهاً بالأعرابي من العرب، وهم الذين يسكنون البادية ولايدخلونها إلا لحاجة. قوله: (إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل)، عن البخاري، عن ابن عباس قال في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]: قالها إبراهيمُ حين أُلقيَ في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). قوله: (وأطل عليه)، الجوهري: أي: أشرف. قوله: (ومعهُ جليسٌ له من الملائكة، فقال: إني مُقربٌ) الفاءُ فصيحة، يعني: بعث

عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» ومن ثم قالوا (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أى إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك. كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردى فيسلم منك إبراهيم. أو ابردى بردا غير ضارّ. وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نمروذُ وأخرج إبراهيم عليه السلام من النار وأحضره عنده فأكرمه وألطفَ له القول فقال: إني مُقربٌ إلى إلهك. قوله: (ومن ثم قالوا: إن كنتم فاعلين)، تعليلٌ لقوله: واختاروا المعاقبة بالنار؛ لأنها أهولُ، وإنما أفاد هذا المعنى اتحادُ الشرط والجزاء؛ لأن قوله: (إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ) جزاؤه ما دل عليه قوله تعالى: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا) نحو قوله: من أدرك الصمان فقد أدرك، أي: أدرك مرعاً بالغاً في شأنه، وإليه الإشارة بقوله: "إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراقُ بالنار"، ألا ترى كيف أتى في الشرط من معاني الجزاء، وفي الجزاء عكس؟ قوله: (نصراً مؤزراً). النهاية: مؤزراً، أي: بالغاً شديداً، يقال: أزره وآره: إذا أعانه وأسعده، من الأزر: القوة والشدة. قوله: (ولم يألوا جُهداً)، الجوهري: ألا يألو، أي: قصر، وفلانٌ لا يألوك نُصحاً، فهو آلٍ. وحكى الكسائي عن العرب: أقبل يضربه لا يأل، يريد يألو، فحذف.

عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله (عَلى إِبْراهِيمَ) وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه. (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 71]. نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويدل عليه قوله: (عَلَى إِبْرَاهِيمَ))، وذلك من وضع المُظهر موضع المضمر، أي: كرامةً لهذا المسمى، قيل: لأنه على الوجه الأول لم يكُن بردُها مخصوصاً بإبراهيم، فلا يكونُ للتخصيص بقوله (عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وجهٌ، وفيه بحث. قوله: (وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به)، تفسيرٌ لقوله تعالى: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً)، وهو تذييلٌ للكلام السابق وفيه كيدان، الكيدُ الأول: قولهم: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) لما سبق أنهم ما سألوا ذلك عنه ليُقر بأن كسر الأصنام قد كان، بل ليُقر بأنه منه، فألهمه الله ما يبكتهم به، ويجعلهم خاسرين بقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) إلى آخره، وهو المراد من قوله: "غالبوه بالجدال فغلبه الله تعالى"، والكيدُ الثاني: قولهم بعد ما ألقمهم الحجر: (حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ). فأوحى الله تعالى إلى النار أن (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فجعلهم خاسرين بأن افتضحوا حتى نذر نُمروذُ بأن يُقرب إلى الله تعالى القرابين، وهو المراد من قوله: "وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره"، وقال: "فزعوا إلى القوة والجبروت"، بناءً على قول قبل هذا: "اجمعوا رأيهم لما غُلبوا بإهلاكه"، وهكذا المبطل إذا قُرعت شبهته بالحجة لم يبق له مفزعٌ إلا مناصبته، فالتنكير في (كَيْداً) للنوع، أي: النوع العظيم من الكيد، المطلقُ محمولٌ على المقيد، ولهذا قُيد بالكيدين المذكورين.

وطيب عيش الغنيّ والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وروى أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ) [الأنبياء: 72]. النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطى يعقوب نافلة، أى: زيادة وفضلا من غير سؤال. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [الأنبياء: 73]. (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأوّل ذلك أن يهتدى بنفسه، لأنّ الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل (فِعْلَ الْخَيْراتِ) أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وطيب عيش الغني والفقير)، فإن الغني فيها شاكرٌ، والفقير قانعٌ صابر. قوله: (وفيه أن من صلح ليكون قُدوةً)، يريدُ أن هذا الكلام واردٌ على سبيل المدح لهؤلاء المذورين، وأدمج فيه معنى مدحهم أولاً بصلاحهم في أنفسهم بقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) أي: قُدوةً يُقتدى بهم في الخير، ثم بإصلاحهم غيرهم بأمر ربهم بقوله (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي: يُرشدون الناس إلى طرق الخير بأمرنا إياهم بذلك، فيلزمُ على هذا أن تكون الهدايةُ محتومةً عليه وهو مأمورٌ به. قوله: (لأن الانتفاع بهداه أعمُّ)، أي: أشملُ؛ لأن داعي الخير إذا لم يكن مهتدياً ربما فعله سبباً لتقاعس بعضِ الناس. قوله: (أصله أن تُفعل الخيراتُ)، أي: الأصل في هذا أن يُقال: وأوحينا إليهم أن تفعلَ

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء: 74 - 75]. (حُكْماً) حكمة وهو ما يجب فعله. أو فصلا بين الخصوم. وقيل: هو النبوّة. و (القرية): سذوم، أى: في أهل رحمتنا. أو في الجنة. ومنه الحديث «هذه رحمتي أرحم بها من أشاء». (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء: 76 - 77]. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء المذكورين. هو «نصر» الذي مطاوعه «انتصر» وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أى: اجعلهم منتصرين منه. و (الكرب): الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخيراتُ وأن تُقام الصلاةُ، ثم: فعلاً الخيرات؛ لأنه في معنى الأول؛ لأن "أنْ" مع الفعل في تأويل المصدر؛ ولذلك رفع "الخيراتُ" لأنه مصدرُ الفعل المجهول، كذلك البواقي. قوله: ((حُكماً) حكمة)، وهو ما يجب فعله. والحكمةُ على ما فسره مراراً عبارةٌ عن العلم والعمل، وحملها هاهنا على مجرد العمل لعطف قوله: (وَعِلْماً) عليه. قوله: (هذه رحمتي أرحم بها من أشاءُ)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل للجنة: "أنتِ رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي" الحديث. قوله: (هو "نَصَرَ" الذي مُطاوعُه "انتصر")، أي: عُدِّيَ بـ"مِنْ" كما عُدِّي انتصر بها.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَاسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء: 78 - 80]. أى: واذكرهما. وإذ: بدل منهما. و"النفش": الانتشار بالليل. وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. وقرئ: "لحكمهما". والضمير في (فَفَهَّمْناها) للحكومة أو الفتوى. وقرئ: "فأفهمناها". حكم داود بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة: غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمنّ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأساس: نصره الله على عدوِّه، ومن عدُوِّه (وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، وانتصرت منه. وفي "المُطلع": أي: منعناهُ وحميناهُ منهم بإغراقهم وتخليصه. قوله: (جمع الضمير؛ لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما)، قال الإمامُ: احتج من قال: أقلُّ الجمع اثنان بقوله: (لِحُكْمِهِمْ) مع أن المراد داود وسُليمان عليهما السلامُ. وجوابه: أن الحكم كما يُضاف إلى الحاكم قد يُضاف إلى المحكوم عليه، فأضيف إلى المجموع. تَمَّ كلامه. فإن قلتَ: الحكمُ مصدرٌ فلابدَ في إضافته إلى الضمير من العمل، فلا يجوزُ الجمعُ. قلتُ: يُؤولُ الحكمُ بالقضية، فلا يكونُ من إضافة العامل إلى المعمول، كأنهُ قيل: كُنا شاهدين لتلك الحالة العجيبة، ولماجرى بين أولئك الأقوام من إصابة أحد الحاكمين، وخطأِ الآخر، واستيفاءِ المحكوم لهُ من المحكوم عليه حقه على النهج المستقيم، وهذا المعنى لا يحصلُ من تلك الإضافة، والحاصلُ أنه من باب عموم المجاز.

فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادّان. فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان. وقيل: اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب. فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت: أمّا وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجنى عليه، كما قال أبو حنيفة رضى الله عنه في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه. وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادّا. فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فسُلمتْ بجنايتها إلى المجني عليه)، قيل: هذا مُقدمٌ على قوله: "فلأن الضرر وقع بالغنم" لأن تسليم الغنم حُكم، وكونُ الضررواقعاً بسبب الغنم علة، والعلةُ متأخرةٌ عن الحكم لفظاً.

سائق أو قائد والشافعي رضى الله عنه يوجب الضمان بالليل. وفي قوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) دليل على أنّ الأصوب كان مع سليمان عليه السلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والشافعيُّ يوجبُ الضمان بالليل)، ودليله: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه قضى على أهل الماشية حفظها بالليل. روينا عن مالك وأبي داود وابن ماجه، عن حرام بن سعد بن محيصة، أن ناقةً للبراء دخلت حائطاً لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل. قوله: (وفي قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) دليل على أن الأصوب كان مع سليمان)، قال الراغب: الفهمُ: هيئةٌ للنفس بها تتحقق معاني ما يحسنُ، يقال: فهمت كذا، وقوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، وذلك بأن جعل الله تعالى له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك، وإما بأن ألقي في رُوعه، أو بأن أُوحي إليه وخُص به. ثم قوله: " [دليل] على أنهما جميعاً كانا على الصواب" فيه إشارة إلى أن كل مجتهدٍ مصيبٌ من وجه كونه طالباً للحق، ومخطئ من وجه كونه لم يوافق الحكم عند الله، فقوله تعالى (وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) كالتكميل لما سبق من توهم النقص في شأن نبي الله داود عليه السلام، جيء بها جُبراناً لذلك، يريد ما أورده ابن الأثير عن بعض العلماء: في الآية دليل على أن كل مجتهد في الأحكام الفرعية مُصيب، فإن داود أخطأ الحكم الذي عند الله، وأصابه سليمان، فقال تعالى: (وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً). وقال القاضي: في الآية دليلٌ على أن خطأ المجتهد لا يقدحُ فيه. وقيل: فيه دليلٌ على

وفي قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب (يُسَبِّحْنَ) حال بمعنى مسبحات. أو استئناف، كأن قائلا قال: كيف سخرهنّ؟ فقال: يسبحن (وَالطَّيْرَ) إمّا معطوف على الجبال، أو مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان ناطق. روى أنه كان يمرّ بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت. بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى. وجواب آخر: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن كل مجتهد مصيبٌ. وهذه مخالفةٌ لقوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، ولولا النقلُ لاحتمل توافقهما، على أن قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا) لإظهار ما تفضل عليه في صغره. تم كلامه. يريد أن الأصل: ففهمناهما، ولما اختص سُليمان عليه السلام بصغر السن، والفهم منه أغربُ، خُص بالذكر. قوله: (والطير حيوانٌ ناطقٌ)، يعني: أن الجبل صامتٌ والطير ناطقٌ. النهاية: في الحديث: "على رقبته صامت" يعني الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان. الراغب: لا يكاد يُقال النطقُ إلا للإنسان، ولا يُقالُ لغيره إلا على سبيل التبع نحو: النطق والصامت، فيرادُ بالناطق: ماله صوتٌ، وبالصامت: مالا صوت له. قوله: (كما خلقه في الشجرة)، مذهبه.

وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله، فلما حملت على التسبيح وصفت به (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك. اللبوس: اللباس. قال: البس لكلّ حالة لبوسها والمراد الدرع. قال قتادة: كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين (لِتُحْصِنَكُمْ) قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو أن يُسبح من رآها تسيرُ بتسيير الله تعالى)، يريد أنه من الإسناد المجازي. قال صاحب "الفرائد": هذا الجوابُ يشكلُ لقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ: 10]، وتسيير الجبال معه ليس في القرآن، ولا ضرورة في حمل التسبيح على السير. قوله: (وكنا نفعلُ مثل ذلك بالأنبياء عليهم السلامُ)، يريدُ أن قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) تذييلٌ للكلام السابق، نحو قوله: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) إلى قوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]، ثم متعلقُ (فَاعِلِينَ) إما خاصٌّ فيُقدرُ: على أن يُفعل هذا، أي: ما فعلنا بداود عليه السلام، أو عامٌّ فيقدر: كما نفعلُ مثل ذلك بالأنبياء أي: ما يشبه هذه المعجزة التي آتينا الأنبياء الماضية. قوله: (البس لكل حالةٍ لبوسها؟ )، تمامه في "المُطلِع": إما نعيمُها وإما بوسُها أي: البس لكل حالةٍ ما يصلحُ لها، يعني: أعدد لكلِّ زمانٍ ما يُشاكلُه ويلائمه قوله: ((لِتُحْصِنَكُمْ) قرئ بالنون والتاء والياء)، بالنون: ابن عامرٍ وأبو بكر،

وتشديدها، فالنون لله عز وجل، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) [الأنبياء: 81 - 82]. قرئ: (اَلريحَ). و"الرياح"، بالرفع والنصب فيهما، فالرفع على الابتداء، والنصب على العطف على الجبال. فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ: 12] فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم: آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبالتاء: حفصٌ، والباقون: بالياء التحتاني، والتشديد: شاذٌ. قوله: (قرئ: (الرِّيحُ) و"الرياح")، بالإفراد والنصب: سبعة، والبواقي: شواذ. قوله: (ويحتكم: آية إلى آية)، أي: يحتكم سليمانُ. الأساس: حكمه في ماله فاحتكم فيه وتحكم، ولا تحكم علي. و"آية": نصبٌ خبرُ "كان"، "وان تكون رُخاء" بدلٌ من "الأمرين". ويُروى "آية" و"هُبوبها" مرفوعين على الابتداء والخبر، فعلى هذا خبرُ "كان": "أن تكون"، والوجهُ الأول نظراً إلى المعنى.

وقيل: كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفا، لهبوبها على حكم إرادته، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا. أى: يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة، كما قال (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ)] سبأ: 13 [والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه. (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) [الأنبياء: 83 - 84]. أي: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: "إنى"، بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه و"الضر" - بالفتح -: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: كانت في وقتٍ رُخاءً، وفي وقتٍ عاصفاً)، كما وُصفت عصا موسى تارةً بأنها جانّ، وتارةً بأنها ثُعبانٌ، فإنها في بدء الإلقاء جان، وفي الانتهاء ثُعبان، أو أنها جانٌّ في خفتها، وثعبانٌ في عظم خلقها. قوله: (والمهن)، الجوهري: المهنة بالفتح: الخدمة، وحكى أبو زيدٍ والكسائي بالكسر، وأنكره الأصمعي، والماهنُ: الخادم. قوله: (والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره) إلى قوله: (أو يوجد منهم فسادٌ في الجملة فيماهم مسخرون فيه)، إيذانٌ بأن قوله: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) تذييلٌ لقوله: (وَمِنْ الشَّيَاطِينِ)، كما كان قوله: (وَكُنَّا فَاعِلِينَ) تذييلاً لقوله: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ)، وقوله: (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) لقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)، وكان إثبات العلم مناسباً لقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) للجزاء، وإن قدر المصنف: "فنُجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمُنا".

مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أنّ عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصىّ! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. كان أيوب عليه السلام روميا من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله: كان له سبعة بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم، وخمس مئة فدان «1» يتبعها خمس مائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده - انهدم عليهم البيت فهلكوا - وبذهاب ماله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. وعن قتادة: ثلاث عشرة سنة. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يُصرح بالمطلوب)، أي: قال: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ولم يقل: ارحم ضُرِّي، ليعم ويشمل ويُشعر بالتعليل، ولذلك استجيب له، ونُكر الضُّرُّ في قوله: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي: ضرٍّ عظيمٍ متميزٍ من بين الضُّر، فلو عرفَ لكان عين الضُّر السابق ولم يُعلم تهويلُه. قوله: (جِرذان بيتي)، الجوهري: الجرذُ: ضربٌ من الفأر، والجمعُ: الجرذانُ بكسر الجيم والذال المعجمة. "على العصي": حالٌ، أي: مشت متكئةً على العصي، وذكر صاحبُ "المثل السائر": أن امرأةً اشتكت بعض ولدِ سعد بن عُبادة قلة الفأرِ في بيتها، فقال: املؤوا بيتها خُبزاً وسمناً ولحماً. قوله: (لأرُدَّنَّها تثبُ)، مشاكلةٌ، على نحو قول شُريح فيمن شهد عنده: إنك لسبطُ الشهادة، فقال: لأنها لم تجعد عليّ. قوله: (فدان)، الجوهري: هو آلةُ الثورين للحرث، وهو فعالٌ بالتشديد، وقال أبو عمرو: هي البقر التي تحرث، والجمعُ الفدادينُ مخفف.

مقاتل: سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات، وقالت له امرأته يوما: لو دعوت الله، فقال لها: كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة، فقال: أنا أستحى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا. أى: لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء: 85 - 86]. قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو دعوت)، لو: يحتملُ أن تكون بمعنى التمني، وأن تكون للشرط. قوله: (أو رحمةً منا)، عطفٌ على قوله: "لرحمتنا" أتى باللام أولاً، ثم نزعها ثانياً، والرحمةُ: مفعولُ له؛ ليُؤذن بأن الكلام على الأول: تذييلٌ عامٌ في العابدين، فيدخُلُ فيه أيوبُ دخولاً أولياً، فلابد من تقدير اللام لحصولها قبلُ وبعدُ، وعلى الثاني: تتميمٌ، فتختصُّ الرحمةُ بأيوب عليه السلامُ، فلم يحتج إلى اللام لحصول المقارنة، و"الرحمةُ" و"الذكرى" في الأول متنازعان في "العابدين"، ولذلك قال أولاً: "لرحمتنا العابدين"، وثانيا: "وأنا نذكرهم" حيثُ أتى بضمير "العابدين". قوله: (ذو الحظ من الله)، لأن الكفل بالكسر: الحظُّ والنصيبُ. روى محيي السُّنة عن عطاءٍ: أن نبياً من الأنبياءِ أوحى الله تعالى إليه: إني أريدُ قبض رُوحك، فاعرض مُلكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يُصلي بالليل لا يفترُ، ويصومُ بالنهارِ لا يُفطرُ، ويقضي

ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]. (النُّونِ) الحوت، فأضيف إليه. برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: "مغضبا". قرئ: (نقدر). و (نقدّر)، مخففا ومثقلا. و"يقدر"، بالياء بالتخفيف. و"يقدر". و"يقدّر"، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا. وفسرت بالتضييق عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلكك غليه، ففعل شابٌ، فقال: أنا أتكفلُ ذلك، فتكفلَ ووفي به، فشكر الله تعالى له ونبأه فسُمِّي ذا الكِفْل. قوله: (برم بقومه)، الجوهري: البرمُ بالتحريك: مصدرُ برم به بالكسر: إذا سئمه، وتبرم به مثله، وأبرمه، أي: أمله وأضجره. قوله: (فراغمهم)، الأساس: وراغم أباه: فارقه على رغم منه وكراهة. قوله: (وأنفةً لدينه)، الجوهري: أنف من الشيء يأنفُ أنفاً وأنفةً: استنكفَ. قوله: (قرئ: (نَقْدِرَ)) بالنون مخففاً: الجماعةُ، والبواقي: شواذٌّ. قوله: (وفُسرتْ بالتضييق عليه)، قال محيي السُّنة: قال عطاءٌ وكثيرٌ من العلماء: لن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُضيقَ عليه بالحبس من قوله تعالى: (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) بالرعد: 26] أي: يُضيقُ، وقال أيضاً: لن يقدر عليه، أي لن يقضي عليه بالعقوبة، قاله مجاهدٌ والضحاكُ والكلبيُّ، وفي روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، يقال: قدر الله الشيء تقديراً، وقدر يقدرُ قدراً بمعنى واحد، قال تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ) [الواقعة: 60]، وفي قراءة مَن خففها دليلٌ على هذا، وعليه قراءةُ عُمر بن عبد العزيز والزُّهري: "لن نُقدرَ" بالتشديد. قال الزجاجُ: أي: ظن أن لن نُقدرَ عليه ما قدرنا من كونه في بطن الحُوت، و"نَقِدرُ" بمعنى: نُقَدِّر. جاء في التفسير، ورُوي عن المصنف أنه قال: تفسيرُ ابن عباس بمعنى القدرة معناه: أن لا نُورد عليه تقديراً يضُرُّه لكونه مُبتلى به، يقول: قدر الله عليه الضراء، وقدر له السراء، كقولك: قضى القاضي على فلانٍ وحكم عليه، وإذا جُعل من القُدرة فسبيله سبيلُ الاستعارة، أي: فعلَ فعْلَ من ظنَّ أنلن نقدر عليه، والاستعارةُ تكونُ في الأسماء والأفعال والحروف، ونظيره سبع الرجل: إذا ذمه، وحقيقته فعل به فعل السبع بالمسبوع من قولهم: شاةٌ مسبوعة. وقلتُ: مرجعُ كلامه أنه من الاستعارة التبعية التي وقعت على سبيل الاستعارة التمثيلية، يدل عليه قوله: "فكانت حالُه ممثلةً بحال من يظُنُّ أن لن نقدر عليه"، فاستعير الفعلُ هاهنا كما استعير "لعل" في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21] كما قررهُ صاحبُ "المفتاح". وقال صاحبُ "الفرائد": لما أمكن حملُه على الحقيقة، وهو أنه من القدر لقوله تعالى: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر: 16] أي: ضيق، فأيُّ ضرورةٍ في أن يُحملَ على ما ذكر من المجاز، وأما الوهمُ الذي ذكر فمردودٌ من أوجهٍ، أحدها: أن مثل هذا الخاطر والظن من المؤمن بعيدٌ، فكيف من النبي المعصوم؟ لأن ذلك كُفرٌ، وقوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)

وبتقدير الله عليه عقوبة. وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)] الأحزاب: 10 [والخطاب للمؤمنين (فِي الظُّلُماتِ) أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة: 17] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الأحزاب: 10] ليس من الظن الذي يكونُ كفراً. وثانيها: أن ما هجس بالخاطر ولم يستقر ولم يُلتفت إليه لم يكن من باب الظن. وثالثها: مثل هذا الخاطر لم يكن أحدٌ معاتباً به. ورابعها: لما كان هذا الظن حاملاً له على الخروج من بين القوم من الغضب عُلِمَ أنه لم يكن مما ظهر بالوسوسة ولم يُلتفت إليه، ولم يكن مُخلاً بالاعتقاد. والجوابُ: أن قوله: "والمخففُ يصحُّ أن يُفسر بالقدرة"، بعدما ذكرها بين القوم من الوجوه، تنبيهٌ على التوسع في الكلام، وأن هذا وجهٌ يصار إليه لمن له يدٌ في البيان، لا أنه واجبٌ، وأما بقيةُ السؤال فجوابه سبق في خاتمة سورة يوسف عليه السلام. قوله: (أي: في الكلمة الشديدة المتكاثفة)، وذلك أنه حُبس في بطن حوتٍ واحد، والجمعُ يدل على التكاثف، وأنشد السيرافي: وليلٍ يقولُ الناسُ في ظُلماته ... سواءٌ صحيحات العيون وعورها

وقوله (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أو بمعنى «أى». عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88]. (نُنْجِي) و"ننجي". و"نجي". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والدليل عليه الوجه الثاني: "وقيل: ظلماتُ بطن الحوت والبحر والليل" إلى آخره. قوله: (ما من مكروب يدعو)، روينا عن أحمد بن حنبل والترمذي، عن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوة ذي النون إذ دعا في بطن الحوت قال: لا إله غلا أنت سبحانك غني كنتُ من الظالمين، ما دعا بها أحدٌ قطُّ إلا استجيب له"، وفي رواية أحمد: "فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربه في شيء إلا استجاب له". قوله: ((نُنَجِّي)، و"نُنَجِّي"، و"نُجِّي")، في "المعالم": قرأ عاصمٌ برواية أبي بكر: "نُجِّي" بنونٍ واحدةٍ وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبةٌ في المصحف بنونٍ واحدة، وقراءة العامة: (نُنَجِّي) بنونين، من الإنجاء، وإنما كُتب بواحدةٍ؛ لأن الثانية كانت ساكنةً والساكنُ غيرُ ظاهرٍ على اللسان، فحذفت، كما فعلوا في "إلا" حذفوا النون لخفائها. قال الزجاج: كُتبت بنونٍ واحدةٍ لأن النون الثانية تخفى مع الجيم، فأما ما رُويَ عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عاصم بنونٍ واحدةٍ فلا وجه لهُ؛ لأن ما لم يُسم فاعلُه لا يكونُ بغير فاعل، وقد قال بعضهم: المعنى: نُجِّي النجاءُ المؤمنين، وهذا خطأٌ بإجماع النحويين، لا يجوزُ "ضُرِبَ زيداً" تريدُ: ضُرِبَ الضربُ زيداً؛ لأنك إذا قلت: "ضُرِبَ زيدٌ" فقد عُلِمَ أن الذي ضربه ضربٌ، ولا فائدة في إضماره وإقامته مقامَ الفاعل، قيل: لأنه لو كان على ما لم يُسمَّ فاعلُه لم يُسكنِ الياءَ، ورفع المؤمنون. وقال أبو عليٍّ: راوي هذه القراءة عن عاصم غالطٌ، وأنه قرأ (نُنَجِّي) بنونين كما روى حفصٌ عنه، لكن النون الثانية تُخفى مع الجيم، ولايجوزُ تبيينها، فالتبس على السامع الإخفاء بالإدغام، ويدل على هذا إسكانه الياء في "نُجِّي"؛ لأن الفعل إذا كان مبنياً للمفعول وكان ماضياً لم يسكنْ آخره، وإسكانُ آخر الماضي إنما يكونُ في قول من قال: رضي رضاً، وليس هذا منه. وأيضاً، الفعلُ المبنيُّ للمفعول ينبغي أن يُسند إلى المفعول كما يُسندُ المبنيُّ للفاعل إلى الفاعل، وإنما يُسند إلى غيره إذا لم يُذكر المفعولُ به. وقال الشيخ الجعبري: وجهُ تشديد "نُجِّي": أن أصله "نُنْجي" مضارعُ "أنجى"، أُدغمت النونُ في الجيم لتجانسها في الانفتاح والاستفال والجهر والترقيق على حد إجاصٍ وإجانة. وقال أبو عبيد: أصله "نُنَجِّي" مضارع "نَجَّى" ثم أدغم، أو ماضٍ مبنيٌّ للمفعول سُكنتْ ياؤه للتخفيف وأقيم المصدرُ المقدرُ مقامَ الفاعل، أي: نُجَّي النجاءُ، فبقي "المؤمنين" منصوباً على المفعولية. ورُدَّ بمنع الإدغام في المشدد، وبأن المصدر لو وُجد لقُدِّمَ المفعولُ به عليه في النيابة، والمفتوحةُ لا تخففُ. وأجيب على ضعفٍ، لجواز الإدغام في المُشدد على لغة تخفيف المضاعف، وهي روايةأ [ي زيد عن أبي عمرو. ويجوز إقامةُ المصدر مطلقاً مرجوحاً على الكوفية، ومنه قراءة يزيد: "ليُجزي قوماً"، أي: ليُجزي الجزاء قوماً. وقوله:

والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله "فعل" وقال نجى النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء - فمتعسف بارد التعسف. (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء: 89 - 90]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولو ولدت قفيرة جرو كلبٍ ... لسُبَّ بذلك الكلبِ الكلابا ولجواز حملِ الفتحةِ على أختها، ومنهُ قراءةُ الحسن: "وذرُوا ما بقى"، وقوله: هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ ... ماضي العزيمة ما في حُكمه جنفُ ووجه تخفيفه أنه مضارعُ "أنْجَى"، والإخفاءُ أغنى عن الإدغام، وهو المختارُ عملاً بالأفصح السالم من التأويل، خلافاً لأبي عُبيدةَ، إذ لا تمسُّكَ له برسمها واحدة، وإذا صَحّ نقلُها وظهر وجهها فلا نلتفتُ إلى قول جاهلٍ به ومُعانِد فيه، ومن ثم احتاج قارئه إلى ذكاءٍ يبينُ له الحق من الباطل. وقال الشيخُ موفقُ الدين الكواشيُّ: لا شك أن هذه أقوالُ من غفل عن أثبت أصلٍ أُخذت عنه العربية، وركن إلى أقوالٍ وأشعارٍ نُقلت عمن لا يعتمد عليه لجهله وعدم عدالته. وأيضاً، قولهم: لم يأتِ عن العرب مِثلُها، يُشير إلى أنه أحاط بجميع كلام العرب، وهذا تجرٌ للواسع، وسهوٌ ظاهر، ومن زعم أنه غلطٌ من الراوي، زعم أنه ليس بثقةٍ ولا ضابط، فكانت غير مقطوع بصحتها وقولُ من زعم أنه: متعسفٌ؛ باردٌ بشعٌ وأشنعُ تعسفاً.

سأل ربه أن يرزقه ولدا يرثه ولا يدعه وحيدا بلا وارث، ثم ردّ أمره إلى الله مستسلما فقال (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أى إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالى، فإنك خير وارث. "إصلاح زوجه": أن جعلها صالحة للولادة بعد عقرها. وقيل: تحسين خلقها وكانت سيئة الخلق. الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الضميرُ- في (إِنَّهُمْ) - للمذكورين من الأنبياء عليهم السلامُ)، اعلمْ أنهُ تعالى عقب استجابة دعاءِ زكرياَّ بما يشتملُ على تعليل استجابة دعوة الأنبياء السالفة، أما أولاً فقوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) فإنه مسبوقٌ بالدعاء من أبيه نوح عليه السلامُ لقوله تعالى: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ)، وأما ثانياً فقوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ) إلى قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)، وأما ثالثاً فقوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً) إلى قوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ)، وشرط في التعليل ثلاث شرائط، أحدها: المسارعة في الخيرات؛ لأن الوسيلة مقدمةٌ على الطلب. وثانيها: أن يكون الداعي بين الخوف والرجاء يخافُ تقصيره، كقوله تعالى: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ) [الزمر: 9] أي: لا يعتمدُ على عمله؛ لأن العمل بالخواتيم، ويرجو مع ذلك رحمةَ ربه الواسعة، وثالثها: أن يكون مخلصاً لا مُرائياً كما قال إبراهيم: أن يرى الله من العبد الإخلاص والخشوع إذا تخلى معه، إذ ليس الخشوعُ أن تراه يأكل الجشب، ويلبس ويُرائي.

إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون. وقرئ "رَغَباً وَرَهَباً" بالإسكان، وهو كقوله تعالى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9]. (خاشِعِينَ) قال الحسن: ذللا لأمر الله. وعن مجاهد: "الخشوع" الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين. وسئل الأعمش فقال: أما إنى سألت إبراهيم فقال: ألا تدرى؟ قلت: أفدنى. قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه، فلير الله منه خيرا، لعلك ترى أنه أن يأكل جشنا ويلبس خشنا ويطأطئ رأسه. (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 91]. (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت: (وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلير الله منه خيراً)، أي: يكونُ على حالةٍ يرى الله منه بها خيراً، على نحو: لا أرينك هاهنا. قوله: (لعلك ترى)، أي: لعلك تظن أن الخشوع أكل الخشن ولبس المسوح وتطاطُؤ الرأس عند الملأ من الناس، لا، بل الخشوع بأن يُعامل مع الله في الخلوة بالإخلاص. قوله: (جشباً)، بالجيم والباء الموحدة. الجهري: طعامٌ جشبٌ ومجشوبٌ، أي: غليظٌ خشن، ويقال: هو الذي لا أُدم معهُ. قوله: ((أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا))، أي: اذكُر التي أحصنت فرجها إحصاناً كُلياً من الحلال والحرام جميعاً، هذه المبالغة يعطيها معنى عطف هذا المذكور على ما قبله من أسماء الأنبياء عليهم السلام، ثم التعبير عن اسمها بهذه الصفة المختصة بها على الكناية. قال صاحب "المفتاح": إذا اتفق في صفة من الصفات اختصاص بموصوفٍ معينٍ

يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم: 20]. فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. قال الله تعالى (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر: 29] أى: أحييته. وإذا ثبت ذلك كان قوله (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ظاهر الإشكال، لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أى: أحييناه في جوفها. ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان، أى: نفخت في المزمار في بيته. ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. فإن قلت: هلا قيل آيتين كما قال (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء: 12]؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]. الأمّة: الملة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعارضٍ فيذكُرُها متوصلاً بها إلى ذلك الموصوف، مثل أن تقول: جاء المضيافُ، وتريد زيداً لعارض اختصاص للمضايف بزيد. ثم في الإتيان بالموصولة مع الصلة الدلالة على مزيد تقرير الإحصان، على نحو قوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف: 23]، والإيذانُ بأنها إنما انتظمت في سلك الأنبياء بسبب هذه الخصلة. قوله: (من جهة رُوحنا، وهو جبريل)، فـ"مِنْ" على هذا: ابتدائية، والإسنادُ مجازيٌّ نحو: بنى الأمير المدينة، والنفخ حقيقةٌ، وعلى أن يُراد بنفخ الروح الإحياء: بيانية، أي: نفخت به ما يحيا به من الروح. وإليه الإشارة: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص: 72]، أي: أحييته، والأسلوب تمثيل، نحو قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة: 117]. قوله: (الأمةُ: الملة)، قال صاحب "المُطلِع": الأمةُ: أصلُها القومُ يجتمعون على دينٍ

(وهذِهِ) إشارة إلى ملة الإسلام، أى: إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها، يشار إليها ملة واحدة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحد، ثم اتُّسِعَ فيها حتى قيل للدين: أمةٌ، واشتقاقها من أم: قصد، وهي الملةُ المقصودة، قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) [الزخرف: 23] أي: دينٍ وملة. قوله: (و (هذه) إشارة إلى ملة الإسلام)، أي: المشارُ إليه ما في الذهنِ كما مضى في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78]، ولما كان معنى الإشارة هاهنا لأجل أكمل التمييز والتعيين، والمشارُ إليه غير محسوس ومعرفٌ تعريف إضافةٍ للاختصاص، قال: "التي يجبُ أن تكونوا عليها"، أي: هذه الملةُ متعينةٌ لكم، فلا مجال للانحراف عنها. قوله: (يُشارُ إليها ملةً واحدة)، إشارةٌ إلى أن قوله: (أُمَّةً وَاحِدَةً): حالٌ، والعاملُ: اسمُ الإشارة، نحو قوله تعالى: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) [هود: 72]، وفيه إيماءٌ إلى أن عامل الحال غير عاملٍ فيها. قال المالكيُّ في "شرح التسهيل": والأكثرُ أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها؛ لأنها وإياهُ كالصفةِ والموصوفِ ولكنهما كالمميز والمميز عنهُ، وكالخبر والمخبر عنه، ومعلومٌ أن ما يعمل في المميز والمميز قد يكون واحداً وقد يكون غير واحد، وكذا ما يعملُ في الخبر والمُخبر عنه، فكذا الحالُ وصاحبها، ومثالُ اتحاد العامل في الأبواب الثلاثة: طاب زيدٌ نفساً، وإن زيداً قائمٌ، وجاء زيدٌ راكباً، ومثالُ عدم الاتحاد في الثلاثة: لي عشرون درهما، وزيدٌ منطلقٌ، على مذهب سيبويه، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فـ (أُمَّةً): حالٌ، والعامل فيها: اسم الإشارة، و (أُمَّتُكُمْ): صاحب الحال، والعامل فيها: (َإِنَّ). وقال ابن جني في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ) [الفتح: 29]: نصب أشداء على الحال، أي: هم معه على هذه الحالة، فتجعلُه حالاً من الضمير في "معه"، ولو جعلته حالاً من (وَالَّذِينَ) كان العامل في الحال غير العامل في صاحبها، كان ذلك جائزاً كقوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة: 91]، وقوله: "يُشار إليها" في الكتاب: حالٌ من الضمير المجرور في "عنها"، وكذا "ملة واحدةً: حالٌ من الضمير المجرور في "يُشارُ إليها".

غير مختلفة (وَأَنَا) إلهكم إله واحد (فَاعْبُدُونِ) ونصب الحسن "أمّتكم" على البدل من (هذه)، ورفع "أمّة" خبرا. وعنه رفعهما جميعا خبرين (لهذه). أو نوى للثاني مبتدأ، والخطاب للناس كافة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غير مختلفة)، يريد: قوله: (وَاحِدَةً): صفةٌ مؤكدةٌ لمعنى الوحدة في "ملةً" فيوافقه قوله: (أَنَا رَبُّكُمْ)، ولهذا فسره بقوله: "وأنا إلهكم إله واحد"؛ لأن التركيب مثلُ قولك: أنا أخوك، لمن يعرفُ أخاً له ويعرفُك، لكن لا يعرفُ أنك أخوه. قوله: (وأنا إلهكم إلهٌ واحد)، تفسيرٌ لقوله: (أَنَا رَبُّكُمْ)، وتخصيصه بالتوحيد لاقتضاء المقام، وعطفه على قوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) والفاء في (فَاعْبُدُونِ) لترتب الحكم على الوصف. وأما قضيةُ ترتيب النظم فإن هذه السورة كما مر نازلةٌ في بيان النبوة وما يتعلقُ بها، والمخاطبون: المعاندون من أمة محمدٍ صلوات وسلامه عليه، ولما فرغ من بيان النبوة، وتكريره تقريراً، ومن ذكر الأنبياء مسلياً، عاد إلى خطابهم بقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملةٌ واحدةٌ أختارها لكم فتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد، وهي التي أدعوكم إليها، لتعضوا عليها بالنواجذ؛ لأن سائر الكتب نازلةٌ في شأنها، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة إليها، ومتفقةٌ عليها، ثم لما عُلم إصرارهم وعنادهم قيل: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)، المعنى: الملةُ واحدة، والربُّ واحد، والأنبياءُ متفقون عليها، وهؤلاء البُعداءُ جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعاً كما تتوزعُ الجماعةُ الشيء الواحد. قوله: (ونصب الحسنُ "أمتكم")، قال ابن جني: ورويت عن أبي عمرو: "أمتكم أمةٌ واحدةٌ" بالرفع، فتكونُ "أمةٌ واحدةٌ" بدلاً من (أُمَّتُكُمْ)، كقولك: زيدٌ أخوك رجلٌ صالحٌ، ولو قرئ أمتكم بالنصب بدلاً وتوضيحاً لـ (هذه)، ورُفع (أُمَّةً وَاحِدَةً) لأنه خبرُ (إنَّ) كان وجهاً جميلاً حسناً.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء: 93]. والأصل: وتقطعتم، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) [الأنبياء: 94]. "الكفران": مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً)، ضمن "تقطع" معنى "جعل". وقال أبو البقاء: (أَمْرِهِمْ) أي: في أمرهم، أي: تفرقوا. وقيل: عدى تقطعوا بنفسه؛ لأنه بمعنى قطعوا، أي: فرقوا. قوله: (فيطير لهذا نصيبٌ)، يقالُ: طار له سهمٌ، أي: أسرع وخف، وأصله من التطير بالسانح والبارح للحظ والنصيب والخيبة والحرمان. قوله: (تمثيلاً لاختلافهم)، مفعولٌ له لقوله: "ينعي عليهم". قوله: (الكفران)، مثلٌ في حرمان الثواب، يدلٌّ عليه قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران: 115]، أي: لن تُحرموا ثوابه ولن تُمنعوه. وإنما قال: هو مثلٌ؛ لأن حقيقة الشُكرِ الثناءُ على المحسن بما أولاكَهُ من المعروف، وهذا في حق الله تعالى محالٌ،

شكور. وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أى نحن كاتبو ذلك السعى ومثبتوه في صحيفة عمله، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء: 95 - 96]. استعير الحرام للممتنع وجوده. ومنه قوله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فشبه معاملته مع من أطاعه، وعمل صالحاً لوجهه، بثناء من قد أحسن إليه غيره وأولاهُ من معروفه، ثم استعمل لجانب المشبه ما كان مستعملاً في المشبه به من لفظ الشكور، وفي عكسه الكفران. "النهاية": وفي أسماء الله تعالى الشكور، وهو الذي يزكو عنده القليلُ من أعمال العباد، فيُضاعفُ لهم الجزاء، وهو من أبنية المبالغة. قوله: (فهو غير ضائع)، إشارةٌ إلى ملزوم قوله: (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)؛ لأنه كنايةٌ عنه. قوله: (استعير الحرامُ للممتنع وجوده)، أنشد صاحبُ "المطلع" للخنساء: وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً ... على شجوه إلا بكيت على عمرو وإنما جعله استعارةً لأن الحرام اسمٌ لما امتنع تناوله قطعاً بسبب شرعي، فما حكم الله بامتناعه يكونُ كالشيء المحرم على الناس، ومنه الحديث: "حرمتُ الظُّلمَ على نفسي"، أي: تقدستُ عنهُ وتعاليت.

الْكافِرِينَ) [الأعراف: 50] أى منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم. وقرئ: "وحرم"، "وحرم" بالفتح والكسر. "وحرّم" "وحرّم". ومعنى (أَهْلَكْناها) عزمنا على إهلاكها. أو قدرنا إهلاكها. ومعنى "الرجوع": الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة. ومجاز الآية: أن قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون: (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)] الأنبياء: 97 [يعنى: أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب. وقرئ: "إنهم"، بالكسر. وحق هذا أن يتمّ الكلام قبله، فلا بدّ من تقدير محذوف، كأنه قيل: وحرام على قرية أهلكناها ذاك. وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعى المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "وحَرْم"، و"حِرْم" بالفتح والكسر)، أبو بكر وحمزةُ والكسائي: بالكسر وإسكان الراء، والباقون: بفتحهما وألف بعد الراء. الجوهري: الحرامُ ضد الحلال، وكذلك الحرمُ بالكسر، قال الكسائي: ومعناهُ الواجبُ. وقال ابن جني: قرأ ابن عباس: "حرم" بفتح الحاء وسكون الراء والتنوين، وهو مخففٌ من "حَرِم" على لُغةِ بني تميم كبطرٍ من: بطرٍ، وفخذٍ من: فخذ. وقرأ ابن عباس أيضاً: "حرُم" بضم الراء. قوله: (ومجاز الآية)، أي: الذي ينبني جوازُ الآية وطريقتها وسياقها عليه وبيانُ تقرير الاستعارة واستعمالُ الحرام في الممتنع وجوده، وذلك أن ما عزم الله تعالى عليه غير متصور أن يكون خلافه، فيمتنعُ وجودُ إنابةِ هؤلاء؛ لأن الله تعالى عزم على إهلاكهم، فلا يرجعون ولا يُنيبون.

فكيف لا يمتنع ذلك. والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أى: لأنهم لا يرجعون ولا صلة على الوجه الأوّل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف لا يمتنع ذلك؟ )، أي: فكيف يحصلُ منهمُ العملُ الصالحُ والسعيُ المشكور؟ لأن الإنكار إذا دخل على المنفي أفاد الثبوت. قوله: (ولا صلة على الوجه الأول)، على أن يكون (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) مُبتدأ، والخبر: "حرامٌ"، لا أن يكون تعليلاً، ولهذا قدر في الأول "لا" زائدةً وقال: "إن قوماً عزم اللهُ على إهلاكهم غير متصورٍ أن يرجعوا"، وجعل في التعليل غير زائدة، وقال: "ثم عُلل، فقيل: لأنهم لايرجعون". قال ابن الحاجب في "الأمالي": إذا جُعلت (أَنَّهُمْ) مبتدأ، و"حرامٌ": خبرٌ مقدم، وجب تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن "أن" لابد أن يكون مقدماً، فعلى هذا لو جُعلت "لا" نافية يفسدُ المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: انتفاءُ رجوعهم ممتنعٌ، فيؤدي إلى معنى الإثبات، إذ نفيُ النفي إثباتٌ قطعاً. وإن جُعلت "لا" زائدةً استقام، وإذا جُعلت (أَنَّهُمْ) تعليلاً، لا تكونُ زائدةً، و"حرامٌ": خبرُ مبتدأِ مقدَّر وهو ذاك، يعني ما تقدم من العمل الصالح المدلول عليه بقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ)، ويكون (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) تعليلاً لقوله: وذاك حرامٌ، كأنه قيل: لم كان ممتنعاً؟ فقيل: لأنهم لا يرجعون، وقد يُضعفُ هذا الوجهُ بأنه معلومٌ امتناعُ العمل على الهالك، فهو إخبارُ بما قد تحقق وعُلم. ويُجاب عنه بأن المراد امتناعُ دخولهم الجنة؛ وكنى عنه بامتناع العمل الصالح، وهو السببُ، فترك ذكر المسبب وذكر السبب، فأنه قيل: يمتنعُ دخولهم الجنة؛ لامتناع عملهم. وقال القاضي: معنى (أَهْلَكْنَاهَا): حكمنا بإهلاكها. وقلتُ: الذي يقتضيه النظمُ أن يكون قوله تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) مجملاً كما قال: "ثم توعدهم بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو محاسبهم ومجازيهم"، وقوله:

فإن قلت: بم تعلقت (حَتَّى) واقعة غاية له، وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة ب"حرام"، وهي غاية له لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي (حَتَّى) التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكىّ: الجملة من الشرط والجزاء، أعنى: «إذا» وما في حيزها. حذف المضاف إلى (يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ) وهو سدّهما، كما حذف المضاف إلى "القرية" وهو أهلها. وقيل: (فتحت) كما قيل (أَهْلَكْناها) وقرئ: "آجوج". وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ) الآية تفصيلاً له، على أن يُقدر ما يُقابله لمن يُضادهم في العمل فحذف وأقيم مقامه: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) على أن المعنى: وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها العملُ الصالحُ والسعيُ المشكورُ غير المكفور؛ لأنهم لا يرجعون عن الكفر، كما قال نعياً على أولئك الذين تقطعوا أمر دينهم، وتسجيلاً على تصميمهم وعدم ارعوائهم. قوله: (واقعةً غايةً له)، "واقعةً": حالٌ، والضميرُ في "لهُ" يرجعُ إلى "ما" التي في قوله: "بِمَ". قوله: (وأية الثلاث هي؟ )، المعنى أن "حتى" ثلاثةُ أقسام: حرفُ جر، وحرفُ عطف، وحرفٌ يبتدأ بما بعدها، فهذه من أية هذه الأقسام؟ قوله: (وقيل: (فُتِحَتْ)، كما قيل: ((أَهْلَكْنَاهَا))، أي: أُنثَ باعتبار المذكور، أي: القرية. قوله: (هما قبيلتان من جنس الإنس)، روى محيي السنة عن الضحاك: هم جيلٌ من الترك. وقال أهل التاريخ: أولادُ نوح عليه السلامُ ثلاثةٌ: سامٌ، وحامٌ، ويافث. سامٌ

ومأجوج (وَهُمْ) راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السدّ. "الحدب": النشز «1» من الأرض. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: "من كل جدث"، وهو القبر، الثاء: حجازية، والفاء: تميمية. وقرئ (يَنْسِلُونَ) بضم السين. و"نسل" و"عسل": أسرع. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء: 97]. و(إِذا) هي "إذا" المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء، كقوله تعالى (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)] الروم: 36 [فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو العرب والعجم والروم، وحامٌ أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافثُ أبو التُّركِ والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج. ورُوي عن حذيفة مرفوعاً: أن يأجوج أمة، ومأجوج أمة. قوله: (وقرأ ابن عباس: "من كل جدث")، قال ابن جني: قالوا: أجدثت له جدثاً، ولم يقولوا: أجدفتُ. فهذا يُريك أن الفاء في "جدف" بدلٌ من الثاء في "جدث"، ألا ترى الثاء أذهب في التصرف من الفاء؟ ويجوز أن يكونا أصليين، إلا أن أحدهما أوسعُ تصرفاً من صاحبه كما قالوا: وكدتُ عهده وأكدته، إلا أن الواو أوسعُ تصرفاً، وعليه قالوا: مودة قديمة وكيدة. ولم يقولوا: أكيدةٌ، فهو مذهبٌ مقتاسٌ في أمثاله. قوله: (فإذا جاءت الفاءُ معها تعاونتا)، قال صاحب "الفرائد": إذا المفاجأة بدلٌ من الفاء في الجواب، فكان هذا جمعاً بين البدل والمُبدل منهُ، ويمكن أن يكون جواب (إِذَا فُتِحَتْ): (يَا وَيْلَنَا)، أي: قالوا: يا ويلنا، وقيل: محذوف، أي: ندموا وعلموا فإذا

بالشرط فيتأكد. ولو قيل: إذا هي شاخصة. أو فهي شاخصة، كان سديدا. (هِيَ) ضمير مبهم توضحه "الأبصار" وتفسره، كما فسر (الذين ظلموا) و (أسروا) (يا وَيْلَنا) متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا. و"يقولون": في موضع الحال من (الذين كفروا). (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 98 - 100]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبصارهم شاخصةٌ. وأما على الوجه الأول فالتقدير: إذا فُتحدت يأجوج ومأجوجُ وكان كيت وكيت، ففاجؤوا وقت شخوص أبصارهم قالوا: يا ويلنا. وقال الزجاج: الجوابُ عند البصريين قوله: (يَا وَيْلَنَا) والقول محذوفٌ. وعند بعضهم: (وَاقْتَرِبْ)، والواو مُطرحٌ، وهو لا يجوزُ عند البصريين. قوله: (هي: ضميرٌ مبهمٌ يوضحه: "الأبصار")، يعني: ضميرُ "هي" عند بعضهم، أي: صورته صورة ضمير، لا أنه الضمير المصطلحُ عليه" لأن الضمير المصطلح عليه معرفة، ولابد له من شيء قبله يعود إليه ولا شيء هنا، فيكونُ على وزان قوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء: 3]، قال القاضي: يجوزُ أن يكون الضمير للقصة. وقال أبو البقاء: (فإذا) هي: "إذا" للمفاجأة، وهي مكان، والعاملُ فيها: (شَاخِصَةٌ)، وهي ضمير القصة، و (أَبْصَارُ الَّذِينَ): مبتدأ و (شَاخِصَةٌ): خبره.

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدّقه ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ... الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوه. فقال ابن الزبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم. قال: قد خصمتك ورب الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك". فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ)] الأنبياء: 101 [ ... الآية يعنى عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام. فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما تعبدون من دون الله: يحتمل الأصنام)، قال في "البقرة": "ما: عامٌّ في كل شيء، فإذا عُلم فُرِّق بـ (ما) و (مَنْ) ". وقد عُلم هنا بقرينة الخطاب في قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) وفيما سبق (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، والالتفات في قوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أن المخاطبين: المشركون، فإن "ما" محمولةٌ على الأصنام، ومن ثم قدر محيي السنة: إنكم أيها المشركون وما تعبدون من دون الله، يعني الأصنام، حصبُ جهنم. وقال محيي السنة: وزعم جماعةٌ أن المراد من الآية الأًنام، لقوله: (وَمَا تَعْبُدُونَ)، ولو أريد الملائكة والناس لقيل: ومن تعبدون. وهو ضعيفٌ؛ لأن ما: عامةٌ.

حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم. والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب، ولأنهم قدّروا، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم. فإن قلت: إذا عنيت ب"ما تعبدون" الأصنام، فما معنى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ)؟ قلت: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن واحد، جاز أن يقال: "لهم زفير"، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس. و"الحصب": المحصوب به، أى: يحصب بهم في النار. والحصب: الرمي. وقرئ بسكون الصاد، وصفا بالمصدر. وقرئ "حطب"، و"حضب"، بالضاد متحركاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للتغليب)، قال صاحب "الفرائد": لا تغليب هاهنا، والمرادُ من ضمير (وَهُمْ): المخاطبون في قوله: (إِنَّكُمْ)، فالالتفاتُ من الخطاب إلى الغيبة، وقلتُ: لما حكم على جميعهم وأنهم مع أصنامهم حصبُ جهنم، ثم حقق ذلك بأن هذا وعدٌ لابد منه بقوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) وعطف عليه قوله: (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) توكيداً لشمول الأشخاص والأزمان على سبيل الالتفات، ثم أوقع بني المعطوف والمعطوف عليه قوله تعالى: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) اعتراضاً وتجهيلاً للكفرة، واحتجاجاً عليهم، عقبه ببيان أحوال كلهم في جهنم بقوله: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ)، وكان مقتضى السياق الشركة أيضاً، لكن امتنع وصفها بالزفير، فوجب المصير إلى التأويل بالتغليب، ويجوز وصفها به ما وصف جهنم بالتغيظ والزفير على الحقيقة. قوله: (و"الحصبُ": المحصوبُ به)، والمحصوب: النارُ، والمحصوب به: الحطبُ، كما أن المرمي: الهدفُ، والمرميَّ به: السهمُ. قوله: (وقرئ بسكون الصاد)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن السميفع. وقرأ ابن عباس: "حضبُ" بالضاد مفتوحةً، وبسكونها: كثيرُ عزة، وبالطاء: عليُّ بن أبي طالب وعائشةُ وابن الزبير رضي الله عنهم. والحصبُ بالضاد والصاد: الحطبُ، وفيه ثلاث لغات. حطبٌ، وحضبٌ، وحصبٌ، إنما يقال: حصبٌ إذا ألقي في التنور والموقد، فأما ما لم يُستعمل

وساكنا. وعن ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون. ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم. (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء: 101]. (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101 - 103]. (الْحُسْنى) الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إمّا السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا يقال: حصبٌ. قال أحمد بن يحيى: أصل الحصب: الرميُ، حطباً كان أو غيره، فهذا يؤكد ما ذكرناه، فأما الحضبُ ساكناً بالضاد المعجمة وغير المعجمة فالطرحُ، فهو هنا على إيقاع المصدر موقع اسم المفعول. قوله: (إما السعادةُ، وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة)، أما السعادةُ فما روينا عن الترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ أو من نفس منفوسة، إلا قد كُتبت شقيةً أو سعيدة"، الحديث. وعن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خلقَ أحدكم يُجمعُ في بطن أمه" إلى قوله: "يُكتبُ رزقه وأجلُه وعملُه وشقيٌّ أو سعيد، ثم يُنفخُ في الروح" الحديث. وأما البشرى فلقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) [يونس: 26]، وقوله تعالى: (تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ).

يُروى أنّ عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) و"الحسيس": الصوت يحس، و"الشهوة": طلب النفس اللذة. وقرئ "لا يَحْزُنُهُمُ" من أحزن. و (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)] النمل: 87 [وعن الحسن: الانصراف إلى النار. وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما التوفيق فلقوله صلواتُ الله عليه: "وأما من كان من أهل السعادة فسيصيرُ لعمل السعادة"، الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن علي رضي الله عنه. قوله: (يُروى أن علياً رضي الله عنه)، يشيرُ إلى معنى ما روينا عن سعيد بن زيدٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ، وإني لغنيٌّ أن أقول عليه ما لم يقل، فيسألني عنه غداً إذا لقيته: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، عليٌّ في الجنة، والزبيرُ في الجنة، وسعد بن مالكٍ في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"، وسكت عن العاشر، فقالوا: ومن العاشرُ؟ قال: "سعيد بن زيد"، يعني نفسه. أخرجه أبو داود والترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف مثله. قوله: (يُذبحُ الموتُ على صورة كبش أملح)، الحديثُ من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتي بالموتِ كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرفون وينظرون، فيقولون: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ": إلى قوله: "فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت"، الحديث.

تستقبلهم (الْمَلائِكَةُ) مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَانا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]. العامل في (يَوْمَ نَطْوِي) (لا يحزنهم). أو (الفزع). أو (تتلقاهم). وقرئ: "تطوى السماء"، على البناء للمفعول "السِّجِلِّ" بوزن العتلّ و"السجل" بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: الأملحُ: الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض. قوله: (أو (الْفَزَعُ))، أي: العامل في (يَوْمَ نَطْوِي) الفزعُ: فإن قيل: الفزعُ الأكبرُ مصدرٌ موصوف، وهو لا يعمل؟ وأجيب: أنه اتسع في الظرف ما لم يُتسع في غيره. قوله: ("السُّجُلّ"، بوزن العُتُلِّ)، قال ابن جني: بضم السين والجيم مشددة، قراءة أبي زُرعة، وقرأ الحسنُ: بكسر السين وسُكون الجيم، واختاره أبو عمرو، وقرأ أبوالسمال بفتح السين وسكون الجيم وتخفيف اللام. قال ابن جني: السجلُّ: الكتابُ، وهو كتابُ العهدة ونحوها. وقال قومٌ: هو فارسيٌّ معرب، وأنكر أصحابنا كلهم ذلك. وقيل: هو ملكٌ، وقيل: هو كاتبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مدفوعٌ؛ لأن كُتابه معروفون، وما وُقِفَ على مثلِ هذا الاسم في ذكر أسامي الصحابة. ويُشبهُ عند من قال بهذين القولين أن السجل فاعلٌ في المعنى، وغنما هو مفعولٌ، وهو كطي الكتاب للكتابة، أي: كطي الكتاب لأن يُكتب فيه. قوله: (أو لما يُكتبُ فيه)، قيل: اللام: متعلقٌ بالطي، إلا أنه إذا كان السجلُّ فاعلاً كانت

المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. وقيل (السِّجِلِّ) ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب - على هذا - اسم الصحيفة المكتوب فيها. (أَوَّلَ خَلْقٍ) مفعول "نعيد" الذي يفسره (نُعِيدُهُ) والكاف مكفوفة ب"ما". والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء. فإن قلت: وما أوّل الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم. فإن قلت: ما بال (خَلْقٍ) منكرا؟ قلت: هو كقولك: " هو أوّل رجل جاءني"، تريد أوّل الرجال، ولكنك وحدته ونكرته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للاختصاص، وإذا كان مفعولاً كان بمعنى لأجل. وقال أبو البقاء: اللامُ زائدةٌ، كقولك: لا أبا لك. وقيل: هي بمعنى على، وقيل: تتعلقُ بطي. مضى كلامه. فقوله: ليكتب فيه على أن المصدر بمعناه، أو لما يُكتبُ فيه، على أن المصدر بمعنى المفعول. قوله: (كقول: هو أول رجلٍ جاءني)، يريدُ: أولُ الرجال. اعلم أن (أَوَّلَ) إذا كان مفعولاً به لـ "نُعيدُ" المفسر كما ذكر، فالظاهرُ أن يُضافَ إلى الجمع؛ لا الخلق على هذا التأويل عامٌّ في السماء وغيرها، فإذا نُكر أريد به تفصيلُ الجنس واحداً واحداً، و (كَمَا) على هذا: منصوبٌ على المصدر بـ "نُعيدُ المقدر، ومفعول (بَدَانَا): ضميرُ "أول الخلق"، وإليه الإشارة بقوله: "نعيدُ أول الخلقِ كما بدأناهُ"، ولا كذلك إذا جُعلَ (أَوَّلَ) ظرفاً أو حالاً؛ لأن مفعولَ (بَدَانَا) على هذا: ضميرٌ يرجع إلى "ما" في (كَمَا)، وهي موصولةٌ، وأريدُ به السماء، فيختص الإبداء والإعادة به؛ ولهذا قال: "أول ما خلق"، فلا يحتاج إذن إلى التعميم. وقال ابن الحاجب: (كَمَا بَدَانَا) يجوزُ أن يكون في موضع نصبٍ على المصدر بـ (نُعِيدُهُ)، كأن الأصل: نُعيدُ أول خلقٍ إعادةً مثل ما بدأناه، وتكونُ "ما": مصدرية،

إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى (أَوَّلَ خَلْقٍ): أوّل الخلق، بمعنى: أوّل الخلائق، لأن الخلق مصدر لا يجمع. ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره (نُعِيدُهُ) و"ما" موصولة، أى: نعيد مثل الذي بدأناه نعيده. و"أول خلق": ظرف ل"بدأناه"، أى: أوّل ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى. (وَعْداً) مصدر مؤكد، لأنّ قوله (نُعِيدُهُ) عدة للإعادة (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على أن نفعل ذلك. (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]. عن الشعبي رحمة الله عليه: زبور داود عليه السلام، و (الذكر): التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. و (الذكر): أم الكتاب، يعني اللوح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأن تكون في موضع الحال، كأنه قال: نُعيدُه أول خلقٍ مماثلاً للذي بدأناه، وصح الحالُ؛ لأنه من الضمير في (نُعِيدُهُ)، يعني: "نُعيدُ" المفسر الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى. قوله: (زبور داود)، خبرُ مبتدأ محذوف، أي: الزبورُ المذكور في الآية: زبورُ داود عليه السلام. قوله: (وقيل: اسمٌ لجنس ما أُنزل)، كقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ) [الشعراء: 196]. نقل محيي السنة عن سعيد بن جبير ومجاهد: أن الزبور: جميع الكتب المنزلة، والذكرُ: أمُّ الكتاب، أي: بعد ما كُتب ذكره في اللوح المحفوظ، ويؤيدها ما رويناه في "صحيح البخاري" عن عمران بن حصين في حديث وفد اليمن: جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك

أي: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار، كقوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا)] الأعراف: 137 [، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)] الأعراف: 128 [وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدّسة، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [الأنبياء: 106]. الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. و"البلاغ": الكفاية وما تبلغ به البغية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أول هذا الأمر: ما كان؟ قال صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق الله تعالى السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء". قوله: (أي: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكُفار)، روينا عن مسلم وأبي داود والترمذي، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فأريتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغُ ملكها ما زُوي لي منها"، ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن شداد بن أوس. قال الإمام: دليلُ هذا القول قوله تعالى: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ) [النور: 55]. قوله: (وعن ابن عباس: هي أرضُ الجنة)، وقال الإمام: يؤيده قوله تعالى: (وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) [الزمر: 74]، ولأنها الأرضُ التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خُلقت، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعل ىوجه التبع، ولأنها ذُكرت عقيب ذكرِ الإعادة فلا تكونُ غير الجنة.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. أرسل صلى الله عليه وسلم (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينا غديقة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن خالف ولم يتبع)، جوابُ سؤال، أي: كيف قال: (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) "والعالمين" - كما تقرر- عامٌّ في جميع المخلوقات، ونرى كثيراً ممن خالفه محرومين من تلك الرحمة؟ فقال: ومن خالف ولم يتبع فإنما أُتي من عند نفسه؟ قوله: (ومثالهُ: أن يُفجر الله تعالى عيناً غديقةً)، وقلتُ: ومثاله في مذهبنا: ما رويناه عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تنبتُ كلأ، فذلك مثلُ من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". أخرجه البخاري ومسلم. "الأجادبُ" بالجيم والدال المهملة: قال الخطابي: هي الأرضُ التي تُمسكُ الماء فلا يسرعُ فيه النضوب. روى الشيخ الإمام محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم"، عن بعضهم: إنما هي أخاذاتٌ، بالخاء والذال المعجمتين، جمعُ إخاذة، وهي الغديرُ. شبه العلم والهدى بسبب الرحمة المهداة صلاوتُ الله وسلامه عليه بالغيث، كما شبه الغيث بالرحمة في قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف: 57]،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكما أن الغيث يحيي البلد الميت بأصناف العشب والكلأ وغيره، كذلك الهدى والعلمُ يحييان القلب الميت، وإنما أوثر الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن بشدة اضطرار الخلقِ إليه حينئذٍ، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى: 28]، وفي حديث الاستسقاء: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً"، أخرجه أبو داود. وقال التوربشتيُّ: وقد كان الناس قبل المبعثِ وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلب، ونُضوبِ العلم، حتى أصابهم الله تعالى برحمةٍ من عنده، فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المخايل حتى تداركهم الله بلطفه وأرخت عليهم السماء عزاليها، ثم كان حظُّ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر. وقلتُ: وقد يتوهم أن الشطر الأول من التمثيل مشتملٌ على تمثيلين مستقلين وليس بذلك، ولكنه تمثيلٌ واحدٌ مركبٌ من أمرين: وذلك أن "أصاب طائفة منها" عطفٌ على "أصاب أرضاً"، ثم قُسمت الأرضُ الأولى بحرف التعقيب في قوله: "فكانت"، وعُطفَ كان على كانت قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، ولأن أصل التمثيل مُركبٌ من أمرين، من الهدى والعلم لتغايرهما في الاعتبار، كما ورد: "من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بُعدا"، ويعضده مراعاةُ معنى التقابل بين القرينتين من إثبات إنبات الكلأ وإمساك الماء في أحداهما، ونفيهما في الأخرى على سبيلا لحصر، ثم تعقبهما بالفذلكة المقررة للتفصيل المذكور المنصوص فيها المثلان المشيران إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأرضين لرفع ما عسى أن يتوهم متوهمٌ أزيد منهما، وذلك قوله: "فذلك مثلُ من فقه في دين الله تعالى" إلى آخره. وكذا يؤيده ما ذكره شارحُ "الصحيح"، وهو: أما قوله: "ورعوا" فهو بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ "مسلم"، ووقع في "البخاري": "وزرعوا"، وكلاهما صحيحٌ. انتهى كلامه؛ لأنه -على الأول- في الكلام لفٌّ ونشر، فإن "رعوا" مناسبٌ لقوله: "أنبتت الكلأ والعشب الكثير"، وقوله: "فشربوا وسقوا"، مناسبٌ لقوله: "أجادب" فيكونُ الضميرُ في نفع الله تعالى بها لقوله أرضاً، ومعنى قوله: "كلاهما صحيحٌ": أن "زرعوا" متعلقٌ بالأول لا بالأجادب، فإنها لا تكفي الشرب والسقي فضلاً عن الزرع، فعلى هذا قد ذُكر في الحديث الطرفان: العالي في الاهتداء، والغالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله: "من فقه في دين الله"، إلى آخره، وكنى عمن قبل هدى الله والعلم بقوله: "من فقه في دين الله" إلى آخره، وكنى عمن أبى قبولهما بقوله: "لم يرفع بذلك رأساً"، وبقوله: (لم يقبل هدى الله)، وترك الوسط، وهما قسمان، أحدهما: العامل الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسبُ، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن نفع الغير. ثم تأمل أيها الناظر في الفاءات الست تعجب من حسن مواقعها، فالأولى: تفصيلية، قسمت إحدى الأرضين قسمين، والثانية: سببية؛ لأن القبول سببُ النتيجة، والثالثة: جمعت القسمين في معنى النفع، والرابعة: أتبعت كل واحدٍ منهما بما يناسبه، والخامسة: عكس الأولى حيث عقبت التفصيل بالإجمال؛ لأنها ردت الأقسام الثلاثة إلى التمثيلين. والسادسة: سببيةٌ، أي: فعلم الحق ولم، آذنت بأن الفقيه هو الوارث يجب عليه تكميل الناقصين بعد كماله، ما قال تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ) [التوبة: 122]، وفي الحديث إشعارٌ بأن الاستعدادات ليست مكتسبةً، لا كما عليه ظاهرُ كلام المصنف، بل هي مواهبُ ربانية، يختص بها من يشاء، وكمالها أن يفيض الله عز وجل عليها من المشكاة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النبوية، فإذا وُجد من يشتغلُ بغير الكتاب والسنة وما والاهما عُلم أن الله تعالى لم يُرد به خيراً فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم، وفاقد أحدهما فاقد هذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله كما يفيدهم بعلمه. ولو أفاد بالعمل فحسبُ لم يحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرؤ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرداً عن الرعي، فيشبه الآخذ بالمستسقي، ولو منعهما معاً كان كأرض ذات ماءٍ وكلأٍ وعُشب، وحماها بعضُ الظلمة عن مستحقيها. قال: ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وفي اختصاص الإخاذات: إيماءٌ إلى أن القلب الخالي من الكتاب والسنة كالمصنع الفارغ من الماء، وأن آخذ الحديث ينبغي أن يكون واعياً كالإخاذ، حافظاً للألفاظ الجامعة بين التعريفات المغيرة، ليتمكن من الاستنباطات المتنوعة؛ إذ لو انخرم حرفٌ أو انحرفت كلمةٌ لفاتت الفوائدُ المتكاثرة. وعن مسروقٍ قال: صحبتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كإخاذاتٍ؛ لأن قلوبهم كانت واعيةً فصارت أوعيةً للعلوم بما رزقوا من صفاء الفهوم. وأن يكون واقياً لها من الشوائب النفسانية متفادياً من الأعراض الدنيوية كالمصنع الذي يقي الماء عن الكدورات: الداخلة والخارجة، ولهذه الأسرار الغامضة ورد فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان من ألف عابد"، أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه، حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال. (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [الأنبياء: 108]. إنما لقصر الحكم على شيء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى الدارمي، عن عمران، عن الحسن: "إنما الفقيهُ: الزاهد في الدنيا الراغبُ في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداومُ على عبادة ربه". هذه خاتمةٌ شريفة، حيثُ ختمت سورةُ الأنبياء عليهمُ السلامُ بختام خاتمهم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين. ونحن نختمُ أيضاً بما رُوي عن أبي صالح قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمةٌ مهداة". أخرجه الدارمي هكذا مرسلاً، ورُوي موصولاً بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل في معناه قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). قوله: (عيناً غديقةً)، الجوهري: غدقت العينُ، بالكسر، أي: غزرت، والغدقُ بالفتح: الماء الكثير، وإنما قال: "محنةً" ليطابق قوله تعالى: (رَحْمَةً). قوله: ((إنما) لقصر الحكم على شيء)، مثالُه: إنما زيدٌ قائمٌ، وهو فرعٌ لقولك: ما زيدٌ إلا قائمٌ، وهو من تخصيص الموصوف بالصفة، أي: ليس له صفةٌ سوى القيام.

أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ) مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. و (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية: وفي قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لقصر الشيء على حُكم)، مثاله: إنما يقوم زيدٌ، وهو فرعُ قولك: ما يقوم إلا زيدٌ، وهو من تخصيص الصفة بالموصوف، أي: صفةُ القيام لا تتعدى عن زيد. قوله: (وفائدةُ اجتماعهما [الدلالة على] أن الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورٌ على استئثار الله بالوحدانية)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأداء الحصر إلى مُشكل، وهو أنه لا يُوحي إليه إلا الوحدانية دون غيرها من التكاليف؛ ولأنه لم يذكر الحصر إلا في إنما المكسورة، ولعل المراد أن المقصود الأعظم من الوحي هو الوحدانية، وإنما ألحق بها المفتوحة، إما لأنها بمعنى المكسورة؛ لأن 0 يُوحَى) بمعنى القول، أو لاطراد دليل حصر المكسورة على ما قيل فيها أيضاً. وقلتُ: أما مزيدُ تقرير الجواب فهو أن الكلام الذي يفيد الحصر لا يؤتى لإفادة العموم غالباً، بل قد يؤتى لرد المنكر فيما وقع النزاع فيه. وهنا الكلام السابق في الرد على المشركين كما قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، وكذا اللاحق: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)، على أن سائر التكاليف متفرعٌ على أصل التوحيد، مقررٌ له، لقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) [البينة: 5]، ألا ترى كيف ذم في قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) [المسد: 1] شانئ سيد الموحدين وشتم من يشيكُ الشوكة في طريقه؟ ولهذا عقب بهذه السورة سورة التوحيد، والسورتان على وزان (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر: 1] (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر) [الكوثر: 3]، وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2] تعليلٌ لهما، وأمرٌ بالقيام بشكرهما، قُدم قبل تمام الكلام لشدة الاهتمام.

مُسْلِمُونَ) أن الوحي الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى: أن الذي يوحى إلى، فتكون «ما» موصولة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [الأنبياء: 109 - 111]. "آذن": منقول من "أذن" إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)] البقرة: 279 [، وقول ابن حلزة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن يخلصوا التوحيد لله تعالى)، وذلك أن قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ونحوه إنما يُذكر إذا تقدم أمرٌ أو شأنٌ قُرنَ معه ما يوجبُ الائتمار به أو الترغيب فيه، فيؤتى به للتحريض عليه، والتنبيه على إزاحة الموانع والصوارف عنه، وهاهنا لما بولغ في أمر التوحيد بالحصرين عقبه به إيجاباً للامتثال بإخلاص التوحيد، وإن شئت فانظر إلى قول المصنف في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) [المائدة: 91] ليتحقق لك ما أردنا إيراده هاهنا. قوله: (وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع)، يريد أن قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) مع كونه مسبوقاً لإثبات إخلاص التوحيد قد أدمج فيه هذا المعنى. قال الإمام: العلمُ بصحة النبوة لا يتوقف على العلم بكون الإله واحداً، فلا جرم أمكن إثبات الوحدانية بالدلائل السمعية.

آذنتنا ببينها أسماء والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك (عَلى سَواءٍ) أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم، وقشر العصا عن لحائها. وما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولا بد من أن يلحقكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آذنتنا ببينها أسماء)، تمامه: رُبَّ ثاوٍ يُملُّ منه الثواءُ الإيذانُ: الإعلامُ، والثويُّ: الإقامةُ. يقولُ: أعلمتنا بمفارقتها إيانا أسماءُ، ورُبَّ مُقيم يُملُّ إقامته، ولم تكن أسماءُ منهم. قوله: (كرجل بينه وبين أعدائه)، بيانٌ لتقرير المشبه به، وطريقُ مجاز (آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) في الكلام، وأنه استعارةُ تبعيةٌ واقعةٌ على التمثيل. قوله: (هدنة)، الجوهري: هادنه، أي: صالحه، والاسم منها: الهدنةُ. قوله: ((عَلَى سَوَاءٍ)) أي: مستوين، يعني أنه: حالٌ، قال أبو البقاء هو حالٌ من الفاعل والمفعول، أي: مستوين في العلم بما أعلمتكم به. قوله: (وقشر العصا عن لحائها)، قال الميداني: قشرتُ له العصا، يُضربُ في خلوص الوُد: أظهرتُ له ما كان في نفسي، ويقال: أقشر له العصا، أي: كاشفه وأظهر له العداوة. قوله: (وما توعدونه من غلبة المسلمين عليكم كائنٌ لا محالة)، قال صاحب "الفرائد":

بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدرى متى يكون ذلك لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، و (ما تَكْتُمُونَ) في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه. وما أدرى لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم (إِلى حِينٍ) ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [الأنبياء: 112]. قرئ "قل" و (قالَ)، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. و (رَبِّ احْكُمْ) على الاكتفاء بالكسرة. و"رب احكم"، على الضم. و"ربى أحكم"، على أفعل التفضيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يمكنُ أن يُقال: ما توعدون يشملُ غلبةَ المسلمين وعذاب الآخرة، فيكونُ المرادُ ما يعمهما؛ إذ لا امتناعَ في إرادته، وقلتُ: يأباهُ قوله تعالى: (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)؛ لأنه بمعنى قشر العصا عن لحائها. قوله: (علمه)، نصبٌ على المصدر، وأصله: لم يعلمنيهُ علماً، ثم قُدم المصدرُ وأضيف، على نحو: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [محمد: 4]. قوله: (من الإحن)، الجوهري: يقالُ: في صدره عليَّ إحنة: أي: حقدٌ، والجمعُ: إحن. قوله: (قرئ: "قُلْ" و (قَالَ))، قال حفصٌ: (قَالَ) بالألف، والباقون: بغير ألف. قوله: (و"رَبُّ احكُمْ" على الضم)، قال ابن جني: قرأ أبو جعفر: بضم الباء، والألفُ ساقطةٌ، على أنه نداءُ مفردٍ، وهذا ضعيفٌ، أعني حذف حرف النداء مع الاسم الذي يجوز أن يكون وصفاً لأي. ألا تراك لا تقولُ: رجلُ أقبِلْ؛ لأنه يمكنك إن تجعل الرجُلَ وصفاً لأي، فتقولُ: يا أيها الرجلُ، ولهذا ضَعُفَ عندنا قولُ من قال في قوله تعالى: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي)

و"ربي أحكم": من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى (بِالْحَقِّ) لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الحجر: 71] أنه أراد: يا هؤلاء، حذف حرف النداء من حيثُ إن هؤلاء من أسماء الإشارة، وهو جائزٌ أن يكون وصفاً لـ"أي"، نحو قوله: ألا يا أيُّهذا المنزلُ الدارسُ "وربُّ" يجوزُ أن يكون وصفاً لـ"أي"، فتقولُ: يا أيها الربُّ، وأما ما جاء في الأمثال نحو: أصبح ليلُ، وأطرق كرا فإن الأمثال تجري في محمل الضرورة لها مجرى المنظوم. ورُوي أن هذه القراءة مبنيةٌ على جواز: يا غلامُ في: يا غلامي، وهي لغةٌ حكاها سيبويه، كما قرأ ابن أبي عبلة: يا قوم إنكم ظلمتم. ولو لم يُقدر "رب" مضافاً لزم حذفُ حرفالنداء عما يقع صفة لأي، وهو غير جائز. قوله: " (ومعنى (بالْحَقُّ): لا تحابهم وشدد عليهم)، قال القاضي: اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المُقتضي استعجال العذاب والتشديد عليهم. قال محيي السنة: كأنه استعجل العذاب لقومه فعُذبوا يوم بدر، نظيره قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا) [الأعراف: 89].

كما قال «اشدد وطأتك على مضر» قرئ (تَصِفُونَ) بالتاء والياء. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وخذلهم. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ (اقترب للناس حسابهم) حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبىّ ذكر اسمه في القرآن». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اشدد وطأتك على مُضر). النهاية: معناهُ: خُذهم أخذاً شديداً. والوطءُ في الأصل: الدوسُ بالقدم، فسُمي به الغزو والقتل؛ لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وأهانه. تمت السورة، والله أعلم

سورة الحج

سورة الحج مكية، غيرست آيات، وهي: (هذان خصمان) ... إلى قوله ... إلى (صراط الحميد) وهي ثمان وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج: 1]. الزلزلة: شدّة التحريك والإزعاج، وأن يضاعف زليل الأشياء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحج مكيةٌ، غير ست آيات وهي (هَذَانِ خَصْمَانِ) إلى قوله: (إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) وهي ثمانٍ وسبعون آيةً بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وأن يضاعف زليلُ الأشياء)، يقالُ: صَلَّ: إذا تحركَ مرةً، وصلصلَ: إذا تكررت.

عن مقارّها ومراكزها ولا تخلو "السَّاعَةِ" من أن تكون على تقدير الفاعلة لها، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله. أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)] سبأ: 33 [وهي الزلزلة المذكورة في قوله (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)] الزلزلة: 1 [واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها. أمر بنى آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن مقارِّها)، متعلقٌ بـ"زليل"، والزليلُ: مصدرٌ كالصَّرير. قوله: (فعن الحسن: أنها تكونُ يوم القيامة)، ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقولُ الله عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيُنادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذُريتك بعثاً إلى النار؟ فقال: يا رب، وما بعثُ النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعةً وتسعين، فحينئذٍ تضعُ الحاملُ حملها، ويشيبُ الوليدُ، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد". فإن قلت: كيف يستقيم على هذا قوله: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)؟ قلتُ، والعلمُ عند الله: لعل ذلك تمثيلٌ لبيان شدة الأمر وتفاقمه، كما قال: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). نحو قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) [القلم: 42]، أو أن يكون ذلك عند النفخة الثانية، فإنهم يقومون على ما صُعقوا في النفخة الأولى لقوله تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر: 63]، وينطبقُ على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "يشيبُ الوليدُ" مع قوله تعالى: (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) [المزمل: 17]، أي: الوليدُ والولدانُ الذين ماتوا على هذه الحالة، وعلى هذا لا يخالف قول علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها، مخالفةً ظاهرة.

صفة، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوّروها بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى، الذي لا يؤمنهم من تلك الأفزاع إلا أن يتردوا به. وروى أنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر. (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُبقوا على أنفسهم)، أي: يحفظونها. النهاية: يقالُ: أبقيتُ عليه إبقاءً: إذا رحمته وأشفقت عليه، والاسمُ: البُقيا. قوله: (في غزوة بني المصطلق)، وهُم قومٌ من خُزاعة. قال الإمامُ محمد بن إسماعيل البخاري: هي غزوةُ المُريسيع. وقال ابن إسحاق: وذلك في سنةِ ستٍّ. روى البخاريُّ ومسلمٌ وأبو داود عن عبد الله بن عون: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) منصوب ب (تذهل). والضمير للزلزلة. وقرئ: "تذهل كل مرضعة"، على البناء للمفعول: و"تذهل كل مرضعة" أى: تذهلها الزلزلة. والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. فإن قلت: لم قيل (مُرْضِعَةٍ) دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: (مرضعة)، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة. (عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وعن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المرضعةُ: التي هي في حال الإرضاع)، قال الزجاج: و (مُرْضِعَةٍ) جارٍ على المفعل، أي: أرضعتْ، ويقالُ: امرأةٌ مرضعٌ، أي: ذاتُ رضاع أرضعت ولدها أو أرضعت غيره. الانتصاف: والرفقُ أن النسب لا يلاحظُ فيه حدوثُ الصفة المشتق منها، بل مقتضاها أنها موصوفٌ بها، وفي غير النسب يلاحظ حدوث الفعل، وخروج الصفة عليه. فإذا قلت: مررتُ بامرأةٍ حاملة، يكون معناه: مررت بها في حال كونها حاملةً، وإذا قلت: حامل، بغير تاءٍ، كان معناه: مررتُ بامرأة من شأنها أن تحمل، لا يلزم أن تكون في وقت مرورك بها حاملةً. قوله: (أو عن الذي أرضعته)، فعبر عن العقلاء بما إرادةً للوصفية، أي: عن مولودها وقُرة عينها، وفلذة كبدها، ونحوها تصويراً لشدة الأمر.

لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. قرئ "وَتَرَى" بالضم من أريتك قائما. أو رؤيتك قائما». و"النَّاسَ" منصوب ومرفوع، والنصب ظاهر. ومن رفع جعل "الناس" اسم "ترى"، وأنثه على تأويل الجماعة. وقرئ: "سكرى". و"بسكرى"، وهو نظير: جوعى وعطشى، في جوعان وعطشان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لغيرِ فطام) و (لغير تمام)، يجوزُ أن يكون اللامُ للتعليل، أي: لايكونُ الذهولُ لأجلِ الفطام، والرضعُ لأجل التمام، بل لأمر غيرهما، وهو ما يلحقها من الدهشة والحيرة، وما يصيبها من تفاقم الأمر، وأن يكون للوقت، نحوُ قولك: جئتُك لثلاثٍ خلونَ من الشهر. قوله: (قرئ: "وُترى"، بالضم، من: أُريتُك قائماً)، النهاية: رُئي: فعلُ ما لم يُسم فاعله، من "رأيتُ" بمعنى: ظننتُ. انقضى كلامُه، إن كان تُرى مِن: أريتُك قائماً، فمعناهُ: تظنُّ أنت الناس سُكارى، أقيم الضميرُ مقام الفاعل، ونصبُ (النَّاسَ) و (سُكَارَى) على أنهما مفعولان؛ لأن أُريت مُتعدٍّ إلى ثلاثةٍ، وإن كان من: رأيتُك قائماً، فالمعنى: تظنُّ الناس سُكارى، أقيم "الناسُ" مقام الفاعل، ونُصبَ (سُكَارَى) على المفعولية؛ لأن "رأيتُ" متعدٍّ إلى اثنين. وفي نُسخة البخاريين: "رُؤيتُكَ"، وهو مشكلٌ، فإنا ما وجدنا رأيتُ متعدياً إلى ثلاثة. وقوله: (أو: رُيتُكَ قائماً) مشكلٌ، ولعل المراد من: أريتُكَ قائماً، رأيتُكَ قائماً. أو نقولُ: منصوب، ومرفوعٌ على الثاني، مع أن المرفوع الذي قررهُ في الأول أيضاً جائزٌ. وقوله: "اسمُ (تُرى) "، لعله ذكره كذلك ذهاباً إلى أن "ترى" من دواخل المبتدأ والخبر، قالُه الفاضِلُ نورُ الدين الحكيمُ. قوله: (وقرئ: "سكْرى"، و"بسكْرَى")، وفي "التيسير": قرأ حمزةُ والكسائي: "سَكْرى"،

و (سكارى) وب"سكارى"، نحو كسالى وعجالى. وعن الأعمش: "سُكرى"، و"بسكرى"، بالضم، وهو غريب. والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "وما هم بسكرى" بغير ألفٍ فيهما على وزن فعلى، والباقون بالألف على فُعالى. قال ابنُ جني رحمه الله تعالى: وأما "سُكارى" بضم السِّين، فظاهره أن يكون اسماً مفرداً غير مُكسر، كجُمادي وسُماني وسُلامَى. ويجوزُ أن يكون مكسراً مما جاء على فُعال، كالظُّؤارِ والعُراقِ والرُّخال والثُّناءِ والتُّؤام، إلا أنه أنثَ كما أنثَ فعالٌ في نحو: حجارة وعيارة. وأما "سكْرى" كصرعى وجرحى؛ لأن السُّكْرَ علةٌ لحقت عقولهم، كما أن الصرعَ والجُرْحَ علةٌ لحقت أجسامهم. وفعلى في التكسير ما يختص به المبتلون. وقال ابن جني: روينا عن أبي زُرعة أنه قرأها بضم السين الكافُ ساكنةٌ، وهو اسمٌ مفردٌ على فُعلى، كالحُبلى والبُشرى، وبهذا أفتاني أبوعليٍّ وقد سألت عن هذا. قوله: (وما هُم بسُكارى من الشرابِ)، بعد قوله: "وما هم بسُكارى على التحقيق"

فإن قلت: لم قيل أوّلا: "ترون"، ثم قيل: (وترى)، على الإفراد؟ قلت: لأنّ الرؤية أوّلا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الحج: 3 - 4]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤذنٌ أن قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) بيانٌ لإرادة معنى السُّكْرِ من قوله تعالى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) فإنه إما أن يُراد منه التشبيهُ، كما نقولُ: وترى الناس كالسُّكارى شُبهوا بسُكارى بسبب ما غشيهم من الخوف فبقُوا مسلوبي العقول كالسَّكران، أو أن يُراد الاستعارةُ، كأنه قيل: ترى الناس خائفين، فوضع موضعه سُكارى؛ ولهذا بينه بقوله: "منَ الخَوْف"، وصرح "وما هم بسكارى من الشراب". الانتصاف: ومن علامات المجاز: صحةُ سلبِه، كما إذا قلت للبليد: حمار! يصحُّ نفيُه، وكذا هاهُنا، نفي السُّكَر الحقيقي بقوله: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) مؤكداً بالباء؛ لأن هذا السُّكر أمرٌ لم يُعهد مثله؛ ولكن الاستدراك بقوله: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) تعليلٌ لإثبات السكر المجازي لما نفى عنهم السكر. قوله: (لأن الرؤية عُلقت أولاً بالزلزلة)، تلخيص الجواب: أن المرئي على الأول: حالةُ الزلزلة، والجمعُ كلهمُ يشاهدونها. وفي الثاني: المرئي: حالةُ تحيُّرِ الناس، فكل واحدٍ لا يشاهد حالة نفسه، بل يشاهد سائر الناس دون نفسه، ولهذا أتى بلفظ السائر؛ لأنه من السؤر، وهو البقية، أو يكون عاماً قصداً إلى تفظيع حال الناس، وأن تلك بلغت من الظهور حتى يمتنع خفاؤها البتة، فلا يختصُّ برؤية راءٍ دون راءِ. قال صاحبُ "الفرائد": يمكنُ أن يكون (َتَرَى) خطاباً للنبي صلى الله عليه سلم، أو يمكنُ أن يُراد بها المخاطبُ، وإنما المرادُ من الأول التهديدُ بالوقوع، ومن الثاني التعجبُ من حالهم.

قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا. وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم ولا يعضّ فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل (وَيَتَّبِعُ) في ذلك خطوات كُلَّ شَيْطانٍ عات، علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له لم تثمر له ولايته إلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يعضُّ فيه بضرسٍ قاطع)، النهاية: وفي الحديث: "ولا يعضُّ في العلم بضرسٍ قاطع"، أي: لم يُتقنه، ولم يُحكِم الأمورَ، وفي الحديث أيضاً: "كان ما نشاءُ من ضرسٍ قاطع"، أي: ماضٍ في الأمور نافذِ العزيمة، يقال: فلانٌ ضرسٌ من الأضراس، أي: داهيةٌ. قوله: (يخبطُ خبط عشواءَ)، النهاية: أي: يخبطُ في الظلام، وهو الذي يمشي في الليل بلا مصباح فيتحير ويضل، وربما تردى في بئرٍ، أو سقط على سبُع، وهو كقولهم: يخبطُ في عمياء: إذا ركب أمراً لجهالةٍ. قوله: (عُلِمَ من حالِه وظهر وتبينَ)، إلى آخرِه، تفسيرٌ لقوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) فالضميرُ في (عَلَيْهِ): للشيطان، وكذا المنصوب في (تَوَلاَّهُ)، والمرفوعُ لمن، وإنما قال: "عُلمِ من حاله وظهر وتبين" لما أن قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ) وصفٌ آخر لشيطانٍ وتمثيلٌ، كأنه قيل: وجب على الشيطان ولزم عليه إضلالُ من يتولاه، ألا ترى كيف يجتهد في ذلك ويبذل وسعه فيه، ولا يترك من الحيل والنصب شيئاً إلا يفعله؟ وهذا بينٌ ظاهرٌ جليّ،

الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا، بل هم أشدّ الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق، حيث دوّنوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا، وكأنهم ساطوه بلحومهم ودمائهم، وإياهم عنى من قال: يا ربّ مقفوّ الخطا بين قومه ... طريق نجاة عندهم مستو نهج ولو قرءوا في الّلوح ما خطّ فيه من ... بيان اعوجاج في طريقته عجّوا اللهم ثبتنا على المعتقد الصحيح الذي رضيته لملائكتك في سمواتك، وأنبيائك في أرضك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والكتبة عليه مثل، أى: كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارةُ بقوله: "والكتبةُ عليه مثلٌ، أي: كأنما كُتب إضلالُ من يتولاه عليه، ورُقِمَ به لظهور ذلك في حالهِ". قوله: (ساطوُهُ بلحومهم)، الجوهري: السوطُ: خلطُ الشيء بعضه ببعض. النهاية: ومنه حديث عليٍّ مع فاطمة رضي الله عنهما: "مَسُوطٌ لحمُها بدمي، ولحمي بدمها"، أي: ممزوجٌ مخلوط. قوله: (ويا رُبَّ مقفوٍّ الخُطا) البيت، مقفوٌّ: من قفوتُ الرجل: إذا تبعته. النهج الطريقُ الواضح. عجوا: صاحوا، نحاهُ، بالحاءِ المهملة، عن الصغاني: أي: قصد. يقولُ. رُبَّ رجُلٍ مفيدٍ في قومه، متبوعٍ في حزبه، عندهم أنه على صراطٍ مستقيم، ولو قرؤوا ما في اللوح المحفوظ من ضلالته وغوايته ضجُّوا متضرعين إلى الله تعالى من أن يكونوا مثله.

وقرئ: (أنه، فأنه) بالفتح والكسر، فمن فتح فلأن الأول فاعل (كتب)، والثاني عطف عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أنَّهُ ... فأنَّهُ)، بالفتح والكسر)، بالفتح: سبعةٌ، بالكسر: شاذ. قوله: (فمن فتح فلأن الأول فاعلُ (كُتِبَ)، والثاني: عطف عليه)، قلتُ: هذا موضعٌ صعبٌ من حيث الإعراب، وقد اختلفت آراءُ الأدباء فيه، فالواجب أن نبسُط الكلامَ فيه فضلَ بسط، قال الزجاجُ: (أنَّهُ) في موضع رفع، و (فأَنَّهُ) عطفٌ عليه وموضعُها رفعٌ أيضاً، والفاءُ: الأجودُ فيها أن تكون في معنى الجزاء، وجائزٌ كسرُ "إنّ" مع الفاء، ويكونُ جزاءً لا غيرُ. والتأويلُ: كُتِبَ عليه- أي: على الشيطان- إضلالُ متوليه وهدايته إلى عذاب السعير. وحقيقةُ "أنّ" الثانية أنها مكررةٌ على جهة التأكيد؛ لأن المعنى: كُتِبَ عليه أنهُ من تولاهُ أضلَّه. وقال أبو عليٍّ رحمه الله تعالى في "الإغفال": إعرابُ هذه الآية مُشكل، وأنا أشرحُه وأبينُ السهو فيه: قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ)، (أنَّهُ): في موضع رفع، وهي ما توصلُ بالجمل، و (مَن) هاهُنا إما أن تكون شرطيةً أو موصولةً، فإن جعلتها شرطيةً فالفاء للجزاء، وإن جعلتها موصولةً فالفاء هي الداخلةُ في خبر المبتدأ المتضمن للشرط، فعلى التقديرين لا تكونُ عاطفةً، ثم "أنه" في قوله: (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ليس بكلام تام؛ لأنك تقولُ: أنك منطلق، بفتح "أنّ"، فلا يكونُ ما بعده جملةً، فينبغي أن يقدر: فشأنه أنه يضله أو أمره، فثبت أن قول أبي إسحاق الزجاج رحمه الله تعالى: (فأنَّهُ) عطفٌ على (أنَّهُ) خطأٌ. وقلتُ: والذي ذهب إليه المصنفُ رحمةُ الله تعالى عليه في العطف فنٌّ غريب؛ لأنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعله معطوفاً على (أنَّهُ) مع ما في حيزها، وما يتصلُ بها على تقدير حذفِ الجزاء. المعنى: كُتِبَ على الشيطان أنهُ من تولاه يُهلكه، فإنه يُضله عن طريق الجنة وثوابها، ويهديه إلى طريق السعير وعذابها، فالفاء مثلها في قوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] والكلامُ متضمنٌ لأمورٍ مترتبةٍ بعضها على بعض، وهذا أقضى لحق البلاغة مما ذهب إليه أبو علي، وأشرحُ. ويدلُّ على هذا التقدير قوله في تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة: 63]، قال: ويجوزُ أن يكون (فَأَنَّ لَهُ) معطوفاً يهلك؟ فإن له نار جهنم، فاندفع بهذا قول صاحب "التقريب": وفي عطف (فَأَنَّهُ) على (أَنَّهُ) قبل تمام صلته، وعلى الثاني: تخللُ العطف بين أجزاء الشرطية والعطف قبل التمام. والأولى أن يُقدر بعد الفاء، وهي الجزائيةُ، مبتدأُ أو خبر، أي: فالأمرُ أنه، أو: فحقٌّ أنه، على أنه وافق المصنف في قوله: (أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ) الآية [التوبة: 63]، وقال: جواب الشرط محذوفٌ، وهو: يهلك، و (فَأَنَّ لَهُ): عطفٌ على (أنَّهُ)، أي: ألم يعلموا هذا، فهذا فلا يُلتفتُ إلى مخالفته هاهنا، وأما قوله: يلزمُ تخللُ العطف بين أجزاء الشرطية فهو واردٌ على تقدير الزجاج إذا جعل (فَأَنَّه) مكرراً، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنهم عدوا مثل ها التخللِ من المحسنات البديعية. وعن بعض الفضلاء أن الضمير في (َأَنَّهُ) للمُجادل، أي: كُتِبَ على الشيطان أن المجادل من تولاه، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ): عطف عليه، فلا يلزم المحذوران اللذان ذكرهما صاحب "التقريب". ويدفعه إرادةُ العموم من الآية وتعسفُ هذا المعنى. ويقالُ أيضاً: دل تقديرُ المصنف رحمةُ الله تعالى عليه كأنما كُتبَ إضلالُ من يتولاهُ على أن ما بعد الفاء إما جواب الشرط، أو خبرٌ للمبتدأ المتضمن معنى الشرط، ويأباه قوله: و"الثاني عطفٌ عليه"، لكن تقدير ذلك تحريرُ المعنى وتلخيصه.

ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو، كأنما كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتبت: إنّ الله هو الغنى الحميد. أو على تقدير: "قيل". أو على أن " كتب" فيه معنى القول. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5]. قرأ الحسن "مِنَ الْبَعْثِ" بالتحريك. ونظيره: الجلب والطرد، في الجلب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو على تقدير "قيلَ")، عطفٌ على قوله: "فعلى حكاية المكتوب"، أي: ومن كر فعلى تقدير: وكُتب عليه قيل: إنه من تولاه، أي: كُتِبَ عليه هذا القولُ، و"قيل" هاهنا كما في قوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ) على تقدير: وأُقسمُ بـ (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [الزخرف: 88]، والضميرُ في "قيله" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسامُ الله تعالى بـ (وَقِيلِهِ) رفعٌ منه، وتعظيمٌ لدعائه. النهاية: وفي الحديث: " نهي عن قيل وقال"، وهو في حكاية أقوال الناس. قال القاضي رحمه الله تعالى: وقُرئ: "إنَّهُ" بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب، أو إضمار القول، أو تضمين الكتب معناه. قوله: ("من البعث" بالتحريك)، في "المطلع": وهو قياسٌ عند الكوفيين فيما جاء من هذا المثال، وعينُه من حروف الحَلْق، كالشعر والنهر، وعند البصريين ليس بقياس، بل هما لُغتان كالحلبِ والحَلَب، والطردِ والطرَد، فيتوقفُ على السماع.

والطرد، كأنه قيل: إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. و"العلقة": قطعة الدم الجامدة. و"المضغة": اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. و"المخلقة": المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: "صخرة خلقاء"، وإذا كانت ملساء، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا ولا تناسب بين الماء والتراب وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاما: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمُزيلُ ريبكم، أن تنظروا في بدء خلقكم)، يريدُ أن قوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) جزاءٌ لقوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)، وشرط الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، فلابد هاهنا من التأويل، فيقالُ: كونُكم في ريبٍ من البعث سببٌ حاملٌ للتنيه على النظر المؤدي إلى مزيل الريب، والإشارة إلى طريق الحق والصواب، وهو: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) الآية، ولأن الكلام مع المرتابين؛ لأن التعريف في الناس للعهد، والمعهودُ: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وكان من حق الظاهر: إذا كنتم في ريب، ففُرضَ ريبُهم فيه كما تُفرضُ المحالاتُ بعثاً لهم على النظر، وإرشاداً إلى أن المقام ليس موقعاً للريب ومنة له لوضوح دلائله، وسُطوع براهينه، فهو كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة: 23]. قوله: (وأهونُ في القياس)، أي: عند الناس وتقديرهم، وإلا فإن إرادة الله إذا تعلقت بشيء كان كما قال: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]. فالإبداء والإعادةُ سواءٌ.

وورود الفعل غير معدى إلى المبين: إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف وقرأ ابن أبى عبلة: "ليبين لكم. ويقرّ"، بالياء. وقرئ: و"نقرّ". و"نخرجكم"، بالنون والنصب. و"يقرّ"، و"يخرجكم"، و"يقرّ"، و"يخرجكم": بالنصب والرفع. وعن يعقوب: "نقرّ"، بالنون وضم القاف، من قرّ الماء إذا صبه، فالقراءة بالرفع إخبار بأنه يقرّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن يقرّه من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو سنتين، أو أربع، أو كما شاء وقدّر. وما لم يشأ إقراره محته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب: تعليل معطوف على تعليل. ومعناه: خلقناكم مدرجين هذا التدريج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وورودُ الفعل غير مُعدى إلى المُبيَّن)، يعني قوله: (لِنُبَيِّنَ) لم يُذكر له مفعولٌ ليعم التقدير، أو أنه يجري مجرى اللازم. قوله: ("ونُفِرَّ"، و"نُخرجكم"، بالنون والنصب)، وهي شاذةٌ. وقرأ الجماعةُ: "نُقِرُّ" و (نُخْرِجُكُمْ)، بالنون والرفع. قوله: (مَجَّتْه الأرحامُ)، أي: إذا كان نُطفةً، (أو أسقطته)، أي: إذا كان مُضغةً أو علقة أو غيرهما. قوله: (تعليلٌ معطوفٌ على تعليل)، أي: لنبين ولنُقرَّ. قال الزجاجُ: (وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ) لا يجوز فيها إلا الرفع، ولايجوز أن يكون معناه: فعلنا لك لنقر في الأرحام؛ لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقر في الأرحام، وإنما ليدلهم على رشدهم وصلاحهم. والمصنفُ فراراً من هذا السؤال قال: "حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكاليف فأكلفهم"، فعلى هذا (لِتَبْلُغُوا) عطفٌ على (نُخْرِجُكُمْ)، وإنما أتى باللام ليؤذن بأن البلوغ هو المقصود الأولى؛ لأنه أوانُ التكليف. وعلى قراءة الرفع: (لِتَبْلُغُوا): عطفٌ على (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ).

لغرضين، أحدهما: أن نبين قدرتنا. والثاني: أن نقر في الأرحام من نقرّ، حتى يولدوا وينشؤا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال المصنفُ: "فإن قلتَ: كيف صح عطفُ (لِتَبْلُغُوا) على (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ولا طباق؟ قلتُ: بل الطباقُ حاصلٌ؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ) قرينٌ للتعليل، ومقارنته له والتباسهُ به ينزلانه منزلةَ نفسه، فهو راجعٌ من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب. هذا السؤال والجواب في بعض النسخ مثبت في المتن. قوله: (ويعضد هذه القراءة قوله: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ))، أي: قراءة النصب، وذلك أن قوله: (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) يدل على التدرج والبلوغ إلى الغاية، فجيء من قوله: (وَنُقِرُّ)، (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ)، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) منسوقاً على نسق التدرج، بخلاف القراءة بالرفع، وقلتُ: القراءةُ بالرفع، وهي التي اجتمع عليها الأئمة، أمتن معنى، وأمكن ترصيفاً؛ لأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ) إلى آخره عطفٌ على (خَلَقْنَاكُمْ)، فاجتمع مع ذكر تلك الأطوار ذكرُ الزمانين: زمان لُبثِ الجنين في رحم الأم! ِ، وزمان المُكثِ في الدنيا من ابتداء الطفولة إلى البلوغ وإلى انتهاء الشيخوخة والرد إلى أرذل العمر، فلا يكون (لِتَبْلُغُوا) عطفاً على (لِنُبَيِّنَ) كما ذكرَ، بل على (نُخْرِجُكُمْ) كما عليه القراءةُ بالنصب، ويكون قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) واقعاً في البين اعتراضاً؛ لأن الكلام إلى آخر الآية سيق في الرد على مُنكري البعثِ والاحتجاج عليهم، ولبيان إثبات قُدرته الكاملة، وعلمه الشامل، فلا يختص البيانُ ببعضه دون بعض، لكن لما اشتمل تلك الأطوار السابقة على احتقار المنكر من كونه نطفةً وعلقةً ومُضغةً، أبرز (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) تنبيهاً على اختصامه مع احتقاره، كما قال: (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [يس: 77]، وقال: (إِنَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) [المعارج: 39] أي: من نُطفةِ مهين، ويعضده ما روى الواحديُّ عن صاحب النظم رحمة الله تعالى عليهما: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أن البعث حق؛ لأن الآية نزلت دلالةً على البعث. وقال الإمامُ: لنُبين لكم أن تغيير النطفة إلى العلقة، ثم إلى المُضغة المخلقة غير المخلقة، إنما هو من الفاعل المختار، أو المعنى: إن كنتم في ريب من البعث فإنا نُخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة؟ وقال أيضاً: ثم نخرجكم ثم نسهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً لتبلغوا أشدكم، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه، وبين بلوغ الأشُد، ويكون بين الحالتين وسائط. أراد أن معلل (لِتَبْلُغُوا) محذوف، وهو عطفٌ على (نُخْرِجُكُمْ). وقلتُ: ويمكنُ أن يُقال: إن التقدير: ثم لتبلغوا أشدكم، فعل ما فعل إرادةً للتخصيص، إيذاناً بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال، والإخراج أبدعُها، والرد إلى أرذل العمر أسوأها، فتغيير العبارة لذلك، ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته الأقدس، وحذف المعلل في الثاني، ولم ينسب الثالث إلى ذاته عز وجل، وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المومى إليه بالأشد، كأنه قيل: ثم نخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلاً، أي: إنشاءً بديعاً غريباً، ما قال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14]، ثُم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب، والإنشاء الغريب؛ لأنه أوانُ رسوخ العلم والمعرفة، والتمكن من العمل والطاعة، هو المقصود من الإنشاء بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، ثم يميتكم، أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلبُ به العلم والقدرة على العمل.

وحده لأن الغرض الدلالة على الجنس. ويحتمل: نخرج كل واحد منكم طفلا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونظيرُ هذا تقديراً ومعنى: ما في سورة يوسف، أما تقديراً فقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف: 21]، أي: ولنُعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإيحاء والتمكين. وأما معنى فقوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف: 22]، فعلى هذا لا يردُ السؤال: كيف صح عطفُ (لِتَبْلُغُوا) على نبين لكم ولا طباق؟ ولم يحتج إلى ذلك الجواب الواهي، على أن عطف (وَنُقِرُّ) بالنصب على (لِنُبَيِّنَ) غيرُ ظاهرٍ كما قال الزجاج. وقال أبو البقاء: (وَنُقِرُّ) الجمهور: على الضم على الاستئناف؛ إذ ليس المعنى: خلقناكم لنُقر، وقرئ بالنصب على أن يكون معطوفاً في اللفظ، والمعنى مختلفٌ؛ لأن اللام في (لِنُبَيِّنَ) للتعليل، واللامُ المقدرة مع "نُقرّ" للصيرورة. وقلتُ: ودل العطف بـ"ثُمَّ" على التراخي بحسب الأزمنة، وبحسب المرتبة كنايةٌ. ولما كانت الدلائل الآفاقية مرتبطة بالأنفسية كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت: 53] ومشتبكة بعضها مع بعض، خصوصاً دلالة إحياء الأرض بعد موتها، وكانت أنموذجاً للبعث والنشر، عطف (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) على قوله: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وإليه أشار بقوله: "هذه دلالة ثانية على البعث". وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) كالفذلكة للدليلين، وهو بمنزلة قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) في تلك الآية، وإليه أشار بقوله: "ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم، وإحياء الأرض حاصلٌ بهذا"، والله يقولُ الحقَّ وهو يهدي السبيل، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. قوله: (وحده)، أي (طِفْلاً)، قال القاضي: (طِفْلاً): حالٌ أجريت على تأويل: كل واحد، أو للدلالة على الجنس، أو لأنه في الأصل مصدرٌ.

"الأشد": كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدّة والقتود والأباطيل وغير ذلك، وكأنها شدّة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع. وقرئ: "ومنكم من يتوفى"، أى يتوفاه الله (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الهرم والخرف، حتى يعود كهيئته الأولى في أوان طفولته: ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. بين أنه كما قدر على أن يرقيه في درجات الزيادة حتى يبلغه حد التمام، فهو قادر على أن يحطه حتى ينتهى به إلى الحالة السفلى (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أى: ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وقرأ أبو عمرو: "العمر"، بسكون الميم. "الهامدة": الميتة اليابسة. وهذه دلالة ثانية على البعث، ولظهورها وكونها مشاهدة معاينة، كررها الله في كتابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالأسدة)، وهو جمعُ "سَدّ" بمعنى العيب كالحاجز. الجوهري: والسد بالفتح: واحدُ الأسدة، هي العيوبُ، مثل العمى والصمم والبكم، جُمع على غير قياس، وكان قياسه: سُدوداً. ومنه قولهم: لا تجعلن بجنبك الأسدةَ: أي: لا تُضيقنَّ صدرك، فتسكُتَ عن الجواب كمن به صممٌ وبكمٌ. قوله: (والقتودُ) جمع قَتَدٍ، وهي على غير قياس، وجمعه لقياسي في القلة: أقتادٌ، ونظيره في الشذوذ: أسودٌ، جمع أسدٍ في الكثرة، وقال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه جمعٌ على غير قياس. قال الجوهري القتدُ: خشبُ الرحل، وجمعه، أقتادٌ وقتود. قوله: (لم ينشب)، ويروى: لم يلبث، وهو مثل قولهم: ما لبث أن فعل كذا لقوله تعالى: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) بهود: 69]. قوله: (وقرأ أبو عمرو: "العُمْرُ"، بسكون الميم)، أي: في الشاذة.

(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) تحرّكت بالنبات وانتفخت، وقرئ: "ربأت"، أى ارتفعت. و"البهيج": الحسن السارّ للناظر إليه. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) 6 - 7 [ أى: ذلك الذي ذكرنا من خلق بنى آدم وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم واللطائف، حاصل بهذا وهو السبب في حصوله، ولولاه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ربأت")، قال ابن جني: و"ربأت" بالهمز رُويت عن أبي عمرو بن العلاء، والمشهور: ربت، من: ربا يربو: إذا ذهب في جهاته زائدة، وأما الهمز فمن: ربأتُ القوم: إذا أشرفتَ مكاناً علياً لتحفظهم. وهذا النماء فيه الشخوص والانتصاب لكن إذا وُصف عُلوها دل على أن الزيادة قد شاعت في جميع جهاتها، وهذا مما يُذكر أحدُ أوصاف الشيء فيدل على بقيته. قوله: (أي: ذلك) إلى قوله: (حاصلٌ بهذا)، "هذا" إشارةٌ إلى قوله تعالى: (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) الآية، والضميرُ في "وهو أن الله" راجعٌ إلى لفظ "هذا" باعتبار معناه المشار إليه. قال أبو علي: موضع (ذَلِكَ) رفعٌ على الابتداء، والجارُّ مع المجرور في موضع خبره، ولايجوز غيره. وقلتُ: فيه تلويحٌ من حكاية قوله تعالى: "كنتُ كنزاً مخفياً فخلقتُ الخلقَ لأُعرفَ"، يعني: خلقُ الإنسان من التراب، وتقلبه في الأطوار المختلفة الحالات المتنافية، وإنشاء النبات من الأرض الهامدة، وتصييره كل صنف بهيج رائقٍ مختلفاً ألوانُه،

لم يتصور كونه، وهو بِأَنَّ (اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أى الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد. [(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)]. عن ابن عباس أنه أبو جهل بن هشام. وقيل: كرر كما كررت سائر الأقاصيص. وقيل: الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين. والمراد ب"العلم": العلم الضروري. وب"الهدى": الاستدلال والنظر، لأنه يهدى إلى المعرفة. وبـ"الكتاب المنير": ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما كان ليُظهر أن الله هو الموجود الحي الأزليُّ الدائم، والحكيم العالم بدقائق الأشياء وعظائمها، وأنه القادرُ على ما يرتابون فيه من البعث، على كل ما يدخل تحت القدرة من الممكنات، وإنما كان ذلك لئلا يُخلف وعده من جزاء المحسن والمسيء لإتيان الساعة، وبعث من في القبور، فسبيل (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) من قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) سبيلُ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من قوله تعالى: (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى)، لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل. قوله: (وقيل: كُرر كما كررت سائر الأقاصيص) عطفٌ على قوله: "عن ابن عباس: أنه أبو جهل"، يعني: أن قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إما نازلٌ في أبي جهل كما قال ابن عباس، أو نازلٌ في النضر بن الحارث كما ذكر أن قوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) نازلٌ فيه فكُررت قصته كما كررت أقاصيص سائر المعاندين، أو كرر ليناط به ما لم ينط به أولاً، (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) نازلٌ فيه ليكون ذماً للمقلدين، وثانياً قوله: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ليكون ذماً للمقلدين بفتح اللام. قوله: (والمرادُ بالعلم العلمُ الضروريُّ)، قال الإمام: المعنى أنه يجادل من غير معرفة

الوحي، أي يجادل بظن وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة. و"ثنى العطف": عبارة عن الكبر والخيلاء، كتصعير الخدّ ولىّ الجيد. وقيل: عن الإعراض عن الذكر. وعن الحسن: "ثانى عطفه"، بفتح العين، أى: مانع تعطفه (لِيُضِلَّ) تعليل للمجادلة. قرئ بضم الياء وفتحها. فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضروريةٍ ولا نظريةٍ ولا سمعية، والآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن. قوله: (وثنى العطف عبارة عن الكبر)، قال صاحب "المطلع": الثني: الليُّ، والعطفُ: الجانب، وهو ما يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء، وهو عبارةُ عن الكبر والخيلاء. قال ابن عباس: متكبراً في نفسه. وقال ابن زيد: معرضاً عما يُدعى إليه كبراً. وهو حالٌ من فاعل يُجادلُ. قوله: (كتصعير الخد)، الجوهري: الصعرُ: الميلُ في الخدَّ خاصة، وقد صعر خده وصاعر، إذا أماله من الكبر. الراغب: الصعرُ: ميلٌ في العنق، والتصعير: إمالته عن النظر كبراً، قال تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان: 18]، وكل صعبٍ يقالُ له: مصعرٌ، الظليمُ أصعر خلقة. قوله: (ثاني عطفه، بفتح العين)، أي: مانع تعطفه، فهو أيضاً كنايةُ عن الكبرياء والجبروت؛ لأن ذا الجبروت لا تعطف له ولا رحمة، كأنه قيل: من الناس من يجادل في الله متجبراً في نفسه، ولا يعطفُ على أحد. قوله: (قرئ بضم الياء فتحها)، "ليضل" بالفتح: ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو، والباقون: بالضم.

ما كان غرضه من جداله الضلال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فكيف علل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلت: لما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. و"خزيه": ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل، والسبب فيما منى به من خزى الدنيا وعذاب الآخرة: هو ما قدمت يداه، وعدل الله في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين. [(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ* يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ* يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما كان غرضه في جداله الضلال)، تلخيص السؤال أن قوله: (لِيُضِلَّ) إما أن يتعلق به (يُجَادِلُ) تعليلاً أو (ثَانِيَ عِطْفِهِ)؛ وعلى الأول كيف يستقيم؛ لأن أحداً لا يجادل ليضل؟ وعلى الثاني أنَّى يتسنى؛ لأن الثني للضلال مسبوقُ بوجود الاهتداء؟ وأجاب عن الأول أن اللام مثلها في قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) [القصص: 8]، وعن الثاني أنه من قبيل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) [البقرة: 16] في جعلِ التمكن على الهدى كالحصول عليه. قوله: (معرضاً له)، من "أعرضً" بمعنى: مكن، أي: ممكناً، من العُرض وهو الجانب. والعرضة: المتعرض للأمر، قال: فلا تجعلوني عرضة للوائم قوله: (فيما مُني به)، الأساس: مُني بكذا: بُلي به، وهو ممنوٌّ به.

(عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر وغنيمه قرّ واطمأن، وإلا فرّ وطار على وجهه. قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا، وولدت امرأته غلاما سويا، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في دينى هذا إلا خيرا، واطمأن. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا، وانقلب. وعن أبى سعيد الخدري أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلنى، فقال «إنّ الإسلام لا يقال» فنزلت. المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله: جامع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وطار على وجهه)، أي: أسرع مستعلياً على وجهه هائماً لا يدري أين يتوجه، وهو كنايةٌ عن الهزيمة، فإن المنهزم مولي ظهره العدو، ويُقبلُ بوجهه الجهة التي يقصدها، لكن هاهنا عبارةٌ عن القلق والاضطراب لوقوعه مقابلاً لقوله: (اطْمَانَ) فعُدل للمبالغة. قوله: (قالوا: نزلت في أعاريب)، روى البخاري عن ابن عباس، قال: " (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) كان الرجل يقدم على المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله، قال: هذا دينٌ سوء". قوله: (ونتجت فرسه)، الجوهري: نُتجت الناقة- على ما لم يسم فاعله- تنتج نتاجاً، وقد نتجها أهلها نتجاً، وأنتجت الفرسُ: إذا حان نتاجها. الأساس: نُتجت الناقة، وهي منتوجةٌ وأنتجت فهي منتجة: إذا وضعت، وقد نتجت: إذا حملت. قوله: (مهراً سرياً)، أي: خطيراً كريماً.

على نفسه محنتين، إحداهما: ذهاب ما أصيب به. والثانية: ذهاب ثواب الصابرين، فهو خسران الدارين. وقرئ: "خاسر الدنيا والآخرة" بالنصب والرفع، فالنصب على الحال، والرفع على الفاعلية. ووضع الظاهر موضع الضمير، وهو وجه حسن. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف. استعير (الضَّلالُ الْبَعِيدُ) من ضلال من أبعد في التيه ضالا، فطالت وبعدت مسافة ضلالته. فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض. قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "خاسر الدنيا والآخرة")، قال ابن جني: هي قراءة مجاهد وحُميد بن قيس، على معنى: انقلب على وجهه خاسراً؛ لأنه على تقديرالانفصال. وقراءة الجماعة: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)، الجملة بدل من قوله: (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، فكأنه قال: إن أصابته فتنةٌ خسر الدنيا والآخرة. قوله: (ووضع الظاهر موضع الضمير)، لأن في (انقَلَبُ) الضمير المرفوع الراجع إلى "الناس"، فإذا جُعِلَ "خاسر الدنيا" فاعلاً له، وانقلب المستتر بارزاً ظاهراً، فقد آذن بأن من يعبد الله على حرف هو الخاسر الدامر، ففيه تعليلٌ، وإليه الإشارة بقوله: "وهو وجهٌ حسن"، وعلى المشهورة: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)، كالتوضيح والبيان للجملة السابقة وتكرير معنى الخسران والتصوير؛ لأن فائدة البدل التفسيرُ والتوكيد، وعلى أن يكون "خاسرُ": خبر مبتدأ محذوف، تكونُ الجملة واردةً على الذم والشتم، وعلى الال تكون مؤكدة، نحو قوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25].

به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يوم القيامة يقولهذا الكافر بدعاءٍ وصُراخ)، يوم القيامة: ظرفٌ ليقول، لا لقال، يريد أن يدعو الثاني بمعنى يقول، وأنشد الزجاج لعنترة قوله: يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئرٍ في لبان الأدهم أي: يقولون: يا عنترةُ، والشطن: الحبل، والأدهم: فرسه. فقوله تعالى: (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفٌ مرفوعٌ بالابتداء، وخبره: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)، والهاء في (ضَرُّهُ) و (نَفْعِهِ): ضمير الصنم، والجملة مقول (يَدْعُوا)؛ لأنه بمعنى القول. والمعنى: يقول الكافر في القيامة حين لا يرى للشفاعة أثراً للصنم الذي حاله هذا: لبئس الناصر والشفيع هو، ولبئس المعاشر والمخالط. قال السجاوندي: اللام في (لَمَن) للابتداء، و (وَلَبِئْسَ): خبره، واللام فيه: جوابُ قسم محذوف. وقال أبو البقاء: (يَدْعُوا) بمعنى: يقول، و (مَن): مبتدأ، و (ضَرُّهُ): مبتدأ، و (َأَقْرَبَ): خبره، والجملة صلة (مَن)، وخبرُ (مَن) محذوف تقديره: إلهٌ أو إلهي، وموضعُ الجملة نصبٌ بالقول. و (وَلَبِئْسَ): مستأنفة؛ لأنه لا يصح دخوله في الحكاية؛ لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم: لبس المولى. وقال صاحب "الكشاف": قال البصريون: الوجه في الآية أن يكون في (يَدْعُوا): ضميرٌ عائدٌ إلى ذلك، أي: ذلك هو الضلالُ البعيدُ يدعوه، والجملةُ في موضع النصب على الحال، أي: ذلك هو الضلالُ البعيدُ مدعواًّ.

أو كرّر يدعو، كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. وفي حرف عبد الله: "من ضره"، بغير لام. "المولى": الناصر. و"العشير": الصاحب، كقوله (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف: 38]. [(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ* مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) 14 - 15] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو كرر يدعو)، قال أبو البقاء: (يَدْعُوا) إذا قُدر مكرراً لا يكون له معمول، لا لفظاً ولاتقديراً. وقلتُ: فعلى هذا (يَدْعُوا) في الموضعين بمعنى: يعبُد، ولهذا قدر في الجملة الثانية معنى العبودية. وقال: "لمن ضرُّه بكونه معبوداً"، فالجملة الاثنية استئنافٌ على بيان الموجب، فنه تعالى لما قبح فعلهم وشنعَ عليهم عبادتهم لما لا ينفع ولا يضر، اتجه لسائل: لماذا هي النقيصة لهم في معبودهم؟ فقيل: (لَمَنْ ضَرُّهُ) إلى آخره. المعنى: من ضره أقربُ من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير، فكيف بما كله ضر ولايوجد فيه نفعٌ البتة. قوله: (وفي حرف عبد الله: "من ضره" بغير لام)، وهي مؤذنةٌ بأن اللام في (لمَن): زائدةٌ. قال ابن الحاجب: قيل: إن اللام في (لَمَنْ ضَرُّهُ) زائدةٌ، و"من ضرُّه" في موضع نصب مفعول (يَدْعُوا). وليس بشيء؛ لأن اللام المفتوحة لا تُزاد بين الفعل ومفعوله. وقال الفراءُ: إن اللام مقدمةٌ عن موضعها، والتقدير: يدعو من لضره أقربُ من نفعه. وليس بجيدٍ أيضاً؛ لأن لام الابتداء لا تتقدمُ عن موضعها، وأيضاً ما في صلة الذي لا يتقدمُ عليها.

هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى. إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا كلامٌ قد دخله اختصارٌ)، يعني: قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يستدعي كلاماً يذكرُ فيه أن الله تعالى ينصر رسوله في الدنيا والآخرة. ومنكراً ينكره؛ لأن الضمير في (يَنصُرَهُ) يطلب مرجوعاً إليه، و (لَنْ يَنصُرَهُ) يوجب كلاماً أنكر فيه ما يصلح أن يكون هذا رده، كما سبق أنك تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، وإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً. وأما بيانُ النظم فإنهُ تعالى لما قسم المعاندين والمخالفين إلى المجادلين ومن لا يثبت على الإسلام، وبالغ في هدم قواعدهم وأساس دينهم، وبين أنهم خسروا الدنيا والآخرة، وأن معبوديهم غير قادرين على دفع خسرانهم ذلك، بل يتضررون بسبب عبادتهم ويعبدون من ضره أقرب من نفعه، ومن يقالُ في حقه: لبئس المولى والعشير، عقبه بذكر أضدادهم ومن أعمالهم علىخلاف أعمالهم، من مولاهم وناصرهم يقالُ في حقه: نعم المولى ونعم النصير، حيث يُدخلهم- لأعمالهم الصالحة- جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وينصرهم في الدنيا والآخرة، وأبرز ذلك إبرازاً يزيدُ في حرة أضدادهم، فإن الإحسان إلى الأضداد مما يزيدُ في غم الضد، وداخلٌ في جملة التنكيل بهم. قوله: (ويغيظه أنه يظفرُ بمطلوبه)، والضميرُ في "أنه" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى: "أنه لا يظفر بمطلوبه"، فالضمير حينئذٍ للحاسد. قوله: (الذي يغيظه)، يريد أن "ما" في (مَا يَغِيظُ): موصولةٌ، وجعلها الزجاج مصدرية، أي: هل يُذهبن كيده غيظه، أي على سبيل الاستهزاء. أي: سمى خنق نفسه

وسمي الاختناق قطعا لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. ومنه قيل للبهر: القطع «1». وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره. أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيداً تهكماً به؛ لأن وبال الكيد راجعٌ إليهم. قوله: (وسُمي الاختناقُ قطعاً)، يعني: كنى عن الاختناق بالقطع، فإنه لازمه، تقول العرب: قُطع فلانٌ: إذا اختنق. قوله: (قيل للبهر: القطع)، البهرُ بالضم: العلةُ التي تمنعُ التنفس. قوله: (وسُمي فعلُه كيداً)، وهو قوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ) الآية. قوله: (لأنه وضعه موضع الكيد)؛ لأن المراد بالمد والقطع: الكيدُ، فكأنه قيل: من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى لا ينصر رسوله في الدنيا والآخرة فليستقص وُسعه في إزالة ما يغيظه، وهو الكيد نفسه ادعاء، فوضع موضع (فَلْيَمْدُدْ) إلى آخره. وعن بعضهم: لم يقدر على غيره، أي: المناسبة بين ما فعل وبين الكيد هي أن الكائد كيده منتهى فعله وقدرته، كما أن هنا كذلك. قوله: (أو على سبيل الاستهزاء) أي: سمى خنق نفسه كيداً؛ تهكماً به؛ لأن وبال الكيد راجعٌ إليه. قوله: (والمرادُ: ليس في يده إلا ما ليس بمذهبٍ لما يغيظ)، يعني: حاصلُ الوجهين

وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء المظلة. وليصعد عليه فليقطع الوحى أو ينزل عليه. وقيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره. فنزلت. وقد فسر النصر: بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعودُ إلى هذا المعنى، وهو من أسلوب قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى) [الدخان: 56]، أي: لوقدروا على كيدٍ لكان هذا الفعلُ، وهذا ليس بكيدٍ، فلا يكون كيدٌ قطُّ. قوله: (وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء)، عطفٌ على قوله: "حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق"، فعلى هذا الكلامُ فيه استعارةٌ تمثيلية، والأمرُ للتعجيز، وعلى الأول: كنايةٌ عن شدة الغيظ، والأمر للإهانة. قال محيي السنة: ليس هذا الأمر على سبيل الحتم؛ لأنهُ لا يمكنه القطعُ النظرُ بعد الاختناق والموت، وهو مثل قولك للحاسد: إن لم ترض هذا فاختنق ومُت غيظاً. قوله: (كان قومٌ من المسلمين)، والمعنى: من استبطأ نص رالله، وطلب الموعود عاجلاً، فليهلك نفسه بالخنق أو خرورٍ من السماء، فإن لذلك وقتاً لا يجوز إيقاعه إلا فيه. قوله: (وقد فُسرَ النصرُ بالرزق)، فعلى هذا الكلام تام، فلم يدخله الاختصار، وكذا على الوجه الأخير، والضمير في (يَنْصُرُهُ) لكل أحد، وهو راجعٌ إلى "مَنْ"؛ ولهذا قال: "لا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظن أن الله غير رازقه فليبلغ غاية الجزع". روى محيي السنة عن مجاهد: النصرُ: الرزق. وقال أبو عبيدة: تقول العربُ: أرضٌ منصورةٌ، أي: ممطورةٌ، وحينئذٍ تكونُ الآية متصلةً بقوله: " (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى

ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظنّ أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يردّه مرزوقا. [(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)]. أي: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ) (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي) به الذين يعلم أنهم يؤمنون. أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، أنزله كذلك مبينا. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)]. الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا، فلا يجازيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حَرْفٍ) فإنها نازلةٌ في أعاريب، وكان أحدهم إذا صح بدنه، ونُتجت فرسه مهراً"، إلى آخره ويكون قوله: (يَدْعُوا) إلى آخر الآيات معترضةً مؤكدةً لمعنى تجهيلهم، وأن الله هوالقابض الباسط وهو الضار النافع وحده. قوله: (ومثلُ ذلك الإنزال)، يعني: مثل ما تقدم من آيات القرآن المشتملة على البيان التام، أنزلنا القرآن كله، يعني: كل آيات القرآن مبنيات، وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي) تعليلٌ لكون القرآن بياناً، ومعلله محذوفٌ يدل عليه المذكور، والجملة من التعليل والمعلل معطوفةٌ على ما قبلها علىطريقة: أعجبني زيدٌ وكرمُه. ونظيره قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55]. وأما بيانُ النظم فنه تعالى لما ذكر المجادلين من المخالفين، وأراد أن يعم المخالفين كلهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآية، أوقع هذه الآية كالتخلص من وصفهم إلى وصفهم. قوله: (يحتملُ الفصل بينهم في الأحوال والأماكن)، هذا إعمالٌ للفظ الواحد في معنيين متوافقين إعمال القدر المشترك.

جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم. وقيل (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضى بينهم، أى بين المؤمنين والكافرين. وأدخلت (إِنَّ) على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التوكيد. ونحوه قول جرير: إنّ الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)]. سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الذي كل خضوع دونه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأُدخلت (إنَّ) على كل واحد من جُزأي الجملة)، قال الزجاج: خبرُ "إنّ" الأولى في الآية جملة الكلام مع "إنّ" الثانية. وقد زعم قومٌ أن قولك: "إن زيداً إنه قائمٌ" رديءٌ، وأن هذه الآية إنما صلُحت في "الذي"، ولا فرق بين "الذي" غيره في باب "إنّ"، إن قلت: إن زيداً إنه قائمٌ، كان جيداً، ومثله قول جرير: إن الخليفة إن الله سربله ... سربال مُلكٍ به تُزجى الخواتيم وليس بين البصريين خلافٌ في أن "إن" تدخلُ على كل ابتداء وخبر، تقول: إن زيداً هو قائمٌ، وإن زيداً أنه قام. الإزجاء: السوق، والمراد بالخواتيم: المُلك. قوله: (تشبيهاً لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلفِ في باب الطاعة)، هذا بيانٌ لتمهيد

فإن قلت: فما تصنع بقوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) وبما فيه من الاعتراضين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة؛ لأنها نوعٌ من المجاز الذي العلاقة فيه التشبيه، يعني: استعار السجود المتعارف وهو وضعُ الجبهة على الأرض خُضعاناً للباري لمطاوعة الأشياء له فيما يحدث فيها من أفعاله لعلاقة الحصول على وفق إرادته، وجريان مشيئةٍ من غير امتناع منها، كقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، كل نوع من أنواعه المختلفة، سواءٌ كانت حقيقةً أم مجازاً مُراداً منهذا العام دفعةً واحدة. قوله: (فإن قلت: فما تصنعُ بقوله: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)؟ )، يعني: هذا يرد تأويلك السجود من وجهين: أحدهما: أن هذا المعنى شامل للجماد والحيوان والمطيع والعاصي، فأي فائدة في ذكر (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)؟ وثانيهما: أن إسناد السجود إلى المذكورات يوجبُ أن شيئاً منها لا يخرجُ عن هذا الحكم، ومفهوم قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) يخرجُ البعض نمه فيلزمُ التناقض. وأما جوابه: "لا أنظم "كثيراً" من المفردات"، يعني: لا أجعلُ العطف من باب عطفِ المفرد على المفرد، بل أجعله منباب عطف الجملة، وأضمرُ عاملاً آخر، وأفسرُ السجود الأول بالمطاوعة والانقياد، والثاني بالمتعارف، هو الطاعة والعبادةن ليكون من باب عطف الخاص على العام من حيث الفعل والفاعل تشريفاً لعباده الصالحين فليدفع هذا السؤال، لا ان عموم المجاز يقتضي ذلك. فلا يردُ أيضاً ما أوردهُ صاحب "الفرائد"، وقال: إن اللفظ الواحد لا يصلح استعماله على معنيين مختلفين منظورٌ فيه، ولا شك أن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الأحزاب: 56] أن الصلاة مستعملةٌ على معنيين مختلفين في حالة واحدة لما قررنا أن المانع عطفُ (وَكَثِيرٌ) على (مِنَ)، فيجوز أن تُحمل الصلاةُ عليه - صلواتُ الله وسلامه عليه- للاعتناء بشأنه، وإظهار شرفه

أحدهما: أنّ السجود على المعنى الذي فسرته به، لا يسجده بعض الناس دون بعض. والثاني: أنّ السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة؟ قلت: لا أنظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله (يَسْجُدُ) أى ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة. ولم أقل: أفسر (يسجد) الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو "مثاب"، لأنّ خبر مقابله يدل عليه، وهو قوله (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ويجوز أن يجعل (مِنَ النَّاسِ) خبرا له، أى: من الناس الذين هم الناس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونبوته، أمره صلوات الله وسلامه عليه على عموم المجاز، فتكون مستعملةً على حقيقته مختلفتين في حالة واحدة؛ لأنه لا صارف. قوله: (ولم أقل: أفسرُ (يَسْجُدُ))، "أفسرُ"، بدلٌ من "أقلْ"، أو عطفُ بيان، أي: لم أرفع "كثير" بالفعل المذكور، ولم أفسرِ الفعل المذكور بمعنى المطاوعة والعبادة معاً. قوله: (ويجوز أن يُجعل (مِنْ النَّاسِ) خبراً له)، أي: لـ"كثير"، وهو نكرةٌ صرفة. قال صاحب "التقريب": مصححه التنوين نحوُ: "شرٌّ أهر ذا ناب". وقلت: المعنى: كثيرٌ له فضلٌ واعتدادٌ لا يخفى على كل أحدٍ وهم المؤمنون الكاملون؛ لكونه مقابلاً لقوله: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، ويجوز أن يكون المصحح وقوعه مقابلاً لمن يضاده، فيكون كتعريف غير إذا وقع بين الضدين، أو يكون على منوال قول الشاعر:

على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف كثير على كثير، ثم يخبر عنهم ب (حقّ عليهم العذاب)، كأنه قيل: وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وقرئ: "حق"، بالضم. وقرئ: "حقا"، أى حقّ عليهم العذاب حقا. ومن أهانه الله - بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه - فقد بقي مهانا «1»، لن تجد له مكرما. وقرئ: "مكرم"، بفتح الراء بمعنى الإكرام. (إنه يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نساءُ ويومٌ نسرُّ أي: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، يعني: يحملُ التعريفُ في الناس على الحقيقة والجنس، فإن الجنس إذا أطلق على بعضه اعتبر الكمال فيه؛ ولهذا قال: "وهم الصالحون المتقون". قوله: (ومن أهانه الله)، والتلاوة (يُهِنْ اللَّهُ) مؤذن بأن إيثار المضارع في الآية للاستمرار لا لمطلق الإخبار. قوله: (ولا يشاءُ من ذلك إلا ما يقتضيه عملُ العاملين)، يعني: إن كان العاملُ مؤمناً يشاء الثواب، وإن كان بخلافه فالعقاب بناء على أن المشيئة تابعة لأعمال العباد كما هو معتقده، لكن النظم يقتضي خلافه؛ لأن قوله: (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) تذييلٌ لقوله: (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) الآية، يعني: ألا تتعجب من حال المخالفين، فإن الكائنات مطوعةٌ لله خاضعةٌ لجلاله، وكثيرٌ من عباده الصالحين ساجدون له مطيعون أمره منتهون عن نواهيه، وهؤلاء الكفرة الين حق عليهم العذاب كيف خرجا من هذه الكرامة (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)؟ وما ذلك إلا أن المشيئة تعلقت بإهانتهم.

[(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)]. الخصم: صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان وقوله (هذانِ) للفظ. و (اخْتَصَمُوا) للمعنى، كقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا) [محمد: 16] ولو قيل: "هؤلاء خصمان". أو "اختصما": جاز. يراد المؤمنون والكافرون. قال ابن عباس: رجع إلى أهل الأديان الستة (فِي رَبِّهِمْ) أى في دينه وصفاته. وروى أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هو فصل الخصومة المعنىّ بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج: 17] وفي رواية عن الكسائي: "خصمان"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الخصم صفةٌ وصف بها الفوج)، الجوهري: الخصم يستوي فيه الجمع والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدرٌ، ومن العرب من يثنيه ويجمعه. وقال المصنف: الخصمُ: الخصماء، يقع على الجمع والواحد، فثناه على تأويل: فريقان خصمان، وقيل: الخصم: اسم جمع كالركب، فثناه على تأويل الفرقتين أو الجماعتين. قوله: ((فَالَّذِينَ كَفَرُوا)، هو فصل الخصومة المعنيُّ بقله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، هذا الكلام مبنيٌّ على تفسير ابن عباس رضي الله عنه: هذان خصمان رجع إلى أهل الأديان الستةن يعني: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، فعلى هذا، في الكلام تقسيمٌ وجمعٌ وتفريق، فالتقسيمُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، والجمع: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) إلى قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، والتفريق: قوله: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ورُوعي فيه معنى قوله

بالكسر، وقرئ: "قطعت" بالتخفيف، كأنّ الله تعالى يقدّر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كل واحدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]؛ لأنه حين ذكر فريق الكفار وما أسند جزاءهم إلى الله تعالى، وحين ذكر جزاء المؤمنين أتى باسمه الجامع، وصدر الجملة بـ"إنّ"، وفصلها للاستئناف؛ ليكون أدل على التفخيم والتعظيم، وذيل الكلام بقوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ). وأما توسيط قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ) الآية، فللتفريع على اختلاف الكفرة، واستبعاده مع وجود هذه الآيات الصارفة، والخطاب بقوله: (أَلَمْ تَرَ) لكل أحدٍ لعظمه، يعني: أن الرب واحد، وكل شيء مطيعٌ له ومنقاد، وليست الخصومة والاختلاف إلا بمحض مشيئة الله وإرادته. ويؤيدُ ما ذكرنا قول الزجاج: "إن الله يدخل الذين آمنوا: أحد الخصمين"، ومن التقسيم مع الجمع قول حسان: قومٌ إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا شجيةٌ تلك منهم غير محدثةٍ ... أن الخلائق فاعلم شرها البدع قوله: (ويجوزُ أن تُاهر على كل واحد)، النهاية: وفي الحديث: "أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين يوم أحد"، أي: جمع ولبس إحداهما فوق الأخرى، وكأنه من التظاهر والتعاون والتساعد، ومنه حديث علي: "أنه بارز يوم بدرٍ وظاهر"، أي: نصر وأعان.

منهم تلك النيران كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. ونحوه (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ)] إبراهيم: 50 [. (الْحَمِيمُ) الماء الحار. عن ابن عباس رضى الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها (يُصْهَرُ) يذاب. وعن الحسن بتشديد الهاء للمبالغة، أى: إذا صبّ الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر، فيذيب أحشاءهم وأمعاءهم كما يذيب جلودهم، وهو أبلغ من قوله (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)] محمد: 15 [و"المقامع": السياط. في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها»، وقرأ الأعمش: "ردوا فيها". والإعادة والرد لا يكون إلا بعد الخروج، فالمعنى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما أقلوها)، النهاية: وفي حديث العباس: "فحثا في ثوبه، ثم ذهب يُقله، فلم يستطع". يقال: أقل الشيء يُقله، واستقله يستقله: إذا رفعه وحمله. وإنما قال المصنف رحمة الله تعالى عليه: "ما أقلوها"، ولم يقل: ما رفعوها؛ ليؤذن بأنهم استقلوا قواهم لرفعها. قوله: (أن يخرجوا منها من غم فخرجوا) ولابد من هذا التقدير؛ لأنه تعالى جعل إرادة الخروج سبباً للإعادة، وإنما السبب نفسُ الخروجن وفائدةُ الحذف الإشعارُ بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة، وأنه حين تعلقت إرادتهم بالخروج حصل وترتب عليه الإعارة، كأن إرادة الخروج نفس الخروج، فأعيدوا بلا مكث، ومن ثم حسن تأويل الحسن الخروج بكونهم في أعلى النار، والإعادة بالهوي إليها، ومن الأسلوب قوله تعالى: (واللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً) [نوح: 17]، قال الزجاج: أراد الله إنباتكم فنبتم نباتاً. قيل: فائدته: التنبيه على سرعة نفاذ قدرة الله تعالى فيم أراد كونه، كأن إنبات الله نفس النبات.

فيها. ومعنى الخروج: ما يروى عن الحسن أنّ النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا وَقيل لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) والحريق: الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك. [سورة الحج (22): الآيات 23 إلى 25] (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)) (يُحَلَّوْنَ) عن ابن عباس: من حليت المرأة فهي حال «2» (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: و (مِنْ غَمٍّ) بدلٌ بإعادة الخافض بدل الاشتمال، وقيل: الأولى: لابتداء الغاية، الثانية: بمعنى: من اجل. وقيل الغم هنا: تغطية العذاب لهم، والأخذُ بكظمهم؛ لأن ما هم فيه أعظم من الحزن. وقال صاحب "الكشف": (مِنْ غَمٍّ): بدلٌ من (مِنْهَا)، والغم هاهنا: مصدرُ غممتُ الشيء، أي: غطيتُه، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا مما يغمهم من العذاب أعيدوا فيها، ويقال لهم: ذوقوا. قوله: (سبعين خريفاً)، قال التوربشتي: كان العرب يؤرخون أعوامهم بالخريف؛ لأنه كان أوان جُذاذهم وقطافهم وإدراك غلاتهم، وكان الأمر على ذلك حتى أرخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة الهجرة. قوله: ((وَلُؤْلُؤاً) بالنصب): عاصمٌ ونافع، والباقون: بالجر، وأبو بكرٍ يقلبُ الهمزة الثانية واواً، والبواقي شواذ.

على: "ويؤتون لؤلؤا"، كقوله: "وحورا عينا". و"لؤلوا" بقلب الهمزة الثانية واوا. و"لوليا"، بقلبهما واوين، ثم بقلب الثانية ياء كأدل. و"لول" كأدل فيمن جرّ. و"لولؤ". و"ليليا"، بقلبهما ياءين، عن ابن عباس: وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا "الحمد لله الذي صدقنا وعده"، وهداهم إلى طريق الجنة. يقال: فلان يحسن إلى الفقراء وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته. ومنه قوله تعالى (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أى الصدود منهم مستمرّ دائم (لِلنَّاسِ) أى الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانئ وطارئ ومكي وآفاقى. وقد استشهد به أصحاب أبى حنيفة قائلين: إنّ المراد بالمسجد الحرام: مكة، على امتناع جواز بيع دور مكة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويُنعشُ المضطهدين)، الجوهري: نعشه الله ينعشه نعشاً: رفعه، وضهدتُّه فهو مضهودٌ ومضطهدٌ، أي: مقهورٌ ومضطر. قوله: (أي: الصدود منهم مستمر دائم)، وهو من عطف المستقبل على الماضي، يعني: أن صدودهم كان دائماً مستمراً لا مترقباً، وكذلك قول: فلانٌ يحسنُ إلى الفقراء، في مقام المدح؛ لأنك لا تريد به الإخبار بأنه سيفعله في الزمان الآتي، بل تردي أن ذلك دأبه عادته التي نشأ عليها. قوله: (تانئ وطارئ)، أي: بالهمزة: الجوهري: تنأتُ بالبلد تُنوءاً: إذا قطنته، التانئُ من ذلك، هم تُناءُ البلد. والاسم: التناءةُ. وطرأتُ على القوم أطرأ طروءاً: إذا طلعت عليهم من بلد آخر. قوله: (وآفاقي)، قال المصنف: المسموعُ منالعرب: أفقي وأفقي، وهو القياس والاستعمال؛ لأنالنسبة إلى الواحد، واستعمال الفقهاء آفاقي، وهو صحيح؛ لأنه أريد به الخارجي، أي: الخارج من المواقيت، فكان بمنزلة النصاري حيث أريدت القبيلة. قوله: (وقد استشهد به أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله ... على امتناع جواز بيع دور مكة)، قال الإمامُ: وفي المسألة قولان:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن أرض مكة لا تُملك، وأنها لو مُلكت لم يستو فيه العاكف والباد، فلما استويا عُلم أن سبيله سبيلُ المساجد، فعلى هذا المراد بالمسجد الحرام: الحرمُ كله، كما يدل عليه قوله تعالى: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1]، وقوله: (الْعَاكِفُ فِيهِ)؛ لأنه المقيم، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل، وهذا قول ابن عباس في بعض الروايات، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، ومذهب أبي حنيفة في إحدى الروايتين، ومذهب هؤلاء ان كراء دور مكة وبيعها حرام. وثانيهما: أنها تُملك، والمراد بقوله تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي) الاستواء في العبادة، أي: ليس للمقيم أن يمنع البادي من العبادة فيه وبالعكس. ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلىية ساعةٍ من ليلٍ او نهار"، هذا قول الحسن ومجاهدٍ والشافعي، ورواية الحسن عن أبي حنيفة. وقال الزجاج سواءٌ في تفضيله وإقامة المناسك العاكف بالحرم والنازع إليه. وقال محيي السنة: ومعنى التسوية: هوالتسوية في تعظيم الكعبة، وفي فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف فيه. وقلتُ - والله أعلم-: والمقامُ لا يقتضي غير ذلك، وبيانه: أنه تعالى لما ذم المشركين، وبين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سوء صنيعهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أتى بقوله: (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) عاطفاً عليه وهو مضارعٌ، ونوعٌ من أنواع الكفر، فدل الاستقبال على أن الصد عادتهم ودأبهم كما مر آنفاً، ودل عطف النوع على الجنس على تمادي هذا الكفر - وهو الصد- الغاية، حتى خرج من ذلك الجنس على منوال قوله: (ومَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة: 98] ثم عقب بقوله تعالى: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي) عاطفاً على (سَبِيلِ اللَّهِ) على منوال العطف السابق تتميماً ومبالغةً، يعني: ما كفاهم إعراضهم عن العبادة، حتى بلغ أن منعوا الغير عنها، وتمادى ذلك المنعُ إلى أن بلغ على الموضع الذي عظمناه وحرمناه لغير عبادتنا، ولا يختص به أحدٌ دون أحد، سواءٌ في ذلك قُطانه وقُصادُه، ويعضده تذييل الكلام بقوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)؛ لأن الصاد مائلٌ عن الحق، ملحدٌ واضعٌ للشيء في غير موضعه، وإليه الإشارة بقوله: "وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك"، فأين في الكلام مجالُ بيع الدور وتمليكها، اللهم إلا أن يقال: إن دلالة الآية على ذلك بالإدماج وإشارة النص، ومن ثم لما حاور الإمام الشافعي إسحاق عارض دليله بمثله، وهو قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) [الحج: 40] وأتى بحديث عُمر رضي الله عنه، سكت إسحاقُ، والمصنفُ أيضاً لم يزد على ذلك، وما اشتغل بالجواب لما عرف المقام. وأما استدلالهم بقوله تعالى: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1] بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم فضعيفُ، لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن مالك بن صعصعة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به قال: "بينما أنا في الحطيم- وربماقال: في الحجر مضطجعاً، ومنهم من قال: بين النائم واليقظان- إذ أتاني

وإجارتها. وعند الشافعي: لا يمتنع ذلك. وقد حاور إسحاق بن راهويه فاحتجّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آتٍ"، الحديث. وفي حديث آخر، عن البخاري ومسلم والنسائي، عن أنسٍ قال: ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة. الحديث. وقولهم: الإقامة لا تكون إلا خارج المسجد فضعيفٌ أيضاً؛ لأن الظاهر من لفظ العاكف أنه الملازم للمسجد، والمعتكفُ فيه. قوله: (وقد حاور إسحق بن راهويه)، في "جامع الأصول": هو أبو يعقوب إسحاقُ بن إبراهيم التميميُّ الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، بالراء وفتح الهاء والواو وسكون الياء وكسر الهاء، أحد أركان المسلمين، وعَلَمٌ من أعلام الدين، وممن جمع بين الحديث والفقه، والإتقان الحفظ والورع. وقال الإمامُ: وقد جرت مناظرةٌ بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة، وكان إسحاقُ لا يرخصُ في كراء دور مكة، فاحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) [الحج: 40] فأضيف الديارُ إلى مالكيها، وهو المراد من قول المصنف: "أنسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها؟ "، وقال الشافعي: قال رسول الله يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو آمنٌ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيلٌ من ربع"، وقد اشترى عمر رضي الله عنه دار السجن، أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها؟

بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحج: 40]، [الحشر: 8] وقال أنسب الديار إلى مالكيها، أو غير مالكيها؟ واشترى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه دار السجن من مالكيه أو غير مالكيه؟ (سَواءً) بالنصب: قراءة حفص. والباقون على الرفع. ووجه النصب أنه ثانى مفعولي (جعلناه)، أى: جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وفي القراءة بالرفع. الجملة مفعول ثان. "الإلحاد": العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. وقوله (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفتان. ومفعول (يُرِدْ) متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يعنى أنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة «لا والله، وبلى والله» وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان، أحدهما: في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له، فقال، كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: "لا والله، وبلى والله". وقرئ: "يرد"، بفتح الياء من الورود. ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالما. وعن الحسن: ومن يرد إلحاده بظلم، أراد: إلحادا فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف، كـ"مكر الليل". ومعناه: من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال إسحاق: فلما علمتُ أن الحجة قد لزمتني تركتُ قولي. قوله: (إلحادُ الحافر)، أي: حافرُ القبر. الجوهري: اللحدُ بالتسكين: الشقُّ في جانب القبر. قوله: (فُسطاطانِ)، الفسطاطُ: السُّرادقُ، وقيل: الفسطاط: ضربٌ من الأبنية.

يرد أن يلحد فيه ظالما. وخبر "إن" محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك. عن ابن مسعود: الهمة في الحرم تكتب ذنبا. (وَإِذْ بَوَّانا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) 26 [ واذكر حين جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) مباءة، أى: مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج: كنست ما حوله، فبناه على أسه القديم. و"أن" هي المفسرة. فإن قلت: كيف يكون النهى عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم قلنا له: (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأصنام والأوثان «1» والأقذار أن تطرح حوله. وقرئ: "يشرك"، بالياء على الغيبة. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) 27 [ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) ناد فيهم. وقرأ ابن محيصن: "وآذن". والنداء بالحج: أن يقول: حجوا، أو عليكم بالحج. وروى أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يقال له: الخجوج)، بفتح الخاء المعجمة، وبالجيمين. الجوهري: ريحٌ خجُوجٌ: تلتوي في هبوبها. الأصمعي: الخجوجُ من الرياح: الشديدة المرة. قوله: (تعبدنا إبراهيم)، الأساس: تعبدني فلانٌ واعتبدني: صيرني كالعبد له، أي في التكليف بالأمر والنهي.

حجوا بيت ربكم. وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع «3» (رِجالًا) مشاة جمع راجل، كقائم وقيام. وقرئ: "رجالا"، بضم الراء مخفف الجيم ومثقله، و"رجالي" كعجالى عن ابن عباس. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) حال معطوفة على حال، كأنه قال: رجالا وركبانا (يَاتِينَ) صفة ل (كل ضامر)، لأنه في معنى الجمع. وقرئ: "يأتون"، صفة للرجال والركبان. و"العميق": البعيد، وقرأ ابن مسعود: "معيق". يقال: بئر بعيدة العمق والمعق. [(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)]. نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبى حنيفة رحمه الله: أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حجّ فضل الحج على العبادات كلها، لما شاهد من تلك الخصائص. وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورُجالى)، وهو جمعُ رجلانَ، كسكران وسُكارى، وهو بمعنى الراجل، قال كُثيرُ عزة: على إذا لاقيتها في سلامةٍ ... زيارة بيت الله رجلان حافيا قوله: (نكر المنافع)، يعني: دل التنكيرُ فيها على تفخيم المنافع وتكثيرها بحيثُ لا توجد في غيرها. وعن بعض العارفين: هي سُبحاتُ البادية وزلفاتها: الليليةُ والنهارية.

لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا: أن جمع بين قوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)، وقوله: (عَلى ما رَزَقَهُمْ) ولو قيل: لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام، لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة. "الأيام المعلومات": ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا)، تعليلٌ لصحة الكناية، والانتقال من اللازم إلى الملزوم، فإن الشرط فيها أن تكون الملازمة مساويةً إما في نفس الأمر أو بالادعاء والعرف، وليست الكناية في مجرد قوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) بل مع قوله: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)؛ لأن "على" متعلقٌ بالفعل، كأنه قيل: وانحروا بهيمة الأنعام مسمين الله تعالى. قوله: (وفيه تنبيهٌ)، أي: في العدول من النحر والذبح إلى ذكر اسم الله إدماجٌ وإشارةٌ إلى أن الغرض الأصلي في العبادات ذكرُ اسم الله. قوله: (وقد حسن الكلام تحسيناً بيناً أن جمع)، يعني: جمع بين ذكر الرازق والمرزوق على طريقة التعليل. وذلك أن رتب ذكر اسم الله على الوصف المناسب، هو كونه رزقاً منه، ويؤيده قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)، فإنه تصريحٌ في المقصود، ومع هذه النكتة الجليلة رُوعي فيه معنى الإجمال والتفصيل. قوله: (الحُسْن والروعة)، الأساس: رُعُته وروعتُه، وارتعتُ منه وأصابته روعةُ الفراق، ووقع ذلك في روعي أي: في خلدي، ومن المجاز: فرسٌ رائع، يروع الرائي بجماله، وكلامٌ رائع. قوله: (الأيام المعلومات)، المطلع: قيل لها: معلوماتٌ للحرص على علمها بحسابها؛

أيام العشر عند أبى حنيفة، وهو قول الحسن وقتادة. وعند صاحبيه: أيام النحر. "البهيمة": مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام: وهي الإبل والبقر والضأن والمعز. الأمر بالأكل منها أمر إباحة، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم ومن استعمال التواضع. ومن ثمة استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وعن ابن مسعود أنه بعث بهدى وقال فيه: إذا نحرته فكل وتصدّق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن وقت الحج في آخرها، وكثرةُ ذكر الله تعالى فيها بالتلبية والتكبير، وقيل لأيام النحر: معلوماتٌ؛ لأن الذكر على بهيمة الأنعام يدلُ على التسمية على نحرها، ونحر الهدايا يكونُ في هذه الأيام قاله الزجاج. قوله: (أيام العشر)، أي: أيام الليالي العشر. قوله: (ومن ثم استحبالفقهاء ان يأكل الموسع من أضحيته)، قال مُحيي السُّنة: اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً يجوز للمُهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطع، واختلفوا في الهدي الواجب مثل دم التمتع والقران، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، فذهب قومٌ إلى أنه لا يجوز، وبه قال الشافعي. وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذور، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالكٌ: يأكلُ من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور. وعند أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران، ولا يأكل من واجب سواهما.

وابعث منه إلى عتبة، يعنى ابنه. وفي الحديث: «كلوا وادخروا وائتجروا». (الْبائِسَ) الذي أصابه بؤس أى شدة: و (الْفَقِيرَ) الذي أضعفه الإعسار. [(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)] 29 [. "قضاء التفث": قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، و"التفث": الوسخ، فالمراد قضاء إزالة التفث. وقرئ: "وليوفوا"، بتشديد الفاء (نُذُورَهُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وادخروا وائتجروا)، ورُوي: "واتجروا". النهاية: وفي حديث الأضاحي: "كلُوا وادخروا وائتجرا" أي: تصدقوا طالبين الأجر بذلك، ولا يجوزُ فيه "اتجروا" بالإدغام؛ لأن الهمزة لا تُدغمُ في التاء، وإنما هو من الأجر لا من التجارة، وقد أجار الهرويُّ في "كتابهِ"، واستشهد عليه بقوله في الحديث: إن رجلاً دخل المسجد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فقال: "من يتجر فيقوم ويُصلي معه؟ "، والرواية إنما هي: "يأتجرُ"، وإن صح فيها: "يتجرُ"، فيكون من التجارة لا من الأجر، كأنه بصلاته معه قد حصل لنفسه تجارةً، أي مكسباً. قوله: (والْفَقِيرَ) الذي اضعفه الإعسارُ)، الأساس: فلانٌ فقيرٌ أصابته النواقر، وعملت فيه الفواقر، أي: الدواهي التي تكسرُ فقار ظهره.

مواجب حجهم، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، ويقع به تمام التحلل. وقيل: طواف الصدر، وهو طواف الوداع (الْعَتِيقِ) القديم، لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وعن قتادة: أعتق من الجبابرة، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله. وعن مجاهد: لم يملك قط. وعنه: أعتق من الغرق. وقيل: بيت كريم، من قولهم: عتاق الخيل والطير. فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع. قلت: ما قصد التسلط على البيت، وإنما تحصن به ابن الزبير، فاحتال لإخراجه ثم بناه. ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ما عسى ينذُرونه من أعمال البر)، فالنذرُ على هذا حقيقةٌ، وعلى الأول مجازٌ. الأساس: ومن المجاز: أعطيتُ الرجل نذر جرحه، أي: أرشه؛ لأنه مما نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أوجبه ما يوجب الرجلُ على نفسه، ولذلك قال: "مواجب حجهم". قوله: (بيتٌ كريم)، أي: العتيق، بمعنى الكريم، الراغب: كل شيء شرُفض في بابه؛ فإنه يوصفُ بالكرم. وقال بعضهم: الكرمُ بالحرية، إلاأن الحرية قد تُقالُ في المحاسن الصغيرة؛ الكرمُ لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة، قال الل تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] فعُلِمَ أن الكرم أبلغُ من العتاقة. الجوهري: العتقُ: الكرم، والعتقُ: الجمال، والعتقُ: الحرية، وكذلك العتاقُ- بالفتح- والعتاقة. قوله: (وإنما تحصن به ابن الزبير)، قال أبو حنيفة الدينوريُّ في "الأخبار الطوال": سار الحجاجُ من الطائف حتى دخل مكة، ونصب المنجنيق على أبي قُبيس، وتحصن منه ابن

[(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [. (ذلِكَ) خبر مبتدإ محذوف، أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدّم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزُّبير في المسجد، فجعلوا يرمون أهل المسجد، واشتد على ابن الزبير وأصحابه الحصارُ وجعل أهل الشام يدخلون المسجد، فيشتد عليهم ابن الزبير، فيخرجهم، فأحدقوا به من كل جانب، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه رحمه الله. فأمر به الحجاج فصلب، وأقام الحجاج بمكة حتى قضى الناس الحج؛ وأمر بالكعبة فنُقضت، وأعاد بناءها، وهو هذا البناء القائم اليوم، وقصة إبراهيم ستجيءُ، إن شاء الله تعالى. قوله: (قال: هذا، وقد كان كذا)، يريدُ أن "ذلك" هاهنا نحو "هذا" في قوله تعالى: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص: 55] وأنهُ من فصل الخطاب، وهاهنا لما ذكر نُبذاً من مناسك الحج وكان حديثاً في بيان التوصية في حُرمات الحج، وتعظيم شعائر الله، ناسب أن يذكر سائر المحرمات استطراداً، فقدم من أمهات الخبائث ما يستتبع سائرها من الشرك، وقول الزور، وجعل التخلص إلى ذكرهما ما كانوا يعظمونها من النسائك والقرابين تشبيهاً لها بالمعبود بالحق، فقال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) ثُم قصد إلى تحقير شأنها بأن جرد من الأصنام مثل الرجس، وأدخل عبادتها في جنس قول الزور، ومثل لعبادتها تمثيلاً عجيباً وتصويراً غريباً حيث قال: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ

و"الحرمة": ما لا يحل هتكه. وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم: "الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أى فالتعظيم خير له. ومعنى التعظيم: العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها. المتلوّ لا يستثنى من الأنعام، ولكن المعنى (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) آية تحريمه، وذلك قوله في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)] المائدة: 3 [والمعنى: أنّ الله قد أحل لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده، وإياكم أن تحرموا مما أحل شيئا، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك، وأن تحلوا مما حرم الله، كاحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. لما حث على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، ولما أراد أن يكِرَّ إلى ما بُدئ به من حديث المناسك أعاد بفصل الخطاب فقال: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فنها من تقوى القلوب". قوله: (المتلو لا يُستثنى من الأنعام)، يعني: ظاهرُ قوله: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) مستثنى من قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) وليس المتلو من جنس الأنعام، فلا يصحُّ الاستثناء، لكن التقدير: "إلا ما يتلى عليكم" آية تحريمه" آية تحريمه، والمتلو في تحريم الأشياء المحرمة في سورة المائدة هو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآية [المائدة: 3]. قوله: (لما حث على تعظيم حرماته، وأحمد من يعظمها، أتبعه الأمر باجتناب الأوثان)، إشارةٌ إلى أن قوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) محمولٌ على أحد الوجهين السابقين، وهو العموم المشار إليه بقوله: "فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه"، ليدخُل فيه

الزور، لأن توحيد الله ونفى الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطوا. وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد، وذلك أنّ الشرك من باب الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعنى: أنكم كما تنفرون بطباعكم عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحرماتُ التي تتعلق بالحج دخولاً أولياً، وأن قوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) وقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) تعريضٌ وإيماءٌ إلى بيان النوعين من قبائح المشركين، أحدهما: تحريمهم السوائب والحام والوصيلة، وتحليل الميتة والدم وغيرهما. وثانيهما: عكوفهم على عبادة الأوثان، فأتى بهما تخصيصاً بعد تعميم ليؤذن بأنهما من أعظم أنواع المحرمات، ثم ضم مع عبادة الأوثان قول الزور، ولم يعطف عليه، بل أعاد الفعل؛ ليكون مستقلاً في الاجتناب عنهُ، وما اكتفي بذلك، بل جعل التعريف للجنس؛ ليكون من باب عطفِ العامِّ على الخاص. قوله: (في قرانٍ واحد)، أي: أدخلهما في حُكم الأمر بالاجتناب عنهما، ورُوعي فيه تأخيرُ العامِّ عن الخاص، على عكس قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) تناول بظاهره كل ما تنفر عنه النفس والطبيعة من القاذورات، وحين بينه بقوله: (مِنْ الأَوْثَانِ) عُلم منه تشبيه الأوثان به، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: 187]، ولما قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ) [المائدة: 90] فُهم منه التشبيه؛ لعدم صحة الحمل، فكأنه قيل: هي كالرجس، كقولك: زيدٌ أسدٌ، لكن الأول من التشبيه الواقع على طريق التجريد، فجُرد من الرجس شيءٌ يسمى وثناً، وهو هو، والجهة الجامعة: تنفيرُ النفس،

الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)] المائدة: 90 [جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب (مِنَ الْأَوْثانِ) بيان للرجس وتمييز له، كقولك: عندي عشرون من الدراهم، لأنّ الرجس مبهم يتناول غير شيء، كأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والزور من الزور والازورار وهو الانحراف، كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه. وقيل "قَوْلَ الزُّورِ" قولهم: (هذا حلال وهذا حرام)] النحل: 116 [، وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل: شهادة الزور. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1» وتلا هذه الاية. وقيل: الكذب والبهتان. وقيل: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك". يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارة بقوله: "كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء". قوله: (جعل العلةَ في اجتنابه أنه رجس)، يعني: جمع الأشياء في معنى الرجس، ثم رتب على ذلك بالفاء قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) ترتُّباً للحكم على الوصف المناسب. قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الصبح، فلما سلم")، الحديث من رواية الإمام أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن أيمن بن خريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: "يا أيها الناس، عدلت شهادة الزُّور إشراكاً بالله" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). قوله: (يجوزُ في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق)، فالمركبُ يجوزُ أن يكونَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقلياً بأخذِ الزُّبدةِ والخلاصة من المجموع، وأن يكون تمثيلياً بأن تشبهَ الحالةُ المنتزعةُ بمثلها المقدرة. الانتصاف: تقديرُ كونه مفرقاً تشبيهٌ للمشرك بالهاوي من السماء إن كان من ردة، كمثل من علا السماء ذاهباً ثم أهبط بارتداده. وإن كان مشركاً أصلياًّ، فقد عُدَّ تمكنهُ منَ الإيمان وعدولُه عنه بمنزلةِ الصاعد ثم الهابط، كقوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة: 257]، ولم يدخلوا في النور بل كانوا متمكنين منه، وفي قول الزمخشري: "الأهواءُ التي تتوزعُ أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة" نظرٌ؛ لأنه رجع بهما إلى أمرٍ واحد؛ إذ الأفكارٌ من نتائج وسوسة الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، والذي يتضح في التشبيهين غير ذلك. فالكافرون قسمان، أحدهما: مُذبذبٌ شاكٌّ ليس بمصمم، وهذا مشبهٌ بمن اختطفه الطيرُ فلا يتولى طائرٌ منه على مزعةٍ إلا انتهبها منه آخرُ، كذا المُذبذبُ متى لاح له خيالٌ اتبعه، وترك ما كان عليه. والآخر مصممٌ لا يرجع، وهو فرحٌ بضلاله، فهو مشبهٌ باستقرار من ألقته الريح في وادٍ فاستقر فيه. وقال القاضي: (أوْ) للتخيير، كما في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة: 19]، أو للتنويع، فن من المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكنُ خلاصه بالتوبة ولكن على بُعد. وقلتُ: الذي عليه ظاهرُ كلام الله المجيد أن (أوْ) للتخيير، وهُو المختارُ عند المصنفِ رحمه الله تعالى؛ لأن المشبه هو المشرك، والمشبه به من خر من السماء، ثم هذا الشخصُ المخرور منها بين حالين: إما أن تخطفه الطيرُ، أو تهوي به الريح، فإن (أَوْ تَهْوِي بِهِ) عطفٌ على (فَتَخْطَفُهُ)، وهو عطفٌ على (خَرَّ). قال أبو البقاء: (خَرَّ) بمعنى: يخرُّ؛ ولذلك عطف عليه (فَتَخْطَفُهُ).

فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: في إيثار المضارع إشعارٌ باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهد المخاطب تعجيباً له. واعلم أن تشبيه الأفكار المتوزعة بخطف الطير مأخوذٌ من قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) [الزمر: 29]. قال المصنف: "فهو متحيرٌ في أمره، قد تشعبت الهمومُ قلبه، وتوزعت أفكاره، لا يدري أيهم يُرضي؟ ". وأن تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية إلى مكان سحيق مأخوذٌ من قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) [مريم: 83]. قال: "تُغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها، فتؤديهم إلى التمادي في الغي، والإفراط في العناد، والتصميم على الكفر، وإلى الضلال البعيد"، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: (فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ). وإذا حُمِلَ (أوْ) على التخيير يُمكن أن يُحمل على المعنيين كما قال في قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ) [البقرة: 19]: "معناه: أن كيفية قصة المنافين مشبهةٌ بكيفيتي هاتين القصتين، وأن القصتين سواءٌ في استقلال كل واحدةٍ منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتَ فأنت مُصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك". ولهذا عطف في المفرق قوله: "والشيطان الذي يطوح"، بالواو على "الأهواء التي تتوزع" ليؤذن به أن (أَوْ تَهْوِي) عطفٌ على (فَتَخْطَفُهُ)، والمجموعُ تشبيهٌ واحد، وعطف في المركب قوله: "أو عصفت به الريحُ" على قوله: "خر من السماء فاختطفه الطير" بـ"أوْ" ليشير به إلى أن قوله: (أَوْ تَهْوِي) عطفٌ على قوله: (خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ)، والمجموع تشبيهان؛ لأن المركب يكفي في أخذ الزبدة من كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه، بخلاف المُفرقِ فإنهُ كلما كانت المفردات أكثر كان التشبيه أحسن، وفي القبول أدخل.

فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح «3» البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادى الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة. وقرئ: "فتخطفه". بكسر الخاء والطاء. وبكسر التاء مع كسرهما، وهي قراءة الحسن. وأصلها: تختطفه. وقرئ: "الرياح". [(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)]. تعظيم الشعائر - وهي الهدايا، لأنها من معالم الحج -: أن يختارها عظام الأجرام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتفرقَ مُزعاً)، الجوهري: التمزيعُ التفريق، والمزعة بالضم والسكون: قطعةُ لحم. قوله: (يطرحُ)، الجوهري: طاح يطوحُ: هلك. قوله: (وقرئ: "فتخطفه")، يعني: بالفتحات، أصله: فتخطتفه، نُقلت حركةُ التاء إلى الخاء، وأدغمت في الطاء. قوله: (وبكسر الخاء والطاء)، أصله: تختطفه أيضاً، حُذفت حركةُ التاء، ثم أدغمت في الطاء، وحُركت الخاء والتاء بالكسر لالتقاء الساكنين، وأُتبعتِ الطاءُ الخاء. قوله: (وبكسر التاء مع كسرهما)، أي: مع كسر الخاء والطاء، وجهُ هذا مثل الوجه الثاني إلا أنه كسر التاء أيضاً، فلذلك جعل المصنفُ الثاني والثالث كالوجه الواحد، وقال: "أصلُهما" يريدُ أصل الثاني والثالث. قوله: (تعظيمُ الشعائر)، هو مبتدأ، والخبرُ: "أن يختارها عظام الأجرام"، وقوله: "وهي

حسانا سماناً غالية الأتمان، ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يغالون في ثلاث - ويكرهون المكاس فيهنّ -: الهدى، والأضحية، والرقبة. وروى ابن عمر عن أبيه رضى الله عنهما أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاث مائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا. فنهاه عن ذلك وقال: «بل أهدها» وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة بدنة، فيها جمل لأبى جهل في أنفه برّة من ذهب. وكان ابن عمر رضي الله عنه يسوق البدن مجللة بالقباطى «3» فيتصدّق بلحومها وبجلالها «4»، ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أى فإن تعظيمها من أفعال ذوى تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى "مَنْ" ليرتبط به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهدايا تفسيرٌ للشعائر"، وقوله: "لأنها من معالم الحج" تعليلٌ لتسمية الهدايا بالشعائر، ويؤيد تفسير الشعائر بالهدايا في هذا المقام قوله تعالى في آخر الآية التالية: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)؛ ولهذا نقل قول من فسر الشعائر: بالمناسك كلها، وردهُ بهذه العلة حيثُ قال: "و (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يأباه". قوله: (بُرة)، البُرةُ: حلقةٌ من صُفرٍ تُجعلُ في أنفِ البعير. قوله: (مجللةً بالقباطي)، النهاية: القُبطيةُ: الثوبُ من ثياب مصر رقيقةٌ بيضاء، كأنه منسوبٌ إلى قبط، وهم أهل مصر، وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، وأما في الناس فقبطيٌّ بالكسر. قوله: (ويعتقد)، بالنصب، عطفٌ على "أن يختارها". قوله: (ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها؛ لأنه لابد من راجع ... إلى"مَن")، أي: لابد من رابطة تربط الجزاء مع الشرط. قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأنه إنما يُحتاجُ إلى المضمرات إذا جُعل من للتبعيض، فإن جُعلت للابتداء لم يُحتج إلى إضمار "أفعال"، ولا "ذوي"؛ إذ المعنى: فإن تعظيمها ناشئٌ من تقوى القلوب.

وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت، ظهر أثرها في سائر الأعضاء. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها. و (ثُمَّ) للتراخي في الوقت، فاستعيرت للتراخي في الأحوال. والمعنى: أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يعتدّ الله بالمنافع الدينية، قال سبحانه (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)] الأنفال: 67 [وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع: (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ) أى وجوب نحرها. أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهية إلى البيت، كقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)] المائدة: 95 [والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت. ومثل هذا في الاتساع قولك: "بلغنا البلد"، وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد ب"الشعائر": المناسك كلها، و (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يأباه. [(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) 34 - 35]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: فعلى هذا لابد من جعل اللام بدلاً من المضاف إليه للربط، كما أن الراجع من تقدير المصنف ما دل عليه عمومُ ذوي القلوب، قال أبو البقاء: والعائدٌ على من محذوفٌ، أي: فإن تعظيمها منه، أو من تقوى القلوب منهم، ويُخرجُ على قول الكوفيين أن يكون التقديرُ: من تقوى قلوبهم، والألف واللامُ بدلٌ من الضمير. قوله: (وإنما ذُكرت القلوبُ؛ لأنها مراكزُ التقوى)، يعني: أُطلقتِ القلوبُ على الجملة كلها إطلاقاً للبعض على الكل؛ لأن التقوى لا تختصُّ بالقلب، فإن لكل عُضو تقوى، ولكونه رئيس الأعضاء وأِرفها صح هذا المجازُ لقوله تعالى: (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة: 283].

شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له: أى يذبحوا لوجهه على وجه التقرّب، وجعل العلة في ذلك أيذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك: وقرئ (مَنْسَكاً) بفتح السين وكسرها، وهو مصدر بمعنى النسك، والمكسور يكون بمعنى الموضع (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أى أخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالما، أى: خالصا لا تشوبوه بإشراك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (مَنْسَكاً) بفتح السين وكسرها)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بالفتح. قوله: (أي: أخلصوا له الذكر خاصة)، فـ"أخلِصُوا": تفسيرٌ لقوله: (أَسْلِمُوا)، وقوله: "خاصةً" تأكيدٌ له وتأويل لتقديم الجار والمجرور على عامله، وإنما قيد (أَسْلِمُوا) وهو مطلقٌ بأخلصوا الذكر؛ لأن قوله: أسلموا مترتبٌ على قوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)، فالفاء في (فَلَهُ أَسْلِمُوا) الفاء في (فَاسْتَبَقُوا) في قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) إلى قوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [المائدة: 48]، وفي قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، قال المصنف: "لكل أمةٍ قبلةٌ تتوجه إليها منكم ومن غيركم، فاستبقوا أنتم الخيرات، واستبقوا إليها غيركم من أمرِ القبلة وغيرها". وهاهنا لما كانت الجملةُ الأولى- أعني قوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) - متضمنةً لمعنى الإخلاص؛ لأن المقصود الأولى من الذبح ذكرُ اسم الله، ولا ارتياب أن الذكر لا يكونُ معتداً به إذا كان مشوباً بشيء من الرياء، ولذلك قال: "أي: يذبحوا لوجهه على وجه التقرب" جعل قوله: (فَلَهُ أَسْلِمُوا) المفيد للإخلاص منطوقاً ومفهوماً مسبباً عنها، ولما أُريد مزيدُ الحض، والبعثُ على الأمر أوقع قوله: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) في البين تمهيداً للثاني، وجعله مسبباً عن السابق، وسبباً للاحق، المصنفُ ما ذكر هذا التمهيد

"المخبتون": المتواضعون الخاشعون، من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الحسن "وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ" بالنصب على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود: "والمقيمين الصلاة"، على الأصل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واكتفى بذكرِ السابق واللاحق، فكأنهُ قيل: شرع لكل أمةٍ من الأمم: السابقة والحاضرة منكم ومن غيركم أن ينحروا النسيكة خالصاً لوجه الله تعالى، وتُخلصوا له الذكر، وإذا كان كذلك فأنتم- أيتها العصابةُ من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم -أحرى بذلك؛ لأن إلهكم إلهٌ واحدٌ فأخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالماً خالصاً لا تشوبوه بإشراكٍ كما قال: "فاستبقوا أنتم الخيرات، واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيرها"، وفيه تعريضٌ بالمشركين. قوله: (وقرأ الحسنُ: "المقيمي الصلاة"، بالنصب على تقدير النون)، قال ابن جني: وهي قراءةُ إسحاق، ورُويت عن أبي عمرو. أراد "المقيمين" فحذف النون تخفيفاً، لا لتعاقبها الإضافةُ، وشبه ذلك بـ"الذين" في قوله: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القومُ كل القوم يا أم خالد حذف النون تخفيفاً لطول الاسم، وأما الإضافة فساقطةٌ هنا، وعليه قول الأخطل: أبني كُليب إن عمي اللذا ... قتلا الملك وفككا الأغلالا ونحوه بيتُ "الكتاب": الحافظو عورةَ العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم نطفُ بنصبِ "العورة".

[(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 36]. "الْبُدْنَ" جمع بدنة، سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»، فجعل البقر في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النطفُ: التلطُّخُ بالعيب، ونطفانُ الماء: سيلانُه. وقال الزجاجُ: (الْمُقِيمِي الصَّلاةِ) القراءة بالخفض، وإسقاط النون على الإضافة، ويجوز "المقيمين الصلاة" إلا أنه خلافُ المصحف، قيل هو مثلُ قوله: هم الآمرون الخير والفاعلون ... إذا ما خشُوا من مفظع الأمر جانبا قوله: (ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل)، تعليلٌ لما يردُ عقيبه، والجملةُ معطوفةٌ على قوله: "سُميت لعظم بدنها وهي الإبلُ"، المعنى: البدنة في اللغة مضوعة للإبل خاصة، ولأجل أن الشارع صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل صارت البدنةُ جنساً متناولاً للنوعين: الإبل والبقر. روينا عن مسلم ومالكٍ والترمذي وأبي داود والنسائي، عن جابرٍ، قال: "كنا نتمتعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبحُ البقرة عن سبعة"، وفي رواية: "قد خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعةٍ منا في بدنة"، وفي أخرى لأبي داود قال: قال صلى الله عليه وسلم: "البقرةُ عن سبعة، والجزورُ عن سبعة".

حكم الإبل، صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبى حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل وعليه تدل الآية، وقرأ الحسن: "والبدن"، بضمتين، ك"ثمر" في جمع "ثمرة". وابن أبى إسحاق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف. وقرئ بالنصب والرفع كقوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ)] يس: 39 [. (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أى من أعلام الشريعة التي شرعها الله. وإضافتها إلى اسمه: تعظيم لها (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) كقوله (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير، فاشترى بها بدنة، فقيل له في ذلك، فقال: "سمعت ربى يقول (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) " وعن ابن عباس: دنيا وآخرة. وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. وذكر اسم الله: أن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "ولا يلزمُ من مشاركة البقر لها في إجزائها عن سبعةٍ تناولُ اسم البدنة لها شرعاً". قوله: (وعليه تدلُّ الآيةُ)، أي: على أن المراد بالبُدن الإبلُ، لأن قوله تعالى: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) وقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) وقوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) من خصائص نحر الإبل لا البقر. قوله: (اللهم منك وإليك)، الحديث من رواية الترمذي وأبي داود، عن جابر رضي الله عنه قال: ذبح النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: "إني وجهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) [الأنعام: 162] الآية، اللهم منك ولك، اللهم عن محمدٍ وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبحَ.

(صَوافَّ) قائمات قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ. وقرئ: "صوافن"، من صفون الفرس، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه، لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. وقرئ: "صوافي"، أي: خوالص لوجه الله. وعن عمرو بن عبيد: "صوافنا"، بالتنوين عوضا من حرف الإطلاق عند الوقف. وعن بعضهم: "صوافي" نحو مثل العرب. "أعط القوس باريها"، بسكون الياء. و"جوب الجنوب": وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجبة إذا سقط. ووجبت الشمس جبة: غربت. والمعنى: فإذا وجبت جنوبها وسكنت نسائسها حل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منك: أي: عطاؤك وصادرٌ منك، وإليك: أي: تقرُباً إليك. قوله: (وقرئ: صوافن)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن مسعودٍ وأبي عمرو وابن عباس، وقرأ: صوافي: أبو موسى الأشعري والحسن. قوله: (أعطِ القوس باريها)، قال الميداني: أي: استعنْ على عملك بأهل المعرفة اولحذقِ فيه ويُنشدُ: يا باري القوس برياً لست تُحسنُها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها قوله: (نسائسها)، الجوهري: النسيسُ: بقيةُ الروح، ومنه قول الشاعر: فقد أودى إذا بُلِغَ النسيسُ

لكم الأكل منها والإطعام (الْقانِعَ) السائل، من قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا (وَالْمُعْتَرَّ) المعترض بغير سؤال، أو "القانع" الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال، من قنعت قنعا وقناعة. و"المعتر": المعترض بسؤال. وقرأ الحسن: و"المعترى". وعرّه وعراه واعتراه واعتره: بمعنى. وقرأ أبو رجاء: "القنع"، وهو الراضي لا غير. يقال: قنع فهو قنع وقانع. منّ الله على عباده واستحمد إليهم بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا، يأخذونها منقادة للأخذ طيعة فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون في لباتها. ولولا تسخير الله لم تطق، ولم نكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوّة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة. [(لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) 37]. أي: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضى المضحون والمقرّبون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حل ما قرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستحمد إليهم). الأساس: واستحمد الله على خلقه بإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، يعني: أن الله تعالى من على عباده بقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ) وطلب منهم أن يشكروه بسبب تسخيره لهم ذلك البُدن العظيم تسخيراً مثل ذلك التسخير العجيب الشأن الذي عرفوهُ وعلموه، ونبه عليه بقوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) الآية. قال أبو البقاء: (كَذَلِكَ) الكافُ: نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: سخرناها تسخيراً مثل ما ذكرنا.

به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم. وقرئ: (لن تنال الله. ولكن تناله): بالتاء والياء. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت. كرّر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعدى تعديته. [(إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) 38]. خص المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر: 51]، وقال: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات: 172] قال: (وَأُخْرى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ ... وَلَكِنْ يَنَالُهُ) بالياء والتاء)، بالياء التحتاني: السبعةُ، والتاءُ: شاذة. قوله: (كرر تذكير النعمة)، يعني: قال قبل هذا: "كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون" ثم كرَّ إلى هذا المعنى بقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعداهُ بـ"على"، وإنما حسُن تسميةُ الشكر بالتكبير؛ لأن التكبير على هداية الله تعالى المكلف لأعلام الدين ومناسك الحج: هو النداء على الجميل بسبب إحسانه، وليس معنى الشكر اللساني إلا هذا، فوضع التكبير هاهنا موضع الشكر كوضع (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) - في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج: 28]- موضع "ينحروا"؛ للإيذان بأن المقصود الأولي من شرعية الأحكام التوحيدُ، وذكرُ الله تعالى وحده وتشييده، وأن رأس الشكر هو الذكرُ باللسان.

تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف: 13] وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها. ومن قرأ (يُدافِعُ) فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه، لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ. [(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) 39 - 41]. (أُذِنَ) و (يُقاتَلُونَ) قرئا على لفظ المبنى للفاعل والمفعول جميعاً: والمعنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم)، يعني: أن الله تعالى إنما ينصرُ المؤمنين؛ لما أنه يبغض أضدادهم، فإن قلت: أليس هذا كقول القائل: إنما أحبكَ لبُغضِ فلان، ويؤدي هذا إلى أنه لولا بُغض فلانٍ لما أحببتك؟ قلت: لا، لأن المعنى: إن الله تعالى ينصرُ الذين آمنوا بالله ورسوله لأنهم لم يخونوا الله ورسوله، ولا يخونوا أماناتهم، ويشكرون نعم الله ولا يغمطونها؛ وكذلك لا يحب من هو على خلاف ما هم عليه من الخيانة والكُفران ويدفعُ شرهم عنهم. قوله: (ويغمطونها)، النهاية: الغمط، الاستهانةُ والاستحقار، وهو مثلُ الغمص. قوله: (ومن قرأ: (يُدَافِعُ))، كلهم سوى ابن كثير وأبي عمرو. قوله: ((أُذِنَ) و (يُقَاتَلُونَ) قُرئا على لفظ المبنى للفاعل)، نافعٌ وعاصمٌ وأبو عمرو:

أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة (يقاتلون) عليه. (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أى بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: "اصبروا فإنى لم أومر بالقتال"، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والأخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مرّ من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضا. (أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أُذِنَ لِلَّذِينَ) بضم الهمزة، والباقون: بفتحها. نافعٌ وابن عامر وحفصٌ: (يُقَاتَلُونَ) بفتح التاء، والباقون: بكسرها. قوله: (وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً)، في هذا إشعارٌ بأن قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) وما بعدها متصلٌ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، والآيات الواردة في بيان شعائر الحج ومناسكه تفصيلٌ وتوضيحٌ لقوله: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) على سبيل الاستطراد مزيداً لتهجين فعلهم وتصوير قُبحهم؛ لأنه كلما ازداد ما صُدَّ عنه تعظيماً يزدادُ قبحُ الصدِّ والمنعُ، وبه يتقوى مذهب الشافعي وهو أن المراد بالتسوية في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) التسوية في أعمال الحج ومناسكه. قوله: (عدةٌ منه بالنصر، واردةٌ على سنن كلام الجبابرة)، أي: عدةٌ منه بالنصر جازمةٌ قاطعةٌ؛ لأنه من ديدنهم وأوضاع أمرهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها أن يقولوا: عسى ولعل، ونحوهما من الكلمات، أو يُخيلوا إخالةً أو يُظفر منهم

يَقُولُوا) في محل الجرّ على الإبدال من (حَقٍّ) أى بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ)] المائدة: 59 [. "دفع الله بعض الناس ببعض": إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالرمزة، فإذا عُثرَ على شيءٍ من ذلك لم يبق للطالب ما عندهم شكٌ في النجاح والفوز بالمطلوب، قاله في أول البقرة، فعلى هذا أصلُ الكلام: قاتلوا الذين ظلموكم وإني أنصركم البتة، فعدل إلى لفظ العظمة والكبرياء بقوله: (أُذِنَ) لما عُلم أن الآذن في مثل هذا الخطاب من هو؟ وقيل في جانب المظلوم: (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) كأنه لا يريدُ المخاطبين، يعني: لمن هذا شأنه وعادتُه، ثم قيل: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إن شاء نصرهم، وعسى أن يفعله، ولا يُعدمُ من كرمه ولطفه ذلك، وعلى هذا قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)؛ لعدم التصريح وإخراج الكلام على التعريض وإليه الإشارة بقوله: "وما مر من دفعه عن الذين آمنا يؤذن بمثل هذه العدة". قوله: (ومثله: (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ)، [المائدة: 59] يريدُ أنه من باب قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب قوله: (أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، عطف على قوله: "لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة"، فعلى الأول: المرادُ بالمشركين: العمومُ، كما أن المراد بالمسلمين في قوله: "وتسليطهُ المسلمين" للتعميم.

المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: "دفاع". و"لهدمت": بالتخفيف. وسميت الكنيسة «صلاة» لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانية: صلوثا (مَنْ يَنْصُرُهُ) أى ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من الله عز وجل بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضى الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضى الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء. يريد: أنّ الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين، لأنّ الله لم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "دفاعُ")، قرأها نافعٌ وابن كثير. قوله: (يريد أن الله أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا)، وذلك أن قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) الآية بدلٌ من (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)، وهو من قوله: (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ)، وكان ذلك وارداً على سنن الوعد للمهاجرين الذين أُخرجا من ديارهم بغير حق بما سيكون من نصرهم على من ظلمهم، فيكون تمكنهم في الأرض الذي هو سبب تمدحهم بقوله: (أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ) ثناء قبل بلاء، وأما إتيانُ "إنْ" الشرطية في قوله: (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) فمن قبيل عسى ولعل من أمثال الجبابرة في المواعيد كما مر آنفاً، الله أعلم. قوله: (فيه دليلٌ على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم)، يعني: أدمج هذا المعنى في إبدال (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) الآية. قال الإمامُ: إن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض فإنهم يأتون بالأمور الأربعة؛ وهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد ثبت ذلك في الأئمة الأربعة. فإذا ثبت ذلك، وجب أن يكونوا على الحق، ولا يجوزُ حملُ الآية على أمير المؤمنين عليٍّ وحده كرم الله وجهه؛ لأن الآية دالةٌ على الجمع.

يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل (الَّذِينَ) منصوب بدل من قوله (من ينصره). والظاهر أنه مجرور، تابع (للذين أخرجوا) (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم. [(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ* وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)]. يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدى في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة. فإن قلت: لم قيل (وَكُذِّبَ مُوسى) ولم يقل: "قوم موسى"؟ قلت: لأنّ موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والطُّلقاء)، النهاية: همُ الذين خلَّى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهُ: طليقٌ، فعيلٌ بمعنى مفعول، وهو الأسيرُ إذا أطلق سبيله، ومنه الحديث: "الطلقاءُ من قريش، والعتقاءُ من ثقيف"، ميز القُرشيَّ حيث هو أكرم من ثقيفٍ. قوله: (وكُذِّبَ موسى أيضاً مع وضوح آياته)، يريد أنه تعالى ما نظم موسى عليه السلام في سلك ما تقدم من ذكر الأنبياء عليهم السلامُ وتكذيبه من بل كرر له الفعل وأتى

النكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا. [(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) 45]. كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» و"الخاوي": الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل. وقوله (عَلى عُرُوشِها) لا يخلو من أن يتعلق ب (خاوية)، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أى خرّت سقوفها على الأرض، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به مجهولاً؛ ليؤذن باستقلاله وعظم شأنه، والمقصود حصول تكذيب مثله مع جلالته فكيف بمن دونه؟ قوله: (النكيرُ: بمعنى الإنكار والتغيير)، الأساس: وقد نكرالأمر نكارةً: صار منكراً، ونكرتُه فتنكر: غيرته، وتنكر لي فلانٌ: لقيني لقاء بشعاً، وعن أبي سفيان: أن محمداً لم يُناكر أحداً إلا كانت معه الأهوالُ، وأصابهم من الدهر نكراءُ: شدة. قوله: (أو أنها ساقطة أو خاليةٌ مع بقاء عروشها وسلامتها)، قال صاحب "التقريب": وفي سلامتها على تفسيرها بساقطةٍ نظرٌ، فلعل لفظة الساقطة سهوٌ من الناسخ وتفسرُ بخالية لا غيرُ، والمرادُ: سقوط الجدران عليها. وقلتُ: لا يرد إذا عرف وجه التقسيم؛ لأن بناء التقسيم على أن "الخاوي" بمعنى الساقط، أو بمعنى الخالي، و (عَلَى عُرُوشِهَا) إما ظرفٌ لغوٌ أو مستقرٌ، فقوله: "أو خاليةٌ مع بقاء عروشها" عطفٌ على "ساقطةٌ على سقوفها"، وقوله: "أو أنها ساقطة" عطفٌ على"أنها ساقطةٌ على سقوفها" أيضاً، المعنى: لا يخلو (عَلَى عُرُوشِهَا) من أن يتعلق

أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها أى قائمة مطلة على عروشها، على معنى أنّ السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب أعنى (وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بـ (خَاوِيَةٌ)، أو يكون خبراً بعد خبر، وعلى الأول لا تخلو (خَاوِيَةٌ) من أن تكون بمعنى ساقطة، أو خالية، وعلى أن تكون بمعنى ساقطةٍ لا يخلو: إما أن يُعتبر فيه معنى الاستعلاء، فهو المراد من قوله: "خرت سُقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف"، أو أن تُجعل خاليةٌ، أي: ساقطة كناية عن مطلق الخراب كما كنى بقوله: (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف: 149] عن الندم مُطلقاً، وهو المرادُ من قوله: "أو أنها ساقطةٌ"، فعلى هذا "عروشُها" متعلقٌ بها تعلق الخالية، كأنه قيل: وهي خربةٌ مع عروشها، وعلى الثاني أن يكون خبراً بعد خبر: (خَاوِيَةٌ) إما بمعنى: ساقطةٌ أو خالية، فاعتبر معنى الثاني بقوله: "كأنه قيل: هي خاليةٌ وهي على عروشها" دون الأول لما عُلمَ من قوله: "خرتْ سُقوفُها على الأرض" هذا المعنى، فاندفع بقولنا: "أو خاليةٌ مع بقاء عروشها" عطفٌ على "ساقطةٌ على سقوفها" النظرُ الذي أورده صاحبُ "التقريب". قال القاضي: والجملةُ - أي: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) - معطوفةٌ على (أَهْلَكْنَاهَا) لا على (وَهِيَ ظَالِمَةٌ)؛ فإنها حالٌ، والإهلاكُ ليس حال خرابها فلا محل لها إن نصبت (فَكَأَيِّنْ) بمقدرٍ يفسره (أَهْلَكْنَاهَا)، وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفعُ، وكذا عن أبي البقاء. قوله: (مُطلةٌ على عروشها)، بالطاء غير المعجمة، وهي مُعدى بـ "على"، أي: أوفى عليه بطلله، أي: شخصه. و"أظل" بالظاء المعجمة مُعدى بنفسه. وفي الحديث: "قد أظلكُم شهرٌ عظيم".

قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محلّ لها لأنها معطوفة على (أهلكناها)، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن: "معطلة"، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أى: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. و"المشيد": المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة "معطلة" عليه. وفي هذا دليل على أنّ (عَلى عُرُوشِها) بمعنى «مع» أوجه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا الفعل ليس له محل)، قال بعضهم: لأنه استئنافٌ تقديره: أهلكنا كثيراً من القُرى أهلكناها إضماراً على شريطة التفسير، هذا إذا كان "كأين" منصوبَ المحل، فأما إذا كان مرفوع المحل على الابتداء، فـ (أَهْلَكْنَاهَا) في محل الجر، لأنها صفة (قَرْيَةٍ)، وهذه الجملة أيضاً؛ لأنها معطوفةٌ على تلك، كما ذكر في المتن. قوله: (و"المشيد": المجصصُ أو المرفوعُ البُنيان)، قال الزجاجُ: أكثر ما جاء في (مُشَيَّدَ) في التفسير: مجصص، والشيد: الجص، والكلسُ أيضاً: شيد، وقيل: مشيد: محصنٌ مرتفعٌ في سُمكه، والمشيد: إذا قيل: مجصصٌ فهو مرتفعٌ في قدره وإن لم يرتفع في سمكه، وأصلُ الشيد: الجصُّ والنورةُ، وكل ما بُني بهما أو بأحدهما فهو مشيد. يعني: إذا قيل للبناء المرتفع: مشيد، كان كنايةً. قوله: (وفي هذا دليلٌ على أن (عَلَى عُرُوشِهَا) بمعنى "مع" أوجهُ)، يعني: تفسيرنا قوله: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) خالية مع بقاء عروشها وسلامتها أولى من تفسيرنا أنها ساقطةٌ؛ ليناسب قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)؛ لأن المراد: أخليناه عن ساكنيه

روي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأنّ صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها «حاضوراء» بناها قوم صالح، وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرّب قصورهم. [(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) 46]. يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ "فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ" بالياء، أي: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى (فَإِنَّها) الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود: "فإنه". ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره (الْأَبْصارُ) وفي (تعمى) ضمير راجع إليه. والمعنى: أنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنها باقيةٌ. قال أبو البقاء: (وَبِئْرٍ) معطوفة على (قَرْيَةٍ). قوله: (حضرموت) المغرب: هي بلدةٌ صغيرةٌ في شرقي عدن. قوله: (وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك، ولكن لم يعتبروا)، معنى: الفاء في (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يقتضي معطوفاً عليه وهو إما الكلام السابق، والهمزةُ دخلت بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، أي: كأين من قرية أهكلناها فهي ظالمةٌ فلم يسيروا في الأرض فيعتبروا. وإليه الإشارة بقوله: "ولن لم يعتبروا فجُعلوا كأن لم يسافروا"، أو الفاءُ عطفٌ على مُقدر، والهمزةُ على أصلها في صدر الكلام، أي: أتقاعدوا في الأرض فلم يسيروا فيها ليعتبروا.

أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتدّ بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الصدور؟ قلت: الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: "ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك"، فقولك «الذي بين فكيك» تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا منى، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا. [(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) 47 - 48]. أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوّزون الفوت، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (احتاج هذا التصوير على زيادة تعيين، وفضل تعريف)، قال الزجاجُ: جرى هذا على التوكيد كما في قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران: 167]، وقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) [الأنعام: 38]، وقلتُ: التوكيدُ في (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) لتقرير معنى الحقيقة، وأن المراد بالطير: المتعارفُ، وفي (تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) لتقرير معنى المجاز، وأن العمى مكانه القلبُ البتة، وإليه الإشارة بقوله: "فلما أريد إثباتُ ما هو خلافُ المعتقد، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين". قوله: (وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخُلفُ)، أي: إنما يجوزُ الفوتُ على من

والله عز وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين، وهو سبحانه حليم لا يعجل، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أنّ يوما واحدا عنده كألف سنة «1» عندكم. وقيل: معناه كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم، لأنّ أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنى العذاب. وقيل: ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ: (تعدون)، بالتاء والياء، ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون في ميعاده الخلف، ومنه قولهم: إنما يعجلُ من يخشى الفوت. قوله: (ومن حِلمه ووقاره)، الانتصاف: الوقارُ يفهم منه لغةً: سكون الأعضاء وطمأنينتها عند المزعجات، ولا يجوز إطلاقه على الله كالأناة التؤدة، وأما قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) [نوح: 13] فهو مفسرٌ بالعظمة، فليس من هذا. وقلتُ: وهذا مبنيٌ على أن أسماء الله توقيفيةٌ، وأنه لا يجوز أن يُستعمل الوقار إلا في العظمة؛ لما ورد، وإلا فلا يجوز ذلك أيضاً. قوله: (أن يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم)، يعني: قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) إما محمولٌ على القصر، وهو إنما يكون بالنسبة إلى الله تعالى، وهو المراد من قوله: "إن يوماً واحداً عنده كألف سنة عندكم"، فالمدة الطويلة عنده قصيرةٌ؛ لأنه لا يعجل كما تعجلون أو على الطول، وإنما يعجل من يخشى الفوت، وهو بالنسبة إلى العبد، فإن أيام الشدائد مستطالةٌ، فاليومُ القصيرُ عنده طويل، وهو المراد من قوله: "يوم واحدٌ من أيام عذابه كألف سنةٍ عندكم". قوله: (وقرئ: (تَعُدُّونَ)، بالياء والتاء"، بالياء التحتاني: ابن كثير وحمزةُ الكسائي، والباقون: بالتاء.

مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إلىّ وإلى حكمى. فإن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلا عن قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وأمّا هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعنى قوله (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأولى وقعت بدلاً عن قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين)، قال صاحب "الفرائد": أراد أن مجموع قوله: (فَكَأَيِّنْ) إلى آخره حكمه حكم (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) في أنه كان متعقباً لما تقدمه حتى لو لم يكن قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) صلح أن يكون هذا في مكانه. وقلتُ: الفرقُ بينهما أن قوله: (فَكَأَيِّنْ)، إلى آخره، متعقبٌ بجملة ما تقدمه؛ لأن إهلاك الجماعة المذكورين من قوله: (نُوحٍ وَعَادٌ) إلى قوله: (وَكُذِّبَ مُوسَى) إهلاك كثير، فمعنى "كأين إلى آخره من لوازم ما تقدم فكان متعقباً له، فوجب أن يكون بالفاء بخلاف قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا) إلى آخره؛ لأن ما قبله لم يستلزمه، فيجب أن يكون بالواو، وليفيد اجتماعهما في الحصول. تم كلامُ صاحب "الفرائد". وقلتُ: "ثم" في قوله: (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) في الآية السابقة لعطفِ (أَخَذْتُهُمْ) على (أَمْلَيْتُ)، وكلاهما مسببان عن تكذيب القوم الرسل، والفاء في (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) للعقيب لا غير، فإنه عقب قوله: (أَخَذْتُهُمْ) بما يُستحضر للسامع مما يتعجب له من الاستفهام عن حال تلك الأخذة، وهو أيضاً منهم، فعقب بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية ليكشفه كشفاً تاماً، أو يبدل منه إيضاحاً كما قال، وأما قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) بالواو فمنسوقةٌ على قوله: (لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)، والمعنى: كيف يستعجلونك بالعذاب والحالُ أنه لابد أن يصيبهم ما وعد

[(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)]. يقال: سعيت في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه: سابقه، لأنّ كل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ربُّك، وإن ذلك عن قريب، أو أن الموعود شديدٌ مُرُّ المذاق، وأن سنة الله في الإنظار ثم الاستئصال جاريةٌ في الأمم الخالية، فماذا يستعجلُ منها المجرمون؟ هذا، وإن المصنف رحمه الله تعالى ما ذهب إلى الحال، بل إلى العطف على إنكار العلم بوجود الجمل الأربع وحصولها، أي: أخبر عن استعجالهم العذاب، وعن أن الله تعالى لا يُخلفُ وعده، وعن أنه حليمٌ لا يعجل، وعن أن لهم أسوة بالأمم السالفة الظالمة إذا لم يعتبروا بها، ثم استدعى الإنكار من السامع على من يجمع في علمه ذلك كله، وإليه الإشارة بقوله: "كأنهم يجوزون الفوت" إلى آخره، ويجوز أن يكون (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) معترضاً بين الحال وعاملها. قوله: (وعاجزه: سابقه)، الأساس: طلبته فأعجز وعاجز: إذا سبق فلم يُدرك. الراغب: عجزُ الإنسان: مؤخره، وبه شبه مؤخر غيره، قال تعالى: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) [القمر: 20]، والعجز أصله: التأخر عن الشيء، وحصوله عند عجزِ الأمر، أي: مؤخره كما ذُكر في الدبر، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة، قال تعالى: (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)، وأعجزت فلاناً، وعجزتُه، وعاجزتُه، قال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) [العنكبوت: 22]، (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) [سبأ: 5]، وقرئ: "معجزين"، فـ (مُعَاجِزِينَ). قبل: معناه: ظاهرين، ومُقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نُشور، فيكون ثوابٌ وعقابٌ، وهذا في قوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا) [العنكبوت: 4]، ومعجزين: ينسبون من تبع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العجز، وذلك نحو: جهلتُه، وقيل: يعني: مثبطين، أي: مثبطين الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله

واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها، حيث سموها: سحرا وشعرا وأساطير، ومن تثبيط الناس عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. فإن قلت: كأن القياس أن يقال: إنما أنا لكم بشير ونذير، لذكر الفريقين بعده. قلت: الحديث مسوق إلى المشركين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأعراف: 45] والعجوزُ سُميت لعجزها عن كثير من الأمور. قوله: (سابقين)، هو حال من فاعل (سَعَوْا) في معناها، على أن (مُعَاجِزِينَ): مُغالبينَ معاندين؛ لأن المغالبة حينئذٍ للمبالغة، ولهذا قال: "سموها سحراً وشعراً وأساطير، وثبطوا الناس عنها"، وقوله: "أو مُسابقين" على معناها: ظانين مقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم، فالمبالغة على حقيقتها. قال محي السُّنة: قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: معجزين، بالتشديد، أي: مثبطين الناس عن الإيمان، والباقون: معاجزين بالألف، أي: معاندين مشاقين. وقال قتادة: ظانين مقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نُشور ولا جنة ولا نار. وقيل: معاجزين، يريد كل واحدٍ أن يُظهر عجز صاحبه. قوله: (كان القياس أن يُقال: إنما أنا لكم بشيرٌ ونذير)، لأن قوله: يا أيها الناسُ، شاملٌ للمشركين والمؤمنين، على أنه فصل بقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا)، (وَالَّذِينَ سَعَوْا) ليبشر المؤمنين، ويُنذر الكافرين. قوله: (الحديث مسوقٌ إلى المشركين)، وذلك أنه تعالى لما قال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) وبين كيفية ظُلمهم بقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)، وبقوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ)، وبقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أمر نبيه صلواتُ الله عليه بأنْ يُنذرهم العذاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) إلزاماً للحجة، وإزاحةً للعلة، ثُم شرع في مقاتلتهم، ولما كان الإحسان إلى المؤمنين مما يغمهم ويغيظهم، كان داخلاً - بهذا الاعتبار - في معنى التخويف والإنذار. وقلتُ: ويمكنُ أن يقال- والله أعلم-: إن الآية واردةٌ لبيان ما يترتبُ على الإنذار من انتفاع من قبله، وهلاك من رده، فكأنه قيل: أنذر يا محمدُ هؤلاء الكفرة وبالغ فيه، فمن قبل منك وآمن فله الثواب، ومن دام على ما كان في إبطالٍ ما جئت به وسعى فيه فقد أديتَ حقك فقاتلهم ليُعذبهم الله تعالى في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالجحيم، فلا يكونُ ذكرُ المؤمنين لاغتمامهم. ويعضد هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثلُ ما بعثني الله به كمثل رجلٍ أتى قومه فقال يا قوم، إني رأيتُ الجيش بعيني، وأنا النذيرُ العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفةٌ من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفةٌ منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثلُ من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق". وقريبٌ من هذا المعنى ما ذكره الإمام وقال: نه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده ما يكون منهم من استعجال العذاب على سبيل التهكم، وأردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم؛ لأن المنذر إنما يكون منذراً إذا قرن الوعد بالوعيد. وقلتُ: ويؤيد هذا التقرير قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) يعني: ينبغي لك أن تعزم على الإنذار وتديمه، ولا يلحقك فتورٌ لا من قبل شياطين الإنس،

و (يا أيها الناس): نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا. [(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)]. (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» «1». والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبىّ غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهم المشركون، من تكذيبهم واستهزائهم، ولا من قبل شياطين الجن وإلقائهم الوسوسة إليك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. النهاية: "أنا النذير العُريان"، خص العُريان؛ لأنه أغربُ وأشنعُ عند المبصر، وذلك أن ربيئة القوم وعينهم يكون على مكان عال، فإذا رأى العدو قد أقبل نزع ثوبه وألاح به لينذر قومه، ويبقى عرياناً. قوله: (مئة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفاً)، روينا في مسند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، عن أبي أمامة، قال أبو ذر: قلتُ: يا رسول اله، كم وفاءُ عدة الأنبياء عليهم السلام؟ قال: "مئة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفاً، الرسلُ من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر جما غفيراً". قوله: (أن الرسول من الأنبياء عليهم السلام: من جمع إلى المعجزات الكتاب ... والنبي ... : من لم يُنزل عليه كتابٌ)، قال الإمامُ: الأولى أن من جاءه الملك ظاهراً، أو أمره بدعوة الخلقِ

والسبب في نزول هذه الآية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو رسولٌ، ومن رأى في النوم أو أخبره رسولٌ بأنه نبيٌّ فإنه نبيّ، لما يلزمُ من ذلك القول: إن إسحاق ويعقوب وأيوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السلام لم يكونوا رسلاً. وقال القاضي: الرسول: من بعثه الله بشريعةٍ مجددة، يدعو الناس إليها، والنبي يعمه، وهو: من بعثه الله لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام، فهو نبيٌّ. قوله: (والسببُ في نزول هذه الآية) إلى آخره، قال القاضي: وهو مردودٌ عند المحققين، وإن صح فابتلاؤه ليتيمز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه. وقال الإمام الداعي إلى الله: هذه الرواية باطلةٌ موضوعة، ويدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ والمعقول. أما الكتابُ فقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة: 44 - 46]، وقوله: (َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]، فلو أنه صلى الله عليه وسلم قرأ عقيبها: تلك الغرانيق العُلى، لكان قد ظهر الخلفُ في الحال، وهذا لا يقوله مسلمٌ، وقوله تعالى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) [الفرقان: 32] وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى) [الأعلى: 6]. وأما السنة فما رُوي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة قال: إنها من وضع الزنادقة، وصنف فيه كتاباً. وقال الإمامُ أبو بكرٍ البيهقيُّ: هذه القصة غيرُ ثابتةٍ من جهة النقل، ثم أخذ يتكلمُ في أن رُواة هذه القصة مطعونون، وقد روى البخاري في "صحيحه": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (وَالنَّجْمِ) وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنسُ"، وليس فيه حديث الغرانيق. ورُوي هذا الحديث من طُرقٍ كثيرةٍ وليس فيها حديث الغرانيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والدارمي والنسائي، عن ابن عباس وابن مسعود، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (وَالنَّجْمِ) فسجد فيها وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو ترابٍ فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا". وروى البخاري أيضاً والترمذي، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وتتبعتُ "جامع الأصول" أجمع، وأكثر "مسند الإمام أحمد"، وما عثرتُ على هذه الرواية من شيء. وأما محيي السنة فقد رواه في "المعالم" من غير طريق المحدثين، والله تعالى أعلم. روى الشيخ محيي الدين في "شرح صحيح مسلم" عن القاضي عياض: أنه قال: ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجدة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين في "النجم" هو ما جرى على لسانه صلى الله لعيه وسلم من الثناء على الأصنام: فباطلٌ لا يصح فيه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل؛ لأن مدح إله غير الله كفرٌ، ولا يصحُّ نسبةُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقوله إلى الشيطان على لسانه، إذ لا يصحُّ تسليطُ الشيطان على ذلك. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب "قصص الأتقياء": الصواب: أن قوله تلك الغرانيق العُلى، من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأرقاء الدين؛ ليرتابُوا في صحة الدين القويم، وحضرةُ الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية، والله أعلم. وأما المعقولُ فكثيرةٌ، منها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان ولبطل قوله: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، فإن الزيادة في الوحي كالنقصان فيه، وقولُ من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان قومه أدخل هذه الكلمة من نفسه ثُم رجع عنها: مردودٌ لا يرغبُ فيه مسلمٌ، لما يلزمُ من الخيانة في الوحي، والعياذُ بالله تعالى منها. ومن قال: إنه سهوٌ وسبقٌ للسان، أيضاً كذلك، لزوال الوثوق، ولأن الساهي لا يقعُ منه مثلُ هذه الألفاظ المسموعة المطابقةٍ لألفاظ السورة. وقول القائل: إنه تكلمَ الشيطانُ بذلك، أيضاً مردودٌ؛ لاحتمال أمثاله في سائر كلامه، ولقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 99]. وإذا بطل هذا فنقول: التمني جاء على وجهين، أحدهما: تمني القلب، قال أبو مسلم: التمني: التقديرُ، وتمني: تفعل، من: منيتُ، ومني لك: قدر لك. وثانيهما: القراءة، قال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) [البقرة: 78]، ولأن الأمي لا يعلمُ القرآن من المصحف، وإنما يعلمه قراءةً، قال حسان: تمنى كتاب الله أول ليلةٍ ... وآخرها لاقى حمام المقادر وهذا أيضاً فيه معنى التقدير، فإن التالي مقدرٌ للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً. وإذا قُلنا: إن التمني بمعنى القراءة، فمعنى الآية: قرأ ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ويشتبه القارئ، دون ما رواه، وهذا هو الظاهر، لقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وإذا قُلنا: إنه بمعنى تمني القلبِ، فالمرادُ: إذا أراد فعلاً تقرباً إلى الله تعالى ألقى

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم»] النجم: 1 [وهو في نادى قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)] النجم: 20 [: (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) التي تمناها، أى: وسوس إليه بما شيعها به، فسبق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيطانُ في فكره ما يخالفه فيرجعُ إلى الله تعالى في ذلك فيرفعُ اللهُ تعالى ذلك الغلط وتلك الوسوسة عن القلب، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201]، وقال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) [الأعراف: 200]، وقال تعالى: (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة: 214]، وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ) [يوسف: 110]. وروى صاحب "المطلع" عن جمهور مشايخه ما يقرب من هذه الكلمات كلها إلى آخرها. وقال السجاوندي: كل نبي يتمنى إيمان قومه فيُلقي الشيطانُ في أمنيته بما يوسوس إلى النبي بالخطرات المزعجة عند تباطؤ القوم عن الإيمان، أو تأخر نصر الله، وإن ثبت تلك الغرانيق العُلى، منها الشفاعةُ ترتجى، على أنه خرج مخرج الكلام على زعمهم، أو على الإنكار. قوله: (بما شيعها به)، أي: بالذي شيع الشيطان الأمنية به، أي: أتبعها به. يقال: حياكم الله وأشاعكم السلام، أي: جعله صاحباً وتابعاً، والباءُ: باء الآلة. الراغب: التمني تقدير شيء في النفس، وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن لا عن رؤية وبناء على أصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين وظن صار الكذبُ له أملك، فأكثر التمني تصورُ ما لا حقيقة له، قال تعالى: (أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى) [النجم: 24]، والأمنيةُ: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. ولما كان الكذبُ: تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ، صار

لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجى. وروى: "الغرانقة"، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه. وقيل: نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء، زاد المنافقون به شكا وظلمة، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى: أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك، إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التمني كالمبدأ للكذب فصح أن يُعبر عن الكذب بالتمني، وعلى ذلك ما رُوي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "ما تغنيتُ ولا تمنيتُ منذ أسلمتُ"، وقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ) [البقرة: 78] قال مجاهدٌ رضي الله عنه: معناه: إلا كذباً. وقال غيره: إلا تلاوة مجردة عن المعرفة من حيث إن التلاوة بلا معرفة معنى تجري عند صاحبها مجرى أمنيةٍ تمنتها النفسُ على التخمين، وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: في تلاوته. وقد تقدم أن التمني كما يكون عن تخمين وظن، فقد يكونُ عن رؤية وبناءٍ على أصل، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه: 114]، سمى تلاوته على ذلك تمنياً، ونبه أن للشيطان على مثله تسلطاً في أمنيته، وذلك من حيث بين أن العجلة من الشيطان. قوله: (تلك الغرانيقُ)، النهاية: الغرانيقُ هاهنا الأصنام، وهي في الأصل: الذكور من طير الماء، واحدها غرنوقٌ وغرنيقٌ، وسمي به لبياضه، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.

يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل "تَمَنَّى": قرأ. وأنشد: تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ... تمنّى داود الزّبور على رسل و"أمنيته": قراءته. وقيل: "تلك الغرانيق": إشارة إلى الملائكة، أى: هم الشفعاء لا الأصنام (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى يذهب به ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) أى يثبتها. [(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)]. والذين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون والشاكون (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المشركون المكذبون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يريد: وإن هؤلاء المنافقين والمشركين. وأصله: "وإنهم"، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على رسلِ)، النهاية: كان في كلامه ترسيلٌ، أي: ترتيلٌ، يقالُ: ترسل الرجلُ في كلامه ومشيه، إذا لم يعجل، ومنه حديث عمر رضي الله عنه: "إذا أذنت فترسل"، أي: تأنَّ ولا تعجل. قوله: (وأصله: "وإنهم"، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاءً عليهم بالظلم)، أي: إن المنافقين بتلك الفتنة واضعون الشيء في غير موضعه، وهم فيه في شقاق بعيد، وكذلك (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أصله: وإن الله لهاديهم، فقوبل

(أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء: هو الحق من ربك والحكمة (وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) إِلى أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزلّ أقدامهم. وقرئ: "لهاد الذين آمنوا"، بالتنوين. [(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَاتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)]. الضمير في (مِرْيَةٍ مِنْهُ) للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. "اليوم العقيم": يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (الظَّالِمِينَ) بـ (الَّذِينَ آمَنُوا)، وقوله: (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) بقوله: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). قوله: (الضمير في (مِرْيَةٍ مِنْهُ) للقرآن، أو للرسول صلى الله عليه وسلم)، ويجوز أن يكون لـ (مَا يُلْقِي)، وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) وُضع موضع المضمر، أي: لا يزالون في مريةٍ وهم الشاكون الذين في قولهم مرضٌ، بدليل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون والشاكون. قوله: (وإنما وُصف يوم الحرب بالعقيم)، إلى آخره، علل تفسير وصف اليوم بالعقيم على وجوه. أحدها: أنه على الإسناد المجازي، أسند العقيم إلى اليوم، لكونه صفته، على نحو قوله تعالى: (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) [المزمل: 17]. أصله: يجعلُ الله الولدانَ في ذلك اليوم شيباً، فالمعنى: يومٌ يعقم الله النساء فيه، أي: يصرن ثكلى، فأسند "العقيم" إلى "اليوم" مبالغةً، كقولك: نهاره صائم، وليله قائم، ولما أن العقيم بمعنى ثكلى في هذا الوجه قيل: "كأنهن عقمٌ". وثانيها: أنه من باب الاستعارة المكنية، فالمستعارُ له اليومُ، والمستعارُ منه المرأة، والجامعُ: فقدانُ النتيجة، وكما أن المرأة إذا فقدتِ الولدَ وُصفت بالعقم، أي: الثكل، كذلك اليوم إذا فُقِدَ فيه المحاربونَ يوصفُ بالعُقْم كأنهُ أمُّهم، ومثلُه قولهم: ابنُ اليوم، وأبناءُ

يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل: هو الذي لا خير فيه. يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزمان، وأبناءُ الحرب، والاستعارةُ واقعةٌ في اليوم بأن شبه اليوم بالمرأة في فقدان، مشتملةً تشبيهاً بليغاً، ثم توهم أن اليوم هي المرأة على سبيل التخييل، ثم أطلق اليوم الذي هو اسم المشبه، وأريد به اليوم المتخيل، والقرينة نسبةٌ العقيم إليه. وثالثها: أنه من التبعية، فالمستعارُ منه ما في المرأة من الصفة التي تمنعُ من الحمل، والمستعارُ له ما في اليوم من عدما لخير، فشبه عدم الخير بمنع الحمل، ثم سرى من المصدر إلى الصفة المشبهة، كقول قوم شعيب عليه السلام: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87]، فالاستعارةُ واقعةٌ في العقيم. ورابعها: أن يُكنى بمجموع قوله: (يَوْمٍ عَقِيمٍ) عن شدته وفظاعته، كما يُقال: إن النساء بمثله عقيمٌ. قال الحماسيُّ: عقم النساءُ أن يلدن بمثله ... إن النساء بمثله لعقيمُ والضميرُ في "لا مثل له" و"أمره": للعذاب، وفي "فيه": لليوم.

الضحاك أنه يوم القيامة، وأن المراد بالساعة مقدّماته. ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم: يوم القيامة، وكأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها، فوضع (يَوْمٍ عَقِيمٍ) موضع الضمير. [(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) 56 - 57]. فإن قلت: التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عن أى جملة ينوب؟ قلت: تقديره: الملك يوم يؤمنون. أو يوم تزول مريتهم، لقوله (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ). [(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) 58 - 59]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لقوله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمْ السَّاعَةُ)، يعني: دل على تقدير "يؤمنون" تارةً، وأخرى "تزول مريتهم": هذه الآية؛ لأن الصلة مشتملةٌ على الكفر وعلى المرية، فإذا جُعل المُغيا ما دل عليه الأول، قُدرَ "يؤمنون"، وإذا جُعل ما دل عليه الثاني قُدر: "تزولُ مريتهم". قال القاضي: التنوين في (يَوْمَئِذٍ) ينوبُ عن الجملة التي دلت عليه الغاية، والضميرُ في (يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يعُمُّ المؤمنين والكافرين؛ لتفصيله بقوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وإدخالُ الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيهٌ على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضلٌ من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسببٌ من أعمالهم، ولذلك قال: (لَهُمْ عَذَابٌ) ولم يقل: فأولئك في عذابٍ، كما قال: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

ما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل تفضلا منه وإحسانا. والله عليهم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم. (حَلِيمٌ) عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم قالوا: يا نبى الله، هؤلاء قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين. [(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) 60]. تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث إنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تسميةُ الابتداء بالجزاء)، المراد بالابتداء قوله: (عُوقِبَ بِهِ)، وبالتسمية: تسميته عقاباً؛ لأن ابتداء الفعل لا يسمى عقاباً؛ لأن العقاب من العقب، وهو أن يعقب الفعل الأول، ونحوه قولهم: كما تدين تُدان، كما تُجازي تُجازَى، أي: كما تفعلُ تُجازي. قال الزجاجُ: الأولُ لم يكن عقوبةً، وإنما العقوبةُ: الجزاءُ، ولكنه سُمي عقوبةً؛ لأن الفعل الذي هو عقوبةٌ كان جزاء، فسمى الأول الذي جُوزي به عقوبةً؛ لاستواء الفعلين في جنس المكروه، كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [الشورى: 40]، فالأول سيئة، والمجازاةُ عليها حسنةٌ، إلا أنها سميت سيئةً بأنها وقعت إساءة بالمفعول به؛ لأنه فعل به ما يسوؤه.

فإن قلت: كيف طابق ذكر "العفوّ الغفور" هذا الموضع؟ قلت: المعاقب مبعوث من جهة الله عزّ وجلّ على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني - على طريق التنزيه لا التحريم - ومندوب إليه، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب، ولم ينظر في قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)] الشورى: 40 [، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)] التقوى: 237 [، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43]. (فإنّ الله لعفو غفور)، أى: لا يلومه على ترك ما بعثه عليه، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويعرّض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوّح به بذكر هاتين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المعاقِبُ مبعوثٌ)، بكسر القاف، أي: موصى بالعفو. الأساس: بعثهُ على الأمر، وتواصوا بالخير، وتباعثوا عليه، يعني: حمله الله تعالى على العفو، وندبه إليه، فحين ترك المندوب إليه كأنه مذنبٌ، لكنه تعالى لا يأخذه به؛ لأنه عفوٌّ غفور. قوله: (فـ (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ))، جوابٌ لقوله: "فحين لم يؤثر ذلك"، وهذا يؤذنُ أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) خبرُ "من عاقب"، وفي الكلام تقديمٌ وتأخير، أي: من عاقب بمثل ما عوقب به إن الله لعفوٌ غفور، أي: لا يلومه على ترك الأفضل، ثم إذا بُغي عليه أي: على المظلوم المعاقب في الكرة الثانية لينصرفه الله على الظالم. قوله: (من إخلاله)، قيل: هو بيان "ما بعثه"، وقيل: هو متعلقٌ بـ"الثانية"؛ أي: أنه أخل بالعفو كرتين، فهذه الكرةُ هي الكرةُ الثانيةُ من إخلاله بالعفو، وليس بشيء، وقيل: هو متعلقٌ بقوله: لعفوٌ، أي: لعفوٌّ من إخلاله: ويجوزُ أن يكون بياناً لقوله: "ترك ما بعثه عليه" أي: لا يلومه على إخلاله بالعفو. قوله: (ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويُعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو)، أي: يكون (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ) متصلاً بقوله: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) على بيان

الصفتين. أو دلّ بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه. [(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) 61]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموجب، وعلى هذا (لَيَنصُرَنَّهُ): خبرُ "مَنْ" كما قاله أبو البقاء وصاحبُ "الكشف"؛ فإنه تعالى لما قال: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ)، اتجه لسائل أن يسأل: لماذا ينصره؟ قال: لأن الله لعفو غفور، وكان من الظاهر أن يقال: إن الله ينصر المظلومين، فعرض بهاتين الصفتين على سبيلا لكناية التلويحية؛ لأنه أشار إلى المطلوب من بُعد، يعني: أنه تعالى مع كمال قدرته وغلبة سلطانه لما كان متصفاً بهذين الوصفين، كان من الواجب على المعاقب مع عجزه التخلقُ بأخلاق الله تعالى من العفو عن الجاني، وإليه الإشارة بقوله: "يلوح به بذكر هاتين الصفتين". قوله: (أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادرٌ)، هذا أيضاً، على أن يكون (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ) تعليلاً للموعد بالنصرة، كأنه قيل: لينصرنه الله؛ لأنه قادرٌ على النصرة فيعاقبُ الظالم. قال الإمام: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن قتالهم، لحرمة الشهر، فأبوا فقاتلوهم فثبت المسلمون فنُصروا، فوقع في أنفسهم من القتال في الشهر الحرام، فأنزل الله الآية. فعلى هذا لا يردُ سؤالُ كيفية المطابقة، ويكونُ أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظة (ذَلِكَ) فصلُ الخطاب، وقوله: (ومن عاقب) شروعٌ في قصةٍ أخرى لأولئك السادة بعد قوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا).

(ذلِكَ) أي: ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه (سَمِيعٌ) لما يقولون (بَصِيرٌ) بما يفعلون. فإن قلت: ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت: تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك نيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء السرب بالسراج ويظلم بفقده. وقيل: هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات. [(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) 62]. وقرئ (يَدْعُونَ) بالتاء والياء. وقرأ اليماني. "وأن ما يدعون"، بلفظ المبني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بسبب أنه خالقُ الليل والنهار ومصرفهما)، فعلى الأول: الآيةُ عبارةٌ عن القدرة الكاملة، فحين عقب معنى النصرة صلُحت أن تكون علةً لحصولها، وعلى الثاني: عبارةٌ عن العلم الشامل، ولما عقب معنى البغي أوقعت علةً للانتصار من الظالم للمظلوم، ألا ترى كيف جمع الخلقَ مع التصريفِ ليستلزم العلم فيُراد به إثباتُ الانتصار، وإليه الإشارة بقوله: "لا يخفى عليه من الغبي والإنصاف". وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) على الأول: من باب التكميل، وعلى الثاني: من التتميم. قوله: (الملوين)، الجوهري: الملوان: الليلُ والنهار، والواحد ملا مقصورٌ. والسربُ: بيتٌ في الأرض. قوله: (قرئ: (يَدْعُونَ) بالياء والتاء)، بالتاء الفوقاني: نافعٌ وابن كثيرٍ وابن عامر، والباقون: بالياء.

للمفعول، والواو راجعة إلى «ما» لأنه في معنى الآلهة، أى: ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا. [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) 63 - 64]. قرئ "مُخْضَرَّةً" أى ذات خضر، على مفعلة، كمبقلة ومسبعة. فإن قلت: هلا قيل: "فأصبحت"؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت، لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو نُصب لأعطى ما هو عكسُ الغرض)، قال صاحب "التقريب": هو مثلُ قولك: ألم أكرمكَ فتشكُر، رفعه يثبت الشكر، ونصبه ينفيه؛ لأن النصب بتقدير "أنْ"، وهو علم الاستقبال فيجعله مترقباً، والرفعُ جزمٌ بإخباره. تلخيصه: أن الرفع جزمٌ بإثباته، والنصبُ ليس جزماً بإثباته، لا أنه جزم بنفيه. وفيه نظرٌ؛ لأن نفي الشكر من كونه جواباً للاستفهام؛ لأن المعنى: إن رأيت إنعامي شكرتُه. وقال صاحبُ "الفرائد": لا وجه لما ذكره صاحب "الكشاف"، ولا يلزم المعنى الذي ذكر، بل يلزمُ من نصبه أن يكون مشاركاً لقوله: (أَلَمْ تَرَ) تابعاً له، ولم يكن تابعاً لـ (أَنزَلَ) ويكون مع ناصبه مصدراً معطوفاً على المصدر الذي تضمنه (أَلَمْ تَرَ) وهو الرؤية، والتقديرُ: ألم يكن لك رؤيةُ إنزال الماء من السماء فإصباح الأرضٍ مخضرةً، وهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غيرُ مرادٍ من الآية، بل المرادُ أن يكون إصباحُ الأرض مخضرةً بإنزال الماء، فيكون حصول اخضرار الأرض تابعاً للإنزال. وقلتُ: وينصره قول أبي البقاء: إنما رُفع-أي: (فَتُصْبِحُ) وإن كان قبله لفظُ الاستفهام لأمرين، أحدهما: أنه استفهامٌ بمعنى الخبر، أي: قد رأيت، فلا يكون له جوابٌ، والثاني: أن ما بعد الفاء ينتصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له، ورؤيته لإنزال الماء لا توجبُ اخضرار الأرض، إنما يجب عن الماء. وروى الزجاج عن سيبويه القراءة بالرفع لا غير، قال: سألت الخليل عن هذا فقال: هذا واجبٌ، ومعناه التنبيه، كأنه قال: ألم تسمعْ إنزالَ الماءِ من السماء ماءً، فكان كذا وكذا. وقلتُ: فعلى هذا يمكن توجيه النصب بأن يقال: إن إيثار المستقبل في (فَتُصْبِحُ) لاستحضار تلك الحالة البديعة، وهي حياة الأرض الدالة على القدرة الباهرة، قال الله تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5]، وقال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 7 - 8]، كأنه قيل: تنبه لإنزالنا الماء لتتعجب منه على هذه الحالة البديعة والقدرة الباهرة، فيكون لك تبصرة وذكرى للإنابة والخضوع، وأن الله يبعث من في القبور، ومن ثم ذُيل بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وجيء بقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تتميماً لإرادة الإنابة، فيكون (فَتُصْبِحُ) بمعنى: تتعجبُ من إصباحها.

لأنّ معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: "ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر": إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله. (لَطِيفٌ) واصل علمه أو فضله إلى كل شيء (خَبِيرٌ) بمصالح الخلق ومنافعهم. [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) 65 - 66]. (ما فِي الْأَرْضِ) من البهائم مذللة للركوب في البر، ومن المراكب جارية في البحر، وغير ذلك من سائر المسخرات. وقرئ "وَالْفُلْكَ" بالرفع على الابتداء (أَنْ تَقَعَ) كراهة أن تقع (إِلَّا) بمشيئته. (أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا ترابا، ونطفة، وعلقة، ومضغة (لَكَفُورٌ) لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم. [(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) 67]. هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم) هو من باب قولك: لا أرينك هاهنا، قال ابن جني: معناهُ: لا تكن هناك فأراك، فالنهيُ في اللفظ لنفسه، أي: فاثبُت على نفسك وصحة دينك،

روي أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؛ يعنون الميتة. وقال الزجاج: هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، كما تقول: لا يضاربنك فلان، أي: لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين. (فِي الْأَمْرِ) في أمر الدين. وقيل: في أمر النسائك، وقرئ: "فلا ينزعنك" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا تلتفتْ إلى فساد أقوالهم، حتى إذا رأوك كذلك أمسكوا عنك، ولا يُنازعُنَّك، فلفظ النهي لهم، ومعناه له صلوات الله عليه. هذا إذا أجريت المفاعلة على واحدٍ مبالغةً. قوله: (وقال الزجاج)، والمذكور في كتابه: المعنى: أنه نهيٌ له صلواتُ الله عليه عن منازعتهم، كما تقولُ: لا يخاصمنك فلانٌ في هذا أبداً، وهذا جائزٌ في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين؛ لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا قلت: لا يجادلنك فلانٌ، فهو بمنزلة: لا تجادلنه، ولا يجوزُ هذا في قولك: لايضربنك فلانٌ، وأنت تريدُ: لا تضربه، ولكن لو قلت: لا يضاربنك فلانٌ، لكان كقولك: لا تُضاربنَّ فلاناً. وقلتُ: الفرقُ بين التفسيرين هو أن الأول نهيٌ عن الكينونة على وصفٍ يكونُ سبباً لمنازعتهم، وهذا نهيٌ عن المنازعة نفسها، وكلاهما كنايتان. قوله: (وقرئ: "فلا ينزعُنك")، قال ابن جني: وهي قراءةُ لاحق بن حُميد، ظاهره: فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم، فيكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره، نحو قوله تعالى: (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) [الروم: 60] فاثبت على دينك ولا يمل بك هواك إلى دين غيرك.

أي اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد: زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه. ومنه قوله (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ)] القصص: 87 [، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)] الأنعام: 14 [، ] يونس: 105 [، ] القصص: 87 [، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ)] القصص: 86 [. وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب. وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه، أى: غلبته، أى: لا يغلبنك في المنازعة. فإن قلت: لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت من هذه؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنزعُه)، قال في "فاعلتُه ففعلتُه"، يقالُ: أفعلُه" إنما يُضمُّ إذا لم يكن عينُه أو لامُه حرفَ حلق، فإنه يتركُ على ما عليه الاستعمال. قيل: فيه نظرٌ؛ لأن المختار الضمُّ عند الأكثرين، وهذا المذكورُ منقولٌ عن الكسائي، وقد رده العلماء. قال سيبويه: وليس في كل شيء يكونُ هذا، أي: باب المغالبة، ألا ترى أنك لا تقول: نازعني فنزعته، استثنى عنه بغلبته في "المفصل". قوله: (هذه الآية)، وهي قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ) [الحج: 67]، ونظيرتها: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج: 34]، وهو معطوفٌ على قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، ومن تتمة الكلام مع المؤمنين، أي: الأمر ذلك، المطلوبُ تعظيمُ شعائر الله وتقوى القلوب، وليس هذا مما يختص بكم، إذ كلُّ أمةٍ مخصوصٌ بنُسكٍ وعبادة، وهذه الآيةُ تقدمةُ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ما يوجب منازعةَ القوم وتسليةٌ له، وتعظيمٌ لأمره، حيثُ جعلَ أمرهُ نُسكاً وديناً، يعني: شأنك وشأنُ أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهمُ

لأنّ تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا. [(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)]. أي: وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين. [(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)]. (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، أى: يفصل بينكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصلاةُ والسلامُ تركُ المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع، وملازمةُ الدعوة إلى التوحيد، أو: لكل أمةٍ من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقاً ودينا هم ناسكوه، فلا يُنازعنك هؤلاء المجادلةُ، سمى دأبهم نُسكاً لإيجابهم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه، تهكماً بهم، ومسلاةً لرسول الله صلى الله لعيه وسلم مما كان يلقى منهم. وأما اتصاله بما سبق من الآيات، فإن قوله تعالى: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) يُوجب القلع عن إنذار القوم، والإياس منهم ومتاركتهم، والآيات المتخللةُ كالتأكيد لمعنى التسلية، فجيء بقوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ) تحريضاً له صلوات الله عليه على التأسي بالأنبياء السابقة في مُتاركة القوم، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم، وينصره قوله تعالى: (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فالربط على طريقة الاستئناف، وهو أقوى من الربط اللفظي، والذي يدور عليه قطبُ هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعاندتهم، والنعي عليهم بشدة شكيمتهم. ألا ترى كيف افتتحها بقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) وكررها وجعلها أصلاً للمعنى المهتم به، وكلما شرع في أمر كرَّ إليه تثبيتاً لقلبِ الرسول صلات الله عليه، ومسلاةً لصدره، فلا يقالُ إذن: "وأما هذه فواقعةٌ مع أباعد عن معناها".

بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وكيف يخفى عليه ما يعملون، ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه (يَسِيرٌ) لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم. [(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) 71]. وَيَعْبُدُونَ ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلى (وَمَا) للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوّب مذهبهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومسلاةٌ)، هي مفعلةٌ من: سلوتُ عنه وسليتُ عنه. الجوهري: هو في سلوةٍ من العيش، أي: رغد. قوله: (ومعلومٌ عند العلماء بالله أنه يعلمُ كل ما يحدث في السماوات والأرض)، واللام في "العلماءِ" للجنسِ، أي العلماء الكاملون، تعريضاً بالفلسفي، لكن قوله: "عالمُ بالذات" اعتزالٌ. قوله: (ولا ألجأهم غليها علمٌ ضروريٌ، ولا حملهم عليها دليلٌ عقلي)، هذا معنى قوله: (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)؛ لأن العلم بعد الدليل السمعي إما ضروريٌّ أو استدلالي، وفي اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل، والنوعين الأخيرين بالعلم دليلٌ واضحٌ على ذي بصيرةٍ نافذةٍ أن الدليل السمعيَّ هو الحجةُ القاطعة، وله القهر والغلبةُ، وعند ظهوره تضمحلُّ الآراءُ وتتلاشى الأقيسةُ، ومن عكس ضل الطريق، وحُرم التوفيق، وبقي متزلزلاً في ورطات الشُّبَه، وإن شئت فجربِ التنكير في (سُلْطَاناً) وفي (عِلْمٌ)، وقسمهما على قول الشاعر:

[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 72]. (الْمُنْكَرَ) الفظيع من التجهم والبسور «2». أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ "يعرف". و"المنكر". والسطو: الوثب والبطش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له حاجبٌ في كلِّ أمرٍ يشينُه ... وليس له عن طالب العُرف حاجبُ لتعلم الفرق. ثم انظُرْ إلى معنى التتميم والتنزُّلِ في قوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) إذ المعنى: ليس لهم دليلٌ قاطعٌ على صحة ما هم فيه، ولا لهم أيضاً ما يصح عند الضرورة أن يُتمسك به، ولا لهم ذو شوكةٍ يقهر الناس بالتعدي والظُّلم الصرفِ على عبادة ما يدعون، ألا ترى إلى إقامة الظاهر في قوله: (لِلظَّالِمِينَ) كيف طابق المفصل لترى الدقائق التي تتحيرُ فيها العقولُ؟ والله يقولُ الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (من التهجم)، الجوهري: رجلٌ جهمُ الوجه أي: كالحُه، تقولُ منه: جهمتُ الرجُل وتجهمتُه، إذا كلحتَ في وجهه، وبسر الرجُلُ في وجهه بسُوراً أي: كلح. يقال: عبس وبسر. قوله: (وقرئ: "يُعرَفُ" و"المنكر")، أي: مبنياًّ للمفعول، وهو ظاهرٌ.

وقرئ "النَّارُ" بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأنّ قائلا قال: ما هو؟ فقيل: النار، أى: هو النار. وبالنصب على الاختصاص. وبالجرّ على البدل من (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم. (وَعَدَهَا اللَّهُ) استئناف كلام. ويحتمل أن تكون "النَّارُ" مبتدأ و (وَعَدَهَا) خبرا، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار «قد». [(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) 73]. فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: "مثلاً"، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "النارُ" بالرَّفْع")، أي: في المشهورة، والنصبُ الجرُّ: شاذتان. قوله: (بإضمار "قد")، متعلقٌ بقوله: "وأن تكون حالاً عنها". وقوله: "إذا نصبتها وجررتها" اعترض بين المتعلِّقِ والمتعلَّق، فالنصبُ على الاختصاص، والجرُّ على البدل من (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ). قوله: (تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة)، قال المصنف: المثلُ بمعنى المِثْل، تقولُ: زيدٌ مثلُ عمروٍ ومثله ومثيله، كما تقول: شبهه وشبهه وشبيهه، ثم قالوا على سبيل الاستعارة لجملةٍ من الكلام مستغربةٍ مستفصحةٍ متلقاةٍ بالرضا والقبول، أهل للتسيير والإرسال:

قرئ (تَدْعُونَ) بالتاء والياء، ويدعون: مبنيا للمفعول. (لَنْ) أخت «لا» في نفى المستقبل، إلا أن «لن» تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هاهنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مثل؛ لأنهم جعلوا مضربها مثلاً لموردها، ثُم استعاروا هذا المستعار للقصةِ أو الحالةِ المستغربة لتماثلهما في الغرابة. وقال القاضي: أو جُعل لله مثلٌ، أي: مثلٌ في استحقاق العبادة فاستمعوا له استماع تدبرٍ وتفكر. وقال صاحب "التيسير": جُعل لي مثلٌ، أي: شبهٌ، أي: جعل الكفارُ فاسمعوا حال ما شبهوه لي، لتقفوا على جهلهم. وقال صاحب "الفرائد": المثلُ في الاصطلاح: شبيهٌ سائر، أي: كثيرٌ استعماله، والمراد من ذكره أن ما نحن له بمنزلة ما قيل فيه هذا القول، فإن صح ما ذكره صاحب "التيسير" وجب حملُ المثل على الحقيقة لا على المجاز. وقلتُ: في جعل (ضُرِبَ) بمعنى: جُعِل هذا له، عدولٌ عن الظاهر، وخرمٌ للنظم الفائق؛ فإن قوله تعالى: (ضُرِبَ مَثَلٌ) مُجملٌ بُيِّنَ بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) وقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) تقريرٌ لما يُراد من الإبهام والتبيين، من توخى التفطن لما يُتلى بعد المجمل، وتطلب إلقاء الذهن، ويؤيده تصدرُ الآية بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وتذييل المثل بقوله تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، وتعليله بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). ولعمري، إن هذا التذييل يُنادي على من يدعي معرفة الله تعالى بمقياس عقله بالضلال البعيد، ويتلُو عليه: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31]. قوله: (قرئ: (تَدْعُونَ) بالتاء والياء)، بالتاء الفوقاني: السبعةُ. قوله: ("لن" أختُ "لا"، في نفي المستقبل، إلا أن "لن" تنفيه نفياً مؤكداً، وتأكيده هاهنا

الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنه قال: محال أن يخلقوا. فإن قلت: ما محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قال: مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية - التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها - صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، لأن الذباب حيوان، وهو جماد، وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدلالة على أن خلقَ الذباب منهم مستحيلٌ منافٍ لأحوالهم). قال صاحب "الفرائد": النفيُ المؤكدُ لا يدل على الامتناع لأنه لا يستلزمه، فيكون لازماً، واللازم لا يدل على الملزوم، ولكن يحتمله، ولما كان محتملاً له حُمل عليه لقرينة سوق الكلام؛ لأنه إن أمكن ذلك منهم لا يحصلُ الاستبعادُ المطلوبُ والمبالغةُ في تجهيلهم، واستركاك عقولهم؛ لأنهم مع اجتماعهم وتعاونهم لا يقدرون على أقلِّ ما خلقه الله تعالى وأذله وأحقره، وأدل من ذلك على عجزهم، وانتفاء قُدرتهم، أن هذا الحقير الذليل لو اختطف منهم شيئاً لم يقدروا على استخلاصه ولو اجتمعوا له. وقلتُ: ها هوا لحق، إلا أن مقصود المصنف من إثبات الاستحالة تقريرُ مذهبه ومُدعاهُ في قوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي) [الأعراف: 143]، وقد استشهد بهذه الآية على مطلوبه في ذلك المقام. قوله: (وجدت الطالب أضعف)، أي: التماثيلُ أضعفُ من الذباب، وإنما قيل لها:

غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. ] (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) 74 [. (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أى ما عرفوه حق معرفته، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها، ولا يؤهلوه للعبادة، ولا يتخذوه شريكا له: إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به؟ ] (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 75 - 76 [. هذا ردّ لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطالبُ؛ لأنها طالبةٌ لما اختطفه الذبابُ منهم، فاللامُ في الطالب والمطلوب: للعهد التقديري، وهو معنى السين في (لا يَسْتَنقِذُوهُ). قوله: (هذا ردُّ ما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر)، يعني: لما أبطل القول بالاشتراك ليثبت التوحيد، عقبه بإثبات الرسالة، فرد طعنهم في أن يكون الرسول من البشر، ويمكن أن يقال: إن الآيات نظيرُ قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ) [فاطر: 13 - 14] بولغ في وصف آلهتهم بالضعف وسُلب عنهم دفعُ المضرة مدى غاياته، ثم وُصف إله الحق بالقوة والعز، وإيصالالنفع إلى عابديه أقصى نهاياته؛ لأن منتهى مال المخلوقين أن يخصهم الله بكرامة الرسالة، فالآية الثانية مبينةٌ أو مقررةٌ بقوله تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) فوضع اسمه الأعظم الجامع لأسمائه الحسنى موضع الضمير تقريراً للقوة الكاملة والعزة القاهرة، أو هو بمنزلة اسم الإشارة المؤذِن بأن ما بعده جديرٌ

ضربين: ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات، عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات، لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)]. للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك، فمن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمن قبله لاتصافه بتلك الصفات الفائقة، وفي قوله: "والذي هو بهذه الصفات لا يُسألُ عما يفعلُ، وليس لأحدٍ أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره" إيماءٌ إلى هذا المعنى، وبعد ما عم الخطاب بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ونبههم في ذلك المثل على أن تلك الآلهة لا تضر ولا تنفع وإنما النافع والضار هو الله تعالى، وهو الذي يستحق أن يُعبد ويستعان به، خص الخطاب بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الآية تحقيقاً للعبودية. قوله: (ثم ذكر أنه تعالى دراكٌ للمدركات)، يعني: لما ذكر أنه تعالى اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس علل ذلك بقوله: (أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). قوله: (ما مضى منها وما غبر)، الجوهري: غبر الشيء يغبرُ: بقي، والغابرُ: الباقي، والغابرُ: الماضي، وهو من الأضداد. قوله: (للذكر شأنٌ ليس لغيره من الطاعات)، والمراد بالذكر: ما يُحتاجُ إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كالأقاصيص والوعد والوعيد، كذا فُسرَ في (ص). ولما كان إطلاقُ الذكر على الصلاة أبين من سائر الطاعات، قال: "الصلاة التي هي ذكرٌ خالص"، وهو المرادُ

ثم دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو، ثم عمّ بالحث على سائر الخيرات. وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل: معنى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله. وعن ابن عباس في قوله (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم. وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: "نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما" وعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "فضلت سورة الحج بسجدتين". وبذلك احتج الشافعي رضي الله عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، والصوم الحج والغزو دونها في معنى الذكر، ثنى بذكرها، وهو المراد من قوله: (وَاعْبُدُوا)، ثم أتى بما يشتملُ على جميع ما يُحتاجُ إليه في الدين من الخيرات آخراً، وهو المرادُ من قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)، فهو كالترقي والتدرج من الأخص إلى الأعم. قوله: (وقيل: معنى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ): اقصدوا برُكوعكم وسجودكم وجه الله تعالى)، هو كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء: 136]. قوله: (وعن عُقبة بن عامرٍ)، الحديث رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وكذا الترمذيٌّ، وروى أبو داود وابن ماجه، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاثٌ في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان.

فرأى سجدتين في سورة الحج. وأبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة، لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة. [(وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)]. (وَجاهِدُوا) أمر بالغزو أو بمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». (فِي اللَّهِ) أى في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجدّ عالم، أي: عالم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين، ثم قال: إن هذه السورة فُضِّلت بسجدتين. قوله: (قرن السجود بالركوع فدل ذلك على أنها سجدةُ صلاةٍ لا سجدةُ تلاوة)، وقلتُ: لا شك أن الروع الذي هو: وضع الكفين على الركبتين مع الانحناء، لا يوجد إلا في الصلاة، ولا يراد به هاهنا الركوعُ الفذ، فيُحملُ على الصلاة مجازاً، وأما السجود الذي هو: وضعُ الجبهة على الأرض لله تعالى على سبيل التعظيم فهو غير مختص بالصلاة، فحمل الألو على الصلاة، والثاني على الحقيقة، لعموم الفائدة؛ أولى، ولأن العدول إلى المجاز من غير صارفٍ أو اعتبار نكتةٍ غير جائز، والمقارنة غير موجبةٍ لذلك، والأحاديث التي رويناها عن الأئمة موافقةٌ لمذهب الشافعي، فوجب المصير إليه.

حقا وجدا. ومنه (حَقَّ جِهادِهِ). فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حق الجهاد فيه. أو حق جهادكم فيه، كما قال (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ)؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله، صحت إضافته إليه. ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا (اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه: (حَقَّ جِهَادِهِ))، قال القاضي: معنى (حَقَّ جِهَادِهِ) جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه، فعُكس وأضيف الحقُّ إلى الجهاد مبالغةً. يعني: أصلُ المعنى: وجاهدوا في الله جهاداً حقاً، فهو يفيد أن هناك جهاداً واجباً، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عُكس وأضيف الصفةُ إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى أفاد إثبات جهادٍ مختص بالله تعالى، والمطلوب القيام بموجبه وشرائطه على وجه التام والكمال بقدر الوسع والطاقة. قال المصنف في قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران، 102]: (حَقَّ تُقَاتِهِ) واجب تقواه: ما يحق منها، وهو القيام بالواجب، واجتنابُ المحارم، يريدُ: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاً". وفي قوله: "عالمٌ جداً" إيماءٌ إلى هذا المعنى أي: هو عالمٌ مبالغٌ في العلم جداً، ولا يترك من الجهد المستطاع منه شيئاً. فقوله: "أي: عالمٌ حقاً وجداً" تأويلٌ باعتبار المبالغة والتوكيد. قوله: (ويوم شهدناهُ سليماً وعامراً)، تمامه: قليلٌ سوى الطعن النهال نوافله النهالُ: الرماحُ الأسلُ: الناهل؛ أي: تروى منه الرماحُ العطاش، نهل؛ أي: شرب، وهوالشرب الأول، نوافلٌ: فاعل قليل.

فتح باب التوبة للمجرمين، وفسح بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفسح بأنواع الرخص)، قال القاضي: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: ضيق بتكليف ما يشتدُّ القيامُ به عليكم، إشارةً إلى أنه لا مانع لهم ولا عذر لهم في تركه، أو على الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم لقوله: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، وقيل: ذلك بأن لهم من كل ذنبٍ مخرجاً، بأن رخص لهم في المضايق، وفتح باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والأروش والديات في حقوق العبادات. وقلت- والله أعلم-: قد أسلفنا أن في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) ترقياً من الأخص إلى الأعم، والآية جامعةٌ لأنواع العبادات، فيكونُ عطف قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) عليها إرشاداً إلى السلوك والعروج إلى مقامات العارفين، والتحري للتخلص من الركون إلى الغير، وفي تعقيب قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) إزاحةٌ للموانع من طلب الكمال، كما قال القاضي: لا مانع لهم عنه ولا عُذر لهم في تركه، يؤيده قوله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ)، وقوله: (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا)، يعني: أن الله تعالى اصطفاكم، وهو مدحكم قديماً وحديثاً، وجعلكم في العقبى شهداء على الناس، وإليه ينتهي توليكم، فلا تحبوا سفساف الأمور وقد هيأ لكم معاليها، وخصكم لنفسه تعالى، وهو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير. فقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) استئنافٌ لبيان علة الأمر بالاجتهاد. روى السلميُّ عن ابن عطاءٍ: الاجتبائية أورثت المجاهدة، لا المجاهدة أورثت الاجتبائية، وكذا قوله

ونحوه قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدمة. نصب الملة بمضمون ما تقدّمها. كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أو على الاختصاص، أى: أعنى بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد. فإن قلت: لم يكن إِبْراهِيمَ أبا للأمّة كلها. قلت: هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته، لأنّ أمة الرسول في حكم أولاده. (هُوَ) يرجع إلى الله تعالى: وقيل: إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأوّل قراءة أبىّ بن كعب: "الله سماكم". (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) أى من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن، أى: فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأنّ الرسل قد بلغتهم. وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) علةٌ لرفع الحرج عن هذه الأمة المرحومة كما ورد: "بعثتُ بالحنيفية السهلة السمحة"، وقال ابن عطاء: زينكم بزينة الخواص قبل أن أوجدكم، فقد سبق لكم من الله تعالى الخصوصية في الأزل. قوله: (وقيل: إلى إبراهيم عليه السلام) يدلُّ عليه قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة: 128]. قوله: (وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه) يريد: أن في تعقيب قوله تعالى:

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) بالفاء على قوله: و (هُوَ اجْتَبَاكُمْ)، وقوله: (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) سالفاً وآنفاً، لتختص شهادة الرسول عليكم، وتكونوا شهداء على الناس، إشعاراً بالعلية؛ لأن الأوصاف مناسبةٌ للحكم. هذا يدل على ترجيح القول بأن الضمير راجعٌ إلى الله تعالى. قال الإمامُ: إنه تعالى سماهم بهذا الاسم لهذا الغرض. المعنى: أنه تعالى بين في سائر الكتب المتقدمة، وفي القرآن أيضاً، فضلكم، وسماكم بهذا الاسم لأجلِ الشهادة المذكورة. وقلتُ: ثم العلة والمعلول علةٌ للحكم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله كما مر، وقوله: (هُوَ مَوْلاكُمْ) كالتتميم لقرينتيه، وهما: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) و (هُوَ سَمَّاكُمْ)، أو يقالُ: في جعل الموجب: (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ): الدلالة على أن كونه تعالى مولى لنا يقتضي أمراً وراء ما ذُكر من الاجتباء والتسمية بالمسلمين، وهو تحقيق أمر العبودية، وصلاحية مقام الزلفى من الله تعالى: ومن ثم شرف الله تعالى حبيبه ليلة المعراج بتشريف العبودية وتحقيقها. وهذه خاتمة شريفةٌ خُتمت بها السورة بحمد الله. والله سبحانه وتعالى أعلمُ بالصواب

سورة المؤمنين

سورة المؤمنين مكية، وهي مائة وتسع عشرة آية. وثمان عشرة عند الكوفيين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المؤمنين مكيةٌ، وهي مئةٌ وتسع عشرة آية وثماني عشرة عند الكوفيين بسم الله الرحمن الرحيم رُوي عن المصنف: أنه قال: يجوز أن يكون (قَدْ أَفْلَحَ) جواب قسم محذوف، كقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9] في وقوعه جواب قسم. وفي بعض النسخ مكتوبٌ في المتن، وكذا عن صاحب "التقريب". وقيل: فيه نظرٌ؛ لأنه قال هناك: جوابُ القسم محذوفٌ تقديره: ليُدمْدِ مَنّ الله عليهم. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9] فكلامٌ تابعٌ لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 8] على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في

"قَدْ" نقيضة «لما» هي تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والفلاح: الظفر بالمراد. وقيل: البقاء في الخير. و (أَفْلَحَ) دخل في الفلاح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء، وقلتُ: قد ذكرنا هناك أن الزجاج ذهب إلى أنه جواب القسم على تقدير اللام، والنظم يساعد عليه، وهو أبعدُ تعسفاً. قوله: (وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم)، قال في قوله: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101]، من يعتصم بالله فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلاناً، فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصلن فهو يخبر عنه حاصلاً، وإليه أشار بقوله: "فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه". فإن قلت: إن قد لتوقع مدخوله، فيفيد أن حصول الفلاح كان متوقعاً، وأما البشارة كانت متوقعة فلا. المفلحُ: هو الفائز بالبغية، والمؤمنون وإن فازوا بالهدى عاجلاً بالأعمال الصالحة الظفر على أعداء الدين لكن الفوز الحقيقي الذي هو الفلاح لا يثبت إلا في الآخرة، كما قال تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5]، فكانوا متوقعين البشارة من جانب الله بذلك. فقيل لهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). قوله: (والفلاح: الظفرُ)، الراغب: قولهم في الأذان: حي على الفلاح، أي: على الظفر الذي جعله الله تعالى لنا بالصلاة. قوله: (وقيل: البقاءُ في الخير)، قال الفراء قد هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين،

كأبشر: دخل في البشارة. ويقال: أفلحه: أصاره إلى الفلاح. وعليه قراءة طلحة بن مصرف: (أفلح)، على البناء للمفعول. وعنه: (أفلحوا)، على: أكلونى البراغيث. أو على الإبهام والتفسير. وعنه: (أفلح)، بضمة بغير واو، اجتزاء بها عنها، كقوله: فلو أنّ الاطبّا كان حولي فإن قلت: ما المؤمن؟ قلت: هو في اللغة المصدق. وأما في الشريعة فقد اختلف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوزُ أن تكون تقريباً للماضي من الحال، ويكونُ المعنى في الآية: أن الفلاح قد حصل، وأنهم عليه في الحال. قوله: (وعليه قراءةُ طلحة بن مُصرف: "أفُلِحَ" على البناء للمفعول)، قال الزجاجُ: معناه: قد أصيروا إلى الفلاح. قوله: 0 فلو أن الأطبا كانُ حولي)، تمامُه في "المطلع": وكان مع الأطباء الأساةُ الأطِبا: على القصر للضرورة. أراد: كانوا حولي، فاكتفى بالضمة عن الواو. والآسي: الطبيبُ، والجمعُ أساةٌ، مثل: رام ورُماة. قوله: (ما المؤمن؟ )، قيل: إنما لم يقُل: من المؤمنُ؟ لأن السؤال وقع عن الصفة. فإذا قلت: ما زيدٌ؟ فجوابه: فقيهٌ أو متكلم. والظاهر أن "ما": عامةٌ، والسؤال عن مفهوم المؤمن وموقع استعماله يدُلُّ عليه، قوله: إنهُ "في اللغة كذا، وفي الشريعة كذا، وإنهُ صفةُ مدح يستحقها البرُّ، ولا يستحقها الفاسق. الانتصاف: الأولُ مذهبُ الأشعرية، الثاني للمعتزلة، ولو لم يبنوا عليه أن الفاسق يُخلدُ في النار لكان البحث لفظياً، ونُقلَ عن عمرو بن

فيه على قولين، أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن. والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البرّ التقىّ دون الفاسق الشقىّ! الخشوع في الصلاة: خشية القلب وإلباد البصر - عن قتادة: وهو إلزامه موضع السجود. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يحدّث نفسه بشأن من شأن الدنيا. وقيل: هو جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها. ومن الخشوع: أن يستعمل الآداب، فيتوقى كفّ الثوب، والعبث بجسده وثيابه، والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عُبيدٍ وطبقتِه: أن الإيمان التصديقُ بالقلب وجميع فرائض الدين فعلاً وتركاً، وعن أبي الهذيل: أنه جميعُ فرائض الدين ونوافله. وحجتنا: أن الإيمان في اللغة: مجردُ التصديق. والأصل عدمُ النقل لقوله تعالى: (لِسَاناً عَرَبِيّاً) [الأحقاف: 12]. وقلتُ: قد روينا عن محيي السُّنةِ في "شرح السنة": أن العمال داخلةٌ في مسمى الإيمان، وأنه مذهبُ السلف الصالح رحمهم الله، عليه التعويل. قوله: (وإلباد البصر)، يقال: ألبد بالمكان: إذا أقام به، النهاية: إلبادُ البصر: إلزامُه موضع السجود من الأرض. قوله: (فيتوقى كف الثوب)، النهاية: في الحديث: "أُمرتُ أن لا أكف شعراً ولا ثوباً". يعني: في الصلاة، هو يحتملُ أن يكون بمعنى المنع، أي: لا أمنعها من الاسترسال حال السجود ليقعا على الأرض، وأن يكون بمعنى الجمع، أي: لا أجمعهما ولا أضمهما. قوله: (والتمطي)، النهاية: في الحديث: "إذا مشت أمتي المطيطاء"، هي بالمد والقصر:

وتغطية الفم، والسدل، والفرقعة، والتشبيك، والاختصار، وتقليب الحصى. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال «لو خشع قلبه خشعت جوارحه «2»» ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهمّ زوجني الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث. فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأنّ الصلاة دائرة بين المصلى والمصلى له، فالمصلى هو المنتفع بها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشيةٌ فيها تبخترٌ ومدُّ اليدين، يقالُ: مطوتُ ومططتُ بمعنى: مددتُ، وهنا المراد مد اليدين مع الظهر. والسدلُ: أن يلتحف ثوبه، ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد، وهو كذلك. وكانت اليهودُ تفعله، وهذا مطردٌ في القميص وغيره من الثياب. وقيل: أن يضع وسط الإزار على رأسه ويُرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعله على كتفيه. وفرقعةُ الأصابع: غمزها حتى يُسمع لمفاصلها صوتٌ. وفي حديث مجاهد: كره أن يُفرقع الرجل أصابعه في الصلاة. الاختصار: قيل: هو من المخصرة، وهو: أن يأخذ بيده عصا يتكئ عليها، وقيل: أن يقرأ من آخر السورة آية أو آيتين، ولا يقرأ السورة بتمامها. كلها في "النهاية". الفائق: الاختصارُ: وضعُ اليد على الخاصرة. وفي الحديث: "الاختصارُ في الصلاة راحةُ أهل النار"، لا أن لهل النار راحةً، لقوله تعالى: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف: 75].

وحده وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته: وأمّا المصلى له، فغنىّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها. [(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)]. اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه، يعنى أنّ بهم من الجدّ ما شغلهم عن الهزل. لما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف. [(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) 4]. الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين: القدر الذي يخرجه المزكي من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليجمع لهم الفعل والترك)، قال القاضي: أقام الإعراض مقام الترك؛ ليدُل على بُعدهم عنه رأساً مباشرةً، وتسبباً وميلاً، فإن أًله أن يكون في عرض غير عرضه، هو أبلغ أيضاً من الذين لا يلهون لجعل الجملة اسميةً، وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم، وتقديم الصلة. قوله: (الزكاة اسم مشتركٌ بين عينٍ ومعنى)، الراغب: أصلُ الزكاة: النموُّ الحاصلُ من بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية، يقال: زكا الزرع يزكو، إذا حصل منه نموٌّ وبركةٌ، ومنه الزكاة يخرجها الإنسان إلى الفقراء، لما فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات، أو لهما جميعاً، فإن الخيرين موجودان فيها، وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة وقال: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 110] وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة. وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره وذلك يُنسب تارةً إلى

النصاب إلى الفقير والمعنى: فعل المزكى الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل: وللمزكى: فاعل التزكية. وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق. ولم تمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العبد؛ لاكتسابه، كقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله تعالى: (لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)، وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، وتارةً إلى الله تعالى، لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة، نحو: (بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النساء: 49]، وتارةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكونه واسطةً نحو (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103] وتارةً إلى العباد التي هي آلة نحو (وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً) [مريم: 13]. قوله: (فيقالُ لك: فاعله الله أو بعض الخلق)، الانتصاف: يقولُ السني: الفاعل هو الله وحده، وإذا سُئل بصفةٍ مشتقةٍ من الفعل على طريقة اسم الفاعل من القائم أو القاعد، أجاب بأنه: الذي خلق الله الفعل على يده كزيدٍ وعمرو. قوله: (ولم تمتنع الزكاةُ الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون)، أي: اللفظُ غيرُ مانع تعليق الزكاة، الذي هوا لعين، بفاعلون؛ لأن الواضع إنما وضع صيغ الأفعال لنسبة صدورها عن الفاعل، وأما أن ذلك الفاعل موجدٌ بالحقيقة أو غير موجد، فليس بداخل في مفهوم الفعل، وإنما يعرفُ بدليل خارجي، وإليه الإشارة بقوله: "ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها". فقوله: "لخروجها" تعليلٌ لقوله: "لم يمتنع"، أي: لم تمتنع الزكاة الدالة على العين عند أهل اللغة بأن يتعلق بها الفاعلون لأجل هذا الصارف، وهو خروجها من صحة أن الخلق غير قادرين على إيجاد العين، بل القادر هو الله تعالى، فإن ذلك من الدلائل العقلية،

لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشد لأمية ابن أبى الصلت: المطعمون الطّعام في السّنة الـ ... أزمة والفاعلون للزّكوات ويجوز أن يراد بالزكاة: العين، ويقدّر مضاف محذوف وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصحّ، لأنها فيه مجموعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما تقول: أنبت الربيع البقل، فإن الفاعل عند اللغوي هو الربيع، إذ هو مرتفعٌ به؛ لأنه لا يُنظرُ إلى أن الربيع لا يصح منه هذا الفعل حقيقةً؛ لأن ذلك من وظيفة الموحدِ المعتقد. قوله: (المطعمون الطعام)، البيت، الأزمة: السنةُ القحطُ، يقال: أزم علينا الدهر، أي: اشتد. قوله: (لأنها فيه مجموعةٌ)، أي: لفظ الزكاة في البيت مجموعةٌ، والمصدرُ لا يجمع في الأغلب، وقد جُمع في قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ) [الأحزاب: 10]. وقلتُ: يُعلمُ من مفهوم قوله: "وحملُ البيت على هذا أصح" أن حمل الآية على الفعل أصح. قال السجاوندي: لما كانت الزكاة توجب زكاء المال، كان لفظ الفعل أليق به من لفظ الأداء، كأنه قيل: لأجل زكاء المال يفعلون ما يفعلون، فالمؤدى يصير زكاةً بفعل المزكي. وفي (فَاعِلُونَ) إشارةٌ إلى المداومة ما ليس في الأداء، تقول: هذا فعله، أي: شأنه ودأبه وعادته، وهذا يشعر بأن حمل الزكاة على المعنى أولى من غيره. الراغب: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، المعنيان واحد، وليس قوله: (لِلزَّكَاةِ) مفعولاً له لقوله: (فَاعِلُونَ) بل اللامُ للقصد والعلة. وقال صاحب "الكشف": معنى الآية: الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، فليس المراد من هذا الكلام: أنهم يؤدون الزكاة؛ لأنه لا يقال: فعلتُ الزكاة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنت تريدُ: أديتُ زكاة المال، وإنما الزكاة: الطهارة، كما قال تعالى في كتابه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14 - 15]، و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، أي من طهرها، وأبداً ينبغي لك أن تفسر القرآن بعضه ببعض ما أمكنك، فوجب أخذ التفسير من آية نظيرة تلك الآية التي تفسرها، ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد: 11]، أن المعنى: للرسول صلى الله عليه وسلم معقباتٌ، أي: الملائكة من أمر الله، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، كذا فسره النخعي، قالوا في هذا: إنه فصل بين الصفة والموصوف، وقدم ظرف الصفة على الصفة، فنظرنا في ذلك فإذا إبراهيم النخعي أخذ هذا التفسير من قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن: 27]، والرصدُ: الملائكة، هو المعقبات يحفظون النبي عليه الصلاة والسلام. فإن قيل: فهب أنكم قلتم: فما وجه قوله عز وجل: (وَدَعْ أَذَاهُمْ) [الأحزاب: 48]؟ وهل يقال في معنى لا تؤذه: دع أذاه؟ قلنا: ليس معنى (وَدَعْ أَذَاهُمْ) [الأحزاب: 48]: لا تؤذهم، وإنما المعنى: دع الخوف من أذاهم وتوكل على الله، أي: لا تخف منهم ولا من أذاهم، فحذف المفعول والحرف الجار الذي في صلة المصدر، كما حذف الجار من قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه، وقال تعالى: (لِيُنذِرَ بَاساً شَدِيداً) [الكهف: 2]، أي: لينذركم ببأس شديد. وقلتُ: قوله: ينبغي لك أن تفسر القرآن بعضه ببعض، كلامٌ حسنٌ، لكن مع مراعاة المقام، وترتيب النظام؛ فإنه تعالى لما ذكر الصلاة عقبها بذكر شقيقتها وقرينتها، وهي الزكاة، كما قال تعالى: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ونحوها، والوجه ما ذكره المصنف أولاً. وأما قوله: لا يقالُ: فعلتُ الزكاة وأنت تريدُ: أديتُ زكاة المال. فتحكم لم لا يجوز أن يراد المبالغةُ فيه؟ ألا ترى إلى قول الحماسي: وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين

[(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) 5 - 7]. (عَلى أَزْواجِهِمْ) في موضع الحال، أى الأوّالين على أزواجهم. أو قوّامين عليهنّ، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلّف عليها فلان. ونظيره: كان زياد على البصرة، أى: واليا عليها. ومنه قولهم: فلانة تحت فلان. ومن ثم سميت المرأة فراشا. والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حال تزوّجهم أو تسريهم، أو تعلق (عَلى) بمحذوف يدل عليه (غَيْرُ مَلُومِينَ) كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أى: يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه. أو تجعله صلة لحافظين، من قولك: احفظ علىّ عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي، كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقول المرزوقي فيه: وإن هي غرتك باللين ومنحتك المحبة منحاً بالغاً. مع أن تنظيره بالآيتين بعيدٌ؛ لأنهما ليسا من هذا القبيل في شيء، وقوله تعالى: (وَدَعْ أَذَاهُمْ) [الأحزاب: 48] معناه غير ما ذكره، فانظر إلى مقامه لتعرفه. قوله: (على تضمينه معنى النفي)، رُوي أنه قول المبرد، أي: تضمين (حَافِظُونَ)، فإن معنى احفظ على عنان فرسي: ارقبني، ولا تغفل عني. وجاء في بعض التفاسير: الحفظ في الأصل، ضبطُ الشيء في النفس. وهو ضد النسيان، ولما كان في ضبط الشيء المنعُ من الذهاب قيل لمن لا يضيع الشيء ضبطاً: الحافظ، والحافظُ: المانع. "المُغرب": الحفظُ: خلافُ النسيان، وقد يُجعل عبارةً عن الصون وترك الابتذال، يقالُ: فلانٌ يحفظُ نفسه ولسانه، أي: لا يبتذله فيما لا يعنيه. والظاهر أن المجموع من العامل ومعموله في معنى المانعون، أو غير مبتذلين، ألا ترى كيف جعل "نشدتك الله" في معنى: ما طلبتُ، وكذلك معنى "احفظ علي عنان فرسي": لا تغفل عني، ومنه قولُ الراغب: الحافظون فروجهم إلا على أزواجهم كنايةً عن العقد، أي:

فإن قلت هلا قيل: من ملكت؟ قلت: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع قوله: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، وفيه تنبيه على خسة الشهوة، ولولا بقاء النسل لما أبيحت ونحوه في الاعتبار قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة: 249] أي فلم يطيعوه إلا قليلٌ منهم. وقال أبو البقاء: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) في موضع نصب بـ (حَافِظُونَ) على المعنى أي: صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم. وقال صاحب "الفرائد": الذي ألجأه إلى التطويل استعمال "على" في قوله: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، ويمكن أن يقال: تقديره: لفروجهم حافظون في كل حال إلا في حال وقوعهم على أزواجهم. الراغب: الحفظ تارةً يقال لهيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، وتارة لضبط الشيء في النفس ويضاده النسيان، وتارة لاستعمال تلك القوة، ويقال: حفظت كذا حفظاً ثم يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، قال تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) [الأحزاب: 35] كناية عن العفة: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء: 34]، أي: يحفظن عهد الأزواج عند غيبتهم بسبب أن الله يحفظهن أن يطلع عليهن، (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) [ق: 4]، أي: حافظ لأعمالهم، ومعناه: محفوظٌ لا يضيع. قوله: (ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث)، المطلع: أجيرين مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن وعلمهن وامتهانهن في خساس الأمور وأنها تُباع وتشترى كسائر الحيوانات. وقال القاضي: وإفرادُ قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) بعد تعميم قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطراً.

جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده، ثم قال: فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحدّ مع فسحته واتساعه، وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت (فَأُولئِكَ هُمُ) الكاملون في العدوان المتناهون فيه. فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعل المستثنى حداً أوجب الوقوف عنده)، أي: بالغ في الفسحة والاتساع حيث أضاف الأزواج إليهم، هي ما عهد من قوله: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3] الآية، وإليه الإشارة بقوله: "وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت"، كأنه قيل: ومن طلب الفسحة أوسع من هذا الذي انتهى غايته فهو المتناهي في العدوان والكامل فيه. دل على الكمال: التعريف في (الْعَادُونَ) فإنه للجنس، وعلى التسجيل: دلالةُ (أُوْلَئِكَ) فإنه دل على أن ما قبله جديرٌ بما بعده لما بين من الفسحة والاتساع. قوله: (على تحريم المتعة)، النهاية: هو النكاح إلى أجل معين، وهو من التمتع بالشيء: الانتفاع به، يقال: تمتعتُ به أتمتعُ تمتعاً، والاسمُ: المتعةُ ينتفع بها إلى أمدٍ معلوم. وقد كان مباحاً في أول الإسلام ثم حُرم، وهو الآن جائزٌ عند الشيعة. وأما قول المصنف: "إذا صح النكاح"، فالمراد: إذا صح النكاحُ، المؤجل فلا يحرمُ، وحين لم يصح بالدلائل الدالة لم يصح بجزم. قال الإمام: رُوي عن القاسم بن محمدٍ أن الآية تدل على تحريم المتعة. وتقريرهُ أنها ليست زوجةً له، فوجب أن لا تحل له، إنما قلنا: إنها ليست زوجةً لأنهما لا يتوارثان بالإجماع، ولو كانت زوجةً له لحصل التوارث، لقوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) بالنساء: 12]، فوجب أن لا تحل له لقوله تعالى: (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ). وقلتُ: ولا ارتياب أن هذه الصفات جاريةٌ في معرض المدح، وتعظيم أمر المؤمنين،

قلت: لا، لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحّ النكاح. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8)) وقرئ: "لأمانتهم". سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا. ومنه قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)] النساء: 58 [وقال (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)] الأنفال: 27 [. وإنما تؤدّى العيون لا المعاني، ويخان المؤتمن عليه، لا الأمانة في نفسها. والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعى الرعية. ويقال: من راعى هذا الشيء؟ أى متوليه وصاحبه: ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلو شأنهم عن أن يتعرضوا للغو المباح، فضلاً عما يزري بمروءتهم، فإن أحداً من ذوي المروءات لا يرضى أن يُفعل ذلك بمحارمه، فيكف يرضى بمحارم غيره من المؤمنين؟ قوله: (وقرئ: "لأمانتهم")، ابن كثير، والباقون: على الجمع. قال القاضي: الإفراد غما لأنها في الأصل مصدرٌ أو لأمن الإلباس. قوله: (سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة)، يعني: حكم الله تعالى بقوله: (لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) بالرعاية، فينبغي أن يُراد بالأمانة العهد عينان لا مصدران؛ لأن الراعي هو: القائم على الشيء بحفظٍ وإصلاح، لا على المعنى، ومنه قوله- في (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]-: "وإنما تُؤدي العيون لا المعاني"، وقوله: " (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) [الأنفال: 27] وإنما يُخان المؤتمن عليه، لا المصدر". قوله: (ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا)، وهو عطفٌ على قوله:

[(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)]. وقرئ (عَلى صَلَواتِهِمْ). فإن قلت: كيف كرّر ذكر الصلاة أوّلا وآخرا؟ قلت: هما ذكران مختلفان فليس بتكرير: ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "سُمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة"، فإذاً المرادُ من الأمانة والعهد المصدر، وهو جنسٌ يتناول كل ما يطلق عليه الأمانة أو العهد. ولهذا قال: "من جهة الله عز وجل، ومن جهة الخلق". ويؤيد هذا التفسير قراءة الأكثر: (لأَمَانَاتِهِمْ)، قال مكي بن أبي طالب: "أماناتهم": مصدرٌ، وحقه أن لا يُجمع؛ لدلالته على القليل والكثير من جنسه، لكن لما اختلفت أنواعُ الأمانة لوقوعها على الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من العبادات، وكذلك حق العباد جاز جمعها؛ لأنها لاختلاف أنواعها شابهت المفعول به، فجمعت كما يجمع المفعول به، وقد أجمعوا على الجمع في قوله تعالى: (أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]، وقد قرأ ابن كثير بالتوحيد في (قَدْ أَفْلَحَ)، ودليله إجماعهم على التوحيد في (وَعَهْدِهِمْ)، وهو مصدرٌ مثلها. فعلى هذا يُجعل قوله: (رَاعُونَ) استعارة للاهتمام بشأنها، والمحافظة عليها من أن يخان وينكث، قال الشاعر: أخٌ طاهرُ الاخلاق حلوٌ كأنه ... جنى النحل ممزوج بماء غمام يزيد على الأيام صفو مودةٍ ... وشدة إخلاص ورعي ذمام قوله: (وقرئ: "على صلاتهم")، حمزة والكسائي، والباقون: بالجمع. قال القاضي: ولفظُ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرير، ولذلك جمعه أكثر القراء.

وصفوا أوّلا بالخشوع في صلاتهم، وآخرا بالمحافظة عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها، ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتمّ به أوصافها. وأيضا فقد وحدت أوّلا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أىّ صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها: وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجد وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل. [(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 10 - 11]. أى (أُولئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا ورّاثا دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) فجاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم، وآخراً بالمحافظة عليها)، يعني: آخراً الأوصاف وتعدادها لمدح المؤمنين على الأصالة وذكر الصلاة تابعٌ لها، وُصفوا أولاً بالخشوع فيها، وآخراً بالمحافظة عليها، ومن ثم أتى بالموصولة ليدل على الذات، وجُعلت الأوصافُ صلة ليدل على علية استئهال بشارة الفلاح عاجلاً، وإيراث الفردوس آجلاً، نعم، فيه تعظيم شأنها على سبيل الإدماج، وإشارة النص حيث ابتدئ بذكرها، وانتهى إليها، على أن التكرير غير لازم؛ لأن إرادة الجنس غير إرادة الاستغراق، وإليه الإشارة بقوله: "وأيضاً فقد وُحدت أولاً، وجُمعت آخراً"، وخلاصته أن التكرير لإرادة تعليق كل مرة ما لم يعلق به أخرى، والفاء في "فقد وُحدت" كالفاء في قوله: "هما ذكران مختلفان فليس بتكرير". قوله: (أي: (أُوْلَئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمْ الْوَارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا وراثاً دون من عداهم)، أما معنى الجمع فمن توسيط العاطف بين الصفات المتوالية. وأما

بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روى أنّ الله عز وجلّ بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الأذفر. وفي رواية: ولبنة من مسكٍ ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحقاقُ تسميتهم بالوراثِ فلما سبق أن أولئك يوجب أن ما بعده جديرٌ بما قبله لاكتسابهم تلك الصفات الجارية عليهم. قال القاضي: الوراثة مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم وإن كان بمقتضى وعده مبالغةً فيه. وأما معنى الحصر فمن تعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل، وفي تتميم ذلك بتعقيب التفصيل للإجمال بإبدال (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) من (الْوَارِثُونَ) شأنٌ لا يكتنه كنهه، كما في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 6 - 7]. قوله: (ما مر في سورة مريم)، يعني في قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم: 6]، بل في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) [مريم: 40] أي: هم الذين ورثوا أرض الجنة، أي: ملكوها كما يملك الوراث حقوقهم. قال الزجاج: خوطب الناس بما يتعارفون؛ لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له. قوله: (وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر)، قال الزجاج: الفردوس: أصله رومي، وهو البستان، وكذلك جاء في التفسير، وقد قيل: إن الفردوس تعرفها العرب، وتسمى الموضع الذي فيه كرم: فردوساً. قوله: 0 لبنةً من ذهب ولبنةً من فضة)، قال الزجاج: روينا عن أحمد بن حنبل في كتابه

مذرّى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان. [(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَاناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)]. السلالة: الخلاصة، لأنها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين (مِن) و (مِنَ)؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله (مِنَ الْأَوْثانِ). فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "كتاب التفسير": أن الله تعالى بني جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنةً من فضة، وجعل جبالها المسك الأذفر. قله: (مُذري)، الجوهري: ذررتُ الحب والملح والدواء أذره ذراً: فرقته، ومنه الذريرة. قوله: (لأنها تُسلُّ من بين الكدر)، في "المطلع": السلالة: ما يسل من الشيء ويستخرج. قال صاحب "الديوان": فعالةٌ: اسم لما بقي بعد المصدر، فالسلالة: ما بقي بعد السل، كالنخالة والبراية لما بقي بعد النخل والبري، وفيها دلالةٌ على القلة، فإذا قبضت على الطين بكفك فخرج من بين أصابعك حره وخالصه فهو سلالة. وقال أبو البقاء: (مِنْ طِينٍ) صفة (سُلالَةٍ)، ويجوز أن يتعلق (مِنْ) بـ (سُلالَةٍ) بمعنى: مسلولة، ويمكن أن يُحمل قول الحسن: ماءٌ بين ظهراني الطين، على هذا.

ما معنى: جَعَلْنا الإنسان نطفة؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة. القرار: المستقرّ، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقرّ فيها، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ: (عظما فكسونا العظم)، و (عظاما فكسونا العظام)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى: جعلنا الإنسان نطفةً)، يعني: كيف قال أولا: (خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ) ثم قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً)؟ وأجاب: أن التعريف في "الإنسان" للجنس، فكأنه قيل: خلقنا جوهر ما يقال له: الإنسان ابتداء من طين، ثم صيرنا بعد ذلك جوهره من نطفة، قال القاضي: يجو أن يكون على حذف المضاف، أي: ثم جعلنا نسله، أي: خلقنا أصل الإنسان من سلالة، وهو آدم، ثم جعلنا نسله، أي: أولاده، من نطفةٍ. قوله: (وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر)، يريد أن قوله: (مَكِينٍ) صفةٌ للنطفة في الأصل، وقد أجري على مكانها ومستقرها، وهو الرحم، إما على الإسناد المجازي نحو: طريقٌ سائرٌ، للمبالغة، أو وُصف الرحم بالمكين، ليؤذن بأن النطفة مكنت بحيث هي في رحم مكين غير منفصل مع ثقل الحمل، أو مُكنت في مكين غير ماجة لها، كأنها أحرزت في حرز حصين، وعلى هذا هو: نكايةٌ، أي: جعلناه نطفةً محروزة. قوله: (قرئ: "عظماً")، أبو بكر وابن عامر، وكذا: "فكسونا العظم"، والباقون: (َعِظَاماً). قال ابن جني: قرأ "عظما" واحداً، (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ) جماعةً: السلميُّ، وقتادة، والأعرج. وقرأ (َعِظَاماً) جماعةً، "فكسونا العظم" واحداً: مجاهدٌ. أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة، ومن جمع فنه أراد بأن هذا أمرٌ عام في جميع الناس، وقد شاع عنهم إيقاع المفرد في موضع الجماعة، قال: كلوا في بعض بطنكم تعفوا

و (عظما فكسونا العظام)، و (عظاما فكسونا العظم). وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة (خَلْقاً آخَرَ) أى خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه - عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح: وقد احتجّ به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ، لأنه خلق آخر سوى البيضة (فَتَبارَكَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقول الطفيل: في حلقكم عظمٌ وقد شجينا ومن قدم الإفراد نظر إلى اللفظ الذي هو إنسانٌ، وسلالة، ونطفة، ثم عقب بالجماعة لأنها هي الغرض، ومن عكس بادر إليها؛ إذ كانت هي المقصودة، ثم عاد فعامل المفرد بمثله. والأول أجرى على قوانينهم، ألا ترى أنك تقول: من قام وقعدوا إخوانك، لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى وضعف: من قاموا وقعد إخوتك؛ لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى، وانصرفت عن اللفظ، فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجعٌ وانتكاثٌ فاعرفه وابن عليه فإنه كثيرٌ جداً. قوله: (وقد احتج به أبو نيفة فيمن غصب بيضةً فأفرخت عنده، قال: يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ لأنه خلقٌ آخر)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ لأن تضمينه الفرخ؛ لكونه جُزءاً من المغصوب، لا لكونه عينه أو مسمى باسمه. وقال الإمام: قالوا: في الآية

اللَّهُ) فتعالى أمره في قدرته وعلمه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أى: أحسن المقدّرين تقديرا، فترك ذكر المميز لدلالة (الخالقين) عليه. ونحوه: طرح المأذون فيه في قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)] الحج: 39 [؛ لدلالة الصلة. وروى عن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله (خلقا آخر)، قال: (فتبارك الله أحسن الخالقين). وروي أنّ عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت» فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبىّ يوحى إلىّ، فلحق بمكة كافرا، ثم أسلم يوم الفتح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دلالةٌ على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح، لا البدن، فإنه تعالى بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات. وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان شيءٌ لا ينقسم، وإنه ليس بجسم. قوله: (أحسن المقدرين تقديرا)، يريد أن "الخَلْقَ" هاهنا بمعنى: التقدير، كقوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة: 110]، أي: تقدر لما سبق من الأطوار المتباينة، قيل: وقوله: "تقديراً" تمييزٌ وليس بتأكيد؛ لأن أفعل التفضيل إنما ينصب النكرات على التمييز خاصة، كقولهم: هذا أكثر منه شيئاً. قوله: (فترك ذكرُ المميز)، كأنه قيل: أحسن الخالقين خالقاً، قال في الحاشية: نظيره: قوله: "إن الله جميلٌ يحب الجمال"، المعنى: جميلٌ فعله محذوف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً فاستكن. قوله: (إن كان محمدٌ نبياً يُوحى إليه فأنا نبيٌّ يوحى إليَّ)، القياس فاسدٌ من وجهين،

[(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)]. قرأ ابن أبى عبلة وابن محيصن: (لمائتون). والفرق بين الميت والمائت: أنّ الميت كالحي صفة ثابتة. وأمّا المائت، فيدل على الحدوث. تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدا، كقولك يموت. ونحوهما: ضيق وضائق، في قوله تعالى (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)] هود: 12 [. جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضا على اقتدار عظيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: اتفاقُ ذلك المقدار سيما إذا تكلم بديهاً يكون من قبيل: رميةٌ من غير رام، فلا يلتفت إليه، وثانيهما: أن التحدي إنما وقع بأقصر سورة. قوله: (جعل الإماتة .. والبعث ... دليلين أيضاً على اقتدار عظيم)، أما الإشارةُ إلى كون الإماتة دالة على اقتدار عظيم فما في (ثُمَّ) من معنى التراخي في الرتبة، وتأكيدها بقوله: (بَعْدِ ذَلِكَ)، يعني: من أنشأ إنشاءً لطيفاً، وأبدع تركيباً عجيباً، لا يتسهل عليه إعدامه، وتفكيكُ أجزائه، لكن الله سبحانه وتعالى لعظم قدرته، وأن الموجودات لا يتوقف حصولها على شيء إذا تعلقت إرادته بها، كما قال: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، يفكك ذلك التركيب العجيب الدائر بين تلك الأطوار المتباينة التي تخرق العقول، ويعدم ذلك الإنشاء الغريب الذي من شاهده اضطر إلى قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، ثم ينشئه النشأة الأخرى أبدع ما يكون للاتصال إلى أقصى نهايات المطالب وأما دلالة البعث على الاقتدار العظيم فظاهرة. فإن قلت: أمر الإعادة مما وقع عليه الإنكار من الجم الغفير، فكان قميناً بالتوكيدات، بخلاف الموت، فإن وقوعه من الضروريات، فلم جيء بـ"إن" واللام وبالاسم، لا سيما بالصفة المشبهة فيما ليس فيه الإنكارُ من وجه، وأتى فيما فيه الخلافُ بـ"إنّ" وحدها؟ قلتُ: قد مر أن الكلام في بيان إبداع تلك الخلقة العجيبة الشأن وتقلبها في تلا لأطوار التي تخرق الأوهام والأفكار منها، وفي الإيذان بأن له طوراً آخر هو غايةُ كماله، ولذلك خُلقَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكُلفَ تلك التكاليف التي ذُكرت في الآيات السابقة، ومن ثم عقبها بها وبينها برزخ الموت ولابد من قطعه للوصول إليه، وكان ذلك التوكيد راجعاً إلى هذا المعنى، ومن ثم كرر (إِنَّكُمْ) ونقل من الغيبة إلى الخطاب، يعني: أن ماهيتك وحقيقتك أيها المخلوق العجيبُ الشأن، تفنى وتُعدمُ، ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة، والعظام البالية، والجلود الممزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب، تبعث وتنشر ليوم الجزاء؛ لإثابة المحسن وعقاب المسيء، فالقرينة الثانية لم تحتج إلى التوكيد افتقار الأولى؛ لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجعٌ إليها، وقالوا: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نُزلوا منزلة المنكرين لذلك، وأخلى الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها. وقلتُ: هذا كلامٌ حسنٌ لو ساعد عليه النظم الفائق وتكرير حرف التراخي المؤذن بتفاوت المراتب والأطوار من لدن قوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) إلى قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ). وأما دلالةُ معنى التوكيد الذي يعطيه "إن" في القرينتين، فكدلالته في قول المؤمن الموحد: (رَبَّنَا آمَنَّا) [آل عمران: 63]، (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا) [آل عمران: 193]، وفي قول المنافق: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14]، وقد استقصينا القول فيه في أول البقرة، ومحالٌ تصور التمادي في الغفلة من قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30]، والمخاطب حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه، بل هو بشارة ووعدٌ له، وتهديدٌ ووعيدٌ لمخالفيه. وروينا عن مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولالهل صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه"، والموت قبل لقائه. وفي رواية للبخاري من طريق همام عن قتادة، فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموتُ بُشر بعذاب الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى وعقوبته، فليس شيءٌ أكره إليه مما أمامه"، الحديث. فإذا كانت محبةُ الله منوطةً به، ولقاء الله متوقفاً عليه، فهو إذن مطلوبٌ ضروري. وروى الإمام في "تفسيره": أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لملك الموت وقد جاءه لقبض رُوحه: هل رأيت خليلاً يُميتُ خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت، الآن فاقبض. الراغبُ: الموتُ: أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم الأبدي، والكمال السرمدي، وهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالاً، فهو في الحقيقة انتقالٌ من منزل أدنى إلى منزل أعلى، ولم يكرهه إلا أحد رجلين: رجلٌ لا يؤمن بالآخرة، وآخر يؤمنُ، ولكن يخاف ذنبه، وأما المؤمن الصالح فالموت ذريعةٌ له إلى السعادة الكبرى؛ لأنه بابٌ من أبواب الجنة منه يتوصلُ إليها، ولو لم يكن لم تكن الجنة، فإذن لا يكون شيءٌ أحب إليه من تمنيه، قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 94]، ولهذا مَنّ الله تعالى على عباده بقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) [الملك: 1 - 2]، وقدم الموت على الحياة. وإنما مَنّ به؛ لأنه نعمةٌ؛ لأن السبب الذي يُتوصلُ به إلى النعمة نعمةٌ، وعلى ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 14 - 16] فنبه تعالى وتقدس أن هذه التغييرات حُسنٌ، ثم نقض هذه البُنية لإعادتها على وجهٍ أشرف وأحسن، وعلى هذا رُوي: "الدنيا سجنُ المؤمن

بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت: فإذا لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت: ليس في ذكر الحياتين نفى الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أن الثلث ليس عندك. وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوى ذكرها من جنس الإعادة. [(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) 17]. الطرائق: السماوات، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل، وكل شيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجنةُ الكافر"، ولما مات داودُ الطائي سُمع هاتفٌ يهتفُ: أُطلق داودُ من السجن. هذا خلاصةُ كلامه من "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين"، والله تعالى أعلم. قوله: (والمطوي ذكرها من جنس الإعادة)، وقلت: قد مر أن الكلام واردٌ في الإنشاء والإعادة، وذكرُ الموت تابعٌ لذكرها، وليس في بيان إثبات حياة القبر. قوله: (لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل)، النهاية: طارق النعل: إذا صيرها طاقاً وق طاق، وركب بعضها فوق بعض. اولتشبيه هاهنا واقعٌ في مجرد تصييرها طاقاً فوق طاق، دون اللصوق. روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ وأصحابه قال: "هل تدرون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها الرقيعُ، سقفٌ محفوظٌ وموجٌ مكفوف"، قال: "هل تدرون مابينكم وبينها؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "سماءان بُعدُ ما بينهما خمسُ مئة سنة". ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات، وما بن كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "وإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بُعْدُ السماءين". الحديث.

فوقه مثله فهو طريقة: أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم: وقيل: الأفلاك، لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها: أراد بالخلق السماوات، كأنه قال: خلقناها فوقهم (وَما كُنَّا) عنها (غافِلِينَ) وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا: أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلا عنهم وما يصلحهم. [(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) 18]. (بِقَدَرٍ) بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) كقوله (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)] الزمر: 21 [وقيل: جعلناه ثابتا في الأرض. وقيل: إنها خمسة أنهار: سيحون نهر الهند. وجيحون: نهر بلخ، ودجلة والفرات: نهرا العراق. والنيل: نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الأفلاك)، أي: وقيل: الطرائقُ: الأفلاك، والفرقُ أن المظلة إذا اعتُبرت فيها الأطباقُ، أو طرقُ الملائكة، سميت سماوات، وإذا نُظر إلى الكواكب ومسائرها، سُميت أفلاكاً، لقوله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33]. قوله: (أو أراد به الناس)، عطفٌ على قوله: "أراد بالخلق السماوات"، يعني: "الخَلْقُ": إما مُظهرٌ أقيم مقام الضمير؛ للإشعار بأنه تعالى خلق السماوات عن حكمة، وأنها محفوظةٌ بحفظه وإمساكه. وإما مصدرٌ بمعنى مخلوق؛ للإشعار بفضيلة الإنسان، وأن هذه المخلوقات العظام أُوجدت لمنافعه ديناً ودنيا امتناناً عليهم، وعلى التقديرين يلزمُ تعظيمُ ما يُرادُ منه. قوله: (على وجه من وجوه الذهاب به)، وذلك أن التنكير فيه يدلُّ على تفخيم شأن

لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَاتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)] الملك: 30 [. فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذهاب، أي: ذهابٌ لا يكتنهُ كنهه ولا يقادر قدره، بحيثُ إن تُصورَ أن ينقلب الماءُ إلى ضده، لجاز ذلك، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) [الدخان: 10]. قال المصنف: إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالجدب، فأصابهمُ الجهدُ، وكان يرى الرجل بين السماء والأرض الدخان. ومنه قولُ المعري: القاتل المحل إذ تبدو السماء لنا ... كأنها من نجيع الجدب في أزر وهو المراد من قوله: فهو قادرٌ على رفعه وإزالته"، وهذه المبالغة يقتضيها مقامُ الإيعاد العظيم؛ لأن الآية مسوقةٌ بعد تعداد نعمتي الأنفس والآفاق، واستجلاب الشكر لها، والتحذير من كُفرانها، ولذلك أكد الجملة بأنواع من المؤكدات، حيثُ جيء بها اسميةً مصدرةً بأن مؤكدةً باللام، وقدم المعمول على العامل، وأتى بصيغة الكبرياء والعظمة وهي ضمير الجماعة، وبالجارة الدالة على الاستصحاب، أي: يأخذ الله معه ويمسكه عنده، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، ولما تضمنت الآية هذه الاعتبارات قال: "هو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً) [الملك: 30] "، لأن غور الماء بنفسه ليس كإذهاب الله تعالى إياه وأنها خليةٌ عن المؤكدات، وأنها مسندٌ فيها الغور إلى الماء المضاف إليهم، ومقيد بأصبح، وهو للانتقال هنا، وليس تنكيرُ غوراً كتنكير ذهاب؛ لأنه للجنس، وهو ما يعلمه كل أحدٍ أن الغور ما هو، وهذا للنوع كما مر. ولم أقل: إن الشرط فيها يدلُّ على الفرض والتقدير، لويس في هذه، لأن كلتا الجملتين واردةٌ للإيعاد، فلا وقوع إذن، نعم، دلالةُ هذه على تقدير وقوعها أبلغ. قوله: (لا يتعايا عليه شيء)، الجوهري: أعيا عليه الأمرُ، وتعيا وتعايا: بمعنى، وعييتُ بأمري: إذا لم تهتد لوجهه، وأعياني.

[(فَأَنْشَانا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَاكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) 19 - 20]. خصّ هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله (وَمِنْها تَاكُلُونَ) من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون (وَشَجَرَةً) عطف على (جنات). وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة طُورِ سَيْناءَ وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مُضافٍ ومضافٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يأكل فلانٌ من حرفةٍ يحترفُها)، فـ"مِن" - على هذا-: ابتدائيةٌ، والمفعولُ محذوف، ولهذا قال: إنها جهتُه التي منها يحصل رزقه، وعلى الأول: تبعيضيةٌ، وهو المفعولُ به، وإليه الإشارةُ بقوله: "إنه فاكهةٌ يتفكه بها، وطعامٌ يؤكل، وذلك بحسب المتنعمين والمتقنعين بالقوت". في المطلع: من هذه: للتبعيض، لأن ما يسقطُ منها غير يانع يفسد غيرُ مأكول، ولأن بعض أجزاء الفواكه يصلح لبني آدم، وبعضها للداوب. قوله: (طعمتُه)، الجوهري: الطعمةُ بالضم: المأكلةُ، يقالُ: جعلت هذه الضيعة طُعمةً لفلان، والطعمةُ أيضاً: وجه المكسب، يقالُ: فلانٌ عفيفُ الطعمة وخبيثُ الطعمة، إذا كان رديء الكسب. أبو عبيدة: فلانٌ حسنُ الطعمة، بالكسر. المُغرب: الطعمةُ بالضم: الرزقُ، يقال: جعل السلطانُ ناحية كذا طُعمةً لفلان.

إليه، كامرئ القيس، وكبعل بك، فيمن أضاف. فمن كسر سين "سيناء" فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء. ومن فتح فلم يصرف، لأنّ الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: (سينا) على القصر (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: (تنبت). وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير: رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتّي إذا أنبت البقل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمن كسر سين "سيناء")، ابن عامر وحمزةُ وعاصمٌ الكسائي. والباقون: فتحوها. قوله: (كعلباء)، الجوهري: هو عصبُ العنق. والحرباء: أكبر من العظاءة شيئاً، يستقبل الشمس ويدور معها كيف ما دارت ويتلونُ ألواناً نحو الشمس، وهو ذكرُ أم حُبينٍ، والجمعُ الحرابيُّ، والأنثى حرباءُ. قوله: (وقر: "تُنبتُ")، ابن كثير وأبو عمرو. قوله: (رأيت ذوي الحاجات)، البيت، رأيت: على الخطاب، تصحيح الصغاني. ذوو الحاجات: الفقراء والمساكين. قطيناً، أي: مقيماً، جمع قاطن، والقطينُ: الخدمُ والأتباع. يقولُ: رأيت ذوي الحاجات مقيمين حول بيوتهم؛ لقضاء حوائجهم، حتى إذا نبت البقلُ وظهر الخصبُ، فينتجعون وينفضون من حولها.

والثاني: أنّ مفعوله محذوف، أى: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: (تنبت)، بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم (تنبت). وقرأ ابن مسعود: (تخرج الدهن وصبغ الآكلين). وغيره: (تخرج بالدهن): وفي حرف أبىّ: (تثمر بالدهن). وعن بعضهم: (تنبت بالدهان). وقرأ الأعمش: (وصبغا) وقرئ و (صباغ). ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) [النور: 35]. [(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَاكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) 21 - 22]. قرئ: (تسقيكم)، بتاء مفتوحة، أى: تسقيكم الأنعام (وَمِنْها تَاكُلُونَ) أى تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من البغال والحمير والخيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الحريري: قيلَ في جواز الجمع بين حرفي التعدية في قراءة ضم التاء عدةُ أقوال، والأحسنُ إنما زيدت الباءُ لأن إنباتها الدُّهن بعد إنبات الثمر الذي يخرجُ الدُّهنُ منه، فلما كان الفعلُ في المعنى قد تعلق بمفعولينَ يكونان في حالٍ بعد حال وهُما الثمرةُ والدُّهنُ احتيج إلى تقويته في التعدي بالباء. قوله: ("تُنبتُ" بضم التاءِ وفتح الباء)، قال ابنُ جِنِّي: وهي قراءةُ الزُّهريِّ والحسنِ والأعرج. أي: يُنبتُ الماءُ شجرة، ونحن نعلمُ أن الدُّهنَ لا ينبتُ الشجرة وإنما ينبتها الماءُ، وكذلك أيضاً قراءةُ عبد الله: "تخرجُ الدُّهنَ"، أي: تخرجُ من الأرضِ ودهنُها فيها. قوله: (تنبتُ بالدهان)، الجوهري: الدهانُ: جمعُ دُهن، يقال: دهنته بالدهان.

وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك - التي هي السفائن - لأنها سفائن البرّ. قال ذو الرمة: سفينة برّ تحت خدّى زمامها يريد صيدحه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيها منفعةٌ زائدةٌ، وهي الكلُ الذي هو انتفاعٌ بذواتها)، يعني: عطفَ قوله: (وَمِنْهَا تَاكُلُونَ) على قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ) وقدم الظرف على عامله، ليُشعرِ بالأولِ الاشتراك بسائر الحيوانات التي تُناسبها في المنافع، وبالثاني اختصاصها بمنفعةٍ زائدة، وكذا عطف قوله: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)؛ ليؤذن بأن المراد من قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) الإبلُ لا غير، فحينئذٍ نظمُ الآيات قريبٌ من نظم قوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية: 17] الآية. فإن قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) إلى قوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ) تفصيلٌ لقوله تعالى: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية: 19 - 29]، وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) إلى قوله تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) تفصيلٌ لقوله تعالى: (إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية: 17]، وإنما دخل الجبالُ، وإن لم يُنص عليها في التنزيل، لأن قوله تعالى: (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ) يدل عليها، وإليه الإشارة بقوله: "فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض". قوله: (سفينةُ برٍّ)، في المطلع: ألا خيلت ميٌّ وقد نام صحبتي ... فما نفر التهويم إلا سلامُها طروقاً وجلبُ الرحلِ مشدودةٌ به ... سفينةُ بر تحت خدي زمامها صيدح: علمُ ناقةِ ذي الرُّمة. خيلت: أي: أرت خيالها، وصحبتي: فاعلُ نام. نفره

[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)]. (غَيْرُهُ) بالرفع على المحل، وبالجرّ على اللفظ، والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للأمر بالعبادة (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء (أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنفره: بمعنى. والتهويمُ: أولُ النوم. طروقاً: يقال: ناقةٌ طروقة الفحل التي قد بلغت أن يضربها الفحلُ، وهو مفعولُ "خيلت". جِلبُ الرحل بالجيم المكسورة: عيدانُه. قوله: (وبالجر على اللفظ)، أي: قرئ: "غيرهِ" بالجر حملاً على اللفظ، قرأها الكسائي وحده. قوله: (والجملة استئناف)، أي: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وذلك أنه لما قال: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي: خُصوهُ بالعبادة قالوا: لم تأمرُ بعبادته وحده؟ قال: لأنه (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فدل اختصاص الجواب على اختصاص ما بُني له الكلامُ، وأن مقام الخطاب مع المشركين استدعى الاختصاص. قال القاضي: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً) إلى آخر القصص: مسوقٌ لبيانِ كفرانِ الناسِ ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة، وما حاقهم من زوالها. وقد يجيء الكلامُ في بيان النظم عند قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون: 57] إن شاء الله تعالى.

يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ)] يونس: 78 [. (بِهذا) إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلهم به من الحث على عبادة الله، أى: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى -وهو بشر- أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوّة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا) يدل على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغى، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عنّ لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا؟ ! . والجنة: الجنون أو الجنّ، أى: به جنّ يخبلونه (حَتَّى حِينٍ) أى احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه. [(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) 26 - 30]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا تراهم كيف جننوه)، بيانٌ لقوله: "أو تُكذبوا في ذلك" يعني: قوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) تكذيبٌ وعنادٌ؛ لانهماكهم في الغي، ألا ترى كيف عقبوهُ بقولهم: (إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) والحالُ أنهم قد علموا أنه أعقلُ الناس؟ قوله: (يُخبلونه)، الجوهري: الخبلُ بالتسكين: الفسادُ، الخبلُ بالتحريك: الجِنّ، يقال: به خبلٌ، أي شيءٌ من أهل الأرض.

في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياى، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أى بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلنى من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)] الأعراف: 59 [. (بِأَعْيُنِنا) بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظا يكلئونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في نُصرته إهلاكهم)، يعني: "انصُرني": مجازٌ عن إهلاكهم؛ لأن في نُصرته إهلاكهم، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب. قوله: (أبدلني من غم تكذيبهم، سلوة النُّصرة)، أي: "انصُرني" متضمنٌ لمعنى: أبدلني، باستعانة الباء، ولهذا أوقع النصرة مفعولاً به مع حذف المضاف. قوله: (أو انصُرني بإنجاز ما وعدتهم)، فعلى هذا متعلقُ "انصُرني" محذوفٌ، والباءُ سببيةٌ، كما في الوجه الأول. قال صاحب "الفرائد": يكفي أن يقال: انصرني بنزول العذاب عليهم بسبب تكذيبهم إياي. قوله: (وهو ما كذبوه فيه)، يعني: دل إضافة (كَذَّبُوهُ) على تكذيب معهود كذبوه، وهو ما عُلم في سورة الأعراف من قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) [الأعراف: 64] عندما قال عليه السلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 59] إلى آخرها، وعُلمَ من هذا البيان أن الفاء في قوله تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فاءٌ فصيحةٌ، أي: فكذبوه فقال: (رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) فأوحينا إليه: (أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) إلى قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) فامتثل مقتضى ما أوحيناه فأنجيناه والذين معه. قوله: ((بِأَعْيُنِنَا) بحفظنا وكلاءتنا)، يعني: استعير لهذه الكلمة تلك الكلمة؛ ليؤذن بأنه عليه السلام كان بحفظ من الله وكلاءةٍ، بحيث يقدرُ منه أنه تعالى جرد من نفسه المقدسة المبرأة: عن كل ما لا يليق بجلالته جماعةً حفاظاً يكلؤونه بعيونهم، كما تقول: كان معك من زيدٍ أسدٌ.

يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة (وَوَحْيِنا) أى نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روى أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة. وقيل بالهند. وعن ابن عباس رضى الله عنه: التنور وجه الأرض. وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أى أعلاه. وعن على رضى الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل، كقولهم: حمى الوطيس. والقول هو الأوّل. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جؤجؤ الطائر)، الجوهري: جؤجؤ الطائر والسفينة: صدورهما، الجميع: الجآجئ. قوله: (فار التنور: طلع الفجر)، كأنه قيل: فار التنور من الأرض، وطلع الفجرُ من السماء، فيكون قوله: "وقيل: معناه" تفسيراً لقول عليٍّ رضي الله عنه. المُغرب: التنورُ: مصدرُ نور بالفجر: إذا صلاها في التنوير. وقيل: أصله: ونورٌ، قُلبت الواو تاء كما في تراثٍ وتخمة. الأساس: أنار السراج ونوره، وتنور النار: تبصرها وقصدها. قوله: (هو مثلٌ، كقولهم: حمي الوطيس)، النهاية: الوطيس: التنورُ. هو كنايةٌ عن شدة الأمر، واضطرام الحرب. ويقالُ: أول من قالها النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يوم حُنين.

حتّى إذا أسلكوهم في قتائده (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) من كل أمّتى زوجين، وهما أمة الذكر وأمّة الأنثى، كالجمال والنوق، والحصن والرماك (اثْنَيْنِ) واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: (من كل)، بالتنوين، أى: من كل أمّة زوجين. و (اثنين): تأكيد وزيادة بيان. جيء ب"على" مع سبق الضارّ، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)] الأنبياء: 101 [، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ)] الصافات: 171 [ونحوه قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)] البقرة: 286 [وقول عمر رضى الله عنه: ليتها كانت كفافا، لا علىّ ولا لي. فإن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ)، تمامه: شلاً كما تطردُ الجمالةُ السُّردا قيل: البيتُ لعبد منافٍ الهذلي، قتائدة - بضم القاف، والتاء المثناة من فوق-: ثنيةٌ معروفة. والشلُّ: الطردُ، أي: يشلون شلاً، والجمالُ: صاحبُ الجمل والجمالةُ. وناقةٌ شرودةٌ: سائرةٌ في البلاد. يصفُ جيشاً هزموهم وطردوهم حتى أسلوهم في هذه الثنية، كما تطرد الجمالة النوق الشُّرد النافرة. قيل: هذا البيت آخر القصيدة، فلا جواب لقوله: إذا أسلكوهم. وقيل: قوله: شلا، جوابٌ. أي: حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلاً، فاكتفى بالمصدر عن الفعل. قوله: (والرماك)، الجوهري: الرمكة: الأنثى من البراذين، والجمعُ رِماك. قوله: (ليتها كانت كفافاً، لا عليّ ولا ليا)، النهاية: وفي حديث عمر رضي الله عنه:

قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهى عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله عز وجل (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)] الأنعام: 45 [، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). فإن قلت: هلا قيل: فقولوا، لقوله (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبىّ. وقرئ: (منزلا)، بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه)] الحج: 59 [. "إِنَّ" هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة كُنَّا َمُبْتَلِينَ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "وددت أني سلمتُ من الخلافة كفافاً، لا علي ولا لي". الكفافُ: هو الذي يفضلُ عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة. والنصبُ على أنه حالٌ، وقيل: أراد به مكفوفاً عني شرُها. قوله: (وأن رُتبة تلك المخاطبة)، عطفٌ على سبيل البيان على قوله: "بفضل النبوة". قوله: (وقرئ: (مُنْزَلاً))، أبو بكرٍ: "منزلاً" بفتح الميم وكسر الزاي، والباقون: بضم الميم وفتح الزاي.

أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أي: مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر: 15]. [(ثُمَّ أَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) 31 - 32]. (قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد قوم هود: عن ابن عباس رضى الله عنهما. وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)] الأعراف: 69 [، ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. فإن قلت: حق "أرسل" أن يعدى ب"إلى"، كأخواته التي هي: وجه، وأنفذ، وبعث. فما باله عدّى في القرآن ب"إلى" تارة، وب"في" أخرى، كقوله: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ)] الرعد: 30 [، (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ)] سبأ: 34 [. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا) أى في عاد. وفي موضع آخر (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً)] الأعراف: 65 [؟ قلت: لم يعدّ ب"في" كما عدّى ب"إلى"، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمّة أو القرية جعلت موضعا للإرسال، كما قال رؤبة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ببلاءٍ عظيم وعقابٍ شديد)، دل على ذلك صيغةُ التعظيم في قوله: (وَإِنْ كُنَّا)، ودل "إنْ" المخففة واللامُ على إيجاب إيقاع البلاء. قوله: (كقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، قال: "الضمير في (تَرَكْنَاهَا) للسفينة، أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبرُ بها". قوله: (هم عادٌ قومُ هود)، أي: ضميرُ "هم" في قوله: (مِنْ بَعْدِهِمْ) لعادٍ قوم هُود. قال القاضي: هم عادٌ، أو ثمودُ، والرسول هو هودٌ أو صالحٌ عليهما السلام. قوله: (ولم يُجعل صلةً مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال، يعني: ليست "في" للتعدية مثل "إلى"، لكن: رفٌ له، اقتطع "أرسلنا" من صلته، وجُعل مطلقاً،

أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام وقد جاء «بعث» على ذلك في قوله (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)] الفرقان: 51 [. (أَنِ) مفسرة بـ"أرسلنا"، أى: قلنا لهم على لسان الرسول (اعْبُدُوا اللَّهَ). [(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَاكُلُ مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) 33 - 34]. فإن قلت: ذكر مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم عُدي بـ "في" مبالغةً، كقوله: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف: 15] اقتُطع (ذُرِّيَّتِي) من كونه مفعولاً به، وذُهب به إلى كونه ظرفاً لـ"أصلح"، أي: اجعل ذُريتي موضعاً للصلاح. قوله: (أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام)، تمامه من "المطلع": طباً فقيهاً بذوات الإبلام أصعب الجملُ: إذا لم يُكرب ولم يُذلل، فهو مصعبٌ، وهو الفحل، وبه سُمي الرجلُ مصعباً لسؤدده. ذو إقحام، أي: يقحمُ في الأمور، ويدخلُ فيها بغير تلبثٍ ولا روية، والطبُّ: الحاذقُ، يقالُ: اعمل فيها عمل من طب لمن حب. والإبلامُ: مصدرُ أبلمتِ الناقةُ: إذا ورم حياؤها من شدة شهوة الفحل.

واو: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الأعراف: 66]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ))، هو في سورة الأعراف [66]. وقوله: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) في سورة هود [53]، وفي نسخةٍ قالوا: (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا) [هود: 27]. وخلاصةُ الجواب: أن المقصود بيانُ الفرق بين القولين، ولا يتفاوتُ ذلك أية آيةٍ سلكت، وذلك بأن القطع لبعث السامع على موضع السؤال، فإذا أُجيب بما أجابوه يحصلُ عنده الفرق بين الكلامين من الحق والباطل، وعليه العطفُ، ولهذا قال: "وشتان ما هما"، وذلك أن السامع البليغ إذا سمع الكلامين المتصلين بالواو، لابد أن يتحرى للجهة الجامعة، فهاهنا يعلمُ أن الجهة هي التضاد، قالوا: جواب المصنف لا طائل تحته؛ لأن بين كلام هود عليه السلام وأجوبة القوم في هذه المواضع اختلافاً كثيراً، وكان الجواب أن يسأل عن كل ذلك فما بال الواو؟ وأيضاً، عليه أن يجيب عن سؤاله بموقع الواو هنا وإخلائه هناك، لا عن الخاصية، فإنها معلومةٌ عند علماء البيان. قلتُ: يمكن أن يقال: إن هوداً مكث بين القوم أزمنةً متطاولة، وله معهم مقالات، ومجادلات في مقامات شتى، وذلك يوجب اختلاف العبارات، فإن لكل قوم مقالاً، فكان كلامه في سورة هود أبسط من هذين الموضعين؛ لأنه قد أهر فيه النصيحة التامة، وضم مع الأمر بالعبادة الأمر بالاستغفار والتوبة، وعدهم بذلك البركات والخيرات، وكان ذلك مظنة لبعث السامع وتحركه على السؤال، فما كان جواب القوم عنه بعد تلك النصيحة البالغة. أما في الأعراف وإن لم يبسط ذلك البسط، لكن ذكر فيه اسم هود بعد التوطئة بقوله: (أَخَاهُمْ)، فدل على إضمار النصح، بل أهم وأبلغث من ذلك؛ فإن الأخوة مئنةق لكل حدب ومرحمة، ألا ترى كيف من الله تعالى على قريش بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، بخلافه هاهنا، بل طوى اسمه أيضاً، والقوم ما التفتوا إليه، وإلى كلامه، وما أجابوا، بل كانت تلك المقالة دمدمةً فيما بينهم. والله تعالى أعلمُ بأسرار كلامه. وقال القاضي: لعله ذكره بالواو؛ لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول، بخلاف قول قوم نوح، وحيث استؤنف به فعلى تقدير سؤال.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود: 53]، وهاهنا مع الواو، فأي فرق بينهما؟ قلت: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا كيت وكيت. وأما الذي مع الواو، فعطف لما قالوه على ما قاله. ومعناه: أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل، وشتان ما هما (بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، كقولك: يا حبذا جوار مكة: أى جوار الله في مكة. حذف الضمير، والمعنى: من مشروبكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشتان ما هما)، الجوهري: شتان ما عمرو وأخوه، أي: بعُدَ ما بينهما. الأصمعي: لا يقال: شتان ما بينهما. وشتان مصروفٌ عن شتُتَ، والفتحة التي في النون هي الفتحة التي كانت في التاء، لتدل على أنه مصروفٌ عن الفعل الماضي، وكذلك سرعان ووشكان: مصروفٌ عن سرُع ووشك. وقال ابن جني: شتان: اسمُ "افترق"، كما أن هيهات: اسمُ "بعُدَ"، وأفٍّ: اسمُ "اتضجرُ". قوله: (جوار مكة، أي: جوار الله في مكة)، وهذا أيضاً مجاز؛ لأن الجوار يستدعي من يكون في جواره، لكنه تعالى لما أضاف البيت إلى نفسه، فمن أقام فيه فكأنه في جوار الله فقيل: جار الله. النهاية: وفي الحديث: "أنه كان يُجاورُ في العشر الأواخر من رمضان"، أي: يعتكفُ. وهي مفاعلةٌ من الجوار. فأما المجاور بمكة المدينة: فيرادُ بها المقامُ مطلقاً غير ملتزم بشرائط الاعتكاف الشرعي.

أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه (إِذاً) واقع في جزاء الشرط، وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أى: تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم. [(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) 35 - 38]. ثني (أَنَّكُمْ) للتوكيد، وحسن ذلك لفصل ما بين الأوّل والثاني بالظرف. و (مخرجون): خبر عن الأول. أو جعل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ، و (إِذا مِتُّمْ) خبرا، على معنى: إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن (إنكم)، أو رفع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) بفعل هو جزاء للشرط، كأنه قيل: إذا متم وقع إخراجكم، ثم أوقعت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو حُذف منه، لدلالة ما قبله عليه)، يريد أن "ما" في (مِمَّا تَشْرَبُونَ) موصولةٌ، ولابد من الراجع، فحُذف؛ لأن المراد: مما يشربونه، أو يشربون منه؛ لدلالة قوله: (مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ). قوله: (ثُنيَ (أَنَّكُمْ) للتوكيد)، قال الزجاج: أما (أَنَّكُمْ) الأولى لموضعها نصبٌ على معنى: أبعدكم بأنكم إذا متم، والثانية كالأولى ذُكرت توكيداً، والمعنى: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، فلما بعُدَ ما بين "أنّ" الأولى والثانية بالظرف أعيد (أَنَّكُمْ)، كقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة: 63]، المعنى: فله نارُ جهنم، هذا مذهبُ سيبويه. قوله: (ثم أخبر بالجملة عن (أَنَّكُمْ))، يعني: (أَنَّكُمْ) الثانية تُجعلُ مبتدأ، وخبره: (إِذَا مِتُّمْ)، والجملةُ خبرُ المبتدأ الأول.

الجملة الشرطية خبرا عن (إنكم). وفي قراءة ابن مسعود: (أيعدكم إذا متم). قرئ (هَيْهاتَ) بالفتح والكسر والضم، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف فإن قلت: "ما توعدون" هو المستبعد، ومن حقه أن يرتفع ب"هيهات"، كما ارتفع في قوله: ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: (هَيْهَاتَ) بالفتح والكسر والضم)، قال ابن جني: بكسر التاء غير منونةٍ: قراءةُ أبي جعفر والثقفي. وبالتنوين: عيسى بن عمر. وبالضم منونةً: أبو حيوة؛ وغير منون: عيسى الهمدانيُّ ورويت عن أبي عمرو. أما الفتحُ، وهو قراءةُ العامة، فعلى أنه واحدٌ، وهو اسمٌ سُمي به الفعل في الخبر، وهو اسم "بَعُدَ"، كما أن "شتان" سُمي به "افترق"، ومن كسر التاء منوناً وغير منونٍ فهُو جمعُ "هيهات". وقال الزجاجُ: هو جمعُ هيهة وإن لم يُنطق به، مثل عرفة، جمعُه: عرفات، وإنما كُسَرِ في الجمع؛ لأن بناء الفتح في الجمع كسر، نحو: رأيتُ الهنداتِ. وقال ابن جني: ومن نونَ ذهب إلى التنكير، أي: بُعداً بُعْداً. ومن لم يُنون ذهب إلى التعريف، أي: البعد البُعدَ. ومن فتح وقف بالهاء؛ كهاء أرطاة، ومن قال: "هيهاة" يكتبها بالهاء؛ لأن أكثر القُراء قالوا: هيهات بالفتح، والفتحُ يدلُّ على الإفراد، والإفرادُ بالهاء كعلقاة. ومن رفع وقال: هيهاةُ فقد أخلصها اسماً للفعل. وقال الزجاج: أما التنوين والفتح فلا أعلمُ أحداً قرأ بها.

فهيهات هيهات العقيق وأهله فما هذه اللام؟ قلت قال الزجاج في "تفسيره": البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون فيمن نوّن، فنزله منزلة المصدر. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللام في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] لبيان المهيت به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهيهات هيهات العقيقُ وأهلهُ)، تمامه في "المطلع": وهيهات خلٌّ بالعقيق نواصله قوله: (قال الزجاج في "تفسيره")، قال فيه: من فتحها وموضعها الرفعُ، وتأويلها: البعد لما تُوعدون، فلأنها بمنزلة الأصوات وليت مشتقة من فعل فبُنيت. فأما من نون جعلها نكرةً، ويكونُ المعنى: بعُد لما تُوعدون، وهو مثلُ: سلامٌ عليكم. قال صاحب "التقريب": وفي بناء "هيهات" ولم يقع موقع "بَعُدَ" نظرٌ. وقال أبو البقاء: قولُ من قال: "هيهات" بمعنى البُعْدِ، يكون موضعه مبتدأ، و (لِمَا تُوعَدُونَ) الخبرُ، وهو ضعيف. قوله: (اللام لبيان المستبعد ما هو)، قال القاضي: كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل: فما له هذا الاستبعاد؟ قالوا: لما تُوعدون. قال صاحب "التقريب": فعلى هذا في فاعل "هيهات" نظرٌ. وقال ابن جني: ولا يجوز أن يكون (لِمَا تُوعَدُونَ) فاعل "هيهاتَ"؛ لأن حرف الجر لا يكون فاعلاً، ولم يجز اعتقادُ زيادة اللام أيضاً، وإنما يُزادُ الغرضُ بزيادتها فيه تمكين الإضافة، قال: يا بؤس للحرب،

هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه. وأصله إن الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم وضع (هِيَ) موضع "الحياة"، لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت. والمعنى: لا حياة إلا هذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويا بؤس للجهل. وإذا لم يكن بُدٌّ من فاعل، ولم يكن الظاهر فاعلاً، ففيها ضمير فاعل لا محالة هذا جوابٌ عن النظر. قوله: (هي النفس ماحملتها تتحملُ)، تمامه: وللدهر أيامٌ تجورُ وتعدلُ قال صاحبُ "الفرائد": ما ذكر ليس لما نحنُ له؛ لأنه يصح أن يُقال: الحياةُ حياتنا الدنيا، ولا يصح: النفسُ النفسُ ما حملتها تتحملُ، والنفس الثانية: خبرٌ للنفس الأولى، وكذا القول في: هي العرب، فلا يصح أن تكون الثانية مبينة للأولى فيهما، فلابد من اعتبار شيء يرجع إليه الضمير، والذي تقدم لفظ الحياة في قوله: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وقلت: استشهاده لمجرد البيان؛ لأن الضمير في قوله: هي النفسُ ما حملتها تتحملُ، وكذلك في قوله: وهي العرب تقول: ضمير القصة، الجملة مفسرةٌ، نحو: (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، أي: القصة هذه، وهي أن النفس ما حملتها تتحملُ، وأن العرب تقولُ ما شاءت، على أن من الفصيح أن يُقال: النفسُ النفسُ ماحملتها تتحملُ، والعرب العرب تقول ماشاءت، على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعري وتكونُ الجملة الثانية مبينةً للأولى، كما سبق في قوله تعالى: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109] إذا انتصب (عَلاَّمُ) على المدح، وأما قوله: "الضمير راجعٌ إلى لفظ الحياة

الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى "الحياة" الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفى الجنس (نَمُوتُ وَنَحْيا) أى يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتى قرن آخر، ثم قالوا: ما هود إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له، وفيما يعدنا من البعث، وما نحن بمصدّقين. [(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 39 - 41]. (قَلِيلٍ) صفة للزمان، كقديم وحديث، في قولك: ما رأيته قديما ولا حديثا. وفي معناه: عن قريب. و «ما» توكيد قلة المدّة وقصرها (الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل عليه السلام: صاح عليهم فدمّرهم (بِالْحَقِّ) بالوجوب، لأنهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من الله، من قولك: فلان يقضى بالحق إذا كان عادلا في قضاياه: شبههم في دمارهم بالغثاء: وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قوله تعالى: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) " فبعيدٌ جداً؛ لأن تلك الحياة واقعةٌ في كلام الله تعالى، وهذه في أثناء كلام القوم؛ لأنه تعالى يحكي كلامهم من قوله: (مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلى قوله: (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ). قوله: ((قَلِيل) صفةٌ للزمان)، أي: عن زمان قليل. المطلع: أي: عن قريب من الزمان، يعني عند الموت أو عند نزول العذاب. وقال أبو البقاء: "و"عن" يتعلق بـ (لَيُصْبِحُنَّ)، ولم يمنع اللام ذلك، كما منعتها لامُ الابتداء. وأجازوا: زيداً لأضربن، لأن اللام للتوكيد، ومثله قوله تعالى: (بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 8]، وقيل: اللامُ تمنعُ من التقديم، إلا في الظروف؛ فإنه يُتسعُ فيها.

ومنه قوله تعالى (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)] الأعلى: 5 [وقد جاء مشدّدا في قول امرئ القيس: من السّيل والغثّاء فلكة مغزل بعدا، وسحقا، ودفراً ونحوها، مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها. ومعنى "فَبُعْداً": بعدوا، أى: هلكوا يقال: بعد بعدا وبعدا، نحو رشد رشدا ورشدا. و (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بيان لمن دعى عليه بالبعد، نحو: (هَيْتَ لَكَ)] يوسف: 23 [. و (لِما تُوعَدُونَ)] المؤمنون: 36 [. [(ثُمَّ أَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَاخِرُونَ) 42 - 43]. (قُرُوناً) قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بنى إسرائيل (أَجَلَها) الوقت الذي حدّ لهلاكها وكتب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى))، قال: "دريناً أسودَ"، والدرينُ: ما اسود من المرعى. قوله: (من السيل والغُثاء فلكةُ مغزل)، أوله: كأن ذُرى رأس المجيمر غُدوةً المجيمرُ: جبل في بلاد بني تميم بكسر الميم الثاني شبه استدارةَ هذه الأكمة بما أحاط بها من غُثاءِ السيل باستدارة فلكةِ مغزلٍ، وإحاطتها بالمغزل. ورُوي "فُلكةُ": بضم الفاءِ، وكسرها وفتحها. قوله: (ودفرا)، الجوهري: الدفرُ: النتن خاصةً. يقال دفراً له، أي: نتناً، ومنهُ قيل للدُّنيا: أمُّ دفرٍ.

[(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) 4]. (تَتْرا) فعلى: الألف للتأنيث، لأنّ الرسل جماعة. وقرئ: (تترى)، بالتنوين، والتاء بدل من الواو، كما في: تولج، وتيقور، أى: متواترين واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد: أضاف الرسل إليه وإلى أممهم (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ)] المائدة: 32 [(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)] الأعراف: 101 [لأنّ الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا (فَأَتْبَعْنا) الأمم أو القرون (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك (وَجَعَلْناهُمْ) أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. الأحاديث: تكون اسم جمع للحديث. ومنه: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكون جمعا للأحدوثة: التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة. وهي: ما يتحدّث به الناس تلهيا وتعجبا، وهو المراد هاهنا. (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) 45 - 46 [. فإن قلت: ما المراد بالسلطان المبين؟ قلت: يجوز أن تراد العصا، لأنها كانت أمّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تترى" بالتنوين)، ابن كثير وأبو عمرو. قوله: (في: تولج وتيقور)، الجوهري: التولج: كناسُ الوحش الذي يلجُ فيه. قال سيبويه: التاءُ مبدلةٌ من الواو، وهو فوعلٌ؛ لأنك لا تكادُ تجدُ في الكلام تفعلٌ اسماً، وفوعلٌ كثير، والتيفور: الوقارُ، وأصله: ويقُور، قُلبت الواو تاءً.

آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى: من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا ورشاء. جعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل، فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)] البقرة: 98 [ويجوز أن تراد الآيات أنفسها، أى: هي آيات وحجة بينة (عالِينَ) متكبرين (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)] القصص: 4 [، (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)] القصص: 83 [؛ أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم. (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)) 47 - 48 [ البشر يكون واحدا وجمعا: (بَشَراً سَوِيًّا)] مريم: 17 [، (لِبَشَرَيْنِ)، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ)] مريم: 26 [و «مثل» و «غير» يوصف بهما: الاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أفكتهُ السحرةُ)، الأساس: أفكه عن رأيه: صرفه. النهاية: وفي الحديث: "لقد أُفِكَ قومٌ كذبوك"، أي: صرفوا عن الحق ومنعوا منه، يقال: أفكهُ يأفكه: إذا صرفه عن الشيء فقلبه. قوله: (ويجوزُ أن تُراد الآياتُ أنفسها)، أي: يرادُ بالسلطان نفسُ الآيات، فالعطفُ من باب قولك: "مررتُ بالرجل الكريم والنسمة المباركة، جرد من نفس الآيات سلطانٌ مبين، وعُطِفَ عليها مبالغةً وهو هي". قوله: (و"مثلٌ" و"غيرٌ" يوصف بهما الاثنان والجمع)، قال أبو البقاء: إنما لم يُثَنّ (مِثْلَنَا)، وإن كنا موصوفه مثنى؛ لأنه في حُكم المصدر، وقد جاءت تثنيته، وجمعه، في

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)] النساء: 140 [، (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)] الطلاق: 12 [ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ)] الأعراف: 194 [. (وَقَوْمُهُما) يعنى بنى إسرائيل، كأنهم يعبدوننا خضوعا وتذللا. أو لأنه كان يدعى الإلهية فادعى للناس العبادة، وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة. ] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)) 49 [ (مُوسَى الْكِتابَ) أى قوم موسى التوراة (لَعَلَّهُمْ) يعملون بشرائعها ومواعظها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) [آل عمران: 13]. وقوله: (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38]، وقيل: إنما وحد؛ لأن المراد المماثلة في البشرية، وليس المرادُ الكمية. قال القاضي: هذه القصصُ كما ترى تشهدُ بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة، قياسُ حال الأنبياء على أحوالهم؛ لما بينهم من المماثلة في الحقيقة، وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل؛ فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراكات، لكنها متباينة الأقدام فيهما، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم التفكر برادةٍ، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التعلم والتفكر في أكثر الأشياء، وأغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم، ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم، وإليه أشار بقوله تعالى: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) [الكهف: 11] قوله: ((مُوسَى الْكِتَابَ)، أي: قوم موسى)، فلذا جمع الضمير في (لَعَلَّهُمْ)، وأعيد ذكرُ موسى عليه السلام؛ ليناط به ذكرُ الكتاب، وكونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل كما ذكر في الآية السابقة، وقرن به الآيات والسلطان وكونه مبعوثاً إلى فرعون وملئه.

كما قال: (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ)] يونس: 83 [يريد آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم، ويراد قومهم. ولا يجوز أن يرجع الضمير في (لَعَلَّهُمْ) إلى فرعون وملئه، لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى)] القصص: 43 [. ] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)) [ فإن قلت: لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت: نعم، لأنّ مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها، وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر، فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ آية وَأُمَّهُ آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. الربوة والرباوة في رائهما الحركات. وقرئ: (ربوة) و (رباوة)، بالضم. و (رباوة) بالكسر وهي الأرض المرتفعة. قيل: هي إيليا أرض بيت المقدس، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يريد آل فرعون)، بدليل جمع الضمير في (وَمَلَئِهِمْ) [يونس: 83]، وإلا فالظاهر: وملئه، وكذلك هاهنا: قال: موسى، وأريد قومُ موسى. قوله: (لو قيل: آيتين، هل كان يكون له وجهٌ)، "يكون": يجوز أن تكون مزيدة، وأن تكون خبر "كان" والاسمُ: ما دل عليه "قيل". هذا السؤال مؤذنٌ بأن الوجه ما ذكر في الأنبياء. فإن قُلت: هلا قيل: آيتين، كما قال: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء: 12]؟ قلتُ: لأن حالهما بمجموعهما آيةٌ واحدةٌ، وهي ولادتها إياه من غير فحل. قوله: (الربوة والرباوة: في رائهما الحركات)، بفتح الراء، وسكون الباء، وفتح الواو: ابن عامرٍ وعاصمٌ، والباقون: هكذا إلا بضم الراء. والرباوةُ بالضم والكسر: شاذة.

وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا: عن كعب. وقيل: دمشق وغوطتها. وعن الحسن: فلسطين والرملة، وعن أبى هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقيل: مصر. والقرار: المستقرّ من أرض مستوية منبسطة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء. يعنى أنه لأجل الثمار: يستقرّ فيها ساكنوها. والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، نحو: ركبه، إذا ضربه بركبته. ووجه من جعله فعيلا: أنه نفاع بظهوره وجريه، من الماعون: وهو المنفعة. [(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) 51]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنها كبدُ الأرض)، الأساس: ومن المجاز: وداره كبدُ نجد: وسطه، وكذلك وسط كل شيء، وبلغ كبد السماء، وتكبدت الشمسُ: توسطت السماء. قوله: (دمشقُ وغوطتها)، الجوهري: الغوطة بالضم: موضعٌ بالشام كثيرُ الماء والشجر. قوله: (ووجه من جعله فعيلاً: أنه نفاعٌ)، قال الزجاج: يجوز أنيكون فعيلاً من المعن، مشتقاً من الماعون، وهذا بعيدٌ؛ لأن المعن في اللغة: الشيء القليل، والماعونُ هو الزكاة، وهو فاعولٌ من المعن، وإنما سُميت الزكاةُ بالشيء القليل؛ لأنه يؤخذُ من المال ربعُ عُشره، فهو قليلٌ من كثير. والمصنفُ جعلهُ من الماعون الذي يتعاوره الناس في العادة من الفأس والقدر ونحوهما. الجوهري: الماعون: اسمٌ جامعٌ لمنافع البيت، ويُسمى الماء أيضاً ماعوناً، وعن أبي عبيدة: الماعون في الجاهلية: كل منفعةٍ وعطية، وفي الإسلام: الطاعةُ والزكاة.

هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرّقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأنّ كلّ رسول في زمانه نودي لذلك «1» ووصى به، ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. والمراد بالطيبات: ما حل وطاب. وقيل: طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال: الذي لا يعصى الله فيه، والصافي: الذي لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة؟ )، الانتصاف: هذه نفحةٌ اعتزالية، فمذهبنا أن الله تعالى في الزل متكلمٌ آمرٌ ناه، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين، بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين. والمعتزلة أنكروا قدم الكلام، فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وما ذكروه جار في جميع الأوامر العامة للأمة. وقال القاضي: الخطابُ لجميع الأنبياء عليهم السلام على معنى أن كلا منهم خوطب في زمانه، فيدخل تحته عيسى عليه السلام دخولاً أولياً، أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً على أن تهيئة أسباب التنعيم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء عليهم السلام شرعٌ قديم، واحتجاجاً على الرهبانية في رفض الطيبات، أو حكاية لما ذُكر لعيسى عليه السلام ومريم وإيوائهما إلى الربوة، ليقتديا بالرسل في تناول ما رُزقا. وقيل النداء له، ولفظ الجمع للتعظيم. قوله: (ويُعمل عليه)، ضمن "يُعمل" معنى المواظبة، أي: يواظب عليه في العمل. قوله: (والمراد بالطيبات: ما حل وطاب)، قال القاضي: والطيباتُ: ما يُستلذُّ من المباحات.

النفس ويحفظ العقل. أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه على عقب قوله (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)] المؤمنون: 50 [ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر على سبيل الحكاية، أى: آويناهما وقلنا لهما هذا، أى: أعلمناهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل. [(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) 52]. قرئ: (وإنّ)، بالكسر على الاستئناف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا))، أي: آويناهما إلى ربوة ذات قرار ٍومعين، أي: ذات ثمارٍ ومآكل، وقلنا لهما: فكلا مما رزقناكما، واعملا صالحاً، ففيه أيضاً أن هذا الإعلام لعيسى ومريم عليهما السلام فذُكر على سبيل الحكاية، وهو أولى من أن يكون إعلاماً ابتداءً، وفيه أن قول قتادة رضي الله عنه: إن المراد بذات قرارٍ ومعين: ذاتُ ثمارٍ وماء، أرجحُ. وكذا قول من قال: إن المراد بالربوة: هي دمشقُ، أظهرُ، لاجتماعهما فيها. قوله: (ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم عليهما السلام إلى الربوة)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظرٌ؛ إذ لي المقول لهما: يا أيها الرسل؛ لأنه لإنشاء النداء، فلعله أراد: أعلمناهما معناه الخبري، وهو خطاب الرسل عليهم السلام لدلالة الإنشاء عليه. قلتُ: بل أراد أن هذا الكلام كما أنه في الظاهر خطابٌ لجميع الرسل قاطبةً على معنى أنك لا منهم خوطب به في زمانه، ويدخل فيه عيسى دخولاً أولياً، وفي المعنى إعلامٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فكذلك يجوز أن يكون بعينه إعلاماً لعيسى عليه السلام ليقتدي بالرسل في تناول ما رزق، فذكر على سبيل الحكاية. قوله: (قرئ: (وإِنَّ)، بالكسر)، الكوفيون: "إن هذه" بكسر الهمزة، والباقون:

و (أنّ) بمعنى و (أنّ)، وأن مخففة من الثقيلة، و (أُمَّتُكُمْ) مرفوعة معها. ] (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) 35 [ وقرئ (زُبُراً) جمع زبور، أى: كتبا مختلفة، يعنى: جعلوا دينهم أديانا، و (زبرا) قطعا: استعيرت من زبر الفضة والحديد، و (زبرا): مخففة الباء، كرسل في رسل، أى: كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئنّ النفس، معتقد أنه على الحق. (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) 54 [ الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بفتحها. وخفف ابن عامرٍ النون، وشددها الباقون. قوله: (و"أنّ" بمعنى: ولأنّ)، قال الزجاجُ: المعنى: ولأن هذه أمتكم أمةً واحدةً، وأنا ربكم فاتقون، أي: فاتقون لهذا. قوله: (و (أُمَّتُكُمْ) مرفوعةٌ معها)، المطلع: أي: مع القراءات على خير"إنّ"، وقيل: "مرفوعةٌ معها"، أي: مع المخففة، وهذا أولى. قال أبو البقاء: (أُمَّتُكُمْ) الرفع على أنه خبرُ "إنّ"، والنصبُ على أنه بدلٌ أو عطفُ بيان، و (أُمَّةً) بالنصب: حالٌ، وبالرفع: بدلٌ من (أُمَّتُكُمْ) أو: خبر مبتدأ. فعلى هذا في المخففة: (أُمَّتُكُمْ): إما خبر، وإما بدلٌ، وعلى التقديرين: لا يجوز سوى الرفع، بخلافه في المثقلة. قوله: (أو شبهوا باللاعبين)، يريد أن قوله: (فِي غَمْرَتِهِمْ) استعارةٌ، شبه جهلهم

كأنّني ضارب في غمرة لعب وعن علي رضي الله عنه: في غمراتهم (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يقتلوا أو يموتوا. ] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)) [ سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ: (يمدّهم). و (يسارع)، و (يسرع)، بالياء، والفاعل الله سبحانه وتعالى. ويجوز في: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بغمرةِ الماء إذا وقع فيها الشخص، فلا يدري كيف يتخلص منها، والجامع الوقوع في ورطة الهلاك، ثم كثر استعمالها في هذا المعنى حتى صار كالمثل السائر في الشهرة. أو قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) تمثيلٌ، شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب، والجامعُ: تضييع السعي بعد الكدح في العمل، ها الوجه موافقٌ لما قبله، هو قوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). قوله: (كأنني ضاربٌ في غمرةٍ لعبُ)، أوله في "المطلع": ليالي اللهو يطبيني فأتبعه يطبيني: دعاني، وطباه يطبوه ويطبيه: دعاه. الضاربُ: السابحُ في الماء، وأصلُ الضرب: الإسراعُ في الأرض. والغمرةُ من الماء: ما غطاك إذا وقفت فيه. يقول: تدعوني ليالي اللهو فأتبعه، كأنني سابحٌ في غمرةٍ من الماء لعبٌ فيه. وروايةُ "المطلع": لغبُ، بالغين المعجمة، وهو من اللغوب. ويُروى "اللهو": بالرفع، فالجملة مضافٌ إليها لقوله: ليالي. قوله: (وقرئ: "يمدهم"، و"يُسارعُ"، و"يُسرعُ" بالياء)، قال ابن جني: قرأ الحُرُّ

(يسارع)، و (يسرع): أن يتضمن ضمير الممدّ به. و (يسارع)، مبنيا للمفعول. والمعنى: أنّ هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. (وبَلْ) استدراك لقوله (أَيَحْسَبُونَ) يعنى: بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أنّ إلى اسمها إذا لم يستكنّ فيه ضميره؟ قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع الله به، كقوله (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)] لقمان: 17 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النحوي: "نُسرع"، وعبد الرحمن بن أبي بكرة: "يُسارع لهم"، و"يُسارعُ": بضم الياء وكسر الراء وفتحها. وقراءة الجماعة: (نُسَارِعُ) بالنون والألف. وقال: على هذه القراءات إلا على قراءة عبد الرحمن: "يسارع"، بكسر الراء، فيه ضميرٌ محذوفٌ، أي: نُسارع لهم به، أو يسارع لهم به، أو: نُسرع لهم به، فحذف للعلم بهن كما في قولهم: السمن منوان بدرهم. وأما قراءة "يُسارع" بكسر الراء، فلا حاجة به إلى تقدير حذف الضمير؛ لأن في الفعل ضميراً يعود على (ما) في قوله: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، ولم يذكُر ابن جني في قراءة "يُسرع" تضمين الضمير. وقال القاضي: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ): بيانٌ لـ"ما"، وليس خبراً له، فإنه غير مُعابٍ عليه، وإنما المُعابُ عليه اعتقادهم أن ذلك خيرٌ لهم، فخبره: (نُسَارِعُ لَهُمْ).

أي إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس. ] (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) 57 - 61 [ (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة: (يأتون ما أتوا)، أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: قلت يا رسول الله، هو الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله تعالى عنها: "يأتون ما أتوا")، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن عائشة: أن عبيد بن عمير سألها عن قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يقرؤها: أيؤتون أو يأتون؟ فقالت: أيهما أحب إليك؟ قال: "الذين يأتون ما أتوا" أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، قالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت. قال الزجاج: ومن قرأ (يُؤْتُونَ مَا آتَوا) فإن معناه يعطون ما أعطوا وهم يخافون أن لا يتقبل منهم. ومن قرأ "يأتون ما أتوا" أي: يعملون من الخيرات ما عملوا وقلوبهم خائفة. وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "هو الذي يزني ويسرق؟ " إلى آخره، فرواه الترمذي وابن ماجه مع تغيير يسير في اللفظ. وهو محمول على التشديد لئلا يتكل الظالم لنفسه، وهو وجه التوافق بين الحديثين.

يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: "لا يا ابنة الصدّيق، ولكن هو الذي يصلى ويصوم ويتصدّق، وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه" «1» (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)] آل عمران: 148 [، (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] العنكبوت: 27 [لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة)، وهي: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: ليس فيما أوتي الكافرون من أموال وبنين مُسارعةٌ في الخيرات، فإن ذلك استدراجٌ، بل ما أوتي المؤمنون هو مسارعةٌ في الخيرات، وهم المختصون بأن ينالوا الخيرات قبل الآخرة، حيث عجلت لهم في الدنيا. ولأن (أُوْلَئِكَ) يستدعي أن من قبله جديرٌ بما بعده، لاكتسابه تلك الفضائل، وهذا لا يستقيم إلا على هذا الوجه. وأما قضية النظم - والله تعالى أعلم-: فإن هذه السورة قُطبُ معناها دائرٌ على وصف أمةِ الدعوة أجمع، السابقين منهم، والمقتصدين والظالمين لأنفسهم، ثم الغافلين من الكافرين المعاندين منهم. فهذه خمسة أصناف، فلما صدر السورة بالصنف الأول واستوفى مدحهم، وأراد أن يشرع في وصف سائرهم أتى بدليلي الأنفس والآفاق تنبيهاً وإيقاظاً للساهين، وبقصص الأنبياء السالفة والأمم الخالية تخويفاً واعتباراً للغافلين، ثم قال: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) إلى قوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)، ألا ترى كيف نعى عليهم غفلتهم بقوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) وجعله تخلصاً إلى ذكر ما للمؤمنين أجمعين من السبق والمسارعة في الخيرات، فذكر فريقي المؤمنين: المقتصد منهم وهو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) والظالم منهم، وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، ويجوز الحمل على هذا؛ لأن الظالم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو: من لا يشرك بالله عز وجل، ويخافُ الرجوع، وهو مع ذلك يرتكب المناهي، ولأن الأصل أن تكون الخشية لقوم، والوجل لآخرين، ولأن التقسيم حاصلٌ كما سبق فلابد من اعتبار

ما نفي عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: (يسرعون في الخيرات) (لَها سابِقُونَ) أى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها. أو إياها سابقون، أي: ينالونها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا القسم، وعليه قول عبيد بن عمير لعائشة رضي الله عنها: الذي يأتون ما أتوا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، وإنما يكون كذلك إذا دلت على الرجاء التام، وأن المراد منهم العاصون، ويكون مجيء قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) كالفذلكة لما للفرق الثلاث من الفضل والكرامة والخير على وزان قوله تعالى في فاطر: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) [فاطر: 32 - 33] بعد ذكر الفرق الثلاث. وقوله: (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ)، كالتذييل لاستيعاب الأعمال كلها، واستيفاء جزائها، على منوال قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) [الزلزلة: 7 - 8]، ولهذا نفى الظلم بقوله: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) هذا على تقدير قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما على قراءة العامة فالآيات تنزيلٌ على قسم المقتصد، ويُفهم الظالم لنفسه من مفهوم قوله تعالى: (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ) كما نزلها المصنفُ على السابق: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ) على المقتصد في قوله: "ولدينا كتابٌ فيه عملُ السابق والمقتصد، ولا نظلمُ أحداً من عمله، ولا نحطه دون درجته". وأقول: عملُ الظالم لنفسه أيضاً؛ لأن الكتاب جامعٌ للأعمال كلها وثوابها وإن كان مثقال ذرة، وإخراجُ البعض تحكم. وهو أيضاً للتخلص من ذكر الفرق الثلاث إلى ذكر المعاندة من هذه الأمة؛ ولهذا قال: (بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي: قلوبُ المعاندة، ثم أخذ في وصفهم إلى أن ختم السورة، فبدأ بالعالي، وختم بالعالي، وافتتح بقد أفلح المؤمنون، واختتم بلا يُفلحُ الكافرون. والله يقولُ الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (أو: إياها سابقون)، فعلى هذا اللام لضعف عمل اسم الفاعل، نحو: ضاربٌ لزيد. وعلى الأول: اللامُ بمعنى: لأجل، و"السابقون": إما مُجرى مجرى اللازم، فلا يُقدرُ

قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون (لَها سابِقُونَ) خبرا بعد خبر. ومعنى (وَهُمْ لَها) كمعنى قوله: أنت لها أحمد من بين البشر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مفعوله، وإليه الإشارة بقوله: "أي: فاعلون السبق لأجلها"، أو يُقدرُ له مفعولٌ، وهو المراد من قوله: "أو سابقون الناس لأجلها". قوله: (أنت لها أحمدُ من بين البشر)، أوله: داهية الدهر، وصماءُ الغبر ويُروى: أنت لها منذرُ من بين البشر الشعرُ للأعشى الحرمازي يخاطبُ المنذر بن عمرو الكندي أبا النعمان، هكذا رواه الجوهري. ومن روى: أحمدُ، كما في المتن، أراد النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في (لهَا) للنبوة، والحرمازيُّ أدرك النبوة وله صحبة، أي: أنت للنبوة يا أحمد، هكذا وجدته في "شرح الأبيات"، وهذا الأعشى ليس له ذكرٌ في "الجامع"، ولا في "الاستيعاب". الصماءُ: الداهية، وفتنةٌ صماءُ: شديدةٌ. يقال صمي صمام، أي: اشتدي يا فتنةُ، من الصمم: وهو انسدادُ الثلم، يقال: هذا حين أبي الفريقان إلا القتال، وداهيةُ الغبر، بالتحريك: هي العظيمة. الراغب: داهية الغبر: إما من: غبر الشيء، أي: وقع في الغبار، كأنها تُغبرُ الإنسان،

[(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)) [ يعنى أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حدّ الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد: إن الله لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو من الغبر: البقيةُ، أي: داهيةٌ باقية، أو من غبره اللونُ، كقولهم: داهيةٌ زباء، أو من غبرة اللبن فكأنها هي الداهية التي وإن انقضت بقي لها أثر، أو من قولهم: عرق غبرٌ، أي: ينبض مرة بعد أخرى، وقد غبر العرق. قوله: (يعني أن هذا الذي وصف به الصالحين)، إلى قوله: "وكذل كل ما كلفه عباده" إشارةٌ إلى أن قوله تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الآية كالتذييل للآيات السابقة، والتأكيد لمضمونها، وإنما خصه بالصالحين؛ لأن مذهبه أن العاصين خارجون من المذكور. لكن قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ) مؤذن بأنهم داخلون فيه؛ فإن المذكور من قبل الخشية، والإيمان، ونفي الشرك والوجلُ مع العصيان كما مر، ولا ارتياب أن أعمال المعاندين على عكس ذلك. ودل قوله تعالى: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أنهم غيرُ عاملين لغيرها. قوله: (أو أراد أن الله تعالى لا يكلف)، عطفٌ على قوله: "يعني: أن هذا الذي"، فعلى هذا لا يكون تأكيداً، بل استطرداً وبياناً لحكم غير المذكورين من المقتصدين، ولهذا قال: "ولدينا كتابٌ فيه عملُ السابق والمقتصد".

ولا نظلم أحدا من حقه ولا نحطه دون درجته. بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها (مِنْ هذا) أى مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) متجاوزة متخطية لذلك، أى: لما وصف به المؤمنون (هُمْ لَها) معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب. ] (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ* لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ* قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ* مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [. و(حتى) هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف «1»» فابتلاهم الله بالقحط ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ) متجاوزة متخطيةٌ لذلك)، يشير إلى أن معنى (دُونِ) في الآية: التجاوزُ والتخطي عن حد أعمال المؤمنين. قوله: (لا يُفطمُون)، يقال: فلانٌ غير مفطوم من كذا، أي: هو مجبولٌ عليه، وهو معنى قوله تعالى: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، وفيه التأكيد من جهة بناء (عَامِلُونَ) على (هُمْ)، وأن اللام بمعنى لأجل على معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا، كل ميسرٌ لما خُلق له"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلمُ بما كانوا عاملين". قوله: (والكلامُ: الجملة الشرطية)، قال القاضي: جواب الشرط: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة، ويجوز أن يكون الجواب: (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ)، فإنه مقدرٌ بالقول، أي: قيل لهم: لا تجأروا.

حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ «2» والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال: جئّار ساعات النّيام لربّه أى يقال لهم حينئذ (لا تَجْأَرُوا) فإن الجؤار غير نافع لكم (مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في (بِهِ) للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى (آياتي)، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي. ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكبارا. ضمن (مستكبرين) معنى مكذبين، فعدّى تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكبارا وعتوّا، فأنتم مستكبرون بسببه. أو تتعلق الباء ب (سامرا)، أى: تستمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن وتسميته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جئارُ ساعات التيام لربه)، أي: يصرخُ يدعو ربه بالليل والناس نيامٌ. الأساس: جأر الداعي إلى الله: ضج ورفع صوته، وبات له جؤارٌ، وهو جئار بالليل. قوله: (ولا تمنعون منا أو من جهتنا)، يعني: "مِنْ" إما صلةٌ، و (تُنْصَرُونَ) من: نصر الذي مطاوعه: انتصر. قال المصنف: سمعت قول بعضهم: اللهم انصرهم منه، أي: اجعلهم منتصرين منه. وهو المراد من قوله: "ولا يمنعون منا"، أو ابتدائي، و (يُنْصَرُونَ) مِن: نُصر، ولهذا قال: "أو من جهتنا". قال القاضي: (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ) تعليلٌ للنهي، أي: لا تجأروا، فإنه لا ينفعكم، إذ لا تُمنعون منا، أو لا يلحقكم نصرٌ ومعونةٌ من جهتنا.

سحرا وشعرا وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو ب (تهجرون). والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: (سمرا) و (سمارا). و (تهجرون) و (تهجرون)، من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر - بالضم -: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى. والهجر -: بالفتح الهذيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بـ (تَهْجُرُونَ))، أي: يتعلق الباء بـ (تَهْجُرُونَ). المطلع: يهجرون القرآن ويرفضونه، فلا يلتفتون إليه ولا ينقادون له، وصفوا بهجرانه كما وصفوا بالنكوص عنه. قوله: (والسامر نحو الحاضر)، قال الزجاج والسامر: الجماعةُ الذين يتحدثون ليلاً، وإنما سُما سمارا من السمر، والسمرُ: ظل القمر، وكذلك السمرة مشتقة من هذا. وفي "المطلع": سُمي ظلُّ القمر السمر لأنه يُسمرُ به. قوله: (وقرئ: "سُمراً"، و"سُمارا"، و"تُهجرون"، و"تُهْجرون")، نافعٌ: "تُهْجرون": بضم التاء وكسر الجيم، والباقون: بفتح التاء وضم الجيم. وقال ابن جني: قرأ ابن مسعودٍ وابن عباس وعكرمة: "سُمرا يهجرون". قوله: (والهجر بالضم: الفحش)، الراغب: الهجرُ: الكلامُ المهجور، لقبحه، هجر فلانٌ: إذا أتى بهجرٍ من الكلام عن قصد. وأهجر المريض: إذا أتى بذل من غير قصد، ورماه بهاجرات فمه أي: بفضائح كلامه. وقولهم: فلانٌ هجيراه كذا: إذا أولع بذكره، وهدى به هذيان المريض، ولا يكاد يستعمل الهجير إلا في العادة الذميمة والهجير والهاجر: الساعة التي يثمتنع فيها من السير للحر، كأنها هجرت الناس وهُجرت لذلك.

[(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَاتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)) [ (الْقَوْلَ) القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به، بل أجاءَهُمْ (ما لَمْ يَاتِ آباءَهُمُ) فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ)] يس: 6 [أو ليخافوا ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بل أجاءهم)، يعني: "أم" منقطعة، والهمزة فيه: للتقرير. قوله: (أو ليخافوا)، عطفٌ على قوله: "ليعلموا"، فالتقدير: أغفلوا فلم يتدبروا القرآن ليخافوا الإنذار فيه بل أجاءهم الأمن ما لم يأت آبائهم، يعني: أن آباءهم إنما خافوا وآمنوا به وبكتبه من جهة الوحي أو الإلهام الصادق، فأمنوا من العذاب، فحالُ هؤلاء بخلاف حال آبائهم الأقدمين. والمراد بالآباء حينئذ من ذكر أساميهم إلى آخره. فإن قلت: من أين جاء الخلاف بين التفسيرين لقوله: (مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ)؟ قلتُ: من حيث التعليلُ، فإنه لما علل التدبير بالعلم أضرب عنه بإثبات الجهل الموروث من الآباء الجهلة، ولما علله بالخوف أضرب عنه بإثبات المن الذي على خلاف المعهود من أهل الحق مثل آبائهم المهتدين؛ لأن الأمن من العذاب لا يحصل إلا للمهتدي، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وفيه ضربٌ من التهكم. والوجه الأول أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) إضرابٌ على سبيل الترقي، وكذلك قوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فإنه لما أثبت لهم الجهل الموروث أضرب عن ذلك بإثبات الجهل المكتسب، وهو عدم جريهم بموجب العلم فإن الهمزة في أم للسؤال مُجرى للمعلوم مساق غيره تجهيلاً، أو للتوبيخ. قال محيي السنة رحمة الله تعالى عليه:

عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما، ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم ابن مرّ. فإنهم كانوا على الإسلام، وما شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» وروي في أنّ ضبة كان مسلما، وكان على شرطة سليمان بن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) واردٌ على سبيل التوبيخ على الإعراض. ثم أضرب عنه بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي: هاهنا ما هو أعظمُ من ذلك كله، وهو إثباتُ الجنون، مع العلم بأنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً. فإن قلت: ما وجهُ ما رواه الواحدي عن ابن عباس قوله تعالى: (مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ) أليس قد أرسلنا نوحاً وإبراهيم والنبيين إلى قومهم؟ فكذل بعثنا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قومه؟ قلتُ: على هذا يقدر مدخول الهمزة في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) ما دل عليه قوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ)، على أن يكون الضمير للقرآن، أي: استكبروا، أفلم يتدبروا القرآن أم جاءهم ببدع، وبما لم يأت به أنبياؤهم الأقدمون؟ ثم قيل: بل ألم يعرفوا رسولهم فلذلك أنكروه وانكروا ما أُنزل إليه، كقوله تعالى: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، والظاهر أن "أمْ" حينئذٍ متصلةٌ؛ لأن التقدير: استكبرا فلم يتدبروا، أم استبدعوا فلم يتفكروا، وقال في (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) إضرابٌ عن الجملة، لا عن مدخولِ "أم" وحده، هذا هو التحقيق فليتدبر. قوله: (وكان على شرطة سليمان)، قيل: هي: اسم جمع، وجمعها: شُرط. الجوهري:

داود (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) محمدا وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله، واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها مناديا. الجنة: الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم «1» ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّا ولا مدفعا لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر. فإن قلت: قوله (وَأَكْثَرُهُمْ) فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق. قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرط بالتحريك: العلامةُ، الأصمعي: ومنه سُمي الشرط؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامةً يعرفون بها، الواحد شرطة، وشُرطي. قوله: (في سطة هاشم)، الأساس: ومن المجاز هو وسط قومه ووسط فيهم وسطةٌ وقومٌ وسطٌ وأوساطٌ: خيارٌ. قوله: (كفى برغائها منادياً)، الجوهري: الرغاءُ: صوت ذوات الخف، ويقالُ في المثل: كفى برعائها منادياً، أي: إن رغاء بعيره يقوم مقام ندائه في التعرض للضيافة والقرى. وقال الميداني: يُضربُ لمن يقف بباب الرجل، فيقال: أرسل من يستأذن لك، فيقول: كفى بعلمه توقفي ببابه مستأذناً لي، أي: قد علم بمكاني، فلو أراد أذن لي. قوله: (وسيط بلحومهم)، السوط: خلط الشيء بعضه ببعض. قوله: (كان فيهم من يترك الإيمان به أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه)، الانتصاف: قولُ

صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب. فإن قلت: يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه. قلت: يا سبحان الله، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضى الله عنهما، ويخفى إسلام أبى طالب! ] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)) [ دل بهذا على عظم شأن الحق، وأنّ السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزمخشري: من يتركُ الإيمان لأجل آبائه لم يكن كارهاً غير صحيح، فمن أحب شيئاً كره ضده، فلما أبو االبقاء على كفرهم، كرهوا الانتقال عنه، واستجره الكلام إلى تحقيق موت أبي طالب، أي: في حال كونه غير كاره للإيمان. وقلتُ: من امتنع عن الإسلام بمجرد التقليد لا يكون إلا مُحباً له في نفسه، غير كاره إياه، ومبغضاً لضده، وهو الكفرُ. وقال صاحب "الانتصاف": والأحسن أن يعود الضمير في (وَأَكْثَرُهُمْ) على الجنس بجملته، كقوله تعالى: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 8]، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]، لقوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقد جاء به للناس كافةً، ويحتمل أن يُراد بالأكثر: الكلُّ، كما حمل القليل على النفي. وقلتُ: هذا أقرب، والأول مردودٌ؛ لما يلزم منه الاختلاف في الضمائر، وأيضاً، الأسلوب الذي ذهب إليه تذييلٌ، فلابد من إقامة المظهر فيه مقام المضمر، وهو أن يُراد بالأكثر الكل. قوله: (يا سبحان الله)، "سبحان الله": كلمةُ تنزيه، ثم استعمل في التعجب، كأنه قيل: يا عجباً.

قوام. أو أراد أنّ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: أنّ الحق هو الله. ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها ولكان شيطانا، ولما قدر أن يمسك السماوات والأرض (بِذِكْرِهِمْ) أى بالكتاب الذي هو ذكرهم، أى: وعظهم أو وصيتهم وفخرهم: أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: (لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنا عباد الله المخلصين)] الصافات: 168 - 169 [. وقرئ: بذكراهم. (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) 72 [ قرئ: (خراجا فخراج). و (خرجا فخرج). و (خرجا فخراج): وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك، وإلى كل عامل من أجرته وجعله. وقيل: الخرج: ما تبرعت به. والخراج: ما لزمك أداؤه. والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ: (خرجا فخراج ربك)، يعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولو كان الله إلها)، إلى آخره، من الإلحاد الذي يحترزُ أن ينطق به المسلم. قوله: (قرئ: "خراجاً فخراج")، حمزةُ والسائي: "خراجاً"، والباقون: بغير ألف. ابن عامر: "فخرج ربك"، بإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتحها وبألف. قوله: (وخرج الكردةُ)، روي عن المصنف: الكردة: جمعها: الكرد، وهو من وضع الكرد، والعرب لا تعرفها، وهي قطعةٌ من الأرض المزروعة، ولا تُعرفُ هذه اللغة في الأصول. قوله: (ولذلك حسنت قراءة من قرأ (خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ))، قال صاحب "الفرائد":

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)) قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سرّه وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفهوم من قوله أن الخرج يدل على القليل من إعطاء الخلق، وأن الخراج على الكثير من إعطاء الخالق، فكيف يكون الخرج أخص من الخراج؟ والمعنى: أينون أنك طامعٌ في أموالهم فيما تدعوهم إليه، فخراج ربك، أي: ما يعطيك ربك على طاعتك له في الدعاء إليه، خيرٌ لك من عرض الدنيا. وقلتُ: مرادُ المصنف من لفظ"أخص": الأقل تناولاً مطلقاً، لا الخاص الذي يقابل العام؛ لقوله: "زيادة اللف لزيادة المعنى". قال القاضي: الخرجُ: بإزاء الدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك، والخراجُ غالبٌ في الضريبة على الأرض، ففيه إشعارٌ بالكثرة واللزوم، فيكون أبلغ، ولذلك عبر به عن إعطاء الله تعالى إياه، كأنه قال: أم تسألهم أجراً على أداء الرسالة (فَخَرَاجُ رَبِّكَ)، أي: رزقه في الدنيا، أو ثوابه في الآخرة (خَيْرٌ) لسعته ودوامه. قوله: (قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجلٌ معروفٌ أمره)، إلى آخره، اعلم أن هذه الآيات مطابقةٌ للحديث المشهور المخرج في "الصحيحين" للإمام محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج رحمهما الله، عن أبي سفيان قبل إسلامه حين أرسل إليه هرقل وسأله عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنهما اشتملا على أمهات المسائل المعتبرة في أمر النبوة: أولها: الواجب أن يكون الرسول ذا نسب، فدل عليه بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ

ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)، أي: لم يعرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم، يوافقه قول هرقل لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسبه فيمك، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها. وثانيها: أن يكون صاحب شهامة ورجاحة عقل، بريئاً من الجنون وما ينافي الحق والصدق، وهو الزورُ، والكذب، فدل عليه بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقال هرقل: سألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: أعرفُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس فيكذب على الله عز وجل. وثالثها: أن لا يسأل فيما يرومه عاجلاً للأمر، فدل عليه بقوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)، وقال هرقل: سألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: لو كان من آبائه من ملكٍ قلتُ: رجلٌ يطلبُ ملك أبيه. ورابعها: أن يكون ما يدعو إليه في نفسه حقاً هادياً إلى الطريق المستقيم، فدل عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال هرقل: سألتك: بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم بأن تعبدوا الله تعالى، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. ثم قال هرقل بعد ذلك: فإن كان ما تقول حقاً فسيملكُ موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أنني أعلمُ أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ألا ترى كيف أذعن للحق بما سمع من الأمارات؟ قوله: (وأنه لم يُعرض له)، تقول العربُ: عرض لفلان: إذا جُن، بمعنى عرضت له الجن. النهاية: في حديث خديجة رضي الله عنها: "أخاف أن يكون عُرض له"، أي: عرض له الجن، أو أصابه منهم. قوله: (ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام)، عطفٌ على قوله: "وأنه لم يُعرض له"، المراد منه قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وقوله: "ولم يجعل ذلك سُلماً"، المقصود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً)، وترك ما يدل على قوله: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ)، والحاصل أنه تعالى أورد هذه الحجج على منوالٍ أبرز معها الداء المكنون في ضمائرهم، أي: أن تلك الدعوة كانت على اللين والرفق، وإرخاء العنان مع الخصم، وعدم المواجهة، يدل عليه قوله تعالى: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) حيث جيء بـ"لوْ" على الفرض في موضع القطع على منوال (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22] ليبعثهم على الفكر في حال أنفسهم وما هم عليه من ركوب باطلهم وأهوائهم، وتلك الأهواء والأدواء على وجوه. أولها: التقليد وعدم التدبر والفكرة، فدل عليه بقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ)، وإليه الإشارة بقوله: "وهو إخلالهم بالتدبر واستهتارهم بدين الآباء الضُّلال". وثانيها: تعللهم بأنه مجنونٌ بعد ظهور الحق، وإليه يشير بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ). وثالثها: كراهتهم للحق، هو المراد من قوله تعالى: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). قال القاضي رحمة الله تعالى عليه: لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم، فلذلك أنكروه. ورابعها: إعراضهم عما فيه حظهم، وهو المعني بقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ). واعلم أنه ظهر من هذا البيان أن قوله: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) جملةٌ معترضةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) و (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)، وأن الوجه الثاني في تفسير الحق، وهو أن يُراد به الحق الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، هو الوجهُ. والوجه الثالث، وهو أن يُراد به الله منها بعيدٌ ناب عن اقتضاء المقام، وأن قوله: "لما كان إلها ولكان شيطاناً" هفوةٌ فاحشةٌ، وإلحادٌ في أسمائه عز وجل والعياذ بالله تعالى منها. وأما

الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر، يحتمل أنّ هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة (لَناكِبُونَ) أى عادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو قوله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب. لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجه الأول، وهو أن يُراد جنسُ الحق ليدخل الحق الذي السياق عليه، فهو أيضاً وجهٌ، وكان هذا أوجه، وبالاعتراض أليق. وحملُ الوجه الثاني على الاستطراد لقوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أنسبُ. قوله: (واستهتارهم)، الجوهري: فلانٌ مستهترٌ بالشراب، أي: مولعٌ به لا يبالي ما قيل فيه. قوله: (يحتملُ أن هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة)، يريدُ أن الآية مقابلةٌ لقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وأن الأصل: وإنهم عن الصراط لناكبون، فأقيم المظهر مقام المضمر؛ ليؤذن بأن منكر الحشر ناكبٌ عن الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام، وأن مبنى دين الإسلام على الإيمان باليوم الآخر. قوله: (وأن كل من لا يؤمن بالآخرة): عطفٌ على قوله: "أن هؤلاء"ن فعلى هذا لا يكون من إقامة المظهر مقام المضمر، بل الجملة تذييلٌ، فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً في هذا المقام. قوله: (أكلوا العلهز)، النهاية: هو شيءٌ يتخذونه في المجاعة، يخلطون الدم بأوبار

له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى. فقال قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع. ] (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)) [ والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أوّلا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشدّ من الأسر والقتل وهو أطم العذاب، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدّهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإبل، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. وقيل: هو شيء ينبت ببلاد بني سُليم، له أصلٌ كأصل البردي. قوله: (هذا الإبلاسُ)، نحوه قوله تعالى: (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44] أي: متحيرون آيسون واجمون. والتملقُ: قول أبي سفيان: أنشدتك الله والرحم إلى آخره. قوله: (يسترحمونه)، جملةٌ مستأنقةٌ؛ بيان، أو حالٌ مؤكدة، والعامل: اسم الإشارة. قوله: (أو محناهم بكل محنة)، عطفٌ على قوله: "أخذناهم أولاً بالسيوف"، يعني:

لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)] الروم: 12 [، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)] الزخرف: 75 [. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير. فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون، أى: انتقل من كون إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هؤلاء القوم قد اعتادوا اللجاج، وليس هذا الجوع بأول عذاب، حتى إذا كشفناه عنهم تضرعوا استكانوا، ألا ترى كيف أخذناهم بالسيوف يوم بدر، أو محناهم بكل محنةٍ فما استكانوا؟ وإليه الإشارة بقوله: "واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم". قوله: (لين مقادةٍ)، مستعارٌ لسهولة تأتي الحق، من قولهم: هو يقود الخيل ويقتادها. الأساس: قاد الفرس بمقاودها، وهو حبلٌ يُشد في العنق للقياد. ومن المجاز: فلانٌ سلسُ القياد؛ يتابعك على هواك. قوله: (ويجوز أن يكون افتعل من السكون)، الانتصاف: كونه استفعل من الكون أحسنُ من هذا، فإنه غير فصيح، و"بمُنتزاحِ" للضرورة. وأما تنظيره بقوله: "كما قيل: استحال: إذا انتقل" وهمٌ؛ فإن "استكان" عنده أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول، كاستجمر استنوق، وأما "استحال" فثلاثيه من: حال يحول، أفاد معنى الحول من غير نقلٍ إلى استفعل، فاستفعل فيه بمعنى فعل. ومعنى الآية: فما انتقلوا من كون التحير إلى كون الخضوع؛ لدلالة المقام عليه. وكان جدي امتُحن ببغداد عند الناصر، فسُئل عنها فقال هو مشتقٌّ من قول العرب: كنتُ لك إذا خضعت، هي لغةٌ هذلية، وقد نقلها أبو عبيد في "الغريب"، وهو أحسنُ محاملِ الآية، ويكون استفعل بمعنى فعل مثل: قرّ

كما جاء: "بمنتزاح". فإن قلت: هلا قيل: وما تضرعوا. أو: فما يستكينون؟ قلت: لأنّ المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: (فتحنا). ] (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80))] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واستقر، وعلا واستعلى، وحال واستحال. وسُئلت: لم لا تجعله - على هذا- من استفعل للمبالغة، استحسر واستعصم. فقلتُ: المعنى: يأباه؛ لأن المقصود وصفهم بغاية القسوة، فلو جعلتها للمبالغة لم يُفد ذلك؛ لأن نفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، فيكون ذماً بأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها، وهم لم يتلمظوا بشيء منها، فكيف ينفي عنهم نهايتها؟ وقال صاحب "الإنصاف": له محملٌ صحيحٌ، وهو التنبيه على أن ذلك العذاب مقتض لغاية الاستكانة، وقد ورد هذا السؤال في قوله: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء: 19]، وهي للمبالغة، وأجاب الزمخشري رحمه الله تعالى بما ذكرته. قوله: (كما جاء: "بمُنْتَزَاح")، الجوهري: أنت بمنتزحٍ من كذا، أي: ببعدٍ منه. قال ابن هرمة يرثي ابنه: فأنت من الغوائل حين تُرمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح إلا أنه أشبع فتحة الزاي، فتولدت الألفُ. قوله: (هلا قيل: وما تضرعوا، أو: فما يستكينون؟ )، أي: لمَ لمْ تُراع الموافقةُ بين

إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله)] الأحقاف: 26 [، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك، أى: تشكرون شكرا قليلا، و (ما) مزيدة للتأكيد بمعنى حقا (ذَرَأَكُمْ) خلقكم وبثكم بالتناسل (وَإِلَيْهِ) تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى هو مختص به وهو متوليه، ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: يعقلون، بالياء عن أبى عمرو. ] (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)) [ أى: قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم. الأساطير: جمع أسطار: جمع سطر. قال رؤبة: إنّى وأسطار سطرن سطرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعطوف والمعطوف عليه في كونهما ماضيين أو مضارعين؟ وأجاب: أن (اسْتَكَانُوا) على ظاهره؛ لأنه مرتبٌ على قولهم: (أَخَذْنَاهُمْ). وأما يتضرعون فعدولٌ عن الظاهر، لتوخي الاستمرار على عدم التضرع والدوام عليه، وإليه الإشارة بقوله: "وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا"، أي: يتضرعوا. قوله: (جمع أسطارٍ؛ جمع سطر)، كسبٍ وأسباب. قاله الجوهري. قوله: (وإني وأسطارٍ سُطرنَ سطرا)، تمامه في "المطلع": لقائل: يا نصرُ نصراً نصرا

وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له. وجمع (أسطورة) أوفق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الواو في "وأسطارٍ": واو القسم، أي: وحق كتبٍ مسطورة، كقوله: (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) [الطيور: 2] ن والتركيب مثل: يا زيدُ زيد زيداً، فالرفع على اللفظ، والنصب على المحلن ويجز أن يكون النصر الأخير منصوباً على المصدر، كأنه قال: انصرني نصراً. قال الشارح: "نصر" الأول ظاهرٌ. والثالث: مصدرٌ، وأما الوسط ففيه ثلاثة أوجه، أدها: الضم غير منن بدلٌ من الأول. وثانيها: مضمومٌ منون، عطفُ بيانٍ جار مجرى الصفة حملاً على اللفظ، نحو: يازيدُ الظريف: وثالثها: النصب على محل المنادي، كرر للتوكيد، وقيل: على الإغراء، وقيل: الثاني على العطف، والثالث على الإغراء. قوله: (وجمع "أسطورةٍ" أوفق)، رُوي عن المصنف: أن هذا البناء لما يُتلهى به، كالأضحوكة، والأحدوثة، والأعجوبة، فيكون أنسب بهذا المقام، وأن الأصل عدم جمع الجمع. الراغب: السطر والسطر: الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس، ومنا لقوم الوقوف، وسطر فلانٌ كذا: كتب سطراً سطراً. وجمعُ السطر: أسطرٌ، وسطور. وجمعُ أسطر: أسطارٌ، كقول الشاعر: وأسطارٍ سطرن سطراً. وأما قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) فقد قال المبرد: هي جمع أسطورة، نحو أرجوحة وأراجيح، وأثفيةٌ وأثافي، وأحدوثة وأحاديث. وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [النحل: 24]؛ أي: شيءٌ اكتتبوه كذباً وميناً فيما زعموا، نحو قوله تعالى: (اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: 5]، وقوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية: 22]، فإنه يقال: سيطر على كذا وتسيطر: إذا قام عليه قيام سطر، يقول: لست عليهم بحافظ وقائم، واستعمال مسيطر هنا كاستعمال القائم في قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33]، وقيل: معناه: لست عليهم بحفيظ، فيكون المسيطر كالكاتب في قوله تعالى: (وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].

[(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) [ أى أجيبونى عما استعلمتكم منه «1» إن كان عندكم فيه علم، وفيه استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات: أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين. وقرئ: (تذكرون)، بحذف التاء الثانية «2» ومعناه: أفلا تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها اختراعا، كان قادرا على إعادة الخلق، وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (تَذَكَّرُونَ) بحذف التاء الثانية)، حفصٌ وحمزةُ والكسائي. قوله: (أفلا تذكرون فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها اختراعاً، كان قادراً على إعادة الخلق، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية)، مؤذنٌ باتصال قله: (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً) بقوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) بواسطة قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا)، والكلام يستدعي مزيد بسط. واعلم أن كلا من المقالات الثلاث المذيلة بقوله: (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)، (أَفَلا تَتَّقُونَ)، (فَأَنَّا تُسْحَرُونَ) جاء لإثبات ما أنكروه من أن لا حشر ولا بعث، ولتصديق ما كذبوه من وعد الرسل بمجيء الساعة في قوله تعالى حكاية عنهم: (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) ولتقدمه دلائل التنزيه، ونفي الشرك، وإثبات العلم الشامل في قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) وقوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، وكان قوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) تخلصاً إلى الدلائل؛ لأن معناه: بل أتيناهم بالحق من التوحيد، والوعد بالنشور، وإنهم لكاذبون حيث أنكروا ذلك، وفي التذييلات الثلاث من الأدنى إلى الأغلظ في التعريض، وأنها من الأمور المسلمة، لقوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ). أما قوله: (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فمعناه: إنكم تعلمون علم يقينٍ أن الأرض وما فيها ملكه، وهو فطرها اختراعاً، أفلا تذكرون أن من كان قادراً على ذلك كان قادراً على إعادة الخلق، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27]؟ أي: عندكم وفي تقديركم، وكان حقيقاً بأن لا ينسبوا إليه الولد، وأن لا يشركوا به بعض خلقه، ويتنبهوا على أنه عالمٌ بالأشياء كلها. وقوله: (أَفَلا تَتَّقُونَ) أبلغُ من الأول وأزجر، يعني: أنكم بعد ما تيقنتم بالدلائل الدالة، ثم ذكرتم بالوحي أن الأمر كذلك، لم لا تمتنعون عما أنتم عليه، ولا تمسكون عن الإنكار، أفلا تتقون، فتخافون عقابه؛ لأن من غفل ربما عُذر. وقوله تعالى: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أبلغ منها في التعيير والتقريع، يعني: أنكم مع ذلك كله معاندون مكابرون، كأنكم ما عرفتم ذلك ولا نبهتهم عليه، فلا شك أنكم مسحورون مسلوبو العقول، متبعو الهوى والشيطان. الراغب: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي: من أين يأتيكم ما يغلب على عقولكم فيخيل الباطل إليها حقا، والقبيح عندها حسناً، أمن علمكم بأن الله تعالى مالك الأرض ومن فيها، أم من علمكم بأنه رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، أم من علمكم بأن له الملك الأغلب، والعز الأبلغ، وأنه يمنعُ منه، ويحمي عن عقابه ولا يحمى منه، وليس في شيء من ذلك ما يرى الفاسد والمعوج قويماً، فبهذا الذي خُتمت به الثالثة ما يتمم معناه بخواتم ما قبله وكل في مكانه اللائق به.

قرئ: الأوّل، باللام لا غير. والأخيران باللام، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وفي الآيات الدلالة على أن إنكار الحشر والبعث أمرٌ عظيم وخطبٌ جليل، وأن منكره معطل مبطلٌ للذات والصفات؛ لتوقف الملك، أعني: الأرض والسماوات والعرش وملكوت كل شيء، على ذلك، واستتباعه العلم بالتنزيه والتوحيد والعلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (قرئ الأول باللام لا غير، والآخران باللام)، أبو عمرو: "سيقولون الله" في الحرفين الأخيرين: بالألف وضم الهاء، والباقون: بغير ألف، وكسر اللام وجر الهاء، ولا خلاف في الحرف الأول. قال الزجاج: لو قيل: من صاحب هذه الدار؟ فأجبت: زيدٌ، لكان جواباً على لفظ السؤال. ولو قلت: لزيد، لجاز أيضاً؛ لأن معنى "من صاحب هذا الدار": لمن هذه الدار؟ وأنشد صاحب "المطلع": إذا قيل من رب القيان بموقفٍ ... وربُّ الجياد الجرد؟ قيل: لخالد وقال الزجاج: لو قرئ الأول بغير اللام على المعنى لكان جيداً، ولكن لم يُقرأ به، وأنشد: فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم: وزير وكان من الظاهر أن يقال: لوزيرهم. وأنشد الفراء قبله: وأعلمُ أنني سأكون رمساً ... إذا سار النواجع لا أسيرُ

والكوفة والشام، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة، فباللام على المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ. ويجوز قراءة الأوّل بغير لام، ولكنها لم تثبت في الرواية (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله. أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعنى: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا (تُسْحَرُونَ) تخدعون عن توحيده وطاعته. والخادع: هو الشيطان والهوى. ] (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 90 - 92 [ وقرئ: (أتيتهم) و (أتيتهم)، بالفتح والضم (بِالْحَقِّ) بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث يدعون له ولدا ومعه شريكا (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) لا نفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا كما ترون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنواجعُ: الذين يخرجون إلى البادية لطلب الكلأ، يقال: رجلٌ ناجعٌ، وقومٌ ناجعةٌ ثم نواجع. قوله: ((تُسْحَرُونَ): تُخدعون)، جعل خداع الشيطان والهواء كالسحر في سلب العقول. قوله: ((بِالْحَقِّ) بأن نسبة الولد إليه محال)، قال القاضي: بل أتيناهم بالحق من التوحيد والوعد والنشور، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حيثُ أنكروا ذلك.

حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله (لذهب) جزاء وجوابا ولم يتقدّمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة. وإنما حذف لدلالة قوله: (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين (عَمَّا يَصِفُونَ) من الأنداد والأولاد (عالِمِ الْغَيْبِ) بالجرّ صفة لله. وبالرفع: خبر مبتدإ محذوف. ] (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) [ "ما" والنون: مؤكدتان، أى: إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة (فَلا تَجْعَلْنِي) قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن: أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضى الله عنهما «وليتكم ولست بخيركم: كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أخبره الله تعالى أن له في أمته نقمةً، ولم يخبره: أفي حياته أم بعد موته؟ فأمره أن يدعو بهذا الدعاء)، وفي الحديث: "إذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون"، أخرجه أحمد بن حنبلٍ في "مسنده"، والترمذي في "سُننه"، عن ابن عباس.

نفسه. وقرئ: (إما ترئنهم)، بالهمز مكان تريني، كما قرئ: (فإما ترئن)] مريم: 26 [، و (لترؤن الجحيم)] التكاثر: 6 [. وهي ضعيفة. وقوله (رَبِّ) مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم، فما وجه هذا الإنكار؟ ] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) [ هو أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة. والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه: كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وعن ابن عباس: .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي ضعيفة)، قال المصنف: ربما حملتهم فصاحتهم على أن يهمزوا ما ليس بمهموز، فقالوا لبأت بالحج. وتحقيقه أن الهمز يواخي حروف اللين في أن بعضها ينقلبُ إلى بعض. قوله: (وهذه قضية قوله: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، يعني: كل هذه التقادير من الصفح عن الإساءة، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، وبذل الاستطاعة فيه، يعطيه خاصية هذا التركيب ما ذكر الزمخشري يقتضي المفاضلة بين الحسنة والسيئة، ولا اشتراك بينهما، والمراد أن الحسنة في باب الحسنات أزيدُ من السيئة في باب السيئات، فتجيء الحسنة فيما هو أعم، كقولك: العسل أحلى من الخل، أي: هو في أصناف الحلاوة أجودُ من الخل في أصناف الحامضة، لا لاشتراك بينهما، ويحكي أن أشعب قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان،

هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك. وعن مجاهد: السلام: يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن: الإغضاء والصفح. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة (بِما يَصِفُونَ) بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم، والله أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم. ] (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما زال يعلو وأستفِلُ حتى استوينا، أي: بلغ كل واحدٍ منا الغاية. وقال: وتحتمل الآية وجهاً آخر من التفضيل، وهو المفاضلةبين الحسنات؛ فإنها قد تدفع بصفح وإغضاء، وقد تدفع بإحسان، وقد يبلغ فيه غاية الاستطاعة، فهذه أنواعٌ كلها دفع، وبعضها أحسن، فأمر بأخذ الأحسن منها في دفع السيئة. وقلت: المصنف لم يرد إلا هذا؛ لأنه قال في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت: 34]، يعني: أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسناتٌ فادفع بها السيئة التي تردُ عليك من بعض أعدائك، وقال: أو وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأن من دفع بالحسنى هان الدفع بما دونها. قوله: (هي شهادة أن لا إله إلا الله، والسيئةُ: الشركُ)، أي: اقلع باطلهم بحقك، استأصل شركهم بتوحيدك، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الأنبياء: 18]، فعلى هذا الآية ثابتةٌ غير منسوخةٍ أصلاً. قوله: (لأن المداراة)، المداراةُ: غير مهموز، من الدري: وهو الختلُ، والمهموزُ من الدرء: وهو الدفعُ.

الهمز: النخس. والهمزات: جمع المرّة منه. ومنه: مهماز الرائض. والمعنى أنّ الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)] مريم: 83 [أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، المكرّر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة: عند النزع. ] (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [. (حَتَّى) يتعلق (بيصفون)، أى: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مهمازُ الرائض)، الجوهري: المهمازُ: حديدةٌ تكون في مؤخر خُف الرائض. قوله: (من أن يحضروه أصلاً)، أي: أعوذ بك رب أن يحضرون، أي: يحوموا حولي فضلاً عن نسخاتهم، ووساوسهم؛ لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إلا للشر، فيجب أن يحترز من حضوره بالتعوذ، وهذا ما ذكره صاحب "المطلع"، وفيه إيذانٌ بأن "يحضرون" مقطوعٌ عن متعلقه بمنزلة اللازم، فاستعاذ من حضوره مطلقاً، يدل عليه قوله: "عند تلاوة القرآن أو عند النزاع"، فإن هذين الوجهين مقيدان. الراغب: الحضر: خلاف البدو، والحضارة بكسر الحاء وفتحها: الكون بالحضر، ثم جُعل ذلك اسماً لشهادة مكان أو إنسان أو غيره، قال تعالى: (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)، وذلك من باب الكناية، أي: تحضرني الجن، وكُني عن المجنون وعمن حضره الموت بالمحتضر.

على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله: (وإنهم لكاذبون)] المؤمنون: 90 [. خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله: فإن شئت حرّمت النّساء سواكم وقوله: ألا فارحمونى يا إله محمّد إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم)، يعني: (حَتَّى) مع ما يتصلُ بها غاية قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على قوله: (يَصِفُونَ)، ومضمونه: دارهم ما داموا في قيد الحياة، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ويستزلك من المداراة واللم. فاستعذ بالله، واستعن به. هذا ينصر قول من قال: إن قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) محكمةٌ، كما قال: "لأن المداراة محثوث عليها". قوله: (أو على قوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، يريد (حَتَّى) يتعلق بـ (يَصِفُونَ) أو مردودٌ على قوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وفي نسخة: "أو بقوله": أي: لا يزالون على تكذيبهم (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، والوجه هو الأول كما شرحناه. قوله: (خطاب الله بلفظ الجمع)، أي: (ارْجِعُونِ)، وفي نسخة: "خاطب الله"، كقوله: فإن شئت حرمتُ النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا النقاخ: الماء البارد، والبرد: النوم. قوله: (ألا فارحموني يا إله محمدٍ)، تمامه:

والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) في الإيمان الذي تركته، والمعنى: لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد: أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: (فيما تركت) من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول: (رب ارجعون)» (كَلَّا) ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ). (هُوَ قائِلُها) لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل قوله: (لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل صالحاً فيه)، هو كقوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وقولك للمحدث: صل. قوله: (أو هو قائلها وحده) عطفٌ على قوله: "هو قائلها لا محالة لا يخليها"، وذلك أن التركيب من باب أنا عارفٌ، فإذا اعتبر أن (هُوَ) مبتدأ ابتداءً، و (قَائِلُهَا) الخبرُ، فهو من باب: تقوي الحكم، وإليه الإشارة بقله: "هو قائلها لا محالة لا يخليها"، وإذا اعتبر أنه من باب تقديم الفاعل المعنوي، ويفيد التخصيص، قيل: هو قالها وحده لا يجاب إليها، ولا تُسمعُ منه، ونحوه: إذا كلمك صاحبك بما لا جدوى تحته، فتجيبه وتقول: اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع، يعني: إنها مما لا يُسمع منك ولا يستحق الجواب. قوله: (وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث)، يريد أن "إلى" لانتهاء الغاية، فإذا قيل:

وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)) [ (الصور) بفتح الواو، عن الحسن. و (الصور) - بالكسر والفتح - عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر "الصور" بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: (ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من ورائهم حائلٌ بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، يفهم الغاية فيلزم الرجوعُ بعده. وتحرير المعنى: أن (كلاً) للردع، فيقف عليها ويبتدئ من قوله: (إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي: ارتدع من هذا الكلام؛ إنها كلمةٌ هو قائلها لا يجاب إليها، ولا يُسمع منه، فلا رجوع؛ لأن ذلك أمرٌ قد حيل بينه وبينه؛ لأن أمامه حائلاً بينه وبين الرجعة إلى يوم القيامة وإذا كان أمامه هذا الحائل فأين الرجوع؟ وهو المراد من قوله: "وإنما هو إقناطٌ كليِّ"، ونحوه في التقييد بالمحال للمبالغة: قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى) [الدخان: 56]، يعني: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها، فإنهم يذوقونها، يعني: أنهم لا يموتون البتة. قوله: (وهذا دليلٌ لمن فسر "الصور" بجمع الصورة)، أي: قراءة الحسن وأبي رزين. قال الزجاج: قال كثيرٌ من أهل اللغة: الصور: جمع صورة، والذي جاء في التفسير: جمع صورة: صورٌ، وكذا في قوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر: 74]، ولم يقرأ أحدٌ: "صوركم". وأيضاً، لو كان جمع "صورة" لقال: ثم نُفخ فيها أخرى؛ لأنك تقول: هذه صورٌ، ولا تقول: هذا صورٌ، إلا على ضعف.

يساءلون)، بإدغام التاء في السين. فإن قلت: قد ناقض هذا ونحو قوله (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً)] المعارج: 10 [قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)] الصافات: 27 [] الطور: 25 [وقوله (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ)] يونس: 45 [فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع. والثاني: أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا. [(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ)]. عن ابن عباس: الموازين: جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال: أى الصالحات، التي لها وزن وقدر عند الله، من قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من (خسروا أنفسهم)، ولا محلّ للبدل والمبدل منه، لأنّ الصلة لا محلّ لها. أو خبر بعد خبر لأولئك. أو خبر مبتدإ محذوف (تَلْفَحُ) تسفع. وقال الزجاج: اللفح والنفح واحد، إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. والكلوح: أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد ناقض هذا)، الانتصاف: يجب الأدب في إيراد الأسئلة على الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولو أورد هذا السؤال رجلٌ على عمر رضي الله عنه كذا لأوجع ظهره بالدرة. قوله: (وهي الموزونات من الأعمال)، هذا أحد وجهي ما ذكره في الأعراف عند قوله: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) [الأعراف: 8]، والوجه الآخر: الموازين: ما يوزن به حسناتهم. هذا هو الحق الذي لا محيد عنه لأهل الحق عنه، وقد حققناه هناك بالأحاديث الصحية. قوله: ((تَلْفَحُ) تسفعُ)، يقالُ: سفعته النارُ، أي: أحرقته. الراغب: يقال لفحته

تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرءوس المشوية. وعن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس أخرج من التنور فغشى عليه ثلاثة أيام ولياليهنّ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته وقرئ: (كلحون). ] (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)) [ (غَلَبَتْ عَلَيْنا) ملكتنا، من قولك: غلبني فلان على كذا، إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم. قرئ (شِقْوَتُنا) و (شقاوتنا) بفتح الشين وكسرها فيهما (اخْسَؤُا فِيها) ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه. (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشمس والسموم، قال تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ) [المؤمنون: 104]، وعنه استعير لفحته بالسيف. قوله: (قال: تشويه النار فتقلص)، الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي، عن أبي سعيد. قوله: ((شِقْوَتُنَا) و"شقاوتنا")، حمزة والكسائي: "شقاوتنا" بالألف مع فتح الشين والقاف، والباقون: بكسر الشين وإسكان القاف. قال الزجاج: والمعنى واحدٌ.

العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل: هو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس: إنّ لهم ست دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا)] السجدة: 12 [فيجابون: (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)] السجدة: 12 [، فينادون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)] غافر: 11 [، فيجابون: (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ)] غافر: 12 [، فينادون ألفا: (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)] الزخرف: 77 [، ، فيجابون: (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)] الزخرف: 77 [: فينادون ألفا: (رَبَّنا أَخِّرْنا)] إبراهيم: 44 [، فيجابون: (أَوَ لَمْ تَكُونُوا)] إبراهيم: 44 [، فينادون ألفا: (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] فاطر: 37 [، فيجابون: (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ)] فاطر: 37 [، فينادون ألفا: (رَبِّ ارْجِعُونِ)] المؤمنون: 99 [، فيجابون: (اخْسَؤُا فِيها)] المؤمنون: 108 [. [(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)]. في حرف أبىّ: (أنه كان فريق)، بالفتح، بمعنى: لأنه. السخري - بالضم والكسر -: مصدر سخر كالسخر، إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل، كما قيل الخصوصية في الخصوص. وعن الكسائي والفراء: أنّ المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية، أى: تسخروهم واستعبدوهم، والأوّل مذهب الخليل وسيبويه. قيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("السخري" بالضم والكسر)، نافعٌ وحمزةُ والكسائيُّ: بالضمن والباقون: بالكسر. قوله: (والأول مذهبُ الخليل وسيبويه)، قال الزجاج: بالضم والكسر جيد، وقيل: ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من جهة التسخير فهو بالضم، وكلاهما عند

هم الصحابة وقيل أهل الصفة خاصة. ومعناه: اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذِكْرِي) فتركتموه، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيبويه والخليل واحدٌ، واكسر لاتباع الكسر أحسنُ. وقال الواحدي: يقال: سخر منه وبه سخرية وسخرياً: إذا هزيء به، ومن السخرة التي بمعنى العبودية: "سُخريا" بالضم لا غير، ومن ثم اتفقوا على الضم في الزخرف؛ لأنه منا لسخرة، وعلى القراءتين جميعاً: هو مصدرٌ وُصف به، ولذلك أُفرد. قوله: ((حَتَّى أَنسَوْكُمْ) بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذكري))، يعني: (حتى) مع ما يتصل بها: غايةٌ لقوله: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً)، فلابد من تأويله بما يستقيم أن يكون هذا غايةً له، فيقال: تشاغلتم بهم ساخرين حتى جعلتموهم بسبب تشاغلكم بهم بصفة السخرية سبباً لنسيانكم ذكر الله، فظهر أن إسناد النسيان إلى الأولياء مجازي، والفاء في قوله: "فتركتموه" مؤذنة بأن الترك مسببٌ عما قبله، وقوله: (وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) تذييل. وقوله: "فتخافوني في أوليائي"، مسببٌ عن قوله: "أن تذكروني"، والمراد بالأولياء (عِبَادِي) في قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ)، وإنما دعاه إلى تفسير "فتركتموه" بقوله: "تركتم أن تذكروني فتخافوني" أن قوله: (حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي) متضمنٌ للتخويف، لوروده توبيخاً للقوم، وأنه إنما جرهم إلى السخرية بأولياء الله ترك الذكر المؤدي إلى عدم الخوف من الله تعالى، وما يكشف عن هذا المعنى إلا النظم، وبيانه أن قوله: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً) مرتبٌ على قوله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا)،

تركتم أن تذكروني فتخافونى في أوليائى. وقرئ (أَنَّهُمْ) بالفتح، فالكسر استئناف، أى: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول (جزيتهم)، كقولك: جزيتهم فوزهم. ] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)) [ (قالَ) في مصاحف أهل الكوفة. و (قل): في مصاحف أهل الحرمين والبصرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو تعليلٌ لقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)، يعني: إنما خسأناكم كالكلب؛ لأن فريقاً من أوليائي وخُلص عبادي لما ذكروا الله تعالى واستغفروه ودعوا الله بالرحمة، اتخذتموهم سخرياً، وامتدت تلك السخرية، وما انقطع خيط أسبابها حتى نسيتم ذكر الله بالكلية، وذكر خوفه وعقابه، وما تركتم ذلك إلا استهزاء بأولئك السادة، فهذا جزاؤكم، ثم ذكر لهم ما يريد في خسأهم وحسرتهم من جزاء أعدائهم بقوله تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ). قوله: (وقرئ: (أَنَّهُمْ)، بالفتح والكسر)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بفتحها. قوله: ((قَالَ) في مصاحف أهل الكوفة، و"قل": في مصاحف أهل الحرمين)، ابن كثير وحمزة والكسائي: "قل" بغير ألف، والباقون: (قال) بالألف. وإنما كان في "قُلْ" ضمير الملك أو بعض الرؤساء؛ لأنه أمر بإنشاء القول، فلا يصح أن يكون الآمر هو القائل. وأما (قال) فهو إخبارٌ، فيصح أن يكون القائل الله عز وجل، أو الملائكة عليهم السلامُ

والشام، ففي (قالَ) ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وفي «قل» ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار. استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور، وأيام السرور قصار، أو لأنّ المنقضى في حكم ما لم يكن، وصدقهم الله في مقالهم لسنى لبثهم في الدنيا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ فَسْئَلِ الْعادِّينَ والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم، لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدّها، فسل من فيه أن يعدّ، ومن يقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ: (العادين)، بالتخفيف، أى: الظلمة، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ: (العاديين)، أى: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. [(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأن يكونوا مأمورين بأن يسألوا عن الكفرة، ويقولوا: كم لبثتم؟ فالباء في "بسؤالهم" متعلقٌ بالمأمور، و"مِنْ" في "من الملائكة": بيان المأمور بالسؤال. قوله: (وقرئ: "فسل العادين")، ابن كثير والكسائي. قوله: (وما فينا أن نعدها)، أي: ما نطيق عدها، كقول المريض: ما في أن أقوم، أو: ما في وسعنا أن نعده، فسل من في وسعه عده.

(عَبَثاً) حال، أي: عابثين، كقوله (لاعِبِينَ) [الأنبياء: 16] أو مفعول له، أى: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي: أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) ويجوز أن يكون معطوفا على (عَبَثاً) أى: للعبث، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء (الْحَقُّ) الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ترجعون" بفتح التاء) وكسر الجيم: حمزة والكسائي، والباقون: بضم التاء. قوله: ((الحَقُّ) الذي يحق له المُلك)، (الحَقُّ) صفةٌ لـ (المَلِكُ)، واللام للجنس، والصفة مميزة؛ ولهذا علله بقوله: "لأن كل شيء منه وإليه"، يعني: أن مالكاً غيره ما يملكه من الله تعالى بدأ، وإليه يعود في العاقبة، فيكون هو الملك الواجب ملكه. قال القاضي: (المَلِكُ): الذي يحق له الملك مطلقاً؛ فإن من عداه مملوكٌ بالذات، مالكٌ بالعرض من وجه دون وجه، وفي حال دون حال. تم كلامه. ويرجع معنى هذا التفسير إلى أن (الحق) بمعنى الواجب؛ ولذلك قال في التفسير الثاني: "أو الثابت الذي لا يزول"، التفسير الأول أبلغ وأوفق لتلاؤم الكلام، وأخذ بعضه بحجزة بعض؛ وذلك أن الفاء في قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ) مستدعية لما يربط به ما بعده بما قبله، وذلك أنه تعالى لما أنكر حُسبان منكري الحشر، وزعمهم أن لا حساب ولا عقاب، ولا رجوع ولا ثواب، وأنه تعالى خلقهم سُدى، نزه ذاته الأقدس عما يؤدي إلى ذلك الحسبان من العبث في الخلق، وعظم سلطانه، يعني: كيف يليق بمن هو الملك على الإطلاق وأنه

العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كراما. وقرئ. (الكريم)، بالرفع. ونحوه: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)] البروج: 15 [. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) كقوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)] آل عمران: 151 [وهي صفة لازمة، نحو قوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: 38] جيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منفردٌ في الإلهية، وأنه رب العرش الكريم، أن يكون في فعله عبث؟ ثم بين أن هذا القول لايقوله إلا من يدعو مع الله إلها آخر لا برهان له، فالآيات قريبة من الآيات السابقة، هي قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً) [المؤمنون: 82] إلى آخرها. وانظر إلى هذا الخطاب العظيم الذي لو نزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ثم اقطع على المتسمين بالإسلام من الذين في قلوبهم زيغٌ بالكفر الصريح، حيث يشتغلون بالفضول من العلوم مما يؤديهم إلى تكذيب الله. روينا عن البخاري النسائي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته". قوله: (أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين)، يعني أنه كناية، كقول الشنفري: يبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها ... إذا ما بيوتٌ بالملامة حلت والوجه الأول: من الاستعارة المكنية، كان العشر في نفسه كريم، وأن الرحمة والخير والبركة تصدر عنه. ويجوز أن يكون إسناداً مجازياً. قال القاضي: العرش الكريم: الذي يحيط بالأجرام، وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام. قوله: (صفة لازمة)، أي: مؤكدةٌ، نحوه قولك: أمس الدابر لا يعود. ومن ثم استشهد

بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان «2». ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه، فالله مثيبه. وقرئ: أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه: حسابه عدم الفلاح، والأصل: حسابه أنه لا يفلح هو، فوضع (الكافرون) موضع الضمير، لأنّ (مَنْ يَدْعُ) في معنى الجمع، وكذلك (حِسابُهُ ... إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) في معنى «حسابهم أنه لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) [الأنعام: 38]، وليس بصفةٍ مخصصةٍ ليمتاز بها عن الآلهة التي يجوز أن يقوم عليها برهانٌ. قوله: (اعتراضاً بين الشرط والجزاء)، وذلك أن معنى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ومن يشرك بالله فالله يتولى عقابه، فإذا لا أحد أقل حيلةً منه، فحينئذٍ يحسن أن يكون قوله: (لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) توكيداً لمضمون الشرط والجزاء، وعكسه من أحسن إلى زيد فالله مثيبه، فإذاً لا أحد أحق بالإحسان منه. قوله: (وكذلك (حسابه ... إنه لا يفلح))، يعني: كما أن (وَمَنْ يَدْعُ) مفردُ اللفظ مجموع المعنى، فكذلك (حِسَابُهُ) مفرد اللفظ مجموع المعنى، والمشبه والمشبه به تعليلٌ لوضع (الْكَافِرُونَ) موضع الضمير المفرد، وإنما وجب الجمع؛ لأن الآية تذييلٌ للآيات الواردة في حق المعاندين المصرين. وأما الضمير في (إنهُ): فللشأن. وتلخيصه: أن من أشرك بالله وأصر عليه فإن عاقبته وخيمةٌ، ولا نجاح له البتة. هو تسليةٌ للرسول صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم قال ابن جني: معناه: أن حسابه يؤخر إلى أن يقلى ربه، فيُحاسب حينئذ. وذلك أنه لا تنفع فيه الموعظة، ولا التذكير في الدنيا، فيؤخر حسابه إلى أن يحاسب عند ربه، لعدم انتفاعه. وقلت: إنما وضع (الْكَافِرُونَ) موضع الضمير المفرد بعد الإفراد في حسابه؛ للإشعار بأن عدم الفرح معللٌ بالكفر، أو لرعاية التوافق في الفواصل، وليتطابق أول السورة

يفلحون». جعل فاتحة السورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وأورد في خاتمتها (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت. وروى: أنّ أوّل سورة (قد أفلح) وآخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتعظ بأربع آيات من آخرها: فقد نجا وأفلح وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوىّ كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وآخرها، كما قال: وافتتح بـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)، وأورد في خاتمتها: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ). وكل هذه الرموز يعضده النظم الذي أشرنا إليه في أثناء السورة، ألا ترى كيف أمر حبيبه صلوات الله وسلامه عليه بعد أن سلاه عن إسلام من لا ينجع دعاؤه فيه، بأن يطلب الغفران والرحمة في دعائه لنفسه ولمتبعيه، ورمز فيه إلى متاركة مخالفيه بقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)؟ قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي)، الحديث، رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي في "سننه"، عن عمر رضي الله عنه. قوله: (وآثرنا ولا تؤثر علينا)، النهاية: آثر يؤثر إيثاراً: إذا أعطى، يقال: يستأثر عليكم،

وارض عنا وأرضنا» ثم قال «لقد أنزلت علىّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة» ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: يُفضل عليكم غيركم في نصيبه. في حديث عمر رضي الله تعالى عنه: والله ما استأثر بها عليكم، ولا آخذها دونكم. تمت، والحمد لله رب العالمين

سورة النور

سورة النور مدنية، وهي ثنتان وستون آية، وقيل: أربعٌ وستون بسم الله الرحمن الرحيم [{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1] {سُورَةٌ} خبر مبتدأ محذوف. و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة. أو هي مبتدأٌ موصوفٌ والخبر محذوف، أي: فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيداً ضربته، ولا محل لـ {أَنْزَلْنَاهَا}، لأنها مفسرةٌ للمضمر، فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة، أو: اتل سورة، و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة. ومعنى "فرضناها": فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها واجبةً مقطوعاً بها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النور مدنية، وهي ثنتان وستون آية، وقيل: أربعٌ وستون بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وقرئ بالنصب)، قال ابن جني: هي قراءة أم الدرداء، وعيسى الثقفي، ورويت عن عمر بن عبد العزيز. قوله: (أي: جعلناها واجبةُ)، الراغب: الفرض: قطع الشيء الصلب والتأثير فيه،

والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده: أو: لأن فيها فراض شتى، وإنك تقول: فرضت الفريضة، وفرضت الفرائض. أو: لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقطع الحديد، والفرض كالإيجاب، لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}، أي: أوجبنا العمل بها. ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة: فرض. وكل موضع ورد فيه: فرض الله عليه، ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه. وما ورد من: فرض الله له، فهو في أن لا يحظره على نفسه، نحو قوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 37] وقوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] أي: سميتم لهن مهرًا، وأوجبتم على أنفسكم بذلك، وعلى هذا يقال: فرض له في العطاء، وبهذا النظر، ومن هذا الغرض قيل للعطية: فرضٌ، وللدين: فرضٌ، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: من عين على نفسه إقامة الحج، وإضافة فرض الحج إلى الإنسان دلالةٌ على أنه غير معين الوقت. وقال الإمام: {وَفَرَضْنَاهَا}: فرضنا ما بين فيها، وإنما قال ذلك، لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود. وقلت: فقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} بمنزلة براعة الاستهلال، لأن قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا .... } إلى آخر السورة من الأحكام كالتفصيل، ونحوه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] على ما سبق بيانه. قوله: (والتشديد للمبالغة)، أي: من شدد {وَفَرَضْنَاهَا} وهو ابن كثير وأبو عمرو، فللمبالغة في الإيجاب.

{تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيها. رفعهما على الابتداء، والخبر محذوفٌ عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم. [{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} أي: جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: {فَاجْلِدُوا}، وإنما دخلت الفاء، لكون الألف واللام بمعنى "الذي"، وتضمينه معنى الشرط، تقديره: التي زنت، والذي زنى فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4]. وقرئ بالنصب على إضمار فعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وتخفيفها)، بالتخفيف: حفصٌ وحمزة والكسائي، والباقون: بالتشديد. قوله: (وقرئ بالنصب)، قال ابن جني: وهي قراءة عيسى الثقفي، وهو منصوبٌ بمضمر، أي: اجلدوا الزانية، وتفسيرها: {فَاجْلِدُوا} وجاز دخول الفاء، لأنه في موضع أمر، ومآل معناه إلى الشرط، ولا يجوز: زيدًا فضربته، لأنه خبر. وقال الزجاج: وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختار، وزعم غيرهما من البصريين والكوفيين أن المختار الرفع، وكذا عندي، لأن الرفع كالإجماع في القراءة، وهو أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، على الابتداء، ويؤيده قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16]، وإنما اختار الخليل وسيبويه النصب، لأنه أمرٌ، والأمر بالفعل أولى. وقد مر فيه الكلام مستقصى في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].

يفسره الظاهر، وهو أحسن من (سورةً أنزلناها)، لأجل الأمر. وقرئ: (والزان) بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت: أهذا حكم جميع الزنية والزواني، أم حكم بعضهم؟ قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبي حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزويج بنكاحٍ صحيح، والدخول، إذا فقدت واحدةٌ منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين. وحجة أبي حنيفة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أشرك بالله فيس بمحصن" فإن قلت: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزنية والزواني، لأن قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} عام في الجميع، يتناول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشرائط الإحصان)، عن بعضهم: أحصن الرجل: تزوج فهو محصنٌ، وهو أحد ما جاء على "أفعل" فهو "مفعل". وأحصنت المرأة: عفت، وحصنها زوجها، فهي محصنةٌ ومحصنة، قال ثعلبٌ: كل امرأة عفيفة محصنةٌ ومحصنةٌ، وكل امرأة متزوجة محصنةٌ بالفتح لا غير. قوله: (رجم يهوديين)، الحديث مشهورٌ مخرجٌ في "الصحيحين". قال القاضي: لا يعارضه "من أشرك بالله فليس بمحصن"، إذ المراد المحصن: الذي يقتص له من المسلم. قوله: (اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزنية والزواني)، أي: اللفظ عامٌ، كيف يذهب على أنه حكم من ليس بمحصن؟ وتوجيه الجواب: أنا لا نسلم أنه عامٌ، بل هو

المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافقين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة، والجنسية قائمةٌ في الكل والبعض جميعاً، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ: (ولا يأخذكم) بالياء، و (رأفةٌ) بفتح الهمزة، و (رآفة) على: فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةً في ذلك، حيث قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مطلق، فإن لام الجنس إذا دخلت على مفهوم دل دلالةً مطلقةً شائعةً في جنسه، فيصح حمله على البعض وعلى الكل، فإذا انتهضت قرينةٌ تعين المراد منها كاللفظ المشترك، فإن إرادة أخد مفهوميه إنما تتعين عند قيام القرينة، وقرينة تقييد هذا المطلق آية الرجم، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" إلى آخرها، وفيه بحث، لأنه لا مانع عندهم أن تجري الآية على العامٌ المخصص على ما سبق في البقرة عند قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وروى عن المصنف أنه قال: الألف واللام في الصفات عند المازني ومن تبعه كالمبرد وغيره بمنزلتهما في الأسماء للتعريف، وعند سيبويه هما بمعنى: الذي، والصفة بمعنى الفعل. قوله: ("رأفةٌ" بفتح الهمزة)، ابن كثير، والباقون: بإسكانها. و"رأفةٌ" على: فعالة شاذةٌ. قال الزجاج: و"رآفةٌ" مثل السآمة والكآبة، وفعالةٌ من أسماء المصادر. قوله: (والهوادة)، الجوهري: هي الصلح والميل: وقيل: الهوادة: أن لا يجد في الأمر.

"لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه. وقيل: لا تترحموا عليهما حتى تعطلوا الحدود، أو حتى لا توجعوهما ضرباً. وفي الحديث: "يؤتي بوال نقص من الحد سوطاً، فيقول: رحمةٌ لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به إلى النار. ويؤتي بمن زاد سوطاً، فيقول: لينتهوا عن معاصيك. فيؤمر به إلى النار"، وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خيرٌ لأهلها من مطر أربعين ليلة. وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو سرقت فاطمة)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن عائشة قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله؟ إلى قوله: وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد- عليهما السلام- سرقت لقطعت يدها. قوله: (وقيل: لا تترحموا عليهما)، هذا تفسيرٌ آخر لقوله تعالى: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ}، والفرق أن على الأول تحريضٌ على إقامة الحد نفسه، والثاني على إقامته مع الإيجاع فيه، يدل على الأول قوله: "ولا يأخذكم اللين في استيفاء حدود الله تعالى"، وعلى الثاني: قوله: "أو حتى لا توجعوهما ضرباً". قوله: (إقامة حد بأرض)، عن ابن ماجه، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إقامة حد من حدود اله خيرٌ من مطر أربعين ليلةٌ في بلاد الله عز وجل". وعن ابن ماجه والنسائي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حدٌ يعمل به في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً"، وفي رواية النسائي: "ثلاثين صباحاً".

عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائماً على مجرده ليس عليه إلا إزاره، ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً، مفرقاً على الأعضاء كلها، لا يستثنى منها إلا ثلاثاً: الوجه، والرأس، والفرج. وفي لفظ الجلد: إشارةٌ إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الأم إلى اللم. والمرأة تجلد قاعدةً، ولا ينزع من ثيابها إلى الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن الجلد حد غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي رحمه الله على وجوب التغريب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام"، وما يروي عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفا، منسوخٌ عنده وعند أصحابه بالآية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على مجرده)، أي: ظاهر بشرته عارياً. الجوهري: يقال: فلانٌ حسن الجردة والمجرد، كقولك: حسن العرية والمعري، وهما بمعنى واحد. قوله: (لا مبرحاً)، النهاية: ضربٌ غير مبرح: غير شاق. قوله: (وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم)، وهو المعنى بالإدماج عند علماء البيان، وإشارة النص في الأصول. قوله: (البكر بالبكر جلد مئة)، عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة ورجمٌ". هذه رواية مسلم، والمعنى: زنى البكر بالبكر حده جلد مئة، أو: حد زنى البكر بالبكر جلد مئة. وفي قوله: "وما يروي عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا، منسوخ"، بحثٌ، لأن إجماع الصحابة متأخرٌ عن نزول الآية، فكيف يكون منسوخاً بها؟ وفي هذا الإجماع دلالةٌ على أن الآية غير ناسخةٍ للسنة، وهذه الزيادة ليست بناسخةٍ للآية عند الشافعية خلافاً للحنفية. وروينا عن الترمذي عن ابن عمر، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرب، وإن أبا بكرٍ ضرب وغرب، وإن عمر ضرب وغرب.

أو محمولٌ على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحر واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنةً كالحر، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب، كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس، والأذى في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15]، وقوله: {فَآَذُوهُمَا} [النساء: 16]. قيل: تسميته عذاباً دليلٌ على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذاباً، لأنه يمنع من المعاودة، كما سمي نكالاً. الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثةٌ أو أربعة، وهي صفةٌ غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعةٌ إلى أربعين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو محمول على وجه التعزير والتأديب لا على الوجوب)، بناءً على أن الزيادة على النص نسخ، وأنه لا ينسخ الكتاب بخبر الواحد. قال القاضي: ليس في الآية ما يدفع حديث التغريب لينسخ أحدهما بالآخر. قوله: (أن يسمى عذاباً، لأنه يمنع من المعاودة)، الأساس: يقال: أعذب عن الشيء واستعذب: إذا امتنع، ويقال: أعذبوا عن الآمال أشد الإعذاب، فإن الآمال تورث الغفلة، وتعقب الحسرة. قوله: (الجماعة الحافة)، الراغب: الطائفة من الناس: جماعةٌ منهم، ومن الشيء: القطعة منه، قال بعضهم: قد يقع على واحد فصاعداً، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، والطائفة إذا أريد بها الجمع: فجمع طائف، وإذا أريد بها الواحد فيصح أن يكون جمعًا وكني به عن الواحد وكني به عن الواحد، ويصح أن يجعل كراوية وعلامة. والخلود بالنار يؤذن بوضع الحديث.

رجلاً من المصدقين بالله. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثةٌ فصاعداً. وعن عكرمة: رجلان فصاعداً. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد، والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله: {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، وقال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الناس، اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال، ثلاثٌ في الدنيا، وثلاثٌ في الآخرة: فأما اللاتي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار"، ولذلك وفى الله فيه عقد المئة بكماله، بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه القتلة الهولة، وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين، لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، ويشهد له قول ابن عباس: إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله. [{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3]. الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الهولة)، عن بعضهم: إدخال التاء في الهولة على تأويل الوصفية كقولهم: الجبة الحتفة، والمرأة الكلبة، على تأويل الهائلة والقائلة والسليطة. قوله: (الزنى والتقحب)، الراغب: الزنى: وطء المرأة من غير عقد شرعي. ويقصر، وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة. وزنأ في الجبل زنأ وزنوءاً، والزناء: الحاقن بوله،

من النساء واللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة، أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونكاح المؤمن الممدوح عند اله الزانية ورغبته فيها وانخراطه فيها في سلك الفسقة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونهي الرجل أن يصلي وهو زناء. وقيل: الزنى: سفح الماء في محل محرم، يمد ويقصر، والقصر لغة الحجاز، والمد لغة نجد. الأساس: يسمى أهل اليمن المرأة القحبة، ويقولون: لا تثق بقول القحبة، ولا تغتر بطول الصحبة. وقاحبت المرأة: وقحبت وتقحبت. وقوله: (ونكاح المؤمن)، إلى آخره، هو معنى قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وهو عطفٌ على قوله: "الفاسق الخبيث" إلى آخره. اعلم أن قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} يصح أن يحمل على الخبر المحض، وعلى معنى النهي، كما نص عليه في آخر كلامه، فإذا حمل على الخبر يكون معنى الحرمة في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} التنزيه، ويسمى حرامًا للتغليظ والتشديد، وإليه الإشارة بقوله: "لما فيه من التشبه بالفساق"، والمعنى: أن من شأن الفاسق الخبيث وعادته ذلك، فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويتصون عنها كما ذكره، فعلى هذا: الظاهر أن قوله: "وقد أجازه ابن عباس رضي الله عنهما"، وقوله: "أنه سئل عن ذلك، فقال: أوله سفاح وآخره نكاح" مبني على هذا الوجه، والآية غير منسوخة. وإذا حمل على النهي فيكون قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} على ظاهره مؤكدًا لمعنى النهي، ويكون قوله: "وقيل: كان بالمدينة موسراتٌ من بغايا المشركين" إلى آخره، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: "إن الرجل إذا زنى

المتسمين بالزنى: محرمٌ عليه محظور، لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، وأنواع المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فيكف بمزواجة الزواني والقحاب؟ ! وقد نبه على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بامرأة، ليس له أن يتزوجها" مبنيين على هذا، والآية منسوخة. قال القاضي: وإنما حرم ذلك على المؤمنين، لأنه تشبيهٌ بالفساق، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغةً، وقيل: النفي بمعنى النهي، وقد قرئ به، والحرمة على ظاهرها، والحكم مخصوصٌ بالسبب الذي ورد فيه، وهو نكاح الموسرات من بغايا المشركين، أو منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فإنه يتناول المسافحات. قوله: (لسوء القالة فيه)، الراغب: القالة: كل قول فيه طعنٌ وغميزة وقال: بعضهم: القال والقالة: ما ينتشر من القول، قال الخليل: يوضع القال موضع القائل، فيقال: أنا قال كذا، أي: قائله. قوله: (وقد نبه على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ}، يعني: إذا كان الصالحون من الأرقاء والمماليك موصى في حقهم التزوج بسبب الصلاح، فالحرائر أولى بالتوصية أن يحترزن عن نكاح الفاسقين، والأحرار عن الفواسق، لأن السبب في شرعية النكاح التحصن في الدين، وحفظ الصلاح، والتكاثر من الصلحاء، فعلى هذا قوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] تأكيدٌ للآية وموافقةٌ لها، ولهذا كانت الآية على هذا الوجه غير منسوخة.

فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت. وعن عائشة رضي الله عنها: أن الرجل إذا زنى بامرأة: ليس له أن يتزوجها، لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل عن ذلك، فقال: "أوله سفاحٌ وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال"، وقيل: المراد بالنكاح الوطء. وليس بقول، لأمرين: أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزنى إلا بزانية، والزانية لا يزني بها إلا زان. وقيل: كان نكاح الزانية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سفاح)، النهاية: السفاح: الزنى، مأخوذٌ من سفحت الماء: إذا صببته، وأراد به أن المرأة تسافح رجلاً مدةً ثم يتزوجها، وهو مكروهٌ عند بعض الصحابة، وعن بعضهم: المرأة مسافحٌ بها ومسفوحٌ فيها، فتسميتها مسافحة مجازٌ، كالزانية من: زنأت الجبل، إذا علوت. الانتصاف: كره مالكٌ نكاح المشهورين بالفاحشة، ونقل بعض أصحابه إجماع المذاهب أن للمرأة أو لوليها فسخ نكاح الفاسق. قوله: (أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد)، قال الزجاج: لا يعرف شيءٌ من ذكر النكاح في كتاب الله إلا على معنى التزويج، قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: 32]، {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]. قوله: (وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزني إلا بزانية)، قال صاحب "التقريب": وليس فساده لأنه بيانٌ للواضحات، بل لأنه غير مسلم، إذ قد يزني الزاني بغير الزانية لعلم أحدهما بالزنى، والآخر جاهلٌ به، يظن الحل، وقال القاضي: لأنه يؤول المعنى إلى نهي الزاني عن الزنى إلا بزانية، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.

محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ، والناسخ قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقيل: الإجماع، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب. فإن قلت: أي فرقٍ بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى: صفة الزاني بكونه غير راغبٍ في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الإجماع)، أي: الناسخ الإجماع، وعن بضعهم: فيه نظرٌ، لأن النسخ لا يجوز إلا زمان ورود النص، وإذا وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الاجتهاد في حكم كان ذلك نصاً لا إجماعًا. قوله: (أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ )، يعني معنى قوله: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ}، يعود إلى قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً}، لأن إسناد النكاح في الجملتين إلى الزاني. وأجاب بأن المسند إليه هو الذي يستدعي أن يحكم عليه، فهو في الحقيقة الموصوف، والخبر كالصفة تابعٌ له، ومن ثم سمى ابن جني المبتدأ رب الجملة، فيرجع معنى الجملة الأول إلى أن الزاني هو الذي يجتهد في تحصيل الفاجرة، ويرغب عن نكاح العفائف، ومعنى الثانية إلى أن الزانية حكمها أن لا يرغب فيها إلا عقابل الزنية، فيكون الذم راجعًا إليها بالأصالة، كما رجع إلى الزاني في الأولى بالأصالة، وإن استتبع كلٌ منهما ذم الآخر، ولو لم يذكر الثانية لم يعلم ذلك. الانتصاف: ليس ما ذكره الزمخشري موضحًا لتطابق الجملتين، وإيضاحه: أن الأقسام أربعة: الزاني لا يرغب إلا في زانية، والزانية لا ترغب إلا في زان، والعفيف لا يرغب إلا في عفيفة، والعفيفة لا ترغب إلا في عفيف، فذكر منها قسمان دالان على القسمين المسكوت عنهما، فالقسم الأول دالٌ على قرينه، وهو انحصار رغبة العفيف في العفيفة. والقسم الثاني: يفهم منه الرابع وهو انحصار رغبة العفيفة في العفيف، وعبر عن الزنية بما لا ينفك عن الزنى، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم، وأسند النكاح في القسمين المذكورين إلى الذكور، بخلاف قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} جعل كل واحد منهما زانياً، وقدم الزانية في الكلام

العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: كيف قدمت الزانية على الزاني أولاً، ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت: سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل، ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمع، ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك: بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقةٌ لذكر النكاح، والرجل أصلٌ فيه، لأنه هو الراغب والخاطب، ومنه يبدأ الطلب. وعن عمرو بن عبيد: (لا ينكح) بالجزم على النهي. والمرفوع أيضاً فيه معنى النهي، ولكن أبلغ وآكد، كما أن "رحمك الله" و"يرحمك": أبلغ من "ليرحمك" ويجوز أن يكون خبراً محضاً، على معنى: أن عادتهم جاريةٌ على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها. وقرئ: (وحرم) بفتح الحاء. [{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4 - 5]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول، لأن الأصل في الزنى المرأة لما يبدو من إطماعها، والثاني في النكاح، إذ المعتبر فيه الرجل، وهم البادون بالخطبة. ولما كان الغرض تنفير الإعفاء من الزنى قربنه بالشرك. تم كلامه. وليس بطائلٍ، لأن قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} متضمنٌ لمعنى القسمين المقدرين. قوله: (ولم تومض له)، الجوهري: أومضت المرأة: إذا سارقت النظر من: "ومض البرق وميضًا": إذا لمع لمعاناً خفيفاً. قوله: (كما أن "رحمك الله" و "يرحمك": أبلغ)، وهم يسلكون هذه الطريقة للتفاؤل، كأنهم أسعفوا بمطلوبهم، فهم يخبرون عنه. قوله: (ويجوز أن يكون خبرًا محضًا)، عطفٌ على قوله: "والمرفوع أيضًا فيه معنى النهي".

القذف يكون بالزنى وبغيره، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان، أحدهما: ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني: اشتراط أربعة شهداء، لأن القذف بغير الزنى يكفي فيه شاهدان، والقذف بالزنى: أن يقول الحر العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زاني، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنى، لست لأبيك، لست لرشدة. والقذف بغير الزنى أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودي، يا مجوسي، يا فاسق، يا خبيث، يا ماض بظر أمه، فعليه التعزير، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد، وهو أربعون، بل ينقص منه. وقال أبو سيف: يجوز أن يبلغ به تسعةٌ وسبعون. وقال: للإمام أن يعزر إلى المئة. وشروط إحصان القذف خمسة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لست لرشدة)، النهاية: يقال: هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح، كما يقال في ضده: ولد زنية، بالكسر. قوله: (يا يهودي، يا مجوسي)، فيه أن هذا ليس موجباً للتكفير، لأنه قال: فعليه التعزير، وفي "الروضة": قال المتولي: ولو قال المسلم: يا كافر، بلا تأويل: كفر، لأنه سمى الإسلام كفرًا. وفيها: ولو قيل للمسلم: يا يهودي أو: يا مجوسي، فقال: لبيك: كفر. قوله: (يا ماص بظر أمه)، النهاية: في الحديث: امصص ببظر اللات. البظر، بفتح الباء: الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. وعن بعضهم: مصصت الماء: شرب منه رشفًا، وفي الحديث: "مصوا الماء، ولا تعبوا عبًا، فإن الكباد من العب". وقولهم للرجل: يا مصان، وللمرأة: يا مصانة: شتم.

وقرئ: (بأربعة شهداء) بالتنوين. و (شهداء) صفة. فإن كنت: كيف يشهدون: مجتمعين أو متفرقين؟ قلت: الواجب عند أبي حنيفة وأصحابه أن يحضروا في مجلسي واحد، وإن جاؤوا متفرقين: كانوا قذفة، . وعند الشافعي: يجوز أن يحضروا متفرقين. فإن قلت: هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحداً منهم؟ قلت: يجوز عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي. فإن قلت: كيف يجلد القاذف؟ قلت: كما جلد الزاني، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضًا كالزانية. وأشد الضرب: ضرب التعزيز، ثم ضرب الزنى، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "بأربعة شهداء" بالتنوين)، قال ابن جني: هي قراءة عبد الله بن مسلم ابن يسار وأبي زرعة، وهذا حسنٌ في معناه، وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف، لا يقال: عندي ثلاثة طريقين، إلا إذا أقيمت الصفة مقام الموصوف، وهذا هو الوجه في قراءة الجماعة {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} بالإضافة، فإنهم استعملوا الشهداء استعمال الأسماء. قوله: (وأشد الضرب: ضرب التعزير)، النهاية: وأصل التعزير: المنع والرد، ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد: تعزيرٌ، لأنه لا يمنع الجاني أن يعاود الذنب. وقيل: وفي كتاب سلالة "التفريد": أشد الضرب التعزير، ثم حد الزنى، ثم حد الشرب، ثم حد القذف، فإن التعزير نقص من العدد، وزيد في وصفه. وحد الزنى منصوصٌ في تغليظه، قال تعالى: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ}، وحد الشرب متيقنٌ، بخلاف القذف، فيكون أبلغ، ولذلك لا يجرد في حد القذف، لأن سببه غير متقين. وقال الإمام: قيل: أشد الضرب في الحدود ضرب الزنى، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. وقال القاضي: إنما كان ضرب القاذف أخف، لضعف سببه، واحتمال

قالوا: لأن سبب عقوبته محتملٌ للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانةً للأعراض وردعاً عن هتكها. فإن قلت: فإذا لم يكن المقذوف محصناً؟ قلت: يعزر القاذف ولا يحد، إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به، فلا حد ولا تعزير. رد شهادة القاذف معلق عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل تمام استيفائه: قبلت شهادته، فإذا استوفى: لم يقبل شهادته أبداً وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعي: يتعلق رد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن يرجع عنه: عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسكٌ بالآية، فأبو حنيفة رحمه الله جعل جزاء الشرط- الذي هو الرمي- الجلد، ورد الشهادة عقيب الجلد على التأبيد، فكانوا مردودي الشهادة عنده في أيدهم، وهو مدة حياتهم، وجعل قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} كلاماً مستأنفاً غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صدق ما قال، ولذلك نقص عدده. قوله: (صيانةً للأعراض)، العرض: النفس، صنت عرضي أي: نفسي، وفلانٌ نقي العرض، إذا كان بريئاً عما يقرف ويعاب به. وقيل: العرض: الحسب من مكارم [أخلاق] الرجل. قوله: (أبداً)، الأبد: اسمٌ لزمانٍ طويلٍ انتهى أو لم ينته، يقال: أبدٌ أبيدٌ، كقولهم: دهرٌ داهر وساعةٌ سوعاء، أي: طويلة. قوله: (كلاماً مستأنفاً)، أي: مبتدأ، كما قال ابن الحاجب في "شرح المفصل" في قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} على معنى التشريك بينهما في عامل واحد، كأنك عطفت خبراً على خبر، أو على الابتداء بجملة معربةٍ إعراب نفسها غير مشتركٍ بينها وبين ما قبلها في عاملٍ واحد،

انقضاء الجملة الشرطية. و {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناءٌ من الفاسقين، ويدل عليه قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والشافعي رحمه الله جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً، غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفاً، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف، وجعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجروراً بدلاً من "هم" في {لَهُمْ}، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً، لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها: أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إلى أخره: عطفٌ على الجملة الشرطية بتمامها، للإعلام بأن الجملة الأولى مشتملةٌ على حكم الرامين عند الناس في ظاهر الشرع، والثانية على حكمهم عند الله تعالى، ويدل على أن الثانية كذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لأن هذه الفاصلة لا تليق بحال قبول الشهادة وردها، ويمكن أن يجاب بأن الفاصلة متعلقةٌ بمجموع الكلام، وأن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ معترضةٌ دخلت بين المستثنى والمستثنى منه مؤكدةٌ لمعنى ما اعترض فيه، والمناسبة حاصلةٌ على أن التعذيب نوعان: تعذيب إيلام، وتعذيب تشوير، فإذا قبلت توبة القاذف وسمعت شهادته، كأنه غفر له ورحم عيه وأنقذ من عذاب التشوير. قوله: (والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها: أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاءً للشرط)، وبيانه ما قرره الإمام، وتلخيصه على وجهين: أحدهما: أن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناءٌ مذكورٌ عقيب جمل منسوقةٍ بحرف النسق، وهي: {فَاجْلِدُوهُمْ}، {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فهي في حكم واحد، فلم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضٍ أولى من بعض، فوجب عوده إليها بأسرها. ونظيره قول أبي حنيفة رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6]، فإن فاء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعقيب ما دخلت على غسل الوجه فقط، بل على المجموع من حيث إن الواو للجمع المطلق لا للترتيب، فإن قيل: إن الواو كما تكون للجمع فقد تكون للاستئناف، فقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ خبريةٌ، والجملتان السابقتان طلبية، ولا يجوز عطف الخبرية على الطلبية، فالواو: للاستئناف، بخلافه في آية الوضوء؟ الجواب: إذا انتهض الجامع القوي لا يمنع الاختلاف من العطف، أي: من قذف المحصنات فاجلدوهم، وردوا شهادتهم، وفسقوهم، أي: اجمعوا لهم هذه الثلاث إلا الذين تابوا عن القذف، وأصلحوا فإن الله تعالى يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. وإنما خولف في الثالثة بالخبرية، لأنه أبلغ وألزم، ولذلك جئ بها معرفة الخبر متوسطة بضمير الفصل. وثانيهما: أن مجيء: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عقيب قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} يدل على أن العلة في عدم قبول الشهادة كونهم فاسقين، لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعرٌ بالعلية، وإذا ثبت أن العلة لرد الشهادة كونهم فاسقين، فعند زوال الفسق زالت العلة، فوجب أن يزول الحكم. فإن قيل: إن الاستثناء لو رجع إلى الكل لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد، وهذا باطلٌ بالإجماع؟ وأجاب الإمام: أن ترك العمل فيه لدليل الإجماع، فلم يترك في الباقي. وقال القاضي: الاستثناء راجعٌ إلى الحكم، وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور، ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد، أو الاستحلال. وقلت: لأن الغفران إنما يكون في حقوق الله تعالى، وحد القذف من حقوق العباد، ثم المختار من الوجهين الثاني، لأن قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملةٌ معترضةٌ بين المستثنى

كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمستثنى منه لتوكيد مضمون الجملة وكالتعليل لها. والواو للاستئناف لا محيد عنه، لورودها على التأكيد، وتعريف الخبر بلام الجنس المؤذن بكمال هذا المعنى فيهم، وتوسط ضمير الفصل المقيد للحصر. وكل هذا ينافي العطف، مع أن الجملتين السابقتين إنشائيتان، ولذلك جعل الإمام الشافعي الاستثناء متعلقًا به: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} كما قال. وقال ابن الحاجب في "الأمالي": رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها ليس بمستقيم، أما الجلد فلم يرجع إليه بالاتفاق، وأما قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فإنما جيء به لتقرير تعليل منع الشهادة، فلم يبق إلا قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. وينصر هذا القول فعل عمر رضي الله تعالى عنه، وإجماع فقهاء التابعين على ما روينا في "صحيح البخاري": جلد عمر رضي الله عنه عنه أبا بكرة وشبل ابن معبد ونافعًا بقذف المغيرة، ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وأجازه عبد الله بن عتبة، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، وطاووس، ومجاهدٌ والشعبي، وعكرمة، والزهري، ومحارب، وشريح، ومعاوية بن قرة. قال بعض الناس: لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب، ثم قال: لا يجوز نكاحٌ بغير شاهدين، وإن تزوج بشهادة محدودين: جاز. وإن تزوج بشهادة عبدين: لم يجز، وأجاز شهادة المحدود والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان.

فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت: الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبي حنيفة! كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام! قلت: المسلمون لا يعبؤون بسبب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يحلقه بقذف مسلم مثله، فشدد على القاذف من المسلمين، ردعاً وكفًأ عن إلحاق الشنار. فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حد القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحد، والمقذوف مندوبٌ إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحد. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ، ويقول له: أعرض عن هذا ودعه لوجه الله، قبل ثبات الحد، فإذا ثبت لم يكن لواحدٍ منهما أن يعفو، لأنه خالص حق الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت: هل يورث الحد؟ قلت: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المسلمون لا يعبؤون بسبب الكفار) إلى آخره، قال: صاحب "الفراند": أبو حنيفة لا يحتاج إلى هذا الجواب الضعيف، والكافر إنما قبلت شهادته بعد الإسلام، لأن هذه الشهادة غير شهادة الكفر، لأنها مستفادٌة من الإسلام، فلم تدخل تحت الرد، ويدل عليه أن شهادته مقبولةٌ بعد الإسلام على المسلم والذمي، وتلك الشهادة غير مقبولةٍ على المسلم، ولو كان كما قال، وهو عدم لحوق الشين، لوجب أن لا يحد، لعدم اعتبار قذفه. قوله: (والشنار)، النهاية: الشنار: العيب والعار. وقيل: هو العيب الذي فيه عارٌ، من: شنر عليه، أي: عابه وطعن فيه. قوله: (لأنه خالص حق الله تعالى)، عن بضعهم: حد القذف مما اجتمع فيه الحقان، وحق الله تعالى غالبٌ أو حق العبد غالبٌ على قول بعض أصحابنا، ولم يقل أحدٌ بما قاله المصنف عرف في أصول الفقه.

عند أبي حنيفة: لا يورث، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحد لا يورث"، ويورث عند الشافعي، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحد: سقط وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت حين تاب مما قال في عائشة رضي الله عنهما. [{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 6 - 9]. قاذف امرأته إذا كان مسلماً حرًا عاقلاً بالغًا، غير محدود في القذف، والمرأة بهذه الصفة مع العفة: صح اللعان بينهما إذا قذفهما بصريح الزنى، وهو أن يقول لها: يا زانية، أو: زنيت، أو: رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبداً، أو محدوداً في قذف، والمرأة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عند أبي حنيفة: لا يورث ... ، ويورث عند الشافعي)، قال الإمام: قال مالكٌ والشافعي: حد القذف يورث، فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد والعفو ثبت لوارثيه الحد، وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف، وعند أبي حنيفة: لا يورث. حجة الشافعي أن حد القذف الآدمي، لأنه يسقط بعفوه، ولا يستوفي إلا بطلبه، ويحلف المدعى عليه إذا أنكر، وقال أبو حنيفة: لو كان موروثاً لكان للزوج والزوجة نصيبٌ فيه، وليس كذلك، لأنه حقٌ ليس من قبيل المال، فلا يورث كالمضاربة والوكالة. والجواب: أن الأصح عند الشافعي أنه يرثه جميع الورثة كالمال، وفيه وجهٌ أنه لا يرثه الزوج والزوجة، لأن المقصود من الحد دفع العار، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة، لأن الزوجية تنقطع بالموت.

محصنة: حد، كما في قذف الأجنبيات، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان: أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، ويقول في الخامسة: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى. وعند الشافعي رحمه الله: يقام الرجل قائماً حتى يشهد، والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعدٌ حتى تشهد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له: إن أخاف إن لم تكن صادقاً أن تبوء بلعنة الله. وقال: اللعان بمكة بين المقام والبيت، وبالمدينة على المنبر، وببيت المقدس في مسجده، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام، لقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، ثم يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبي حنيفة وأصحابه، إلا عند زفر، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتي: لا فرقة أصلاً. وعند الشافعي رحمه الله: تقع بلعان الزوج. وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد: جاز أن يتزوجها. وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي: هي فرقةٌ بغير طلاقٍ توجب تحريمها مؤبداً، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه. وروى: أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فقام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن عثمان البتي)، قيل: هو خليفة الحسن البصري، وكتب أبو حنيفة كتاب "الرسالة" من تصنيفه إليه، والبتي: بائع البيت، وهو الكساء الغليظ. قوله: (روي: أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، في هذه الرواية تخليطٌ، لأن حديث عاصم بن عدي رواه البخاري ومسلمٌ والنسائي عن ابن عباسٍ من غير هذا

عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك، إن وجد رجلٌ مع امرأته رجلاً فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبداً وفسق وفسق، وإن ضربه بالسيف قتل، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى! اللهم افتح. وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر، فقال: ما وراءك؟ قال: شرٌ، وجدت على بطن امرأتي خولة- وهي بنت عاصم- شريك بن سحماء، فقال هذا والله سؤالي، ما أسرع ما ابتليت به! فرجعا، فأخبر عاصمٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلم خولة، فقالت: لا أدري، ألغيرةٍ أدركته، أم بخلاً على الطعام! وكان شريكٌ نزيلهم، وقال هلال: لقد رأيته على بطنها. فنزلت، ولا عن بينهما. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قوله وقولها: أن لعنة الله عليه إن غضب الله عليها: "آمين"، وقال القوم: آمين، وقال لها: "إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به، فالرجم أهون عليك من غضب الله، إن غضبه هو النار". وقال: "تحينوا بها الولادة، فإن جاءت به أصهيب أثيبج يضرب إلى السواد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجه. وروى مسلمٌ وأبو داود، عن ابن مسعودٍ معنى أول هذا الحديث كما أورده، وليس فيه ذكر الأسامي. وأما قصة هلال بن أمية وشريك بن سحماء فقد رواها مسلمٌ والنسائي، وليس في أوله ذكر عاصم وغيره. وعلى الجملة، معنى هذا الحديث مرويٌ برواياتٍ شتى، وأحاديث متفرقة. ومن أراد تحقيقه فعليه بـ "جامع الأصول". قوله: (تحينوا بها)، الحين: الوقت، أي: اطلبوا وقتها. والأصيهب: هذا الذي يعلو لونه صهبةٌ، وهي الشقرة، وهي تصغير أصهب. والأثيبج: تصغير الأثبج، وهو الناتئ

فهو لشريك، وإن جاءت به أوراق جعداً جمالياً خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به". قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله لشريك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". وقرئ: (ولم تكن) بالتاء، لأن الشهداء جماعة، أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ (أربع) أن ينتصب، لأنه في حكم المصدر، والعامل فيه المصدر الذي هو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}، وهي مبتدأٌ محذوف الخبر، تقديره: فواجبٌ شهادة أحدهم أربع شهادات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثبج: أي: ما بين الكتفين والكاهل، وقد جاء رجلٌ أثبج عظيم الجوف. والأورق: الأسمر، والورقة: السمرة، الجمالي: الضخم الأعضاء التام الأوصال، يقال: ناقةٌ جماليةٌ: مشبهةٌ بالجمل عظمًا وبدانةً. وخدلج الساقين: العظيم الممتلئ الساق. كلها في "النهاية". وقال صاحب "الجامع": وإنما جاء بهذه الألفاظ مصغرةً لكونها صفةً للمولود. قوله: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، أي: لولا الإيمان الذي في اللعان، وفي رواية مسلم والنسائي، عن أنسٍ: "لولا ما سبق فيها من كتاب الله لكان لي ولها شأنٌ"، ورواية البخاري وأبي داود: "لولا ما مضى من كتاب الله". قوله: (وهي: مبتدأ)، أي: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}، والخبر المقدر: واجب، و (أربع شهادات): في حكم المصدر، والتقدير: فواجبٌ شهادة أحدهم أربع شهادات، والجملة خبر {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ}، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. قال صاحب "الكشف": من نصب فالتقدير: فالواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات، فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، ومن رفع فقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}، فقد أخبر بالمرفوع عن المبتدأ، فيتحقق إذن تعلق الباء من قوله: {بِاللَّهِ} بما يليه، وهو {شَهَادَاتٍ}، ولا يجوز حينئذٍ تعليقها بقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}، لأنه أخبر عن المبتدأ، ولا يجوز بعد الإخبار عنه أن يتعلق به شيءٌ، ومن نصب فالجار يتعلق بالثاني على مذهب سيبويه، وبالأول على مذهب الفراء.

وقرئ: (أن لعنة الله)، و: (أن غضب الله) على تخفيف (أن) ورفع ما بعدها. وقرئ: (أن غضب الله) على فعل الغضب. وقرئ بنصب الخامستين، على معنى: ويشهد الخامسة. فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظاً عليها، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها، ولذلك كانت مقدمةً في آية الجلد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقري: "أن لعنة الله")، قرأن نافعٌ: "أن لعنة الله"، و"أن غضب الله"، بتخفيف النون فيهما ورفع التاء وكسر الضاد، من: غضب، ورفع {اللهُ}. والباقون: بتشديد النون ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء. وقوله: (على فعل الغضب)، يريد أنه قرئ: "غضب"، على الفعل الماضي، ورفع {اللهُ}، لموافقة الرواية صورة خط الإمام، وأما "لعنة الله عليه" فإن كانت صورتها صورة الفعل، لكن لتكرر الضمير في "عليه"، وعدم مساعدتها الرواية ما قرئ بالفعل، وبهذا ظهر صحة قول الكواشي: السبعة: ما صح سنده، ووافق لفظه خط الإمام. وقوله: (وقرئ بنصب الخامستين)، حفصٌ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} بنصب التاء، والباقون: برفعها. قوله: (بخلابتها)، أي خداعها. كما قال "والمرأة هي المادة التي منها نشأت الخيانة، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له لم يطمع". النهاية: وفي الحديث "لا خلابة"، أي: لا خداع، وفيه: أن بيع المحفلات خلابةٌ، وفي أمثالهم: إذا لم تغلب فاخلب.

ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لخولة: "فالرجم أهون عليك من غضب الله". [{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} 10]. الفضل: التفضل. وجواب "لولا" متروك، وتركه دالٌ على أمرٍ عظيم لا يكتنه، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من منطوقٍ به. [{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 11]. الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويشهد لذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه لخولة)، يعني الذي يدل على أن التغليظ متوجهٌ إلى المرأة دون الرجل تخصيصه صلوات الله عليه بهذا القول إياها دون الرجل عند الملاعنة. قوله: (وجواب "لولا" متروكٌ، وتركه دالٌ على أمرٍ عظيم)، أي: لفضحكم، أو: لعاجلكم بالعقوبة، أو: لترككم حيارى في أمر الزواني حتى لا تعلموا كيف الخلاص، كما تحير عاصمٌ، وقال: اللهم افتح، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} عطفٌ على {فَضْلُ اللَّهِ}. هذه الآية كالتذييل لما سبق، بمعنى: من فضله ورحمته أنه بين لكم حكم اللعان، ومن كونه توابًا إذا حصلت التوبة قبل الرفع إلى الإمام، يتوب عليكم، ويستره عليكم، ومن حكمته أنه يلعن القاذف الكاذب، ويغضب على الزواني بأن يأمر بالرجم والجلد في المحصن وغيره، لأنه يعلم عاقبة الأمور كلها، ويضع كل شيءٍ في موضعه. قوله: (هو البهتان)، البهت: الأخذ بالفجاءة، بهته بهتاً وبهتانًا، إذا قال عليه ما لم يفعل. والبهيتة: بمعنى الافتراء، ومنه قول المفترى عليه: يا للبهتية بالكسر، على حذف المدعو.

يفجأك. وأصله: الأفك، وهو القلب، لأنه قولٌ مأفوك عن وجهه. والمراد: ما أفك به على عائشة رضي الله عنها. والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة. واعصوا صبوا: اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقرئ: {كِبْرَهُ} بالضم والكسر، وهو عظمة. والذي تولاه: عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلاً إلى الغميزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأفك، وهو القلب)، النهاية: يقال: أفكه يأفكه إفكًا: إذا صرفه عن الشيء فقلبه. ومنه: ائتفكت البلدة بأهلها، أي: انقلبت، فهي مؤتفكة. قوله: (وقرئ: {كِبْرَهُ} بالضم والكسر)، قال ابن جني: "كبره" بالضم قراءة أبي رجاءٍ وحميدٍ ويعقوب وغيرهم، أي: عظمه، ومن كسره أراد: وزره وإثمه. وقال الزجاج: فمن قرأ {كِبْرَهُ} بالكسر فمعناه: من تولى الإثم في ذلك، ومن قرأ "كبره" بالضم أراد: معظمه. قوله: (لإمعانه)، الجوهري: أمعن الفرس: تباعد في عدوه، وأمعن فلانٌ بحقي: ذهب به. وأمعنت الأرض: رويت. قوله: (وانتهازه الفرص)، والفرصة في الأصل: نوبة الماء، تفارص القوم: تناوبوا في السقي، ثم عمت حتى استعملت في كل نوبة. قوله: (إلى الغميزة)، أي: الطعن. الجوهري: ليس في فلان غميزةٌ، أي: مطعن. الراغب: أصل الغمزة: الإشارة بالجفن أو اليد طلبًا إلى ما فيه معابٌ، ومنه قيل: ما في فلانٍ غميزةٌ، أي: نقيصةٌ يشار بها إليها، وجمعها غمائز. قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المصطفين: 30]، وأصله من: غمزت الكبش، إذا لمسته هل به طرقٌ، نحو: غبطته.

أي: يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه، والعذاب العظيم لبعد الله، لأن معظم الشر كان منه. يحكي: أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأٍ من قومه، فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة، فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجلٍ حتى أصبحت ثم جاء يقودها! . والخطاب في قوله: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصةً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحكى: أن صفوان مر بهودجها عليه)، وكان في حديثه على ما روته عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في غزاةٍ غزاها وأنا معه أحمل في هودجي، فلما رجعنا ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه، وكنت جاريةً حديثة السن، خفيفة اللحم، وساروا، فوجدت عقدي، وجئت منازلهم وليس بها منهم داع، فتيممت منزلي، فغلبت عيناي فنمت، وكان صفوان بن معطل السلمي قد عرس من وراء الجيش الذي كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأدلج وأصبح عند المنزل، فرأى سواد إنسانٍ فرآني فعرفني، وكان رآني فعرفني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت بجلبابي، والله ما كلمني بكلمةٍ سوى الاسترجاع، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقودني حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول. هذا مختصرٌ من حديث الإفك على ما رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي. قوله: (وخاصة)، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعائشة وصفوان في هذا الخطاب دخولًا أوليًا، غذ خوطب بذلك من ساءه وخصوا بذلك خاصةً، أي: خصوصاً، وخاصةً: مصدرٌ، كالخالية والعافية والخالصة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل. ومعنى كونه خيراً لهم: أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنةً ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة أيةً كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيمٌ لشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتسليةٌ له، وتنزيهٌ لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهيرٌ لأهل البيت، وتهويلٌ لمن تكلم في ذلك، أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطافٍ للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكامٌ وآدابٌ لا تخفى على متأملها. [{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 12]. {بِأَنْفُسِهِمْ} أي: بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، وذلك نحو ما يروى: أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوءًا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعائشة خيرٌ مني، وصفوان خيرٌ منك. فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: بالذين منهم)، "من" في {مِنْهُمْ}: اتصاليةٌ، كقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]. قوله: (هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم؟ ) يعني: أصل الكلام هذا، لأن المخاطبين من بحضرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقلت: الأصل أيضًا: وظننتم بها، أي: بأم المؤمنين رضي الله عنها خيرًا، فلم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن المضمر إلى المظهر، ومن المفرد إلى الجماعة؟ وخلاصة الجواب: أن في العدول من الخطاب إلى الغيبة توبيخ المخاطبين ومعاتبةً شديدةً وإبعادًا من مقام الزلفى، أي: كيف سمعوا ما لا ينبغي الإصغاء إليه، فضلًا عن أن يتفوهوا به؟ وفي العدول من المضمر إلى المظهر: الدلالة على أن صفة الإيمان جامعةٌ لهم، فينبغي لمن اشترك فيها أن لا يسمع فيمن شاركه فيها قول عائب، ولا طعن طاعن، لأن عيب أخيه عيبه، والطعن فيه طعنٌ فيه.

ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبلغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالةً على أن الاشتراك فيه مقتضٍ أن لا يصدق مؤمنٌ على أخيه ولا مؤمنةٌ على أختها قول غائبٍ ولا طاعن. وفيه تنبيهٌ على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه، أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير: {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات! [{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 13] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "كونوا إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره". وعن البخاري وأحمد ابن حنبل، عن أبي موسى، قال: "المؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا". ولهذا فسر قوله: {بِأَنْفُسِهِمْ}: بالمؤمنين والمؤمنات، وفي العدول من المفرد إلى الجماعة وسلوك طريق الكناية الإشعار بتعظيم شأنها، ورفعة منزلتها. وفيه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين، وأزواجه أمهاتهم، واستعظامه يرجع إلى استعظامهم، والقالة فيه كالقالة في أنفسهم، ثم في انضمام لفظ الظن معه إدماجٌ وتنبيهٌ على أنه إذا سمع المؤمن في أخيه المؤمن ما يشينه يتبادر إلى بناء الأمر على الظن الراجح بأن الأصل براءة ساحة المؤمن عن كل شنارٍ وعيب، ولا يبني على الشك فيه. هذا ما يختص بالباطن. وأما بالظاهر، فيصرح بالقول الدال على الشهادة له بالخير، وتنزيهه عن كل سوء، ولا يتلعثم في الكلام، ويقول بملء فيه: هذا إفكٌ مبين، ومن ثم قال: "هذا من الأدب الحسن".

جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينةٌ على قولهم، فقامت عليهم الحجة، وكانوا {عِنْدَ اللَّهِ} - أي: في حكمه وشريعته- كاذبين. وهذا توبيخٌ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاجٌ عليهم بما هو ظاهرٌ مكشوف في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: في حكمه وشريعته كاذبين)، قال: "في حكمه وشريعته"، دون "علمه"، ليؤذن بأنه تعالى إذا أحاط بوقوع الزنى علمًا، ولم يأت القاذف بالشهداء يحكم بمقتضى الشهود، دون العلم، ولهذا قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث شريك بن سحماء بعد ما رأى الولد مشابهًا للزاني: "لولا كتاب الله عز وجل لكان لي ولها شأن". فإن قلت: إنما اختلف الناس في أن الخبر الكاذب هل هو: ما لا يطابق الواقع، أو هو: ما لا يطابق اعتقاد المخبر، وهو أمرٌ ثالث؟ قلت: مطابقة الواقع على هذا إما مطابقة نفس الأمر، أو مطابقة حكم الشارع، لأن الشارع يقطع الحكم على الظاهر كما ورد: نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. قوله: (وهذا توبيخٌ وتعنيفٌ للذين سمعوا الإفك)، "لولا" هاهنا فيها معنى التعنيف، لكون مدخولها ماضيًا، أي: لم ما وجد إتيان الشهداء، وهلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم بالشهداء؟ يعني لم وقع التقصير منكم أيها السامعون في طلب البينة في الحال، وحين لم يقيموها: لم ما أسرعتم في تكذيبهم وتنكيلهم في الحال، وتركتم الشنعاء حتى فشت؟ وقوله: (وهذا توبيخٌ وتعنيفٌ للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه)، وذلك أن معنى {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}: لم توقفتم في الرد على الرامين وتكذيبهم، فهلا جاءوكم حين قذفوا بالبينة وحققوا قولهم بإقامة الشهداء الذين يثبت بهم أمثال هذه الدعاوى؟ فإذ

الشرع، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبيبة حبيب الله؟ ! [{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} 14 - 15]. {لَوْلاَ} الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى: ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض. {إِذْ} ظرفٌ لـ "مسكم"، أو لـ {أَفَضْتُمْ}. {تَلَقَّوْنَهُ}: يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه، ومنه قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يأتوا بهم، قامت عليهم الحجة، فلم توقفتم في تكذيبهم وأبطأتم في القول بأن هذا إفكٌ مبين؟ وكذلك معنى قوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ}، لأن في تقديم الظرف على عامله توبيخًا على التواني في الرد، يعني: كان الواجب عليكم عند سماعكم بالإفك ثم حينئذٍ أن لا تتوقفوا عن ظن الخير، وعن تكذيب الرامين، والقول بأن هذا إفكٌ مبين، فلم توانيتم فيه؟ قوله: (من عرض نساء المؤمنين)، يقال: فلانٌ من عرض العشيرة، أي: شقها، لا من صميمها، وأصل العرض: الجانب. الأساس: واستعرض الخوارج الناس: إذا خرجوا لا يبالون من قتلوا. قوله: ({لَوْلَا} الأولى للتحضيض)، يعني في قوله: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، و {لَوْلَا جَاءُوا}، وإنما جعلهما واحدًا وهما شيئان، لأن مفهومها واحدٌ، ولأن الآية الثاني المصدرة بـ "لولا" كالتقرير للأولى، يدل عليه قوله في جواب "هلا قيل: لولا إذ سمعتموه": "ليبالغ في التوبيخ".

وقرئ على الأصل: (تتلقونه)، و (إتلقونه) بإدغام الذال في التاء، و (تلقونه) من: لقيه، بمعنى: لقفه، و (تلقونه) من إلقائه بعضهم على بعض، و (تلقونه) و (تألقونه) من الولق والألق، وهو الكذب، و (تلقونه) محكية عن عائشة رضي الله عنها. وعن سفيان: سمعت أمي تقرأ: (إذ تثقفونه)، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله ابن مسعود. فإن قلت: ما معنى قوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ}، والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه: أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ على الأصل: "تتلقونه")، قال ابن جني: قراءة عائشة وابن عباس وابن يعمر: "إذ تلقونه"، وقرأ ابن السميفع: "إذ تلقونه"، وقرأ الجماعة: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ}، وروى عن ابن عيينة أنه قال: سمعت أمي تقرأ: "إذ تثقفونه"، قال: وكان أبوها يقرأ كما يقرأ عبد الله. وقال: معنى "إذ تلقونه": تسرعون فيه وتخفون إليه، وأصله: تلقون فيه أو إليه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل. وأما "تلقونه" فمعناه: تلقونه من أفواهكم، وأما "تثقفونه" فمن: ثقفت الشيء: إذا طلبته وأدركته، أي: تتصيدون الكلام في ذلك من هنا ومن هنا. روى عن المصنف أنه قال: تألقونه، أصله من الولق، وهو السرعة، من قولهم: ناقةٌ ولقى أي: سريعةٌ، ومنه الأولق: للمجنون، لأن العقل من باب السكون والتماسك، والجنون من باب التسرع والتهافت. وروينا عن البخاري، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تقرأ: "إذ تلقونه بألسنتكم"، وتقول: الولق: الكذب، وقال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها، لأنه نزل فيها، وقال ابن الأنباري: هو من: ولق الحديث، أي: أنشأه. قوله: (وهذا الإفك ليس إلا قولًا يجري على ألسنتكم)، الانتصاف: أو يكون قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} توبيخًا، كقولك: أتقول ذلك بملء فيك؟ فإن القائل ربما رمز أو

به في القلب، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، أي: تحسبونه صغيرةً وهو عند الله كبيرةٌ موجبة. وعن بعضهم: أنه جزع عند الموت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرض، وربما تشدق جازمًا كالعالم، وقد قيل هذا في قوله: {بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118]. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: فائدة ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب، لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقول الشاعر: وإن أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ ... يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم وقال: وإن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا ولأن الذكر باللسان أشنع وأقبح من الذكر بالقلب، لأن الذكر باللسان لا يمكن بدون الذكر بالقلب، والذكر بالقلب يمكن بدونه، فيكون الإثم مضاعفًا. وقلت: النظم مع المصنف، لأنه تعالى يعد على المؤمنين ما جرى منهم في حديث الإفك من تهاونهم فيه، وتغميضهم في ذلك، الأمر العظيم، كما سبق في قوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}، {لَوْلَا جَاءُو}، فلما فرغ من ذكر الرامين حتى بلغ ذلك الأمر أنفسكم إذ كنتم تأخذون تلك العظيمة منهم، وتلقونه بألسنتكم من غير أن تحققوا هل يجوز ذلك أم لا؟ وحتى كنتم تقولونه أيضًا بأفواهكم من غير رؤيةٍ وفكر، وكنتم تحسبون أنه من قبيل الأراجيف والخرافات لا تبالون فيه وهو عند الله عظيم. قوله: (كبيرةٌ موجبة)، أي: للنار، وقيل: للخلود فيها، سواءٌ بين الشرك والكبيرة بناءً على مذهبه.

فقيل له، فقال: أخاف ذنباً لم يكن مني على بالٍ وهو عند الله عظيم. وفي كلام بعضهم: لا تقولن لشيء من سيئاتك: حقير، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام، وعلق مس العذاب العظيم بها، أحدها: تلقي الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر، فلم يبق بيتٌ ولا نادٍ إلا طار فيه. والثاني: التكلم بما لا علم لهم به. والثالث: استصغارهم لذلك، وهو عظيمةٌ من العظائم. [{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 16]. فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لَوْلَا} و {قُلْتُمْ}؟ قلت: للظروف شأنٌ، وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها، لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. فإن قلت: فأي في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلًا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: فما معنى {يَكُونُ}، والكلام بدونه متلئبٌ لو قيل: ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت: ما معناه معنى: ينبغي، ويصح، أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا، و: ما يصح لنا. ونحوه: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نقير)، نقير النواة: نقرتها، وفتيلها: الخيط الذي في النقرة، وقطميرها: الجلدة الرقيقة اللاصقة بها. قوله: (كيف جاز الفصل بين {لَوْلَا} و {قُلْتُمْ}؟ ، يعني: كان من حلق الظاهر أن يقال: لولا قلتم إذ سمعتموه، أي: هلا قلتم: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا إذ سمعتموه؟ قوله: (أن يتفادوا)، الجوهري: تفادى الرجل من كذا: إذا تحاماه وانزوى عنه. قوله: (متلئب)، أي: مستقيم. الجوهري: اتلأب الأمر اتلئبابًا: استقام.

[المائدة: 116]. و {سُبْحَانَكَ} للتعجب من عظم الأمر. فإن قلتك: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرةً. فإن قلت: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرةً كامرأة نوحٍ ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرةً؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم، فيجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم، ولم يكن الكفر عندهم مما ينفر، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. [{يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 17 - 18]. أي: كراهة {أَنْ تَعُودُوا}، أو: في أن تعودوا، من قولك وعظت فلاناً في كذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات)، المغرب: الكشخان بالشين المثلثة والخاء المعجمة: الديوث الذي لا غيرة له، وكشخه وكشخته: شتمته. وفي حاشية "الصحاح" بخط ابن الحبيب: قال الخليل: الكشخان ليس من كلام العرب، بل معربٌ، ويقال للشاتم: لا تكشخ فلانًا. الانتصاف: لم أعلم كلامًا أبرد من هذا، وكيف يخفى مثله على ذي لب. قوله: (أو: في أن تعودوا)، يعني: {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} يقتضي الزجر والمنع، كأنه قيل: يذكركم الله ويخوفكم في شأن العود إلى مثله. قال أبو البقاء: حذف حر الجر حملا على معنى يعظكم، أي: يزجركم عن العود،

فتركه. وأبدهم: ما داموا أحياءً مكلفين. و {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فيه تهييجٌ لهم ليتعظوا، وتذكيرٌ بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصاد عن كل مقبح. ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع، ويعلمكم من الآداب الجميلة، ويعظكم به من المواعظ الشافية، والله عالمٌ بكل شيء، فاعلٌ لما يفعله بدواعي الحكمة. [{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 19]. المعنى: يشيعون الفاحشة عن قصدٍ إلى الإشاعة، وإرادةٍ ومحبةٍ لها. وعذاب الدنيا: الحد، ولقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي وحساناً ومسطحاً، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربةً بالسيف، وكف بصره. وقيل: هو المراد بقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور: 11]. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما في القلوب من الأسرار والضمائر {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يعني: أنه قدم علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبه عليها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: عاده، وعاد له، وعاد إليه، وعاد فيه بمعنى. وعاد له في هذه الآية هو إعادة الحالة الأولى نحو: عاد إليه وفيه. وقد يكون العدو: ابتداء الشروع في الشيء، قال تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] أي: نشرع فيه ابتداءً. قوله: (وتذكيرٌ بما يوجب ترك العود)، يريد أن قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تتميمٌ لقوله تعالى: {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}، إما للزجر تهييجًا، وإما للتحريض على الاتعاظ تعليلًا، نحوه سيجيء في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي} في الممتحنة: [1]، وهو من الشرط الذي لا يضمر له الجزاء لتحققه. قوله: (وقيل: هو المراد بقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ}، يعني: التعريف في {الَّذِينَ

[{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 20] وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفاً جواب {لَوْلَا} كما حذفه ثمة. وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغةٌ عظيمة، وكذلك في التواب والرؤوف والرحيم. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 21] الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} للعهد، والمعهود قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ}، قال: "والذي تولاه عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يدل عليه قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}، وهو الذي مات منافقًا. قوله: (وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب) إلى قوله: (وكذلك في التواب والرؤوف والرحيم) يريد: أنه تعالى جعل هذا المعنى أولًا خاتمةً لأحكام الزاني والرامي والملاعن، ثم أتى به في حديث الإفك للإيذان بأنهما سيان في استيجاب سخط الله ونكاله ولعنه، وجعل الفاصلة هنالك {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10] وهاهنا {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تنبيهًا على أن هذا أعظم من ذلك، وأن هذا مما لا يرفع بالتوبة، لكن بمحض رحمته ورأفته، ولهذا كرر {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} في حديث الإفك مرارًا ثلاثًا، وكما جعل ذلك خاتمةً لتلك الآيات جعله مفتتحًا لهذه العظيمة. ويمكن أن يحمل قول ابن عباسٍ على هذا المعنى، وهو: من أذنب ذنبًا، ثم تاب منه قبل وتوبته، إلا من خاض في أم عائشة رضي الله تعالى عنها.

ضرائر حرميٍّ تفاحش غارها أي: أفرطت غيرتها. والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: (خطوات) بفتح الطاء وسكونها. و (زكى) بالتشديد، والضمير لله عز وجل. ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحدٌ آخر الدهر من دنس إثم الإفك، {وَلَكِنَّ اللَّهَ} يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو {سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بضمائرهم وإخلاصهم. [{وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 22] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ضرائر حرميٍّ تفاحش غارها)، أوله في "المطلع": لهن نشيجٌ بالنشيل كأنها يصف قدورًا وصوت غليانها باللحم. نشج نشيجًا: إذا بكى حتى يسمع لذلك صوتٌ، ونشج القدر: إذا على حتى يسمع لذلك صوت. ونشل اللحم من القدر: انتزاعه منها، والنشيل: لحمٌ يطبخ بلا توابل، والحرمي: المنسوب إلى الحرم، وهو من التغييرات في النسبة، كما يقال: بضريٌ وبصري. تفاحش غارها، أي: أفرطت غيرتها، وإنما خصت بها لأن أهل الحرم دأبهم الرحيل والتجارات، فإذا قدموا بالتحف والطرف يتخاصمن عليها ويتغايرن. قوله: (والمنكر: ما تنكره النفوس)، أي: النفوس الشريفة القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، وإلا فالنفس الأمارة بالسوء مائلةٌ إلى الشهوات، وإلى ما يدعوه الشيطان من اللذات. قوله: (الممحصة)، الجوهري: محصت الذهب بالنار: إذا خلصته مما يشوبه.

وهو من: ائتلى، إذا حلف، افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدخر منه شيئاً. ويشهد للأول قراءة الحسن: (ولا يتأل). والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا على المستحقين للإحسان. أو: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجنايةٍ اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم. نزلت في شأن مسطح، وكان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان فقيراً من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكرٍ ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط آلي أن لا ينفق عليه. وكفي به داعياً إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسيء. ويروى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأها على أبي بكر، فال: بلى أحب أن يغفر الله لي. ورجع إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها أبداً. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: (أن تؤتوا) بالتاء على الالتفات، ويعضده قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}. [{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 23]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نزلت في شأن مسطح)، حديث الإفك أورده بتمامه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: قال أبو بكرٍ رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثه لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الحديث. قوله: (وكان ابن خالة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وكان فقيرًا من فقراء المهاجرين)، أراد أن الواو العاطفة بين الصفات، يعني في قوله: {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} الواردة في شأن مسطح، للدلالة على أن هذا الموصوف جامعٌ لها، قال القاضي: يجوز أن تكون الصفات لموصفاتٍ أقيمت مقام الصفات، فيكون أبلغ في تعليل المقصود.

{الْغَافِلَاتِ}: السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور، ولم يرزن الأحوال، فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال: وقد لهوت بطفلةٍ ميالةٍ ... بلهاء تطلعني على أسراها وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام: "أكثر أهل الجنة البله". [{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 24 - 25]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولٌه: (ولقد لهوت بطفلة) البيت، لهوت: لعبت. والطفلة بفتح الطاء: جاريةٌ ناعمة ميالة، ويقال: غصنٌ ميال. البلهاء: التي لا مكر فيها ولا دهاء. قوله: (أكثر أهل الجنة البله)، النهاية: هو جمع الأبلة، وهو الغافل عن الشر، المطبوع على الخير، وقيل: هم الذي غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس، لأنهم أغفلوا أمر دنياهم، فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا نفوسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. وأما الأبله الذي لا عقل له فغير مرادٍ في الحديث. وقلت: لأن المقام مقام مدح، فينبغي أن يأول بما ينبئ عن المدح، وكذلك الغافلات، ولذلك أطنب المصنف فيها. ومنه: ما روينا عن أبي داود والترمذي، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن غرٌ كريم، والفاجر خبٌ لئيم".

وقرئ: (يشهد) بالياء. و {الْحَقَّ} بالنصب: صفةٌ للدين، وهو الجزاء، وبالرفع، صفةٌ لله. ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيءٍ في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرقٍ مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحدٍ منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}، فأوجز في ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يشهد" بالياء)، التحتاني: حمزة والكسائي، والباقون بالتاء. قوله: (ولو فليت القرآن)، الجوهري: فليت الشعر، إذا تدبرته واستخرجت معانيه وغريبه، عن ابن السكيت. قوله: (فأوجز في ذلك)، أي: في المذكور من معنى قوله: "جعل الله القذفة معلونين إلى آخره". قوله: (فأوجز)، عطفٌ على "جعل" على طريقة {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 53]، يعني: أشبع الكلام حيث لم يترك من النكال والإهانة واللعن في الدارين والعذاب الأليم، وشهادة الجوارح، والتهديد والوعيد بتوفية الجزاء إلا أتى به، وبالغ فيه وأوجز، حيث جاء بالمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، لأن من أراد أن يقرر المعاني التي تعطيها هذه الألفاظ، ويستوفي حقها من البيان، أطال وأطنب، وفصل وأجمل، حيث

وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظا عة، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. وهذه منه مبالغةٌ لأمر الإفك. ولقد برأ الله تعالى أربعةً بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30]، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك! وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم، وخيرة الأولين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم قدمه، وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوقع {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} إجمالًا لما سبق، وأكد وكرر من حيث إن البدل، وهو قوله: {يَوْمَئِذٍ} بدل تكريرٍ للمبدل وتوكيدٌ له، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين إلا ما هو دونه في الفظاعة، وهو قوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}. ويجوز أن يراد وجاء بالمذكور. قوله: (وهذا منه مبالغةٌ وتعظيم)، يعني: أن قوله: توبة من خاض في أمر أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها غير مقبولة، من باب التغليظ والمبالغة، وعليه مفهوم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآيات، أي: أنها من باب التغليظ والمبالغة، نحو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ ... } [آل عمران: 97]، وإليه أشار بقوله: "لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها".

وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه. فإن قلت: إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل: {الْمُحْصَنَاتُ} [النور: 23]؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يخصص بأن من قذفهن فهذا الوعيد لا حقٌ به، وإذا أردن وعائشة كبراهن منزلةً وقربةً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت المرادة أولًا. والثاني: أنها أم المؤمنين، فجمعت إرادةً لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال: قدني من نصر الخبيبين قدي أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه، وكان أعداؤه يكنونه بخبيبٍ ابنه، وكان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في نفي التهمة عن حجابه)، "حجابه" أيضًا: كنايةٌ، تعظيمًا لجانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله دره، ما أحسن نظره وما أدق فكره، وما أشد حرصه في تعظيم جانب سيد البشر، وخيرة الأولين والآخرين. قوله: (وأن يخصصن)، عطفٌ على قوله: "أن يراد بالمحصنات" على البيان والتفسير، يعني: تخصيص العام بأزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - على معنى: من قذفهن فهذا الوعيد لا حقٌ به، دون سائر النساء، لشرفهن وعلو مرتبتهن. ولما جعل المخصص الشرف، وكانت عائشة كبراهن منزلةً، كانت المرادة أولًا. والحاصل: أن عائشة رضي الله عنها هي المرادة بالمحصنات لكن بمزيتين. قوله: (قدني من نصر الخبيبين قدي)، تمامه: ليس الإمام بالشحيح الملحد قدني: أي: حسبي. الملحد: أي: الذي ألحد في الحرام، أي: أقام الحرب فيه.

مضعوفاً، وكنيته المشهورة أبو بكر، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة. فإن قلت: ما معنى قوله: {هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}؟ قلت: معناه: ذو الحق البين، أي: العادل الظاهر العادل، الذي لا ظلم في حكمه. والمحق الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء، ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه. [{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 26]. أي: {الْخَبِيثَاتُ} من xxxx، تقال أو تعد {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال والنساء، {وَالْخَبِيثُونَ} منهم يتعرضون {لِلْخَبِيثَاتِ} من القول. وكذلك الطيبات والطيبون و {أُولَئِكَ} إشارةٌ على الطيبين، وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكد. وهو كلامٌ جارٍ مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قولٍ لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مضعوفًا)، الجوهري: الضعف خلاف القوة، وأضعفت الشيء فهو مضعوف على غير قياس، وقيل: مضعوفًا: مصحوبًا بالضعف ومضروبًا به كما يقال: رجلٌ مركوبٌ أي مضروبٌ بالركبة. قوله: (أي: العادل الظاهر xxxx)، قال القاضي: أي: الثابت بذاته، الظاهر ألوهيته، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر في الثواب والعقاب سواه. والمصنف قيد المطلق الذي: {الْحَقُّ} بالعدل، لاقتضاء مقام الجزاء إياه، بقرينة قوله تعالى: {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}، وجعل {الْمُبِينُ} وصفًا مؤكدًا لقوله: {الْحَقَّ}، فقال: "الظاهر العدل"، وجنح إلى مذهبه، والقاضي بنى الكلام على القهارية، وأنه فاعلٌ لما يشاء، لا راد لحكمه، فتركه على الإطلاق.

ويجوز أن يكون {أُولَئِكَ}، إشارةً إلى أهل البيت، وأنهم مبرؤون مما يقول أهل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون {أُولَئِكَ} إشارةً إلى أهل البيت)، عطفٌ على قوله: "أولئك: إشارةٌ إلى الطيبين"، وما ينبئ عن إرادة أهل البيت قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، والآية- على الأول- عامةٌ تذييل للكلام السابق، والمراد بالطيبين: كل من لم يلوث جيبه بدنس الآثام، وبالخبيثين: xxxx، وبالطيبات والخبيثات: المقالات الموصوفة بها. ولما كان الكلام مسوقًا xxxx ساحة أم المؤمنين دخلت فيها دخولًا أوليًا، ومن ثم قال: "وهو كلامٌ جارٍ مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها" وجعل قوله: "جارٍ مجرى المثل" وروده مورد المثل في كونه يستحق أن يضار به، ويضرب في كل ما يصلح هذا المعنى فيه، لأن المثل قول سائر، ممثلٌ مضربه بمورده، هكذا ينبغي أن يتصور معنى المثل هنا، لا كما توهم. وأورد على المصنف أن لفظ المثل هاهنا ليس بجيد، ولفظ المورد: أن المثل في هذا الكلام مقحمٌ منحى مؤهمٌ، وحقه أن ينفي ولا يكتب. وأجيب: بأن المورد غفل عن قول علماء المعاني: مثلك لا يبخل، بمعنى: أنت لا تبخل، وليس مثلٌ، وعن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] بل الحق أن لفظ المثل ليس بزائد، والمراد به ما ذكرناه: المثل لعائشة رضي الله تعالى عنها. فإن قلت: "الخبيثات" و"الطيبات" صفاتٌ لموصوفات، أما المقالات أو الذوات، فلم خصتا في الوجه الأول بالمقالات وفي الثاني بالنساء؟ قلت: إن {أُولَئِكَ} لما كان إشارةً إلى أهل البيت وفيهم الرجال والنساء، أوجب حملها على الذوات، وقد علم مما سبق من الآيات أن التبري مم هو. وأما {أُولَئِكَ} على الوجه الأول لما كان مشارًا إلى الطيبين مطلقًا وقد حمل على أولئك قوله: {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}، أوجب حمل "الخبيثات" و" الطيبات" على المقالات، ليعلم أن قوله: {مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ} أي شيءٍ هو، إذ الآية حينئذٍ مستقلةٌ في الدلالة. الانتصاف: وعلى الوجه الثاني يكون تفصيلًا لما أجمل في قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا

الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أي: الخبائث يتزوجن الخباث، والخباث الخبائث. وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إِلَّا زَانٍ} [النور: 3]، فصرحت الآية بالأقسام الأربعة وزيادة، وهي شهادتها على أن عائشة زوجة أطيب الطيبين، فلا تكون إلا طاهرةً طيبة. ويقوي الثاني أيضًا وعدهم بالمغفرة والرزق الكريم، وهو الموعود به في قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]. قوله: (وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله)، أي: في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]، يعني: كما أريد بالرزق الكريم هنالك البشارة بالجنة، لقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} بدليل قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، كذلك ينبغي أن يكون هاهنا، لأن الآيتين مثلان، وكما أن الرزق الكريم هناك مسبوقٌ بآيتنا أجرها مرتين، كذلك هاهنا مسبوقٌ بقوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}، وكما أن آتينا الأجر هناك مسببٌ عن قنوتهن، كذلك هنا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} مسبب عن كونها مبرأة عما قيل فيها، وليس ذلك إلا لقنوتها وطهارتها، وكما أن تلك الآية في شأن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك هذه في شان حبيبته وصفيته، فالكلام مبنيٌ على حمل المطلق على المقيد. وجدت بخط مولاي وشيخي الإمام المغفور [له] بهاء الدين تغمده الله بغفرانه: أن ابن عباس دخل على عائشة رضي الله عنهما، في مرضها الذي ماتت فيه، فبكت، وقالت: أخاف ما أقدم عليه، فقال ابن عباسٍ: لا تخافي فو الذي أنزل الكتاب على محمدٍ صلوات الله عليه وسلامه، لا تقدمين إلا على مغفرةٍ ورزقٍ كريم. فقالت: رحمك الله، أهذا شيءٌ أنبأك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بل هو شيءٌ نبأنيه كتاب الله عز وجل، قالت: فاتل علي، فتلا: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} إلى قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، فخرج من عندها،

وعن عائشة رضي الله عنها: لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقته، ولقد نزل عذري من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصيح عليها، فقال: وما لها؟ قالوا: غشي عليها فرحًا بما تلوت. ويؤيده ما روينا عن ابن أبي ملكية، قال: استأذن ابن عباسٍ على عائشة رضي الله تعالى عنها قبيل موتها وهي مغلوبةٌ، قالت: أخشى أن يثنى علي، فقيل: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن وجوه المسلمين، قالت: إيذانوا له، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخيرٍ إن اتقيت، قال: فأنت بخيرٍ إن شاء الله تعالى، زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكح بكرًا غيرك، ونزل عذرك من السماء. أخرجه البخاري. قوله: (لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي)، روينا في "صحيح البخاري" عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنهم، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أريتم في المنام مرتين، إذ رجلٌ يحملك في سرقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك فاكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه". وفي روايةٍ أخرى: "رأيت الملك يحملك". النهاية: "سرقة من حرير": قطعةٍ من جيد الحرير. قوله: (ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة: "فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري"، وفي أخرى" (ودفن في بيتي". قوله: (لينزل عليه وأنا معه في لحافه)، عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة: أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كلمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "لا تؤذيني في عائشة، فإن

السماء، ولقد خلقت طيبةً عند طيب، ولقد وعدت مغفرةً ورزقاً كريماً. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 27]. {تَسْتَانِسُوا} فيه وجهان أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم، كقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، وهذا من باب الكناية والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن. والثاني: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من آنس الشيء، إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوحي لم يأتني، وأنا في ثوب امرأةٍ إلا عائشة". قوله: (ولقد خلقت طيبةً عند طيب)، "خلقت" بالقاف، أي: طيبها الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الطيب، أو مات إلى قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} ويروي بالفاء بتشديد اللام، أي: تركت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في الحجرة طيبةً. قوله: (ولقد وعدت مغفرةً ورزقًا كريمًا)، ليس هذا من التسعة، بل هي الكرامة الموعود بها لها رضي الله تعالى عنها، وقولها: "ولقد أعطيت تسعًا" هي الكرامة المعجلة في الدنيا.

الحال: هل يراد دخولكم أم لا. ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً. و: استأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة: . .... على مستأنسٍ وحد ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب الأنصاري قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: "يتكلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على مستأنسٍ وحد). تمامه في "المطلع": كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنسٍ وحد قال الأصمعي: زال النهار، أي انتصف، وبنا، بمعنى: علينا، الجليل: شجرٌ له خوصٌ مثل خوص النخل، وذا الجليل: موضعٌ فيه ذلك الشجر، والمستأنس: الذي يرفع رأسه هل يرى شبحًا أو شخصًا. حد: منفرد، يقال: وحدٌ ووحدٌ مثل فردٌ وفرد. وقيل: المستأنس: الذي يخاف الأنيس، شبه جمله بحمار وحش مر سريعًا خائفًا مما رآه. الانتصاف: ويجوز على بعدٍ، يكون معنى الآية: حتى تعلموا أن فيها إنسانًا، استفعل من الأنس، والأول أظهر، وعدل على المجاز تأديبًا للمخاطبين ببيان ثمرة الاستئذان من ميل النفوس، والتنفير عن xxxx بتقدير عدم الاستئذان. قوله: (وعن أبي أيوب الأنصاري) الحديث رواه ابن ماجه عنه. وأما حديث أبي موسى فرواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي سعيدٍ. هذا الذي ذكره المصنف مختصرٌ منه، ومفهوم الحديث يمكن أن ينزل في الوجوه كلها على البدل. قوله: (ما الاستئناس)، أي ما المسنون في باب الاستئناس شرعًا، لقول جبريل عليه

الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة، يتنحنح، يؤذن أهل البيت". والتسليم: أن يقول: السلام عليكم، أَأَدخل؟ ثلاث مرات، فإن أدن له وإلا رجع. وعن أبي موسى الأشعري: أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً ثم رجع، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الاستئذان ثلاثاً". واستأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أأَلج؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - يقال لها: روضة: "قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم، أأدخل"، فسمعها الرجل، فقالها، فقال: "ادخل". وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل، وكم من بابٍ من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة، قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك، بينا أنت في بيتك، إذ رعف عليك الباب بواحدٍ من غي استئذانٍ ولا تحيةٍ من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أين الأذن الواعية؟ ! وفي قراءة عبد الله: (حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا). وعن ابن عباسٍ وسعيد بن جبير: إنما هو (حتى تستأذنوا)، فأخطأ الكاتب. ولا يعول على هذه الرواية. وفي قراءة أبي: (حتى تستأذنوا). {ذَلِكُمْ} الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَكُمْ} من تحية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ أي: ما الذي يؤمن به؟ قوله: (رعف عليك الباب بواحد)، الأساس: يقال: رعف فلانٌ بين يدي القوم، واسترعف: تقدم، ومن المجاز: بينا نحن نذكرك رعف بك الباب. وما في الكتاب متضمنٌ بمعنى: سبق وغلب. أي: غلب الباب تقدمًا، يقال: رعف عليك، أي: سبق، مستعارٌ من رعاف الدم، ورواعف الخيل: سوابقها، ورواعف الدمع: بوادره.

الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن، واشتقاقه من الدمار، وهو الهلاك، كأن صاحبه دامر، لعظم ما ارتكب. وفي الحديث: "من سبقت عينه استئذانه فقد دمر". وروي: أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -. أأستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، قال: إنها ليس لها خادمٌ غير، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: "أتحب أن تراها عريانةً؟ " قال الرجل: لا. قال: "فاستأذن". {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: أنزل عليكم، أو: قيل لكم هذا، إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان. [{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 28]. يحتمل {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} من الآذنين {فَلَا تَدْخُلُوهَا} واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجةٌ فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها، وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنا شرع لئلا يوقف على الأحوال التي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من سبقت عينه استئذانه فقد دمر)، النهاية: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر"، وفي روايةٍ: "من سبق طرفه استئذانه فقد دمر عليهم"، أي: هجم ودخل بغير إذن، وهو الدمار: الهلاك لأنه هجومٌ بما يكره. والمعنى: أن إساءة المطلع مثل إساءة الدامر. قوله: (أأستأذن على أمي؟ )، الحديث، أخرجه مالكٌ عن عطاء بن يسار. قوله: (ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها)، هذا الوجه أخص من الأول من وجهين، أحدهما: قوله: "أحدًا من أهلها"، وثانيهما: "ولكم فيها حاجةٌ".

يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلابد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب. {فَارْجِعُوا} أي: لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين، لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة. وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهية، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها: من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله، ما قرعت باباً على عالمٍ قط. وكفى بقصة بني أسدٍ زاجرةً وما نزل فيها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. فإن قلت: هل يصح أن يكون xxxx: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت: بعد أن جزم النهي عن الدخول مع فقد الإذن وحده ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هل يصح أن يكون المعنى: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا ولا تدخلوا)، السؤال متوجهٌ على تفسيره قوله: {فَارْجِعُوا} بمعنى "لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب"، على أن الأمر بمعنى النهي لدلالة قوله: "وإذا نهي عن ذلك" ليطابق قوله: {لَا تَدْخُلُوا}. يعني: قد علم من ذلك التفسير أن الأمر محمولٌ على النهي، للمطابقة، فهل يصح إجراءه على ظاهره وأن يقال: وأمرتم بالرجوع فارجعوا، أي: فامتثلوا؟ وأجاب: أن نعم، لأن قوله: {فَارْجِعُوا} مذكورٌ بعد قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}، ولا يلتبس أن المراد بالرجوع النهي عن الدخول لاسيما قيام القرينة معه، وهو فقد الإذن، فيكون الأمر بالرجوع بعد النهي عن الدخول من باب قوله تعالى. {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85]. قوله: (فقد الإذن وحده)، قالوا: "وحده" منصوبٌ على الظرفية عند الكوفيين، وعلى المصدر عند البصريين. في كل حالٍ إذا قلت: رأيته وحده، فكأنك قلت: أو حدته برؤيتي

من أهل الدار حاضرين وغائبين، لم تبق شبهةٌ في كونه منهيًا عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن. فإن قلت: فإذا عرض أمرٌ في دار، من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت: ذلك مستثنًى بالدليل. أي: الرجوع أطيب لكم وأطهر، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة، أو: أنفع وأنمى خيراً. ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالمٌ بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه. [{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 29]. استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكونٍ يمنها، وذلك نحو: الفنادق- وهي الخانات- والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى: أن أبا بكرٍ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله تعالى قد أنزل عليك آيةً في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إيحادًا، فوضعت وحده مكانه، أي لم أر غيره. وقال أبو العباس: يحتمل أيضًا أن يكون الرجل منفرداً في نفسه، كأنك قلت رأيته منفردًا، ثم وضعت وحده موضعه. قوله: (فإذا عرض أمر) إلى أخره، جوابه محذوفٌ، أي: فما حكمه؟ قوله: (مستثنى بالدليل)، ولو: الضرورات تبيح المحظورات، وفي كلام الفقهاء: مواضع الضرورة مستثناةٌ من قواعد الشرع. قوله: (وأنمى خيرًا)، أنمى أرفع، لميت الشيء على الشيء. رفعته عليه، ونميت الحديث إلى فلانٍ: أسندته ورفعته xxxx

الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيدٌ للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة. [{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} 30]. {مِنْ} للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل. وجوز الأخفش أن تكون مزيدةً، وأباه سيبويه. فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفروج؟ قلت: دلالةً على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وأسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضان، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين! وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجوز الأخفش أن تكون مزيدةً، وأباه سيبويه)، لأن "مِنْ" عنده تزاد في النفي خاصةً لتأكيده وعمومه، ولذلك جاز: ما جاءني من أحد، وما من رجلٍ عندي، لإفادة تأكيد التعميم فيما تدخل عليه، ولم يجز: ما من زيدٍ قائمٌ، ولا: ما زيدٌ من قائم، لتعذر معنى العموم فيهما، وعن الأخفش: زيادته تأكيدٌ في الإيجاب، واستشهد بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4]، ووجهه: أنه جاء: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، فإن لم يحمل على الزيادة جاء التناقض، وليس بمستقيم، لكونه محتملًا أيضًا غير ما ذكر كما مضى في موضعه. قوله: (وكفاك فرقًا أن أبيح النظر)، يريد: أن الحكم يقع بالأصالة على المستثنى منه، ثم إذا أخرج منه شيءٌ يكون ذلك الأمر ضروريًا، لأنه على خلاف الأصل، فإذًا الأصل

ويجوز أن يراد: مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حفظ الفرج لئلا يشارك البهائم، ورفع اللوم عن لأمرٍ عارضي، وهو بقاء النسل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6]، ولا كذلك النظر، فإن العيون خلقت للنظر وندبت إليه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، والمنع منه للضرورة، والوقوع في الفتنة، ولذلك نزلت آية الحجاب بعد الإباحة. قوله: (ويجوز أن يراد: مع حفظها)، جوابٌ آخر عن السؤال، وفاعل "أن يراد" قوله: "حفظها على الإبداء" أي: يجوز أن يراد من الآية حفظ الفروج عن الإبداء، مع حفظها عن الإفضاء إلى الزنى، أي: كما يجب أن تحفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل، يجب أن تحفظ عن إبدائها للنظر إليها. كأنه قيل: قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم عن الإفضاء إلى ما لا يحل من الزنى، والإبداء إلى ما لا يحل من النظر إليها، وذلك من إيقاع الحفظ عليها مطلقًا، فدل على حفظها ما أمكن، والنظم يساعد هذا التأويل، لأن الكلام السابق حديثٌ في الاستئذان، وجل الغرض منه المحافظة على إبداء ما يفضي إلى ما لا يحل، وكذلك اللاحق، وهو قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} عطفٌ بالنهي عن إبداء مواقع الزين من الجسد على الأمر بإغضاء البصر تأكيدًا، ولما كان النهي عن إبداء الزين كنايةً عن إبداء مواقعها المفضي إلى ما لا يحل، كذلك كان النهي عن إبداء الفروج المؤدي إلى ما لا يحل كنايةً عن النهي عن الزنى. فإذًا النهي واردٌ على غض البصر عن الفروج لئلا يؤدي إلى ما لا يحل. وهو موافق لما قال الإمام: الظاهر العموم، وفي سائر ما حرم من الزنى والمس والنظر، على أنه لو أريد حظر النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الزنى، كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].

ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى، إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه {خَبِيرٌ} بأحوالهم، أفعالهم، وكيف يجيلون أبصارهم، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذرٍ في كل حركةٍ وسكون. [{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 31]. النساء مأموراتٌ- أيضًا- بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً، ولا تنظر من المرأة إلا مثل ذلك. وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: المراد غض البصر عن الأجنبية، والأجنبية يحل النظر إلى بعضها كما ذكر. وأما الفرج فلا طريق إلى الحل أصلاً بالنسبة إلى الأجنبية، فلا وجه لدخول "من" فيه. وقال القاضي: يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه، وقيد الغض بحرف التبعيض.

ومنه حديث ابن أم مكتوم، عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فدخل علينا، فقال: "احتجبا"، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ ". فإن قلت: لم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأن النظر يريد الزنى ورائد الفجور xxxx فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. الزينة: ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب: فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفي منها، كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط: فلا تبديه إلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه حديث ابن أم مكتوم)، الحديث، رواه الترمذي، وأبو داود مع تغيير يسيرٍ فيه. قوله: (عن أم سلمة)، بيان الحديث ابن أم مكتوم، لا أنه يروى عنها. قوله: (لأن النظر بريد الزنى ورائد الفجور)، أخذه من قول الخماسي. وكنت إذا أرسلت xxxx رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر قوله: (الفتخة)، الفتخة- بالتحريك-: حلقةٌ من فضةٍ لا فص فيها، فإذا كان فيها فصٌ فهو الخاتم، والدملوج: المعضد، وكذلك الدملج. والإكليل: شبه عصابةٍ مزينٌ بالجواهر، ويسمى التاج إكليلاً، والوشاح بنسج من أديم عريضاً، ويرضع بالجواهر، وتشده المرأة بين عاتقها وكشحيها.

لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر، لأن هذه الزين واقعةٌ على مواضع الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي: الذراع، والساق، والعضد، والعنق، والرأس، والصدر، والأذن، فنهي عن إبداء الزين نفسها، ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها، لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القرمل: ما تشده المرأة في شعرها. كلها من "الصحاح"، وقيل: الوشاح: قلادةٌ طويلةٌ تضع المرأة وسطها على عنقها ثم تخالف بين طرفيها على صدرها حتى تكون كهيئة لام ألف، ثم تديره على حقويها. قوله: (بدليل)، تعليلٌ، وهو قوله: "لملابستها"، أي: النظر إنما لا يحل إلى الزين، لملابستها تلك المواضع، يدل عليه جواز النظر إليها غير ملابسةٍ لها. وقوله: "كان النظر إلى المواضع"، جواب "إذا". وقوله: "لا مقال في حله"، خبر "أن"، والشرط والجزاء خبر "أن" الأولى، تقريره يشرع بأن هذه العبارة من باب الكناية، على نحو قول الشاعر: تبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها ... إذا ما بيوتٌ حلت وقولهم: فلانٌ طاهر الحبيب نقي الذيل. وقال صاحب "الفرائد": هو من باب إطلاق اسم الحال على المحل، فالمراد بالزينة: مواقعها، فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص، لا بدلالتها كما ذهب إليه، وعبارة النص أقوى من دلالته. اعلم أن عبارة النص كما حددها البزدوي: هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له، ودلالة النص: هو ما ثبت بمعنى النص لغةً لا اجتهاداً واستنباطاً، كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 22]، لأنها معلومٌ بظاهرها وبمعناها، فلا يحتاج إلى إخراج معناه بالاجتهاد.

إليها غير ملابسةٍ لها لا مقال ف يحله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهداً على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها، ويتقين الله في الكشف عنها. فإن قلت: ما تقول في القراميل، هل يحل نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم. فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها؟ وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذي ما تحت السرة! قلت: الأمر كما قلت ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلا فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلًا عن هؤلاء، إلا إذا كانت يصف لرقته، فلا يحل النظر إليه، فلا يحل النظر إلى القراميل واقعةً عليه. فإن قلت: ما المراد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومال صاحب "الفرائد" إلى المجاز دون الكناية، وإلى أن اللفظ كلما كان أسهل متناولاً كان أقوى دلالةً، كما عليه الأصوليون، وذهب عنه إلى أن مال نفي الحال لإرادة نفي المحل إلى الكناية، وإثبات المقصود بطريق البرهان، ألا ترى كيف بالغ في قوله: "كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة". وأيضاً، إن الكناية لا تنافي الحقيقة، فيجوز أن يراد النهي عن إبداء ما يتزين به نفسه أيضاً محترزاً عن كسر قلوب الفقراء، بخلاف المجاز، ولهذا قال صاحب "الانتصاف": قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} يحقق أن إبداء الزينة مقصودٌ بالنهي. وأيضاً، لو أريد المحل دون الحال كما عليه إرادة المجاز للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهر، وهذا باطلٌ، لأن كل بدن الحرة عورةٌ لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة، كالمعالجة وتحمل الشهادة، وإن كان هذا المعنى لا يساعد عليه قوله: "لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ ". قوله: (ورد الشعر)، عن بعضهم ورد الشعر: طال، يقال: فلانٌ وارد الأرنبة: إذا كان فيها طول. الأرنبة: طرف الأنف.

بموقع الزينة؟ ذلك العضو كله. أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربه، والغمرة في حديه، والكف والقدم موقعاً الخاتم و xxxx والخضاب بالحناء. فإن قلت لم xxxx مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن xxxx فيه حرج، فإن المرأة لا xxxx من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المتنبي في الطرقات، وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن، وهذا معنى قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، يعني: إلا ما رجت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما xxxx في الزينة الخفية أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطر، إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما فسرت مواقع xxxx)، الذراع، والساق xxxx. قوله: (الوجه)، وهو مبتدأ، و"موقع الكحل في عينيه" جملةٌ من مبتدأ وخبر للمبتدأ الأول، والضمير في "عينيه" عائدٌ على الوجه، و"الخضاب" بالكسر، على أن المضاف محذوفٌ تقديره: الوجه موقع الخضاب xxxx في حاجبه وشاربيه، والوجه من موقع الغمرة في خديه. قوله: (والغمرة)، بضم العين وسكون الميم: طلاءٌ من الورس، وقد غمرت المرأة وجهها تغميراً، أي: طلبت، وجهها ليصفو لونها في "الصحاح". قوله: (أولئك المذكورين). هو مرفوعٌ بقوله: "سومح"، و" الزينة الخفية": ظرفٌ لقوله: "سومح". قوله: (من الحاجة المضطرة)، قالوا: هو اسم فاعل، كقولهم: المغتاب- فض الله فمه- أكل لحم المغتاب، وبشرب دمه.

الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. كانت جيوبهن واسعةً تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفةٌ، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها. ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسميةً بما يليها ويلابسها. ومنها قولهم: ناصح الجيب، وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه. وعن عائشة: ما رأيت نساء خيرًا من نساء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ناصح الجيب)، xxxx: النصح لغة: الخلوص، يقال: نصحته ونصحت له وعرفاً: هي الكلمة المعبر بها عن جملة إرادة الخبر للمنصوح له، فقوله: "ناصح الجيب" كناية عن xxxx xxxx xxxx مما يكدره من الغل والغش والحقد ونحوها. ومعنى xxxx والبلقين معانقهن العريضات الصفقات على صدورهن ليسترن بذلك صدورهن وما حولها من الشعور والأعناق يدل عليه قول ابن عباسٍ: تغطي بذلك شعرها وترائبها، وصدورها وسوالفها، وهي أعلى العنق، وإنما أمرن به، لأن جيوبهن كانت متسعة، ودل على الشمول والإحاطة قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}، لأنه كقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61]. قوله: (وعن عائشة) الحديث، من رواية البخاري وأبي داود، عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} الآية، شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها. النهاية: xxxx من صول، وربما كان من خز أو غيره، والمرخل: الذي قد نقش فيه تصاوير الرجال.

الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدةٍ منهن إلى مرطها المرحل فصدعت منه صدعةً، فاختمرن، فأصبحن على رؤوسهن الغربان. وقرئ: (جيوبهن) بكسر الجيم لأجل الياء، وكذلك {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27]. قيل في {نِسَائِهِنَّ}: هن المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابة. عن ابن عباس: والظاهر أنه عني بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهن من الحرائر والإماء والنساء، كلهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: هم الذكور والإناث جميعاً. وعن عائشة: أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعن سعيد بن المسيب مثله، ثم رجع وقال: لا تغرنكم آية النور، فإن المراد بها الإماء. وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها، خصيًا كان أو فحلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "جيوبهن")، قرأ نافعٌ وعاصمٌ وأبو عمروٍ وهشام: {جُيُوبِهِنَّ} بضم الجيم، والباقون: بكسرها. قوله: (وكذلك "بيوتاً غير بيوتكم")، قال الزجاج: من ضم فعلى أصل الجمع، بيتٌ وبيوت، مثل قلبٍ وقلوب، ومن كسر فللياء التي بعدها، وذلك عند البصريين رديءٌ جداً، لأنه ليس في الكلام "فعولٌ" بكسر الفاء، والقراءة شاذة. قوله: (وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي)، ذكر محيي السنة في "المعالم": عبد المرأة محرمٌ لها، فيجوز له، إذا كان عفيفاً، النظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة، كالمحارم، وهو ظاهر القرآن. وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة رضي الله

وعن ميسون بنت بحدلٍ الكلابية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصي، فتقنعت منه، فقال: هو خصي. فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله؟ وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحدٍ من السلف إمساكهم. فإن قلت: روي: أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصيٌ فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديثٌ مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه، أو لسببٍ من الأسباب. الإربة: الحاجة. قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بلةٌ لا يعرفون شيئاً من أمرهن. أو شيوخٌ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى عنهما، وروى ثابتٌ عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوبٌ إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذ غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوك وغلامك". ورواه أبو داود في "سننه" قوله: (تعم به البلوى)، الجوهري: البلية والبلوى والبلاء واحد. الأساس: وقد بلى بكذا، وابتلى به، وأصابته بلوى، والعبارة كنايةٌ عن أمرٍ له خطر، لأن المراد إذا التبس به البلاء تحاماه الناس وهابوه فتتوفر الدواعي في الاهتمام به للاحتراز عنه، أي: لا يقبل في أمرٍ يهتم بشأنه إلا حديثٌ مشهور. قوله: (أو بهم عنانة)، الجوهري: رجلٌ عنين: لا يريد النساء، بين العنينية، وامرأةٌ عنينة: ٌ لا تشتهي الرجال. وهو فعيلٌ بمعنى مفعول، وعنن الرجل عن امرأته: إذا حكم القاضي عليه بذلك، والاسم منه العنة، ولم يذكر الجوهري عنانة. وفي حاشية "الصحاح"

وقرئ: {غَيرَ} بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجر على الوصفية. وضع الواحد موضع الجمع، لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بخط ابن حبيب: الصواب: العنين للذي لا ينتشر ذكره. وفي "المغرب": العنة على زعمهم: اسمٌ من العنين، وهو الذي لا يقدر على إتيان النساء من عن: إذا حبس في العنة، وهي حظيرة الإبل، أو من: عن: إذا عرض، لأنه يعن يميناً وشمالاً ولا يقصده، ولم أعثر عليها إلا في "الصحاح". وفي "البصائر" xxxx حيان التوحيدي: فلانٌ عنينٌ بين التعنين، ولا تقل: بين العنة، كما يقول الفقهاء، فإنه كمٌ مرذول. ووجدت بخط مولاي بهاء الدين: روي عن المصنف، أنه كتب في الحواشي: ذكر أبو حيان في كتاب"البصائر" عنينٌ بين التعنين والعنينة والعنينية، والعنانة والعنة كذبٌ على العرب، وأولادها بالاستعمال: العناد ولا يغرنك قول الفقهاء: بين العنة، فإنهم إنما يقولون ذلك لقة عنايتهم بلغة نبيهم. قوله: (وقرئ: {غَيرَ} بالنصب) أبو بكرٍ وابن عامر، والباقون: بالجر. قال الزجاج: أما {غَيرَ} فصفةٌ لـ {التَّابِعِينَ}، لأن {التَّابِعِينَ} هنا ليس بمقصود به إلى قوم بأعيانهم، xxxx لكل تابع غير أولي إربة. وأما نصبها فعلى الاستثناء، أي لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أولي الإربة فلا يبدين زينتهن لهم. وإما على الحال، أي أو التابعين غير مريدين النساء، أي: في هذه الحال. قوله: (وضع الواحد) أي: xxxx {أَوِ الطِّفْلِ}. قوله: (ويبين ما بعده)، أي: xxxx {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}.

ونحوه {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]. {لَمْ يَظْهَرُوا}: إما من ظهر على الشيء، إذا اطلع عليه، أي: لا يعرفون ما الغورة، ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان، إذا قوي عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أن لم يبلغوا أو أن القدرة على الوطء. وقرئ: (عورات) وهي لغة xxxx . فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأحوال؟ قلت: سئل الشعبي عن ذلك، فقال: لئلا يصفها xxxx عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن سائر القرابات بشترك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب xxxx وصفها لابنه وليس بمحرم. فيداني تصوره لها بالوصف نظره إليها. وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها، ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى، لتعلم أنها ذات طحالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحي، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. أوامر الله ونواهيه في كل بابٍ لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها إن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصيرٍ يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعاً xxxx والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "عورات")، في المطلع، "عوراتٌ" بالتحريك، لأنه الأصل في جمع "فعلة" بالسكون، إذا كان اسماً، والشكوك في الجمع لمكان حرف العلة. قوله: (أن سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية)، يعني: كل من له قرابةٌ كابنه وأبوه يشترك معه في القرابة كالأخ، فإنه لما كان محرماً، فابنه أيضاً محرمٌ، وأبوه كذلك، والأب، وابنه وأبوه إلا العم والخال، فإنهما لم يشتركا مع ابنيهما في المحرمية.

وعن ابن عباس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه وقرئ: (أيه المؤمنون) بضم الهاء، ووجهه: أنها كانت مفتوحةً، لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف، لالتقاء الساكنين، أتعبت حركتها حركة ما قبلها. [{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 32] الأيام واليتامى: أصلهما: أيائم ويتائم، فقلبا، والأيم: للرجل والمرأة، وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أيه المؤمنون")، قرأها ابن عامر، وفي الزخرف: "أيه الساحر"، وفي الرحمن: (أيه الثقلان) بضم الهاء في الوصل في الثلاثة، والباقون: بفتحها. ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن: "أيها" بالألف، ووقف الباقون بغير ألف. قال أبو علي: وهذا لا يتجه، لأن آخر الاسم الهاء هاهنا، لأنه آخر الكلمة، لجاز ضم الميم في اللهم، لأنه آخرها. والعذر ما ذكره المصنف: "أنها كانت مفتوحةً" إلى آخره، وعن بعضهم: أنها تكتب في ثلاثة مواضع من التنزيل بلا ألف.

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم- أتأيم وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم"، والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاٌ من غلمانكم وجواريكم. وقرئ: (من عبيدكم). وهذا الأمر للندب، لما علم من أن النكاح أمرٌ مندوب إليه، وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك، وعند أصحاب الظواهر: النكاح واجب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن تنكحي أنكح)، البيت. أفتى: أفعل من الفتى، أي: أقرب إلى الشباب، و"أتأيم": جزاء الشرط، "وإن كنت أفتى منكم": جملةٌ معترضةٌ. يقول: أوافقك في حالتي التزوج والتأيم، وإن كنت أفتى منك. قوله: (من العيمة والغيمة)، النهاية: العيمة بالعين المهملة: شدة شهوة اللبن، وقد عام يعام ويعيم عيماً. والغيمة بالغين المعجمة: شدة العطش. و"الكزم" بالزاي والتحريك: شدة الأكل، والمصدر ساكنٌ، وقيل: هو البخل، من قولهم: هو أكزم البنان، أي: قصيرها، كما يقال: جعد الكف، وقيل: هو أن يريد الرجل المعروف ولا يقدر على الشيء. والقرم: شدة شهوة اللحم حتى لا يصبر عنه. قوله: (وهذا الأمر للندب)، قال القاضي: لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسبة المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع، بعد الزجر عنه مبالغةً فيه، أمر بالنكاح الحافظ له، والخطاب للأولياء والسادة. وفيه دليلٌ على وجوب تزويج المولية والمملوك، وذلك عند طلبهما، وإشعارٌ بأن المرأة والعبد لا يستبدان به، إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى.

ومما يدل على كونه مندوباً إليه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح"، وعنه: "من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليسا منا"، وعنه: "إنا نوج أحدكم عج شيطانه: يا ويله، عصم ابن آدم مني ثلثي دينه"، وعنه: "يا عياض، لا تزوجن عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر والأحاديث فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآثار كثيرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يقرر بأن الأمر هاهنا للوجوب، فإنه تعالى لما نهى المؤمنين من الرجال والنساء عما يوقعهم في السفاح من إرسال النظر الذي هو رائد القلب، وأمرهم بغض الأبصار على المبالغة ولم xxxx من تفصيل ذلك إلا وأطنت فيه، أقبل على الأولياء والسادة بالأمر بالنكاح خوف xxxx والفساد، وأزال المانع وأزاح العلة، وهو خوف الفقر، يعني: إن كان المانع ذلك فالله واسع فهو يغنيهم من فضله إن شاء عليهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فانكحوا أنتم ولا xxxx ثم وجه الخطاب إلى الطالبين وأمرهم بالاستعفاف، يعني: لا تلحوا أنتم أيضاً على xxxx بالطلب وأنتم فقراء محاويج، بل اطلبوا من أنفسكم العفة، واحملوها على العفاف حتى xxxx الله من فضله، ثم حض إرشاد العبيد والإماء بما هو أصلح لأمورهما من الاستقلال بأنفسهما ثم التزوج بقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} الآية، وسيجيء عن قريبٍ من سلام لصاحب "الانتصاف" ما يشد بعضد هذا البيان، فنعم ما قال المصنف وما أحسن ما رتب هذه الأمور. قوله: (من أحب فطرتي)، أي xxxx عليه النهاية: في حديث حذيفة: "على غرير فطرة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - "، أراد دين الإسلام xxxx هو منسوبٌ إليه. قوله: (من كان له ما يتزوج فلم يتزوج فليس منا)، الانتصاف: هذا يدل على الوجوب، كقوله: "من غشنا فليس منا"، "ومن شهر السلاح فليس منا".

وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى على أمتي مئةٌ وثمانون سنةً فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال"، وفي الحديث: "يأتي على الناس زمانٌ لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة". فإن قلت: لم حص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين من الأرقاء لهم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأود في الأثرة والمودة، فكانوا مظنةً للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. أو أريد بالصلاح: القيام بحقوق النكاح. ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسيةٍ في هذا الموعد ونظائره، وهي مشيئته، ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الأثرة)، الأساس هو أثيري: الذي أوثره وأقدمه، وله عندي أثرة. قوله: (شريطة الله)، الأساس: شرط عليه كذا واشترط، وهذا شريطتي، وقد تشرط فلانٌ في عمله تنوق وتكلف شروطاً ما هي عليه. قوله: (ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسيةٍ في هذا الموعد)، يعني: في قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وفي نظائره نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3 - 4]، والآيتان وإن كانتا مطلقتين في الظاهر لكنهما مقيدتان بالشريطة، أي: بمشيئة الله تعالى عز وجل، فلذلك قد يتخلف الغنى عن التقوى، وعن النكاح في بعض الصور. والحاصل أن الآيتين وإن كانتا مطلقتين في الوعد، لكنهما محمولتان على المقيد، وهو: إما دليل العقل فكما ذكره: "ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة، وما كان مصلحةً"، وإما دليل النص فكقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، ومن نسى الشريطة، أي: القيد إذا سمع ظاهر الآيتين انتصب معترضاً إذا كان فقيراً وما استغنى، يقول: ما بالي اتقيت، أو تزوجت فما استغنيت، وإذا كان غنياً وافتقر يقول: ما بالي افتقرت؟ هذا تقرير كلام

ونحوه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقد جاءت الشريطة منصوصةً في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصنف، لكن الآية ليست بمطلقة، بل هي مقيدةٌ بقوله: {عَلِيمُ} كما قال: "ولكنه عليمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر". قال صاحب "الانتصاف": شرط المصلحة على قاعدته، فحجر واسعاً من رحمة الله تعالى، واحتجاجه عليه لا له، فإن الآية شرط فيها المشيئة لا المصلحة. وهاهنا نكتةٌ، وذلك أنا رأينا من يتزوج فلا يحصل له الغنى، ووعد الله تعالى صدقٌ فلابد من شرطٍ مضمر، فهم يضمرون المصلحة، ونحن نضمر المشيئة، فمن لم يغنه الله تعالى بعد تزوجه فهو ممن لم يشأ غناه. فإن قيل: فكذلك العزب، فإن غناهم معلقٌ بالمشيئة، وليس هذا كإضمار المشيئة في الغفران للعاصي، فإن الغفران شريطة التوحيد، وله ارتباطٌ بالمشيئة، فإذا تاب غير الموحد لا يغفر له حتماً، والموحد مقيدٌ بالمشيئة، وهاهنا لا يقال: غير الناكح لا يغنيه الله. فجوابه: أنه قد تكرر في الطباع المساكنة إلى الأسباب أن العيال سببٌ في الفقر، وعدمه سبب توفر المال، فأريد قطع هذا التوهم المتمكن بأن الله تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال التي هي في الوهم سببٌ لقلة المال، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة، والواقع يشهد له، فدل على أن ذلك الارتباط الوهمي باطلٌ، وأن الغنى والفقر بفعل الله مسبب الأسباب، ولا يقف إلا على المشيئة، فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتار لم يمنعه من الشروع فيه، ومعنى الآية حينئذٍ: أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله، فعبر عن النفي كونه مانعاً من الغنى بوجوده معه. ومنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] ظاهره أمرٌ بالانتشار عند انقضاء الصلاة، فالمراد تحقيق زوال المانع، وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار، فعبر عن نفي الانتشار بما يقتضي تقاضي الانتشار مبالغة.

مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزبٍ كان غنياً فأفقره النكاح، وبفاسقٍ تاب واتقى الله وكان له شيءٌ ففني وأصبح مسكيناً. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا الرزق بالنكاح". وشكا إليه رجلٌ الحاجة، فقال "عليك بالباءة"، وعن عمر رضي الله عنه: عجبٌ لمن لا يطلب الغنى بالباءة! ولقد كان عندنا رجلٌ رازح الحال، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته، فقال: كنت في أول أمري على ما علمت، وذلك قبل أن أرزق ولداً، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر، فلما ولد لي الثاني زدت خيراً، فلما تتاموا ثلاثة صب الله على الخير صباً، فأصبحت إلى ما ترى. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} أي: غنىٌ ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق، ولكنه {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رازح الحال)، الأساس: بعيرٌ رازحٌ: ألقى نفسه من الإعياء. وقيل: هو الشديد الهزال وبه حراكٌ، ومن المجاز: رزحت حاله، وله حالٌ رازحة. قوله: (بكر ولدي)، أي: أوله، ما هذا الأمر منك ببكرٍ ولا بثني، أي: لا بأولٍ ولا ثان. وحاجةٌ بكرٌ هو أول حاجةٍ رفعت. "تتاموا ثلاثةً" مبالغةٌ في التمام، رجلٌ تميمٌ، وامرأةٌ تامة الخلق: وثيقاه، واجتمعوا فتتاموا عشرةً، وجعلته لك تماً، أي: بتمامه، كل ذلك من "الأساس". قوله: (لا يرزؤه إغناء الخلائق)، الأساس: ما رزأته شيئاً مرزئةً ورزأً: ما نقصته، وفعل كذا من غير مرزئة، أي: غير نقصانٍ وضرر. قوله: (ولكنه {عَليِمُ} يبسط الرزق لمن يشاء)، هذا الاستدراك يؤذن بأن قوله: {عَليِمُ} تكميل لقوله: {وَاسِعُ}، كقوله: حليمٌ إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب

[{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 33]. {وَلْيَسْتَعْفِفِ}: وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعف طالبٌ من نفسه العفاف وحاملها عليه. {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال. {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} ترجيةً للمستعفين وتقدمة وعدٍ بالتفضل عليهم بالغنى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وظلف النفس)، الأساس: ظلف نفسه: كفها عما لا يحل. قال ربيعة بن مقروم: وظلفت نفسي من لئيم المأكل قوله: (كان المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه)، أي: جرد من نفسه شخصاً غيره، وطلب منه العفاف. قوله: (أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال)، ومعنى هذين الوجهين قريبٌ من معنى الوجهين في {طَوْلًا} في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]، في الشافعية فسرته بالزيادة في المال، والحنفية بعدم ملك فراش الحرة. يؤيد هذا الوجه قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، فالنكاح على هذا على زنة "فعال" للآلة: المطلع: هو مثل الهوام والحزام: اسمٌ لما يقام ويحزم به.

ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً اسم في استعفافهم، وربطاً على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فصله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء، وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولًا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} وقوعٌ على الابتداء، أو منصوبٌ بفعل مضمر يفسر، {فَكَاتِبُوهُمْ}. كقولك: زيداً xxxx، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة، وأن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليكون انتظار ذلك أن تأميله] لطفاً لهم في استعفافهم)، يعني في إيقاع الغنى غايةً للأمر بالاستعفاف فائدتا xxxx إحداهما: ليوطن المستعفف نفسه على الإمساك على الإمساك عن النكاح ولا يستعجل قبل xxxx لئلا يورط، فيما يفضحه من كثرة العيال وقلة المال، فتكون الترجية لطفاً له. وثانيهما أنه تعلل لما رتب الأمر بالاستعفاف على قوله: {يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} آذن أن فضله أولى الإعفاء، لأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعرٌ بالعلية، وكأنه قيل: استعفوا إلى أن يغنيكم الله من فضله، ففي كلامه لف xxxx، لأن قوله: استعفوا إلى أن يغنيكم الله من فضله، ففي كلامه لف xxxx، لأن قوله: "ليكون انتظار ذلك وتأميله" متعلل بقوله: "ترجيةً للمستعفين". وقوله: (وليظهر بذلك)، xxxx تقدمة وعدٍ بالفضل، قوله: (وعزفها عن الطموح) النهاية: وفي حديث حارثة "عزفت نفسي عن الدنيا"، أي: xxxx وكرهتها، ويروى: "عرفت نفسي" بضم التاء، أي: منعتها وصرفتها، وطمح بصره إليه، أي. امتد وعلا، ومنه طمحت عيناه إلى السماء.

ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو: كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت على العتق. ويجوز عند أبي حنيفة رحمه الله حالًا ومؤجلًا، ومنجماً وغير منجم، لأن الله عز وجل لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود. وعند الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا مؤجلاً منجماً، ولا يجوز عنده بنجمٍ واحد، لأن العبد لا يملك شيئاً، فعقده حالًا منعٌ من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً. ويجوز عقده على مالٍ قليل وكثير، وعلى خدمةٍ معلومة، وعلى عملٍ معلوم مؤقت، مثل: حفر بئرٍ في مكانٍ بعينه معلومة الطول والعرض، وبناء دارٍ قد أراه آجرها وجصها وما تبنى به. وإن كاتبه على قيمته: لم يجز. فإن أداها: عتق، وإن كاتبه على وصيف: جاز، لقلة الجهالة، ووجب الوسط. وليس له أن يطأ المكاتبة. وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له. وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر رضي الله عنه: هي عزمةٌ من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود)، قال القاضي: واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالة ضعيفٌ، لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها، كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. قوله: (على وصيف)، الجوهري: الوصيف: الخادم، غلاماً كان أو جاريةً. يقال: وصف الغلام: إذا بلغ الخدمة، فهو وصيف بين الوصافة. قوله: (وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء)، قال القاضي: لأن الكتابة معاوضةٌ تتضمن الإرفاق، فلا تجب كغيرها.

وهو مذهب داود. {خَيْرًا}: قدرةً على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانةً وتكسباً. وعن سلمان أن مملوكاً له ابتغى أن يكاتبه، فقال: أعندك مالٌ؟ قال: لا، قال: أفتأمرني أن آكل غسالة أيدي الناس! {وَآَتُوهُمْ} أمرٌ للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]، عند أبي حنيفة وأصحابه. فإن قلت: ل يحل لمولاه إذا كان غنياً أن يأخذ ما تصدق به عليه؟ قلت: نعم، وكذلك إذا لم تف الصدقة بجميع البدل وعجز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو مذهب داود)، هو داو بن علي الأصفهاني، وهو الذي يرجح الاستصحاب على القياس وهو من أصحاب الظواهر. قوله: {خَيْرًا}: قدرةً على أداء ما يفارقون عليه)، وفي الحاشية: صادرته، وفارقته على مال، أي: صدر هذا وتفارقا عليه. والأظهر أن التقدير على أداء ما تقع الفرقة عليه من مالٍ أو خدمةٍ عمل. الأساس: ومن المجاز: وقفته على مفارق الحديث، أي: على وجوهه الواضحة. قوله: (قلت: نعم، وكذلك إذا لم تفق الصدقة)، إلى آخره، قيل: عند الشافعي رضي الله عنه أنه إذا رق المكاتب، أو أعتق من غير جهة الكتابة، غرم المدفوع إليه، إلا أن يتلف المال قبل العتق، وإنما وجب الرد إذا لم يعتق المكاتب لو عتق من غير جهة الكتابة، لأنه علم من طريق التبين أن ما صرف إلى المكاتب لم يقع الموقع حينئذ، إذ لم يترتب عليه الغرض المطلوب، وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح. وكذا إلحاقه بحديث بريرة، فإنه لم يحدث هنالك ما يظهر به بطلان صرف الصدقة إلى من صرفت إليه.

عن أداء الباقي، طاب للمولى ما أخذه، لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد المكاتبة، كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها أو هبت له، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريرة: "هو لها صدقةٌ ولنا هدية". وعند الشافعي رضي الله عنه: هو إيجابٌ على الموالي أن يحطوا لهم من مال الكتابة، وإن لم يفعلوا أجبروا. وعن علي رضي الله عنه: يحط له الربع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يرضخ له من كتابته شيئاً، وعن عمر رضي الله عنه: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية، وهو أول عبدٍ كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم، فدفعه إليه عمر وقال: استعن به على مكاتبتك. فقال: لو أخرته إلى آخر نجم. قال: أخاف أن لا أدرك ذلك. وهذا عند أبي حنيفة على وجه الندب، وقال: إنه عقد معاوضة، فلا يجبر على الحطيطة، كالبيع. وقيل: معنى {وَآَتُوهُمْ}: أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وهذا كله مستحب. وروي: أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوكٌ يقال له: الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى، فنزلت. كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في حديث بريرة)، وحديثها على رواه البخاري ومسلمٌ ومالكٌ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تصدق على بريرة بلحم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو لها صدقةٌ ولنا هدية" وفي أخرى لمسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم بقرٍ فقيل: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقةٌ ولنا هدية". قوله: (يساعين على مواليهن)، النهاية: المساعاة: الزنى، وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن كن يسعين لمواليهن فيكسبن بضرائب كانت عليهن، يقال: ساعت الأمة: إذا فجرت، وساعاها فلانٌ: إذا فجر بها، وهو مفاعلةٌ من السعي، فأبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. قوله: (وكان لعبد الله بن أبي)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود، عن جابر، أن جاريةً

النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث: "ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل: عبدي وأمتي". والبغاء: مصدر البغي. فإن قلت: لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}؟ قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة المواتية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، كان يريدهما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الآية. قوله: (وفي الحديث: "ليقل أحدكم: فتاي")، روى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي هريرة: "لا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي، ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي فتاتي غلامي". قوله: (لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}؟ )، يريد أن النهي عن إكراههن مطلق، فلم قيده بقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}؟ وذلك يوهم أن النهي عن الإكراه ينتفي إذا لم توجد إرادة التحصن وهو ليس بمراد، وهذا مبنيٌ على أن المعلق بلفظ {إِنْ} على الشيء، يعدم عندهم عدم المعلق به بشهادة إجماع إهل اللغة أن كلمة {إِنْ} للشرط، والشرط هو ما ينتفي الحكم عند انتفائه. وأجاب أن الإكراه إنما يتصور إذا أردن التحصن، وإذا أردن البغاء، فلا إكراه إذن، على أن كلمة {إِنْ} الدالة على الشك وخلو الجزم مؤذنةٌ بأنهن كن راغباتٍ في الزنى. الانتصاف: لم يذكر جواباً شافياً، وعندي أنه للإيقاظ، لأن السامع ينبغي أنه يحترز من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجرٌ شرعيٌ، إشعاراً بأن أمته خيرٌ منه، ولولا هذا لما قوي الزاجر النفسي، وقلت: ويقوي هذا التأويل التعريض في قراءة ابن عباس: لهن غفورٌ رحيم.

للبغاء لا يسمى مكرهاً، ولا أمره إكراهاً. وكلمة {إِنَّ} وإيثارها على "إذا" إيذانٌ بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبةٍ وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر. {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهم، أو: لهن، أو: لهم ولهن، إن تابوا وأصلحوا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: ومن الناس من ذكر فيه جواباً آخر وهو: أن في الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق، ولما كان الغالب في حال الشقاق قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، والقصر لا يختص بحال الخوف، لكن أجراه على سبيل الغالب. قوله: (لهم، أو لهن، أو: لهم ولهن)، يريد أن {غَفُورٌ رَحِيمٌ} مطلقٌ، والقرينة الدالة على التقييد {وَلَاتُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}، فيجوز أن يقيد بالمكرهين إذا تابوا وبالمكرهات، أو بكليهما جميعاً، وقلت: يجوز أن يتركا على إطلاقهما فيدخلوا فيه دخولًا أولياً، قال القاضي: الثاني أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعودٍ: من بعد إكراههن لهن غفورٌ رحيمٌ، ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمةٍ فلا حاجة إلى المغفرة، لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات، ولذلك حرم على المكره القتل ووجب عليه القصاص. وقلت: فعلى هذا: في قوله: فإن الله من بعد إكراههن لهن" وعيدٌ شديد، وتهديدٌ عظيمٌ للمكره، وذلك الغفران والرحمة تعريضٌ، ويؤيد إيراد الجزاء على سنن الإخبار، والإطناب بذكر {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} يعني انتبهوا أيها المكرهون، أنهن مع كونهن مكرهاتٍ بنحو القتل وإتلاف العضو، يؤاخذن على ما أكرهن لولا أن الله غفورٌ رحيمٌ فيتجاوز عنهن، فكيف

وفي قراءة ابن عباس: (لهن غفورٌ رحيم). فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن، لأن المكرهة على الزنى بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة. قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة- من إكراهٍ بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو، من ضربٍ عنيفٍ أو غيره- حتى تسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة. [{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 34]. (مبينات): هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الكلام والحدود. ويجوز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمن يكرههن؟ مثله قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 172]. قوله: (وفي قراءة ابن عباس: "لهن غفورٌ رحيم")، قال ابن جني: وقرأها سعيد بن جبير، وقال: "لَهُنَّ": متعلق بـ "غفور"، لأنه أدنى إليها، ولأن "فعولاً" أقعد في التعدي من فعيل. ويجوز أن يتعلق بـ "رحيم"، لأجل حرف الجر إذا قدر خبراً بعد خبر، ولم يقدر صفةً لـ "غفور"، لامتناع تقدم الصفة على موصوفها، والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله، وليس الخبر كذلك، وأيضاً، يحسن في الخبر، لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة، ولأن المغفرة مسببةٌ عنها، فكأنها مقدمةٌ معنى وإن تأخرت لفظاً. هذا تخليص كلام ابن جني. قوله: (فاتسع في الظرف)، أي: أجري مجرى المفعول به، كقوله: ويومٍ شهدناه، أي: آياتٍ مبينات فيها الأحكام والحدود.

وقرئ بالكسر، أي: بينت هي الأحكام والحدود، جعل الفعل لها على المجاز، أو من: بين، بمعنى: تبين، ومنه المثل: قد بين الصبح لذي عينين. {وَمَثَلًا مِنَ} أمثال من (قبلكم)، أي: قصةً عجيبةً من قصصهم، كقصة يوسف ومريم، يعني: قصة عائشة رضي الله عنها. {وَمَوْعِظَةً}: ما وعظ به في الآيات والمثل، من نحو قوله: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 16]، {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]. [{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 35]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بالكسر)، ابن عامرٍ وحمزة وحفصٌ والكسائي في الموضعين هنا وفي "الطلاق"، والباقون: بالفتح. قوله: (جعل الفعل لها على المجاز)، كقوله: إذا ردعا في القدر من يستعيرها؟ قوله: (قد بين الصبح لذي عينين)، قال الميداني: "بين" هاهنا بمعنى: تبين، يضرب للأمر الذي يظهر كل الظهور. قوله: (ما وعظ به في الآيات والمثل)، يريد أن قصة عائشة رضي الله عنها مثل قصة

نظير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} و {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ}: قولك: زيدٌ كرمٌ وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده. والمعنى: ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات، ونور السماوات والأرض الحق، شبهه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوسف ومريم في أنهما بما قرفا، فكانا بريئين منه، وكانت أيضاً موعظةً للمؤمنين في قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} لما أدمج فيها ذلك الأدب الحسن، وفيها قوله تعالى: {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} وأكثرها مواعظ وسائر آيات السور من نحو: {وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}، وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، وقوله: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وغير ذلك، وهذه الآية عامةٌ لكن يدخل فيها هذه المعاني دخولاً أولياً. قوله: (نظير قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} و {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ}: قولك: زيدٌ كرمٌ وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، يريد: أن نسبة ارتباط هذه الجمل بعضها مع بعض، كنسبة ارتباط الجملتين في المثال، وكذا حمل الخبر على المبتدأ في الآية كحمله في المثال. فإن قلت: المثال ذو جملتين، والآية ذات جمل ثلاث؟ قلت: إذا جعل قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى أخرها يتصل به مبيناً لما سبق، فإن البيان والمبين متحدان في الاعتبار، ثم استؤنف بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} لينطبق عليه المثال، فإن قوله: ينعش الناس بكرمه مثل قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ}، وحين لم يفتقر كرمٌ وجودٌ إلى البيان تركه. قوله: (ينعش الناس بكرمه)، أي: يرفعهم ويصلح حالهم. وأصله: من نعشة العاثر، وفي بعض الأدعية المأثورة: يا ناعش الضعيف، يا مغيث اللهيف، ويا منتهي رغبة الوضيع والشريف. قوله: (ونور السماوات والأرض الحق)، أي: المراد بالنور: الحق، يدل عليه قوله: "شبهه بالنور"، أي: شبه الحق بالنور، والمراد بالحق: كونهما دليلين على وجود فاطرهما، وعظمة مبدعهما، وكمال قدرة منشئهما، قال الله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] أي: ما خلقته إلا حقاً. ويؤيده قوله:

بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]: أي: من الباطل إلى الحق. وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضئ له السماوات والأرض. وإما أن يراد أهل السماوات والأرض، وأنهم يستضيئون به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "شبهه بالنور في ظهوره وبيانه"، أي: جعله مبيناً ودليلاً على وحدانيته، ومآل المعنى: الله جاعلهما دليلين على وحدانيته، كما نقل عن بعضهم: الله مدلول السماوات والأرض. ولما احتاج الاستدلال بهما إلى الذهن الثاقب، والفكر الصائب الذي لا يلويه الباطل يميناً وشمالاً، جعل المشبه به في كوةٍ، ليؤذن أن المستضيء به إنما ينتفع إذا انتصب محاذياً له قبلاً إياه، وكذلك المستدل ينبغي أن يكون على الصراط المستقيم، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وإليه الإشارة بقوله: "ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً". فإن قلت: تفسيره لقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بقوله: "للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته" غير مطابقٍ لقوله: "إن المصباح إذا كان في مكانٍ متضايقٍ كالمشكاة، كان أضوأ له، وأجمع لنوره"، بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والواجب الموافقة بين ما يجتمع فيه المشبه والمشبه به من المعنى؟ قلت: إنما يكون كذلك أن لو كان وجه الشبه سعة الإشراق وفشوه، وإنا الوجه فرط الضياء وقوة الإنارة. والحاصل أن شبه نور الله الفاشي في قوة ظهوره بالنور المستفاد من المصباح الذي هو في المشكاة، والمراد بالفشو والانتشار: كثرة الدلائل وظهور آثار وحدانيته في الملكوت. قوله: (وإما أن يراد أهل السماوات والأرض)، وهو ينظر إلى تأويل ابن عباس على ما رواه محيي السنة عنه: الله هادي أهل السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون. وقال الإمام: الله هادي أهل السماوات والأرض، قول

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن عباس والأكثرين. وقال أيضاً: القول بأن المراد بالنور: الهدى هو المختار، لأنه مطابقٌ لما قبله، وهو قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}. وأقول- والعلم عند الله-: إن هذه الآية مما خاض فيها العارفون والنحارير من العلماء، وبلغت أقوالهم مبلغاً عظيماً، وكلٌ تكلم على مقدار بضاعته، وجاء بما في وسعه وطاقته {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. هذا، وإن من جبلة من أفنى عمره في تحصيل صناعةٍ أن تتحرك أريحيته إذا ما لاحت له من تلك الصناعة لمعهٌ، ومما تصديت له، وأفنيت فيه صالح عمري معرفة الفصاحتين، ومراعاة الموافقة بين الطلبتين، أعني المقام والكلام، وكثيراً ما كانت تصدم القريحة معاني هذه الآية إذا حاولت لاقتداح زندها، وانتشاق زبدها مع ما يندبني إليه أخص إخواني في الدين وأخلص أخداني في طلب اليقين، ولما اعتقدت أن التجاسر على كلام الله المجيد، والتجاسر له والتشمير للخوض فيه، مع قلة البضاعة، من أعظم ما يلزم المرء من الغرامة، كنت أقدم رجلاً وأوخر أخرى إلى أن وافق لتحريك القلم شدة الغرام، فاضطرت إلى إبراز هذه الصبابة من تلك الضبابة، فإن صادفها الحق فهو المرام، وإلا فإني أستغفر الله على ما بدا مني أولاً وآخراً. أقول: الواجب على مقتني صناعة البلاغة تعيين المقام، وتحرير الكلام، لتنقيح المرام. وتحرير ما نحن فيه: أن نبين أولاً أن النور ما هو؟ وما يقتضيه المقام من التأويل، فإذا تعين ذلك ينظر بعد ذلك في حقيقة هذا التشبيه، فإنه من أي قبيلٍ هو؟ أمن المركب العقلي أو الوهمي، أو الحسي، أم من المفرق الحسي أو العقلي، وعلى تقدير كونه مفرقاً فالمشبهات المقدرة ما هي؟ وما التي يجب تصحيحها حتى تقابل بالمذكورات؟ وتنصيصها من أعظم الشؤون، والتقصي من ذلك لا يستتب إلا بعون الله تعالى وتوفيقه، وإلا بلطفه وتسديده. فالكلام مرتبٌ على مطلبين:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المطلب الأول: في الكشف عن حقيقة هذه النور: والقول الجامع فيه ما أورده القاضي في "تفسيره" واختصره من كلام الإمامين: حجة الإسلام، والإمام فخر الدين، ولخصه: النور في الأصل: كيفيةٌ تدركها الباصرة أولًا، وبوساطتها تدرك سائر المبصرات ثانياً، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، ويوافقه تفسير أهل اللغة: النور: الضياء. وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيدٌ كرمٌ أي: ذو كرم، أو على تجوز، وهو على وجوهٍ: أ- منور السموات والأرض، لأن الله تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء. ب- مدبرهما، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم، لأنهم يهتدون به في الأمور. ج- موجدهما، فإن النور ظاهرٌ بذاته، مظهرٌ لغيره، وأصل الظهور هو الوجود، كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله تعالى موجودٌ بذاته، موجدٌ لما عداها. د- الذي به يدرك، أو يدرك أهلها، ومن ثم أطلق النور على الباصرة لتعلقها به، أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة، لأنها أقوى إدراكاً، فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها، وهي إذن من سبب يفيضها عليه، وهو الله تعالى، أو بتوسط من الملائكة والأنبياء. ويقرب منه قول ابن عباس: هادي من فيهما، فهم يهتدون بنوره. وقلت: قول ابن عباس من واد، وهذا من واد، فإن لو حبر الأمة من وادي طور سيناء، وهذا من وادٍ يهيم فيه ابن سيناء، فإن معنى قوله: الله هادي العالمين ومبين ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يهتدون به ويتخلصون من ظلمات الكفر والضلالات وورطات الزيغ والجهالات بوحي ينزله، ونبي يبعثه. وقد تقرر أن التأويل الذي عليه التعويل ما ساعد عليه النظم. وروينا عن محيي السنة في "المعالم" أنه قال: التأويل صرف الآية إلى معنى محتملٍ موافقٍ لما قبلها ولما بعدها غير مخالفٍ للكتاب والسنة، من طريق الاستنباط. وعلى مقتضى هذه القضية وجب النظر في هذه الآية إلى السباق والسياق، أما السباق فكما قال الإمام: هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، وبيانه أنها جاءت رابطةً لقصة براءة ساحة حجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما بقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، كما فسره المصنف، وتخلصاً منها إليه، وقد كرر هذا المعنى في هذه السورة الكريمة مراراً ترجيعاً إلى ما هو مهتمٌ به وتخلصاً إلى ما ينبغي أن يشرع فيه. منها: قوله تعالى في فاتحة السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ومن ثم جاء في هذا المقام مفصولاً استئنافاً على بيان الموجب، امتناناً على المنزل عليهم، كأنه قيل: إنما أنزل الله إليكم هذه الآيات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتقين، لأنه هادي أهل السموات وأهل الأرض بإنزال الآيات البيانات والكتاب المنير المشتمل على ما تأتون به وتذرون، ففيه مع الامتنان تعظيم شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث استشهد لبراءة حجابه بمثل هذه الآية الكريمة الجامعة، وفي جعل تلك الآية تخلصاً لهذه، وإنها من الجوامع المحتوية على الأمهات، فإن قوله: {مُبَيِّنَاتٍ} يشتمل على جميع ما يستحق أن يبين من أصول الدين وفروعه. وقوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} منبئٌ عن أحوال سائر الأمم الخالية، والرسل الماضية، {وَمَوْعِظَةً} منبئةً عن جميع الآيات المنذرات والمبشرات. واختصاص المتقين، لأنهم الجامعون بين ما يجب أن يؤتى به، ويتحرز منه، دلالةٌ بينةٌ على صحته ما ذهبنا إليه. ثم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الانتقال من ضمير التعظيم إلى اسم الذات والحضرة الجامعة خطبٌ جليل وخطرٌ خطير وإيذانٌ بأن تلك الهداية أيضاً جامعةٌ لما يناط به أمور الدين من بعثة الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك. وأما السياق فإن قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} جاء مفصولاً للاستئناف، وبيان أن الله يختص بتلك الهداية من يشاء من خواص حضرته، وأن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} جاء مقابلاً لهذه الآيات، والمعنى: أن أعمالهم الصالحة التي لم تكن مقتبسةً من مشكاة النبوة ضائعةٌ، ألا ترى كيف أوقع قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} تنبيهاً على أن الكافر كان فاقد ذلك النور عند عمله؟ " وقال محيي السنة: أراد بالظلمات: أعمال الكفار، وبالبحر اللجي: قلبه، وبالمموج يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب: الطبع والرين على قلبه. وقلت: قوله: " {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مقابلٌ لقوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، ولهذا ختمها بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. وعن الإمام: قال الأصحاب: إنه تعالى لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهايةٍ من الجلاء والظهور عقبها بأن قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبها بقوله: " {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مظهراً أن المراد بالنور: الهاية بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، شبهها في ظهورها في نفسها والبيان والجلاء، وفي كونها مبيناً لغيرها مما يناط به أمر الدين بالنور، لأنه ظاهرٌ في نفسه، مظهرٌ لغيره. والمطلب الثاني: في الكشف عن حقيقة التمثيل. قال القاضي: وقد ذكر في معنى التمثيل وجوهٌ: أ- تمثيلٌ للهدى الذي دل عليه الآيات البينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنه من الهدى بالمشكاة المنعوتة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ب- تشبيه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح. ج- تمثيلٌ لما نور الله به قلب المؤمن- من المعارف والعلوم- بنور المشكاة المنبث فيها مصباحها، ويؤيده قراءة أبي: "مثل نور المؤمن". د- تمثيل ما منح الله به عباده من القوى الدراكة الخمس المترتبة التي ينوط بها المعاش والمعاد، وهي: الحساسة التي تدرك المحسوسات والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك بها الحقائق الكلية، والمفكرة التي تؤلف المعقولات لتنتج منها علم ما لا يعلم، والقوة القدسية التي تنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء، المعنية بقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] بالأشياء المذكورة في الآية، وهي المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت، فإن الحساسة كالمشكاة، لأن محلها كالكوى، ووجها إلى الظاهر، ولا تدرك ما وراءها، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، وضبطها للأنوار العقلية، وإنارتها بما يشتمل عليها من المعقولات. والعاقلة كالمصباح، لإضاءتها بالإدراكات الكلية، والمعارف الإلهية. والمفكرة كالشجرة المباركة، لتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها. والزيتونة المثمرة للزيت الذي هو مادة المصابيح، التي لا تكون شرقيةً ولا غربيةً، لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفةً في القبيلين، منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت، فإنها لضيائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكرٍ ولا تعليم. وقلت: الوجه الأول: من التشبيه المركب العقلي، لأن الوجه مأخوذٌ من الزبدة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والخلاصة، ولهذا قال في جلاء مدلولها: وإليه ميل المصنف في الوجه الأول، حيث قال: "ونور السموات والأرض الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه"، وقال أيضاً: "صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة"، فجعل الوجه الإضاءة، ألا ترى كيف اعتبر الزبدة بقوله: "هذا الذي شبهت به الحق نورٌ متضاعفٌ" إلى آخره؟ والوجه الثاني: من المركب الوهمي، حيث تصور في المشبه الحالة المنتزعة من المشبه به، وهي قوله: من حيث إنه محفوفٌ بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم. والوجه الثالث: من التشبيه المفرق الذي يتكلف فيه للمشبه أشياء متعددةٌ مناسبةٌ لما في المشبهات بها، لكنه مبنيٌ على أصول الحكماء، والمقام ينبو عنه كما ترى. والوجه الرابع الذي عليه قراءة أبي أقرب، وللمقصود أدعى، ولكن يفتقر إلى فضل تقرير، وذلك أنه لما تقرر في المطلب الأول أن المراد بالنور: الهداية بوحي ينزله ورسولٍ يبعثه، فالواجب أن لا يتجاوز عن حديث الوحي والموحى إليه، فالمشبهات المناسبة صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلبه، واللطيفة الربانية فيه والقرآن نفسه وما يتأثر منه القلب عند استمداده، فهذه مراتب خمسٌ مفيضةٌ ومستفيضةٌ على ترتيب فيض الله على العباد، ومن أراد الوصول فهذه السبيل، وإلا فـ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. وأما التفصيل فإنه شبه صدره صلوات الله عليه بالمشكاة، لأنه كالكوى ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير، ومن آخر يقتبس ذلك النور المقتبس على الخلق، وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين: مرةً في صباه وأخرى عند إسرائه، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، هذا تشبيهٌ صحيحٌ قد اشتهر عند جماعةٍ من المفسرين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى محيي السنة عن كعب: هذا مثلٌ ضربه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: المشكاة: صدره، والزجاجة: قلبه، والمصباح فيه: النبوة، توقد من شجرةٍ مباركةٍ هي شجرة النبوة. وروى الإمام عن بعضهم: أن المشكاة: صدر محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه، والزجاجة: قلبه، والمصباح: ما في قلبه من الدين. وفي "حقائق السلمي" عن أبي سعيد الخراز: المشكاة: جوف محمدٍ، والزجاجة: قلبه، والمصباح: النور الذي فيه. ومنه خطبة "المصابيح": من مصابيح خرجت عن مشكاة التقوى. وشبه قلبه صلوات الله عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه، وخلوصه من كدورة الهوى، ولوث النفس الأمارة، وانعكاس نور اللطيفة إليه. وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب. روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "القلوب أربعةٌ: قلبٌ أجرد، فيه مثل السراج يزهر". وفيه: "أما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره". الحديث، وأورده شيخنا الإسلام أبو حفصٍ السهر وردي قدس الله تعالى سره في "العوارف" مستشهداً لما سنح له في المعنى الروح والقلب والنفس:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولهذا المعنى سماه الله تعالى سراجاً في قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]، أي: سراجاً يستضاء به في ظلمات الجهالة ويقتبس من نوره أنوار البصائر، وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها، وتشعب فروعها، وتأديها إلى ثمراتٍ لا نهاية لها. قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 - 25] الآية. وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد: الشجرة المباركة شجرة الوحي، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ}: تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ وقيل: هي شجرة النبوة. وقال صاحب "إنسان العين": الشجرة: القرآن لا كذبٌ ولا هزء، يكاد يطرب السامع نظمه قبل فهمه، وشبه ما يستمده نور قلبه صلوات الله عليه وسلامه من القرآن وابتداء تقويه منه بالزيت الصافي، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فكما جعله سبب توقده منه في قوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} جعل ضوءه مستفاداً من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، والمعنى ما ذكر في "إنسان العين": يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وفيه مسحةٌ من معنى قوله: رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكانها خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنها قدحٌ ولا خمر ومنه وصفت بكونها لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ، قال الحسن: ليست هذه من أشجار الدنيا، ولو كانت في الدنيا لكانت شرقيةً أو غربيةً، وإنما هو مثلٌ ضربه الله لنوره. رواه محيي السنة. أو نأخذ في مشرع آخر، وهو أن يشبه القرآن بالمصباح على ما سبق، ونفسه الزكية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطاهرة صلوات الله على صاحبها بالشجرة لكونها ثابتةً من أرض الدين، متشعبةً فروعها إلى سماء الإيمان، متدليةً أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان، وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] غير مائلةٍ إلى طرفي الإفراط والتفريط، ألا ترى إلى قول الحسن: جعل الله الدين بين لاءين ولا تطغوا ولا تركنوا، وذلك معنى قوله تعالى: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}. ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة، وقبول تلك الأنوار بالزيت الصافي، لوفور قوة استعدادها للاستضاءة، وهي الدهنية القابلة للاشتعال، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان، يكاد زيت استعداه صلوات الله وسلامه عليه، لصفائه وذكائه، يضيء ولو لم يمسه نور القرآن. روى محيي السنة، عن محمد بن كعبٍ القرظي: تكاد محاسن محمدٍ صلوات الله عليه تظهر للناس من قبل أن أوحي إليه. قال ابن رواحة: لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ ... كانت بداهته تنبيك عن خبر وفيه: أن قلبه المطهر يشرق من نور القرآن، ومشكاة صدره تهدي الناس إلى السبيل السوي بواسطة استقامة نفسه الزكية على الصراط المستقيم وتهيئتها لقبول تلك الأنوار، وفيه مسحةٌ من معنى قوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وفي "حقائق السلمي": مثل نوره في [قلب] عبده المخلص [كمشكاة]، والمشكاة: القلب، والمصباح: النور الذي قذف فيه، والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق في مصباح النور، توقد من شجرةٍ مباركةٍ تضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنه على آداب ظاهره، وحسن معاملته، زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية، جوهرةٍ صافيةٍ لا لها حظٌ في الدنيا ولا في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآخرة، لاختصاصها بموالاة العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار. قال الواسطي: نفسٌ خلقها الله فسماها شجرةً مباركةً وقال: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} لا دنيويةٍ ولا أخروية، جذبها إلى قربه، وأكرمها بضيائه، يكاد ضياء روحها يتوقد ولو لم يسمع كتاباً ولم يدعه نبيٌ. وقال الجنيد: لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ: لا هي مائلةٌ إلى الدنيا ولا راغبةٌ في الآخرة، ولكنها فانية الحظ من الأكوان. وقلت: وعند هذا نمسك عنان القلم وننادي بلسان الاضطرار: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فإن قلت: لم زعمت أن التشبيه من المفرق؟ قلت: التكرير فيه يستدعي ذلك، لأنها من باب الترديد، وهو: تكرير المعنى لتعليق الزائد عليه تقريراً واعتناءً، قال: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراء فقيل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} ثم قيل: {مَثَلُ نُورِهِ}، وقيل: {كَمِشْكَاةٍ} ثم قيل: {فِيهَا} أي: في المشكاة: وقيل: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} ثم أعيد المصباح، وقيل: {فِي زُجَاجَةٍ} ثم أعيد الزجاجة، وشبهت بالكوكب الدري لينبه به على كمال إشراق اللطيفة، يعني: إذا بلغ إشراق الزجاجة المستفيضة إلى هذه الغاية فما ظنك بالمصباح المفيضة ونورها؟ وكذا {زَيْتُونَةٍ}: تكريرٌ لمعنى الشجرة لإناطة {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} بها. قال أبو البقاء: {زَيْتُونَةٍ} بدلٌ من {شَجَرَةٍ}. و{يَكَادُ زَيْتُهَا}: تكريرٌ مع البيان لما أجمل من معنى الزيت في قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}. وأما النور المتضاعف في قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فنور صدره - صلى الله عليه وسلم -،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونور قلبه، ونور اللطيفة ونور القرن، وهذا التكرير والتقرير والمتممات توقفك على استقلال كل مرتبةٍ في معنى الإضاءة والاستضاءة، وأن التشبيه من باب التفريق، لا من باب أخذ الزبدة ولا التمثيل، وإلا فالظاهر أن يقال: مثل نوره كمصباح في زجاجةٍ في مشكاة، وإنما لم يقل: كمشكاةٍ فيها زجاجةٌ فيها مصباح على الترتيب السابق، فإن الكوة حاويةٌ للزجاجة وهي المصباح، ليلوح به إلى أن المطلوب المصباح، وأن الزجاجة تابعةٌ، وأن المقصود من القلب ذلك النور المقذوف فيه ولولاه لكان مضغةً لا يعبأ بها، ومن ثم جعل فاقدة فاقد القلب في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولاحتجاب ذلك الهدى بهذه الحجب النورانية، ولكل منها ظهرٌ وبطنٌ، وحدٌ ومطلعٌ قلما يهتدي إليه إلا من اتبع رضوانه سبل السلام ليهديه إلى صراطٍ مستقيم، وفي قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} الإشعار بأن هذه تقريباتٌ وتلويحاتٌ بحسب الاستعدادات، وأن بيان نوره الحقيقي لا يسعه نطاق التحرير، لكن الله بعلمه الواسع يعلم حقيقته والله بكل شيء عليم. وما أحسن طباق هذا التأويل مع قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، فقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} كقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} الآية، لكونهما للامتنان على المنزل إليهم، والتنبيه على عظم شأن هذه النعمة لتتلقى بالشكر الواجب. وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} كقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}. وأما قوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية، فعطفٌ على سبيل التفسير على قوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ}، وفي إيقاع {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} مفعولاً

{مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة، وهي الكوة في الجدار غير النافذة {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: سراجٌ ضخمٌ ثاقب {فِي زُجَاجَةٍ} أراد قنديلاً من زجاج شاميٍّ أزهر. شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب، وهي المشاهير، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيلٍ ونحوها. {يُوقَدُ} هذا المصباح {مِنْ شَجَرَةٍ} أي: ابتداء ثقوبه من شجرة الزيتون، يعني: رويت ذبالته بزيتها. {مُبَارَكَةٍ}: كثيرة المنافع. أو: لأنها نبتت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها: أي: هذه الأرض، حيث دفن فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به، فإنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليهدي، وجعله موصولاً، صلته {اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} وجعل {سُبُلَ السَّلَامِ} مفعولاً فيه، و {سُبُلَ السَّلَامِ} هي المشكاة، والزجاجة والمصباح والشجرة أسرارٌ أدناها الإشعار بأن السالك لا ينفعه سلوكه إذا لم يخلص فيه، ولم يتبع رضوان الله تعالى، ولما أن متابعة الرضوان، وسلوك سبل السلام سببٌ لهداية الله إياه، أوقعه مفعولاً ليؤذن أن شكر تلك النعمة الخطيرة لا يحصل إلا بمتابعةٍ رضوان الله في سلوك سبل السلام، وأن شكره استزادةٌ لنعمةٍ أخرى أجل منها، ولتقييد تلك الهداية المطلقة، أعني: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، بهذه الهداية المفسرة المعللة، ويقيد الرضوان وسبل السلام المطلقتان بتلك الاستقامة المقيدة بالمجازاة لمشكاة الأنوار، فظهر بهذا التقرير الموافقة بين قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] وقوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل)، ولم يذكر بقية السيارة، وهي: زحل وعطاردٌ والشمس والقمر، وذكر سهيلاً على انه ليس منها، لأنه أراد الكواكب المشهورة عند العرب، وإليه الإشارة بقوله: "وهي المشاهير"، وسهيلٌ من الأسماء التي جاءت مصغرةً كالثريا والكعيب والكميت.

مصحةٌ من الباسور". {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} أي: منبتها الشام. وأجود الزيتون: زيتون الشام. وقيل: لا في مضحًى ولا مقنأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها. قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا خير في شجرةٍ في مقنأة، ولا نباتٍ في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحًى". وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً، فهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مصحةٌ من الباسور)، النهاية: وفي الحديث: "الصوم مصحةٌ"، يروى بكسر الصاد وفتحها، وهي مفعلةٌ من الصحة: العافية. الجوهري: الباسور، بالسين والصد جميعاً: علةٌ تحدث في مآق العين يسقي فلا ينقطع، وقد تحدث أيضاً في حوالي المقعدة. قوله: (ولا مقنأة)، المقنأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس. النهاية: وفي حديث شريك: أنه جلس في مقنوءةٍ له، أي: موضع لا تطلع عليه الشمس، وهي المقنأة أيضاً، وقيل: هما مهموزان. قوله: (وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط)، في "المطلع": هذا كما يقال: فلانٌ لا مقيمٌ ولا مسافر، إذا كان يقيم ويسافر، يريد أنه ليس بمنفردٍ بإقامةٍ ولا سفر، قال الفرزدق: بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى به حين سلت يعني: شاموا سيوفهم، وأكثروا بها القتلى. هذا القول اختيار الزجاج.

شرقية وغربية. ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص، وأنه لتلألؤه {يَكَادُ} يضيء من غير نار. {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي: هذا الذي شبهت به الحق نورٌ متضاعفٌ قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبق مما يقوي النور ويزيده إشراقاً ويمده بإضاءةٍ بقيةٌ، وذلك أن المصباح إذا كان في مكانٍ متضايق- كالمكشاة- كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه، وينتشر، والقنديل أعون شيءٍ على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه. {يَهْدِي اللَّهُ} لهذا النور الثاقب {مَنْ يَشَاءُ} من عباده، أي: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً. ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواءٌ عليه جنح الليل الدامس، وضحوة النهار الشامس. وعن علي رضي الله عنه: (النور نور السماوات والأرض)، أي: نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره، أو: نور قلوب أهلها به. وعن أبي بن كعب: (مثل نور من آمن به). وقرئ: {زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} بالفتح والكسر، و {دُرِّيٌّ} منسوبٌ إلى الدر، أي: أبيض متلألئ. و (دُرِّيّءٌ) بوزن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} بالفتح والكسر)، قال بان جني: قرأ نصر بن عاصم بفتح الزاي فيهما، وفيها ثلاث لغاتٍ: بالفتح والضم والكسر. قوله: (و {دُرِّيٌّ})، أبو عمرو والكسائي: بكسر الدال والمد والهمزة، وأبو بكرٍ وحمزة: بضم الدال والهمز، والباقون: بضم الدال وتشديد الياء من غير همز. قال ابن جني: قرأ قتادة والضحاك: "دري" مخففةً، وسعيد بن مسيبٍ وغيره: "دُرِّيّء" مفتوحة الدال مشددة الراء مهموزةً، وهذه الأخيرة قراءةٌ غريبةٌ، وذلك أن "فعيلاً" بالفتح وتشديد العين عزيزٌ، وإنما حكى منه السكينة، بفتح السين وتشديد الكاف، حكاها أبو زيد. وقال الزجاج: والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في "دُرِّيّء"، لأنه ليس في كلام

سكيت، يدرأ الظلام بضوئه، و (دُرِّيءٌ) كمريق، و (دُرِّيءٌ) كالسكينة، عن أبي زيد، و (توقد) بمعنى: تتوقد، والفعل للزجاجة، و {يُوقَدُ}، و (توقد) بالتخفيف، و (يوقد) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العرب شيءٌ على "فعيل" بضم الفاء وتشديد العين، ولكن الكسر جيدٌ بالهمز على وزن "فعيل" من النجوم الدراري التي تدور، أي: ينحط ويسير متدافعاً، وجاز أن يكون دري بغير همز مخففاً، ولا يجوز أن يضم الدال ويهمز، لأنه ليس في الكلام فعيلٌ. روي عن أبي عبيدٍ أنه قال: أنا أرى له وجهاً، وهو أنه "دروءً" على "فعول" من: درأت، كسبوح، استثقل الضمات، فرد بعضها إلى الكسر كـ {عِتِيًّا}. وفي "اللباب" و "فعيلٌ" غريبٌ ليس له نظيرٌ إلا مريقٌ والعلية، لأنه من: علا يعلو وكذلك السرية عند بعضهم، حكاها أبو علي. وقال الزجاج: مثال {دُرِّيٌّ}: فعليٌ، منسوبٌ إلى الدر، من فتح الدال فقال: "دريٌ" كان له أن يهمز ولا يهمز، فمن همز أخذه من: درأ الكواكب يدرأ: إذا تدافع منقضاً، ومن كسر فإنما أصله الهمز فخفف وبقيت كسرة الدال على أصلها. قوله: (كمريق)، وهو حب العصفر والقرطم بالضم والكسر. الأساس: ثوب متمرق مصبوغٌ بالمريق، وهو العصفر. وأنشد في السكينة: تظنينني أقبل سكينةً ... هيهات لا أقبل غير العتاق قوله: (و"توقد" بمعنى: تتوقد)، ابن كثيرٍ وأبو عمرو: "توقد"، بالتاء الفوقانية، وفتح الواو والدال والقاف مشدداً، وأبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بالتاء مضمومةً وإسكان الواو وضم الدال مخففاً. والباقون: كذلك إلا أنهم قرؤوا بالياء.

بالتشديد، و (يوقد) بفتح الياء وحذف التاء، لاجتماع حرفين زائدين، وهو غريب، و (يمسسه) بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي، والضمير فاصل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"يوقد" بفتح الياء وحذف التاء)، قال ابن جني: قرأها السلمي والحسن وقتادة وغيرهم. وهي مشكلةٌ، لأن أصله: يتوقد، فحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين في أول الفعل، والقياس في هذا إذا كانا مثلين نحو: تفكرون وتذكرون، فكره اجتماع مثلين زائدين، فحذف الثاني للخفة، وليس في "يتوقد" مثلان، لكنه شبه حرف مضارعةٍ بمثله، يعني الياء بالتاء لكونهما زائدتين، كما شبهت التاء والنون في تعد، ونعد بالياء في يعد فحذفت الواو معهما كما حذفت في يعد، ونحوٌ من هذا قراءة {نُجِّ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، وهو يريد {نُنْجِ} فحذفت النون الثانية، وإن كانت أصليةً، شبهها لاجتماع المثلين بالزائدة، فشبه هاهنا أصلٌ بزائدٍ لاتفاق اللفظين، كما شبه هنا حرف مضارعةٍ بحرف مضارعةٍ لا للاتفاق، بل لأنهما جميعاً زائدتان. قوله: (و"يمسسه" بالياء)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن عباس، وإنما حسن للفصل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وإذا جاز في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] مع علامة التأنيث فيها فهو مع النار أمثل. وأما قولهم: نعم المرأة فإنما جاز وإن كان التأنيث حقيقياً، ولا فصل من قبل إرادة الجنس، لأنها فاعل نعم، والأجناس على الشياع والتنكير، وإذا أضمر الفاعل في فعله وهو مؤنثٌ لم لم يحسن تذكير فعله حسنه إذا كان مظهراً، فإن قولك: قام هندٌ أعذرُ من قولك: هندٌ قام، من قبل أن الفعل منصبغٌ بالفاعل المضمر فيه أشد من انصباغه به إذا كان مظهراً، لأن أصل وضع الفعل: على التذكير. فإذا قلت: هندٌ قام، فالتذكير الآتي مخالفٌ للتأنيث السابق، فالنفس تعافه بأول استماعه، وقولك: قام هندٌ، فالنفس تقبل التذكير أو استماعه إلى أن يأتي التأنيث.

[{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 36 - 38]. {فِي بُيُوتٍ}: متعلقٌ بما قبله، أي كمشكاةٍ في بعض بيوت الله، وهي المساجد، كأنه قيل: مثل نوره كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو بما بعده، وهو {يُسَبِّحُ}، أي: يسبح له رجالٌ في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيدٌ في الدار جالسٌ فيها، أو بمحذوف، كقوله: {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} [النمل: 27]، أي: سبحوا في بيوت. والمراد ب الإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28]، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127]. وعن ابن عباس: هي المساجد، أمر الله أن تبني. أو: تعظيمها والرفع من قدرها. وعن الحسن: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم. و{يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أوفق له، وهو عامً في كل ذكر. وعن ابن عباس: وأن يتلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فِي بُيُوتٍ}: متعلقٌ بما قبله، أي: كمشكاةٍ في بعض بيوت الله)، فإذن زيد في التشبيه تصوير بيوتٍ مخصوصة، فزيد في تفصيله، وهو على المفرق يزاد على الصدور المنشرحة المشبهة بالمشكاة الأبدان الزكية الطاهرة من أوضار الذنوب، النقية من الأدناس البشرية، كأبدان الأنبياء والأولياء المشبهة بالبيوت التي أذن الله أن ترفع. قال القاضي: ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة، إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبار وحدةٍ ولا كثرة. قوله: (أو تعظيمها)، عطفٌ على "بناؤها". قوله: (و {{يُذْكَرَ فِيهَا [اسْمُهُ]} أوفق له، وهو عامٌ في كذل ذكر)، أي: أوفق للتعظيم

فيها كتابه. وقرئ: (يسبح) على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: {لَهُ} {فِيهَا} {بِالْغُدُوِّ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من رفع البناء، قال القاضي: {وَيُذْكَرَ فِيهَا} عامٌ فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله، والمباحثة في أحكامه، و {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا}، أي: يصلون". قوله: (وقرئ: "يسبح" على البناء للمفعول)، ابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: على البناء للفاعل. قوله: (ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: {لَهُ} {فِيهَا} {بِالْغُدُوِّ}، فحينئذٍ يجيء الكلام فيما يتصل بالفعل جزءاً وما ينفصل عنه فضلةٌ، ويتفرغ عليه معنى الاهتمام فيما قدم وأخر ومعنى الإسناد المجازي، فالوجوه ثلاثةٌ، والاعتبارات تسعةٌ، أحدها: أن تجعل الباء في {بِالْغُدُوِّ} مزيدةً، ويسند الفعل إلى أوقات الغدو والآصال على الإسناد المجازي، لأن الله في الحقيقة هو المسبح، ولكن المسبحين لاهتمامهم بالتسبيح، وأن أوقاتهم مستغرقةٌ فيه، لا يفترون آناء الليل وأطراف النهار، كما قال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}، كأنها مسبحة. ويؤيده قوله: "على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحةً، والمراد ربها". ومنه قولك: زيدٌ نهاره صائم، وليله قائم، لكثرة صيامه بالنهار، وقيامه بالليل، فالتقديم إذن في الفضلات، لأن الأصل تقديم المسند إليها عليها، وتقديم المفعول فيه على المفعول له، لأن الغايات سابقةٌ في القصد، لاحقةٌ في الوجود، فقدم {لَهُ} لإرادة مزيد الاختصاص، كأنه قيل: يسبح أوقاته لأجله، وكرامةً لوجهه الكريم، لا لشيءٍ آخر. ويفيد تقديم ظرف المكان على الزمان- على أن الفعل أشد اتصالاً بالزمان لكونه جزأه- شدة العناية بإيثار تلك الأمكنة التي رفعت لذكر الله تعالى وتسبيحه. فهذه اعتباراتٌ أربعةٌ: اعتبار الإسناد، وتقديم المفعول له على المفعول فيه، وعلى ما أقيم مقام الفاعل، وتقديم ظرف المكان على الزمان.

و {رِجَالٌ}: مرفوعٌ بما دل عليه {يُسَبِّحُ}، وهو يسبح له، و: (تسبح) بالتاء وكسر الباء. وعن أبي جعفر بالتاء وفتح الباء، ووجهها: أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة، والمراد ربها، كصيد عليه يومان، والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل، وهو العشي. والمعنى: بأوقات الغدو، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: أن تجعل اللام في {لَهُ} مزيدةً ويسند الفعل إلى الله تعالى بالحقيقة، فالتقديم حينئذٍ في الظرفين على ما سبق، اعتباران: اعتبار الإسناد الحقيقي، وتقديم ظرف المكان على الزمان. وثالثهما: أن تجعل "في" في {فِيهَا} مزيدةً ويسند الفعل إلى ضمير البيوت على المجازي، وفي ذلك أن المسبحين لشدة عنايتهم بالعكوف في بيوت الله وملازمتهم لها للذكر فيها، واختصاص الصلاة بها كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ}، كأن البيوت مسبحةٌ، والمراد ربها، واللام في {لَهُ} بمعنى: لأجل، وتقديمه على ما سبق لمزيد الاختصاص، وأن إكرام الديار لساكنها، فالاعتبارات ثلاثة. والله تعالى أعلم. قوله: (و {رِجَالٌ}: مرفوعٌ بما دل عليه {يُسَبِّحُ}، قال الزجاج: المعنى على أنه لما قال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قيل: من يسبح؟ فقيل: يسبح له رجال. قوله: (كصيد عليه يومان)، قيل: الضمير للفرس، وقيل: للمركوب، واليومان: مصيدٌ فيهما، والأوقات مسبحٌ فيها، فهو من قبيل الاتساع في الظروف، كقوله: ويومٍ شهدناه سليماً وعامراً قوله: (والمعنى: بأوقات الغدو)، قال القاضي: و"الغدو" مصدرٌ أطلق للوقت، ولذلك حسن اقترانه بـ "الآصال".

بالغدوات. وقرئ: (والإيصال)، وهو الدخول في الأصيل. يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح، فإما أن يريد: لا يشغلهم نوعٌ من هذه الصناعة، ثم خص البيع، لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعةٌ رابحة- وهي طلبته الكلية من صناعته- ألهته ما لا يلهيه شرى شيءٍ يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني، لأن هذا يقينٌ وذلك مظنون، وإما أن يسمى الشرى تجارةً، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلانٌ تجارةً رابحة، إذا اتجه له بيعٌ صالح أو شرى. وقيل: التجارة لأهل الجلب، تجر فلانٌ في كذا: إذا جلبه. التاء في "إقامة" عوضٌ من العين الساقطة للإعلال، والأصل: إقوام: فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت، ونحوه: وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم خص البيع)، أي: التجارة، جنسٌ تحته أنواعٌ من الشرى والبيع وغيرهما، فخص البيع بالذكر، كما خص جبريل في قوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]. وقوله: "وهي طلبته الكلية من صناعته" اعتراضٌ بين إ ذا وجوابه. قوله: (وقيل: التجارة لأهل الجلب)، لمن يجلب الأمتعة من بلدٍ إلى بلدٍ للبيع. الأساس: جلب الشيء واجتلبه، والجلب مرزوقٌ، واشتر من الجلب، فعلى هذا: لا حاجة إلى ذكر الشرى، فإنه إنما يجلب للبيع لا للشرى. قوله: (التاء في "إقامة" عوض)، قال الزجاج: أصلها: أقومت الصلاة إقوماً، ولكن قلبت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما، لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقاماً، وأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة. قوله: (وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا)، صدره:

وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها، وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]، وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي: أحسن جزاء أعمالهم، كقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]، والمعنى: يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب تفضلاً. وكذلك معنى قوله: {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: المثوبة الحسنى وزيادة عليها من التفضل. وعطاء الله عز وجل: إما تفضل، وإما ثواب، وإما عوض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الخليط أجدوا البين فانجردوا أي: مضوا وأسرعوا. والخليط بمعنى المخالط، والمراد به الجمع، وعد الأمر، أي: العدة. قوله: (والمعنى: يسبحون ويخافون)، يريد أن قوله: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا} صفةٌ بعد صفةٍ لرجال، والصفة الأولى: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، أي: تسبيح الله لقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا}، فذكر الله مظهرٌ وضع موضع المضمر. قوله: (وكذلك معنى قوله: {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، يعني: كما أن الزيادة في هذه الآية من الفضل، كذا يجب أن تفسر الزيادة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، لأن المطلق محمولٌ على المقيد، إذا كانا عن سبب واحد، ولأنه إذا لم يذكر المزيد فوجب أن يكون من جنس المزيد عليه وإن كان من غير جنسه، فلابد من الذكر، كقولك: أعطاني فلانٌ ديناراً وزيادةً، إذا كانت الزيادةُ من جنس الدينار، ولا تقول: أردت بالزيادة الثواب فيبطل تفسير الزيادة بالرؤية كما هو مذهب أهل السنة، ولم يعلم أن الكل من فضله: الجزاء، والزيادة، والرؤية، وغير ذلك، وتفسير الزيادة بالرؤية واردٌ عن الصادق المصدوق كما سبق بيانه. قوله: (وعطاء الله تعالى إما تفضلٌ وإما ثوابٌ وإما عوض)، فالتفضل على ما سبق.

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ} ما يتفضل به {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فأما الثواب فله حساب، لكونه على حسب الاستحقاق. [{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 39]. السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماءٌ يجري. والقيعة: بمعنى القاع، أو جمع قاعٍ، وهو المنبسط المستوي من الأرض، كجيرةٍ في جار. وقرئ: (بقيعات) بتاء مموطة، كديماتٍ وقيمات، في ديمةٍ وقيمة. وقد جعل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في سورة النحل عن بعض العدلية هو: إيصال منفعةٍ خالصة إلى الغير من غير استحقاقٍ يستحق بذلك حمداً وثناءً ومدحاً وتعظيماً، ووصفٌ بأنه محسنٌ مجملٌ، وإن لم يفعله لم يستوجب بذلك مدحاً وذماً. والثواب هو: الجزاء على أعمال الخير، والعوض هو البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي في مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن. قوله: ({وَاللَّهُ يَرْزُقُ} ما يتفضل به {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، يعني: {يَرْزُقُ} مطلقٌ يجب أن يقدر بأحد المذكورين: الجزاء أو التفضل، والأول ممتعٌ، لأنه بمعنى الثواب، والثواب له حسابٌ، فلا يقال فيه: بغير حساب، فبقي أن يقيد بالثاني، ويقال: والله يرزق ما يتفضل به بغير حساب. قوله: ("بقيعات" بتاء مموطة)، أي: ممدودة، قال ابن جني: "قيعاتٌ" بالتاء: جمع قيعة، كديمةٍ وديمات وقيمةٍ وقيمات، ويجوز أن يكون جمع قاعٍ، كنارٍ ونيرة، وجارٍ وجيرة، ومثله أخٌ وإخوة، لأن أخاً عندنا فعلٌ، وحكى عبد الله بن إبراهيم قال: سمعت

بعضهم (بقيعاةٍ) بتاءٍ مدورة، كرجلٍ عزهاة. شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر، بسرابٍ يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [مسلمة] يقرأ: كسراب بقيعاة، بالألف والهاء بعدها، نحو: فعلٍ وفعلاة، كرجل عزهٍ وعزهاة: الذي لا يقرب النساء واللهو. قوله: (بسراب يراه الكافر)، متعلقٌ بقوله: "شبه ما يعمله"، يعني: شبه الأعمال الصالحة ممن لا إيمان له، وهو يحسب أنها تنفعه ثم يخيب في العاقبة، بسرابٍ يراه الكافر، إلى آخره. إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة، ولم يجعلها مطلقاً، لأنه تعالى قيده بقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}، لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ، لأن خيبة الكافر أدخل، وحصوله على أمرٍ خلاف ما يأمله أعرق، ونحوه في التشبيه قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117]، فإن الكافرين الظالمين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية، بخلاف مطلق الحرث، كذلك هاهنا. وما أدلة من قاطع على بطلان مذهب الفلاسفة، ومن يريد الهداية من غير المتابعة، فإنه يتوهم أن ما هو عليه من متابعة الوهم هو الحق البحت، فإذا تبين له في الخاتمة بطلانه، ووجد الله عنده، يعرف حينئذٍ: أفرسٌ تحته أم حمار؟ وقد غلب على مقتني يعلم المعقول الذين أضلهم الوهم المعلول الانتباه في آخر عهدهم، والتبري عنه في خاتمة أمرهم لما عرفوا أنه كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً. الراغب: الحسبان: أن يحكم لأحد نقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله فيحسبه، ويعقد ع ليه الأصبع، ويكون بمعرض أن يعتريه فيه شكٌ، ويقارب ذلك الظن، لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر. قوله: (بالساهرة)، الجوهري: يقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض، ومنه

عطش يوم القيامة، فيحسبه ماءً، فيأتيه فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنهم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، و {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام. [{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 40] اللجي: العميق الكثير الماء، منسوبٌ إلى اللج، وهو معظم ماء البحر. وفي {أَخْرَجَ} ضمير الواقع فيه. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} مبالغةٌ في: لم يرها، أي: لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها. ومثله قول ذي الرمة: إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح أي: لم يقرب من البراح، فما باله يبرح! شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14]، قال: هي الأرض البيضاء المستوية، سيمت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عينٌ ساهرةٌ: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة. قوله: (فيعتلونه)، الأساس: عتله: إذا أخذ بتلبيبه فجره إلى حبس أو نحوه {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47]. قوله: (وهم الذين قال الله فيهم)، يعني: من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق، ويعمل الأعمال الصالحة، وفسرت الآية في موضعها بأن قيل: عملت ونصبت في أعمالٍ لا يجدي عليها في الآخرة. قوله: (إذا غير النأي المحبين) البيت، الرسيس: الشيء الثابت الذي لزم من بقية

ضررها بسرابٍ لم يجده من خدعه من بعيدٍ شيئاً، ولم يكفه خيبةً وكمداً أن لم يجده شيئاً كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا تقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها، لكونها باطلةً، وفي خلوها عن نور الحق بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل، أو كونهما مترقبين، ألا ترى إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوًى أو سقمٍ في البدن. يبرح: أي: يزول، يقال: برح برحاً: إذا زال من موضعه، ومنه: لا أبرح كذا أي: لا أزال. قوله: (ومن لم يوله- أي: لم يعطه- نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل)، يريد: أن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، ظاهره: أن من لم يخلق الله تعالى فيه الإيمان والعمل الصالح ليس له إيمانٌ ولا عملٌ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، لأنه تذييلٌ لقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} إلى قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} إلى آخره. ولما لم يوافق مذهبه، عدل من التصريح إلى التلويح وقال: "ومن لم يوله نور توفيقه" فيكون المضاف إليه محذوفاً والجملة كما هي مع الحذف كنايةً عن عدم إيمانهم وعملهم الصالح، لأن الإلطاف لازم الإيمان، والعمل الصالح. قوله: (أو كونهما مترقبين)، نصب عطفٍ على "الإيمان والعمل"، أي: الإلطاف إما أن يكون لازماً للإيمان والعمل الصالح أو لازماً لترقب حصولهما. وقال صاحب "التقريب": التقدير: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته فما له من نور: لا نور لطف التوفيق الذي يسبق الإيمان والعمل الصالح المترقبين، ولا نور العصمة الذي يردف ويلحق الإيمان والعمل الحاصلين. وقلت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 65] استشهادٌ لقوله: "إن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل"، لأن الهداية هي الدلالة، ولذلك فسره في موضعه بقوله: "لنزيدنهم هدايةً إلى سبيل الخير وتوفيقه، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا

وقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]؟ وقرئ: (سحاب ظلماتٍ) على الإضافة. و (سحابٌ ظلماتٍ)، برفع "سحابٌ)، برفع "سحابٌ" وتنوينه وجر "ظلماتٍ" بدلاً من "ظلماتٍ" الأولى. [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 41 - 42]. {صَافَّاتٍ}: يصففن أجنحتهن في الهواء. والضمير في {صَافَّاتٍ} لـ {كُلٌّ} أو لله، وكذلك في {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} والصلاة: الدعاء. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 10] "، وكذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] دلٌ على أن إضلال الله تعالى مسبوقٌ بظلمهم. وقال في تفسيره: إن مشيئة الله تعالى تابعةٌ لحكمته، من إضلال الظالمين وخلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم، وكل ذلك تكلفاتٌ وتعسفاتٌ عن الطريق السوي. قوله: (والضمير في {عَلِمَ} لـ {كُلٌّ} أو لله تعالى، وكذلك في {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، قال صاحب "التقريب": إذا عاد ضمير {عَلِمَ} إلى الله تعالى فليعد الأخيران إلى "كلٌّ"، لئلا يخلو المبتدأ عن عائدٍ إليه، إلا أن يقدر منه. وقلت: الضمير إذا كان لـ {كُلٌّ}، كان قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تكميلاً لإرداف العظمة الكاملة والقدرة التامة صفة العلم الشاملة، وإذا كان لله تعالى كان تذييلاً لقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، ثم الآية بجملتها مع ما يتلوها من الآيات المشتملة على دلائل الآفاق والأنفس مستطردةٌ لذكر التسبيح في قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ}، ثم قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} جيء به تكريراً وترجيعاً لقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} الآية، ليتخلص منه إلى نوع آخر من قبائح رأس النفاق وذويه.

وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 43 - 44]. {يُزْجِي}: يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحدٍ لا يرضاها. والسحاب يكون واحداً، كالعماء، وجمعاً كالرباب. ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحدٌ، لأن المعنى: بين أجزائه، كما قيل في قوله: ..... بين الدخول فحومل والركام: المتراكم بعضه فوق بعض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والسحاب يكون واحداً كالعماء)، قال أبو زيد: هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال. والرباب: السحاب الأبيض، الواحد: ربابة. القزع: قطعٌ من السحاب رقيقة، الواحد: قزعة. الراغب: أصل السحب: الجر، كسحب الذيل، ومنه السحاب إما لجر الريح له، أو لانجراره في مره. والسحاب: الغيم فيه ماءٌ، أو لم يكن، ولهذا يقال: سحابٌ جهام. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، وقد يذكر السحاب، ويراد بها الظل والظلمة على طريق التشبيه: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [الآية: 40]. يقال: سحابٌ مركوم، أي: متراكم، والركام: ما يلقى بعضه على بعض، والركان يوصف به الرمل والجيش، ومرتكم الطريق: جادته التي فيها ركمةٌ، أي: أثرٌ متراكم. قوله: (كما قيل في قوله: بين الدخول فحومل)، أوله: قفا نبك من ذكري حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

والودق: المطر. {مِنْ خِلَالِهِ}: من فتوقه ومخارجه، جمع خلل، كجبالٍ في جبل. وقرئ: (من خلله)، {وَيُنَزِّلُ} بالتشديد، و (يكاد سنا) على الإدغام، و (برقه) جمع برقة، وهي المقدار من البرق، كالغرمة واللقمة، و (برقه) بضمتين للإتباع، كما قيل في جمع فعلة، فعلات، كظلمات، (وسناء برقة) على المد المقصور، بمعنى الضوء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الأنباري: الدخول، وحومل، والمقراة: منازل كلاب. اعلم أن الفاء في "فحومل" هي المانعة من دخول "بين" على "حومل". قال الأصمعي: لا يقال: رأيتك بين زيدٍ فعمرو، بالفاء وقال الفراء: معناه: بين أهل الدخول، فأهل حومل. وذهب المصنف إلى أن كلاً من الدخول وحومل مكانٌ ذو قطع متجاورات، فالبين داخلٌ على كل واحدٍ منهما على التأويل، أي: بين أماكن الدخول فأماكن الحومل. وقال الزجاج: جاز: ما زلت أدور بين الكوفة، ولم يجز أدور بين زيدٍ حتى تقول: وعمرو، لأن الكوفة اسمٌ يتضمن أمكنةً كثيرة، فكأنك قلت: ما زلت أدور بين طرق الكوفة. قوله: (والودق: المطر)، الراغب: الودق: قيل: ما يكون خلال المطر كأنه غبار. وقد يعبر به عن المطر كما في قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}، ويقال لما يبدو في الهواء عند شدة الحر: وديقة. قوله: {وَيُنَزِّلُ} بالتشديد)، قرأ كلهم إلا ابن كثيرٍ وأبا عمروٍ: "يكاد سنا"، على الإدغام: السوسي عن أبي عمرو. قوله: (و"سناء برقه")، قال ابن جني: هي قراءة طلحة بن مصرف. السناء ممدوداً: الشرف، يقال: رجلٌ ظاهر النبل والسناء، والسنا مقصوراً: الضوء، وعليه قراءة الكافة.

والممدود بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سني، للمرتفع، و (يذهب بالأبصار) على زيادة الباء، كقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]، عن أبي جعفر المدني. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض، ودعاءهم له، وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا، ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر، وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته، ودلائل مناديةٌ على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر. فإن قلت: متى رأى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون الممدود للمبالغة في قوة ضوئه وصفائه، كقولك: هذا ضوءٌ كريم، أي: هو في غاية قوته وإنارته، فلو كان إنساناً لكان كريماً شريفاً. قوله: (على زيادة الباء)، قال الزجاج: لم يقرأ بها غير أبي جعفرٍ المدني، ووجهها في العربية ضعيفٌ، لأن العرب تقول: ذهبت به وأذهبته. والمصنف ذهب إلى أنها للتأكيد، وقد نقلنا في سورة المؤمنين عن الحريري جواز الجمع بين حرفي التعدية، وعليه قراءة من قرأ: "تنبت بالدهن"، بضم التاء. قوله: (وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته)، هذا إشارةٌ إلى المذكور من ابتداء قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ}، وتلك الدلائل تسبيح من في السموات وتسبيح الطير، ودعاؤهم، وتسخير السحاب، وقسمة رحمته بين خلقه يصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وإراءته وسناه بحيث يخطف أبصارهم، وتقليبه الليل والنهار بالطول والقصر. قوله: (وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده [وثباته]، ودلائل مناديةٌ على صفاته)، يعني: وجود هذه الأشياء يدل على وجود مبدعها وخالقها، لأن الممكن لابد له

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسبيح من في السماوات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال بردٍ في السماء، حتى قيل له: {أَلَمْ تَرَ}؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحي. فإن قلت: ما الفرق بين {مَنْ} الأولى والثانية والثالثة في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ}، {مِنْ جِبَالٍ}، {مِنْ بَرَدٍ}؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء، والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبالٍ فيها، وعلى الأول مفعول {وَيُنَزِّلُ} {مِنْ جِبَالٍ}. فإن قلت: ما معنى {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال بردٍ كما خلق في الأرض جبال حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من موجدٍ يوجده، وكونها واقعةً على صفاتٍ عجيبةٍ غريبة تدل على علم منشئها، وحكمة مفطرها، ولذلك قال: "لمن نظر وفكر وتبصر" على النشر. قوله: (علمه من جهة إخبار الله تعالى ... على طريق الوحي)، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: علمه بالمكاشفة، وبنور زائد على نور العقل، أو بإرادة الله تعالى إياه كما أرى إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]. قوله: (والثالثة للبيان)، قال القاضي: {مِنْ بَرَدٍ}: بيانٌ للجبال، والمفعول محذوفٌ، أي: ينزل مبتدئاً من السماء من جبالٍ فيها من برد. قوله: (أن يريد الكثرة بذكر الجبال)، قال القاضي: أي: من قطعٍ عظام تشبه الجبال في عظمها، وقيل: المراد بالسماء المظلة، وفيها جبالٌ من بردٍ كما في الأرض جبالٌ من حجر، وليس في العقل قاطعٌ يمنعه.

يقال: فلانٌ يملك جبالاً من ذهب. [{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 45] وقرئ: (خلق كل دابة). ولما كان اسم الدابة موقعاً على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطي ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون، فمن ثم قيل: {فَمِنْهُمْ}، وقيل: {مَنْ يَمْشِي} في الماشي على بطنٍ والماشي على أربع قوائم. فإن قلت: لم نكر الماء في قوله: {مِنْ مَاءٍ}؟ قلت: لأن المعنى: أنه خلق كل دابة من نوعٍ من الماء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمن ثم قيل)، تفريع لما بعده على ما قبله، يعني: ضمن قوله: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} معنى التغليب، ولذلك أتى بضمير العقلاء وضم معه من المختص بالمميزين، ولولا إرادة التغليب لم يستقم قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي} إلى آخره. وتلخيصه أن الأول مجملٌ في إرادة التغليب، فبين بالثاني المراد منه، كما أن قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ} قرينةٌ دالةٌ على إرادة التغليب في {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر: 30]، ولو حمل على باب قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، وجمعه بالواو والنون لجاز، لأن الكلام لما كان مسوقاً لإظهار قدرة الله وكمال حكمته، وأن هذه الأشياء دلائل دالةٌ مرشدةٌ على ذلك، أجري عليها ما كان مجري على العقلاء، ومن ثم قدم الماشي على البطن على الماشي على القدمين وعلى الأربع، لأن الأول أدل على القدرة، والثاني من الثالث. قوله: (لأن المعنى أنه خلق كل دائبةٍ من نوع من الماء)، تلخيص الجواب: أن التنكير إما للإفراد نوعاً، فإنه تعالى خلق كل نوع من أنواع الدواب من ماءٍ مختص بذلك النوع، فخلق نوع الإنسان من ماءٍ مختص به، وخلق الفرس من ماءٍ مختص به، وعلى هذا، وإما للإفراد شخصاً، فإنه تعالى خلق كل دابةٍ من ماءٍ مخصوصٍ بها وهو النطفة، ثم اختلفت هذه

مختص بتلك الدابة، أو: خلقها من ماءٍ مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام، ومنها بهائم، ومنها ناس، ونحوه قوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]. فإن قلت: فما باله معرفاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]؟ قلت: قصد ثم معنى آخر، وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقةٌ من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط، قالوا: خلق الملائكة من ريحٍ خلقها من الماء، والجن من نارٍ خلقها منه، وآدم من ترابٍ خلقه منه. فإن قلت: لما جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرف في القدرة، وهو الماشي بغير آلة مشيٍ من أرجلٍ أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النطفة بحسب اختلاف الدواب. وقال القاضي: هذا على تنزيل الغالب منزلة الكل، إذ من الحيوانات ما يتولد لا من نطفة. قوله: (قصد ثمة معنًى آخر)، يعني: قصد هاهنا إلى معنى الإفراد شخصاً أو نوعاً كما سبق، فنكر الماء وقصد ثمة إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيءٍ حي فعرفه، وأشار إلى صاحب "المفتاح" حيث قال: أي: وجعلنا مبدأ كل شيءٍ حي هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وقال صاحب "الانتصاف": وتحرير الفرق أن الأولى: بين أن القدرة خلقت من واحدٍ أشياء مختلفةً، والثانية: القصد فيها خلق الأشياء المتفقة من جنس الماء المختلف، فالأولى: إخراج مختلفٍ من متفق، والثانية: إخراج متفقٍ من مختلف. قوله: (على سبيل الاستعارة)، أي: استعير للزحف على البطن المشي، جعله المصنف

الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلانٌ لا يتمشى له أمر. ونحوه استعارة الشفة مكان الجحفلة، والمشفر مكان الشفة، ونحو ذلك، أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين. [{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 46 - 47] {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى القائلين: آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولي منهم، فمعناه على الأول: إعلامٌ من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان، لا الفريق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قبيل الاستعارة، حيث قال: "كما قالوا في الأمر المستمر، قد مشى هذا الأمر"، لكن قوله: "استعارة الشفة مكان الجحفلة"، ينبئ أنه ليس من قبيل الاستعارة، لأنه عند صاحب "المفتاح" مجازٌ مرسلٌ خالٍ عن الفائدة. قال: كما استعمل المرسن في أنف إنسان، وأنه موضوعٌ لمعنى الأنف مع قيد أن يكون مرسوناً، وإنما كان خالياً عن الفائدة، لأن المرسن والأنف كالمترادفين. والحق أن ما في الآية من المجاز المرسل لا الاستعارة. قوله: (الجحفلة)، الجوهري: للحافر كالشفة للإنسان. قوله: (فمعناه على الأول: إعلام)، إذا قدر {أُولَئِكَ} إشارةً إلى القائلين {آَمَنَّا} يكون {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، إيذاناً بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي منهم، وانحطاط درجة أولئك، وعلى أن يكون إشارةً إلى الفريق المتولي منهم يكون {ثُمَّ} للاستبعاد، ويؤيده قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: كيف يدخولن في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون، ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين، ويرغبون عن تلك المقالة؟ وهذا بعيدٌ عن العاقل المميز. يؤيد هذا التأويل سؤال الإمام: فإن قيل: كيف حكي عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكي عن فريقٍ منهم التولي، وكيف يصح أن يقول في جميعهم: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}؟

المتولي وحده. وعلى الثاني: إعلامٌ بأن الفريق المتولي لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيماناً، إنما كان ادعاءً باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادراً عن صحة معتقدٍ وطمأنينة نفس: لم يتعقبه التولي والإعراض. والتعريف في قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} دلالةٌ على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت، وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. [{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} 48 - 49]. معنى {إلى الله ورسوله}: إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيدٌ وكرمه، تريد: كرم زيد. ومنه قوله: غلسته قبل القطا وفرطه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجوابه المشار إليه بقوله: "أولئك الذين تولوا"، لا الجملة الأولى، ولو رجع إلى الأولى، ولو رجع إلى الأولى يصح أيضاً. وأما معنى تكرير قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} فإنه من باب الترجيع والشروع في مشرعٍ آخر من ذكر المنافقين وأحوالهم. قوله: (معنى {إلى الله ورسوله}: إلى رسول الله)، أي: ذكر "الله" هنا تمهيدٌ لذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإشعارٌ بإظهار مكانته - صلى الله عليه وسلم -، يؤيده إفراد الضمير في قوله: {لِيَحْكُمَ} وقوله: {يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}. قوله: (غلسته قبل القطا وفرطه)، أوله في "المطلع": ومنهلٍ من الفلا في أوسطه

أراد: قبل فرط القطا. روي: أنها نزلت في بشرٍ المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله، والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وروي: أن المغيرة بن وائلٍ كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومةٌ في ماءٍ وأرض، فقال المغيرة: أما محمدٌ فلست آتيه ولا أحاكم إليه، فإنه يبغضني وأن أخاف أن يحيف علي. {إِلَيْهِ}: صلة {يَاتُوا}، لأن "أتى" و"جاء" جاءا معديين بـ "إلى"، أو يتصل بـ {مُذْعِنِينَ}، لأن في معنى: مسرعين في الطاعة، وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحت، يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حقٌ على خصمٍ أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذهم لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغلس: ظلمة الليل، والتغليس: السير بغلس، والفرط: جمع الفارط كالركع والراكع وهو السابق إلى الماء قبل الواردة ليهيئ لهم الدلاء. قوله: (الحق المر)، أي: الحكم الذي يلحقهم بسماعه مرارةٌ في أفواههم، وهو كنايةٌ عن الكراهة. النهاية: قال شريحٌ لجماعةٍ أرادوا أن يحلفوا على شيء "لتركبن منه مرارة الذقن" أي: ما يمر في أفواهكم وألسنتكم التي بين أذقانكم. قوله: (البحت)، أي: الخالص، "يزورون" أي: يعدلون عنه ويميلون. قوله: (وإن ثبت لهم حقٌ على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك)، دل على الحصر تقديم صلة {مُذْعِنِينَ} عليه. قوله: (ما ذاب لهم)، أي: ما وجب. الأساس: ومن المجاز: ذاب لي عليه حقٌ: ثبت

[{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} 50]. ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه. ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله: {أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} أي: لا يخافون أن يحيف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجب، ويقال لمن أنضج حاجة إنسانٍ وأتمها: أذاب حاجته. ومن قول المنصور لابن عمران: بلغني أنك لبخيلٌ، فقال: ما أجمد في حقٌ، ولا أذوب في باطل. قوله: (ثم أبطل خوفهم حيفه)، يريد أنه تعالى أراد أن يبين أن صدودهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحق عليهم كان باطلاً فجاء بالتقسيم، أي: لا يخلو أن نشأ ذلك الصدود عن نفاقهم وكفرهم، فإنهم لا يصدقونه في شيء، أو عن عدم ثباتهم في الإيمان ورسوخهم فيه فيرتابون فيه وفي أحكامه، أو عرفوا أنه يحكم بالحق وهم يريدون الباطل، فجيء بقوله تعالى: {بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ} إضراباً عما أثبته "بل" في {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ}. قال القاضي: بل إضرابٌ عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول. ووجه التقسيم: أن امتناعهم إما أن يكون لخلل فيهم، أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً، وكلاهما باطلان، أما الأول فظاهرٌ، وأما الثاني فلأن منصب نبوته، وفرط أمانته يمنعه، فتعين الأول، وظلمهم يعم خلل عقيدتهم، وميل نفوسهم إلى الحيف. وفسر القاضي قوله: {أَمِ ارْتَابُوا} بقوله: بأن رأوا منك تهمةً، فزال يقينهم بك. وهذا معنى قوله: "أو مرتابين في أمر نبوته".

عليهم، لمعرفتهم بحاله، وإنما هو ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده، وذلك شيءٌ لا يستطيعونه في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ثم يأبون المحاكمة إليه. [{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 51]. وعن الحسن: (قول المؤمنين) بالرفع، والنصب أقوى، لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لـ "كان" أو غلهما في التعريف، و {أَنْ يَقُولُوا} أو غل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف (قول المؤمنين)، وكان هذا من قبيل "كان" في قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الحق أن "بل" إضرابٌ عن نفس التقسيم، يعني: دع التقسيم، فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف على الكمال، فلذلك صدوا عن حكومتك، يدل عليه إتيان اسم الإشارة، والخطاب، وتعريف الخبر بلام الجنس، وتوسيط ضمير الفصل، والله تعالى أعلم. قوله: (والنصب أقوى)، قال ابن جني: والرفع قراءة علي رضي الله عنه والحسن، والنصب قراءة الجماعة. وهو أقوى، لأن من شرط اسم كان أن يكون أعرف من خبرها، وقوله: {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} أعرف من: {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ}، لأن "أن" وصلتها تشبه المضمر من حيث إنه لا يجوز وصفها، كما لا يجوز وصف المضمر، والمضمر أعرف، ومثله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأعراف: 82]. وقال صاحب "المطلع": أن يقولوا أوغل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف قول المؤمنين، لأنه يحتمل أن يختزل عنه الإضافة فبقي منكراً. قوله: (وكان هذا من قبيل "كان") أي: لفظة "كان" هنا من قبيل "كان" في قوله:

وقرئ: (ليحكم) على البناء للمفعول. فإن قلت: إلام أسند (يحكم) ولابد له من فاعل؟ قلت: هو مسندٌ إلى مصدره، لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، ومثله: جمع بينهما، وألف بينهما. ومثله {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن قرأ {بَيْنَكُمْ} منصوباً، أي: وقع التقطع بينكم. وهذه القراءة مجاوبةٌ لقوله: {دُعُوُا}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، أي: بمعنى: ما يصح وما ينبغي وما يستقيم، قال صاحب "المطلع": إنما صح واستقام أن يقول المؤمنون: سمعنا وأطعنا، ولهذا قال الفراء في معناه: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا. والتحقيق في هذا التركيب ما ذكره صاحب "الانتصاف". قال: فائدة دخول "كان" المبالغة في نفي الفعل الداخل هو عليه بتعديد جهة نفيه عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية الفعل بعد ما كان، فهو نفيٌ مرتين. وقال القاضي: من عادته تعالى إتباع ذكر المبطل ذكر المحق، والفصل لنفي ما أثبت فيهم عن غيرهم والتنبيه على ما ينبغي يبعد إنكاره لما لا ينبغي. قوله: (وهذه القراءة مجاوبةٌ لقوله: {دُعُوُا}، يعني: أن المدعو إليه في الآية: الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه، و {لِيَحْكُمَ} على القراءة المشهورة: مسندٌ إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده، فاحتيج- للتجاوب بين الكلامين- إلى أن يقال: إن ذكر الله تمهيدٌ، كقولك: أعجبني زيدٌ وكرمه. وأما إذا قرئ: "ليحكم"، مجهولاً، وأسند إلى المصدر، يعم الحاكم فيقع التجاوب بينهما ولم يفتقر إلى ذلك التأويل.

[{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 52]. قرئ: (ويتقه) بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل، وبسكون الهاء، وبسكون القاف وكسر القاف وكسر الهاء. شبه تقه بكتف فخفف، كقوله: قالت سليمي: اشتر لنا سويقا ولقد جمع الله سبحانه في هذه الآية أسباب الفوز. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: "ويتقه" بكسر القاف والهاء مع الوصل)، قرأها نافعٌ وابن كثيرٍ وابن ذكوان والكسائي وخلفٌ، وبغير وصل: قالون عن نافعٍ وعن هشامٍ رواية، وبسكون الهاء: أبو عمرو وأبو بكرٍ وخلادٌ، وسكون القاف وكسر الهاء: حفص. قال صاحب "المطلع": قراءة العامة: "ويتقهي" بياءٍ ملفوظةٍ بعد الهاء، وهو الأصل فيما إذا تحرك الحرف قبل الهاء كما في يؤده ويؤته. وروي عن نافع بكسر الهاء ولا يبلغ بها الياء، لأن حركة ما قبل الهاء ليست تلزم، ألا ترى أنه اختير حذف الياء في {وَيَتَّقْهِ} في الرفع مثل عليه؟ وقرأ أبو عمرو: "ويتقه" ساكنة الهاء، وذلك أن ما يلحق هذه الهاء من الواو ومن الياء زائدٌ، فرد إلى الأصل وحذف الزيادة. وقرأ حفصٌ ساكنة القاف مكسورة الهاء. قال ابن الأنباري: وهو على لغة من يقول: لم أر زيداً، ولم أشتر طعاماً ولم يتق زيداً، يسقطون الياء منه للجزم، ثم يسكنون ما قبلها، قال: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتابٌ وغاد قوله: (قالت سليمى: اشتر لنا سويقا)، تمامه: وهات خبز البر أو دقيقا شبه المنفصل بالمتصل فصار نزل فلذا خفف. قوله: (ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز)، يعني: الفاء في {فَأُولَئِكَ هُمُ

وعن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيرها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في فرائضه {وَرَسُولَهُ} في سننه {وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما مضى من ذنوبه {وَيَتَّقْهِ} فيما يستقبل. وعن بعض الملوك: أنه سأل عن آيةٍ كافية، فتليت له هذه الآية. [{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 53]. جهد يمينه: مستعارٌ من جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: من قال: بالله، فقد جهد يمينه. وأصل: "أقسم جهد اليمين": أقسم يجهد اليمين جهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْفَائِزُونَ} جزائيةٌ، مؤنةٌ بأن ما بعدها مسببةٌ عما قبلها، مما تضمنه الشرط من طاعة الله وطاعة رسوله، والخشية والتقوى، هي جامعةٌ لعموم أحوال المكلف، فإن الواجب عليه في الآن هو فيه طاعة الله وطاعة رسوله، وخشية الله على ما مضي، إن فرط منه تقصيرٌ فيتداركه، وتقوى الله فيما يستقبل من ترك ما يجب عليه أن يذره، والإتيان بما يجب عليه إتيانه، كما أشار إليه حبر الأمة، فعم الأوقات بأسرها والأفعال بأجمعها، من فعل ما ينبغي، وترك ما لا ينبغي، ولذلك قيل: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، أي الكاملون في الفوز بمباغيهم ومطالبهم. ثم الآية كما هي تذييلٌ لما سبق، وتعريضٌ بالمؤمنين الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وبالمنافقين الذين يقولون: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، إلى قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى آخر الآيات، بأن الأولين هم الفائزون بمباغيهم، والآخرين هم الدامرون الخاسرون، فالآية من الجوامع. قوله: (أقسم يجهد اليمين جهداً)، هو كقولك: فلانٌ جهد نفسه، أي: يستفرغ طاقته، وكأن لليمين وسعاً وطاقةً وهو يجهد في استفراغه منها، وإليه الإشارة بقوله: "جهد يمينه" مستعارٌ من جهد نفسه، النهاية: جهد الرجل في الشيء: إذا جد فيه وبالغ، ومنه الجهاد، وهو استفراغ ما في الوسع والطاقة من قولٍ أو فعل. والاجتهاد: بذل الوسع في طلب أمر.

مضافاً إلى المفعول، كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم. و {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} خبر مبتدإٍ محذوف، أو مبتدأٌ محذوف الخبر، أي: أمركم والذي يطلب منكم طاعةٌ معروفةٌ معلومة لا يشك فيها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم، والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة، ويقال: جهدت رأيي وأجهدته: أتعبته بالفكر، والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وأقسم: أي: حلف، وأصله من القسامة، وهو أيمانٌ تقسم على أولياء المقتول، ثم صار اسماً لكل حلف. وقسيم الوجه، أي: صبيحة، والقسامة: الحسن، وأصله من القسمة، كأنما أوتي كل موضع نصيبه من الحسن ولم يتفاوت، وقيل: إنما قيل: مقسم، لأنه يقسم بحسنه الطرف، ولا يثبت في موضع دون موضع. قوله: (أي: أمركم والذي يطلب منكم)، إلى آخره، هذه الوجوه يجمعها معنيان بحسب تفسير "المعروفة" وذلك أن المنافقين كانوا يبالغون في الإقسام بأنك إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا خرجنا، فقيل لهم: طاعةٌ معروفة، أي: معروفةٌ بالفعل لا يشك فيها أنها طاعةٌ معروفةٌ بأنها القول دون الفعل، فإذا فسرت بالفعل احتمل أن يكون خبر مبتدأٍ محذوفٍ كما قال أولاً: أمركم والذي يطلب منكم طاعةٌ معروفةٌ معلومةٌ لا يشك فيها، كطاعة الخلص من المؤمنين، فإنهم إذا استنفروا إلى الجهاد خرجوا من ديارهم وأموالهم من غير ريثٍ ولا إقسام، أو مبتدأٌ خبره محذوف، بأن يقال: طاعةٌ معروفةٌ، أي: بالفعل أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، فقوله: "بكم" متعلقٌ بالأمثل والأولى على التنازع، وإذا فسرت بالقول وبما عرف منهم ومن أمثالهم أنها طاعةٌ بالقول دون الفعل، كان خبر مبتدأٍ محذوف، فيقال طاعتكم طاعةٌ معروفةٌ بأنها بالقول دون الفعل. واختيار الزجاج الوجه الثاني من التقرير الأول، حيث قال: طاعةٌ معروفةٌ أمثل، أي: أمثل من قسمكم

ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمانٌ تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها. أو: طاعتكم طاعةٌ معروفة بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعةٌ معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة. وقرأ اليزيدي: (طاعةً معروفةً) بالنصب على معنى: أطيعوا طاعةً {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيءٌ من سرائركم، وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم. [{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 54]. صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، وهو أبلغ في تبكيتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بما لا تصدقون فيه، وفي الكلام دليلٌ عليه، لأنه قال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} والله عز وجل من وراء ما في قلوبهم، فقال: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وقال: ويجوز: "طاعةً معروفةً" على معنى: أطيعوا طاعةً معروفةً، لأنهم أقسموا إذا أمروا أن يطيعوا، فقيل: أطيعوا طاعةً معروفةً، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فإن لم ترو فلا تقرأ. قوله: (صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب)، قال صاحب "التقريب": عدل عن الغيبة في {أَقْسَمُوا} إلى الخطاب في {تَوَلَّوْا}، يريد أن قوله: فإن تولوا ليس من تتمة كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - المأمور به أن يبلغ إليهم من قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، بل هو تعقيبٌ لأمر الله رسوله ومتصلٌ بما قبله. المعنى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم قل كذا وكذا، فإن تولوا أيها المخاطبون فإن عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. والظاهر أنه تعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تخاف مضرتهم، فكأن أصل الكلام: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليك ما حملت، وعليهم ما حملوا، بمعنى:

يريد: فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلا ناصحٌ وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفعٌ في قبولكم، ولا عليه ضررٌ في توليكم. والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى {الْمُبِينُ}: كونه مقروناً بالآيات والمعجزات. [{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما يضرونك شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، على الماضي والغيبة في {تَوَلَّوْا} فصرف الكلام إلى المضارع، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين، بمعنى فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم، ولما لم يكن هذا التفاتاً محضاً، لأن الالتفات هو: الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى، بل هو عدولٌ من صيغةٍ إلى صيغة، قال أولاً: "صرف الكلام" وثانياً: "على طريقة الالتفات"، ونحو هذا المعنى مر في البقرة عند قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة: 214]، وفي كلام الواحدي ما يؤيد هذا التقرير، والله تعالى أعلم. قوله: (من الخروج عن الضلالة): بيانٌ لـ "نصيبكم"، ولولا البيان لكان "نصيبكم" استعارةً على الخروج من الضلالة إلى الهدى، وقوله: "أحرزتم" حينئذٍ كالترشيح لهذا التشبيه، شبه هذا المعنى بالنصب الوافي من أنصباء القداح، وهو المعلى، كأنه قيل: أحرزتم القدح المعلى.

خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 55]. الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه. و {مِنْكُمْ}: للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح. وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض، ويجعلهم فيها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {مِنْكُمْ}: للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح)، يعني: في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. وقلت: الظاهر أن الخطاب عامٌ، و"من" للتبعيض كما مر في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [المائدة: 73] في أحد وجهيه، نص عليه في موضعه، وذلك أن قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} إلى آخر قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وسطٌ بين المعطوف وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} والمعطوف عليه وهو قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} على ما قدره كالاعتراض لما سبق أن أصل الكلام: قل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تخف معرتهم، فينبغي أن يجري الكل على سننٍ واحد، وأن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تعرضوا عن طاعتهما فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله تعالى، وإن أطعتموهما تهتدوا. ثم بين ما للمهتدين منهم بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ} إلى آخره، أي: أحرزتم نصيبكم في الدنيا والعقبى، أما في الدنيا فإن الله وعد الذين آمنوا منكم، أي: الذين اعتصموا بحبل الله والتزموا صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين وإبدال الخوف بالأمن. وأما في العقبى فإن من عمل الصالحات من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول، فإن الله سوف يرحمه رحمةً مطلقةً لا يكتنه كنهها ولا يقادر قدرها، ولهذه الفائدة أخر المعطوف عن المعطوف عليه. فإن قلت: هل في توسيط {مِنْكُمْ} بين {آَمَنُوا} {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هنا، وفي تأخيره عنهما في الفتح من فائدة؟ قلت- والعلم عند الله-: التأخير دل على أن وعد الله تعالى بالمغفرة والأجر العظيم مسببان عن أيمانهم المقارن بالأعمال الصالحات معاً، لأن الاتصاف

خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالإيمان والعمل الصالح في الظاهر مناسبٌ لأن يكون علةً للمغفرة والأجر العظيم، وتوسيطه دل على أن الإيمان هو الأصل في الاعتبار، وأن الأعمال كالتابعة له، فتأثير العمل الصالح في الاستخلاف دون تأثيره في إثبات المغفرة والأجر العظيم، ونحوه في الاعتبار قوله تعالى: {إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] أخر إسماعيل عن المفعول، ليدل على أن إبراهيم عليه السلام كان الأصل في العمل، وإسماعيل عليه السلام كالتابع له، ولو قدمه لم يكن كذلك. ومن ثم اختلف العلماء، قال الإمام: جمهور الفقهاء والمتكلمين اتفقوا على أن الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أن الفسق الطارئ هل يبطل الإمامة أولاً؟ قلت: والذي عليه الأحاديث الصحيحة: لا، روينا عن مسلم والترمذي، عن وائل ابن حجرٍ قال: سأل سلمة بن يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقناً، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثالثة، فجذبه الأشعث فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم". وعن مسلم والدرامي عن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا ومن ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فيكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من الطاعة"، فعلى هذا لا يجوز الطعن في الخلفاء بعد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم. قوله: (حين أورثهم مصر)، إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا

يمكن الدين المرتضى، وهو دين الإسلام، وتمكينه: تثبيته وتوطيده، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يومٌ نأمن فيه ونضع السلاح؟ ! فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديدة"، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] يريد جهات أرض مصر الشرقية والغربية. قوله: (وتوطيده)، الجوهري: وطدت الشيء أطده وطداً، أي: أثبته وثقلته، والتوطيد مثله. قوله: (وأن يؤمن سربهم)، النهاية: يقال: فلانٌ آمنٌ في سربه- بالكسر- أي: نفسه. وفلانٌ واسع السرب، أي: رخي البال، وفي الحديث: "من أصبح آمناً في سربه"، ويروى بالفتح، وهو المسلك والطريق. قوله: (لا تغبرون)، الجوهري: غبر الشيء يغبر، أي: بقي، والغابر: الباقي. والغابر: الماضي، وهو من الأضداد. قوله: (محتبياً ليس فيه حديدة)، عبارةٌ عن غاية الأمن ورخاء البال. الحبو: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب ويجمعها مع ظهره، ويشده عليها، والحديث المشهور عن عدى في هذا المعنى يشهد له قوله: "بعد"، أي بعد فتح جزيرة العرب بلاد المشرق والمغرب.

ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثم يملك الله من يشاء الله من يشاء فتصير ملكاً، ثم تصير بزيرى: قطع سبيل، وسفك دماء، وأخذ أموالٍ بغير حقها". وقرئ: (: ما استخلف) على البناء للمفعول، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بالتشديد. فإن قلت: أين القسم المتلقي باللام والنون في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}؟ قلت: هو محذوف، تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم، أو: نزل وعد الله في تحققه بمنزلة القسم، فتلقي بما يتلقى به القسم، كأنه: أقسم الله ليستخلفنهم. فإن قلت: ما محل {يَعْبُدُونَنِي}؟ قلت: إن جعلته استئنافاً: لم يكن له محل، كأن قائلاً قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون! فقال: يعبدونني. وإن جعلته حالًا عن وعدهم، أي: وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم: فمحله النصب. {وَمَنْ كَفَرَ}: يريد كفران النعمة، كقوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]. {فَأُولَئِكَ هُمُ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم تصير بزيزى)، النهاية: وفي حديث أبي عبيدة: أنه "سيكون نبوةٌ ورحمةٌ كذا وكذا، ثم يكون بزيزى وأخذ أموالٍ بغير حق"، والبزيزى بكسر الباء وتشديد الزاي الأولى والقصر: السلب والتغلب، من بزه ثيابه وابتزه: إذا سلبه إياها، و"قطع سبيل" نصبٌ، إما عطف بيانٍ لقوله: "بزيزى" أو بدلٌ منه. ونحوه رواه الإمام أحمد بن حنبل عن سفينة، وليس في روايته "بزيزى". قوله: (هو محذوفٌ تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم)، قال الزجاج: إنما جاءت اللام لأن: وعدته بكذا أو كذا، ووعدته لأكرمنه، بمنزلة: قلت، لأن الوعد لا ينعقد إلا بقول.

الْفَاسِقُونَ} أي: هم الكاملون في فسقهم، حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها. فإن قلت: هل في هذه الآية دليلٌ على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه، لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجسروا على عظمها)، أي: اجترأوا على تحقيرها وازدرائها. قوله: (لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم)، والظاهر أن "هم" الأول فصلٌ، والثاني خبر "إن" فيفيد تخصيص المسند بالمسند إليه، أي: هذه الأوصاف منحصرةٌ فيهم، ومختصةٌ بهم لا تتعدى إلى غيرهم. ولعمري هم الذين اقتبسوا الدين والتقوى والتقوى من مشكاة النبوة، وكل الناس عيالهم فيه، ومنهم انتشر نور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الذين يستحقون أن يقال فيهم: هم القوم كل القوم للدين والتقى ... وناهيك بالقوم الذين هم هم أي: هم الأخيار والأشراف كما عرفت. كقول الحريري: قد باعت الأسباط قبـ ... لي يوسفاً وهم هم وقد يجيء للذم، قال: رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت- وأنكرت الوجوه- هم هم أي: هم الأعداء. رفوني: أي: سكنوني بعدم الخوف. قال الإمام: وجه الاستدلال أن هذا خطابٌ مع جماعة الحاضرين في حضرة الرسالة صلوات الله على صاحبها بإيصال الخلافة إليهم، وأن يمكن لهم دينهم المرضي، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ولا يمكن حمل هذا إلا على هؤلاء الربعة، لأن من ادعى الروافض إمامته ما كانوا متمكنين من إظهار دينهم وما زال الخوف عنهم، بل كانوا أبداً في التقية والخوف،

[{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 56]. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} معطوفٌ على {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصلٌ وإن طال، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكررت طاعة الرسول، تأكيداً لوجوبها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوجب حملها على ما ذكرنا، لأنهم كانوا عندنا متمكنين من إظهار دينهم غير خائفين. وقال: وفيه دليلٌ على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وخلافة الخلفاء الراشدين، إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه، أي: العمل الصالح لغيرهم بالإجماع. قوله: (وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصلٌ ... ، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه)، أي: الحق المغايرة، لا أن لا يقع بينهما فاصل. وقال صاحب " التقرير": لأن طول الفصل يحقق المغايرة المطلوبة والمعطوف عليه، يريد أن الواجب أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه المغايرة، وعند القرب لا يتحقق ذلك، فإن المجاورة مظنة الاتصال بخلاف المضاف والمضاف إليه، فإن شدة اتصالهما مانعةٌ من دخول فصلٍ بينهما، ولهذا تكلموا في قراءة ابن عامر: {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] بنصب الأولاد وجر الشركاء، على أن للفصل والتأخير فوائد، منها: الإشعار بأن الجملة المتخللة وهو {وَعَدَ اللَّهُ} الآية، مما هو يهتم بشأنه، وأنها متصلةٌ بما يتعلق بالمعطوف عليه وهو {فَإِنْ تَوَلَّوْا} كما سبق. قال القاضي: ولا يبعد عطف ذلك على {أَطِيعُوا اللَّهَ}، فإن الفاصل وعدٌ على المأمور به. ومنها: أن في تأخير المعطوف عن قوله: {وَعَدَ اللَّهُ} إعلاماً بنوع اتصالٍ به، وبيانه ما مر أيضاً، وهو: إن أطعتم وآمنتم فقد أحرزتم نصيبكم في الدنيا والعقبى.

[{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَاوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 57]. وقرئ: (لا يحسبن) بالياء، وفيه أوجه: أن يكون {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} هما المفعولان. والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنًى قويٌ جيد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: التوكيد، لأنه لو لم يؤخر لم يحتج إلى إناطة أطيعوا الرسول به، فإنه على منوال قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]. ومنها: الإيذان بشرف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومحلهما عند الله، وأنهما أما العبادات، وبعدهما مرتبةً عن سائر العبادات والطاعات، لأن العطف من باب عطف جبريل على الملائكة، ومن ثم رتب الأول بقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} وعلى الثاني بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. قوله: (وقرئ: "لا يحسبن" بالياء)، ابن عامرٍ وحمزة، والباقون: بالتاء الفوقانية. قوله: (هما المفعولان)، أحدهما أحداً، معجزين. وثانيهما: الأرض لتقدير الاستقرار، وإنما جاز وصف أحداً بالجمع وإيقاعه موقع المبتدأ، لكونه نكرةً في سياق النفي، كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] صفةً لأحد، لأنه عامٌ، وعلى الثاني والثالث: {فِي الْأَرْضِ} لغو {مُعْجِزِينَ}. قوله: (وهذا معنى قويٌ جيد)، وفيه التفاتان، لأنه تعالى لما التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} على ما سبق، عاد إلى الغيبة وإقامة المظهر موضع المضمر، أي: لا يحسبن البعداء من الذين كفروا بنزع طاعة الله ورسوله عن عنقهم أحداً يحميهم في الأرض من الاستئصال حتى

وأن يكون فيه ضمير الرسول، لتقدم ذكره في قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيءٍ واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وعطف قوله: {وَمَاوَاهُمُ النَّارُ} على {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ}، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله، ومأواهم النار. والمراد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يطمعوا في مثل ذلك، فإن الله لا يعجزه أحدٌ، فيقهرهم في الدنيا بالاستئصال، ويخزيهم في الآخرة بعذاب النار. وينصر هذا التأويل قوله: "والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم"، وأما أن الوجه الأول أحسن من الثاني، وهم أن يكون فاعل "يحسبن" رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لتقدم ذكره في قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، فلأنه على هذا لا يحسن ذلك الحسن، إذا قيل: التفاتٌ من خطابهم بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إلى الغيبة في قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بمعنى: أن أولئك البعداء إنما يمتنعون عن الطاعة لما حسبوا أن لهم ناصراً ينصرهم ويمنعهم من عذابنا حين لم يطيعونا، وأما كونه أقوى منه، فإن نفي الحسبان وإثبات العجز لهم على سبيل الكناية، كما قال: "لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك" أقوى من نفي الحسبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات العجز لهم تصريحاً. وأما كونه أحسن من الثالث، فلأن نفي الحسبان وإثبات العجز لهم تصريحاً أحط من إثبات العجز لهم كنايةً. وأما كونه أقوى منه، فلأنه لا يحتاج حينئذٍ إلى حذف أحد المفعولين من باب حسبت، وإلى العذر بجوازه كما قال، لأنه ضعيف. قوله: (وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا)، قال الزجاج: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا إياهم معجزين، كما تقول: زيدٌ حسبته قائماً، تريد: حسب زيدٌ نفسه قائماً، وهذا في باب ظننت تطرح فيه النفس، يقال: ظننتني أفعل، ولا يقال: ظننت نفسي أفعل، ولا يجوز ضربتني، ليستغنى عنها بضربت بنفسي. قوله: (وعطف قوله: {وَمَاوَاهُمُ النَّارُ} على {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، والظاهر

بهم: المقسمون جهد أيمانهم. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 58]. أمر بأن يستأذن العبيد. وقيل: العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} في اليوم والليلة: قبل صلاة الفجر، لأنه وقت قيامٍ من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة، وبالظهيرة، لأنها وقت وضع الثياب للقائلة، وبعد صلاة العشاء، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاق بثياب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يصح عطف الإخباري على الإنشائي، ولهذا أوله وقال: "كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار"، وقال صاحب النظم: الثاني معطوفٌ على مضمر، أي لا يحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل مقدورٌ عليهم ومحاسبون ومأواهم النار، هذا يقرب إلى ما قدرناه فيه فيقهرهم في الدنيا بالاستئصال، ويخزيهم في الآخرة بعذاب النار. قوله: (أمر بأن يستأذن العبيد)، قال القاضي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمُ} رجوعٌ إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام، وغيرها، والوعد عليها، والوعيد عن الإعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء، غلب فيه الرجال، وليس في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ما ينافي قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] فينسخه، لأنه في الصبيان والمماليك، وذلك في الأحرار البالغين.

النوم. وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورةً، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل. ومنها: أعور الفارس، وأعور المكان، والأعور: المختل العين. ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبين وجه العذر في قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} يعني: أن بكم وبهم حاجةً إلى المخالطة والمداخلة: يطوفون عليكم للخدمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأعور الفارس)، وهو إذا بدا فيه موضع خلل الضرب قال: له الشدة الأولى إذا القرن أعورا الراغب: العورة: سوءة الإنسان، وذلك كنايةٌ، وأصله من العار، لما يلحق في ظهوره من العار، أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورةً، ومن ذلك: العوراء: للكلمة القبيحة، وعورت عينه عوراً، وعارت عينه عورًا وعورتها، وعنه استعير: عورت البئر، وقيل للغراب: أعور لحدة نظره وذلك لعكس المعنى، لذلك قال الشاعر: وصحاح العيون يدعون عورا والعور والعورة: شقٌ في الشيء، كالثوب والبيت ونحوه، قال تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] أي: متخرقةٍ ممكنة لمن أرادها، ومنه يقال: فلانٌ يحفظ عورته، أي: خلله، وقوله تعالى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي: نصف النهار، وآخر النهار، وبعد العشاء الآخرة. وقوله: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: لم يبلغوا الحلم والمعاورة. قوله: (وبين وجه العذر في قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}، قال القاضي: أي: هم طوافون، وهو استئنافٌ لبيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه

وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت، لأدى إلى الحرج. وروي: أن مدلج بن عمروٍ- وكان غلاماً أنصارياً- أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الظهر إلى عمر رضي الله عنه ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم، وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية. وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي مرشد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دليلٌ على تعليل الأحكام. قوله: (نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا)، قيل: "لا" مزيدةٌ لتأكيد النهي، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] حملهم على ذلك أن عدم الدخول لا يجوز أن يكون منهياً، والمنهي الدخول، ومن ثم طرحها صاحب "المطلع" وقال: أن يدخلوا علينا. قلت: الوجه أن يقدر مضافاً ويكون مفعولاً له لقوله: "نهى آباءنا"، أي: لوددت أن الله عز وجل نهى هؤلاء عما هم عليه من الفعل القبيح إرادة أن لا يدخلوا علينا إلا بالإذن، ويجوز أن يكون مفعولاً له لقوله: لوددت، على تقدير اللام، يعني: لوددت أن ينهى لئلا يدخلوا علينا إلا بإذن، وحذف اللام مع "أن" جائز، وإن لم يكن فعلًا لفاعل الفعل المعلل، بخلافه في غيرها. قوله: (نزلت في أسماء بنت [أبي] مرثد)، بالثاء المثلثة، ويروى: "أبي مرشد" بالشين المعجمة، وفي "الاستيعاب" بالشين المعجمة.

قالت: إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحافٍ واحد. وقيل: دخل عليها غلامٌ لها كبير في وقتٍ كرهت دخوله، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالٍ نكرها. وعن أبي عمرٍو: (الحلم) بالسكون. وقرئ: "ثلاث عوراتٍ) بالنصب بدلاً عن {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}، أي: أوقات ثلاث عورات. وعن الأعمش: (عورات) على لغة هذيل. فإن قلت: ما محل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ}؟ قلت: إذا رفعت {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} كان ذلك في محل الرفع على الوصف. المعنى: هن ثلاث عورات مخصوصةٌ بالاستئذان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ثلاث عورات" بالنصب)، حمزة والكسائي وأبو بكر، والباقون: بالرفع. قوله: (أي: أوقات ثلاث عورات)، روى صاحب "المطلع"، عن صاحب النظم: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} بمعنى: ثلاثة أوقات، لأنها لو كانت على ظاهرها لوجب أن يكون الأمر واقعاً على ثلاث دفعات، فإذا جاوزها ارتفع الأمر، فيجوز الدخول بعدها، ويدل على أن المراد الأوقات قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} فإنها مفسرةٌ لقوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}. قوله: (وعن الأعمش: "عورات"، على لغة هذيل)، قالوا: إن كل "فعلةٍ" إذا كانت ساكنة الحشو صحيحةً تحرك في الجمع عينها إذا كانت اسماً، وإن كانت صفةً فتسكن، وإن كان عينها معتلًا فتسكن أيضاً، اسماً كان أو صفةً، إلا على مذهب هذيل، فإنهم يحركونها. وقال الزجاج: والإسكان أكثر، لثقل الحركة على الواو، يقال: طلحةٌ وطلحات، وجمرةٌ وجمرات، ويجوز في لوزة: لوزاتٌ، والأجود بالسكون.

وإذا نصبت لم يكن له محل، وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإذا نصبت- أي: "ثلاث عوراتٍ"- لم يكن له محل)، فإن قلت: ما هذا الاختصاص؟ لم لا يجوز أن يكون محل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} نصباً على أن يكون وصفاً لـ "ثلاث عوراتٍ"، وهو بدلٌ من {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} وأن يكون جملةً مؤكدةً إذا قدر: هن {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ}، على الابتداء والخبر؟ قلت: لهذا السؤال تصدى صاحب "التقريب" للتقرير بأن قال: إن حكم رفع الحرج وراءها مقصودٌ في نفسه، فإذا وصف به "ثلاث عوراتٍ" نصباً، وهو بدلٌ من {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} كان التقدير: ليستأذنكم في ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان، ويدفعه وجوهٌ مستفادةٌ من علم المعاني، أحدها: اشتراط تقدم علم السامع بالوصف، وهو منتف، إذ لم يعلمه إلا من هذا. وثانيها: جعل الحكم المقصود وصفاً للظرف، فيصير غير مقصود. وثالثها: أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصلٌ وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف، فيضع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع به فيزول الروافع، لأنه ابتداء تعليم، أي: هن ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان، وصفةٌ للخبر لا للظرف، ولم يتقيد أمر الاستئذان به، فليتأمل فإنه دقيقٌ جليل. تم كلامه. وقلت: الذي عندي- والله أعلم-: أن {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} إذا قرئ مرفوعاً كان خبر مبتدأٍ محذوفٍ، والجملة مقررةٌ لمعنى ما سبق فيصح جعل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} صفةً، لأن الجملة كما هي برمتها كلامٌ مقررٌ لمعنى ما سبق على طريقة الطرد والعكس لدلالة الكلام الأول على الأمر بالاستئذان في الأوقات المخصوصة بالمنطوق، ودلالة هذا الكلام عليه بالمفهوم، لأن رفع الجناح في غير هذه الأوقات يؤذن بثبوت الجناح في تلك الأوقات، وإليه الإشارة بقوله: "هن ثلاث عوراتٍ مخصوصةٍ بالاستئذان"، وإذا جعل "ثلاث عوراتٍ" وحده بدلاً من قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} ظرفاً مثله مبيناً لما قصد فيه من المعنى، وهو إظهار كمال الكراهة في الدخول بغير الاستئذان، لأن لفظ {عَوْرَاتٍ} أدل في الكراهة من السابق، نحوه قال الشاعر: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهل مسلما

خاصةً. فإن قلت: بم ارتفع {بَعْضُكُمْ}؟ قلت: بالابتداء، وخبره {عَلَى بَعْضٍ}، على معنى: طائفٌ على بعض، وحذف، لأن {طَوَّافُونَ} يدل عليه. ويجوز أن يرتفع بـ "يطوف" مضمراً لتلك الدلالة. [{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَاذِنُوا كَمَا اسْتَاذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 56]. {الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} أي: من الأحرار دون المماليك. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: يريد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجاء قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} مقرراً لذلك بالمفهوم صح واستقام وحصل أيضاً الطرد والعكس، وإليه أشار بقوله: "وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان"، وأما إذا وصف المبدل بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ولا ارتياب أن الصفة المخصصة مبينةٌ للمراد من الموصوف، فيكون المقصود من إجراء الكلام رفع الحرج من الدخول في غير الأوقات المذكورة، لا الأمر بالاستئذان في الأوقات المخصوصة، لأن البدل هو المقصود بالذكر، وكان خلفاً من القول، لأن المقصود الأولى: الاستئذان في الأوقات المخصوصة، ورفع الحرج في غير الأوقات تابعٌ له، لقول عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزلت عليه هذه الآيات، فظهر من هذا أن تأسيس صاحب "التقريب" كلامه على قوله: "أن حكم رفع الحرج مقصودٌ في نفسه" ضعيفٌ، وبناءه عليه الوجوه واهٍ. والله أعلم. قوله: ({الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ} أي: من الأحرار دون المماليك)، يريد {مِنْكُمُ} للبيان، فإن الأطفال يشمل الأحرار والمماليك فبين بقوله: {مِنْكُمُ} ليختص بالأحرار، يدل عليه قوله تعالى: {لِيَسْتَاذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ويحتمل أن تكون اتصاليةً، قال القاضي: واستدل به من أوجب الاستئذان للعبد البالغ على سيدته، وجوابه: أن المراد بهم: المعهودون الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم.

الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا} الآية [النور: 27]، والمعنى: أن الأطفال مأذونٌ لهم في الدخول بغير إذنٍ إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك، ثم خرجوا من حد الطفولة بأن يحتملوا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن. وهذا مما الناس منه في غفلة، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آيةٌ لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لأمر جارتي أن تستأذن علي. وسأل عطاء: أأستأذن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذكروا من قبلهم)، يعني: لابد للظرف الذي وقع صلةً للذين من متعلق، فإذا جعلت القرينة قوله: وإذا بلغ الأطفال، فالمعنى: الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وإذا جعلت سياق الآيات فالمعنى: الذين ذكروا من قبلهم، أي: في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا .... } [النور: 58]. قوله: (أن يفطموا)، الأساس: ومن المجاز: فطمته عن عادة السوء، ولأفطمنك عما أنت عليه. وفي الحديث" "الإمارة حلوة الرضاع مرة الفطام". قوله: (وإني لآمر جارتي)، أي: زوجتي. الجوهري: امرأة الرجل: جارته، قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقه وتمامه: فإن أمور الناس غادٍ وطارقه

على أختي؟ قال: نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية. وعنه: ثلاث آياتٍ جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فقال ناس: أعظمكم بيتاً، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]. وعن ابن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم. وعن الشعبي: ليست منسوخةً، فقيل له: إن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان. وعن سعيد بن جبير: يقولون: هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها. فإن قلت: ما السن التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعظمكم بيتاً)، النهاية: بيت الرجل: داره وقصره وشرفه، قال العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق أراد شرفه في أعلى خندق بيتاً، والمهيمن: الشاهد، أي: الشاهد بفضلك، والنطق: جمع نطاق، وهي أعراضٌ من جبالٍ بعضها فوق بعض، أي: نواح وأوساطٌ منها، شبهت بالنطق التي يشد بها أوساط الناس ضربه مثلاً في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال، يقول: حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكانٍ من نسب خندق. قوله: (الله المستعان)، وهي كنايةٌ عن عجزه عن إقامة المعروف والنهي عن المنكر، لتغير الزمان وفساد الإخوان.

أبو حنيفة: ثماني عشرة سنةً في الغلام، وسبع عشرة في الجارية، وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما. وعن علي رضي الله عنه: أنه كان يعتبر القامة، ويقدره بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله: ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار واعتبر غيره الإنبات. وعن عثمان رضي الله عنه: أنه سئل عن غلام، فقال: هل اخضر إزاره؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما زال مذ عقدت يداه)، البيت، يرثي الفرزدق يزيد بن المهلب. وسما: أي: علا وبلغ. الرفعة. وأدرك أي: لحق، ويحتمل أن يراد بخمسة الأشبار: ارتفاع قامته، وأن يراد بها القبر. قال: عجباً لأربع أذرع في خمسةٍ ... في جوفه جبلٌ أشم كبير يقول: لم يزل مذ عقد إزاره، أي: بلغ سن التمييز، ولبس السراويل إلى أن ارتفع، وبلغ مبلغ الرجال، أو إلى أن مات ودفن في خمسة أشبارٍ من الأرض، كان أميراً، والاستشهاد على المعنى الأول، وبعده: يدني خوافق من خوافق تلتقي ... في ظل معتبط الغبار مثار الخوافق: الرايات، وإنما يريد به: كان يقود الجيوش إلى الجيوش ويحضر الحروب، ومعتبط الغبار: يريد مكاناً لما يقاتل فيه قبله، ولم ينزله غبارٌ حتى أثاره. قوله: (هل اخضر إزاره؟ )، أي: نبت شعر عانته؟ أسند الاخضرار إلى الإزار على المجاز، لأنه مما اشتمل عليه الإزار.

[{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 60]. القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد، لكبرها. {لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}: لا يطمعن فيه. والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة، كالملحفة والجلباب: الذي فوق الخمار، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}: غير مظهرات زينةً، يريد: الزينة الخفية التي أرادها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]، أو: غير قاصداتٍ بالوضع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القاعد: التي قعدت عن الحيض)، الأساس: قعد عن الأمر: تركه، وقعد له: اهتم به، ونخلةٌ قاعدة: لم تحمل. قال ابن السكيت رحمه الله تعالى: لم تدخلها الهاء لاختصاصها بالمرأة، فإذا أردت القعود بمعنى الجلوس قلت: قاعدةٌ، وقيل: القاعد: على طريق النسبة، كالحائض والطامث، وجمعت على فواعل، لأن التاء مقدرةٌ فيها، لأن الصفة إذا كانت مدكرةً لا تجمع على فواعل، والفوارس: شاذ. قوله: (والجلباب: الذي فوق الخمار)، النهاية: الجلباب: الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، وجمعه جلابيب. قوله: (يريد: الزينة الخفية التي أرادها في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، قلت: فعلى هذا التعريف متعين ليشير به إلى ما عهد، لكن هذا مطلقٌ وذاك مقيد، فيحمل المطلق على المقيد إذا كان عن سببٍ واحدٍ ليصح ما قال. ومعنى {مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}: قاصداتٌ بالوضع التبرج، على تضمين التبرج معنى القصد بوساطة الباء، فحينئذٍ يكون معناه: غير قاصداتٍ بالوضع إظهار ما يجب إخفاؤه من الزينة فيتفق المعنيان. الانتصاف: لم يذكر الزمخشري أن هذا التركيب من أي بابٍ هو؟ وعندي أنه من باب: على لا حبٍ لا يهتدى بمناره

التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه. والاستعفاف من الوضع خيرٌ لهن. لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب، بعثاً منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها، كقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280]. فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: تكلف إظهار إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارج: لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. وبدا وبرز بمعنى: ظهر، من أخوات: تبرج وتبلج، كذلك. [{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَاكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 61]. كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهن وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبةٌ في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج، وكرهوا أن يكون أكلاً بغير حقٍّ، لقوله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لا منار فيه فيهتدى به. كذا هاهنا لا زينة لهن فيتبرجن بها، وإذا كان استعفاف هؤلاء خيراً لهن فما ظنك بذوات الزينة؟ وأبلغ من ذلك جعله عدم وضع الثياب من القواعد من الاستعفاف، إيذاناً بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد، فكيف بالكواعب؟ وقلت: وهذا معنى حسنٌ دقيق.

تعالى: {وَلَا تأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، فقيل لهم: ليس على الضعفاء {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} - يعني: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين- حرجٌ في ذلك. وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة، فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم، ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله وهو لا يشعر، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحةٍ تؤذي أو جرح يبض أو أنفٍ يذن، ونحو ذلك. وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، وكانوا يتحرجون. حكي عن الحارث بن عمرو: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: عليكم وعلى من في مثل حالكم)، يريد أن أنفسكم في الآية عبارةٌ عن أمثال الرجل في عقله القرابة، كما قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] في الوجه. روى محيي السنة عن مجاهدٍ: وكان أهل الزمانة يدخلون على الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت من سماه الله تعالى في هذه الآية، وكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام، ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره؟ فأنزل الله هذه الآية. قوله: (قزازة)، الجوهري: التقزر: التنطس والتباعد من الدنس. وقد تقزز من أكل الضب وغيره، وهو رجل قز بالضم، والفتح والكسر لغات. قوله: (أو جرحٍ يبض، أو أنفٍ يذن)، الجوهري: بض الماء يبض: إذا سال قليلاً قليلاً. الذنين: مخاطٌ يسيل من الأنف، والذنان بالضم: مثله.

أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيدٍ في بيته وماله، فلما رجع رآه مجهوداً، فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، لم يحل أن آكل من مالك، فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرجٌ فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. وهذا كلامٌ صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرجٌ في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدةٍ منهما منفيٌ عنها الحرج. ومثال هذا: أن يستفتيك مسافرٌ عن الإفطار في رمضان، وحاجٌ مفردٌ عن تقديم الحلق على النحر، فقلت: ليس على المسافر حرجٌ أن يفطر، ولا عليك يا حاج، أن تقدم على النحر. فإن قلت: هلا ذكر الأولاد! قلت: دخل ذكرهم تحت قوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ}، لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث: "إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه". ومعنى {مِنْ بُيُوتِكُمْ}: من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ولأن الولد أقرب ممن عدد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى. فإن قلت: ما معنى {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا كلامٌ صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرجٌ في القعود عن الغزو)، أي: يصح العطف لاشتراكهما في نفي الحرج. وذلك أن من شرط العطف أن يشتركا في اتحاد تصور من تصوراتهما، يعني: في عطف قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} على {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} بعدُ، لكون رفع الحرج عن الأعمى سببه غير السبب الذي يأكل من تلك البيوت، لكن إذا نظر إلى أن الجملتين يجمعهما معنى نفي الحرج يصح العطف، روى محيي السنة عن الحسن أنه قال: نزلت رخصةً لهؤلاء في التخلف عن الجهاد. وقال: تم الكلام عند قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، وقوله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كلامٌ منقطعٌ عما قبله.

قلت: أموال الرجل إذا كان له عليها قيمُ ووكيل يحفظها: له أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح: كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ: (مفتاحه). فإن قلت: فما معنى {أَوْ صَدِيقِكُمْ}؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحداً وجمعاً، وكذلك الخليط والقطين والعدو، يحكى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أموال الرجل إذا كان له عليها قيم)، أي: "ما" عبارةٌ عن الأموال، وما وكلتم بحفظه فهو عطفٌ على "بيوت"، و"من": لابتداء الغاية، والمعنى: ليس عليكم جناحٌ أن يبتدئ أكلكم من شيءٍ تقومون بحفظه من بستانٍ أو ما أشبه، فيباح أكل ثمرة البستان ولبن الماشية. وملك المفتاح كنايةٌ عن كون الشيء تحت يدي الشخص وتصرفه على الوجه الآتي، وهو قوله: "وقيل: بيوت المماليك"، {مَا مَلَكْتُمْ}: عطفٌ على المضاف إليه، و"ما" استعملت في العقلاء على إرادة الوصفية، وهي الملكة والمملوكية. قوله: (وقرئ: "مفتاحه")، قال ابن جني: وهي قراءة قتادة، وهو جنسٌ وإن كان مضافاً، وقد جاء قولهم: قد منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت مصر إردبها. قوله: (والصديق يكون واحداً وجمعاً)، أي: المراد بـ {صَدِيقِكُمْ} هنا الجمع، الانتصاف: قال الزمخشري في سر إفراده في {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]: أفرده دون الشافعين تنبيهاً على قلة الأصدقاء، فإن الإنسان قد يحتمي له ويشفع من لا يعرفه، ويجوز أن يراد الإفراد، ويكون ذلك سره. والصديق هو: الذي يوافقك في سره وعلنه. الجوهري: الصداقة: الخلة، والمصادقة: المخالة. رجلٌ صديق. والقطين: الخدم، وقطين الدار: حسن السكن، وقيل: القطين: جمعٌ، مثل غازٍ وغزي، وعازبٍ وعزيب. قال زهير:

عن الحسن: أنه دخل داره وإذا حلقةٌ من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً، وضحك، وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم. يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائبٌ فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك. وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات، فقالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل قوله: (فتهللت أسارير وجهه)، الجوهري: السرر: جمع أسرار الكف والجبهة، وهي خطوطها، وجمع الجمع أسارير. قوله: (وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه)، وروى حجة الإسلام في "الأحياء": جاء فتحٌ الموصلي إلى منزل أخٍ له، وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه، وأخرج حاجته، فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرةٌ لوجه الله تعالى، سروراً بما فعل. قوله: (وطرح الحشمة)، أبو زيد: حشمت الرجل وأحشمته بمعنى، وهو أن يجلس إليك فتؤذيه وتغضبه. ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته، والاسم الحشمة، وهو الاستحياء، والغضب أيضاً.

وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدم إليه طعامٌ فاستأذن صاحبه في الأكل منه. {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي: مجتمعين أو متفرقين. نزلت في بني ليث بن عمرٍو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، فربما قد منتظراً نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورةً. وقيل: في قومٍ من الأنصار: إذا نزل بهم ضيفٌ لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} من هذه البيوت لتأكلوا فبدئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابةً {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: ثابتةً بأمره، مشروعةً من لدنه. أو: لأن التسليم والتحية طلب سلامةٍ وحياةٍ للمسلم عليه والمحيي من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب، لأنها دعوة مؤمنٍ لمؤمن يرجى بها من الله زيادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أكل ضرورةً)، تمسكاً بما روي: "شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده". والوعيد إنما يتوجه لمن باشر الخصال الثلاث دون الإفراد بالأكل، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] الآية. وعن بعضهم: في الآية دليلٌ على جواز المناهدة وهي المعاطاة والمناهضة، وهو أن يشتري أحدهم لحماً والآخر خبزاً. وإليه الإشارة بقوله: "وقالوا إذا دل ظاهر الحال على رضي المالك". قوله: (أو: لأن التسليم والتحية طلب سلامة)، فعلى هذا {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلقٌ بقوله: {تَحِيَّةً} صلةٌ لها، ومن ثم قال: "والمحيا من عند الله". وقال القاضي: فإنها طلبٌ للحياة، وهي من عنده. وعلى الأول كان ظرفاً مستقراً صفةً لتحية، ولهذا قال: "مشروعةً من لدنه".

الخير وطيب الرزق. وعن أنس قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين- وروي: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيءٍ كسرته: لم كسرته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: "ألا أعلمك ثلاث خصالٍ تنتفع بها؟ " قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال: "متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين". وقالوا: إن لم يكن في البيت أحدٌ فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، وانتصب {تَحِيَّةً} بـ "سلموا"، لأنها في معنى تسليماً، كقولك: قعدت جلوساً. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن أنسٍ قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين)، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن أنسٍ قال: خدمت النبي عشر سنين، والله ما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا؟ وفي رواية لمسلم: خدمت تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب علي شيئاً قط. قوله: (صلاة الأبرار الأوابين)، روينا عن مسلم، عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أهل قباء وهم يصلون، فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال". النهاية: الأوابين: جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة، وقيل: هو المطيع. ,قيل: المسبح، يريد صلاة الضحى عند ارتفاع النهار وشدة الحر. قال القاضي: كرر الله قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ} ثلاثاً لمزيد التأكيد، وتفخيم الأحكام المختتمة به، وفصل الأوليين بما هو المقتضى لذلك، وهذا بما هو المقصود منه، فقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: الحق والخير في الأمور.

[{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَاذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاذَنُوكَ لِبَعْضِ شَانِهِمْ فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 62]. أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله بغير إذنه إذا كانوا معه على أمرٍ جامع، فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بـ {إِنَّمَا}، وإيقاع "المؤمنين" مبتدأً مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالتشبيب له)، النهاية: في حديث أم معبدٍ: فلما سمع حسان شعر الهاتف شب يجاوبه أي: ابتدأ في جوابه، من تشبيب الكتب، وهو الابتداء بها، والأخذ فيها، وليس من التشبيب في الشعر وهو ترقيقه بذكر النساء، يريد أن قوله: {آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تمهيدٌ لقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} على طريقة: أعجبني زيدٌ وكرمه، وأصله: إنما المؤمنون الذين إذا كانوا معه، فجعله تمهيداً لهذا المعنى تفخيماً له، وتعظيماً لمجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من باب الإيمان بالله ورسوله. قوله: (وإيقاع "المؤمنين" مبتدأ)، يعني: عرف المبتدأ تعريف جنس، وأوقع الخبر معرفاً موصولاً مشتملاً على صلةٍ فيها ذكر الإيمانين على منوال: أنا أبو النجم وشعري شعري فالمعنى: المؤمنون هم الذين اتصفوا بما يستحقون أن يسموا مؤمنين حقاً، ولما كان ذكر الإيمان بالله ورسوله توطئةً لذكر ما بعده، رجع المعنى إلى: إنما المؤمنون: الكاملون الذين استحقوا أن يسموا مؤمنين هم: الذين إذا كانوا معه في أمرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ..

عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً، حيث أعاده على أسلوبٍ آخر، وهو قوله: {الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وضمنه شيئاً آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً. ومعنى قوله: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَاذِنُوهُ}: لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له؟ والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عقبه بما يزيده توكيداً [وتشديداً]، حيث أعادته على أسلوبٍ آخر)، يعني: لما أراد أن يكرر هذا المعنى توكيداً وتقريراً، أعاد المعنى وقلبه، فجعل معنى ما تضمن به المسند مسنداً إليه، وما تضمن به المسند إليه مسنداً، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. فأفاد الأول حصر المؤمنين في المستأذنين، والثاني عكسه، تعريضاً بحال المنافقين، وتسللهم لواذاً، كما قال: "وما اكتفى بذلك، بل أوقع أولئك خبراً، وعقبه ذكر الإيمانين، ليؤذن بأن أولئك محقوقون بأن يسموا مؤمنين لما اكتسبوا من صفة الاستئذان، واجتنبوا من التسلل الذي هو من صفة المنافقين، وإليه الإشارة بقوله: "جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين". قوله: (ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم؟ )، يعني: لابد من قيد: "ويأذن لهم"، لأن قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَاذَنُوكَ} مترتبٌ عليه بالفاء، ومعلقٌ به إذنه. قوله: (فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز)، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون إسناداً مجازياً، لأن صاحب الأمر يجمع الناس لأمره وشأنه، فوصف بصفة من هو بسببه، وثانيهما: أن يكون استعارةً مكنية، حيث شبه بإنسانٍ خطيرٍ يجمع الناس لشأنه، نحوه قيل في قوله: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}. الراغب: الجمع: ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعته فاجتمع، قال تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي: على أمرٍ له خطرٌ اجتمع لأجله الناس، فكأن

نحو مقاتلة عدو، أو تشاورٍ في خطب مهم، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف، وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ: (أمرٍ جميع). وفي قوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أنه خطبٌ جليل لابد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمر نفسه جمعهم، ويقال للمجموع: جمعٌ وجميعٌ وجماعةٌ، والجماع يقال في أقوام متفاوتة، وأجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جميعاً يتوصل إليه بالفكرة، نحو: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، وجميعٌ، وأجمع وأجمعون يستعمل لتأكيد الاجتماع على الأمر، وأما أجمعون فوصف به المعرفة، ولا يجوز نصبه على الحال، نحو قوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، {وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]، وأما جميع فقد ينصب على الحال نحو قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، ومسجد الجامع، أي: الأمر الجامع أو الوقت الجامع، واستجمع الفرس جرياً، وضربه بجمع كفه: إذا جمع أصابعه وضربه. قوله: (أو تماسح في حلف)، التماسح: إما باليد كالمبايعة، أو بما يؤكد به الحلف، كما روى صاحب "النهاية" أن بني عبد منافٍ أخرجت جفنةً مملوءةً طيباً فوضعتها لأحلافهم، وهم أسدٌ وزهرة وتيمٌ، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيدهم فيها، وتعاقدوا. هذا هو المراد من كلام المصنف. قوله: (أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه)، عطفٌ على "الأمر الجامع: الذي يجمع له الناس"، وعلى هذا الناس يجتمعون له من غير تطلب، نحو الأعياد والجمعة، أو نحو نزول نازلةٍ وحادثة، ولهذا قال في الوجه الأول: "يجمع له الناس". قوله: (وقرئ: "أمرٍ جميع")، المطلع: جميعٌ: بمعنى جامع، أو مجموعٌ له. قوله: (وفي قوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}، يعني: في تخصيص هذا اللفظ

ذوي رأي وقوة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه، ويشعث عليه رأيه، فمن ثم غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله: {لِبَعْضِ شَانِهِمْ}. وذكر الاستغفار للمستأذنين: دليلٌ على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر الخندق، وكان قومٌ يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم: يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلةٍ من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه. [{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 63]. إذا احتاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اجتماعكم عند لأمرٍ فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي. أو: لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمى بعضكم بعضاً، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم، وفقيركم غنيكم، يسأله حاجةً فربما أجابه وربما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدمج معنى خطر الأمر وصعوبته، لأن اجتماع أمثالهم لا يكون في أمرٍ هين، وفي تعقيب ذلك بالاستغفار تتميمٌ لمعنى الكراهة منه صلوات الله عليه في إذنه في قوله: {فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} لما عسى أن يأذن وهو غير مسامح فيه، وإليه الإشارة بقوله: "إن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب".

رده، فإن دعوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسموعةٌ مستجابة. {يَتَسَلَّلُونَ}: ينسلون قليلاً قليلاً. ونظير تسلل: تدرج، وتدخل. واللواذ: الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا. يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. و {لِوَاذًا} حال، أي: ملاوذين. وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه. وقرئ: (لواذًا) بالفتح. يقال: خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {يَتَسَلَّلُونَ}: [ينسلون] قليلاً قليلاً)، الراغب: سل الشيء من الشيء: نزعه، كسل السيف من الغمد، وسل الشيء من البيت على سبيل السرقة، وسل الولد من الأب، ومنه قيل للولد: سليلٌ، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، أي: من الصفو الذي يسل من الأرض، قيل: السلالة: كنايةٌ عن النطفة تصور دونه صفو ما يحصل منه، والسل: مرضٌ ينزع به اللحم والقوة، وقد أسله الله. قوله: (واللواذ: الملاوذة)، وأنشد صاحب "المطلع" قول الطرماح: تلاوذ من حر كأن أواره ... يذيب دماغ الضب، فهو خدوع أوار الشمس والنار: حرها. خدع الضب في جحره: دخل. قال الفراء: لواذاً: مصدر لاوذ، ولو كان مصدراً للذت لكان لياذاً، كما تقول: قمت إليك قياماً وقاومتك قواماً. الراغب: {لِوَاذًا} من قولهم لاوذ يلاوذ: إذا استتر به، أي: يستترون فيلتجؤون بغيرهم، واللوذ: ما يطيف بالجبل.

وخالفه عن الأمر، إذا صد عنه دونه. ومعنى {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}: الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين، وهم المنافقون، فحذف المفعول، لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خالفه إلى الأمر)، قال: خالفته إلى الماء: إذا وردته وصدر عنه، وخالفته عن الماء: إذا صدرت عنه وورد هو. قوله: (فحذف المفعول، لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه)، يعني: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} متضمنٌ معنى يصدون، ولذلك عدي بعن وصد متعد يستدعي مفعولاً به، وهو ما قدره "دون المؤمنين" وترك ذكره، لأن الغرض تقبيح أمر المخالف، وتعظيم أمر المخالف عنه، فذكر الأهم، وترك ما لا اهتمام به، فدون بمعنى: قدام، كقول الأعشى: تريك القذى من دونه وهي دونه والأمر واردٌ على عموم المجاز، ولذلك قال: "عن طاعته ودينه"، قال القاضي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، ويدينون سمتاً خلاف سمته، واستدل به على أن الأمر للوجوب، فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتضٍ لأحد العذابين. وقال ابن الحاجب: عدى {يُخَالِفُونَ} بـ "عن" لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد، كأنه قال: الذي يحيدون عن أمره بالمخالفة، وهو أبلغ من إذا قيل: يخالفون أمره، وقد استدل به على أن الأمر يقتضي الوجوب، لما تضمنته الآية من الوعيد على المخالفة، فإن قلت: الآية متضمنةٌ للأمر بالحذر لمن يخالف، وحذر المخالف العذاب لا يفيده بعد المخالفة لحصول السبب المقتضي له، وقبلها لا يحذر عذاباً؟ قلت: المعنى:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فليحذر الذين وقعت منهم المخالفة ذلك، فيستدركوا ما فعلوه بالتوبة، والرجوع إلى الله تعالى فيكون ذلك سبباً لدفع العذاب عنهم. تم كلامه. وقال محيي السنة في "المعالم": {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، قيل: معناه: يعرضون عن أمره، وينصرفون عنه بغير إذنه. وقلت: هذا هو التفسير الذي عليه التعويل، ويساعد عليه النظم والتأويل، لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن، واحد الأمور، وبيانه: أن ما قبله حديثٌ في الأمر الجامع، وهو الأمر الذي يجمع له الناس، ومدح من لزم مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذهب عنه، وذم من فارقه بغير الإذن، والاستغفار في حق من فارق بالإذن، لأن قوله تعالى: {فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} يؤذن أن القوم ثلاث فرق: المأذون في الذهاب بعد الاستئذان، والمتخلف عنه، ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه ولم يذهب، وهم السابقون الكاملون، أو يتسلل لواذاً، وهم المنافقون، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} مترتبٌ على القسم الثالث على سبيل الوعيد، والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة، وقد أقيم المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق علةً لاستحقاقهم فتنة الدارين. وروى الإمام عن الأخفش، أن "عن": صلةٌ، وقال غيره: معناه: يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته، فدخلت "عن" لتضمين المخالفة معنى الإعراض، كذا في "الوسيط" و"المطلع". وأما استدلال الأصوليين بهذه الآية على وجوب الأمر فهو إ نما يصح ويتم إذا جعل قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} تذييلاً للآيتين جميعاً، ويراد بالأمر ما يشمل

الضمير في {أَمْرِهِ} لله سبحانه، أو للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: عن طاعته ودينه. {فِتْنَةٌ}: محنةٌ في الدنيا، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وعن ابن عباس: {فِتْنَةٌ}: قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطانٌ جائر. [{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 64]. أدخل {قَدْ}، ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن "قد" إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما"، فوافقت "ربما" في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله: فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود ونحوه قول زهير: أخي ثقةٍ لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله والمعنى: أن جميع ما في السماوات والأرض مختصةٌ به خلقاً وملكاً وعلماً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمرين معاً: الشأن، والطلب، كما آذن به كلام المصنف وأشرنا إليه. أما معنى الشأن فقد أومأ الله عز وجل إليه بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}، وأما معنى الطلب فقد أشير إليه بقوله: {فَاذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}. قوله: (فإن تمس مهجور الفناء)، البيت، الوفود: طلاب الحاجات. يقول: إن مت وصرت مهجور الساحة، فربما ازدحمت الوفود فيما مضى من حياتك على بابك.

فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق جزائهم. والخطاب والغيبة في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات. ويجوز أن يكون {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} عاماً، {يُرْجَعُونَ} للمنافقين. والله أعلم. عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسناتٍ بعدد كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مضى وفيما بقي". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف تخفى [عليه] أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ )، هذا معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا}، وقوله: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} لأنه قال فيه: "وهم المنافقون"، وهذا أيضاً يقوي بيان النظم السابق. قوله: (ويجوز أن يكون {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} عاماً)، أي: في المنافقين والمؤمنين، أما في المؤمنين وأحوالهم فمن قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وأما في المنافقين وخبثهم فمن قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}، فيكون تسليةً ووعداً بالنسبة إلى المؤمنين، وتهديداً بالنسبة إلى المنافقين، وتخويفاً في الدنيا، ووعيداً في العقبى خاصاً في حق المنافقين، لأن قوله: {فَيُنَبِّئُهُمْ} يأبى أن ينزل على المؤمنين، ولذلك غير التغليب في الخطاب بأنتم إلى الغيبة في {فَيُنَبِّئُهُمْ}. تمت السورة والله الموفق للصواب * * *

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية، سبعون وسبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم [{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 1 - 2]. البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها: {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54]، وفيه معنيان: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الفرقان مكيةٌ، وهي سبعون وسبع آياتٍ بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (البركة: كثرة الخير وزيادته)، الجوهري: البركة: النماء والزيادة، وتبارك الله، أي: بارك، مثل قاتل، وتقاتل، إلا أن "فاعل" يتعدى، و"تفاعل" لا يتعدى. الراغب: أصل البركة: صدر البعير، وبرك البعير: ألقى بركة، واعتبر منه معنى اللزوم، وبراكاء الحرب وبروكاؤهما: للمكان الذي يلزمه الأبطال، وابتركت الدابة: وقفت وقوفاً كالبروك، وسمي محبس الماء بركةً. والبركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، سمي بذلك

تزايد خيره، وتكاثر. أو: تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما وسمي به القرآن، لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملةً واحدة، ولكن مفروقاً، مفصولاً بين بعضه وبعضٍ في الإنزال. ألا ترى إلى قومه: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]؟ وقد جاء الفرق بمعناه، قال: ومشركيٍّ كافرٍ بالفرق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك: ما فيه ذلك الخير، وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] تنبيهاً على ما يفيض منه في الخيرات الإلهية. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجهٍ لا يحصى ولا ينحصر، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسةٍ: هو مبارك، وفيه بركة. ولنسبة هذه الصفة إلى جنابة الأقداس، وهل كانت من الصفات الإضافية والذاتية، قال: "تزايد خيره وتكاثر، أو: تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله". وعلى المعنى الأول يقال: تبارك الذي نزل هذا القرآن الكريم. الفرقان: الفارق بين الحلال والحرام، الذي عمت منافعه، وعمت عوائده، ومنه قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10] وعلى الثاني يقال: تعاظم في ذاته، وتبارك في صفاته الذي نزل هذا القرآن العظيم الفرقان بين الحق والباطل، الذي بذت فصاحته نطق كل ناطق، وشقت بلاغته غبار كل سابق، ومنه قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61]، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. وقال القاضي: البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه على إنزال القرآن لما فيه من كثرة الخير، أو لدلالته على تعاليه. قوله: (ومشركي كافرٍ بالفرق)، الفرق بضم الفاء: بمعنى الفرقان، كالخُسْرِ بمعنى

وعن ابن الزبير: (على عباده)، وهم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمته، كما قال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10]، {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]. والضمير في {لِيَكُونَ} لـ {عَبْدِهِ} أو لـ {الْفُرْقَانَ}. وتعضد رجوعه إلى "الفرقان" قراءة ابن الزبير. {لِلْعَالَمِينَ}: للجن والإنس {نَذِيرًا}: منذراً، أي: مخوفاً. أو: إنذاراً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخسران، والياء في "مشركي": للنسبة، زيدت للمبالغة، كأحمري في أحمر، وقال: في ياء النسب زيادة قوةٍ في الفعل، كالخصوصية في الخصوص. قوله: (وعن ابن الزبير: على عباده)، قال ابن جني: وجهه أن الإنزال وإن كان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لما كان موصلاً له إلى العباد ومخاطباً به لهم، صار كأنه منزلٌ عليهم، ولذلك كثر فيه خطاب العباد بالأمر والنهي لهم، والترغيب والترهيب المصروف إليهم. قوله: (وتعضد رجوعه إلى "الفرقان" قراءة ابن الزبير)، يعني: "نزل الفرقان على عباده"، لأن الضمير المفرد لا يصح عوده إلى الجمع، ولابد له من الرجوع إليه، فتعين أن يكون فرقاناً، ويعضد رجوعه إلى العبد قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا} [يس: 5 - 6]. وقلت: وفي اختصاص النذير دون البشير سلوك طريق براعة الاستهلال، والإيذان بأن هذه السورة مشتملةٌ على ذكر المعاندين المتخذين لله ولداً وشريكاً، الطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا المعنى يؤيد تأويل {تَبَارَكَ} بقوله: "تزايد عن كل شيءٍ وتعالى عنه"- لإفادته صفة الجلال والهيبة- وإيذانه بتعاليه عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولذلك جعل قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} توطئة وتمهيداً لقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وأردفه بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لما مر مراراً أن كونه بديع السموات والأرض، ومفطرهما، ومالكهما، منافٍ لاتخاذ الولد والشريك، قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} الآية [الأنعام 101].

كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]. {الَّذِي لَهُ} رفعٌ على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ}، أو رفع على المدح، أو نصبٌ عليه. فإن قلت: كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت: ما فصل بينهما بشيء، لأن المبدل منه صلته {نَزَّلَ}، و {لِيَكُونَ} تعليلٌ له، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به. فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}؟ كأنه: وقدر كل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الَّذِي لَهُ} رفعٌ على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ})، وهذا أوجه من أن يكون نصباً أو رفعاً على المدح، لأن من حق صلة الموصول أن تكون معلومةً عند المخاطب، وكونه تعالى نزل الفرقان على عبده للإنذار لم يكن معلوماً عند المعاندين، فأبدل بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بياناً وتفسيراً، وليس كذلك المدح. وقال القاضي: الجملة وإن لم تكن معلومةً، لكنها- لقوة دليلها- أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلةً. قوله: (في الخلق معنى التقدير)، الراغب: الخلق أصله: التقدير المستقيم، ويستعمل في: إبداع الشيء من غير أصلٍ واحتذاء، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 101]، ويستعمل في: إيجاد الشيء من الشيء، نحو: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [النحل: 4]، وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله تعالى، ولهذا قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله لغيره في بعض الأحوال، قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وأما قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فيوهم أنه يصح أنه يوصف غيره بالخلق، ومعناه: أحسن المقدرين. الأساس: خلق الخراز الأديم، والخياط الثوب: قدره قبل القطع، وقدر الشيء بالشيء: قاسه وجعله على مقداره. ومن المجاز: خلق الله الخلق: أوجده على تقديرٍ أوجبته الحكمة.

شيء فقدره! قلت: المعنى: أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعًى فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوانٍ وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدابير، فقدره لأمر ما ومصلحةٍ لما قدر له غير متجافٍ عنه. أو: سمي إحداث الله خلقاً، لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظرٍ إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاد لم يوجده متفاوتاً. وقيل: فجعل له غايةً ومنتهًى. ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمدٍ معلوم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجواب الأول مبنيٌ على أن الخلق على الحقيقة، فالواجب أن يفسر قوله: {فَقَدَّرَهُ} بما يخالفه، وهو: ما قاله وهيأه لما يصلح له، وهو قول الزجاج: خلق الله الحيوان وقدر له ما يصلحه ويقيمه. والثاني مفرعٌ على المجاز، وذلك أن إحداث الله تعالى الشيء لما لم يكن إلا على وجه التقدير، لأنه حكيمٌ، سمي مطلق إحداثه بالخلق لما فيه معنى التقدير. والفرق بين الوجهين: أن التقدير والتسوية على الأول مقصودٌ بذكر الخلق، وعلى الثاني غير مقصود، لكن لازمٌ له، ولذلك قال أولاً: مراعًى فيه التقدير، فالفاء على الأول: للتعقيب مع الترتيب، وعلى الثاني: للتعقيب مطلقاً، نحو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، فإن الفاء: للتعقيب. المعنى: فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم من قبل أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم فيكون المعنى: فتوبوا فأتبعوا التوبة القتل تتمةً لتوبتكم.

[{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} 3]. الخلق بمعنى الافتعال، كما في قوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، والمعنى: أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيءٍ من أفعال الله ولا من أفعال العباد، حيث لا يفتعلون، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير، {وَلَا يَمْلِكُونَ} أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضررٍ عنها أو جلب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، قال فيه: "واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهةً وشركاء لله عز وجل، أو سمى الأصنام: إفكاً، وعملهم لها، ونحتهم: خلقاً للإفك"، يعني: مقام إنكار اتخاذ الأنداد من دون الله يقتضي تحقير شأن الأصنام، وهذا المعنى أدخل من الظاهر فيما قصد منه كما قصده الخليل عليه السلام في الآية المستشهد بها، ولما فسرت القرينة الثانية بذلك فسرت الأولى بما يشاكلها، وفيه إثبات الخالقية للعبد، وكذا في قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}، ولو أجراهما على الظاهر كان أبعد من التعسف، واتفقت القرائن إلى آخر الآية في النفي عنها ما هو ثابتٌ للمعبود بالحق لأن المعبود ينبغي أن يكون خالقاً ومدبراً ومثيباً ومعاقباً، ويدل على أن النفع والضر ليس إلا إلى الله قوله تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، ولا يقتضي هذا المقام من المبالغة ما يقتضيه ذلك، وإن شئت فجرب التأكيدات فيه من: "إنما" و"إن" والتكرير وغيرها، فهذا مقام الشكاية، وذلك مقام التوبيخ والتقريع.

نفع إليها وهم يستطيعون، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز. [{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 4]. {قَوْمٌ آَخَرُونَ} قيل: هم اليهود. وقيل: عداسٌ مولى حويطب بن عبد العزى، ويسارٌ مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي. قال ذلك النضرب بن الحارث بن عبد الدار. "جاء" و"أتى" يستعملان في معنى فعل، فيعديان تعديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلماً، كما تقول: جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه. [{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: ما سطره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وأسفندياذ، جمع: إسطارٍ أو أسطورة، كأحدوثة، {اكْتَتَبَهَا}: كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ: (اكتتبها) على البناء للمفعول، والمعنى: اكتتبها كاتبٌ له، لأنه كان أميًا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام، فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه كاتبٌ، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد يكون على معنى: وردوا)، أي: استعمل "جاء" بمعنى "ورد" قليلاً، ومنه: جئت المكان، أي: وردته. واختير ذلك لبلاغته ووجازته، إذ لو قيل: فقد ظلموا في ذلك وقالا قولاً زوراً، لأطال وفاتت الاستعارة، وقوله: "ويجوز أن يحذف الجار"، مشعرٌ بأن الوجه الأول مبنيٌ على التضمين، والثاني على المجاز.

ثم بني الفعل للضمير الذي هو "إياه"، فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت: كيف قيل: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أراد اكتتابها، أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أميٌ فهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم بني الفعل للضمير الذي هو "إياه"، فانقلب مرفوعاً مستتراً)، قال صاحب "الفرائد": لقائلٍ أن يقول: إن كان قوله: "له" مفعولاً بحرف، وجب أن لا يجوز بناء الفعل له مع المفعول به المتعدى إليه بغير حرف، وإن كان مفعولاً له، وهو الوجه، لأن المعنى اكتتبها كاتبٌ له، أي: لأجله، وجب أن لا يبني له. أما الأول فلأنه قال في "المفصل": "للمفعول به المتعدى إليه بغير حرفٍ من الفضل على سائر ما لا يبنى له"، إلى آخر الفصل. وأما الثاني فلأنه قال فيه: "المفاعيل سواءٌ في صحة البناء له إلا المفعول الثاني من باب "علمت"، والثالث من باب "أعلمت"، والمفعول معه والمفعول له". وقلت: يمكن أن يقال: إنه مفعولٌ بحرف، ولما حذف الجار أوصل الفعل، وأقيم مقام الفاعل على القلب للمبالغة، ونحوه سبق في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور: 36] في إقامة {لَهُ} مقام الفاعل. قال ابن جني: "اكتتبها": قراءة طلحة بن مصرف، وإنما هو: استكتبها، وهو على القلب، أي: استكتب له، ومثله قراءة من قرأ {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 16] أي: قدرت لهم، والقلب بابٌ وشواهد كثيرةٌ. وأما قراءة العامة {اكْتَتَبَهَا} فمعناه: استكتبها، ولا يكون معناه: كتبها بيده، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب، وليس ممتنعاً أن يكون {اكْتَتَبَهَا} بمعنى: كتبها، لأنه على رأيه وأمره، كقولنا: ضرب الأمير اللص.

تملى عليه، أي: تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن: أنه قول الله سبحانه يكذبهم. وإنما يستقيم أن لو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن أنه قول اله)، أي: {اكْتَتَبَهَا} قول الله عز وجل يكذبهم في نسبتهم الاكتتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإملاء أهل الكتاب، لا قول المشركين، وأورد المصنف: "وإنما يستقيم ذلك أن لو فتحت الهمزة" في {اكْتَتَبَهَا} لكنها مكسورةٌ دالةٌ على أنها همزة "افتعل" ولو كانت الاستفهام لكانت مفتوحةً، وهمزة الاستفهام إنما تحذف إذا دل عليها الدليل، نحو قوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان ووجه تصحيح قول الحسن أن تجعل الآية على أسلوب قول جرير: أفرح أن أرزأ الكرام لأنه إخبارٌ في معنى التوبيخ والتقرير، ومنه قوله تعالى في الأعراف: {آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]، قال المصنف: إنه على الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ "ءآمنتم"، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد. أما إفادة الخبر معنى التوبيخ والتقريع، فلأن الأصل في الإخبار الساذج خلو ذهن المخاطب عن فائدة الخبر، وإذا ألقي إليه الجملة وهو عالمٌ بفائدتها تولد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام، فالله سبحانه وتعالى ما حكى كلامهم لإعلام المخاطبين فائدته، بل للتوبيخ والتقريع، فإنهم لما قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال الله تعالى حاكياً معنى

فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله: أفرح أن أرزأ الكرام وحق الحسن أن يقف على {الْأَوَّلِينَ}. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي: دائماً، أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلامهم على سبيل المبالغة توبيخاً وتقريعاً: نعم صدقتم، هو أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه دائماً، كلما إذا سمعت بمن وقع فيك. أنا ذلك الفاعل الصانع، ولست تريد إعلامه بذلك، بل نقلت كلامه للتقريع والتوبيخ. أما قول جريرٍ: أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذوداً شصائصاً نبلا فلفظه إخبارٌ، ومعناه الإنكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال له: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله؟ والذي لأجله طرح همزة الإنكار إرادة أن يصور قبح ما رزئ به، فكأنه قال: نعم مثلي يفرح برزيئة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله. وهو من التسليم الذي تحته كل الإنكار. الشصوص: الناقة القليلة اللبن. والنبل: الصغار، والنبل الكبار، وهو من الأضداد. ويقال: النبل: جمع نبيل، ككريم وكرم. والنبلة: العطية، وبعضهم ينشد بالضم على هذا المعنى. والذوذ من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثةٌ لا واحد لها من لفظها. قوله: (وحق الحسن أن يقف على {الْأَوَّلِينَ}، لاختلاف القائلين، أو لأن لتقدير الاستفهام فيه مجالاً، كقوله تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، و {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، وقال صاحب "الكواشي": على المشهور لا وقف، لأن {اكْتَتَبَهَا} حالٌ، أي: أساطير مكتتبةً.

في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم. [{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 6]. أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت: كيف طابق قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادرة على العقوبة)، يعني: لا يقال: رحم فلانٌ، أو غفر فلانٌ، إلا لمن له القدرة على العقوبة والانتقام، لا للعاجز الضعيف، وأ نشد لابن هانئ: فعفوت عني عفو مقتدرٍ ... حلت له نقمٌ فألغاها فدل قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} على القدرة التامة الكاملة بالكناية، وأنت تعلم أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة ولا تستدعيها أيضاً. وهاهنا قامت القرينة على إرادة مجرد الاقتدار العظيم. نعم، في إيثارهما تعييرٌ لهم، ونعيٌ على فعلهم، يعني: إنكم فيما أنتم فيه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته الغفران والرحمة. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك المعنى لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مفقودةٌ إن تابوا، وأن رحمته واصلةٌ إليهم بعدها، وأن لا ييأسوا من رحمته بما فرط منهم مع إصرارهم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة.

أو هو تنبيهٌ على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفورٌ رحيم يمهل ولا يعاجل. [{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَاكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 7 - 8]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو هو تنبيهٌ على أنهم استوجبوا)، هذا الوجه أوفق لتأليف النظم، وذلك أن قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} جوابٌ عن قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}، وقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} على الأسلوب الحكيم، أي: قل يا محمد: ليس هذا من افترائي ولا هو مملى علي، بل منزلٌ من عند من يعلم السر في السموات والأرض، وما في دخلكم من الدغل والدهاء والمكر، لأنكم تعلمون علمًا يقيناً أن هذا ليس من قبيل الافتراء، ولا هو من الأساطير، لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته، وأنه تضمن أخباراً عن المغيبات، وأسراراً مكتوبةً لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن غرضكم الصد عن سبيل الله، ومجرد العناد، ويؤيد يذلك قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} وإقحامه بين كلامهم، فسبحانه ما أرحمه وما أجله، حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالاستئصال لهذه العظيمة! فإذنه في قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} معنى التعجب كما في قوله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}. وقال القاضي: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}، فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصب عليكم صباً. وقلت: انظر أيها المتأمل في هذا الجواب الصادع، والنور الساطع، والنظم الفائق، فسبح الله تعالى عنده.

وقعت اللام في المصحف مفصولةً عن {هَذَا} خارجةً عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف سنة لا تغير، وفي هذا استهانةٌ وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخريةٌ منهم وطنزٌ، كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسولٌ! ونحوه قول فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، أي: إن صح أنه رسول الله فما بله حاله مثل حالنا {يَاكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد؟ ! يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقعت اللام في المصحف مفصولةً عن {هَذَا} خارجةً عن أوضاع الخط العربي)، قال شارح "الرائية": كتب {مَالِ هَذَا} في موضعين: في الكهف: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49]، وفي الفرقان: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ}. أما {مَالِ الَّذِينَ} فهون في المعارج لا غير في قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المعارج: 36]، وكذلك: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 78] حرفٌ واحدٌ في النساء، جميع ذلك كتب مفصولاً من اللام، وهي لام الجر تنبيهاً على الأصل، وعلى أنه زائدٌ ليس من الكلمة، وجعل متصلاً بما ومنفصلاً مما دخل عليه، لأن ما قد اتصل بها غيرها. وقال غيره: والأصل في ذلك أن تكتب موصولةً بما بعدها، لأنها لام الإضافة، ولا يظهر معناها إلا بما بعدها، وإنما كتبت في هذه الأحرف مقطوعةً لكثرة استعمال اللام مع "ما" التي للاستفهام، كقولهم: ما له وما لك؟ بمعنى: ما حالك وما شأنك؟ فتوهموا أن اللام من "ما" فوصولها بها، وقطعوها عما بعدها، كما قطعوا الشأن والحال عما بعدها.

يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا- أيضاً- فقالوا: وإن لم يكن مرفوداً بملكٍ فليكن مرفوداً بملكٍ فليكن مرفوداً بكنزٍ يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستانٌ يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو: يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين: إياهم بأعيانهم، وضع الظاهر موضع المضمر، ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ: (فيكون) بالرفع، (أو يكون له جنة) بالياء، و (نأكل)، بالنون. فإن قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مرفوداً)، الجوهري: الرفد: العطاء والصلة، والرفد بالفتح: المصدر، تقول: رفدته أرفده رافداً: أعطيته، وكذلك: إذا أعنته. قوله: (كما الدهاقين)، "ما" هذه كافةُ ومهيئةٌ لدخول الكاف على الجملة، أي: كما الدهاقين كذلك. قوله: (أو: يأكلون عم من ذلك)، عطفٌ على قوله: "يأكل منه"، أي: تكون له جنةٌ ينتفع هو بها بأن يأكل بعض أثمارها، ويبيع بعضها ويرتزق منها، كما تفعل الدهاقين ببساتينهم التي أرزاقهم منحصرةٌ فيها، أو: هم ينتفعون من الجنة بالأكل وبسائر معايشهم. والحاصل أنه استعمل الأكل في المنافع لأنه الغرض الأعظم منها، والوجهان مبنيان على القراءتين بالياء والنون في يأكل. قوله: (وقرئ: "فيكون" بالرفع، "أو يكون له جنةٌ" بالياء)، وهما شاذتان، و"نأكل" بالنون: قراءة حمزة والكسائي، والباقون: بالياء. قال صاحب "الكشف": والقراءة في {أَوْ تَكُونَ} بالتاء الفوقاني، وقرئ بالياء خارج السبعة اعتداداً بالفصل، كما جاء في

ما وجها الرفع والنصب في (فيكون)؟ قلت: النصب، لأنه جواب {لَوْلَا} بمعنى "هلا"، وحكمه حكم الاستفهام، والرفع على أنه معطوفٌ على {أُنْزِلَ}، ومحله الرفع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأنعام والقصص في قراءة الزيات وعلي، فقرآ "من يكون" بالياء، والتحتاني، وغيرهما لم يعتد بالفصل فأنثوا لتأنيث "الجنة"، وكأنهم أرادوا التوفيق والطاعة والمطابقة. قوله: (ومحله الرفع)، أي: محل {أُنْزِلَ}، لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعاً، لأنك إنك تقول ابتداءً: لولا يقول، بالرفع، وقد عطف عليه {يُلْقَى} و {تَكُونُ} والحال أنهما مرفوعان، والعطف يمنع أن يكونا منصوبين، لكونهما في حكم المعطوف عليه، وهو مرفوعٌ لا غير. قال أبو البقاء: {أَوْ يُلْقَى} {أَوْ تَكُونُ}: معطوفٌ على {أُنْزِلَ}، لأن {أُنْزِلَ} بمعنى: ينزل، أو: {يُلْقَى} بمعنى: ألقي. وقال صاحب "الكشف": {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} كلاهما بالرفع لا غير، داخلٌ في التخصيص وليس بجوابٍ له. وقلت: الوجه في قراءة "فيكون" بالرفع أن يجعل من تتمة {أُنْزِلَ} مرتباً عليه غير مستقل استقلال "ألقي" و"ويكون"، ليكون مطابقاً لقراءة النصب، وعليه المعنى، ألا ترى كيف قدر: "ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملكٌ حتى يتساندا في الإنذار" إلى آخره؟

ألا تراك تقول: لولا ينزل، بالرفع؟ وقد عطف عليه {يُلْقَى}، و {تَكُونُ} مرفوعين، ولا يجوز النصب فيهما، لأنهما في حكم الواقع بعد {لَوْلَا}، ولا يكون إلا مرفوعاً. والقائلون: هم كفار قريش: النضر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضامهم. {مَسْحُورًا}: سحر فغلب على عقله. أو: ذا سحر، وهو الرئة، عنوا أنه بشرٌ لا ملك. [{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 9]. {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} أي: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من: نبوةٍ مشتركةٍ بين إنسان وملك، وإلقاء كنزٍ عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً، لا يجدون قولاً يستقرون عليه. أو: فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي الرئة)، الجوهري: الرئة: السحر، مهموزٌ، ويجمع على: رئين، والهاء عوضٌ من الياء، تقول منه: رأيته، أي: أصبت رئته. الأساس: كل ذي سحرٍ يتنفس وهو الرئة. ومن المجاز: سحره، وهو مسحورٌ، وإنما سمي السحر استعارةً، لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس. قوله: (أو: فضلوا عن الحق)، عطفٌ على قوله: "فبقوا متحيرين"، وعلى الأول متعلقٌ {ضَلُّوا} غير منوي، و {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} هو نفس الضلال، لأن كل من كان متحيراً لا يثبت على شيء، على الثاني: متعلق {ضَلُّوا} مقدرٌ، وهو: عن الحق، والفاء في الوجه الأول كالفاء في {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] على وجه. ومن ثم لم يأت المصنف في التقدير بالفاء. وفي الثاني: للتثبيت، ولهذا صرح بها.

[(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)]. تكاثر خير (الَّذِي إِنْ شَاءَ) وهب لك في الدنيا (خَيْراً) مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ: (ويجعلُ) بالرفع عطفا على (جَعَلَ)؛ لأن الشرط إذا وقع ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرفع، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة)، قال السجاوندي: ولو عجل لارتفع الاختيار ولم يتبين فضل من تابع مع الفقر بحسن الاختيار. نزل مع الآية رضوان بمفاتيح الخزائن، فنظر صلوات الله وسلامه عليه إلى جبريل عليه السلام كالمسترشد، أي: انظر ماذا يعرض علي، فظن جبريل أنها استشارةٌ، فأومى إلى الأرض، أي: تواضع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أجوع يومين وأشبع يوماً". وقلت: روينا في "المصابيح": قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عرض علي ربي ليجعل بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". أخرجه الترمذي عن أبي أمامة، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "ويجعل" بالرفع)، ابن كثيرٍ وابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بالجزم.

وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم ويجوز في (ويَجْعَل لَّكَ) إذا أدغمت: أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب، على أنه جواب الشرط بالواو. [(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً* إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً* لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإن أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ)، خليلٌ: مشتقٌ من الخلة، وهي الحاجة والفقر. والحرم: الحرمان. قال أبو عبيدٍ: يقال: مالٌ حرمٌ: إذا كان لا يعطى منه. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ارتفاع {يَجْعَل} على أنه جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية، أي: يزيد على ما قالوا. وهذا قول الزجاج، قال: ومن رفع فعلى الاستئناف، والمعنى: سيجعل لك قصوراً، أي: سيعطيك الله أكثر مما قالوا. قوله: (وقرئ بالنصب على أنه جواب الشرط بالواو)، قال ابن جني: قرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان: "ويجعل لك" بالنصب على أنه جواب الجزاء بالواو، كقولنا: إن تأتني آتك وأحسن إليك، وجازت إجابته بالنصب لما لم يكن واجباً إلا بوقوع الشرط من قبله، وليس قوياً مع ذلك، ألا تراه أنه بمعنى قولك: أفعل كذا إن شاء الله؟ تم كلامه. وقيل: هذا ضعيفٌ عند سيبويه، والذي جوزه شبه الجزاء بأحد الأشياء الستة في أنه معلقٌ بالشرط، وكأنه غير موجبٍ فيكون الشرط من الأشياء الستة التي تجاب بالفاء. وقيل: إنما نصب في جواب الشرط والجزاء لأنهما ليسا بواقعين حال المشارطة، فكانا كالتمني.

(بَلْ كَذَّبُوا) عطف على ما حكى عنهم، يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، فكيف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {بَلْ كَذَّبُوا}: عطفٌ على ما حكى عنهم)، وهو قوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} إلى قوله: {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، يدل عليه قوله: {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} أي: قالوا فيك تلك الأقوال، إلى آخره، يعني: كذبوك، وأنكروا نبوتك فيما قالوا: مال هذا الرسول، وكذا وكذا، بل أتوا بما هو أبلغ من ذلك، وهو تكذيبهم إياي بإنكار مجيء الساعة. روينا عن البخاري، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال اله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك"، إلى قوله: "فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان". وعلى هذا: قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} إلى قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدٌ لمعنى مضمون الكلام، ومسلاةٌ لقلبه صلوات الله عليه، يعني: لا تحتفل بما قالوه: لأن كل ذلك اقتراحاتٌ وعنادٌ وضلالٌ وحيرة، ألا ترى كيف تمادى تكذيبهم إلى أن كذبوا ما يلزم منه تكذيبي، لأن المقصود من إتيان الآيات النبوة وقد حصل، وأن الله تعالى قادرٌ على أن يعطيك خيراً مما اقترحوه، لكن لا ينفع ذلك فيهم شيئاً، لأنهم معاندون. قوله: (ويجوز أن يتصل بما يليه)، وهو قوله تعالى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآية، فعلى هذا يكون قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآيتين، كالجواب عن قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} إلى آخره، على سبيل التعريض التوبيخي، ويكون قوله: {بَلْ كَذَّبُوا} إضراباً عن قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، يدل عليه قوله: "فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب". قال الإمام: أجاب الله تعالى عن شبههم بوجوه، أحدها: قوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}، وبيانه: أن الذي يميز الرسول عن غيره هو المعجزة، وهذه الأشياء

يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ ! السعير: النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن: أنه اسم من أسماء جهنم (رَأَتْهُمْ) من قولهم: دورهم تتراءى وتتناظر. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المذكورة لا يقدح شيءٌ منها في المعجزة، كأنه قيل: انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي فائدة فيها، لأنهم ضلوا، وأرادوا القدح في نبوتك، فلم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً. وثانيها: قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ}، أي: من الذي ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة، وفسر الخير بقوله: {جَنَّاتٍ} فنبه بذلك على أنه تعالى قادراً على أن يعطي الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ما ذكروه، لكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح، أو على وفق المشيئة، ولا اعتراض لأحدٍ عليه. وثالثها: قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} لأنه قيل: ليس ما تعلقوا به شبهةً علمية، بل الذي حملهم على تكذيبك بالساعة، ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل. وأما قولهم المصنف: "وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة؟ " فمبنى على أن {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مختصةٌ بالآخرة، وما يكون في الدنيا لا يكون إلا مشابهةً بها حتى يستتب له أن يقول: {بَلْ كَذَّبُوا} إضراباً عن قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وفيه تعسف القول. قوله: ({رَأَتْهُمْ}، من قولهم: دورهم تتراءى)، أي: منه في كونه استعمالاً مجازياً مثله،

"لا تراءى ناراهما"، كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن جهنم لا ترى كما أن النار لا ترى، فهو عبارةُ عن مسافةٍ يتمكن فيها الرائي من النظر إلى المرئي. قوله: (لا تراءى ناراهما)، النهاية: معناه: يجب على المسلم أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالمنزل الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله، وأصل تراءى: تتراءى، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والترائي: تفاعلٌ من الرؤية، وإسناده إلى النارين مجازٌ. وقلت: إذا جعل قوله: {رَأَتْهُمْ} مجازاً كان قوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} ترشيحاً. قوله: (وشبه ذلك)، أي: صوت غليانها. قوله: (ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانينها)، فالضمير في {رَأَتْهُمْ} للزبانية، لأن السعير يدل عليها كما أن الضمير في قوله تعالى: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] للميت، لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت، قال الإمام: هذا قول الجبائي، والرؤية والتغيظ عندنا يجب إجراؤهما على الظاهر، فإنه لا امتناع في أن تكون النار حيةً مغتاظة على الكفار. والمعتزلة لما جعلوا البنية شرطاً في الحياة احتاجوا إلى التأويل. الانتصاف: لا حاجة إلى المجاز، لأن رؤية جهنم جائزةٌ، وقد تظاهرت الظواهر بوقوع هذا الجائز، نحو قوله: {تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}، ومحاجتها مع الجنة، وقولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}

وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض، وجاء في الأحاديث: أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روي عن ابن عباس في تفسيره: أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل: قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور: الهلاك. ودعاؤه أن يقال: وا ثبوراه، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [ق: 30]، و"اشتكت النار إلى ربها"، ولو فتح باب التأويل في أحوال المعاد لجر إلى مذهب الفلاسفة خذلهم الله، ونحن متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع. قوله: (وشهوةً للانتقام منهم)، يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: "وزفروا"، على اللف والنشر، تقديره: تغيظوا غضباً على الكفار، وزفروا شهوةً للانتقام منهم. الجوهري: الزفير: اغتراق النفس للشدة. كأن الزافر عند الانتقام يلتد ويتخلص من تلك الشهوة. قوله: (والإرهاق)، يقال: أرهقه عسراً: كلفه إياه. يقال: لا ترهقني ولا أرهقك، أي: لا تعسرني ولا أعسرك. قوله: (يتراصون فيه)، الجوهري: رصصت الشيء أرصه رصاً: ألصقت بعضه ببعض، وتراص القوم، أي: تلاصقوا. قوله: (في الجوامع)، الجوهري: الجامعة: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. قوله: (واثبوراه)، الراغب: قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} هو أن يقول: يا لهفتاه. ويا حسرتاه! ونحو ذلك من ألفاظ التأسف، والمعنى: يحصل لهم غمومٌ كثيرةٌ.

تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك (لَّا تَدْعُوا) أي: يقال لهم ذلك: أو هم أحقاء بأن يقال لهم، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور؛ لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم. [(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً* لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)]. الراجع إلى الموصولين محذوف، يعنى: وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل: (كَانَتْ)؛ لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو: كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله: (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً)؟ قلت: هو كقوله: (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها)، فالكثرة على هذا ليست للتحديد، ولهذا قال: "لا غاية لهلاكهم". قوله: (يعني: وعدها المتقون)، بيانٌ لتقرير الراجع إلى الموصول الأول، وهي: {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وقوله: "وما يشاؤونه بيانٌ لتقدير الراجع إلى الموصول الثاني وهو: {مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ}. قوله: (ما معنى قوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}، يعني: قد علم من قوله: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} كون الجنة جزاءهم ومصيرهم، فما هذا التكرير؟ فأجاب: إنها كالتذييل لها إرادةً لمزيد مدح لتبجح ساكنيه، كما أن قوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31] تذييلٌ لقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ} [الكهف: 31]، وأن قوله: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] تذييلٌ لقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]، ودلالته على المدح

[الكهف: 31]، فمدح الثواب ومكانه، كما قال: (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 29] فذم العقاب ومكانه؛ لأنّ النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من جهة تنكيره، أي: جزاءً موفراً لا يدخل تحت الوصف، وإردافه بقوله: {وَمَصِيرًا} أي: مصيراً لا يقادر قدره، فالجزاء هنا كالثواب في تلك الآية، والمصير كالمرتفق، واجتماعهما كالتتميم لما يتم به ما يطلب من المكان من الترفه والتنعم. قال القاضي: إضافة الجنة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنات الدنيا. قوله: (فذم العقاب ومكانه)، يعني: قدم قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} إلى قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا} الآية على قوله: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} الآية: ليؤذن بأن النعم لا يتم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد، فلذلك ذكر المصير مع الجزاء، وأن العقاب يتضاعف بضيق الموضع وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء، ولذلك ذكر {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا} وذكر {مَكَانًا ضَيِّقًا}، ولعل قوله: "فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء" واردٌ على الإبهام شمل الجزاءين والمصيرين، فظهر أن هذه الآية مقابلةٌ لتلك الآيات، يدل عليه قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ}، فإن المشار إليه العقاب والمكان الضيق، وتسميته بالخير للتهكم والسخرية، ليزيد في غيظهم، أو أن ثواب العدو وتنعمه سببٌ لتغيظ العدو وتحسره. قوله: (بغثاثة الموضع)، الأساس: حديثكم غث، وسلاحكم رثٌ، وأغث فلانٌ في كلامه: إذا تكلم بما لا خير فيه، وسمعت صبياً من هذيلٍ يقول: غثت علينا مكة، فلا XXXX من الخروج.

الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في (كَانَ) لـ (مَا يَشَاءُونَ). والوعد: الموعود، أي: كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه، حقيقا أن يسئل ويطلب؛ لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل: قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران: 194]، (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة: 201]، (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر: 8]. [(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الاجتواء)، يقال: اجتويت البلد: إذا كرهت المقام به، وإن كنت في نعمةٍ. قوله: (أي: كان ذلك موعوداً واجباً على ربك إنجازه)، قال القاضي: وما في "على" من معنى الوجوب، لامتناع الخلف في وعده، ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز، فإن تعلق الإرادة بالموعود مقدمٌ على الوعد الموجب للإنجاز. وقال الإمام: قالوا: الواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه الذم، أو أنه: الذي يكون عدمه ممتنعاً، فعلى التقديرين يلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل، والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً، ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح؟ وأجاب: أن فعل الشيء متقدمٌ على الإخبار عن فعله، وعن العلم بفعله، فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء، فكان قادراً مستحقاً للثناء والمدح. ومعنى قوله: {وَعْدًا مَسْئُولًا}: من حقه أن يكون مسؤولاً، لأنه حقٌ واجب. بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.

(يَحْشُرُهُمْ)، (فَيَقُولُ) كلاهما بالنون والياء، وقرئ: (نَحشِرهم) بكسر الشين (وَما يَعْبُدُونَ) يريد: المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صحّ استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك - إذا رأيت شبحا من بعيد-: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت حينئذ: من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبوديهم. ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَحْشُرُهُمْ}، {فَيَقُولُ} كلاهما بالنون)، {يَحْشُرُهُمْ} بالياء: حفصٌ. والباقون: بالنون. و"نقول" بالنون: ابن عامر، وبالياء: غيره. قوله: (وقرئ: "نحشرهم" بكسر الشين)، قال ابن جني: قرأها الأعرج، وهذا وإن كان قليلاً في الاستعمال، فإنه قويٌ في القياس، وذلك أن "يفعل" في المتعدي أقيس من "يفعل"، فضرب يضرب أقيس من: قتل يقتل، وذلك أن "يفعل" إنما بابها الأقيس أن يأتي في مضارع "فعل"، كظرف يظرف. قوله: (ويجوز أن يكون عاماً لهم جميعاً)، يأباه جواب المعبودين، وهو قولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا}، لأنهم ملائكةٌ معصومون وأنبياء معصومون، كما قاله في موضعه، فلا يدخل فيه الأصنام، لكن عدل إلى "ما" إجراءً للمعبودين مجرى غير ذوي العقول تحقيراً لشأنهم لغاية قصورهم عن معنى الربوبية، وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية. قوله: (ويدلك قولهم: "من" لما يعقل)، يعني: يفسر "من" بـ "ما"، ولا يفسر "ما" بـ "من"، فدل أن "ما" أعم من "من".

فإن قلت: ما فائدة "أنتم" و"هم"؟ وهلا قيل: أأضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت: فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته أن يجيبوا بما أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب)، يعني: السؤال سؤال عتاب، وهو يستدعي حصول الفعل من الضالين، ليصح توجه العتاب إلى المعبودين، والغرض تقريع الضالين وتوبيخهم، فوجب أن يسأل عن فاعل الفعل، لا عن الفعل نفسه. قوله: (وينخزلوا)، أي: ينقطعوا. الأساس: انخزل في مشيته: استرخى، وأقدم على الأمر ثم انخذل عنه، أي: ارتد وضعف، وانخزل عن جواب ما قلته له. قوله: (وفي كسرٌ بينٌ لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة)، إلى آخره. قال صاحب "التقريب": والمعنى: أنتم أضللتموهم أم هم ضلوا؟ وهذا أعم من أنهم ضلوا بأنفسهم أو أضلهم غيرهم، فلا يدل على الخاص كما تبجح به صاحب "الكشاف". وقال صاحب "الفرائد": أما الجواب عن قوله: "فيتبرؤون من إضلالهم، ويستعيذون به أن يكونوا مضلين" إنما تبرؤوا واستعاذوا به منه، لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم، ولم لكن منهم إضلالٌ، فيجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب، وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون، والله تعالى لا يسأل عما يفعل، فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم، ولا يمكن لحوقه به، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يسأل عما يفعل. وعن قوله: "ولقد نزهوه حين أضافوا" إلى آخره، هو أن قولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ} إلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آخره، لا ينافي نسبة الإضلال إليه على الحقيقة. وأيضاً، ما يؤدي إلى الإضلال إذا كان منه وكان معلوماً له أنهم يضلون به، كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة، فوجب- على مذهبه- أن لا يجوز عليه أيضاً. وعن قوله: "ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقول: بل أنت أضللتهم"، هذا غير مستقيم، لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين: إضلالهم إياهم، أو إضلالهم بأنفسهم، فكيف يكون بل أنت أضللتهم جواباً عتيداً؟ بل هو جوابٌ لمن قال: من أضلهم، والله الهادي. وقال الإمام: قالت المعتزلة: لو كان قوله: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ} دل على ما ذكرتموه للزم أن يصير الله تعالى محجوجاً. ومعلومٌ أنه ليس الغرض ذلك، بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً؟ وأجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله، وإن صلحت لم تترجح مصدريتها للضلال على مصدريتها للاهتداء إلا بمرجح من الله تعالى، وعند ذلك يعود السؤال. ثم قال الإمام: إن الاستفهام في {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} واردٌ على سبيل التقريع للمشركين، لأنه تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه، كما قيل لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، وفائدته أن المعبودين لما برؤوا أنفسهم، أحالوا ذلك الضلال إليهم، صار تبرؤهم عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم، فوافق جوابهم هذا: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} جواب عيسى عليه السلام: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]. وقال القاضي: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ} بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات، حتى غفلوا عن ذكرك، أو التذكر لآلائك، والتدبر في آياتك، وهو نسبةٌ للضلال إليهم من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث إنه بكسبهم، وإسنادٌ له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجةً علينا للمعتزلة، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي: في قضائك هالكين. وقلت: ولما كان السؤال على التعريض التوبيخي، والمقصود تبكيتهم، وإلزام الحجة عليهم، وتفضيحهم على رؤوس الأشهاد، أجابوا أولاً بما يدل على تبرؤهم من نسبة الإضلال إلى أنفسهم بأقصى ما يمكن من المبالغة خذلاناً لهم، وكان من حق الظاهر: أنا من أضللناهم، فأطنبوا بقولهم: {سُبْحَانَكَ} إلى آخره. تعجباً، أي: كيف يصح منا أن نصفك بما لا يليق بجلالك، ونحن عالمون بالتقديس، وكيف يستقيم لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك، ونحن العابدون. وثانياً: بما يدل على أن الكفرة هم ضلوا السبيل، لكن بتقدير الله وإضلاله، فأطنبوا في تعبيرهم بقوله: "لكن متعتهم" إلى آخره، يعني: متعتهم بطول العمر وسعة الرزق حتى تجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر من قبول الذكر الذي عرض عليهم وهو القرآن، والتمسك بمقتضاه من تصديق من جاء لكونه معجزةً، والإيمان بما فيه من إثبات التوحيد والحشر والنشر، فعكسوا ذلك وجعلوه سبباً للثبات على اتخاذ الشركاء، حتى جرهم ذلك إلى ترك الذكر وعدم المبالاة به، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]. وينصر القول بأن المراد بالذكر القرآن قوله: "والذكر: ذكر الله والإيمان به، أو القرآن"، وما نقله محيي السنة في "تفسيره": {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن. ويساعد هذا التأويل قضية النظم، فإن قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} متصلٌ بأول السورة، وهو قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2]، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} أي: اتخذوا من دون الله آلهةً زعموا أنها أولادٌ لله وشركاء له

حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر، سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه، فهم لربهم الغنىّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الإلهية، وأدى ذلك إلى تكذيبهم الذكر- أي: القرآن- أولاً بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}، و {أَسَاطِيرُ}، وتكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً بقولهم: "مال هذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق"، فرضوا بالإله أن يكون حجراً، وأبو الرسول أن يكون بشراً، وتكذيبهم الله آخراً، حيث أنكروا البعث والحشر، وإليه الإشارة بقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} كما مر أنه مستلزمٌ لتكذيب الله. وتحرير المعنى: ويوم نحشرهم وما اتخذوا من دون الله أولياء، حينئذٍ يعلمون أنهم أول من يخاصمهم ويخذلهم إذا سئلوا: أنتم أضللتم عبادي أن كنتم أولياءهم وشركاء الله، وأنتم حملتموهم على ذلك التقول والتكذيب للنعمة هم الذين عكسوا الأمر وضلوا، وحقت عليهم كلمة العذاب والبوار، يدل عليه قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا}، فظهر من بيان النظم أنهم لو أجابوا بقوله: بل أنت أضللتهم، أبعدوا المرمى. قوله: (ويستعيذون به أن يكونوا) أي: يستعيذون بالله من أن يكونوا مضلين، و"يقولون": عطفٌ على "فيبرؤون"، والفاء نتيجة مجموعة قوله: "حيث يقول للمعبودين من مدونه: أأنتم أضللتموهم أم هم ضلوا بأنفسهم؟ ".

التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد: 27]، ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل: مطاوع أضله، وكان القياس: ضل عن السبيل، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل: إلى الطريق، وللطريق. وقولهم: أضلّ البعير، في معنى: جعله ضالا، أى: ضائعا، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل: أضله، سواء كان منه فعل أو لم يكن (سُبْحانَكَ) تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه. أو نطقوا بـ (سُبْحَانَكَ)؛ ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبىّ أو ملك أو غيرهما ندّا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فشرحوا الإضلال المجازي)، يعني: قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] مجملٌ لما علم، بدليل الحسن والقبح العقليين أنه لا يجوز إسناد الإضلال الله، وإسناده إليه تعالى على المجازي، ولابد من بيان العلاقة، وبيانها ما يعلم من قول المعبودين هاهنا: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} فبينوا أن العلاقة هي تمتعهم بالنعم المؤدي إلى البطر والطغيان. قوله: (وقولهم: أضل البعير)، متصلٌ بقوله: "الإضلال المجازي: الذي أسنده الله إلى ذاته"، يعني: أن العرب أيضاً تقول: أضل البعير، في معنى: جعله ضالاً، فإن أحداً لا يتحرى في إضلال بعيره، لكن إذا أهمل في حفظه كأنه تسبب في إضلاله، فأسندوا الإضلال إليه على المجاز، وإذا جاز إسناد الفعل إلى غير الفاعل بهذه الملابسة الضعيفة، فلأن يجوز الإسناد إليه بالتمتيع أولى، وإليه أومى بقوله: "سواءٌ كان معه فعلٌ أو لم يكن"، والجواب ما نقلناه عن صاحب "الفرائد".

ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ ! أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) [النساء: 76] يريد الكفرة، وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة: 257]. وقرأ أبو جعفر المدني: (نُتَّخَذَ) على البناء للمفعول. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم قالوا: ما كان يصح لنا)، "ثم" هاهنا: للتراخي في الإخبار، يعني: جعلوا {سُبْحَانَكَ} توطئةً وتمهيداً لقولهم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} إما على إرادة مطلق التعجب مما قيل لهم من قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي}، أو نطقوا بكلمة التسبيح كنايةً عن البراءة عن أنفسهم ذلك القول، أو أرادوا موضوعها اللغوي من التنزيه والتقديس، قدسوا ساحة جلال الله عما لا يليق بحضرته من الند والضد، أما قوله: "ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك"، إلى آخره، فمبنيٌ على التقديس. قوله: (أو: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين)، مبنيٌ على الإضلال الذي بنى عليه الوجهين الأولين، والظاهر أن "أو" في قوله: "أو ما كان ينبغي لنا": للإباحة، فيصح جعل كل من الوجهين لكل من الوجوه الثلاثة، ويصح الجمع بينهما كقولك: جالسٌ الحسن أو ابن سيرين. قوله: (وقرأ أبو جعفر المدني: "نتخذ" على البناء للمفعول)، قال ابن جني: وهي قراءة زيد بن ثابتٍ وأبي الدرداء وأبي جعفرٍ ومجاهدٍ والحسن وغيرهم. فعلى هذا {مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع المفعول به، أي: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، ودخلت "من" زائدةً لمكان النفي، كقولك: اتخذت زيداً وكيلاً، فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيداً من وكيل، وهذا في المفعول به، وأما قراءة الجماعة فقوله: {مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع المفعول به، كقولك: ضربت رجلاً فإن نفيت قلت: ما ضربت من رجل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: هذه القراءة خطأٌ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحدٍ ولياً، ولا يجوز: ما اتخذت أحداً من ولي، لأن "من" إنما دخلت لأنها تنفي واحداً في معنى جميع، تقول: ما من أحدٍ قائماً، وما من رجلٍ محباً لما يضره، ولا يجوز ما رجلٌ من محبٍّ لما يضره، ولا وجه عندنا لهذا البتة، ولو جاز هذا لجاز في قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] إلا أن يسقط "من" الثانية فيقال: أن نتخذ من دونك أولياء، فيصح الكلام، ويصح المعنى. وقال الزجاج: وأجاز الفراء هذه القراءة على ضعف، وزعم أنه يجعل {مِنْ أَوْلِيَاءَ} هو الاسم، ويجعل الخبر ما في "نتخذ"، كأنه يجعله على القلب. ونقل صاحب "المطلع" عن صاحب النظم أنه قال: الذي يوجب سقوط هذه القراءة أن "من" لا تدخل إلا على مفعولٍ لا مفعول دونه، فإذا كان قبل المفعول مفعولٌ سواه لم يحسن دخول "من"، مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] فقوله: {مِنْ وَلَدٍ} لا مفعول سواه، ولو قال: ما كان الله أن يتخذ أحداً من ولدٍ، يحسن فيه دخول "من"، لأن الاتخاذ مشغولٌ بـ "أحد". كذلك قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ} قد قامت النون المضمومة فيه مقام المفعول، وشغل الاتخاذ به، فلم يقتض "من" في المفعول الذي بعده. وقلت: فعلم من هذا أن ابن جني أجاز أن يزاد "من" في المفعول الثاني، وأبي الزجاج إلا أن تزاد في المفعول الأول. وذهب صحاب النظم إلى أن يزاد في مفعولٍ واحد، وبنى المصنف كلامه على كلام الزجاج، حيث قال: "والثانية من المتعدي إلى مفعولين"، أي: قراءة أبي جعفر، أحدهما: ما أقيم مقام الفاعل، والثاني: {مِنْ أَوْلِيَاءَ} على أن تكون "من" تبعيضةً لا زائدةً. ولناصر قول ابن جني على قول الزجاج أن يقول: إن المثال الذي أتى به الزجاج غير مناسبٍ للآية، لأن المفعول الأول في الآية خاصٌ، وكذا في المثل الذي أتى به ابن جني، فيصح التعميم في الثاني، كما قال: ما اتخذت زيداً من وكيل، أي: أي وكيلٍ كان من أصناف

وهذا الفعل أعني «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء: 1]، وقال (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125] فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد؛ وهو (مِنْ أَوْلِياءَ)، والأصل: أن نتخذ أولياء، فزيدت (مِنْ) لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين؛ فالأول ما بني له الفعل، والثاني: (مِنْ أَوْلِياءَ)، و (مِنْ) للتبعيض، أى: لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير (أَوْلِياءَ) من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر: ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوكلاء، كذا في الآية: ما نتخذ نحن من دونك ما يقع عليه اسم الولاية، فإن الولي قد كان معبوداً وناصراً ومالكاً مخدوماً، بخلاف قول الزجاج: ما اتخذت أحداً من ولي، فإن فيه العموم في المفعول الأول والثاني، فإذن لا حاجة إلى جعل "من" تبعيضاً. بقي على المصنف سؤال آخر، وهو أن "من" إذا كان للتبعيض، فلم نكن أولياء، لأن المعنى: ما صح للكفار أن يتخذونا من دونك بعض أوليائهم؟ وأجاب: أن القائلين الملائكة والأنبياء، فتعين أن يكون الباقي الجن والأصنام، لأن المعبودين منحصرون في هؤلاء، يدل عليه قوله فيما سبق. ويجوز أن يكون المعبودون عاماً، قال السجاوندي: تقول: اتخذته من أوليائي، وحسبته من أصفيائي، والمعنى: ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية، فضلاً من الكل، فإن الولي قد يكون معبوداً ومالكاً ومخدوماً. أو التقدير: نتخذ معبودين من أولياء، أي: من جهة أولياء، فحذف مفعول الاتخاذ معهودٌ، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 51]. قوله: (والبور: الهلاك)، أي: هو مصدرٌ يستوي في الوصف به الواحد والجمع، والتثنية والتذكير والتأنيث، وأنشد صاحب "المطلع" للزبعري يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -:

أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [الفرقان: 19]. هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يا رسول المليك إن لساني ... راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور أي: مصلحٌ ما أفسدت، ورافئٌ ما ما مزقت، يعتذر إليه مما ذكر في أشعاره في حال شركه، والله أعلم بصحته. قوله: (كعائذٍ وعود)، الجوهري: العوذ: الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذٌ. قوله: (هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعة)، قال صاحب "المطلع": حق الكلام ان يقال: إن قلتم: إنهم معبودنا وآلهتنا، فقد كذبوكم، ونحوه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، أي: لا تعتذروا بأن لم يأتكم رسولٌ، فالآن قد جاءكم ما أعذركم. وقول القائل: قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا أي: فإن قالوا: تلك مقصدنا فقد جئناه، فأين القفول؟ تم كلامه. وقيل: التقدير: قالوا: تلك مقصدنا ثم القفول إلى مأمن كل أحد، أي: قال: إن صدقتم فقد جئناه، فأين القفول؟ أما حذف القول من الآية، فلأن التقدير: قال الله تعالى، أو الملائكة: إنهم معبودونا وشفعاؤنا عند الله، فقد كذبوكم بما تقولون. والدليل على المقدر

وحذف القول ونحوها قوله عز وعلا: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة: 19]، وقول القائل: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثمّ القفول، فقد جئنا خراسانا وقرئ: (تَقُولُونَ) بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء: فقد كذبوكم بقولكم: إنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء: فقد كذبوكم بقولهم: (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان: 18]. فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله! هي مع التاء كقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) [ق: 5] والجار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآخر قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا}. وأما المفاجأة فمن تعقب القصة بالفاء التي تستدعي ما يترتب عليه، كأن السامع لم ينتظر ما بعد الفاء بتقديم ما يترتب عليه ففوجئ به. وهذا أسلوبٌ رائعٌ حسن. وأما الالتفات فمن قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ}، كأنه قيل: أنتم المخصوصون أيها المكذبون بأن يفعل بكم ما تستحقونه من الفضيحة والنكال ولا يمهلكم فيه. قوله: (وقرئ: {تَقُولُونَ}، بالياء والتاء)، المشهورة: بالتاء الفوقانية، وبالياء التحتانية: شاذة. قوله: (قلت: إي والله)، إلى آخره، أي: حكم الباء في {بِمَا تَقُولُونَ} مع قراءة التاء الفوقانية حكم {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 5] في كون الباء صلةً، وما تقولون: مفعولٌ به، والبدل بدل الاشتمال، كأنه قيل: فقد كذبوا قولكم، أو: الذي تقولونه. وحكم الباء مع الياء التحتاني حكم: كتبت بالقلم، فالباء للآلة، أي: كذبوكم، باستعانة قولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} الآية.

والمجرور بدل من الضمير، كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون: وهي مع الياء كقولك: كتبت بالقلم. وقرئ: (تَسْتَطِيعُونَ) بالتاء والياء أيضا. يعني: فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة وقيل: الحيلة، من قولهم: إنه ليتصرف، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم. الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم، والكافر ظالم، لقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، والفاسق ظالم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {تَسْتَطِيعُونَ}، بالتاء والياء)، حفصٌ: بالتاء الفوقاني، والباقون بالياء. قوله: (الخطاب على العموم للمكلفين)، يعني: في قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} لدلالة (من) الشرطية، لأنها موضوعةٌ للعموم، فكل من يصدق عليه أن يظلم، فإنه داخلٌ فيه، والفاسق الذي لم يتب ظالمٌ، لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وفيه لمحةٌ من مذهبه. وذهب عنه أن الخطاب مع الكفرة المعاندين الذين نحن بصددهم من أول السورة، فكيف وقد سبق {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} وهذه الآية كالخاتمة لما يجري عليهم من الأحوال والنكال من لدن قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}؟ يعني {وَمَنْ يَظْلِمْ} أي: يدم منكم، أي: على ما هو عليه، بعد تلك البينات الشافية التي ما تركت من الروادع. والزواجر بقيةً، نذقه عذاباً كبيراً. ثم لما فرغ من تهديدهم ووعيدهم شرع في تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ناله من قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] من الحزن وضيق الصدر، أي: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ} الآية: فأين يدخل في معنى الآية حديث الفساق؟ قال صاحب "الفرائد": يجب أن يحمل الظلم على الشرك، لأن الكلام في الشرك بدليل ما تقدم، ولأن الحمل على ما ذكره صاحب "الكشاف" يؤدي إلى أن الظلم مع الإيمان

لقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11]. وقرئ: (يُذِقْه) بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر (يظلم). (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [الفرقان: 20]. الجملة بعد (إلاَّ) صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، أعني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستلزم العذاب الكبير ولا يجوز العفو والتجاوز، وليس كذلك لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. قوله: (وقرئ: "يذقه" بالياء) التحتانية: شاذة. قوله: (وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين)، فوضع "آكلين" موضع: {إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ}، فيأكلون: صفةٌ لقوله: "أحداً" المحذوف، وقوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أيضاً صفةٌ مبينةٌ له، ولهذا قال: "وإنما حذف اكتفاءً بالجار والمجرور، أعني {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} " فلو جعله حالاً كان له وجهٌ، لأن ذا الحال موصوفٌ. قال أبو البقاء: كسرت "إن" لأجل اللام في الخبر، وقيل: ولو لم تكن اللام لكسرت أيضاً، لأن الجملة حاليةٌ، إذ المعنى: إلا وهم يأكلون، وقال الزجاج: وأما دخول "إنهم" بعد "إلا" فعلى تأويل: ما أرسلنا رسلاً إلا وهم يأكلون، أو: وإنهم ليأكلون، وحذفت "رسلاً" لأن "من" في قولك: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} دليلٌ على ما حذف. وإما مثل اللام بعد إلا فقول الشاعر:

(مِنَ المُرْسَلِينَ)، ونحوه قوله عز من قائل: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات: 164] على معنى: وما منا أحد. وقرئ: (ويُمَشَّوْن) على البناء للمفعول، أى: تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ: (يُمَشُّون)، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل: هو احتجاج على من قال: (مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما أنطياني ولا سألتهما ... إلا وإني لحاجزٌ كرمي يريد: أعطياني. وقال صاحب "المطلع": وكسره "إن" لمكان الابتداء، كما لو قيل: إلا وهم يأكلون، لا لمكان اللام، ودخلوها وخرجوها سواءٌ، كما يقال: ما قدم علينا أميرٌ إلا إنه مكرمٌ لي. قوله: (وقرئ: "ويمشون)، قال ابن جني: "يمشون" بضم الياء، وفتح الشين المعجمة: قراءة علي رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عبد الله، كقولك: يدعون إلى المشي، وكل حاملٍ على المشي وجاء على "فعل" لتكثير فعلهم، إذ هم عليهم السلام جماعةٌ. ولو كانت "يمشون" بضم الشين لكانت أوفق، لقوله تعالى: {لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ}، إلا أن معناه: يكثرون المشي. يعني: يوافقه من حيث إسناد الفعل إليهم، وإن أريد به التكثير، ولم يرد في يأكلون، وفيه الإشعار بأن المشي في الأسواق أشد قبحاً من الأكل للتشبيه بالسوقي. قوله: (وقيل: هو احتجاجٌ)، عطفٌ من حيث المعنى على قوله: "والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين"، على أنه وجهٌ آخر، والظاهر أن الأول واردٌ على التسلية، يؤيده عطف قوله: "وقيل: هو تسليةٌ له" على قوله: "وهذا تصبيرٌ" تفسيراً للافتنان، فيكون التصبير متفرعاً على الوجه الثاني، والتسلية على الأول، والثاني قول الزجاج، قال: هذا

[الفرقان: 7]. (فِتْنَةً) أي: محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ احتجاجٌ عليهم في قوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] فقيل: كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فكيف يكون محمدٌ بدعاً من الرسل؟ وقلت: قول الزجاج لا يساعد عليه النظم، لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} على ما سبق بيانه، لكن الله تعالى لما حكى عنهم تكذيبهم القرآن والرسول والإعادة، وعقب ذلك بالوعيد الشديد والتهديد العظيم، وبما يفضحهم على رؤوس الأشهاد مسلاةً للرسول، وشرحاً لصدره صلوات الله عليه، وجعل خاتمة كل ذلك قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} الآية، أعاد بذكر ما هو من جنس قصته صلوات الله عليه مزيداً للانشراح، يؤيده الخطاب في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} تسليةٌ من قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} ليتأسى بهم، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} تسليةٌ من تعبيرهم له بالفقر حين قالوا: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8]، ألا ترى كيف عقبهما بقوله: {َكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي: عالماً بالصواب فيما يبتلى به وغيره. فلا يضيقن صدرك ولا يستخفنك أقاويلهم. قوله: (وجرت عادتي)، قالوا: ولو قال: وجرت سنتي، كان أقرب إلى الأدب، لأنها صفةٌ نفسانيةٌ. الراغب: العادة: اسمٌ لتكرير الفعل أو الانفعال حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعةٌ ثانية.

والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186]. وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع (أَيُّكُمْ) بعد الابتلاء في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7 الملك: 2] (بَصِيراً): عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا: (أَوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) [الفرقان: 8]، وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء؛ لينظر هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وموقع {أَتَصْبِرُونَ} بعد ذكر الفتنة موقع {أَيُّكُمْ} بعد الابتلاء)، وقال بعضهم: {أَيُّكُمْ} ليس بتعليقٍ لسبق المفعول الأول، ولكن جملةٌ واقعةٌ موقع المفعول الثاني، وكذلك {أَتَصْبِرُونَ}، لأن قوله: {لِبَعْضٍ} دالٌ على أن التقدير: وجعلنا بعضكم فتنة بعضٍ أتصبرون، لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه بل هو دالٌ على معموله. وقال صاحب "التقريب": يريد أنه ليس بتعليق، لذكر المفعول الأول فيها، وفيه نظرٌ سيأتي في "الملك". وقلت: نعم، إنه ليس بتعليقٍ لقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ}، لأنه أحد مفعوليه، ولكنه تعليقٌ لفعلٍ مضمر يدل عليه المذكور كما وجد بخط المصنف: إن تعلق قوله: {أَتَصْبِرُونَ} بقوله: {فِتْنَةً} تعلق {أَيُّكُمْ} بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً لنعلم أيكم أحسن صبراً، وكما ابتليناكم لنعلم أيكم أحسن عملاً. وقد صرح بعيد هذا بما ينبئ عن هذا المعنى، وهو قوله: "وأنه جعل الأغنياء فتنةً للفقراء لينظر هل يصبرون". قوله: (وقيل: جعلناك فتنةً لهم)، أي: للمشركين، هو عطفٌ على قوله: "أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم".

أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً؛ ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ومن في طبقتهم يقولون إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض. [(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)]. أي: لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة: الخوف، وبه فسر قوله تعالى: (لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح: 13]، جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وقيل: كان أبو جهل) عطفٌ على "لو كنت غنياً صاحب كنوز"، لأنه فتنةٌ للمشركين ونوعٌ آخر من الفتنة بسبب غناهم بسبب غناهم وفقر عمارٍ وصهيبٍ وبلالٍ ومن في طبقتهم من أصحاب الصفة. قوله: (لا يأملون لقاءنا بالخير)، الراغب: الرجاء: ظنٌ يقتضي حصول ما فيه مسرة. وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قيل: ما لكم لا تخافون، ووجه ذلك الرجاء والخوف يتلازمان، قال تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]. قوله: (بمنزلة لقائه لو كان ملقياً)، إشارةٌ إلى مذهبه.

الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى. وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55]. فإن قلت: ما معنى (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. كما قال: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر: 56]. (وَعَتَوْا): وتجاوزوا الحدّ في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتوّ بالكبير، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنوّ، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل: وجارة جسّاس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون)، أي: بالمحال، أي: لا يؤمن أبداً، هذا إنما يصح أن لو كان القوم معتزلةً غير مستقيم، والقوم هم الذين وصفهم الله بقوله: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، وهم المعاندون السابقون. وقد أقيم المظهر مقام المضمر، وذلك أنه تعالى لما سلى رسوله صلوات الله عليه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} عاد إلى تقبيح نوعٍ آخر من أفعالهم وهو إنكارهم لقاء الله، وأن لله تعالى دار جزاء. قوله: (وهذه الجملة في حسن استئنافها غايةٌ)، أي: قوله: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} جملةٌ قسميةٌ يستدعي أن يتلقى بها من يبالغ في الإنكار، كأنه لما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، حمل السامع على أن يقول: ما أشد استكبارهم! وما أكبر عتوهم! لأنها اشتملت على أمر يقتضي التعجب منهم، فلا يتمالك أن يترك ذلك القول، فوضع موضعه: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا}، لأنه أثبت وأبلغ من ذلك. قوله: (وجارة جساسٍ)، البيت، جساسٌ: قاتل كليب، وجارته بسوس امرأة.

وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أشدّ استكبارهم؟ وما أكبر عتوّهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب. [(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والناب: ناقة بسوس، رماها كليبٌ فقتلها، فشكت إلى جساس، فقال: لأقتلن غداً فحلا هو أعظم من ناقتك، فبلغ ذلك كليباً، فظن أنه فحله المسمى بغليان، فقال: دون غليان خرط القتاد، وكان جساسٌ يعني بالفحل نفس كليب. ذكره الميداني. أبأنا: أي: قابلنا من البوء، وهو التساوي في القصاص، وأباته بفلانٍ: إذا قتلته به. والبوء في القود: مهموزٌ، أي: ما أغلى ناباً بواؤها كليب، فلما قتل مهلهلٌ بجيراً قال: بؤ بشسع نعل كليب. قوله: (وفي فحوى هذا الفعل)، الجوهري: الفحوى: معنى الكلام ولحنه. الأساس: عرفت ذلك في فحوى كلامه: أي: فيما تنسمت من مراده بما تكلم، وأفحيته: خاطبت ففهمت مراده، ونحو اللحن. وهذا الذي ذكره قريبٌ من الاصطلاح، لأن إفادة هذا التركيب معنى التعجب مفهومٌ موافقٌ للخطاب، فإن ناقةً يكون مثل كليبٍ بواؤها مما يتعجب منها، ونحوه قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا} [الصف: 3] أي: ما أكبر المقت!

(يَوْمَ يَرَوْنَ) منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه (لَا بُشْرى)، أي: يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. و (يَوْمَئِذٍ) للتكرير. وإما بإضمار "اذكُرْ"، أى: اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ). وقوله (للْمُجْرِمِينَ) إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام، فقد تناولهم بعمومه (حِجْراً مَحْجُوراً) ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَوْمَ يَرَوْنَ}: منصوبٌ بأحد شيئين)، الوجهان ذكرهما الزجاج، ثم قال: لا يجوز أن ينتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} بقوله: {لَا بُشْرَى}، لأن ما اتصل بـ "لا" لا يعمل فيما قبله. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون منصوباً بـ "ينزل" المضمر لقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}، كأنه قيل: ينزل الملائكة يوم يرونهم، و {يَوْمَئِذٍ}: منصوبٌ بقوله: {لَا بُشْرَى}، لا يقال: كيف يكون وقت الرؤية وقتاً للإنزال، لأنا نقول: الظرف يحتمل ذلك لسعته. ولما كان قوله: {لَا بُشْرَى} صح أن يكون عاملاً فلا وجه لجعل مدلوله عاملاً. وقلت: قول صاحب "الفرائد" لا مزيد عليه، لأنه إذا انتصب بـ "ينزل" التأم الكلامان، لأن قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}، وقوله: {وَقَدِمْنَا} نشرٌ لقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ}، وقوله: {أَوْ نَرَى} كما سيجيء إن شاء الله. قوله: ({لِلْمُجْرِمِينَ} إما طاهرٌ في موضع ضمير، وإما لأنه عامٌ)، قال القاضي: {لِلْمُجْرِمِينَ} إما عامٌ يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان، ولا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذٍ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقتٍ آخر. وإما خاضٌ ووضع موضع ضميرهم تسجيلاً على جرمهم وإشعاراً بما هو المانع للبشرى، والموجب لما يقابلها. قوله: (في باب المصادر غير المتصرفة)، أي: التي لا تستعمل إلا منصوبةً على المصدر،

متروك إظهارها نحو: معاذ الله، وقعدك، وعمرك، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك: يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما كان قعدك وعمرك كذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعمرك: مصدرٌ عند سيبويه، قيل: معنى عمرك الله: عمرتك الله، أي: سألت الله عمرك، وإذا صح أن عمرك الله بمعنى عمرتك الله وجب أن يكون مصدراً منصوباً لعمرتك الملتزم حذفه، واسم الله: المفعول الثاني، ومعنى قعدك، أسأل أن يقعدك، أي: يثبتك. هذا التقدير مخالفٌ لما في "الصحاح" و"الأساس"، كما سيجيء. قوله: (عدوٍّ موتور)، النهاية: أنا الموتور الثائر، أي: صاحب الوتر، الطالب بالثأر، والموتور: المفعول. قوله: (على فعلٍ أو فعل)، "فعلٌ" بالكسر: قراءة العامة، وبالضم: قراءة الحسن. قال صاحب "المطلع": قرأه الحسن: "حرجاً" بضم الحاء، وفي معناه: حراماً محرماً. قال الجوهري: الحجر: الحرام، يكسر ويضم ويفتح، والكسر أفصح. قوله: (تصرفٌ فيه)، أي: أن أصل {حِجْرًا} الفتح من: حجره حجراً: منعه، كما قال،

وأنشدت لبعض الرّجاز: قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر فإن قلت: فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلما اختص بموضع تصرفوا فيه بالكسر والضم، وذلك أن {حِجْرًا مَحْجُورًا} إنما يقال عند لقاء عدو، وهجوم نازلةٍ، فإنه- هكذا- عبارةٌ عن الاستعاذة، فلذلك تصرفوا فيه، كما أن قعدك الله لما كان عبارةً عن اليمين، لأن معناه بحق صاحبك الذي هو صاحب كل نجوى، وكذا عمرك الله، معناه: بتعميرك الله، أي: بإقرارك له بالبقاء تصرفوا فيهما، كذا في "الصحاح". الأساس: قعدك الله وقعيدك الله لا أفعل، قال جريرٌ: قعيدكما الله الذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا وهي قعيدته: لامرأته. وقال الراغب: الحجر: الممنوع منه بتحريمه، قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138]، {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}، كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك، فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظناً أن ذلك ينفعهم، وقال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي: منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه. قوله: (قالت وفيها حيدةٌ) البيت، الحيدة: الميل. والذعر: الخوف.

جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: ذيل ذائل، والذيل: الهوان؛ وموت مائت. والمعنى في الآية: أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدوّ الموتور والشدة النازلة. وقيل: هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة، أو البشرى، أي: جعل الله ذلك حراما عليكم. [(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)]. ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذيل ذائل)، قال في "الأساس": يقال: أذاله: أهانه، وذال بنفسه، وهو في ذيلٍ ذائل، أي: في هوانٍ شديد، وهو في موتٍ مائت أي: شديد. قوله: (وقيل: هو من قول الملائكة)، فعلى هذا: {وَيَقُولُونَ} حالٌ من "الملائكة" على تقدير: وهم يقولون، وعلى الأول: عطفٌ على {يَرَوْنَ}. قوله: (وقيل: هو من قول الملائكة)، فعلى هذا: {وَيَقُولُونَ} حالٌ من "الملائكة" على تقدير: وهم يقولون، وعلى الأول: عطفٌ على {يَرَوْنَ}. قوله: (ليس هاهنا قدومٌ ولا ما يشبه القدوم)، فإن قلت: في قوله: "ولا ما يشبه القدوم"، بعد قوله: "ليس هاهنا قدوم" إيماءٌ إلى أن {وَقَدِمْنَا} في الآية ليس على حقيقته، ولا استعارةً، لأن نفي التشبيه يستدعي ذلك، فإن الاستعارة مجازٌ مسبوقٌ بالتشبيه، ثم أخذ في بيان طريق الاستعارة التي هي التشبيه قائلاً: "مثلت حال هؤلاء" إلى قوله: "بحال قوم خالفوا سلطانهم"، فما معنى هذا الكلام؟ قلت: معنى قوله: "لا يشبه القدوم"، أنك إذا جعلت هذا القدوم استعارةً لم يجز أيضاً أن تجريه على حقيقته في الممثل به أيضاً مجازاً، لأن المراد مجرد القصد إلى إفساد ما يملكونه، ألا ترى كيف فسر قوله: "فقدم إلى أشيائهم" بقوله: "وقصد إلى ما تحت أيديهم". قال في "الأساس": قدم من سفره، وقدم البلد، وقدم على قومه، وهؤلاء القادمون، ومن المجاز: وإنك لقادمٌ على عملك.

عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومنّ على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا. والهباء: ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: "أقل من الهباء". (مَنْثُوراً) صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله: (كَعَصْفٍ مَاكُولٍ) [الفيل: 5]، لم يكف أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واستعمال "قدم" في الممثل به مستعارٌ لقصدٍ قوي، وعزم صميم، كأنه وصل بتلك العزمة إلى مقصده، كما يقدم المسافر إلى أعزة أهله، وينصره في الآية قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي: أردت ذلك، فجعلته كذلك، قيل: أجرى الكلام على ذلك بناءً على معتقده، لأنه منكرٌ للصفات. قال ابن عباسٍ: {وَقَدِمْنَا} أي: عمدنا، قال أهل الطريقة: أطلعناهم على أعمالهم فنظروا إليها بعين الرضا فسقطوا عن أعيننا. قوله: (ولا عثيراً)، الجوهري: العثير: الغبار، بتسكين الثاء، ولا يقال: عثير، لأنه ليس في الكلام "فعيلٌ" بفتح الفاء إلا فهيد، وهو مصنوعٌ. وفي نسخة: "عثير" بفتح العين وسكون الياء التحتاني مثال العيهب، الأثر. يقال: ما رأيت لهم أثراً ولا عثراً، وهو تأكيدٌ للأثر وإتباعٌ له. قوله: (لم يكف)، شبه عملهم بالهباء، ولم يكتف به، حتى جعله متناثراً، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع: بالتتميم والإيغال. قالت الخنساء:

شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال، ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا. أو مفعول ثالث لجعلناه، أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، كقوله: (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة: 65]، أي: جامعين للمسخ والخسء. ولام الهباء واو، بدليل الهبوة. [(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)]. المستقرّ: المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرّين يتجالسون ويتحادثون. والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهنّ وملامستهنّ، كما أنّ المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروي: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار ما كفاها أن جعلته علماً في الهداية، حتى جعلته في رأسه نارٌ. قوله: (مؤوفاً بالأكال)، أي: مصاباً بآفة الأكال، يقال: أصابه أكالٌ في رأسه وأسنانه، أي: تآكل. قوله: (فجعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر)، وذلك أن المفعول الثالث بمنزلة الخبر، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، أي: جامعٌ لهذين الطعمين. قوله: (في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون)، وإنما حمل {مُسْتَقَرًّا} على هذا المعنى، والجنة أبداً مستقرهم ومقامهم، ليصح حمل {مَقِيلًا} على معنى الخلوة، ليجمع بين حالتي التعظيم والتترف، فيكون من باب التكميل. قوله: (وروي: أنه يفرغ من الحساب في نصف اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة)، فعلى

النار. وفي معناه قوله عز وعلا: (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس: 55 - 56]، قيل في تفسير الشغل: افتضاض الأبكار، ولا نوم في الجنة. وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا المستقر: هو المقيل، ومن ثم لما سأل- أي: عن نفسه- الإمام: وقال: الآية تدل على أن مستقرهم غير مقيلهم؟ أجاب بأجوبة، منها: أنه بعد الفراغ من المحاسبة، والذهاب إلى الجنة، يكون وقت القيلولة. قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وفي "شرح السنة": لا ينتصف النهار من يوم الجمعة، حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء. وقال الإمام: يحتمل أن يراد بأحدهما المصدر والزمان، إشارةً إلى أن زمانهم ومكانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة. قوله: (وفي معناه)، أي: وفي معنى {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} إذا حمل على أنهم يأوون إلى المقيل للاسترواح إلى أزواجهم، والتمتع بمغازلتهن، يدل عليه قوله: "افتضاض الأبكار". قوله: (ولا نوم في الجنة، وإنما سمي)، إلى آخره، شروعٌ في تأويل قوله: {مَقِيلًا}، بالاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن، يعني: أنه تعالى أثبت لأهل الجنة مقام القيلولة، ومعلومٌ أن لا نوم في الجنة فلا قائلة، فإذن المقيل عبارةٌ عما تستلزمه من الاستراحة والدعة، لأن المقيل: مقام النوم في القائلة، والخلوة مع الأزواج، والتفكه معهن، شبه مكان استرواحهم في الجنة مع الحور العين بما تعورف في الدنيا من مكان الاسترواح عند القيلولة، فاستعير اسم المقيل له، ووصف بالحسن إرادةً لحسن ساكنيه على طريق الكناية، كقوله: يبيت بمنجاةٍ من اللوم بيتها

على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن: رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه، وملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين والزين. [(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)]. وقرئ: (تَشَقَّقُ) والأصل: تتشقق، فحذف بعضهم التاء، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تشق به السماء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا ليس "أحسن" لأفعل التفضيل. وقال الإمام: إنه تعالى لما بين حال الكفار في الخسار الكلي، والخيبة التامة، شرع في وصف أهل الجنة، وأن مستقرهم خيرٌ من مستقر أهل النار على نحو: العسل أحلى من الخل. هذا أوفق لتأليف النظم، ولقول ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. قوله: (من التحاسين)، قيل: هو جمع التحسين، وهو مصدرٌ في الأصل ثم أوقع اسماً لما يحسن به من الزخارف، ونظيره التصاريف والتضاعيف لصروف الزمان وإثناء الشيء. قوله: (وقرئ: {تَشَقَّقُ}، الكوفيون وأبو عمروٍ: {تَشَقَّقُ} هنا وفي "ق"، بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها. قوله: (جعل الغمام كأنه الذي تشق به السماء)، قال أبو علي: قيل: معناه: تشقق السماء بسبب الغمام، ولما كان طلوعه سبباً لتشققها جعل الغمام كأنه يشقها، أو معناه: تشقق به السماء وعليها غمامٌ، كما يقال: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، أي: وعليه ثيابه وسلاحه.

كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله: (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل: 18]. فإن قلت: أي فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عن النبات؟ قلت: معنى انشقت به: أنّ الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أنّ التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل: هو غمام أبيض رقيق، مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة: 210]. وقرئ: (وننزل الملائكة)، (وننزل)، ونزل الملائكة، ونزلت الملائكة، وأنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزل الملائكة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وانشق بها)، لكون الشفرة سبباً فيه، وآلةً له. الجوهري: الشفرة بالفتح: السكين العظيم. وشفرة السيف: حده. قوله: (ونظيره قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}، قال: "الباء في {بِهِ} مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم، فالضمير يعود إلى اليوم، والمراد وصف اليوم بالشدة. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ قوله: (مثل الضبابة)، الضبابة، بفتح الضاد: سحابةٌ تغشى الأرض كالدخان، والجمع: الضباب، قاله الجوهري. قوله: (وقرئ: "وننزل")، ابن كثيرٍ: "وننزل" بنونين الثانية ساكنةٌ، وتخفيف الزاي ورفع اللام، و"الملائكة": بالنصب، والباقون: بنونٍ واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام، ورفع "الملائكة". قوله: (ونزل الملائكة)، على حذف النون وضم النون الباقية وتشديد الزاي وكسرها،

على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل: قراءة أهل مكة. [(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)] الحق: الثابت؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونصب "الملائكة". قال ابن جني: روي عن ابن كثيرٍ وأهل مكة، أصله، "ننزل"، حذف النون التي هي فاء الفعل لالتقاء النونين استخفافً، وشبهها بما حذف من أحد المثلين الزائدين في نحو: تفكرون، وتطهرون، من: تتفكرون وتتطهرون. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو: "ونزل الملائكة"، بضم النون وكسر الزاي خفيفةً. وهذا غير معروف، لأن "نزل" لا يتعدى إلى مفعول به فبني هنا للملائكة. فإن قلت: قد جاء "فعل" مما لا يتعدى نحو: جن، ولا يقال: جنة الله، بل: أجنه الله؟ قلت: هو شاذٌ، والقياس عليه مردودٌ. فهذه إما أن تكون لغةً طارقةً لم تقع إلينا، وإما أن يكون من حذف المضاف، أي: نزل نزول الملائكة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، قال العجاج: حتى إذا اصطفوا له حذارا فـ "حذاراً": منصوبٌ مصدراً لا مفعولاً به، يريد: اصطفوا اصطفاف حذار، فإن قلت: فما معنى نزل نزول الملائكة، قلت: إنه على قولك: هذا نزولٌ منزول، وصعودٌ مصعودٌ، وضربٌ مضروب، وقريبٌ منه: وقد قيل قولٌ، وقد خيف منه خوفٌ، فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة. وفي "اللوامح": ومعنى "نزل به نزول الملائكة": نزل نازل الملائكة، أي: نازلٌ من الملائكة.

لأنّ كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا ملكه. [(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن كل ملكٍ يزول يومئذٍ)، هذا التعليل مبنيٌ على تعليق الحكم بالوصف، أي: إنما قلنا: إن الحق بمعنى الثابت، لأنه تعالى وصف الملك به بعد تقييده بيومئذٍ، وأوقع {لِلرَّحْمَنِ} خبراً، فإن قيل: إن الملك الثابت للرحمن يوم القيامة فهم بدليل الخطاب أن ملك الغير زال وبطل يومئذٍ، نحوه: في الغنم السائمة زكاة. قال الزجاج: {الْحَقِّ} صفةٌ لـ {الْمَلِكُ}، ومعناه: أن الملك الذي هو الملك حقًا ملك الرحمن يوم القيامة، كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، لأن الملك الزائل كأنه ليس بملك. عن بعضهم: {يَوْمَئِذٍ}: فصلٌ بين الصفة والموصوف، والفصل بينهما بالظرف فصيح، وبين المضاف [والمضاف] إليه يجوز في ضرورة الشعر، كقوله: هما أخوا في الحرب من لا أخا له وقال أبو البقاء: {يَوْمَئِذٍ} معمولُ الملك، أو معمول ما يتعلق به اللام، ولا يعمل فيه الحق، لأنه مصدرٌ متأخرٌ عنه.

لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)]. عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم، وقرعها: كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل: نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف"، فقتل يوم بدر: أمر عليا رضي الله عنه بقتله. وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أقلح الأنصاري ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأرم)، الجوهري: الأرم: الأضراس، كأنه جمع آرمٍ، يقال: فلانٌ يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه ببعض. قوله: (عاصم بن ثابت بن أقلح)، أقلح: صح بالقاف في "المغرب"، وفي "الاستيعاب": عاصم بن ثابت بن أبي أقلح، أقلح: بالقاف، الذي بأسنانه خضرةٌ أو خفرة، وبه كني جد عاصم.

وقال: يا محمد، إلى من الصبية قال: "إلى النار". وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد، فرجع إلى مكة فمات. واللام في (الظَّالِمُ) يجوز أن تكون للعهد، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ: يا ويلتى بالياء، وهو الأصل، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في: صحارى، ومدارى. فلان: كناية عن الأعلام، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، فكنى عن اسمه. وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه (عَنِ الذِّكْرِ): عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى من الصبية؟ )، النهاية. الصبية: جمع صبي، والصبوة القياس، والأول أكثر استعمالاً. قوله: (فاللام في {الظَّالِمُ}، الفاء نتيجةٌ، يعني: اللام في {الظَّالِمُ} على أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط: للعهد، وعلى أن تكون الآية عامةً تكون للجنس، فعلى هذا دل قوله: "وقيل نزلت في عقبة بن أبي معيطٍ" على قولٍ آخر مقدر. قوله: (أو أراد أني كنت ضالاً)، عطفٌ على جملة قوله: "تمنى أن لو صحب"، وهو تفسيرٌ لقوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}، فالتنكير في {سَبِيلًا} إما للإفراد شخصاً، وهو سبيل الحق فيقدر الضلال عاماً ليتناول جميع طرق الضلال، ولهذا قال: طرق الضلالة بعد قوله: "طريقاً واحداً"، وإما للشيوع، فالضلال- على هذا- مطلقٌ أيضاً، وإليه الإشارة بقوله: "لم يكن لي سبيلٌ قطٌ"، وقال: "سبيلاً"، أي: أي سبيلٍ كان. قوله: (ومداري)، الجوهري: المدري: القرن، وربما تصلح بها الماشطة قرون النساء، وهي شيءٌ كالمسلة.

ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله. أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون وَ (كانَ الشَّيْطانُ) حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله. (اتَّخَذْتُ): يقرأ على الإدغام والإظهار، والإدغام أكثر. [(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً* وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ونَصِيرًا)]. (الرَّسُولُ): محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية، وتخويف لقومه لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم: حلّ بهم العذاب ولم ينظروا. ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم، فقال: (وَكَذلِكَ) كان كل نبىّ قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم. (مَهْجُورًا): تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نطقه بشهادة الحق)، أي: نطق عقبة بالشهادتين كما مر. قوله: (أو أراد الجنس)، فعلى هذا الجملة معترضةٌ مذيلةٌ، وعلى التعيين يجوز أن يكون حالاً. قوله: {اتَّخَذْتُ} يقرأ على الإدغام والإظهار)، ابن كثيرٍ وحفصٌ: بالإظهار، والباقون: بالإدغام. قوله: (مواسياً)، الجوهري: أسيته تأسيةً: أي عزيته.

النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه". وقيل: هو من هجر، إذا هذى، أي: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجار وهو على وجهين، أحدهما: زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين. والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله تعالى: (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت: 26]. ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمجلود والمعقول. والمعنى: اتخذوه هجرا. والعدوّ: يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء: 77] وقيل: المعنى: وقال الرسول يوم القيامة. [(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا}) أي: بإنشاد الأناشيد وإنشاء الأراجيز، وبالمكاء والتصدية. قوله: (ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر)، عطفٌ على قوله: {مَهْجُورًا} تركوه"، كالمجلود بمعنى الجلادة، والمعقول بمعنى العقل، والمعنى: اتخذوه هجراً، أي: نفس الهجر مبالغةً، هذا على قول الكوفيين، لأن صاحب "الكتاب" لم يثبت الوارد على وزن المفعول. الراغب: الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، وقوله تعالى: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} فهذا هجرٌ بالقلب، أو بالقلب واللسان. قوله: (وقيل: المعنى: وقال الرسول يوم القيامة)، عطفٌ على قوله: "حكى الله عنه شكواه قومه إليه".

(نُزِّلَ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلا كان متدافعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون: قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقا. وقوله: (كَذلِكَ) جواب لهم، أى: كذلك أنزل مفرّقا. والحكمة فيه: أن نقوّى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأنّ المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا بحفظه، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى، حيث كان أمياً لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإلا كان متدافعاً)، أي: مدفوعاً بجملةٍ واحدة، يعني: أنهم اعترضوا أن القرآن لم فرق نزوله، ولم ينزل جملةً واحدةً؟ فلو ذهبت إلى قولك: هلا فرق نزلوه جملةً واحدةً؟ لوقعت في التناقض. عن بعضهم: {نُزِّلَ}: على التفريق، بخلاف "أنزل"، وهاهنا بمعنى واحد، كقوله تعالى: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، وهذا من التقاص والتعريض، كما في "عسى" و"كاد" في إثبات "أن" وحذفها. قوله: (فضولٌ من القول)، فضولٌ: جمع فضل، غلب على ما لا خير فيه، يخالف الجمع الواحد في قولهم: له فضلٌ، وفي فضول. قوله: (لبعل به)، بكسر العين. الأساس: بعل بالأمر: إذا عي به. الراغب: قيل لفحل النخل: بعل، تشبيهاً بالبعل من الرجال، واستبعل النخل: عظم وتصور من البعل الذي هو النخل قيامه في مكانه، فقيل: بعل فلانٌ بأمره، إذا أدهش وثبت في مكانه ثبات النخل في مكانه، كقولهم: ما هو إلا شجرٌ، فيمن لا يبرح.

يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين. وأيضا: فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأنّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرّقا. فإن قلت: "ذلك" في (كَذَلِكَ) يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في عشرين سنةً، وقيل: في ثلاثٍ وعشرين)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة خمس عشرة سنةً يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يرى شيئاً سبع سنين وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً. وفي رواية: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنةً، فمكث ثلاث عشرة سنةً، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلوات الله عليه وآله وصحبه أجمعين. قوله: (وأيضاً: فكان ينزل)، عطفُ على قوله: "أن يقوي بتفريقه فؤادك"، وهذا الوجه يتضمن فوائد، منها أن الحوادث السانحة تقتضي أحكاماً متجددة موافقةً لها. ومنها: أن أسئلة السائلين تستجد أجوبةً مطابقة لها. ومنها: أن المصالح تختلف بحسب الأزمان والأوقات، فزمان قلة العدد والعدد يستدعي أن يقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وزمان كثرة الشوكة يوجب أن يخاطبوا بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. قوله: (فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقاً؟ )، يؤيد به تفسيره قبل هذا وقوله: " {كَذَلِكَ}: جوابٌ لهم، أي: كذلك أنزل مفرقاً" يعني: إذا كان هذا جواباً عن قولهم كان المشار إليه المقدم ذكره: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً}، فكيف تفسر بقولك: "كذلك أنزل مفرقاً"؟ وتلخيص الجواب: أن مفهوم قوله: هلا أنزل عليه جملةً؟ ذلك، لأنهم إذا طلبوا أن ينزل عليه جملةً فهم منه أنهم أنكروا الحالة الموجودة، وهو النزول مفرقاً. وهذا الجواب من

قلت: لأنّ قولهم: لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القول بالموجب، أي: نعم، هو كما يقولون أنزل مفرقاً على خلاف ما أنزلت الكتب الثلاثة، أي: التوراة والإنجيل والزبور، والحكمة فيه أن يقوي بتفريقه فؤاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى يعيه ويحفظه ويبين لأمته ما يسنح له من الحوادث المتجددة، ويجيب أسئلة السائلين، ويظهر ما يقتضيه الوقت من الأحكام، وينسخه بحسب المصالح، وفي الكلام التفاتٌ، والله تعالى أعلم. قوله: (فأبرزوا صفحة عجزهم)، الأساس: نظر إليه بصفح وجهه، أي: بجانبه، وكتب صفحتي الورقة. شبه عجزهم المكنون فيهم بكتابٍ فيه أسرارٌ لا يكشف، تشبيهاً بليغاً، ثم خيل أنه كتابٌ بعينه، فأخذ الوهم في تصويره بصورته، وإثبات ما يلازم الكتاب عند العرض من الصفحة، ثم شبه هذا المتوهم بمثله من المحق، ثم أطلق المحقق وأريد المتوهم، وأضيف إلى المشبه الأول، ليكون قرينةً مانعةً عن إرادة الحقيقة، فهي من الاستعارة المكنية المستلزمة للتخييلية، كأنهم أقروا بالعجز، وكتبوا على أنفسهم كتاباً، وشهروا عن صفحاته بين الناس، فعلى هذا: "وسجلوا على أنفسهم" ترشيحٌ للاستعارة، والدليل على التسجيل بالعجز اختيارهم أمرين دل كل واحدٍ على أن السيل قد بلغ الزبي، أحدهما اختيارهم الحرب على الإتيان بأقصر سورة، كما قال في الخطبة: فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب. وثانيهما: الطعن بقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، فهذا دل على أن إفحامهم بلغ غايته، لأن ديدان المحجوج عليه أن يتشبث بما هو عليه، وإليه الإشارة بقوله: "كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته". قوله: (لاذوا)، الأساس: لاذ به لياذاً، ولاوذته لواذاً، واعتصم بلوذ الجبل بجانبه.

بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة! كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته (وَرَتَّلْناهُ) معطوف على الفعل الذي تعلق به (كَذَلِكَ)، كأنه قال: كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4]، أي: اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها. وأصله: الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل: هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة، ولم يفرقه في مدة متقاربة. (وَلا يَاتُونَكَ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة - كأنه مثل في البطلان - إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدّى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام، وضع موضع معناه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالمناصبة)، الأساس: نصبناهم حرباً، وناصبناهم مناصبةً، ونصبت لفلانٍ: عاديته نصباً. قوله: (ومعنى ترتيله: أن قدرة آية بعد آية)، الراغب: الرتل: اتساق الشيء وانتظامه على استقامةٍ، يقال: رجلٌ رتل الأسنان، والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولةٍ واستقامة. قال عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. قوله: (لا كسردكم)، النهاية: وفي صفة كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يكن يسرد الحديث سرداً، أي: يتابعه، ويستعجل فيه. قوله: (ولما كان التفسير هو: التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه)،

فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: قوله: {تَفْسِيرًا} في قوله: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وضع موضع "معنى ومؤدى"، أي: أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم، فهو من وضع السبب موضع المسبب، لأن التكشيف سبب ظهور المعنى وكشفه، ففيه المبالغة مع الإيجاز. قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: وأحسن معنًى في غاية الحسن وكماله، ولا يقدر: من سؤالهم، ومثله قوله: الله أكبر له الكبرياء كلها. قلت: فإذاً يفوت معنى التسلية، لأن المعنى: لأنهم بك ما اقترحوه من قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً} فإن تنزيله مفرقاً أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى، وعلى هذا جميع ما اقترحوه. وهو المراد من قوله: "أو لا يأتونك بحالٍ وصفةٍ عجيبة، يقولون: هلا كانت هذه صفتك، إلا أعطيناك من الأحوال ما هو أحسن كشفاً من ذلك". قوله: (فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا)، قال الحريري في "درة الغواص في أوهام الخواص": يقال: قال فلانٌ: كيت وكيت، فيوهمون فيه، لأن العرب تقول: كان من الأمر كيت وكيت، وقال فلانٌ: ذيت وذيت، فيجعلون "كيت وكيت كنايةً عن المقال، كما أنهم يكنون عن مقدار الشيء وعدته بلفظة: كذا وكذا، فيقولون: قال فلانٌ من الشعر كذا وكذا بيتاً، واشترى الأمير كذا وكذا عبداً، والأصل في هذه اللفظة "ذا" فأدخل عليها كاف التشبيه، إلا أنه قد انخلع من "ذا" معنى الإشارة، ومن الكاف معنى التشبيه، لأنك لست تشير إلى شيء، ولا تشبه شيئاً بشيء، وإنما تكني بها عن عددٍ ما، والكاف لما امتزجت بـ "ذا"، وصارت معه كالجزء الواحد ناسبت لفظتها لفظة "حبذا" التي لا يجوز أن يلحقها علامة التأنيث، فتقول: عنده كذا وكذا جاريةً، وعند الفقهاء أنه إذا قال من له معرفةٌ بكلام العرب: لفلانٍ علي كذا كذا درهماً، لزم له أحد عشر درهماً، لأنه أقل الأعداد المركبة، وإن قال: له علي كذا وكذا درهماً، لزم أحدٌ وعشرون درهماً، لكونه أول الأعداد المعطوفة. وعن بعضهم: يقال: كان من الأمر كيت وكيت.

أو: لا يأتونك بحال وصفة عجيبة، يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك، نحو: أن يقرن بك ملك ينذر معك، أو يلقى إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته، يعنى: أن تنزيله مفرقا وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها: أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم: جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بكسر التاء وفتحها، وأصل التاء فيهما هاءٌ، وإنما صارت تاءً في الوصل. وحكى أبو عبيدة: كان من الأمر كيه وكيه بالهاء، ويقال: كيهه، كما يقال: لمه، في الوقف. قوله: (أو لا يأتونك بحالٍ وصفةٍ)، عطفٌ على قوله: "ولا يأتونك بسؤالٍ عجيب". قوله: (كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات)، إشارةٌ إلى أن المراد بقوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} القوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فوضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بتوهينهم، وتحقيراً لشأنهم، قال القاضي: وهو ذمٌ منصوب، أو مرفوعٌ، أو مبتدأٌ خبره {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا}، والمفضل عليه هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ولو نظرتم بعين الإنصاف)، أي: هو من باب الكلام المنصف وإرخاء العنان، فصل قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} عما قبله استئنافاً، لأنه تعالى لما قال لرسوله صلوات الله عليه مسلياً: {وَلَا يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} حرك منه صلوات الله عليه بأن يسأل: فإذن بماذا أجيبهم وما يكون قولي لهم؟ قيل: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ}

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: مقصودكم عن هذا التعنت تحقير مكاني، وتضليل سبيلي، وما أقول لكم: أنتم كذلك، بل أقول: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} الآية. فانظروا بعين الإنصاف، وتفكروا: من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم، ليعلموا أن مكانكم شرٌ من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا. وعليه قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] يبعثهم على الفكر في حال أنفسهم وما هم عليه من العنت والفساد، وحال نفسه والمؤمنين وما هم عليه من الإصلاح، ليعلموا أن المؤمنين على هدى، وهم على ضلال. فالمكان على هذا التفسير: المنزلة، و {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ}: مبتدأ، و {أُولَئِكَ}: خبره، والجملة مستأنفةٌ، و {شَرٌّ} و {أَضَلُّ} محمولان على التفضيل، ولذلك قال: "وفي طريقته: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] لمجيء متعلق "شر" و {قُلْ} منصوصاً فيه، وأن المثوبة مفسرةٌ، بالعقوبة على زعمهم ودعواهم. وأما معنى الأفضلية فهو كما قال: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون، مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شرٌ عقوبةً في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم، وإلى هذا المعنى أشار هاهنا بقوله: "إنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه"، فقوله: "ويجوز أنه يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، إلى آخره، ليس بوجهٍ آخر، ولكنه مبنيٌ على قوله: "وتحتقرون مكانه ومنزلته"، يعني: هذا المكان يجوز أن يحمل على الشرف والمنزلة كما سبق، وعلى الدار والسكن أيضاً، والتأويل التأويل. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ليس المراد أن مكانهم شرٌ من مكانه، وسبيلهم أضل من سبيله، والمراد أن مكانهم، وهو جهنم، فيه كل الشر، وسبيلهم في الضلالة في غاية الكمال، كأنه قيل: لا مكان شرٌ من مكانهم، وهو جهنم، ولا سبيل أضل من سبيلهم، وهو

وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الآية [المائدة: 60]. ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم: 73]. ووصف السبيل بالضلال من المجازى الحكمي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإشراك بالله، وما هم عليه من الأفعال والأحوال، فعلى هذا التقدير: هم الذين يحشرون على وجوههم، و"هم" يرجع إلى الضمير في {يَاتُونَكَ}، ويمكن أن يكون {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} بدلاً من الضمير في {يَاتُونَكَ}، و {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا}: كلامٌ مستأنفٌ، والمراد من قوله: {شَرٌّ} و {وَأَضَلُّ} الكمال والكل كما مر، والله الهادي. قلت: هذا التأويل إنما يحسن إذا حمل المكان على الشرف والمنزلة، ويحمل {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ} منصوباً أو مرفوعاً على الذم كما قال القاضي، و {أُولَئِكَ}: جملةٌ مستأنفةٌ تسلياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المعنى: ولا يأتونك بحالٍ أو صفةٍ عجيبةٍ يريدون بذلك حط منزلتك عند الناس إلا أعطيناك نحن من الأحوال والرفعة ما هو أحسن تكشيفاً، كقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فلا تبال بهم ولا بكيدهم، أعني الذين يحشرون على وجوههم منكوبين مخذولين امتهاناً بهم أولئك شرٌ منزلةً، وأضل سبيلاً. قوله: (كقوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا}، وجه التشبيه: يجوز أن يكون من حيث الدار والمسكن، وأن يكون من حيث الشرف والمنزلة، والمعنى: إن نظرتم بعين الإنصاف وحالكم أنكم تسحبون على وجوهكم إلى جهنم ذليلين مهانين، وحال المؤمنين بخلاف ذلك، لعلمتم الآن أن مكانكم أبلغ في الشر من مكان المؤمنين، كما تزعمون أن مقامكم خيرٌ من مقامهم ونديكم أحسن من نديهم. قوله: (من المجاز الحكمي)، من المجاز الذي يتعلق بحكم الكلام لا باللفظ"، يعني: أن الحكم معدى من مكانه الأصلي إلى غيره، كما تقول: أنبت الربيع البقل، فإن حكم

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا". [(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً* فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأصل: أنبت الله البقل وقت الربيع، فعدي منه وأسند إلى الربيع مبالغةً. كذلك هاهنا، الأصل: أولئك أضل منه في السبيل، فأسند الضلال إلى السبيل مبالغةً، حيث جعل تمييزاً ليؤذن أن سبيلهم ضالٌ لقوة الضلال فيهم، نحو: مكانٌ سائرٌ. قوله: (يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاثٍ)، الحديث، من راوية الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاةً، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم"، قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدبٍ وشوك". قال القاضي: صنف المشاة: المؤمنون الذين خلطوا صالح أعمالهم بسيئها، ولعلهم أصحاب اليمين، والركبان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويجتنبون عن السيئات، يسرعون إلى ما أعد لهم في الجنان إسراع الركبان، ولعلهم السابقون. وقلت: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ}: الكفار والمشركون، ولعلهم أصحاب الشمال، لقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47]. قوله: (ينسلون نسلاً)، الجوهري: نسل في العدو، ينسل، نسلاً ونسلاناً، أي: أسرع

الوزارة لا تنافي النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، كقوله: (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء: 63] أي: فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أوّلها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني: إلزام الحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن علي رضي الله عنه: (ودمَّرتُهم)، وعنه: (فدَمِّراهُم). وقرئ (فدمّرانّهم) على التأكيد بالنون الثقيلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يؤازر بعضهم بعضاً)، الجوهري: الوزر: الملجأ. وأصل الوزر: الجبل. والوزر: الإثم، والثقل والمكاره، والسلاح. الوزير: المؤازر، كالأكيل والمؤاكل، لأنه يحمل عنه وزره، أي: ثقله. قوله: (وقرئ: "فدمرانهم" على التأكيد بالنون)، قال ابن جني: هي قراءة علي ومسلمة، كأنه أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يدمرانهم، وألحق نون التوكيد ألف التثنية، كما تقول: أضربان زيداً ولا تقتلان جعفراً. وقال صاحب "المطلع": فإن قيل: لم يكونوا كذبوا بالآيات حين أمر بالذهاب إليهم، فكيف وصفوا؟ قلنا: المعنى اذهبا بآياتنا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا المتقدمة مع الرسل الماضية. وقال الإمام: إنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين، شرع في ذكر القصص على السنن المعلوم، فبدأ بقصة موسى عليه السلام، أي: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فرد، فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هارون، مع ذلك فقد رد وكد، وكذلك الرسل قاطبة. وقلت: إن الله تعالى لما حكم بقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} وسلاه بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} جاء بتفصيل ذلك،

[(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)]. كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة (وَجَعَلْناهُمْ)، وجعلنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبدأ بقصة موسى وفرعون مجملاً، وثنى بقصة نوح، وثلث بعادٍ، ثم أجمل بقوله: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ}. قوله: (أو لم يروا بعثة الرسل أصلًا)، التعريف في قوله: {كَذَّبُوا الرُّسُلَ} إما للعهد، والمراد: رسلٌ مخصوصون، فهو المراد من قوله: "كذبوا نوحاً من قبله"، وإما لاستغراق الجنس، فهو المراد من قوله: "تكذيبهم لواحد منهم تكذيبٌ للجمع"، وذلك أن لكل فردٍ من أفراد تلك الحقيقة حكم الجميع، فمن كذب واحداً لزم منع تكذيب الجميع، لأن وجه دلالة المعجز على الصدق مشتركٌ فيهم، وعليه قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وإما للجنس، وهو المراد من قوله: "أو لم يروا بعثة الرسل أصلاً"، أي: كذبوا هذا الجنس المسمى بالرسل، كقولهم: فلانٌ يركب الخيل، وما له إلا فرسٌ واحد. والوجه الثاني والثالث: كنايتان متقابلتان لما يلزم في الثاني من تكذيب نوح تكذيب الرسل قاطبةً، ومن الثالث عكسه، والفرق بين الوجه الثاني والثالث: هو أن التكذيب في الثاني تابعٌ للوصفية حيثما وجدت ترتب عليها التكذيب وفي الثالث تابع للماهية، والله أعلم. قوله: (كالبراهمة)، قيل: هم قومٌ لا يجوزون على الله بعثة الرسل، والبرهمة: إدامة النظر، وسكون الطرف، وبرهم: إذا فتح عينيه وأحد النظر. قال الشهر ستاني صاحب "الملل والنحل": الهند أمةٌ كبيرة، وآراؤهم مختلفةٌ، والبراهمة انتسبوا إلى رجلٍ منهم يقال له برهام، قد مهد لهم نفي النبوات أصلاً، وقرر استحالة ذلك في العقول.

إغراقهم أو قصتهم (لِلظَّالِمِينَ) إمّا أن يعنى بهم قوم نوح، وأصله: وأعتدنا لهم، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإمّا أن يتناولهم بعمومه. [(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)]. عطف عادا على "هُمْ" في (وجَعَلْنَاهُمْ) [الفرقان: 37] أو على الظالمين، لأنّ المعنى: ووعدنا الظالمين. وقرئ: (وثَمُودَا) على تأويله القبيلة، وأما المنصرف فعلى تأويل الحي، أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قصد تظليمهم فأظهر)، أي: وضع الظاهر موضع المضمر تظليماً لهم، من: ظلمه، أي: قال له: إنك ظالمٌ، أو نسبهم إلى الظلم ليؤذن أن تعذيبهم وإغراقهم بسبب تكذيبهم الرسل، وأن لا ظلم أظهر منه، وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} على وضع المضمر موضع المظهر عطفه على {أَغْرَقْنَا} ليجمع لهم نكال الدارين، وعلى العموم من باب التذييل فيدخلوا في العام دخولاً أولياً. قوله: (لأن المعنى: ووعدنا الظالمين)، يعني: قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} في معنى الوعيد، أي: ووعدنا الظالمين، ثم عطف عاداً وثمود عطف الخاص على العام مبالغةً، لأنهم رؤوس الظلمة والأوحديون فيه. قوله: (وقرئ: {وَثَمُودَ}، حفصٌ وحمزة: بغير تنوين، والباقون: بالتنوين. قوله: (أصحاب أبآر)، الجوهري: البئر: جمعها في القلة: أبؤرٌ وأبارٌ، بهمزةٍ بعد الباء.

البئر غير المطوية. عن أبي عبيدة- انهارت بهم، فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس: قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتختطفهم إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا: وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: هو الأخدود. وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل: كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أى: دسوه فيها (بَيْنَ ذلِكَ) أي: بين ذلك المذكور، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بـ "ذلك"، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود. (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ): بينا له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (البئر غير المطوية)، أي: غير المبنية. الأساس: طوى البناء باللبن، والبئر: بالحجارة، وهي الطوي والأطواء. قوله: (قريةٌ بفلج اليمامة)، النهاية: فلج بفتحتين: قريةٌ عظيمةٌ من ناحية اليمامة، وموضعٌ باليمن من مساكن عاد، وبسكون اللام: وادٍ قريبٌ من البصرة. قوله: (حنطلة بن صفوان)، روى محيي السنة عن سعيد بن جيبر: كان لهم نبيٌ يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوه فأهلكهم الله. وأما حديث العنقاء فما وجدته إلا في "مجمع الأمثال" للميداني. قوله: (يقال له: فتخ)، قيل: صح بالتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة، وبالحاء غير المعجمة: رواية، وبالجيم والياء التحتاني أيضاً، ذكره صاحب "الإيضاح" في "شرح المقامات".

القصص العجيبة من قصص الأوّلين، ووصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير. ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. و (كُلًّا) الأوّل منصوب بما دل عليه (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ)؛ وهو: أنذرنا. أو: حذرنا. والثاني بـ (تَبَّرْنَا)، لأنه فارغ له. [(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)]. أراد بالقرية "سدوم" من قرى قوم لوط، وكانت خمسا: أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء: الحجارة، يعني: أن قريشا مرّوا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (أَفَلَمْ يَكُونُوا) في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون؟ (بَلْ كانُوا) قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون (نُشُوراً) وعاقبة، فوضع الرجاء موضع التوقع، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومرّوا بها كما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراد بالقرية: سدوم، من قرى قوم لوطٍ عليه السلام)، وعن بعضهم: سدوم عظامها وعاموراء وأذوما وصبوائيم وصغر، نجت صغر، وهلكت البواقي، وفي حاشيةٍ موثوقٍ بها: سذوم بالذال المعجمة، ذكره الأزهري. والجوهري بالدال غير المعجمة. قوله: (لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن)، يريد أن حقيقة الرجاء انتظار الخير.

مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون؛ لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو: لا يخافون، على اللغة التهامية. [(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً* إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)]. "إِنْ" الأولى نافية، والثانية: مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا: في معنى استهزأ به، والأصل: اتخذه موضع هزء، أو مهزوءا به (أَهذَا) محكي بعد القول المضمر. وهذا استصغار، و (بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) وإخراجه في معرض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الرجاء: ظن حصول ما فيه مسرةٌ. الأساس: أرجو من الله المغفرة، ورجوت في ولدي الرشد، وأتيت فلاناً رجاء أن يحسن إلي، والكافر لا يرجو بل يتوقع، لأن التوقع: الترقب. الأساس: توقعته: ترقبت وقوعه. قوله: (أو: لا يأملون)، فعلى هذا الرجاء على حقيقته. قوله: (أو: لا يخافون)، الأساس: ومن المجاز استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يقال: لقيت هولاً ما رجيته وما ارتجيته. قوله: (وهذا استصغار)، مبتدأٌ وخبر. قوله: (و {بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا})، في موضع الابتداء على حكاية القرآن، والخبر: "سخريةٌ"، أي: بعثه، وحذف الضمير. ويروى: "بعث الله" على المصدر. قال الإمام: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} تفسيرٌ لقوله: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} فاستحقروه بقوله: {أَهَذَا} واستهزؤوا به بقولهم: {رَسُولًا}، وهم منكرون، ذلك جهلٌ عظيم، لأن الاستهزاء والاحتقار إما أن يقع بصورته أو صفته، أما الأول

التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار: سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا؟ وقولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا- بزعمهم- أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فباطلٌ، لأنه صلوات الله عليه كان أحسن منهم خلقةً على أن لم يكن يدعي ذلك. وأما الثاني فكذلك، لأنه صلوات الله عليه ادعى التميز عنهم بإظهار المعجزة، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته، ففي الحقيقة هم الذين استحقوا أن يهزأ بهم، ويحقر شأنهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في أكثر الأوقات إلا السفاهة. قوله: (ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله رسولاً؟ )، لأن من مقتضى الظاهر أن يترجموا عن معتقدهم بقولهم: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله؟ فلما أتوا بالفعل الماضي وأوقعوا رسولاً حالاً من المفعول، وجعلوا الجملة صلة الموصول، أعلموا بأنه مقررٌ عندهم أنه رسولٌ ثابت الرسالة، فلو لم يحمل على الاستهزاء، لأن القوم كفرةٌ معاندةٌ، لا يكون له معنى. قوله: (ذليلٌ على فرط مجاهدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم)، قال الإمام: وتدل الآية على اعتراف القوم بأنهم ما اعترضوا على الدلائل كلها إلا بمحض الجمود والتقليد، لأن قولهم: {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} إشارةٌ إلى الجمود والإصرار، كدأب الجهال، وإلى أنهم مقهورون تحت حجته صلوات الله عليه، وما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة. وإلى أنهم سلموا في آخر الأمر قوة الحجة ورزانة العقل، فالقوم لما جمعوا بين الاستهزاء والاستحقار، وبين رزانة العقل وقوة الحجة، دل على أنهم كانوا متحيرين في أمره.

و "لَوْلا" في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى - لا من حيث الصنعة - مجرى التقييد للحكم المطلق (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير. وقوله: (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) كالجواب عن قولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا)؛ لأنه نسبة لرسول الله إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى: أنه من قول أبي جهل لعنه الله. [(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)]. من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر، لا يتبصر دليلا ولا يصغي إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"لولا" في مثل هذا الكلام جارٍ- من حيث المعنى لا من حيث الصنعة- مجرى التقييد للحكم المطلق)، ويروى: لا من حيث الصنعة، بالنون والعين المهملة، أي: صنعة أهل النحو، يعني: أن صنعة النحو تقتضي أن يأتي بعد كلمات الشرط جملتان: شرطٌ وجزاء، وقد يؤتى في بعض المواضع الذي يراد تقييد الجملة المتقدمة بشرطٍ محذوفٍ جوابه، كقولك: آتيك غداً إن تركني فلانٌ، فقولك: إن تركني: تقييدٌ لا من حيث الصنعة، لأن "إن" ليست بموضوعية للقيد، قال: " {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا} [الممتحنة: 1]، متعلقٌ بـ {لَا تَتَّخِذُوا} يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرطٌ جوابه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه"، وحكم "لولا" حكم كلمات الشرط في اقتضاء الجملتين، وتقدير الربط بينهما. قوله: (من كان في طاعة الهوى)، "من": شرطيةٌ، أو موصولةٌ، والخبر أو الجزاء قوله: "فهو عابدٌ هواه"، وقوله: "فيقول"، مرتبٌ عليهما، والهمزة فلي {أَرَأَيْتَ} للتقرير والإنكار، يعني: إذا كان الشأن كذلك فيقول الله لرسوله: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أنت تتوكل عليه وتحبره على الإسلام؟ وإليه الإشارة بقوله: "هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه" إلى آخره، ويجوز أن يكون قوله: "فهو عابدٌ هواه" معطوفاً على "يتبعه في كل ما يأتي ويذر"، "فيقول" جزاء الشرط، أي: كونهم على هذه الحالة الشنيعة، سببٌ لأن ينكر الله تعالى على رسوله

معبودا إلا هواه: كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول: لا بدّ أن تسلم شئت أو أبيت، ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق: 45]، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية: 22]. ويروى: أنّ الرجل منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي. [(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)]. (أَمْ) هذه منقطعة، معناه: بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلها؟ قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأوّل للعناية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويقول: هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه. هذا التقدير أوفق لتفسير الآية، لأن قوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} واقعٌ جزاءً للشرط، وهو معنى قوله: "فيقول لرسوله هذا الذي" ليؤذن بأن الجزاء لا يستقيم إلا بتقدير الإخبار والقول. وقد أكد الله سبحانه وتعالى الإنكار حيث أخرج الشرط والجزاء الإنكار، وأقحم حرف الإنكار بين الشرط والجزاء على ضمير الفاعل المعنوي ليدل على أن الوكيل هو الله تعالى، ليس غيره أحدٌ. قوله: (أفتتوكل عليه؟ )، قيل: هو مطاوع وكله: جعله وكيلاً، يقال: توكل لي على فلانٍ حتى تأخذ حقي منه. قوله: (ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية)، الانتصاف: وفيه نكتة إفادة الحصر، فإن الجملة قبل دخول {أَرَأَيْتَ} و {اتَّخَذَ} مبتدأٌ، وخبر المبتدأ: {إِلَهَهُ}،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والخبر: {هَوَاهُ}. وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه؟ وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه. وقال صاحب "الفرائد": تقديم المفعول الثاني يمكن، حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ، والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبراً فالمتقدم هو المبتدأ، فقوله: كما تقول: علمت منطلقاً زيداً، ليس بسديد، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات، بخلاف المتأخر، فتقديم {إِلَهَهُ}، على {هَوَاهُ}. وقلت: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم، وأن المعرفين أيهما قدم فهو المبتدأ، لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره من أصل المعنى، فإذا قيل: زيدٌ الأسد، فالأسد هو المشبه به أصالةً، ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع، فإذا جعلته مبتدأ في قولك: الأسد زيدٌ، أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة، وما يعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه، لا القار فيه، فالمشبه به هاهنا: الإله، والمشبه: الهوى، لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله، وإليه الإشارة بقوله: "اتخذ الهوى إلهاً"، فقدم المشبه به الأصلي، وأوقعه مشبهاً، ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة لها أقوى من الإله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ولمح صاحب "المفتاح" إلى هذا المعنى في كتابه. وإنما قال المؤلف: "ما هو إلا تقديم المفعول" على الحصر، لئلا يتوهم متوهمٌ خلافه، وأما المثال الذي أورده صاحب "الفرائد" فمعنى قوله: اتخذ ابنه غلامه، جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله، وقوله: اتخذ غلامه، ابنه جعل غلامه ابنه مكرماً مدللاً.

كما تقول: علمت منطلقا زيدا: لفضل عنايتك بالمنطلق. فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلا داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنىّ والعذب الروي. [(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)]. (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ): ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته؟ ومعنى مدّ الظل: أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعذب الروي)، أي: المروي: وهو من الإسناد المجازي، لأن الروي في الحقيقة: الريان، وهو الرجل، وهو فعيلٌ بمعنى مفعل، كالحكيم بمعنى المحكم في أحد الأقوال. الأساس: وماءٌ رواءٌ ورويٌ: وللوارد فيه: ريٌ. ورويت على أهلي، ورويت لهم ورويتهم: استقيت لهم، ومن المجاز: سحاب روي: عظيم القطر، وكأس روية. قوله: (ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته؟ )، قال القاضي: أصله: ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم إشعاراً بأن المعقول لوضوح برهانه، وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة، وأن ذلك فعل الصانع الحكيم، كالمحسوس المشاهد المرئي، أو لم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل، وذلك فيما بين طلوع الفجر، وهو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو، ويبهر المبصر ولذل وصف به الجنة فقال: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30].

جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي: لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة، غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا: أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه: أنه ينسخه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ولو قيل: ألم تر إلى الظل كيف مده؟ كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر، والذي عليه التلاوة عكسه، والمقام يقتضيه، لأن الكلام في تقريع القوم، وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلهاً مع وضوح هذه الدلائل، ولذلك جعل ما يدل على ذاته مقدماً على أفعاله في سائر آياته {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ}، {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}، {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا}. روى السلمي في "الحقائق"، عن بعضهم: مخاطبة العام: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] ومخاطبة الخاص: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ}. قوله: (سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه، وعدم ذلك سكوناً)، يعني: قوبل {مَدَّ الظِّلَّ} بقوله: {سَاكِنًا}، ومقابل السكون الحركة، فيكون إطلاق مد ظل وبسطه على الحركة من باب تسمية الشيء باسم ملابسه أو سببه. فإن قلت: لم عدل عن "متحركاً" إلى "مد" وهو أظهر من "مد" في تناوله الانبساط والامتداد؟ قلت: ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات، وهو معرفة أوقات الصلوات، فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط، وتمم معنى الإدماج بقوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي: بالتدريج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات، وفيه لمحةٌ من معنى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188].

بضح الشمس (يَسِيراً) أي: على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: (ثُمَّ) في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كأن الثاني أعظم من الأوّل، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بضح الشمس)، النهاية: الضح: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، وهو كالقمراء للقمر. قوله: (كأن الثاني أعظم من الأول) لأن في إزالة الظل بالشمس دليلاً على جوده، فلولا الشمس ما عرف الظل، وأما الانتفاع بهما فالانتشار في النهار، والهدوء في الليل، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [الإسراء: 66]، وما يحصل من وجود الليل من الرطوبة التي ينمو بها النامي، وتصبغ الفواكه، ومن وجود النهار الإنضاج، وأكثر الاستمتاع. وكون الثالث، أي: قبض الظل قبضاً يسيراً، أعظم من الثاني، لأن فيه الحصول والإزالة مع التدرج والمهل، فتحصل تلك الفائدة مع معرفة الساعات والأوقات المنوطة عليها أكثر أحكام الشرع، ولأن في التدرج الاستئناس، وفي الفجاءة التوحش. قوله: (تشبيهاً لتباعد ما بينهما)، يعني: "ثم" هاهنا استعارةٌ تبعيةٌ، حيث شبه بعد المرتبة بالبعد الزماني، ثم استعير لجانب المشبه لفظة "ثم"، وليس المعنى أنه تعالى بعد ذلك المد بزمانٍ متراخٍ جعل الشمس عليه دليلاً، فيجب الحمل على المجاز، وكذلك {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا}. قوله: (ووجهٌ آخر)، وهذا الوجه مبنيٌ على أن "ثم" مجرى على حقيقتها، وهي التراخي في الزمان، ولا شك أن الظلمة سابقةٌ على النور، قال الله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره"، أخرجه الإمام أحمد بن حنبلٍ في "مسنده" عن عبد الله بن عمروٍ.

مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرّا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أى: سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتدّ ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد: قبضه عند قيام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيناناً)، الأساس: وغصنٌ فينانٌ: كثير الأفنان، وهو في ظل عيشٍ وفينان شجرة، وعن بعضهم: ظلٌ فينانٌ، أي: ظليلٌ، وصرفه حيث فيعالاً من الفنن، وأصله في الشجر، يقال: شجرةٌ فينانةٌ. وفي "الصحاح": رجلٌ فينان: طويل الشعر وحسنه، وهو فعلان، جعله من الفينة. قيل: وأطبق الإمامان على أنه منصرفٌ، والحسن بن هانئ منعه الصرف في قوله: فينان ما في أديمه جوب وهو وهمٌ منه، كما وهم الطائي في قوله: والنبع عريان ما في عوده ثمر قوله: (ما في أديمه جوبٌ)، هو جمع جوبةٍ. الجوهري: الجوبة: الفرجة في السحاب وفي الجبال. وانجابت السحابة: انكشفت، والجوبة: موضعٌ ينجاب في الحرة، والجمع جوبٌ.

الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله: (قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا): يدل عليه، وكذلك قوله (يَسِيرًا)، كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44]. [(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)]. شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت. والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام: 60]. فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} يدل عليه)، أي: يدل على أن المراد قبض الظل وإعدامه. وصف القبض باليسير، لأن إتيان الساعة وأماراتها عليه يسيرٌ، كقوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]. وفائدة إلينا في {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} وصيغة الجمع: القبض التام كقوله تعالى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. قوله: (هلا فسرته بالراحة؟ )، يعني: السبات لفظٌ مشتركٌ. الجوهري: السبات: النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9]، وقال: المسبوت: الميت، والمغشي عليه، وكذلك العليل إذا كان ملقًى كالنائم. الأساس: جعل الله النوم سباتاً: موتاً، وأصبح فلانٌ مسبوتاً: ميتاً، فلم خصصته بالموت؟ وأجاب: أن النظم والتقابل هو القرينة المخصصة. فإن قلت: {النَّهَارَ نُشُورًا} في مقابل {اللَّيْلَ لِبَاسًا} و {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} لا قرينة لها؟ قلت: تكرير {جَعَلَ} يدل على أن النوم داخلٌ في حكم {جَعَلَ} الأول، وأن النشر في النهار يقابلها لاشتمال النشور على الظهور والبعث. فإن قلت: وقد فسر القاضي بهما حيث قال: جعل النوم سباتاً: راحةً للأبدان، بقطع

إباء العيوف الورد وهو مرنق. وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه؛ لأنّ الاحتجاب بستر الليل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشاغل، وأصل السبت: القطع، أو موتاً، لأنه قطع الحياة {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} ذا نشور، أي: انتشارٍ ينتشر فيه الناس للمعاش، أو بعث من النوم بعث الأموات. والمصنف أباه كل الإباء، وضرب له المثل. قلت: قد تقرر أن السبات لفظةٌ مشتركةٌ وهي مفتقرةٌ إلى قرينةٍ مبينة، والقرينة {نُشُوزًا} لتقابلها، فجعلها حقيقةً شرعيةً أولى من اللغوية التي بمنزلة المجاز على أن المقام لا يساعد اللغوية، لأنه إذا اتفق تفسير الآية مع الآيات السابقة واللاحقة في المعنى وتضمن نكتةً زائدةً، كان أحسن من الاختلاف، والخلو عن تلك اللطيفة، وفي السابقة حديثٌ من معنى الإيجاد والإعدام، حيث فسر القبض بالإعدام، والمد بالإيجاد. واللاحقة فيها {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}، فالآيات مع دلالتها على القدرة الباهرة، ومع إظهار النعمة في الدلالة على الحشر والنشر، وبه رمز المصنف بقوله: "والنوم واليقظة" أي: عبرةٌ فيهما لمن اعتبر. قوله: (إباء العيوف الورد وهو مرنقٌ)، الأساس: وهو يعاف الطعام والشراب، والمياه. [قال: وإني لشراب المياه إذا صفت ... وإني إذا كدرتها لعيوف وناقةٌ عيوفٌ: تشم الماء ثم تدعه. وفيه: له رونقٌ، أي: حسنٌ وبهاء، وذهب رونقه. ورنقه: كدره، كأن معناه: ذهب برونقه الذي هو صفاؤه والمعنى: قوله: {نُشُورًا} يمنع تفسير السبات بالنوم الذي هو الراحة، لعدم التقابل، امتناع ناقةٍ تكره الماء الصافي، والحال أنها عرضت على الماء الكدر.

كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أي: عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان: أنه قال لابنه: يا بني، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر. [(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)]. قرئ: (الريح)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كم فيه لكثيرٍ من الناس من فوائد)، كم هنا: خبريةٌ، وهي خبر أن، وفي معناه أنشد أبو الطيب: وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردي الأعداء تسري عليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب قوله: (والنوم واليقظة)، "النوم": مبتدأٌ، والخبر: "أي: عبرة"، على تأويل: مقولٌ عند ذكرهما، أي عبرةٍ فيهما، "وشبههما بالموت والحياة" جملةٌ معترضةٌ لتأكيد معنى العبرة فيهما. وقيل: هي حالٌ، وليس بشيء، وفي نسخة: "وشبههما" بالرفع: عطفٌ تفسيري. قوله: (قرئ: "الريح")، قرأها ابن كثيرٍ وحده، وقرأ عاصم {بُشْرًا} بالباء مضمومةً وإسكان الشين، وابن عامرٍ: بالنون مضمومةً، وإسكان الشين، وحمزة والكسائي: بالنون مفتوحةً وإسكان الشين، والباقون: بالنون مضمومةً وضم الشين، وابن السميفع:

و (الرياح نشرا) إحياء. و (نشرا) جمع نشور، وهي المحيية. و (نشرا) تخفيف: نشر، و (بشرا) تخفيف بشر؛ جمع بشور وبشرى. و (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة مليحة، أي: قدام المطر. (طَهُوراً): بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى: هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة؛ كان سديدا. ويعضده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال: 11]، وإلا فليس "فعول" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الرياح بشرى"، بالياء مثل: حبلى. قال ابن جني: "بشرى" مصدرٌ وقع موقع الحال، أي: مبشرةً، نحو قولهم: جاء زيدٌ ركضاً، أي: راكضاً، وهلم جراً، أي: جاراً أو منجراً. قوله: ("نشراً"): إحياءً)، على أن "نشراً": حالٌ من ضمير الفاعل، وقوله: "ونشراً": جمع: نشوراً، وهي المحيية" على أنه حالٌ من المفعول. قوله: (استعارةٌ مليحةٌ)، إما ترشيحيةٌ، إذا قرئ: {بُشْرًا} بالباء، شبه المطر بالرحمة، ثم استعير له الرحمة ورشحها بقوله: {بُشْرًا}، قال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]، ثم جعلها بين يديه تتميماً لها، لأن البشير يتقدم المبشر به، ويجوز أن تكون تمثيليةً، و {بُشْرًا} من تتمة الاستعارة، وداخلٌ في جملتها، ومن قرأ "نشراً" بالنون كان تجريداً لها، لأن النشر يناسب السحاب. قوله: (وعن أحمد بن يحيي)، وهو أبو العباس ثعلبٌ. قال ابن الأنباري: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه، وكان ثقةً ديناً مشهوراً بصدق اللهجة والمعرفة بالغريب. وقال المبرد: أعلم الكوفيين ثعلبٌ، فذكر الفراء فقال: لا يعشره. قوله: (فإن كان ما قاله شرحاً لبلاغته في الطهارة، كان سديداً ..... وإلا فليس "فعولٌ"

من التفعيل في شيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من التفعيل في شيء)، قال القاضي: "فعولٌ" غلب في معنيين، أحدهما: اسمٌ كالوضوء والوقود: لما يتوضأ ويوقد به. وثانيهما: للمبالغة، كالشكور والغفور. وقد جاء للمفعول كالضبوث، وللمصدر كالقبول، وللاسم كالذنوب. وقال صاحب "المغرب": وما حكي عن ثعلبٍ إن كان زيادة بيانٍ لنهايته في الطهارة، فصواب حسنٌ، وإلا فليس فعولٌ من التفعيل في شيء، وقياس هذا على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية، كقطوع ومنوع، غير سديد. ونقل صاحب "المطلع" عن "بسيط" الواحدي، أنه قال: أجاد أبو القاسم الزجاجي في تفسير الطهور، وكشف عن حقيقة المعنى فقال: الطهور: اسمٌ للماء الذي يتطهر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهراً في نفسه، مطهراً لغيره، لأن عدول العرب عن صيغة "فاعل" إلى "فعيل" أو "فعولٍ" لزيادة المعنى، لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابرٍ وصبور، وشاكرٍ، كذلك في: طاهرٍ وطهور، والشيء إذا كان طاهراً في نفسه لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهر منه حتى تصفه بطهورٍ لزيادة طهارته، ولا كذلك قادرٌ وقدير، وغافرٌ وغفور، لأن هذه نعوتٌ تحتمل الزيادة، والطهارة ليست كذلك، فإذا نقلنا الطاهر إلى طهورٍ لم يكن إلا لزيادة المعنى، وذلك المعنى ليس إلا التطهير. فإن قيل: بناء الطهور من: طهر يطهر طهارةً، وهو لازمٌ، فكيف يجوز تعديته بتطهير غيره؟ قلنا: النظر في هذه اللفظة أدى إلى أن فيه معنى التطهير، لأنه لا يجوز إطلاقه على الماء

والطهور على وجهين في العربية: صفة، واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور، كقولك: طاهر، والاسم قولك لما يتطهر به: طهور، كالوضوء، والوقود، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم: تطهرت طهورا حسنا، كقولك: وضوءا حسنا، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور" أي: طهارة. فإن قلت: ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت: تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظنّ، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي ليس بمطهر، لأن العرب لا تسمى الشيء الذي لا يقع به التطهير طهوراً، فمن هذا الوجه يجب أن يعلم، لا من التعدي واللزوم. فإن قيل: هذا يشكل بقوله عز وجل في صفة شراب أهل الجنة: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وبقول جريرٍ: عذاب الثنايا ريقهن طهور قلنا: لما وصف الله تعالى الماء في الدنيا بالطهارة، فجعله طهوراً، وهذا غاية ما يوصف به الماء، وصف ذلك الشراب أيضاً بهذا الوصف ليعتقد فيه من الطهارة ما اعتقدناه فيما وصفه من الماء، وإن كان ذلك أرفع وأشرف، وكذلك جريرٌ لما علم أن غاية وصف الماء أن يقال: طهورٌ، شبه الريق بالماء، وأحب أن يزيل عن الريق سمة النجاسة فلم يمكنه أن يصفه إلا بما يوصف به الماء، ألا ترى أنه قال: عذاب الثنايا، فوصفها بالعذوبة، وهي من صفة الماء، فكما أن العذب حقيقةٌ في الماء مجازٌ في غيره، كذلك الطهور حقيقةٌ في الماء مستعارٌ في الريق، وهذا واضحٌ جداً. انتهى كلام الزجاجي. الزجاجي: بالجيم الخفيفة.

أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبي حنيفة، وعند مالك بن أنس: ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت: فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو استعماله في البدن)، عطفٌ على "تيقن مخالطة النجاسة"، وفيه إشعارٌ بأن الماء المستعمل مسلوبٌ عنه الطهورية فيبقى طاهراً. قوله: (وعند مالك بن أنس)، قال صاحب "الجامع": هو صاحب المذهب أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر من بني حمير ابن سبأ الأكبر. وأنس بن مالك من الأنصار من بني النجار، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (فما تقول في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن بئر بضاعة؟ )، يعني: هذا الحديث يقوي مذهب مالكٍ ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور، ومذهب الشافعي: الماء الكثير كذلك. وخلاصة الجواب: أن ما ذكره أبو حنيفة هو حكم الماء الراكد، وبئر بضاعة ماؤها جارٍ. قلت: أما حديث بئر بضاعة فعن أبي داود والترمذي والنسائي، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قيل: يا رسول الله، إنه يستقى لك من بئر بضاعة، ويلقى فيه لحوم الكلاب وخرق المحائض وعذر الناس؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء".

"الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه؟ قلت: قال الواقدي: كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين. [(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)]. وإنما قال: (مَيْتاً)؛ لأنّ "البلدة" في معنى "البلد" في قوله: (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [فاطر: 9]، وأنه غير جار على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ: (نسقيه) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو داود: سئل قيم بئر بضاعة عن عمقها؟ قال: إذا كثر كان إلى العانة، وإذا نقص كان دون العورة، قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة، فإذا عرضها ستة أذرع. وقلت: الظاهر من هذه الرواية أنها كانت راكدةً، والله أعلم. قال صاحب "النهاية": هي بئرٌ معروفةٌ بالمدينة، والمحفوظ ضم الباء، وأجاز بعضهم كسرها، وحكى بعضهم بالصاد المهملة، وعن بعضهم: بضاعة: اسم امرأةٍ نسبت إليها البئر. قوله: (لأن " البلدة" في معنى "البلد")، أي: لم يقل: "ميتة"، لأن معنى "البلد" و"البلدة" واحدٌ. الراغب: البلد: المكان المحيط المحدود. وسمي المفازة بلداً لكونها موطناً للوحوش، والمقبرة بلداً لكونها موطناً للأموات. قوله: (وأنه غير جارٍ على الفعل)، أي: "الميت" ليس على وزان الفعل، فيكون ملحقاً بالأسماء، كالذبيحة والنطيحة. قيل: إن نحو "فاعل" جارٍ على "يفعل" من حيث الحركات والسكنات، ونحو "مفعولٍ" جارٍ على "يفعل" لأن أصله "مفعلٌ"، وأما نحو "فعولٍ" و"مفتعالٍ" و"مفعيلٍ" و"فعيلٍ" بمعنى "مفعولٍ" فليس جارياً على الفعل، فيستوي فيه المذكر والمؤنث.

بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل: أسقاه: جعل له سقيا. الأناسي: جمع إنسي، أو إنسان. ونحوه ظرابي في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك: أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت: لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه: ظرابي)، الجوهري: هي دويبةٌ كالهرة منتنة الريح، يقال: ظربى على فعلي هو جمعٌ، مثل: حجلى جمع، حجل، وربما مد وجمع على ظرابي، مثل: حرباء وحرابي، كأنه جمع ظرباء. وقال الزجاج: "أناسي": جمع إنسي، ككرسي وكراسي، أو جمع أناسين، كسراحين وسرحان. قوله: (إنزال الماء موصوفاً بالطهارة)، يعني: لا شك أن في إنزال الماء من السماء لأجل إحياء الأرض، وسقي الأنعام مناسبةً، وأي مناسبةٍ لطهورية الماء في هذا المعنى؟ وأجاب: أن أجل تلك العلل سقي الأناسي، وأنه هو المقصود الأولى، فيجب امتيازه عن سائرها بما يختص بهم، وأشرف الغرض في الإنعام عليهم تعرضهم لما يفوزون به على السعادة العظمى، والحياة الأبدية من العبادة، وهي لا تحل إلا بطهارة الظاهر والباطن، فعلى المكلف أن يتعرف شكر هذه النعمة بقلبه، ويظهر أثره على جوارحه، وإليه الإشارة بقوله: "أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم". قوله: (وأرادهم عليها)، الأساس: وأراده على الأمر: حمله عليه.

وأن يربؤوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الأناسي، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، ففيهم غنية عن سقي السماء، وأعقابهم - وهم كثير منهم - لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) يريد بعض بلاد هؤلاء المبتعدين عن مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسي؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن يربؤوا بأنفسهم)، الجوهري: المربأة: المرقبة، وقولهم: إني لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه. قوله: (أن علية الناس)، الأساس: العلية: جمع علي، أي: شريفٌ رفيعٌ، مثل: صبيٍّ وصبيةٍ، وفي استعمالهم: علية الناس: أكثرهم، يقولون: علية متاعك رديٌ وفي قول المصنف: "علية الناس وجلهم" ثم في "وأعقابهم، وهم كثيرٌ منهم": لطيفةٌ، وأن المراد من {وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا}: كثيراً في أنفسهم، وإن كانوا بقايا أكثر الناس. قوله: (ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم)، جوابٌ آخر، والجواب الأول مبنيٌ على تقدم الأسباب على المسببات، والثاني على تقديم ما يشتد فيه الاحتياج إلى الماء ويكثر به الانتفاع، فإن انتفاع الإنسان بحياة الأرض أكثر، واهتمامه بسقياها أشد من سقيا الأنعام، ثم اهتمامه بسقيا الأنعام أقدم من سقيا نفسه، لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم.

[(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)]. يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر؛ ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، (فَأَبى) أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من: وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومواشيهم لم يعدموا سقياهم. وهذا الجواب أحسن، ولمعنى الإيغال والتتميم أجمع، إذ ليس اهتمام من يقرب الأودية والأنهار ومنابع الماء، كاهتمام من هو بعيدٌ منها، فعلى هذا المراد بالأناسي: أصاب البوادي والمتبعدون من مظان الماء قال صاحب " الفرائد": على هذا لم يلزم أن يكون المراد من الطهور المطر، لأن إحياء الأرض وسقي الأنعام، لا يقتضيان كون الماء مطهراً. قلت: قد مر أن دلالة الطهور على تلك اللطيفة بحسب الرمز والتلويح، على أن سلوك طريق الإدماج، وإشارة النص دأب البلغاء، وطريقة الفقهاء. قوله: (وقلة الاكتراث)، الأساس: كرثه الأمر: أي: حركه، وأراك لا تكترث لذلك، ولا تعبأ به. قوله: (من وابلٍ، وطل)، الوابل: المطر الشديد، والطل: أضعف المطر، والجود: المطر البالغ، والرذاذ: المطر الضعيف، والرهمة: المطر الضعيف الدائم، والديمة: المطر الذي يدوم أياماً ثلاثةً أو أكثر. قوله: (مطرنا بنوء كذا)، الأنواء ثمان وعشرون منزلةً من منازل القمر، كل منزلةٍ نوءٌ. قوله: "مطرنا بنوء كذا"، أي: في وقت سقوط هذه المنزلة، وقد مضى شرحها، وسيجيء في سورة يس مستقصًى.

وعن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية. وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد. وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي، كأنه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي، وذلك البعض كثير. فإن قلت: هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله: فهو كافر، وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباسٍ: ما من عام أقل مطراً)، إلى قوله: "وتلا هذه الآية" دلالة الآية عليه أن معنى التصريف: التحويل الكثير، يعني: صرفنا ما قسمنا من المطر بينهم في البلدان المختلفة بحسب اختلاف احتياجهم، أو لمجرد المشيئة. قوله: (وينتزع من هاهنا)، أي: من هذا التأويل جوابٌ عن السؤال الماضي، أي: قوله: "فما معنى تنكير الأنعام والأناسي"؟ وذلك أن إنزال المطر إذا كان بقدر احتياج الناس إليه واستغنائهم عنه، فلابد من التصريف، فإن من أناخ بقرب الأودية والأنهار ومنابع الماء لم يبلغ احتياجه إلى سقي الماء احتياج من هو بعيدٌ من ذلك. وأما بيان النظم فإنه تعالى لما قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وعلله بحياة البلدة الميتة، وسقي بعض الأنعام وبعض الأناسي، عرف أن ذلك كان بقدر الاحتياج ولابد من قادرٍ مختارٍ بجزئيات أحوال المخلوقين، حتى يحول إلى كل من ذلك ما يحتاج إليه، فقيل: ولقد صرفنا، وجيء بالجملة القسمية، لإبطال زعم من يزعم أن ذلك بسبب الأنواء. قوله: (وقد نصب الأنواء دلائل وأماراتٍ عليها: لم يكفر)، النهاية: وإنما غلظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الأنواء، لأن العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل الله تعالى،

[(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً* فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)]. يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ شِئْنا) لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى. و (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك، وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه: (فَلا تُطِعِ)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأراد بقوله: "مطرنا بنوء كذا" أي: في وقت كذا، وهو هذا النوء الفلاني، فإن ذلك جائزٌ، أي: أن الله تعالى قد أجرى العادة أن يأتي بالمطر في هذه الأوقات. وأحسن منهما قول الإمام: "من جعل الأفلاك والكواكب مستقلةً باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره، وأما من قال: إنه تعالى جبلها على خواص وصفاتٍ تقتضي هذه الحوادث فلعل لا يبلغ خطأه إلى حد الكفر". قوله: (أو لترك الطاعة)، يعني: أن الضمير المجرور في {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} للقرآن، والمعنى ما سبق، وإنا أخر "ولا تطع" عن معنى قوله: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} وفي التنزيل مقدم، لأن قوله: {فَلَا تُطِعِ} مرتبٌ بالفاء على ما سبق، ولما لم يصح أن يكون مرتباً عليه ظاهراً انتزع من مفهوم السابق واللاحق، وهو: {وَلَوْ شِئْنَا} {وَجَاهِدْهُمْ} معنيين، وجعلهما مرتبين وعطف "ولا تطع" بالواو عليهما، أو لترك الطاعة الدال عليه "ولا تطع"، يعني: أنهم يجدون ويجتهدون في أن تميل إليهم وتتبع أهواءهم الباطلة لتوهين أمرك فلا تتبع أهواءهم، وجاهدهم بترك طاعتهم جهاداً كبيراً. وفي قوله: "ولا تطع الكافرين فيما يريدونك عليه" إشارةٌ إلى أن قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} متصلٌ بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}، لأنه إنكارٌ على حرصه على إسلامهم وتهالكه فيه، حيث كان يبذل فيه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسعه ومجهوده، وبلغ ذلك إلى أن خوطب بقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وبقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، ولذلك قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} أي: أتحسب أنك إن أطعتهم فيما يريدونك عليه يسمعون قولك، أو يعقلون الآيات، ويشكرون نعم الله عليهم، فإنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. ألا ترى كيف غفلوا عن أظهر الأشياء دلالةً وهو مد الظل وقبضه، وغمطوا النعم كفراناً، وهو جعل الليل لباساً لهم، والنهار نشوراً، وإرسال الرياح وإنزال الماء لإحياء أراضيهم واستقاء مواشيهم، وإذا كان كذلك كيف تطيعهم فيما يريدونك، كأنك لم تستقل بأعباء النذارة، ولو شئنا لخففنا عنك وإنما قصرنا الأمر عليك تفضيلاً لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالصبر والجهاد الكبير، ولا تطعهم فيما يريدونك عليه، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً. ولابد من هذا التأويل، لا ما قيل: إنها تدل على التأديب وعلى أنه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يبعث في كل قريةٍ مثل محمدٍ صلوات الله عليه، لأن الفاء للسببية، والأمر بالجهاد المؤكد بقوله: {جِهَادًا}، ووصفه بالكبير بعد النهي عن طاعة الكفرة موجبٌ لذلك، فإن عظم السبب يدل على عظم المسبب وعكسه، وإليه ينظر قوله صلوات الله عليه: "أعطيت خمساً لم يطعن أحدٌ قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى كل أحمر وأسود". الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن جابر. ويعضده ما ذكرنا أن قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} واردٌ على نهج براعة الاستهلال، وهو مشتملٌ على هذا المعنى: فإن إنزال القرآن وتخصيصه بما يدل على كونه فارقاً بين الحق والباطل، وكون منزله معظماً في ذاته مباركاً في صفاته موجبٌ لأن لا يختص إنذار رسوله بقوم دون قوم، بل يكون للعالمين من الثقلين نذيراً، فإذن المعنى الذي سيقت هذه السورة الكريمة له: الحديث في الرسول وإنذاره، وبقية المعاني دائرةٌ عليه، ومن ثم ذكر إلى ذكر الآيات الدالة على الوحدانية من دلائل الآفاق

والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في (بِهِ) إلى ما دل عليه: (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) من كونه نذير كافة القرى؛ لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له: (وَجاهِدْهُمْ) بسبب كونك نذير كافة القرى (جِهاداً كَبِيراً): جامعا لكل مجاهدة. [(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)]. سمى الماءين الكثيرين الواسعين: بحرين. والفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأنفس قائلاً: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا}، ثم أعاد قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وههنا نكتةٌ شريفة، وهي أنه تعالى لما خص ذكر النذير في الفاتحة أمسك عن ذكر المؤمنين، وحين قرنه بالبشير في هذه الآية أتى بذكر الفريقين، أعني: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}، لتكون الخاتمة مشتملةً على ذكر الأولياء فلا تخلو السورة من ذكرهم، والله أعلم. قوله: (وعضك على نواجذك)، الأساس: ومن المجاز: عض على ناجذه: إذا بلغ أشده واستحكم، وعض في العلم وغيره بناجذه: إذا أتقنه. وعن بعضهم: عض ناجذه على كذا: جد فيه مستنفداً وسعه. النواجذ: أضراس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ. قوله: (فقال له: {وَجَاهِدْهُمْ} بسبب كونك نذير كافة القرى)، فيه دلالةٌ على عظم منزلته، وجلالة قدره، قال: فإن الهموم بقدر الهمم قوله: (والفرات: البليغ العذوبة)، سمي بالفرات، لأنه يفرت العطش، أي: يكسر

إلى الحلاوة. والأجاج: نقيضه، ومرجهما: خلاهما متجاورين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به على القلب، كما سمي نفاخاً لأنه ينفخ العطش، والأجاج: كأنه من أجيج النار، وهو اضطرابه، أي: مقولاً فيهما عذبٌ فراتٌ، وهذا ملحٌ أجاجٌ، وفي هذه الآية حذفٌ كما ذكرنا آنفاً في قول أبي الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله، أي: مقولٌ فيهم هذا القول. قوله: (ومرجهما: خلاهما متجاورين)، قال الزجاج: يقال: مرجت الدابة وأمرجتها: إذا خليتها ترعى، والمرج من هذا سمي، ويقال: مرجت عهودهم وأماناتهم: إذا اختلطت وفسدت. وقال ابن عباس: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}، أي: أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج، وفي معناه: قول البحتري يصف بركة. تنصب فيها وفود الماء معجلةً ... كالخيل خارجةً من حبل مجريها الراغب: أصل المرج: الخلط، والمرج: الاختلاط، يقال: مرج أمرهم، أي: اختلط، ومرج الخاتم في أصبعي فهو مارجٌ، وأمرٌ مريجٌ، أي: مختلطٌ، قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]، من قولهم: مرج. ويقال للأرض التي كثر فيها النبات وتمرج فيها الدواب: مرجٌ، وقوله: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] أي: لهيبٍ مختلط، وأمرجت الدابة في المرعى: أرسلتها فيه.

متلاصقين، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم: وبحران: أحدهما مع الآخر ممروج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج. (بَرْزَخاً) حائلا من قدرته، كقوله عز وعلا: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد: 2]، يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته. وقرئ: (مَلِحٌ) على فعل. وقيل: كأنه حذف من مالح تخفيفا، كما قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ملحٌ"، قال ابن جني: وهي قراءة طلحة بن مصرف، وأنكره أبو حاتم. ويجوز أن يراد به: مالح، فحذف الألف تخفيفاً كما ذكرنا قبل من قوله: أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا إلا عراداً عردا وصلياناً بردا وعنكثاً ملتبدا يريد: عارداً بارداً. وقد أجاز ابن الأعرابي: "مالح"، وأنشدوا: بصريةٌ تزوجت بصريا ... يطعمها المالح والطريا وفي ما قرئ على أحمد بن يحيي، فاعترف بصحته: سمكٌ مالح وماءٌ مالح، وإنما يقال: مملوحٌ ومليح، هذا أفصح، والأول يقال. "صرداً"، صرد الرجل- بالكسر- يصرد صرداً ومصراداً: يجد البرد سريعاً. والعراد:

وصليانا بردا يريد: باردا: فإن قلت: (وَحِجْراً مَحْجُوراً) ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال: (لا يَبْغِيانِ) [الرحمن: 20] أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نبتٌ. والصليان: بقلةٌ، وهي فعليان، الواحدة صليانةٌ. والعنكث أيضاً: نبتٌ. والتبدت الشجرة: كثر أوراقها. وقال الشارخ: زعمت الأعراب في ضرب أمثالها على لسان البهائم. أن الضفدع كان ذا ذنب، وأن الضب سلب ذنبه، وذلك أنهما خاطرا في الظمأ أيهما أصبر، وكان الضب ممسوح الذنب، فخرجا في الكلأ فصبر الضب يوماً، فناداه الضفدع: يا ضب ورداً ورداً، فقال الضب: أصبح قلبي صرداً، إلى أخره، فناداه في اليوم الثاني فأجابه كما أجابه في اليوم الأول، فلما كان الثالث ناداه فلم يجبه، وبادر الضفدع إلى الماء، فتبعه الضب وأخذ ذنبه. قوله: (وقد فسرناها)، أي: قلنا في أول السورة، إن معناه سؤال الرجل من الله تعالى أن يمنع منه ما يخاف منه فيتعوذ منه قائلاً: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، كقول السامري: {لَا مِسَاسَ} [طه: 97]، ومعلومٌ أن هذا الجعل يعني قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} لا يكون حقيقةً، فقوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا} كقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20]، كما أن {لَا يَبْغِيَانِ} هناك بمعنى: لا يبغي أحدهما على صاحبه مجازاً، لأن إثبات البغي ونفيه لا يتصور إلا فيما يصح وصفه بالبغي، كذلك قول: حجراً محجوراً، لا يكون إلا فيما يصح منه القول.

جُعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة. [(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)]. أراد: فقسم البشر قسمين ذوي نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة: 39]. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعل كل واحدٍ)، شروعٌ في بيان المجاز، ولما كان هذا المجاز استعارةً، والاستعارة مسبوقة بالتشبيه، قال: "في صورة الباغي"، شبه البحرين بطائفتين متقابلتين تريد كل واحدةٍ منهما بغي صاحبتها ومضادتها، ثم إنهما امتنعا من ذلك لمانع قوي ودافع مجبر، فكما يقال ثمة لامتناع الاختلاط: إنهما لا يبغيان، كذلك قيل هاهنا: لا يبغيان، فهو استعارةٌ مصرحةٌ تمثيلية، ثم بولغ فيها هاهنا، حيث جعل هذا المعنى المستعار كالملفوظ والمقول، كما قال: "كأن كل واحدٍ من البحرين يعوذ من صاحبه"، فانقلبت المصرحة مكنيةً. ولا ارتياب أن الاستعارة كلما كانت أبعد من التشبيه وأوغل في التخيل، كانت أحسن، والمكنية ابعد من المصرحة، فكما أن التشبيه مقدمةٌ للمصرحة، كذلك المصرحة مقدمةٌ للمكنية، فإنك تقول أولاً: المنية سبعٌ، ثم تدخل المشبه في جنس المشبه به في المصرحة، وإذا أردت المبالغة جعلت المشبه عين المشبه به في التخييل، ثم يتخيل له لازمه قائلاً: أنياب المنية نشبت بفلان، كذلك هاهنا، جعل كل واحدٍ من البحرين بعد تشبيههما بطائفتين متقابلتين وإدخال المشبه في جنس المشبه به إدخالاً بليغاً في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه، ولهذا قال: "وهي من أحسن الاستعارات". قوله: (خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين)، "نوعين" بدلٌ من "بشراً"، لأنه جنسٌ،

[(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)]. الظهير والمظاهر، كالعوين والمعاون. وفعيل بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى: أنّ الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روي: أنها نزلت في أبي جهل. ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة، كقوله: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم: 4]، كما جاء: الصديق والخليط. ويريد بالكافر: الجنس، وأنّ بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل - وهو عبادة ما لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك أفرد الضمير في "جعله". قال القاضي: {بَشَرًا}: ذا أعضاءٍ مختلفة، وطباع متباينة، وجعله قسمين متقابلين. وقلت: الماء في قوله: {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} مطلقٌ دل على شائع في جنس الماء، فتقييده بقوله: {بَشَرًا} دل على أن المراد منه النطفة الواحدة، ثم تقسيمه بقوله: {نَسَبًا وَصِهْرًا} دل على نوعين: ذكرٍ وأنثى، وإنما عدل عن الذكر والأنثى، ليؤذن بالانشعاب نصاً فالنطفة الواحدة نطفة آدم عليه السلام، فإذن الآية على وزان قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] قوله: (ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة)، قال في سورة يوسف: "يجوز أن يقال: هم نجيٌّ، كما قيل: هم صديقٌ، لأنه بزنة المصادر"، ومنه قولهم، وجيفٌ ووجيب. قوله: (وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل)، عطفٌ على قوله: "إن الكافر يظاهر الشيطان"، والجملة على التقديرين تذييلٌ لما يتضمن الكلام السابق من المعنى، فعلى الأول: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إخبارٌ عن استعظام ما ارتكبوه من عبادة غير الله، ثم أكد ذلك بأن عادة الكافر أن يظاهر الشيطان، وعلى الثاني، الكلام نعى عليهم سواء أفعالهم، وأنهم

ينفع ولا يضر - على ربه هينا مهينا، من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، وهذا نحو قوله: (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) [آل عمران: 77]. [(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً* قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)]. مثال (إِلَّا مَنْ شاءَ)، - والمراد: إلا فعل من شاء- واستثنائه عن الأجر: قول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ممن لا يلتفت إليهم، وإلى صنيعهم، لأنهم يعبدون من دون الله ما لا ينفع ولا يضر، وفيه شائبةٌ من معنى الإنكار، ثم أكد ذلك بأن الكافر على ربه "هيناً مهيناً". قوله: (وهذا نحو قوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} إلى قوله: ({وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، يعني: نحو في إرادة المجاز عن عدم الالتفات دون الكناية. وهو على مذهبه، لأن نفي الرؤية عمن يجوز عليه الرؤية كنايةٌ عن عدم المبالاة عمن لا يجوز عليه مجاز. كذلك قوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} إذا كان من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته ظهرك هنا: مجازٌ عن عدم الالتفات لا كنايةٌ كما مر. قوله: (- والمراد: إلا فعل من شاء- واستثنائه من الأجر)، "استثنائه": مجرورٌ، عطفٌ تفسيريٌ على قوله: "إلا من شاء" والاستثناء من باب قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: التقدير: إلا مال من شاء أن يتخذ: لأن الأجر هنا: المال، والمعنى: ما أسألكم على تبليغ الوحي مالاً، إلا مال من يتخذ بإنفاقه إلى ربه سبيلاً، أي: يتقرب إليه، ويطلب الدرجة عنده، وذلك المال المسؤول له، لا لي. وقلت: هذا المعنى لا يستقيم في قوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فوجب حمله على ذلك المعنى، وما ذكره أشار إليه المصنف بقوله: "وقيل: المراد التقرب بالصدقة".

ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين، إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا فإني أطلب الثواب. والثانية: إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك: اعتدّ بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا: تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل: المراد التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله. [(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً)]. أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء؛ وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرّفه أن الحي الذي لا يموت، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اعتد بحفظك ثواباً)، من الاعتداد، وظن "اعتد" مخففاً، قيل: هو من العتيد: الحاضر المهيأ، وقد عتده تعتيداً وأعتده إعتاداً، وفاعل "اعتد" ضمير المال، أي: إن حفظت مالك هي لك بسبب حفظك ثواباً، ومنفعته يوماً احتاج إليه، ويروى: "اعتد" و"رضي" معروفاً. والضمير للقائل المشفق. قوله: (وعرفه أن الحي الذي لا يموت حقيقٌ بأن يتوكل عليه وحده)، لأن أصل الكلام: توكل علي، ثم: توكل على الله، فخص الحي الذي لا يموت بالذكر، ليكون تعريضاً بأن غيره لا يصح أن يتوكل عليه، أما الأصنام فإنها أمواتٌ لا يكفى أمر من يتوكل عليها.

يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. [(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)]. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ): يعني: في مدة مقدارها هذه المدّة، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل: ستة أيام من أيام الآخرة، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد: أوّلها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله تعالى لملائكته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع المتوكل، ولهذا قال: "لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق"، أو نقول: إن التركيب من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، وهو أن المتوكل إذا علم أن المتوكل عليه دائمٌ باقٍ يعتمد عليه بشرا شره، ولا يتوزع خاطره إلى الغير بخلافه إذا لم يكن كذلك، فإذاً لا يصح التوكل إلا على الحي الذي لا يموت، وهو الله تعالى، فصح الحصر. قوله: (ثم أره أن ليس إليه من أمر عباده شيءٌ)، يعني أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أولاً أن يفوض أموره إلى الحي الذي لا يموت، ويستكفي به من شرور الأعداء، ثم أعلمه ثانياً بأنه كافٍ في دفع أعدائه يكافيهم فيما يحاولونه من العداوة، يعني: أن الله تعالى كافي أمورك، وأمور أعدائك. قوله: (ووجهه)، أي: وجه قول مجاهد، وذلك أن الأيام عبارةٌ عن حركات الشمس في السموات، وقبل السموات لا أيام، فلا يسمى بالأحد ولا بالجمعة، لكن الله تعالى قدر المدة قبل السموات، ثم خلق السموات والشمس وأدارها عليها، ورتب أمر العالم على ما هو عليه في مقدار مدةٍ هي مدة ستة أيام من أيام الدنيا، وسمى لملائكته الحاضرين تلك الأيام المقدرة بالأحد والاثنين والجمعة.

تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء، فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد - أعني الستة دون سائر الأعداد - فلا نشك أنه داعى حكمة، لعلمنا أنه لا يقدّر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته. ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور اثني عشر، والسماوات سبعا والأرض كذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحملة العرش ثمانية)، وعن بعضهم: حملة العرش أربعةٌ. وروي أنه صلوات الله عليه وسلامه لما سمع بيت أمية بن أبي الصلت يصف العرش: رجلٌ وثورٌ عند رجل يمينه ... والنسر أخرى ثم ليثٌ مرصد قال: "صدق". هم اليوم أربعةٌ، ويضم إليهم أربعةٌ أخرى يوم القيامة لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] يسترزق كلٌ لما يشبهه، والله أعلم بحقيقته. والذي ورد في المعتمد عن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن العباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل: "أن حملة العرش ثمانية أو عالٍ". وأشار إليه المصنف في سورة الحاقة. قوله: (وأعداد النصب)، وهو جمع نصاب، أي: القدر الذي تجب فيه الزكاة.

وغير ذلك. والإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله، وبأن ما قدّره حق وصواب هو الإيمان. وقد نص عليه في قوله: (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) [المدثر: 31]، ثم قال: (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31]، وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. (الَّذِي خَلَقَ) مبتدأ. و (الرَّحْمنُ) خبره؛ أو صفة لـ (الْحَىِّ) [الفرقان: 58]، و (الرَّحْمنُ): خبر مبتدإ محذوف. أو بدل عن المستتر في (اسْتَوَى). وقرئ: (الرحمنِ) بالجرّ صفة لـ (الْحَىِّ). وقرئ (فَسْئَلْ)، والباء في (بِهِ) صلة "سَلْ"، كقوله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج: 1] كما تكون "عن" صلته في نحو قوله: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8]. (فَسْئَلَ بِهِ)؛ كقولك: اهتمّ به، واعتنى به، واشتغل به. وسأل عنه كقولك: بحث عنه، وفتش عنه، ونقر عنه. أو صلة (خَبِيرًا)، وتجعل (خَبِيرًا) مفعول "سَلْ"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اجتمع خلقها يوم الجمعة)، أي: تكامل خلقها. الأساس: رجلٌ مجتمعٌ: استوت لحيته وبلغت غاية شبابه. قوله: (وقرئ: {فَاسْأَلْ}، كلهم إلا ابن كثيرٍ والكسائي. قوله: (كما تكون "عن" صلته)، قيل: الكاف في محل النصب على مصدر ما دل عليه قوله: "والباء في {بِهِ} صلة (سل) "، كأنه قيل: يجوز كون الباء صلة "سل" جوازاً مثل جواز كون "عن" صلته، و"ما" في "كما تكون" مصدريةٌ، والكاف بمعنى مثل، والمضاف محذوف، وإنما لم يقدر كوناً مثل كون "عن" صلته، لأن كان الناقصة لا تنصب المصدر.

تريد: فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فسل بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أي برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا. أو تجعله حالا عن الهاء، تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: فسل بسؤاله خبيراً)، عطفٌ على قوله: "فسل عنه"، وفي الكلام لفٌ ونشرٌ من غير ترتيب: فالمثالان الأولان نشرٌ لقوله: "أو صلة {خَبِيرًا} "، وبقية الأمثلة نشرٌ لقوله: "صلة (سل) "، ولا يستقيم على هذا أن يتعلق بـ {خَبِيرًا}، لأنه على منوال رأيت به أسداً، وهو من باب التجريد، إذ التقدير: فسل بسؤال الله خبيراً، وهو الخبير نفسه عز وجل. قال السجاوندي: "فسل به خبيراً" نحو قولك في الشجاع إذا لقيته: لقيت به ليثاً هضوماً، وفي الجواد: إذا سألته: سألت به الغيث، فلا حاجة إلى تقدير بسؤالك إياه لفظاً وإن فهم ذلك معنى، ولا إلى جعل الباء قائماً مقام "عن" وإن ورد في قول الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبيرٌ بأدواء النساء طبيب أي: عن النساء، وعلى تقدير "عن" يجوز أن يراد بالخبير: ابن سلام، أي: عارفاً بصفته يخبرك عن جلالة قدره. قوله: (وقيل: الرحمن: اسمٌ من أسماء الله تعالى)، عطفٌ على قوله: فسل بسؤاله"، لأنه مثله في تعلق الجار بالفعل، و {خَبِيرًا}: مفعول "سل"، وخبيراً على الوجهين الأولين: يجوز أن يراد به كل من هو متصفٌ بصفة الخبرة، لما قال تارةً: رجلاً عارفاً، وأخرى: رجلاً عارفاً، وأخرى: رجلاً خبيراً، والضمير في {بِهِ} للرحمن على تقدير مضاف، وعلى الثالث والرابع:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير لله تعالى، والخبير هو الله تعالى، وعلى الوجه الأخير المراد بالخبير: عبد الله بن سلام، والضمير راجعٌ إلى لفظ {الرَّحْمَنُ}، والوجه أن يحمل قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} على معنى التجريد، وأن يكون الضمير لله، ليكون كالتتميم لمعنى العلم الذي يعطيه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {الرَّحْمَنُ}، كما أن قوله: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} تتميمٌ لمعنى قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}. بيان الأول ما روى الإمام عن الكلبي: أنه قال: فسل الخبير بذلك، يعني: بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء فلا يعلمها إلا الله. وقال محيي السنة: أيها الإنسان، لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري. وبيان الثاني هو: أن قوله: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وعيدٌ لأعدائه، ووعدٌ بانتصاره منهم، فيكون مؤكداً للأمر بالتوكل، ونحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قولهم: "على الخبير سقطت"، في توكيد أمرٍ يخبر به، وتصديق المخبر. روى الميداني: أن المثل لمالك بن جبيرٍ العامري، وتمثل به الفرزدق للحسين رضي الله عنه حين أقبل يريد العراق فلقيه وهو يريد الحجاز، فقال له الحسين: ما وراءك؟ قال: "على الخبير سقطت"، قلوب الناس معك، وسيوفيهم مع بني أمية، والأمر ينزل من السماء، فقال الحسين: صدقتني. المعنى: توكل على الحي الذي لا يموت في جميع أمورك لاسيما في أذى قومك، وما نالك من تكذيبهم وعنادهم، فإن الله تعالى خبيرٌ بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم، وتوكل على المدبر الذي خلق السموات والأرض، ثم استوى على العرش، وهو الرحمن الذي منه

مذكور في الكتب المتقدمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب، حتى تعرف من ينكره. ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون مسيلمة. وكان يقال له: رحمن اليمامة. [(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَامُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً)]. (وَمَا الرَّحْمنُ) يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به؛ لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جلائل النعم، وبيده أزمة أمورك، وملكوت كل شيء، فاعلم ذلك علماً يقيناً ونصًا من الله لا ريب فيه، فإن من حرم ذلك إذا قيل له: اخضع للرحمن وتوكل عليه، قال: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} هذا التفسير مبنيٌ على قول المصنف: "الذي خلق صفةٌ للحي، والرحمن: خبر مبتدأٍ محذوف". قال الإمام: {الَّذِي خَلَقَ} متصلٌ بقوله: {الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} لأنه تعالى لما كان خالق السموات والأرض وما بينهما كان قادراً على جميع وجوه المنافع ودفع سائر المضار، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذٍ لا يجوز التوكل إلا عليه. قوله: "اسمٌ من أسماء الله تعالى"، قال الزجاج: اسم "الرحمن" مذكورٌ في كتب الأولين ولم يكونوا يعرفون أنه من أسمائه تعالى، ومعناه: ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة، لأن فعلان بناء المبالغة، تقول: رجلٌ ريان وعطشان، إذا كان في النهاية من الري، وكذلك فرحان وجذلان. وقال ثعلبٌ: إنه عبرانيٌ، وهو في الأصل "رخمن"، بالخاء المعجمة، إذ لو كان عربياً لما أنكرت العرب وقد أنكروه، ويدل عليه قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}، ولأنه لو كان مشتقًا من الرحمة لما حسن تقديمه على الرحيم، لأنه أشد مبالغةً منه حينئذٍ.

والسؤال عن المجهول بـ "ما". ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى. (لِما تَامُرُنا) أي: للذي تأمرناه، بمعنى: تأمرنا سجوده: على قوله: أمرتك الخير أو: لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي (وَزَادَهُمْ) ضمير (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ)؛ لأنه هو المقول. [(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)]. البروج: منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والسؤال عن المجهول بـ "ما")، كما تقول لشبح رفع لك عن بعيدٍ لا تشعر به: ما هو؟ فإذا شعرت أنه إنسانٌ، قلت: من هو؟ قوله: ) {لِمَا تَامُرُنَا}، أي: للذي تأمرنا)، قال أبو البقاء: "ما" موصولةٌ، أو نكرةٌ موصوفةٌ، أي: لما تأمرنا بالسجود له، ثم بسجوده ثم تأمرنا، هذا قول أبي الحسن، وعلى قول سيبويه حذفت ذلك كله من غير تدريج. قوله: (وقرئ بالياء)، المعالم: حمزة والكسائي: بالياء، والآخرون: بالتاء الفوقانية. قوله: (لأنه هو المقول) معلله مقدر، يعني: وضع {اسْجُدُوا} موضع قول: {اسْجُدُوا}، وجاز، لأنه هو المقول، وضعاً للمقول موضع القول، فالمعلل قولنا: جاز.

وسميت بالبروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج، لظهوره. والسراج: الشمس كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح: 16]. وقرئ: (سُرُجًا)؛ وهي: الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش: (وقُمْرا منيرا)؛ وهي جمع ليلة قمراء، كأنه: وذا قمر منيرا؛ لأنّ الليالي تكون قمرا بالقمر، فأضافه إليها. ونظيره - في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه - قول حسان: بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل يريد: ماء بردي، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر، كالرشد والرشد، والعرب والعرب. [(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "سرجاً")، بضمتين: حمزة والكسائي، والباقون: بكسر السين وفتح الراء وألفٍ بعدها. قوله: (وذا قمرٍ)، وهو عبارةٌ عن القمر، لأن القمر صاحب الليالي اللاتي يكن قمراء بالقمر، فيرجع حاصل هذه القراءة إلى المشهورة. قوله: (بردى يصفق بالرحيق السلسل)، أوله لحسان: يسقون من ورد البريص عليهم يريد: ماء بردى، وهو نهر دمشق. ومن ثم ذكر "يصفق بالرحيق"، مضى شرحه في أول البقرة.

الخلفة من خلف، كالركبة من ركب: وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوي خلفة، أي: ذوي عقبة، أي: يعقب هذا ذاك وذاك هذا. ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان. ومنه قوله: (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [البقرة: 164]، ويقال: بفلان خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرّزه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحدٍ منهما الآخر)، يريد أن {خِلْفَةً} مفردٌ لفظاً، ومتعددٌ معنى. قال أبو البقاء: {خِلْفَةً}: مفعول ثانٍ أو حالٌ، وأفرد لأن المعنى: يخلف أحدهما الآخر، فلا يتحقق هذا إلا منهما. قوله: (ذوي عقبةٍ)، روي بضم العين وكسرها. العقبة بالضم: النوبة. تقول: تمت عقبتك، ويقال: ما يفعل ذلك إلا عقبة القمر، إذا كان يفعله في كل شهرٍ مرة. قوله: (يعقب هذا ذاك، وذاك هذا)، قال الزجاج: هذا قول أهل اللغة، وأنشدوا لزهير: بها العين والآرام يمشين خلفةً ... وأطلاؤها ينهض من كل مجثم وجاء في التفسير أيضاً: {خِلْفَةً}: مختلفان، قال الله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190]. وروي محيي السنة، عن مجاهد: يعني: جعل كل واحدٍ منهما مخالفاً لصاحبه، فجعل هذا أبيض وهذا أسود. وقلت: وفي كلام الزجاج إشعارٌ بأن قول مجاهدٍ على خلاف اللغة، ولهذا اعتذر له المصنف بقوله: "ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان"، إلى آخره.

وقرئ: (يَذَّكَّرَ)، و (يَذْكُر)، وعن أبي بن كعب: (يَتَذكَّر). والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {يَذَّكَّرَ} و"يذكر")، حمزة: "أن يذكر" بإسكان الذال وضم الكاف مخففاً، والباقون: بفتحهما مشددين. قوله: (ويشكر الشاكر على النعمة فيهما)، عطفٌ على قوله: "لينظر في اختلافهما الناظر"، وفيه إشارةٌ إلى أن قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} نشرٌ لمعنى اللف في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، فإن مجرد الانتقال والتغيير يدل على ناقل ومغيرٍ عظيم القدرة، وكون ذلك الانتقال مؤدياً إلى النفع العظيم يدل على منعم واسع النعمة، وهما يوجبان المعرفة والعبادة، و"أو" في قوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}: للتخيير والإباحة، كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] على ما مر، أو للجمع، كما في قوله: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6]، ومن ثم أتى المصنف بالواو في الموضعين، أي: في لينظر، ويشكر، وفي "وقتين للمتذكرين والشاكرين". ثم قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} تعريضٌ بأن الذين قالوا: وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا؟ أبوا التفكر في آيات الله جحوداً وعناداً، وامتنعوا عن الشكر لآلائه عتواً واستكباراً، وتصريحٌ بأن الذين توسموا بعباد الرحمن على خلاف ذلك، ولذلك قال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} ليقابل قولهم: {أَنَسْجُدُ} وقوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا}. وقال الإمام: إنه تعالى لما حكى عن الكفار مزيد النفرة ذكر بعده ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يعني: أن الذين قالوا: وما الرحمن؟ ما تفكروا في هذه القدرة، وما شكروا هذه النعمة.

والتصرف بالنهار، كما قال عز وعلا: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص: 73]؛ أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رحمه الله: من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب. [(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو ليكونا وقتين)، عطفٌ من حيث المعنى على جملة قوله: "لينظروا في اختلافهما". قوله: (من فاته في أحدهما ورده ... قام به في الآخر)، روينا عن الشيخين وغيرهما، عن أنس: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ". قوله: (كان له في الليل مستعتبٌ)، الجوهري: عتب عليه، أي: وجد عليه، قال الخليل: الإعتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وقيل: الإعتاب: إزالة العتب، وهمزته للسلب، والإعتاب بمعنى الرضا، والاستعتاب: طلب الإعتاب. النهاية: استعتب: طلب أن يرضى عنه، كما تقول: استرضيت، ومنه الحديث: "لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستغيث" أي: يرجع عن الإساءة، ويطلب الرضا، ومنه الحديث: "ولا بعد الموت من مستعتب"، أي: ليس بعده استرضاءٌ.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ خبره في آخر السورة، كأنه قيل: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ) هذه صفاتهم (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ) [الفرقان: 75]. ويجوز أن يكون خبره (الَّذِينَ يَمْشُونَ). وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ). وقرئ: "يُمشَّونَ". (هَوْناً) حال، أو صفة للمشي، بمعنى: هينين. أو: مشيا هينا، إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين. ومنه الحديث: "أحبب حبيبك هونا مّا" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأضافهم إلى الرحمن تخصيصاً)، فيكون تعريضاً بالذين قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا}، فعلى هذا المختار أن يكون "عباد الرحمن": مبتدأ، و {الَّذِينَ يَمْشُونَ} وما عطف عليه: خبراً ليقابل الاستكبار، والامتناع عن السجود. قوله: (وقرئ: "وعباد الرحمن")، العباد: من العبادة، وهو أن يفعل ما يرضاه الرب، والعباد: من العبودة، وهو أن يرضى ما يفعله الرب. قوله: (إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغةً)، فيه إيماءٌ إلى أن جعله حالاً أوقع من جعله وصفاً، لأن المبالغة على الحال راجعٌ إلى ذواتهم، وفي الوصف إلى حالهم، لأن الأصل في الحال أن يقال: يمشون على الأرض هينين، فوضع موضع هوناً. قوله: (ومنه الحديث: "أحبب حبيبك هوناً ما")، تمامه: "عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، أي: لا تفرط في حبه

وقوله: "المؤمنون هينون لينون"، والمثل: "إذا عزّ أخوك فهن"، ومعناه: إذا عاسر فياسر. والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله: (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان: 20]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبغضه، وارفق في كل ذلك. مذكورٌ في "أخبار الشهاب"، والشيخ أبو الفضائل الصغاني جعله من الموضوعات في "كشف الحجاب"، وفي "الدر الملتقط". قوله: (المؤمنون هينون لينون)، روى الإمام أحمد بن حنبلٍ في "مسنده"، عن ابن مسعود: حرم على النار كل هينٍ لين، سهلٍ قريبٍ من الناس. قوله: (إذا عز أخوك فهن)، قال الميداني: قال أبو عبيد: معناه: مياسرتك صديقك ليست بضيم ركبك منه فيدخلك الحمية به، إنما هو حسن خلقٍ وتفضل، فإذا عاسرك فياسره. قال المفضل: المثل لهذيل بن هبيرة الثعلبي، وكان أغار عل بني ضبة، فغنم فأقبل بالغنائم فقال له أصحابه: اقسمها بيننا، فقال: إني أخاف أن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب، فأبوا، فقال: إذا عز أخوك فهن. قوله: (ولقوله: {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}، يعني: لأجل ما وصف الله تعالى العباد بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}، ووصف الرسل بقوله: بقوله: {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، أوقع المعلل بين العلتين.

(سَلَاماً): تسلما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر، أي: نتسلم منكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة، من قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وعن أبي العالية: نسختها آية القتال. ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع. [(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً)]. البيتوتة: خلاف الظلول، وهو أن يدركك الليل، نمت أو لم تنم، وقالوا: من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تسلماً منكم لا نجاهلكم)، روى صاحب "المطلع" عن الزجاج وأبي علي: نتسلم منكم تسلماً، أي: لا نجاهلكم ولا نلتبس بشيءٍ من أمركم، وهو الجهل. وقلت: هو معنى قوله: "ومتاركةً لا خير بيننا ولا شر". قوله: (سداداً من القول)، وهو قول مقاتل بن حيان، أي: قالوا قولاً يسلمون فيه من الإثم. قالوا: هذا ليس بسديد، لأن المراد: أنهم يقولون هذه اللفظة لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. قال الحريري في "درة الغواص": السداد، بالفتح: القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكثير: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً. قوله: (وسوء الرعة)، الجوهري: قد ورع يرع بالكسر فيهما ورعاً ورعةً. يقال: فلانٌ سيئ الرعة، أي: قليل الورع.

قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال: فلان يظل صائما ويبيت قائما. [(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً* إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)]. (غَراماً): هلاكا وخسرانا ملحا لازما. قال: ويوم النّسار ويوم الجفا ... ر كانا عذابا وكانا غراما وقال: إن يعاقب يكن غراما وإن يعـ ... ـط جزيلا فإنّه لا يبالي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({غَرَامًا} هلاكاً وخسراناً ملحاً)، الراغب: الغرم: ما ينوب الإنسان في ما له من ضررٍ بغير جنايةٍ منه. يقال: غرم كذا غرماً ومغرماً، وأغرم فلانٌ غرامةً، والغريم يقال لمن له الدين ولمن عليه الدين. والغرام: ما ينوب الإنسان من شدةٍ ومصيبة. وقال ابن الأعرابي: الغرام: الشر الدائم، والعذاب. قوله: (يوم النسار ويوم الجفار)، الجوهري: النسار، بكسر النون: ماءٌ لبني عامر، ويوم نسارٍ لبني أسدٍ وذبيان على بني جشم بن معاوية. وقال: الجفار أيضاً: ماءٌ لبني تميم بنجد، ومنه: يوم الجفار، وأنشد البيت. قوله: (إن يعاقب) البيت، لا يبالي: أي: لا يكترث بقولٍ إن يعاقب الأعداء يكن غراماً، وإن يعط الأولياء فإنه لا يبالي بإعطاء الكثير.

ومنه: الغريم؛ لإلحاحه ولزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]. (سَاءَتْ) في حكم "بِئستْ" وفيها ضمير مبهم يفسره (مُسْتَقَرّا)، والمخصوص بالذم محذوف، معناه: ساءت مستقرّا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم "إنّ" وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون (سَاءَتْ) بمعنى: أحزنت. وفيها ضمير اسم "إنّ". و (مُسْتَقَرًّا) حال أو تمييز، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ساءت مستقراً ومقاماً هي)، قال صاحب "المطلع": فإن قيل: كيف ذكر المفسر والمفسر مؤنث؟ قلت: لما أنث المفسر بمعنى الدار والمنزلة، وجب تأويل المفسر به، كأنه قيل: ساءت الدار أو المنزلة داراً أو منزلةً، وإنما وجب تأنيثه نظراً إلى المخصوص بالذم كما نظر ذو الرمة في الزورق إلى تأويل السفينة، حيث كان المخصوص بالمدح مؤنثاً في قوله: أو حرةٌ عيطلٌ ثبجاء مجفرةٌ ... دعائم الزور نعمت زروق البلد الحرة: الناقة الكريمة، والعيطل: الطويلة العنق. الثبج: شديد الثبج، وهو الظهر، وقيل: ما بين الكاهل إلى الظهر، والمجفرة: الشديدة الجفرة وهي الوسط، والزور: أعلى الصدر. قوله: (وفيها ضمير اسم "إن")، وقال صاحب "المطلع": والتأنيث لاسم "إن"، وهي جهنم، لأنه ضميرها. قوله: (يصح أن يكونا متداخلين)، أي: يكون قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا} تعليلاً لقوله: {اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}، وقوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ} تعليلاً لقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ

[(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)]. قرئ: (يَقْتُرُوا) بكسر التاء وضمها، و: (يُقتِروا) بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير: التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف: مجاوزة الحدّ في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء: 29]. وقيل: الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوّجه ابنته وأحسن إليه، فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت، وجاء بكلام حسن، فقال ابن لعبد الملك: إنما هو كلام أعدّه لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر، فسأله عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غَرَامًا}، وكونهما مترادفين أن يكونا تعليلين لقوله: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}، قال الإمام: كلاهما يمكن أن يكون ابتداء كلام الله، ويمكن أن يكون حكايةً لقولهم، فقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} إشارةً إلى كونها مضرةً خالصةً عن شوائب النفع. وقوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} إشارةٌ إلى كونها دائمةً، والفرق بين المستقر والمقام فإن المستقر للعصاة من أهل الإيمان، فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار. قوله: (قرئ: {يَقْتُرُوا}، بكسر التاء وضمها)، نافعٌ وابن عامر: "ولم يقتروا" بضم الياء وكسر التاء، من الإقتار، وابن كثيرٍ وأبو عمرو: بفتح الياء وكسر التاء، والباقون: بفتح الياء وضم التاء.

نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بنىّ، أهذا أيضا مما أعدّه؟ وقيل: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسدّ جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحرّ والقرّ. وقال عمر رضي الله عنه: كفى سرفا أن لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. والقوام: العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الحسنة بين السيئتين)، أي: الاقتصاد، وهو حسنةٌ بين الإسراف والتقتير، وهما سيئتان، ومن كلام بعضهم: كلا طرفي [قصد] الأمور ذميم وخير الأمور أوساطها. قوله: (وقيل: أولئك أصحاب محمدٍ صلوات اله عليه)، عطفٌ على قوله: "وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير"، وعلى الأول كان عاماً فيهم وفي غيرهم. والمراد بالإنفاق الوسط: السخاوة التي هي بين التبذير والبخل. وعلى الثاني، الوسط: عبارةٌ عن الإنفاق على أنفسهم بما لا يبلغ إلى حد التلذذ والتنعم، بل يكون سد الجوعة، وستر العورة. قوله: (ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء)، يعني: نظيره في علة التسمية به، لا أنه مشتقٌ منه، لأن الثلاثي لا يشتق من المزيد، أي: إنما قلنا: قواماً للشيء الذي هو عدلٌ بين الشيئين لاستقامة الطرفين، وكذلك السواء من الاستواء.

وقرئ: (قِواماً) بالكسر، وهو ما يقام به الشيء. يقال: أنت قوامنا، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعني (بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) - جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل (بَيْنَ ذَلِكَ) لغوا، و (قَوَاما) مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا، و (قَوَامًا) حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون (بَيْنَ ذلِكَ) اسم "كان"، على أنه مبني؛ لإضافته إلى غير متمكن، كقوله: لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "قواماً"، بالكسر)، قال ابن جني: قرأها حسان بن عبد الرحمن صاحب عائشة رضي الله عنها ويروي عنه قتادة. القوام بالفتح: الاعتدال في الأمر، وبالكسر: ملاك الأمر وعصامه، فلو اقتصر على قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} كان كافياً، فـ {قَوَامًا} تأكيدٌ، وجارٍ مجرى الصفة، أي: توسطاً مقيماً للحال وناظماً، كالصفات المؤكدة، قال الله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] فالأخرى توكيدٌ. قوله: (وأن يجعل {بَيْنَ ذَلِكَ} لغواً، و {قَوَامًا} مستقراً)، قيل: إطلاق المستقر على {قَوَامًا} مع أنه ظرف، لمزاوجة الكلام، وهو كونه مذكوراً مع الظرف، وهو بين ذلك. قال ابن الحاجب: المستقر: ما كان خبراً محتاجاً إليه، وسمي مستقراً، لأنه يتعلق بالاستقرار، فالاستقرار فيه هو مستقرٌ فيه، أي: موضعٌ للتقرير، ثم حذف لفظة "فيه" اختصاراً، واللغو: هو ما لو حذف لكان الكلام مستغنى عنه. قوله: (لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت)، تمامه: حمامةٌ في غصونٍ ذات أو قال

وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوي؛ لأنّ ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة؛ فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منها: ضمير الراحلة. الأوقال: جمع وقل، وهو الحجارة. أي: في غضونٍ نابتةٍ بأرض ذات أو قال، وقيل: الوقل: شجر المقل، يقول: لم يمنع الراحلة الشرب إلا صوت حمامة، أي: إنها حديدة الحس، فيها فزعٌ وذعرٌ لحدة نفسها. والاستشهاد في قوله: "غير أن نطقت"، وهو فاعل "يمنع"، وإنما بني، لإضافته إلى المبنى. قوله: (فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدةٌ)، وفائدته: بيان اتصاف المخبر عنه بالخبر، فيجب أن يكون وصف الشيء بغيره، ليفيد لا بنفسه لئلا يؤدي إلى أن يقال: وكان القوام قواماً. وأجاب عنه صاحب "المطلع": أن ما بين الإسراف والإقتار لا يلزم أن يكون قواماً، أي: عدلاً، لأنه يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل، أو فوق الإقتار بقليل فما بينهما وسطٌ، بسكون السين، يتناول العدل وغيره، فالتقدير: وكان الوسط ن ذلك قواماً. والجواب عنه: أنه يلزم من هذا الحرج المنفي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فإن في إيقاع قواماً على ما قرره الدلالة على مراعاة حاق الوسط، بمعنى أن قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} كان يحتمل معنى الوسط بالسكون الذي هو اسمٌ مبهم لداخل الدائرة، فأخبر بقوله: {قَوَامًا} أن المراد منه الوسط بالتحريك، الذي هو اسمٌ لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة، ولا ارتياب أن مراعاة ذلك متعذرٌ ولا يتيسر إلا بالندرة. وقال صحاب "الفرائد": ما أورده صاحب "الكشاف" على الفراء واردٌ عليه في قوله: "المنصوبان- أعني {بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} - جائزٌ أن يكونا خبرين معاً، ويمكن أن يقال: المراد من القوام: العدل، فصح أن يكون خبراً لـ {بَيْنَ ذَلِكَ} ولا يخلو عن فائدة". والجواب عنه ما ذكره ابن جني، أن الثاني جارٍ مجرى الصفة المؤكدة، كأنه قيل: كان إنفاقهم وسطاً بسكون السين البتة، لا أن الإنفاق في عين الوسط لا يتجاوزه أصلاً، كما يلزم من الاسم والخبر إذا اتحدا معنى. والجواب عن قوله: المراد من القوام العدل: هو ما أجيب عن صاحب "المطلع".

[(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً* إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)]. (حَرَّمَ اللَّهُ) أي: حرّمها. والمعنى: حرّم قتلها. و (إِلَّا بِالْحَقِّ) متعلق بهذا القتل المحذوف. أو بـ (ولا يَقْتُلُونَ). ونفى هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين؛ للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير حق يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قلت: ثم أىّ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تزاني حليلة جارك»، فأنزل الله تصديقه. وقرئ: (يلق فيه أثاما). وقرئ: (يلقى) بإثبات الألف، وقد مر مثله. والأثام: جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال ومعناهما، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونفي هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش)، يعضد ما ذهبنا إليه من أن قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} مقابلٌ للقائلين: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا}، فمدحهم الله بتلك الخلال الحميدة التي تختص بأوليائه ثم نفى عنهم هذه الخصال الرذيلة التي عليها أعداؤه. قوله: (عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ )، الحديث بتمامه، أخرجه البخاري ومسلمٌ وغيرهما. قوله: (وقرئ: "يلقى"، بإثبات الألف)، قال في "المطلع": جعل أثر الجازم حذف الحركة من المعتل لا حذف الألف كقوله:

جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام وقيل هو الإثم. ومعناه: يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود: (أيَّامًا)، أي: شدائد. يقال: يوم ذو أيام؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألم يأتيك -والأنباء تنمي- ... بما لاقت لبنون بني زياد "والأنباء تنمي": جملةٌ معترضةٌ، و"بما لاقت": متعلقٌ بـ "يأتيك". قوله: (جزى الله ابن عروة) البيت، العقوق: العاق، والعقوق، بالضم: مصدرٌ، وهو ترك بر الوالدين وقطعه، وكذا في الرحم، وعقوقاً: نصبٌ على الحال، ومعناه: جزى الله ابن عروة شر جزاءٍ عاقًا والعقوق له جزاءٌ سيئ. قوله: (وقيل: هو الإثم، ومعناه: يلق جزاء أثام) يريد أن "الأثام" إما أن يراد به جزاء الإثم كالثوب لجزاء الطاعة، وإما أن يراد به مطلق الإثم، فحينئذٍ يحتاج إلى تقدير مضاف، وهو المراد بقوله: "ومعناه: يلق جزاء أثام". الأساس: كانوا يفزعون من الأنام أشد ما يفزعون من الأثام، وهو وبال الإثم، قال: لقد فعلت هذي النوى بي فعلة ... أصاب النوى قبل الممات أثامها قوله: (يومٌ ذو أيام)، الأساس: ويومٌ ذو أيام: كأيام. قال النابغة:

لليوم العصيب. (يُضاعَفْ) بدل من (يَلْقَ)؛ لأنهما في معنى واحد، كقوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا وقرئ: (يُضَعَّف)، و (نُضَعِّف له العذابَ)، بالنون ونصب العذاب. وقرئ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إني لأخشى عليكم أن يكون لكم ... من أجل بغضائهم يومٌ كأيام وذكر في أيام العرب، أي: في وقائعها. {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] أي: بدمادمه على الكفرة. قوله: (لليوم العصيب) الأساس: عصب القوم بفلانٍ: أحاطوا به، ووجدتهم عاصبين به، ومنه: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] وعصبصب، وقيل: اعصوصب واعصبصب، والقوم: إذا اجتمعوا، واليوم: إذا اجتمعت فيه الشدائد. قوله: (متى تأتنا تلمم) البيت، "تلمم"، أي: تنزل، وهو بدلٌ من "تأتنا"، والألف في "تأججا" للتثنية، وذكر لتغليب الحطب على النار. وقيل: تأججن بالنون الخفيفة، كقوله تعالى: {لَنَسْفَعَا} [العلق: 15]، وكقول الشاعر: ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا أي: فاعبدن، وقد مضى في "آل عمران" تحقيق هذا البدل عن ابن جني. قوله: (وقرئ: "يضعف" و"نضعف")، ابن عامرٍ وأبو بكر: "يضاعف له" "ويخلد" برفع الفاء والدال، والباقون: بجزمهما، وابن كثيرٍ وابن عامرٍ على أصلهما: يحذفان الألف ويشددان العين.

بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك (يَخْلُدْ) وقرئ: (ويخلد) على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، من الإخلاد والتخليد. وقرئ: (وتخلد) بالتاء على الالتفات (يُبَدِّلُ) مخفف ومثقل، وكذلك (سَيِّئَاتِهِمْ). فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال الحسنات سيئات؟ قلت: إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تخلد" بالتاء على الالتفات)، قال ابن جني: قرأ طلحة بن سليمان: "نضعف" بالنون، و"العذاب" بالنصب، "وتخلد فيه": جزم، أي: تخلد فيه أيها المضعف على ترك الغيبة إلى الخطاب. في "علل القرآن" للأزهري: اتفق القراء كلهم على "يخلد" بفتح الياء وضم اللام. قوله: ({يُبَدِّلُ}، مخففٌ ومثقل)، أي: قرئ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} بتثقيل الدال. سبعةٌ، وبالتخفيف: شاذ. قوله: (وإبدال الحسنات سيئات)، خلاف ما في التلاوة. قوله: (وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات)، قال محيي السنة: ذهب جماعةٌ إلى أن هذا التبديل في الدنيا، قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهدٌ، والسدي، والضحاك: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفةً وإحصاناً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال سعيد بن المسيب ومكحولٌ: يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسناتٍ يوم القيامة، يدل عليه حديث أبي ذر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم آخر رجلٍ يخرج من النار، يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: علمت يوم كذا وكذا وهو مقرٌ لا ينكر، وهو مشفقٌ من كبارها، فيقال: أعطوه مكان كل سيئةٍ حسنة، فيقول: إن لي ذنوباً ما أراها هاهنا". قال أبو ذر: فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه. رواه الترمذي. ورواه مسلمٌ أيضاً عن أبي ذر مع تغييرٍ فيه. فهذه المعاملة مع من هو آخر الناس خروجاً من النار، فكيف بالمؤمن التائب الآتي بالأعمال الصالحة؟ وروى الإمام عن سعيد بن المسيب ومحكولٍ: تمحى السيئة ويثبت له بدلها الحسنة، لما ورد: "ليتمنين أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات"، قيل من هم؟ قال: "الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات"، ولا يبعد ذلك من حيث الدليل، فإن التائب النادم كلما تحسر على ذنبٍ صدر منه واستغفر الله تعالى لأجله أو خضع واستكان، نال من الزلفى من الله من الدرجات ما لا يناله بالطاعة. ثم النظم يساعد هذا التأويل، فإن الإشارة بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ما سبق من الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، والزنا، وقد ترتب عليه مضاعفة العذاب، والتخليد والإهانة، واستثنى من الوعيد المؤمن التائب الآتي بالأعمال الصالحة، فحينئذٍ لم يفد إذا عقب بقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، وفسر بمحو الذنوب وإثبات

الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين: قتل المشركين، وبالزنى عفة وإحصانا. [(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً)]. يريد: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله (مَتَاباً) مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإيمان والطاعة والتقوى إفادة ما إذا قيل: بفضل الله عليهم بالثواب والكرامات، وأن يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ يوم القيامة، لاسيما إيراد إبدال السيئات بالحسنات بعد اسم الإشارة المؤذن بأن ما يرد عقيبه جديرٌ بمن قبله، لأجل اكتسابه الخلال الحميدة، والمذكور قبله: التائب، والخصال الحميدة: الإيمان والأعمال الصالحة، فلابد إذاً من أمرٍ آخر زائدٍ وليس ذلك إلا الثواب في الآخرة. ويؤيده قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: غفوراً حيث حط عنهم بالتوبة والإيمان مضاعفة العذاب، والخلود في النار والإهانة، رحيماً حيث بدل سيئاتهم بالثواب الدائم، والكرامة في الجنة، وكذا تذييل الكلام بقوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} المفسر بقوله: "متابا مرضياً عنده مكفراً للخطايا، محصلاً للثواب وإلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما هو أهله، ويحب التوابين"، وأنت قد علمت أن التذييل كالتأكيد للمذيل، فلابد من مراعاة معنى الثواب فيه ليصح. قوله: ({متاباً} مرضياً عنده مكفراً)، وذلك أن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى حمل الجزاء على نهاية ما يحتمله من المعنى، ونحوه قولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك. قوله: (أو: فإنه تائبٌ متاباً إلى الله)، يعني: أعيد المعنى ليناط به صريح اسمه الجامع،

ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليؤذن به أن من تكون توبته إلى من اسمه الله فأعظم بتوبته، وقد سبق أن اسمه الأعظم جامعٌ لسائر صفاته الحسنى وأسمائه العظمى، وله في كل مقامٍ تجل بحسب اقتضاء ذلك المقام، والمقابل له. وهذا المقام مقام التوبة، فالتجلي بوصف التوابية، وإليه الإشارة بقوله: "إلى الله الذي يعرف حق التائبين، ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين"، والذي يفرح بتوبة التائبين فرحاً لا فرح فوقه. قوله: (لله أفرح بتوبة العبد)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن الحارث بن سويد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ نزل بأرض دويةٍ مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، وعليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته". الدوية: الفلاة والمفازة. والراحلة: البعير الذي يركبه الإنسان، ويحمل عليه متاعه، والفرح من الله سبحانه وتعالى: غاية الرضا. يقول العبد العاصي الغريق في بحر المعاصي: أنا أتوسل بما صدر عن صدر حبيبك لقبول توبتي ومحو حوبتي: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" أخرجه البخاري والترمذي والنسائي، عن شداد بن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الاستغفار. باء بإثمه يبوء بوءاً، أي: رجع به، وصار عليه. وتقول: باء بحقه، أي: أقر، وذا يكون أبداً بما عليه، لا له.

والظمآن الوارد، والعقيم الوالد. أو: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأىّ مرجع! . [(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)]. يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه؛ لأنّ مشاهد الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوّغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعاً حسناً)، وعلى هذا معنى "يتوب": يرجع لغةً. فإن قلت: لم وضع في الوجهين السابقين "تائب" في موضع "يتوب"، وصرح في الأخير بالمضارع حيث قال: يرجع؟ قلت: ليؤذن في الوجهين أن المضارع للاستمرار والدوام، وفي الأخير بأن الثواب منتظرٌ. فإن قلت: ما الفرق بين الوجه الأول والثاني حين جعل الموصوف في الأول {مَتَابًا} وفي الثاني الله تعالى، والشرط والجزاء متحدان فيهما؟ قلت: ما ذكرنا أن القصد الأولى في التكرير على الأول إلى جعل الجزاء عين الشرط من غير نظرٍ إلى ذكر الله، فوصف مصدر الفعل، وعلى الثاني إلى مجرد إناطة اسم الله عز وجل به، من غير نظرٍ إلى المنوط به، فوصف ما جلب له المكرر، لأنه المقصود. قوله: (ينفرون عن محاضر الكذابين)، فالشهادة بمعنى الحضور، والزور بمعنى الباطل، النهاية: الزور: الكذب، والباطل، والتهمة. الأساس: وفي صدره زورٌ: اعوجاجٌ، وهو شاهد زور. قوله: (ما لم تسوغه الشريعة) فيدخل فيه أبنية الظلمة وما يلحق بمسجد الضرار، هذا بطريق العموم، ويمكن سلوك طريق الخصوص ويحمل اللغو مجازاً على ما نسقطه من الأبنية، وقد استعار جريرٌ في الأعيان في قوله:

الإثم، لأنّ حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه، لأنّ الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم صوات الله عليه: إياكم ومجالسة الخطائين. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة: مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله: (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص: 55]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويذهب بينها المرئي لغواً ... كما ألغيت بالدية الحوارا وهي استعارة مصرحة تحقيقية، فالقرينة استعمال المرور فيه، فالمناسب أن يحمل الشهود على الحضور، ويجعل الزور استعارةً عنها، لأنها باطلة كما استعير {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] للقاعدة الباطلة لمسجد الضرار، فيكون اللغو مظهراً وضع موضع المضمر، كأنه قيل: لا يحضرون تلك المشاهد، وإذا مروا بها مروا غير ملتفتين إليها ولا يجيلون النظر إليها استحساناً، لأن قصدهم في البناء سلب نظر الخلق إليها. قال أبو حامد في "الإحياء": إن السلاطين في زماننا هذا ظلمة قلما يأخذون شيئاً على وجهه بحقه، فلا يحل معاملتهم ولا معاملة من يتعلق بهم، حتى القاضي، ولا التجارة في الأسواق التي بنوها بغير حق، والورع اجتناب الربط والمدارس والقناطير التي بنوها بالأموال المغصوبة التي لا يعلم مالكها. قوله: (هو استحسان النظارة)، واستحسان ما قضى الإسلام بقبحه، يضرب إلى الكفر، ولهذا قيل: الابتهار بالذنب أعظم من ركوبه، والابتهار: أن يقول: فعلت، وقد فعل

وعن الحسن: لم تسفههم المعاصي. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن الحسن: لم تسفههم المعاصي)، روى محيي السنة عن الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلها، يعني: إذا مروا بمجالس يعصى اله فيها مروا مسرعين معرضين إذ لو وقف أو لم يعرض، بل نظر، عد سفيهاً، يقال: تكرم فلانٌ عما يشينه: إذا تنزه وأكرم نفسه عنه. ثم هذه الخاتمة، أعنى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} إذا فسر قوله: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} بأنهم ينفرون عن محاضر الكذابين والخطائين، على أن {يَشْهَدُونَ} بمعنى يحضرون، كانت كالتميم له، وإذا فسر بأنهم لا يشهدون شهادة الزور كانت كالتكميل له، ويجوز أن يكون تتميماً على تفسير الحسن، لأن من وقف مواقف السفهاء سفه، ويكون قدحاً في عدالته. قوله: (إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا)، عبر أولاً عن سماع اللغو بالمرور به، لأن المرور به دل على أصحابه، ودل ذلك على سماعه منهم. وثانياً: عن الإعراض عنه بالمرور به. على تلك الحالة، فإن الكريم إذا مر باللغو أعرض عنه. قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. قال: وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وتخصيص المرور بالذكر، للإيذان بأن ذلك دأبهم وعادتهم، قال تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]، أي: استمرت بذلك الحمل ولم يثقلها قط. قال الزجاج: فمرت به، معناه: استمرت به، قعدت وقامت ولم يثقلها. ونحوه في المعنى قول الشاعر: وقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

وصفحوا. وقيل: إذا ذكروا النكاح كنوا عنه. [(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)]. (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، كما تقول: لا يلقاني زيد مسلما، هو نفي للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: هذا الإعراض والصفح شيمتى وخلقي، ولذلك قرنه بحرف التقليل المفيد للتكثير تمليحاً، كقوله: قد أترك القرن مصفراً أنامله قوله: (كنوا عنه)، أي: بالغشيان والمسيس والمباشرة والإتيان دائمين مستمرين. قوله: (ليس بنفي للخرور، بل إثباتٌ له ونفيٌ للصمم والعمى)، يعني: أدخل حرف النفي على المثبت، وأريد نفي ما يتبعه، كقولك: ما هو بمؤمنٍ مخادع. والنكتة فيه التعريض بمن هو ليس على صفتهم، ولذلك قال: "لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها، إلى قوله: "وهو كالصم والعميان"، وما أحسن اقتران هذا الوصف مع قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} لا يختلط جدهم بهزل، وحقهم بباطل، فإذا اعتراهم الهزل تنزهوا عنه كل تنزه، وإذا اشتغلوا بالحق لا يحوم بالباطل حوله، ومنه قول المنصور لابن عمران: بلغني أنك بخيلٌ. قال: ما أجمد في حق، ولا أذوب في باطل، أو يقال: إذا مروا بالهزل مروا مكرمين متغافلين متغابين، كأنهم ما سمعوه ولا نظروا إليه، وإذا حاولوا الجد أقبلوا إليه بشر اشرهم واجتنبوا عن أن يكونوا كالغافلين عنه لا يسمعونه بآذانٍ واعية، ولا يبصرونه بأعينٍ راعية. اللهم اجعلنا من زمرتهم برحمتك الواسعة يا رب العالمين.

سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم. [(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)]. قرئ: (ذريتنا)، و (وذرياتنا)، و (قرة أعين) و (قرّات أعين). سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله، يسرون بمكانهم وتقرّبهم عيونهم. وعن محمد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سامعون بآذانٍ واعية، مبصرون بأعينٍ راعية)، خبرٌ بعد خبر، لقوله: "وهم". قوله: (وقرئ: "ذريتنا" و {ذُرِّيَّاتِنَا}، الحرميان وابن عامرٍ وحفص: "ذرياتنا" بالألف على الجمع، والباقون: بغير الألف على التوحيد. قوله: (سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً عمالاً لله)، فإذن، التقدير: هب لنا أزواجاً وذرياتٍ مطيعين لك، ولما كانت طاعتهم سبباً لسرورهم وضع المسبب موضع السبب للمبالغة، وأن المطلوب الأولى بالأولاد طاعة اله، وجعل هذا الدعاء من جملة صفات الكملة من المؤمنين للدلالة على عظم منزلة من يطلب النكاح لذلك، وهذا بالنسبة إلى الداعي، فكيف بمن يتصف بذلك؟ وقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، كالتكميل للدعاء، أي: اجعلنا كاملين في أنفسنا، ومكملين لغيرنا، وفي جعل المقتدين متقين إشارةٌ إلى علو درجة الإمام. قوله: (يسرون بمكانهم وتقربهم عيونهم)، "وتقر بهم": عطفٌ تفسيريٌ لـ "يسرون"،

بن كعب: ليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة، فاكتفى بالواحد؛ لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) [غافر: 67]. أو أرادوا: اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آمّ، كصائم وصيام. أو أرادوا: اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلمتنا. وعن بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل: نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت: (مِنْ) في قوله: (مِنْ أَزْواجِنا) ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثم بينت القرّة وفسرت بقوله: (مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا)، ومعناه: أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أي: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر العكس، لأنه بصدد أن يفسر "قرة أعين" بالسرور، كأنه ادعى الشهرة، وأنه الأصل في الاعتبار. النهاية: وفي حديث الاستسقاء: "لو رآك لقرت عيناه"، أي: لسر بذلك وفرح، وحقيقته: أبرد الله دمعة عينية، لأن دمعة الفرح والسرور باردةٌ، ونقل عن الأصمعي: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولهذا قيل: أسخن الله عينيك، وقيل: أقر الله عينيه: أعطاه ما يسكن به عينه، ولا ينظر إلى غيره، من: قر يقر- من باب ضرب-: إذا ثبت. قوله: (وأن تكون ابتدائيةً على معنى: هب لنا من جهتهم)، في كلامه إشعارٌ بأن "من" البيانية تجريديةٌ، لقوله: "وهو من قولهم: رأيت منك أسداً"، و"من" الابتدائية بمعنى: لأجل، كذا قدر في المائدة عند قوله: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83].

فإن قلت: لم قال: (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) فنكر وقلل؟ قلت: أما التنكير فلأجل تنكير القرّة، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه، كأنه قيل: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل (أَعْيُنٍ) دون عيون، لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم، قال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، ويجوز أن يقال في تنكير (أَعْيُنٍ): إنها أعين خاصة، وهي أعين المتقين. (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان: 76]. المراد يجزون الغرفات؛ وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصارا على الواحد الدال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يقال في تنكير {أَعْيُنٍ}، عطفٌ على قوله: "أما التنكير فلأجل تنكير القرة"، وفي هذا العطف على الجواب بعد السؤال الثاني نوع بلاغة، فإنه لما أجاب عن سؤال التنكير بقوله: أما التنكير فلأجل تنكير القرة فهم أن المضاف تابعٌ للمضاف إليه، وكان المراد من التنكير في المضاف التفخيم والتعظيم، فنكر المضاف إليه لذلك، أي: سروراً لا يكتنه كنهه. ولما أجاب عن سؤال البناء وأن "أعين" جمعٌ بنيت للقلة ليؤذن به إلى تقليل صاحبها وهم المتقون، قال: "إنها أعينٌ خاصة"، والتنكير تنكير التقليل، ليناسب البناء في التقليل، كأنه قرة أعين الشكور من عباد الله. الانتصاف: والظاهر أن المحكي كلام كل واحدٍ من المتقين، أي: يقول كل واحدٍ منهم: اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وهذا أحسن من تأويله، فإن المتقين، وإن كانوا قليلين، فهم كثيرون في أنفسهم، وقلتهم بالنسبة إلى غيرهم. والمعتبر في جمع القلة أن يكون الشيء قليلاً في نفسه لا بالنسبة. قوله: (وهي العلالي في الجنة)، الجوهري: العلية: الغرفة، والجمع: العلالي، وهو فعليةٌ مثل مريقة، وأصله: عليوةٌ، فأبدلت الواو ياءً وأدغمت، وهي من: علوت.

على الجنس، والدليل على ذلك: قوله: (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37]، وقراءة من قرأ: (في الغرفة). (بِما صَبَرُوا): بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعلى أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك. وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل على ذلك)، أي: على أن المراد بـ "الغرفة" الجنس: مجيئها في "سبأ" جمعاً وإفراداً، فإن حمزة أفرد بها مفرداً، والجماعة أجمعوا على جمعها، فدل قراءة الجمع على أن المراد من الإفراد الجنس ليتوافق القراءتان، ويمكن أن يقال: القرينة هي إثبات الغرفة الواحدة للجماعة. وأما فائدة العدول في هذا المقام فلاتحاد ترتب الحكم على الأوصاف المشتركة بخلافه في "سبأ"، فإنه مرتبٌ على الإيمان والعمل الصالح مطلقاً. ولا ارتياب في التفاوت في الأعمال، فناسب الجمع ليتفاوت الجزاء بحسب العاملين. وأما إفراد حمزة فيها فمن باب حمل المطلق على المقيد. قوله: (وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبورٍ عليه)، يعني: لم يؤت بمتعلق صبور لئلا يقتصر عليه، فيتناول كل مصبورٍ عليه إلى أن يحاط به. فإن قلت: قد تقرر أن اسم الإشارة إذا عقب به من أجرى عليه الأوصاف دل على أن المذكور قبله جديرٌ بما بعده لأجل تلك الأوصاف الجارية عليه، فإذن السبب في أنهم يجزون الغرفة تلك الأوصاف التي أجريت على عباد الرحمن، فكان من حق الظاهر أن يجاء بدل {بِمَا صَبَرُوا}: بما فعلوا كناية عن تلك المذكورات بأسرها، فما فائدة العدول؟ قلت: الإيذان بأن ملاك العبادات الصبر، وأن حبس النفس على طاعة اله هي الطلبة، وقطعها عن مشتهياتها هي المرام. الراغب: الصبر: حبس النفس عما يقتضيه الهوى، وتختلف مواقعه وربما يخالف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعة. فإن كان في مصيبةٍ فيقال: صبرٌ لا غير، وضده الجزع،

وقرئ: (ويُلَقَّوْنَ)، كقوله تعالى: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) [الإنسان: 11]، و (يَلْقَوْن)، كقوله: و (يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان: 68]. والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعني: أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا مع أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك. [(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)]. لما وصف عبادة العباد، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن كان في محاربةٍ سمي شجاعةً، وضدها الجبن، وإن كان في نائبةٍ مضجرة سمي صاحبه رحيب الصدر، وضده ضيق الصدر، وإن كان في إمساك النفس عن الفضولات سمي قناعةً وعفة، وضدها الحرص والشره، وإن كان في إمساك الكلام في الضمير سمي كتماناً، وضده الإفشاء وعلى هذا يقاس جميع الفضائل من الأخلاق ورذائلها. قوله: (وقرئ: {وَيُلَقَّوْنَ})، بالتشديد، كلهم إلا أبا بكرٍ وحمزة والكسائي، فإنهم قرؤوا: "ويلقون" بالتخفيف. قوله: (أو يعطون التبقية)، عطفٌ على قوله: "إن الملائكة يحيونهم"، هذان الوجهان مبنيان على القراءتين على تشديد {وَيُلَقَّوْنَ} وتخفيفه، فعلى التشديد المناسب أن يكون التحية بمعنى الدعاء بالتعمير، أي: تتلقاهم الملائكة ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعلى التخفيف التحية بمعنى التبقية والتخليد، أي: يلقون البقاء والتخليد مع السلامة، لكن فسر المصنف يلقون بقوله: "يعطون، قال الله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، أي: أعطاهم، وفي بعض الحواشي: التحية مشتقةٌ من الحياة، وهي التبقية في الحقيقة، ومنه قولنا: التحيات لله، أي: التبقيات له تعالى.

ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة؛ أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث بأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرّح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة، ولم يعتدّ بهم، ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء: العبادة. و (مَا) متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل: وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به: ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا علىّ، كما تقول: ما اكترثت له، أى: ما اعتددت به من كوارثي ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل (مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي): أي وزن يكون لكم عنده؟ ويجوز أن تكون (مَا) نافية، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ): يقول: إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتدّ بعبادي إلا لعبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري، فقد عصيت فسوف ترى ما أحلّ بك بسبب عصيانك. وقيل: معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة. فإن قلت: إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت: إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من فوادح همومي) وكوارثي، الجوهري: فدحه الدين: أثقله، وأمرٌ فادحٌ، إذا عاله وبهظه، وكرثه الغم يكرثه، بالضم، أي: اشتد عليه، وبلغ منه المشقة. قوله: (فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب)، أي: الخطاب في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} متوجهٌ إلى جنس الناس من غير تقييدٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بنوع من أنوع هذا الجنس، وإنما صح ذلك لما وجد في صنفٍ من الأصناف التكذيب، وفي صنفٍ العبادة، وهو قريبٌ من قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله: نبا بيدي ورقاء. وقلت: ما أبعد هذا التأويل، فإن الآية منه على صريخ وعويل، أم كيف يتصور أن يدخل الأنبياء والصالحون من التابعين في خطاب {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}؟ والوجه أن يكون الخطاب متوجهاً إلى قريش، لاسيما واللزام مفسرٌ بيوم بدر. روينا عن البخاري ومسلم، عن عبد الله: خمسٌ قد مضين: الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، وفي رواية الترمذي: اللزام: يوم بدر. وروى البرقاني عن الشيخين: اللزام: يوم بدر، وفي "معالم التنزيل": ما يفعل بعذابكم لولا شرككم؟ أي: دعاؤكم الآلهة، كما قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} [النساء: 147]. وقيل: فقد كذبتم أيها الكافرون، فخاطب أهل مكة، يعني: أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فكذبتم الرسول ولم تجيبوه. وقال صاحب "الفرائد": أصل الكلام: لولا دعاؤكم- أي: عبادتكم- لم يعبأ بكم،

وقرئ: (فقد كذب الكافرون). وقيل: يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ: (لَزامًا) بالفتح بمعنى اللزوم، كالثبات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكن لم تكن عبادتكم، لأنه أرسل الرسول إليكم فقد كذبتموه فلم يعبأ بكم، فقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} واقعٌ موقع لم يعبأ بكم. والنظم يساعد هذا التأويل، لأن هذه السورة الكريمة على ما سبق مشتملةٌ على بيان عناد كفار قريش، وتكذيبهم آيات الله وتسميتهم القرآن بأساطير الأولين، وطعنهم في الرسول: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7]، كما شرحناه. وأما ذكر المؤمنين فتعريضٌ لهم وقد صرح به في قوله: "ونفي هذه المقبحات العظام عن الموصوفين بتلك الخصال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم"، ثم إن هذه الخاتمة ناظرةٌ إلى الفاتحة، أي: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] المعنى: قد أنذر وبالغ فيه، وبين بالآيات الظاهرة، والبراهين الباهرة، تصريحاً وتعريضاً، أن الحكمة في الإيجاد معرفة الخالق، أما تصريحاً ففي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، وأما تعريضاً ففي عد فضائل المؤمنين، وإذا أعلمكم رسولي أن حكمي ذلك، وأني لا أعتد بعبادي إلا بعبادتهم، فقد خالفتم أنتم بتكذيبكم كتابي ورسولي حكمتي في الإيجاد، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهو الاستئصال يوم بدر، والعذاب السرمد في النار يوم القيامة، وبالله التوفيق. قوله: (وقرئ: "لزاماً" بالفتح)، في "المطلع": "لزاما" بالفتح، بمعنى: اللزوم، كالثبات والثبوت، وبالكسر: بمعنى الملازمة، وكلاهما وصفٌ بالمصدر بمعنى: ملازماً أو لازماً.

والثبوت. والوجه أن ترك اسم "كان" غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف، والله أعلم بالصواب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الفرقان لقي الله يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والوجه أن ترك اسم "كان" غير منطوقٍ به)، يريد أنه غير ملفوظ، لكنه مضمرٌ بالبال، لقوله: "بعد ما علم أنه مما توعد به". والله تعالى أعلم * * *

سورة الشعراء

سورة الشعراء مكية، إلا قوله (وَالشُّعَراءُ) إلى آخر السورة وهي مئتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: وست وعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26): الآيات 1 إلى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [الشعراء: 1 - 2]. طسم بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها. (الْكِتابِ الْمُبِينِ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الشعراء مكية، إلا قوله: {والشعراء} إلى آخر السورة وهي مئتان وسبع وعشرون آية، وفي رواية: ست وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ({طسم} بتفخيم الألف)، أبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بإمالة فتحة الطاء، والباقون: بإخلاص فتحها. وأظهر حمزة النون من هجاء السين عند الميم، وأدغمها الباقون.

الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند الله. والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين. [(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)]. البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع- بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الظاهر إعجازه)، أراد أن المبين من أبان بمعنى بان. قوله: (والمراد به السورة أو القرآن)، اعلم أن {طسم} إما أن يجعل اسماً للسورة، أو تعداداً لحروف التهجي، والثاني إما واردةٌ على قرع العصا، أو تقدمةً لدلائل الإعجاز كما سبق في الفواتح، ثم المناسب أن يفسر الكتاب بالقرآن إذا جعل {طسم} اسماً لله، ويكون مبتدأ وتلك: مبتدأٌ ثانٍ، وآيات الكتاب: الخبر، والجملة خبر المبتدأ الأول، وإذا جعل تعداداً للحروف يفسر الكتاب بالسورة، ويقدر مضافٌ كما قال: "آيات هذه المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين"، يعني: آيات المؤلف من هذه الحروف، وهو القرآن، كآيات هذه السورة المتحدى به، فأنتم عجزتم عن الإتيان بمثل هذه السورة، فحكم تلك الآيات كذلك. و {تِلكَ} على هذه: إشارةٌ إلى القريب إعلاماً ببعد المنزلة والتناهي في الرتبة، وفي الوجه الأول: الإشعار بالتحدي بهذه السورة أيضاً، يعني: هذه السورة من جملة المتحدى به فأتوا بمثلها. قوله: (البخع: أن يلغ بالذبح البخاع- بالباء-)، الموحدة، قال ابن الأثير في "النهاية": بحثت في كتب اللغة والطب والتشريح فلم أجد بخاع بالباء. وفي "الكواشي" وأهل اللغة: النخاع بالنون والخاء والعين. الجوهري: النخاع بضم النون: الخيط الأبيض الذي في جوف الفقار. الواحدي: قال جماعةٌ من المفسرين: باخعٌ نفسك: قاتل نفسك، يقال: بخع الرجل نفسه: إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء. وأنشد الزجاج لذي الرمة:

أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك، (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ): لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة: (باخع نفسك) على الإضافة. [(إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيءٍ نحته عن يديه المقادر المعنى: ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه. وفي "الأساس"، في باب الباء مع الخاء: بخع الشاة: بلغ بذبحها الفقار، ومن المجاز: بخعه الوجد: إذا بلغ منه المجهود، وأنشد بيت ذي الرمة. قوله: (يعني: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرةً على ما فاتك من إسلام قومك)، دل على الأمر بالإشفاق قضية الإنكار، أي: إنك تفعل ذلك فلا تفعل. قال الإمام: لما بين الله تعالى أن الكتاب مبينٌ للأشياء، قال بعده: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} منبهاً على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غايةٍ فلا مدخل له في إيمانهم، لما سبق أن حكم الله بخلافه، فلا تبالغ في الحزن والأسف، لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك أصلاً، فصبره وعزاه وعرفه أن غمه لا ينفع، كما أن مجرد وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع. قوله: (أو خيفة أن لا يؤمنوا)، إنما قدر الوجهين، لأن قوله: {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} تعليلٌ لقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، وليس بفعل لفاعل الفعل المعلل، فكان من الظاهر ذكر حرف التعليل، وإنما ترك لأن في "أن" دلالةً عليه لما اطرد حذف الجار منه، أو أنه فعل له على تقدير المضاف، ومن ثم قال: "خيفة أن لا يؤمنوا".

أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. (فَظَلَّتْ) معطوف على الجزاء الذي هو (نُنَزِّلْ)، لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره: (فَأَصَّدَّقَ وأَكُن) [المنافقون: 10]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آيةً ملجئةً إلى الإيمان)، عن بعضهم: الآية عند أهل السنة غير ملجئةٍ كما قالت المعتزلة، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111]، والآيات من الله ليست بعلةٍ للإيمان، وإنما هي أسبابٌ توجب الاعتبار على سبيل الاختيار، وفيه بحثٌ. قال الواحدي: أعلم الله تعالى أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك. وقال ابن جريج: ولو شاء لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحدٌ بعده منهم معصية الله. وقال القاضي: "آيةً"، أي: دلالةً ملجئةً إلى الإيمان. قوله: ({فَظَلَّتْ} معطوفٌ على الجزاء الذي هو {نُنَزِّلْ})، فالفاء إذن: للتعقيب، والأوجه أن الفاء للسببية، لأن الإنزال سببٌ للخضوع. قوله: (لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحاً)، يعني: {فَظَلَّتْ}: معطوفٌ على المضارع الذي لو استعمل بدله الماضي لكان صحيحاً، ويمكن أن يقال: إن فائدة وضع {نُنَزِّلْ} موضع "أنزلنا" استحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان، وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه، وإلا لم يصح عطف الماضي على المستقبل بحرف التعقيب، أو جعل الماضي مسبباً عن المستقبل، أو يقال: الأصل "فتظل" فوضع الماضي موضعه ليؤذن بسرعة الانفعال، وأن نزول الآية لقوة سلطانه بمنزلة أن لم يتوقف حصول الخضوع عند وجوده، كفأنه قد مضى يخبر عنه، وإلى هذا المعنى ينظر قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف: 160].

كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ: (لو شئنا لأنزَلْنا)، وقرئ: (فتَظل أعناقُهم) فإن قلت: كيف صح مجيء (خَاضِعينَ) خبرا عن الأعناق؟ قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "فتظل")، على فك الإدغام. قال الحريري في "درة الغواص": فك الإدغام ضعيفٌ، لأن العرب استعملت الإدغام طلباً للخفة، واستثقالاً للنطق بالحرفين المتماثلين، ورأت أن إبراز الإدغام بمنزلة اللفظ المكرر والحديث المعاد، ثم لم تفرق بين الماضي والمستقبل، وتصاريف المصادر وقد يشتمل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] على الإدغام في الفعل الماضي والمستقبل: وهذا الحكم مطردٌ في كل ما جاء من الأفعال المضاعفة على وزن فعل وأفعل وفاعل وافتعل وتفاعل واستفعل، نحو: مد الحبل، وأمد، وماد، وامتد وتماد، واستمد، اللهم إلا أن يتصل به ضمير المرفوع أو يؤمر به جماعة التأنيث، نحو: رددت ورددنا وارددن وامددن، لسكون آخر المتماثلين. وقد جوز الإدغام والإظهار في الأمر للواحد، كقولك: رد واردد، وكذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 217]، وفي قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ} [الأنفال: 13]، فأما ما عدا هذه المواطن فلا يجوز إبراز التضعيف إلا في ضرورة، قال قعنب ابن أم صاحب [في الأفعال]: مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا وقد شذ قولهم: قطط شعره، ومششت الدابة، ولححت عينه، أي: التصقت، وضببت البلد: إذا كثر ضبابه. وصككت من الصكك في القوائم، كل ذلك مما لا يعتد به ولا يقاس عليه.

وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: (خَاضِعِينَ)، كقوله: (لِي ساجِدِينَ) [وقيل أعناق الناس: رؤساؤهم ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم الرؤوس والنواصي، والصدور. قال: في محفل من نواصي النّاس مشهود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وترك الكلام على أصله)، أي: ترك باقي الكلام على أصله، أي: لم يغير، وقيل: {خَاضِعِينَ} خاضعين، وحقه: "خاضعةً". قوله: (كقوله: ذهبت)، أي: أنث الفعل، وأصله مذكرٌ، لأن الأصل في الاستعمال: "ذهبت اليمامة"، والأهل مقحمٌ لبيان الذاهبين، فترك ذهبت على ما كان، وفي أصل السيرافي: النحويون يجعلون: ذهبت بعض أصحابه، وشرقت صدر القناة، مما يجوز في الشعر، وأبو العباس يجيزه في الكلام، واحتج بهذا الوجه في الآية، فكأنه قال: فظلوا لها خاضعين، واعتمدت على أصحاب الأعناق، وكذلك: شرقت صدر القناة، كأنه لم يذكر الصدر، واعتمدت على ما أضيف الصدر إليه. قال أبو البقاء: لما أضيف الأعناق إلى المذكر، وكانت متصلةً بهم في الخلقة، أجرى عليها حكمهم. وقال الكسائي: {خَاضِعِينَ} هو: حالٌ من الضمير المجرور، لا من "الأعناق"، وهذا بعيدٌ في التحقيق، لأنه حينئذٍ جارٍ على غير فاعل "ظلت"، فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل، وإنما يقال: خاضعين م، وكذا في "الكشف". قوله: (في محفلٍ من نواصي الناس مشهود)، أوله:

وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس؛ لفوج منهم. وقرئ: (فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعةً). وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومشهدٍ قد كفيت الغائبين به أراد بالمشهد: المجلس، أي: رب مشهدٍ عظيم الشأن تكلمت فيه وخاصمت عن الغيب عنه، وكشفت الغمة، وأتيت بالحجة بقلب ثابت. قوله: (وقيل: جماعات الناس)، الأساس: ومن المجاز: أتاني عنقٌ من الناس، للجماعة المتقدمة، وجاؤوا رسلاً رسلاً، وعنقاً عنقاً، والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض. قال العجاج: حتى بدت أعناق صبح أبلجا ويفهم من تقابل "رسلاً رسلاً"، لقوله: "عنقاً عنقاً": أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة، فالمعنى: فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع، متفقين عليه لا يخرج أحدٌ منهم عنه، كقولك للجماعة: هم يدٌ، وفائدة الوجه الأول، وهو إقحام العنق، تصوير حالة الخضوع إدخالاً للروعة. والوجه الثاني من باب إجراء ما لا يعقل مجرى العقلاء مبالغةً لخضوعهم، فكأنه سرى منهم إليها. والثالث من إطلاق الجزء على الكل، فإن المتكبر إنما يظهر تجبره في عنقه، وليه له، ولهذا سمي الملك بالصيد يقال: ملكٌ أصيد، لا يلتفت من زهوه يميناً وشمالاً.

[(وَما يَأتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَاتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)]. أي: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظةً وتذكيراً، إلا جددوا إعراضاً عنه وكفراً به)، فإن قلت: هب أن قولهن: {مُحْدَثٍ} يدل على التجدد، لكن قوله: {كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا} وقوله: {كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} لا يدل إلا على المضي، فمن أين قال: "إلا جددوا إعراضاً"؟ ولذلك قال الإمام: الآية من تمام قوله تعالى: {إِنْ نَشَا نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ}، فنبه تعالى أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيمٌ بهم، حيث يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال، ويكرره عليهم، وهم مع ذلك على جدٍّ واحدٍ في الإعراض والتكذيب والاستهزاء". قلت: المصنف ما اعتبر التجدد والاستمرار من لفظٍ {مُحْدَثٍ}، بل من وقوع المضارع مقابلاً للمضي، وهو: {وَمَا يَاتِيهِمْ} كما اعتبروه من وقوع المضارع في حد المضي في قولهم: لو تحسن إلى لشكرت. قال صاحب "المفتاح": قصدوا بـ "تحسن": أن إحسانه مستمر الامتناع فيما مضى وقتاً فوقتاً، وأما لفظة {مُحْدَثٍ}، فلتوكيد معنى التجدد والاستمرار فيما يأتيهم. وأما قضية النظم فإن هذه الآية متصلةٌ معنى بقول تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}، فإنه تعالى أعلم أولاً أنه أنزل هذا الكتاب الكريم في نهايةٍ من الوضوح والبيان، وأنهم ما رفعوا له رأساً، ثم نبه ثانياً على أن هذا الكتاب مع وضوح آياته إنما أنزل على سبيل التدرج، ليكون أدخل في التذكير، وأنجع في الاتعاظ به، وهم مع ذلك قابلوا كل حصةٍ منه بتكذيبٍ واستهزاء، كل ذلك تسليةً لحبيبه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يذهب بنفسه حسرات، ولذلك أوقع قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} الآيتين اعتراضاً، يعني: انظر إليهم وإلى ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلوا بمثل هذا الكتاب الكريم، وبمنزله، على أنه قادرٌ على أن يقسرهم على الإيمان وهم مهانون خاضعون، فأشفق على نفسك أن تقتلها حسرةً على ما فاتك من إسلامهم. وأنت يا أيها المتأمل في كتاب الله المجيد إذا أمعنت النظر فيما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة وجدته نازلاً تسليةً لقلب الحبيب صلوات الله وسلامه عليه من تكذيب القوم إياه، والطعن فيما أنزل إليه والاستهزاء به، ألا ترى كيف ذيل كل قصةٍ من القصص المذكورة فيها بقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وجعل كالتخلص إلى قصةٍ أخرى وكالمهتم بشأنه، فيرجع إليه إذا وجد له مجالاً، يعني: لا تتحسر على إصرارهم على الكفر، وتكذيبهم ما أنزلنا عليك، إن ربك عزيزٌ ينتقم منهم، ويرحم عليك بأن يقدر لك من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء. ومن ثم قرن معه وقدم عليه كل مرةٍ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}، وإليه الإشارة بقوله: "لهو العزيز في انتقامه من الكفرة، الرحيم لمن تاب" وأحسن. يعني: لك التأسي بربك مع كبريائه وجلاله، وبالأنبياء عليهم السلام السالفة، ولذلك بدأ سبحانه وتعالى بأمر نفسه، وذكر أنه تعالى أنزل عليهم دليل السمع، فأعرضوا وكذبوا واستهزأوا، ونصب لهم الدلائل الظاهرة، وأراهم آياتٍ يفتح بها أعينهم: من إنبات كل صنفٍ بهيج، وما التفتوا ولا رفعوا له رأساً، ثم فصل ذلك بتلك الفاصلة، وقرنها بتلك القرينة، وثنى بقصة موسى عليه السلام وختمها أيضاً بتلك الفاصلة والقرينة، وثلث بقصة الخليل عليه السلام وختمها بهما، وهلم جراً إلى آخر السورة. انظر- أيها المتأمل في كتاب الله المجيد، المستخرج للطائفة من قعر بحره، الملتقط لدرره بغوص فكره- إلى رفعة منزلة سيدنا محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه، ونباهة قدره، كأنه التنزيل بجملته نازلٌ لتسكين بادرته، وتسلي حزنه، وتثبيت خلده، ورباطة جأشه، وتهذيب أخلاقه، وإرشاد أمته، مع مراعاة ألفاظ التلويح والتعريض والرمز، كالمناغاة بين المتحابين، ولله در شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهر وردي قدس الله تعالى روحه حيث

فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي: الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت: إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له. (فَسَيَاتِيهِمْ) وعيد لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: بين قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] مناسبةٌ تشعر بقول أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما: كان خلقه القرآن، وفي رمزٌ غامضٌ وإيماءٌ خفيٌ إلى الأخلاق الربانية، وهو أنها احتشمت الحضرة الإلهية بأن تقول: بأنه صلوات الله عليه وسلامه كان متخلفاً بأخلاق الله تعالى، فعبرت بقولها: "كان خلقه القرآن"، استحياءً من سبحات الجلال، وستراً للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وكمال أدبها، لأن الله تعالى أبرز إلى الخلق أسماء منبئةً عن صفات الكمال، وما أظهرها لهم إلا ليدعوهم إليها، ولولا أنه تعالى أودع في القوى البشرية التخلق بالأخلاق ما أبرزها لهم، لكن يختص برحمته من يشاء. قوله: (والغرض واحدٌ)، وهو دفعه والكفر به، كما قال: إعراضاً عنه وكفراً به. وتلخيص الجواب: منع ذلك، وأن المراد التدرج من غرضٍ إلى غرضٍ هو المقصود، وتصوير معنى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنه نتيجة التكذيب المسبب عن الإعراض، فالفاء في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا} عاطفةٌ كما مر، وفي قولهم: {فَسَيَاتِيهِمْ} سببيةٌ فصيحة، لأن مدخولها وعيدٌ للمستهزئ، والوعيد مسبوقٌ بحصول الاستهزاء، ولذلك قدر: "فقد خف عندهم قدره، وصار عرضةً للاستهزاء والسخرية".

وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة (مَا) الشيء الذي كانوا يستهزءون به؛ وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم. [(أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضىّ في معانيه وفوائده، وقال: حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه أي: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضي فيما يتعلق به ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى يشق الصفوف من كرمه)، أوله: ولا يخيم اللقاء فارسهم قبله: لا يسلمون الغداة جارهم ... حتى يزل الشراك عن قدمه أي: إلا إذا مات صاحبه. لا يخيم: لا يجبن، وانتصاب "اللقاء" على حذف "عن" وإيصال الفعل. وقوله: "حتى يشق الصفوف من كرمه"، يريد: إلى أن يشقها كرماً منه، وأنه لا يرضى بأدنى المنزلتين في اللقاء بنفسه، بل يأتي إلى النهاية في العلو، أي: من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه. وأما قول المصنف: "والكرم صفة ٌ لك ما يرضى ويحمد في بابه"، فبيانٌ للقدر المشترك فيما يطلق عليه اسم الكرم، والقدر المشترك من الاعتبار المجازي. قال في "الأساس": ومن المجاز: كرم السحاب تكريماً: جاد بمطره، وأرضٌ مكرمةٌ للنبات، إذا جاد نباتها، ولا يكرم الحب حتى يكثر العصف.

من المنافع (إِنَّ فِي) إنبات تلك الأصناف (لَآيَةً) على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجوّ إيمانهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من الكفرة (الرَّحِيمُ) لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين "َكم" و"كُلّ"؟ ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({إِنَّ فِي} إنبات تلك الأصناف: {لَآَيَةً} على أنها منبتها قادرٌ على إحياء الموتى) إشارةٌ إلى بيان النظم، وأن الذكر المحدث المطلق في قوله تعالى: {وَمَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} مقيدٌ بقيد إثبات الحشر والنشر، وأن المقدر بعد همزة الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الاستهزاء والتكذيب، وهو المعطوف عليه، أي: أكذبوا بالبعث، ولم يروا إلى الأرض؟ وعليه قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]. قوله: (ما معنى الجمع بين "كم" و"كل"؟ ولو قيل: كم أنبتنا فيها من زوج كريم)، أي: لو قيل لكان كافياً، وأجاب: أن مقام بيان كمال قدرة الله تعالى يقتضي إيراد ما يستوعب الأصناف كلها مع بيان تكاثرها، ولا يحصل ذلك إلا بالجمع بين كم وكل. ونقل صاحب "الانتصاف" الجواب، ثم قال: فيكون المراد بالتكثير: الأنواع، والظاهر أن المراد به آحاد الأزواج والأنواع، فلو أسقطت "كلًا" وقلت: انظر إلى الأرض كم أنبت الله تعالى فيها من الصنف الفلاني، لكنت مكثراً آحاد ذلك الصنف، فإذا أدخلت "كل" آذنت بتكثير آحاد كل صنفٍ لا آحاد صنفٍ معين. وقلت: هاهنا صورٌ ثلاث: إحداها: كم أنبتنا فيها من زوج كريم، فالكثرة في آحاد صنف، لا آحاد كل صنف. وثانيتها: أنبتنا فيها كل زوج، فليس فيها إلا استيعاب الأصناف المعلومة. وثالثتها: ما عليه التلاوة، فالكل: لإحاطة جميع الأصناف، وكم: لكثرة أفراد كل صنفٍ من تلك الأصناف،

قلت: قد دلّ "كُلِّ" على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و "كَمْ" على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين، أحدهما: أن النبات على نوعين: نافع وضارّ، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضارّ. والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضارّه، ويصفهما جميعا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو المراد من قوله: فإذا أدخلت "كل" آذنت بتكثير آحاد كل صنف. هذا شرح كلامه، لكن هذا التركيب لا يفيد إلا ما قال المصنف كما سنقرره. وقيل: على ما ذكره المصنف: "من": بيانٌ، والأولى أن يقال: إنها للابتداء، أو للتبعيض، أي: أنبتنا من كل صنفٍ أفراداً كثيرةً، ونباتاتٍ متعددةً، فيكون إشارةً إلى كثرة الأفراد من كل صنف، و"كل: إشارةٌ على الإحاطة بجميع الأصناف، و"كم": إشارةٌ إلى كثرة الأفراد من أي صنفٍ فرض من هذه الأصناف، ويجوز أن يكون هذا المعنى هو مراد المصنف، وظاهر كلامه يوهم خلافه. وقلت: معنى كلام المصنف: "أن هذا المحيط متكاثرٌ": أن هذا الذي أحاط بأزواج النبات متكاثرٌ، فالمحيط: الكل، والمحاط به: الأصناف والظاهر معه، لأن مدخول "كم" قوله: {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ}، فيلزم تكاثر هذا المجموع، فيدخل فيه آحاد كل صنف، بدليل الخطاب، لكون المقام مقام مبالغة، ولهذا تبعه الإمام، ونقل ألفاظ "الكشاف" بعينها من غير تغيير. وقال القاضي: "كلٌ": لإحاطة الأزواج، و"كم": لكثرتها، فظهر أن فائدة الجمع بين "كم" و"كل": التكميل، إذ لو اقتصر على أحدهما لم يعلم المعنى الآخر، ولهذا قال: "ونبه به على كمال قدرته". قوله: (والثاني: أن يعم جميع النبات نافعه وضاره)، فعلى هذا: الصفة مادحهٌ، وعلى الأول: فارقةٌ.

بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودلّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً)؟ وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر (أَنبَتْنَا)، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أىّ آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية. وقد سبقت لهذا الوجه نظائر. [(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)]. سجل عليهم بالظلم بأن قدّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بكفرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا لغرضٍ صحيح)، وعن بعضهم: الغرض من الغرضة، وهي العقدة، كما سميت الحاجة حاجةً وهي الشوكة، والله تعالى يتعالى عن ذلك، لأنهما ما لم يقضيا تكون عقدةً في قلب الطالب والمحتاج. قوله: وقد سبقت لهذا الوجه نظائر)، ونظيره في هذه السورة قوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أي: كل واحدٍ منا، ومنه قولهم: دخلنا على الأمير فكسانا حلةً، أي: كل واحدٍ منا. قوله: (وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين)، يعني: إنما سموا بالظالمين وصار كاللقب لهم، لما عهد منهم ظلمهم أنفسهم ولبني إسرائيل، فجئ بقوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} كشفاً لذلك المعنى، وتشديداً لذلك الاسم، كما أن الحق إنما يثبت على الغريم بتاً إذا كتب الصك وسجل عليه، وإليه الإشارة بقوله: "سجل عليهم بالظلم".

وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبني إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ: (ألا يتقون) بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: (أَلا يَتَّقُونَ)؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشرارتهم)، الأساس: طارت من النار شرارةٌ وشررة، وتقول: كان أبوك نار شرارةٍ، وأنت منها شرارةٌ. قوله: (هو كلامٌ مستأنف)، قال أبو البقاء: {أَلَا يَتَّقُونَ} يقرأ بالياء على الاستئناف، وبالتاء على الخطاب، والتقدير: يا قوم فرعون. قوله: (أتبعه الله عز وجل إرساله)، أي: أتبع الله تعالى بقوله: {أَلَا يَتَّقُونَ} قوله: {ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهو كلامٌ مشتملٌ على إرسال الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون المسجل بقوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}، فقوله: "تعجيباً": مفعولٌ له لأتبعه، وذلك أنه تعالى لما قال: {ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} توطئةً، ثم بينه بقوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} تسجيلاً، ويتم عليهم ذلك المعنى بقوله: {أَلَا يَتَّقُونَ}، فهو كالتتميم للمعنى. وأما معنى التعجيب فكأنه قيل: يا موسى إما انتهى تماديهم في الظلم، وإما بلغ زمان إنذارهم وأوان تخويفهم بأيامي وعقابي فيتقون، ما أعجب حالهم في الظلم! قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال في الغيبة: ائت قوم فرعون قائلاً قولي لهم: ألا يتقون، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، أي: فقل

من أيام الله. ويحتمل أن يكون "لا يَتَّقُونَ" حالا من الضمير في (الظَّالِمِينَ)، أي: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. وأمّا من قرأ: (ألا تتقون) على الخطاب؛ فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنف به، ويقول له: ألا تتق الله، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي (أَلا يَتَّقُونَ) بالياء وكسر النون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لهم قولي: إني قريبٌ، أو مبلغاً قولي، وكذا في قراءة كسر النون، وفي الخطاب قائلاً لهم: ألا تتقون، وفي الأوجه: ألا تتقون: منصوب المحل على أنه مفعولٌ، لأنه مقولٌ. قوله: (من أيام الله)، أيام الله تعالى: وقائعه ممن مضى من الأمم، كقولهم: أيام العرب لوقائعهم، واليوم يعبر به عن الشدة. قوله: (وجبههم)، الأساس: جبهته: ضربت جبهته، ومن المجاز: جبهته: لقيته بما يكره، ولقيت منه جبهةً، أي: مذلةً وأذى، وأنشد بعضهم: حييت عنها أيها الوجه ... ولغيرك الشحناء والجبه قوله: (أخصائه)، قيل: هو جمع "خصيص"، أي المخصوص. قوله: (وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيبٍ للمؤمنين)، الأول من عبارة النص، والثاني من إشارته.

وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا) [النمل: 25]. [(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)]. و(يَضِيقُ) و (يَنطَلِقُ) بالرفع لأنهما معطوفان على خبر "إنّ"، وبالنصب لعطفهما على صلة (أن). والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا يا ناس اتقون)، هذا من باب حذف المنادى، وحق الكناية هكذا: ألا يا اتقون، وألا يا اسجدوا، ولكن في الإمام كتبا متصلين، ونحوه قول الشاعر: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجر عائك القطر أي: ألا يا دار، فحذف المنادى. قوله: (وبالنصب)، قال القاضي: قرأ يعقوب: "يضيق"، "ولا ينطلق"، بالنصب. قوله: (أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل)، قال القاضي: رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالاً عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه، وينوب منابه، حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته.

خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت: اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أن تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوتة)، يعني بقوله عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، والحاصل أن المتوقع زيادة الحبسة على تقدير بقائها، أو معاودتها على تقدير زوالها إن زالت بالكلية ولو بقيت منها بقيةٌ. قوله: (اعتذارك هذا يرده الرفع)، يعني: قد أجبت أنا ما يخاف عليه يجب أن يكون متوقعاً، لا واقعاً، وأن المراد بالحبسة: الزائدة الطارئة، أو معاودة الزائل، هذا على تقدير النصب صحيحٌ، لأن "يضيق"، "ولا ينطلق": معطوفان على {يُكَذِّبُونِ}، وأما على قراءة الرفع فلا، لأنهما معطوفان على "أخاف"، فلم يكونا متوقعين، لأن الخوف غير مسلطٍ عليهما، فيلزم الوقوع كالخوف، وأن المعنى: إني خائفٌ ضيق الصدر، وإني غير منطلق اللسان، والواجب اتفاق القراءتين في أصل المعنى. وأجاب بما يجمع القراءتين في المعنى، وذلك أن قراءة الرفع مبنيةٌ على أن هذه القول كائنٌ قبل أن يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] وقراءة النصب على أنه بعده، فاختلاف الزمانين دافعٌ للتناقض الواقع بين القراءتين، وفيه بحثٌ، فالمختار هي القراءة بالرفع التي عليها الجمهور. قوله: (المصاقع)، الأساس: صقع الديك، وخطيبٌ مصقع، مجهرٌ في خطبته، وقيل: المصقع: الخطيب البليغ، كأنه يقصد كل صقع من الكلام، أي: كل ناحية.

أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله عز وجل: (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص: 34]. ومعنى: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ): أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ)، فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى: (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) [الفرقان: 36]؛ حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سلاطة الألسنة)، الأساس: امرأةٌ سليطةٌ: طويلة اللسان صخابةٌ، ورجلٌ سليطٌ، وقد سلط سلاطةً، وقيل: رجلٌ سليطٌ، أي: فصيحٌ حديد اللسان. قوله: (وقد بسطه في غير هذا الموضع) منه: في طه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32]. قوله: (بما يتضمن)، وهو الإرسال، لأن ما تثبت به النبوة هنا إرسال الملك. قوله: (وقد علم أن الله تعالى من ورائه)، قال في قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]: "هذا مثلٌ، لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت فائتٌ الشيء المحيط به"، والمعنى: كيف ساغ له التوقر والتعلل، وقد علم أن سلطان الله وقهره مانعٌ لذلك، وأنه تحت قهره لا يفوته أحدٌ؟ وقوله: "وقد علم أن الله تعالى": حالٌ مقررةٌ لجهة الإشكال. قوله: (قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه عز وجل أن يعضده بأخيه)، قال الإمام:

حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل. [(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)]. أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعني: ولهم علي تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمي جزاء السيئة سيئة. فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللا، وجعلتها تمهيدا للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس في التماس موسى عليه السلام ما يدل على أنه استعفى من الذهاب، بل مقصود فيه أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، واختلفوا فقال بعضهم: إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة، وأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين، والأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه يمكنهم منه، وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت. قوله: (حتى يتعاونا في تنفيذ أمره)، وأنشد في معناه: فقلت ادعي وأدع فإن أندى ... لصوتٍ أن ينادي داعياني قوله: (تبعه ذنب)، التبعة والتباعة: حقٌ يجب للمظلوم قبل الظالم، يقال: لي قبل فلانٍ تبعةٌ وتباعةٌ، أي: ظلامةٌ. النهاية: التبعة، ما يتبع المال من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي.

تعللا. والدليل عليه ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع. [(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ* فَاتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ* قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ* فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ*وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)]. جمع الله له الاستجابتين معا في قوله: (كَلَّا فَاذْهَبا)؛ لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فَاذْهَبا، أي: اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون. فإن قلت: علام عطف قوله: (فَاذْهَبا)؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه (كَلَّا)، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهارون. وقوله: (مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون (مُسْتَمِعُونَ) مستقرا، و (مَعَكُمْ) لغوا. فإن قلت: لم جعلت (مُسْتَمِعُونَ) قرينة (مَعَكُمْ) في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من مجاز الكلام)، أي: الاستعارة، بدليل قوله: كالناصر الظهير، حيث صرح بأداة التشبيه، وقد عرفت أن الاستعارة مجازٌ والعلاقة فيها: التشبيه. قوله: (ويجوز أن يكونا خبرين)، إلى آخره، وعلى الأول: كان {مَعَكُمْ} حالاً من ضمير {مُسْتَمِعُونَ}، أي: مستمعون مشبهين بالناصر والظهير، والمراد بقوله: "مستقراً" أنه خبر "إن"، و {مَعَكُمْ} متعلقٌ به قدم عليه. قوله: (لم جعلت {مُسْتَمِعُونَ} قرينة {مَعَكُمْ}؟ )، أي: مقارناً له في جعله مجازاً، أي: استعارة تمثيلية.

كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن: 1]، ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الاستماع جارٍ مجرى الإصغاء)، فيه نظرٌ، لأن السمع في الحقيقة: إدراكٌ بحاسة السمع، وهو أيضاً مما لا يجوز على الله تعالى حقيقةً. ولما استعمل هذا في مطلق الإدراك كذلك ذلك، وعليه كلام القاضي: الاستماع: الذي بمعنى الإصغاء عبارةٌ عن السمع الذي هو لمطلق إدراك الحروف والأصوات. نعم، لو لم يأت بالتعليل كان يحتمل كلامه أولاً أن السامع والسميع مما أذن فيهما الإطلاق على الله تعالى، وورد في أسمائه الحسنى فجريا لذلك مجرى الحقيقة في مطلق الإدراك، بخلاف المستمع الذي يعطيه معنى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}. قال الإمام في "لوامع البينات": لفظ السامع والسميع موضوعٌ في اللغة لهذا الانكشاف والتجلي، فلما وردا في حق الله تعالى اعتقدنا بثبوت جنس هذا الانكشاف، لا نوعٍ منه، لأن الانكشافات الحاصلة لله تعالى بالنسبة إلى انكشافات العبيد كنسبة ذاته المقدسةً إلى ذواتهم، ولما كان لا مشاركة بين الذاتين إلا في الاسم، فكذا القول في الانكشافين. والعمدة أن الحاصل عند عقول الخلق من معاني صفات الله تعالى خيالاتٌ ضعيفةٌ، ورسومٌ خفيةٌ، جلت صفاته عن مشابهة صفات المحدثات، وتقدست صمديته عن مناسبة الممكنات. قوله: (والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية)، يعني: كما أن النظر تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، كذلك الاستماع: استعمال حاسة السمع نحو المسموع التماساً لسماعه، كالإصغاء، والله أعلم.

أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم». فإن قلت: هلا ثني الرسول كما ثني في قوله: (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه: 47]؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه - إذا وصف به - بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال: ألكنى إليها وخير الرّسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (البرم)، ذكر صاحب "النهاية" الحديث، ثم قال: البرم: هو الكحل المذاب. قوله: (وزور)، النهاية: الزور: الزائر، والأصل مصدرٌ وضع موضع الاسم، كصوم ونومٍ بمعنى صائم ونائم، وقد يكون الزور جمع زائرٍ كراكبٍ وركب. وفي نسخةٍ بدل "البرم": الآنك. وفسر بالبرم والمتبرم، ويروى الحديث بالثلاث، وهذه الصيغة صيغة الجمع كالأبحر، وصيغة الفرد شاذٌ فيه كالأسد والسرب، عجمة الآنك. قوله: (ألكني) البيت، ألكني: أرسلني، والألوك: الرسالة، وقيل: تحمل رسالتي إليه وقيل: اجعلني رسولاً، والرسول فيه بمعنى الرسل لإضافة خبرٍ إليهم، ولقوله: أعلمهم. قوله: (لقد كذب الواشون) البيت، قبله لكثير:

ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا (أَنْ أَرْسِلْ) بمعنى: أي أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال: التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حلفت برب الراقصات إلى منى ... خلال الملا يمددن كل جديل بعده: فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي ... بنصح أتى الواشون أم بحبول الحبول: جمع حبل. الأساس: ومن المجاز: رقص البعير رقصاً ورقصاناً: خب، وأرقصوا في سيرهم وترقصوا: ارتفعوا وانخفضوا، خلال الملا: وسط الناس، والجديل: الحبل المفتول والزمام المجدول. "ما" في قوله: "ما فهمت": نافيةٌ، يقال: ما فهمت بكلمة، أي: ما تكلمت. في الاستشهاد بقوله: " ولا أرسلتهم برسول" نظرٌ، لأنه يحتمل أن يكون بمعنى المرسل. قوله: (ويروى: أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما)، إلى قوله: "فعرف موسى عليه السلام فقال له: {أَلَمْ نُرَبِّكَ}: "بيانٌ لوجه اتصال قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} بقوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، ولما يحتاج إليه من المقدرات ليتصل صدر هذه الآية بعجز تلك. والعجب أن قول المؤلف: "فأديا إليه الرسالة" بعد قوله: "فقال: ائذن له" من هذا الباب، لكون التقدير: فذهب البواب إليهما فأذن لهما بالدخول، فدخلا. لكن في كلام المصنف فاءً فصيحةً.

ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: (أَلَمْ نُرَبِّكَ)؟ حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه. وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبي لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبي عمرو: (من عمرك)، بسكون الميم. (سِنِينَ) قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة. وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك. وعن الشعبي: (فِعْلَتَك) بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة؛ وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدّد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه بقوله: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) يجوز أن يكون حالا، أي: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة. وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله عز وعلا عاصم من يريد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعظم ذلك وفظعه بقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ}، الانتصاف: وجه تفظيعه أنه أتى به مجملاً إيذاناً بأنه لفظاعته لا ينطق به، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]. قوله: (وقد افترى عليه أو جهل أمره)، يتعلق بقوله: "أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة"، أي: قال: فرعون ذلك القول، وقد افترى، المعنى: كنت مثلهم حينئذٍ، وفي دينهم، وداخلاً في زمرتهم، كأنه قال: وكنت منا، ومن ديننا. وقوله: "فإن الله عاصم"، تعليلٌ لنسبة اللعين إلى الافتراء وتجهيله. قوله: (بالتقية)، النهاية: التقية والتقاة بمعنى، وهو أن يتقي الرجل الناس، ويرى الصلح والاتفاق، والباطن بخلاف ذلك، وعليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، أي: يوافقهم ظاهراً، ويخالفهم

أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر. ويجوز أن يكون قوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين بفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: 127]، وقرئ: (وإلهتَك)، فأجابه موسى صلوات الله عليه بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو (مِنَ الضَّالِّينَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باطناً، ومنه قولهم: كن وسطاً وامش جانباً. قوله: (ومن بعض الصغائر)، وهو ما ينفر، كالكذب والتطفيف، وفيه خلافٌ سيجيء في النمل إن شاء الله تعالى. قوله: (ويجوز أن يكون قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حكماً عليه بأنه من الكافرين بالنعم)، فعلى هذا: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} اعتراضٌ أو تذييلٌ، يدل عليه قوله: "ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعاً منه"، كما سبق في قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]، وقوله: "أو بأنه من الكافرين" أيضاً على الاعتراض، فالكافرون في الآية يجوز أن يفسر بالكفران الذي هو في إزاء النعمة والمقابل للشكر، وأن يفسر بالذي هو مقابلٌ للإيمان، والحاصل أن قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إما: حالٌ، أو: تذييلٌ، والكفر على الوجهين ففيه الأوجه المذكورة في الكتاب". قوله: (فقد كانت لهم آلهةٌ يعبدونهم)، متفرعٌ على معنى الكفر بهذا التأويل، أي: يجوز استعمال لفظ الكفر من كل من تدين بدينٍ، ويعبد معبوداً، سواءٌ كان حقاً أو باطلاً فيمن يخالف نحلته، أي: أنت من الكافرين بمعبودنا، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256].

أي: الجاهلين. وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (من الجاهلين) مفسرة. والمعنى: من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) [يوسف: 89]؛ أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب. أو الناسين، من قوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة: 282]. وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع (الضَّالِّينَ) موضع (الْكَافِرِينَ)؛ ربئاً بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه، وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل؛ لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو الذاهبين عن الصواب)، عطفٌ على قوله: "أي: الجاهلين". قوله: (أو الناسين، من قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، يعني: جاء الضلال بمعنى النسيان كما في هذه الآية، لأن التذكير لا يكون إلا بعد النسيان لا الضلال الحقيقي. قوله: (ربئاً بمحل من رشح للنبوة)، ربأت بنفسي عن عمل كذا، وإني لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه ولا أرضاه لك، ومن المجاز: هو مرشحٌ للخلافة، وأصله ترشيح الظبية ولدها لتعوده المشي فترشح، وقد رشح: إذا مشى، وأمه مرشحٌ، وأرشحت، كما يقال: مشدن وأشدنت، ورشح فلانٌ لأمر كذا وترشح له: كل ذلك في "الأساس". وعن بعضهم: يقال: فلانٌ يرشح للوز ارة: أي يربى ويؤهل لها، من ترشيح الأم ولدها: تقليل اللبن، وهو أن تجعله في فيه إلى أن يقوى على المص. قوله: (من سنخه)، أي: من أصله. الجوهري: وأسناخ الأسنان: أصولها، صح "سنخٌ" بكسر السين عن تصحيح الصغاني، بكسر السين عن تصحيح الصغاني، وإنما قال: "سنخه"، لأن قوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا} متضمنٌ لإبطال امتنانه، كما سنقرره إن شاء الله تعالى.

إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال: علا م يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان فإن قلت: "إذن" جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت: قول فرعون: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فيه معنى: إنك جازيت نعمتي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا حققت)، أي: إذا حققت التربية والمنة التي امتن بها فرعون على موسى عليه السلام، كانت تعبيد بني إسرائيل نقمةً لا نعمةً، فهو من تعكيس الكلام، ويروى: "حققت" بفتح التاء، أي: إذا حققت النظر أيها المخاطب. قوله: (قول فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ}) إلى آخره، قيل: هذا الجواب لا يلائم قوله: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، لأنه يدل على أنه اعترف أنه فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً، لكن المعنى: لما قال: جازيت نعمتي بما فعلت، أجا به بأن تلك صادرةٌ من الجهل والنسيان لا من العلم والقصد، وكنت إذ ذاك جاهلاً، فخفت ففررت، فوهب الله تعالى النبوة، والآن أنا نبيٌ بخلاف ما كنت. وقلت: فإذن {إِذاً} جوابٌ وعذرٌ فأين الجزاء؟ وجواب المصنف موقوفٌ على معرفة أصولٍ خمسة: النحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والأصول. أما النحو فإن "إذن" موضوعٌ على أن يكون جواباً وجزاءً معاً، فيجب أن يكون مدخوله مما يصح أن يكون مسبباً عن معنى القول السابق، نحو قولك: إذن أكرمك لمن قال: أنا آتيك، فإن إكرامك مسببٌ عن إتيانه. فهاهنا الجواب ظاهرٌ، لكن الجزاء على أن يكون هذا الكلام مسبباً عن كلام فرعون خفيٌ، فلابد من بيانه. فالتقدير: إن كان الأمر كما زعمت أنك أنعمت علي، ولم تكن تلك النعمة إلا تعبيدك بني إسرائيل، فأنا جازيتك أيضاً بتلك المجازاة، وهي قتل القبطي، وإليه أشار بقوله: "لأن نعمته كانت عنده جديرةً بأن تجازى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بنحو ذلك الجزاء". ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} [المائدة: 106]، قال بعضهم: تقديره: إن كان الأمر على ما تصفون بأنا خنا، إنا إذن لمن الآثمين. وأما المعاني، فإن عطف قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} على الكلام السابق من باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] على رأي صاحب "المفتاح": كان اللعين أخبر عن حصول تربيته له عليه السلام، وعن حصول جزائه عليه السلام عن تلك التربية. وأما البيان فإن هذا الترتيب على أسلوب قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، يعني: وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر، وإليه الإشارة بقوله: "إنك جازيت نعمتي بما فعلت". وأما الأصول فإن الجواب مبني على قاعدة القول بالموجب، وهو تسليم مقتضى قول المستدل مع بقاء الخلاف، فإن الكليم عليه السلام قرر ما جعله اللعين جزاءً لفعله، حيث قال: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، فلما قرر ما جعله اللعين جزاءً لفعله أتى بقوله: {إِذًا}، هذا معنى جواب المصنف عن السؤال. ثم علق بالجواب ما قلعه من سنخه بقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وإليه الإشارة بقوله: "ثم كر على امتنانه عليه بالتربية فأبطله". وأما البديع فإن وضع قوله: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} موضع الكافرين كالتتميم صوناً عن إبهام تصور ما ينافي النبوة من الكفر، وإليه الإشارة بقوله: "ودفع الوصف بالكفر عن نفسه بأن وضع الضالين موضع الكافرين، ربئاً بمحل من رشح للنبوة"، وهذا لما شارك التتميم

بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. فإن قلت: لم جمع الضمير في (مِنكُمْ) و (خِفْتُكُمْ) مع إفراده في (تَمُنُّهَا) و (عَبَّدتَّ)؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله: (إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص: 20] وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد. فإن قلت: "تِلْكَ" إشارة إلى ماذا، و (أَنْ عَبَّدْتَ) ما محلها من الإعراب؟ قلت: (تِلْكَ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في إرادة الصيانة قلنا: هو كالتتميم، لأن التتميم هو: تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغةً، أو صيانةً عن احتمال المكروه. قال أبو الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجربٍ ... يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا وتحريره: أنه لما قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} وأتى بهمزة التقرير على سبيل التوبيخ، ورتب عليه قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} كما قررناه، أي: إني ربيتك، وأحسنت إليك لتفعل ما تقر به عيني، وتشكر إحساني إليك، لما تقرر في النفوس أن شكر المنعم واجب، فعكست القضية وقابلتها بالكفران؟ أجاب عليه السلام بقوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، يعني: سلمت أن شكر المنعم واجبٌ، وأني عكست المجازاة، لكن أين النعمة؟ فإن تلك التربية التي مننت بها علي كانت مسببةً عن تعبيد قومي، فهي جديرةٌ بأن تجازى بتلك المجازاة، وإليه الإشارة بقوله: "نعم، فعلتها مجازياً لك، تسليماً لقوله: لأن نعمته عنده كانت جديرةً بأن تجازى بذلك الجزاء"، والله تعالى أعلم. قوله: ({تِلْكَ} إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاء مبهمة)، يعني: تصور نبي الله عليه السلام قوله: {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أنها نقمةٌ، فتكون خصلةً شنعاء، فأشار إليها، وجعلها مبتدأ، وأخبر عنها، ثم بين عنها كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون هذا إشارةً إلى غير الأخ.

ومحل (أَنْ عَبَّدْتَ) الرفع؛ عطف بيان لـ (تِلْكَ)، ونظيره قوله تعالى: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر: 66]. والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي! وقال الزجاج: ويجوز أن يكون (أَنْ) في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة علىّ لأن عبدت بني إسرائيل، أي: لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. [(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)]. لما قال له بوّابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومحل {أَنْ عَبَّدْتَ} الرفع، عطف بيانٍ لـ {تِلْكَ})، فالتقدير: تعبيدك بني إسرائيل نعمةٌ تمنها علي، يعني: تمن علي بتربيتك إياي، وفي الحقيقة تعبيد بني إسرائيل أدى إلى تربيتي، وكان امتنانك علي بقولك: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} امتناناً علي بتعبيد بني إسرائيل، فأطلق السبب، وأريد المسبب إيجازاً، وإليه الإشارة بقوله: "لأن تعبيدهم، وقصدهم بذبح أبنائهم، هو السبب في حصوله عنده". قال محيي السنة: الكلام متضمن للإنكار، أي: كيف تمن علي بالتربية وقد عبدت قومي؟ ومن أهين قومه ذل، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إلي. قوله: (ويجوز أن يكون {أَنْ} في موضع نصب)، فالمشار إليه حينئذٍ معنى قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}، والإخبار على ظاهره، وإليه الإشارة بقوله: "لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي". قوله: (لما قال له بوابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين، قال له عند ذلك: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ )، قلت: هذا نظمٌ مختلٌ لسبق المقاولة بينهم، كما أشار إليه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "فأديا الرسالة، فعرف موسى عليه السلام، فقالا له ذلك"، أي: إنا رسول رب العالمين، فأرسل معنا بني إسرائيل. وقال الإمام: لم يقل لموسى عليه السلام: وما رب العالمين؟ إلا وقد دعاه إلى طاعة رب العالمين، يبين ذلك ما تقدم من قوله تعالى: {فَاتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تم كلامه. والنظم يساعد عليه، لأنه تعالى لما أمرهما بقوله: {فَاتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} لابد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين، وعند ذلك أنكر اللعين ذلك الكلام مفصلاً، رد أولاً صدر الكلام، وكونهما رسولين بقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} إلى آخره. وثانيا بقوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، ولذلك جيء بالواو العاطفة، وكرر {قَالَ} للطول، فكأنه قال: أأنت الرسول؟ وما رب العالمين؟ وتقرير الأول: ألم نعرفك؟ أما كنت عندنا رضيعاً صغيراً ونحن ربيناك سنين كالأولاد، وعرفناك أيضاً كافر النعمة، حيث جازيت تلك النعمة بقتل بعض خدمنا، فمن أين أنت والرسالة؟ فأنكر نبوته بتحقير شأنه وكفرانه النعمة، فإنه من رذائل الأخلاق، وأدمج فيه معنى الامتنان، وأجابه به موسى عليه السلام بقوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} الآية، مسلماً مقتضاه، ومثبتاً رسالته، ومبطلاً إنعامه، يعني: هب أني كنت كما تقول: صبياً رضيعاً عندكم، قاتلاً للنفس، وذلك كيف يقدح في دعوى رسالتي، لأن الله تعالى فاعلٌ مختارٌ يختص برسالته من يشاء من غير استحقاقٍ منه، فاختارني للرسالة، ووهب لي حكماً. فوزان هذه الآية وزان قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، يعني: إني كنت غير عالم بالشرائع، وطريقة السمع، فوهب لي معرفة الأحكام، وجعلني مرسلاً، ثم كر إلى جواب ما أدمج اللعين في الاعتراض من الامتنان قائلاً: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فأبلطه من أصلها تبرياً من تلك الرذيلة التي نسبها إليه من كفران النعم،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه أن كفران نعمة الكافر قبيحٌ، فكيف بنعمة المسلم، فضلاً عن نعم الله تعالى السابغة ظاهراً وباطناً؟ ثم كر اللعين إلى قول موسى عليه السلام: {رَبَّ الْعَالَمِينَ} بعد ما ألقمه نبي الله الحجر في إنكار الرسالة مستفهماً {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ يعني: هب أنك رسول رب العالمين، وأن لك رباً وهب لك حكماً، وجعلك من المرسلين، فما تعني بقولك: رب العالمين، وما قصدك فيه وفيه تخصيصه؟ أتعني به التعريض بإنكار إلهيتي أم غير ذلك؟ يدل عليه قوله تعالى بعد هذا: لا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. وقول المؤلف: "والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام: أن يكون سؤاله هذا إنكاراً لأن يكون للعالمين ربٌ سواه"، فأجابه عليه السلام بما فيه إنكار إلهيته، وأن يكون رباً للعالمين تعريضاً من قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، أي: أنت أحقر من ذلك وأذل، فإن رب العالمين رب السموات والأرض وما بينهما إن كنت أنت وهؤلاء البهائم الذين اتخذوك إلهاً وسموك برب العالمين من الذين يحققون الأشياء بالنظر الصحيح الذين يؤديهم إلى الإيقان، هل تدرون ما معنى العالم، فإن العالم الذي تدعون أنه ربه عبارةٌ عن: كل ما علم به الخلائق من السموات والأرض وما بينهما، فهل تيقنتم أنه خالقها، ورازق من فيها، ومدبر أمورها، أم تفوهون بذلك جزافاً رمياً على العمياء؟ وتكرير لفظ الرب وإعادته في كل مرةٍ لتعظيم ما نسبوا إليه، فعند ذلك احتد اللعين وقال لمن حوله: ألا ترون هذه الجرأة وتسمعون هذه العظيمة، وهي نسبة الجهل إلينا عاجزاً؟ فثنى نبي الله التقريع بقوله: {رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} مفصلاً لذلك المجمل، فإن الآيات المشاهدة تنقسم إلى دليلي الآفاق والأنفس، نبه به على غباوتهم، وأن الرب ينبغي أن يكون متقدماً على المربوب ومتأخراً عنه، فكيف تتخذونه رباً لكم؟ وآباؤكم الأولون قد تقدموا عليه، وأنه سيموت قبلكم أو قبل أبنائكم، فحينئذٍ زاد في تفر عنه، وشدة شكيمته، ونسبته إلى الجنون استكباراً وعناداً، وتهكم به بقوله: {رَسُولَكُمْ}، وتوكيده بوصفٍ يدل على مزيد تقرير التهكم برسالته سفاهةً. فعاد نبي الله عليه السلام إلى تقريع ثالثٍ بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، عرض به أن الرب ينبغي أن يكون قادراً على ما في يده وتحت تصرفه، وأنتم تعلمون أن مشارق

يريد: أي شيء رب العالمين؟ وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به: أى شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها؟ فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأرض ومغاربها ليست في تصرفه، ولا يملك منها على شيءٍ ولا أحاط منها علماً بشيء، وذيله بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} رداً لنسبته الجنون إليه على طريق المشاكلة المعنوية، أي: كيف تنسبون إلى الجنون وأنتم مسلوبو العقول فاقدون اللب، حيث لا تميزون بين هذه الشواهد، ولا تنظرون إلى هذه الآيات البينات. ولما عجز اللعين عن الحجاج عدل إلى التخويف بالسجن دأب المفحم المبهوت. ولما قهره نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الاحتجاج انتقل إلى نوع آخر من الدليل، وهو إظهار المعجزة قائلاً: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}، فعلى هذا هو متعلقٌ بأول المحاجة من لدن وقعت المكالمة مع اللعين، يعني: أو تقر بتوحيد الله تعالى وبرسالتي لو جئتك بما يدل على ذلك دلالةً ظاهرةً مكشوفةً عياناً من انقلاب العصا حيةً، ونزع اليد من الجيب مشرقةً؟ هذا أوضح من تقرير المصنف، وأوفق لتأليف النظم. ولعله يقرب من هذا المعنى قول صاحب "المفتاح": ويحتمل أن يكون فرعون قد سأل بـ "ما" عن الوصف، لكون رب العالمين عنده مشتركاً بين نفسه وبين من دعا إليه موسى عليه السلام، لجهله، وفرط عتوه، وتسويل نفسه الشيطانية له بتسليم أولئك البهائم له إياها، وادعائهم له بذلك، وتلقيبهم إياه برب العالمين، وشهرته فيما بينهم بذلك إلى درجة دعت السحر إذ عرفوا الحق، وقالوا: آمنا برب العالمين، إلى أن يعقبوه بقولهم: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [نفياً] لاتهامهم أن يعنوا فرعون، وكذا فسر المصنف هذه الآية. قوله: (أي شيءٍ هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها؟ ) قال صاحب "المفتاح": ولكون "ما" للسؤال عن الجنس، وللسؤال عن الوصف وقع بين فرعون وبين موسى عليه السلام ما وقع، لأن فرعون كان جاهلاً بالله تعالى معتقداً أن لا موجود مستقلاً

الخاصة، ليعرّفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]؛ وإما أن يريد به: أى شيء هو على الإطلاق، تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأنّ الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك. وأمّا التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام: أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه؛ لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه؛ حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتدّ واحتدم وقال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي) [الشعراء: 29]، وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بنفسه سوى أجناس الأجسام، كأنه قال: أي أجناس الأجسام هو؟ وحين كان موسى عليه السلام عالماً بالله عز وجل، أجاب عن الوصف تنبيهاً على النظر المؤدي إلى العلم، وهو المراد من قول المصنف: "فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس بشيءٍ مما شوهد وعرف من الأجرام"، أراد أن الجواب من الأسلوب الحكيم، أرشده بقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} إلى طريق المعرفة وتحصيل الإيقان، يعني: من تكون هذه الأجرام العظام مربوبة ومخلوقة، وهو مالكها ومدبر أمرها، لا يكون هو من جنسها. قوله: (وهو الكافي في معرفته)، أي: هذا القدر من المعرفة كافٍ للمسترشد دون المعاند المتعنت، كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. قوله: (واحتدم)، الجوهري: احتدمت النار: التهبت، واحتدم صدر فلانٍ غيظاً، وقيل: يومٌ محتدمٌ: شديد الحر، واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود.

[(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)]. قلت: كيف قيل: (وَمَا بَيْنَهُمَا) على التثنية، والمرجوع إليه مجموع؟ قلت: أريد وما بين الجنسين، فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال: في الهيجا جمالين فإن قلت: ما معنى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟ قلت: معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع. أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به، لظهوره وإنارة دليله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمرجوع إليه مجموع)، المراد به: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وفي عكسه قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات: 9]، حيث جمع بعد التثنية، لأنها في معنى الجمع والناس. قوله: (في الهيجا جمالين)، قبله: سعى عقالاً يترك لنا سبداً ... فكيف لو قد سعى عمروٌ عقالين لأصبح الناس أوباداً فلم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين عمرو: تنازع فيه العاملان. يقال: ما له سبدٌ ولا لبدٌ، أي: شيءٌ، وأصل السبد، الشعر. والعقال: صدقة عام، وانتصابه على الظرف، أوباداً: جمع وبدٍ، أي: هلكى، والوبد، سيء الحال، وحاصله أنه يجوز تثنية الجمع على تأويل الجماعتين. قوله: (أو: إن كنتم موقنين بشيء قط)، يريد أن قوله: {مُوقِنِينَ} مطلقٌ خص بقيد

[(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ* قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)]. فإن قلت: ومن كان حوله؟ قلت: أشراف قومه قيل: كانوا خمس مائة رجل عليهم الأساور وكانت الملوك خاصة. فإن قلت: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ قلت: قد عم أوّلا، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم. لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرينة المقام، وهو الكلام في الاستدلال والنظر في الإلهية، أو ترك على إطلاقه، بمعنى: إن وجد منكم شيءٌ من هذه الحقيقة، فهذا أولى، ويمكن أن يجرى على العموم ليدخل فيه ما سبق له الكلام دخولاً أولياً. قوله: (لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه)، هذا يشعر بأن الترقي في الاحتجاجات الثلاثة بحسب اعتبار قلة النظر وقرب المنظور فيه، فإن الدلائل المثبتة في السموات والأرض وما بينهما أبعد متناولاً من النظر من دليلٍ أنفسهم وآبائهم فقط، لأن الأول مشتملٌ عليه وعلى الآفاقية أيضاً، والثاني أبعد منظوراً من الثالث، لأن المنظور في الثاني الانتقال من هيئة إلى هيئة، ومن حالٍ إلى حالٍ من وقت ميلاده إلى وقت وفاته في نفس الناظر وأنفس آبائه، ولا كذلك النظر في طلوع الشمس وغروبها في فصول السنة، وإليه الإشارة بقوله: "ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عليه السلام". قوله: (الخافقين)، الخافقان: أفقا المشرق والمغرب، قال ابن السكيت: لأن الليل والنهار يخفقان فيهما بسرعة، من خفقان الطائر، إذا صفق بجناحيه، وخفوق الراية.

في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به؛ ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله، عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان، فبهت الذي كفر. وقرئ: (رَبُّ المَشَارِقِ والْمَغَارِبِ)، (الذي أَرسل إليكم) بفتح الهمزة. فإن قلت: كيف قال أوّلا: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وآخرا: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟ قلت: لاين أوّلا، فلما رأى منهم شدّة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض "إنّ رسولكم لمجنون"، بقوله: (إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ). [(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)]. فإن قلت: ألم يكن: لأسجننك، أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤديا مؤداه؟ قلت: أما أخصر فنعم. وأما مؤدّ مؤدّاه فلا، لأنّ معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشدّ من القتل وأشدّ. [(قالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَاتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "المفتاح": ومن التغليب: الخافقان، للمشرق والمغرب ويؤيده ما في "المغرب" عن الأزهري: خفق النجم: إذا غاب، ومنه: الخافقان، للمشرق والمغرب. قوله: (لاين أولاً)، إلى قوله: "خاشن وعارض". قال الإمام: أراد بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: إن كنت من العقلاء وعرفت أن لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت تعريف حقيقته، وقد أرشدتك أنه لا يمكن.

الواو في قوله: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ) واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه: أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ أي: جائيا بالمعجزة. وفي قوله: (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوّة، والحكيم لا يصدّق الكاذب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أتفعل بي ذلك، ولو جئتك بشيءٍ مبين؟ )، يريد أن عامل الحال وصاحبها: ما دل عليه قوله تعالى: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، فجعل وعيده تخلصاً للانتقال إلى نوع آخر من الدليل. قال القاضي: المعجزة جامعةٌ بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، والدلالة على صدق مدعي نبوته. قلت: ويمكن أن يقال: إن الواو في {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} عاطفةٌ، وهي تستدعي معطوفاً عليه، وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه. والهمزة مقحمةٌ بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير. المعنى: أو تقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة؟ كما سبق تقريره، و"لو" بمعنى "أن" غير عزيز. ويؤيد هذا التأويل ما في الأعراف: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَاتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 105 - 106]. قال المصنف: "إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتني بها، وأحضرها عندي، ليصح دعواك ويثبت صدقك". قوله: (وفي قوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق)، يعني: في سياق هذا التركيب أدمج معنى أن المعجزة تصديقٌ من الله تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب.

ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة؛ حيث جوّزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات! وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به، فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه. [(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)]. (ثُعْبانٌ مُبِينٌ): ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزوّرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه [هذا]، وقد خفي على ناسٍ من أهلٍ القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله عز وجل حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات)، قال صاحب "الانتصاف": هذا تعريضٌ بتفضيل فرعون على أهل السنة، وحكمٌ على القدرية أن فيهم نصيباً من الفراعنة، إذ كل أحدٍ يزعم أنه خالقٌ ومبدعٌ لأفعاله، وجحودٌ على الله تعالى أن يفعل إلا ما واطأ عقولهم، وأنه حسنٌ في الشاهد. وقلت: المصنف بنى كلامه على الحسن والقبح العقليين، ثم شنع على أهل السنة، ولا يلزم من قولهم: يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه لا يوجد شيءٌ في الكائنات إلا بإرادته ومشيئته: تصديق الكاذبين بالمعجزات، لأنه ظهر وعلم بالاستقراء أنه تعالى ما حكم ولا أرد تصديق الكاذبين بالمعجزات، ولهذا قطع الأصحاب بأن سنة الله جرت على أن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب. هذا، وإن تفسيره لقوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} يخالف جعله {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} حالاً وتقريراً للعطف الذي ذهبنا إليه، لأن الكلام على الحال في السجن، لا في إثبات النبوة، وتصديقه بالمعجزة، والله تعالى أعلم. قوله: (لا شيءٌ يشبه الثعبان)، توكيدٌ لقوله: "ظاهر الثعبانية"، لأن الله تعالى حمل "ثعبانٌ" على ضمير العصا، فيتوهم أنه مثل: زيدٌ هو أسدٌ، فأزال التوهم بقوله: "لا شيءٌ يشبه الثعبان"، يدل عليه قوله: {مُبِينٍ}.

بالشعوذة والسحر. وروي: أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت. ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا (لِلنَّاظِرِينَ) دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه، لخروجه عن العادة، وكان بياضا نوريا. روي: أنّ فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال له: ما هذه؟ قال: يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسدّ الأفق. [(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَامُرُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالشعوذة)، الأساس: فلانٌ شعوذيٌ، ومشعوذٌ، ومشعبذٌ، وعملها الشعوذة، والشعبذة، وهي: خفةٌ في اليد، وأخذٌ كالسحر، وقيل للبريد: الشعوذي، لخفته قوله: (إلا أخذتها)، أي: ما أطلب منك إلا أخذها، كقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: بالإيواء والنصر إلا جلستم، وقد دخل مجلساً غاصاً من الأنصار، قال صاحب "المقتبس": والقسم يسلك فيه الطرائق، لكثرة وقوعه في كلامهم، والفعل والمصدر لما كانا في اتصالٍ من جهة التوالد والتناشؤ، جاز أن يقع كلٌ منهما موقع صاحبه، يدل على ما يدل عليه الآخر. وفي "ربيع الأبرار": أمر الحجاج بقتل رجل، فقال: أسألك بالذي أنت غداً بين يديه أذل موقفاً مني بين يديك اليوم إلا عفوت عني، فعفا عنه. قوله: (يدك، فيما فيها؟ )، وهو من جملة المقول، أي: هو يدك، فأي شيء؟ أي: ليس فيها معجزةٌ ولا عجب، وقال بعضهم: معنى ما هذه: أي شيءٍ فيها من الآية؟

فإن قلت: ما العامل في (حَوْلَهُ)؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل، فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلي- وهو النصب على الحال: (قَالَ): ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدري أي طرفيه أطول، حتى زلّ عنه ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا، وبلغت به الاستكانة لقومه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نصبٌ في اللفظ، ونصبٌ في المحل)، قال صاحب "المطلع": العامل في النصب اللفظي: ما يقدر في الظرف من معنى الفعل، تقديره: للملأ مستقرين، أو مجتمعين حوله، والعامل في المحلي، وهو النصب على الحال، قال: تقديره: قال لهم وهم حوله. قوله: ({قَالَ})، خبرُ لقوله: "والعا مل" والجملة، وهو النصب على الحال: معترضةٌ، أي: قال في قوله: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} عاملٌ في {حَوْلَهُ} وهو حال. قوله: (لا يدري أي طرفيه أطول)، مثلٌ في التحير. عن بعضهم يقال: بقي فلانٌ حيران لا يدري أي طرفيه أطول، لطولٍ يتراءى له الشبح شبحين، قال الميداني: قال الأصعمي: معناه: لا يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه. وقال غيره: يقال: إن وسط الإنسان: سرته، والطرف الأسفل أطول من الأعلى، وهذا يكاد يجهله أكثر الناس حتى يقدر له. وقال ابن الأعرابي" طرفاه: ذكره ولسانه، يضرب في نفي العلم. قوله: (فرائصه)، الفريضة: اللحم بين الجنب والكتف الذي لا يزال يرعد من الدابة. قوله: (وانتفخ سحره)، بالخاء المعجمة، وفي نسخةٍ صحيحة: بالجيم، من قولهم: "هنيئاً لك النافجة" أي: المعظمة لمالك. والسحر: الرئة. الأساس: وانتفخ سحره، وانتفخت مساحره، إذا مل وجبن. وانقطع منه سحري: إذا يئست، يقال: وأنا منه غير صريم سحر: غير قانط.

الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحسّ به من جهة موسى وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله: (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قول باهت إذا غلب ومتمحل إذا ألزم. (تَامُرُونَ) من المؤامرة وهي المشاورة. أو من الأمر الذي هو ضدّ النهي. جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة. و"ماذا" منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قوله: أمرتك الخير [(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)]. قرئ: (أَرجِئْه) و (أَرْجِهْ)، بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من جهة موسى عليه السلام)، "من": بيان "ما" في "بما حذر منه". قوله: (و"ماذا" منصوبٌ، إما لكونه في معنى المصدر)، أي: أي أمرٍ تأمرون؟ قال في قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]: " {مَاذَا}: منتصبٌ بـ {أُجِبْتُمْ} انتصاب مصدره، على معنى: أي إجابةٍ أجبتم؟ قوله: (قرئ: "أرجئه")، ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون: بالتخفيف قال صاحب "الكشف": "قالوا أرجئه وأخاه"، و"أرجه" و {أَرْجِهْ} باختلاس الكسرة، كل ذلك في السبعة، والأصل: "أرجئهو" بالضم والإشباع، ثم يليه "أرجئه" بضم الهاء من دون الإشباع اكتفاءً بالضمة عن الواو، ثم "أرجئه" بكسر الهاء، لمجاورة الجيم، ولا

إذا أخرته. ومنه: المرجئة، وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجؤون لأمر الله. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسه (حاشِرِينَ) شرطا يحشرون السحرة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتداد بالحاجز، أعني: الهمزة الساكنة. فأما من قال: {أَرْجِهْ} فهي من: أرجيته، دون أرجأته، بلا همز، والهمزة أفصح، فلما حذف الياء للأمر أشبع الهاء، وكسرها لمجاورة الجيم، وأضعف الوجوه "أرجه" بإسكان الهاء، لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف، لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف. قوله: (وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق، ويقولون: هم مرجؤون لأمر الله)، الانتصاف: حرف في تفسير المرجئة، فأهل السنة هم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق، ويرجعون أمرهم إلى المشيئة، فإن كان المرجئة هؤلاء فاشهدوا أنا مرجئةٌ. النهاية: المرجئة: فرقةٌ من فرق الإسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصيةٌ، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئةً، لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي: أخره عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز، وكلاهما بمعنى التأخير. قوله: (شرطاً يحشرون)، يريد أن {حَاشِرِينَ} صفة موصوفٍ هو مفعولٌ به. النهاية: الأشراط: العلامات، واحدتها: شرطٌ بالتحريك، وبه سميت شرط السلطان، لأهم جعلوا لأنفسهم علاماتٍ يعرفون بها، هكذا قال أبو عبيد. وحكى الخطابي عن بعض أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير، وقال: أشراط الساعة: ما ينكره الناس من صغار أمورها قبل أن تقوم الساعة. وشرط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده.

وعارضوا قوله: (إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ) [الشعراء: 34]، بقولهم: (بِكُلِّ سَحَّارٍ)، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصفة المبالغة، ليطامنوا من نفسه ويسكنوا بعض قلقه. وقرأ الأعمش: (بكل ساحر). [(فَجُمِع َ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ)]. اليوم المعلوم: يوم الزينة. وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى صلوات الله عليه من يوم الزينة في قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه: 59]. والميقات: ما وقت به، أي: حدد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام. (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرّك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف. ومنه قول تأبط شرا: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق؟ يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي: في دينهم إن غلبوا موسى، ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة، وإنما الغرض الكلي: أن لا يتبعوا موسى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعارضوا قوله)، لم يرد بالمعارضة الاعتراض، بل: المقابلة، فإن فرعون لما قال: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} قابلوه بقولهم: {يَاتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}. قوله: (هل أنت باعث ينارٍ؟ )، البيت. هل أنتً: حثٌ وتحريضٌ على الاستحثاث. دينار: اسم رجل، وكذا عبد رب، و"عبد رب": منصوبٌ معطوفٌ على محل "دينار"، وأخا عونٍ: منادى لا نعتٌ، ويجوز أن يكون عطف بيانٍ لـ "عبد رب".

فساقوا الكلام مساق الكناية؛ لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. [(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)]. وقرئ: (نعم) بالكسر، وهما لغتان. ولما كان قوله: (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله: (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) معطوفا عليه ومدخلا في حكمه، دخلت (إذا) قارّة في مكانها الذي تقتضيه من الجواب والجزاء، وعدهم أن يجمع لهم إلى الثواب على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى: القربة عنده والزلفى. [(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فساقوا الكلام مساق الكناية)، يعني: لم يرد بقوله: {نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ}: إتباعهم حقيقةً، فكيف وإنه مدع للإلهية؟ وإرادته دفع موسى عليه السلام فقط. قوله: ("نعم" بالكسر)، الكسائي. قوله: (ولما كان قوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} في معنى جزاء الشرط)، يعني: قد تقرر أن الجزاء لا يتقدم على الشرط، لأنه مسببٌ عنه، فإذا تقدم ما في معنى الجزاء عليه ينبغي أن يقدر مثله بعده، فحكم {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} كذلك، وقد عطف عليه قوله: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، والمعطوف له حكم المعطوف عليه، فصح حينئذٍ دخول "إذا" فيه، فكأنهم لما قالوا: إن كنا نحن الغالبين، فهل لنا من أجرٍ؟ أجيبوا بقوله: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، أي: إن غلبتم فلكم الأجر والقربة. وهو قريبٌ من التأويل الذي سبق في قوله تعالى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}.

أقسموا بعزة فرعون وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله معلقا ببعض أسمائه أو صفاته، كقولك: بالله، والرحمن، وربي، ورب العرش، وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمّهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون". ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أنّ الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معلقاً ببعض أسمائه)، حالٌ من الحلف، و"ببعض أسمائه أو صفاته": لفٌ، وقوله: "بالله والرحمن" هما اسمان لله تعالى خاصان به، وقوله: "رب العرش وربي" هما اسمان لله تعالى غالبان، وهذه الأربع: نشرٌ لقوله: "أسمائه" وقوله: "وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله" هذه الأربع: نشرٌ لقوله: "أو صفاته"، والمراد بالاسم هاهنا: ما يصح حمله على الله تعالى، وبالصفة: خلافه، فيقال: الله الرحمن والرب، لا يقال: الله العزة والقدرة. مضى تم تقريره في سوره الحجر عند قوله تعالي: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] على القسم. قوله: (الجاهلية الأولى)، عن بعضهم: الجاهلية الأولى: هي زمان ولد قابيل، بعث إليهم نوح عليه السلام، والأخرى بعث إليهم محمد صلوات الله عليه. قوله: (لا تحلفوا بآبائكم)، الحديث من رواية أبي داود والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالأنداد، لا تحلفوا بالله عز وجل إلا وأنتم صادقون". وروى النسائي، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالطواغيت".

وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتدّ بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف. [(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)]. (ما يَافِكُونَ): ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم، ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم: سمى تلك الأشياء إفكا مبالغة. روي: أنهم قالوا: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به، علموا أنه من الله فآمنوا. وعن عكرمة: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء، لأنه ذكر مع الإلقاآت، فسلك به طريق المشاكلة. وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا. فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عزّ وجل بما خوّلهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة، ولك أن لا تقدّر فاعلا، لأنّ (أَلْقُوا) بمعنى خرّوا وسقطوا. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون لعنة الله عليه كان يدعي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: إفكهم)، وعلى هذا: "ما" مصدريةٌ، وسمى مأفوكهم بالإفك مبالغةً، لأن المعنى لا يتناوله. الجوهري: لقفت الشيء- بالكسر- ألقفه لقفاً، وتلقفته أيضاً، أي: تناولته بسرعة. قوله: (ولك أن لا تقدر فاعلاً)، قال صاحب "الفرائد": هذا منظورٌ فيه، لأن المعدى إلى مفعولٍ لابد له من الفاعل، وإذا أسند إلى المفعول صار الفاعل متروكاً، وما ذكر، من لوازم معناه، لا معناه. قلت: أراد بقوله: "أن لا تقدر فاعلاً": أن لا يخصص، على نحو: قتل الخارجي، فإن

الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي يدعو إليه هذان، والذي أجرى على أيديهما ما أجرى. [(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)]. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي: وبال ما فعلتم. [(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)]. الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المقصود حصول قلته، وكونه مقتولاً، لا أن القاتل من هو؟ كذا القصد هنا، كونهم ملقين ساقطين، لا أن الملقي من هو؟ قوله: (أنه الذي يدعو إليه)، خبر مبتدأٍ محذوف"، الجملة: خبر "معنى إضافته"، والضمير في "أنه" راجعٌ إلى الرب المحذوف، وفاعل يدعو: "هذان"، يريد أن قوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} عطف بيانٍ لـ "رب العالمين"، وهو كتابةٌ عمن عرفت إلهيته بواسطتهما. قوله: (لا ضرر علينا في ذلك)، اعلم أنهم أجابوا الملعون بقولهم: {لَا ضَيْرَ}، وعللوه بقوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}، والمصنف فسره بوجوه، أحدها: اعتبر في {لَا ضَيْرَ} جميع ما تهدد به المعلون من القطع والصلب، حيث أتى باسم الإشارة في قوله: "لا ضرر علينا في ذلك"، ثم أتى في العلة بمتعدد: "من تكفير الخطايا والثواب العظيم والأعواض. والثواب: هو الجزاء على أعمال الخير، والأعواض على ما ذهب إليه المعتزلة هي: السلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي مقابلةٌ للبلايا والمحن والرزايا والفتن. وثانيهما: قوله: "ولا ضير علينا فيما توعدنا به من القتل"، اعتبر وعيده بجملته، وعبر

النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة. أو: لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان. وخبر (لَا) محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا (أَنْ كُنَّا) معناه: لأن كنا، وكانوا أوّل جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ: (إن كنا) بالكسر، وهو من الشرط الذي يجيء به المدلّ بأمره، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أوّل المؤمنين. ونظيره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه بالقتل، وعلله بقوله: إنه لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا"، والانقلاب حينئذٍ عبارةٌ عن الرجوع إلى الله عز وجل، ولابد لكل أحدٍ منه، وأسباب الرجوع إليه تعالى كثيرة، ولهذا قال: "والقتل أهون أسبابه". وثالثها: "أو لا ضير عليها في القتل، فاعتبر في هذا الوجه نفس القتل من غير اعتبار تفصيله، ولا الوعيد به، وهو بمنزلة الموت حينئذٍ، وعلل بقوله: "إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته"، فأدخل {إِنَّا نَطْمَعُ} في التعليل، وجعله بدلاً منه، وفيه إظهار الرغبة في القتل، يعني: إنه مطلوبنا، لما يحصل منه الفوز بهذه البغية السنية. وذكر وجهاً رابعاً في الأعراف، وهو: "أنا جميعاً، يعنون أنفسهم وفرعون، ننقلب إلى الله تعالى، فيحكم بيننا"، أي: ينتقم لنا منك بما فعلت بنا، ويثيبنا على ما قاسينا منك، لأنا نطمع أن يغفر لنا وأنت لا تطمع، والله تعالى أعلم. قوله: (المدل بأمره)، الأساس: تدللت المرأة على زوجها، وذلك أن تريه جرأةً عليه في تغنج وتشكل، كأنها تخالفه وليس بها خلافٌ، وأدل على قريبه، وعلى من له عنده منزلةٌ، وهو مدلٌ بفضله وبشجاعته، ومنه أسدٌ مدلٌ، وأما تنظير الآية بالمثال فلتتميم معنى

قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي. ومنه قوله عز وجل: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) [الممتحنة: 1] مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. [(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ* فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)]. قرئ: (أَسْرِ) بقطع الهمزة ووصلها. و (سِرْ). (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ): علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم. وروي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانكسار، وهضم الحق الذي يعطيه قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ} كقوله عليه الصلاة والسلام: {أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. قوله: (قرئ: {أَسْرِ} بقطع الهمزة، نافعٌ وابن كثيرٍ، بالوصل، والباقون: بالقطع. قوله: ("سر")، أي: وقرئ: "سر"، من السير. قوله: (علل الأمر بالإسراء بإتباع فرعون)، كأنه قيل: أسر بعبادي، لأن فيه نجاتكم وهلاك القوم، وليس بإتباعهم عرضاً للأمر بالإسراء ظاهراً، لأن الغرض في الأمر بالإسراء إهلاك القوم بإتباعهم، ونجاة موسى عليه السلام وقومه، لكن الإهلاك لما كان مسبباً عن الإتباع وضع موضعه، نحوه: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وإليه الإشارة بقوله: "إني بنيت تدبير أمركم وأمركم وأمرهم" إلى آخره، لأن إعداد الخشبة لإدعام الحائط إذا مال تدبيرٌ.

واشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي: أنّ الله أوحى إلى موسى: أن اجمع بنى إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزا فطيرا؛ فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدّمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى وكانوا ست مائة ألف وسبعين ألفا، وسماهم شرذمة قليلين. (إِنَّ هؤُلاءِ) محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم: ثوب شراذم، للذي يلي وتقطع قطعا، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الجداء)، الجداء: جمع جدي، والأجداء أيضاً. قوله: (فيأتيك أمري)، عن بعضهم: أمري، أي: شأني، أو عقوبتي، من قوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 82]، ومن قوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]. وقلت: ويمكن أ، يكون واحد الأوامر، وهو قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}. قوله: (ثوبٌ شراذم)، وصف الواحد بشراذم كوصف الإزار بالسراويل في أحد القولين، ونظيره: الحضاجر للمنتفخ البطن. قوله: (فجعل كل حزبٍ منهم قليلاً)، يريد أن الأصل أن يقال: "لشر ذمةٌ قليلة"، فعدل إلى: {قَلِيلُونَ}، ليؤذن بتفرقهم أحزاباً. الانتصاف: يعني: قللهم، من أربعة أوجهٍ: عبر عنه بـ "شرذمة"، ووصفهم بالقلة، وجمع وصفهم، ليعلم أن كل حزبٍ منهم قليل، واختار جمع السلامة المفيد للقلة، وفيه وجهٌ خامسٌ: جمع الصفة والموصوف مفردٌ، وهو

واختار جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل. ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قد يكون مبالغةً للصوق الصفة بالموصوف وتناهيه فيها، كقولك: "معًي جياعاً"، وههنا الأصل: "لشرذمةٌ قليلة"، كقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} [البقرة: 249]، لتناهيهم في القلة، ويبقى نظرٌ، فإن هذا المعنى هل ينفي الوجوه الأربعة، أو يذهب منها شيئاً؟ فتأمله. قال صاحب "الإنصاف": ينبغي أن لا يسقط منها شيئاً، إذ هو مبالغةٌ في أحدها، وهو وصفهم بالقلة. قلت: بل هو عين ما قال المصنف: "ثم جمع القليل فجعل كل حزبٍ منهم قليلاً"، واستشهد بقوله: "ثوبٌ شراذم"، كما أن القائل جعل كل جزءٍ من أجزاء المعي خالياً من الغذاء، صفراً من الطعام، مبالغةً في الجوع. قال صاحب "الكشف": جمع "قليلاً" بالواو والنون، لموافقة رؤوس الآي، وإن أفردها جاز، لأن لفظ "الشرذمة" مفردٌ. قوله: (والقماءة)، الأساس: وقد قمؤ قماءةً وقميء قمأً، إذا ذل وصغر في الأعين.

وقرئ: (حَذِرُون) و (حَاذِرُونَ) و (حادِرُون) بالدال غير المعجمة. فالحَذِر: اليقظ، والحاذر: الذي يجدّد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه. والحادر: السمين القوي. قال: أحبّ الصّبي السوء من أجل أمّه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "حذرون" و {حَاذِرُونَ}، الكوفيون وابن ذكوان: "حاذرون" بالألف، والباقون: بغير ألف. قوله: (و"حادرون" بالدال) المهملة، قال ابن جني: قرأها ابن أبي عمار: الحادر: القوي الشديد، ومنه: الحادرة الشاعر، وحدر الشاعر، إذا قوي جسمه وامتلأ لحماً وشحماً. قوله: (فالحذر)، اليقظ، الحاذر: الذي يجدد حذره". هذا التفاوت معلومٌ بين الصفة المشبهة، وبين اسم الفاعل. قال الزجاج: وجاء في التفسير أن معنى "حاذرون": مؤدون، أي: ذووا أداةٍ وسلاح. والسلاح: أداة الحرب، فالحاذر: المستعد، والحذر: المتيقظ. الجوهري: آدى الرجل، أي: قوي، من الأداة، فهو مؤدٍ بالهمز، أي: شاكٍ في السلاح، ورجلٌ مدجج، أي شاكٍ في السلاح. قوله: (وقيل: مدججون في السلاح)، عطفٌ على قوله: "أنهم أقوياء أشداء"، أي:

[(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)]. وعن مجاهد: سماها كنوزا؛ لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد: المنازل الحسنة والمجالس البهية. وعن الضحاك: المنابر. وقيل السرر في الحجال. (كَذلِكَ) يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لـ "مقام"، أي: لمقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي: الأمر كذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: حاذرون، وأراد أنهم شاكون في السلاح، بالكناية، لأن الرجل الشديد القوي لا يخلو في مثل هذه المواطن من السلاح، لأن ادعاء القوة والشدة لازمة التدجج في السلاح. وإليه الإشارة بقوله: "قد كسبهم ذلك حدارةً في أجسامهم". قوله: (سماها كنوزاً، لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله عز وجل)، مأخوذٌ مما رواه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كل ما أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته الذي ذكر الله تعالى وإن كان على وجه الأرض. قوله: (وقيل: السرور في الحجال)، الجوهري: الحجلة- بالتحريك-: واحدة حجال العروس، وهو بيتٌ يزين بالثياب والأسرة والستور؟ قوله: (أي: الأمر كذلك)، هذا الوجه أقوى الوجوه، ليكون قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا} عطفاً عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} وبين {فَأَتْبَعُوهُمْ}، لأن الإتباع عقب الإخراج، لا الإيراث. قال الواحدي: إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال

(فَأَتْبَعُوهُمْ): فلحقوهم. وقرئ: (فاتَّبَعوهم)، (مُشْرِقِينَ): داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت. [(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)]. (سَيَهْدِينِي) طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ: (إنا لُمدّرِكون) بتشديد الدال وكسر الراء، من ادّرك الشيء إذا تتابع ففني، ومنه قوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النمل: 66]، قال الحسن: جهلوا علم الاخرة. وفي معناه بيت "الحماسة": أبعد بني أمّي الّذين تتابعوا ... أرجّى الحياة أم من الموت أجزع! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعقار والمساكن، وعلى أن يكون {كَذَلِكَ}: صفة مصدرٍ محذوفٍ لـ "أخرجنا" مع ما قيد توكيداً، ويكون {وَأَوْرَثَنَا}: عطفاً على {وَأَخْرَجْنَا}، لابد من تقديرٍ نحو: فأردنا إخراجهم، وإيراث بني إسرائيل ديارهم، فخرجوا وأتبعوهم. قوله: ({فَأَتْبَعُوهُمْ}: فلحقوهم)، ليس تفسيراً لقوله: {فَأَتْبَعُوهُمْ}، بل هو مقدرٌ، والفاء في {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} فصيحةٌ تستدعي هذا المقدر ليتصل بقوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ}. قال الواحدي: فلما تراءى الجمعان، أي: تقابلا، بحيث يرى كل فريقٍ صاحبه. قوله: (أبعد بني أمي)، البيت. الاستفهام للتوجع والاستبعاد والإنكار على نفسه

والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد. الفرق: الجزء المتفرّق منه. وقرئ: (كل فِلْق)، والمعنى واحد. والطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء. (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ) حيث انفلق البحر (الْآخَرِينَ): قوم فرعون، أي: قربناهم من بني إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالترجية، أي: لا يحسن الطمع في الحياة بعد إخواني الذين انقرضوا واندرج واحدٌ إثر واحد، ولا أجزع من الموت عقيب التفجع بهم. قوله: (الفرق: الجزء المتفرق منه)، التعريف في "الفرق": للعهد في قوله: {كُلُّ فِرْقٍ}، والضمير في منه عائدٌ إلى البحر. الراغب: الفرق يقارب الفلق، لكن الفلق يقال اعتباراً بالانشقاق، والفرق اعتباراً بالانفصال، والفرق: القطعة المنفصلة، ومنه الفرقة: للجماعة المنفردة من الناس، والفريق: الجماعة المنفردة عن الآخرين. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران: 78]، {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. قوله: (المنطاد)، الأساس: ما هو إلا طودٌ من الأطواد، وهو الجبل المنطاد في السماء الذاهب صعداً. قوله: (أو قدمناهم إلى البحر)، عطفٌ على قوله: "قربناهم من بني إسرائيل"، فـ "أزلفنا"- على هذا- كنايةٌ عن "قدمنا". قال الواحدي: قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم.

وقرئ: (وأزلَقْنا) بالقاف، أي: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله: تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها ... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. [(وأَنجَيْنَا مُوسَى ومَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ)]. عن عطاء بن السائب: أن جبريل كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدري موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقا: لكل سبط طريق. وروي: أنّ يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا. فخاض يوشع الماء، وضرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("وأزلقنا"، بالقاف)، قال ابن جني: هي قراءة عبد الله بن الحارث. قوله: (تداركتما عبساً)، البيت. عبسٌ وذبيان: قبيلتان. ثل عرشها: أي زوال ملكها، فإن العرش كنايةٌ عن الملك، وفي المثل: زلت نعله: يضرب لمن نكب وزالت نعمته

موسى بعصاه البحر فدخلوا. وروى: أنّ موسى قال عند ذلك: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: إِسَاف. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم. [(إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ومَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله. وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى، المخصوصون بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه. [(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ* قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ)]. كان إبراهيم صلوات الله عليه يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أنّ ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناما، كقوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219]، (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23]، (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل: 30]. قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: تداركتما حال القبيلتين بعد انهدامهما وتضعضعهما. قوله: ({وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} المنتقم من أعدائه، {الرَّحِيمُ} بأوليائه)، وقد سبق أن هذا التذييل تسل لحبيبه - صلى الله عليه وسلم -.

من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم: (نَعْبُدُ) (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) ولم يقتصروا على زيادة (نَعْبُدُ) وحده؟ ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول: ألبس البرد الأتحمى، فأجرّ ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. [(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)]. لا بد في (يَسْمَعُونَكُمْ) من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (البرد الأتحمي)، وأنشد الجوهري: وعليه أتحمي ... نسجه من نسج هوزم غزلته أم خلمي ... كل يوم وزن درهم وأنشد المصنف في "الأساس": زانه من الثناء الأهتمي، بأبهى من البرد الأتحمي. قوله: (كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل)، أي: هذا أيضاً تتميمٌ لمعنى الابتهاج والافتخار، أي: يعبدها جهراً لا سرًا، ولا يلبث في عبادتها لبثاً قليلاً بل طويلاً، ثم لا يكون ذلك البث إلا خضوعاً وخشوعاً، لأن الاعتكاف عبادةٌ معروفة. قوله: (لابد في {يَسْمَعُونَكُمْ} من تقدير حذف المضاف)، قال في قوله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران: 193]: يقول: سمعت رجلاً يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً منه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد، وأن يقال: سمعت كلام فلان، وههنا قرينة المحذوف الظرف، وهو {إِذْ تَدْعُونَ}، فإن فيه دلالةً على الدعاء.

وقرأ قتادة: (يُسمِعونكم)، أي: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في "إذ" على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا أو أسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. [(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ* قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)]. لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة: قوله تعالى: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم: 82]؛ ولأنّ المغري على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال: (عَدُوٌّ لِي) تصويرا للمسألة في نفسه، على معنى: أني فكرت في أمري ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجاء مضارعاً مع إيقاعه في "إذ")، وذلك أن إذ يجعل المضارع في معنى الماضي، كقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 124]، وفائدته: استحضار جميع الأحوال الماضية وقتاً فوقتاً، يعني: قولوا لنا: هل قدروا على السماع أو الإسماع قط في تلك الأوقات؟ وهو أدخل في الإلزام من لو قيل: إذ دعوتموهم. قوله: (ولأن المغري)، عطفٌ على قوله: "ومعنى العداوة قوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ} ". قوله: (قال: {عَدُوٌّ لِي} تصويراً للمسألة)، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما بكتهم بقوله: {إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ما أجابوه إلا بالتقليد المحض، وهو قولهم: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، أراد أن يصور لهم بطلان التقليد، قال: أخبروني ما

فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمّل فيه، فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رحمه الله: أنّ رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنتم تعبدونه أنتم وآباؤكم الأقدمون، هل عرفتم أن تلك العبادة كانت في الحقيقة هي عبادة الأعداء، وهل رأيت عاقلاً يعبد عدوه، ومن ضره أقرب من نفعه، ويترك عبادة رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو الذي خلقه، ورزقه، وأحياه، وأماته؟ فعرض بالكلام استدراجاً ليكون أدخل في النصح، وإليه الإشارة بقوله: "ربما قاده التأمل إلى التقبل". قوله: (ولأنه دخل في بابٍ من التعريض)، نحوه قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، وهذا العريض يحتمل أن يكون من الكناية، وأن يكون من المجاز. فإذا قيل: إن الأصنام لا تصلح أن تكون عدواً لإبراهيم عليه السلام، كان مجازاً، وإلا فيكون كنايةً، ونحوه قولك: آذيتني فستعرف. قال صاحب "المفتاح": إذا أردت به المخاطب ومع المخاطب إنساناً آخر، كان من الكناية، وإن لم ترد إلا غير المخاطب كان من المجاز. قوله: (وسمع رجلٌ ناساً يتحدثون)، قيل: هو علي بن سند مجاور مكة. والحجر بكسر الحاء: الحطيم المدار بالبيت.

وقوم عليَّ ذوي مئرة ... أراهم عدوّا وكانوا صديقا ومنه قوله تعالى: (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف: 50]، شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين فَهُوَ يَهْدِينِي يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقوم علي ذوي مئرةٍ)، البيت، مئرةٍ): أي مجادلةٍ ومخاصمة. المئرة بالهمز: الذحل والعداوة، وجمعها مئرٌ، يريد: أنه أطلق العدو على الجماعة، والعدو والصديق يجيئان بمعنى الواحدة والجماعة، قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إن الصديق والعدو كالرسول في أنه يقال للواحد والتثنية والجمع، قال تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وذلك أن الجمع بمنزلة الواحد في الاتفاق على المعنى المقصود. قوله: ({إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}: استثناءٌ منقطع)، قال صاحب "الكشف": لأنه تعالى ليس من جملة الأعداء أخبر عن الأصنام بأنهم أعداءٌ، ثم أخذ في حديثٍ آخر، فقال: لكن رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون متصلاً، لأن آبائهم قد كان منهم من يعبد الله تعالى وغير الله. والاختيار الأول، لأن قوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} تخلصٌ إلى الأوصاف الآتية. وذهب أبو البقاء وصاحب "الكشف" أن قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي}: مبتدأٌ، و {فَهُوَ يَهْدِينِ}: الخبر، وما بعدها من {الَّذِي}: صفات {الَّذِي}: الأولى، ويجوز إدخال الواو في الصفات، وقيل: المعطوف: مبتدأٌ، وخبره محذوفٌ استغناءً: بخبر الأول، وضعف صاحب "الكشف" هذا. وقلت: الأول أيضاً ضعيفٌ، والأولى ما عليه ظياهر كلام المصنف، أن الكل صفاتٌ

عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال: (مَرِضْتُ) دون "أمرضني"؛ لأنّ كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقوله: {رَبَّ الْعَالَمِينَ} والفاء في {فَهُوَ يَهْدِينِ}: للتعقيب لا للتسبيب، كما يلزم من كلامهما، ويعضده (ثم) في قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}، لأنها للتراخي في الزمان كما أن تلك الفاء لغير التراخي لتقابلهما. قوله: (عقب ذلك هدايته المتصلة)، يعني: عطف {فَهُوَ يَهْدِينِ} بالفاء- وهو جملةٌ من اسمٍ وفعلٍ مضارع- مفيدٌ لمعنى الاستمرار، وفي هذا المقام على {خَلَقْتَنِي} وهو ماضٍ، ليدل على الاتصال الذي لا ينقطع، وإليه أشار بقوله: "فمن هداه إلى معرفة الثدي" إلى قوله: "من هدايات المعاش والمعاد" وإلى دار القرار: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9]، وعل هذا العموم ينبغي أن يحمل على {يَهْدِيَنِ}، لا على المتعارف، وإلا فما معنى قوله: "فمن هداه" إلى آخره؟ ونحوه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] على معنى: أعطى خليقته كل شيءٍ يحتاجون إليه، ويرتفقون به، ثم عرفهم كيف يرتفعون بما أعطاهم وكيف يتوصلون إليه، و"ثم" في هذه الآية مثل الفاء فيما نحن فيه، وبين بها تفضيل الهداية على الإعطاء. قوله: (لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريطٍ من الإنسان)، وفي معناه أنشد صاحب "المطلع": عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب

الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: (خطاياي)، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر، لأنّ الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات: 89]، وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء: 63]، وقوله لسارّة: هي أختي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الانتصاف": وقال غيره: هو أدبٌ مع اله تعالى: بنسبة النعمة إليه، ولعل الزمخشري عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام نسب الإماتة إلى الله تعالى وهو أشد من المرض، وهو أيضاً يرد على الزمخشري، فإن الموت أيضاً يكون بتسيبٍ وتفريط، ويمكن الفرق بين الموت والمرض بأن يقال: إن الموت: قضاءٌ محتوم على جميع البشر، بخلاف المرض، فكم من معافًى منه إلى أن يموت، فلا يكون بنسبته إلى الله تعالى سوء أدب، ويؤيده أن كل ما ذكر مع غير المرض ذكره وبتاً، وأما المرض فجعله مع الشرط. قولت- والله تعالى أعلم-: قد سبق أن قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} واردٌ على الاستدراج وإرخاء العنان، فيكون قوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} تخلصاً منه إلى التمكن من إجراء الأوصاف التي يصحح بها معنى الإلهية من كونه خالقاً رازقاً، محيياً ومميتاً، معاقباً ومثيباً، تربيةً لمعنى النصح والاستدراج، وبعثاً على التفكر والتدبر، وأما ذكر المرض والشفاء فكالمتابع لمعنى الإطعام والسقي، ولذلك ترك فيهما الموصول إلى الشرط والجزاء، فروعيت فيهما تلك النكتة، ولا يصح مثلها في تلك القرينة. وفي "المطلع": دخول "هو" دليلٌ على أنه لا يهدي ولا يطعم ولا يسقي ولا يمرض ولا يشفي إلى الله تعالى وحده، وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان، ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية. قوله: (التخم)، الجوهري: وخم الرجل بالكسر، أي: اتخم، وقد اتخمت من الطعام، وعن الطعام، والاسم التخمة بالتحريك، والجمع تخماتٌ وتخمٌ.

وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله (أَطْمَعُ) ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفي لا يعلم. [(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ* وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)]. الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة: 130]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما هي إلا معاريض كلام)، سبق تحقيقه في أول البقرة. قوله: (ويدل عليه قوله: {أَطْمَعُ} ولم يجزم)، أي: يدل على أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان لمجرد التواضع، لا لطلب الغفران عن الذنوب، لأنه لو كان طلباً للغفران كان الواجب الجزم في الطلب، لا الظن والرجاء. قال الإمام: هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث نقول: لا يجب على الله شيءٌ، وأنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحدٍ عليه. قوله: (أو يجمع بينه وبينهم)، عطفٌ على: "أن يوفقه لعمل ينتظم به"، وكلا الوجهين حسنان، لكن الأول أوفق لتأليف النظم، لأن قوله: {هَبْ لِي حُكْمًا}: طلبٌ للعلم

والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية؛ وهي الحياء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنبوة و {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} طلبٌ للعمل بمقتضى العلم، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} طلبٌ للذكر الجميل المستلزم لتكميل الغير بعد طلب كمال النفس، {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}: طلبٌ لجمع الشمل معهم في دار الكرامة. وقال القاضي: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي: لا تعاتبني على ما فرطت ولا تنقص مرتبتي عن مرتبة بعض الوراث. الراغب: الصدق والكذب أصلهما في القول، وقد يستعملان في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو: صدق ظني، وفي فعل الجوارح، نحو: صدق في القتال: إذا وفى حقه وفعل ما يجب، وكذب في القتال، ويعبر عن كل فعلٍ فاضل ظاهراً وباطناً: بالصدق، فيضاف إليه، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ}، سأل بحيث إذا أثنى عليه من بعده، لم يكن ذلك الثناء كذباً قال: إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني قوله: (أو من الخزاية)، بفتح الخاء، النهاية: يقال: خزي يخزى خزايةً، أي: استحياء، فهو خزيان، وخزي يخزى خزياً، أي: ذل وهان. الراغب: خزي الرجل: لحقه انكسارٌ إما من نفسه أو من غيره، فالأول هو الحياء المفرط، ومصدره الخزاية، ورجلٌ خزيان وامرأةٌ خزيا وجمعه خزايا، وفي الحديث: "اللهم احشرنا غير خزايا ولا نادمين". والثاني: يقال: هو ضربٌ من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ورجلٌ خز- قال تعالى:

وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي (يُبْعَثُونَ) ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير (الضَّالِّينَ). وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه، يعني: ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33]- وأخزى يقال منهما، وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] يحتملهما. قوله: (وهذا أيضاً من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفورٌ)، ردٌ إلى قوله: "أن استغفار الأنبياء عليهم السلام تواضعٌ منهم، وهضمٌ لأنفسهم"، يعني: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الذنوب التي تستوجب الاستغفار، لكن استغفارهم لأنفسهم تواضعٌ منهم، ولغيرهم من الضلال إيذانٌ بما علموا أن ذلك الغير مغفورٌ كما في قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}، فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} إلا بعدما ظن أنه خارجٌ من زمرة الضالين منخرطٌ في سلك المغفورين، ولذلك قال: {كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}، لأن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] تفسيرٌ لهذه الآية. قال القاضي: إن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإيمان تقيةً من نمرود، ولذلك وعده به، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار. قوله: (وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه)، عطفٌ تفسيريٌ على قوله: "أو: ضمير الضالين"، يعني: إذا جعل الضمير في {يُبْعَثُونَ} للعباد يكون قوله تعالى: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} من جملة الأدعية السابقة مستقلةً بنفسها، معطوفةٌ عليها كما سبق، وإذا جعل الضمير للضالين يكون من تتمة الاستغفار لأبيه عطفاً على قوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} فحسب، والأول أوفق، لأن قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} بدلٌ من قوله: {يَوْمَ يُبْعَثُونَ}، وهو عامٌ في الضالين وغيرهم.

تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم. (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ): إلا حال من أتى الله (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو من قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلا السيف. وبيانه: أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه: سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي من قوله: تحية بينهم ضربٌ وجيع)، أي: من أسلوب نفي الشيء على المبالغة، يعني: إن عد الضرب تحيةً، فتحيتهم ذلك. قال صاحب "المفتاح": {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: مقدرٌ على حذف المضاف، وهو إلا سلامة من أتى الله مدلولاً عليه بقرائن الكلام، منزلة السلامة المضافة منزلة المال والبنين بطريق قولهم: عتاب فلانٍ السيف، وأنيسه الأصداء. وقال الذبياني: وقفت فيها أصيلالاً أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد إلا أواري ... البيت أراد: إن كان الأرى يعد أحداً فلا أحد فيه إلا إياه، فالمعنى: يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا سلامة القلب إن عد مالاً وبنين، ولا ارتياب في أنها ليست بمالٍ ولا بنين، فإذاً لا ينفع مالٌ ولا بنون البتة. قوله: (وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى)، أي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعلتهما نوعين لجنس الغنى، كما جعلهما الله تعالى في معنى الزينة في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، ولما ناسب سلامة القلب هذا المعنى، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، أدخلته فيهما ثم أخرجت بالاستثناء أحد أنواع هذا الجنس، وهو سلامة القلب، ومنه ما روينا عن أحمد بن حنبلٍ والترمذي وابن ماجه، عن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، قال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو علمنا أي المال خيرٌ اتخذناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل المال لسانٌ ذاكر، وقلبٌ شاكر، وزوجةٌ صالحةٌ تعين المؤمن على إيمانه". والوجهان متقاربان، والفرق هو أن القصد في الأول نفي المدعى على البت بإثبات ما يقابله ويناقضه، والقصد في الثاني إدخاله في جنس ما يخالفه لمعنى مجازيٍّ يشتركان فيه، ثم إخراجه منه، وسيجيء تحقيق هذا الأسلوب، والاختلاف فيه في النمل إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، والله أعلم. ويمكن أن يحمل على معنى الزينة، بأن يقال: يوم لا ينفع زينةٌ قط إلا زينة من حلي قلبه بالإخلاص، وبالرضا عن الله تعالى، كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46]، إذ المعنى بالباقيات: ما يبقى لصاحبه من الأعمال ولم يجعله هباء منثوراً بالرياء والسمعة، ولذلك أوثر لفظة "أتى"، كما في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89]، أي: لم يتركها للغير رياءً، وكما تستدعي كلمة "خير" إدخال الباقيات في معنى الزينة، كذلك توجب كلمة "إلا" إدخال سلامة القلب في حكم {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} المعبران بالزينة. روى السلمي عن بعضهم: علامة سلامة القلب أن يرى راضياً عن اله تعالى في جميع الأفعال غير متخلل قلبه خلافه بكل حال. وقال أبو عثمان: وهو على أربع منازل: السلامة عن الشرك، وعن الأهواء المضلة، وعن الرياء والعجب، وعن ذكر كل شيءٍ سوى الله تعالى.

كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف؛ وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤوّل المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل (مَنْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولابد لك مع ذلك من تقدير المضاف)، يعني: إنك إن حملت الاستثناء على الانقطاع فلا تستغني عن تقدير المضاف، كما أنك ما استغنيت في الاتصال من تقدير حالٍ، أي سلامة، أو غنى. قوله: (ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى)، قال صاحب "التقريب": إذ شرط المنقطع: أن يصح إسناد الفعل الأول إليه ولا يدخل في المستثنى منه. قيل: فيه نظرٌ، لأنا إذا قدرنا المضاف يكون التقدير: لكن حال من أتى الله بقلبٍ سليم ينفعه، ويستقيم المعنى، وكذلك لو لم يقدر، ويكون التقدير: لكن من أتى الله بقلبٍ سليم ينفعه حاله، يستقيم المعنى. وإذا استقام المعنى على التقديرين بناءً على أنه لابد في الاستثناء المنقطع من جعل إلا بمعنى لكن، وتقدير الخبر بعد ذلك، فلا يتعين تقدير المضاف، ولا يفسد المعنى إذا لم يقدر، ويؤيده قول أبي البقاء: أي: لكن من أتى الله يسلم أو ينتفع. وقلت: لكن مراد المصنف من قوله: "ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى" شيءٌ آخر، وهو أن المذكور بعد حرف الاستثناء كلمة {مَنْ}، وهو بمعنى النفس أو الشخص، وليس المعنى أن نفس الآتي تنفعه، أو تنفع أحداً بالدفع أو الشفاعة أو النصرة، لكن المعنى: لا ينفعه إلا سلامة قلبه، فلابد من التأويل كيف ما كان، ويدل على أن المستدعي للمضاف لفظ {مَنْ} قوله: "وقد جعل {مَنْ} مفعولاً لـ {يَنْفَعُ}، لأن على هذا التأويل لا يحتاج إلى تقدير المضاف، كأنه قيل: لا ينفع مالٌ ولا بنون أحداً إلا رجلاً سليم قلبه مع ماله. قال أبو البقاء: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ} متصلٌ، وفي موضع نصب بدلاً من المحذوف،

مفعولا لـ (يَنفَعُ)، أي: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلا سلم قلبه مع ماله؛ حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راضٍ بإصابته فيه، ثم جعله صفة له في قوله: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 84]. ومن بدع التفاسير: تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو استثناءً منه، أي: لا ينفع مالٌ ولا بنون أحداً إلا من أتى، والمعنى أن المال إذا صرف في وجوه البر، والبنين الصالحين ينتفع بهم من نسب إليهم وإلى صلاحهم، أو: هو في موضع رفع على البدل من فاعل {يَنْفَعُ} وغلب من يعقل، والتقدير: إلا مال من، أو بنو من، فإنه ينفع نفسه أو غيره بالشفاعة. قوله: (ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي)، قال الإمام: المراد: سلامة القلب عن الجهل، والأخلاق الرذيلة، وكما أن صحة البدن وسلامته: عبارةٌ عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج والتركيب والاتصال، ومرضه: عبارةٌ عن زوال إحدى تلك الأمور، كذلك سلامة القلب: عبارةٌ عن حصول ما ينبغي له، وهو العلم والخلق الفاضل، ومرضه: عبارةٌ عن زوال أحدهما، والمعنى: بقلبٍ سليم الخالي عن العقائد الفاسدة، والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها. ويتبع الأعمال الصالحات، إذ من علامة سلامة القلب تأثيره إلى الجوارح. قوله: (تفسير بعضهم السليم باللديغ)، في "حقائق السلمي" عن بعض العارفين: السليم في لسان العرب: اللديغ، واللديغ هو القلق المزعج، فكأنه يقول: قلبٌ لا يهدأ من الجزع والتضرع من مخافة القطيعة.

وقول آخر: هو الذي سَلِمَ وسَلَّم وأسْلَمَ وسَالَم واستَسْلَم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقولٌ آخر)، يجوز أن يحمل على بدع التفاسير، لأن التفسير الصحيح شرطه أن يكون مطابقاً للفظ من حيث الاستعمال، سليماً من التكلف، عرياً عن التعسف، أراد هذا المفسر أن قوله تعالى: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} مطابق، والمقام يقتضي الحمل على معانٍ متعددة، سلم، سلم، وأسلم، وسالم، واستسلم، أي: سلم من الشرك والمعاصي، وسلم نفسه وابنه لحكم الله عز وجل، وسالم أولياء الله تعالى وحارب أعداءه، وأسلم حيث نظر فعرف من قوله تعالى: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، واستسلم: انقاد لله تعالى وأذعن لعبادته. قوله: (ثم أنحى على آلهتهم). الأساس: انتحاه: قصده، وأنحى عليه باللوائم: إذا أقبل عليه. وعن بعضهم: وحقيقته الإتيان من ناحية، وعلى هذا قراءة من قرأ: "فاليوم ننجيك ببدنك" أي: نلقيك على ناحية من قارعة الطريق. قوله: (ثم صور المسألة في نفسه)، يعني في قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} كما قال: قال: "عدوٌ لي" تصوير للمسألة في نفسه على معنى: أني فكرت في نفسي، إلى آخره، ومعنى قوله: "حتى تخلص منها": أنه جعل تصوير المسألة كالتخلص إلى ثناء الله تعالى وحمده وتعظيم شأنه وتعديد آلائه وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى آخره.

وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا. [(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ* وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ* فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ* وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)]. الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها: قال الله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق: 31]، وقال: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك: 27]، يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات، فتجعل النار بمرأى منهم، فيهلكون غما في كل لحظة، ويوبخون على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتمني الكرة)، عطفٌ على "الندم والحسرة"، والمراد بالدفع في قوله: "وما يدفع إليه المشركون" هو قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: لا ينفع شيءٌ قط، إلا الندم على ما فوتوا على أنفسهم من الإتيان بسلامة القلب، وإلا الحسرة على ما كانوا عليه من الضلال، ولا يمنيهم الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويتعظوا، ومن ثم ختمت هذه القصة بقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، إلى قوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذه الطريقة إنما تحسن على رأي صاحب "المفتاح"، وذلك أن يحمل قوله: {لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} على معنى لا ينفع شيءٌ ما حمل قولك: لا ينفع زيدٌ ولا عمروٌ، على معنى: لا ينفع إنسانٌ ما. قوله: (فتجعل النار بمرأى منهم)، إلى آخره، تفصيلٌ لقوله: "تجمع عليهم الغموم كلها"، والفاء في "فيهلكون غمًا": للتسبيب لأن النظر إلى النار سببٌ للغم، وفي "فيقال لهم": للتعقيب، أي: إذا قصد التوبيخ يقال ذلك القول. وقوله: "لأنهم وآلهتهم" وقوله: "وقود النار" تعليلٌ لقوله: "يوبخون"، أي: يقال لهم: أين آلهتكم؟ وهي حاضرةٌ معهم

إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم؟ أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم؟ لأنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله: (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ) أي: الآلهة (وَالْغاوُونَ): وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم. والكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقرّ في قعرها، اللهم أجرنا منها يا خير مستجار. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ): شياطينه، أو متبعوه من عصاة الجن والإنس. [(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ* فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين. والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم، كقوله: (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب: 67]، وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في النار، للتوبيخ، وفي معنى قوله: {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} الترقي والمبالغة، أي: كيف يخلصونكم من عذاب النار، بل كيف يقدرون على خلاص أنفسهم منها؟ فوضع ينتصرون، وهو من انتصر منه، أي: انتقم، موضع الاستخلاص مبالغةً وتهكماً. وقوله: "وهو قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} بيانٌ لمعنى قوله: أنهم وآلهتهم وقود النار". قال الواحدي: وقيل لهم في ذلك اليوم على وجه التوبيخ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} أي: يمنعونكم من العذاب {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} يمتنعون منه؟ ثم يؤمر بهم فيلقون في النار، فكذلك قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}. قوله: (يجوز أن ينطق اله تعالى الأصنام)، يعني: أن الضمير في {قَالُوا} للأصنام والغاوين وجنود إبليس، يدل عليه قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

السدّي: الأوّلون الذين اقتدينا بهم. وعن ابن جريج: إبليس، وابن آدم القاتل، لأنه أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي. (فَمَا لَنَا مِنْ شافِعِينَ) كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين (وَلا صَدِيقٍ) كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67]؛ أو: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ* ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأنّ ما لا ينفع: حكمه حكم المعدوم. والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أرادوا: أنهم وقعوا في مهلكةٍ)، يريد: دل مجموع قولهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} على سبيل الكناية وأخذ الزبدة على الإيقاع في المهلكة، ثم الفرق بين الوجوه الثلاثة أنهم- في الأول- نفوا ابتداءً الشفعاء والأصدقاء رأساً، كما قال: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} كما نرى للمؤمنين، ولا صديق كما نرى لهم، وفي الثاني: أثبتوا في الدنيا شفعاء وأصدقاء، فلما أضلوهما هناك نفوهما، وفي الثالث: وجدوهما حاضرين هنالك، لكن حين لم ينفعونهم جعلوهما كالمعدومين، لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم، وقد فسر بالوجوه الثلاثة قوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]. قوله: (والحميم: من الاحتمام، وهو الاهتمام)، النهاية: وفي حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه: أن أبا الأعور السلمي قال له: "إنا جئناك في غير محمة"، يقال: أحمت الحاجة: إذا أهمت ولزمت. الراغب: الحميم: الماء الشديد الحرارة، قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15]، وسمي العرق حميماً على التشبيه. وقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فهو

وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق. ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق - وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك - فأعز من بيض الأنوق. وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع. الكرّة: الرجعة إلى الدنيا. ولو في مثل هذا الموضع في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كرة. وذلك لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القريب المشفق، فكأنه الذي يحتد حماية لذويه، واحتم فلانٌ لفلان: احتد، وذلك أبلغ من اهتم، لما فيه من معنى الاحتمام، وعبر عن الموت بالحمام كقولهم: حم كذا، أي قدر، والحمى سميت بذلك إما لما فيها من الحرارة المفرطة، وعلى ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: "الحمى من فيح جهنم"، وإما لما يعرض فيه من الحميم، أي العرق، وإما لكونها من أمارات الموت، لقولهم: الحمى بريد الموت، وقيل: باب الموت. قوله: (أو من الحامة بمعنى الخاصة)، الأساس: وهو مولاي الأحم، أي: الأخص والأحب. قوله: (فأعز من بيض الأنوق)، الجوهري: الأنوق، على فعول: طائرٌ وهو الرخمة، وفي المثل: أعز عن بيض الأنوق، لأنها تحرزه ولا يكاد يظفر بها، لأن أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة. قوله: (لما بين معنيي "لو" و"ليت" من التلاقي في التقدير)، بيانٌ لوجه العلاقة، يعني: كما يقدر بـ "لو" غير الواقع، نحو: لو كان لي مالٌ لحججت، يقدر بـ "ليت" غير الواقع،

ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب، وهو: لفعلنا كيت وكيت. [(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)]. القوم: مؤنثة، وتصغيرها قويمة. ونظير قوله (الْمُرْسَلِينَ) - والمراد نوح عليه السلام: قولك: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد. قيل: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحو: ليت الشباب يعود، وإنما الفرق أن الثاني يستعمل في طلب ما لا يمكن حصوله حقيقةً، قال صاحب "المفتاح": إذا قلت: لو يأتيني زيدٌ فيحدثني، بالنصب، طالباً لحصول الوقوع فيما يفيد "لو" من تقدير غير الواقع واقعاً، وكذا التمني، فعلى هذا: {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} منصوبٌ على جواب التمني. قوله: (ويجوز أن تكون على أصلها)، أي: على الامتناع، فعلى هذا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفٌ على {كَرَّةً}، أي: لو أن لنا أن نكر فنكون، أي: فأن نكون، قاله أبو البقاء، وعن بعضهم: قوله: {فَنَكُونَ} في تقدير المصدر عطفاً عى "أن"، أي: لو ثبت حصول الكرة فنكون من المؤمنين لفعلنا. قوله: (ونظير قوله: {الْمُرْسَلِينَ} ... قولك: فلان)، مبتدأٌ وخبر. قال صاحب "الانتصاف": من كذاب نبياً واحداً فقد كذب وجه دلالة معجزته على الصدق، وهذا مشتركٌ بين الجميع، فمن كذب واحداً فقد كذب الجميع، وهو معنى قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إنهم لما كذبوا نوحاً ومن قبله كذبوا إرسال الله أصلاً، كأنهم كذبوا المرسلين، ولما أنكروا إرسال نوح عليه السلام كأنهم منكرون المرسلين.

(أَخُوهُمْ)، لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدا منهم. ومنه بيت "الحماسة": لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النّائبات على ما قال برهانا كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة، كمحمد صلوات الله عليه وسلامه في قريش. (وَأَطِيعُونِ) في نصحي لكم وفيما أدعوكم إليه من الحق. (عَلَيْهِ): على هذا الأمر، وعلى ما أنا فيه، يعنى: دعاءه ونصحه ومعنى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ): فاتقوا الله في طاعتي، وكرره ليؤكده عليهم ويقرّره في نفوسهم، مع تعليق كل واحد منهما بعلة، جعل علة الأوّل كونه أمينا فيما بينهم، وفي الثاني حسم طمعه عنهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يسألون أخاهم)، البيت، يندبهم: أي: يدعوهم، يقول: لا يسألون من يدعوهم إلى الإغاثة حجةً، ولا يراجعونه في كيفية ما ألجاؤا إليهم فيه، لكنهم يعجلون الإغاثة، وعن بعضهم: الأخوة إما في الدين أو في النسب أو في النسب أو في الشبه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] أي: شبيهتها في الإعجاز. قوله: (جعل علة الأول كونه أميناً فيما بينهم)، يعني: لما قال عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} رتب عليه {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}، يعني: إذا كنت رسولاً من عند الله تعالى يجب عليكم أن تعرفوا من أرسلني إليكم، ومن لوازم المعرفة الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وإذا كنت أميناً يجب عليكم أن تطعيوني، لأن نصحي لا يكون عن غدرٍ وخيانة، ولما قال: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} رتب عليه أيضاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}، يعني: من يدعوكم إلى ما ينفعكم دنيا وديناً بلا شائبة طمع

[(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)]. وقرئ: (وأَتْباعُك) جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو جمع تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال. وحقها أن يضمر بعدها "قَدْ" في: (واتَّبَعَكَ). وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قوله: (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود: 27] والرذالة والنذالة: الخسة والدناءة. وإنما استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنية، كالحياكة والحجامة. والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجب عليكم طاعته، وإذا كان رب العالمين هو الذي يكفل أجره يجب عليكم شكره والحذر من كفران نعمته، والله تعالى أعلم. قوله: (وقرئ: "وأتباعك")، قال ابن جني: قرأها ابن مسعودٍ والضحاك وابن السميفع، وفيها وجهان، أحدها: "أتباعك": مرفوعٌ بالابتداء، و"الأرذلون": الخبر، وثانيهما: أن يكون "أتباعك" معطوفاً على الضمير في "نؤمن"، أي: نؤمن بك وأتباعك الأرذلون؟ والأرذلون: وصفٌ لـ "أتباعك"، ويجوز العطف لوقوع الفصل بقوله {لَكَ}. قوله: (والصناعة لا تزري بالديانة)، أنشد أبو العتاهية في المعنى: وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصهٌ ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم قوله: (حتى صارت من سماتهم)، أي: صارت متابعة من اتضع نسبه وقل نصيبه من الدنيا من أمارات من اتسم بسمة النبوة وعلامات من انتصب لمنصب الرسالة. قوله: (ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان) روينا عن البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك؟ وعن ابن عباس: هم الغاغة. وعن عكرمة: الحاكة والأساكفة. وعن مقاتل: السفلة. [(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)]. (وَمَا عِلْمِي وأى شيء علمى؟ والمراد: انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطلاعه على سر أمرهم وباطنه. وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا - مع استرذالهم - في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله: (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّايِ) [هود: 27]. ويجوز ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فبينا أنا في الشام إذ جئ بكتابٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، فقال هرقل: هل هاهنا أحدٌ من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌ؟ قالوا: نعم، فدعيت في نفرٍ من قريش فأجلسوني بين يديه، وأصحابي خلفي، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، إلى أن قال: اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، وساق الحديث إلى أن قال: سألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أو أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل. هذا مختصٌر من حديثٍ طويل. قوله: (الغاغة)، الجوهري: الغاغة من الناس هم الكثير المختلطون، وعن بعضهم: الغاغة: السفلة يصخبون في الفتن الناس، ونعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا. قوله: (الأساكفة)، الأساس: هو إسكافٌ من الأساكفة، وهو الخراز، وقيل: كل صانع. قوله: ({بَادِيَ الرَّايِ})، بغير همز، أي: ظاهره، من بدا، أي: ظهر. ويهمز، أي: قلدوك بديهةً من غير تفكرٍ وتروٍّ.

أن يتغابى لهم نوح عليه السلام. فيفسر قولهم: الأرذلين، بما هو الرذالة عنده، من سوء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يتغابى لهم نوحٌ عليه السلام)، النهاية: الغبي: القليل الفطنة، وقد غبي يغبى غباوةً، ومن حديث علي: تغاب عن كل ما لا يصح لك، أي: تغافل، وفي معناه أنشد صاحب "المفتاح": أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت- كأني ما سمعت كلامها-: ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي وعن بعضهم: التغابي من أخلاق الكرام، والتجاهل من أخلاق السفهاء، قال: ليس الغبي بسيدٍ في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي وفي الحديث: "عظموا أقداركم بالتغابي"، وذلك أنهم لما قالوا: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}، وعنوا الذين لا نسب لهم ولا نصيب من الدنيا، خيل لهم أنهم عنوا بالأراذل: من لا إخلاص له من العمل، ولم يؤمن عن نظرٍ وبصيرة، فأجابهم بقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي}، أي: ما علمي بإخلاص أعمال الأراذل، ولا لي اطلاعٌ على سرائرهم إن كان لهم عملٌ سيءٌ أو حسنٌ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، كأنه أراهم أنه ما عرف من الأراذل والأنذال إلا ذلك، ونحوه سبق في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سأزيد على السبعين"، ثم جاءه بقوله: {لَوْ تَشْعُرُونَ} تتميماً لما خطأهم فيه، وإليه الإشارة بقوله: "وقصد بذلك رد اعتقادهم وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً"، قال: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم، ثم يبنى جوابه على ذلك فيقول: ما علىّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيئ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز (لَوْ تَشْعُرُونَ) ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) يريد: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم وأطيب نفوسكم بطرد المؤمنين الذين صح إيمانهم طمعا في إيمانكم، وما علىّ إلا أن أنذركم إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، التعريف في {الْأَرْذَلُونَ}: للجنس، وعلى الأول: للعهد، لما كان بين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وبين القوم ناس أراذل بادي الرأي بزعمهم، ولذلك استشهد بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّايِ} [هود: 27]. قوله: (رذلاً)، بسكون الذال المعجمة. الجوهري: الرذل: الدون الخسيس. قوله: (فإن الغنى غنى الدين)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس". قوله: (ليس من شأني أن أتبع شهواتكم)، يريد أن إيلاء الضمير حرف النفي في قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}، نحو قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، دل على أنهم زعموا أنه موصوفٌ بصفتين، إحدا هما: اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين، لأجل أن يؤمنوا. وثانيتهما: أنه نذيرٌ مبين، لأنه جوابٌ عن قولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} فقصر الحكم على الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: ما علي إلا أن أنذركم إنذاراً مبيناً، إلى قوله: "ثم أنتم أعلم بشأنكم".

[(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ* قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. ليس هذا بإخبار بالتكذيب، لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أنى لا أدعوك عليهم لما غاظونى وآذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك، فاحكم (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ). والفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح المستغلق كما سمي فيصلا، لأنه يفصل بين الخصومات. الفلك: السفينة، وجمعه فلك: قال الله تعالى: (وتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) [فاطر: 12]؛ فالواحد بوزن قفل، والجمع بوزن أسد، كسروا فعلا على فعل، كما كسروا فعلا على فعل، لأنهما أخوان في قولك: العَرَب والعُرْب، والرَّشَد والرُّشْد. فقالوا: أَسَد وأُسْد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس هذا بإخبار بالتكذيب)، يعني قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} وذلك أنما لما توعدوا بقولهم: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} كان من حق الظاهر أن يقول: يا رب، إن قومي أوعدوني بأن يرجموني، لكن رفع حصة نفسه من البين، ورفع قصة ما يتعلق با لدين، وقال: يا رب، إني لا أدعوك عليهم لما أوعدوني بالرجم، وإنما أدعوك لأنهم كذبوني في وحيك، وإلى هذ المعنى أشار قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وما روينا عن البخاري ومسلم ومالكٍ وأبي داود، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم. قوله: (لأنهما أخوان)، ذكر أبو علي في "القصريات" أن الضمة في "فعل" منزلةٌ

وفلك وفلك. ونظيره: بعير هجان، وإبل هجان. ودرع دلاص. ودروع دلاص، فالواحد بوزن كناز، والجمع بوزن كرام. والمشحون: المملوء. يقال: شحنها عليهم خيلا ورجالا. [(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)]. قرئ: (بِكُلِّ رِيعٍ) بالكسر والفتح: وهو المكان المرتفع. قال المسيب بن علس: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منزلة الفتحتين في "فعل"، يعني: أن الضمة التي هي أثقل الحركات قائمةٌ مقام ثنتين خفيفتين. قوله: (دروعٌ دلاصٌ)، الأساس: درعٌ دلاصٌ ودلامص، ودروعٌ دلاصٌ ودلص: ملساء براقة. قوله: (فالواحد بوزن كناز)، الأساس: وكنز التمر: الوعاء. وكنزت الجراب فاكتنز، إذا ملأته جداً، وناقةٌ كناز اللحم. قوله: (فالواحد بوزن كناز)، الأساس: وكنز التمر: الوعاء. وكنزت الجراب فاكتنز، إذا ملأته جداً، وناقةٌ كناز اللحم. قوله: (شحنها عليهم خيلاً)، الضمير للمدينة. الجوهري: شحنت البلد بالخيل: ملأته. قوله: (وهو المكان المرتفع)، الراغب: الريع: المكان المرتفع الذي يبدو من بعيد، الواحدة ريعةٌ، وريعان كل شيء: أوائله التي تبدو، وفيه استعير الريع للزيادة والارتفاع الحاصل. قوله: (قال المسيب)، المسيب: صح بكسر الياء، وهو خال الأعشى، سمي مسيباً

في الآل يرفعها ويخفضها ... ريع يلوح كأنّه سحل ومنه قولهم: كم ريع أرضك؟ وهو ارتفاعها. والآية: العلم وكانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم. فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم. وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام. والمصانع: مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ترجون الخلود في الدنيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن [أباه] استرعاه إبلاً فسيبها وأبهل أصرتها، فقال له: سيبت إبلي، فسمي مسيباً. قوله: (في الآل يرفعها)، اليبت، علس، بفتح العين المهملة: ضربٌ من الحنطة، تكون حبتان في قشرةٍ. الجوهري: العلس: القراد الضخم، وبه سمي الرجل. يصف الشاعر ظعناً. الآل: السراب، والسحل: الثوب لا يبرم غزله. الجوهري: السحل: ثوبٌ أبيض من الكرسف من ثياب اليمن. قوله: (لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم)، الانتصاف: وليس بعبثٍ، لأن الحاجة قد تدعو إليه لغيم مطبق أو غيره. قوله: (وقيل: القصور المشيدة والحصون)، هذا أظهر من العبث من المصانع، لقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}. قال الإمام: البناء على المرتفع إنما كان مذموماً لدلالته على السرف والخيلاء، واتخاذ القصور لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر، لا دار مقر.

أو تشبه حالكم حال من يخلد. وفي حرف أبي: (كأَنَّكم). وقرئ: (تُخلَدون) بضم التاء مخففا ومشددا (وَإِذا بَطَشْتُمْ) بسوط أو سيف كان ذلك ظلما وعلوا، وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب. [(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)]. بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال: (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ)، ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تشبه حالكم حال من يخلد)، لعل هذا واردٌ على الاستعارة التمثيلية، نزل فعلهم منزلة الرجاء، كما في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44]، قال: "اذهبا على رجائكما وطعمكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله. قوله: (كان ذلك ظلماً وعلواً)، فيه أن قوله تعالى: {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} جزاءٌ لقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ}، فأتى بالجزاء نفس الشرط للمبالغة، وأوقع {جَبَّارِينَ} حالاً من الضمير المرفوع في {بَطَشْتُمْ}. قال القاضي: {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي: متسلطين غاشمين بلا رأفةٍ ولا قصد تأديبٍ ونظرٍ في العاقبة، وهو معنى قوله: "يتبادرون في تعجيل العذاب" أي: تعذيب الناس. قوله: (وأنه كما قدر)، عطفٌ على "تعديد"، أي: عرفهم المنعم بأنه كما قدر، أشار بهذا إلى اتصال قوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بما قبله.

النعمة، فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه. ونحوه قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران: 30]. فإن قلت: كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت: هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها. [(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. فإن قلت: لو قيل أَوَعَظْتَ أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأنّ المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ})، يعني: ضم وصف القهارية مع وصف الرحمانية. قوله: (كيف قرن البنين بالأنعام)، يعني: الجمع بينهما كالجمع بين البنين والأنعام، وأجاب: أنهم كانوا أصحاب مواشٍ، وجل اهتمامهم بشأنها، محتاجين إلى من يعينهم على حفظها فمن عليهم بالبنين لذلك، كما أن قوم نوح عليه السلام كانوا أرباب بساتين وسائر الأموال قيل لهم: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12]. قوله: (لأن المراد: سواءٌ علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلًا من أهله)، يعني: أتوا في طرف الإثبات بالفعل الصريح الذي دل على حصوله منه مرةً، وفي النفي باسم الفاعل على الاستغراق، نفوا أن يكون من زمرة من حصل منهم هذا الفعل، واستهزأوا فيه، أي: سواءٌ علينا أجددت الوعظ أم استمررت على ما كنت عليه من الإمساك عنه والخمول فيه. واعلم أن في أكثر النسخ: "أو لم تعظ"، بحرف الترديد، والصواب "أم" كما هو في بعض النسخ.

لم تعظ. من قرأ: (خَلْقُ الأوّلين) بالفتح، فمعناه: أنّ ما جئت به اختلاق الأوّلين وتخرّصهم، كما قالوا: (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ). أو: ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ: (خُلُقُ) بضمتين، وبواحدة، فمعناه. ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت الإعادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه. [(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب في الفصل بين "أو" و"أم"- في قولك: أزيدٌ عندك أو عمروٌ، وأزيدٌ عندك أم عمروٌ-: إنك في الأول لا تعلم كون أحدهما عنده، فأنت تسأل عنه، وفي الثاني تعلم أن أحدهما عنده إلا أنك لا تعلمه بعينه، فأنت تطالبه بالتعيين. وذكر كلاماً حاصله يؤول إلى أنهم استعملوا الهمزة و"ام" في معنى التسوية مجرداً من غير استفهام، نحو: سواءٌ على أقمت أم قعدت، واستعملوا الجملتين، والثانية معطوفةٌ بـ "أو" في معنى الحال، كقولك: أضرب زيداً قام أو قعد، ثم قال: فمثل ذلك يلتبس فيه موضع "أم" بموضع "أو"، وكثيراً ما ترى في كلام المتأخرين وأشعارهم لا يفرقون بينهما، وشرط استعمال "أم": أن تسبقها الهمزة، واستعمال "أو": أن لا تسبقها الهمزة. قوله: (خلق الأولين)، بفتح الخاء وسكون اللام: ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائي، وبضمهما: الباقون.

[(بُيُوتاً فارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)]. (أَتُتْرَكُونَ) يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدّعة، (فِي مَا هَاهُنَا): في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل. فإن قلت: لم قال: (وَنَخْلٍ) بعد قوله: (فِي جَنَّاتِ)، والجنة تتناول النخل أوّل شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج، حتى أنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل. قال زهير: ......... تسقي جنّة سحقا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدعة)، الجوهري: الدعة: الخفض، والهاء عوضٌ من الواو، ورجلٌ متدعٌ، أي: صاحب دعةٍ وراحة. قوله: (وهذا- أيضاً- إجمالٌ ثم تفصيل)، يعني: كما أن قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} مجملٌ، وتفصيله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} واردٌ على المبالغة في التنبيه على نعم الله تعالى، كذلك قوله: {فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ} مجملٌ، وتفصيله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} واردٌ على المبالغة في التنبيه على نعم الله تعالى، وبهذا ظهر أن الوجه الثاني، وهو أن يكون {أَتُتْرَكُونَ} تذكيراً للنعمة والهمزة للتقرير لا الإنكار والتوبيخ أولى، لأنه أوفق لتأليف النظم. قوله: (يتناول النعم الإبل كذلك)، أي: يتناول النعم أول شيء الإبل من بين الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام، هذا يختلف باختلاف العرف والأمكنة، وقوم صالح عليه السلام كانوا أعراباً، وأكثر بساتينهم نخيلٌ وأعظم أموالهم إبل. قوله: (تسقي جنةً سحقا)، أوله:

قلت: فيه وجهان: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر، تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها، وأن يريد بالجنات: غيرها من الشجر، لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو. والقنو: اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. والهضيم: اللطيف الضامر، من قولهم: كشح هضيم، وطلع إناث النخل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأن عيني في غربي مقتلةٍ ... من النواضح غربي: دلوي: مقتلة، أي: ناقةٌ مدللة، نخلةٌ سحوقٌ: بعيدة الطول في السماء. قوله: (لأن اللفظ يصلح لذلك)، لأن {جَنَّاتٍ} مطلقٌ يصلح للكل وللبعض، وقرينة إرادة البعض: عطف {وَنَخْلٍ} عليه. قوله: (الطلعة: هي التي تطلع من النخلة)، المغرب: الطلع: ما يطلع من النخلة، وهو الكم قبل أن ينشق، ويقال لما يبدو من الكم: طلعٌ أيضاً، وهو شيءٌ أبيض يشبه بلونه الأشنان، وبرائحته المني. قوله: (شماريخ)، النهاية: العثكال: العذق، وكل غصنٍ من أغصانه شمراخ، وهو الذي عليه البسر، والعرجون: العود الأصفر الذي فيه شماريخ العذق، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف، والواو والنون زائدتان. المغرب: العذق، بالفتح: النخلة، وبالكسر: الكباسة، وهي عنقود الثمر. قوله: (والهضيم: اللطيف الضامر)، الراغب: الهضم: شدخ ما فيه رخاوة، يقال: هضمته فانهضم، وذلك كالقصبة المهضومة التي يزمر بها، ومزمارٌ مضهم، وقال تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي: داخلٌ بعضه في بعض، كأنما شدخ، والهاضوم: ما يهضم الطعام وبطنٌ هضوم، وكشحٌ مهضم، وامرأةٌ هضيمة الكشحين.

فيه لطف، وفي طلع الفحاحيل جفاء، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون، فذكرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه: لأنّ الإناث ولادة التمر، والبرني: أجود التمر وأطيبه ويجوز أن يريد أن نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء، وسلمت من العاهات، فحملت الحمل الكثير، وإذا كثر الحمل هضم، وإذا قل جاء فاخرا. وقيل: الهضيم: اللين النضيج، كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. قرأ الحسن: (وتَنْحَتون) بفتح الحاء. وقرئ: (فَرِهين)، و: (فَارِهِينَ). والفَراهة: الكيس والنشاط. ومنه: خيل فرهة، استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفحاحيل)، المغرب: الفحال: واحد فحاحيل النخل خاصةً، وهو: ما يلقح به من ذكر النخل، والفحل عامٌ فيها وفي الحيوان، وجمعه: فحولٌ وفحولة. قوله: (من طلع اللون)، المغرب: اللون: بفتح اللام: الردئ من التمر، وأهل المدينة يسمون النخل كله ما خلا البرني والعجوة: الألوان، ويقال للنخلة اللينة: اللونة، بالكسر والضم. قوله: (وإذا قل جاء فاخراً)، الجوهري: نخلةٌ فخورٌ، أي: عظيمة الجذع غليظة السعف. الأساس: رطبٌ فاخرٌ: كبيرٌ ضخم، وتقول: إذا قل التمر جاء فاخراً. قوله: (وقرئ: "فرهين")، الكوفيون وابن عامر: {فَارِهِينَ} بالألف. والباقون: بغير الألف. قوله: (استعير لامتثال الأمر وارتسامه طاعة الآمر)، يعني: عدل عن أن يقال: ولا تمثلوا أمر المسرفين، إلى قوله: لا تطيعوا أمر المسرفين، والفرق أن الطاعة إنما تكون

المطاع. أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر. ومنه قولهم: لك عليّ إمرة مطاعة. وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه: 90]. فإن قلت: ما فائدة قوله: (وَلا يُصْلِحُونَ)؟ قلت: فائدته أنّ فسادهم فساد مصمت ليس معه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح. [(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَاتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للآمر لا للأمر كما أن الامتثال يكون للأمر لا للآمر، يقال: أمر زيداً فأطاعه، ويقال: أمره فامتثل أمره. المغرب: امتثل أمره: احتذاه وعمل على مثاله، وقوله: من إعادة محمد بن الحسن رحمه الله في تصانيفه أن يمثل بكتاب الله تعالى، فكأنه ظن أنه بمعنى "يقتدي"، فعداه تعديته. قوله: "وارتسامه"، الجوهري: رسمت له كذا فارتسمه، أي: امتثله. قوله: (على المجاز الحكمي)، أي: الإسناد المجازي، قال صاحب "المفتاح": إنما سمي حكميًا لتعلقه بالحكم. قوله: (لك علي أمرةٌ مطاعة)، الجوهري: معناه: لك علي أمرةٌ أطيعك فيها، وهي المرة الواحدة من الأمر، ولا تقل: إمرةٌ بالكسر، إنما الإمرة من الولاية. قوله: (فسادٌ مصمتٌ)، المغرب: بابٌ مصمتٌ: مغلق، وحقيقة المصمت: ما لا جوف له، وحائطٌ مصمت: لا فرجة فيه. والتركيب من باب الطرد والعكس، وفائدته التوكيد والمبالغة كما سيجيء في الروم.

المسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة، وأنه بشر. [(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)]. الشرب: النصيب من الماء، نحو السقي والقيت، للحظ من السقي والقوت، وقرئ بالضم. روى أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا، فقعد صالح يتفكر، فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبى موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا. وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء (بِسُوءٍ): بضرب أو عقر أو غير ذلك. عظم اليوم لحلول العذاب فيه ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من السحر: الرئة)، الجوهري: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يقال: المسحر: الذي خلق ذا سحر. قوله: (وأنه بشرٌ)، عطفٌ- من حيث التفسير- على قوله: "من السحر: الرئة"، وفي كلامه إشعارٌ بأن قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} كنايةٌ عن كونه بشراً، لأن قولهم: هو ذو سحر: كنايةٌ عن الحيوان، وجمعه بالواو والنون يخصه بالبشر، وقيل: هو خبرٌ بعد خبرٍ لقوله: "هو". قوله: (نحو السقي)، الراغب: يقال للنصيب من السقي، سقيٌ، وللأرض التي تسقى: سقيٌ، لكونهما مفعولين كالنقض. قوله: (ونتجت سقباً)، الجوهري: السقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى: سقبةٌ، ولكن: حائل.

ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد. [(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. وروي: أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت: ثم ضربها قدار. وروي: أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم. فإن قلت: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ قلت: لم يكن ندمهم ندم تائبين، ولكن ندم خائفين أن يعاقبوا على العقر عقابا عاجلا، كمن يرى في بعض الأمور رأيا فاسدا ويبني عليه، ثم يندم ويتحسر كندامة الكسعي. أو: ندموا ندم تائبين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصف اليوم به أبلغ)، لأنه حينئذٍ من باب الكناية. قوله: (ويتحسر كندامة الكسعي)، أي: كتحسر الكسعي عند الندامة. قال الميداني: هو رجلٌ من كسعة، واسمه محارب بن قيس، أنه كان يرعى إبلاً له بوادٍ معشب، فبصر نبعةً في صخرة، فأعجبته، فجعل يتعهدها، حتى إذا أدركت قطعها واتخذ منها قوساً وخمسة أسهم، ثم خرج حتى أتى موارد خمرٍ فكمن فيها، فمر قطيعٌ فرمى عيراً منها فأنفذ فيه وجازه، وأصاب الجبل فأورى ناراً، فظن أنه أخطأه، هكذا خمس مرات، ثم عمد إلى قوسه فضرب بها حجراً فكسرها، فلما أصبح نظر إلى الحمر مطرحةً حوله، وأسهمه بالدم مضرجةٌ، فندم على كسر القوس، فشد على إبهامه فقطعها، وأنشأ يقول: ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذن لقطعت خمسي تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي

ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب. وقال عز وجل: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الآية [النساء: 18]. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد، وهو بعيد. واللام في (العذاب): إشارة إلى (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: 156]. [(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَاتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ* وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ)]. أراد بـ (العَالَمِينَ): الناس، أي: أتأتون من بين أولاد آدم- على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة - ذُكرانهم، كأن الإناث قد أعوزنكم. أو أتأتون أنتم - من بين من عداكم من العالمين - الذكران، يعنى أنكم - ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الفرزدق: ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار وقال آخر: ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما فعلت يداه قوله: (ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب)، فعلى هذا: الفاء في {فَأَصْبَحُوا} فصيحةٌ، أي: فعقروها فرأوا العذاب فندموا فأخذهم العذاب. قوله: (ذكرانهم)، نصبٌ مفعول "أتأتون". قوله: (قد أعوزنكم)، أعوزه الشيء: إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه.

يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والعالمون على هذا القول: كل ما ينكح من الحيوان. (مِنْ أَزْواجِكُمْ) يصلح أن يكون تبيينا لـ (مَا خَلَقَ)، وأن يكون للتبعيض، ويراد بـ (مَا خَلَقَ): العضو المباح منهنّ. وفي قراءة ابن مسعود: (ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم)، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. العادي: المتعدّى في ظلمه، المتجاوز فيه الحدّ، ومعناه: أترتكبون هذه المعصية على عظمها؟ ! (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) في جميع المعاصي، فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعالمون على هذا [القول]: كل ما ينكح)، أي: الناكح، وعلى الأول: مراده المنكوح، فيختص بالعقلاء، يقال: فلانٌ ناكحٌ بني فلان، أي: ذات الزوج منهم، ونكحها زوجها: وطئها، والنكاح في الوطء حقيقةٌ، وفي التزوج مجاز، ثم إن العالم إما: اسمٌ لذوي العلم، فهو المعنى بقوله: "من عداكم من العالمين"، أو: لكل ما علم به الخالق، فهو المعني به بهذا التفسير، فاختص الأول بالناس، لقرينة {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ}، والثاني بالحيوان لتلك القرينة، فـ "من"- على الأول- بيانٌ للذكران، وعلى الثاني: بيانٌ للضمير في {أَتَاتُونَ}، وعلى الأول يجوز أن يكون تبعيضاً، ذكر في الأعراف في قوله تعالى: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] أنها تبعيضٌ. قوله: (وأن يكون للتبعيض، ويراد بـ {مَا خَلَقَ}: العضو المباح)، فـ "من": منصوبٌ: بدلٌ من: {مَا خَلَقَ}: المعنى: أتجمعون بين إتيان الذكران، وترك ما أصلح لكم ربكم من العضو المباح في النساء؟ ويؤيده قراءة ابن مسعودٍ. قوله: (أو: بل أنتم قومٌ أحقاء بأن توصفوا بالعدوان)، هذا مبنيٌ على أن {عَادُونَ} مطلقٌ، ولا يقال في أي شيءٍ كان عداوتهم، وعلى الأول مجرى على العموم في جميع ما يصح فيه العدوان من المعاصي.

[(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)]. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن نهينا وتقبيح أمرنا (لَتَكُونَنَّ) من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ حال: من تعنيف به، واحتباس لأملاكه. وكما يكون حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه، وكما كان يفعل أهل مكة بمن يريد المهاجرة. [(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ* رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ* فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. و(مِنَ الْقالِينَ) أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال، كما تقول: فلان من العلماء، فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم. ويجوز أن يريد: من الكاملين في قلاكم. والقلى: البغض الشديد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {مِنَ الْقَالِينَ} أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قالٍ)، الانتصاف: كثيراً ما ورد في القرآن خصوصاً في هذه السورة من التعبير عن الفعل إلى الصفة المشتقة، وجعل الموصوف واحداً من جمع، لأن التعبير بالفعل يفهم وقوعه خاصةً، وأما بالصفة وجعل الموصوف واحداً من جمع، فيفهم أمراً زائداً، وهو جعل ذلك سمةً للموصوف ثابتة التعلق كاللقب المشهور، ولو قلت- مكان قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 87]-: رضوا بأن يتخلفوا، لم يزد على الإخبار بتخلفهم، والمتلو {مَعَ الْخَوَالِفِ} ألحقهم لقباً رديئاً وصيرهم نوعاً رذلاً. تم كلامه. قوله: (ويجوز أن يريد: من الكاملين)، عطفٌ على قوله: "كما تقول: فلانٌ من العلماء"، ومن حيث المعنى اللام: للعهد، وعلى الثاني: للجنس، وأريد: قومٌ مشهورون، لأن الجنس إذا أطلق على بعضه في مقام المدح حمل على الكمال. قال أبو البقاء: تقديره: إني لعملكم

كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد. وفي هذا دليل على عظم المعصية، والمراد: القلى من حيث الدين والتقوى، وقد تقوى همة الدّين في دين الله حتى تقرب كراهته للمعاصي من الكراهة الجبلية. (مِمَّا يَعْمَلُونَ) من عقوبة عملهم وهو الظاهر. ويحتمل أن يريد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لقالٍ من القالين، فـ "من": صفةٌ للخبر متعلقةٌ بمحذوف، واللام متعلقةٌ بالخبر المحذوف، وبهذا تخلص من تقديم الصلة على الموصول، إذ لو جعلت {مِنَ الْقَالِينَ} الخبر لأعملته في {لِعَمَلِكُمْ}. قوله: (من عقوبة عملهم، وهو الظاهر)، وذلك من وجهين، أحدهما: أن استعمال النجاة في الخلاص من العقوبة أظهر من استعماله في العصمة عن الذنوب، وثانيهما: دلالة الدعاء بعد قولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ} إلى آخره، على أنه عليه السلام حصل على يأسٍ عظيم من إيمان القوم فأذن بأن الإنذار لم يجد فيهم فلم يبق إلا حلول العذاب. ولابد من تحرير هذا المقام والنظر فيه بحسب تأدية الألفاظ للمعاني الواقعة، والواقع أن القوم هلكوا بعذابين: التدمير، وإمطار الحجارة، كما قال: "المراد بتدميرهم: الائتفاك"، وأما الأمطار، فعن قتادة: أمر الله تعالى على شذاذ القوم حجارةً، ويدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]، فإذن لابد من بيان إفادة الفاء في قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ} وإفادة "ثم" في {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ}، {دَمَّرْنَا} على {فَنَجَّيْنَاهُ} يلزم أن يكون العذاب ثلاثةً، فلابد من تأويل {فَنَجَّيْنَاهُ} إما بمعنى الاستجابة، أي: استجابة التنجية لم تتخلف عن الدعاء، أو تقدير الإرادة حتى يصح العطف، وفي قول المصنف إشعارٌ بأن قوله: ونجيناه المراد منه: التنجية من العذاب الكائن قبل التدمير والإمطار لقوله: "لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم"، والمعنى على التأويل الصحيح: قال لوطٌ: رب نجني وأهلي مما يعملون، فاستجبنا دعاءه في تنجيته وأهله إلا عجوزاً قدرنا غبورها، ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم.

بالتنجية: العصمة. فإن قلت: فما معنى قوله: (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً)؟ قلت: معناه أنه عصمه وأهله من ذلك إلا العجوز، فإنها كانت غير معصومة منه، لكونها راضية به ومعينة عليه ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي. فإن قلت: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة، فكيف استثنيت الكافرة منهم: قلت الاستثناء إنما وقع من الأهل وفي هذا الاسم لها معهم شركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. فإن قلت: (فِي الْغابِرِينَ) صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم قلت: معناه إلا عجوزا مقدّرا غبورها. ومعنى (الْغابِرِينَ): في العذاب والهلاك: غير الناجين. قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. والمراد بتدميرهم: الائتفاك بهم، وأمّا الإمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وعن ابن زيد: لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطرا من حجارة. وفاعل "ساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ"- ولم يرد بالمنذرين قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذّم محذوف، وهو مطرهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل: إنها هلكت)، قيل: هو بيانٌ لقوله: "أن معنى الغابرين هو: غير الناجين، لأنها هلكت بما وقعت عليها من الحجارة مع قومها الخارجين من تلك البلدة، وهو المراد بكونها في الغابرين، لا أنها كانت في البلدة الموبقة المنقلبة على أهلها. قوله: (الائتفاك بهم)، أفكه عن الشيء يأفكه إفكاً: صرفه، وائتفكت البلاد بأهلها: هلكت. قوله: (شذاذ القوم)، وهم الذين يكونون في القوم وليسوا من قبيلتهم". قوله: (إنما هو للجنس)، قيل: لأن فاعل "ساء" و"بئس" و"نعم" مشروطٌ بأن يكون جنساً أو مضافاً إلى جنس، ليكون المخصوص بالذم تفسيراً له، فيحصل في الكلام إبهامٌ وتفسير، فيتمكن في الذهن فضل تمكن، ويحصل به مزيد مدح أو ذم.

[(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)]. قرئ: (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) بالهمزة وبتخفيفها، وبالجرّ على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة صاد بغير ألف. وفي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} بالهمزة وبتخفيفها)، الحرميان وابن عامر: "أصحاب ليكةً" بلام مفتوحةٍ من غير همزةٍ بعدها ولا ألفٍ قبلها وفتح التاء، والباقون: بالألف واللام مع الهمزة وخفض التاء وتخفيفها، وبالجر على الإضافة: شاذةٌ. قوله: (ومن قرأ بالنصب وزعم أن "ليكة"- بوزن "ليلة"- اسم بلد، فتوهمٌ)، قال في "الكواشي": هذا تحكمٌ ظاهر، ولعله كان مع آدم عليه السلام حين علم آدم الأسماء كلها وضبطها إلى وقت دعواه. وقلت: روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه": الأيكة وليكة: الغيضة. وقال الزجاج: ويجوز- وهو حسنٌ جداً- "ليكة" بغير ألفٍ على الكسر، على أن الأصل: الأيكة، وألقيت الهمزة فقيل: ليكة، وأهل المدينة يفتحون- على ما جاء في "التفسير"- اسم المدينة التي كان أرسل إليهم شعيبٌ عليه السلام. وكان أبو عبيدٍ القاسم بن سلام يختار هذه القراءة، لأن "ليكة" لا تنصرف، وذكر أنه اختارها لموافقة الكتاب مع ما جاء في التفسير: كان المدينة تسمى ليكة، وتسمى الغيضة التي تضم هذا الشجر.

المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو "لان" و "لولى"، على هذه الصورة؛ لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن ليكة اسم لا يعرف. وروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم. فإن قلت: هلا قيل: أخوهم شعيب، كما في سائر المواضع؟ قلت: قالوا: إن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: إن شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. [(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)]. الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرّم الذي هو التطفيف، ولم يذكر الزائد، وكأن تركه عن الأمر والنهي دليل على أنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعله فلا عليه. قرئ: (بالقسطاس) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يكتب أصحاب النحو: "لان" و"لولى"، على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف)، قال الزجاج: الأولى بسكون اللام وإثبات الهمزة أجود اللغات، وبعدها "لولى" بضم اللام وطرح الهمزة، والقياس: إذا تحركت اللام أن يسقط ألف الوصل، لأن ألف الوصل إنا اجتلبت لسكون اللام، وقد قرئ: "عاد اللولى" على هذه اللغة، فعلى هذا "لان" أصله: الآن، فألقيت حركة الهمزة الثانية على لام التعريف حين خففت، وحذفت همزتها فصار: لان، ذكر في كتاب "خط المصحف" أن في مصحف عبد الله وأبي: "لولى" بلا همزة. قوله: (الدوم)، الجوهري: هو شجرة المقل.

مضموماً ومكسورا وهو الميزان وقيل: القرسطون، فإن كان من القسط؛ وهو العدل وجعلت العين مكررة: فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: وهو بالرومية العدل. يقال: بخسته حقه، إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: القرسطون)، قيل: القرسطون: القبان الصغير، وهو لغةٌ رومية. قوله: (فوزنه: فعلاس)، قيل: فيه نظرٌ، والصواب أن وزنه: فعلاع، لأن التكرير يقتضي أن يوزن بما قبله. فإن قلت: فعل ذلك لعدم "فعلاع" كما قيل في بطنان؟ قلت: ذلك لوجود "فعلان"، نحو عثمان وغفران، وأما فعلاسٌ فلم يوجد أصلاً. وأيضاً فقد نتكلم هنا على فرض كونه من القسط وتكرير العين، فعلى هذا يجب التعبير عنه بما تقدمه جزماً. فإن قيل: عدول المصنف إلى أن وزنه "فعلاسٌ" إشارةٌ إلى أنه ليس هذا بالحقيقة تكريراً للعين، فإن العين لا تضاعف وحدها مع تخلل اللام، لما يلزم من الفصل الممتنع عندهم، ولذلك قالوا: لا تزاد الفاء وحدها مطلقاً. قلت: قد صرح بتكرير العين، فكيف يحمل على ذلك، فهو واردٌ عليه من هذا الوجه أيضاً، إلا أن يقال: في عبارته تساهلٌ، على أن الكوفيين يجوزون مثل هذه الزيادة. قوله: (وهو عامٌ في كل حقٍّ ثبت لأحد)، ففي الكلام ترق، ذكر أولاً الأمر بإيفاء الكيل، وأكده بقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} على الطرد والعكس، ثم ترقى إلى الأمر بالعدل في الموازين فإنها أكثر استعمالاً من المكاييل، ثم جاء بها العام، ثم بأعم منه: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فإن بخس الأشياء أعم من أن يكون في المكيال أو الميزان، والعثو أعم من تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، وإليه الإشارة بقوله: "وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع".

أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. يقال: عثي في الأرض وعثى وعاث، وذلك نحو: قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ: (الجُبُلَّة) بوزن الأبلة. و: (الجِبْلة) بوزن الخلقة. ومعناهنّ واحد، أى: ذوى الجبلة، وهو كقولك: والخلق الأوّلين. [(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)]. فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟ قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان: كلاهما مناف للرسالة عندهم: التسحير والبشرية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن لا يغصب عليه مالكه)، قال نور الدين الحكيم: هذا الاستعمال غير موافقٍ لما ذكره في "المفصل" في قوله: غصبت عليه الضيعة. من "الصحاح". الغصب: أخذ الشيء حكماً ظلماً، تقول: غصبته منه، وغصبته عليه. فما في "المفصل" هو الصحيح المعول عليه، والعذر في هذا الاستعمال أنه على تقدير أن لا يغصب مالكه حال كونه متسلطاً عليه شرعاً. قوله: (وقرئ: "الجبلة")، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن بخلافٍ وأبي حصين. قوله: (الأبلة)، الجوهري: الأبلة، بالضم وتشديد اللام: الفدرة من التمر، أي القطعة، والأبلة: اسم مدينةٍ إلى جنب البصرة. قوله: (إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان)، إلى آخره. فإن قلت: هذا بيان خاصية

وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت: "إن" المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظنّ وثاني مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان - أعنى باب "كان" وباب "ظننت"- من جنس باب المبتدأ والخبر، فعل ذلك في البابين فقيل: إن كان زيد لمنطلقا، وإن ظننته لمنطلقا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التركيب، فما بيان الأبلغية واختصاص الواو بموضع دون موضع؟ قلت: التركيب بدون الواو في قصة ثمود يفيد التوكيد والتقرير، والقطع بأنه بشرٌ مثلهم، أي: لا ينبغي أن نؤمن برسالاتك إلا بشيء تمتاز به عنا، ولهذا قالوا: {فَاتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، والقوم أنصفوا في الطلب، ولهذا قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ}، وأما قوم شعيبٍ عليه السلام فإنهم أثبتوا له شيئين: كونه مسحراً، وكونه بشراً مثلهم، كل واحدٍ منهما مستقلٌ في المنع من كونه رسولاً، يعني: نحن وأنت في عدم صلاحية الرسالة لكوننا بشراً سواءٌ، ولك المزيد علينا في كونك مسحراً دوننا، ثم أكدوا ذلك بقولهم: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}، والظن بمعنى اليقين، ولذلك أدخل "إن" واللام. ولما كان هذا الرد أبلغ من الأول ما طلبوا البرهان كما طلبوا، حيث قالوا: {فَاتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، بل قطعوا بما يدل على اليأس من إيمانهم بقولهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} استهزاءً كما قطع قريشٌ بقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]، وإلى هذا المعنى رمز بقوله: "ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم"، ثم بين الله تعالى استمرارهم على ما كانوا عليه بقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ} أي: استمروا على ذلك وكذبوه تكذيباً غب تكذيب، هذا معنى الفاء والتكرير في {فَكَذَّبُوهُ}، واتصل بذلك عذاب يوم الظلة. انظر أيها المتأمل في إعجاز التنزيل ومواقع هذه الحروف الثلاثة، أعين: الواو والفاءين، لئلا تغفل عن موقع كل حرف، فتكون أهلاً لأن تخوض فيه، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كان لنهتدي لولا أن هدانا الله.

[(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)]. قرئ: (كِسَفًا) بالسكون والحركة، وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وسدر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة. وكسفه: قطعه. والسماء: السحاب، أو المظلة. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم، كالجحود والتكذيب. ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبىّ، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء. (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) [الشعراء: 188]. رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) يريد: أنّ الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة. [(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ومَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ)]. (فَأَخَذَهُمْ) الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {كِسَفًا} بالسكون والحركة)، بالحركة: حفصٌ، والباقون: بالسكون. قوله: ({فَأَخَذَهُمْ} الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة)، يعني: الظلة في عذاب يوم الظلة عين السماء في قوله: {كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} فالسماء إن أريد بها السحاب فأخذهم الله تعالى بنحو ما اقترحوا وإن أريد به المظلة فقد خالف بهم. وقلت: المخالفة أنسب على أن يفسر شعيبٍ عليه السلام على غير ما فسره المصنف بأن يجعل من باب الأسلوب الحكيم، فإنهم حين طلبوا إسقاط الكسف من السماء

وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى: أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد، فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلّ ولا ماء ولا سرب، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروي: أنّ شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عناداً وجحوداً، قال: ربي أعلم بعملكم وبما تستحقونه من العذاب، فإنه فوق ما تطلبونه، ولذلك عاقبهم بحبس الريح، وتسليط الوعد، ثم أمطرت عليهم ناراً فاحترقوا كما قال. قوله: (وسلط عليهم الومد)، الجوهري: الومد والومدة بالتحريك: شدة حر الليل. قوله: (فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام)، قالوا: الصواب: برجفة الأرض، لقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 91]، والصيحة كانت لقوم صالح عليه السلام، لقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون: 41]، وفيه نظر، لما ورد في سورة الأعراف في حق قوم صالح وشعيب: الرجفة، وفي سورة هود في حقهما: الصيحة. قوله: (كيف كرر في هذه السورة)، يعني قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وفي آخرها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. قوله: (كل واحدةٍ منها تدلي بحق)، الأساس: ومن المجاز: أدلى بحقه وحجته: أحضرها، وأدلى بمال فلانٍ إلى الحكام: رفعه.

به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد في النسيان؟ ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يفتق ذهناً)، من فتق الفجر: انشقاقه، لعله أخذه من قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]، أو من الفتق الذي هو بمعنى الافتضاض تشبيهاً للنكاح بالأبكار. ذكر من فوائد التكرير وعدها خصالاً ثلاثاً، أولاها: أن الفائدة راجعةٌ إلى القصص وأن كل واحدةٍ منها كافيةٌ في الاعتبار مزجرةٌ للزاجرين. وثانيتها: الدلالة على أن التكرير في نفسه مفيدٌ ومؤثرٌ في نفسه وبه تحصل الملكات. وثالثتها: أن الفائدة راجعةٌ إلى المخاطبين ومؤذنةٌ بأنهم من المصممين الذين لا تنجع فيهم المواعظ مرةً أو مرتين، وهذا الوجه هو المقصود في الإيراد في هذه السورة، لأن السورة من مفتتحها إلى مختتمها مشحونةٌ بذكر المعاندين من قوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر القصص لوعيدهم وتسليةً لقلب حبيبة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا ينافي اعتبار الفائدتين الأخيرتين، ومن ثم وصل قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} أي: حفظكه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى حتى اتصل بقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} بياناً لعنادهم، وتقريراً بأن كلاً من القصص مستقلة. قال القاضي: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تقريرٌ لحقيقة تلك القصص، وتنبيهٌ على إعجاز القرآن ونبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى.

عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ. [(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ* وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)]. (وَإِنَّهُ): وإن هذا التنزيل، يعنى: ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل: المنزل. والباء في (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ) و (نَزَّلَ به الرُّوحَ) على القراءتين للتعدية. ومعنى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ): جعل الله الروح نازلا به (عَلى قَلْبِكَ) أي: حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى: 6]. (بِلِسانٍ) إما أنّ يتعلق بـ (المُنذِرِينَ)، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم السلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على القراءتين للتعدية)، ابن عامرٍ وأبو بكرٍ وحمزة والكسائي: "نزل به" بتشديد الزاي "الروح الأمين" بنصبهما، والباقون: بتخفيف الزاي والرفع للاسمين. قوله: (ومعنى "نزل به الروح": جعل الله تعالى الروح نازلاً به {عَلَى قَلْبِكَ})، هذا بيان اتصال {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} بقوله: {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكيفية التنزيل من رب العالمين، يعني: كان ذلك التنزيل بواسطة ملكٍ مقربٍ مطاع عند ذي العرش مكين، وفيه رمزٌ على قوله بعد ذلك: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، ثم في تعلق {بِلِسَانٍ} بقوله: {نَزَلَ} تتميمٌ لهذا المعنى، ومن ثم قال: "وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية ... تنزيلٌ له على قلبك"، وفي اختلاف مجيء {لِسَانَ} من التنكير في التنزيل، والتعريف في التفسير، حيث قال: "المعنى: نزله باللسان العربي" الإشارة إلى أن الأصل التعريف فيه، وأنه للعهد، وأوثر التنكير في التنزيل، ليؤذن بالتعظيم والتفخيم.

وإما أن يتعلق بـ (نَزَلَ)، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي؛ لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعدّة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أو لا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني الكلام يتلقاها بقلبه ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهرا بمعرفتها، كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها، فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربى مبين. (وَإِنَّهُ): وإن القرآن، يعني: ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها. وبه يحتج لأبي حنيفة رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: إن معانيه فيها)، وفيه إشعارٌ بأن الوجه هو الأول، لأن المقصود في الإيراد إثبات النبوة، وتقريع المكذبين على أن القرآن المجيد نازلٌ من عند الله نزل به الروح الأمين، وأنه ليس من قبيل إلقاء الجن: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، وفي قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} إيماءٌ على بيان $$$$، وأنه بنفسه دليلٌ بينٌ على حقيقته، ومع ذلك أنه مذكورٌ في كتب الأولين، ومبشرٌ على لسان الأقدمين، ويؤيده قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} والضمير في {يَعْلَمَهُ} راجعٌ إلى القرآن، ولذلك قال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ} [القصص: 53]. ولقد أنصف المصنف من نفسه في الفروع في هذا المقام وفي كثيرٍ مما يحاكيه، ليته ما بالغ في الأصول، تجاوز الله تعالى عنه. وقال صاحب "التقريب": وفي الاحتجاج نظرٌ، لأنه على حذف المضاف، وهو المعاني، لا على تسميتها قرآناً. ولناصر القول الثاني أن يقول: إن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو هذا بعينه، كرر لإناطة معنى آخر به، وهو بمعنى اسم الإشارة، والمشار إليه ما سبق من القصص والآيات، يدل عليه قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ}، يعني: ما نزل من هذه القصص والآيات، فيكون المعنى: إن هذ المذكور منزلٌ عليك بلسانٍ عربيٍّ مبين ومعانيه

في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية، حيث قيل: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)؛ لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في (أَنْ يَعْلَمَهُ) [الشعراء: 197]، وليس بواضح. [(أَوَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)]. وقرئ: (يَكُنْ) بالتذكير. و (آيَةً) بالنصب على أنها خبره، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) هو الاسم. وقرئ: (تكن) بالتأنيث، وجعلت (آيَةً) اسماء، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرّج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك، فقيل: في (يَكُنْ) ضمير القصة، و (آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ) جملة واقعة موقع الخبر. ويجوز على هذا أن يكون (لَهُمْ آيَةً) هي جملة الشأن، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلا عن (آيةٌ). ويجوز مع نصب "الآية" تأنيث (تَكُنْ)، كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام: 23] ومنه بيت لبيد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منزلٌ في سائر الكتب، ولذلك يصدقه علماء بني إسرائيل، حيث وجدوه موافقاً لما في كتبهم. وعلى هذا سائر المعاني من إثبات التوحيد، وتأسيس الأحكام، والحث على مكارم الأخلاق. وأما الاحتجاج به على جواز القراءة بالفارسية فمشكلٌ. والله تعالى أعلم. قوله: (وقرئ: {يَكُن} بالتذكير)، قرأ ابن عامرٍ بالتاء الفوقانية، و"آيةٌ" بالرفع، والباقون: بالياء والنصب. قوله: (وقد خرج لها وجهٌ)، في "المطلع): قال أبو علي الفارسي: إذا اجتمع في باب كان معرفةٌ ونكرة، فالذي يجعل الاسم منهما المعرفة كما في المبتدأ والخبر، وقد يجيء على قلبه في الشعر إذا اضطر إليه، ولا يجوز في التنزيل، ووجهه أن في {يَكُن} ضمير القصة، و"آيةٌ": خبر مبتدأٍ متقدم عليه، فالجملة في موضع نصب، كما تقول: كان زيدٌ منطلقٌ، على معنى: كان الأمر هذا. قوله: (ويجوز مع نصب "الآية" تأنيث "تكن")، لأن المراد بالعلم الآية، كقولهم: من كانت أمك، قال: وإنما أنث لوقوع الخبر مؤنثاً.

فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت أقدامها وقرئ: (تعلمه) بالتاء. عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عبد الله بن سلام وغيره. قال الله تعالى: (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص: 53]. فإن قلت: كيف خط في المصحف (عُلَمَؤا) بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو، وعلى هذه اللغة كتبت الصلوة والزكاة والربوا. [(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ* كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ* أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ* أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ)]. الأعجم: الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة واستعجام. والأعجمي مثله، إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد. وقرأ الحسن: (الأعجميين). ولما كان من يتكلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمضى وقدمها)، البيت، يصف الحمار والأتان. وعردت: تأخرت وجبنت، والتعريد: التأخير والجبن، وقيل: الإقدام بمعنى التقدمة، ولذلك أنث فعلها، وقيل: لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه. والاستشهاد في تأنيث الفعل لتأنيث الخبر، وإن كان الاسم، أي: إقدامها، مذكراً، والضمير في إقدامها للأتان. يقول: مضى العير نحو الماء وقدم الأتان لئلا يتأخر، وكانت إقدام الأتان عادةً من العير إذا هي تأخرت عن الجبن. قوله: (وقرأ الحسن: الأعجميين)، قال: ابن جني: هذه القراءة عذرٌ في القراءة المجتمع عليها، وتفسيرٌ للغرض فيها، وذلك أن ما كان من الصفات على أفعل وأنثاه فعلاء لا يجمع بالواو والنون عجماء، ولكن سببه أنه يريد الأعجميين، ثم حذف ياء النسب، وجعل جمعهما

بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه، قالوا له: أعجم وأعجمي، شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها: أعجم، قال حميد: ولا عربيّا شاقه صوت أعجما (سَلَكْناهُ): أدخلناه ومكناه. والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالواو والنون دليلاً عليها، وأمارةً لإرادتها كما جعلت صحة الواو في عواور أمارةً لإرادة الياء في عواوير. قوله: (ولا عربياً شاقه صوت أعجما)، قبله: وما هاج هذا الشوق إلا حمامةٌ ... دعت ساق حرٍّ ترحةً وترنما تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع ... لنائحةٍ في نوحها متندما عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما يصف صوت قمري: ساق حر: ذكر القماري. متندماً: لائماً. فغرفاه: أي فتحه، ويقال لكل صوتٍ من البهائم والطيور: أعجم. قوله: (والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرن)، بيانٌ لنظم قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} بالمعاني السابقة، فقوله: "إنا أنزلنا هذا القرآن على رجلٍ عربي بلسان عربيٍّ مبين" إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ}. وقوله: "وإنه معجزٌ لا يعارض بكلام مثله" إشارةٌ إلى قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. وقوله: "وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله" إشارةٌ إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. وقوله: "ولو نزلناه على بعض الأعاجم" إلى آخره، إشارةٌ إلى الآية الأخيرة، هذا، وإن ظاهر قوله:

بلسان عربي مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصحّ بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هو من تلفيق محمد وافترائه. (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ) الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فضلا أن يقدر على نظم مثله (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) هكذا فصيحا معجزا متحدّى به، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا، ثم قال: (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي: مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقرّرناه فيها، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره، كما قال: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام: 7] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "مثل ذلك السلك سلكناه في قلوبهم"، وعلى قلوبهم، وقوله: "لا يؤمنون به" موضحٌ لقوله: {نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} مشعرٌ بأن المشار إليه هو قوله: {نَسْلُكُهُ}، حيث جعله صفة مصدرٍ محذوف، وجعل {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بياناً له، ولو جعل {كَذَلِكَ} متبدأ، و {نَسْلُكُهُ} الخبر ليكون المشار إليه ما تضمن معنى الآيات السابقة من مفتتح السورة، وهو ما ذكره: "وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً"، إلى قوله: "لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم" إلى آخره. وكان قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} استئنافاً لبيان موجب ذلك السلك على مذهب أهل السنة، لجاء النظم غير متعسف. قال القاضي في سورة الحجر: وفيه دليلٌ على انه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم. قوله: (وتحلية المنزل)، يقال: حليت الرجل تحليةً: وصفت حليته.

فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشدّ التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون: تمكن الشحّ فيه، لأنّ الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه: أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه؛ وهو قوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). فإن قلت: ما موقع (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) من قوله: (سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فأتبع ما يقرّر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا، أى: سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن: (فتأتِيهم) بالتاء يعني: الساعة. و (بَغَتةً) بالتحريك. وفي حرف أبىّ: (ويروه بغتة). فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: (فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً) (فَيَقُولُوا)؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشدّ منها؛ وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه: إن أسات مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أنّ مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ )، يعني: إذا رجع الضمير من قوله: {نَسْلُكُهُ} إلى المنزل، كان معناه ما قال: "وعلى مثل هذه الحال، وهذه الصفة وضعناه فيها"، فكيف يجوز إسناده إلى الله تعالى؟ وأجاب: أنه أريد بالإسناد إلى الله الدلالة على تمكن المنزل في قلوبهم حال كونه مكذباً به على سبيل الكناية، فقوله: "مكذباً": حالٌ مؤكدةٌ من الضمير في "تمكنه"، كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الأحقاف: 7]، وقيل: حالٌ مقدرةٌ، وفي "المطلع": الضمير في سلكناه للشرك والتكذيب، قال ابن عباس والحسن وغيرهما: سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب مشركي مكة.

شدّة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشدّ من مقتهم: وهو مقت الله، وترى "ثمّ" يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها؟ ! ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وترى)، أي: وأنت ترى لفظة "ثم"، يريد أن "ثم" إذا وقعت فيما لم يصح فيه معنى ما وضعت له من التراخي في الزمان، حملت على التراخي في الرتبة، ففعل بالفاءين هاهنا، أعني في قوله: {فَيَاتِيَهُمْ} وقوله: {فَيَقُولُوا} حيث لم يستقما أن يجريا على موضوعهما من التعقيب ما فعل بـ "ثم" في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17]. قوله: (تبكيتٌ لهم بإنكارٍ وتهكم)، والتبكيت من بكتة بالحجة، أي: غلبه. البكت: القطع، و"من" في "من النظرة": بيان "ما" في "ما هو فيه"، ومعنى التبكيت: أنه لما قيل: {فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} عقب ذلك بقوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إسكاتاً لهم مع إنكارٍ وتهكم، أي: كيف يستعجلون ما حاله ما ذكر، وهي أنه ما يأتيهم بغتةً، ويسألون عند ذلك الإمهال فلا يمهلون، والعاقل لا يستعجل ما فيه دماره. وهذا معنى التبكيت، لأنه كلامٌ جارٍ على العرف والعادة، والعاقل لا يدفع الكلام المنصف ولهذا قال: "من جنس ما هو [فيه] اليوم النظرة". قوله: (معرض لعذاب)، أي: منصوبٌ له. الجوهري: وعرضت فلاناً لكذا، فتعرض هو له. قوله: (يوبخون به عند استنظارهم)، أي: يوبخون يوم القيامة بقوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} حين يطلبون الإمهال بقولهم: هل نحن منظرون؟ و {يَسْتَعْجِلُونَ} على هذا: مضارعٌ وقع موقع الماضي على حكاية الحال الماضية في الدنيا، وكان من حق الظاهر: أفبعذابنا استعجلتم؟

يومئذ، و (يَسْتَعْجِلُونَ) على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر: متصل بما بعده، وذلك أنّ استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لا حق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال عز وعلا: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل؟ ! ثم قال: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف، وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. وقرئ: (يُمْتَعُون) بالتخفيف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجهٌ آخر: متصلٌ بما بعده)، يعني بقوله: {أَفَرَءَيْتَ}، ويتم الكلام عند قوله: {نَحْنُ مُنْظَرُونَ} ثم يبتدئ من قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا} على تأويل: أتستهزئون فتستعجلون بعذابنا؟ فالفاء في {أَفَبِعَذَابِنَا} عطفٌ على هذا المقدر، وفي {أَفَرَءَيْتَ} للتسبيب، أي: استهزاؤهم ذلك سببٌ لأن يتعجب منهم ويقال لكل سامع: أرأيت إن متعناهم سنين، فإذن الهمزة {أَفَرَءَيْتَ}: مقحمةٌ لمزيد الإنكار والتعجب وعلى الأول الفاء في {أَفَرَءَيْتَ}: عاطفةٌ، عطفت {رأيت} على مقدر، أي: أ×بر فيتعجب؟ والهمزة غير مقحمةٍ فتكون الجملة مستقلة. قوله: (ثم قال: هب أن الأمر كما يعتقدون)، هو معنى قال تعالى: {أَفَرَءَيْتَ} أي: أخبرني {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}. قوله: (لقد وعظت فأبلغت)، يعني: هذه الآية من الجوامع في باب الوعظ. روينا عن مسلم، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط، فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة"، الحديث.

[(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)]. (مُنْذِرُونَ) رسل ينذرونهم (ذِكْرى) منصوبة بمعنى تذكرة، إمّا لأن "أنذَرَ"، و "ذكَّر" متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإمّا لأنها حال من الضمير في (مُنذِرُونَ)، أي: ينذرونهم ذوي تذكرة. وإمّا لأنها مفعول له، على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدإ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى، لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر: وهو أن تكون (ذِكْرَى) متعلقة بـ (أَهْلَكْنَا) مفعولا له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم، (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك قوما غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعوّل. فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد (إلَّا) ولم تعزل عنها في قوله: (وَمَا أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر: 4]؟ قلت: الأصل عزل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لإمعانهم في التذكرة)، أي: مبالغتهم، كقولك: رجلٌ عدلٌ، ويقال: أمعن الفرس: تباعد في عدوه، وأمعن في السير: أبعد وأسرع. قوله: (تذكرةً وعبرةً لغيرهم)، الجوهري: العبرة: الاسم من الاعتبار. وعن بعضهم: العبرة: الحالة التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى مرتبة العلم، ولهذا سمي القياس عبرة، ومنه العبارة والعبرة. قوله: (وهذا الوجه عليه المعول)، أي: الاعتماد، لأنه تعالى لما بين أن أولئك المشركين المستهزئين لا يؤمنون بالكتاب ولا بالرسول حتى يروا العذاب الأليم حين لا تنفعهم الآيات، أتى بهذه الآية بياناً لاستحقاقهم العذاب والاستئصال، وأن يجعلوا نكالاً وعبرة لغيرهم كما جرت سنة الله تعالى في الأمم السالفة والقرون الخالية.

الواو؛ لأن الجملة صفة لـ (قَرْيَةٍ)، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله: (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف: 22]. [(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)]. كانوا يقولون: إنّ محمدا كاهن، وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكذبوا بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء. وقرأ الحسن: (الشياطون)، ووجهه: أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين. وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة؛ وهي الهلاك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف)، يعني: ليس افتقار القرية في إهلاكها إلى بعثة الرسول لإلزام الحجة، كافتقارها إلى سبق التقدير، وضرب الأجل، وكم من قريةٍ أهلكت ولم يصل إليها نذيرٌ، نعم، قد يصل إليها إنذارهم. وقد اعترض صاحب "الفرائد" ومنع صحة دخول الواو بين الصفة والموصوف، وجوابه ما سبق في "الكهف". قوله: (أن تشتقه من الشيطوطة)، عن بعضهم، أو من شاط، أي: احترق من نار الغضب، وبعضهم جعل نونه أصليةً، قال أمية بن أبي الصلت في وصف سليمان: أيما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه: قيده

كما قيل له الباطل. وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته: (الشياطون)، ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه! - يريد: محمد ابن السميقع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (النون التي على هجاءين)، وفي الحاشية: الكوفيون يسمون جمع السلامة الجمع على هجاءين، أي: ظن أن النون هي النون التي تجيء بعد واو الجمع ويائه. وقال الزجاج: وقرأ الحسن: "وما تنزلت به الشياطون"، وهو غلطٌ عند النحويين، ومخالفٌ للمصحف والقراء. وقال ابن جني بعد إطنابه في تصحيح هذه القراءة: وعلى كل حال، فـ "الشياطون" غلط. وقلت: والعجب من المصنف كيف قام على ساق جده في التمحل لهذه القراءة التي ليست تثبت لا روايةً ولا دراية، ويقول: "مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه"، ويتقاعد إذا سمع من الأئمة المشاهير وأعلام المسلمين أدنى خلاف، كابن عامرٍ وحمزة، لاسيما في هذه السورة في "ليكة" عن الحرميين وابن عامر. قوله: (فقال النضر بن شميل)، قال ابن الأنباري: هو أخذ العلم عن الخليل وعن فصحاء العرب، وأخذ عنه أبو عبيدٍ القاسم بن سلام، وصنف كتباً. قوله: (بقول العجاج)، هو: عجاج بن رؤبة الراجز السعدي من بني سعد بن تميم.

[(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)]. قد علم أنّ ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرّك منه؛ لازدياد الإخلاص والتقوى. وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [الحاقة: 44]، (فَإن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ) [يونس: 94]. فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه. وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روي عنه عليه السلام: أنه لما دخل مكة قال: "كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأوّل ما أضعه ربا العباس". والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كل رباً في الجاهلية موضوع)، روينا عن الترمذي وابن مجاه والدرامي، عن عمرو بن الأحوص، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "ألا أن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون". وعن ابن ماجه والدرامي عن عمر بن الخطاب: أن آخر ما نزل آية الربا. وكذا عن البخاري عن ابن عباس. قوله: (تحت قدمي)، أي: مهدرٌ. يقول الموادع لصاحبه: اجعل ما سلف تحت قدميك: طأه واقمعه. قوله: (أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب)، الفرق أن "أفعل" على الأول على بابه، وعلى هذا لمجرد الزيادة، ولذلك قال في الأول: "الأقرب فالأقرب"، وفي الثاني: "القريب للقريب".

الإنذار والتخويف. وروي: أنه صعد الصفا لما نزلت، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا، وقال: "يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباس عمّ النبي يا صفية عمة رسول الله، إني لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالى ما شئتم". وروي: أنه جمع بني عبد المطلب- وهم يومئذ أربعون رجلا: الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس- على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال: "يا بني عبد المطلب، لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدّقى؟ " قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". وروي: أنه قال: "يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي: أنه صعد الصفا)، الحديث مرويٌ عن الأئمة مع اختلافٍ كثير، وأما حديث جمع بني عبد المطلب قد ذكره أحمد بن حنبلٍ في "مسنده" مع اختلافٍ أيضاً. وأما ذكر عائشة وحفصة في الرواية الأخيرة فيتوهم أنهما كانتا زوجين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ، وليس كذلك، فإنه صلوات الله وسلامه عليه تزوج بهما بعد قدومه المدينة. قوله: (يا عباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -)، ترقى في القريب من العم وإلى العمة في الأشخاص، كما ترقى من بني عبد المطلب إلى بني منافٍ في القبيلة. قوله: (ويشرب العس)، الجوهري: العس: القدح العظيم، والرفد أكبر منه. والقصب: قدحٌ صغير. و"على رجل": متعلقٌ بـ "جمع".

فإني لا أغني عنكم شيئا"، ثم قال: "يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشترين أنفسكنّ من النار فإني لا أغني عنكنّ شيئا". [(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)]. الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب. ومنه قول بعضهم: وأنت الشّهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعه أجدلا ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإني لا أغني عنكم)، أي: لا أدفع، قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. قوله: (مثلاً)، أي: صارت الاستعارة التمثيلية لكثرة استعمالها مثلاً في التواضع، وبلغ مبلغ الأمثال السائرة. قوله: (وأنت الشهير)، أي: المشهور بالتواضع. الأجدل: الصقر، لجدالته، أي: قوته. قوله: (المتبعون للرسول هم المؤمنون)، توجيه السؤال أن قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ظاهراً غير صالح لأن يقع بياناً لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ}، لأن {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} لا إبهام فيه، ولا يحتمل غير المؤمنين.

هم المتبعون للرسول، فما قوله: (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين؛ لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدّق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إمّا أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعني: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، فإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره. [(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)]. (وَتَوَكَّلْ) على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب من وجهين: أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد، بل شارفوا لأن يؤمنوا، كالمؤلفة مجازاً باعتبار ما يؤول، وكان من اتبعك شائعاً فيمن آمن حقيقةً، ومن آمن مجازاً، فبين بقوله: {مِنَ} أن المراد بهم المشارفون، أي: تواضع لهؤلاء استمالةً وتأليفاً. وثانيهما: أن يراد بالمؤمنين: الذين قالوا: آمنا، وهم صنفان: صنفٌ صدق واتبع، وصنفٌ ما وجد منهم إلا التصديق، فقيل: من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا، أي: تواضع لهم محبةً ومودةً، فـ "من"- على الأول: بيانٌ، وعلى الثاني: تبعيضٌ، وموقعه موقع البدل {لِمَنِ اتَّبَعَكَ}، والتقدير: واخفض جناحك لبعض المؤمنين، وهم الذين اتبعوك، ومن ثم فصلهم بقوله: "فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، فإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم". والذي هو أجرى على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر، وأن الأصل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ} منهم، فعدل إلى "المؤمنين"، ليعم وليؤذن أن صفة الإيمان هي التي تستحق أن يكرم صاحبها، ويتواضع لأجلها من اتصف بها، سواءٌ كان من عشيرتك أو من غيرهم.

والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره)، هذا موافقٌ لكلام الشيخ العارف الأنصاري: التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه، والتعويل على وكالته. لكن قوله الآخر: "المتوكل: من إن دهمه أمرٌ لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصيةٌ لله" من أحط مراتب التوكل وأدناها. وقال العارف: التوكل على ثلاث درجات، كلها تسير مسير العامة، الأولى: التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى. والثانية: التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهاداً في تصحيح التوكل، وقمع تشرف النفس، وتفرغاً لحفظ الواجبات. والثالثة: التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل، وهو أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء ملكة عزةٍ لا يشاركه فيها مشار: ، فيكل شركته إليه، فإن من ضرورة العبودية أن يعلم العبد أن الحق هو مالك الأشياء وحده. وعنى بقوله: "مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل": أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمراً مهملاً، بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها، وإن اختلف منها شيءٌ في العقول، أو تشوش في المحسوس، أو اضطراب في المعهود المدبر، وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمتوكل: من أراح نفسه من كد النظر، ومطالعة السبب، سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين، وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع، ومتى طالع بتوكله عوضاً كان توكله مدخولاً، وقصده معلولاً، وإذا خلص من رق هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله عز وجل، كفاه الله تعالى كل مهم. وإلى المرتبة الأولى الإشارة بترتب الأمر بالتوكل على وصف الرحيم، فإن من رحمته تعالى جعله صلوات الله وسلامه عليه سبباً لإرشاد الخلق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً}

المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: (فتوكل)، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على (فَقُلْ) [الشعراء: 216]، أو (فَلا تَدْعُ) [الشعراء: 213]. (عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ): على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى: أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون؛ لحرصه عليهم وعلى ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [الأنبياء: 107]، وإلى المرتبة الثانية الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}، أي: حين تتفرغ لأداء حفظ الواجبات، لأن في حفظ الواجبات تصحيح أمر التوكل، وفي الإخلاص فيها، بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، المومى إليك بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، فمع تشرف النفس، وإلى الرتبة الثالثة الإشارة بقوله تعالى: {الْعَزِيزِ}، كما قال العارف: "أن يعلم أن ملكة الحق تعالى للأشياء ملكة عزة، لا يشاركه فيها مشاركٌ". ولعل السر في تقديم هذا الاسم على الوصفين الأخيرين اقتضاء مقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليه، لأن قوله: {وَتَوَكَّلْ} عطفٌ على قوله: {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}، كأنه قيل: فإن لم ينتفعوا بإنذارك ولم ينجع فيهم وعظك تبرأ منهم، وكل أمرك وأمرهم إلى العزيز الغالب القاهر، واشتغل بدعوة من يقبل دعوتك، وبلغ إليهم ما أنزل إليك من الرحمة من ربك، واخفض جناحك لهم رحمةً، لأنك رحمةٌ مهداةٌ إلى الخلق، وتفرغ لعبادة ربك بالليل والنهار. قوله: (حين نسخ فرض قيام الليل)، أي: بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أي: أسقط عنكم.

يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بـ (السَّاجِدِينَ): المصلُّون. وقيل: معناه: يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمّهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا تَحضُرُني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله (الْعَلِيمُ) بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلي خلفه، من قوله عليه السلام: «أتموا الركوع والسجود، فو الله إني لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم". وقرئ: (ويُقَلِّبُك). [(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)]. (كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ): هم الكهنة والمتنبئة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من دندنتهم)، في "الفائق": الدندنة: كلامٌ أرفع من الهينمة تردده في صدرك تسمع نغمته ولا يفهم. قوله: (قوله: إني لأراكم خلف ظهري)، روينا في "صحيح البخاري" عن أنسٍ، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري". وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "استووا، استووا، فو الذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي".

كشقّ، وسطيح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كشق وسطيح)، وهما كاهنان، ومسيلمة وطليحة متنبيان. فأما شقٌ فهو ابن صعب بن رهم بن نذير بن بشير. وقصته- على ما رواه الشيخ أبو الوفاء المهدي بن محمدٍ البغدادي في كتاب "مقامات العلماء": أن ربيعة بن نصر اللخمي، من ملوك اليمن، رأى رؤيا هالته، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا منجماً من أهل مملكته إلا جمعهم إليه، ثم قال لهم: أخبروني بتأويل رؤيا رأيته، فقالوا: اقصص علينا نخبرك، فقال: لم يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها، فقال رجلٌ من أولئك القوم: إن كان الملك يريد هذا فليبعث على سطيح وشق، فأحضر الملك الشق، فقال الملك: أخبرني رؤياي: فإنك إن أصبتها تأويلها. قال: رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهامة فأكلت منها كل ذاتٍ جمجمة. قال له: ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق، إن هذا لنا لغائظٌ موجع، فمتى هو كائنٌ، أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيمٌ ذو شأن، ويذيقهم اشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلامٌ ليس بدنيٍّ ولا بذيء، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم ملكه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسولٍ مرسل يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل؟ قال: يومٌ تجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعواتٍ يسمعها الأحياء والأموات، قال: أحقٌ ما تقول يا شق؟ قال: ورب السماء والأرض وما بينهما إن ما أنبأتك به لحقٌ، وكان قد قدم على الملك سطيحٌ قبله فأخبره بنحو ما أخبره شقٌ لا يختلف إلا في ألفاظٍ، منها: قوله: بل ينقطع، قال: ومن يقطع؟ قال: نبيٌ زكيٌ يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: ومن هذا النبي؟ قال: رجلٌ من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر؟ يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يومٌ يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون، قال: أحقٌ ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما نبأتك لحق، فلما فرغ الملك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من مسألتهما وقع في نفسه أن الذي قالا له كائنٌ من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق فسكنوا الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نضرٍ كان النعمان بن المنذر. وأما سطيحٌ فهو ابن ربيعة بن عدي بن مسعود بن مازن، وحديثه على ما رواه ابن الجوزي في كتاب "الوفا"، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفةً، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فأصبح كسرى فزعاً مما رأى، فتصبر تشجعاً، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره، وجمعهم إليه، فقال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا، فبيناهم كذل ك إذ ورد خبر خمود النار، فازداد غماً إلى غمه، فقال: الموبذان: وأنا، أصلح الله تعالى الملك، قد رأيت في هذه الليلة، وقص عليه الرؤيا، فقال: ماذا يكون هذا يا موبذان؟ قال: حادثٌ يكون من عند العرب، فكتب كسرى إلى النعمان: أما بعد، فوجه إلى رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله، فوجه إليه عبد المسيح الغساني، فلما قدم عليه قال: هل عندك علمٌ بما أريد أن أسالك عنه؟ فقال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علمٌ أخبرته، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارف الشام يقال له: سطيح، قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وائتني بجوابه، فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر جواباً، فأنشد أبياتاً، فلما سمع سطيحٌ شعره رفع رأسه، وقال: عبد المسيح على جملٍ مشيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وذكرها بعينها ثم قال: يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، وغاصت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوكٌ وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ثم قضى سطيحٌ مكانه، فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال:

ومسيلمة، وطليحة (يُلْقُونَ السَّمْعَ): هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أي: المسموع من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى أن يملك منا أربعة عشر قد كانت أمورٌ. فملك منهم عشرةٌ أربع سنين، وملك باقون إلى خلافه عثمان رضي الله تعالى عنه. وأما طليحة فقد روى محيي السنة: هو طليحة بن خويلد بن الوليد، وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأول من قتل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الردة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه فهزمهم بعد قتال شديد، وأفلت طليحة، فمر على وجهه هارباً نحو الشام. ثم إنه أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه. وأما مسيلمة فقد روى أيضاً محيي السنة أنه قال: اسمه ثمامة بن قيس، وكان قد تنبأ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر سنة عشر، وزعم أنه اشترك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة، وكتب: من مسيلمة رسول الله إلى محمدٍ رسول الله، أما بعد: إن الأرض نصفها لي، ونصفها لك، فأجاب صلوات الله وسلامه عليه: "من محمدٍ رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين". فبعث أبو بكرٍ رضي الله عنه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى مسيلمة في جيشٍ كثير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشي، وكان وحشيٌ يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام، والله تعالى أعلم.

الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث: "الكلمة يخطفها الجنىّ فيقرّها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة". والقرّ: الصبّ. فإن قلت: كيف دخل حرف الجرّ على "مَن" المتضمنة لمعنى الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف، وإنما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكلمة يحفظها- ويروى: يخطفها- الجني)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: سأل ناسٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان، فقال لهم: "ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله، ف إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة. النهاية: الخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة، ومنه حديث الجن: يخطفون السمع، أي: يسترقونه ويستلبونه. والقر: ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه، تقول: قررته فيه أقره قراً، وقر الدجاجة: صوتها إذا قطعته. وفي حديث: "فيأتي بها إلى الكاهن فيقرها في أذنه كما تقر القارورة، إذا أفرغ فيها". وهذا المعنى هو الذي عناه المصنف بقوله: "والقر: الصب".

معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من "هل"، والأصل: أهل. قال: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟ فإذا أدخلت حرف الجرّ على "مَن" فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ في ضميرك، كأنك تقول: أعلى من تنزّل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت. فإن قلت: (يُلْقُونَ) ما محله؟ قلت: يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أي: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجرّ صفة لـ (كُلِّ أَفَّاكٍ)، لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلا قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل: (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) بعد ما قضي عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟ )، أوله: سائل فوارس يربوع بشدتنا يربوعٌ: أبو حيٍّ من تميم، بشدتنا، بفتح الشين: حملتنا وصدمتنا. وقد شد عليه في الحرب يشد شداً، ويروى بكسرها، أي: قوتنا، وسفح الجبل: أسفله، والقاع: المستوي من الأرض، والأكمة: التل، والجمع: آكامٌ وأكمٌ، ولا يجوز أن يجعل "هل" للاستفهام، لأن حرف الاستفهام لا يدخل على حرف الاستفهام. قوله: (فإذا أدخلت حرف الجر على "من" فقدر الهمزة قبل حرف الجر)، قال صاحب "الفرائد": يشكل ما ذكر بقولهم: من أين أنت ومن أين جئت؟ وقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، وقولهم: فيم، وبم، ومم، وحتام، ونحوها. ويمكن أن يقال: لا اعتبار لتقدم حرف الجر، وقولهم: له صدر الكلام المراد: تقدمه على ما كان، وكذا في الكلام، كقولك: أين زيدٌ، لا يجوز أن تقول: زيدٌ أين، أو مفعولاً من المفاعيل، كقولك: أزيداً ضربت، ولا تقول: ضربت زيداً، ولا: ضربت متى، ولا: ضربت أين؟

الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء: 192]، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) [الشعراء: 210]، (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) لم فرق بينهنّ وهنّ أخوات؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالكذب)، يريد أن "فعالاً" فيه دلالةٌ على التكثير لا الاستغراق، فنبه أولاً بقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} على أن الشياطين ينزلون على من دأبه الإفك والكذب. ثم بين ثانياً بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} على أن أكثر هؤلاء الأفاكين بناءً على دأبهم وعادتهم يفترون على الشياطين فيما يتلقون منهم، لأنهم يزيدون على ما يسمعون كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة. ويجوز أن يرجع الضمير في "أكثرهم" إلى الشياطين، والحديث يحتمله أيضاً، قال القاضي: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، أو يسمعونهم لا على وجه ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم. قوله: (لم فرق بينهن وهن أخواتٌ)، يعني: أن هذه الآيات الثلاث نازلةٌ في شأن القرآن، وفيما ينبغي أن يقال فيه وما لا ينبغي، فلم لم تجئ على نسقٍ واحدٍ ولم يقل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، فإنها واردةٌ على وتيرةٍ واحدة؟ ولم فرق بينهن بآياتٍ متباعدة المعاني؟ وحاصل المعنى: أنها كالتراجيع للمعاني التي تخللت بينهن، فإن قوله تعالى: {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كالترجيع من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما بدئ منه في فاتحة السورة من ذكر الكتاب وتكذيب القوم له. وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} مذكورٌ بعد إهلاك القرى المنذرة. وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} مسوقٌ بعد النهي عن إدعاء غير الله

قلت: أريد التفريق بينهنّ بآيات ليست في معناهنّ، ليرجع إلى المجيء بهنّ وتطرية ذكر ما فيهنّ كرّة بعد كرّة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدّث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه. [(والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)]. (وَالشُّعَراءُ) مبتدأ. و (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض، والقدح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى إلهاً، وكل هذه الآيات متدانية المعاني في نفسها، لكنها تبعد مناسبتها ظاهراً عن معنى تلك الآيات الثلاث، والترجيع كما علم يستدعي شدة الاتصال بما رجع به إليها، فدل ذلك على شدة الكراهية لما نزلت الآيات فيه، وهو إنكار قريش أن القرآن ليس من عند الله، وأنه من جنس ما كان ينزل على الكهنة والشعراء. وروي عن المصنف: أن العبارة المتداولة في قولنا: اشتدت كراهة الله تعالى لخلافها، أي: لأجل خلافها اشتدت العناية بذكره، فاحترز عنها في حق الله تعالى. قوله: (وتطرية ذكر)، تطرية السيف: محادثته بالصقل وتعهده به، قال زهيرٌ: أحادثه بصقلٍ كل يوم ... وأعجمه بهامات الرجال قوله: (أن يحدث الرجل بحديث، وفي صدره اهتمامٌ بشيءٍ منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه)، وقلت: هذا المعنى هو الذي اعتمدنا عليه في أكثر ما تصدينا لنظم السور، فليكن على ذكرٍ منك، والله تعالى أعلم. قوله: (ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم ... إلا الغاوون)، هذا الحصر يفيده بناء

في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل، والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {يَتَّبِعُهُمُ} على "الشعراء" على تقوي الحكم، واللام في "الشعراء" و {الْغَاوُونَ}: للجنس، فإن مثل هذا التركيب عند المؤلف يفيد الاختصاص. وقال في المزمل في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]: "وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه، يقدر: هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير" وقد سبق مراراً ويعضده قراءة عيسى بن عمر: "الشعراء" بالنصب على شريطة التفسير، فإنها تدل على التكرير والتأكيد، وربما دل على التخصيص لتقدير العامل بعد المنصوب، وإلى معنى هذا الحصر ينظر قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، ومن ثم ناسب أن يعقب بهذه الآية قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، لأنه حديث أمر الوحي كما سبق، وجل منصب الرسالة عن الشعر، وعظم منزلة أمته من الغواية، وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. قوله: (والنسب بالحرم والغزل)، الجوهري: نسب الشاعر بالمرأة، ينسب- بالكسر- نسيباً: إذا شبب بها، ومغازلةً النساء: محادثتهن ومراودتهن، تقول: غازلتها وغازلتني، والاسم الغزل. وحرمة الرجل: أهله، والحرم: النساء، قال: والموت أكرم نزالٍ على الحرم قوله: (والابتهار)، الجوهري: الابتهار: ادعاء الشيء كذباً، قال: وما بي أن مدحتهم ابتهار وابتهر فلانٌ بفلانة: اشتهر بها.

يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين، وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحىّ. ومن ثقيف: أمية ابن أبي الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد - وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم. وقرأ عيسى بن عمر: (والشعراء) بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حبّ النصب. قرأ: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد: 4]، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة: 38]، و (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور: 1]. وقرئ: (يَتْبَعُهم) على التخفيف. و (يَتَّبِعْهم) بسكون العين تشبيها لـ "بَعُهَ" بـ "عَضُد". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا الغاوون والسفهاء)، قال: الزجاج: يتبعهم الغاوون من الناس، فإذا هجا الشاعر بما لا يجوز، هوي قومٌ ذلك فأحبوه، وإذا مدح بما ليس في الممدوح أحب ذلك قومٌ وتابعوه، فهم الغاوون. قوله: (الغاوون: الراوون)، روى محيي السنة: الغاوون هم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين. قله: (وقرئ: "يتبعهم" على التخفيف)، نافع: "يتبعهم" بتخفيف التاء وفتح الباء، والباقون: بفتح التاء وتشديدها وكسر الباء. قوله: (تشبيهاً لـ "بعه")، بفتح الباء أو كسرها وضم العين، حكايةً لبعض حروف يتبعهم. ويروى عن المصنف أنه قال: لما غيروا الضمة في "عضد" واقعةً بعد الفتحة، فلأن يغيروها واقعةً بعد الكسرة أولى.

ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حدّ القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البرىّ، ويفسقوا التقي. وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فبتن بجانبىّ مصرّعات ... وبت أفض أغلاق الختام فقال: قد وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحدّ بقوله: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ). [(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)]. استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذكر الوادي والهيوم فيه تمثيلٌ لذهابهم في كل شعبٍ من القول)، قال القاضي: وذلك أن أكثر مقدماتهم خيالاتٌ لا حقيقة لها، وأكثر كلماتهم في النسيب والابتهار وتمزيق الأعراض والوعد الكاذب والافتخار بالباطل. قوله: (فبتن بجانبي)، البيت، أوله: دفعن إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام ثلاثٌ واثنتان فهن خمسٌ ... وسادسةٌ تميل إلى شمام طمث الجارية، أي: افتضها.

وصلحاء الأمة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء: 148]، وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194]. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله: أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان ابن ثابت، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل"، وكان يقول لحسان: "قل وروح القدس معك". ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينافحون)، بالحاء المهملة. النهاية: في الحديث: "نافح عني"، أي: دافع عني، والمنافحة والمكافحة: المدافعة. يريد بمنافحته: هجاء المشركين ومجاوبتهم عن أشعارهم. قوله: (وعن كعب بن مالكٍ)، روي في "شرح السنة" عن كعب بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل. قوله: (قل وروح القدس معك)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن عائشة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله: (وَسَيَعْلَمُ) وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإطلاقه. وقوله: (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه، وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدّتها. وتفسير الظلم بالكفر تعليل، ولأن تخاف فتبلغ الأمن خير من أن تأمن فتبلغ الخوف. وقرأ ابن عباس: (أي منفلت ينفلتون) ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا أنكى)، النهاية: يقال: نكيت في العدو أنكى نكايةً، إذا أكثرت فيه الجراح والقتل، فوهنوا لذلك، وقد يهمز، يقال: نكأت القرحة أنكأها: إذا قشرتها. قوله: (وقد تلاها أبو بكر لعمر حين عهد إليه)، روي أنه لما أيس أبو بكرٍ من حياته استكتب عثمان رضي الله عنه كتاب العهد: هذا ما عهد ابن أبي قحافة إلى المؤمنين في الحال التي يؤمن فيه الكافر، ثم قال بعدما غشي عليه وأفاق: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن عدل فذلك ظني فيه، وإن لم يعدل فسيعلم الذين ظلموا. قوله: (ويتناذرون)، بالذال المعجمة. الأساس: هو نذيرة القوم: طليعتهم الذي ينذرهم العدو، وتناذروا: خوف بعضهم بعضاً، قال النابعة: تناذرها الراقون من سوء سمها قوله: (وتفسير الظلم بالكفر تعليلٌ)، يعني: أن الذي فسر قوله تعالى: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالذين كفروا يتعلل بـ "عسى"، ولعله يريد أهل السنة لأنه يسميهم المرجئة، كما أنهم يسمونهم بالوعيدية، ويقال: وعلله بالشيء، أي: لهاه به، كما يعلل الصبي بشيءٍ من الطعام يتجزأ به من اللبن، يقال: فلانٌ يعلل نفسه بتعلة، وتعلل به، أي: تلهى وتجزأ، يريد: أن تفسير الظلم بالكفر ليس بجيد، لأدائه إلى سهولة أمر الظالم.

أن ينفلتوا من عذاب الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات؛ وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما لقي منهم من الشدائد كما مر في أول السورة يؤيد قول أهل السنة، وروى محيي السنة: {الَّذِينَ ظَلَمُوا}: أشركوا وهجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الإمام: إنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدلائل ومن أخبار الأنبياء عليهم السلام، ثم ذكر مقالات المشركين في تسميته تارةً بالكاهن، وأخرى بالشاعر، بين الفرق بينه وبين الكاهن، ثم بينه وبين الشاعر، ثم ختم السورة بهذا التهديد العظيم. والله تعالى أعلم. تمت السورة حامداً لله ومصلياً على رسوله * * *

سورة النمل

سورة النمل مكية وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ* هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)]. (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) قرئ بالتفخيم والإمالة، و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين: إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن؛ فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة. وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النمل مكيةٌ، وهي ثلاثٌ وتسعون آيةً، وقيل: أربعٌ وتسعون آيةً بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ({طس} قرئ بالتفخيم والإمالة)، أبو بكرٍ وحمزة والكسائي: بالإمالة، والباقون: بالتفخيم.

وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 55]. فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما تعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن إعجازهما ظاهرٌ مكشوفٌ)، قبل قوله: "أنههما يبينان" مبنيٌ على أن "أبان" بمعنى: أظهر. وقوله: "ظاهرٌ مكشوفٌ" على أنه بمعنى: بان وظهر. وقلت: إذن يلزم استعمال اللفظ الواحد في كلتا لغتيه: المتعدي واللازم، إلا أن يقال: إن الواو بمعنى "أو". والظاهر أن دلالة {مُبِينٍ} على الثاني بطريق اللزوم، فإن الشيء إذا كان مظهراً الجميع العلوم الفائقة، ينبغي أن يكون ظاهرًا في الإعجاز، وعكسه سبق في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. قوله: ({عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، أي: مليكٍ مبهمٍ أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وتصرفه وقدرته، فيقال: أي: كتابٌ مبهمٌ أمره في كونه كتابًا، فلا شيء من أمر الدين ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، إلا وهو مشتملٌ عليه. قوله: (لأن القرن هو المنزل المبارك)، تعليلٌ لتنزيل لفظ {الْقُرْآَنِ} منزلة الوصف، ثم عطف {وَكِتَابٍ} عليه، لهذا قال: "كأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك، وآي كتابٍ"، ودلالة هذا الأسلوب على استقلال كل صفةٍ في تمييز الموصوف، وأنها إذا انفردت كفت بها مميزةً قد علم في موضعه، ولو حمله على باب التجريد كما في قولهم: مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة، كما ذكر في {ص وَالْقُرْآَنِ} [ص: 1] لجاز أيضًا.

فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك؛ وآي كتاب مبين. وقرأ ابن أبي عبلة: "وكتابٌ مبينٌ" بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: (الّر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وقُرْآنٍ مُّبِينٍ) [الحجر: 1]؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر، وذلك على ضربين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: قوله في الحجر: "والمعنى: "تلك آيات الكتاب الكامل" في كونه كتاباً، وآي قرآنٍ مبينٍ" على الاستفهام، وهو م عنى التفخيم في التنكير. قوله: (بين هذا وبين قوله: {آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1]، أي: مطلع سورة الحجر. قوله: (وذلك على ضربين)، يعني: التقديم يجيء لمعنيين: أحدهما: جارٍ مجرى التثنية فقط، فلا يتفاوت المعنى فيهما، سواءٌ قدم في موضع وأخر في آخر، كما في نحو: {حِطَّةٌ} في الآيتين في الآيتين [البقرة: 58، والأعراف: 61]. وقولك: "رجلان جاءا" لا ترجيح لمجيء أحدهما على الآخر. هذا هو معنى التثنية. قال شارح "الهادي": الواو دلالتها على الجمع أقوى من دلالتها على العطف، فإنها قد تعدى عن العطف ولا تعرى عن معنى الجمع، وفي المختلفين بمنزلة التثنية، والجمع في المتفقين، وإذ لم يمكنهم التثنية في المختلفين فعدلوا إلى الواو. ثانيهما: ما فيه رعاية الرتبة، كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، فإن شهادة الله مقدمةٌ على شهادة الملائكة وأولي العلم، لأن شهادته كالأصل،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وشهادتهم كالتابع لشهادته. ومن ثم فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول به. قال القاضي: تأخير "كتاب" هاهنا باعتبار تعلق علمنا به، وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود، أي: الخارجي. قال صاحب "الفرائد" الفخامة فيما نحن بصدده للكتاب، فإن كان المراد به: اللوح، فهي اللوح. وفي الحجر الفخامة للقرآن، فافترقا. وإن كان المراد من الكتاب القرآن في السورتين، فالفخامة للقرآن من حيث إنه كتابٌ هاهنا، وفي الحجر من حيث إنه قرآنٌ. وقلت: قد ذهب إلى أن التنكير في الموضعين هو الفارق، لأنه للتفخيم، وذهب عنه أن التعريف في القرآن للعهد، وأن المراد منه: "المنزل المبارك المصدق لما بين يديه" كما قال، فهو أشد فخامةً منه، لأنه من باب قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري أي: هذا المنزل هو الذي اشتهر في الكائنات، وتعورف بين الأسود والأحمر، الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها. والمصنف اقتصر على معنى واحدٍ، وهو كونه مصدقًا لما بين يديه. ويمكن أن يقال: إن التنكير في {كِتَابِ} دل على تفخيمه، ووصفه بـ {مُبِينٍ} دل على أنه ظاهرٌ في نفسه في الإعجاز، مظهرٌ لغيره، فصحت الموازنة بينهما، ولهذا استشهد بقوله: "فعل السخي والجواد الكريم". ولم يفرق بين التقديم والتأخير هاهنا وفي الحجر، فإن مؤدى الصفتين إلى معنى واحدٍ. فإن قلت: فلم جعل التعريف في الحجر للجنس حيث قال: "تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابًا"، وهاهنا للعهد حيث قال: "المنزل المبارك المصدق لما بين يديه"؟ قلت: إذا رجع المعنيان إلى التعظيم والتفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف.

ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى: (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة: 58، الأعراف: 161]، (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) [البقرة: 58، الأعراف: 161]، ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران: 18]، (هُدىً وَبُشْرى) في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أي: هادية ومبشرة، والعامل فيها؛ ما في (تِلْكَ) من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى. والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة: 124]. فإن قلت: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده، ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات؛ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم بالآخرة الموقنون، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو (وهُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعلى البدل من الآيات)، قال الزجاج: تقديره: تلك هدًى وبشرى، وحسن أن يكون خبرًا بعد خبرٍ لـ {تِلكَ} على نحو: هو حلوٌ حامضٌ. وقد جمع الطعمين، فتجمع أنها آياتٌ، وأنها هاديةٌ مبشرة، وهو المراد من قوله: "جمعت أنها آياتٌ، وأنها هدًى"، أي: جمعت {طس} أن السورة آياتٌ، وأنها هدًى وبشرى. قوله: (أنها زائدٌ في هداهم)، قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يكون المعنى كما مر في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1]. قوله: (وكرر فيها المبتدأ الذي هو {وَهُم})، الانتصاف: تكرر من الزمخشري أن إيقاع الضمير مبتدأٌ يفيد الحصر، كقوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21]، وعد الضمير من آلات الحصر ليس يثبت، وهاهنا الضمير مكررٌ، لأن الأصل: "وهم يوقنون بالآخرة"،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقدم المجرور للعناية، فوقع فاصلاً بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطوي ذكره، ولم يفت العناية بالمجرور حيث بقي مقدمًا. وقلت: هذا كلام من لم يشم رائحة علم البيان، فإنهم أجمعوا على أن مثل: "أنا عرفت" تحتمل التقوى والتخصيص، أما التقوى: فلتكرير الإسناد، وأما التخصيص: فلاعتبار تقدم الفاعل المعنوي على عامله، ولما تقدم ضمير {هُمْ} على {يُوقِنُونَ} وأكد بالتكرير، أفاد التخصيص والتوكيد، ولهذا قال: "ما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون". ولما كان جدوى الاعتراض تأكيد معنى المعترض فيه، ودل مفهوم قوله: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} على أن من أيقن بالآخرة حق الإيقان لابد أن يخاف تبعاتها، ومن خاف تحمل المشاق والمتاعب، وكان بهذا الاعتبار مؤكدًا لقوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، فصح كونه معترضاً. روينا عن الترمذي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غاليةٌ، ألا إن سلعة الله الجنة". ثم في قوله: "إلا هؤلاء الجامعون" إشارةٌ إلى أن الضمير الأول وضع موضع اسم الإشارة، وصار مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 3 - 5]، وفائدته الإشعار بأن ما يرد عقيب اسم الإشارة المذكورون قبله أهلٌ لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، فالمعنى: هم أحقاء بأن يوقنوا بالآخرة، لأنهم

حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق. [(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)]. فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل: 24، العنكبوت: 38]؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هم الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. هذا معنى قوله: "وهؤلاء الذين يوقنون ويعملون الصالحات، هم الموقنون بالآخرة". هذه المعاني من التخصيص والتوكيد والتعليل إنما يفيدها التركيب إذا جعل معترضًا لاستقلاله، وأما إذا أدخل في حيز الصلة بأن جعل حالاً أو عطفًا على {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [النمل: 3] على التأويل، لم يحتج إلى هذه العبارة، فتفوت تلك الفوائد، ولهذا قال: "وهو الوجه، ويدل عليه أنه عقد جملةً ابتدائيةً" إلى آخره. يريد أنه لو أريد غير ذلك لقيل: "وهم بالآخرة يوقنون" على تقدير الحال، "وبالآخرة يوقنون" على تقدير العطف. قوله: (من المجاز الذي يسمى الاستعارة) وهي الاستعارة المصرحة التبعية، استعار زيَّن لـ (متَّع) بعد استعارة التزيين للتمتيع. وإليه الإشارة بقوله: (لما متعهم بطول العمر)، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. قال صاحب (الفرائد): قال أهل السنة: زينا لهم أعمالهم بما ركبنا فيهم من الشهوات

يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الأوّل: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأماني، حتى رأوا ذلك حسناً، وهو كالختم والطبع. وفيه إثبات خلق الله تعالى أفعال العباد. وقال صاحب "الانتصاف": قول الزمخشري مبنيٌ على قاعدة: "رعاية الأصلح"، ولو عكس فقال: "الإسناد إلى الله حقيقةً"، لكان أصوب، واختار ما رواه الحسن لموافقته، [وأنى لهم ذلك] وقد أتى الله بنيانهم من القواعد بما قد ورد التزيين غالباً في الشر {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212] {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 137] وورد في الخير قليلاً، كقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] ويبعد الخير هنا إضافة الأعمال إليهم في قوله: {أَعْمَالَهُمْ}، وهم لم يعملوا الخير أصلاً. وقلت: الذي يؤيد قول صاحب "الفرائد" أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة، فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6]. وقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وقد سبق وجه دلالتها على مذهب أهل السنة هناك، وأن التركيب من باب تحقيق الخبر، وأن المعنى استمرارهم على الكفر، وأنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعةً فساعةً، أمارةٌ لرقم الشقاوة عليهم في الأزل، والختم على قلوبهم، وأنه تعالى زين لهم سوء عملهم، فهم

(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) [الفرقان: 18] والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان، وتخليته حتى يزين لهم، ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لذلك في تيه الضلالة يترددون، وفي بيداء الكفر يعمهون. دل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول، والماضي في خبر الموصول، وترتب {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} بالفاعلية، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت، ومن باب تحقيق الخبر قول الشاعر: إن التي ضربت بيتاً مهاجرةً ... بكوفة الجند غالت ودها غول يعني: هذا التبريز أمارةٌ لقطعها الحب وهجرانها، وأنه مما لا يشك فيه. وينصر هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود: عن عمران بن حصين قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم". قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كلٌ ميسرٌ لما خلق له". وعن الترمذي، عن ابن عمر قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه، أمرٌ مبتدعٌ أو مبتدأٌ، أو فيما فرغ منه؟ فقال: "فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب، وكلٌ ميسرٌ، أما من كان أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء". انظر أيها المتأمل إلى هذه الأسرار.

المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها: زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى إلى الحسن. والعمه: التحير والتردّد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: متردّدين في أعمالهم وأشغالهم. (سُوءُ الْعَذابِ) القتل والأسر يوم بدر. و (الْأَخْسَرُونَ): أشدّ الناس خسرانا، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله. [(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)]. (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه وتلقنه (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) مِنْ عند أىّ (حَكِيمٍ) وأىّ (عَلِيمٍ) وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد، لما يريد أن يسوق بعدها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي أعمال الخير)، هذا جوابٌ آخر عن السؤال مبنيٌ على المنع من أن إسناد هذا التزيين محظورٌ، و"هي" أي: الضمير راجعٌ إلى قوله تعالى: {أَعْمَالَهُمْ}، ونظيره قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. قوله: (وتلقنه)، عن بعضهم: هو كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]، أي: تلقن. ومعنى يلقنه الكلمات: أن الله تعالى ألهمه التنصل لهفوته. قوله: (وهذه الآية بساطٌ وتمهيدٌ)، أي: مجملٌ لما يأتي بعدها من التفصيل، وإن المفصل متضمنٌ للطائف حكمته ودقائق علمه. ومن لطائف حكمته اقتصاص ما مضى من الأمم السالفة، لنثبت بها نفسك، ونسليك مما يلحقك من المكاره {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] وأكمل القصص وأتمها قصة موسى عليه السلام.

من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه. [(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)]. (إِذْ) منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله: (امْكُثُوا). الشهاب: الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس؛ لأنه يكون قبسا، وغير قبس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه أيضاً نوعٌ من التخلص والانتقال إلى نوعٍ آخر من الإعجاز، وهو الإخبار عن المغيبات، ومن مدح الكتاب إلى قصص الأنبياء. قوله: (وهو قوله: {امْكُثُوا}، ليس في هذه الآية، وإنما هي في طه والقصص، فورود الخطاب بالجمع وإطلاق الأهل على امرأته تعظيمٌ لشأنها، ونحوه قوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، والمراد بهما موسى وهارون رفعاً لمنزلتهما. قوله: (وأضاف الشهاب إلى القبس، لأنه يكون قبسًا وغير قبسٍ)، قال مكيٌّ: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} من إضافة النوع إلى جنسه، نحو: ثوب خزٍّ. وقال الفراء: وهو إضافة الشيء إلى نفسه، كصلاة الأولى، وليس مثله، لأن صلاة

ومن قرأ بالتنوين: جعل القبس بدلا، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله. فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلي آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين: لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأولى إنما هي في الأصل موصوفٌ وصفة، فأضيف الموصوف إلى صفته، وأصلها: الصلاة الأولى. ومن نون جعل قبساً بدلاً منه: وقيل: هي صفةٌ له. والشهاب: كل ذي نورٍ. والقبس: كل ما يقتبس من جمرٍ ونحوه. الراغب: القبس: المتناول من الشعلة. قال تعالى: {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ}. والقبس والاقتباس: طلب ذلك، ثم يستعار لطلب العلم والهداية. قال تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] وأقتبسه ناراً أو علمًا: أعطيته. والقبيس: فحلٌ سريع الإلقاح، تشبيهاً بالنار في السرعة. وعنه: الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو. قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. والشهبة: بياضٌ مختلطٌ بالسواد، تشبيهاً بالشهاب المختلط بالدخان. ومنه: كتيبةٌ شهباء، اعتباراً بسواد القوم وبياض الحديد. وعنه: الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو. قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. والشهبة: بياضٌ مختلطٌ بالسواد، تشبيهاً بالشهاب المختلط بالدخان. ومنه: كتيبةٌ شهباء، اعتبارًا بسواد القوم وبياض الحديد. قوله: (ومن قرأ بالتنوين)، عاصمٌ وحمزة والكسائي.

إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بني الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إمّا هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله؛ أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا؟ وهما العزّان: عز الدنيا، وعز الآخرة. [(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)]. (أَنْ) هي المفسرة؛ لأنّ النداء فيه معنى القول. والمعنى: قيل له بورك. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره: نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت: لا، لأنه لا بدّ من (قَدْ). فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما أدراه)، "ما" استفهاميةٌ متضمنةٌ للإنكار، وهو مبتدأ، و"أراه" الخبر، وضمير الفاعل راجعٌ إلى "ما"، أي: أي شيءٍ أعلمه حين قال: {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ} "أنه ظافرٌ بحاجتيه الكليتين"؟ انظر أيها المتأمل إلى العناية الأبدية، فإنه عليه السلام طلب الدلالة على الطريق والنار لحاجة الأهل، ففاز بعز الدارين! قوله: (لا يصح)، أي: لا يصح أن تكون مخففةً من الثقيلة، و"قد" مضمرة. قال في "المفصل": والمفتوحة يعوض عما ذهب منها أحد الأحرف الأربعة: حرف النفي، وقد، وسوف، والسين، نحو: علمت أن لا يخرج زيد، وأن قد خرج، وأن سوف يخرج، وأن سيخرج. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لجواز {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ} [النساء: 90] بإضمار "قد"، و {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ} [الأعراف: 63]، ويمكن تعسف فرقٍ.

لأنها علامة لا تحذف. ومعنى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها): بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها. ومكانها: البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص: 30] وتدل عليه قراءة أبي: "تباركت الأرض ومن حولها". وعنه: "بوركت النار"، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها: وهو: تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: {أَنْ بُورِكَ} هي مخففةٌ من الثقيلة، وجاز ذلك من غير عوض، لأن {أَنْ بُورِكَ} دعاء، والدعاء مخالفٌ غيره في أحكامٍ كثيرة. وقال صاحب "الكشف": التقدير: أنه بورك، ولم يأت بعوضٍ، كما في قوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] وقوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} [الجن: 28]، لأنه دعاء. قوله: (ويدل عليه قراءة أبي)، أي: تدل على أن معنى {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] بورك من في مكان النار، إظهار الأرض في هذه القراءة، فإن هذه القراءة الشاذة ليست في الدلالة أقل من تفسير مفسر. قال ابن جني: تبارك: تفاعل من البركة، وهو توكيدٌ لمعناه، كقولك: تعالى الله، فهو أبلغ من: علا كما أن "اعشوشب" أبلغ من: أعشب، وذلك لكثرة الحروف. وعن بعضهم: وإسناد التبارك إلى الأرض كإسناد التعالي إلى الضوء في قول المعري: نشأن كضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهنا ما لهن ومالي؟

فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبث آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة. وقيل: المراد بالمبارك فيهم: موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء: 71]؛ وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: المراد بالمبارك فيهم موسى والملائكة)، الضمير في "فيهم" راجعٌ إلى اللام. وقيل: عطف على قوله: "بورك من في مكان النار ومن حول مكانها"، فذكر في المعطوف عليه أن ذلك المكان أي مكانٍ هو، والذي بوركت به البقعة ما هو، وهو حدوث أمرٍ ديني، ثم بين في المعطوف أن المراد بالذي بورك فيه من هو، وهو إما موسى والملائكة وما أعم منه. وعن بعضهم: البقعة من الأبقع، كالحمرة من الأحمر، وهي قطعةٌ فيها سوادٌ وبياضٌ، من الغراب الأبقع، والبقعان جمع أبقع، كالحمران جمع أحمر، ثم قيل لقطعةٍ من الأرض: بقعة، ومنه قولهم: إن للبقاع دولًا. وهذا من التعميم بعد التخصيص. قوله: (وكفاتهم أحياءً وأمواتًا)، قال: الكفات من: كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفت، كقولهم: الضمام والجماع لما يضم ويجمع، كأنه قيل: كافتاً أحياءً وأمواتاً، والمعنى: يكفت أحياءً على ظهرها وأمواتاً في بطنها. الراغب: الكفت: القبض والجمع. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]، أي: تجمع الناس أحياءهم وأمواتهم. وقيل: معناه: تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوانات والنبات، والأموات التي هي الجمادات من التراب والماء

فإن قلت: فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت: هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. (وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وغير ذلك. والكفات قيل: هو الطيران السريع، وحقيقته: قبض الجناح للطيران، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، فالقبض هنا كالكفات هناك، والكفت: السوق الشديد، واستعمال الكفت في سوق الإبل كاستعمال القبض فيه، كقولهم: قبض الراعي الإبل، وراعٍ قبضةٌ. وكفت الله فلاناً إلى نفسه، كقولهم: قبضه. وفي الحديث: "اكفتوا صبيانكم بالليل". قوله: (فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك؟ )، جاء بالفاء في السؤال، لأن السؤال واردٌ على قوله: "والظاهر أنه عامٌ في كل من كان في حوالي أرض الشام" يعني: إذا أريد بمن بورك من في النار: العموم، فما معنى ابتداء الخطاب لموسى عليه السلام، لأنه وغيره سواءٌ في ذلك. وأجاب بأنه بشارةٌ لموسى عليه السلام بتجديد بركةٍ أخرى إلى تلك البركات، وبواسطته تنتشر تلك البركة في تلك الأراضي، وتتصل إلى ساكنها. قوله: ({وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تعجيبٌ لموسى)، يعني: في ذكر موسى: "سبحان الله"، في هذا المقام فائدتان: إحداهما: تعجيبٌ لموسى من ذلك الأمر العظيم، وهو إحداث أمرٍ دينيٍّ من تكليمه واستنبائه. وثانيهما: إعلامٌ له بأن مريد ذلك الأمر هو رب السماوات والأرض وما بينهما، فأعظم بأمرٍ مريده من هو رب العالمين! وإليه الإشارة بقوله: "تنبيهاً على أن الكائن من

[(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)]. الهاء في (إِنَّهُ) يجوز أن يكون ضمير الشأن. والشأن (أَنَا اللَّهُ) مبتدأ وخبر. و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعني: أنّ مكلمك أنا، و (اللهُ) بيان لأنا. و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): صفتان للمبين، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة، يريد: أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام؛ كقلب العصا حية، الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير. [(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)]. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَلْقِ عَصاكَ)؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك: كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى: قيل له: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جلائل الأمور"، نحوه قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول والحاصل أن قوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كالتذييل والتأكيد لما تضمن قوله: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} من المعاني التي أشير إليها فيما سبق. قوله: (وهذا تمهيدٌ لما أراد أن يظهره)، اعلم أنه تعالى كما جعل {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تذييلاُ للكلام السابق تنبيهاً على جلالة الأمر الحادث، جعل قوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تمهيداً للكلام اللاحق تنبيهاً على فخامته، وأن مظهره الله العزيز الحكيم. وإليه الإشارة بقوله: "أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام".

"بورك من في النار"، وقيل له: (أَلْقِ عَصَاكَ). والدليل على ذلك قوله عز من قائل: (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) [القصص: 31] بعد قوله: (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ) [القصص: 30] على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليك أن حج وأن اعتمر، وإن شئت أن حج واعتمر. وقرأ الحسن: (جأنّ) على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين، فيقول: شأبّة ودأبّة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد: (وَلا الضَّالِّينَ). (وَلَمْ يُعَقِّبْ): لم يرجع، يقال: عقب المقاتل، إذا كرّ بعد الفرار. قال: فما عقّبوا إذ قيل: هل من معقّب؟ ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه: (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل على ذلك)، أي: على أنه معطوفٌ على قوله: {أَنْ بُورِكَ} مجيئه في القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص: 30 - 31] وإن كرر فيه حرف التفسير. قوله: (فما عقبوا إذ قيل) البيت، يوم الكريهة: يوم الحروب. يصف فرار قومٍ من المحاربة بحيث لا يرجعون بعده، ولا ينزلون منزلًا من الخوف. قوله: (رعب)، رعب الرجل: ملئ خوفًا. رعب السيل الوادي: ملأه. وامرأةٌ رعبوبةٌ: ملئت شحماً ولحمًا. قوله: (لأمرٍ أريد به)، يعني: إنما {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}، لخوفٍ عظيمٍ واستشعارٍ ظن أن في قلب العصا حيةً أمرًا أريد به هلاكه.

و (إِلَّا) بمعنى (لكنّ)؛ لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {إِلَّا} بمعنى "لكن")، يريد أن الاستثناء منقطع، و {مَن} منصوب المحل، كقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ} استثناءٌ منقطع، لأن القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان، وهاهنا بالعكس، لأن المستدرك جنسٌ غير المعصومين استدرك من المعصومين، وإليه الإشارة بقوله: "ولكن من ظلم منهم، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى" عليهم السلام، وأما فرطة آدم وإخوة يوسف وموسى فظاهرةٌ، وأما فرطة يونس فما دل عليها: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140]، وفرطة داود ما يشعر به قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] وفرطة سليمان قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34]. الكواشي: المعنى على الانقطاع، أي: من أمنته من عذابي لا ينبغي أن يخاف من حية. قوله: (لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنةً لطرو الشبهة)، هذا إشارةٌ إلى الخلاف بين الناس في جواز الذنب على الأنبياء أو عدمه. قال الإمام: فيه خمسة أقوال: أولها: قول الحشوية، فإنهم يقولون بجواز صدور الكبائر عنهم عمدًا. وثانياً: المعتزلة، فإنهم لا يجوزون عليهم الكبائر، ويجوزون الصغائر إلا ما ينفر، كالكذب والتطفيف، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: "مما يجوز على الأنبياء". وثالثها: الجبائي أنه قال: لا تجوز الصغيرة ولا الكبيرة على جهة العمد، بل على التأويل. ورابعها: لا يقع منهم ذنبٌ قط، وأنهم معصومون من وقت مولدهم. وهذا قول الرافضة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال الإمام: والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنبٌ حال النبوة لا الصغيرة ولا الكبيرة. وفي تضاعيف كلامه إشعارٌ بأن ترك الأولى منهم كالصغيرة منا، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وإذا علم هذا فقول المصنف: "لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنةً لطرو الشبهة" معناه: لطرو شبهة من ينفي عنهم الكبائر والصغائر، وأن ليس لهم خوفٌ البتة، لا من جهة الصغائر، ولا من جهة الكبائر، فاستدرك بقوله: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} هذا الظن، وأثبت أن منهم من "فرطت منه صغيرةٌ مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ... " إلى آخره. وقلت: وجه التأويل على رأينا {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قبل النبوة، ثم بدل بعدها حسناً. يؤيده لفظة: {ثٌمَّ}، فإنها للتراخي. وقال صاحب "المطلع": والمعنى: ولكن من ظلم من العباد ثم تاب، فإني أغفر له. وعلى هذا لا يخاف الأنبياء، وهو اختيار الزجاج. تم كلام "المطلع". ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، وموضع {مَن} رفعٌ على البدل من الفاعل، كما قال أبو البقاء. والمعنى: إني لا يخاف لدى المرسلون، إلا الذي فرط منه ما غفر له ثم ترحم عليه، فإنه يخاف، وقد علم وتحقق أن المغفور له والمرحوم عليه لا يخاف الله من الذنب الذي غفر له البتة، فإذن لا يخاف منهم من أحدٍ على البت والقطع. والمقام يقتضي هذا المعنى، لأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يوجب إزالة الخوف بالكلية، لاسيما الخوف من قبيل ما يعتري البشرية من توهم مكروهٍ نفساني.

فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أي: فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما، كما قال موسى: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص: 16]، والحسن والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقرئ: "ألا من ظلم"، بحرف التنبيه. وعن أبي عمرو في رواية عصمة: "حسنا". [(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى الإمام عن بعضهم: إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة. قوله: (وسماه ظلمًا، كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]، لما سمى موسى عليه السلام فعله ظلمًا قابله تعالى بالمشاكلة. قوله: (وقرئ: "ألا من ظلم" بحرف التنبيه)، قال ابن جني: وهي قراءة زيد بن أسلم وأبي جعفرٍ القارئ. ومن مرفوعة بالابتداء، وخبره: ظلم، كقولك: من يقم أضرب زيدًا. فـ "يقم" خبر "من" حيث كان شرطاً، كأنه قال: هذا حقٌ. وعليه معنى انقطاع الاستثناء في القراءة الفاشية. المعنى: لا يخاف لدى المرسلون، لكن من ظلم كان كذا.

و (تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات إِلى فِرْعَوْنَ ونحوه: فقلت: إلى الطّعام، فقال منهم ... فريق: نحسد الإنس الطّعاما ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك: في تسع آيات، أي: في جملة تسع آيات وعدادهنّ. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة: ثنتان منها اليد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: اذهب في تسع آياتٍ)، أي: اذهب إلى فرعون في شأن تسع آياتٍ بأن تتحدى بهن، وتظهر بها نبوتك، وتلزم عليه حجة الله. قوله: (وأدخل يدك، في تسع آياتٍ)، فعلى هذا هو حالٌ من المفعول، وهو يدك، أي: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء مسفرةً في تسع آياتٍ معدودةٍ في جملتهن. قال أبو البقاء: {بَيْضَاءَ} حالٌ، و {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} حالٌ أخرى، و {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} [النمل: 12] حالٌ ثالثة، والتقدير: آيةٌ في تسع آياتٍ، و {إِلَى} متعلقةٌ بمحذوفٍ، أي: مرسلاً إلى فرعون. ويجوز أن تكون صفةً لـ {تِسْعِ} أو لـ {آَيَاتٍ}، أي: واصلةٍ إلى فرعون. قوله: (ولقائلٍ أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة)، عن بعضهم: كأنه يقول: ليس بلازمٍ أن يقال: هذا داخلٌ فيها. قال صاحب "التقريب": ولعل الطمسة والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم يرجع إلى واحد. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: الجراد والقمل واحدةٌ، والجدب والنقصان واحدةٌ، لأنهما متقاربان.

والعصا، والتسع: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم. [(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)]. المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه، كقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل: 14] أو جعلت كأنها تبصر فتهدي، لأنّ العمي لا تقدر على الاهتداء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحداً، ولا يعد الفلق، لأنه لم يبعث به إلى فرعون. قوله: (وكانوا بسببٍ منها)، قيل: كل ما يكون وصلةً بين شيئين يسمى سببًا، تشبيهًا بالسبب الذي هو الحبل. و"من"- في قوله: {مِنْهَا} - اتصالية، يعني: لما كان المتأملون ملابسين متصلين من الآيات بسبب نظرهم وتفكرهم فيها، جعلت الآيات مبصرةً. وهذا الوجه من الإسناد المجازي، أسند الإبصار إلى الآيات، وهو في الحقيقة لذوي البصائر، وهم إما كل أحدٍ، أو فرعون وملأه بقرينة: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا}. قوله: (أو جعلت كأنها تبصر فتهدي)، وعلى هذا الوجه هو استعارةٌ مكنيةٌ، شبهت الآيات في جلائها في نفسها وأنها بحيث يهتدي بها الناس، كأنها الشخص تبصر بنفسها فتهدي الناس، والهادي لتهدي غيرها، فإن العمى لا تقدر على الاهتداء، فضلاً أن تهدي غيرها.

فضلا أن تهدي غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء، وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوي. ونحوه قوله تعالى: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء: 102] فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار. وقرأ علىّ بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة: (مبصرة)، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة، أي: مكانا يكثر فيه التبصر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: {مُبْصِرَةً} مبينةً: اسم فاعل، أطلق للمفعول، وإشعارًا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي، والعمى لا تهتدي فضلًا عن أن تهدي، أو: مبصرةً كل من نظر إليها وتأمل فيها. قوله: (وكلمةٌ عوراء) أي: سقطةٌ لا اعتداد فيها. قال حاتم: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما قوله: (ومجفرة)، النهاية: "صوموا ووفروا أشعاركم، فإنها مجفرة"، أي: مقطعةٌ للنكاح ونقصٌ للماء. ومنه حديث علي رضي الله عنه: أنه رأى رجلًا في الشمس، فقال: قم عنها فإنها مجفرة. أي: تذهب شهوة النكاح. يقال: جفر الفحل يجفر جفورًا: إذا انقطع عن الضراب وعدل عنه وتركه وانقطع. وقال ابن جني: وقد كثرت المفعلة بمعنى الشياع والكثرة في الجواهر والأحداث جميعًا، نحو: أرضٌ مضبةٌ: كثيرة لاضباب ومثعلةٌ كثيرة الثعالي، ومحيأة كثيرة الحيات، وفي الأحداث نحو البطنة موسنةٌ، وأكل الرطب موردةٌ.

[(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)]. الواو في (وَاسْتَيْقَنَتْها) واو الحال، و "قد" بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون: 46]، (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون: 47] وقرئ: (عُلِيّا و (عِلِيّا) بالضم والكسر، كما قرئ (عِتِيًّا) و (عُتِيًّا) [مريم: 8]. وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما قرئ: {عِتِيًّا} [مريم: 8]، الجوهري: يقال: عتوت تعتو عتوًا وعتيًا وعتيًا. الأصل عتوٌ، ثم أبدلوا إحدى الضمتين كسرةً، فانقلبت الواو ياءً، فقالوا: عتيًا، ثم أتبعوا الكسرة الكسرة، فقالوا: عتيًا ليؤكدوا البدل. قوله: (جحدوا بألسنتهم)، الراغب: الجحد: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. يقال: جحد جحودًا وجحدًا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}، وتجحد: تخصص بفعل ذلك، يقال: رجلٌ جحدٌ: شحيحٌ قليل الخير يظهر الفقر، وأرضٌ جحدٌ: قليل النبت. يقال: جحداً ونكدًا. وقال أيضًا: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقينٍ، وهو: سكون النفس مع ثبات الحكم، يقال: أيقن واستيقن. وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]، أي: ما قتلوه قتلًا تيقنوه، بل إنما حكموا به تخمينًا ووهمًا.

الإيقان، وقد قوبل بين "المبصرة" و "المبين"، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه. [(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)]. (عِلْماً) طائفة من العلم، أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد قوبل بين "المبصرة" و"المبين")، لم يرد أنه من باب المقابلة التي هي الجمع بين المتضادين، بل أراد أنه كما وصف {آَيَاتُنَا} بقوله: {مُبْصِرَةً}، قوبل وصف السحر بالمبين دوماً للتطابق بين الفظين. ويجوز أن يعتبر معنى التضاد من كونهما وصفين للمتضادين: الآيات والسحر، فيفيد بلوغ كلٍّ من الحق والباطل غايته. قوله: (طائفةً من العلم أو علمًا سنيًا)، الانتصاف: والظاهر أن التنكير في {عِلْمًا} للتعظيم، لأنه في سياق الامتنان. قوله: (ولكن عطفه بالواو إشعارٌ بأن ما قالاه) بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم)، يعني: أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح، يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر، فجيء بالواو لأنها تستدعي معطوفاً عليه مضمراً، فيقدر بحسب ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: "فعملا به وعلماه"، لأنهما من الشكر بالجوارح، "وعرفا حق النعمةٍ فيه والفضيلة"، فإنه من الشكر بالقلب، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، فإنه من الشكر اللساني، فيستوعب جميع أنواع الشكر، ويوازي قول الشاعر:

وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا). والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم، وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله، كما قال: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة: 11]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفادتكم النعماء مني ثلاثًة ... يدي ولساني والضمير المحجبا ولو نص بالفاء لاقتصر على المذكور وفات المقصود. وبهذا التقرير ظهر أن ما ذهب إليه المصنف قمينٌ أن يتبع ويؤثر على ما اختاره صاحب "المفتاح" حيث قال: ويحتمل عندي أنه أخبر تعالى عما صنع بهما، وأخبر عما قالا، فكأنه قال: نحن فعلنا إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد تفويضاً لاستفادة ترتب الحمد على إيتاء العلم إلى فهم السامع، لأن الشكر على هذا يختص بالقول وحده والنعمة خطيرةٌ. قوله: (وشيءٌ من مواجبه)، قيل: المواجب: جمع موجب، بضم الميم وفتح الجيم، و"ذلك" إشارةٌ إلى ما دل عليه قوله: "بعض" و"شيء"، وهو البعض الآخر والشيء الآخر الذي لم يذكر. قوله: (دليلٌ على شرف العلم وإنافة محله)، قال القاضي: لأنهما شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبرا دونه مما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما.

وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ورثة الأنبياء" إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورثة الأنبياء)، روينا عن أبي داود والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء، لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافرٍ". قوله: (لأنهم القوام)، والقوام: الآمر عليهم، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، أي: أمراء عليهن، أي: لا يجري القصاص بالضرب بين الزوجين. قوله: (وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثيرٍ فقد فضل عليه مثلهم)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل، فأما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا. قلت: ولعله أشعر بأن المصنف رمز إلى أن المفضل عليهما الملائكة، كما قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ... وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. وأما الفرق بين المقامين فهو أن مقام المدح خلاف مقام الشكر والتواضع، وذلك أنه تعالى في ذلك المقام لما ذكر كرامة أبيهم من جعله مسجوداً للملائكة المقربين، وما منحوا من نعمة الدارين، عقبه بذكر كرامتهم وفضلهم على كثيرٍ من المخلوقين، أي: جمعهم كما

"كل الناس أفقه من عمر". [(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)]. ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه، وكانوا تسعة عشر، وكان داوود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ)؛ تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد. وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: "نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته"، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبق، وهاهنا، ذكر ما يجب عليهما من الشكر على كرامة الله إياهما وفضله، ومقام التواضع فيه توسعة، كما قال صلوات الله عليه: "لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى"، أخرجه البخاري ومسلم. قوله: (كل الناس أفقه من عمر)، قاله حين خطب فقال: يا أيها الناس، لا تغالوا بصدق النساء، فقامت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، لم تمنعنا حقاً جعله الله لنا، والله يقول: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]؟ ! فقال عمر: كل أحدٍ أعلم من عمر. أورده المصنف في "النساء". قوله: (هو ما يفهم بعضه من بعضٍ، من معانيه وأغراضه)، قال القاضي: والنطق

ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: "أتدرون ما يقول"؟ قالوا: "الله ونبيه أعلم". قال: "يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء". وصاحت فاختة، فأخبر أنها تقول: "ليت ذا الخلق لم يخلقوا". وصاح طاوس، فقال: "يقول: كما تدين تدان". وصاح هدهد، فقال: "يقول: استغفروا الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمنطق في المتعارف: كل لفظٍ يعبر به عما في الضمير، مفرداً كان أو مركباً، وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية- من حيث إنها تابعةٌ- منزلةٌ منزلة العبارات، سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهمها ما هو من جنسه، ولعل سليمان عليه السلام مهما صوت حيوانٌ علم بقوته الحدسية المخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه، ومن ذلك ما يحكى أنه مر بلبلٌ، إلى آخره. الراغب: النطق في التعارف: الأصوات المقطعة التي يظهرها اللسان وتعيها الآذان، قال تعالى: {أَلَا تَاكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 91، 92]، ولا يكاد يقال إلا للإنسان، ولا يقال لغيره إلى على سبيل التبع، نحو: النطق والصامت، فيراد بالناطق: ما له صوتٌ، وبالصامت: ما لا صوت له، وقوله: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}: سمى أصوات الطير نطقاً اعتبارًا بسليمان عليه السلام الذي كان يفهمه، فمن فهم من شيءٍ معنى، فذلك الشيء بالإضافة إليه ناطقٌ وإن كان صامتًا، وبالإضافة إلى من لم يفهم عنه صامتٌ وإن كان ناطقًا. وقيل: حقيقة النطق اللفظ الذي هو كالنطاق للمعنى في ضمه وحصره. قوله: (فعلى الدنيا العفاء)، النهاية: وفي حديث صفوان: إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً، وشربت عليه، فعلى الدنيا العفا، أي: الدروس وذهاب الأثر، وقيل: العفا: التراب. قوله: (كما تدين تدان)، المرزوقي: الدين لفظٌ مشتركٌ في عدة معانٍ: الجزاء، والعادة،

يا مذنبون". صاح طيطوى، فقال: "يقول: كل حىّ ميت، وكل جديد بال". وصاح خطاف، فقال: "يقول: قدّموا خيرا تجدوه". وصاحت رخمة، فقال: "تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه". وصاح قمري، فأخبر أنه يقول: "سبحان ربي الأعلى". وقال: "الحدأ" يقول: "كل شيء هالك إلا الله". والقطاة تقول: "من سكت سلم"، والببغاء تقول: "ويل لمن الدنيا همه"، والديك يقول: "اذكروا الله يا غافلين". والنسر يقول: "يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت"، والعقاب يقول: "في البعد من الناس أنس"، والضفدع يقول: "سبحان ربي القدوس". وأراد بقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كثرة ما أوتى، كما تقول: "فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء"، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ): قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، أي: أقول هذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والطاعة، والحساب. وهو قولهم: دناهم كما دانوا الجزاء، ويقولون: كما تدين تدان، أي: كما تصنع يصنع بك. قيل: سمى الأول باسم الثاني مشاكلةً. قوله: (رخمة)، الجوهري: الرخمة: طائرٌ أبقع يشبه النسر في الخلقة، يقال له: الأنوق، والجمع: رخمٌ. قوله: (والببغاء)، والببغى: بالتشديد مقصورٌ يكتب بالياء، والببغاء: بالتخفيف ممدودٌ، كالباقلا والباقلى. قوله: ("أنا سيد ولد آدم ولا فخر")، الحديث على ما رواه الترمذي، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض

القول شكراً ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا؛ وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع. وكان ملكا مطاعا، فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد، أو احتاج أن يدحج في عين عدوّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا فخر"، أي: أقول هذا القول ليعلم الناس فيتبعوني ويقتدروا بي، فيحصل لهم النجاة والسعادة في الدارين، ولا أقوله فخرًا. وقال صاحب " الفرائد": ويمكن أن يقال إنه صلوات الله عليه أراد بذلك إظهار مرتبته واختصاصه بمزيد فضلٍ من الله تعالى من بين الناس، حتى حصل له استحقاق أن يقول مثل ذلك، وهذا من باب الشكر. وقلت: يجوز أن يقال: إن هذا الإخبار كسائر ما تفضل الله عليه من نعم الدارين، وأنه صلوات الله عليه مأمورٌ بتبليغها إلى الأمة، يشهد له قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]. قوله: (أبهته)، الجوهري: الأبهة: العظمة والكبرياء. وفي بعض النسخ: "آيينه"، أي: مراتبه وبهائه. وقيل لذي القرنين: بيت على العدو، فقال: ليس من أيين الملوك استراق الظفر. وقيل: ليس البيان من أبين الملوك، ما وجدت في الأصول لهذا اللفظ ذكرًا.

ألا ترى كيف أمر العباس بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب. [(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)]. روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى كيف أمر العباس بأن يحبس أبا سفيان)، وذلك عند فتح مكة على ما روينا عن الباري، عن عروة بن الزبير بعد ذكر نبذٍ من أخبار أبي سفيان: فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين"، فحبسه، فجعلت القبائل تمر كتيبةً كتيبةً على أبي سفيان، فمرت كتيبةٌ فقال: يا عباس، من هذه؟ فقال: هذه غفارٌ، قال: مالي ولغفار، ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ثم مرت سليمٌ فقال ذلك، حتى أقبلت كتيبةٌ لم ير مثلها، قال أبو سفيان: من هذه؟ فقال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية. ثم جاءت كتيبةٌ وهي من أجل الكتائب، وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وراية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الزبير. الحديث. قوله: (حتى لا تقع) بالرفع، أراد الحال، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}

ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: أني قد زدت في ملكك؛ لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتى آل داود. (يُوزَعُونَ): يحبس أولهم على آخرهم، أي: توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة. [(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)]. قيل: هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت: لم عدّى (أَتَوْا) بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [البقرة: 214]، "لا" لا تمنع العامل، و"ما" تمنعه، تقول: زيداً لا أضرب، ولا تقول: زيداً ما ضربت. قوله: ({يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم)، الراغب: {يُوزَعُونَ} إشارةٌ إلى أنهم مع كثرتهم [وتفاوتهم] لم يكونوا مهملين ومبعدين كما يكون الجيش الكثير المتأذي بمعرتهم، بل كانوا مسوسين ومقموعين وقيل: لابد للسلطان من وزعةٍ. يقال: وزعته عن كذا: كففته. قوله: (سلاف العسكر)، الأساس: وسلف القوم: تقدموا سلفاً، وهم سلفٌ لمن وراءهم، وهم سلاف العسكر.

ولشدّ ما قربت عليك الأنجم لما كان قربا من فوق. والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ (نُمُلة)، (يا أيُّها النَّمُلُ)، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم: "السبع" في السبع. قيل: "كانت تمشي وهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولشد ما قربت عليك الأنجم)، أوله: فلشد ما جاوزت قدرك صاعداً يهجو رجلاً طلب منه أن يمدحه، يقول: ما أشد تجاوزك قدرك حين تطلب مني المدح، وعني بـ "الأنجم" أبيات شعره. قوله: (عند مقطع الوادي)، الوادي: من ودى، إذا سال، وإطلاقه على المكان مجازٌ، كقولهم: جرى النهر. قوله: (وقرئ: "نملة")، قال ابن جني: قرأ سليمان التيمي: "نملة"، "يا أيها النمل" بضم النون والميم، وهو تثقيل النملة. الراغب: طعامٌ منمولٌ، والنملة: قرحةٌ تخرج بالجنب تشبيهاً بالنمل في الهيئة وشقٌ في الحافر، ومنه: فرسٌ نمل القوائم، ويستعار النمل للنميمة تصورًا لدبيبه، فيقال: هو نملٌ وذو نملةٍ ونمال، أي: نمام، وتنمل القوم: تفرقوا للجمع تفرق النمل، ولذلك يقال: هو أجمع من نملةٍ.

عرجاء تتكاوس، فنادت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ): الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال". وقيل: "كان اسمها طاخية". وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس، فقال: "سلوا عما شئتم"، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا وهو غلام حدث. فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله: (قالَتْ) نَمْلَةٌ ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تتكاوس)، الجوهري: يقال: كاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقبٌ. قوله: (وعن قتادة)، قال صاحب "الجامع": هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأعمى، يعد في الطبقة الثالثة من تابعي البصرة، روى عن أنس بن مالك كثيراً. قوله: (وهو قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ}، ولو كانت ذكرًا لقال: قال نملةٌ)، الانتصاف: العجب من أبي حنيفة رضي الله عنه إن ثبت ذلك عنه، لأن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى، فيقال: نملةٌ أنثى، وشاةٌ وحمامةٌ، كذلك فلفظها مؤنث، ومعناه محتملٌ، وتأنيثها لأجل لفظها، وإن كان المراد بها ذكرًا وهو الأفصح المستعمل قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تضح بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء" أجرى الصفات على اللفظ المؤنث، ولا يعني الإناث من النعم خاصةً، كذا هاهنا، وكيف يسأل أبا حنيفة بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه. والأشبه أن هذا لا يصح عنهما. قال ابن الحاجب: التأنيث اللفظي: هو أن لا يكون بإزائه ذكرٌ في الحيوان، كظلمةٍ وعينٍ، ولا فرق بين أن يكون حيوانًا أو غيره، كدجاجة وحمامةٍ إذا قصد به مذكر، فإنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤنث لفظيٌ، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18] أنثى لورود تاء التأنيث في {قَالَتْ} وهما لجواز أن يكون مذكرًا في الحقيقة، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي، نحو: جاءت الظلمة. وأجابه بعض فضلاء ما وراء النهر، وقال: لعمري إن ابن الحاجب تعسف هاهنا وترك الواجب، حيث اعترض على إمام أهل الإسلام، واعتراضه بقوله: "وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي وهو مذكر"، ليس بشيءٍ، إذ لو كان جائزًا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل بمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر الحقيقي، لكان ينبغي أن يقال: جاءتني طلحة، وهو غير جائزٍ. وجوابه عن ذلك في "شرحه" بقوله: "وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام، فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ، خلافًا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلولٍ آخر، فاعتبروا فيها المدلول الثاني، ولو اعتبر تأنيثها لكان اعتبارًا للمدلول الأول، فيفسد المعنى، فلذلك لا يقال: أعجبتني طلحة" تناقضٌ محضٌ، كأنه نسى ما أمضى في صدر كتابه من قوله: "فإن سمى به مذكرٌ فشرطه الزيادة" يعني: فإن سمى بالمؤنث المعنوي، فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرفٍ. فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيها مقدرةٌ، فالعلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها، حتى لا تمتنع من الصرف، فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيها لفظية؟ ! فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامةً لتأنيث الفاعل، فالفاعل هاهنا مذكرٌ حقيقيٌ، فكذا النملة لو كان مذكرًا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وينصر قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما نقل عن ابن السكيت حيث قال: هذا بطةٌ ذكرٌ، وهذا حمامةٌ، وهذا شاةٌ، إذا عنيت كبشًا، وهذا بقرةٌ، إذا عنيت ثورًا. فإن عنيت أنثى قلت: هذه بقرةٌ. وقلت: نظر الإمام الأعظم وتفسير المصنف راجعٌ إلى أن مثل: حمامة وشاة ونملة، ألفاظٌ مشتركةٌ تقع على الذكر والأنثى، والتاء لبيان الوحدة مفتقرةٌ في تعيينها، لأحد مفهوميها إلى نصب قرينةٍ، إما صفةً مميزةً، نحو: حمامةٌ ذكر، وشاةٌ أنثى، أو علامةً تلحق الفعل، نحو: قالت نملة، وقال نملة، أو جعلها خبرًا لاسم الإشارة، نحو: هذا بقرةٌ، وهذه بقرةٌ. ومما يقوي هذا المذهب قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] وصفها بالصفراء بعد إجراء {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] عليها، وهي من أوصف النساء. فظهر أن القول ما قالت حذام، والمذهب ما سلكه الإمام. وفي "جامع الأصول" قال: لو ذهبنا إلى شرح مناقب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبسط فضائله لأطلنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض منها، فإنه كان عالمًا ورعًا، زاهدًا، عابدًا تقيًا، إمامًا في علوم الشريعة مرضيًا. قال الشافعي رضي الله عنه: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيالٌ على أبي حنيفة. وقال: قيل لم لمالكٍ رضي الله عنه: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.

وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامه أنثى، وهو وهي. وقرئ: (مَسْكَنكُم) و (لا يَحْطِمَنْكُمْ)، وقرئ: (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بفتح الحاء وكسرها. وأصله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والنمل مقولًا لهم)، أي: لأجلهم، فجعلهم كالمخاطبين، واللام في "لهم" مثلها في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [مريم: 73]، أي: لأجلهم، فجعلهم كالمخاطبين. قوله: (يحتمل أن يكون جوابًا للأمر، وأن يكون نهيًا بدلًا من الأمر)، روى صاحب "الفرائد"، عن الفراء: هو نهيٌ فيه طرفٌ من الجزاء. وعن الأخفش: بل هذا على تقدير الواو العاطفة يكون نهياً بعد أمرٍ. والتقدير: ادخلوا مساكنكم لا يحطنكم سليمان، وعلى قول الفراء التقدير: إن دخلتم مساكنكم لا يحطمنكم سليمان. وقال صاحب "الكشف": هذا وإن كان في المعنى صحيحًا إلا أن اللفظ يمنع من فصاحته، ولو حمل عليه، لأن النون لا تدخل في الجزاء إلا في ضرورة الشعر. وقال صاحب "الفرائد" يمكن أن يقال: لم يعطف، لأن توكيدٌ للطلب، فهو كما في الخبر، نحو قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2].

والذي جوّز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها. [(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)]. ومعنى (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه، بمعنى أنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم)، ومعنى هذا الأسلوب وهو أن ينهى الغير، والمراد: نهي المخاطب النهي عن أن يكون المخاطب على وصفٍ هو ملزوم المنهي عنه، فمآل المعنى: لا تكونوا خارجين عن مساكنكم فيحطمنكم سليمان وجنوده، ولذلك صح أن يكون بدلً من {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}. قوله: (عجبت من نفسي ومن إشفاقها)، بعده: ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سنةٍ قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها كشف الساق: عبارةٌ عن شدة الأمر، لأن الإنسان إذا أصابته شدةٌ شمر عن ساقه، والعراق: العظم الذي لا لحم عليه، والذي عليه لحمٌ فهو عرقٌ بفتح العين. بري اللحم. قشره، أي: عجبت من إشفاق نفسي، فجاء بقوله: "من نفسي ومن إشفاقها"، كما كان الأصل: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} جنود سليمان، فجاء بقوله: {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18]، ليكون أبلغ للإجمال والتفصيل والتكرير مع التبيين. قوله: (تبسم شارعًا في الضحك)، قال أبو البقاء: {ضَاحِكًا}، حالٌ موكدة.

قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء. وأما ما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه؛ فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميقع: (ضحكا). فان قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الكشف": هي حال مقدرة، أي: فتبسم مقدرًا الضحك، ولا يكون محمولًا على الحال المطلق، لأن التبسم غير الضحك، وأنه ابتداء الضحك، وإنما يصير التبسم ضحكاً إذا اتصل ودام، فلابد من هذا التقدير. قوله: (إن رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه)، مذكورٌ في حديث القيامة، آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة. أخرجه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن ابن مسعود. النهاية: النواجذ من الأسنان: الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك، والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان، والمراد: الأول، لأنه ما كان يبلغ به الضحك حتى يبدو آخر أضراسه، ولو أريد الثاني لكان مبالغةً في ضحكه من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان. وإليه أشار المصنف بقوله: "فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي". قوله: (عند الاستغراب)، النهاية: وفي الحديث: إنه ضحك حتى استغرب، أي: بالغ فيه. يقال: أغرب في ضحكه واستغرب، وكأنه من الغرب: البعد، وقيل: هو القهقهة. قوله: (وقرأ ابن السميفع: ضحكاً)، السميفع: بفتح السين والفاء، وقد يضم.

دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ): تعني: أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جني: "ضحكًا" منصوبٌ على المصدر بفعل مضمر يدل عليه "تبسم"، كأنه قيل: ضحك ضحكًا. هذا مذهب صاحب "الكتاب"، وقياس قول أبي عثمان في قولهم: تبسمت وميض البرق، أنه منصوبٌ بنفس "تبسمت"، لأنه في معنى: أومضت. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون اسم فاعلٍ مثل: نصب، لأنه ماضيه: ضحك، فهو لازمٌ. قوله: (الحكل)، الحكل: ما لا يسمع له صوتٌ. وقال رؤبة: لو كنت قد أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل قوله: (ولذلك اشتمل دعاؤه)، أي: ولأجل أن قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} كان منيًا على أمرين: على شهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى، وعلى إحاطته بمعنى ما أدركه سمعه ما همس به الحكل، أردفه بقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، لأنهما نعمتان جليلتان موجبتان شكر منعمهما. قوله: (على استيزاع الله)، الراغب: قيل: الوزوع: الولوع بالشيء، ورجل وزوعٌ،

شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة (أَوْزِعْنِي): اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، قيل: ألهمني، وتحقيقه: أولعني ذلك واجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران. وقال الزجاج: {أَوْزِعْنِي}: ألهمني: وتحقيقه وتأويله في اللغة: كفني عن الأشياء التي تباعد عنك. فعلى هذا هو كنايةٌ تلويحيةٌ، فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به يقيد تلك النعمة من الشكر، وعلى تقدير المصنف: استعارةٌ مكنية بحيث جعل شكر النعمة كالناقة، فطلب أن يجعله كعقاله مرتبطاً إياه. وإليه الإشارة بقوله: "لا ينفلت عني"، والمراد: قيد النعمة باستدامة الشكر والمحافظة عليها. ومنه الحديث: "النعمة وحشية قيدوها بالشكر، فإنها إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت". وقوله: "احذروا نفار النعم بقلة الشكر، فما كل شاردٍ بمردودٍ". قوله: (وعلى استيفاقه)، الجوهري: واستوقفت الله، أي: سألته التوفيق. وقال أبو القاسم القشيري: التوفيق ما تتفق به الطاعة، وهو القدرة التي تصلح للطاعة، واختص هذا الاسم بما يتفق به الخير دون الشر عرفًا شرعيًا.

لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضي الله عنك وعن والديك. وروي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) واجعلني من أهل الجنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن النعمة على الولد نعمةٌ على الولدين)، هذا إذا قيدت النعمة المطلقة في {أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بما سبق من النعمتين، وأما إذا تركت على إطلاقها لتدخل فيها هاتان النعمتان دخولًا أوليًا يكون الحكم بالعكس، أي: النعمة على الوالد نعمةٌ على الولد، كما في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] إلى قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] إلى آخر الآيات، ويعضده قوله تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبا: 13] بعد قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: 10]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [سبأ: 12] إلى آخره، ولأن قوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19] مطابقٌ لقوله: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] لإرادة المبالغة، فليتأمل. قوله: (لئلا يذعرن)، ذعرته: أفزعته، ذعر فهو مذعورٌ. قال: ذعرت به القطا وبقيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين ومعنى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}: واجعلني من أهل الجنة، أي أنه كنايةٌ عنه، كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29، 30]، أي: ادخلي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، وادخلي جنتي معهم.

[(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)]. (أَمْ) هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال: (ما لِيَ لا أَراهُ" على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: "أهو غائب"؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه قولهم: إنها لإبلٌ أم شاءٌ)، قيل: لو قال ونحوه قوله: "أزيدٌ عندك أم عندك عمرٌو" كأن أولى، لأن "أم" المنقطعة تقع في الاستفهام والخبر، وما نحن فيه من قبيل الاستفهام، وأنت في الاستفهام تكون مستفهمًا عن واحد بعينه بعد إضرابك عن الآخر، فكأنك قلت: أزيدٌ عندك؟ ظانًا أنه عند المخاطب، ليوقفك على حقيقة الأمر بلا ونعم، ثم بدا لك وصرت ظاناً أن الذي عنده هو عمرٌو، وأردت أن تترك الاستفهام عن زيدٍ إلى الاستفهام عن عمروٍ، فقلت: أم عندك عمروٌ؟ ولذلك ذكرت لكل واحدٍ منهما خبرة، لإضرابك عن الكلام الأول، واستفهامك عن الكلام الآخر. وأما الخبر الثابت فأنت في قولك: "إنها لإبلٌ" جئت بالإخبار المحض، ثم جئت بعدها بالاستفهام، كأن قائل هذا سبق بصره إلى شبحٍ فظنه إبلاً فأخبر عن مقتضى ظنه، ثم اعتراه الشك فأعرض عنه، فـ "أم" هذه متضمنةٌ الهمزة "وبل"، فـ "بل" تدل على أنه قد أضرب عما سبق من الكلام، والهمزة على أنه يستفهم كلامًا آخر. وقلت: معنى قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} الإخبار وإن كان لفظه الطلب، وإليه الإشارة بقوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى} على معنى أنه لا يراه وهو حاضرٌ لساترٍ ستره أو غير ذلك، فإنه في الجزم كونه حاضرًا مثل قوله: "إنها لإبلٌ"، وليس مثل: "أزيدٌ عندك"، لأنه ينكر على نفسه إنكارًا بليغًا عدم رؤيته، وهو حاضرٌ، وكذا الجملة الثانية تقريرٌ لإثبات خلافه، وأنه غائبٌ قطعاً لمجيء "كان" وإيقاع "من الغائبين" خبراً له لدلالتهما على أنه متوغلٌ في الغيبة. قال: بعيد، هذا في قوله: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]: "إن كنت من

تجهز للحج بحشره، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكاذبين" أبلغ من: كذبت، لأنه إذا كان معروفًا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبًا لا محالة، فالهمزة للتقرير، وإليه أومأ بقوله: "كأنه يسأل عن صحة ما لاح له". قوله: (بحشرةٍ)، فعلٌ بمعنى مفعول، كالنقص والخطب، وقيل: جمع حاشرٍ، كالحرس في جمع حارس، إذا كانت الرواية "بحشرةٍ" بفتح الشين. قوله: (قناقنه)، الجوهري: القنقن: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القني، وكذلك القناقن بالضم، والجمع القناقن بالفتح، كالجلاجل جمع الجلاجل. ونظير القناقن- بالضم- في أنه نعت فردٍ: العذافر، وهو الجمل القوي، وتحليق الطائر: ارتفاعه في طيرانه. قوله: (فتفقده)، الفقد: عدم الشيء بعد وجوده، وهو أخص من العدم، فإن العدم يقال فيه وفيما لم يوجد بعد. قال تعالى: {مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 71، 72]، والتفقد: التعهد، لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء، والتعهد: تعرف العهد المتقدم. قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ}. الفاقد: المرأة تفقد ولدها أو زوجها. قوله: (ملك بلقيس)، بلقيس: بالعربية بكسر الباء، وبالعجمية: بفتح الباء: وهي بيت قريقيس.

عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علىّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال: "بحق الذي قوّاك وأقدرك علىّ إلا رحمتينى"، فتركته وقالت: "ثكلتك أمك، إنّ نبى الله قد حلف ليعذبنك"، قال: "وما استثنى"؟ قالت: "بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين"، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها علىّ الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال: "يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله"، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: " كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه". وقيل: "أن يطلى بالقطران ويشمس". وقيل: "أن يلقى للنمل يأكله". وقيل: "إيداعه القفص". وقيل: "التفريق بينه وبين إلفه". وقيل: "لألزمنه صحبة الأضداد". وعن بعضهم: "أضيق السجون معاشرة الأضداد". وقيل: "لألزمنه خدمة أقرانه". فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة: جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ: (ليأتينى) و (ليأتينن). والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت: قد حلف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عفريت الطير)، نقل صاحب "النهاية" عن المصنف: العفر والعفرية والعفريت والعفارية: القوي المتشيطن الذي يعفر قرنه، والياء في عفرية وعفارية للإلحاق، والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل. وفي بعض النسخ: "عريف الطير"، العريف: النقيب، وهو دون الرئيس عرف عرافةً بالضم والكسر: صار عريفاً. قوله: ("ليأتينني" و"ليأتينن")، قرأ ابن كثيرٍ: "ليأتينني" بنونين، الأولى مفتوحةٌ

على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان، حتى يقول: "والله ليأتيني بسلطان"؟ قلت: لما نظم الثلاثة بـ "أو" في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مشددةُ، والباقون: بواحدةٍ مكسورةٍ مشددةٍ، والأصل قراءة ابن كثيرٍ، لكن حذفت النون التي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات. قوله: (لما نظم الثلاثة بـ "أو" في الحكم الذي هو الحلف)، يعني: إن كان العطف جمع الأمور الثلاثة في حكم الحلف ظاهراً، لكن "أو" الثانية للترديد، والأولى للتخيير، فيكون قوله: {أَوْ لَيَاتِيَنِّي} معطوفاً على {لَأُعَذِّبَنَّهُ}، لا على {لَأَذْبَحَنَّهُ}، ليؤول معنى الثلاثة إلى الآيتين، فكأنه قيل: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيبٌ ولا ذبحٌ، وإن لم يكن كان أحدهما من غير تعيينٍ، فليس حينئذٍ في الكلام ادعاء درايةٍ من سليمان عليه السلام لانبناء الكلام على التخيير والترديد. قال القاضي: والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث. قوله: (أن يتعقب حلفه)، الجوهري: عاقبه أي جاءه بعقبه، فهو معاقبٌ وعقيبٌ، والتعقيب مثله، يعني قوله: {أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أوحي إليه بعد حلفه بالفعلين، أي: فلما أتم كلامه عقبه بما أوحى إليه، وما أوحى إليه لا يكون إلا يقيناً عن درايةٍ. الدراية: علمٌ يحصل بالتكلف، ولهذا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى.

من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله: (أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) عن دراية وإيقان. [(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)]. (فَمَكَثَ) قرئ بفتح الكاف وضمها. (غَيْرَ بَعِيدٍ) غير زمان بعيد، كقولك: عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله عز وجل. (أَحَطْتُ): بإدغام الطاء في التاء؛ بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قول الشاعر: والله لا أدري وأنت الداري فشاذٌ، يقال: دريته ودريت به دريًا، ودريةً ودرايةً. قوله: ({فَمَكَثَ} قرئ بفتح الكاف وضمها)، بالفتح عاصمٌ، وبالضم الباقون. قوله: ({أَحَطتُ} بإدغام الطاء في التاء بإطباقٍ وبغير إطباقٍ)، قيل: ذهب بعضهم إلى أن الحروف المطبقة تدغم في غيرها مع بقاء الإطباق، ورده ابن الحاجب بأن الإطباق صفةٌ للمطبقة ولا يكون إلا بها، وإذا لم يكن إلا بها ينافي الإدغام، لأنه يجب إبدالها إلى المدغم فيه، فيؤدي إلى أن تكون موجودةً غير موجودةٍ وهو متناقضٌ، وذلك أن الإطباق رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج عنده، فلا يستقيم

فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا بنفس الحرف، وإذا كان كذلك فالتحقيق أن نحو: {فَرَّطْتُ} [الزمر: 56]، و"أغلطت"، و {أَحَطتُ} بالإطباق ليس معه إدغامٌ، ولكنه لما اشتد التقارب وأمكن النطق بالثاني مع الأول من غير نقل اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل، فأطلق عليه الإدغام. وأيضاً الإنسان يحس من نفسه عند قوله: {أَحَطتُ} النطق بالطاء خفيفةً وبالتاء بعدها، فلا يجوز أن يقال: إن الطاء مدغمةً، لأن إدغامها يوجب قلبها إلى ما بعدها. قوله: (فكافح سليمان)، الأساس: كافحه لاقاه مواجهةً عن مفاجأةٍ، ولقيته كفاحًا وكافحوهم في الحرب: ضاربوهم تلقاء الوجوه. الجوهري: أي ليس دونها ترسٌ ولا غيره. وكافح هاهنا مستعارٌ لمواجهة الكلام وسلوك طريق التصريح، دون الإيماء والتلويح كما هو عادة المتسفل أن يتكلم بين يدي المستعلي، لاسيما المخاطب نبي الله، ومن ثم قال محيي السنة: الإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك، وجئتك {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}. وليست هذه المكافحة من قبيل رفع الصوت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] حتى تعارض به، ويقال: كيف يمكن للهدهد المكافحة وهو أضعف مخلوق، وقد أمر الله تعالى المؤمنين الذين هم أشرف الخلائق بخفض الصوت عند نبيه بقوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2]، لأن هذا تأديب وتهذيب لسليمان عليه السلام وذلك تعظيم لجلالة حضرة الرسالة ورفع منزلتها، ولكل مقام مقال. فعلى الخائض في الطعن إلقاء البال، وذلك أن نبي الله سليمان حينما رأى سوابغ نعم الله- والآية في حقه وفي حق أبيه- ملكًا وعلمًا واستبدادهما بالمزية والفضل على سائر الناس، حتى قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}، وعقبه بقوله: {يَا أَيُّهَا

والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِين} [النمل: 16]، وأراد الله تعالى أن يثبته على هذا الشكر، ولا تؤديه تلك النعم إلى العجب والطغيان، ألهم الهدهد لمكافحته تهييجًا له وإلهاباً وابتلاءً وتنبيهًا. وقريبٌ منه قوله تعالى في حق أفضل الخلق: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب} إلى قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [يونس: 94، 95]، أي: دم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ونظير هذا الابتلاء الكليم بالخضر عليهما السلام. روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك". الحديث بتمامه. ولعل المصنف نظر في كلام سليمان عليه السلام وافتخاره بالعلم والملك فبنى كلامه عليهما، فقوله: "لتتحاقر إليه نفسه"، ينظر إلى الملك، و"يتصاغر إليه علمه" إلى العلم، فعلى هذا قوله: "ابتلاءً له في علمه"، مفعولٌ له لقوله: "ألهم الله"، و"تنبيهاً" عطفٌ عليه. وقوله: "لتتحاقر"، تعليلٌ لقوله: "تنبيهاً"، وإنما أتى باللام فيه، لأنه ليس فعلًا للمنبه، بخلافه في قوله: "تنبيهًا"، لأنه فعلٌ للملهم، والضميران في "إليه" و"نفسه" في الصيغتين لسليمان عليه السلام. قال في "الأساس": تحاقرت إليه نفسه، وقد حقر في عيني حقارةً، وتصاغرت إليه نفسه: صارت صغيرة الشأن ذلًا ومهانةً، ولله سبحانه وتعالى أن يمتحن أفضل الخلق بأحقره بناءً على المشيئة المحضة أو المصلحة على الخلاف.

وتنبيها على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب؛ الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما: أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أدنى خلقه وأضعفه)، لأن الهدهد من البغاث لا من العتاق، قال: سليمان ذو ملكٍ تفقد هدهدا ... وإن أخس الطائرات الهداهد قوله: (قالوا: فيه دليلٌ على بطلان قول الرافضة)، يعني: دل بإشارة النص والإدماج على أن ما قالوا: إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيءٌ من الجزئيات باطلٌ، لأن هذا الهدهد قد اطلع على ما خفي على نبي الله سليمان، ولا يلزم من ذلك فضل آحاد الناس على سيدنا صلوات الله عليه. روينا عن الإمام أحمد وابن ماجه، عن طلحة بن عبيد الله قال: مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقومٍ على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء"؟ قالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى تلقح، فقال رسول اله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن ذلك يغني شيئاً" فأخبروا بذلك فتركوه، فاخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فإن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيءٍ فخذوا مني، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية أحمد: فقال: "إذا كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به". وأما تحقيق المسألة: فقد ذكره الإمام في "نهاية العقول" قال: اتفقت الإمامية على أن

(سبأ) قرئ بالصرف ومنعه. وقد روي بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإمام يجب أن يكون عالمًا بكل الدين، فإن كان مرادهم بذلك أنه يجب أن يكون عالمًا بجميع القواعد الشرعية وضوابطها، وبكثيرٍ من الفروع الجزئية لتلك القواعد، بحيث لو حدثت حادثةٌ ولا يعلم حكمها يكون متمكنًا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح، فذلك مذهبنا، وهو الذي نعني بقولنا: الإمام يجب أن يكون مجتهدًا، وإن عنوا به أن الإمام يجب أن يكون عالمًا على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها، فليس الأمر عندنا كذلك. والمعتمد في إفساده: أن الجزئيات التي يمكن وقوعها غير متناهيةٍ، فيستحيل حصوله للإنسان. قالوا: يجب للإمام أن يحكم في كل الأمور، لأنه لا يحسن من الملك أن يفوض سياسة جنده ورعيته إلى من لا يعرف السياسة وأحكام الملك، ولأنه لو لم يعلم الأحكام كلها لجاز أن يحدث حادثٌ لا يعرف حكمها، ولا يؤدي اجتهاده إليه، ولا يتسع الزمان لمراجعة الاجتهاد، ولأن الجهل بكل الشريعة منفرٌ، ولا يجوز ثبوته للإمام قياسًا على النبي. ويعني بكونه منفرًا أن الناس إذا علموا أنه يخفى على إمامهم شيءٌ من الأحكام استنكفوا منه. وأجاب الإمام عن الأسئلة بأجوبةٍ شافيةٍ، فلينظر هناك. وعن بعضهم أنهم تمسكوا بقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] أرادوا به الإمام الذي يستخلف، والصحيح أنه يجوز استخلاف المفضول عند وجود الفاضل، فلهذا ترك عمر رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة نفرٍ وفيهم الفاضل والمفضول، والحق أن المراد بقوله: {إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]: اللوح المحفوظ، لقوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12]، والله أعلم. قوله: ({سَبَإِ} قرئ بالصرف ومنعه)، البزي وأبو عمروٍ: "سبأ" هاهنا، وفي سبأ: بفتح

(سبا)، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدي سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحىّ أو الأب الأكبر صرف. قال: من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهمزة من غير تنوينٍ، وقنبل: بإسكانها على نية الوقف، والباقون: بالخفض مع التنوين. قوله: (ذهبوا أيدي سبا)، الجوهري: ذهبوا أيدي سبا، وأيادي سبا، أي: متفرقين، وهما اسمان جعلا واحدًا، مثل: معدي كرب. الراغب: سبأ: اسم بلدٍ تفرق أهله، ولهذا يقال: ذهبوا أيادي سبأ، أي: تفرقوا تفرق أهل هذا المكان من كل جانبٍ. روينا في "مسند الإمام أحمد" وفي "سنن الترمذي" و"أبي داود"، عن فروة بن مسيكٍ، أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما سبأ: أرضٌ أو امرأةٌ؟ قال: "ليس بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولكنه رجلٌ ولد عشرةً من العرب، فتيامن منهم ستةٌ، وتشاءم منهم أربعةٌ، فأما الذين تشاءموا فلخمٌ وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون وحمير وكندة ومذحجٌ وأنمار"، فقال: رجلٌ: وما أنمار؟ فقال: "الذين منهم خثعمٌ وبجيلةٌ". قوله: (من سبأ الحاضرين)، البيت. "الحاضرين": صفة سبأ، و"مأرب" مفعول "الحاضرين"، و"إذ" ظرفه، وقيل: "مأرب" ظرفٌ لـ "الحاضرين" و"إذ" أيضًا. و"العرم": السد يصنع في الوادي لتحبيس الماء. يمدح رجلًا هو من قبيلة سبأ الحاضرين مدينة مأرب الذين بنوا العرم دون السيل،

وقال: الواردون وتيم في ذرى سبإ ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. و (النبأ): الخبر الذي له شأن. وقوله: (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون: البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: العرم المسناة التي بنتها بلقيس سكرًا وسداً، والمعنى: يبنون من دون السيل السد. قوله: (الواردون)، البيت. الذرى- بالفتح-: كل ما استترت به، يقال: إنا في ظل فلانٍ وفي ذراه، أي: كنفه وستره. وذرى كل شيء: أعاليه، الواحدة: ذروة، يقول: الواردون هم وتيم في أعلى أرض سبأ مغلولين بأغلالٍ من جلد الجواميس، بحيث تعض أعناقهم. وصرف "سبأ" إذ جعله بمعنى الحي أو الأب الأكبر. قوله: (معافر)، قيل: معافر حيٌ من همدان، وإليه تنسب الثياب المعافرية. الأساس: المعافرية: ثياب منسوبةٌ إلى بلد نزل فيه معافر بن أد. قوله: (الذي سماه المحدثون: البديع)، أي: المتأخرون، جعلوه من قسم البديع، واسم هذه الصنعة في البديع: تضمين المزدوج، وهو أن يقع في أثناء القرائن في النظم أو النثر لفظان مسجعان بعد رعاية حدود الأسجاع والقوافي، وقد جاء في الشعر: مضى الصاحب الكافي ولم يبق بعده ... كريمٌ يروي الأرض فيض غمامه فقدناه لما تم واعتم بالعلا ... كذاك خسوف البدر عند تمامه

معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان (بِنَبَإٍ) "بخبر"، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. [(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)]. المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال)، وهي ما في الإنباء من معنى الإخبار الذي ينبه السامع على الشيء من حيث لا يدري. الراغب: النبأ: خبرٌ ذو فائدةٍ عظيمةٍ يحصل به علمٌ أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأٌ حتى يتضمن لما ذكر، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأٌ أن يتعرى عن الكذب كالتواتر، وخبر الله تعالى وخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولتضمن النبأ لمعنى الخبر يقال: أنبأته بكذا، أي: أخبرته به، ولتضمنه معنى العلم قيل: أنبأته كذا، ويقال: أنبأته ونبأته، ونبأته أبلغ. الأساس: أتاني نبأٌ من الأنباء، وأنبئت بكذا وكذا، ورجلٌ نابئٌ وسيلٌ نابئٌ طارئٌ من حيث لا يدري، وهل عندكم نبائة خبرٍ. وقال الشاعر: ألا فاسقياني وانفيا عنكما القذى ... فليس القذى بالعود يسقط في الخمر ولكن قذاها كل أشعث نابئٍ ... أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري والخبر الذي يكون بهذه المثابة يعتني بشأنه، ومن ثم قال: "النبأ: الخبر الذي له شأنٌ"، فيكون قد أدمج فيه تتميم معنى المكافحة الذي يعطيه قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، كما قال: "فكافح سليمان بهذا الكلام ... ابتلاءً ونبهه به على أن في أدنى خلقه من أحاط علمًا بما لم يحط به".

أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في (تَمْلِكُهُمْ) راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها: "كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين". وقيل: "ثلاثين مكان ثمانين"، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص من يقف على قوله: (وَلَها عَرْشٌ) ثم يبتدئ (عَظِيمٌ وَجَدْتُها) يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نوكى القصاص)، الجوهري: النوك- بالضم-: الحمق. قال: وداء النوك ليس له دواء والنواكة: الحماقة، وقومٌ نوكى ونوكٌ أيضًا على القياس، مثل: أهوج وهوج. قوله: (فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمةٍ)، قال صاحب "المرشد": ولا

فإن قلت: كيف قال: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مع قول سليمان: (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 16]؛ كأنه سوّى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها؛ فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك؛ لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. [(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوقف على {عَرْشٌ}، وقد زعم بعضهم جوازه، وقال: معناه: عظيمٌ عند الناس، وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتمٍ وغيره من المتقدمين، ونسبوا القائل به إلى جهل. وقول من قال: معناه عظيمٌ عبادتهم للشمس من دون اله، قولٌ ركيكٌ لا يعتد به، وليس في الكلام ما يدل عليه، والوقف عند قوله: {عَظِيمٌ} حسنٌ. قوله: (فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها)، قال صاحب "الكشف": قيل التقدير: وأوتيت من كل شيءٍ يؤتاها، أي: يؤتى المرأة. ألا ترى أنها لم تؤت الذكر.

فإن قلت: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب "الحيوان"، خصوصا في زمن نبىّ سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. من قرأ بالتشديد أراد: (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون (لا) مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الرجاح العقول)، الأساس: ومن المجاز: رجلٌ راجح العقل، وفلانٌ في عقله رجاحةٌ، وفي خلقه سجاجةٌ، وقومٌ مراجيح العلم. قوله: (استقراء ذلك)، الجوهري: قروت البلاد قروًا وقريتها وأقريتها واستقريتها: إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرضٍ. وقيل: ألف الجاحظ كتابًا سماه "كتاب الحيوان"، وقيل: "طبائع الحيوان". قوله: (ومن قرأ بالتشديد)، قرأ الكسائي: "ألا يا اسجدوا" بتخفيف اللام، ويقف على "ألا يا" ويبتدئ "اسجدوا" على الأمر، أي: ألا يا أيها الناس اسجدوا. والباقون: يشددون اللام لإدغام النون فيها، ويقفون على الكلمة بأسرها. قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فالمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}، أي: فصدهم لأن لا يسجدوا، وموضع "أن" نصبٌ بقوله: {فَصَدَّهُمْ}، أو يجوز أن يكون خفضًا، وإن حذفت اللام. ومن قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدةٍ، ومن قرأ بالتشديد فلا.

ومن قرأ بالتخفيف، فهو (ألا يسجدوا)، (ألا) للتنبيه، و (يا) حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال: ألا يا أسلمي يا دار مىّ على البلى وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش: (هَلّا) و (هَلَا)؛ بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد الله: (هلا تسجدون) بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبىّ: (ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون) وسمي المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى)، تمامه لذي الرمة: ولا زال منهلًا بجرعائك القطر انهل القطر انهلالًا، أي: سال بشدةٍ، والجرعاء: الرملة المستوية التي لا تنبت شيئًا. قوله: ("هلا" و"هلا")، بالتشديد والتخفيف على القراءتين، بقلب الهمزة هاءً. وفي "المطلع": فإن قيل: كيف جاء في قراءة التخفيف مكتوبًا في المصحف {يَسْجُدُوا} كما يكتب المضارع، وحرف النداء لا يوصل بالفعل كتابةً؟ ! قلت: رسم الكتابة الأولى كان على موافقة اللفظ كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] وأشباهه، فلما وصلت الياء من حرف النداء بسين "اسجدوا" لفظًا كتبت الياء موصولةً بها، على أنه يجوز أن الإمام بناه على القراءة بالتشديد، وهذا هو العذر في قوله: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] لمن فسره بـ "ألا يا ناس اتقون". قوله: (مما خبأه عز وعلا من عيوبه)، الراغب: الخبأ: يقال لك مدخرٍ مستورٍ، ومنه:

وقرئ: (الخب)، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرّج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجري الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول: الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ: (يخفون ويعلنون) بالياء والتاء. وقيل: من (أَحَطتُ إلى (العَظِيمِ) هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاريةٌ مخبأة، والخبأة: هي التي تظهر مرةً، وتخبأ أخرى، والخباء: سمةٌ في موضعٍ خفيٍّ. قوله: (لا على لغة من يقول: الحمأة والكمأة)، أي: يقولون في الحمأة والكمأة بالهمز: الحماة الكماة، لأنها مستر ذلةٌ، لأن الاصل في تخفيف الهمزة- إذا سكن ما قبلها- الحذف، لا القلب، كالحمة والكمة. الجوهري: الحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين، والكمأة واحدها كمءٌ على غير قياس، وكمأت [القوم] كمأ: أطعمتهم الكمأة. قوله: (وقرئ: "يخفون" و"يعلنون" بالتاء والياء)، بالتاء الفوقانية: حفصٌ، والباقون: بالياء. قوله: (وقيل: من {أَحَطتُ} إلى {الْعَظِيمِ} هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة)، قال رحمه الله: معناه: أنه كلام الله ألقى حكايته على لسان الهدهد. قال صاحب " التقريب": وفي الثاني نظرٌ، لأن قوله: {أَحَطتُ} إلى آخره، ظاهرٌ أنه من كلام الهدهد، فلعل الخلاف من قوله: "ألا يا اسجدوا" على التخفيف، كما هو في

وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "اللباب"، وفيه: من قرأ بلفظ الأمر، أي: "ألا يا اسجدوا"، فهو استئناف كلامٍ من الله تعالى، وقيل: متصلٌ بكلام الهدهد، وقيل: من كلام سليمان. وقلت: الواجب التوافق بين القراءتين الثابتتين. قوله: (وفي أخراج الخبء: أمارةٌ على أنه من كلام الهدهد)، يريد أن المناسب من حال الهدهد وكونه قناقن نبي الله، وصاحب وضوئه أن يعظم الله ويسبحه بما تكرر عنده في خزانة خياله من إخراج الخبء، وإلا فالله عز وجل له الأسماء الحسنى، وإليه الإشارة بقوله: "ما عمل عبدٌ عملًا إلى ألقى الله عز وجل عليه رداء عمله". قوله: (لهندسته)، الجوهري: المهندس: الذي يقدر مجاري القني حيث تحفر، وهو مشتقٌ من الهنداز، وهي فارسيةٌ فصيرت الزاي سينًا، لأنه ليس في شيءٍ من كلام العرب زايٌ بعد الدال، والاسم الهندسة. قوله: (ذي الفراسة النظار بنور الله)، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، أخرجه الترمذي عن أبي سعيدٍ. الجوهري: الفراسة من قولك: تفرست فيه خيرًا، وهو يتفرس، أي: يتثبت وينظر.

مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: "ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله". فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت، هي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال المصنف: وحقيقة المتوسمين: النظر المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء، ومعنى قوله: "ولا يكاد يخفى ... " إلى آخره: أن صاحب الفراسة لا يخفى عليه إذا توسم في منظر شخصٍ، أو منطقة، أو شمائله، ما أبطن به اختصاصه بصنعة أو فعل، قال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]. قوله: (مخائل)، الجوهري: يقال: أخلت فيه خالًا من الخير، وتخولت فيه خالًا، أي: رأيت فيه مخيلته. الأساس: أخطأت في فلانٍ مخيلتي، أي: ظني: ورأيت في السماء مخيلة، وهي السحابة، فخالها ماطرةً لرعدها وبرقها، ورأيت فيها مخايل. وعن بعضهم: يقال: ما أحسن مخيلة السحاب وخاله، أي: خلاقته للمطر، ويقال: مخيلٌ للخير، أي: خليقٌ له، والخال: السحاب الذي فيه مخايل المطر، أي: مظانه. قوله: (روائه)، أي: منظره البهي، يقال: من الرئي، يقال: رجل له رواءٌ، بالضم، ونظيره قولهم: إن الجواد عينه فراره، أي: يغنيك ظاهره عن اختبار باطنه، كقول عبد الله ابن رواحة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: "ما هذا بوجه كذابٍ"، ثم قال لنفسه: لو لم يكن فيه آياٌ مبينةٌ ... كانت بداهته تنبيك بالخبر ويروى: "تغنيك".

واجبة فيهما جميعا، لأنّ مواضع السجدة؛ إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجود، والأخرى ذمٌ للتارك)، يريد القراءة بتخفيف {أَلَّا يَسْجُدُوا} وبتثقيلها، وقلت: أما المعنى على التثقيل وبيان الذم، فإن الهدهد أخبر نبي الله أنه وجد قومًا مرتكبين أمرًا فظيعًا، حيث يسجدون لما لا ينبغي السجود له، ويمتنعون عن سجود من يجب عليهم سجوده، ثم بين لهم بعض وجه امتناعهم عن السجود لله تعالى إلى السجود للغير بقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، لأن الواو تقتضي معطوفًا عليه هو سببٌ لما تقدم، المعنى: ذلك بأن الله رقم عليهم الشقاوة وحرمهم التوفيق، وسلط عليهم الشيطان حتى زين لهم الكفر، فسجدوا لمن لا يستحقه، لكونه مخلوقًا مسخرًا، فصدهم عن الطريق المستقيم بأن امتنعوا عن السجود لمن يستحقه، لتفرده بكمال القدرة من إخراج الخبء من الأرض والسماوات، وشمول العلم بالخفيات. والمعنى على التخفيف: إذا كان "ألا يسجدوا" من كلام الهدهد، فالمخاطبون إما بلقيس وقومها، وهم غيبٌ، فإن الهدهد عند هذا التقرير احتمى وغضب عليهم لله تعالى، فجعلهم حضارًا، والتفت إليهم فكافحهم به، وواجههم، أو نبه من بحضرة نبي الله، ليثبتوا على ما هم فيه، ويغتنموا فرصة الإسلام. وأما قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فكالاستدراك والترقي، فإن الهدهد لما وصف الله تعالى بما في خزانة خياله من إخراج الخبء رأى بعد ذلك تقصيره في ذلك الرتب، لأن السجود غاية الخضوع والتذلل، ولا يستوجبه إلا من له غاية الجلال والعظمة والكبرياء، فثنى إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، ولذلك قطعه من الأوصاف الجارية على الله، وأتى باسم الذات الجامعة، وقرنه بكلمة التوحيد، وأردفه بقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. قال الجوهري: المعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. وقال بعضهم: إن "يا" في هذا الموضع

أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة (ص) - فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر- وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على: (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) ثم ابتدأ (أَلَّا يَا اسْجُدُوا)، وإن شاء وقف على (ألا يا)، ثم ابتدأ (اسجدوا) وإذا شدّد لم يقف إلا على (الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). فإن قلت: كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأنّ وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك. ووصف عرش الله بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما هو للتنبيه، كأنه قال: "ألا اسجدوا" فلما أدخل عليها "يا" للتنبيه سقطت الألف التي في "اسجدوا"، لأنها ألف وصلٍ، وذهبت الألف التي في "يا" لاجتماع الساكنين، لأنها والسين ساكنان. قال ذو الرمة: "ألا يا اسلمي" البيت. قال الإمام: قال أهل التحقيق: قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} يجب أن يكون بمعنى الأمر، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له، وهو كونه قادرًا على إخراج الخبء عالمًا بالأسرار معنى. قوله: (فغير مرجوع إليه)، قيل: لأن الزجاج توهم أن مع التخفيف صيغة أمرٍ، وهو للوجوب، ومع التشديد ليس كذلك، وفي كلام المصنف ذم التارك إشارةً إلى قولهم: الواجب ما يذم تاركه شرعًا، وردٌ لقول الزجاج قال القاضي: وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها.

سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ: (العَظِيمِ) بالرفع. [(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ* اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ)]. (سَنَنْظُرُ) من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن (كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين؛ كان كاذبا لا محالة، وإذا كان كاذبا اتهم بالكذب فيم أخبر به فلم يوثق به. (تَوَلَّ عَنْهُمْ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من النظر الذي هو التأمل والتصفح)، وعن بعضهم: النظر تقليب الحدقة إلى المرئي، ويعدى بـ "إلى". قال الشاعري: إني إليك لما وعدت لناظرٌ ... نظر الفقير إلى الغني الواجد والنظر: تأمل الشيء بالعين، ويعدى بـ "في"، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، ومنه نظر في الكتاب، ويقال: نظر له، أي: تعطف، ومن كلام المأمون: ما أحوجني [إلى] ثلاثٍ: صديقٍ أنظر إليه، وفقيرٍ أنظر له، وكتابٍ أنظر فيه. الراغب: النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص. واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة، والنظير: المثيل، وأصله المناظر وكأنه ينظر كل صاحبه فيباريه، والمناظرة: المباحثة والمباراة في النظر، واستحضار كل ما يراه ببصيرته، والنظر: البحث، وهو أعم من القياس.

تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك. و (يَرْجِعُونَ) من قوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) [سبأ: 31] فيقال: دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة. فإن قلت: لم قال: فألقه إليهم، على لفظ الجمع؟ قلت: لأنه قال: (وجَدتُّهَا وقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ)، فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره. وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك. [(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ)]. (كَرِيمٌ) حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم، أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حسن مضمونه وما فيه)، أي: أن معناه حسنٌ، وكتابته وترتيبه، وما يتوخى في مثله الحسن مجموعٌ فيه، لما مر في "الشعراء" أن الشيء إذا وصف بالكرم، كأن المراد أن ذلك الشيء فائقٌ في بابه فعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} إلى {مُسْلِمِينَ} بيان لما في الكتاب، كما صرح به الزجاج، كأنها لما قالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي: حسن مضمونه وما فيه، اتجه لسائل أن يقول: بيني لي مضمونه وما فيه، أجابت: فيه {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ}، فقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} مبتدأ خبره محذوف، أما على الفتح فظاهر، وأما على الكسر فعلى تأويل: فيه هذا اللفظ، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} على قراءة الفتح والكسر، فعلى هذا "أن" في {أَلَّا تَعْلُوا} ناصبة، أي: فيه أن لا تعلوا، وإنما لم يؤت بحرف النسق للدلالة على أن الجملتين السابقتين كالتمهيد للثالثة، لأنها المقصودة بالذات، ولذلك عطف الأمر على النهي على سبيل الطرد والعكس تأكيداً، فعلم من هذا التقرير أن ما في كلام الله المجيد مختصر مما في كتاب نبي الله، وذكر ما هو أهم وأعني، ويعضده جواب جعفر ابن يحيي حين سئل عن أوجز كلام فتلا الآية، فقال: جمع الله فيها العنوان والكتاب

مختوم. قال صلى الله عليه وسلم: "كرم الكتاب ختمه". وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما. وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وقيل: مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم. هو استئناف وتبيين لما ألقى إليها، كأنها لما قالت: إني ألقي إلىّ كتاب كريم، قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟ فقالت: إنه من سليمان وإنه: كيت وكيت. وقرأ عبد الله: (وإنه من سليمان وإنه) عطفا على: (إنِّى). وقرئ: (أنه من سليمان وأنه) بالفتح؛ على أنه بدل من (كِتَابٌ)، كأنه قيل: ألقي إلىّ أنه من سليمان. ويجوز أن تريد: لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان، وتصديره باسم الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاجة، وهذا أولى مما ذهب إليه المصنف، فإنه وإن أصاب في قوله: "استئناف وتبيين"، لكنه ذهل عن طريق السؤال، حيث قال: "ممن هو وما هو؟ "، ولم يقل: "ما فيه؟ "، لما يشعر من قوله ألا يكون {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} مكتوباً في الكتاب، على أنه صرح بعد ذلك أنه كان مكتوباً فيه: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس، وكذا عن الزجاج، وقال: لذا كتب الناس: "من عبد الله"، احتذاءً بكتاب سليمان. قوله: (وكان - صلى الله عليه وسلم - يكتب إلى العجم)، الحديث، من رواية البخاري ومسلمٍ والترمذي وأبي داود والنسائي عن أنسٍ قال: أرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إليهم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضةٍ، ونفشه: محمدٌ رسول الله. وفي روايةٍ قال: أراد نبي الله أن يكتب إلى العجم، قيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتابًا عليه خاتٌم، فاصطنع خاتمًا.

وقرأ أبيّ: (أن من سليمان وأن بسم الله)، على أن المفسرة. و (أن) في (أَلَّا تَعْلُوا) مفسرة أيضا. (لا تعلوا): لا تتكبروا كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بالغين معجمة؛ من الغلو: وهو مجاوزة الحد. يروى أنّ نسخة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علىّ وائتوني مسلمين، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية. وقيل: "نقرها فانتبهت فزعة". وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملًا لا يطيلون، ولا يكثرون)، وقال القاضي: هذا كلامٌ في غاية الوجازة، مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته، صريحًا أو التزامًا، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل، والأمر بالإسلام الذي هو الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاءً للتقليد، فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة، وهو تلخيص كلام الإمام. قوله: (فرفرف)، الجوهري: رفرف الطائر: إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه.

الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، وقالت لقومها ما قالت: (مُسْلِمِينَ) منقادين، أو مؤمنين. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) [النمل: 32]. الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن. والمراد بالفتوى هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم: استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها. (قاطِعَةً أَمْراً): فاصلة. وفي قراءة ابن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن)، المغرب: واشتقاق الفتوى من الفتى، لأنها جوابٌ في حادثةٍ، أو إحداث حكمٍ، أو تقويةٌ لبيان مشكلٍ. الجوهري: فتى- بالكسر- يفتى فتًى فهو فتى السن بين الفتاء. عن بعضهم: الفتاء: هو الحداثة واللذاذة، قال: إذا عاش الفتى مئتين عامًا ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء وقلت: فعلى هذه الجهة الجامعة بين المستعار والمستعار له، إما الإحداث كما يقال للفتى: هو حديث السن، أو القوة، فإن في الفتى مظنة القوة والشدة. وفي كلام المصنف أيضًا إشارةٌ إلى هذين المعنيين، فقوله: " فيما حدث لها من الرأي" إشارةٌ إلى الأول، وقوله: "ليمالئوها ويقوموا معها" إشارةٌ إلى الثاني، وقال صاحب "المطلع": فكأن الإفتاء الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة، بما عند المفتي من الرأي والتدبير، وهو إزالة ما حدث له من الإشكال، كالإشكاء: إزالة الشكوى. قوله: (ليمالئوها)، الجوهري: قال أبو زيد: مالأته على الأمر ممالأة: ساعدته عليه، وشايعته.

مسعود رضي الله عنه: (قاضية) أي: لا أبت أمرا إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: كل واحد على عشرة آلاف. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَاسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَامُرِينَ) [النمل: 33]. أرادوا بالقوة: قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي: هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير، فانظرى ماذا ترين: نتبع رأيك. [(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)]. لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأي الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه؛ بـ (إِنَّ الْمُلُوكَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن السكيت: تمالؤوا على الأمر: اجتمعوا عليه وتعاونوا. قوله: (قوة الأجساد وقوة الآلات)، الراغب: القوة تستعمل تارةً في معنى القدرة، قال تعالى: {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وتارةً للتهيؤ الموجود في الشيء، نحو أن يقال: النوى بالقوة نخلٌ، ويستعمل في البدن نحو: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، وفي القلب نحو: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وفي المعاون من خارجٍ نحو: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]، وفي القدرة الإلهية نحو: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]

إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وقهرا (أَفْسَدُوها) أي: خرّبوها - ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة -، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت: (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد. وقيل: هو تصديق من الله لقولها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قالوا للفساد: الخربة)، الأساس: وبلدٌ خرابٌ، وهو صاحب خربةٍ، أي: فسادٍ، وريبةٍ، قال قيس بن النعمان: لحى الله أدنانا إلى كل خربة ... وأبطأنا في ساحة المجد أقدحا وما رأينا من فلانٍ خربةً في دينه. قوله: (وسوء مغبتها)، الجوهري: وقد غبت الأمور، أي: صارت إلى أواخرها. قوله: (أرادت: هذه عادتهم المستمرة الثابتة)، يشير إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] الجملة كالتذييل للكلام السابق والتقرير له. قوله: (وقيل: هو تصديقٌ من الله لقولها)، قال الراغب في "غرة التنزيل": ويجوز أن يكون خبرًا عن الله تعالى بخبر نبينا صلوات الله عليه فيعترض بين جمل ما يحكى تصديقًا لها، ثم قال عائدًا إلى حكاية قولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} [النمل: 35] ويجوز أن يكون من الحكاية على معنى أن الملوك تأثيرهم في القرى التي يدخلونها تخريبها، وكذلك يفعل هؤلاء، يعني: سليمان عليه السلام وخيله.

وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين. (مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) أي: مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها عن ملكي (فَناظِرَةٌ)؛ ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، فروي: أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهنّ الأساور والأطواق والقرطة، راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درّة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر بن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرّة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر: "إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبىّ"، فأقبل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: على هذا الوجه {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] ليس بتذييلٍ، وعلى ما ذكره المصنف في الوجهين السابقين تذييلٌ. قيل: على أن يكون من كلام الله تعالى الوقف على {أَذِلَّةً} لاختلاف القائلين، على أن يكون من كلامها لا يوقف. قوله: (أصانعه بها)، الأساس: ومن المجاز: صانعت فلانًا: إذا داريته، ومنه: المصانعة بالرشوة، وفرس مصانع: لا يعطيك جميع ما عنده من السير كأنه يرافقك بما يبذل منه، ويصون بعضه. قوله: (والقرطة)، الجوهري: القرط: الذي يعلق في شحمة الأذن، والجمع قرطةٌ، وقراطٌ أيضًا، مثل: رمحٍ ورماحٍ.

الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسىّ من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا: بهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: "أين الحقّ"؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتقاصرت إليهم نفوسهم)، الأساس: اقتصر المطر: أقلع، وقصر في حاجته، وقصر عن منزلته، وقصر به عمله، وأقصر عن الأمر: كف عنه وهو يقدر عليه، وقصر قصورًا: عجز عنه، ولم ينله، وتعديته بـ "إلى" في الكتاب لتضمنه معنى: نظر، أي: نظروا إلى أنفسهم متقاصرين، من قوله: قصر عن منزلته، وقصر به عمله، أو من القصور: العجز. قوله: (ما وراءكم؟ )، قيل: يعني: ما كان معكم ورميتموه خلفكم، وقيل: أي: ما في خاطركم، وما مرادكم، وقال الميداني: قال أبو عبيدٍ: سأل النابغة الذبياني عصام بن شهيرٍ حاجب النعمان- وكان النعمان مريضًا-: ما وراءك يا عصام؟ أى: ما خلفت من أمر العليل، وما أمامك من حاله؟ ووراء من الأضداد. وقال المفضل: أول من قال ذلك الحارث بن عمرٍو ملك كندة، وذلك أنه لما بلغه جمال ابنة عوفٍ وكمالها وقوة عقلها، دعا امرأةً يقال لها: عصام، فقال: اذهبي حتى تعلمي

فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها، فجعل رزقها في الشجرة. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وقال للمنذر: أرجع إليهم، فقالت: هو نبىّ وما لنا به طاقة، فشخصت إليه في اثني عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فلما جاءوا)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لي علم ابنة عوفٍ، فمضت فنظرت إلى ما تر مثله قط، فلما أقبلت قال الحارث: ما وراءك يا عصام؟ قالت: صرح المخض عن الزبدة، القصة إلى آخرها. قوله: (ثم أمر الأرضة فأخذت شعرةً ونفذت فيها)، أي: في الدرة العذراء، والفاء في "فأخذت" فصيحةٌ، أي: فنقبتها، وأخذت شرعةً ونفذت فيها، ولذلك ترك الفاء في قوله: "وأخذت دودةٌ بيضاء، الخيط بفيها، ونفذت فيها"، أي: في الجزعة المعوجة الثقب. قوله: (في اثني عشر ألف قيل)، النهاية: الأقيال: جمع قيل، وهو أحد ملوك حمير دون الملك الأعظم. وعن بعضهم: القيل: الملك الذي له القول والأمر، وأصله: القيل، فخفف، وقيل: من التقيل: وهو التتبع كما قيل له: تبعٌ. وفي الدعاء: "سبحان من تعطف بالمجد وقال به"، أي: ملك من القيل، وفي "النهاية" عن الأزهري: معناه: غلب به، وأصله من القيل: الملك، لأنه ينفذ قوله.

(أَتُمِدُّونَنِ) وقرئ: بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وبالإدغام، كقوله: (أَتُحاجُّونِّي) وبنون واحدة: "أتمدوني". الهدية: اسم المهدى، كما أن العطية اسم المعطى، فتضاف إلى المهدى والمهدى إليه، تقول هذه هدية فلان، تريد: هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَتُمِدُّونَنِ} قرئ بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة) ابن عامرٍ وعاصمٌ والكسائي، وبالإدغام حمزة. قال القاضي: {أَتُمِدُّونَنِ} خطابٌ للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب على الغائب. قال صاحب "المطلع": "تمددون" فيه حذف النون الثانية التي يصحبها ضمير المتكلم كما في "قدي" وحذف الأولى لحنٌ، لأنها علامةٌ، ومن قرأ بنونين جمع بين المثلين، ولم يدغم، لأن الثانية ليست بلازمةٍ، فإنها تزاد مع ضمير المتكلم. قوله: (والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه)، تقديره: بل أنتم بالإهداء إليكم تفرحون، وإليه الإشارة بقوله: "فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم" وفيه تعريضٌ بأن حاله عليه السلام على خلاف حالهم، ولذلك قيل: هدية الأمراء غلولٌ، وجيء بكلمة

وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به؟ (بَلْ أَنْتُمْ) قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك (تَفْرَحُونَ) بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالى خلاف حالكم، وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية. فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدني بمال وأنا أغنى منك، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبى عالما بزيادتي عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإضراب، وأولى بها الضمير، وجعل مبتدأ ليفيد، إما تقوى الحكم، أو الاختصاص، نحو: أنت عرفت. قوله: (إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبي عالمًا بزيادتي عليه في الغنى)، لأن الواو للحال، وذو الحال فاعل "يمدني" والحال مقيدة، فيكون فاعل المقيد عالماً بالمقيد بخلاف الفاء، لأنها لتعليل الإنكار، فالمتكلم يشير بها إلى تعليل إنكاره. قال صاحب "الفرائد" الفاء هاهنا مستعملٌ للترتيب والتعقيب، كأنه قال: لا أقبل إمدادك بمالٍ، فقال المخاطب: لم لا تقبل؟ فأجيب: لأني أغنى منك، فلما كان هذا الجواب مرتبًا على السؤال، ومعقبًا له، ترك السؤال وجيء بالفاء، وأما الواو فإنها تفيد الجمع، وهو للحال، فكأنه قال: لا أقبل منك إمدادك بمالٍ في هذه الحال، وهي كوني أغنى منك. وقلت: الواو في مثل هذا التركيب تكون للحال، وتسمى بالحال المقررة لجهة الإشكال، أي: أتمدونني بمالٍ وأنتم تعلمون أني غنيٌ! كقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، وقولهم:

جعلته ممن خفيت عليه حالي، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإني غني عنه. وعليه ورد قوله: (فَما آتانِيَ اللَّهُ). فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه: وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتحسن إلى أعدائك، وأنا الصديق المحتاج! وهو المراد من قوله: "فقد جعلت مخاطبي عالمًا بزيادتي عليه"، وهو مع ذلك يمدني بالمال! وأما الفاء للتسبيب، فالمنكر الجملة الأولى، والثانية علة الإنكار، ولا يجب أن تكون العلة معلومةً عند المخاطب، فيجب الإعلام والتوبيخ على الجهل به، كأنه قال: لا أحتاج إلى ما آتيتمونيه، لأني غنيٌ، كما قال: أنكر عليك ما فعلت، فإن غنيٌ عنه. قوله: (فما وجه الإضراب؟ )، يعني: أنكر عليهم نبي الله إمدادهم بالمال، وعلل الإنكار بكونه غنيًا عنه، فأي فائدةٍ في الإضراب عنه [إن] كان ذلك غير منكرٍ؟ وأجاب أن إنكاره عليه السلام على إمدادهم بالمال مآله إلى تجهيلهم، وأنهم غير عالمين بحاله، وأنه غنيٌ عن ذلك، ثم ترقى إلى الأخذ فيما هو الأهم من ذلك الإنكار، وهو الإعلام بأن ما جعلوه سببًا للإمداد أقبح من ذل الجهل، وذلك أن قصارى أمرهم الفرح بما يهدى إليهم، فقاسوا حال نبي الله بحالهم في أن ليس له الرضا والفرح إلا بالحظوظ العاجلة، هذا إليهم، فقاسوا حال نبي الله بحالهم في أن ليس له الرضا والفرح إلا بالحظوظ العاجلة، هذا إذا قدر الإضافة إلى المهدى إليه، أما إذا جعلت الإضافة إلى المهدي، أي: الفاعل، بأن يقال: وأنتم بهديتكم هذه تفرحون فرح افتخارٍ، فيكون المعنى: الذي منحنى الله من الدين والملك الواسع خيرٌ مما آتاكم، فلا أفرح بمثل هذه المحقرات التي تفتخرون بها، فأولى الضمير حرف الإضراب، ليفيد: أنتم خصوصًا تفرحون، فأتى بهذه ليفيد التحقير. ويجوز على هذا أن يعتبر معنى تقوى الحكم من التركيب، فيفيد مطلق الرد، أي: أنتم لابد لكم أ، تفرحوا بمثل هذه المحقرات، أي: تمدونني بمالٍ وتزعمون أن من عادتي أن أفرح بأخذ الهدية! بل أنتم من حقكم أن تفرحوا به، فخذوها وافرحوا. هو على هذا الوجه كنايةٌ.

فرح، إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدي، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها. (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَاتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) [النمل: 37]. (ارْجِعْ) خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملا كتابا آخر (لَّا قِبَلَ): لا طاقة. وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (لا قبل لهم بهم). الضمير في (مِنْهَا) لسبأ. والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك. والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ارْجِعُ} خطابٌ للرسول، وقيل: للهدهد)، أي: المأمور في "ارجع" مفردٌ، والمقدم ذكرهم جماعةٌ، بدليل قوله: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}، فيحمل إما على المصدر، كقولهما: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أو أن يجعل الخطاب للهدهد كما في قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا}، أي: ارجع إليهم بكتابي {فَلَنَاتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ}، ويعضد الأول قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}، لأن المعنى: إني مرسلةٌ إليهم بهديةٍ، أصانعه بها عن ملكي، فناظرةٌ ما يكون منه إما سلمًا، وإما حربًا، حتى أعمل على حسب ذلك، فإن نبي الله عليه السلام لما وقف على أن الهداية كانت مصانعةً منها، وأنها خالفت ما أراد منها بقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ}، احتد وغضب حميةً للإسلام، ولذلك عقب الأمر بالرجوع بالجملة القسمية المثبتة للذل والصغار، جزاءً على ذلك الصنيع بالفاء، يعني: والله لا يتخلف إتياني كذلك على رجوعك. قوله: (ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقةً بعد أن كانوا ملوكًا)، الجوهري: الاقتصار على الشيء: الاكتفاء به، وتسوق القوم: إذا باعوا واشتروا، والسوقة: خلاف الملك، وقال الحريري في "درة الغواص": توهموا أن السوقة: اسمٌ لأهل السوق، وليس كذلك، بل

[(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ)]. يروى: أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها. وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه، ولعله أوحي إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله، وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها. وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها. وقيل. أراد أن يؤتى به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختبارا لعقلها. [(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)]. وقرئ: (عِفْرِية). والعفر، والعفريت، والعفرية، والعفراة، والعفارية من الرجال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السوقة الرعية، سموا بذلك، لأن الملك يسوقهم إلى إرادته، ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه، قالت حرقة بنت النعمان: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصف وأما أهل السوق، فهم السوقيون، واحدهم: سوقي. قوله: (باستيثاقها)، استوثقت من فلانٍ: اتخذت منه وثيقةً، أو استوثق بمعنى أوثق، كاستوقد بمعنى أوقد. قوله: (أن يغرب عليها)، أي: يطلعها على أمر غريبٍ. الأساس: تكلم فأغرب: إذا جاء بغرائب الكلام ونوادره.

الخبيث المنكر، الذي يعفر أقرانه. ومن الشياطين: الخبيث المارد. وقالوا: كان اسمه ذكوان. (لَقَوِيٌّ) على حمله (أَمِينٌ) آتي به كما هو لا أختزل منه شيئا ولا أبد له. [(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)]. (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) رجل كان عنده اسم الله الأعظم، وهو: يا حي يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وعن الحسن رضي الله عنه: الله، والرحمن. وقيل: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام، وكان صدّيقا عالما. وقيل: اسمه أسطوم. وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول. وعن ابن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام: (عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ): من الكتاب المنزل، وهو علم الوحي والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام. وآتيك في الموضعين يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل. الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعفر أقرانه)، الأساس: عفر قرنه، وعافره فألزمه بالعفر، أي: صارعه، فاعتفره، أي: ضرب به الأرض. قوله: (ما هو أسرع مما تقول)، أي: مدة أقل مما يقوله. قوله: (الطرف: تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر)، كأن التطرف بالنسبة إلى النظر، كالنظر بالنسبة إلى الرؤية. الأساس: وطرف إليه طرفاً: وهو تحريك الجفون، وما يفارقني طرفة عينٍ، وشخص بصره فيما يطرف، والمعنى: أن الناظر إذا أراد النظر إلى شيءٍ حرك الأجفان إلى نحوه، فهو إرسال الطرف، وإذا أراد الإمساك عنه رد الأجفان إلى مكانها الأول. قال الإمام: الطرف: تحريك الأجفان عند النظر، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور

ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العين امتد إلى المرئي، وإذا أغمضت فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين، فكما وصف الشاعر النظر بالإرسال، ووصف العالم الانتهاء بالرد، ثم أسند الارتداد إلى الطرف على المجازي، وقال: يرتد إليك طرفك، لأن الأصل: ترد طرفك. قوله: (وكنت إذا أرسلت) البيت، بعده: رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر قال المرزوقي: "رائدًا" حالٌ، وجواب "إذا": "أتعبتك المناظر"، وقوله: "رأيت الذي"، تفصيلٌ لما أجمله "أتعبتك المناظر"، والرائد: الذي يتقدم القوم لطلب الكلأ لهم. المعنى: إذا جعلت عينك رائداً لقلبك تطلب له هواهم، فتتعبك مناظرها، وأوقعتك مواردها في أشق المكاره، وذلك أنها تهجم بالقلب في ارتيادها له على ما لا يصبر في بعضه على فراقه مع مهيجات اشتياقه، ولا يقدر على السلو عن جميعه، فهو ممتحنٌ الدهر ببلوى ما لا يقدر على كله، ولا يصبر عن بعضه. وعن بعض الحكماء: من أرسل طرفه استدعى حتفه، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، لأنه إن كذب هلك معهم.

وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله: (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك: ويروى: أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك. فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن. ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله، قبل أن يردّ طرفه. ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة، وفي ردّة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة. (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد. وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل: الشعر لعبد الله بن طاهر بن الحسين. قوله: (أقشعت نافرةً)، الأساس: انقشع الغيم، وتقشع، وأقشع، وقشعته الريح، ومن المجاز: انقشع الظلام والبرد، واجتمعوا عليه ثم انقشعوا، وانقشعوا عن الماء، وتقشعوا: تفرقوا. قوله: (فرجعت في نصابها)، أي: أصلها. الأساس: وهو يرجع إلى منصب صدقٍ، ونصاب صدقٍ، وهو أصله الذي نصب فيه وركب، ومنه نصاب السكين، وهو أصله الذي نصب فيه وركب. قوله: (واستدم راهنها)، الأساس: نعمة الله راهنةٌ: دائمةٌ، وهذ الشيء راهنٌ لك: معدٌ، وطعامٌ راهنٌ، وكأسٌ راهنةٌ: دائمةٌ لا تنقطع، وأرهن لضيفه الطعام والشراب: أدامهما، وفي كلامهم: النعمة إذا سمعت نغمة الشكر تهيأت للمزيد.

إذا أنت لم ترج لله وقارا. (غَنِيٌّ) عن الشكر. (كَرِيمٌ) بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكرا لربه، جري على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر. [(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ* وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ)]. (نَكِّرُوا) اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه. قالوا: وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره، وأعلاه أسفله. وقرئ: (نَنظُرْ) بالجزم على الجواب، وبالرفع على الاستئناف (أَتَهْتَدِي) لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والايمان بنبوّة سليمان عليه السلام، إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب، ونصبت عليه الحرس. هكذا ثلاث كلمات: حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. لم يقل: أهذا عرشك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث: "النعمة وحشيةٌ قيدوها بالشكر". قوله: (إذا أنت لم ترج لله وقارًا)، مقتبسٌ من قول نوحٍ عليه السلام على معنى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ} [نوح: 13] على معنى: ما لكم تكونون على حالٍ تأملون فيها تعظيم الله إياكم، يعني أن الله تعالى أكرمك بأن أسبغ عليك نعمة ظاهرةً وباطنةً، فإنك إن لم تشكرها أهانك، فيكشف ذلك الستر عنك، فتزول تلك النعمة، أو على معنى: ما لكم لا تخافون لله حلمًا، وترك معاجلة، يعني: أنك تماديت في المعاصي، وأن الله ستر عليك بحلمه، فعن قريبٍ يتقلص ذلك الستر، فتهلك، والأول أنسب للمقام.

ولكن: أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) ولم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقطع في المحتمل. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من كلام سليمان وملئه: فإن قلت: علام عطف هذا الكلام، وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو: قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لئلا يكون تلقينًا)، يعني: إنما عدل نبي الله عن السؤال الذي فيه إيهامٌ إلى قوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42]، ليوقعها في ورطة الحيرة، إذ لو صرح بقوله: أهذا عرشك؟ كان قد لقنها بذلك، وحين كانت جازمةً بأن ذلك عرشها، وكان لها أن تقول: بل هو هو، فعدلت إلى قولها: {كَأَنَّهُ هُوَ} لرجاحة عقلها، لتبقي الاحتمال الذي قصده نبي الله. قوله: (ولم تقل: هو هو، ولا: ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقطع في المحتمل). الانتصاف: وفي نكتةٌ حسنةٌ، وإن كانت كاف التشبيه في السؤال والجواب، فحكمته أن "كأنه" عبارة من قوي عنده الشبه، وكادت تقول: هو هو، و"هكذا هو" عبارةٌ جازمةٌ بتغاير الأمرين، حاكمٌ بوقوع الشبه بينهما، فالأول أشبه بحال بلقيس. واعلم [أن] "كأن" مركبةٌ من كاف التشبيه و"أن"، على ما قالوا: "الأصل في قولك: كأن زيداً الأسد": أن زيداً كالأسد، فلما قدمت الكاف فتحت الهمزة، ليكون داخلًا على المفرد لفظًا، والمعنى على الكسر، بدليل جواز السكوت عليه، فلا يكون قولك: "كأن زيدًا أسدٌ" غير التشبيه، لتوكيد مضمون الجملة بـ "أن" المؤكدة، بخلاف "زيد كالأسد". قوله: (وطبقت المفصل)، وعن بعضهم: الرجل إذا أصاب الحجة يقال: طبق

وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل على دين الإسلام؛ شكرا لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها. (وَصَدَّها) عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة، ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها: (كَأَنَّهُ هُوَ) والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان عليه السلام قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، تعني: ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام، ثم قال الله تعالى: (وصَدَّهَا) قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفصل، مستعارٌ من طبق السيف: إذا أصاب المفصل فأبانه، فأما إذا أصاب العظم فقطعه، فإنه يقال: صمم، أي: ثبت ولم ينب. قوله: (عطفوا على ذلك)، جواب "لما" في قوله: "لما كان المقام"، وقوله: " {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42] مقول قولهم، ويجوز أن يكون "يقولوا"، بيان "ما"، وقوله: "قد أصابت في جوابها" مقول "أن يقولوا" والحاصل: أن قول سليمان وملئه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} معطوفٌ على مقدرٍ، ويدل عليه سياق الكلام ومقتضى المقام، وهو أن بلقيس لما سئلت عما سئلت، وأجابت بما أجابت، قال سليمان وملؤه عند ذلك: هل أصابت بلقيس في جوابها، وكيت وزيت، ونحن أيضًا {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} إلى قوله: {كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}، وهو معنى قول المصنف: "وأوتينا نحن العلم" إلى آخر قوله: "بين ظهراني الكفرة" يعني: أنها وإن أصابت في جوابها، ورزقت الإسلام، وآمنت بالآيات السابقة واللاحقة، لكن نحن أعلم، وأقدم في الإسلام، فالضمير في قولهم لسليمان وملئه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42] مقول القول، ونحو: أن يقولوا: بيان ما. قوله: ({وَصَدَّهَا} قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل)، فاعل "صد"

(وصَدَّهَا) الله أو سليمان، و (عما كانت تعبد) بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرئ: (أنها) بالفتح؛ على أنه بدل من فاعل "صدّ"، أو بمعنى لأنها. [(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)]. الصرح: القصر. وقيل: صحن الدار. وقرأ ابن كثير: (سَاقَيْها) بالهمزة. ووجهه؛ أنه سمع: سؤوقا، فأجرى عليه الواحد. والممرد: المملس، وروي أن سليمان عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "ضلالها" و"عن سواء السبيل" متعلق بـ "ضلالها" أي: صدها عن الدخول في الإسلام قبل وفدة المنذر بن عمرٍو رسولها إلى سليمان عليه السلام "ضلالها عن سواء السبيل"، أي: جهلها بدين الإسلام. قوله: (الصرح: القصر)، الراغب: الصرح: بيتٌ عالٍ مزوقٌ، سمي به اعتبارًا بكونه صرحًا عن الشوب، أي: خالصًا، ولبنٌ صريحٌ، بين الصراحة. قوله: (ووجهه أنه سمع "سؤوقاً"، فأجرى عليه الواحد)، الكواشي: القراءة بهمزة "سأقيها" و"السؤق" و"السؤقة" لجواز أن من العرب من يهمز مفرد "ساقٍ" وجمعه، ويدل على ذلك صحة هذه القراءة، بل تواترها، وزعم بعضهم أن همز هذه الكلمات الثلاث بعيدٌ في العربية، إذ لا أصل لهن في الهمزة، وهذا تحكم كما تراه، لأنه لم يذكر على ذلك دليلًان بل جعل ما وصل إليه من كلام العرب دليلًا يعتبر به، بل المعتبر صحة ما يصح، بل تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (والممرد: المملس)، الراغب: المارد والمريد من شياطين الجن والإنس: المتعري من الخيرات، من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق. ومنه قيل: رملةٌ مرداء: إذا لم

السلام أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره، وتحققا لنبوته، وثباتا على الدين. وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم، لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع، فقالوا له: إن في عقلها شيئا، وهي شعراء الساقين، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما لا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداها: (إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة: أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان عليه السلام، وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان، يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنبت شيئًا. ومنه: الأمرد، لتجرده من الشعر، و {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل: 44] من قولهم: شجرةٌ مرداء، وكأن الممرد إشارةٌ إلى قول الشاعر: في مجدلٍ شيد بنيانه ... يزل عنه ظفر الطائر قوله: (فبنوا لها سيلحين)، المغرب: وأما السيلحون فهو مدينةٌ باليمن. وقول الجوهري: سيلحون قريةٌ، والعامة تقول: سالحون، فيه نظرٌ، وأما غمدان ففي "النهاية": بضم الغين، وسكون الميم، البناء العظيم، بناحية صنعاء اليمن، قيل: هو من بناء سليمان عليه السلام.

ثلاثة أيام، وولدت له. وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان، وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان. (ظَلَمْتُ نَفْسِي): تريد بكفرها فيما تقدّم، وقيل: حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنى بسليمان عليه السلام. [(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ* قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)]. وقرئ: (أَنِ اعْبُدُوا)، بالضم على إتباع النون الباء. (فَرِيقانِ): فريق مؤمن وفريق كافر. وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. (يَخْتَصِمُونَ) يقول كل فريق: الحق معي. السيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة، فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون لجهلهم: إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا؛ مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت. وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذا تبع)، أي: زوجها سليمان من ذي تبع. الأذواء: ملوك اليمن من قضاعة، المسمون بذي يزنٍ وذي نواسٍ. قوله: (مقدرين أن التوبة)، حالٌ من قوله: "يقولون" حاصل السؤال أن الاستعجال بإحدى العدتين قبل الأخرى إنما يصح إذا اعتقدوهما وتوقعوهما، والقوم كفرة. وتلخيص الجواب: أن السيئة التي هي العقوبة، والحسنة التي هي التوبة، لم تكونا ثابتتين عندهما، فقدروهما على قول صالحٍ عليه السلام، فخاطبهم نبي الله على حسب اعتقادهم.

على حسب قولهم واعتقادهم، ثم قال لهم: هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه؛ وتجهيلا فيما اعتقدوه. [(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)]. وكان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحا تيمن، وإن مر بارحا تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلًا فيما اعتقدوه)، أنكر أولًا بقوله: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، قولهم: إن العقوبة إن وقعت تبنا حينئذ، ثم نبههم بقوله: لولا تستغفرون الله على خطئكم، وأن الاستغفار إنما ينفع قبل نزول العذاب، وأن ذلك الاعتقاد إنما صدر من الجهل. قوله: (فإن مر سانحاً)، الجوهري: السنيح [والسانح]: ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائرٍ أو غيرهما، وبرح الظبي بروحًا. إذا ولاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك، والعرب تتطير بالبارح، وتتفاءل بالسانح، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف. قوله: (استعير لما كان سببهما من قدر الله)، أي: استعير للذي كان سبب الخير والشر، وهو قدر الله وقسمته، يعني: استعير لقدر الله وقسمته لفظ الطائر، لأن السبب في تحصيل الخير والشر حقيقة هو قدر الله، وأن السانح والبارح- كما زعموا- إن دلا على حصولهما فهما أيضًا مسببان عن تقدير الله، فأطلقوا المسبب وهو الطائر على السبب، وهو قدر الله وقسمته، وقالوا: طائر الله لا طائرك، ويجوز أن يكون أسلوب الآية والاستشهاد من باب المشاكلة لا الاستعارة.

وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أي: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا: اطيرنا بكم، أى: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا. (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد: عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل. عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله: (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس: 19]، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء: 13]. وقرئ: (تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)، على الأصل. ومعنى: تطير به: تشاءم به. وتطير منه: نفر منه. (تُفْتَنُونَ) تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة. [(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)]. الْمَدِينَةِ: الحجر. وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو من عمل العبد)، عطفٌ على "من قدر الله" وهو من قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. فقوله: "ويجوز أن يريد: عملكم مكتوبٌ عند الله" متفرعٌ على هذا الوجه، وعند أهل السنة عملكم مكتوب عند الله ومقدرٌ من عنده. قوله: (المدينة: الحجر)، الراغب: الحجر: ما سور بالحجارة، وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود.

تسعة أنفس. والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة. والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب. غنم بن غنم. رباب بن مهرج. مصدع بن مهرج. عمير بن كردبة. عاصم بن مخرمة. سبيط بن صدقة. سمعان بن صفى. قدار بن سالف: وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم. (وَلا يُصْلِحُونَ)؛ يعني: أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح؛ كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح. (تَقاسَمُوا) يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد، أي: قالوا متقاسمين: وقرئ: (تقسَّموا) وقرئ: (لَنُبَيِّتَنَّهُ)، بالتاء والياء والنون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يخلط بشيءٍ من الصلاح)، الراغب: الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل القرآن تارةً بالفساد، وتارةً بالسيئة، قال تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، والصلح يختص بإزالة النفار، وإصلاح الله تعالى الإنسان تارةً يكون بخلقه إياه صالحًا، وتارةً ما فيه من فسادٍ من بعد وجوده، وتارةً يكون بالحكم له بالصلاح {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، أي: المفسد يضاد الله تعالى في يفعله، فإنه يفسد، والله تعالى يتحرى في جميع أحواله الصلاح، فهو إذن لا يصلح عمله. قوله: (وقرئ: {لَنُبَيِّتَنَّهُ}، بالتاء والياء [والنون]، بالياء التحتاني: شاذةٌ، وبالتاء: حمزة والكسائي، والباقون: بالنون.

فـ (تَقَاسَمُوا) مع النون والتاء؛ يصح فيه الوجهان. ومع الياء لا يصح فيه إلا أن يكون خبرا. والتقاسم، والتقسم: كالتظاهر، والتظهر: التحالف. والبيات: مباغتة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فـ {تَقَاسَمُوا} مع النون والتاء، يصح فيه الوجهان)، أي: الأمر والخبر، يعني: تقاسموا إذا كان أمرًا فـ {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بالنون، جوابٌ له، لأن هذه الألفاظ التي تكون من ألفاظ القسم تتلقى بما تتلقى به الأيمان، كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109]، والمعنى: احلفوا لنبيتنه، وبالتاء الفوقانية: احلفوا لتبيتنه أنتم، وعلى هذا الخبر. وأما إذا كان الخبر مع الياء، فمعناه: قالوا: لنبيتنه متقاسمين، كقولك: حلف بالله ليفعلن، بالياء التحتاني، وأما قوله: مع الياء، لا يصح فيه إلا أن يكون خبرًا، فعلل بأن الياء للغيبة، والأمر للمخاطب، ولا معنى لقوله: احلفوا لتبيتنه، وقدر بعضهم: ليقسم بعضكم بعضًا ليبيتنه. وقال صاحب "الكشف": {تَقَاسَمُوا} [النمل: 49]، يجوز أن يكون أمرًا، أمر بعضهم بعضًا بالتقاسم على التبييت. وقال الزجاج: فمن قرأ بالتاء فكأنه قال: احلفوا لتبيتنه، كأنه أخرج نفسه من اللفظ، ويجوز أن يكون قد أدخل نفسه في التاء، لأنه إذا قال: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل: 49] فقد قال: تحالفوا، فلا يخرج نفسه من التحالف، ومن قرأ بالياء، فالمعنى: قالوا: لنبيتنه متقاسمين، وكان هؤلاء تحالفوا أن يبيتوا صالحًا ويقتلوه وأهله في بياتهم، ثم ينكرون عند أولياء صالح أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله، ويحلفون أنهم لصادقون، فهذا مكرٌ عزموا عليه، قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} [النمل: 50]. قوله: (والتقاسم)، مبتدأٌ، والخبر: "التحالف".

العدو ليلا. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر، وقرئ: (مَهْلِكَ) بفتح الميم واللام وكسرها من (هَلِكَ)، و (مُهْلَك) بضم الميم من أهلك. ويحتمل المصدر والزمان والمكان، فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله؛ فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا: ما شهدنا مهلك أهله، فذكروا أحدهما: كانوا صادقين، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {مُهْلِكَ} بفتح الميم واللام وكسرها)، أبو بكر: "مهلك"، بفتح الميم واللام، وحفصٌ: بفتح الميم وكسر اللام، والباقون: بضم الميم وفتح اللام. قال أبو البقاء: (مهلك) - بفتح اللام، وضم الميم- فيه وجهان، أحدهما: هو مصدرٌ بمعنى الإهلاك، حو: المدخل. والثاني: هو مفعولٌ، أي: لمن أهلك، أو لما أهلك منها، ويقرأ بفتحهما، وهو مصدر: هلك يهلك، ويقرأ الميم، وكسر اللام، وهو مصدرٌ أيضًا، ويجوز أن يكون زمانًا، وهو مضافٌ إلى الفاعل، أو إلى المفعول على لغة من قال: هلكته أهلكه، والموعد: زمانٌ. وفي الحواشي: والأعرف في المصدر الفتح، والكسر قليلٌ، والكسر جاء في المكان مثل المرجع، قيل: المهلك والمرجع والميحص، والمكيل أربعةٌ لا يوجد لها خامسٌ. قوله: (وفي هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الكذب قبيحٌ عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه)، قال صاحب "الانتصاف": حيلته لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل قريبٌ من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرًا، وغرضه أن يستشهد على صحة مذهبه، وأنى

ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب. مكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روي أنه كان لصالح مسجد في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتم له ذلك وهم كاذبون، فإن من فعل الأمرين، وجحد أحدهما فلا مرية في فريته، وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرًا، وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع، فلم تختلف العلماء في أن من حلف أن لا أضرب زيدًا، فضرب زيدًا وعمرًا كان حانثًا، بخلاف من حلف أن لا أضرب زيدًا أو عمرًا، فضرب زيدًا، فهو محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه. وقال صاحب "التقريب": لعل المراد: ما شهدنا مهلك أهله وحده، وإلا فمن شهد البياتين فقد شهد أحدهما. وقال القاضي: ما شهدنا مهلك أهله فضلًا أن تولينا إهلاكهم، ونحلف: {إِنَّا لَصَادِقُونَ}، أو: والحال {إِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما ذكرنا، لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفًا، أو: لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم، كقولك: ما رأيت ثمة رجلًا بل رجلين. وقلت: التقدير الأول، وهو: نحلف إنا لصادقون، كما نص عليه الزجاج، ليكون عطفًا على {مَا شَهِدْنَا} يدخل في حيز التقاسم أولى وأوجه، فلا يلزم صدقهم، ولا يحتاج إلى تلك التكلفات، وعليه قول إخوة يوصف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} إلى قوله: {إِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82]. قوله: (يتفصون بها)، الجوهري: يقال: تفصى الإنسان: إذا تخلص من المضيق والبلية. قوله: (شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة)، التمثيلية، شبه إهلاك الله إياهم،

الحجر في شعب يصلى فيه، فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب «2» حيالهم، فبادروا، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا منهم في مكانه، ونجى صالحا ومن معه. وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون راميا (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هي تدميرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهم لا يشعرون، بفعل من يريد مكروه صاحبه، ويزاول إيصال الضرر إليه وهو لا يشعر، وإنما اختار الاستعارة على المشاكلة، لقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107]، إذ لولاه لكان مشاكلةً، لقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. قوله: (في شعب)، الشعب- بالكسر-: ما انفلج بين الجبلين، وقيل: الطريق في الجبل، والجمع: شعابٌ، وفي المثل: شغلت شعابي جدواي، أي: شغلت كثرة المؤونة عطائي عن الناس. قوله: (من الهضب)، الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، والجمع: هضابٌ، وهضبٌ. قاله الجوهري. قوله: (من قرأ بالفتح)، الكوفيون: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}، بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها.

أو نصبه على معنى: لأنا. أو على أنه خبر كان، أي: كان عاقبة مكرهم الدمار. (خاوِيَةً) حال عمل فيها ما دل عليه (تلك). وقرأ عيسى بن عمر: (خاوية) بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف. [(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)]. وَاذكر لُوطاً أو أرسلنا لوطا لدلالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عليه. و (إِذْ) بدل على الأول؛ ظرف على الثاني. (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) من بصر القلب، أي: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عباده، لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وانهماكا في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو نصبه على معنى: لأنا)، أي: منصوبًا على أن يكون مفعولًا له على حذف اللام، وهي لام العاقبة. قوله: (لدلالة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النمل: 45] عليه)، يريد أن قصة لوطٍ معطوفةٌ على قصة ثمود، وقد ذكر في فاتحتها: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} فيقدر لها مثله، و {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرفٌ، ولا يجوز أن يكون بدلًا، إذ لا يستقيم "أرسلنا" وقت قوله. قوله: (خلاعةً)، الأساس: ومن المجاز: خلع فلانٌ رسنه وعذاره، فعدا على الناس بشره. قوله: (ومجانةً)، الجوهري: المجون: أن لا يبالي الإنسان ما صنع، وقد مجن بالفتح يمجن مجونًا، ومجانةً فهو ماجنٌ، والجمع: المجان. قوله: (وانهماكًا)، يقال: انهمك الرجل في الأمر: لج وجد.

المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله: وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر أو: تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبح باسم من تهوى)، البيت، قبله: ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر البوح: ظهور الشيء، يقال: باح ما كتمه، أي: ظهر، وباح به صاحبه، أي: أظهره، يقال: كنى فلانٌ عن أمرٍ يعني: إذا تكلم بغيره مما يستدل به عليه، كما أن الله سبحانه وتعالى كنى عن الجماع بالمس والغشيان، لأنه حييٌ كريمٌ. قوله: (أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشةٌ مع علمكم بذلك)، هذا الجواب غير مرضي تأباه كلمة الإضراب، بل إنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال، وسماه فاحشةً، وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميمًا للإنكار بقوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار، فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة مفصلًا، وصرح بذكر الرجال محلى بلام الجنس، مشيرًا به إلى أن الرجولية منافيةٌ لهذه الحالة، وقيده بالشهوة التي هي أخس أحوال البهيمية. وقد تقرر عند ذوي البصائر أن إتيان النساء لمجرد الشهوة مسترذلٌ، فكيف بالرجال! وضم إليه "من دون النساء"، وأذن له بأن ذلك ظلمٌ فاحشٌ، ووضعٌ للشيء في غير

بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: (تَجْهَلُونَ) صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة. [(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)]. وقرأ الأعمش: "جواب قومه"، بالرفع. والمشهورة أحسن (يَتَطَهَّرُونَ) يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو استهزاء (قَدَّرْناها) قدّرنا كونها. (مِنَ الْغابِرِينَ): كقوله: (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر: 60] فالتقدير واقع على الغبور في المعنى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضعه، ثم أضرب عن الكل بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، أي: كيف يقال لمن يرتكب هذه الشنعاء: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}؟ ! فأولى حرف الإضراب ضمير {أَنْتُمْ} وجعلهم قومًا جاهلين، والتفت في {تَجْهَلُونَ} موبخًا معيرًا. قوله: (وقرأ الأعمش: "جواب قومه" بالرفع)، قال ابن جني: والحسن أيضًا، والنصب أقوى بأن يجعل اسم "كان" قوله {أَنْ قَالُوا} لشبه "أن" بالمضمر من حيث كانت لا توصف، كما لا يوصف المضمر، والمضمر أعرف من هذا المظهر. قوله: (فالتقدير واقعٌ على الغبور)، أي: قدر الله وقضاؤه واقعٌ على الغبور، أي: كونها من زمرة الباقين في العذاب، لأن الذوات لا تعدد. قال الواحدي: جعلنا تقديرنا وقضاءنا عليها أنها من الباقين في العذاب.

[(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)]. أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هو متصلٌ بما قبله)، عطفٌ على قوله: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يعني: قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إما اقتضابٌ، وهو أن يقتضب خطبةً، ويجعلها تحميدةً لتلاوته الآيات الناطقة بالبراهين، وهي قوله: {آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيات، أو تخلصٌ، أي: جعل التحميد على الهالكين من كفار الأمم، والصلاة على الأنبياء وأشياعهم ذريعةً إلى الشروع في قصته مع مشركي قومه، وأن له ولهم أسوةً بالأنبياء الماضية، والأمم الخالية. قوله: (وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه)، كما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، أي: الحمد لله على هلاك الأعداء ونجاته، لأنه من أجل النعم، وأجزل القسم.

معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معلومٌ أن لا خير فيما أشركوه) إلى آخره، كالتعليل للخير، والنفي منصبٌ على العلة والمعلول معًا، أي: ليس فيه خيرٌ لكي يوازن به بينه وبين الله، نحوه قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]، وفيه إشارةٌ إلى أن ذلك واردٌ على سبيل الاستدراج، وإرخاء العنان ليعتبروا حيث يراد تبكيتهم. الانتصاف: كلامٌ مرضيٌ، ولكن وضع مكان {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: "خالق كل خيرٍ" فإنه مذهبٌ قدريٌ. وقال الراغب في "غرة التنزيل": قوله: {آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} بنيت عليه الآيات التالية من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وتكلم أهل النظر في قولك: هذا أفضل من هذا، وهذا خيرٌ من هذا، فقال بعضهم: يقال للخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه بالتأول، لأن الأصل في باب: "أفعل من كذا" التفضيل، فمعنى الآية: أنهم مشغولون بعبادة الأوثان عن عبادة الرحمن، وفعلهم ينبئ عن أنها تنفعهم فوق ما ينفعهم خالقهم، فكأنهم قالوا: إن تلك أنفع لهم منه تبارك وتعالى، فقررهم أولًا بقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، أي: إذا عرفتم بأن الله تعالى سن لكم المصالح، ويسر لكم المنافع، وأ، زل لكم المطر من فوق، فأنبت ما به قوام الناس من تحت، آلله أنفع لكم أم الأوثان، فوضع موضعه قوله: {أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، أي: احتاج من يفعل هذا إلى عضدٍ ومعينٍ؟ ! بل الكفار قومٌ يعدلون عن الحق، وقيل: يعدلون بمن يفعل هذا غيره، تعالى الله عن ذلك، فهذا موضع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، لأن أول الذنوب العدول عن الحق ورده.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم ثنى بقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} فوصف ما بثه من قدرته في البر والبحر مما به مساك الأرض، وختمه بقوله: {أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، أي: أمع اله من يفعل مثل فعله؟ ! {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما لهم في عبادة الله وإخلاصها، و [ما] عليهم في إشراك غيره فيها، أي: لو علموا ما تنتهي إليه عواقب هذين لما عدلوا عما هو أنفع لهم إلى ما هو لهم أضر. ثم ثلث بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ}، ذكرهم بما لا يكاد يخلو منه أحدٌ إذا دفع إلى شدةٍ أن يضطر إلى الانقطاع إلى الله تعالى، وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} موضعٌ ينسى فيه الإنسان سالف شدته براهن نعمته، ففصل بقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، أي: ما تذكرون ما مر من دهركم من بلائكم وشروركم. ثم ربع بقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، أي: من ينجيكم بهدايته وما نصب لكم من آياته بالنجوم التي تعولون عليها في البحر والبر إذا لم تهتدوا في الظلمات؟ ولما كانت هدايته في البحر وتسييره الجواري بالريح، ضم إليه الريح الأخرى المبشرة بالقطر، فلما ختم الآية التي هي في معناها بقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64] ختم هذه بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، لأن المذكورين في هذه الآية المذكورون في تلك. وأما قوله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فكالخاتمة والتتميم للسوابق، ولذلك ضم مع قوله: {أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، أي: من يعدل رب العالمين الذي هذا شأنه؟ هلموا برهانكم وما يظهر في النفوس أن ما يقولونه حقٌ، وأن ما عداه باطل.

حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطإ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) [الزخرف: 52] مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجرى تحته. ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في موضع آخر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقد بان ووضح أن كل خاتمةٍ لائقةٌ بمكانها. هذا تلخيص كلامه. الأساس: نعمة الله راهنةٌ: دائمةٌ، وهذا الشيء راهنٌ لك: معدٌ، وطعامٌ راهنٌ. قوله: (والجهل المورط)، الأساس: ورطه، وتورطت الماشية: وقعت في موحلٍ، ومكان لا يتخلص منه، وتورط فلانٌ ببليةٍ، وورطه فيها، وأورطه شر مورطٍ. قوله: (ونحوه ما حكاه عن فرعون)، وهو: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 51، 52]، فإن اللعين لما عد ما عد مما اختص به، وقد علم أن موسى عليه السلام لم يكن عنده من ذلك شيءٌ قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} للتبكيت والتهكم، يعني: ثبت عندكم واستقر أني خيرٌ مع هذه المملكة البسيطة من هذا الضعيف الحقير الذي ليس له شيءٌ منها. قوله: (ثم عدد سبحانه وتعالى الخيرات والمنافع)، يعني: في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40]. والحاصل أن هذا الأسلوب من إنكار الشيء ونفيه على وجه يعرف به الخصم،

ثم قال: (هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ). وقرئ: (يُشرِكُونَ) بالياء والتاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم". [(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)]. فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في (أَمَّا يُشْرِكُونَ) و (أَمَّنْ خَلَقَ)؟ قلت: تلك متصلة، لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله تعالى: آلله خير أم الآلهة؟ قال: بل أمّن خلق السماوات والأرض خير؟ تقريرا لهم بأن من قدر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يأباه فإنه تعالى أثبت لوازم الألوهية لنفسه سبحانه وتعالى ونفاها عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها، مؤكدًا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق والاتفاق، ولفظة "ثم" في كلام المصنف: "ثم عدد سبحانه وتعالى" عطف على مقدر، يعني: ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآيات آياتٍ ودلائل، ثم عدد الخبرات. قوله: (وقرئ: {يُشْرِكُونَ} بالياء والتاء)، عاصمٌ وأبو عمر: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. قوله: (قال: بل أمن خلق السماوات والأرض)، بتخفيف الميم تفسير {أَمَّنْ خَلَقَ} بتثقيل الميم، لأن "أم" منقطعةٌ، وهي على تقدير: بل والهمزة، و"من" موصولةٌ، فكأن المعنى: بل أمن خلق السماوات والأرض خيرٌ. قوله: (تقريراً لهم)، يعني: أضرب عن السؤال الأول إلى تقرير المعنى الثاني، أي: دعوا

على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء. وقرأ الأعمش: (أَمَنْ) بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلا من الله، كأنه قال: أمّن خلق السماوات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله: (فَأَنْبَتْنَا)؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: (مَّا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، ألستم تقرون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه خيرٌ من جمادٍ لا يقدر على شيءٍ. قوله: (ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص)، الأساس: أصل الرشح. ترشيح الظبية ولدها تعوده المشي فيرشح، ورشحت القربة الماء، ورشح الكوز، وكل إناءٍ يرشح بما فيه. وفي الاصطلاح: هو أن يعقب الاستعارة بصفةٍ ملائمةٍ للمستعار منه، مبالغةً لتناسي التشبيه، وأن المستعار له دخل في جنس المستعار منه، حيث تفرع عليه ما تفرع على المستعار منه. والخلاصة: أن الترشيح كالتربية لفائدة كلام بولغ فيه، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله: "رشح معنى الاختصاص" لا أنه ترشيحٌ اصطلاحيٌ، أما الاختصاص فهو مستفادٌ من الإضراب، ونفي الخيرية عن الشركاء، وإثباتها لله تعالى بعدما أثبتها له بقوله: {اللَّهُ خَيْرُ} على سبيل التبكيت. وأما التوكيد فيه، فمن نقل الخطاب من الغيبة إلى التكلم، لأنه أقوى وأرسخ أصلًا منه، لأن الأصل أن يكون الخطاب بين الحاضرين، ولأن الأصل في الإخبار أن يخبر الإنسان عن نفسه، ثم عن نفسه وعمن معه، ثم عن المخاطب، ثم عن الغائب، ثم من

كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتي ذلك محال من غيره، وكذلك قوله: (بَلْ هُمْ) بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو: الإحاطة. وقيل (ذَاتَ)، لأنّ المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إيثار صيغة الجمع الدال على الكبرياء والعظمة، ثم رشح هذه المبالغة والتأكيد بقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} على أن معنى {مَا كَانَ}: ما ينبغي، يعني: لا ينبغي ولا يصح، ولا يستقيم منهم أن يفعلوها، بل هو من خصائص من عظم شأنه، وجل سلطانه، فإنهم أحقر من ذلك، وهو المراد من قوله: "معنى الكينونة: الانبغاء"، ثم رشح هذا التحقير بالنقل من الخطاب في قوله: {لَكُمْ}، إلى الغيبة {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] لعكس المعنى الأول، وهو الطرد والبعد والتحقير. فانظر إلى هذه الرموز التي تسلب العقول، ثم انظر إلى إدراك المصنف مكانها، ولله قوله في الخطبة: "دراكًا للمحةٍ وإن لطف شأنها". قوله: (من الإحداق وهو الإحاطة)، الراغب: الحديقة: قطعةٌ من الأرض ذات ماءٍ سميت تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها، وجمع الحدقة: حداقٌ وأحداقٌ، وحقد تحديقًا: شدد النظر، وحدقوا به: أحاطوا به تشبيهًا بإدارة الحدقة. قوله: (وقيل: {ذَاتَ}، لأن المعنى: جماعة حدائق)، قال صاحب "الفرائد": لا ضرورة في زيادة لفظ الجماعة، لأن "حدائق" مؤنثةٌ واحدة، من حيث إنها جمعٌ، وهي كالنساء، فيقال: إن المصنف يحقق الأصل، ويقرر وجه الإفراد. قال الزجاج: ويجوز في غير وجه القراءة: "ذوات بهجةٍ"، لأنها جماعةٌ، كما تقول: نسوتك ذوات حسنٍ، وإنما جاز {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]، لأن المؤنث يخبر عنه في الجمع بلفظ الواحدة إذا أردت الجماعة، كأنك قلت: جماعةٌ ذات بهجةٍ.

لأنّ الناظر يبتهج به. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ): أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. وقرئ: (أإلها مع الله)، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين، وتوسط بينهما مدّة، وتخرج الثانية بين بين (يَعْدِلُونَ) به غيره، أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد. [(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)]. (أَمَّنْ جَعَلَ) وما بعده بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ) فكان حكمهما حكمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الناظر يبتهج به)، الراغب: البهجة: حسن اللون، وظهور السرور فيه، وقد بهج بهيجٌ، وقد ابتهج بكذا: سر به سرورًا بان أثره على وجهه، وأبهجه كذا. قوله: (وقرئ: "أإلهًا مع الله")، فهي شاذة، وأما تحقيق الهمزتين بينهما مدة فقرأه هشامٌ عن ابن عامرٍ. قوله: ({يَعْدِلُونَ} به غيره، أو يعدلون عن الحق)، عن بعضهم: عدل فلانًا بفلانٍ، أي: سوى يبنهما، والعادل المشرك يعدل بربه، وقالت امرأةٌ للحجاج: إنك لقاسطٌ، عادلٌ، وعدل عن الطريق وانعدل: حاد. قوله: ({أَمَّنْ جَعَلَ} وما بعده بدلٌ من {أَمَّنْ خَلَقَ}) يعني: إذا أخذت مجموع الآيتين وخلاصتهما، وكونهما دالين على اختصاص الله بهذه الأفعال التي لا يقدر عليها

(قَراراً) دحاها وسوّاها بالاستقرار عليها (حَاجِزاً) كقوله: برزخا. [(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)]. الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجأ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا. والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو المجهود. وعن السدّي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله: (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غيره، وأنها دالةٌ على التوحيد، ونفي الضد والند، كان حكم الثاني حكم الأول، فيصح الإبدال، ولا ينبغي أن يعتبر مفرداتهما في الإبدال لعدم استقامة المعنى. ومما يؤيد أن الإبدال من المعنى تذييل الآيتين بقوله: {أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، وأن الثاني بيانٌ للأول تجهيلهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]، أي: جاهلون في أن يعدلوا به غيره، أي: يسوون به غيره، أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد، ولأن الآثار السفلية أظهر من الآثار العلوية، وأقرب خطوًا عند الأغنياء، ولأن الدلائل كلما كانت أسهل مأخذًا كان أبين وأوضح، فصح إبدال الثانية من الأولى، والله أعلم. قوله: ({قَرَارًا}: دحاها وسواها للاستقرار)، وقال القاضي: المعنى: بإبداء بعضها من الماء، وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها. قوله: (قد عم المضطرين بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ})، يريد أن المضطر من لزته الضرورة إلى اللجأ إلى الله تعالى، وقد حكي بلام الاستغراق فيفيد العموم، وقد يوجد الدعاء من المضطر والإجابة متخلفة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخلاصة الجواب: أن مدخول اللام مطلقٌ، واللام للجنس لا للاستغراق، والمطلق يحتمل الكل والبعض كاللفظ المشترك، كما سبق في أول الكتاب، فيحتاج في تعيين أحد مفهومية إلى القرينة، وقامت قرينة شريطة رعاية المصلحة في الإجابة فقيدت بها. قال صاحب "الفرائد": ما من مضطر دعاه إلا أجيب، وأعيد نفع دعائه إليه، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وذلك أن الدعاء: طلب شيء، فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه، أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده. وقال صاحب "الانتصاف": الإجابة مقرونةٌ بالمشيئة لا بالمصلحة. والقدرية يوقفونها على المصلحة لإيجابهم رعاية المصالح، وقوله: "لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطاً فيه المصلحة" غلطٌ، فإن المشيئة شرطٌ باتفاقٍ، ومع ذلك كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت. وقلت: التعريف للعهد، لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ}، والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجؤون إلى الله تعالى دون الشركاء، والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى: {أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}. قال صاحب "المفتاح": كانوا إذا حزبهم أمرٌ دعوا الله دون أصنامهم.

وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت، الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقا، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض؛ وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم. (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ: (يذّكّرون) بالياء مع الإدغام. وبالتاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى: إذا حزبكم أمرٌ أو قارعةٌ من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة، من يجيبكم على كشفها، ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء {أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}؟ فلا يكون المضطرون عامًا، ولا الدعاء، فإنه مخصوصٌ بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الآية [يونس: 22]. وقوله: (إلا شارطًا)، استثناء مفرغٌ، أي: لا يحسن دعاء العبد كائنًا على حالٍ من الأحوال إلا هذه الحال. وعليه دعاء الاستخارة: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري" إلى قوله: "فيسره لي" الحديث. قوله: (أو أراد بالخلافة الملك والتسلط)، الجوهري: الخليفة: السلطان الأعظم، وقد يؤنث، وأنشد الفراء: أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفةٌ ذاك الكمال قوله: (وقرئ: "يذكرون" بالياء) أبو عمرو وهشام: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.

مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أي: يذكرون تذكرا قليلا. والمعنى: نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي. [(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)]. (يَهْدِيكُمْ) بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر. [(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)]. فإن قلت: كيف قيل لهم: (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهم منكرون للإعادة؟ قلت: قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والقلة تستعمل في معنى النفي)، وأنشد: قليلٌ بها الأصوات إلا بغامها أي: ليس بها صوتٌ إلا صوت الظباء، البغام- بالباء الموحدة والغين المعجمة- صوت الظبية، وعليه يحمل قول زهيرٍ: قليل الألايا حافظٌ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت

(مِنَ السَّمَاءِ) الماء، وَمن (الْأَرْضِ) النبات. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ مع الله إلها، فأين دليلكم عليه؟ [(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)]. فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جاء على لغة بين تميم)، قال المالكي في "التسهيل": وأجاز التميميون إتباع المنقطع إن صح إغناؤه عن المستثنى منه، وليس من تغليب العاقل على غيره فيختص بأحد وشبهه، وقال في الشرح: لغة بني تميمٍ إعطاء المنقطع المؤخر من مستثنيات "إلا" في غير الإيجاب من الإتباع ما لمتصل، فيقولون: ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ، كما يقول الجميع، وعلى لغتهم قول الراجز: وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ويلحق بهذا إتباع أحد المتباينين الآخر، نحو: ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وهما من أمثلة سيبويه. والأصل: ما أتاني أحدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه أحدٌ إلا إخوانه، فجعل مكان "أحدٍ" بعض مدلوله، وهو زيدٌ وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة، لكن ذكرا توكيدًا لقسطهما من النفي دفعًا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يعترض عليه هذا الذي أكد به، فذكره توكيدًا، وشرط الإتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه، والاستغناء عنه بالمستثنى، فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند الجميع، كقوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] فـ "من رحم" في موضع نصبٍ على الاستثناء، ولا يجوز فيه الإتباع، لأن الاستغناء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به عما قبله ممتنعٌ إلا بتكلفٍ. وعم المازني: أن إتباع المنقطع من تغليب ما يعقل على ما لا يعقل. قال ابن خروف: وهذا فاسدٌ، لأنه لا يتوهم ذلك إلا في لفظٍ واحدٍ، والذي يبدل منه في هذا الباب ليس بلفظٍ واحدٍ، بل أكثر من أن يحصى. ثم قال المالكي: زعم الزمخشري أن قوله تعالى: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} استثناءٌ منقطعٌ جاء على لغة تميمٍ لأن الله تعالى، وإن صح الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، وإنما ذلك على المجاز، لأنه مقدسٌ عن الكون في مكانٍ، بخلاف غيره، فإنه إذا أخبر عنه بأنه في السموات أو في الأرض، فإنه كائنٌ فيهما حقيقةً، ولا يصح حمل اللفظ في حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز، والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصلٌ، وفي متعلقه بغير "استقر" من الأفعال المنسوبة عل الحقيقة إلى الله تعالى، وإلى المخلوقين كذكر ويذكر، فكأنه قيل: لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله تعالى. ويجوز تعليق "في" بـ "استقر" مسنداً إلى مضافٍ حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله، ثم حذف الفعل والمضاف، واستتر الضمير لكونه مرفوعًا، هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حالةٍ واحدةٍ، وليس عندي ممتنعاً كقولهم: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين، ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، ويمكن أن يكون {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في موضع نصبٍ {الْغَيْبَ} بدل الاشتمال، والفعل مفرغٌ لما بعد إلا. أي: لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله. وقلت: المصنف ما اختار المذهب التميمي اضطرارًا إليه، بل مراعاة لتلك النكتة، وتحقيقها على ما ذكره صاحب "المتفاح"، ومن البناء على هذا التنويع، أي: على الدعوى قوله: "تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] وقوله: وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس قال في فصل المستثنى منه، أي: أنيسها ليسوا إلا إياها. وقال فيه: وقفت فيها أصيلالًا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا أواري ... أراد إن كان الأواري يعد أحدًا، فلا أحد فيه بها إلا إياه. وعليه كلام المصنف: "إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب"، أي: المقصود من إدخال رب العزة في المستثنى منه بالدعوى، وجعله جنسًا منهم كما سبق، ثم الإخراج بالمستثنى قطع القول بنفي معرفة الغيب ممن في السماوات والأرض، وأن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله منهم، والفرق بين الآية والمثال: أنه في الآية أدخل الله عز وجل فيمن في السماوات والأرض، ليجعل غيره مثله في معرفة الغيب ادعاءً، وهو المراد بقوله: "فهم يعلمون الغيب"، وفي المثال عكسه، وذلك أن علم الله غامرٌ لكل عالمٍ، وسلطان الإنس غالبٌ على كل من دونه، وكذا المثالان، أعني: "القلم أحد اللسانين" و"الخال أحد الأبوين" أيضًا من البناء على الدعوى، كقوله: "تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ". وقول الفرزدق: أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر

حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأنّ أحدا لم يذكر. ومنه قوله: عشيّة ما تغني الرّماح مكانها ... ولا النّبل إلّا المشرفي المصمّم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو إلى باب عموم المجاز أقرب من إرادة الحقيقة والمجاز معًا. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكره صاحب "التقريب"، وفي الكلام تعقيدٌ ينحل ببيان أمرين: الأول: توقف النكتة على لغة التميمي، والثاني: موازنة الآية بالبيت. أما الأول، فتلخيصه: إن كان الله ممن فيهما، وهو يعلم الغيب ففيهما من يعلم الغيب، أي: استحالته كاستحالته. وأما الثاني: فلتوقفها على تقدير شرطية مثل: إن كان اليعافير أنيسًا ففيها أنيسٌ، وهذا إنما يصح على التميمي، وجعله بدلًا من جنس الأول على سبيل الفرض والتقدير لتصح تلك الشرطية، وأما على الحجازي ونصبه على أنه مستثنى منقطعٌ، أي: مذكورٌ بعد "إلا" غير مخرجٍ، فليس فيه أنه من جنس الأول، لا حقيقةً ولا فرضًا، فقد انكشف المقصود، ولله الحمد. قوله: (عشية ما تغني الرماح) البيت، النبل: اسم السهام العربية، والمشرفي: السيف، قال أبو عبيدة: نسب إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال: سيفٌ مشرفيٌ، ولا يقال: مشارفي، لأن الجمع لا ينسب غليه. مكانها: أي: مكان الرماح، وهي الحرب، وقيل: مكانها، أي: نفسها، وهو الوجه. والمصمم: المحدد الذي يصيب المفصل، وعادة المحاربين أن يتناضلوا أولًا، فإذا تقاربوا حاربوا بالرماح، وإذا التقوا ضاربوا بالسيوف. يصف التحام الحرب، والتقاء الصفين، بحيث لا يغني النبل ولا الرماح، ولم يبق إلا الضرب بالسيوف، أي: ما يغني إلا السيف.

وقولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سرية. حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعنى: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوّها عن الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أنّ الله ممن في السماوات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة، على أنّ قولك: من في السماوات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نكتةٌ سرية)، الجوهري: واستريت الغنم والناس، أي: اخترتهم، وهي سري إبله وسراة ماله. قوله: (ومن يعصهما فقد غوى)، روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي عن عدي بن حاتمٍ: أن رجلًا خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" وذلك أن في الجمع بالضمير ما يوهم التسوية، والعطف بالواو وإن دل على الجمع والتسوية في الفعل، لكن في الإفراد وجعل أحدهما متبوعًا والآخر تابعًا ما يزيل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك التوهم، هذا ما يقتضيه ظاهر كلام المصنف، ولكنه يشكل بما رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي عن أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" الحديث. ووجهه القاضي: ثنى الضمير هاهنا إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لأن كل واحدةٍ منهما وحدها ضائعةٌ لاغيةٌ، وأمر بالإفراد في حديث عديٍّ إشعارًا بأن كل واحدٍ من العصيانين مستقلٌ باستلزام الغواية، لأن العطف في تقدير التكرير، والأصل فيه الاستقلال في كل من المعطوفين في الحكم. وقلت: يؤيد الأول قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] حيث جعل متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيةً على محبة الله، وسببًا لمحبته تعالى. والثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه". أخرجه مالكٌ عن أنس بن مالكٍ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، إما أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئٌ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه، وما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ما يخالف القرآن، وبالقرآن هداه الله". أخرجه رزينٌ عن أبي رافع،

"بئس خطيب القوم أنت"؟ وعن عائشة رضي الله عنها: "من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية"، والله تعالى يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ). وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة (أَيَّانَ) بمعنى متى، ولو سمى: لكان فعالا، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ: (إيان) بكسر الهمزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد روى الترمذي وأبو داود عنه نحوه. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وأوله: من زعم أنه يخبر ما في غدٍ. النهاية: الفرية على الله: الكذب، يقال: فرى يفري فريًا، وافترى يفتري افتراءً: إذا كذب، وهو افتعالٌ منه. قوله: (لكان فعالًا)، أي: لا تكون الألف والنون زائدتين، فيكون منصرفًا، قيل: أورد هذه المسألة لئلا يظن أنه من باب حسان، حيث يجوز صرفه وعدمه، لو جعل من الحسن أو الحس. الجوهري: أيان، معناه: أي حين، وهو سؤالٌ عن زمانٍ مثل: متى، وإيان بكسر الهمزة: لغة سليم، حكاها الفراء، وبه قرأ السلمي "إيان يبعثون" [الحل: 21].

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [النمل: 66]. وقرئ: (بل أدّرك)، (بل ادّراك)، (بل ادّارك)، (بل تدارك)، (بل أأدرك) بهمزتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: بل أدرك)، إلى قوله: (فهذه ثنتا عشرة قراءةً)، قرأ ابن كثير وأبو عمرٍو: "بل أدرك" بقطع الهمزة، وإسكان الدال من غير ألفٍ على وزن أفعل، والباقون بوصل الألف وتشديد الدال وألف بعدها. قال ابن جني: قرأ سليمان وعطاء ابنا يسار "بل أدرك" بفتح اللام ولا همزة ولا ألف. وروي عنهما: "بل أدرك" بفتح اللام، ولا همز وتشديد الدال، وليس بعد الدال ألف، وقرأ: "بل آدرك" الحسن وابن محيصن. وقرأ: "بلى" بياء "آدرك" ممدوداً ابن عباسٍ، وقرأ "بل أدرك" مخفوض اللام، مشددة الدال الحسن، وقرأ: "بل تدارك" أبي بن كعب. وقال الزجاج: من قرأ: "بل أدرك علمهم" فعلى التقرير والاستخبار، كأنه قيل: لم يدرك علمهم في الآخرة، أي: ليس يقفون في الدنيا على حقيقتها ثم بين ذلك بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}. والقراءة الجيدة {ادَّارَكَ} على معنى: تدارك، بإدغام التاء في الدال فتصير دالًا ساكنةً، فلا يبتدأ بها، فيأتي بألف الوصل ليصل إلى التكلم بها. وإذا وقفت على "بل" وابتدأت قلت: "ادارك"، فإذا وصلت كسرت اللام في "بل" لسكونها وسكون الدال، وسقطت الألف، لأنها ألف وصل. وقال ابن جني: أما "بل ادرك" فعلى تخفيف الهمزة بحذفها، وإلقاء حركتها على اللام الساكنة قبلها كقولك في {قَدْ أَفْلَحَ}: "قد أفلح"، وأما "بل ادرك" بفتح اللام، فكان قياسه "بل ادرك" بكسر اللام لسكونها وسكون الدال بعدها، إلا أنه فتحت اللام، لأن في ذلك

(بل آأدرك)، بألف بينهما. (بل أدرك) بالتخفيف والنقل. (بل ادّرك) بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله: بل أدَّرك؟ على الاستفهام. (بلى أدرك)، (بلى أأدرك)، (أم تدارك)، (أم أدرك) فهذه ثنتا عشرة قراءة. و (ادّارك): أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادّرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم: انتهى وتكامل. (ادّارَكَ) تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ): يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إزالةً لالتقاء الساكنين، وعدولًا إلى الفتحة لخفتها كما روينا عن قطرب: أن منهم من يقول: {قُمِ اللَّيْلَ}، وبع الثوب. وأما "بل آدرك" فإن "بل" استئنافٌ، وما بعدها استفهامٌ، كما تقول: أزيدٌ عندك؟ بل أجعفرٌ عندك؟ تركًا للأول إلى غيره لا تراجعًا عنه. وأما "بلى" فكأنه جوابٌ، وذلك أنه لما قال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فكأن قائلًا قال: ما الأمر كذلك، فقيل له: "بلى"، ثم استؤنف فقيل: "آدرك علمهم في الآخرة". قوله: (يريد المشركين ممن في السماوات)، يعني: الضمائر في قوله: {عِلْمُهُمْ}، {بَلْ هُمْ}، و {هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] للمشركين، وكلها راجعةٌ إلى قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 65] وفيهما المؤمنون، لكن لما كان المشركون في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع.

بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بيانا لعجزهم ووصفا لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون، وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن الآية سبقت)، تلخيص السؤال: أن قوله: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ} الآية، دل على أنه تعالى هو وحده يعلم الغيب، وقوله: "بل أدرك علمهم" دل على تكامل علمهم واستحكامه في أن القيامة كائنةٌ، وأنهم مع ذلك منكرون، فأي مناسبةٍ بينهما حتى توسطت بينهما كلمة الإضراب؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: أن الثانية وردت مستطردةً، والمناسبة بينهما إثبات العجزين، الثاني أبلغ من الأول. وثانيهما: أن الآية الأولى نافيةٌ لمعرفته علم الغيب العام عنهم مطلقًا، والثنية نافيةٌ لمعرفة العلم الخاص على وجهٍ أبلغ، لأن إثبات العلم على التهكم لإرادة النفي أبلغ من نفيه مطلقًا، وإليه الإشارة بقوله: "فضلًا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته" فجاء الترقي من الأدون إلى الأغلظ.

وفي: "أدرَكَ علمُهُم" و (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ): وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك: من: تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك. فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. فإن قلت: فمن قرأ: بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ) كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه: المبالغة في نفى العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون. وأما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي "أدرك علمهم" و {ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ}: وجهٌ آخر)، عطفٌ على قوله: "ومعنى" أدرك علمهم في الآخرة": انتهى وتكامل". ويجوز أن يكون متفرعًا على الجواب الثاني، أي: أن "أدرك"و"ادارك" إما منفيان على التهكم، أو معناها: انتهى وفني، ليحصل الترقي من النفي إلى النفي. قوله: (من: تدارك بنو فلانٍ، إذا تتابعوا في الهلاك)، ومنه بيت الحماسة. أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجي الحياة أم من الموت أجزع قوله: (فما وجه قراءة من قرأ: "بل أأدرك"؟ )، الفاء دلت على الإنكار، يعني: هب أنك فسرتهما بمعنى: انتهى وفني، فما تفعل بالاستفهام الوارد على التقرير؟ وأجاب: أجعله إنكارياً، وهو نفيٌ أيضًا. قوله: (فمن قرأ: "بلى")، إنكارٌ آخر على التأويل بالنفي، وأجاب بما يوافق النفي بالتهكم لقراءة، وبالإنكار على وجهٍ برهانيٍّ لأخرى.

من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. (فِي الْآخِرَةِ) في شأن الآخرة ومعناها فإن قلت، هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية؛ فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا. ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه؛ فلذلك عدّاه بـ "مِن" دون "عن"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم أنكر علمهم بكونها)، أي: قال: "أدرك علمهم في الآخرة"، بمعنى: ما أدرك علمهم في نفس الآخرة، والمراد: نفي علمهم بمعرفة وقتها بالطريق البرهاني، وإليه الإشارة بقوله: "لأن العلم بوقت الكائن تابعٌ العلم بكون الكائن". قوله: (ما هي إلا تنزيلٌ لأحوالهم)، أي: لجهلهم بأحوال القيامة، المعنى: كيف يشعرون وقتها، وهم لا يعلمون كيف كونها، وأن البعث والحشر ثابتٌ في نفسه؟ فإن الأول تابعٌ للثاني، بل كيف يشعرون كونها، وهم خابطون في ظلماء الشك؟ فإن الجاهل أهون حالًا من الشاك الذي يتخبط في شكه لما يحتاج الثاني إلى إزالة الشك، ثم تحصيل العلم بخلاف الجاهل، وكيف يزيلون الشك وهم كالبهائم في العمى؟ فقوله: "ثم بما هو أسوأ حالًا" عطفٌ على قوله: "ثم بأنهم يخبطون"، وقوله: "فلا يزيلونه" إلى قوله: "بين الحق والباطل" متفرع على قوله: "ثم بأنهم يخبطون" والأسلوب من باب الترقي من الأهون إلى الأغلظ. قوله: (وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه)، يريد أن معنى "من" في "منها" في الموضعين الابتداء، ومرجعه الصدور والإنشاء، وفيه شائبةٌ من معنى السببية، وأن الكفر بالآخرة سببٌ للعمى.

لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. [(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)]. العامل في (إِذَا) ما دلّ عليه (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) وهو "نخرج"، لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيه عقابا وهي همزة الاستفهام، و "إن" ولام الابتداء وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟ والمراد: الإخراج من الأرض. أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على (إذا) و (إن) جميعا إنكار على إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والضمير في (إِنَّا) لهم ولآبائهم، لأنّ كونهم ترابا قد تناولهم وآباءهم. فإن قلت: قدّم في هذه الآية (هَذَا) على (نَحْنُ وَآباؤُنا)، وفي آية أخرى قدّم (نَحْنُ وَآباؤُنا) على (هَذَا)؟ قلت. التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر، وإن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "التقريب": معناه: أن الكفر بالجزاء مبدأ عماهم، وسبب عدم تدبرهم، فإن لم يصرفه خوف العاقبة فعل ما يقتضيه هواه وشهوته، ودخل في زمرة البهائم. قال: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم قوله: (بين يدي عمل اسم الفاعل)، أي: المفعول، وهو "مخرجون"، سمي به مجازًا، لأنه بني من: يخرج. قوله: (التقديم دليلٌ على أن المقدم هو الغرض)، تلخيصه: أن التقديم إنما يتعمد به لاقتضاء المقام، وكون المقدم مهتماً بشأنه، ولما كان الإنكار في هذه السورة أبلغ منه في تلك السورة قدم المنكر هنا، وأقره في تلك السورة في مكانه.

دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيانه: أنه تعالى لما وبخ المشركين إنكارهم الحشر بقوله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، ثم جهلهم بوقت البعث بقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، وترقى فيه ذلك الترقي المذكور، حكى عنهم ما كانوا يتفوهون به في ذلك من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا}، وضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع المضمر، للإشعار بأن هذا القول إنما صدر عنهم لتماديهم في الكفر، حيث ضموا مع ذكرهم ذكر آبائهم، وجعلوهم ترابًا صرفًا لأجزاء هناك على صورة نفسه، وقدموا المنصوب على المرفوع في قولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا}، وهو المراد من قوله: "دل على أن اتخاذ البعث"، وأما في سورة المؤمنين فلم يسبق من ذلك شيءٌ. نعم حكى عنهم قولهم لينبه به على أن ذلك جرى من محض التقليد، ومتابعة أسلافهم في تكذيب الأنبياء في البعث، فأقر كلًا من المرفوع والمنصوب في مكانه، ولم يذكر آباءهم، وصرح بذكر العظام، وهو المراد من قوله: "دل على أن اتخاذ المبعوث" يعني: إنما قدموا هذا هنا والمشار إليه البعث ليؤذن بأنهم إنما اتخذوا البعث منكرًا، وقدموا "نحن" في المؤمنين ليعلم بأنهم إنما اتخذوا "المبعوث بذلك الصدد"، أي: هو الذي يعمد بالكلام اتخاذ المبعوث. وكلام صاحب "المفتاح" يجب أن يحمل على هذا المحمل، وذلك قوله: فالجهة المنظور فيها هناك هي كون أنفسهم ترابًا وعظامًا، والجهة المنظور فيها هاهنا هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابًا لأجزاء هناك من بناهم على صورة نفسه، ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث، فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره. وأما قوله: "وفي آية أخرى قدم {نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا} "، فمن باب المشاكلة، إذ ليس هناك تقديمٌ اصطلاحيٌ. قوله: (دل على أن اتخاذ البعث)، عن بعضهم: "على" في الموضعين فاعل "دل"، أي: دل على جعل الله البعث معتمدًا في الكلام، وعلى جعله المبعوث معتمدًا فيه في الأخرى.

[(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)]. لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقي، ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) [الشمس: 14] وقوله: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح: 25]. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لأنهم لم يتبعوك، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش، كقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف: 6]. (فِي ضَيْقٍ) في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا: تخفيف الضيق. قال الله تعالى: (ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام: 125] قرئ مخففا ومثقلا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا تلخيص المعنى، لأجل التركيب، لأن "اتخذ" يقتضي مفعولًا ثانيًا كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، فالتقدير دل على أن اتخاذ البعث أصلًا هو الذي يعتمد في الكلام، أي: الذي قصد في الكلام جعل البعث أصلًا ومقدمًا، ويعضده قوله: إن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر. قوله: (ضيقًا وضيقًا، بالفتح والكسر)، ابن كثير: بالكسر، والباقون: بفتحها.

ويجوز أن يراد: في أمر ضيق من مكرهم. [(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)]. استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم: (عَسَى أَنْ يَكُونَ) ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة: 195] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدى. بـ "من"، قال: فلمّا ردفنا من عمير وصحبه ... تولّوا سراعا والمنيّة تعنق يعني: دنونا من عمير، وقرأ الأعرج: (ردف لكم)، بوزن ذهب، وهما لغتان، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد: في أمرٍ ضيقٍ)، عطفٌ على قوله: " في حرج صدرٍ"، يعني: {ضَيْقٍ} هنا مطلقٌ يجوز أن يقدر: ضيق صدرٍ، لاشتهاره فيه، أو يترك على إطلاقه، فيحمل على العموم، فالأمر بمعنى الشأن والحال. قوله: (فلما ردفنا من عميرٍ)، البيت، تعنق من العنق: وهو السير السريع السهل، يقال: دابةٌ معناقٌ، ومعنق، يقول: لما دنونا من عميرٍ وصحبه للمحاربة، أدبروا مسرعين منهزمين، والمنية تسرع خلفهم. قوله: (وعسى ولعل)، الراغب: عسى طمعٌ وترج، وكثيرٌ من المفسرين فسروا عسى ولعل باللازم، وقالوا: إن الرجاء والطمع لا يصح من الله، وفي هذا قصور نظر، وذلك أن الله عز وجل إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه على رجاءٍ لا أن يكون هو تعالى

وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده، وإنما يعنون بذلك: إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. [(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)]. الفضل والفاضلة: الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه: أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأنه لا يعاجلهم بها، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب: وهم قريش. [(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)]. قرئ (تَكُنّ). يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعنى: أنه يعلم ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ راجيًا. قال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129]، أي: كونوا راجين في ذلك، {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]. قوله: (لإذلالهم بقهرهم)، أي: لوثوقهم، يقال: هو يدل بفلانٍ، أي: يثق به. الأساس: وأدل على قريبه، ومنه: أسدٌ مدلٌ. قوله: (الفضل والفاضلة: الإفضال)، الراغب: الفضل: الزيادة عن الاقتصاد، وذلك إما محمودٌ كفضل العلم والحلم، وإما مذمومٌ كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه، والفضل في المحمود أكثر استعمالًا، والفضول في المذموم. قوله: (قرئ: "تكن")، قال ابن جني: قراءة ابن السميفع، وابن محيصن "تكن" بفتح التاء وضم الكاف، والمألوف أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته

يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه. [(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)]. سمي الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتهما في العافية والعاقبة. ونظائرهما: النطيحة، والرمية، والذبيحة: في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من راوية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بشيءٍ، فأكننت كأضمرت، وكننت كسترت، فهذا القارئ أجرى الضمير مجرى الجسم الساتر لها. مبالغةً، ونحو قول القائل: وحاجةٍ دون أخرى قد عرضت لها ... جعلتها للتي أخفيت عنوانا وقول الحماسي: تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير ألا تراه كيف وصفه بما توصف به الجواهر من السروب والتغلغل. قوله: (ونظائرهما: النطيحة)، الجوهري: نطحه الكبش ينطحه وينطحه نطحًا، والنطيحة المنطوحة التي ماتت منه، وإنما جاءت الهاء لغلبة الاسم عليها، وكذلك الفريسة، والأكيلة، والرمية، لأنه ليس هو على نطحتها، فهي منطوحة، وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح، والشيء مما يفرس.

السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة. [(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)]. قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى. (لِلْمُؤْمِنِينَ): لمن أنصف منهم وآمن، أي: من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يريد اليهود والنصارى)، أي: يريد بقوله: بني إسرائيل: اليهود والنصارى لا اليهودي وحدهم كما الظاهر. والمراد بالاختلاف ما شجر بينهم في المسيح عليه السلام، لقوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم: 37]، وهم اليهود والنصارى في وجهٍ دون الوجه الآخر، وهم فرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية، والملكانية. والمقام يقتضي العموم، لأنه تعالى لما وبخ المشركين ووعدهم وهددهم بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وبين شمول علمه المعلومات كلها، وأنها ثابتةٌ في اللوح المحفوظ، ذكر أن هذا القرن نسخةٌ من بعض ما هو مثبتٌ في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78]. ألا ترى كيف يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وهم يعلمون ذلك لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، لكن هم شر ذمةٌ مكابرةٌ مثلكم أيها المشركون. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} يوم القيامة {بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه من المبطلين {الْعَلِيمُ} بالفصل بينهم وبين المحقين. والدليل على استطراد هذا الكلام العود إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} بعد قوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، وإلى تسمية المشركين بالموتى في قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}.

بني إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل: 78]. (بَيْنَهُمْ) بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت: ما معنى يقضي بحكمه؟ ولا يقال: زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت: معناه بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، فسمي المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته، وتدل عليه قراءة من قرأ: (بِحِكَمِه)؛ جمع حكمة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ)؛ فلا يردّ قضاؤه (الْعَلِيمُ) بمن يقضى له وبمن يقضى عليه، أو (العَزِيزُ) في انتقامه من المبطلين، (العَلِيمُ) بالفصل بينهم وبين المحقين. [(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ* إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)]. أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته. وأن مثله لا يخذل. فإن قلت: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل، فما وجه ذلك؟ قلت: ؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب: من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالعداوة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو منهم ومن غيرهم)، هذا أولى من الأول، لقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ}، وقد فسر بقوله: "من آمن بالقرآن ومن كفر به" ولما قررناه من بيان النظم، ولأن قوله: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} تعريضٌ كالتذييل، فيدخل فيه بنو إسرائيل دخولًا أوليًا. قوله: (وتشييع ذلك بالعداوة)، الأساس: ومن المجاز: شيعنا شهر رمضان بصوم

والأذى، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع: كانت حالهم لانتفاء جدوى السماع؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الستة وشيعت النار بالحطب، وشيع هذا بهذا: قواه به. المعنى: ويقويه ترك إتباعه بالعداوة والأذى. قوله: (توكل متوكلٍ مثله)، كنايةٌ عنه صلوات الله عليه كأنه قيل: توكل متوكلٌ ممن هو بصددك في بذلك جهيداه في إيمان القوم حتى قيل له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} [الكهف: 6]، وممن هو له ناصرٌ، مثل ناصرك، كأنه قيل له صلوات الله عليه: أعرض عنهم وتاركهم، لأنك بالغت في الإنذار، وأعذرت، وإنهم لا يؤمنون البتة، ولم يبق لك إلا الاستنصار، والتوكل على الغالب القاهر لأعدائه، الناصر والمتولي لأوليائه، لأن الأصل: فتوكل عليه، لقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ}، فوضع اسم الذات موضع الضمير، فأفاد في هذا المقام هذا المعنى. الراغب: التوكل يقال على وجهين: يقال: توكلت لفلانٍ بمعنى: توليت له، ويقال: وكلته فتوكل لي، وتوكلت عليه: اعتمدته. قوله: (أقماع القول)، النهاية: الأقماع: جمع قمع، كضلع وأضلاع: وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأذهان، شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع التي لا تعي مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها كما يمر الشراب في الأقماع. قيل: إضافة أقماع إلى القول بمعنى اللام، كأن آذانهم للأقوال كالظروف التي لا يبقى فيها شيءٌ من المظروف.

كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي؛ حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، ويجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ: (ولا يسمع الصمّ) (وما أنت بهاد العمى)، على الأصل. وتهدي العمي. وعن ابن مسعود: ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقدوا مصحح السماع)، أي: الحياة. قوله: (ولا يقدر أحدٌ أن ينزع ذلك عنهم، ويجعلهم هداةً بصراء إلا الله)، الحصر مستفادٌ من تقديم الضمير وإيلائه حرف النفي في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ}. قوله: (هو تأكيدٌ لحال الأصم)، وهو من باب التتميم، كقول امرئ القيس: حملت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهبٍ لم يتصل بدخان فإن قوله: "لم يتصل بدخان" تتميمٌ. قوله: (وقرئ: "ولا يسمع الصم")، ابن كثيرٍ: "يسمع" بالياء التحتانية مفتوحةً وفتح الميم، و"الصم" بالرفع، والباقون: بالتاء مضمومةً وكسر الميم، و {الصُّمَّ} بالنصب. قوله: (بهادٍ العمي، على الأصل)، أي: بالتنوين. قال الزجاج: هذا يجوز في العربية، وإن لم يثبت روايةً.

(وما إن تهدي العمي)، وهداه عن الضلال. كقولك: سقاه عن العيمة؛ أي: أبعده عنها بالسقي، وأبعده عن الضلال بالهدى. (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أي: يصدقون بها؛ (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون من قوله تعالى: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة: 112] يعني: جعله سالما لله خالصا له. [(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)]. سمي معنى القول ومؤداه بالقول، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه: حصوله. والمراد: مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض: الجساسة. جاء في الحديث: أنّ طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما إن تهدي العمي)، "إن" مقحمةٌ كقول امرئ القيس: حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ ... لناموا فما إن من حديثٍ ولا صالي قوله: (عن العيمة)، وهي شدة شهوة اللبن، عام عيمةً فهو عيمانٌ، والمرأة عيمى، وعلى هذا: رميت عن القوس، لأنه يبعد السهم عنها بالرمي. قوله: (الجساسة)، النهاية: في حديث تميمٍ الداري: "أنا الجساسة"، والجساسة: الدابة التي رآها في جزيرة البحر، سيمت بذلك، لأنها تجس الأخبار للدجال، يقال: جسه واجتسه، مثل: جثه، أي: مسه، والمجسة: الموضع الذي يجسه الطبيب، وفي المثل: أفواها مجاسها، أي: الإبل، إذا أحسنت الأكل اكتفى الناظر بذلك في معرفة سمنها من أن يجسها.

ولا يفوتها هارب. وروي: لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إبل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّ، وذنب كبش، وخف بعير. وما بين المفصلين: اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام. وروى: لا تخرج إلا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء، أو يبلغ السحاب. وعن أبي هريرة: فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضي الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل: من أين تخرج الدابة؟ فقال "من أعظم المساجد حرمة على الله" يعنى المسجد الحرام. وروى: أنها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وزغب)، النهاية: الزغب: جمع الأزغب، من الزغب: صغار الريش أول ما يطلع، شبه به ما في القثاء من الزغب، وهو كالشعيرات الصفر على ريش الفرخ، والفراخ زغبٌ، وقد زغب الفرخ، قال الفرزدق يخاطب عمر رضي الله عنه: ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر قوله: (وقرن أيل)، الجوهري: الأيل- بضم الهمزة، وتشديد الياء-: الذكر من الأوعال، وكذلك بكسر الهمزة. قوله: (أعنان السماء)، الجوهري: أعنان السماء: صفائحها، وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عننٍ، وقيل: أعالي السماء وآفاقها.

المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق فتقول: (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يعني: أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي، لأنّ خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدي: : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضي الله عنه: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المشرق، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروي: تخرج من أجياد. وروي: بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام، فتنكت نكتة بيضاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بلسانٍ ذلقٍ)، النهاية: في الحديث: تكلمت بلسانٍ ذلقٍ طلقٍ، أي: فصيحٍ بليغٍ. وذلق كل شيءٍ: حده. قوله: "تنفذه"، أي: تنفذ الصرخة من المغرب، وفي "المعالم": فتصرخ ثلاث صرخاتٍ يسمعها من بين الخافقين. قوله: (أجياد)، النهاية: بفتح الهمزة وسكون الجيم، وبالياء المثناة من تحت: جبلٌ بمكة، وأكثر الناس يقولون: جياد، بحذف الهمزة وكسر الجيم، وقيل: اسم وادٍ بمكة من شق اليمن، وأنشد المصنف لنفسه: أوادي إبراهيم بوركت من واد ... وحييت من دارٍ على باب أجياد قوله: (مسجده)، "مسجد" بفتح الجيم: موضع سجود الرجل، وهو الجبهة حيث يصيبه ندب السجود، والآراب السبعة: مساجد، والندب: الأثر إذا لم يرتفع عن الجلد.

فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّى، وتكتب بين عينيه: مؤمن: وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه: كافر. وروى: فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثم تقول هم: يا فلان، أنت من أهل الجنة. ويا فلان، أنت من أهل النار. وقرئ: (تَكلِمُهُم) من الكلم: وهو الجرح. والمراد به: الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون (تُكَلِمُهُمْ) من الكلم أيضا، على معنى التكثير. يقال: فلان مكلم، أي: مجرّح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم: التجريح، كما فسر: (َّنُحَرِّقَنَّهُ) [طه: 97]، بقراءة عليّ رضي الله عنه: "لَنَحرُقَنَّه"، وأن يستدل بقراءة أبىّ: "تُنَبِّئهُم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحديث من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصى موسى، فتحلو وجه المؤمن، وتحطم وجه الكافر، حتى إن أهل الخوان يجتمعون عليه، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر". وبقية الروايات الله أعلم بصحتها. قوله: (فتحلو)، بالتاء المثناة وسكون الحاء المهملة وفتح اللام وضم الهمزة، صح من المحدثين. وفي نسخ "الكشاف": "فتجلو"، بالجيم، وكذا في "المطلع" و"المغرب": جلأ بالتحريك: إذا صار فيه التحلئ، على مفعل بالكسر: ما أفسده السكين من الجلد إذا قشر. تقول: حلأت الجلد، إذا قشرته، وأما "فتجلو" بالجيم غير مهموزٍ، فمن: جلوت السيف، جلاءً، أي: صقلته. قوله: (كما فسر: {لَنُحَرِّقَنَّهُ} [طه: 97]، وقد فسره في موضعه، قال: ذكر أبو علي في

وبقراءة ابن مسعود: "تُكَلِّمُهم بأنَّ النّاس"، على أنه من الكلام. والقراءة بـ "إن" مكسورة: حكاية لقول الدابة، إما لأنّ الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول، أى: تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت: إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت: قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه: أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أى: تكلمهم بأن. [(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)]. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {لَنُحَرِّقَنَّهُ} أنه يجوز أن يكون "حرق" مبالغةً في "حرق"، إذا برد بالمبرد، وعليه قراءة علي رضي الله عنه "لنحرقنه". قوله: (وبقراءة ابن مسعودٍ: "تكلمهم بأن الناس")، أي: يستدل بقراءته على أن المراد بقوله: "تكلمهم" بالتشديد: القول، لتعديته بالباء، وذلك أن "تكلمهم" بالتشديد كان يحتمل الكلام على حذف الياء، ويحتمل التكليم- أي: التجريح- على حذف اللام، أي: تجرحهم، لأن الناس ما كانوا يوقنون بخروجها، فإتيان الباء دليلٌ على أن المراد الكلام. قوله: (والقراءة بـ "إن" مكسورة)، الكوفيون: {أَنَّ النَّاسَ} بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها. قوله: (وأثرتها عنده)، الأثرة: البقية من الشيء المختار، يقال: استأثر الله بفلانٍ. قوله: (فيكبكبوا)، عن بعضهم: كبه: صرعه على وجهه، وأصله "تكببوا"، فجعلت إحدى الباءات كافًا.

عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله: (فَوْجاً)، فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى: (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أبو جهل والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت: أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين، كقوله: (مِنَ الْأَوْثانِ). [(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)]. الواو للحال، كأنه قال: أكذبتم بها بادئ الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أو للعطف، أي: أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها؟ فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه. (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الواو للحال)، أي: في {وَلَمْ تُحِيطُوا} أو للعطف. فإن قلت: ما الفرق بينهما؟ قلت: على الحال يكون المنكر التكذيب المقيد بقيد عدم التدبر، فلا يكون كل واحد من التكذيب وعدم النظر منكرًا على الاستقلال، بخلافه في العطف، أي: لم جمعتم بين هذين المنكرين؟ فإن أنكرتموه فهلا تفكرتم فيها لما عسى أن يكون ذلك يؤديكم على التصديق؟ فإن من جحد كتابًا فلا يمنعه الجحد من قراءته. قوله: (وذلك أنهم لم يعملوا)، تعليلٌ لتفسيره قوله: {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] بأنه للتبكيت لا غير، لأن التبكيت لز الخصم إلى الإقرار بالمدعى، وأن ليس لهم جوابٌ

التكذيب، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها، وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك وقد عرفته رويعي سوء: أتأكل نعمي، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك: أم ماذا تعمل بها؟ مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد: أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعني أنه لم يكن لهم عمل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] إلا الإقرار بالتصديق أو التكذيب، إذ لا ثالث. ولما كان المقام مقام الصدق لا يقدرون أن يقولوا: قد صدقنا بها، فلابد لهم أن يقولوا: كذبنا بها، لأنهم لم يعملوا إلا بالتكذيب، فقوله في المثال: "لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح لما شهر من خلاف ذلك" تعيين لمقام الصدق. قوله: (أو أراد: أما كان لكم عملٌ في الدنيا إلا الكفر والتكذيب)، عطفٌ على قوله: "أكذبتم بها" إلى قوله: " {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بها للتبكيت، و"أم" على الأول: متصلةٌ، وقوله: "ماذا كنتم تعملون؟ عبارة عن التصديق، يدل عليه قوله: "وليس إلا التصديق بها أو التكذيب" والسؤال سؤال توبيخ في مقام يضطر المخاطب إلى الصدق كما مر، فإنك إذا جعلت في مثل هذا المقام ما صح وثبت عندك يلي الهمزة "ما"، وليس بثابت يلي "أم"، فلابد أن يوافقك المخاطب فيما هو الأصل، وعلى الثاني منقطعةٌ، والهمزة في {أَكَذَّبْتُمْ} للتقرير، وفي "أم" للإنكار. ولهذا قال: أما كان لكم عملٌ في الدنيا إلا الكفر والتكذيب، ثم أضربه عنه، وابتداء {أمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سائلاً عن العمل سوى التكذيب، لأنه هو المتهم بشأنه، فنفاه عن أصله، وإليه أشار بقوله: "لم يكن لهم عملٌ غيره" فإذا قرر التكذيب والكفر أولًا، ونفى غيرهما ثانيً، انحصر عملهم فيهما، إليه أشار بقوله: "كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية"

غيره، وكأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها، وذلك قوله: (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كقوله تعالى: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات: 35]. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النمل: 86]. جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله: (لِيَسْكُنُوا) و (مُبْصِراً) حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. [(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)]. فإن قلت: لم قيل: (فَفَزِعَ) دون فيفزع؟ قلت: لنكتة؛ وهي الإشعار بتحقق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والواو في "وإنما خلقوا" للحال، وفيه تقريرٌ لمذهبه. وقدر بعض أهل السنة: "ماذا كنتم تعملون"، أي: ماذا أطقتم من غير ذلك حتى تعلموا، نزلهم منزلة العجزة عن خلاف الكفر والتكذيب، لأنهم مطبوعٌ على قلوبهم. قوله: (هو مراعى)، أي: التقابل مراعى من حيث المعنى، وسيجيء تقريره في سورة "حم المؤمن" في مثل هذه الآية إن شاء الله تعالى. قوله: (لم قيل: {فَفَزِعَ}، الراغب: الفزع: انقباضٌ ونفار يعتري الإنسان من الشيء

الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السماوات والأرض، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وعن الضحاك: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى عليه السلام، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ومَنْ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المخيف، وهو من جنس الجزع، ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، وقوله عز وجل: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103]، أي: الفزع من دخول النار، وقوله تعالى: {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23]، أي: أزيل، يقال: فزع إليه: إذا استغاث به عند الفزع، وفزع له: أغاثه، وقول الشاعر: كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ أي: صارخٌ أصابه فزعٌ، ومن فسره بأن معناه: المستغيث، فإن ذلك تفسيرٌ للمقصود من الكلام، لا للفظ الفزع. قوله: (وعن جابر: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرةً)، أشار إلى حديث أبي سعيد في حديث لطم الأنصاري اليهودي، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى أخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو جوزي بصعقة الطور". أخرجه البخاري ومسلم.

الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) [الزمر: 68]. وقرئ: (أتوه) و (أتاه) و (دخرين)، فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر: الصاغر. وقيل: مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. [(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ* مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ* وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)]. (جَامِدَةً) من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد (وَهِيَ تَمُرُّ) مرّا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد: إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها، كما قال النابغة في صفة جيش: بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم ... وقوف لحاج والرّكاب تهملج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "آتوه")، حفصٌ وحمزة: {آَتَوْهُ} بقصر الهمزة وفتح التاء، والباقون: بمد الهمزة وضم التاء. قوله: (ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره)، عطفٌ على قوله: "وقيل: مع الإتيان حضورهم المواقف"، فعلى هذا يصح أن يكون هذا عند النفخ في الصور والفزع. قوله: (بأرعن مثل الطود)، البيت، الرعن: أنف الجبل المتقدم، والجمع الرعون، والرعان، ثم يشبه به الجيش، فيقال: جيشٌ أرعن، وهو المضطرب لكثرته. والطور: الجبل العظيم. قوله: (لحاجٍ)، الحاج: جمع الحاجة، والركاب لا واحد له من لفظه، والهملاج من

(صُنْعَ اللَّهِ) من المصادر المؤكدة، كقوله: (وَعَدَ اللَّهُ) [النساء: 122، الروم: 6]، و (صِبْغَةَ اللَّهِ) [البقرة: 138]، إلا أن مؤكدة محذوف، وهو الناصب لـ "يوم ينفخ"، والمعنى: ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: (صُنْعَ اللَّهِ)، يريد به: الإثابة والمعاقبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البراذين، واحد الهماليج، ومشيها الهملجة فارسيٌ معربٌ، وهي مشيٌ سهلٌ، يقول: حاربنا العدو بجيشٍ مثل الجبل العظيم تحسب أنهم وقوفٌ لحاجٍ، والحال أن الركاب تهملج وتسرع. قوله: ({صُنْعَ اللَّهِ} من المصادر المؤكدة)، الراغب: الصنع: إجادة الفعل، ولا ينسب إلى الحيوانات كما ينسب إليها الفعل، قال الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ}. وللإجادة يقال للحاذق المجيد: صنعٌ، وللمرأة: صناعٌ، قال الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}. قوله: (والمعنى: يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال: {صُنْعَ اللَّهِ} يريد به: الإثابة والمعاقبة)، قلت: هذا يؤذن بأن قبل {صُنْعَ اللَّهِ} إضماراً، وهو أثاب المحسنين وعاقب المجرمين. و {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكد للمعنى المقدر. وقوله: "وكان كيت وكيت"، كناية عن قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} إلى آخره، وأن قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} إلى آخر الآيتين، تلخيصٌ لمعنى ذلك المقدر وقرينةٌ له. وقال أبو البقاء: العامل في {يَوْمَ نَحْشُرُ}، {يَوْمَ يُنْفَخُ}: اذكر، و {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ عمل فيه ما دل عليه. {تَمُرُّ}، لأن ذلك من صنع الله، كأنه قال: صنع ذلك صنعًا. وقال الزجاج: {صُنْعَ اللَّهِ} نصب على المصدر، لأن قوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} دليلٌ على الصنعة، كأنه قيل: صنع الله ذلك صنعًا. وهذا أقرب مما ذكره المصنف، لكن يحتاج في تقريره إلى بيان النفختين وتسيير الجبال، وتبديل السماوات والأرض، والذي يفهم من الكتاب والسنة: أن النفخة الأولى كائنةٌ في الدنيا. روينا عن مسلمٍ عن ابن عمر في حديثٍ طويلٍ: "وهم في ذلك دارٌ رزقهم، حسنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغًى ليتًا، وأول من يسمعه رجلٌ يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم [يرسل الله- أو] قال: ينزل الله- مطرًا كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيامٌ ينظرون". وروى البخاري ومسلمٌ وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين النفختين أربعون". قيل: أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أبيت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنةً؟ قال: أبيت. الحديث. وأما تسيير الجبال ومرورها فبعد النفخة الثانية عند قيام القيامة. قال محيي السنة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} وهي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض، فتستوي بها. وقال: سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه. وينصره قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] إلى قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 4 - 6] وقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، وقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] إلى قوله: {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 3].

وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يعني أنّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب؛ من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة، أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيتين، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا علم هذا فالحق أن يقال: إن قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} هو النفخة الأولى، وأن قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] واقعٌ بعد النفخة الثانية على ما قال المصنف، وكذا عن محيي السنة. وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكد عمل في ما دل عليه {تَمُرُّ}، كما قال أبو البقاء والزجاج. وقوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تنبيهٌ على الشروع في الحساب، والأخذ في الجزاء على سبيل الاستئناف، وأنه جوابٌ لقول من يسأل: فماذا يكون بعد هذه القوارع؟ فقيل: إن الله خبيرٌ بعمل العاملين، فيجازيهم على أعمالهم، حسنها وسيئها، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار، هذا هو النظم الذي أفزع إفراغاً واحدًا، ورص ترصيصًا متينًا، والحمد لله على ذلك. قوله: (إنه عالمٌ بما يفعل العباد)، الراغب: الخبر: العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر، وخبرته خبرًا وخبرةً، وأخبرت: أعلمت بما حصل لي من الخبر، وقيل: الخبرة: المعرفة ببواطن الأمر، والخبار والخبراء: الأرض اللينة، وقد يقال ذلك لما فيها من الشجر، والمخابرة: مزارعة الخبار بشيءٍ معلوم، والخبير: الأكار فيه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. أي: عالمٌ بأخبار أعمالكم، وقيل: أي: عالمٌ ببواطن أموركم، وقيل: خبيرٌ بمعنى مخبرٍ، كقوله: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

واحدا ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق. ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام، جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان. ألا ترى إلى قوله: (صُنْعَ اللَّهِ)، و (صِبْغَةَ اللَّهِ) [البقرة: 138]، و (وَعَدَ اللَّهُ) [النساء: 122، الروم: 6]، و (فِطْرَتَ اللَّهِ) [الروم: 30]: بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله: (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة: 138] (لا يُخْلِفُ المِيعَادَ) [الروم: 6] (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم: 30] وقرئ: (تَفْعَلُونَ)، على الخطاب. (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل: (فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الشقاشق)، النهاية: الشقشقة: الجلدة الحمراء التي يخرجها الجمل العربي من جوفه، ينفخ فيها فتظهر من شدقه، شبه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، وفي حديث علي رضي الله عنه: "إن كثيرًا من الخطب من شقاشق الشيطان" نسبها إلى الشيطان لما يدخل فيها من الكذب والباطل، وكونه لا يبالي بما قال. هكذا أخرجه الهروي عن علي. وفي كتاب أبي عبيد وغيره من كلام عمر رضي الله عنه: ومنه حديث علي: "تلك شقشقةٌ هدرت ثم قرت". قوله: {أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، متوافقان من حيث إن من حسن الصنعة إتقانه وإحكامه، وتسويته على ما ينبغي. قوله: ({فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} يريد الأضعاف وأن العمل يتقضى)، قال القاضي: {فَلَهُ خَيْرٌ} إذ ثبت له الشريف بالخسيس، والباقي بالفاني، وسبع مئةٍ بواحدةٍ.

أي: له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ: (يَوْمَئِذٍ) مفتوحا مع الإضافة، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين (فَزَعٍ). فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأوّل: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية. وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ (مِنْ فَزَعٍ) بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه، لأنّ البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: له خيرٌ حاصلٌ من جهتها)، قال أبو البقاء: {خَيْرٌ مِنْهَا}، أي: أفضل منها، فـ "من" في موضع نصبٍ، ويجوز أن يكون بمعنى فضل، وموضع "منها" رفعٌ صفةٌ لـ "خيرٌ"، أي: له خيرٌ حاصلٌ بسببها. قوله: (وقلب وجاب)، النهاية: سمعت وجبة قلبه، أي: خفقانه، يقال: وجب القلب جيب وجيبًا، إذا خفق. قوله: (وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه)، أي: على المعنى الأول في الجواب، أما الأخبار، فمنها حديث الشفاعة، روينا عن البخاري ومسلمٍ والترمذي عن أبي هريرة في حديثٍ طويل، وفيه: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون"، ثم ساق الراوي الحديث، إلى أن آدم يقول: "نفسي نفسي"، وكذا إبراهيم وموسى وعيسى.

ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. "أَمِنَ": يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) [الأعراف: 99]. وقيل: السيئة: الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة، فكأنه قيل: فكبوا في النار، كقوله تعالى: (فَكُبْكِبُوا فِيها) [الشعراء: 94] ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين. (هَلْ تُجْزَوْنَ) يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول. [(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ* وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)]. أمر رسوله بأن يقول: (أُمِرْتُ) أن أخص الله وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام. (وَأَنْ أَتْلُوَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن فزعٍ شديدٍ مفرط الشدة)، هو المعنى الثاني في الجواب، والتنكير على الأول للوحدة شخصًا، وعلى هذا التهويل والتعظيم. وقوله: "وأما ما يلحق الإنسان" إلى آخره، فمعناه: لابد من حمل التنكير على هذا النوع من الخوف، لأن سائر الأهوال والأفزاع البشر لا يخلون منه، أي: وهم من فزع العقاب، أو من خوف النار آمنون، لا مما يلحق الإنسان من التهيب، فقوله: "أما ما يلحق" إلى آخره، اعتراضٌ من الوجهين، وهو متعلقٌ بهما، أو استغني به عن تكريره، بعد الوجه الآخر، لأنه بين قوله: "من فزع شديد" بقوله: "وهو خوف النار" ومآل قراءة الإضافة أيضًا إلى هذين الوجهين، لأن الفزع الذي يختص بذلك اليوم هو العقاب، والنار وسائر الأفزاع مشترك. قوله: ({أُمِرْتُ} أن أخص الله وحده)، اقتبس معنى التخصيص من لفظة: "إنما".

الْقُرْآنَ) من التلاوة أو التلوّ كقوله: (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) [يونس: 109، الأحزاب: 2]. والبلدة: مكة حرسها الله تعالى: اختصها من بين سائر. البلاد بإضافة اسمه إليها، لأنها أحبّ بلاده إليه، وأكرمها عليه، وأعظمها عنده. وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره، فلما بلغ الحزورة استقبلها بوجهه الكريم فقال: "إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت" وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلما بلغ الحزورة)، روينا عن الترمذي، عن عبد الله بن الحمراء قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحزورة، وهو يقول: "والله إنك لخير أرض الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". النهاية: الحزورة: موضعٌ من مكة عند باب الحناطين، وهو بوزن قسورة، قال الشافعي رضي اله عنه: الناس يشددون الحزورة والحديبية، وهما مخففان. "مهاجره" أي: زمان هجرته. قوله: (إشارة تعظيمٍ لها وتقريبٍ)، أي: الإشارة بلفظ"هذه" إلى البلدة على طريقة قول القائل: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه إيذانٌ بتعظيمها وشرفها، وما ذلك إلا أنها موطن نبيه ومهبط وحيه، ولذلك نزلت {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] تسليةً لقلبه، وتسريةً لكربه، أي: الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن لرادك على مكة.

ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25] لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها)، أي: وصف البلدة، يعني: كان من حق الظاهر أن يصف البلدة، ويقول: البلدة التي حرمها الله، فوصف نفسه بقوله: الذي حرمها، ليؤذن بتعظيمه. فإن قلت: ما الفرق بين الوصفين؟ قلت: إذا قلت: رب هذه البلدة الذي حرم مكة، أعلمت أن مكة من جلالة قدرها، وعلو مرتبتها بحيث يصح أن يوصف بتحريمها ذو الجلال والإكرام، وأن الوصف به كالوصف بالأسماء الحسنى، وإليه الإشارة بقوله: "فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو"، وإذا قلت: رب هذه البلدة التي حرمها الله، لم يقع هذا الموقع. قوله: (قسمها)، الأساس: أعطيته قسمه ومقسمه: نصيبه، وأعطيتهم أقسمهم ومقاسمهم، وأنشد أبو زيد: ومالك إلا مقسمٌ ليس فائتًا ... به أحدٌ فاعجل به أو تأخرا قوله: (لا يختلي خلالها)، النهاية: الخلا مقصورٌ: النبات الرطب الرقيق ما دام رطبًا، واختلاؤه: قطعه، فإذا يبس فهو حشيشٌ. لا يعضد: لا يقطع، يقال: عضدت الشجر، أعضده عضدًا، والعضد- بالتحريك- المعضود.

وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما، وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة لعظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء. اللهم بارك لنا في سكناها، وآمنا فيها شرّ كل ذي شرّ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ: "التي حرّمها"، و "اتل عليهم هذا القرآن": عن أبىي (وَأَنْ أَتْلُوا): عن ابن مسعود. (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الأنداد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجعل دخول كل شيءٍ تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما)، يعني: أضاف الرب إلى البلدة إضافة تمليكٍ، وهو بمعنى: مالك، ثم عقب ذلك بقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} على وجه التتميم، ليؤذن بالفرق بين الملكين، وأن أحدهما كالتابع، والآخر كالمتبوع. قوله: (وفي ذلك إشارة)، أي: في وصف ذاته عز وجل بالتحريم الذي هو وصفٌ خاصٌ للبلدة، وجعل كل الأشياء تابعًا لها في الملكية إشعارٌ بأن مالكها عظيم الشأن، قاهر السلطان، يرفع من مرتبة ما أراد رفعته، ويحط من منزلة ما أراد حطه، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قديرٌ. قوله: ({فَمَنِ اهْتَدَى} بإتباعه)، يريد أن "اهتدى" مطلقٌ غير مقيدٍ، بشيءٍ، وقد ذرك هذه الخلال الأربع، فوجب تقيده بها. واعلم أن هذه خاتمةٌ شريفةٌ واردةٌ على نمطٍ غريبٍ، وترتيبٍ أنيقٍ. قال القاضي: أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم ذلك بعدما بين المبدأ والمعاد، وشرح أحوال القيامة إشعارًا بأنه قد أتم الدعوة فكملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه، والاستغراق بعبادة ربه. يريد أن هذه الخاتمة كالمتاركة للمشركين. ولعمري إنها من الخاتمة التي تدهش العقول، وتحير الأفهام، فإنه تعالى لما ختم الآيات الواردة في أمر البعث والحشر على أتم ما ينبغي بقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علىّ من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ (وَمَنْ ضَلَّ) ولم يتبعني فلا علىّ، وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعني في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي: الدخان، وانشقاق القمر. وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل: هو كقوله: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت: 53]. وكل عمل يعملونه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الحصر، ووضع موضع حرف النفي الاستفهام، تأكيدًان أمر حبيبه صلوات الله عليه بخويصة نفسه من الاشتغال بعبادة ربه، فاختار له من الأمكنة أفضل البقاع، وخصها من الأوصاف ما كل وصفٍ دونها كما قال، وجعل دخول كل شيءٍ تحت ملكوته كالتابع لدخولها تحته. ومن الملة خير الملل وأقومها، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. ومن الكتب أسمى الكتب وأسناها، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ثم أمر بعد ذلك كله بالتحميد حمدًا على ما أولاه من نعم التبليغ، واستفراغ الطوق والجهد فيه، ومن اختصاص الله بالعبادة في أشرف البقاع، ومن الدخول في الملة الحنيفية، ومن تلاوة هذا الكتاب الكريم، ثم طبع الكتاب بالتهديد بقوله: {سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}، يعني: حين أعرضوا عن واعظ الله، وأمرنا الرسول بالمتاركة، سنفرغ لهم وحدنا، ونلجئهم إلى المعرفة والإقرار بآياتنا حين لا تنفعهم المعرفة، كقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31 - 32]، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. قوله: (وقيل: هو كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ}، أي: لا يكون للتهديد بل للاستدلال.

فالله عالم به غير غافل عنه؛ لأنّ الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ: (تَعْلَمُونَ)، بالتاء والياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: أي: سيريكم الله آياته في جميع ما خلق، وفي أنفسكم. والحمد على هذا التفسير على نعمة المعرفة التي دونها كل النعم. وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعد بإيصال الثواب إلى من شكر تلك النعمة. وعلى الأول: {سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} كان وعيدًا وتهديدًا، وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، تذييلٌ للوعيد، وتأكيدٌ له. قوله: (على عالم الذات)، الانتصاف: سبق له جحد صفة العلم، وإيهام أن سلبها داخلٌ في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللةً بأن علمه بالذات لا بالعلم. والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، بل هو عالمٌ بعلمٍ قديمٍ، عام التعلق في الكائنات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه سبحانه وتعالى على تعطيل صفات كماله وجلاله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. قوله: (وراء جزاء العاملين)، هذا مثل، يعني: أنه تعالى لابد أن يجازي عامل الخير والشر، كما أن سائق الشيء لابد أن يوصله إلى ما يريد منه. قوله: (قرئ: {تَعْمَلُونَ} بالياء والتاء)، بالتاء الفوقانية: نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٌ، والباقون: بالياء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهودٍ) عطفٌ على "من صدق"، كأنه قيل: بعدد قوم سليمان وهودٍ. تمت السورة حامدًا الله، ومصليًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ***

سورة القصص

سورةُ القَصَص مكِّيّة، وهي ثمانٌ وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{طسم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*} 1 - 3] {مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} مفعول {نَتْلُوا}، أي: نتلُو عليكَ بعضَ خَبَرِهما {بِاَلْحَقِ} مُحِقِّين، كقوله: {تَنْبُتُ بِاَلدُّهْنِ}. {لِقَوْمِ يُؤْمِنُونَ} لِمَن سبقَ في عِلْمِنا أنّه يُؤمن، لأنَّ تنفعُ هؤلاءِ دُونَ غيرهِم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة القصص مكية، وهي ثمانون وثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم قولهُ: (نتلُو عليكَ بعضَ خَبَرِهما)، يريدُ أنّ {مِن} في {مِن نَّبَإِ مُوسَى} للتبعيض؛ وهُوَ مفعولُ {نَتْلُوا} [القصص: 3]. وقالَ أبو البقاء: {نَتْلُوا} مفعولُه محذوف، دلّتْ عليه صفتُه، تقديرُه: شيئاً مِنْ نَبِأ موسى؛ فـ {مِن} للبيان. وعلى قولِ الأخفشِ {مِن} زائدة. قولُه: (لِمَنْ سبقَ في علمِنا أنه يؤمِنُ)، يريدُ أنّ إنزالَ الكتابِ على رسولِ الله صلى الله عليهم وسلم

[{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 4] {إِنَّ فِرْعَوْنَ} جملةٌ مستأنَفةٌ كالتَّفسيرِ للمُجْمَل، كأنَّ قائلاً قالَ: وكيفَ كان نَبَؤُهُما؟ فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} يعني: أرضَ مملكتِه؛ قد طغى فيها وجاوزَ الحدَّ في الظُّلمِ والعَسْف. {شِيَعاً} فِرَقًا يُشَيِّعونه على ما يُريدُ ويُطيعونه، لا يملِكُ أحدٌ منهم أن يَلوِيَ عُنُقَه. قالَ الأعشى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما كانَ لأنْ يتلوه على المؤمنينَ والكافرينَ جميعاً: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاَ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67]. لكن اختصاصُ المؤمنينَ بالذكرِ لانتفاعِهم به؛ فإذَنِ المرادُ بقولِه: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3] لقومٍ سيُؤمِنون، وعليه قولُه تعالى: {هُدًى لِلْمُتَقِينَ} [البقرة: 2] أي: الضالينَ الصائرينَ إلى التقوى، وهُوَ مجازٌ باعتبارِ ما يُؤوّل، وقال فيه: ((إنّ الضالينَ فريقان؛ فريقٌ عُلِمَ بقاؤُهم على الضلالةِ وهُمُ المطبوعُ على قلوبِهم، وفريقٌ عُلِمَ أنّ مصيرَهم إلى الهُدى؛ فلا يكونُ هدًى للفريقِ الباقينَ على الضلالة؛ فبقى أنْ يكونَ هدًى لهؤلاء))، وإليهِ الإشارةُ بقولِه: ((إنما ينفعُ هؤلاءِ دونَ غيرِهم)). والمعنى: نتلو عليكَ مِن نَبَإِ موسى وفرعونَ وما جرى بينَهما بقوم عُلِمَ أنّ التلاوةَ تنفَعُ فيهم دونَ مَنْ عَداهم مِنَ المُصرِّين، ونحوُه قولُه تعالى: {فَذَكِرَ بِاَلْقُرْآَنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] قال: إنّ التذكيرَ لا ينفعُ إلا فيمنْ يخافُ الوعيدَ دونَ المُصِرِّ على الكُفر. وقلت: هذا الإنباءُ العجيبُ الشأنِ متضمِّنٌّ لإثباتِ القضاءِ والقدر، وقد عَلِمَ الله سبحانَه وتعالى أنّ بعضًا مِنَ الذينَ يدّعونَ الإيمانَ لا يؤمنونَ بالقدَر؛ فقال: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تعريضاً بهم؛ فعلى هذا يمكنُ أنْ يُجعَلَ {بِاَلْحَقِّ} حالاً منَ المجرور؛ أي: نتلو عليكَ نبأَهُما مُلتبِسًا بالحقِّ على القضاءِ والقدر. قولُه: (قد طغى فيها وجاوزَ الحدّ)، يعني: معنى {عَلاَ فِي الأَرْضِ} طغى فيها؛ مِن قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُون عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ} [القصص: 83] أي: استِكبارًا وتجبُّرًا.

وبَلدةٍ يَرهَبُ الجَوّابُ دُلجتَها ... حتّى تَراهُ علَيها يَبتَغي الشِّيَعا أو يُشَيِّعُ بعضُهم بعضًا في طاعَتِه، أو أصنافًا في استخدامِه يتسخَّرُ صنفاً في بناءِ، وصنفًا في حَرْثٍ وصنفًا في حَفْر، ومن لم يستَعْمِلْه ضربَ عليه الجِزية، أو فِرَقًا مُختلفةً قد أغرى بينهمُ العداوةَ، وهم إسرائيلَ والقبطُ. والطّائفةُ المُستضعفة: بنو إسرائيل، وسببُ ذبحِ الأبناءِ: أنَّ كاهناً قالَ له: يولَدُ مولودٌ في بني إسرائيلَ يَذْهَبُ مُلكُكَ على ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: العُلْوُ ضدُّ السُّفْل، والعُلْويُّ والسُّفْليُّ: المنسوبُ إليهما، والعُلُوّ: الارتفاع، وقد علا يَعْلُوا عُلُوًّا وعَلِيَ يَعْلي عَلاءَ فهو عَلِيٌّ؛ فـ ((علا)) بالفتحِ بالفتحِ في الأمكِنةِ والأجسامِ أكثر، قال تعالى: {عَلَيْهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} [الإنسان: 21]، ويُستعملُ في المحمودِ والمذموم؛ قال تعالى: {سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، وقال: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي اَلْأَرْضِ} [يونس: 83]. والعليّ: رفيعُ القدرِ من ((عَلِيَ))، فإذا وُصِفَ به الله تعالى فمعناهُ أنّه يعلو أن يحيطَ بهِ وصفُ الواصفين، بل علمُ العارفين؛ وعلى ذلك يُقال: تعالى الله، وخُصّ التفاعلُ للمبالغةِ لا للتكلُّفِ كما في البَشَر. و {عُلُوًّا} في قوله: {عُلُوًّا كَبِيراً} ليسَ مصدرًا، كما أنّ قولَه: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] كذلك، و ((استعلى)) قد يكونُ للعلوِّ المذموم، وقد يكونُ طَلَبُ العلاء أي الرفعة، وقولُه تعالى: {وَقَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اَسْتَعْلَى} [طه: 64] يَحْتَمِلُ الوجهينِ. ولاعتبارِ العلو قيلَ للمكانِ المُشْرِفِ، وللشّرَفِ: العلياءُ، وعَلاوةُ الشيء: أعلاه؛ ولذلكَ قيلَ للرأسِ والعُنُق: عَلاوة، ولِما يُحمَلُ فوقَ الأحمال: عَلاوة. قولُه: (وبلدةٍ يرهَبُ الجوّابُ دُلْجتَها) البيت: البلدة: المفازة، الجوّاب: القَطّاع، دُلْجتها: مِن أَدْلَج: إذا سار آخِرَ الليل، والدُّلجة: الساعةُ منَ الليلِ. تراه: أي الجوّاب. يقول: رُبّ بلدةٍ - يخافُ الجوّابُ أنْ يسيرَ فيها في الدُّلجةِ حتى تراهُ يطلبُ يمينًا وشمالاً مَن يُشَيِّعُه مِن خوفه- أنا قطعتها بلا شِيَع.

يدِه. وفيه دليلٌ بيِّنٌ على ثخانةِ حُمقِ فرعون؛ فإنَّه إنْ صدقَ الكاهنُ لم يدفعِ القتلَ الكائن، وإن كذَبَ فما وجهُ القَتْل؟ و {يَسْتَضْعِفُ} حالٌ من الضَّميرِ في {وَجَعَلَ}، أو صفة لـ {شِيَعًا}، أو كلامٌ مستأنَف. و {يُذَبِّحُ} بدلٌ من {يَسْتَضْعِفُ}. وقولهُ: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ} بيانُ أنَّ القتلَ ما كانَ إلاّ فعلَ المُفسِدِين فحسب؛ لأنه فعلٌ لا طائلَ تحتَه، صدَقَ الكاهن أو كذَب. [{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ* وَنُمَكِنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 5 - 6] فإن قلتَ: علامَ عُطِفَ قولُه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} وعَطْفُه على {نَتْلُوا} و {يَستَضْعِفُ} غيرُ سديد؟ قلتُ: هي جملةٌ معطوفةٌ على قولِه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ لأنَّها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لأنه فعلٌ لا طائلَ تحته)، يعني: ذبحُ الأبناءِ واستحياءُ البناتِ منهُ لم يكُنْ إلاّ للفسادِ فحَسْب، ولو كانَ فيهِ نوعُ صلاحٍ أو متضمِّنًا لمصلحةِ نفسِهِ وخلاصِهِ مِمّا كانَ يخافُ منه رُبّما عُذِرَ ولمْ يُسمّ فسادًا بالنسبةِ إليه. ولَمّا كانَ خِلْوًا مِن ذلكَ عُدّ فسادًا صِرْفًا؛ ولذلكَ قال: {مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ}، أي: الكاملينَ في الفسادِ والمعدودينَ في زُمْرتِهم، قالَ الله: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِ} [يونس: 23] قالَ المصنِّف: ((والبغيُ يكونُ بحقِّ كاستيلاءِ المسلمينَ على أرضِ الكَفَرةِ وهَدْمِ دُورِهم وإحراقِ زروعِهم وقلعِ أشجارِهم كما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِبَني قُرَيْظة)). قولُه: (وعطفُه على {نَتْلُوا} و {يَسْتَضْعِفُ} غيرُ سديد)، أما على {نَتْلُوا} فإنّه لوْ عُطِف عليه لخرجَ عنْ أنْ يكونَ بعضَ المتلُوِّ ومِن نبأِ موسى وفرعون، وإنه مِنْ أَعجَبِ وأَهمِّ

نظِيرةُ تلك في وقُوعِها تفسيرًا لنَبأِ موسى وفِرْعَون، واقتِصاصًا له. {وَنُرِيدُ}: حكايةُ حالٍ ماضية، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من {يَسْتَضْعِفُ}، أي: يستضعِفُهم فرعونُ، ونحنُ نريدُ أن نَمُنَّ عليهم. فإن قلتَ: كيف يجتمعُ استِضْعافُهم وإرادةُ الله المنّةَ عليهِم؟ وإذا أراد الله شيئًا كانَ، ولم يتوقّف إلى وقتٍ آخَرَ، قلتُ: لمّا كانتْ منّةُ الله شيئًا كانَ، ولم يتوقّفْ إلى وقتٍ آخَرَ، قلتُ: لمّا كانتْ منّةُ الله بخلاصِهم من فرعونَ قريبةَ الوُقوع، جُعِلتْ إرادةُ وقوعِها كأنَّها مقارِنةٌ لاستضعافِهم. {آَئِمَّةً} مُقَدَّمِين في الدِّين والدُّنيا، يطأُ النّاسُ أعقابَهم. وعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما: قادةً يُقتدى بهم في الخير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المُنبّأِ به؛ بلْ هوَ المقصودُ في الإنباء. وأما على {يَسْتَضْعِفُ} فلأنه: إما صفةٌ لـ {شِيَعًا}، أو حالٌ مِنْ فاعِلِ {وَجَعَلَ}، أو استئنافٌ، ولا كلامَ في فسادِ الأولين. وأما الثالثُ فيكونُ على سؤالِ سائل موردُه {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}، فلمْ يَنطَبِقْ عليه {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} [القصص: 5]، و {يُذَبِّحُ} و {وَيَسْتَحْيِ} بدلانِ مِن {يَسْتَضْعِفُ} وحُكمُهما حُكمُه؛ فبقِيَ أنْ يكونَ عطفًا على {إنَّ فِرْعَوْنَ} الآية، وإنْ اختَلَفتا اسميّةً وفعلية. وتأويلُه: إنّ فرعونَ فَعَلَ بهم ما فَعَلَ مِنَ الاستضعافِ والاستخدام والقتلِ والفَناء، ونحنُ قضَيْنا عَكْسَ ذلكَ مِنْ جَعْلِهم مُتمكِّنينَ في الأرضِ أقوياءَ أئمةً مُتمكِّنينَ في الأرضِ أقوياءَ أئمةً مُقدَّمينَ باقينَ بَعدَهم وارثينَ دِيارَهم، ولمْ يَكُنْ إلا ما أرَدْنا. هذا معنى قولِنا: هذا الإنباءُ مُتضَمِّنٌ لإثباتِ القضاءِ والقَدَر. ومعنى أنْ يكونَ ((نُريدُ)) حالاً منْ ((أن يستضعف)) يعودُ إلى هذا. قولُه: (كيفَ يجتَمِعُ استضعافُهم وإرادةُ الله المِنّة؟ )، يعني: لَزِمَ مِنْ هذا التقريرِ الجمعُ بينَ المتنافِيَيْن. وخُلاصةُ الجوابِ: أنّ الله تعالى لَمّا أرادَ أنْ يَمُنّ على بني إسرائيلَ بعدَ هلاكِ فرعونَ ونجاتِهم مِنه، وكانتْ تلكَ قريبةَ الوقوع، جُعِلَتْ كأنّها واقِعةٌ مقارِنةٌ لاستضعافِهم. وقريبٌ منهُ قولُه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1، 2]. وقالَ صاحبُ ((المطلع)): أرادَ الله تعالى حالَ استضعافِهم إياهم أن يَمُنّ عليهم بالخلاصِ في وقتٍ قدّرَهُ الله وقضاه. قولُه: (يطأُ الناسُ أعقابَهم)، العبارةُ كنايةٌ عن أنّهم كثيرٌ والأتباعُ مقدمون.

وعن مجاهدٍ رضيَ الله عنه: دُعاةً إلى الخير، وعن قَتادةَ رضيَ الله عنه: وُلاةً، كقولِه تعالى: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} [المائدة: 20]. {اَلْوَارِثِينَ} يرِثُون فرعونَ وقومَه مُلكَهم وكُلَّ ما كانَ لهم. مكَّن له: إذا جَعلَ له مكانًا يقعُدُ عليه أو يرقُد، فوطّأَهُ ومَهَّدَهُ، ونظيرُه: أرَّضَ له. ومعنى التَّمْكينِ لهم في الأرضِ وهي أرضُ مِصرَ والشّامِ: أن يجعَلَها بحيثُ لا تَنْبُو بهم ولا تَغِثُّ؛ كما كانتْ في أيّامِ الجبابرة، ويُنَفِّذَ أمْرَهم، ويُطلِقَ أيديَهم ويُسَلِّطَهم. وقُرئ: (ويَرى فرعونُ وهامانُ وجنودُهما)، أي: يرون منْهُمْ ما حُذِّرُوه: من ذهابِ مُلكِهم وهلاكِهم على يدِ مَوْلودٍ منهُم. [{أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} 7] اليمُّ: البحر. قيل: هو نِيلُ مِصْر. فإن قلتَ: ما المُرادُ بالخَوفَيْنِ حتّى أُوجِبَ أحدُهما ونُهي عنِ الآخَر؟ قلتُ: أمّا الأوّلُ فالخَوفُ عليهِ من القَتلِ؛ لأنه كان إذا صاحَ خافَ أن يسمَعَ الجيرانُ صوتَه فينِمُّوا. وأمّا الثّاني، فالخوفُ عليهِ من الغَرَقِ ومن الضَّياعِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أرّضَ له)، الأساس: تأرّضَ فلان: لَزِمَ الأرضَ؛ فلمْ يَبْرَح. فلانٌ إنْ رأى مطمعًا تعرّض، وإن أصابَ مطعمًا تأرّض. قولُه: (ولا تَغِثُّ عليهم)، الأساس: أغَثّ فلانٌ في كلامِه؛ إذا تَكَلّمَ بما لا خيرَ فيه، وسمعتُ صبيًّا مِن هُذيلٍ يقول: غثّتْ علينا مكة؛ أي: لمْ نقدِرْ أنْ نعيشَ فيها؛ لقولِهم: اجتوى المكانَ؛ إذا لم يَستمرِئْ طعامَه وشرابَه، وكذلكَ استَوْخَم. قولُه: (وقُرِئَ: ((ويَرى فرعونُ)))، حمزةُ والكسائي: ((ويَرى)) بالياءِ التحتانيِّ مفتوحةً وفتح الراءِ ورفعِ الأسماءِ الثلاثة، والباقونَ: بالنونِ مضمومة وكسرِ الراءِ وفتحِ الياءِ ونصبِ الأسماء.

ومن الوُقوعِ في يدِ بعضِ العُيونِ المبثوثةِ من قِبَلِ فرعونَ في تطلُّبِ الوِلْدان، وغيرِ ذلك من المَخاوِف. فإن قلتَ: ما الفرقُ بينَ الخوفِ والحُزن؟ قلتُ الخوفُ غَمٌّ يلحَقُ الإنسانَ لِمُتوقَّع. والحُزن: غَمٌّ يلحقهُ لِواقِع؛ وهو فراقُه والإِخطارُ به، فنُهِيَت عنهُما جميعًا، وأُومِنَتْ بالوحِي إليها، ووُعِدَت ما يُسلِّيها ويُطامِنُ قلبَها ويملؤُها غِبطةً وسُرورًا؛ وهو ردُّه إليها وجعلُه من المُرسلِين. ورُويَ: أنّه ذُبِحَ في طلبِ مُوسى عليه السَّلامُ تسعون ألفَ وليد. ورُوي: أنّها حينَ أقْرَبت وضرَبَها الطَّلْقُ وكانتْ بعضُ القوابلِ المُوكَّلاتِ بحبالي بني إسرائيلَ مُصافِيةً لها، فقالتْ لها: لينفَعني حبُّكِ اليومَ، فعالَجَتها، فلمّا وقعَ إلى الأرضِ هالَها نورٌ بينَ عيْنَيه، وارتعش كُلُّ مَفصِلٍ منها، ودخلَ حبُّه قلبَها، ثمّ قالت: ما جئتكُ إلاّ لأقتُلَ مولودَك وأخبِرَ فرعون، ولكنِّي وَجَدْتُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وهو فِراقُه والإخطارُ به)، نَشْرٌ لِما سَبقَ على غَيرِ الترتيب. وقالَ الإمام: كأنه قيل: ولا تخافي مِن هلاكِه، ولا تحزني بسببِ فِراقِه؛ فإنّا رادُّوه إليكِ لتكوني أنتِ المرضِعةَ له، وجاعلوه مِنَ المرسلينَ إلى أهلِ مصرَ والشام. قالَ أبو رجاءٍ أحمدُ بنُ عبدِ الله: حدثنا أبو الحسينِ عليُّ بنُ الصباحِ قال: سَمِعَ أعرابيٌّ رجلاً يقرأُ {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، قالَ للقارئ: أعِدْه؛ فأَعادها، فقال: أشهدُ أنّ هذا كلامُ ربِّ العالمين؛ في آيةٍ واحدةٍ أمرانِ ونهيانِ وخبرانِ وبشارتان: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} خبر، و {أَنْ أَرْضِعِيهِ} أمر، ٍ {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ} أمر، {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} نهيان، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} بشارتان. روي عنِ الأصمعي: كلّمَتِني جاريةٌ أعرابيةٌ فاستَفصحْتُ كلامَها؛ فقالت: أينَ أنتَ مِنْ كلامِ الله: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} كيفَ جَمَعَ بينَ أمرينِ ونهيَيْنِ وبشارتَيْن؟ ! قولُه: (حينَ أقرَبَتْ)، الجوهري: أقْرَبَتِ المرأةُ؛ إذا قَرُبَ ولادُها، وكذلك الفرسُ والشاة؛ فهِيَ مُقْرِب، ولا يُقالُ للناقة.

لا بنِكِ حُبًّا ما وجَدَتُ مثلَه فاحفظيه، فلمّا خَرَجتْ جاءَ عيونُ فرعون، فلفَّتُه في خِرقةٍ ووضعَتْه في تَنُّورٍ مَسجُور، لم تعلمْ ما تصنعُ لمِا طاشَ من عقلِها، فطلبوا فلم يُلفُوا شيئًا، فخرجوا وهي لا تدري مكانَه، فسمعت بُكاءَه من التَّنُّور، فانطلقت إليه وقد جعلَ الله النّارَ عليه بَرْدًا وسلامًا. فلمّا ألحَّ فرعونُ في طَلَبِ الوِلْدانِ أوحى الله إليها فألقَتْه في اليمِّ. وقد رُوِيَ أنَّها أرضعتْه ثلاثةَ أشهُرٍ في تابُوتٍ من بَرْديٍّ مطليٍّ بالقار من دخِلِه. [{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 7] اللاّم في {ليَكُونَ} هي لامُ كيْ؛ الّتي معناها التَّعليل، كقولِك: جئتُك لتُكرِمَني سواءً بسواءٍ ولكنّ معنى التَّعليلِ فيها وارِدٌ على طريقِ المجازِ دُونَ الحقيقة، لأنه لم يكُنْ داعيهم إلى الالتقاطِ لهم عدُوًّا وحَزَنًا، ولكن: المحبةُ والتَّبَنِّي، غيرَ أنّ ذلك لمّا كان نتيجةَ التقاطِهم له وثمرتَه، شُبِّهَ بالدّاعي الّذي يَفعلُ الفاعِلُ الفعلَ لأجلِه، وهو الإكرامُ الذي هو نتيجةُ المجيء، والتّأدّبُ الذي هو ثمرةُ الضَّربِ في قولِك: ضربته ليتأدّب. وتحريره: أنّ هذه اللّامَ حكمُها حُكْمُ الأسد، حيثُ استُعيرتْ لِمَا يُشبِهُ التّعليل، كما يُستعارُ الأسدُ لِمَنْ يُشبِهُ الأسد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في تابوتٍ مِنْ بَردِيّ)، الجوهري: البَرْدِيُّ بالفتح: نباتٌ معروف، قيل: نبتٌ تُسَدُّ بهِ خَصاصاتُ البُيُوت، والخَصاصةُ بالفتحِ: الخَلَلُ والثّقْبُ الصغير. قولُه: (وتحريرُه: أنّ هذهِ اللامَ حُكمُها حُكمُ الأسد؛ حيثُ استُعيرَتْ لِما يُشبِهُ التعليلَ كما يُستعارُ الأسَدُ لَمِنْ يُشبِهُ الأسد)، وتلخيصُ المعنى: شَبّهَ هذا الترتيبَ الذي ليسَ مطلوبًا بالأوّل الثاني وهُوَ التقاطُهُم لِيكونَ عَدوًّا لَهُم بالترتيبِ الحقيقيِّ وهُوَ أنْ يكونَ الثاني مطلوبًا بالأوّلِ كالإكرامِ بالمجيءِ في قولِك: جئتُكَ لتُكرِمَني، وأدْخَلَ المشبّهَ في جنسِ المشبّهِ به؛ فاستُعيرَ للترتيبِ المشبّهِ ما كانَ مستعمَلاً في الترتيبِ المشبّهِ به، وهُوَ لامُ ((كي)).

وقُرِئَ: (وحُزْنًا) وهُما لُغَتان: (كالعُدم) و (العَدم) {كَانُوا خَاطِئِينَ} في كُلِّ شيء، فليس خَطَؤُهم في تربيةِ عدُوِّهم بِبِدْعٍ منهم. أو كانوا مُذنِبِين مُجرِمين، فعاقَبَهُم الله بأن رَبَّى عدُوَّهم ومن هو سببُ هلاكِهم على أيدِيهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: {فَاَلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، فيكونُ استعارةً مُصرّحةً؛ لأنّ المذكورَ لفظُ المستعارِ منه، كاستعارةِ لفظِ الأسدِ للمِقْدام، وتبعيّةً؛ لأنّ الحروفَ مِنَ الاستعارةِ بمَعْزِل؛ لأنّها لمْ تقعْ موصوفات؛ فالاستعارةُ تقعُ في معانيها ثُمّ تسري مِنَ المعاني إليها، وتهكُّميةً؛ لأنّ لا يفعلُ هذا الفعل. قولُه: (وقُرِئَ: ((وحُزْنًا)))، حمزةُ والكسائي: ((حُزْنًا)) بضمِّ الواوِ وإسكانِ الزاي، والباقون: بفتحِهما. قولُه: ({كَانُوا خَاطِئِينَ} في كلِّ شيء)، يريدُ أنّ قولَه: {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} الآية تذييلٌ واعتراض؛ بدليلٍ قولهِ: ((فليسَ خطؤهم بِبِدْعٍ منهم)). قولُه: (أو كانوا مُذنِبين)، فعلى الأوّل: {خَاطِئِينَ}؛ مِنَ الخطأِ في الرأي، وعلى هذا؛ مِنْ: خَطِئ: أذْنَب. قالَ في ((الأساس)): خاطئينَ: مِن: أخطأَ في المسألةِ أو في الرأي، وخَطِئَ خطأَ عظيماً؛ إذا تعمّدَ الذّنْب. فالجملةُ استئنافٌ لبيانِ الموجب؛ بدليلِ قولِه: ((ومَنْ هُوَ سَبَبُ هلاكِهم))؛ فعلى هذا معنى اللامِ على ظاهرِه، والتقدير: نريدُ أنْ نَمُنّ على بني إسرائيلَ بأنْ قدّرْنا ما قدَّرْنا ودبَّرْنا ما دبّرْنا؛ ليكونَ موسى عدوًّا لهم وحزنًا؛ لأنّهم كانوا خَطّائِين مُجرمِين، ويؤيِّدُه قولُه: ((فعاقبَهم الله بأنْ رَبَّى عدوَّهم ومَنْ هُوَ سَبَبُ هلاكِهم)). وهذا هوَ الوَجْهُ كما سيجيءُ تقريرُه.

وقُرِئَ: (خاطين)، تخفيفُ خاطِئِين، أو خاطينَ الصَّوابَ إلى الخطأ. [{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 9] رويَ أنَّهم حينَ التَقطوا التّابوتَ عالجُوا فتْحَة، فلمْ يقدِرُوا عليه، فعالجوا كَسْرَهُ فأعياهُم، فدنتْ آسيةُ فرأت في جَوفِ التّابوتِ نُورًا، فعالجتْهُ ففتحته، فإذا بصَبِيِّ نورُه بينَ عينَيْه وهو يمُصُّ إِبهامَه لبنًا فأحَبُّوه، وكانت لفرعونَ بنتٌ بَرصاء، وقالتْ له الأطباء: لا تبرأُ إلاّ من قِبَلِ البحر، يوجدُ فيه شِبهُ إنسانٍ دواؤُها ريقُه، فلطَّختِ البرصاءُ بَرَصَها بريقِه فَبَرأت. وقيل: لمّا نظرت إلى وجهِه بَرَأت، فقالت: إنّ هذه لنَسمةٌ مباركة، فهذا أحدُ ما عَطَفَهم عليه، فقالَ الغُواةُ من قومِه: هو الصَّبيُّ الذي نحذرُ منه، فَاذَن لنا في قتلِه، فهَمَّ بذلك فقالت آسيةُ {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقالَ فرعون: لكِ لا لي. وروي في حديث: ((لو قالَ هوَ قرّةُ عينٍ لي كما هُوَ لَكِ، لهداهُ الله كما هداهَا))، وهذا على سبيلِ الفَرْضِ والتّقدير، أي: لو كانَ غيرَ مطبوعٍ على قلبِه كآسية؛ لقالَ مثلَ قولِها، ولأَسْلَم كما أسلمت، هذا -إن صحَّ الحديثُ- تأويلُه، والله أعلمُ بصحَّتِه. ورُويَ أنَّها قالتْ له: لعلَّه من قومٍ آخرينَ ليسَ من بني إسرائيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرِئَ: ((خاطِينَ))) وهيَ شاذّة. وقولُه: ((أو خاطِين الصوابَ)) هُوَ مِنَ الخَطْو: مُجاوَزةِ الصواب. الأساس: ومِنَ المجاز: لنْ يُخطِئَكَ ما كُتِبَ لك، وما أخطأَكَ لمْ يَكُنْ لِيُصيبَك، وما أصابكَ لمْ يَكُنْ ليُخطِئَك، وتخَطّأتْهُ النُّبْل: تجاوَزَتْه. قولُه: (وهذا على سبيلِ الفَرضْ)، أي: هذا الحديث. وقولُه: ((هذا)) مبتدأ، و ((تأويلُه)) الخبر، و ((إنْ صحّ)) معَ جوابِه المقدّر مُعتَرِضة.

{قُرَّتُ عَيْنٍ}: خبرُ مُبتدأٍ محذوف، ولا يَقْوى أن تجعلَه مُبتدأً و {لاَ تَقْتُلُوهُ} خبرًا، ولو نُصِبَ لكانَ أقوى. وقراءةُ ابنِ مسعودِ رضيَ الله عنه دليلٌ على أنّه خبر، قرأ: (لا تقتلوه قرّةُ عينٍ لي ولك)، بتقديمِ. {لا تقتلوه}. {عَسَى أَن يَنفَعَنَاَ} فإنّ فيه مخايلَ اليُمْنِ ودلائلَ النَّفْعِ لأهلِه، وذلك لِما عايَنَتْ من النُّورِ وارتضاعِ الإبهام وبَرْءِ البرصاءِ، ولعلَّها توسَّمت في سيمائِه النَّجابةَ المؤذِنةَ بكونِه نفّاعًا. أو نتبنّاه، فإنّه أهلٌ للتَّبنِّي، ولِأنْ يكونَ ولدًا لبعضِ المُلوك. فإن قلت: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ، فما ذو حالِها؟ قلتُ: ذو حالِها آلُ فرعون. وتقديرُ الكلام: فالتَقَطَهُ آلُ فرعونَ ليكونَ لهم عدُوًّا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({قُرَّتُ عَيْنٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوف)، وقالَ أبو البقاء: أي: هُوَ قُرّةُ عين، و {لِي وَلَكَ} صفتانِ لـ {قُرَّتُ عَيْنٍ}. قولُه: (ولا يَقْوى أنْ تجعلَه مبتدأً و {لاَ تَقْتُلُوهُ} خبرًا)، قالَ الزجّاج: يَقْبُحُ هذا التقدير؛ فيكونُ كأنّه قدْ عَرَفَ أنّه قُرةُ عينٍ له. قولُه: (ولَوْ نُصِبَ لكانَ أقوى)، قالَ الزجّاج: ويجوزُ النصبُ؛ ولكنهُ لمْ يأتِ فيه روايةٌ على معنى: لا تقتلوا قُرّةَ عينٍ لي ولك، لا تقتلوه. كما تقول: زيدًا لا تضرِبْه. قولُه: (توَسّمَتْ) يقال فيه الخير، أي: تفرّسْت، والتوسُّم: التأمُّلُ في وَسْمِ الشيء. قولُه: (النجابة)، الجوهري: رجلٌ نجيبٌ، أي كريمٌ بَيِّنٌ النّجابة. قولُه: (أو نَتَبَنّاه)، تفسيرٌ لقولِه تعالى: {أَوْ نَتَّخِذَهُ, وَلَدًا}. وقولُه: ((ولأنْ يكونَ ولدًا لبعضِ الملوك)) عطفٌ تفسيريٌّ لقولِه: ((للتبني)). قولُه: (ذو حالِها آلُ فرعون)، قال القاضي: يجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِنَ القائلةِ والمقولِ له؛ أي: وهُمْ على الخطأِ في التقاطِهِ وفي طَمَعِ النفعِ منهُ والتبَنِّي له، أو مِنْ أحدِ ضميرَيْ {نَتَّخِذَهُ,} على

وحَزَنًا، وقالتِ امرأةُ فرعونَ كذا، وهم لا يشعرُونَ أنَّهم على خطأٍ عظيمٍ في التقاطِه ورجاءِ النَّفعِ منه وتبنِّيه. وقولُه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} الآية: جملةٌ اعتراضيّةٌ بينَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه، مُؤَكِّدةٌ لمعنى خطئِهِم. وما أحسنَ نظمَ هذا الكلام عندَ المُرتاضِ بعلمِ محاسنِ النَّظْم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنّ الضميرَ للناس؛ أي: وهُمْ لا يشعرونَ أنّه لغيرِنا وقد تَبَنّيْناه. قولُه: (وما أحسَنَ [نَظْم] هذا الكلامِ عندَ المُرتاضِ بعلمِ محاسنِ النظم)، وذلكَ أنّ قولَه: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ} وقولَه: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} تفصيلٌ لقولِه: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} على ما سَبق. وما أجمَلَ ثم فَصّلَ وخَصّ بلفظِ الإنباءِ إلا لاشتمالِ هذا المُنبّأِ بهِ لهُ شأنٌ، وليسَ ذلكَ إلا لبيانِ أنّ ما قدّرَه الله كائنٌ لا محالة، وأنّ الحَذَرَ لا يُغنيِ عَنِ القَدَر، وإذا جاءَ القضاءَ عَمِيَ البَصَر؛ فإنّ فرعونَ وقومَه لَمّا قُضِيَ هلاكُهُم على يَدِ الكليمِ عليه السلامُ واجتهدوا في الدفعِ، فَعَلوا ما لا طائلَ تَحتَه بلْ عَكَسُوا؛ حيثُ أُفنِيَ البريءُ مِنْ قَتْلِ الأبناء، ورُبِّيَ مَنْ عليه دمارُه؛ فسُلِبَتْ عقولُهم وأيفت مشاعرُهم؛ فالتقطوه ليكونَ لهم عدوًّا وحزنًا وهُمْ لا يشعرون. فحَسُنَ لذلكَ أنْ يؤكِّدَ بقولِه: {إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} على التفصيل؛ ليؤذِنَ بأنّ ذلكَ الجَمّ الغفيرَ بعدَ ذلكَ التحذيرِ زَلُّوا عن دَفْعِ التقدير؛ فاللامُ في قولهِ: {ليَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} مُجْرَى على حقيقتِه. وتمامُ تقريرِه أنْ يُقال: إنّا أرَدْنا أنْ نَمُنّ على المستضعَفين، وأنْ نجعَلَهُمُ الوارثين، وأنْ نُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما ما كانوا يحذَرُون؛ دبّرْنا ما دبّرْنا {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ}، فامتَثَلَتْ أمْرَنا وألقَتْهُ في اليَمّ وألقاهُ اليمُّ بالساحِل؛ فقَضَيْنا على آلِ فرعونَ التقاطَه؛ ليَظْهَرَ مِنْ لطِيفِ تقديرِنا عداوتُهُ وسَبَبُ حُزْنِه، وهُمْ لا يشعرونَ بذلك.

[{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 10 - 11] {فَارِغًا} صِفرًا من العقل. والمعنى: أنّها حينَ سمعتْ بِوقُوعِه في يدِ فرعونَ طارَ عقلُها لِما دَهِمَها من فَرْطِ الجَزَع والدَّهَش. ونحوُه قولُه تعالى: {وَأَفْدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] أي: جُوَّفٌ لا عُقُول فيها، ومنهُ بيتُ حسّان: ألا أَبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنِّي ... فأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيِّدُه قولُه تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ,} [طه: 39]؛ حيثُ جعلَ {يَاخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَّهُ,} جوابًا للأمر، ومسبّبًا عنِ الإلقاء. وقدْ سبقَ قُبَيْلَ هذا في كلامِ المصنَّفِ ما يعضُدُ هذا المعنى، ونبّهْناكَ عليه. فعلى هذا قولُه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} عطفٌ على مُقدّراتٍ شَتّى بحسَبِ ما يقتَضيهِ الحالُ والقِصّة. وأقول: ما أحسَنَ نظْمَ هذا الكلامِ عندَ المرتاضِ بعِلْمِ محاسن النّظم، وما أظْهَرَهُ مِنْ سُلطانٍ على القولِ بالقضاءِ والقَدَر، والمصنفُ لو تنبَّه على هذه الدقيقة لما نبَّهنا عليها، والجملة على ذلك. قولُه: (أي: جُوّفٌ لا عقولَ فيها)، وهوَ جَمْعُ أجْوَف. الأساس: رجلٌ أجوفٌ ومُجَوّف: جَبانٌ لا فؤادَ له، وقومٌ جُوّف. قولُه: (ألا أَبْلِغْ أبا سُفْيانَ) البيت، ((نَخِبٌ)): الأساس: نَخِب: لا فؤادَ له، وقد نُخِبَ قَلْبُه كأنما نُزِعَ؛ مِنْ قولِهم: نَخَبْتُ الشيّءَ وانْتَخَبْتُه: إذا نَزَعْتُه، ومِنهُ الانتِخاب؛ كأنك

وذلك أنّ القُلوبَ مراكزُ العُقُول. ألا ترى إلى قولِه: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ}؟ ويدلُّ عليه قراءةُ مَن قرأ: (فَزِعًا). وقُرِئَ: (قَرِعًا) أي: خاليًا؛ من قولِهم: أعوذُ بالله من صُفْرِ الإناءِ وقَرَعِ الفناء، وفِرْغًا، من قولِهم: دماؤُهم بينَهم فِرْغٌ، أي: هَدْر، يعني: بَطَلَ قلبُها وذهب، وبقِيَتْ لا قلبَ لها من شدّةِ ما ورد عليها {لَتُبْدِي بِهِ} لَتُصْحِرُ به. والضَّميرُ لمُوسى والمرادُ: بأمرِه وقِصَّتِه، وأنَّه وَلَدُها {لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بإلهامِ الصَّبر، كما يُربَطُ على الشَّيءِ المُنفَلِتِ ليَقِرَّ ويَطمئِنَّ {لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} من المُصدِّقين بِوَعْدِ الله، وهو قولُه: {إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ} ويجوز: وأصبحَ فؤادُها فراغًا من الهمّ، حينَ سمعتْ أنَّ فرعونَ عطفَ عليهِ وتبنّاه إن كادتْ لتُبدي بأنَّهُ ولَدُها؛ لأنّها لم تملكْ نفسَها فرَحًا وسُرورًا بما سمعتْ، لَولا أنّا طمأنَّا قلبَها وسكَّنّا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَنْتَزِعُه مِنْ بَيْنِ الأشياء. قال: ومِنَ المجاز: قولُهم للجَبان: إنّهُ لَهَواءُ خالي القلبِ مِنَ الجَرْأة {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] والأَصْل: الجَوّ. قولُه: (ويَدُلُّ عليه)، أي: على أنّ معنى {فَارِغًا}: فارغًا مِنَ العقل. قولُه: (مَنْ قَرَأَ: ((فَزِعًا)). وقُرِئَ: ((قَرِعًا)))، قالَ ابنُ جِنِّي: الحَسَنُ وابنُ قطيب: (فَزِعًا) بالفاءِ والزاي، ومعناه: قَلِقًا يكادُ يخرجُ مِنْ غِلافِه، فيُكشَفُ؛ منه {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: كُشِّفَ عنها. وقرأ ابنُ عباسٍ: ((قَرِعًا)) بالقافِ والراء، ومعناهُ راجعٌ إلى فارغًا؛ وذلكَ أنّ الرأسَ الأقرعَ وهوَ الخالي عنِ الشعر، وإذا خَلِيَ عن الشعرِ فقدْ انكَشَفَ منه. وعنهُ (فَرَغًا) أي: هَدَرًا وباطلاً. يؤكِّدُ ذلكَ كُلّه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}. قولُه: (لَتُصْحِرُ بهِ)، أي: لَتُبدِي به؛ مِنَ البَدْوِ وهوَ البَرِيّة، لا مِنَ البُدُوِّ بمعنى الظهور. الأساس: ومِنَ المجاز: أصْحَرَ بالأمرِ وأصْحَرَه: أظْهَرَه.

قلقَهُ الذي حدثَ به من شِدّةِ الفرحِ والابتهاج، لِتكونَ من المُؤمنِينَ الواثِقِينَ بوعْدِ الله لا بتَبنِّي فرعونَ وتعطُّفِه. وقرئَ: (مؤسى)، بالهمزِ: جُعِلت الضَّمّةُ في جارةِ الواوِ وهي الميمُ كأنّها فيها، فهُمِزَتْ كما تُهمَزُ واوُ وجوه. و {قُصِّيهِ} اتّبعي أثره وتتّبعي خبَرَه. وقُرِئَ: (فَبَصِرَتْ) بالكسرِ، يُقالُ بَصُرَت به عن جُنُبٍ وعن جُنُبٍ وعن جنابة، بمعنى: عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لِيكونَ مِنَ المُؤمِنينَ الواثِقين بوَعدِ الله لا بتَبَنِّي فِرعونَ وتعطُّفِه)، فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينَ هذه العبارةِ وبينَ ما سبقَ مِنَ المؤمنينَ مِنَ المصدِّقِينَ بوَعدِ الله؟ قلتُ: الأوّلُ مبنيٌّ على أنّ {فَارِغًا} بمعنى: فارغًا مِنَ العقلِ مِنَ العقلِ مِن فَرْطِ الجَزَعِ والدّهَش، فالمناسِبُ أنْ يُقال: كادتْ تُظْهِرُ بأَمْرِ مُوسى مِنَ الغَمّ؛ لولا أنّ الله تعالى ألْهَمَها الصّبرَ لِتَقَرّ وتكونَ مِنَ المصدِّقينَ بوَعدِ الله وهُو: {إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ}. والثاني مبنيٌّ على أنّ {فَارِغًا} بمعنى: فارغًا مِنَ الهَمِّ والحُزْن -عكسُ الأوّل-، فالمناسبُ أنْ يُقَال: كادتْ تُظْهِرُ بأمْرِ مُوسى مِنَ الفَرَح؛ لولا أنْ رَبَطْنا على قَلْبِها كَرامةً لها؛ ليكونَ فرحُها وابتهاجُها مِنَ الوثوقِ بوَعدِ الله وهُو: أنّهُ حافظُه وَرادُّه إليها، ولا يكونَ فرحُها مِن تَبَنِّي فِرعون؛ فإنّ هذا الفَرَحَ سَخْطةٌ مِنَ الله تعالى؛ فالإيمانُ على المعنى الأوّلِ بمعنى الأوّلِ بمعنى التصديق، وعلى الثاني بمعنى الوثوق. روى المصنِّفُ عن أبي زيد: ما آمنتُ أنْ أَجِدَ صحابة؛ أي: ما وَثِقْتُ، وحقِيقتُه: صِرْتُ ذا أمن؛ أي: ذا سكونٍ وطمَانينة. قولُه: (يُقال: بَصُرَتْ به)، الراغب: البَصَر: يُقالُ للجارِحةِ الناظِرة؛ كقولِه تعالى: {كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ} [النحل: 77]، وللقُوّةِ التي فيها. ويُقالُ لِقوّةِ القلبِ المُدرِكة: بَصِيرةٌ وبَصَر؛ كقولِه تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، ولا يكادُ يُقالُ للجارِحة: بصيرة. ويُقالُ مِنَ الأول: أبْصَرْتُ، ومِنَ الثاني: أبْصَرْتُه وبَصُرْت به. وقلّما يُقال: بَصُرْت في الجارحة، ويقال: رأيته لَمْحًا باصِرًا؛ أي: نظرًا بتحديق. وقولُه تعالى: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] أي: مضيئة، وقولُه: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، أي: طالبينَ البصيرة. ويجوزُ أنْ يُستعارَ الاستبصارُ للإبصار، نحوُ استعارةِ الاستجابةِ للإجابة.

بُعْد. وقرئ: (عن جانب)، (وعن جنب). والجنْبُ: الجانِبُ. يقالُ: قعدَ إلى جنبهِ وإلى جانِبِه، أي: نظرتْ إليهِ مُزْوَرَّةً مُتجانفِةً مُخاتلةً. وهم لا يُحِسُّون بأنَّها أُختُه، وكان اسمُها مريم. [{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 12 - 13] التَّحريم: استعارةٌ للمَنْعِ؛ لأنَّ من حُرِّمَ عليه الشيءُ فقد مُنِعَه. ألا ترى إلى قولِهم: محظور، وحِجْر، وذلك لأنَّ الله منعَه أن يرضَع ثديًا، فكان لا يَقْبَلُ ثَدْيَ مُرضِعٍ قطّ، حتى أهمَّهم ذلك. والمراضع: جمعُ مُرضِع، وهي المرأةُ التي تُرضِع. أو جمعُ مَرْضَع، وهو موضِعُ الرَّضاعِ يعني: الثَّديَ، أو الرَّضاعُ. {مِن قَبْلُ} من قبلِ قَصَصِها أثرَه. رُوِيَ أنّها لمّا قالت: {وَهُمْ لَهُ, نَاصِحُونَ} قال هامان: إِنها لتَعْرِفُه وتعرفُ أهلَه، فقالتْ: إنّما أردتُ: وهُم للملِكِ ناصحون. والنُّصْح: إخلاصُ العملِ من شائِبِ الفساد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (مخاتلة)، الجوهري: خَتَلَه وخاتَلَه؛ إذا خادَعَه، التخاتُل: التخادُع. قولُه: (قالَ هامان: إنها لَتعرِفُه وتعرِفُ أهلَه، فقالت: إنما أَرَدْت: وهُم للمَلِكِ ناصحون)، الانتصاف: فخَلُصَتْ بهذهِ الكلمةِ مِنَ التهمةِ وأحسَنَت، وليسَ بِبِدْع؛ لأنها مِنْ بيتِ النُّبوّةِ وأختُ النبي؛ فحقيقٌ بها ذلك. قالَ صاحبُ ((الإنصاف)): ما ذكرَه الزمخشريُّ وصاحبُ ((الانتصاف)) بعيد؛ لأنّ اللغةَ التي كانتْ تتكلمُ بها أختُ موسى غيرُ هذهِ اللغة؛ فالألفاظُ المتلُوّةُ في القرآنِ عبارةٌ عن معنى الألفاظِ التي قالتها، وهذا الاحتمالُ إنما نشأَ مِنْ تركيبِ الألفاظِ العربيةِ واحتمالِ الضميرِ للأمرَيْنِ فيها؛ فلا يَلزَمُ أنْ يكونَ لفظُها في لغتِها للأمرَيْن.

فانطلقَت إلى أُمِّها بأمرهم، فجاءتْ بها والصَّبيُّ على يدِ فرعونَ يُعلله شفقةً عليه وهو يبكي يطلُبُ الرَّضاعَ، فحينَ وجَدَ رِيحَها استأنَسَ والْتَقَم ثديَها، فقال لها فرعون: ومن أنتِ منه فقد أبي كُلَّ ثَدْيٍ إلاّ ثديَك؟ قالت: إنِّي امرأةٌ طيِّبةُ الرِّيحِ طيِّيةُ اللَّبَن، لا أُوتي بصبِيٍّ إلاّ قَبِلَني، فدَفَعَه إليها وأجرى عليها، وذهبتْ به إلى بيتِها، وأنجزَ الله وعدَه في الرَّدّ، فعندَها ثَبَتَ واستقرَّ في علمِها أن سيكونُ نبيًّا، وذلك قولُه: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} يريدُ: وليثُبتُ علمُها ويتمكّنَ. فإن قلتَ: كيف حلّ لها أنْ تأخُذَ الأجرَ على إرضاعِ ولدِها؟ قلتُ: ما كانت تأخُذُه على أنّه أجرٌ على الرَّضاعِ، ولكنّه مالٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: هذا الأسلوبُ مِنَ الكلام الموجّهِ أو الإيهام وأيُّ بُعْدٍ في وقوعِ نحوِهِ في لغةٍ أخرى لا سِيّما في الضمير، وقد روى مُحيي السُّنةِ عنِ ابنِ جُرَيحٍ والسُّنةِ عنِ ابنِ جُرَيجٍ والسُّدِّيِّ نحوَه. قولُه: (يُعلله شفقةً)، الجوهري: علله بالشيء: لهاهُ به؛ كما يُعلّلُ الصبيُّ بشيءٍ مِنَ الطعامِ يتجزّأُ بهِ عنِ اللّبن. قولُه: (واستقرّ في علمِها أنْ سيكونُ نبيًّا)، وذلكَ أنّه تعالى وعَدَها بخَصلَتَيْنِ في قولِه: {إِنَّا رَأَىدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} فعِندَما أَنجَرَ الوعدَ بإحدى الخَصْلَتَيْنِ حقّقَتْ أنّ الأخرى ستكون؛ فكانَ الردُّ علةً لتحقيقِ حُصولِ الرسالة؛ ولهذا قال: إنّ الرّدّ إنما كانَ لهذا الغرضِ الدينيِّ وهُو عِلمُها بصدقِ وعدِ الله. قولُه: (ما كانتْ تأخذُه على أنّه أجرٌ على الرضاع)، مذهبُ الشافعيِّ رحمَهُ الله: جوازُ أخذِ الوالِدةِ مِنَ المولودِ لهُ أُجْرةَ الرضاع، وأبو حنيفة رحمَهُ الله لا يجوِّزُه؛ فورودُ السؤالِ على مذهبِه.

حربيٌّ كانت تأخذُه على وجهِ الاستباحة. وقولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} داخلٌ تحتَ علمِها. المعنى: لنتعلمَ أنَّ وعدَ الله حقٌّ، ولكنّ أكثرَ النّاس لا يعلمون أنّه حقٌّ فيرتابون. ويُشْبِهُ التَّعريضَ بما فَرَطَ منها حينَ سمِعَتْ بخبرِ مُوسى، فَجزِعَتْ وأصبحَ فؤادُها فارغًا. يُروى أنّها حينَ ألقتِ التّابُوتَ في اليمِّ جاءَها الشَّيطان فقال لها: يا أُمَّ مُوسى، كرهتِ أن يَقْتُلَ فرعُون موسى فتُؤجَري، ثمَّ ذهبتِ فتولَّيتِ قتلَه؟ فلمّا أتاها الخبرُ بأنّ فرعونَ أصابَه قالتْ: وقَعَ في يدِ العَدُوِّ، فنسِيَتْ وعدَ الله. ويجوزُ أن يتعلَّقَ {وَلَكِنَّ} بقولِه: {وَلِتَعْلَمَ} ومعناهُ: أنَّ الرَّدَّ إنّما كانَ لهذا الغرضِ الدِّينيّ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويُشبِهُ التعريض)، أي بِأُمِّ موسى؛ يعني: قولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} تنبيهٌ لها على أنّ ما دَهَمَها مِنْ فَرْطِ الجَزَعِ والدّهَشِ في أَوّلِ الأَمرِ كانَ من قِلّةِ العِلم، والجَهلِ بتدبيرِ الله؛ كما أنّ قولَه تعالى: {لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ*إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا بَعْدَ سُوءِ} [النمل: 10، 11] كانَ تعريضًا بموسى مِن وَكْزةِ القِبْطيِّ وقولِه فيه: {إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص: 16]. قولُه: (ويجوزُ أنْ يتعلّقَ {وَلَكِنَّ} بقولِه: {وَلِتَعْلَمَ}، أي: يختصُّ بهِ دونَ المعطوفَيْن -يعني: {تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} - بشهادةِ إعادةِ حرفِ التعليل، وكانَ مُستغنًى عنهُ بالعاطِف؛ فدلّ ذلكَ على شِدّةِ العنايةِ به، وأنّهُ الغَرَضُ الأصلي؛ فاختصّ لذلكَ بهِ لأنّهُ لا يُستدرَكُ بذلك إلا في أمرٍ يَعزُّ الوصولُ إليه، ولأنّ كلّ أحدٍ يعلمُ ضرورةً أنّ فَرَحَ الثّكْلى وذَهابَ حُزْنِها إنما يكونُ بوِجْدانِ مَفْقودِها؛ ولكنْ لا يعرِفُ أنّ الردّ لصدقِ الوعدِ إلا الواقِفونَ على أسرارِ الله تعالى ودقائقِ حكمتِه؛ فعلى هذا جملةُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ

وهو عِلْمُها بصدْقِ وعدِ الله. ولكنَّ الأكثرَ لا يعلمونَ بأنّ هذا هو الغرضُ الأصليُّ الذي ما سِوَاهُ تَبعٌ له من قُرّةِ العَيْنِ وذهابِ الحُزن. [{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 14] {وَاسْتَوَى} واعتدل وتمّ استحكامُه، وبلَغَ المَبلَغَ الذي لا يُزادُ عليه، كما قال لقيط: واستَحمِلوا أمرَكُم لله دَرُّكُمُو ... سوء المرِيرَة لا قَحْمًا ولا ضَرَعَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَعْلَمُونَ} معطوفةٌ على جملةِ العلةِ والمعلول، وعلى الأوّلِ عطفٌ على ما سدّ مَسدّ المفعولَيْنِ لِقولِه: {وَلِتَعْلَمَ}. قولُه: (وبَلَغَ المبْلَغَ الذي لا يُزادُ عليه)، وعنْ بعضِهم: وفي الحديث: ((إذا بَلَغَ العَبْدُ أربِعينَ سنة؛ فقدْ أعذَرَ الله إليه))، قالت الحكماء: هي التي على العاقلِ اللبيبِ إذا شارَفَها أن يَسْتَوِي وعلى الأديبِ الأريبِ إذا أناخَ عليها أن يَرْعَوِي. قولُه: (واستَحْمِلوا أمرَكُم) البيت، استحملتُه: سألتُه أنْ يحُمِّلَني أمرَكم؛ أي: أمرَ الخلافة. لله دَرُّكُم أي: خيرُكُم وصالحُ عَمَلِكُم؛ لأنّ الدرّ أفضلُ ما يُحتَلَب، وإذا ذَمُّوا قالُوا: لادَرّ الله دَرّه؛ أي: لا كَثّرَ خيرَهُ ولا زَكّى عَمَلَه. والشّزَرُ مِنَ الفَتْل: ما كانَ إلى فوق، خلافُ دورِ المِغْزَل؛ يُقال: حَبْلٌ مَشْزُور؛ أي: شَديدُ الفَتْل. والمرِيرة: العزِيمة، أو مِنْ المِرّةِ، وهي القُوّة، والمريرُ مِنَ الجِبال: ما لَطُفَ وطالَ واشتَدّ، ورجلٌ ذو مِرّة: إذا كانَ سليمَ الأعضاءِ صحيحًا. وشيخٌ قَحْم: هَرِم، مثلُ: قَحْل. والضَّرَع -بفتحتين-: الضعيف. يقول: قلِّدُوا أَمْرَ الخلافةِ رجلاً قادراً قويًّا غيرَ الهَرِم والضعِيفِ الذي لا رأيَ له، لا قَحْمًا ولا ضَرَعًا؛ كقولِه تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68].

وذلك أربعونَ سنةً، ويُروى: أنّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلاّ على رأسِ أربَعِينَ سنةً. العلم: التَّوراة. والحُكْم: السُّنّة. وحكمةُ الأنبياء: سُنَّتهُم. قالَ الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَايُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَاَلْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] وقيل: معناهُ آتيناهُ سيرةَ الحُكماءِ العُلَماءِ وسَمْتَهُم قبلَ البَعْث، فكانَ لا يفعلُ فِعلاً يستَجْهِلُ فيه. [{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} 15 - 17] المدينةُ: مصرُ. وقيل: مدينةُ مَنْفَ من أرضِ مصر. وحينُ غَفْلَتِهم: ما بينَ العِشاءَيْن. وقيل: وقتُ القائِلة. وقيل: يومُ عيدٍ لهم هم مُشتغِلُون فيه بلَهْوِهم. وقيل: لما شبَّ وعَقَل أخذَ يتكلَّمُ بالحقِّ وينْكِرُ عليهم، فأخافوه، فلا يدخلُ قريةً إلاّ على تَغَفُّلٍ. وقرأ سيبويهِ: (فاستعانَهُ). {مِن شِيعَتِهِ} ممّن شايَعَهُ على دينهِ من بَني إسرائيل. وقيل: هو السّامِرِيّ {مِنْ عَدُوِّهِ} من مُخالِفِيه من القِبْط، وهو فاتون، وكان يتسخَّرُ الإسرائيليَّ لحَمل الحطبِ إلى مَطبخِ فرعون. و (الوكز): الدّفعُ بأطرافِ الأصابع. وقيل: بجَمع الكفّ، وقرأ ابن مسعود: (فَلَكَزَهُ) باللاّم. {فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله. فإن قلتَ: لم جُعِلَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (مدينةُ مَنْفَ)، مُنِعَ الصّرْف؛ لاجتماعِ التأنيثِ والعَلَميّةِ والعُجْعة، كماه وجور في اسمِ بلدَتَيْن. قولُه: (وَقْتُ القائلة)، أي: الظّهيرة، وقد يكونُ بمعنى القيلولة؛ وهيَ النومُ في الظّهيرة. قولُه: (فلَكَزه)، الجوهري: اللّكْزُ: الضّرْبُ بالجُمْعِ على الصّدْر، وقيل: على جميعِ الجسد. قولُه: ({فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله)، الأساس: وقضى المريضُ نَحْبَه، قَضى عليه بضَرْبِه قضاه، وأَتَتْ عليه القاضِيةُ أي: المَنِيّة.

قتلُ الكافرِ من عَمَلِ الشّيطانِ، وسمّاه ظُلمًا لنفسِه واستُغْفِرَ منه؟ قلتُ: لأنّه قَتلَهُ قبلَ أن يؤذَنَ له في القتلِ، فكان ذَنَبًا يُستَغفَرُ منه. عن ابن جُرَيج: ((ليس لنبيٍّ أن يَقتُلَ؛ ما لم يؤمرْ)). {بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوزُ أن يكونَ قَسَمًا جوابُه محذوفٌ، تقديرُه: أُقسِمُ بإنعامِكَ عليَّ بالمَغفِرةِ لأَتُوبنَّ؛ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}، وأن يكونَ استعطافًا، كأنَّه قال: ربِّ اعصمني بحقِّ ما أنعمتَ عليَّ من المغفرةِ، فلن أكُونَ، إن عصمتَني، ظهيرًا للمُجرِمِين. وأراد بمُظاهرةِ المُجرِمِين: إمّا صُحبةَ فرعونَ وانتظامَه في جُملتِه، وتكثيرَهُ سوادَهُ؛ حيثُ كان يَركبُ برُكُوبِه؛ كالوَلَدِ مع الوالد، وكان يُسمّى ابنَ فرعون. وإمّا مُظاهرةَ مَنْ أدّتْ مُظاهرتُه إلى الجُرمِ والإثمِ، كمُظاهرةِ الإسرائيليِّ المُؤديةِ إلى القتلِ الّذي لم يَحِلَّ له. وعن ابنِ عباسٍ: لم يَسْتَثنِ فابُتليَ به مرّةً أُخرى. يعني: لم يقل: {فَلَنْ أَكُونَ} إن شاءَ الله. وهذا نحوُ قولِه: {وَلاَ تَرْكَنُوَا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وأنْ يكونَ استعطافًا)، قالَ ابنُ الحاجِب: القَسَمُ جملةٌ إنشائيّةٌ يُؤكّدُ بها جملةٌ أخرى؛ فإنْ كانتْ خبريّةً فهُوَ القَسَمُ لغيرِ الاستعطاف، وإنْ كانتْ طلبيةً فهُوَ للاستعطاف. وقلتُ: الاستعطافُ يُستفادُ مِنَ اللفظِ الذي يُشعِرُنا بالعَطْفِ والحُنُوّ؛ فكأنّ الداعي يستعطفُ المدعُوّ بنعمةِ المغفِرة، ويجعلُها وسيلةً لطلبِ العِصْمة، وقدْ لَمحَ إليهِ في أولِ ((النساء)). ومما يدلُّ على أنّ الاستعطافَ ليسَ بقَسَمٍ أنّ المصنِّفَ جعلَهُ هاهنا قَسيمًا للقَسَم؛ لأنّ القائلَ إذا قال: تالله لأفعلَنّ كذا؛ انعَقَدَ اليمين، ولو قال: تاالله أفعَلُ كذا؛ لا يَنعِقد اليمين. وعلى الوجهِ الثالثِ- وهُوَ قولُه: ((بما أنعمتَ علىّ مِنَ القُوّة)) -: الباءُ سَبَبِيّة؛ فحينئذٍ لا يكونُ قَسَمًا، ولا استعطافًا؛ فالمعنى: بسببِ ما أنعمتَ عليّ مِنَ القُوّة؛ أشكُرُك، فلنْ أستعملَ القُوّةَ إلا في مُظاهَرةِ أوليائك. قالَ في قولِه تعالى: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} [الحجر: 39]: ((ويجوزُ أنْ لا يكونَ قَسَمًا، ويكونَ المعنى: بسببِ تَسْبيبِكَ لإغوائي أُقسِمُ لأفعلَنّ)).

وعن عطاءٍ رحمهُ الله: أنَّ رجُلاً قال له: إنّ أخي يَضرِبُ بقَلَمِه ولا يعدُو رِزقَه. قال: فَمَن الرّأسُ؟ يعني: مَن يكتُبُ له؟ قال: خالدُ بنُ خالدُ بنُ عبدِ الله القَسْريّ. قال: فأينَ قولُ موسى؟ وتلا هذه الآيةَ. وفي الحديثِ: ((ينادي منادٍ يومَ القيامة: أينَ الظَّلَمَةُ وأشباهُ الظَّلَمةِ وأعوانُ الظَّلَمة؟ حتّى من لاقَ لهم دَواةً أو بَرى لهم قلمًا، فيُجمعونَ في تابوتٍ من حديدٍ فيُرمى به في جهنّم)). وقيل معناه: بما أنعمتَ عليَّ من القُوّة، فلن أستَعْمِلَها إلاّ في مُظاهرةِ أوليائِك وأهلِ طاعتِكَ والإيمانِ بك، ولا أدعُ قِبْطِيًّا يَغْلِبُ أحدًا من بني إسرائيل. [{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ*فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} 18 - 19] {يَتَرَقَّبُ} المكروهَ وهو الاستقادةُ منه، أو الأخبار وما يُقال فيه، ووَصَفَ الإسرائيليَّ بالغَيِّ؛ لأنّه كان سببَ قتلِ رجل، وهو يقاتِلُ آخَر. وقرئ: (يَبْطُش)، بالضَّمّ. والذي هو عدوٌّ لهما: القِبْطِيّ؛ لأنّه ليسَ على دينِهِما، ولأنّ القِبْطَ كانوا أعداءَ بني إسرائيل. والجبّارُ: الذي يفعلُ ما يريدُ من الضَّرْبِ والقَتلِ بظلم، لا ينظُرُ في العواقبِ، ولا يدفَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لا يعدو رزقَه)، أي: لا يتجاوزُ عما عُيِّنَ لهُ مِنَ الرزق، أي: الأُجْرةِ على عَمَلِه. قولُه: (مَنْ لاقَ لهُمْ دَواة)، الجوهري: لاقَتِ الدواةُ تليق؛ أي: لَصِقَتْ، ولِقْتُها أنا؛ يتعدّى ولا يتعدّى، وهيَ مَلِيقة: إذا أَصلَحْتَ مِدادَها. الأساس: لِقْتُ الدّواة، وأَلَقْتُها؛ فلاقَت، وهذهِ لِيقةُ الدّواة؛ أي: بعضُ أخلاطِها. قولُه: (والجَبّارُ: الذي يفعلُ ما يُريد)، الراغب: والجَبّارُ في صِفةِ الإنسان: مَنْ يَجْبُرُ نَقِيصتَهُ بادِّعاءِ مَنزِلةٍ مِنَ التعالي لا يَستَحِقُّها، وهذا لا يُقالُ إلا على طريقِ الذّمِّ؛ كقولهِ تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. وأمّا

بالّتي هي أحسن: وقيل: المُتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله، ولمّا قالَ هذا أفشى على مُوسى؛ فانتشرَ الحديثُ في المدينةِ، ورَقَى إلى فرعونَ، وهمُّوا بقتلِه. [{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} 20] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في وَصْفِهِ تعالى فقدْ قِيل: سُمِّيَ بذلكَ مِنْ: جَبَرْتُ الفقير؛ لأنّهُ تعالى هُوَ الذي يَجْبُرُ الناسَ بفائِضِ نِعَمِه، وقيل: لأنهُ يَجْبُرُ الناسَ أي: يَقْهَرُهم على ما يريد. ودفَعَهُ بعضُ أهلِ اللغةِ منْ حيثُ اللفظ؛ لأنّ ((فعّالاً)) لا يُبْنى مِنْ: أفْعَلْت؛ فأُجِيبَ بأنّ ذلكَ مِنْ لفظِ الجَبْرِ المرويِّ في قولِهم: لا جَبْرَ ولا تَفْويضَ، لا مِنَ الإجبار. وأنكَرَ ذلكَ جماعةٌ مِنَ المُعتزِلةِ مِن حيثُ المعنى؛ فقالوا: يتعالى الله عنْ ذلكَ، وليسَ بمُنكَر؛ فإنهُ تعالى قد أَجْبَرَ الناسَ على أشياءَ لا انفكاكَ لهُمْ مِنها حَسْبَ ما تقتضِيهِ حكمتُهُ لا على ما تتوهّمُهُ الغُواةُ والجَهَلة؛ وذلكَ كإكراهِهِمْ على المَرَضِ والمَوْتِ والبَعْثِ، وسخّرَ كلاَّ منهمْ لصناعةٍ مِن الأخلاق، وجعلَهُ مُجْبَرًا في صُورةِ مُخَيّر؛ قالَ تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَواةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32]. وقد رُوِي عن عليٍّ رَضِيَ الله عنه: يا بارئَ المسموكاتِ وجبّارَ القلوبِ على فِطْرتِها شَقيِّها وسعيدِها. وأصلُ الجَبْر: إصلاحُ الشيءِ بضربٍ مِنَ القَهْر؛ يُقال: جَبَرتُه فانْجَبَر، وقدْ يُقالُ تارةً في الإصلاح المجَرّد؛ كقولِ القائل: يا جابِرَ كلِّ كسير، ومُسَهِّلَ كلِّ عسير، وتارةً في القهرِ المجرّدِ كقولِه: لا جَبْرَ ولا تَفْوِيض. قولُه: (ورقى إلى فرعون)، الجوهري: رقى عليه كلامًا يَرْقِيه: إذا رَفَع، وفي استعمالِه بـ ((إلى)) تضمينُ معنى الانتهاء.

قيل: الرَّجُل: مؤمنُ آل فرعون، وكان ابنَ عمِّ فرعون، و {يَسْعَى} يجوزُ ارتفاعُه؛ وصفًا لرجُل، وانتصابُه حالاً عنه؛ لأنّه قد تخصّص بأن وُصِفَ بقولِه: {مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ}، وإذا جُعِلَ صلةً لـ ((جاء))، لم يَجُزْ في {يَسْعَى} إلاّ الوصف. والائتمار: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإذا جُعِلَ- أي: {مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ} - صلةَ ((جاء)) لم يَجُزْ في {يَسْعَى} إلا الوَصْفُ)، لأنّ ذا الحالِ نكرةٌ صِرْفة. كأنّ ميلَ صاحِبِ ((المفتاح)) إلى هذا الوجه؛ حيثُ قال: ذَكَرَ المجرورَ بعدَ الفاعِلِ وهوَ مَوضِعُه، وفي ((يس)) قَدّمَه لِكونِهِ أَهَمّ؛ لأنّ الكلامَ هناكَ في سوءِ مُعامَلةِ أصحابِ القريةِ للرُّسُل، وكانَ لأنْ يجيلَ السامعُ في فكرِه: أكانتْ تلكَ القريةُ بحافّاتِها كَذلك، أَمْ كانَ هناكَ قَطْرٌ مُنبِتُ خَيْر؟ فانتَظَرَ مَساقَ حديثِهِ فَقَدّمَ لهذا العارضِ بخلافِه هاهنا؛ فإنّ المترتِّبَ إخبارُ مُخبِر، كما قالَ المصنِّفُ في قولِه تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ}: ((أي: الإخبارَ وما يُقالُ فيه)). بَقِيَ أنْ يُقال: لِمَ قَدّمَ المجرورَ على الوصفِ ومرتبتُه التأخير؟ والأظهرُ أنّ المجرورَ صلةُ {يَسْعَى}، والجملةُ وصفٌ لـ {رَجُلٌ}؛ لأنّ موسى عليه السلامُ كانَ مختفيًا في بعضِ أقطارِ المدينةِ وأكنافِها، مترقِّبَا لمُخبِرٍ يُخبِرُه، والرجلُ كانَ مؤمنًا مُعتَنِيًا بشأنِ نبيِّ الله؛ فحينَ أطرقَ سمعَه مؤامرةُ القومِ سعي مِن عندِهم إليهِ انتهازًا للفرصة؛ ومِن ثَمّ أتْبعَه بقولِه: {إِنّيِ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} أي: مِنَ الذينَ لهُمْ مساهَمةٌ في النُّصح لك. وأكّدَه بأنّ قولَه: {لَكَ} بيانٌ وليسَ بِصِلةٍ للناصحِين؛ أي جوابٌ لِمَنْ يقولَ: لِمَنْ ينصَح؟ كقولِه تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ اَلْزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20].قالَ الزجّاج: {لَكَ} ليسَ مِن صِلةِ {اَلْنَّاصِحِينَ}؛ لأنّ الصِّلةَ لا تتقدّمُ على الموصول، كأنّه قال: إني مِنَ الناصحِينَ ينصحونَ لك، وفي الكلام: ((نَصَحْتُ لكَ)) أكثرُ مِنْ نَصَحْتُك.

التَّشاور. يقالُ: الرَّجُلانِ يتآمرانِ ويأتَمِران؛ لأنّ كُلَّ واحدٍ منهما يأمرُ صاحبَه بشيءٍ، أو يُشيرُ عليه بأمرٍ. والمعنى: يتشاوَرُون بسبَبِك. {لَكَ} بيان، وليس بصلةِ النّاصحين. [{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 21] {يَتَرَقَّبُ} التَعرُّضَ له في الطّريق، أو أن يُلْحَقَ. [{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} 22] {تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} قَصْدَها ونَحْوَها. ومَدْيَن: قريةُ شعيبٍ عليهِ السَّلام، سُمِّيتْ بمَدْيَنَ بنِ إبراهيم، ولم تكنْ في سُلطانِ فرعون، وبينها وبينَ مصرَ مسيرةُ ثمانٍ، وكان مُوسى صلى الله عليه لا يعرفُ إليها الطَّريقَ. قال ابنُ عباسٍ: خرجَ وليسَ لهُ علمٌ بالطريقِ إلاّ حُسنُ ظنِّه بربِّه. {سَوَآءُ اَلْسَّبِيلِ} وسطُه ومُعظَمُ نهْجِه. وقيل: خَرَجَ حافيًا لا يعيشُ إلا بورَقِ الشَّجَر، فما وصلَ حتّى سقَطَ خُفُّ قَدَمِه. وقيل: جاءَهُ مَلَكٌ على فرسٍ بيدهِ عَنَزةٌ، فانطلقَ بهِ إلى مَدْيَن. [{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وليسَ لهُ عِلمٌ بالطريقِ إلا حُسنُ ظنِّهِ بربِّه)، هذا الاستثناءُ نحو: {لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبِ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]. قولُه: (عَنَزَة)، النهاية: العنَزَةُ: مِثلُ نِصفِ الرُّمحِ أو أكبرَ، وفيها سِنانٌ مِثلُ سِنانِ الرُّمح.

عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} 23 - 28] {مَآءَ مَدْيَنَ} ماؤهم الذي يستَقُونَ منه، وكان بئرًا فيما روي. ووُرودُه: مجيئُه والوصولُ إليه. {وَجَدَ عَلَيْهِ}: وجد فوقَ شفيرِه ومُستَقاهُ، {أُمَّةً}: جماعةً كثيفةَ العدد، {مِنَ النَّاسِ} من أُناسٍ مختَلِفِين، {مِن دُونِهِمُ} في مكانٍ أسفلَ من مكانِهِم. والذَّودُ: الطَّرْدُ والدَّفعُ، وإنّما كانتا تذودان؛ لأنَّ على الماءِ مَن هو أقوى منهُما؛ فلا تتمكنان من السَّقْي. وقيل: كانتا تَكْرهانِ المُزاحمةَ على الماء. وقيل: لئلاّ تختَلِطَ أغنامُهُما بأغنامِهِم. وقيل: تذودانِ عن وُجوهِهِما نظرَ النّاظِرِ لِتَستُّرِهِما. {مَا خَطْبُكُمَا}: ما شأنُكُما؟ وحقيقتُه: ما مخطوبُكما؟ أي: مطلوبُكما من الذِّياد، فسمّى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({أُمَّةً} جماعةً كثيفةَ العددِ {مِّنَ اَلْنَّاسِ} مِنْ أُناسٍ مختلفِين)، أما تقييدُها بالكثيفة؛ فمِنْ تخصيص ذكرِ ((الأمة)). النّهاية: يُقالُ لكلِّ جيلٍ مِنَ الناسِ والحيوان: أمة. وفي الحديث: ((لولا أنّ الكلابَ أمّةٌ تُسَبِّحُ لأَمَرْتُ بقتلِها)). الراغب: الأمة: جماعةٌ يجمَعُهم أمرٌ ما؛ إما دينٌ واحد، أو زمانٌ واحد، أو مكانٌ واحد؛ سواء كانَ الأمرُ تسخيرًا أو اختيارًا. وأما معنى ((أناسٍ مختلفِين))؛ فمِنَ التعريفِ في ((الناسِ))، وهو ما تعورِفَ واشتُهِرَ أنّ مَنْ يجتمِعَ حوالَيْ شَفِيرِ البئرِ لأجلِ الاستقاءِ مِنهم. وقريبٌ منهُ قولُه تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60، والأعراف: 160]. قولُه: (ما مخطوبُكما؟ )، أي: ما مطلوبُكما؟ مِنْ قولِهم: خَطَبْتُ المرأةَ خِطْبة؛ أي: طَلَبْتَ

المخطوبَ خطبًا، كما سمَّي المَشئُونَ شأنًا في قولِك: ما شأنُك؟ يقال: شَأَنْتُ شأنَه، أي: قَصَدْتُ قَصْدَه. وقرئ: (لا نُسقي) و {يُصْدِرَ} و (الرُّعاء)، بضمِّ النونِ والياءِ والرّاء. والرِّعاءُ: اسمُ جمعٍ كالرُّخال والثّناء. وأما {اَلْرِّعَاءُ} بالكسْرِ فقِياس، كصِيامٍ وقيامٍ. {كَبِيرٌ} كبيرُ السِّنّ. {فَسَقَى لَهُمَا} فسقى غَنَمَهُما لأجْلِهِما. ورُويَ أنَّ الرُّعاةَ كانوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حجرًا لا يُقِلُّه إلاّ سبعةُ رجال. وقيل: عَشَرَة. وقيل: أربَعُون. وقيل: مئة، فأقلَّه وَحْدَه. ورُوِيَ أنّه سألَهُم دَلوًا من ماءٍ فأعطَوه دَلوَهُم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَزَوُّجَها. الأساس: ومِنَ المجاز: فلانٌ يخطُبُ عَمَلَ كذا؛ يطلُبُه، وما خَطْبُك؟ وما شأنُكَ الذي تخطُبُه؟ قولُه: (وقُرِئَ: ((لاَ نُسْقي)) و {يُصْدِرَ})، المشهورة: {لاَ نَسْقِي} بفتحِ النون، و ((يَصدُر)) بفتحِ الياءِ وضمَّ الدال: ابنُ عامرٍ وأبو عمرو، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الدال. وسألَ بعضُهم عنِ الفرقِ بينَ يصدر بفتحِ الياءِ وضمِّها مِن حيثُ المعنى، وأُجيبَ: أنّ الأولَ دلّ على فرطِ حيائِهِما وتفادِيهِما مِنَ الاختلاطِ بالأجانب، وأنّ الثاني دلّ على إصدارِهِمُ المواشي، ولَمْ يُفْهَمْ مِنهُ صدورُهُم عنِ الماءِ. قولُه: (كالرُّخال)، الجوهري: الرّخِلُ بكسرِ الخاء: الأنثى مِن أولادِ الضأن، والجمع: رخال. والثنا: جمعُ الثني؛ وهوَ الذي يُلقي ثنيّتَهُ مِن ذواتِ الظّلْفِ والحافِرِ في السنةِ الثالثة، وفي الخُفَّ في السنةِ السادسة. قال الحريريُّ في ((دُرّةِ الغَوّاص)): وقدْ جُمِعَ ((رَخِل)) بفتحِ الراءِ وكسرِ الخاءِ على ((رُخال)) بضمِّ الراء، وهوَ مِما جُمِعَ على غيرِ القياس. حُكِيَ أنّ أبا زيدٍ حَكى أنّ العَرَبَ تقولُ في مُلَحِها: قِيلَ للضَّان: ما أعْدَدْتِ للشِّتاء؟ قال: أُجَزُّ جُفالاً، وأُنْتِجُ رُخالاً، وأُحْلَبُ كُثَبًا ثِقالاً، ولنْ تَرى مِثلي مالاً. وفُسِّرَ أنّ الجُفال: الكثير، والكُثَب: جَمْعُ كُثْبة؛ وهِيَ ما انصَبّ ومار، ومِنهُ سُمِّيَ الكثيبُ مِنَ الرّمل. قولُه: (لا يُقِلُّهُ)، النِّهاية: يقال: أَقَلَّ الشيءَ يُقِلُّهُ واستقلّهُ يستقلُّه؛ إذا رَفَعَهُ وحَمَلَه.

وقالوا: استقِ بها، وكانتْ لا ينزِعُها إلاّ أربعون، فاستقى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبَرَكة، وروّى عنهما وأصدَرَهما. ورُويَ أنّه دفَعَهُم عنِ الماءِ حتّى سقي لهما. وقيل: كانتْ بئرًا أُخرى عليها الصَّخْرة. وإنّما فعل هذا رغبةً في المعروفِ وإغاثةً للملهوف. والمعنى: أنّه وصلَ إلى ذلكَ الماءِ وقد ازدحَمتْ عليه أُمّةٌ من أناسٍ مختلفةٍ متكاثفةِ العَدَد، ورأى الضَّعِيفَتَيْنِ من ورائِهم مع غُنَيمتِهِما مُتَوقِّفَتَينِ لِفَراغِهم، فما أخْطَأَت همَّتُه في دينِ الله تلكَ الفُرصة، معَ ما كانَ من النَّصَبِ وسقوطِ خُفِّ القَدَمِ والجُوع، ولكنَّه رحِمَهُما فأغاثَهُما، وكفاهُما أمرَ السَّقْيِ في مثلِ تلك الزَّحمةِ بقُوَّةِ قلبِه وقوَّةِ ساعِدِه، وما آتاهُ الله من الفضلِ في متانةِ الفطرةِ ورصانةِ الجِبِلَّة، وفيه- مع إرادةِ اقتصاصِ أمره، وما أوتِيَ من البَطْشِ والقُوّةِ، وما لم يَغفُلْ عنه، على ما كانَ به من انتهازِ فُرصةِ الاحتساب- ترغيبٌ في الخير، وانتهازِ فُرَصِه، وبعثٌ على الاقتداءِ في ذلك بالصّالِحِين، والأخذِ بِسَيرِهِم ومذاهِبِهم. فإن قلتَ: لمَ تُرِكَ المَفعولُ غيرَ المَفعولُ غيرَ مَذْكُورٍ في قولِه: {يَسْقُونَ} و {تَذُودَانِ} و {لاَ نَسْقِي}؟ قلت: لأنَّ الغرضَ هو الفعلُ لا المفعول. ألا ترى أنّه إنّما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فما أخطأَتْ هِمّتُه)، أي: ما تجاوَزَتْ. الأساس: ومِنَ المجاز: تَخَطّاهُ المكروه. قولُه: (تلكَ الفرصة)، الجوهري: الفُرصةُ هِيَ الشِّرْبُ والنّوْبة؛ يُقال: وَجَدَ فلانٌ فُرصة؛ أي نُهْزة، وانتَهَزَها إذا اغتَنَمَها. قولُه: (وفيه)، خبر، والمبتدأُ ((ترغيب))، و ((ما أوتي)) عطفٌ تفسيريٌّ على ((أمره))، و ((ما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفٌ على ((البطش والقوة))، وهوَ عبارةٌ عنِ الجزمِ البليغ والتيقُّظِ التام؛ ولذلكَ أوقعَ ((على ما كانَ بهِ)) حالاً مِن فاعلٍ لمْ يفعلْ على وجهِ التتميم والمبالَغة؛ أي على ما كانَ بهِ مِنَ النّصَبِ وسقوطِ الخوفِ والجوع. و ((من)) - في ((مِن انتهازِ الفُرصة)) - بيانُ ((ما لمْ يَغفُلْ عنه))، المعنى: أَدْمَجَ في هذا الكلامِ- معَ اقتصاصِ أمرِ موسى عليه السلام مِنَ القُوّةِ والتيقُّظِ في تلكَ الحالةِ- ترغيبَ المؤمِنينَ في الخير، وانتهازَ الفُرصةِ فيه، والبعثَ على الاقتداءِ بسُنّةِ الصالحِينَ مِنَ المرسَلِين. ويجوزُ أنْ يكونَ ((وما لمْ يَغفُلْ عنه)) عطفًا على ((ما أوتي)). قولُه: (لأنّ الغرضَ هوَ الفعلُ لا المفعول)، فإنْ قلتَ: هلْ مِنْ فَرقٍ بينَ هذا وما ذهبَ

رَحِمَهُما لأنَّهما كانَتا على الذِّيادِ وهُم على السَّقْي، ولم يَرحَمْهما لأنّ مذُودَهُما غَنَمٌ ومَسقِيَّهُم إبِلٌ مثلاً، وكذلك قولُهما {لاَ نَسقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلرِّعَاءُ} المقصودُ فيه السَّقْيُ لا المَسْقِيُّ. فإن قلتَ: كيفَ طابقَ جوابُهما سؤالَه؟ قلتُ: سألَهُما عن سببِ الذَّودِ فقالَتا: السَّبَبُ في ذلك أنّا امرأتانِ ضعيفتانِ مَسْتُورَتان لا نقدِرُ على مساجَلَةِ الرِّجالِ ومزاحَمَتِهم، فلابُدَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إليهِ صاحبُ ((المفتاح)) مِنْ أنّ القصدَ في تركِ المفعولِ إلى مجرّدِ الاختصار؛ لانصبابِ الكلامِ إلى إرادةِ: يسقونَ مواشيهم، إلى آخرِه؟ قلتُ: نعم؛ لأنهُ نَظَرَ إلى اللفظ، وأنّ التركَ لصونِ الكلام عنِ العبثِ لنيابة قرائن الأحوال. والمصنِّفُ نَظَرَ إلى المعنى وأنّ المفعولَ مرفوضٌ غيرُ مُلتَفَتِ إليه؛ فلِكُلِّ وِجْهة. فإنْ قلتَ: فعلى هذا يكونُ مِن تنزيلِ المتعدِّي منزلةَ اللازِمِ إيهامًا للمبالَغة؛ فأينَ المبالَغة؟ قلتُ: وَهْمٌ بعيد؛ لأنّ معنى قولِه: ((الغرضُ هوَ الفعلُ لا المفعول)) أنّهمْ قدْ يقصِدونَ في الكلامِ المحتوِي على معانٍ إلى معنَى منها قصدًا أوليًّا، ويوهِمونَ أنّ ما سِواهُ مُطّرَح؛ ألا ترى إلى قولِه في تفسيرِ قولِه تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]: تَرَكَ المفعولَ به؛ لأنَّ الغرضَ المعزّزَ بهِ وإنْ كانَ الكلامُ مُنصَبًّا إلى غَرَضٍ مِنَ الأغراضِ جَعَلَ سياقَهُ لهُ وتوجُّهَهُ إليه، كأنّ ما سِواهُ مرفوضٌ مطروح. قولُه: (كيفَ طابقَ جوابُهما سؤالَه؟ )، يعني أن موسى عليه السلامُ سألَهُما عنْ شأنِهِما ومطلوبِهِما بقولِه: {مَا خَطْبُكُمَا} وكانَ الظاهرُ أنْ يقولا: شأنُنا أنّنا نريدُ السّقي، ولا قُدرةَ لنا عليه مِنَ الزحمة. وأجاب: إنّ جوابَهما {لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلْرِّعَاءُ وأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} معناه: سَبَبُ ذَوْدِنا ضَعْفُنا وعَجْزُنا وضَعْفُ مُتَوَلِّي أَمْرِنا؛ وهُوَ أبونا. وفي اختصاصِهِما الأبَ بالذكرِ الدلالةُ على أنْ ليسَ لَهُمْ رَجُلٌ يقومُ بذلك؛ فأَوْجَبَ ذلكَ أنْ يُفَسّرَ قولُه: {مَا خَطْبُكُمَا} بقولِنا: ما سببُ ذَوْدِكما؟ لِيَتَطابَقا.

لنا من تأخِيرِ السَّقْيِ إلى أنْ يَفرَغُوا، ومالنا رَجُلٌ يقومُ بذلك، وأبونا شيخٌ قد أضعَفَهُ الكِبَر؛ فلا يَصْلُحُ للقِيامِ به: أبْلَتا إليهِ عُذْرَهُما في تولِّيهِما السَّقْيَ بأنفُسِهِما. فإن قلت: كيف ساغَ لنبيِّ الله الذي هو شُعيبٌ عليه السَّلامُ لأن يَرْضى لابنَتَيهِ بسَقْيِ الماشية؟ قلتُ الأمرُ في نفسِه ليسَ بمَحْظور؛ فالدِّينُ لا يأباه. وأمّا المروءة، فالنّاسُ مختلفون في ذلك، والعاداتُ مُتَبايِنةٌ فيه، وأحوالُ العربِ فيه خِلافُ أحوالِ العَجَم، ومذهبُ أهلِ البَدْوِ فيه غيرُ مذهبِ أهلِ الحَضَر، خُصوصًا إذا كانتِ الحالةُ ضَرورة. {إِنِّي} لأيِّ شيءٍ {أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} قليلٍ أو كثيرٍ، غثٍّ أو سَمِينٍ لَ {فَقِيرٌ}؛ وإنّما عُدِّيَ {فَقِيرٌ} باللاّم؛ لأنّه ضمنَ معنى سائلٍ وطالب. قيل: ذَكَرَ ذلك وخضرةُ البَقْلِ تَتراءى في بطنِه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنْ قلتَ: فَلِمَ عَدَلَ عنِ السؤالِ الظاهرِ إلى قولِه: ما مخطوبُكما؟ أي: ما مطلوبُكما من الذِّياد؟ قلتُ: مقصودُ نَبيِّ الله مِنْ قولِه: ما مطلوبُكما مِنَ الذياد؟ أنْ يُجابَ بطلبِ المعونةِ منه؛ لكرمِهِ ورحمتِهِ على الضعفاء. ولمّا كانتا مِنْ بيتِ النُّبُوّة؛ حَمَلْنا قولَه على ما يُجابُ عنهُ بالسّبَب، وفي ضِمنِهِ طلبُ المعونة؛ لأنّ إظهارَهُما العَجْزَ ليسَ إلا لذلكَ، هذا وإنهُ ليسَ في الكلامِ ما يدلُّ على ضعفِهِما؛ بلْ فيهِ أَماراتٌ على حيائِهِما وسترِهِما كما سَبَقَ في بيانِ اختلافِ القراءتَيْنِ في ((يصدر)). وكذا قولُه: {فَجَآءَتْهُ إحْدَيهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} على أنهما قالتا: {لاَ نَسْقِي} دون: لا نقدِرُ على السقي. ومعنى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: أنّا معَ حيائنا إنما تصدّيْنا لهذا الأمر؛ لِكِبَرِهِ وضعفِه، وإلا كانَ عليهِ أنْ يتولاه. قولُه: (أَبْلَتا إليه عُذْرَهُما)، الأساس: أبْلَيْتُه عذرًا؛ إذا بَيّنْتَهُ لهُ بيانًا لا لَوْمَ عليكَ بَعدَه. وحقيقتُهُ: جَعَلْتُهُ بالِيًا بِعُذْري؛ أي: خابرًا لهُ عالمًا بكُنْهِه. قولُه: (تتراءى في بطنِه)، الأساس: تراءى الجمعان، وتراءتْ لنا فُلانة: تصدّتْ لنا لِنَراها، وعلى وجهِهِ رُواءُ الحُمْق؛ وهوَ ما يُرى عليهِ مِنْ آياتِهِ البيِّنةِ التي لا تَخفى على الناظِرِ كأنها تتكلّمُ بهِ وتنادي عليه.

من الهُزال، ما سأَل الله إلاّ أكلةً. ويُحتَمَلُ أن يريد: إنِّي فقيرٌ من الدُّنيا لأجْلِ ما أنزلتَ إليَّ من خَيرِ الدّين؛ وهو النَّجاةُ من الظالمينَ؛ لأنَّه كان عندَ فرعونَ في مُلْكٍ وثَرْوة: قال ذلك رِضًا بالبَدَلِ السَّنِيِّ، وفَرَحًا به، وشُكْرًا له، وكان الظِّلُّ ظِلَّ سَمُرَةٍ. {عَلَى اسْتِحْيَآءٍ}: في موضعِ الحال، أي: مُستَحيِيَةً مُتَخَفِّرَةً. وقيل: قد استَتَرَت بِكُمِّ دِرعِها. رُوِيَ أنّهما رَجَعَتا إلى أبِيهٍما قبلَ النّاسِ، وأغنامُهُما حُفَّلٌ بطانٌ، قال لهُما: ما أعجَلَكُما؟ قالتا: وجدْنا رجُلاً صالحًا رحِمَنا فسقى لنا، فقال لإحداهُما: اذهبي فادعِيه لي، فتَبِعَها مُوسى فألزَقَتِ الرِّيحُ ثوبَها بجَسَدِها فوصَفَتْه، فقال لها: امشي خَلْفي وانعَتِي ليَ الطَّريق، فلّما قصّ عليه قصَّتَه قال له: لا تخفْ فلا سُلطانَ لفرعونَ بأرضِنا. فإن قلت: كيف ساغَ لمُوسى أن يعملَ بقولِ امرأة، وأن يمشيَ معها وهي أجنبيَّة؟ قلتُ: أمّا العملُ بقولِ امرأةٍ؛ فكما يُعمَلُ بقولِ الواحدِ حرًّا كانَ أو عبدًا، ذكرًا كان أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (إني فقيرٌ مِنَ الدُّنيا لأجلِ ما أَنزَلْتَ إليّ)، ((ما)) _على هذا_ موصولةٌ، و ((من)) بيان، والتنكيرُ في ((خير)) للنوعِ والتعظيم؛ ولذلكَ أضافَهُ إلى الدِّين. وعلى الأوّلِ ((ما)) موصوفة، والتنكيرُ للشيوع؛ ومِن ثُمّ قُدِّرَ أوّلاً لأيِّ شيء، وثانيًا قليلٍ أو كثير، غَثٍّ أو سمين. وأما فائدةُ الماضي في ((ما أنزلت)) على التأويلِ الثاني؛ فظاهِر، وأما على الأَوّل؛ فللاستعطاف، أي: ربِّ إني سائلٌ الآنَ ما كنتُ أَعهَدُه في الأيامِ الماضيةِ مِمّا أَسُدُّ بهِ جَوْعتي مِن قليلٍ أو كثير، غثٍّ أو سمين؛ لأني مُحتاجٌ إليه؛ لأنّ معنى التضمينِ أنْ يُقال: أنا سائلٌ الطعامَ في حالِ كوني محتاجًا إليه. ويؤيِّدُ هذا التأويلَ قولُه: ((ما سألَ الله إلا أكلة))، وقولُ ابنِ عباسٍ رَضِيَ الله عنهما: سألَ الله فلق خُبْزٍ بهِ صُلْبَه. قولُه: (مُتَخَفِّرة)، الجوهري: الخَفَرُ- بالتحريكِ- شِدّةُ الحياء، تقولُ منه: خَفِرٌ - بالكسرِ-، وجاريةٌ خَفِرةٌ ومُتَخَفِّرة. قولُه: (حُفَّل)، جَمْعُ حافِل. الجوهري: ضِرْعٌ حافِل؛ أي: مُمتَلِئٌ لبنًا. قولُه: (فوَصَفَتْه)، الأساس: ومِنَ المجاز: وَجْهُها يَصِفُ الحُسْن، ومعناهُ ما سَبَقَ آنفًا، وهوَ ما يُرى عليهِ مِنْ آيتِهِ البيِّنةِ التي لا تَخفى على الناظر، إلى آخرهِ.

أُنثى في الأَخبار، وما كانتْ إلاّ مُخبِرةً عن أبِيها بأنّه يدعُوهُ ليَجْزِيَه. وأمّا مُماشاتُه امرأةً أجنبيةً؛ فلا بأسَ بها في نظائِرِ تلكَ الحال، مع ذلك الاحتياطِ والتَّوَرُّع. فإن قلتَ: كيفَ صحّ له أخذُ الأجرِ على البِرِّ والمعروف؟ قلتُ: يجوزُ أن يكونَ قد فعلَ ذلك لوجهِ الله وعلى سبيلِ البِرِّ والمعروف. وقيل: إطعامُ شعيبٍ وإحسانُه لا على سبيلِ أخذِ الأَجْر، ولكنْ على سبيلِ التَّقبُّلِ لِمعروفٍ مُبتَدَأٍ. كيفَ وقد قصَّ عليه قَصَصَهُ وعرَّفه أنه من بيتِ النُّبوَّة من أولادِ يعقوب؟ ومِثلُه حَقيقٌ بأن يُضَيَّفَ ويُكَرَّمَ؛ خصوصًا في دارِ نبيٍّ من أنبياءِ الله، وليسَ بمُنكرٍ أنْ يفعلَ ذلك لاضطرارِ الفَقْرِ والفاقَةِ طلبًا للأجر. وقد رُوِيَ ما يعضُدُ كِلا القَولَين: رُوِيَ أنَّها لمّا قالت: {ليَجْزِيَكَ}، كَرِهَ ذلك، ولمّا قدّم إليه الطّعامَ امتنعَ، وقال: إنّا أهلَ بيتٍ لا نَبِيعُ دِينَنا بطِلاعِ الأرضِ ذهبًا، ولا نأخُذُ على المعروفِ ثمنًا، حتى قالَ شُعَيب: هذه عادتُنا مع كُلِّ من ينزلُ بنا. وعن عطاءِ بنِ السائب: رفع صوتَه بدُعائِه ليُسمِعَهما، فلِذلك قيل له: {ليَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ}، أي: جزاءَ سَقْيِك. والقَصَصُ: مصدرٌ كالعَلَل، سُمِّيَ به المَقصُو. كُبراهُما: كانت تُسمَّى صفراء، والصُّغرى: صُفَيراء. وصفراءُ: هي التي ذهبتْ به وطلبت إلى أبيها أن يستأجِرَه، وهي التي تزوَّجَها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (بطِلاع الأَرْض)، أي: مِلْئِها. الأساس: وملأتُ لهُ القَدَحَ حتى كادَ يطلعُ مِنْ نواحِيه، ومنه: قَدَحٌ طِلاع: ملآن. وعنِ الحسن: لَأَنْ أَعلَمَ أني بريءٌ مِنَ النفاقِ أَحَبُّ إليّ مِنْ طِلاعِ الأرضِ ذهبًا. قولُه: (وعنْ عطاءِ بنِ السائِب: رَفَعَ صوتَهُ بدعائِه)، وهوَ قولُه: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} هذا يَعْضُدُ القولَ الثاني، وهوَ قولُه: ((وليسَ بمُنكَرٍ أنْ يَفْعَلَ ذلكَ لاضطِرارِ الفقر)). قولُه: (والقَصَصُ مصدر)، يُقال: قَصّ يَقُصُّ قَصًّا وقَصَصًا، سُمِّيَ بهِ المقصوص؛ كالعَلَلِ وهوَ الشُّرْبُ الثاني، سُمِّيَ لِما يُعَلُّ به.

وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنه: أنّ شُعيبًا أحفَظَتْه الغَيرةُ فقال: وما علمُكِ بقُوَّتِه وأمانتِه؟ فذَكرتْ إقلالَ الحجَرِ ونَزْعَ الدَّلو، وأنّه صوَّبَ رأسَه حتّى بلغَتهُ رسالَتَه، وأمَرَها بالمَشْيِ خلفَه. وقولُها: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَثْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ}: كلامٌ حكيمٌ جامعٌ لا يُزادُ عليه؛ لأنّه إذا اجتمعتْ هاتانِ الخَصلتان؛ أعني الكفايةَ والأمانةَ في القائمِ بأمرِك فقد فَرَغَ بالُك وتمّ مُرادُك. وقد استَغْنَت بإرسالِ هذا الكلام الذي سياقُه سياقُ المَثَل والحِكمةِ أن تقولَ: استأجِرْهُ لقُوّتِه وأمانتِه. فإن قلتَ: كيف جُعِلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا لـ {إِنَّ} و {اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} خبرًا؟ قلتُ: هو مِثلُ قولِه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أحْفَظَتْهُ الغَيْرة)، الجوهري: الحَفِيظة: الغَضَب، وكذلكَ الحِفْظةُ بالكسر. قولُه: (وقدِ استَغْنَتْ بإرسالِ هذا الكلام)، إشارةٌ إلى أنّ هذا الكلامَ معَ كونِهِ مِنَ الجَوامِعِ هوَ أيضًا دليلٌ على إثباتِ هذا المُدّعي؛ لأنّ الحُكْمَ أنّ مَنْ فيهِ هاتانِ الخُصلَتانِ فهوَ صالحٌ للاستِئجار، وقدْ شوهِدَ فيهِ ذلك؛ فوَجَبَ أنْ يُختارَ لذلك، فذَكَرَ الدليلَ العامّ وتركَ الخاصّ لاستغنائِهِ عنه؛ لأنّ الكلامَ سِيقَ له. قولُه: (سياقُهُ سياقُ المَثَل)، أي أنّ قولَه: {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} لعمومِهِ صارَ مثلاً. قولُه: (كيفَ جعلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا؟ )، وخُلاصتُهُ أنّ المعرّفَ باللامِ أَوْغَلُ في التعريفِ مِنَ المضاف. وقيل: إنّ المضمَرَ أَعْرَفُ المعارف؛ لأنّ الشيءَ لا يُضمَرُ إلا وقدْ عُرِف، فهوَ بمنزلةِ وضعِ اليد؛ فلذا لا يُوصَفُ كسائِرِ المعارف، ثُمّ العَلَم؛ لأنّهُ موضوعٌ على شَيءٍ بعينِه، ثُمّ المُبْهَم؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالعينِ والقلبِ نحوُ: هذا؛ للحاضر، ثُمّ المُحَلّى باللام؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالقلبِ لا غير، ثُمّ المضاف؛ لأنّ تَعرُّفَه مِنْ غيرِه. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ {مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} موصولةٌ، وهوَ أعرَفُ مِنَ المعرّفِ باللام، ولَمّا أُضيفَ إليهِ ((أَفْعَل)) امتَزَجا. وقالَ هذا القائل: إنّ المضافَ لَمّا نُزِّلَ مَنزِلةَ التنوينِ مِنَ المضافِ صارَ بمنزلةِ شيءٍ واحد، فلما

أَلا إِنَّ خَيْرَ الناسِ حَيًّا وهَلِكا ... أسِيرُ ثَقِيفٍ عِندهُم في السَّلاسلِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ امتزجا معنًى كانَ معنى الامتزاجِ المعنويِّ على قدرِ امتزاجِ المعنى، والألفاظُ قوالبُ المعاني؛ فيُعتَبَرُ أمرُ المضافِ لِما أُضيفَ إليه. وقلتُ: هذا إذا لَمْ يُنظَرْ إلى المقامِ، وأُجرِيَ التعريفُ في {اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} على الجنس، وأما إذا جُعِلَ مرادًا بهِ موسى عليه السلامُ و {مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} على عمومِهِ، لأنّ {مَن} موصولةٌ أو موصوفة؛ كأنه قيل: إنّ خَيْرَ مَنِ استأجرتَهُ موسى، لم يَصِحّ ما قاله. ويؤيِّدُ الثاني استشهادُهُ بالبيت؛ فإنّ التعريفَ في ((الناس)) للجنسِ قطعًا، والمرادُ بالأسيرِ في ((أسير ثقيف)) خالدُ بنُ عبدِالله؛ فصحّ ما ذهبَ إليهِ المصنِّفُ مِنْ أَنّ {القَوِيَّ الأَمِينَ} هوَ الاسمُ وأنّ الاهتمامَ هوَ سَبَبُ تقديم الخبرِ وجعلِهِ اسمًا، أو هوَ مٍنْ القلبِ للمبالَغة. ولَمّا كانَ مُقتضى الحالِ- أي شيخوختُهُ وحياؤُهُما- هوَ الذي أوجَبَ قيِّمًا يهتمُّ بها مستأجرًا يستأجرونه لها؛ كانَ ذلكَ مطلوبًا لذاتِه، وكانتِ القوةُ والأمانةُ تابعتين لهُ تُعرَفُ بالذوق. أو يُقال: إنّ الفاصلةَ هيَ التي استدعتْ تأخيرَ {اَلْأَمِينُ}، و {اَلْأَمِينُ} استدعى مقارنةَ القويِّ معَه. الانتصاف: هذا أجمَلُ في مدحِ النساءِ للرجالِ مِنَ المدحِ الخاصِّ وخصوصًا [إن كانت] فهمتْ أنّ أباها يزوِّجُها مِنه. وما أَحْسَنَ ما أَخَذَ الفاروقُ مِنْ هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضَعفَ الأمينِ وخيانةَ القوي، ففي ضِمنِ هذه الشكاية سؤالُ الله أنْ يُتحِفَهُ بقويٍّ أمينٍ يستعينُ به. قولُه: (ألا إنّ خيرَ الناس حيًّا وميتًا) البيت، قالَهُ أبو الشغبِ في خالِدِ بنِ عبدِ الله القسريِّ وهوَ أسيرٌ في يدِ يوسفَ بنِ عمر، بالغَ في العمومِ وهوَ مِنَ الإغراقِ المذموم. قالَ أبو البقاء: ((حَيًّا وميتًا)) يجوزُ أنْ يكونَ مِن ((خير)) ومِنَ الضمير فيه، والعاملُ ما دلً عليه

في أنّ العنايةَ هي سببُ التَّقدِيم، وقد صدَقَت حتّى جُعلَ لها ما هو أحقُّ بأن يكونَ خبرًا اسمًا، وورودُ الفِعلِ بلفظِ الماضي؛ للدَّلالِةِ على أنّه أمرٌ قد جُرِّبَ وعُرِف. ومنه قولُهم: أهوَنُ ما أعمَلْتَ لسانٌ مُمِخّ. وعنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه: أفرسُ النّاسِ ثلاثةٌ: بنتُ شُعَيبٍ، وصاحبُ يُوسُف، في قولِه: {عَسَى أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف: 21]، وأبو بكرٍ في عُمَر. رويَ أنّه أنكَحَهُ صفراءَ. وقولُه: {هَاتَيْنِ} فيه دليل على أنّه كانتْ له غيرُهما. {تَاجُرَنِي}: من آجرتُه إذا كنتُ له أجيرًا، كقولك: أبَوْتُه إذا كنتَ له أبًا، و {ثَمَانِيَ جِجَجٍ} ظرفُه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((خير))؛ أي يَفْضُلُ الناسَ في حياتِهِ وموتِه. وأنْ يكونَ تمييزًا؛ أي أنّ أحياهُ وموتاهُ أفضلُ الأحياءِ والأموات، كقولِك: زيدٌ أَفْرَهُ الناسِ عبيدًا؛ أي: عبيدُه أَفْرَهُ العبيد. قولُه: (وقدْ صَدَقَتْ)، أي العنايةُ التي أوجَبَتْ تغييرَ الكلام. قولُه: (أهْوَنُ ما أعمَلْتَ لسانٌ مُمِخّ)، الأساس: ومِنَ المجاز: أمرٌ مُمِخّ؛ فيهِ فضلٌ وخير، وهذا لسانٌ مُمِخّ؛ حَسَنُ الشفاعة، ولهُ لسانٌ مُمِخّ؛ ذَلِقٌ قويٌّ على الكلام، والاستشهادُ بأنّ ((أَعمَلْتَ)) جاءَ بلفظِ الماضي. وفي ((مجمع الأمثال)): أَهْوَنُ مَرْزِئةٍ لسانٌ مُمِخّ، قالَ الميداني: أمخّ العَظْمُ إذا صارَ فيهِ المخ، والمعنى: أهونُ معونةِ على الإنسانِ أنْ يُعينَ بلسانِهِ دونَ المال؛ أيْ كلامٍ حَسَن. وقالَ المصنِّفُ في ((المستقصي)): مثلُه قولُه: وأَيْسَرُ ما يَحْبُو بهِ المَرْءُ خِلّهُ ... مِنَ العاهِنِ الموجودِ أنْ يتكلّما يُقال: أعطاهُ مِنْ عاهِنِ مالِهِ وآهِنِه؛ أي: تالِدِه. قولُه: (وأبو بكرٍ في عمرَ رَضَيِ الله عنهما)، حيَن استَخْلَفَه.

أو مِن: أجرتُه كذا؛ إذا أثَبْتَه إيّاه. ومنه: تعزيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (آجرَكُم الله ورَحِمكَم). و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ}: مفعولٌ به، ومعناه: رِعْيةُ ثماني حِجَجٍ، فإن قلتَ: كيف صحَّ أن يُنكِحَه إحدى ابنَتَيهِ من غيرِ تمييز؟ قلتُ: لم يكن ذاك عقدًا للنّكاح، ولكنْ مُواعدةً ومواصفةَ أمرٍ قد عَزَمَ عليه، ولو كانَ عقدًا لقالَ: قد أنكَحْتُك ولم يقل: {إِنِّي أَرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ}. فإن قلتَ: فكيف صحَّ أن يُمْهِرَها إجارةَ نفسِه في رِعيةِ الغَنَم، ولابُدَّ من تسليم ما هو مالٌ؟ ألا ترى إلى أبي حنيفةَ كيف منعَ أن يتزوّجَ امرأةً بأن يخَدِمَها سنةً، وجوَّز أن يتزَوَّجَها بأن يُخدِمَها عبدَه سنةً، أو يُسكِنَها دارَه سنةً، لأنّه في الأوّل: مُسَلِّمٌ نفسَهُ وليسَ بمال، وفي الثّاني: هو مُسَلِّمٌ مالاً وهو العبدُ أو الدّار، قلتُ: الأمرُ على مذهبِ أبي حنيفةَ على ما ذكرت. وأمّا الشّافعيُّ: فقد جوّزَ التَّزوُّجَ على الإجارةِ لبعضِ الأعمالِ والخدمة، إذا كان المُستَأجَرُ له أو المخدومُ فيه أمرًا معلومًا، ولعلَّ ذلك كان جائزًا في تلكَ الشَّرِيعة. ويجوزُ أن يكونَ المَهْرُ شيئًا آخر، ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أو مِنْ: أَجَرْتُهُ كذا؛ إذا أَثَبْتَهُ إياه)، الأساس: يجعلُها أَجرًا على التزويج؛ يريدُ المهرَ مِنْ قولِه تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25]، كأنهُ قال: على أنْ تُمهِرَني عملَ هذه المُدّة. وأصلُه: أَجَرَكَ الله على ما فَعَلْت، وأنتَ مأجور. قولُه: (ومواصفةَ أمرٍ)، ((الأساس)): واصَفْتُهُ الشيءَ مُواصَفة، ونِهُيَ عنْ بيعِ المُواصَفةِ وهوَ أنْ يَبِيعَ الشيءَ بصفتِهِ وليسَ عندَه، ثُمّ يبتاعَهُ ويدفَعَه. قولُه: (أنْ يُمهِرَها)، وفي بعضِ النسخ: ((يَمْهُرَها)) بفتحِ الياء. يُقال: أَمْهَرَ المرأة: سَمّي لها مهرًا، ومَهَرَها: أعطاها مهرَها. وخُطّْئَ الحريريُّ في قولِه: وماهرًا لها كما مهرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمُّ سلمة؛ لأنّ حالةَ الخِطبةِ حالةُ التسمية، لا حالةُ إعطاءِ المهر.

وإنّما أرادَ أن يكونَ راعيَ غَنَمِه هذه المُدّةَ، وأرادَ أن يُنكِحَه ابنَتَه، فذكَرَ له المُرادَين، وعلَّقَ الإنكاحَ بالرِّعيةِ على معنى: أنِّي أفعلُ هذا إذا فعلتُ على وجهِ المُعاهدةِ لا على وجهِ المُعاقدة. ويجوزُ أن يستأجِرَه لرِعْيةِ ثماني سنينَ بمبلغٍ معلومٍ ويُوَفِّيَه إيّاه، ثمّ يُنكِحُه ابنَتَه به، ويجعلُ قولَه: {عَلَى أَن تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} عبارةً عمّا جرى بينَهما. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ} عَمَلَ عَشْرِ حِجَجٍ {فَمِنْ عِندِكَ} فإتمامُه من عندك. والمعنى: فهو من عِندِك لا من عِنْدِي، يعني: لاَ أُلزِمُكَهُ ولا أَحتِمُه عليك، ولكنّك إنْ فعلتَه فهُوَ منكَ تَفَضُّلٌ وتَبرُّع، وإلاّ فلا عَلَيْك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزامِ أتمِّ الأجَلَينِ وإيجابِه. فإن قلتَ: ما حقيقةُ قولِهم: شقَقْتُ عليه، الأمرُ؟ قلتُ: حقيقتُه أنَّ الأمرَ إذا تعاظَمَكَ فكأنَّه شقّ عليك ظنُّك باثنَيْنِ، تقولُ تارةً: أُطيقُه، وتارةً: لا أُطيقُه. أو وعَدَهُ المُساهَلةَ والمُسامحةَ من نفسِه، وأنّه لا يَشُقُّ عليه فيما استَاجَرَه له من رَعيِ غَنَمِه، ولا يفعل نحوَ ما يفعلُ المُعاسِرونَ من المُسترعِينَ، من المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ، والمُداقَّةِ في استيفاءِ الأعمال، وتكليفِ الرُّعاةِ أشغالاً خارجةً من حدِّ الشَّرْط، وهكذا كانَ الأنبياءُ عليهُم السّلامُ آخذينَ بالأسْمَحِ في مُعاملاتِ النَّاس. ومنه الحديثُ: ((كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شريكي، فكانَ خيرَ شريكٍ لا يُدارِي ولا يُشارِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإنما أرادَ أنْ يكونَ راعيَ غَنَمِه)، غايةُ ما يُقالُ: إنّ هذا عقدٌ فيهِ خطر؛ حيثُ عُلِّقَ بهِ عَقْدُ النكاح، وهذا لا يَقْدَحُ في بابِ النكاح؛ لأنّ النكاح لا يَفْسُدُ بالشروطِ الفاسدة. قولُه: (فكأنّهُ شَقّ عليكَ ظنُّكَ باثنَيْن)، يريدُ أنّ أصلَ المَشَقّةِ مِنَ الشّقِّ كما قالَ في الأنفال: والمُشاقّةُ مُشتَقّةٌ مِنَ الشّقّ؛ لأنّ كلاًّ مِنَ المُتَعادِيَيْنِ في شَقٍّ خِلافَ شَقٍّ صاحِبِه. قولُه: (أو وعده المساهلة)، عطفٌ على قولِه: ((وما أريدُ أنْ أشُقّ عليكَ بإلزامِ أتمِّ الأجلَيْن)). قولُه: (كانَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شريكي) الحديثُ رواهُ أبو داودَ عنِ السائبِ بنِ أبي السائبِ

ولا يُمارِي)) وقولُه: {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ اَلْصَّالِحِينَ} يدلُّ على ذلك، يريدُ بالصّلاح: حسنَ المُعاملةِ ووَطاءةَ الخُلُقِ، ولينَ الجانِب. ويجوزُ أن يريدَ الصَّلاحَ على العُموم. ويَدْخُلُ تحتَه حسنُ المُعاملة، والمُراد باشتراطِ مشيئةِ الله فيما وَعَدَ من الصَّلاح: الاتّكالُ على توفيقِه فيهِ ومَعُونَتِه، لا أنّه يستعملُ الصَّلاحَ إن شاءَ الله، وإن شاءَ استعملَ خِلافَه. {ذَلِكَ} مُبتدأ، و {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} خبرُه، وهو إشارةٌ إلى ما عاهَدَهُ عليه شُعَيب، يريد؛ ذلك الذي قلتُه وعاهدتَني فيه وشارطْتَنِي عليه قائمٌ بينَنا جميعًا، لا نَخْرُجُ كلانا عنه، لا أنا عمّا شرطتَ عليَّ ولا أنتَ عمّا شرطتَ على نفسِك. ثمّ قال: أيَّ أجلٍ قضيتُ من الأجَلَيْنِ: أطولَهما الذي هو العَشْر، أو أقصَرَهُما الذي هو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يُثنونَ ويذكروني؛ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعلَمُكُم به)) فقلت: صدقتَ بأبي وأمي؛ كنتَ شريكي فنِعْمَ الشريك؛ كنتَ لا تُداري ولا تُماري. وفي روايةِ رزين: ((لا تُشاري)) بدلَ ((لا تُداري)). قالَ في ((الفائق)): المُماراة: المجادَلة، من: مَرْيِ الناقة؛ لأنُه يستخرجُ ما عندَهُ مِنَ الحُجّة. والمُداراة: المُخاتَلة، من: داراه؛ إذا خَتَلَه. ويكونُ تحقيقُ المداراةِ وهي مدافعةُ ذي الحقِّ عنْ حقِّه. والمشاراةُ: المُلاجّة. قولُه: (لا أنّهُ يَستعمِلُ الصّلاح)، أي ليسَ معنى ((إنْ شاءَ الله)) التعليقَ كما هوَ على ظاهرِه؛ إنما هوَ التبرُّكُ واستنزالُ التوفيق. ونحوُهُ قولُ أصحابِ الشافعي: أنا مؤمِنٌ إنْ شاءَ الله. قولُه: (قائمٌ بَيْنَنا)، خبرٌ لقولِه: ((ذلكَ الذي قُلْتُه))، أي: مُراعًى بَيْنَنا نتعاهدُهُ أنا وأنت؛ فيكونُ كالقائم، وهوَ على منوالِ قولِه: {اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلْصَّلَواةَ} [المائدة: 55، الأنفال: 3، النمل: 3، لقمان: 4] إذا أُريدَ بالإقامةِ التجلُّد؛ مِنْ قولِهم: قامَ بالأمر، وقامتْ الحربُ على ساقِها. قولُه: (لا يخرُجُ كِلانا)، ويجوز: ((لا نخرُجُ)) بالنونِ على تأكيدِ ((كلانا)) للضمير؛ كقولِه: ((ويعلمُ سنلقاهُ كِلانا)) بالنونِ والياء.

الثَّمان {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: لا يُعتَدى عليَّ في طلبِ الزِّيادةِ عليه. فإن قلتَ: تصوُّرُ العُدوانِ إنَّما هو في أحدِ الأجَلَيْن الذي هو الأقصَرُ؛ وهو المُطالبةُ بَتتِمَّةِ العَشْر، فما معنى تعليقِ العُدوانِ بهما جميعًا؟ قلتُ: معناهُ كما أنِّي طُولِبْتُ بالزِّيادةِ على العَشْرِ كان عُدوانًا لا شكَّ فيه، فكذلك؛ إن طُولِبتُ بالزِّيادةِ على الثَّمان. أرادَ بذلك تقريرَ أمرِ الخيار، وأنّه ثابتٌ مُستقِر، وأنَّ الأجلين على السَّواءِ: إمّا هذا وإمّا هذا من غيرِ تَفاوُتٍ بينَهُما في القضاءِ، وأمّا التَّتمّةُ فموكُولةٌ إلى رأيي: إن شئتُ أتيتُ بها، وإلاّ لم أُجْبَرْ عليها. وقيل: معناه فلا أكونُ معتديًا، وهو في نفيِ العُدوانِ عن نفسِه، كقولِك: لا إثمَ عليَّ، ولا عليَّ. وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ: (أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ). وقرئَ: (أيْما) بسُكونِ الياءِ، كقولِه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرِئَ ((أيْما)) بسكونِ الياء)، قالَ ابنُ جِنِّي: ((هيَ قراءةُ الحَسَن، وفي تخفيف هذهِ الياءِ طريقان: أحدُهما: تضعيفُ الحرف، وقد امتدَّ عنهُمْ حذفُ أحدِ المثلَيْن؛ نحو: أحَسْتُ وأمَسْتُ. والآخرُ: أنّ الياءَ حرفٌ ثقيلٌ مُنفَرِدة؛ فكيفَ بِها إذا ضُعِّف؟ واعلَمْ أنّ ((أيا)) عندَنا مِمّا عينُهُ واوٌ ولامُهُ ياء؛ فهوَ مِنْ بابِ ((أوَيْت)) قياسًا واشتقاقًا. أما القياسُ؛ فإنّ الأصلَ ((أوي)) فاجتمعَ الواوُ والياء، وسُبِقَتِ الواوُ بالسكونِ فقُلِبَتْ ياءً وأُدغِمَت. وأما الاشتقاقُ؛ فإنها أينَ وقَعَتْ هيَ بعضٌ مِنْ كل، كقولِنا: أيُّ الناسِ عندَك؟ وبعضُ الشيءِ آوٍ إلى جميعِه؛ فأصلُها على هذا ((أوي)) ثُمّ أُدغِمَتْ كما مضى. فإذا حُذِفَتِ الياءُ تخفيفًا؛ فإنها الثانية، فإذا زالتِ الثانية؛ أَوْجَبَ القياسُ أنْ تعودَ الأولى إلى أصلِها وهوَ الواو؛ فيُقال: أَوْ ما الأجَلَيْنِ قَضَيْت. والذي يَحْسُنُ عندِي إظهارُ العينِ ياء، وإنما حُذِفَتِ اللامُ تخفيفًا وهيَ مَنْوِيّةٌ مُرادة؛ فقُلِبَتِ العينُ ياءً لِيَدُلّ على إرادةِ الياءِ هيَ اللام، كما صَحّتِ الواوُ الثانيةُ في

تنَظَّرْتُ نَصرًا وَالسِّماكَينِ أيهُما ... عَليَّ من الغَيثِ استُهِلَّت مَواطرُه وعن ابنِ قُطيب: (عِدوان)، بالكَسْر. فإن قلتَ: ما الفرقُ بينَ موقِعَيْ (ما) المَزيدةِ في القِرَاءَتَيْن؟ قلتُ: وقعَتْ في المُستفيضةِ مؤكِّدةً لإبهام، أيْ: زائدة في شياعها، وفي الشّاذّةِ تأكيدًا للقضاء، كأنّه قالَ: أيّ الأجَلَينِ صمَّمْتُ على قضائِه وجرَّدْتُ عزِيمَتِي له. الوكيلُ: الذي وُكِلَ إليه الأمر، ولمّا استعملَ في موضعِ الشّاهدِ والمُهيمِنِ والمُقيت، عُدّيَ بعلي لذلك. رُويَ أنَّ شُعيبًا كانت عندَه عَصَا الأنبياءِ فقال لمُوسى باللَّيل: ادخُل ذلك البيتَ فخُذْ عصًا من تلكَ العصيّ. فأخذَ عصًا هبطَ بها آدمُ من الجنّة، ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثُونها حتّى وقعتْ إلى شعيب، فمسَّها وكان مكفوفًا، فضنَّ بها فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولِه: ((وكَحّلَ العينَيْنِ بالعواور)) دَلالةً على الياءِ في ((العواوير))، وإنما حُذِفَتْ استحسانًا وتخفيفًا لا وجوبًا. وأنْشَدَنا أبو عليِّ للفرزدق: تَنَظّرْتُ نَصْرًا والسّماكَيْن البيت). تَمّ كلامُ ابنِ جِنِّي. العوّار: الجبان، والجمع: العواوير، وإنْ شِئْتَ لَمْ تُعوِّضْ في الشعر، وقُلت: العواور. تَنَظّرْتُ: أي انتَظَرْت. والسّماكان: نجمان: الأعزل: وهو الذي لا شيءَ بَيْنَ يَدَيْه، والرامحُ: هوَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ الكواكب. وهلّ السحابُ واستَهَلّ: إذا انصَبّ شديدًا، و ((نصرًا)) اسمُ الممدوح، وأَيْهُما أصلُه: أَيُّهُما؛ فسَكّنَ الياءَ للضرورة، و ((من)) -في ((مِنَ الغَيْث)) - للبيان، والمواطِر: جمعُ ماطِرة؛ أي: سحابةٌ ماطِرة. المعنى: انتَظَرْتُ نصرًا ونَوْءَ السماكَيْن، أَيُّهُما استَهَلّتْ مَواطرُه عليّ مِنَ الغَيث؛ لأني لَمْ أُفرِّقْ بَيْنَ النّصْرِ وبَيْنَ السماكَيْنِ في الجُود. قولُه: (وفي الشاذة)، أي قراءةِ ابنِ مسعود؛ لأنّ ((ما)) على المشهورةِ: تأكيدٌ للمفعول، وفيهِ إيهام؛ فزادَ في إيهامِه. وفي الشاذّةِ: تأكيدٌ للفعلِ فزادَ في تأكيدِ إسنادِه.

غيرَها، فما وقع في يدهِ إلاّ هي سبعَ مرات، فعَلِمَ أنَّ له شأنّا. وقيل: أخَذَها جبريلُ بعدَ موتِ آدم، فكانتْ معه حتّى لقيَ بها مُوسى ليلاً. وقيل: أودَعَها شُعيبًا مَلَكٌ في صورةِ رجُل، فأمر بِنتَه أن تأتِيَه بعصا، فأتتْه بها فردَّها سبعَ مرّات، فلم تقعْ في يدِها غيرُها، فدفَعَها إليه، ثمّ نَدِمَ لأنَّها وديعةٌ، فتَبِعَه فاختصما فيها، ورضيا أن يَحكُمَ بينَهُما أوَّلُ طالعٍ، فأتاهُما المَلَكُ فقالَ: ألقِياها؛ فمن رفعها فهي له، فعالجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها، ورفعها مُوسى. وعن الحسَنِ: ما كانتْ إلا عصًا من الشجر اعتَرَضَها اعتراضًا. وعن الكلبيّ: الشجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوْسَج، ومنها كانت عصاهُ. ولمّا أصبحَ قال له شعيبٌ: إذا بلغتَ مَفرِقَ الطَّريقِ فلا تأخُذْ على يمينِك، فإنَّ الكَلأَ وإنْ كان بها أكثر، إلاّ أنّ فيها تِنِّينًا أخشاهُ عليك وعلى الغنم، فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليَمِين، ولم يقدرْ على كفِّها، فمشى على أثَرِها فإذا عشبٌ وريفٌ لم يَرَ مثلَه، فنامَ فإذا بالتِّنِّينِ قد أقبل، فحاربَتْه العصا حتّى قتلَتْه وعادت إلى جنبِ مُوسى داميةً، فلمّا أبْصَرَها داميةً والتِّنِّينُ مقتولاً ارتاحَ لذلك، ولما رجع إلى شعيبٍ مسَّ الغنم، فوجَدَها ملأي البُطونِ غزيرةَ اللَّبَن، فأخبَرَه مُوسى ففرِحَ، وعلِمَ لمُوسى والعصا شأنّا، وقال له: إنِّي وهبتُ لك من نَتاجِ غَنَمي هذا العامَ كُلَّ أدرَعَ وودرعاءَ، فأُوحيَ إليه في المنام: أن اضْرِبْ بعصاك مُستقى الغنم، ففعل، ثمّ سقي فما أخطأتْ واحدةً إلاّ وضعتْ أدرعَ ودرعاء، فَوَفى له بِشَرْطه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (اعتَرَضَها اعتراضًا)، أي: أخَذَها مِنْ عُرْضِ الشّجَر، أي: واحدٍ مِنَ الأشجار. الجوهري: قولُهم: اضرِبْ عَرْضَ الحائط؛ أي: اعتَرِضْهُ حيثُ وَجَدْتَ منهُ أيّ ناحيةٍ مِنْ نَواحِيه. قولُه: (أَدْرَعَ ودَرْعاء)، الجوهري: الأَدْرَعُ مِنَ الخيلِ والشاءِ: ما اسْوَدّ وابْيَضّ سائرُه، والأنثى: دَرْعاء.

[{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَأَىهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ *اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 29 - 32] سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأجلَينِ قضَى موسَى؟ فقال: (أبعدَهما وأبطأهما). وروي أنّه قال: (قَضى أوفَاهُما، وتزوَّج صُغرَاهُما)، وهذا خلافُ الرِّوايةِ التي سبَقَتْ. الجَذوَةُ- باللُّغاتِ الثّلاث، وقُرئَ بهنَّ جميعًا-: العُودُ الغَلِيظ، كانت في رأسِه نارٌ أو لم تَكُن، قال كُثَيِّرُ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأجلَيْنِ قضى)، الحديثُ مِنْ روايةِ البخاريِّ عنْ سعيدِ ابن جُبير قال: سألَنِي يهودي: أيّ الأجلَيْنِ قضى موسى؟ فقُلْت: لا أدري، حتى أَقْدَمَ على حَبْرِ العرب، فسألتُ ابنَ عباس، فقال: قضى أكثَرهُما وأطيَبَهما؛ لأنّ رسولَ الله إذا قالَ فعل. قولُه: (قضى أوفاهما)، أي: أطيَبَهما. قولُه: (وهذا خلافُ الروايةِ التي سَبَقَتْ)، أي: تزوّجَ صُغْراهُما، فإنهُ قال: كُبْراهُما كانتْ تُسمّى ((صفرا)) والصُّغرى ((صفيرا))، وصفرا هيَ ذهبَتْ به، وهيَ التي تزوّجَها. قولُه: (وقُرئَ بِهنّ جميعًا)، عاصم: بفتحِ الجيم، وحمزة: بضمِّها، والباقون: بكسرِها. ((الجذوة)) مبتدأ، والخبرُ ((العود))، وما بينهما معترضة.

باتَت حَواطِبُ ليلى يَلتمِسنَ لَها ... جَزلَ الجُذي غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ وقال: وألقَى على قَبسٍ من النَّارِ جَذوَةً ... شَدِيدًا عَليهِ حَرُّها وَالتِهابُها {مِن} الأُولى الثّانيةُ لابتداءِ الغاية، أي: أتاهُ النِّداءُ من شاطِئ الوادي من قِبَل الشَّجرة. و {مِنَ اَلْشَّجَرَةِ} بدَلٌ من قولِه: {مِن شَاطِئِ أَلْوَادِ}، بدلُ الاشتِمال؛ لأنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الجذوة: التي تبقى مِنَ الحطبِ بعدَ الالتهاب، الجمع: جُذّي بضمِّ الجيمِ وكسرِها. قالَ الخليل: يُقال: جَذا يجذو، نحو: جثا يجثو؛ إلا أنّ ((جذا)) أدلُّ على اللزوم، يُقال: جَذا القُرادُ في جنبِ البعير؛ إذا اشتدَّ التزاقُهُ به، ومنه: أجْذَتِ الشجرة: صارَتْ ذاتَ جَذْوَة، وفي الحديث: ((كَمَثَلِ الأَرزةِ المُجذِية)). الأرزةُ بفتحِ الراءِ وسكونِها: شجرةُ الأَرْزَن، وهوَ خشبٌ معروف، وقيل: هوَ الصنوبَر. قولُه: (باتَتْ حَواطِبُ ليلى) البيت، الحواطِب: الجواري اللاتي يطلُبْنَ الحَطَب، والجزل: الحَطَبُ اليابِسُ العظيم، والخَوّار: الضعيف؛ مِنَ الخَوْر، يقال: رُمْحٌ خَوّار، ورَجُلٌ خَوّار. والدّعَر: مصدرُ دَعَرَ دَعَرًا؛ فهوَ عودٌ دَعِر: رديءٌ كثيرُ الدُّخان، ومنهُ أُخِذَتِ الدّعارةُ وهي: الفِسْقُ والخُبْث. قولُه: (وألقى على قبس) البيت، الجَذْوة: القَبْسةُ مِنَ النار، والمرادُ بها النميمة؛ أي: ألقى على قبسٍ جَذْوةً مِنَ النميمة اشتدّ عليهِ حرُّها والتهابُها؛ لأنها هَيّجَتْ نارَ العداوةِ والفتنةِ بينَ القوم. استشهدَ بالبيتِ الأوّلِ على أنّ الجذوة: العودُ الغليظُ وليسَ في رأسِهِ نار، وبالبيتِ الثاني على أنّ الجذوة: هي التي على رأسِها نار.

الشَّجرةَ كانتْ نابتةً على الشاطِئ، كقولِه تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] وقُرئَ: {اَلْبُقْعَةِ} بالضَّمِّ والفتح. و {اَلرَّهْبِ} بفتحَتَيْن، وضمَّتَيْن، وفتح ٍ وسُكون، وضَمِّ وسكون: وهو الخوف. فإن قلتَ: ما معنى قولِه: {وَاَضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ}؟ قلتُ: فيه معنَيان، أحدُهما: أنَّ موسى عليه السَّلامُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كقولِه: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ})، يعني: إبدالُ {مِنَ اَلشَّجَرَةِ} مِنْ قولِه: {مِن شَاطِئ اَلْوَادِ} بإعادةِ العاملِ بدلَ الاشتمالِ كإبدالِ {لبُيُوتِهِمْ} مِنْ قولِه: {لِمَن يَكْفُرُ بِاَلرَّحْمَانِ}. قولُه: (وقُرِئَ: {اَلْبُقْعَةِ} بالضمِّ والفتح)، بالضمّ: سبعة، وبالفتح: شاذّة. قولُه: (و {الرَّهْبِ} بفتحتَيْن، حفص: {اَلرَّهْبِ} بفتحِ الراءِ وإسكانِ الهاء، والحرميان وأبو عمرو: بفتحِهما، والباقون: بضمِّ الراءِ وإسكانِ الهاء. الراغبك الرهب: مخافةٌ معَ تحرُّز. قولُه: (ما معنى [قوله: ] {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}؟ )، يعني: عَلّلَ الله تعالى قولَه: {وَلاَ تَخَفْ} بقولِه: {إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ} وعقّبَهُ بقولِه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} سدًّا يَعْضُدُ التعليل؛ فما موقعُ قولِه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ}؟ وأجاب: أنّ موسى عليهِ السلامُ خافَ خوفًا شديدًا وأُزعِجَ إزعاجًا قويًّا، كأنهُ قبلَ التّوَلِّي ألقى العصا حينَ صارتْ حيّةً بيدِه؛ فلّما أرادَ الله أنْ يُؤَمِّنَ جَاشَهُ ويُزيلَ خَوْفَهُ بها ويَنْهاهُ عمّا صَدَرَ عنهُ مِنَ الاتِّقاءِ باليدِ لغضاضتِه، ويَمْنَحَه بَدَلَهُ مُعجِزةً أخرى؛ قالَ أوّلاً: {وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ} إزالةً للخَوْف، وقالَ ثانيًا: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} امتنانًا عليهِ بمَوْهِبةٍ أخرى؛ مزيدًا لانشراحِ صدرِه، وقالَ ثالثًا: {وَأضْمُمْ

لمّا قلبَ الله العصا حيّةً: فَزِعَ واضطربَ، فاتَّقاها بيدِه كما يفعلُ الخائفُ من الشَّيءِ، فقيلَ له: إنَّ اتِّقاءَك بيدِك فيه غَضاضةٌ عند الأعداء. فإذا ألقَيْتَها فكما تنقلِبُ حيّةً، فأدخِلْ يدَكَ تحتَ عَضُدِك مكانَ اتِّقائِك بها، ثُمَّ أخرِجْها بيضاءَ ليَحصُلَ الأمرانِك اجتنابُ ما هو غضاضةٌ عليك، وإظهارُ مُعجِزةٍ أُخرى. والمرادُ بالجَناحك اليدُ؛ لأنَّ يدَيِ الإنسانِ بمنزلة جناحَيِ الطّائر. وإذا أدخلَ يدَه اليُمنى تحتَ عَضُدِ يدِه اليُسرى، فقد ضمَّ جناحَه إليه. والثّاني: أن يرادَ جناحِه إليه: تجلُّدُه وضبطُه نفسَه. وتشدُّدُه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} تعليمًا لهُ مكانَ اتقائِه بها. وفي الحقيقةِ قولُه: {اسْلُكْ يَدَكَ}، {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أمرٌ واحد؛ لأنّ معناه: اجعَلْ يَدَكَ اليُمْنى تحتَ عَضُدِكَ اليُسرى؛ لأنّ الجَناحَ عبارةٌ عنِ اليد، لكنْ صيّرَهُما شيئَيْن، ليُعَلِّقَ بكلٍّ غرضًا، وإليهِ الإشارةُ بقولِه: ((وإنما كَرّرَ المعنى الواحدَ لاختلافِ الغرضَيْن؛ وذلكَ أنّ الغَرَضَ في أحدِهِما خروجُ اليدِ بيضاء، والثاني إخفاءُ الرهب)) والإمامُ نقلَ الجوابَيْنِ مِنْ غيرِ زيادةٍ ونقصان، وقال: أحسنُ الناسِ كلامًا فيهِ صاحبُ ((الكشاف)). قولُه: (فاتّقاها بيدِه)، أي: جَعَلَ يَدَهُ حاجزةً بينَهُ وبيْنَ المخوفِ كما في حديثِ عليٍّ رَضِيَ الله عنه: ((كنا اتّقَيْنا إذا اتّقَيْنا برسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فلَمْ يَكُنْ إلى العدوِّ أقربُ مِنه)). قولُه: (غضاضة)، يُقال: غَضّ مِنهُ يَغُضُّ غضاضة؛ أي: وَضَعَ ونَقَصَ مِنْ قَدْرِه. و ((كما)) -في قولِه: ((فكما تنقلِب)) - مثلُه في قولِ بعضِهِم: كما أنهُ لا يعلمُهُ فغفرَ الله له، نقلَهُ المالكيُّ عنْ سيبويهِ. وقالَ في ((اللُّباب)): الكافُ في قولِهم: كما حَضَرَ زيدٌ قامَ عمروٌ للقِرانِ في الوُقوع. قولُه: (أنْ يُرادَ بضَمِّ جَناحِهِ [إليه]: تجلُّدُهُ وضبطُهُ نَفْسَه)، يعني: قولُه: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنايةٌ عنْ تجلُّدِهِ وضبطِه، وهوَ مأخوذٌ مِنْ فِعْلِ الطائرِ عندَ الأمنِ بعدَ الخوف؛ فيكونُ بهذا الوجهِ مستعارًا على التمثيل، والحاصلُ أنهُ في الأصلِ مستعارٌ مِنْ فعلِ

عندَ انقلابِ العصا حيّةً حتى لا يضطربَ ولا يرهَب؛ استعارةٌ من فعلِ الطّائر؛ لأنَّه إذا خافَ نشَرَ جناحَيْهِ وأرخاهُما. وإلاّ فجناحاه مضمومان إليه مُشَمَّران. ومنه ما يُحكي عن عمرَ بنِ عبدَ العزيزِ رحمهُ الله أنَّ كاتِبًا له يكتبُ بينَ يدَيْه، فانْفَلَتَتْ منه فَلْتَةُ رِيحٍ، فخَجِلَ وانكَسَر، فقامَ وضربَ بقَلَمِه الأرضَ، فقالَ له عمرُ: خُذ قَلَمَك، واضمُمْ إليك جناحَك، وليُفْرِخ رَوْعُك، فإنِّي ما سمِعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سمِعْتُها من نفسِي. ومعنى قولِه: {مِنَ اَلْرَّهْبِ} من أجلِ الرَّهْب، أي: إذا أصابَكَ الرّهبُ عندَ رُؤيةِ الحيّةِ فاضمُمْ إليك جناحَك: جُعِلَ الرَّهَبُ الّذي كان يصيبُه سببًا وعِلّةً فيما أُمِرَ به من ضَمِّ جناحِه إليه. ومعنى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}، وقولِه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحَدِ التَّفسِيرَينِ: واحدٌ؛ ولكن خُولِفَ بينَ العِبارَتَيْن، وإنِّما كُرِّرَ المعنى الواحدُ لاختلافِ الغَرَضَيْن؛ وذلك أنَّ الغرضَ في أحَدِهِما خروجُ اليَدِ بيضاءَ وفي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطائرِ عندَ هذهِ الحالةِ، ثُمّ كَثُرَ استعمالُهُ في التجلُّدِ وضَبْطِ النفسِ حتى صارَ مثلاً فيهِ وكنايةً عنه؛ فعلى هذا يكونُ تتميمًا لمعنى {إِنَّكَ مِنَ اَلْأَمِنِينَ}. قولُه: (وليُفْرٍخْ رَوْعُك)، الأساس: ومِنَ المجاز: أَفْرَخَ رَوْعُك؛ أي: خلا قلبُكَ مِنَ الهَمِّ خُلُوّ البَيْضةِ مِنَ الفَرْخ، هذا ظاهر. وأما ((أفرخ روعك)) فمَنْ رواهُ بالفتح فوجهُهُ أنْ يُرادَ زوالُ ما يتوقعُهُ المُرْتاع؛ فإذا زالَ انقلبَ الرّوْعُ أمنًا. جَعَلَ زوالَ المتوقّعِ الذي هوَ مُتعلّقُ الرّوْع بمنزلةِ الفَرْخِ مِنَ البيضة، وكَثُرَ حتى صارَ في معنى الكشفِ والزوال. قولُه: ((على أحد التفسيرَيْن)، وهوَ الوجهُ الأوّل؛ لأنّ المعنى على ما سَبَق: فأَدْخِلْ يدَكَ اليُمنى تحتَ عَضُدِكَ اليُسرى؛ فخُولِفَ بيْنَ العبارتَيْنِ بأنْ ذَكَرَ اليدَ أوّلاً والجناحَ ثانيًا، وإنما كرّرَ المعنى الواحدَ لِيُناطَ بكُلِّ مرّةٍ معنَى مُخالِف. وعلى الوجهِ الثاني قولُه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} مُجْرى على حقيقتِهِ كما في الأوّل؛ لكنّ قولَه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنايةٌ عنِ التجلُّدِ والتشدُّد.

الثّاني: إخفاءُ الرَّهَب. فإن قلتَ: قد جُعِلَ الجناحُ وهو اليَدُ في أحَدِ المَوضِعَيْنِ مضمُومًا وفي الآخَرِ مَضمُومًا إليه، وذلك قولُه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقولُه: {وَأضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] فما التّوفيقُ بينَهما؟ قلتُ: المرادُ بالجَناحِ المضموم: هو اليَدُ اليُمنى، وبالمَضْمُومِ إليه: اليدُ اليُسرى وكلُّ واحدةٍ من يُمنى اليَدَيْنِ ويُسراهُما: جَناحٌ. ومن بِدَعِ التّفاسير: أنَّ الرَّهْبَ: الكُمُّ، بلُغةِ حِمْيَرَ، وأنَّهم يقُولُون: أعطِني ممّا في رَهْبِك، ولَيْتَ شِعرِي كيفَ صحَّتُه في اللّغة؟ ! وهل سُمِعَ من الأثْباتِ الثِّقاتِ الّذينَ تُرتَضى عربِيَّتُهم؟ ثمّ ليتَ شعريْ كيفَ موقِعُه في الآية؟ وكيف تطبيقُه المَفْصِلَ كسائِرِ كلماتِ التَّنزيل؟ على أنّ موسى صلواتُ الله عليه ما كان عليهِ ليلةَ المُناجاةِ إلاّ زُرْمانِقةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ومِنْ بِدَعِ التفاسير: أنّ الرّهْب: الكُمّ، بلُغةِ حِمْيَر)، قالَ مُحيي السُّنة: قالَ الأصمَعيّ: سمعتُ بعضَ الأعرابِ يقولُ: أعطني ما في رَهبِك؛ أي: في كُمِّك. أي: اضمُمْ إليكَ يَدَكَ وأخرِجْهُ مِنَ الكُم؛ لأنُه تناولَ العصا ويدُهُ في كُمِّهِ وهوَ بعيد؛ ولهذا قال: ((ليت شعري كيفَ موقِعُهُ في الآية؟ )). قولُه: (مِنَ الأثبات)، الأساس: هوَ ثَبْتٌ مِنَ الأثبات؛ إذا كانَ ذا حُجّةٍ لِثِقَتِهِ في روايته، ووجدْتُ فلانًا مِنَ الثقاتِ والأعلامِ الأثبات. قولُه: (زُرْمانِقة)، النِّهاية: وفي حديثِ ابنِ مسعود: أنّ موسى عليهِ السلامُ أتى فرعونَ وعليهِ زُرْمانِقة، أي: جُبّةُ صُوف. والكلمةُ أعجمية، قيل: هيَ عبرانية، وقيل: فارسية؛ أصلُه: أُشْتُرْبانهْ؛ أي: متاعُ الجَمّال.

من صُوفٍ لا كُمَّيْ لها. {فَذَانِكَ} قرئَ مُخفَّفًا ومُشدَّدًا، فالمُخَّففُ مُثنّى ذاك. والمُشدَّدُ مُثنّى ((ذلك)). {بُرْهَانَانِ} حُجَّتانِ بَيِّنَتانِ نيِّرَتان. فإنْ قلتَ: لمَ سُمِّيَتِ الحُجّةُ بُرهانًا؟ لبَياضِها وإنارَتِها من قولِهم للمرأةِ البيضاءِ: بَرَهْرَهةٌ، بتكريرِ العَيْنِ واللاّم معًا. والدَّليلُ على زِيادةِ النُّونِ قولُهم: أَبرَهَ الرَّجُلُ، إذا جاءَ بالبُرهان. ونظيرُه تسمِيَتُهُم إيّاها سلطانًا؛ من السُّليطِ وهو الزَّيتُ، لإنارَتِها. [{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} 33 - 34] يقالُ: رَدَاتُه: أَعَنتُهُ. والرِّدْءُ: اسمُ ما يُعانُ به، (فِعْلٌ) بمعنى (مفعولٍ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لا كُمّيْ لها)، مثل: لا غُلامَيْ لك، ولا أبا لك، في سقوطِ النونِ وإقحامِ اللامِ بيْنَ المضافِ والمضافِ إليهِ لتأكيدِ الإضافة. قولُه: (قُرِئَ مُخفّفًا ومُشدّدًا)، ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو: ((فذانِّك)) بتشديدِ النون، والباقون: بتخفيفِها. قولُه: (والمُشَدّدُ مُثَنّى ((ذلك)))، قيل: أصلُه: ذانِ لك؛ قُلِبَتِ اللامُ نونًا وأُدغِمَتِ النونُ في النون. وقالَ الزجّاج: وكأنَّ ((ذانِّكَ)) مُشَدّدًا تثنيةُ ((ذلك))، و ((ذانِكَ)) مخفّفًا تثنيةُ ((ذاك))؛ جَعَلَ بَدَلَ اللام تشديدَ النونِ في ((ذانّك)). قولُه: (بَرَهْرَهَة)، الأساس: أَبْرَهَ فلان: جاءَ بالبُرهان، وبَرْهَنَ مُوَلّد، والبُرهان: بيانُ الحُجّةِ وإيضاحُها؛ مِنَ البَرَهْرَهة، وهيَ البيضاءُ مِنَ الجواري؛ كما اشْتُقّ السلطانُ مِنَ السليطِ لإضاءتِه. قولُه: (والرِّدْء: اسمُ ما يُعانُ به)، الراغب: الرِّدْءُ الذي يَتْبَعُ غيرَهُ مُعينًا له، وقد أردأني، والرِّدءُ في الأصلِ مثلُه؛ لكنْ تعورِفَ في المتأخِّرِ المذموم، يُقال: رَدَأَ الشيءُ رداءة؛ فهوَ رديء.

كما أنَّ الدِّفءَ اسمٌ لما يُدفَأُ به. قالَ سلامةُ بنَ جَنْدلٍ: ورِدئي كُلُّ أبيضَ مَشرَفيٍّ ... شَحِيذِ الحَدِّ عَضبٍ ذِي فُلُولِ وقُرِئَ: (رِدًا) على التخفيف، كما قُرئَ (الخِبَ). {رِدْءًا يُصَدِّ قُنِي} بالرَّفْعِ والجَزْمِ صفةٌ وجوابٌ، ونحو: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} سواء. فإن قلتَ: تصديقُ أخيه ما الفائدةُ فيه؟ قلتُ: ليسَ الغَرَضُ بتصديقِه أنْ يقولَ له: صدقتَ، أو يقولَ للناسّ: صدقَ مُوسى، وإنَّما هو أن يُلَخِّصَ بلسانِه الحقَّ، ويَبْسُطَ القولَ فيه، ويُجادِلَ به الكفَّارَ- كما يفعلُ الرَّجُلُ المِنْطِيقُ ذو العارِضةِ، فذلك جارٍ مَجرى التَّصديقِ المُقيَّدِ، كما يُصدَّقُ القَولُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كما أنّ الدِّفْءَ اسمٌ لِما يُدْفَأُ به)، الجوهري: الدِّفْء: السخونة؛ تقولُ مِنه: دَفِئَ الرجلُ دَفاءة؛ مثل: كَرِهَ كَراهة، وكذلك: دَفِئَ دَفَأً؛ مثل: ظَمِئَ ظَمَأَ، والاسم: الدِّفْءُ، بالكسر، وهو: الشيءُ الذي يُدفِئُك، والجمع: الأَدْفاء. قولُه: (ورِدْئي كلُّ أبيضَ) البيت، أي: عوني كلُّ سيفٍ مصقولٍ شحيذٍ حديدٍ عَضْبٍ ماضٍ، المَشْرَفيّ: منسوبٌ إلى مشارِفِ الشام، والفُلول: الكَسْرُ في حَدِّ السيف. قولُه: (وقُرِئَ: ((رِدًا)) على التخفيف)، نافع: ((رِدًا)) بفتحِ الدالِ مِنْ غيرِ همز، والباقون: بإسكانِ الدالِ وبالهمز، وحمزة: على مذهبِهِ في الوقف. قولُه: ({يَصَدِّقُنِي} بالرفعِ والجزم)، عاصمٌ وحمزة، والباقون: بالجزم. وعلى قراءةِ الرفعِ: الجَوابُ محذوف. قولُه: (ذو العارضة)، النِّهاية: في حديثِ عَمرِو بنِ الأهتم: قالَ للزِّبْرِقان: إنهُ شديدُ العارضة؛ أي: شديدُ الناحيةِ ذو جَلَدٍ وصرامة.

بالبُرهان؛ ألا تَرى إلى قولِه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}، وفضلُ الفصاحةِ إنَّما يُحتاجُ إليه لذلك، لا لقولِه: صدقتَ؛ فإنَّ سَحْبانَ وباقلاً يستَوِيانِ فيه-، أو يَصلَ جناحَ كلامِه بالبيان، حتّى يُصدِّقَه الذي يَخافُ تكذيبَه، فأُسنِدَ التَّصديقُ إلى هرونَ؛ لأنَّه السببُ فيه إسنادًا مجازيًّا. ومعنى الإسنادِ المجازيِّ: أنَّ التَّصديقَ حقيقةٌ في المُصدِّقِ، فإسنادُه إليه حقيقةٌ، وليس في السَّببِ تصديقٌ، ولكنِ استُعِيرَ له الإسنادُ؛ لابَسَ التَّصديقَ بالتَّسَبُّبِ كما لابَسَهُ الفاعِلُ بالمُباشَرةِ. والدَّليلُ على هذا الوجهِ قولُه: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} وقراءة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويصلَ جَناحَ كلامِهِ بالبيان)، شَبّهَ الكلامَ الماضي بالسّهْمِ المُرْسَل، فإذا وصلَ السّهْمُ بالجَناح؛ قَصَدَ الرّمِيّةَ فلا يلتوِي عندَها، كَذلكَ الكلامُ إذا بُيَنِّ وزِيدَ في بُرْهانِه؛ تَمَكّنَ عندَ السامعِ وأخذَ بمجامعِ قلبِه. والفرقُ بينَ هذا الوجهِ هوَ أنّ هارونَ في الأَوّلِ كانَ ناقلاً لكلامِ موسى عليهما السلامُ ومؤدِّيًا على وجهٍ أبْيَنَ وأكْشَف؛ فمعنى {يُصَدِّقُنِي}: يُلخِّصُ كلامي، فإنّ الكلامَ المُلَخّصَ مؤثِّر؛ فكأنّهُ يُصدِّقُهُ فيما ادّعاه، والمعنى على الثاني: يؤيّدُ كلامي بالبرهانِ والبيان؛ فيصدِّقني قومي بسَبَبِه. فالمصدِّقُ على الأوّلِ هارون، وعلى الثاني القوم. والأوّلُ مِنْ إطلاقِ المُسَبِّبِ على السّبَب، والثاني مِنَ الإسنادِ المجازي. قولُه: (ومعنى الإسناد المجازي)، يعني: أنّ التصديقَ حقيقةٌ في القوم وهُمُ الذينَ يباشرونَهُ بأنفسِهم؛ فإسنادُ الفعلِ إليهم حقيقة، وليس في هارون تصديق؛ ولكنْ لمّا كانَ السببَ في التصديقِ استُعيرَ الإسنادُ له، ونحوُه: بني الأميرُ المدينة؛ والأميرُ إنما أمرَ بالبناء، فأسندَ إلى الحاملِ كما أسندَ إلى المباشر. قولُه: (والدليل على هذا الوجه قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ})، لأنّ التقدير: أرسلْهُ

من قرأ: (ردءًا يُصَدِّقُوني)، وفيها تقوِيةٌ للقراءةِ بجَزْمِ (يُصَدِّقْني). [{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} 35] العَضُدُ: قَوامُ اليَدِ، وبِشِدَّتِها تشتَدُّ. قالَ طَرَفةُ: أبَني لُبَينَى لَستُمُ بِيَد ... إلاَّ يدًا ليسَتْ لَها عَضُدُ ويُقالُ في دُعاءِ الخَير: شَدَّ الله عَضُدَك، وفي ضِدِّه: فتَّ الله في عَضُدِك. ومعنى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنُقَوِّيك به ونعينُك، فإِمّا أن يكونَ ذلك لأَنَّ اليَدَ تشتَدُّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معي ليكونَ سببًا لأنْ يُصدِّقَني قومي. فقيلَ له: لِمَ ذلك؟ فأجاب: إني أخافُ أنْ يُكذِّبون. وهوَ الوجه؛ لأنُه مقابلٌ لقولِه: {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}. ولمّا كانَ جُلّ غَرَضِهِ عليهِ السلامُ الدينُ وكانَ يُؤْثِرُه على حظِّ نفسِه؛ جاءَ بـ ((أنْ)) في هذا التعليل، وبالفاءِ في الأوّل؛ لأنُه تعليلٌ لتصديقِ القوم، كأنُه قيل: أَرْسِلْهُ معي رِدْءًا لأَن يُصَدِّقْني قومي؛ لأني أخافُ أنْ يُكذِّبون. قولُه: (وفيها)، أي: في قراءةِ ((يُصدِّقوني)) تقويةٌ لقراءةِ مَنْ جَزَم؛ لأنّ ((يُصدِّقوني)) لا يصلحُ أنْ يكونَ صفةً لقولِه: {رِدْءًا}؛ لعَدَمِ المطابقة؛ فتعيّنَ أنْ يكونَ جوابًا؛ وذلكَ لأنّ كلتا القراءتَيْنِ تدلُّ على أنّ الإرسالَ علةٌ للتصديق، وتقريرُه: أنْ يُصدِّقوني؛ استئنافٌ كأنهُ قيل: لِمَ تَرسِلُه؟ فقيلَ في الجواب: يُصدِّقوني أي: لَأجْلِ أنْ يُصَدِّقوني؛ اعتمادًا على فهمِ السامِع. و ((يُصدِّقْني)) بالجزمِ جوابُ الأمر؛ فيكونُ معناه: أنْ تُرسِلَهُ معي يُصَدِّقْني؛ فالأوّلُ سببٌ للثاني. قولُه: (أَبَني لُبَيْني) البيت، لُبَيْني: مُصَغّرٌ اسمُ أَمة؛ عَيّرَهُم بكَوْنِهم أبناءَ أَمة، ونَصَبَ ((يدًا))، والمستثنى منهُ مجرورٌ بالباء؛ فجعلَ الاستثناءَ مِنَ مَوضِعِ الباءِ لا مِنْ لفظِه. قولُه: (ومعنى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}: سنُقَوِّيكَ بهِ ونُعينُك؛ فإمّا أنْ يكونَ)،

بِشِدّةِ العَضُد. والجملةُ تقوي بشِدّةِ اليَدِ على مزاوَلةِ الأُمور. وإمّا لأنَّ الرَّجُلَ شُبِّهَ باليَدِ في اشتِدادِها باشتدادِ العَضُد، فجُعِلَ كأنَّه يَدٌ مُشتدّةٌ بعَضُدٍ شديدةٍ. {سُلْطَانًا} غلبةً وتسَلُّطًا. أو حُجّةً واضِحةً {بِئَايَتِنَا} متعلِّقٌ بنحوِ ما تعلَّقَ به {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}، أي: اذهبا بآياتِنا. أو بـ {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}، أي: نسلِّطُكما بآياتِنا. أو بـ (لا يَصِلون)، أي: تمتنِعُون منهُم بآياتِنا. أو هو بيان لـ {اَلْغَالِبُونَ} لا صلةٌ، لامْتِناعِ تقدُّم الصِّلةِ على المَوْصُول. ولو تَأَخَّرَ لم يَكُنْ إلاّ صلةً له. ويجوزُ أن يكونُ قَسَمًا جوابُه: {فَلاَ يَصِلُونَ}، مُقدَّمًا عليه. أو من لَغْوِ القَسَم. [{لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 36] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: أنّ قولَه: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} عبارةٌ عنْ قولِنا: سنُقَوِّيك، وطريقُهُ وجهان: أحدُهما: أنْ يكونَ مجازًا مُرسلاً مِنْ بابِ إطلاقِ السّبَبِ على المُسَبّبِ بمَرْتَبَتَيْن؛ فإنّ الأصل: سنُقَوِّيك به، ثُمّ نُقَوِّي يَدَكَ به، ثُمّ سَنشُدُّ عَضُدَكَ به. وثانيهما: أنْ يكونَ استعارة؛ شَبّهَ حالةَ موسى بالتّقَوِّي بأخيهِ بحالةِ اليدِ المُتَقَوِّي بالعَضُد؛ فجُعِلَ كأنُهُ يدٌ مُشتَدّةٌ بعَضُدٍ شديدة. قولُه: (أو هوَ بيانٌ لـ {أَلْغَالِبُونَ} لا صِلة)، كأنُه قيل: بماذا نَغْلِبُ؟ وأُجيبَ: {بِئَايَتِنَا}. قولُه: (قَسَمًا جوابُه: {فَلاَ يَصِلُونَ})، فيهِ تساهُل؛ لأنّ جوابَ القَسَمِ لا يتقدّمُ عليه، ولا يكونُ فيهِ فاء. ولعلّ مُرادَهُ أنّ ما قبلَهُ يَدُلُّ على أنّ جوابَهُ محذوف. قولُه: (أو مِنْ لَغْوِ القَسَم)، قيل: أيْ لا جوابَ له؛ يعني: مطلقًا لا لفظًا ولا تقديرًا؛ بلْ جيءَ بهِ مُقحَمًا لمجرّدِ التأكيد؛ كقولِك: زيدٌ وأبيكَ منطلق. قالَ صاحبُ ((الفرائد)): جوابُه محذوف؛ لأنّ التقديرك زيدٌ منطَلِقٌ والله إنّ زيدًا لمنطَلِق، تُرِكَتْ لِدَلالةِ الجملةِ المذكورة. وإنّما سُمِّيَ لَغْوًا؛ لأنّ القائلَ غيرُ قاصدٍ القَسَم، وإنّما أُجرِيَ على لسانِهِ بطريقِ العادة. وقلتُك هذا لا يجوزُ في كلامِ الله المجيدِ لا سيّما مِنَ الله تعالى.

{سِحْرٌ مُّفْتَرًى} سِحْرٌ تعمَلُه أنتَ، ثمّ تفتَرِيهِ على الله. أو: سحرٌ ظاهرٌ افتِراؤُه. أو: موصوفٌ بالافتراءِ أنواعِ السِّحرِ، وليسَ بِمُعجزةٍ من عندِ الله. {فِي آبَائِنَا} حالٌ منصوبةٌ عن هذا، أي: كائنًا في زمانِهِم وأيّامِهِم، يريدُ: ما حُدِّثْنا بكَونه فيهم، ولا يخلو من أن يكُونُوا كاذِبِينَ في ذلك، وقد سمِعُوا وعَلِمُوا بنَحْوِه. أو يريدوا أنَّهم لم يسمَعُوا في فَظاعتِه. أو: ما كانَ الكُهّانُ يُخبِرُون بظُهورِ مُوسى ومجيئهِ بما جاءَ به. وهذا دليلُ أنَّهم حُجُّوا وبُهِتُوا، وما وَجَدُوا ما يدفَعُون به ما جاءَهم من الآيات إلاّ قولهم: هذا سحرٌ وبِدْعةٌ لم يسمعوا بمِثْلِها. [{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 37] يقولُ: {رَبِّي أَعْلَمُ} منكم بحالِ مَن أَهَّلَهُ الله للفَلاحِ الأَعْظمِ، حيث جعلَه نبيًّا وبَعَثَهُ بالهُدى، ووَعَدَهُ حُسنَ العُقبى: يعني نفسَه، ولو كانَ -كما تزعمُون- كاذبًا ساحِرًا مُفتَرِيًا لما أهَّلَهُ لذلك؛ لأنّه غنِيٌّ حَكِيمٌ لا يُرسِلُ الكاذِبِينَ، ولا يُنَبِّئُ السَّاحِرِينَ، ولا يُفلِحُ عندَه الظّالمون. و {عَاقِبَةُ اَلْدَّارِ} هي العاقبةُ المحمودةُ. والدَّلِيلُ عليه قولُه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ} وقولُه: {وَسَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَن عُقْبَى اَلْدَّارِ} [الرعد: 42]، والمُرادُ بالدّارِ: الدُّنيا، وعاقِبتُها وعُقباها: أن تُختَمَ للعبدِ بالرَّحمةِ والرِّضوان وتَلَقِّي الملائكةِ بالبُشرى عندَ الموَت. فإن قلتَ: العاقبةُ المحمودةُ والمذمومةُ؛ كِلْتاهُما يصحُّ أنْ عاقبةَ الدّار؛ لأنَّ الدُّنيا إمّا أن تكون خاتِمتُها بخيرٍ أو بشرٍّ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أو موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أنواعِ السِّحْر)، هذا بناءٌ على مذهبِهِ أنّ السِّحْرَ لا أَثَرَ في لهُ في نفسِه، وأنهُ حِيلةٌ وتَمْويه؛ كما نَصّ عليهِ في البقرةِ عندَ قولِه: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فعلى هذا الوجهِ {مُّفْتَرًى} باقٍ على إطلاقِه، وهوَ صفةٌ مؤكِّدة، وعلى الوجهِ الأولِ صفةٌ مُخصّصةٌ مُقيّدةٌ بما ذكَره؛ أي: ما جئتَ بهِ ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سِحْرٌ تفتريهِ أنتَ على الله، أو: ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سحرٌ ظاهرٌ غيرُ خافٍ على أحد.

فَلِمَ اختُصّتْ خاتمتُها بالخَيْرِ بهذه التَّسميةِ دُونَ خاتِمتِها بالشَّرِّ؟ قلتُ: قد وضَعَ الله سبحانَه الدُّنيا مجازًا إلى الآخرة وأراد بعبادِه أن لا يعمَلُوا فيها إلاّ الخير، وما خلَقَهُم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (الدنيا مجازًا إلى الآخرة)، أي: موضعُ الجوازِ وممرٌّ إلى الآخرة. قولُه: (وأرادَ بعباده أنْ لا يعملوا فيها إلا الخير)، وهوَ مدفوعٌ بقولِه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. قالَ مُحيي السُّنة: {وَمَن تَكُونُ لَهُ, عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العُقْبى المحمودة. وقلتُ: لعلّ معنى كونِها محمودةً أنها مُقتَرِنةٌ بقولِه: {لَهُ,}؛ فلَوْ قيل: ((عليه)) أو ما يجري مَجْراها -كما سيجيءُ بُعَيْدَ هذا {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةً الظَّالِمِينَ} - لانْقَلَبَتْ إلى السُّوء، ولوْ يُقيِّدْها بأحدِهِما جازَ أنْ تُقيّدَ بالمحمودة أو بالسُّوء. الانتصاف: أما وَجْهُ العاقبةِ المطلَقةِ وإرادةِ الخيرِ بِها فهوَ أنّ الله هدى الناسَ إليها ووعدَهُمْ ما في سُلوكِها مِنَ النجاةِ- إذ هي المأمُور بها، وعوملت معاملةَ ما هو مراد، وإن لم تكن مرادة- والنعيم، ونهاهُمْ عَنْ ضِدِّها وتَوَعّدَ عليهِ بالعقابِ الأليم، وركّبَ فيهِمْ عقولاً تُرشِدُهمْ إلى عاقبةِ الخير، وأزاحَ عِللهم؛ فكانَ مِنْ حَقِّهِمْ أنْ يَسلُكُوا طريقَ الخير، وأنْ يَجعلُوها نُصْبَ أَعيُنِهِم؛ فأُطلِقَتِ العاقبةُ للخيرِ لذلك؛ إذْ هيَ المأمورُ بها، وعُومِلَتْ معامَلَةَ ما هوَ مرادٌ وإنْ لَمْ تكُنْ مُرادة. ثُمّ قال: ((لولا قولُه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} [الرغد: 25] لقُلْتُ: استعمالُ اللامِ هوَ الدالُّ على كونِها خيرًا، واستعمالُ ((عليهم)) على كونِها شَرًّا)). وقلتُ: الآيةُ غيرُ مانِعةٍ عنْ ذلك؛ فإنّ قرينةَ اللعنةِ والسُّوءِ مانِعةٌ عنْ إرادةِ الخير، وإنّما أتى بـ {لَهُ,} ليُؤذِنَ أنّهُما حقّانِ ثابتانِ لهُمْ لازمانِ إياهم. ويَعْضُدُهُ التقديمُ المفيدُ للاختصاص.

إلاّ لأجْلِه؛ لِيتَلقَّوا خاتِمةَ الخَيرِ وعاقِبةَ الصِّدقِ، ومَن عَمِلَ فيها خلافَ ما وضَعَها الله لهُ فقد حرّف؛ فإذن عاقبتُها الأصْليّةُ هي عاقِبةُ الخَيرِ. وأمّا عاقبةُ السُّوءِ فلا اعتِدادَ بها؛ لأنّها من نتائِج تحريفِ الفُجّار. وقرأَ ابنُ كثيرٍ: (قال موسى) بغيرِ واوٍ، على ما في مصاحفِ أهلِ مكّةَ، وهي قراءةٌ حسنةٌ؛ لأنَّ الموضِعَ مَوضِعُ سؤالٍ وبحثٍ عمّا أجابَهُم به مُوسى عليه السَّلامُ عند تسمِيتَهِم مِثْلَ تلك الآياتِ الباهرةِ سِحرًا مُفترى. ووجهُ الأُخرى: أنَّهم قالُوا ذلك. وقالَ مُوسى عليه السَّلامُ هذا، ليُوازِنَ النّاظِرُ بينَ القَوْلِ والقَوْلِ، ويتبصّرَ فسادَ أحدِهِما وصحّةَ الآخَر، وَبِضِدِّهَا تَتَبيَّنُ الأشياءُ. وقُرئَ: {تَكُونُ} بالياءِ والتّاء. [{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 38] رُويَ أنّه لمّا أَمَر ببِناءِ الصَّرح، جَمعَ هامانُ العُمّال حتّى اجتمعَ خمسونَ ألفَ بنّاءٍ سوى الأتباعِ والأُجَراء، وأمرَ بطَبْخِ الآجُرِّ والجِصِّ، ونَجَرَ الخشبَ وضَرَبَ المَسامِير، فشيَّدُوه حتّى ما لمْ يبلُغهُ بنيانُ أحدٍ من الخَلْق، فكان الباني لا يقدِرُ أن يقِفَ على رأسِه يبنى، فبعثَ الله تعالى جبريلَ عليهِ السَّلامُ عند غُروبِ الشَّمس، فضربَه بجَناحِه فقَطَعَه ثلاثَ قِطَع: وقعتْ قطعةٌ على عَسْكَرِ فِرعَونَ فقتلتْ ألفَ ألف رجُلٍ، ووقعتْ قطعةٌ في البحر، وقِطعةٌ في المغرِب، ولم يبقَ أحدٌ من عُمّالِه إلاّ قد هَلَك. ويُروى في هذه القصّة: أنَّ فرعونَ ارتقى فوقَه فرمى بنُشّابِه نحوَ السّماء، فأرادَ الله أن يَفتِنَهم فرُدَّت إليه وهي ملطوخةٌ بالدَّم؛ فقالَ: قد قتلتُ إله موسى، فعندَها بعثَ الله جبريلَ عليهِ السَّلامُ لهَدْمِه، والله أعلمُ بصحّتِه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرِئَ {يَكُونَ} بالياءِ والتاء)، حمزةُ والكسائي: بالياءِ التحتانية، والباقون: بالتاء.

قَصَدَ بنفْي عِلْمِه بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودهِ، معناه: ما لكم من إلهٍ غيري، كما قال عزّ وجلّ: {قَلْ أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] معناه: بما ليسَ فيهنَّ، وذلك لأنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ لا يتعلّق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشّيءُ معدومًا لم يتعلَّقْ به موجودًا، فمن ثمَّ كان انتفاءُ العلمِ بوُجودِه لانتفاءِ وجودِه. وعُبِّرَ عنِ انتفاءِ وُجودِه بانتِفاءِ العلمِ بوُجودِه. ويجوزُ أن يكونَ على ظاهرِه، وأنَّ إلهًا غيرَه غيرُ معلومٍ عندَه، ولكنَّه مظنونٌ بدليلِ قولِه: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ, مِنَ أَلْكَاذِبِينَ}، وإذا ظنَّ موسى عليه السَّلامُ كاذبًا في إثباتِه إلهًا غيرَه ولم يعلَمْهُ كاذبًا، فقد ظنَّ أنَّ في الوُجودِ إلهًا غيرَه، ولو يكُنِ المَخذُولُ ظانًّا ظنًّا كاليَقِين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (قَصَدَ بنفي علمِهِ بإلهٍ غيرِه: نفيَ وجودِه)، الانتصاف: وَهِمَ فيهِ الزمخشري؛ لأنّ الله عبَّرَ عنْ نفيِ المعلومِ بنفيِ العلم في قولِه: {أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ} [يونس: 18]؛ فظنّ أَنّ سِرّ التعبيرِ شاملٌ لكلِّ تعلُّقٍ بالمعلوم، وليسَ كذلك؛ بلْ هذا التعبيرُ لا يكونُ إلا في علمِ الله؛ لعمومِ تعلُّقِهِ بجميع المعلومات؛ حتى لا يعزُبُ عنهُ مِثقالُ ذَرّة، وعِلْمُ المخلوقينَ ليستْ لهُ هذهِ الدرجة. وقلتُ: إنّ فِرعونَ كانَ يدّعي الإلهية؛ فعامَلَ بعِلْمِهِ معامَلَةَ عِلْمِ الله؛ ومِنْ ثَمّ طغى وتكبّرَ وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}، ولمْ يَقُلْ: اطبخْ لي الآجُر؛ تعاظُمًا، كما قالَ مَنْ لَهُ العظَمةُ حقيقةً: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلْنَّارِ} [الرعد: 17]. ومِنْ تعاظُمِهِ نداؤُهُ لوزيرِهِ باسمِهِ وبحرفِ النداء، وتوسيطِ ندائِهِ خلالَ الأمر. قولُه: (ويجوزُ أنْ يكونَ على ظاهرِه)، يعني أنّ قولَه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إلَهٍ} واردٌ على الشكِّ وإجرائِهِ مَجْرى سائرِ علوم الخلقِ في أنُهُ لا يلزمُ مِنْ نفيِ تعلُّقِهِ بوجودِ أمرٍ نفيُ ذلكَ الأمر؛ فهوَ أحقرُ مِنْ ذلك، ويؤيِّدُهُ استعمالُهُ ((لعلّ)) والظنّ. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ الظاهرَ أنّ كلامَه الأوّلَ كانَ تمويهًا وتلبيسًا على القوم، والثاني مُواضَعةٌ معَ صاحبِ سِرِّهِ هامان؛ فإثباتُ الظنِّ في الثاني لا يَدفَعُ أنْ يكونَ نفيُ العِلمِ في الأوّلِ لنفيِ المعلوم.

بل عالمًا بصحّةِ قَولِ مُوسى عليه السَّلامُ لقولِ مُوسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاَءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] لَمَا تكلَّفَ ذلك البُنيانَ العظيم، ولَمَا تعبَ في بنائِه ما تعِب، لعلّه يطَّلِعُ بزَعْمِه إلى إلهِ مُوسى عليه السَّلام، وإن كانَ جاهلاً مُفرِطَ الجهلِ به وبصِفاتِه؛ حيثُ حَسِبَ أنّه في مكانٍ كما كانَ هو في مَكان، وأنّه يُطلَعُ إليه كما كان يُطلَعُ إليه إذا قَعَدَ في عِلِّيَّتهِ، وأنه مَلِكُ السَّماء؛ كما أنَّه مَلِكُ الأرض. ولا ترى بيِّنةً أثْبَتَ شهادةً على إفراطِ جهلِه وغباوَتِه وجهلِ مَلَئِه وغباوَتِهِم؛ من أنّهم رامُوا نَيْلَ أسبابِ السّمواتِ بصَرحٍ يبنُونَه، وليتَ شِعري؛ أكانَ يُلَبِّسُ على أهلِ بلادِه ويضحكُ من عقولِهم، حيثُ صادَفَهم أغبى النّاسِ وأخلاقُهم من الفِطَنِ وأشبَهُهُم بالبَهائِم بذلك؟ أم كانَ في نفسِه بتلكَ الصِّفة؟ وإنْ صحَّ ما يُحكي من رُجوعِ النُّشّابةِ إليه ملطوخةً بالدَّم، فتهكَّمَ به بالفعل، كما جاءَ التَّهَكُّمُ بالقَول، في غَيْرِ موضِعٍ من كتابِ الله بنُظرائِه من الكَفَرة. ويجوزُ أنْ يُفَسَّرَ الظَّنُّ على القَولِ الأوَّلِ؛ باليَقِين، كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (يُطلَعُ إليه)، المَطْلَع: المأتى؛ يُقال: أينَ مَطْلَعُ هذا الأمر؟ أي: مأتاهُ الذي يُطلَعُ عليهِ مِنْ إشرافٍ إلى انحدار. قولُه: (في عِلِّيّته)، أي: غُرْفتِه، هيَ فُعِّيلة؛ مثل: مُرِّيقة، وأصلُها: عُلِّيوة: وقيل: هيَ العِلِّيّةُ بالكسرِ على فِعِّيلة؛ جُعِلَ مِنَ المُضاعَف؛ إذْ ليسَ في الكلامِ فُعِّيلة. قولُه: (على القولِ الأوّلِ)، أي: على أنْ يكونَ القصدُ بنفيِ عِلْمِهِ في قولِه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} نفيَ وجودِ إلهٍ غيرِه؛ أي: ما لَكُمْ مِنْ إلهٍ غيري البتّة، وإني على يقينٍ أنّ موسى كاذب؛ فحينئذٍ يتناقضُ الأمرُ ببناءِ الصّرْح، كما قالَ فيما سبق: ((لوْ لمْ يَكُنِ المخذولُ ظانًّا؛ لَما تكلّفَ ذلكَ البُنيان)).

فقُلْتُ لهمْ ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ويكونُ بناءُ الصَّرح مناقضَةً لِما ادَّعاهُ من العلمِ واليَقِين، وقد خَفِيَتْ على قومِه لغباوَتِهم وبَلَهِهِم. أو لمْ تَخفَ عليهم، ولكنّ كلاًّ كانَ يخافُ على نفسِه سوطَه، وسيفَه، وإنّما قال: {فَأَوْقِدْلِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}، ولم يقُل: اطبُخ لي الآجرَّ واتَّخِذْه، لأنَّه أوّلُ من عَمِلَ الآجُرَّ، فهو يُعَلِّمَه الصَّنعة، ولأنَّ هذه العبارةَ أحسنُ طِباقًا لفصاحةِ القُرآنِ وعلوِّ طبقتِه، وأشبهُ بكلامِ الجبابرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فقلتُ لهمْ ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجّجٍ)، تَمامُه: سَراتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرّد مُدَجّج: مُغطّى في السلاح؛ مِنْ: دَجّجَتِ السماءُ إذا تَغَيّمَت، والسّراة: الرؤساء، وظُنُّوا -بضمِّ الظاء-: أمر، الفارسي: الدِّرْعُ المنسوبُ إلى الفارس، وهوَ مَثَلٌ في الجودة. يُنذِرُ قومًا بهجومِ جيشٍ تامِّ السلاح؛ أي: قلتُ لهم: أَيْقِنُوا بإتيانِ ذلكَ الجيش. قولُه: (أحسَنُ طِباقًا لفصاحةِ القرآن)، قالَ صاحبُ ((المثل السائر)): فانظرْ إلى قولِهِ تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ}؛ فإنُه لَمّا جيءَ بما يقتضي أنْ يَذكُرَ لفظَ ((الآجُرّ)) عَدَلَ مِنهُ إلى هذهِ العبارة، ولم يَذْكُرْ لفظَ ((القَرْمَد)) كما فَعَلَ النابغة: أو دُمْيةٍ في مَرْمَرٍ مرفوعةٍ ... بُنِيَتْ بآجُرٍّ يُشادُ بقَرْمَدِ فإنّ أُولى العبارتَيْنِ مُبتَذَلةٌ سخيفةٌ متداوَلةٌ بينَ العامة، والثانيةُ متنافِرةٌ وحْشِيّةٌ غريبةٌ يضعانِ الكلامَ مِنْ قَدْرِه. قولُه: (وأشبَهُ بكلامِ الجبابرة)، أي: أَوْقِدْ لي على هذا الشيءِ المسمّى بالطين؛ كأنُه شيءٌ حقيرٌ لا يصلُحُ مِنْ مثلِ الملوكِ أنْ يتلفّظَ به، ويَدخُلُ في تسميتِهِ في زُمْرةِ العامة؛ كما عَبّرَ الله

وأمْرُ هامانَ -وهو وزيرُه ورديفُه- بالإِيقادِ على الطِّين منادَى باسمه بـ ((يا)) في وسَطِ الكلام؛ دليلُ التّعظيمِ والتَّجَبُّر. وعن عُمرَ رضيَ الله عنهُ أنَّه حينَ سافَرَ إلى الشّام ورأي القُصورَ المُشَيَّدةَ بالآجُرِّ قال: ما علمتُ أنّ أحدًا بني بالآجُرِّ غيرُ فرعون. والطُّلُوعُ والاطِّلاع: الصُّعود. يقال: طَلَعَ الجبلَ واطَّلَع: بمعنى. [{اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 39 - 40] الاستكبارُ بالحقِّ: إنّما هو لله عزّ وجلّ، وهو المُتَكَبِّرُ على الحقيقة، أي: المُتبالِغُ في كبرياءِ الشَّأن. قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما حَكى عن ربِّه: ((الكبرياءُ ردائي، والعَظَمةُ إزاري؛ فَمن نازَعَني واحدًا منهُما ألقيتُه في النّار)). وكُلُّ مُستَكبِرٍ سِواهُ فاستكبارُه بغيرِ الحقِّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى بقولِه: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ,} [الرعد: 17] عَنِ الفِلِز، ويناسبُهُ نداؤهُ هامانَ بـ ((يا)) وهوَ قريبٌ حاضر؛ لكنْ بعيدٌ مِنْ حيثُ المرتَبة. قولُه: (بـ ((يا)) في وسطِ الكلام)، يعني أنّ هامانَ كانَ حاضرًا بينَ الملأ، وداخلاً في الخطاب؛ بلْ هوَ المخاطَبُ الأوّلُ لكونِهِ وزيرَهُ ومُشيرَه؛ فاختصاصُهُ مِنْ بينِهِم بالنداء، ثُمّ بـ ((يا)) الدّالةِ على البعيد، ثُمّ تصريحُهُ باسمِه- ما كانَ إلا إظهارًا للكبرياء. قالَ صاحبُ ((المفتاح)): ((يا)) في مثلِ هذا المقامِ تبعيدٌ للمنادى وإيذانٌ بالتهاوُنِ به. قولُه: (الكبرياءُ ردائي)، الحديثُ رواهُ أبو داودَ عن أبي هُريرةَ مع تغييرٍ يسير، ولمسلمٍ روايةٌ على غيرِ هذه العبارة.

{يُرْجَعُونَ} بالضَّمِّ والفَتْحِ {فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ, فَنَبَذْنَهُمْ فِي اَلْيَمِ} من الكلامِ الفَخْمِ الذي دلَّ به على عظمةِ شأنهِ وكبرياءِ سُلطانِه. شبَّههمُ استِحْقارًا لهم واستِقْلالاً لعَدَدِهِم، وإنْ كانُوا الكَثْرَ الكثيرَ والجَمَّ الغفير، بحَصَياتٍ أخَذَهُنَّ آخذٌ في كفِّهِ فطرحَهُنَّ في البحر. ونحوُ ذلك قولُه: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27]، {وَحُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةُ وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]، {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ, وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ, يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وما هيَ إلاّ تصويراتٌ وتمثيلاتٌ لاقتدارِه، وأنّ كُلَّ مقدورٍ وإنْ عَظُمَ وجَلَّ، فهُو مُستَصْغَرٌ إلى جنبِ قُدرتِه. [{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} 41 - 42] فإن قلت: ما معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}؟ قلت: معناه: ودَعَوناهم أئمّةً دُعاةً إلى النّار، وقُلنا: إنَّهم أئمِّةٌ دعاةٌ إلى النّار، كما يُدعى خلفاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({يُرْجَعُونَ} بالضمِّ والفتح)، نافعٌ وحمزةُ والكسائي: بالفتح، والباقون: بالضم. قولُه: (دَعَوْناهُم أئمة ... ، وقُلنا: إنّهُمْ أئمةٌ دُعاةٌ إلى النار)، قالَ مُحيي السُّنّة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادةً رؤساءَ يَدْعُونَ إلى النار، وقالَ الإمام: قد تمسّكَ الأصحابُ بها في كونِهِ تعالى خالقًا للخيرِ والشر. الانتصاف: لا فرقَ عِندَنا بينَ قولِه: {وَجَعَلَ لظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] {وَجَعَلْنَا اَلَّيْلَ والْنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] وبينَ هذهِ الآية؛ فمَنْ حَمَلَ الجَعلَ على التسميةِ هاهنا فهوَ بمثابةِ مَنْ حملَهُ على التسميةِ هناك.

الحَقِّ أئمّةً دُعاةً إلى الجنّة. وهو مِن قولِك: جعلَهُ بخِيلاً وفاسِقًا، إذا دعاهُ وقال: إنَّه بخيلٌ وفاسقٌ. ويقولُ أهلُ اللُّغةِ في تفسيرِ فسَّقَهُ وبَخَّلَهُ: جعلَه بخِيلاً وفاسقًا. ومنه قولُه عزّ وعَلا: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] ومعنى دعوَتِهم إلى النّار: دعوتُهم إلى موجِباتِها من الكُفْرِ والمعاصِي. {وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} كما يُنْصَرُ الأئِمّةُ الدُّعاةُ إلى الجنّة. ويجوز: خَذَلناهُم حتّى كانُوا أئمّةَ الكُفر. ومعنى الخُذلان: منعُ الألطاف، وإنّما يُمنَعُها من عُلِمَ أنَّها لا تنفَعُ فيه، وهو المُصمِّمُ على الكُفْرِ الذي لا تُغني عنهُ الآياتُ والنُّذُر، ومُجراهُ مُجرى الكِناية؛ لأنَّ منعَ الألطافِ يَردَفُ التَّصميم، والغرضُ بذِكْرِه: التَّصميمُ نفسُه، فكأنَّه قيل: صمَّمُوا على الكُفْرِ حتّى أئمّةً فيه، دُعاةً إليه وإلى سُوءِ عاقِبَتِه. فإن قلت: وأيُّ فائدةٍ في تَرْكِ المَردُوف إلى الرّادِفة؟ قلت: ذِكرُ الرّادِفةِ يدُلُّ على وُجودِ المردُوف؛ فيُعلمُ وجودُ المَردُوفِ مع الدَّليلِ الشّاهدِ يوجُودِه، فيكونُ أقوى لإِثباتِه من ذكرِه. ألا ترى أنَّك تقول: لولا أنَّه مُصَمِّمٌ على الكُفر، مقطوعٌ أمرُه، مبتوتٌ حكمُه؛ لما مُنِعتْ منهُ الأَلطاف، فبذِكرِ منعِ الألطافِ يحصُلُ العِلمُ بوجودِ التَّصميمِ على الكُفرِ وزيادةٌ؛ وهو قيامُ الحُجّةِ على وجُودِه. وينصرُ هذا الوَجْهَ قولُه: {وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويجوزُ: خذلناهُم حتى كانوا أئمةَ الكُفر)، الوجهُ الأوّلُ قولُ الجُبّائي، وهذا قولُ الكعبي. يريدُ: أنّ مُؤدّي قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} مِنْ حيثُ التأويلِ إلى هذا المعنى؛ وهو: خذلناهُم حتى كانوا أئمة. وإنما قالَ: ((وإنما يمنعُها مِنْ عَلِمَ أنها لا تَنْفَعُ)) بناءً على أنّ رعايةَ الأصلحِ واجبة، وهوَ مَنْحُ الألطاف. وهُمْ إنما خُذِلوا ومُنِعَ عنهُم الألطافُ مِنْ جِهَةِ أنفُسِهِم؛ وهوَ تصميمُهم على الكفر. ورَجَعَ معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} إلى قولِه: ((صَمّمُوا على الكُفْر))؛ لأنهُ رديفُهُ ولازمُه؛ فيكونُ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} كنايةً عنْ ((صَمّمُوا على الكُفر)). ولَعَمْري إنّ هذا التعسُّفَ لا يركَبُهُ إلا مَنْ عَمِيَ عنهُ الجادّة. قولُه: (وينصُرُ هذا الوجه- أيْ: أنّ المراد: خذلناهم- قولُه: { .... لاَ يُنصَرُونَ})؛ فإنهُ مِنْ بابِ ردِّ العَجُزِ على الصدرِ مِنْ حيثُ المعنى؛ لأنّ الخُذلانَ هوَ عدمُ النُّصْرة.

كأنه قيل: وخَذَلناهُم في الدُّنيا، وهم يومَ القِيامةِ مخذُولُون، كما قال: {وَأَتْبَعَنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: طردًا وإبعادًا عن الرَّحمة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المَطرُودِينَ المُبْعَدِين. [{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 43] {بَصَائِرَ} نصبٌ على الحال. والبصيرَةُ: نَورُ القلبِ الذي يَسْتَبصِرُ به، كما أنَّ البصرَ نورُ العَيْنِ الذي تُبصِرُ به، يريد: آتيناهُ التَّوراةُ أنوارًا للقلوب؛ لأنّها كانت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: ويمكنُ أنْ يُقال: وجعلناهُم في الدنيا قادةً رؤساءَ أقوياءَ ذَوِي سَلْطَنةٍ وغَلَبة، وانقلبَ في الآخرةِ الأمرُ فصارت تلكَ القدرةُ عَجْزًا، والتقدُّمُ نكوصًا؛ فلا ينصُرُهُم مِنْ ذلكَ ناصِر، {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: هلاكًا بالغَرَق، وبُعدًا عنْ رحمةِ الله. أو: لسانَ سُوءٍ بأنْ يلعنَهُمُ اللاعنونُ إلى قيامِ الساعة، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِنَ المَقْبُوحِينَ}. قولُه: ({هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: مِنَ المطرودِينَ المُبعَدين)، عبَّرَ عنِ الطردِ والبُعدِ بالقُبْح؛ إذْ لا ارتيابَ أنهُ لمْ يُرِدْ قُبْحَ الصورة؛ فإذنْ الآيةُ على وزانِ قولِهِ تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ, لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِفْدُ المَرْفُودُ} [هود: 99]. روى مُحيي السُّنةِ عن ابنِ عباس: مِنَ المشوّهِينَ بسَوادِ الوجهِ وزُرْقةِ العيون؛ يُقال: قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه؛ إذا جعلَهُ قبيحًا، وقَبَحَهُ قَبْحًا وقُبُوحًا؛ إذا أبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خير. قولُه: (آتيناهُ التوراةَ أنوارًا للقلوب)، أي: مُشابهًا لأنوارِ القلوب؛ شَبّهَ التوراةَ بالأنوارِ التي تَستَبْصِرُ بها القلوب؛ فتعرِفُ بها حقيقةَ الأشياءِ فكَما أنّ فاقِدَ هذهِ الأنوارِ خابِطٌ في ظلماءِ التعسُّف؛ كذلكَ فاقدُها واقعٌ في مَهْواةِ الضلالة، تائهٌ في بيداءِ الكُفْر. فقولُه: ((لأنها كانتْ عمياء)) تعليلٌ وجعلَ {بَصَائِرَ} وصفًا لـ {الْكِتَابَ}. ولذلكَ كانَ قولُه: ((لأنهم كانوا يخبطون)) تعليلاً لقولِه: ((إرشادًا))؛ يعني: إنما أَوقعَ {بَصَائِرَ} حالاً مِنَ

عُمْيًا لا تستبصرُ ولا تعرفُ حقًّا من باطلٍ. وإرشادًا؛ لأنَّهم كانُوا يَخبطُونَ في ضَلالٍ. {وَرَحْمَةً}؛ لأنَّهم لو عملوا بها وصَلُوا إلى نيلِ الرَّحمة. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إرادةَ أنْ يتذَكَّرُوا، شُبِّهتِ الإرادةُ بالتَّرجِّي فاستُعِيرَ لها. ويجوزُ أنْ يرادَ به: ترجِّي موسى عليه السَّلامُ لتَذْكرتِهم، كقولِه تعالى: {لَّعَلَّهُ, يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] [{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 44] {الْغَرْبِيِّ} المكانُ الواقعُ في شِقِّ الغرب، وهو المكانُ الذي وقعَ فيه ميقاتُ موسى عليه السَّلامُ من الطُّور، وكتبَ الله له في الألواح. والأمرُ المقْضِيُّ إلى مُوسى عليه السَّلامُ: الوحيُ الذي أوحى إليه؛ والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما كُنتَ حاضِرَ المكانِ الذي أوحينا فيه إلى مُوسى عليه السَّلام، ولا كُنتَ مِنَ جُملةِ الشَّاهِدِينَ للوحيِ إليه، أو على الوحيِ إليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {الْكِتَابَ}؛ ليؤذِنَ بشدّةِ احتياجِ القومِ إلى ما تُفتَحُ بهِ قلوبُهُمُ العمياء. وإنما أَرْدَفَها بقولِه: {وَهُدًى}؛ ليُنَبِّهِ على أنّهُمْ كانوا يخبِطون في ضلال، وعقّبَهُما بقولِه: {وَرَحْمَةً} لينادي بأنهُمْ كانوا بُعَداءَ مِنْ رحمةِ الله وما عَمِلوا بمقتضى الكتاب؛ لأنّهُمْ لو عَمِلوا بهِ لوصَلوا إلى رحمةِ الله. جَعَلَ ألفاظَ الآيةِ كلّها تعريضاتٍ باليهود، ودلّ على مكانِ التعريضِ قولُه: {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. قولُه: (كقولِه تعالى: {لَّعلَّهُ, يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44])، يعني: شَبّهَ حالةَ إيتاءِ الكتابِ لاستبصارِ بني إسرائيلَ واهتدائِهِمِ، وترجِّي موسى منهُم التذكُّر، بحالةِ بَعْثِتِهِ وأخيهِ إلى فرعونَ وترجِّيهِما مِنهُ التذكُّرَ والخشية؛ فاستعمَلَ هاهنا كلمةَ الترجِّي كما استُعمِلَتْ هناك. قولُه: (وما كنتَ حاضرَ المكان)، إلى قولِه: (حتى تَقِفَ مِنْ جهةِ المشاهدة) قد ذكَرْنا فائدةَ هذا الأسلوبِ في ((البقرة)) عندَ قولِه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133]. قولُه: (أو على الوحي إليه)، على هذا: الشاهدُ بمعنى القائم بالشهادة، وعلى الأوّل: بمعنى الحاضر.

وهم نقباؤُه الذين اختارَهم للميقات، حتّى من جهةِ المُشاهدةِ على ما جَرى من أمرِ مُوسى عليه السَّلامُ في ميقاتِه وكَتْبِه التَّوراةَ له في الألواح، وغيرِ ذلك. [{وَلَكِنَّا أَنْشَانَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 45] فإن قلتَ: كيفَ يتَّصلُ قولُه: {وَلَكِنَّا أَنشَانَا قُرُونًا} بهذا الكلام؟ ومن أيِّ وجهٍ يكونُ استدراكًا له؟ قلتُ: اتِّصالُه به وكونُه استدراكًا له، من حيثُ أنّ معناه: ولكنّا أنشَانا بعدَ عهدِ الوحيِ إلى عهدِكَ قُرُونًا كثيرةً {فَتَطَاوَلَ} على آخِرِهم: وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كيفَ يتصلُ قولُه: {وَلَكِنَّا أَنشَانَا قُرُونًا}؟ )، توجيهُ السؤال: أنّ وَضْعَ ((لكن)) على أنْ يكونَ ما بعدَها مخالفًا لما قبلَها نفيًا وإثباتًا؛ فكيفَ مَوْقِعُها هاهنا؟ وتلخيصُ الجوابِ أنْ ليسَ الاعتبارُ بصورةِ النفيِ والإثبات؛ وإنما المعتَبَرُ المعنى؛ فإنهُ تعالى لمّا نفي عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً كونَهُ بجانبِ الغربيّ، وكونَهُ مشاهِدًا للوحيِ إلى موسى عليهِ السلامُ وقضاءِ الأمرِ لهُ مِنَ المُكالَمةِ وكِتْبةِ التوراةِ وغيرِهِما، والمرادُ نفيُ عِلمِهِ بذلك، أَثْبَتَ لهُ العلمَ ثانيًا بتلكَ القصةِ وبسائِر قِصَصِ الأنبياء؛ فكأنهُ قيل: ما كنتَ داريًا بذلكَ بطريقٍ مِنْ طُرُقِ العلم؛ لكنْ جعلناكَ داريًا بطريقِ الوحيِ بأنْ أرسلناكَ أحْوَجَ ما يكونُ الناسُ إلى إرسالِك؛ لفتورُ الوحي مُدّةً مُتطاوِلة. فَوَضَعَ قولَه: {أَنشَانَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] مَوْضِعَ ((أرسلناكَ وكَسَبْنا لكَ العِلم))؛ وضعًا للسّبَبِ مَوْضِعَ المُسَبّب؛ لأنّ إطالةَ فترةِ الوحي واندراسِ العلومِ سببٌ لإرسالِ الرُّسُلِ وكَسْبِهِمُ العلوم. ويدلُّ على هذا التأويلِ تصريحُ لفظِ {مُرْسِلِينَ} بعدَ حرفِ الاستدراكِ في قولِه: {وَمَا كُنتَ ثَوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}. وفي قصةِ موسى عليهِ السلامُ والطور: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِنْ رَّبِّكَ}؛ ومِنْ عَلله بقولِه: {لِتُذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَهُم مِن نَّذِيرٍ}، وإليهِ الإشارةُ بقولِه: ((فإذنْ هذا الاستدراكُ شيبهُ الاستدراكَيْن)). قولُه: ({فَتَطَاوَلَ} على آخرِهم)، أي: تطاولَ العمرُ على آخرِهِم؛ بمعنى: طالَ أمدُ انقطاعِ الوحيِ على القرنِ الذي أنتَ فيهِم. وقالَ في ((الأساس)): تطاوَلَ علينا الليل: طال،

القَرْنُ الذي أنت فيهم {اَلْعُمُرُ} أي: أمدُ انقطاعِ الوحيِ واندرستِ العُلوم، فوجَبَ إرسالُك إليهم، فأرسلناكَ وكسيناكَ العلمَ بقِصَصِ الأنبياءِ وقصّةِ موسى عليهمُ السَّلام، كأنّه قال: وما كُنتَ شاهدًا لمُوسى وما جرى عليه، ولكنّا أوحيناهُ إليك؛ فذكرَ سببَ الوحيِ الذي هو إطالةُ الفترة؛ ودلَّ به على المُسَبِّب على عادةِ الله عزَّ وجلَّ في اختصاراتِه؛ فإذن: هذا الاستدراكُ شبيهُ الاستدراكَيْنِ بعدَهُ {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أي: مُقيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}؛ وهم شُعيبٌ والمُؤمنون به. {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تقرؤُها عليهم تعلُّمًا منهم، يريد: الآياتِ التي فيها قِصّةُ شعيبٍ وقومِه، ولكنّا أرسلناكَ وأخبرناكَ بها وعلمناكَها. [{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 46] {إِذْ نَادَيْنَا} يُريدُ مناداةَ موسى عليه السَّلامُ ليلةَ المناجاةِ وتكليمَه، {وَلَكِن} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومِنَ المجاز: وطالَ عليهِ الطول؛ أي: طالَ عُمرُه. الراغب: الأَمَدُ والأَبَدُ: متقاربان؛ لكنّ الأبدَ: عبارةٌ عنْ مُدّةِ الزمانِ الذي ليسَ لها حَدٌ محدودٌ ولا يتقيّد، ولايُقال: أَبَدَ كذا. والأَمَدُ: مُدّةٌ لها حدٌ مجهولٌ إذا أُطلِق، وقدْ تَنْحَصِرُ نحوُ أنْ يُقال: أَمَدَ كذا؛ كما يُقال: زَمانُ كذا. والفرقُ بيْنَ الزمانِ والأمد: أنّ الأمَدَ يُقالُ باعتبارِ الغاية، والزمانُ عامٌّ في المبدأِ والغاية. ولذلكَ قالَ بعضُهُم: الأَمدُ والمدى متقاربان. قولُه: ({ثَاوِيًا} أي مقيمًا)، الراغب: الثّواء: الإقامةُ معَ الاستقرار، وقيل: مَنْ أُمُّ مَثْواك؟ كنايةٌ عمّنْ نَزَلَ بهِ ضيفًا، والثّوِيّة: مأوى الغَنَم.

علَّمناكَ {رَّحْمَةً} وقرئ: (رحمةٌ)، بالرَّفع، أي: هي رحمةٌ {مّا أَتَاهُم مِن نَّذِيرٍ} في زمانِ الفَتْرَةِ بينَك وبينَ عيسى؛ وهيَ خمسُ مئةٍ وخمسُونَ سنةً، ونحوُه قولُه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6]. [{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 47] {لَوْلاَ} الأولى: امتناعيّةٌ وجوابُها محذوفٌ، والثانيةُ: تحضِيضِيّةٌ، وإحدى الفاءَيْنِ: للعطْف، والأُخرى: جوابُ {لَوْلاَ}، لكَونِها في حُكمِ الأمر، من قِبَلِ أنَّ الأمرَ باعثٌ على الفعل، والباعثُ والمُحضِّضُ من وادٍ واحدٍ. والمعنى: ولولا أنَّهم قائِلونُ إذا عُوقِبُوا بما قَدَّمُوا من الشِّرْكِ والمعاصي: هلاّ أرسلتَ إلينا رسولاً؟ محتجِّينَ علينا بذلك: لما أرسَلْنا إليهم، يعني: أنّ إرسالَ الرَّسُولِ إليهم إنّما هو ليُلْزِمُوا الحُجّة ولا يُلزِمُوها، كقولِه: {لئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19]، {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}. فإن قلت: كيفَ استقامَ هذا المعنى وقد جُعِلَتِ العُقوبةُ هي السّببَ في الإرسالِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في زمانِ الفترةِ بينَكَ وبينَ عيسى وهيَ خمسُ مئةٍ وخمسونَ سنة)، روَيْنا عنِ البخاريِّ عنْ سلمانَ الفارسيَّ قال: فترةُ بَيْنَ عيسى ومحمدٍ صلواتُ الله عليهِما ستُّ مئةِ سنة. قولُه: (وقدْ جُعِلَت العقوبةُ هيَ السببَ في الإرسالِ)، يعني: لَمّا جَعَلْتَ قولَه: {فَيَقُولُوا} عطفًا على {أَن تُصِيبَهُم}، وجَعَلْتَ {فَنَتَّبِعَ} جوابَ {لَوْلاَ} الثانية، وقدّرتَ الكلام: لولا أنْ تُصيبَهُم مصيبة؛ لمَا أرسلنا إليهِم، لَزِمَكَ أنْ تَجعَلَ العقوبةَ هيَ السببَ في الإرسالِ لولا القول. والقولُ في الحقيقةِ هوَ السبب؛ بدليلِ قولِه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا َ نَذِيرٍ} [المائدة: 19]. فأجابَ بقولِه: ((القولُ هوَ المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرُّسُل)). قالَ صاحبُ ((الفرائد)): لا شكّ أنّ ((أنْ)) في {أَن تُصِيبَهُم} مصدرية، وهيَ داخلةٌ على {فَيَقُولُوا}، وقدْ عُطِفَ على {تُصِيبَهُم} بالفاء؛ فالتقدير: لولا إصابتُهُم فيقولوا كذا؛ فيكونُ سببُ إرسالِ الرسلِ المجموعَ لا الواحدَ فحَسْب؛ فالواحدُ جزءُ السبب، وجزءُ السببِ لا يكونُ سببًا؛ فقولُه: ((القولُ هوَ المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرسل)) ليسَ بمستقيم، وكذا قولُه: ((جُعِلَتِ العقوبةُ كأنها سببُ الإرسالِ بواسطةِ القول)). ويمكنُ أنْ يُقال: القولُ يكونُ سببًا على تقديرِ وجودِ العقوبة؛ فيكونُ القولُ سببًا لا المجموع. فالجوابُ أنْ يُقال: القولُ لمْ يكنْ سببًا في نفسِ الأمر، بلْ على التقدير، فإذا لمْ يكن القولُ بدونِ التقديرِ سببًا كانَ المجموعُ سببًا؛ لأنّا لا نعني بكوْنِ المجموعِ سببًا إلا تَوَقُّفَ المسببِ عليه، وقدْ كانَ متوقِّفًا عليه، وهوَ المطلوب. وقولُه: ((إنما السببُ في قولِهم هذا هوَ العقابُ لا غير، لا التأسُّفُ على ما فاتَهُم مِنَ الإيمانِ بخالقِهِم)) هذا قولٌ مجرّدٌ عنِ الدليل؛ لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ السببُ هوَ المجموع؛ أعني: العقابَ والتأسف. تَمّ كلامُه. وقلتُ: قولُ المصنِّف: ((هوَ المقصودُ بأنْ سببًا لإرسالِ الرسل)) لا يُنافي أنْ يكونَ لهُ سببٌ آخر، وأنّ المجموعَ ليسَ بسبب؛ بل المرادُ أنّ القولَ هوَ المقصودُ الأَوْلى مِنْ مجموع السبب. على أنّ هذهِ الآيةَ على وِزانِ قولِهِ تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ}} [المائدة: 19]. ولا ارتيابَ في استقلالِ القولِ في السببية؛ فعلى هذا يحتاجُ في جَعْلِ العقوبةِ سببًا بإيلائه حرفَ الامتناعِ إلى عذر؛ ولهذا قال: ((لمّا كانتْ هيَ السببَ للقولِ ... ؛ جُعِلَتْ العقوبةُ كأنها سبب)) على التشبيه، ولابدّ لهذا العُدولِ والتشبيهِ مِنْ فائدة، وما هيَ إلا ما قال: إنهُم لَوْ لَمْ يُعاقَبوا على كُفرِهِم؛ لَمْ يقولوا ذلك. الانتصاف: فإنْ قيل: كيفَ استقامَ جَعْلُ العقوبةِ سببَ الإرسالِ لا القول؛ لدخول حرفِ الامتناعِ عليها دُونَه؟ قلتُ: العقوبةُ سببُ القول؛ فهيَ سببُ السبب؛ فجُعلتْ سببًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي عطفِهِ السببَ الأصليّ عليهِ مزيدُ العنايةِ بسببِ السبب؛ لكونِهِ مقصودَ السياق. وأيضًا في هذا النظمِ تنبيهٌ على سَبَبِيّةِ كلِّ واحدٍ منهما؛ أما الأوّلُ؛ فلاقترانِهِ بحرفِ التعليلِ وهوَ {أَن}. والثاني بالفاء، ولا يُعطي هذا المعنى إلا مِنَ المتلو. تمّ كلامُه. وأما قضيةُ النظم؛ فإنّ قولَه: {وَمَا كُنتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ}، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} تخلُّصاتٌ مِنْ ذِكرِ موسى إلى إثباتِ نُبوّةِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإلزامِ الحُجّةِ على المعانِدينَ مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين. يعني: إنكَ تُخبِرُ عنْ هذهِ الغيوبِ وهُمْ عالِمونَ أنكَ أُمِّيٌّ لَمْ تقرا ولَمْ تأخُذْ مِن أحد، ولا أنتَ حضَرْتَ هناكَ فتُخبِرُ عنها؛ بحيثُ لم تَخْرُم حرفًا، ولَمْ يكنْ ذلك إلا مِنْ طريقِ الوحي كما قال: {وَلَكِن رَّحْمَةً مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتاهُم مِن نَّذِيرٍ}. والقومُ الذينَ ما أتاهُمْ مِنْ نذيرٍ هُمْ مشرِكو العَرَب، ولابدّ مِنْ إرسالِكَ إليهم؛ وإلا فلهُمْ أنْ يقولوا- إذا عوقِبوا بما قدّموا مِنَ الشِّرْكِ والمعاصي-: هلاّ أرسَلْتَ إلينا رسولاً فنتّبعَ آياتِك؟ وإلى هذا المعنى ينظُرُ قولُه: ((ولولا قولُهُم هذا إذا أصابَتْهُم مصيبة؛ لَما أرسلنا)) ويَعْضُدُ هذا الترتيبَ الفاءُ في قولِه: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا}؛ فإنها نحوُ قولِ الشاعر: قالوا: خُراسانُ أقصى ما يُرادبِنا ... ثُمّ القفولُ، فقدْ جِئنا خُراسانا وقولُه تعالى: {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا َ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. ووضْعُ المُظهَرِ وهوَ {الْحَقُّ} مَوْضِعَ المُضْمَر؛ فإنّ فيهِ الإشعارَ بقطعِ الحُجّة، وأنُه المؤيّدُ بالمعجزاتِ القاهرةِ والآياتِ الباهرة، والهادي إلى ما يُزلِفُهُم إلى المقامِ الأَسنى والدرجاتِ الحُسنى، ويُبعِدُهم عما يُوقِعُهُم في وَرَطاتِ الرّدي، ونحوَها مما يدخلُ تحتَ معنى الحق. المعنى: فلمّا جاءَهُم مثلُ هذا الحقِّ الساطِعِ والنورِ اللامعِ عندما كانوا أفقرَ شيءٍ إليه؛ تعامَوْا وتصامُّوا واقترحُوا عليهِ مِنَ الآياتِ ما ظَهَرَ بهِ عِنادُهم وتمرُّدُهُم؛ فقالُوا: {لَوْلاَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ مُوسَى}.

لا القول، لدُخولِ حرفِ الامتناعِ عليها دُونَه؟ قلتُ: القولُ هو المقصودُ بأنْ يكونَ سببًا لإرسالِ الرُّسُل، ولكنَّ العقوبةَ لمّا هيَ السَّببُ للقول، وكانَ وجودُه بوُجودِها، جُعلتِ العقوبةُ كأنَّها سببُ الإرسالِ بواسطةِ القَول، فأُدخِلتْ عليها {لَوْلاَ}، وجِيءَ بالقَولِ معطوفًا عليها بالفاءِ المُعطِيةِ معنى السَّببِّية، ويؤولُ معناهُ إلى قولِك: ولولا قولُهم هذا إذا أصابَتْهُم مصيبةٌ لَمَا أرسَلْنا، ولكن اختِيرَتْ هذه الطَّريقةُ لنُكتةٍ، وهي: أنَّهم لو لمْ يُعاقَبُوا مثلاً على كُفرِهم وقد عايَنُوا ما أُلجِئُوا به إلى العلمِ اليَقِين؛ لم يَقُولُوا: {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} وإنّما السَّببُ في قولِهم هذا هو العقابُ لا غيرُ؛ لا التَّأسُّفَ على ما فاتَهم من الإيمانِ بخالِقِهم. وفي هذا الشَّهادةِ القَوِيّةِ على استحكامِ كُفْرِهم ورسوخِه فيهم ما لا يخفى، كقولِه تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. ولمّا كانتْ أكثرُ الأعمالِ تُزاوَلُ بالأيدي جُعِلَ كُلُّ عَمَلٍ مُعَبَّرًا عنهُ باجتراحِ الأيدي، وتقديمِ الأيدي، وإن كانَ من أعمالِ القُلُوب، وهذا من الاتِّساعِ في الكلام، وتصييرِ الأقَلِّ تابِعًا للأكثر، وتغليبِ الأكثَرِ على الأقلِّ. [{لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} 48] {لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} وهو: الرَّسولُ المصَدَّقُ بالكتابِ المُعجِزِ، مع سائرِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (جُعِلَ كلُّ عملٍ مُعبّرًا عنهُ باجتراح الأيدي)، ((جَعَلَ)) بمعنى: صَيّر، ومعبّرًا: ثاني مفعولَيْه. المعنى: عَبّرَ عنْ كلِّ الأعمالِ- وإنْ لَمْ يَصدُرْ عنِ اليدِ- باجتراح الأيدي؛ لأنّ الأصلَ في المزاوَلةِ والمعالَجةِ الأيدي. ونحوُهُ في الأسلوب: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ,} [البقرة: 283]. قولُه: (وهوَ الرسولُ المصدّقُ والكتاب المعجِز)، يعني: وضَعَ {الْحَقُّ} موضِعَ

المُعجِزات، وقُطِعَتْ معاذِيرُهُم وسُدَّ طريقُ احتجاجِهم {قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِي مُوسَى} من الكتابِ المُنزَلِ جُملةً واحدةً، ومِن قَلبِ العصا حيّةً، وفلقِ البحرِ، وغيرِهما من الآيات؛ فجاءُوا بالاقتراحات المبنِيّةِ على التَّعنُّتِ والعِناد، كما قالُوا: لولا أُنزِلَ عليه كَنْزٌ أو جاءَ معه مَلَك، وما أشْبَهَ ذلك. {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} يعني: أبناءَ جنسِهم، ومَن مَذهَبُهم مَذهَبُهم وعنادُهم عنادُهم، وهمُ الكفرةُ في زمنِ مُوسى عليه السَّلامُ {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى}، وعن الحسنِ رحمهُ الله: قد كان للعربِ أصلٌ في أيّامِ مُوسى عليه السَّلام، فمعناهُ على هذا: أو لم يكفرْ آباؤُهم؟ {قَالُوا} في مُوسى وهارون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي: تعاوَنَا. وقُرِئَ: (اظّاهَرَا) على الإدغام. و {سِحْرَانِ} بمعنى: ذوا سِحْر. أو: جعلوهُما سِحْرَينِ مُبالغةً في وصفِهِما بالسِّحر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرسول؛ لأنّ التعريفَ فيهِ للعهد، والمعهودُ {رَسُولاً} في قولهِ: {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَتِكَ}؛ فينبغي أنْ يُحمَلَ على كلِّ ما يُتسَبُ ويضافُ إلى الرسولِ على وجهٍ يُزهِقُ كلّ باطلٍ ويَدْحَضُ كلّ حُجّة. ومِنْ ثَمّ قال: ((وقُطِعَتْ معاذيرُهُم، وسُدّ طريقُ احتجاجِهِم)). قولُه: ({أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} يعني: أبناءَ جنسِهِم)، المعطوفُ عليهِ محذوف؛ أي: أَوَلَمْ يُؤْتَ موسى ما أُوتي مِنَ الآياتِ ولَمْ يكفُرْ قومُهُ المعاندون كهؤلاء. قولُه: (قد كانَ للعربِ أصلٌ في أيام موسى)، أي: نسبةٌ مِنْ حيثُ الكُفر والعناد، كما أنّ مِنَ المسلمينَ إخوةً مِنْ حيثُ الإيمان. أو أنّ أبا العربِ إسماعيل، وأبا بني إسرائيلَ إسحاق. والفاءُ في ((فمعناه)) نتيجةٌ؛ بِناءً على هذا التقدير. قولُه: (و {سِحْرَانِ} بمعنى: ذَوا سِحْر)، وهيَ قراءةُ عاصمٍ وحمزةَ والكسائي.

أو أرادُوا: نوعانِ من السِّحرِ. {بِكُلٍّ} بكُلِّ واحدٍ منهُما. فإن قلت: بم علَّقْتَ قولَه: {مِن قَبْلُ} في هذا التَّفسيرِ؟ قلت: بـ {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا}، ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ}، فينقلبُ المعنى إلى أنَّ أهلَ مكَّةَ الذينَ قالُوا هذه المقالةَ كما كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقُرآنِ؛ فقد كفرُوا بمُوسى عليه السَّلامُ وبالتَّوراة، وقالُوا في مُوسى ومُحمَّدٍ عليهِما الصَّلاةُ والسَّلام: ساحِرانِ تظاهَرا. أو في الكتابين: سِحرانِ تظاهرا؛ وذلك حين بَعَثُوا الرّهطَ إلى رُؤَساءِ اليهودِ بالمدينةِ يسألونَهم عن مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فأخبَروهُم أنّه نعتُه وصِفَتُه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أو أرادوا نوعانِ مِنَ السِّحْر)، قالَ صاحبُ ((التقريب)): يعنُونَ التوراةَ والقرآن. قلتُ: يؤيِّدُ قوله تعالى: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا}. قولُه: (بِمَ علّقْتَ {مِن قَبْلُ} في هذا التفسير؟ )، أيْ: في تفسيرِ الحَسَن؛ وهوَ قولُه: ((قدْ كانْ للعربِ أصلٌ في زَمَنِ موسى))، وكذا في الحاشية، وفيهِ تفصيل؛ وهوَ أنّ الضميرَ في {يَكْفُرُوا}: إما للكَفَرةِ في زَمَنِ موسى عليهِ السلامُ مِنْ بني إسرائيل؛ فيتعلّقُ {مِن قَبْلُ} بـ {يَكْفُرُوا} لا بـ {أُوتِيَ}؛ لأنّ موسى عليهِ السلامُ ما أُوتيَ الكتابَ مِنْ قَبْلِهِم، وإنما وَبّخَ الحاضِرِينَ في زَمَنِ مُحمدٍ صلواتُ الله عليهِ بهِ؛ لأنّهُمْ أبناءُ جِنسِهِم في العِناد. وإما لآباءِ الكَفَرةِ الحاضِرة. فالتوبيخُ نحوُ التوبيخِ في قولِه تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51، 92]. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الضميرُ للكَفَرةِ الحاضِرة، ويُعلّقَ {مِن قَبْلُ} بـ {أُوتِيَ}، كما قال: ((ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ} وفي كلامِهِ حذف؛ أي: ولي أنْ أُعلِّقَه بـ {أُوتِيَ} وأَجْعَلَ الضميرَ في {يَكْفُرُوا} للحاضرِينَ لا لآبائِهِم؛ فينقلبَ المعنى، إلى آخرِه. فعلى هذا: إذا قُرِئَ ((ساحران)) أو {سِحْرَانِ} وأُريدَ: ساحران؛ كانَ المرادُ محمدًا وموسى عليهما السلام، وإنْ أُريدَ نوعانِ مِنَ السِّحْر؛ فالمرادُ التوراةُ والقرآن. قولُه: (فقالوا في موسى ومحمد: ساحِرانِ [تظاهرا]، أو في الكتابين: سِحْرانِ تظاهرا)،

وأنّه في كتابِهِم، فرجَعَ الرَّهْطُ إلى قُريشٍ فأخبروهُم بقَولِ اليهود، فقالُوا عندَ ذلك: ساحِران تَظاهرا. [{قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 49] {هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} ممّا أُنزِلَ على مُوسى عليه السَّلامُ وممّا أُنزِلَ عليَّ. هذا الشَّرْطُ من نحوِ ما ذكرتُ أنَّه شرطُ المُدِلِّ بالأمرِ المتَحَقِّقِ لصِحَّتِه؛ لأنَّ امتناعَ الإتيانِ بكتابٍ أهدى من الكِتابَيْنِ أمرٌ متَحَقِّقٌ لا مجالَ فيه للشَّكِّ. ويجوزُ أنْ يُقصَدَ بحرفِ الشَّكِّ: التَّهكُّمُ بهم. [{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 50] فإن قلت: ما الفرقُ بينَ فعلِ الاستجابةِ في الآية، وبينَهُ في قولِه: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التفسيرُ بناءً على القراءةِ الثانية. قالَ الزجاج: والثاني أظْهَر؛ لقولِه تعالى: {قُلْ فَاتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا}. ولقائلٍ أنْ يقول: لا يَمْنَعُ هذا مِنْ حَمْلِ {سِحْرَانِ} على محمدٍ وموسى عليهما السلام؛ لأنّ المعنى: قل فأتوا بكتابٍ مِنْ عندِ الله هوَ أهدى مِنْ كتابَيْهِما، ويؤيِّدُهُ قراءةُ مَنْ قرأ ((ساحران)). قولُه: (هذا الشرطُ مِنْ نحوِ ما ذكرتُ)، أي في سورةِ الشعراء: {أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] قال: ((وهوَ الشرطُ الذي يجيءُ بهِ المُدِلُّ بأمْرِهِ المتحقِّقُ بصِحّتِه، ونظيرُهُ قولُ العامِلِ لمَنْ يُؤخِّرُ جُعْلَه: إنْ كنتُ عَمِلْتُ لكَ فوفِّني حقِّي)). المُدلّ: الواثِق، وهوَ يُدَلُّ بفُلانٍ: يثقُ بِه.

فَلم يَسْتَجِبْهُ عِندَ ذاكَ مُجِيبُ حيثُ عُدِّيَ بغيرِ اللاّم؟ قلت: هذا الفعلُ يتعدّى إلى الدُّعاء بنفسِه وإلى الدّاعي باللاّم، ويُحذَفُ الدُّعاءُ إذا عُدِّيَ إلى الدّاعي في الغالب، فيُقال؛ استجابَ الله دعاءَه، أو استجابَ له، ولا يَكادُ يقال: استجابَ له دُعاءَه. وأمّا البيتُ فمعناه: فلم يستجِبْ دُعاءَه، على حذفِ المُضاف. فإن قلت: فالاستجابةُ تقتضي دُعاءً ولا دُعاءَ هاهنا. قلت: قولُه: {فَاتُوا بِكِتَابٍ} أمرٌ بالإتيان، والأمرُ بعْثٌ على الفِعلِ ودُعاءٌ إليه، فكأنّه قال: فإنْ لم يستجِيبُوا دُعاءَك إلى الإتيانِ بالكتابِ الأهدى، فاعلمْ أنَّهم قد أُلزِمُوا لهم حُجّةٌ إلاّ اتباعُ الهوى، ثمّ قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ} لا يتّبعُ في دينِه إلاّ {هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} أي: مطبوعًا على قلبه، ممنوعَ الألطاف. {إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي} أي: لا يلطُفُ بالقوم الثّابِتينَ على الظُّلم؛ الذين اللاّطِفُ بهم عابثٌ. وقولُه: {بِغَيْرِ هُدًى} في موضِع الحال، يعني: مخذُولاً مُخلًّى بينَه وبينَ هواه. [{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 51] قُرِئ: {وَصَّلْنَا} بالتَّشدِيد والتَّخفيف. والمعنى: أنَّ القُرآنَ أتاهُم مُتتابعًا مُتواصلاً، وعدًا ووَعيدًا، وقَصصًا وعِبَرًا، ومَواعِظَ ونصائِح: إرادةَ أن يتذكَّرُوا فيُفلِحُوا. أو: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فَلم يستجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجيب)، أوّله: وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيبُ إلى الندى أي: رُبّ داعٍ دعا: هلْ مِنْ مُجيبٍ إلى الندى؛ أي: هلْ أحدٌ يَمنَحُ المُستَمنِحِين؟ فلَمْ يُجِبْهُ أحد. قولُه: ({وَصَّلْنَا}، بالتشديد: السبعة، وبالتخفيف: شاذة. قولُه: (متتابعًا متواصلاً، وعدًا ووعيدًا)، قالَ الزجّاج: وَصَّلْنا لهُمُ القول؛ أي: فصّلناهُ

نزلَ عليهِم نُزولاً مُتَّصِلاً بعضُه في أثرِ بعض. كقولهِ: {وَمَ يَاتِيهِمِ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]. [{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} 52] نزلتْ في مُؤمِنِي أهلِ الكتابِ. وعن رِفاعَةَ بنِ قَرَظة: نزلتْ في عَشَرةٍ أنا أحدُهم. وقيل: في أربَعِينَ من مُسلِمِي أهلِ الإنجيل: اثنانِ وثلاثُونَ جاؤُوا مع جعفرٍ من أرضِ الحبشة، وثمانيةٌ من الشّام، والضّميرُ في {مِن قَبْلِهِ} للقُرآن. [{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} 53] فإن قلت: أيُّ فرقٍ بينَ الاستئنافَيْن: إنَّهُ وإنّا؟ قلت: الأوّلُ تعليلٌ للإيمانِ به، لأنّ كونَه حقًّا من الله حقيقٌ بأنْ يؤمِنَ به. والثّاني: بيانٌ لقولِه: {آمَنَّا بِهِ}؛ لأنَّه يُحتَملُ أن يكونَ إيمانًا قريبَ العهدِ وبعيدَه، فأُخبِرُوا أنّ إيمانَهم به مُتَقادِمٌ؛ لأنَّ آباءَهمُ القُدَماءَ قَرؤُوا في الكُتُبِ الأُوَلِ ذكْرَه وأبناؤُهم من بعدِهم {مِن قَبْلِهِ}: من قَبْلِ وُجُودِه ونُزُولِه. {مُسْلِمِينَ}: كائِنينَ على دينِ الإسلام؛ لأنّ الإسلامَ صفةُ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُصدِّقٍ للوَحْي. [{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 54] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأنْ وصَلْنا ذِكرَ الأنبياءِ أو أقاصيصَ مَنْ مضى، بعضَها ببعض. والحاصلُ أنّ الوصلَ يقتضي التتابُعَ وإنما يقال: وصل؛ إذا كانَ بينَ الكلامينَ اتصالٌ معنويٌ ومناسبة، أو اتصالٌ لفظيٌ بأنْ يكونَ الكلامُ متتابعًا مسرودًا لَمْ يقعْ بينَهُما فاصِلة. قولُه: ({مِن قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ وُجودِه)، قيل: أشارَ إلى مذهبِه.

{بِمَا صَبَرُوا} بصَبْرِهِم على الإيمانِ بالتَّوراةِ والإيمانِ بالقُرآن. أو: بصبْرِهِم على الإيمانِ بالقُرآنِ قبلَ نُزُولِه وبعدَ نُزُولِه. أو: بصبْرِهِم على أذى المُشرِكِينَ وأهلِ الكتاب. ونحوهُ: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنٍ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. {بِالحَسَنَةِ السَّيِئَةَ} بالطّاعةِ المَعصيةَ المُتقدِّمة. أو: بالحِلمِ الأذى. [{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} 55] {سَلَامُ عَلَيْكُمْ} تودِيعٌ ومُتارَكة. وعن الحَسنِ رضيَ الله عنه: كلمةُ حِلمٍ من المُؤمِنين {لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} لا نُريدُ مخالطَتهُم وصُحبَتَهُم، فإنْ قلت: مَن خاطبوا بقولِهم {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}؟ قلت: اللاّغِينَ الذينَ دَلَّ عليهِم قولُه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ}. [{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 56] {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لا تقدِرُ أن تُدْخِلَ في الإسلامِ كُلَّ مَن أحبَبتَ أنْ يدخُلَ فيه مِن قومِكَ وغيرِهم، لأنّك عبدٌ لا تعلمُ المَطبوعَ على قلبِه مِن غيرِه {وَلَكِنَّ اللهَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (توديعٌ وتارَكة)، نقلَ في ((المطلع)) عَنِ الزجّاج: لَمْ يريدوا بقولِهم: {سَلاَمُ عَلَيْكُمْ} التحية؛ وإنما أرادوا: بيننا وبينَكُمُ المتاركةُ والتسليم، كأنهم قالوا: سَلِمْتُمْ مِنّا، لا نُعارِضُكُمْ بالشّتْمِ والأذى. قولُه: ({لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}: لا تَقْدِر)، وإنما فسّرَهُ بهذا وعلله بقولِه: ((لأنكَ عبدٌ لا تَعلَمُ))؛ لأنّ كلمةَ الاستداركِ وُضِعَتْ لتدخُلَ بينَ كلامَيْنِ متغايِرَيْنِ نفيًا وإيجابًا، فإذا دَلّ قولُه: ((ولكنّ الله)) إلى آخرهِ على أنهُ تعالى يقدِرُ على الهدايةِ لعلمِهِ بالمهتدي، يجبُ أنْ يُفسّرَ قولُه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} بقولِه: لا تقدِرُ على الهدايةِ لأنكَ عبدٌ لا تعلمُ المهتدي.

يُدخِلُ في الإسلامِ {مَن يَشَاءُ} وهو الذي عَلِمَ أنَّه غيرُ مطبوعٍ على قلبِه، وأن الأَلطافَ تنفعُ فيه، فَيقْرُنُ به ألطافَه حتّى تدعُوه إلى القَبُولِ {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالقابِلِينَ مِن الذينَ لا يقبَلُون. قال الزَّجّاج: أجمعَ المُسلِمُونَ أنَّها نزلتْ في أبي طالب، وذلك أنّ أبا طالبٍ قال عندَ موتِه: ((يا مَعشَرَ بنِي هاشِمٍ، أطيعُوا مُحمَّدًا وصدِّقُوه تُفلِحُوا وتَرْشُدُوا، فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يا عَمِّ، تأمُرُهُم بالنَّصيحةِ لأنفُسِهم وتَدَعُها لنَفْسِك؟ فقالَ: فما تُريدُ يا ابنَ أخِي؟ قال: أريدُ منكَ كلمةً فإنَّكَ في آخرِ يَوْمٍ من أيّامِ الدُّنيا: أن تقولَ لا إلهَ إلاّ الله. أشهدُ لكَ بها عندَ الله. قال: يا ابنَ أخي، قد علمتُ إنَّك لصادِقٌ، ولكنِّي أكرَهُ أن يُقال: خَرِعَ عندَ المَوْت، ولولا أنْ تكُونَ عليكَ وعلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (قالَ الزجاج: أَجْمَعَ المسلمون)، والمذكورُ في ((تفسيرِه)): أجمعَ المفسرونَ أنها نزلتْ في أبي طالب. ثُمّ قال: وجائزٌ أنْ يكونَ ابتداءُ نزولِها بسببِ أبي طالب، وهيَ عامّةٌ لأنهُ لا يهدي إلا الله عزّ وجل، ولا يُرشِدُ ولا يُوفِّقُ إلا الله، وكذلكَ هوَ يُضِلُّ مَنْ يشاء. رَوينا في ((صحيح البخاريِّ)) عنِ ابنِ المسَيّب، عنْ أبيه: أنّ أبا طالبٍ لمّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ دخلَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعندَهُ أبو جهل؛ فقال: ((أي عمّ، قُل: لا إلهَ إلا الله؛ كلمةً أُحاجُّ لكَ بها عندَ الله)). فقالَ أبو جهلٍ وعبدُ الله بنُ أمية: يا أبا طالب، ترغبُ عنْ مِلّةِ عبدِ المطّلِب؟ فلَمْ يزالا يُكلِّمانِهِ حتى قالَ آخرَ شيءٍ كَلّمَهم به: على ملةِ عبدِ المطّلِب. فنزلَتْ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. وعنْ مسلم والترمذيِّ عنْ أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمِّهِ عندَ الموت: ((قل: لا إله إلا الله؛ أشهدُ لكَ يومَ القيامة))؛ فأنزلَ الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. قولُه: (خرع عندَ الموت)، بالخاءِ المعجمةِ والراء. الجوهري: الخَرَعُ- بالتحريك-: الرّخاوةُ في كلِّ شيء؛ يُقال: خرع الرّجُلُ أي: ضَعُف. النِّهاية: ويُروى بالجيمِ والزاي؛ وهو:

بَنِي أبيكَ غضاضةً ومَسَبّةً بعدي، لقُلتُها، ولأقرَرْتُ بها عَيْنَك عندَ الفِراق، لِما أرى من شِدَّةِ وَجَدِكَ ونصيحَتِك، ولكنِّي سَوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المُطَّلِبِ وهاشِمٍ وعبدِ مَناف)). [{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 57] قالت قريش- وقيل: إنّ القائِلَ الحارثُ بنِ نَوفَلٍ بنُ عبدِ مَناف-: نحنُ نعلمُ أنَّك على الحقِّ، ولكنّا نخافُ إِنِ اتَّبعناكَ وخالَفْنا العَرَبَ بذلك، وإنَّما نحنُ أَكَلَةُ رأسٍ، أي: قليلُون أن يتخطَّفُونا مِن أرضِنا، فألقَمَهُم الله الحَجَر. بأنّه مكَّنَ لهُم في الحَرَمِ الذي آمَنَهُ بحُرمةِ البيتِ وآمَنَ قُطّانَهُ بحُرمَتِه، وكانتِ العربُ في الجاهِليّةِ حولَهُم يتغاوَرُون ويتناحَرُون، وهُم آمِنُون في حَرَمِهِم لا يخافُون، وبِحُرمةِ البيتِ هُمْ قارُّونَ بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، والثَّمَراتُ والأرزاقُ تُجبي إليهِم مِن كُلِّ أَوبٍ، فإذا خوَّلَهُم الله ما خوَّلَهُم مِنَ الأمنِ والرِّزقِ بحُرمةِ البيتِ وَحْدَها وهُم كفرةٌ عَبَدةُ أصنامٍ؛ فكيفَ يستقيمُ أن يُعرِّضَهم للتّخَوُّفِ والتَّخَطُّف، ويَسلُبَهمُ الأمنَ إذا ضَمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ الإسلامِ، وإسنادُ الأمنِ إلى أهلِ الحَرَم حقيقةٌ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخَوْف. وقالَ ثعلب: إنما هوَ بالخاءِ والراء. قولُه: (غضاضة)، ذِلّةٌ ومَنقَصة. قولُه: (أَكَلَةُ رأس، أي: قليلون)، يكفيهِمْ رأسٌ واحد، وهوَ جَمْعُ ((آكِل)). قولُه: (أنْ يتخطّفونا مِنْ أرضِنا)، التخَطُّف: الانتزاعُ بسرعة. قولُه: (فألقَمَهَم الله الحَجَرَ)، ألقَمَهُ الحَجَر: ألزَمَهُ الحَجّة؛ مِن: إلقامِ الأُمِّ الثدي. قولُه: (يتغاورون)، الأساس: التغاور: التناحُر، وفلانٌ مغايرٌ ومغاور، ومغوارٌ مِنْ قومٍ مغاوير. والأَوْب: المرجع، كُلُّ أَوْب: كُلُّ وَجْه.

وإلى الحرمِ مجازٌ. {يُجْبي إِلَيْهِ} تُجلَبُ وتُجمَعُ. قُرِئَ بالياءِ والتّاء. وقرئَ: (تُجني)، بالنُّون، من الجَنْي. وتَعْدِيَتُه بـ ((إلى)) كقولِه: يَجنِي إليَّ فيه، ويَجْني إلى الخافة و ((ثُمْراتٌ)): بضمَّتَينِ وبضَمَّةٍ وسُكُون. ومعنى الكُلِّيّة: الكَثرةُ، كقولِه: {وَأُوِتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} متعلِّقٌ بقولِه {مِّن لَّدُنَّا} أي: قليلٌ منهم يُقِرُّونَ بأنَّ ذلك رِزقٌ من عندِ الله، وأكثُرهم جَهَلةٌ لا يَعلَمُونَ ذلك ولا يَفْطِنُون له، ولو عَلِمُوا أنَّه من عندِ الله لعَلِمُوا أنَّ الخوفَ والأمنَ من عندِه. ولمَا خافُوا التَّخطُّفَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإلى الحرم مجاز)، إذا جعلَ {ءَلمِنًا} صفةً لـ {حَرَمًا}. قالَ في البقرة: ((أو آمنًا مَنْ فيه؛ كقولِك: نهارُهُ صائمٌ وليلُهُ قائم)). قولُه: (قُرِئَ بالياءِ والتاء)، نافع: بالتاءِ الفوقانية، والباقون: بالياء، وبالنونِ: شاذ. والجني: قطعُ الثمر. قولُه: (ويجني إلى الخافة)، الجوهري: الخافة: الخريطةُ مِن أدمٍ يُشتارُ فيها العسل. قولُه: (و ((ثُمُرات)) بضمّتَيْن)، قالَ ابنُ جِنّي: هيَ قراءةُ أبانِ بنِ ثعلب، جُمِعَ ((ثَمَرةٌ)) على ((ثُمْرٍ))؛ نحو: خَشَبةٍ وخُشْب، وأكَمةٍ وأُكْم، ثُمّ ضُمّتْ الميمُ إشباعًا وتمكينًا، ثم جُمِعَ ((ثُمُرٌ)) على ثُمُراتٍ جمعَ التأنيث؛ فجرى ما لا يعقُل مجرى المؤنث، وعليهِ قالوا: يا ثاراتِ فلان؛ جمعُ ثأر. قولُه: (ومعنى الكُلِّية: الكثرة)، عن بعضِهِم: كلمةُ ((كل)) للإحاطة؛ فاستُعيرتْ لنفسِ الكثير؛ لأنهُ مجموعُ المعنى مفردُ اللفظ. قولُه: (ولا يَفطِنون)، الفِطْنةُ كالفَهْم؛ تقولُ: فطَنْتُ الشيءَ-بالفتح-، وقدْ فَطِنَ- بالكسر- فِطنةً وفَطانة. وفي حديثِ فاطمةَ رَضِيَ الله عنهما: فلَمْ يفطِنْ حتى فطِنْتُ لها.

إذا آمنوا به وخلعوا أنداده. فإن قلت: بم انتصب رزقاً؟ قلت: إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله؛ لأنّ معنى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ويرزق ثمرات كل شيء: واحد، وأن يكون مفعولاً له. وإن جعلته بمعنى: مرزوق، كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة. [(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) 58] هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر، فدمرّهم الله وخرّب ديارهم. وانتصبت (مَعِيشَتَها) إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وإمّا على الظرف بنفسها، كقولك: زيدٌ ظنى مقيم. أو بتقدير حذف الزمان المضاف، أصله: بطرت أيام معيشتها، كخفوق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وخلعوا أندادَه)، النهاية: هوَ مِن: خلعتُ الثوب؛ إذا ألقيتَهُ عنك. شُبِّهَتِ الطاعةُ واشتمالُها على الإنسانِ به، ومنهُ سُمِّيَ الأميرُ إذا عُزِل: خليعًا قَدْ لَبِسَ الإمارةَ ثُمّ خَلَعَها. قولُه: (مِن إنعامِ الله عليهم بالرُّقودِ في ظلالِ الأمنِ وخفضِ العيش)، قال: مَنْ كانَ بالدنيا أخا ثقةٍ بها ... والأمنُ مذهبُ ليلهِ ونهارهِ عطفتْ عليهِ مِنَ الردي بقوابل ... قدْ نامَ عنها ناظرًا لحِذارِه قولُه: (فغَمِطُوا)، أي: حَقّروا. وغمطُ الناس: الاحتقارُ لَهُمْ والإزراءُ بهم، قالُه الجوهري. قولُه: (وإما على الظرفِ بنفسها)، سمّاهُ ظرفًا مجازًا؛ لأنهُ مصدرٌ مؤوّل. ويجوزُ أنْ يكونَ ((مفعلة)) للزمانِ والمكان؛ كقولِك: زيدٌ ظني مقيم؛ أي: في ظني، والعاملُ في ((ظني)) المنتَزَعُ مِنْ معنى الجملةِ كالإخبارِ والإسنادِ والحكم.

النجم، ومقدم الحاج. وإمّا بتضمين (بَطِرَتْ) معنى: (كفرت) و (غمطت). وقيل: البطر سوء احتمال الغنى, وهو: أن لا يحفظ حق الله فيه. (إِلَّا قَلِيلًا) من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً, أو ساعةًً, ويحتمل أنّ شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لتلك المساكن من ساكنيها، أى: تركناها على حالٍ لا يكنها أحدٌ، أو: خرّبناها وسوّيناها بالأرض. تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع [(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ) 59] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإما بتضمين {بَطِرَتْ} معنى ((كفرت)))، الأساس: ومِنَ المجاز: بَطِر فلانٌ نعمةَ الله؛ أي: استخفّها فكفَرَها، ولم يستَرْجِهْها فيشكُرْها. ومنهُ قولُه تعالى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}. قولُه: (البَطَر: سوءُ احتمالِ الغِنى؛ وهوَ أنْ لا يحفظَ حقّ الله فيه)، النهاية: في الحديث: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ)) هوَ أنْ يجَعَلَ ما جَعَلَهُ الله حقًّا مِنْ توحيدِهِ وعبادتِهِ باطلاً. قولُه: ({إِلاَّ قَلِيلاً} مِنَ السُّكْنى)، يُقال: سَكَنْتُ داري وأسْكَنْتُها غيري، والاسمُ مِنه: السُّكْنى؛ كما أنْ العُتْبى مِنَ الإعتاب. فقولُه: ((إلا قليلاً مِنَ السكنى)) معناه: إلا سُكنى قليلاً. قولُه: (أي: تركناها على حالٍ لا يسكُنُها أحد)، وذلكَ أنّ معنى أنهُ تعالى وارثٌ هو: أنّ الأشياءَ كلّها في العاقبةِ زائلةٌ عمّنِ ادّعى ملكَها، صائرةٌ إليهِ تعالى لمّا ينادِي: لِمَنِ الملكُ اليوم؟ فيُقال: لله الواحدِ القهار. قولُه: (تتخلف الآثار) البيت للمتنبي، يعني: تتبعُ الآثارُ الأصحابَ، أي: الآثارُ تبقى بعدَ صاحبِها زمانًا مِنَ الدهر، ثم تفني وتتبعُ صاحِبَها في الفناء.

وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقتٍ (حَتَّى يَبْعَثَ فِي) القرية التي هي أمّها، أى: أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها (رَسُولًا) لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون. أو: وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعنى: مكة رسولاً؛ وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وقرئ: (إمها) بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجرّ، وهذا بيانٌ لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقَصَبتُها التي هيَ أعمالُها)، الجوهري: قصبةُ القرية: وسطُها، وقصبةُ السواد: مدينتُها. قولُه: (لإلزامِ الحُجّةِ وقطعِ المعذِرة، معَ علمِهِ أنّهُمْ لا يُؤمنون)، هذا يَهدِمُ قاعدةَ مذهبِهِ؛ لأنّ لَهُمْ أنْ يعتذروا بسابِقِ علمِهِ فيقولوا: أليسَ في علمِكَ وحُكمِكَ أنّا لا نؤمِن؟ فكيفَ لنا أنْ نأتِيَ على خِلافِ علمِك؟ وليسَ الجوابُ عنهُ إلا أنْ يُقال: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]. قولُه: (أو: وما كانَ في حُكم الله وسابقِ قضائه)، هذا الوجهُ مبنيٌّ على قولِه تعالى: {وَإِن مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ} [الإسراء: 58]، ومِنَ أمارات القيامةِ بعثةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: ((بُعِثتُ أنا والساعةُ كهاتين)). والوجهُ الأولُ أوفقُ لتأليفِ النّظْم؛ لأنهُ تعالى لمّا قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} بَيّنَ أنّ الإهلاكَ إنما كانَ لأنهم لم يشكروا الله على ما أوْلاهُمْ مِنَ النعمة، ومِنْ أَجَلِّ النعمةِ بعثةُ الرُّسُلِ وشكرُ الاقتداءِ بهداهُمْ والاقتفاءِ بآثارِهم. قولُه: (إلا بعدَ تأكيدِ الحُجّةِ والإلزامِ ببعثةِ الرُّسُل)، الانتصاف: هذا سؤالٌ واردٌ على

ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال تعالى: (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود: 117]. فنصّ في قوله: (بِظُلْمٍ) أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلماً منه، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافيةٌ للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال الله تعالى: (وَما كانَ الله لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقره: 143]. [(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) 60] وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا؛ فما هو إلا تمتعٌ وزينةٌ أياماً قلائل، وهي مدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القَدَريّة؛ إذْ لَوْ كانتِ العقولُ تحكُمُ بأحكامِ التكاليف؛ لقامتِ الحُجّةُ على الناس، وإنْ لَمْ يكُنْ بعثة، ولا يجدونَ عنهُ جوابًا. قولُه: (ولا يجعلُ عِلْمَهُ بأحوالهِم حُجّةً عليهم)، يعني: أنّ الله تعالى لا يعامِلُ خلقَهُ بعِلْمِه؛ بلْ يعاملُهُم بفعلِهِم. قولُه: (فنَصّ في قولِه: {بِظُلْمٍ} أنّهُ لوْ لأهلَكَهُم وهُمْ مصلِحون؛ لكانَ ذلكَ ظُلمًا مِنه)، فجوابُهُ أنهُ لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ معناه: ليسَ مِنْ شأنِهِ وعادتِهِ إلا التفضُّلُ والرحمة؛ فلا يُهلِكُهُم في حالِ صلاحِهِم، ولوْ فَرَضَ إهلاكَها فبِعَدِلِه؛ لأنهُ يتصرّفُ في مُلكِهِ؟ كما سَبَق. قولُه: (وأيّ شيءٍ أصَبْتُموه)، أبرزَ الضميرَ المنصوبَ ليُؤذِنَ ((ما)) - في {وَمَا أُوتِيتُم} - موصولة، وقدْ بُيِّنَتْ بقولِه: {مِن شَيْءٍ}؛ فأفادَتِ الشيوعَ فأُجِيبَ بالفاءِ في قولِه: {فَمَتَاعُ} على طريقِ الإخبارِ والتنبيه، كما في قولِه: {وَمَا بِكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. ويؤيِّدُهُ قولُه: {وَمَا عِند اللهِ خَيْرٌ}؛ لأنهُ قرينة، وليستْ {وَمَا} إلا موصولة. وأما إفادةُ الحصرِ في قولِه: ((فما هوَ إلا تمتُّعٌ وزينة)) فمِنْ مفهومِ التركيب؛ لأنّ الآيةَ مِنَ

الحياة المتقضية. (وَما عِنْدَ الله) وهو ثوابه (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك (وَأَبْقى)؛ لأنّ بقاءه دائمٌ سرمدٌ. وقرئ: (يعقلون) بالياء، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباسٍ رضى الله عنهما: "أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصنافٍ: المؤمن، والمنافق، والكافر؛ فالمؤمن يتزوّد، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع". [(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) 61] هذه الآية تقريرٌ وإيضاح للتي قبلها. و (الوعد الحسن): الثواب؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقسيمِ الحاضر، كأنُه قيل: إنّ ما يتصلُ بكُمْ ما هوَ مِنْ عندِ الله، أو غيرُ ذلك. فالأوّلُ باقٍ لا محالة، والثاني فانٍ ولا شكّ فيه. قولُه: (وقُرِئَ: ((يعقلون)))، بالياءِ التحتانيّة: أبو عمرو، وهوَ أبلغُ في الموعظة؛ لأنّ الخطابَ معَ أهلِ مكة، كأنهُ لمّا عَدَلَ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبةِ آذَنَ بأنّ أولئك البُعداءَ مِنَ الخيرِ لا عقلَ لهم؛ حيثُ يُؤْثِرونَ الفاني على الباقي، والدنيءَ الحقيرَ على الشريفِ العظيم. روى الإمامُ عنِ الشافعيِّ رَضِيَ الله عنه: مَنْ بثُلُثِ مالِهِ لأعقلِ الناسِ صرفَ إلى المشتغِلينَ بطاعةِ الله؛ لأنّ أعقلَ الناسِ مَنْ أعطى القليلَ وأخذَ الكثير. فكأنهُ رَضِيَ الله عنهُ اقتبسَ المعنى مِنْ هذهِ الآية. قولُه: (هذهِ الآيةُ تقريرٌ وإيضاح)، أما كونهُ تقريرًا فإنهُ ضَرَبَ المعنَيَيْنِ- أعني: {وَمَا أُوتِيتُم}، {وَمَا عِندَ اللهِ} - مثلاً في هذهِ الآية، وأخرجَهُما مخرجَ المشبّهِ والمشبّهِ به، وأَدْخَلَ همزةَ الإنكارِ على فاءِ التعقيبِ العاطفةِ لهذهِ الجملةِ على الأولى. والمعنى: أَبَعْدَ هذا التفاوتِ الظاهرِ يستويان؟ أي: أبناءُ الدنيا والآخرة. وأما البيانُ فإنهُ تعالى ذكرَ أنّ ما أوتوا مِنْ شيءٍ فهوَ تمتُّعٌ وزينةٌ أيامًا قلائل. ولمْ يبيِّنْ في تلكَ الآيةِ مالَها وسوءَ مغبّتِها فبيّنَ في هذهِ الآيةِ أنّ المالَ أنّهُمْ يُحضَرونَ النار، وذكَرَ فيها أنّ ما عندَ الله خيرٌ وأبقى. ولمْ يبيِّنْ العاقبةَ فيه؛ فبيّنَ في

لأنه منافع دائمةٌ على وجه التعظيم والاستحقاق، وأى شيء أحسن منها؟ ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. و (لاقِيهِ) كقوله تعالى: (ولقاهم نضرة وسروراً)، وعكسه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59] (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الذين أحضروا النار, ونحوه: (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 57]، (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات: 127] قيل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى جهل. وقيل: في على وحمزة وأبى جهل. وقيل: في عمار ابن ياسرٍ والوليد بن المغيرة. فإن قلت: فسر لي الفاءين وثم، وأخبرنى عن مواقعها. قلت: قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما، ثم عقبه بقوله: (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأمّا الثانية فللتسبيب: لأن لقاء الموعود مسببٌ عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأمّا (ثم) فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخى وقته عن وقته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذهِ أنّ الموعودَ الجنّة، وإليهِ الإشارةُ بقولِه: ((والوَعْدُ الحَسَن: الثواب)) إلى قولِه: ((ولذلكَ سَمّي الله الجنةَ بالحسنى)). قولُه: (لأنُه منافِعُ دائمة)، تعليلٌ لتفسيرِ الوعدِ الحسنِ بالثواب. وإنّما قَيَّدَ التعريفَ بقولِه: ((على وجهِ التعظيم))؛ لأنّ المنافعَ الدينيويةَ ليستْ للتعظيم؛ أكثرُها بلْ جُلُّها استدراج، قالَ الله تعالى: {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]. وقيّدَ الاستحقاقَ إشارةً إلى مذهبِه؛ فإنهُ عندَنا على وجهِ التفضُّل. قولُه: (وأما {ثُمَّ} فلتراخي حالِ الإحضارِ عنْ حالِ التمتيع، لا لتراخي وقتِهِ عنْ وقتِه)، لأنهُ أبلَغُ وأكثرُ إفادةً لأنّ تأخُّرَ زمانِ الإحضارِ عنْ زمانِ التمتيعِ ظاهرٌ بَيِّن، لا يحتاجُ إلى التنبيهِ عليه. قالَ صاحبُ ((الفرائد)): لا مانعَ أنْ تكونَ مستعمَلةً في حقيقتِها وهوَ التراخي في الزمان، والحملُ على المجازِ بدونِ المانعِ باطل. ويمكنُ أنْ يُقال: متّعناهُ زمانًا وهوَ زمانُ حياتِه، ثُمّ أُحضِرَ يومَ القيامة.

وقرئ: (ثُمَّ هُو) بسكون الهاء، كما قيل (عضدٌ) في (عضدٍ)؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء -في (فهو)، (وهو)، (ولهو) - أحسن؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده؛ فهو كالمتصل. [(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) 62] (شُرَكائِيَ) مبنى على زعمهم، وفيه تهكمٌ. فإن قلت: (زعم) يطلب مفعولين، كقوله: ولم أزعمك عن ذاك معزلا فأين هما؟ قلت: محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلتُ: مَنْ مُنِحَ الذّوْقَ السليمَ والطّبْعَ المستقيمَ فلْيَذُقْ ما أثرُهُ معَ قولِنا: متّعناهُ أيامًا قلائلَ ثُمّ أَوْقَعناه في مشاقِّ الأبد، على نحوِ قولِه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]؛ هلْ يَجِدُ لهُ رَوْنَقًا وبهاء؟ ولنحقق أنّ أربابَ البلاغةِ وأصحابَ الفصاحةِ إذا وجدوا الطريقَ إلى المجازِ عَدَلوا عنِ الحقيقة؛ لِتضمُّنِهِ مثلَ هذهِ اللطائف. قولُه: (وقُرِئَ: ((ثُمَّ هْوَ)) بسكونِ الهاء)، قرأها قالونُ والكسائي. قولُه: (ولم أزعُمْكِ عنْ ذاكَ معزلاً)، أولُه: وإنّ الذي قَدْ عاشَ يا أُمّ مالكٍ ... يموتُ ويُروى: عَددتَ قُشيرًا إذْ فَخَرْتَ فلَمْ أُسَا ... بِذاكَ

ويجوز حذف المفعولين في باب "ظننت"، ولا يصح الاقتصار على أحدهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويجوزُ حذفُ المفعولَيْنِ في بابِ ((طننت))، ولا يصحُّ الاقتصارُ على أحدِهما)، وذكرَ في ((المفصّل)): وليسَ لكَ أنْ تقول: حَسِبْتُ زيدًا، وتَسْكُت؛ لِفَقْدِ ما عَقَدْتَ عليهِ حديثَك، فأمّا المفعولانِ معًا فلا عليكَ أنْ تسكُتَ عنهما. وذكرَ في فاتحةِ سورةِ العنكبوت: أنّ الحُسبانَ لا يصحُّ تعلُّقُهُ بمعاني المفرداتِ ولكنْ بمضامينِ الجُمَل، إلى آخرهِ. وقالَ بعضُهم: فمَنْ قرأَ ((الكاشفيةَ)) وضح الفرق بَين امتناعِ طرحِ أحدِ المفعولَينِ وبينَ جوازِ طرح أحدِ الشطرَيْنِ في بابِ المبتدأ والخبر، معَ أنَّ البابَيْنِ مِنْ حيثُ المعنى سِيّان؛ وذلكَ أنَّ تعَلُّقَ تلكَ الأفعالِ بمضامينِ الجُمَلِ وهيَ أمورٌ خَفِيّةٌ في نفسِها؛ إذْ هيَ مِنَ المعقولاتِ الذهنيةِ لا مِنَ الملفوظات، والتعلُّقُ بها أمرٌ خَفِيّ، ولوْ طُرِحَ أحدُ الشطرَيْنِ لتراكَمَ الخفاء، بخلافِ الجملةِ الخبرية؛ فإنّ مراتبَ الخفاءِ فيهِ أقل، فاعرِفْه. وأما جوازُ طرحِ المفعولَيْن؛ فلأنّ عندَ طرحِهما ينتفي المضمونُ وتعلُّقُ الفعلِ به، ويصيرُ الغرضُ نفسَ إحداثِ ذلكَ الفعل. وقلتُ: هذا كلامٌ حسن؛ فإنّ قولَهُ تعالى: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12] حينئذٍ بمنزلةِ: فلانٌ يعطي ويمنعُ في الشياع في جميع ما فسدَ مِنَ الظنّ. وقولُ القائل: مَنْ يسمعْ يَخَلْ؛ أي: مَنْ يسمعْ يَخَلِ المسموعَ صحيحًا؛ إذْ معنى ((مَنْ يسمع)): مَنْ يركَنْ إلى السماع. والآيةُ واردةٌ على هذا. وقالَ صاحبُ ((التحفة)): معنى الاقتصارِ أنْ لا يكونَ أحدُ المفعولَيْنِ مرادًا، فأما إذا حُذِفَ لقرينةٍ دَلّتْ عليهِ وهوَ مُرادٌ معنًى؛ فليسَ اقتصارًا، كما لا يُسمّى حذفُ الخبرِ اقتصارًا على المبتدأ؛ لأنّ الحذفَ لا يجوزُ إلا بدليل. وأما بابُ ((كسوت)) فيجوزُ الاقتصارُ بدليلٍ وبغيرِ دليل؛ لأنّ الأولَ منهما غيرُ الثاني. فأما قولُ الأخفش: إذا دخلَتْ هذهِ الأفعالُ على ((أنّ))

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحْوَ: ظننتُ أنكَ قائم؛ فالمفعولُ الثاني منهما محذوف، والتقدير: ظننتُ قيامَكَ كائنًا؛ لأنّ المفعولَ مع ((أنّ)) المفتوحة بتأويلِ المفرد. وأما سيبويهِ فيرى أنها سَدّتْ مَسَدّ المفعولَيْن، وأجازَ الكوفيّونَ الاقتصارَ على الأوّلِ إذا سَدّ شيء مَسَدّ الثاني كما في بابِ المبتدأِ، نحو: أقائمٌ أخواك؟ فيقولُ على هذا: ظننتُ قائمًا أخواك. وقالَ المالكي: إذا دَلّ دليلٌ على أحدِهِما جازَ حذفُه، كقولِه: كأنْ لَمْ يكنْ بَيْنٌ إذا كانَ بعدَهُ ... تلاقٍ ولكنْ لا أَخَالُ تلاقيا أي: لا أَخالُ الكائنَ تلاقيًا، أو: لا أخالُ بعدَ البَيْنِ تلاقيًا. وعليهِ قولُ المصنّفِ في قولِهِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَا} [آل عمران: 169]: ويجوزُ أنْ يكونَ {الَّذِينَ قُتِلُوا} فاعلاً؛ المعنى: ولا تحسَبَنّهُمُ الذينَ قتلوا أمواتًا؛ أي: أنفسَهُم. إنما جازَ حذفُهُ لأنهُ في الأصلِ مبتدأ؛ فحُذِفَ كما حُذِفَ المبتدأُ في قولِهِ: {أَحْيَاءُ} [آل عمران: 169]؛ أي: هُمْ أحياء. وقولُه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور: 57] الأصل: لا تحسَبَنّهُمُ الذينَ كفروا مُعجِزِين، ثُمَّ حُذِفَ الضميرُ الذي هوَ المفعولُ الأوّل. وكانَ الذي سَوّغَ ذلكَ أنّ الفاعلَ والمفعولَيْنِ لمّا كانا كشيءٍ واحد؛ اقتنعَ بذكرِ الاثنَيْنِ عنْ ذِكرِ الثالث. وقلتُ: في هذا القيدِ إعلامٌ بشدةِ الاهتمامِ بمضامِينِ الجُمَلِ دُونَ مفرداتِها، ولعلّ السرّ أنّ هذهِ الأفعالَ قيودٌ للمضامينِ تدخلُ على الجملةِ الاسميةِ لبيانِ ما هيَ عنه؛ لأنّ النسبةَ قدْ تكونُ عنْ عِلْمٍ وقدْ تكونُ عنْ ظنٍّ، فلَوِ اقْتَصَرَ على أحدِ طرفَي الجملةِ لقيامِ قرينةٍ يوهِمُ أنّ الذي سيقَ لهُ الكلامُ والذي هوَ مهتمٌّ بشأنِهِ الطرفُ المذكور، وليسَ المضمونُ مما يُعتني به. نعمْ إذا كانَ الفاعلُ والمفعولُ لشيءٍ واحدٍ يهونُ الخَطْب. ويؤيِّدُهُ ما ذكرَهُ صاحبُ ((الإقليد)): أنك إذا قلتَ: حسبتُ زيدًا منطلقًا؛ فقدْ عقدْتَ الحديثَ على أنّ زيدًا مظنونٌ انطلاقُهُ عندَك، فلَوْ قلتَ: حسبتُ زيدًا، وسَكَتّ؛ فقدْتَ ما

[(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّانا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) 63] (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى (حق عليهم القول): وجب عليهم مقتضاه وثبت، وهو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 119] , [السجده: 13] و (هؤُلاءِ) مبتدأ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) صفته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوَ فيهِ الفائدةُ العظمى وهوَ الثاني؛ لأنهُ هوَ الذي وقعَ فيهِ الشك، وقصدُكَ بهذا التركيبِ أنْ تُخبِرَ بذلكَ لا الإخبارُ بذاتِ زيد؛ وإنما تذكرُ ((زيدًا)) ليترتّبَ الثاني عليه. ولوْ قلتَ: حسبتُ منطلقًا وسَكَتّ؛ خَرَجَ مِنْ يَدِكَ ما يفيدُهُ الأولى، وهوَ أنهُ هوَ الذي انطلاقُهُ مظنونٌ عندَك؛ فإذنْ لابدّ مِنْ ذِكْرِ كِلَيْهما. وأما قولُ القائل: إنّ تَعَلُّقَ تلكَ الأفعالِ بمضامينِ الجُمَل، وهيَ أمورٌ خَفِيةٌ، إلى آخرِه؛ فمدفوعٌ بجوازِ حَذْفِ أحدِ شطرَيِ اسمِ إنّ وخبرِه، وأنها لتوكيدِ مضمونِ الجملة. قولُه: (و {هَؤُلاَءِ} مبتدأ، و {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} صفتُه)، روى صاحبُ ((الكشف)) عن أبي عليٍّ أنه قال: {هَؤُلاَءِ} مبتدأ، و {الَّذِينَ أَغْوَيْنآ} خبرُ مبتدأ آخر، والتقدير: هؤلاءِ همُ الذّين أغويناهم، و {أَغْوَيْنَاهُم كَمَا غَوَيْنَا} استئنافٌ، ولا يكونُ ((الذين أغويناهم)) صفةً لـ {هَؤُلاَءِ} ويكونُ {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبرًا؛ لأنهُ حينئذٍ لا يكونُ مُفيدًا بقولِه: {أَغْوَيْنَاهُمْ} زيادةً لم تُستَفَدْ بالصفةِ والموصوف. قال: فإنْ قلتَ: فلِمَ لا يكونُ قولُه: {أَغْوَيْنَاهُمْ} خبرًا، وجازَ لتعلُّقِ قولِه: {كَمَا غَوَيْنَا} به؛ فيكونُ مفيدًا فائدةً زائدةً ليستْ في الصفةِ والموصوف؟ والجواب: إنّ ذلكَ يُوجبُ أنْ يكونَ قولُه: {غَوَيْنَا} جاريًا مجرى ما لابدّ مِنهُ مِنْ أحدِ جُزَئيِ الجملة، وهذا لا يجوز؛ لأنهُ ظرف، والظروفُ فَضَلاتٌ في الكلامِ بمنزلةِ المفعول، فكما لا يجوز: زيدًا ضَرَب؛ بنصبِ ((زيد)) على أنهُ مفعولُ ((ضَرَب))، وفي ((ضَرَبَ)) ضميرٌ يعودُ إليه؛ لأنهُ يؤدي إلى أَنْ يكونَ الفَضْلةُ لابدّ منهُ لِعَوْدِ الضميرِ إليه؛ فكذا لا يجوزُ هذا هاهنا. هذا كلامُه.

والراجع إلى الموصول محذوفٌ، و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر, والكاف صفة مصدرٍ محذوف، تقديره: أغويناهم، فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون: أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد قالَ [أبو] عثمان: إنا رأَيْنا الظرفَ الذي يدّعِيهِ فضلةً لابدّ مِنه، كقولهِم: زيدٌ قائمٌ عمروٌ في دارهِ؛ فلابدّ مِنْ قولِك: في دارِه؛ ليعودَ مِنَ الجملةِ إلى ((زيد)) ضمير، وهوَ فَضْلةٌ في الكلام؛ فكذا هاهنا ينبغي أنْ يكونَ {أَغْوَيْنَا} خبرًا؛ لتعلُّقِ قولِهِ: {كَمَا غَوَيْنَا} بهِ وإنْ كانَ فَضْلة. وأما المصنفُ فقدْ خالفَ أبا عليٍّ وأبا عثمانَ أيضًا، وذهبَ إلى أنهُ كَرّرَ {أَغْوَيْنَا} في الخبر؛ ليعلِّقَ بهِ المصدرَ الذي يُوجِبُ إضمارَ فعلٍ يطابِقُه؛ لأنّ {كَمَا غَوَيْنَا} غيرُ مطابِقٍ لـ {أَغْوَيْنَا}، فيفيدُ تشبيهَ الغواية بالغواية؛ ولذلكَ قال: إنّا لَمْ نُغْوَ إلا باختيارِنا؛ لأنّ فَوْقَنا مُغوِين. ومِثْلُ في تكرير الخبرِ للتوكيدِ والتعليقِ قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] إذا قيل: استزلالُهم الشيطان هوَ التّوَلِّي كما سَبَق، وفائدةُ التكريرِ والتعليقِ وتقديرِ فاءِ التعقيبِ الإيذانُ بتسجيلِ استحقاقِ العذابِ مِنْ إمهال؛ إذِ المعنى: أغويناهُمْ فَغَوَوْا، ولَمْ تتخلّفْ غوايتُهُمْ عنْ إغوائِنا إياهم؛ أي: أطاعونا بسُرعةٍ مِنْ غيرِ رَوِيّةٍ وتَفَكُّر. والذي يقتضيهِ النّظْمُ أنْ يُرادَ بقولهِ: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الشركاءُ مِنَ الشياطينِ والجنِّ بشهادةِ قولهِ: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، وقولِه: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} بعدَه؛ وذلكَ أنّ الشركاءَ لمّا خَذَلوهُمْ وتَبَرّؤوا مِنهُمْ قيلَ لَهُمْ مُوَبِّخًا: هؤلاء شُركاؤُكُمُ الذينَ كنتُمْ تزعمونَ أنّهُمْ يشفعونَ لَكُمْ وينصرونكم؛ فادْعُوهُمْ لِيستجيبوا لكُم. فحينئذٍ المعنى: هؤلاءِ الذينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهُمْ فَغَوَوْا كما غَوَيْنا نحنُ بإغواءٍ قاهر. لأنّ الأصلَ في التشبيهِ أنْ يكونَ الوجهُ شاملاً للطرفَيْن؛ فلا بدّ مِنْ تقديرِ ((قاهر)). ويَعضُدُهُ قولُه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُستَقِيمَ} [الأعراف: 16].

فوقنا مغوين أغرونا بقسرٍ منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسةًًً وتسويلاً لا قسراً وإلجاءً، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل, وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان, وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22] والله عزّ وجلّ قدّم هذا المعنى أوّل شيء، حيث قال لإبليس (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر: 42]. (تَبَرَّانا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ناهيكَ بذلكَ صارفًا)، عنْ بعضِهم: نَاهِيكَ ونَهاكَ ونَهْيُك؛ أي: حَسْبُك، يُقال: هذا رجلٌ ناهِيكَ مِنْ رَجُل، وأَنْهاكَ مِنْ رَجُل. وتأويلُهُ أنهُ بِجِدِّهِ وغَنائِهِ يَنْهاكَ عنْ تَطَلُّبِ غيرِه. قال: هوَ الشيخُ الذي حدّثْتَ عنه ... نهاكَ الشيخُ مكرمةً وفخرَا وهذه امرأةٌ ناهيكَ مِنَ امرأة؛ تُذكّرُ وتُؤنّث، وتُثَنى وتُجمَع؛ لأنهُ اسمُ فاعل. وإذا قلتَ: نَهْيُكَ مِنْ رَجُل، كما تقول: حَسْبُكَ مِنْ رَجُل؛ لَمْ تُثَنّ ولَمْ تُجْمَع؛ لأنهُ مصدر. وتقولُ في المعرفة: هذا عبدُ الله ناهيكَ مِنْ رَجُل؛ فتَنْصِبُ ((ناهيك)) على الحال. قولُه: (والله تعالى قدّمَ هذا المعنى)، وهوَ أنّ إغواءَ الشيطانِ لمْ يكنْ إلا وَسْوَسةً وتسويلاً، لا قَسْرًا وإلجاءً. قولُه: (أول شيء)، أي: أولُ قصةٍ حكاها عنْ إبليس، كقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيّكُم مِن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي} [إبراهيم: 22].

بأنفسهم، هوى منهم للباطل ومقتاً للحق، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطانٍ (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف؛ لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى. [(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ *وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ *فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) 64 - 66] (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجهٍ من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو: لو أنهم كانوا مهتدينمؤمنين، لما رأوه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإخلاءُ الجملتيْنِ مِنَ العاطف؛ لكونهما مُقرِّرتيْنِ لمعنى الجملةِ الأولى)، إحداهُما: {تَبَرَّانَا إِلَيْكَ}، وثانيهِما: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، كما قال الشاعر: وقدْ رَكِبتُمْ صماءَ معضلةً ... تفري البراطيلَ تفلقُ الحَجَرا وذلكَ أنّ الشركاءَ لمّا سَمِعوا: {أَيْنَ شُرَكَاءِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تبرّؤوا عنهُمْ بقولِهم أولاً: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذينَ أَغْوَيْنَا أغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}؛ أي: غَوَوْا باختيارِهِم؛ لأنّ إغواءَنا لم يكنْ إلا وسوسةً وتسويلاً لا قسرًا، ولا فرقَ بينَ غَيَّنا وغَيِّهم. قولُه: ({لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} لِوَجهٍ مِنْ وجوهِ الحيلِ يدفعونَ بهِ العذاب)، فالجوابُ محذوفٌ، ودلّ عليهِ سياقُ الكلام. قولُه: (أوْ لوْ أنهُمْ كانوا مهتدِينَ مؤمِنين؛ لَمَا رَأَوْه)، والجوابُ أيضًا محذوفٌ يدلُّ عليهِ قولُه: {وَرَأَوْا العَذَابَ}. ولوْ أنهُمْ كانوا مُهتَدينَ في الدنيا لَمَا رَأوا العذاب في الآخرة؛ فقولُه: ((لَمَا رَأَوْه)) متعلقٌ بالوجهِ الثاني، ويجوزُ أنْ يتعلّقَ بالوجهيْن.

أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أو تَمَنّوْا لو كانوا مُهتدِين)، وَلّدَ ((لو)) معنى التمنِّي لجامعِ الامتناع، ولمْ يَحتَجْ إلى الجواب. قالَ صاحبُ ((التقريب)): وفيهِ نظر؛ إذْ حقُّهُ أنْ يُقال: لوْ كُنا، إلا أنْ يكونَ على الحكاية؛ كأقْسَمَ لَيَضْرِبَن، أو على تأويل: ولوْ مُتَمَنِّينَ هدايتَهُم. قولُه: (أو تحيّرُوا عند رؤيتِه)، يعني وَضَعَ {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مَوضِعَ ((تحيّرُوا لرؤيتِه)) على إرادةِ التمني؛ إما مِنْ كلِّ أحدٍ لشدةِ ما رَأَوْا، أوْ مِنَ الله على المجازِ كما في قولِهِ تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} [البقرة: 103]. قالَ المصنف: ويجوزُ أنْ يكونَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} تمنِّيًا لإيمانِهِم على سبيلِ المجاز؛ كأنهُ قيل: وليتَهُمْ آمنوا، وعلى إرادةِ التحيُّرِ النظم؛ وذلكَ أنهُمْ لمّا خُوطِبوا بقولِه: {أَيْنَ شُرَكَاءِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] والشركاءُ أظهَرُوا البراءةَ مِنهُم، ثُمّ قيلَ لهم تهكُّمًا: أينَ شركاؤُكُم؟ أي: ناصِرُكُمْ ومُعينُكُم، فادعُوهُمْ فإذا دَعَوْهُمْ ولمْ يستجيبوا لهُمْ وَرَأَوُا العذابَ قدْ دَنا؛ تحيّرُوا وبُهِتُوا ولَحِقَهُمْ ما لا يُوصَفُ كُنْهُه؛ فعندَ ذلكَ يُقالُ بلسانِ الحالِ ترحُّمًا عليهِم: ليتَهُم كانوا مُهتَدِين. فهوَ مِنْ إطلاقِ المُسَبّبِ على السّبَب؛ لأنّ تحيُّرَهُمْ سببٌ حاملٌ على هذا القول. وفي قولهِ: ((حكي أولاً ما يُوبِّخُهُم)) إشعارٌ بهذا النظم. قالَ الحِيريُّ: في قولِه: ((لوْ كانوا مُهتدِينَ في الدنيا؛ لَما رَأَوُا العذابَ في الآخرة)) نظرٌ؛ لأنّ الدالّ على المحذوفِ {وَرَأَوُا العذابَ} وهوَ مُثَبت؛ فلا يجوزُ أنْ يُقدّرَ المحذوفُ منفِيًّا. والصوابُ والله أعلم: لوْ أنهُمْ كانوا يَهتَدُونَ لَرَأَوُا العذاب؛ أي: لوْ لمْ يكونوا ضالِّينَ في الدنيا لَعلِمُوا العذابَ موجودًا موعودًا. وجوابُهُ سبقَ في قولِه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّتُصِيبَنَّ} [الأنفال: 25] في مسألة: لا تَدْنُ مِنَ الأسدِ يأكُلك؛ لأنّ المعنى: إنْ دَنَوْتَ يأكُلْك؛ لأنهُمْ يميلونَ إلى المعنى كلّ الميل، حتى إنهُمْ لا يلتَفِتونَ إلى إيجابِ اللفظِ ونَفْيه.

وسدروا فلا يهتدون طريقاً. حكى أوّلاً ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم, وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدى إليهم (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات؛ لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وسَدِرُوا)، الجوهري: السادِر: المتحيٍّر، والسَّدَر: تحيُّرُ البَصَر. قولُه: (حكي أولاً)، يعني قولَه: {أَيْنَ شُرَكَاءِيَ} الآية، وقوله: ((ثم ما يقوله الشياطين)) يعني به قوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، وقوله: ((ما يشبه الشماتة))؛ أي قوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} وهو كما يقول لمن استظهر بغيره في النصرة واعتمد عليه ثم خذله عند الحاجة إليه: ادع ناصرك ينصرك، وقوله: ((ثم ما يُبكَّتون به))، أي: قوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}. قولُه: (لأنهُمْ إذا وُبِّخُوا بعبادةِ الآلهة)، تعليلٌ لتقديمِ حكايةِ الله ما يوبِّخُهُمْ به، وهو: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ} على حكايةِ ما تقولُهُ الشياطين؛ وهو قولُه: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ}. قولُه: (فصارتِ الأنبياءُ كالعمى)، هذا التشبيهُ إشارةٌ إلى أنّ ((الأنباءَ)) في قولِه: {فَعَمْيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} استعارةٌ مَكنِية، يدلُّ عليهِ قولُه: ((لا تهتدي إليهم)). قالَ القاضي: أصلُه: فَعمُوا عنِ الأنباء؛ لكنهُ عكسَ مبالغةً، يريدُ مِنْ بابِ القلب؛ كقولهِ: لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُهُ

والعجز عن الجواب. وقرئ: (فعميت)، والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوّضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109] فما ظنك بالضلال من أممهم. [(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) 67] (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من المشركين من الشرك، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَعَسى أَنْ) يفلح عند الله، و (عسى) من الكرام تحقيقٌ. ويجوز أن يراد: ترجى التائب وطمعه، كأنه قال: فليطمع أن يفلح. [(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ الله وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 68] الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى: المصدر هو التخير، وبمعنى: المتخير كقولهم: محمدٌ خيرة الله من خلقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (يتتعتعون)، النهاية: في الحديث: ((يقرأُ القرآنَ ويَتَتَعْتَعُ فيه))، أي: يَتَردَّدُ في قراءتِهِ وَيَتَبلَّدُ فيها لسانُه. قولُه: (الخيرةُ مِنَ التخيُّر)، النهاية: الخيرُ ضِدُّ الشر؛ تقولُ منه: خِرتَ يا رجل؛ فأنتَ خاير، وخَيِّر. خارَ الله لك؛ أي: أعطاكَ ما هوَ خيرٌ لك. والخِيرةُ -بسكونِ الياءِ- الاسمُ منه، والخِيرَةُ -بالفتح- الاسمُ مِنْ قولِك: اختارَهُ الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم خيرةُ الله مِنْ خَلْقِه؛ تُقالُ بالفتحِ والسكون.

(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بيان لقوله: (وَيَخْتار)؛ لأنّ معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحدٍ من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة: (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31] يعنى: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه: ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أى: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقيل: معناه: ويختارُ الذي لهم فيهِ الخيرة)، عطفٌ على قولِه: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} بيانٌ لقولِه: {وَيَخْتَارُ}. و {مَا} على الأوّلِ نافية؛ لا ينبغي لأحدٍ مِنْ خلقِهِ أنْ يختارَ عليه؛ فيكون تفسيرًا لقولِه: {وَيَخْتَارُ}؛ لأنّ معناه: يختارُ ما يشاء؛ لعطفِهِ على {يَخْلُقُ}. قالَ مكيُّ بنُ أبي طالب: و {مَا} على أنْ تكونَ موصولةً ليسَ بمختار؛ لأنهُ لا عائدَ يعودُ على {مَا}، وهوَ أيضًا بعيدٌ في المعنى والاعتقاد؛ لأنّ كونَها للنفيِ يُوجِبُ أنْ يَعُمّ جميعَ الأشياء، وأنها حدَثتْ بقدرةِ الله واختيارِه، وليسَ للعبدِ فيها شيءٌ غيرُ اكتسابِهِ بقَدَرٍ مِنَ الله. وكونُها موصولةً لمْ يَعُمّ جميعَ الأشياء؛ فإنها مختارةٌ لله تعالى؛ بل إنهُ تعالى يختارُ ما لهمْ فيهِ الخيرةُ وما ليسَ لهمْ فيهِ لهمْ فيهِ خيرةٌ موقوفة، وهوَ مذهبُ القَدَريةِ والمعتزلة. وقيل: معنى الآية: وربُّكَ يا محمد يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ لولايتِهِ ورسالتِهِ مَنْ يريد. ثُمّ ابتدأَ بنفيِ الاختيارِ عنِ المشركين، وأنهُ لا قُدرةَ لهم؛ فقال: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: ليسَ الولايةُ والرسالةُ وغيرُ باختيارِهِمْ ولا بمُرادِهِم. وقالَ القاضي: فظاهرُهُ نفيُ الاختيارُ عنهمْ رأسًا، والأمرُ كذلكَ عند التحقيق؛ فإنّ اختارَ العبادِ مخلوقٌ باختيارِ الله، منوطٌ بدواعٍ لا اختارَ لَهُمْ فيها. وقلتُ: والذي يقتَضِيهِ النظمُ هذا؛ لأنّ قولَهُ تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} مُتّصلٌ بقولِه: {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ}، وأحوالُ الشركاءِ

من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرةٌ لمختارٍ. فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت: أصل الكلام: ما كان لهم فيه الخيرة، فحذف «فيه» كما حذف منه في قوله: (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17] لأنه مفهومٌ. (سُبْحانَ الله) أى: الله بريءٌ من إشراكهم, وما يحملهم عليه من الجرأة على الله, واختيارهم عليه ما لا يختار. [(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ *وَهُوَ الله لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 69 - 70] (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله وحسده (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه, وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوّة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُستطرَدةٌ بينهما للذكرِ الإحضار، وقولُه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} كالتذييل، وبيانْ أنهُ هوَ الذي يخلُقُ ما يشاء؛ يُضلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاء، ليسَ لأحدٍ أنْ يتصرّفَ في ملكِهِ ويشاركَهُ في خَلقِه. ولهذا ختمَهُ بقولِه {سُبْحَانَ اللهِ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويدخُلُ في هذا العامِّ حديثُ سببِ النزولِ أيضًا. قولُه: (مِنْ قولِهم في الأمرَيْن: ليسَ فيهما خيرةٌ لمختار)، يعني: إذا جعلَ {مَا} موصولةً والمراد المتخير؛ فلابدّ مِنْ وجودِ شيئيْن ليُختارَ أحدُهُما مِنَ الآخر. والمثالُ يحتَمِلُ وجهَيْن: أحدُهُما أنّ الأمرَيْنِ مختارانِ فليسَ لأحدٍ أنْ يترُكَ أحدَهُما ويختارَ الآخر، وأنهما سِيّانِ في الكراهة؛ فليسَ فيهما مختارٌ يختارُهُ المختار. قولُه: (واختيارهم عليه)، قيل: هوَ عطفٌ على ((ما)) في ((وما يحمِلُهُم))، أو على الضميرِ المجرورِ في ((عليه))؛ أي: الله بريءٌ مِما يحمِلُهُم على إشراكِهِم وعلى اختيارِهم على الله ما لا يختار؛ نحو: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1]. وقلتُ: ويجوزُ أنْ يكونَ عطفًا على ((الجرأةِ على الله)) على سبيلِ التفسير؛ لأنّ اختيارَهُم على الله ما لا يختارُ جُرْأةٌ على الله مِنْ قولِهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

(وَهُوَ الله) وهو المستأثر بالإلهية المختص بها، و (لا إِلهَ إِلَّا هُو) َ تقرير لذلك، كقولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلا هي. فإن قلت: الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت: هو قولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر: 34]، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر: 74] (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر: 75] والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث: "يلهمون التسبيح والتقديس" (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء بين عباده. [(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ الله يَاتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ *قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ الله يَاتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ *وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 71 - 73] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (المستأثرُ بالإلهية)، يُقال: استأثرَ بكذا: اختصّ بهِ واستبد، والاسم: الأثَرةُ بالتحريك. النهاية: الاستئثار: الانفرادُ بالشيء. وإفادةُ التركيبِ هذا المعنى مِنْ جَعْلِ اسمِ {اللهُ} خبرًا لـ {وَهُوَ}؛ ولهذا كانَ {لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ} تقريرًا له. قولُه: (وفي الحديث: ((يُلهَمُونَ التسبيح)))، الحديثُ مِنْ روايةِ مُسلمٍ وأبي دوادَ عنْ جابرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ أهلَ الجنةِ يأكلونَ فيها ويشربون، ولا يتفلونَ ولا يبولونَ ولا يتغوّطونَ ولا يتمخّطون)) قالوا: فما بالُ الطعام؟ قالَ: ((جُشاءٌ ورشحٌ كرشحِ المِسْك، يُلهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما يُلهَمُونَ النّفَس)). النهاية: الإلهامُ: أنْ يُلقِي الله في النّفْسِ أمرًا يَبْعَثُهُ على الفعل أو التّرْك، وهوَ نوعٌ مِنَ الوحي.

(أَرَأَيْتُمْ) وقرئ: (أريتم): بحذف الهمزة، وليس بحذف قياسي. ومعناه: أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد: الدائم المتصل، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثةٌ سردٌ، وواحدٌ فردٌ، والميم مزيدة. ووزنه (فعمل). ونظيره. دلامصٌ؛ من الدلاص. فإن قلت: هلا قيل: بنهارٍ تتصرفون فيه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرِئَ: ((أريتم)) بحذفِ الهمزة)، الكسائي. قولُه: (ومنهُ قولُهم في الأشهُرِ الحُرُم)، الجوهري: قيلَ لأعرابي: تعرفُ الأشهُرَ الحُرُم؟ قال: نعم، ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحدٌ فَرْد؛ فالسردِ: ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم. والفرد: رجب. قولُه: (دُلامِص؛ مِنَ الدّلاص)، الجوهري: الدّليصُ والدِّلاص: البَرّاق؛ يُقال: دِرعٌ دِلاص، وأدْرُعٌ دِلاص. والدّلامِص: البَرّاقُ والميمُ زائدة. قولُه: (هلاّ قيل: بنهارٍ تتصرّفون فيه- أي: بدلَ قولِهِ: {بِضِيَاءٍ} - كما قيل: {بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ})، يريدُ أنّ الآيتينِ متقابِلتان؛ ففي الثانية جيءَ بقولِه: {بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} وهوَ مطابقٌ لسائرِ الآيات؛ فلِمَ عَدَلَ في الأولِ عن الظاهرِ إلى خلافِه؟ وأجابَ عنهُ أنهُ إنما وَضَعَ {بِضِيَاءٍ} مَوْضِعَ ((بنهار تتصرّفون فيه))، والضياءُ ضوءُ الشمس؛ لقولِهِ تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضْيَاءً} [يونس: 5]، ليُؤذِنَ بأنّ منافعَ النهارِ ليستْ مقصورةً على التصرُّف؛ فإنّ منافِعَهُ متكاثرة، ولهذا لا يطّلِعُ عليهِ كلُّ أحد؛ كأنهُ قيل: أتيناكُمْ بضياءِ الشمس؛ ليتسهّلَ لكُمْ جميعُ ما تفتَقِرونَ إليهِ مِنَ التصرُّفِ في المعاشِ وغيره. ولهذا أتى بقولِه: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} تتميمًا لهذا المعنى؛ لأنّ مُدرَكَ السّمْعِ أكثرُ مِنْ مُدرَكِ البصر، واستفادةُ العقلِ مِنَ السمعِ أَجَلُّ مِنَ استفادتِهِ مِنَ البصر، وبقولِه: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} تتميمًا لذلك؛ لأنّ أعظمَ فوائدِ الليلِ الهدوءُ فيهِ والسكون، ولهذا صرّحَ بهِ في الآية، وهوَ شيءٌ قليل؛ ولهذا يطّلِعُ عليهِ كلُّ أحد، والناسُ في إدراكِهِ بالبصرِ مستوون. فإنْ قلتَ: فلِمَ لَمْ يقُل: بظلام؟ قلتُ: لأنهُ وإنْ لمْ يُوهِمْ أنّ فائدةَ الليلِ متكاثرة؛ إذْ كلُّ أحدٍ يعلمُ فائدتَه، لكنهُ مِمّا يكرَهُهُ الطبعُ ويتنفّرُ عنه، بخلافِ الضوء؛ فإنهُ نعمةٌ في ذاتِه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقصودٌ بِنَفْسِه. ثُمّ الذي أَبْعَدُ مِنَ التكلُّفِ أنْ يُجعَلَ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} تذييلاً للتوبيخِ الذي يعطيهِ قولُه: {أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ} إلى آخرهِ، وكذا في الثانيةِ- على ما في ((المعالم)): {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} سماعَ فهمٍ وقبول، {أفَلاَ تُبْصِرُونَ} ما أنتم عليهِ مِنَ الخطأ. تَمّ كلامُه- ليجتمِعَ لهمُ الصّمَمُ والعمي مِنَ الإعراض عنْ سماعِ البراهين، والإغماضِ عنْ رؤيةِ الشواهد. ولَمّا كانتِ استدامةُ الليلِ أشقّ مِنَ استدامةِ النهار؛ لأنّ النومَ الذي هوَ أجَلُّ الغرضِ فيهِ شبيهٌ بالموت، والابتغاءُ مِنْ فضلِ الله الذي هوَ بعضُ فوائدِ النهارِ شبيهٌ بالحياة، قيلَ في الأول: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} أي: سماعَ فَهْم، وفي الثانية: {أفَلاَ تُبْصِرُونَ} ما أنتمْ عليهِ مِنَ الخطأ؛ ليُطابِقَ كلٌّ مِنَ التذييلَيْنِ الكلامَ السابقَ مِنَ التشديدِ والتوبيخ، كأنهُ قيل: أخبروني إنْ جعلَ الله عليكُم الليلَ سرمدًا إلى يومِ القيامة؛ مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكمْ بضياء؛ أفلا تسمعونَ مثلَ هذهِ الدلائلِ الباهرةِ والنصوصِ المتظاهرةِ لِتعرِفوا أنّ غيرَ الله لا يقدرُ على شيءٍ من ذلك؟ وأخبروني إنْ جعلَ الله عليكم النهارَ سرمدًا إلى يومِ القيامة؛ مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكمْ بليلٍ تسكنونَ فيه؟ أفلا تبصرونَ الشواهدَ المنصوبةَ الدالّةَ على القدرةِ الكاملةِ لتقِفُوا على أنّ غيرَ الله لا قدرةَ لهُ على ذلك؟ وفيهِ أنّ دَلالةِ النصِّ أوْلى وأقْدَمُ مِنَ العقل. وقالَ الراغبُ في ((غُرّةِ التنزيل)): إنّ نسخَ اليلِ بالنّيِّرِ الأعظم أبلغُ في المنافعِ وأضمنُ للمصالحِ مِنْ نسخِ النهارِ بالليل؛ ألا ترى أنّ الجنةَ نهارُها دائمٌ لا ليلَ معه؟ لأنّ اللَيلَ في دارِ التكليفِ للاستراحةِ والاستعانةِ بالجَمام والراحةِ على ما يلزَمُ مِنَ الكُلَفِ المتعِبةِ والمشاقِّ المُنْصِبة، ودارُ يُستَغنى فيها عنْ ذلك؛ لأنها مقصورةٌ على سبيلِ المشتهى وعلى ما تَلَذُّ الأعينُ وتهوى الأنفُس؛ فتقديمُ ذِكْرِ الليلِ لانكشافِهِ عنِ النهارِ الذي يُمَكِّنُ مِنَ التصرُّفِ في المعايشِ بالسعي في المصالحِ إلى ما لا يُحصى كثرةً مِنَ المنافعِ المتعلّقةِ بالشمسِ أَحَقُّ وأوْلى.

كما قيل: (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)؟ قلت: ذكر الضياء وهو ضوء الشمس؛ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ)؛ لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؛ لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره وأنت؛ من السكون ونحوه (وَمِنْ رَحْمَتِهِ): زاوج بين الليل والنهار, لأغراض ثلاثة: لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار, ولإرادة شكركم. [(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) 74] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى قولِه: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ}: أفلا تسمعونَ سماعَ مَنْ يتدبّرُ المسموعَ ليستدرِكَ مِنهُ قصدَ القائل، ويحيطَ بأكثرِ ما جَعَلَ الله في النهارِ مِنَ المنافع، أمْ أنتمْ صُمٌّ عنْ سماعِ ما ينفعُكُم؟ وقولُه: {يَاتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} معناه: أفلا تستدرِكونَ مِنْ ذلكَ ما يجبُ استدراكُه؟ فإنّ عَقِيبَ السماعِ استدراكُ المرءِ المرادَ بالمسموعِ إذا كانَ هناكَ تدبُّرٌ لهُ وتفكُّرٌ فيه، ولمْ يجعلْهُ السامعُ دبرَ أُذُنِه، والله أعلم. قولُه: (زاوَجَ بينَ الليلِ والنهار)، يُروى بالراءِ والحاءِ المهملة، و ((زاوجَ)) بالزاي والجيم. الجوهري: المُراوَحةُ في العملَيْن: أنْ تعملَ هذا مرًة وهذا مرة، وتقول: راوَحَ بينَ رجلَيْه؛ إذا قامَ على إحداهُما مرًة وعلى الأخرى مرة. النهاية: وفي الحديثِ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يُراوِحُ بينَ قدَمَيْه؛ لِطولِ القيام. أي: يعتمدُ على إحداهُما مرًة وعلى الأخرى مرة؛ ليُوصِلَ الراحةَ إلى كلٍّ منهما. ومنهُ حديثُ ابن مسعودٍ أنهُ أبصرَ رجلاً صافًّا قدمَيْه؛ فقال: لوْ راوَحَ كانَ أفْضَل.

وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ؛ باتخاذ الشركاء: إيذانٌ بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك، فأدخلنا في الناجين من وعيدك. [(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) 75] (وَنَزَعْنا): وأخرجنا, (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدا) وهو نبيهم: لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول (فَعَلِمُوا) حينئذٍ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) ولرسوله، لا لهم ولشياطينهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والباطل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في تكريرِ التوبيخِ باتخاذِ الشُّركاء)، يريد: كرّرَ هذه الآيةَ بعينِها قُبَيْلَ هذه لتوكيدِ المعنى المقصودِ وتقريرِه؛ ومِنْ ثَمّ جُعِلَ خاتمةً للآياتِ وتخلُّصًا إلى قصةِ قارون. وفي صحيفةِ سُليمانَ عليهِ السلام: وما أحسنُ الأشياءِ وما أقبحُ الأشياء؟ قالَ سليمان: أحسنُ الأشياءِ الإيمانُ بالله بعدَ الشِّركِ، وأقبحُ الأشياءِ الكُفرُ بعدَ التوحيد. قالَ القاضي: الأولُ لتقريرِ فسادِ رأيِهِم، والثاني لبيانِ أنهُ لمْ يكنْ عنْ سَنَد؛ وإنما كانَ محضَ تَشَهٍّ وهوًى. قولُه: (فكما أَدْخَلْتَنا) الفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ متصلٍ بما قبلَه؛ أي: إذا كانَ الأمرُ كما ذكرتَ فأدخِلْنا. والفَهْمُ معترضٌ نحوَ قولِهِ تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]. قولُه: (وغابَ عنهمْ غَيْبةَ الشيءِ الضائع)، أيْ: {ضَلَّ} مستعارٌ لمعنى غاب؛ فلما كانتْ تلكَ الغَيْبةُ بحيثُ لا يمكِنُ إحضارُ ما غابَ وأنهُ كالشيءِ الضائع؛ قيل: ضَلّ. الأساس: ومِنَ المجاز: ضلّ عنْ كذا: ضاع.

[(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ *وَابْتَغِ فِيما آتاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) القصص: 76 - 77] (قارُونَ) اسم أعجمى مثل هرون، ولم ينصرف للعجمة والتعريف، ولو كان (فاعولاً) من قرن لانصرف. وقيل: معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل: كان إسرائيلياً ابن عم لموسى: هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى: أنه لما جاوز بهم موسى البحر, وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرّب القربان، ويكون رأساً فيهم، وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه؛ وجد قارون في نفسه وحسدهما، فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء، إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله. قال: والله لا أصدق حتى تأتى بآية، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورقٌ أخضر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والحبورة)، في الحاشية: الحبورة: الإمامة، وهيَ مصدَرُ الحَبْر؛ يُقال: حبرَ الرجلُ حُبُورة. قولُه: (وَجَدَ [قارونُ] في نَفْسِه)، أي: حَزِن. الجوهري: وَجَدَ في الحُزنِ وَجْدًا بالفتح، ووَجَدَ في المالِ وُجْدًا؛ أي: استغنى. قولُه: (فحَزَمَها)، الجوهري: حَزَمْتَ الشيءَ حَزْمًا؛ إذا شَدَدْته، والحزم: ضبطُ الرجُلِ أمرَهُ وأخذُهُ بالثِّقة.

وكانت من شجر اللوز، فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر (فَبَغى عَلَيْهِمْ): من البغي؛ وهو الظلم. قيل: ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل: من البغي وهو الكبر والبذخ: تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل: زاد عليهم في الثياب شبراً. المفاتح: جمع مفتح بالكسر: وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن، وقياس واحدها: مفتح بالفتح. ويقال: ناء به الحمل، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة, والعصابة: مثلها. واعصوصبوا: اجتمعوا. وقيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً، لكل خزانةٍ مفتاحٌ، ولا يزيد المفتاح على أصبع، وكانت من جلود. قال أبو رزين: يكفى الكوفة مفتاحٌ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ: الكنوز، والمفاتح، والنوء، والعصبة، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال، كقولك: ذهبت أهل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (تبذّخَ عليهمْ بكثرةِ مالِه)، الأساس: ومِنَ المجاز: تبذّخَ فلان: تطاولَ، وهوَ بذاخٌ وفيهِ بَذَخ. قولُه: (أبو رَزِين)، ((جامِعُ الأصول)): هوَ أبو رَزِين العقيلي، صحابيٌّ، واسمُهُ لقيطُ بنُ عامر، رَزين: بفتحِ الراءِ وكسرِ الزايِ وسكونِ الياءِ وتحتَها نقطتان. قولُه: (يكفي الكوفةَ مِفتاح)، قيل: معناه: يكفي الكوفةَ كنزٌ واحدٌ مِنْ كنوزِهِ معَ كثرةِ أهلِ الكوفة. قولُه: (ووجهُهُ أنْ يُفسِّرَ المفاتِحَ بالخزائن)، قيل: إنما يُفسّرُ بالخزائنِ ليكونَ متصلاً بالكنوزِ المرادةِ بما في قوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ}؛ فيكتسبُ منهُ التذكيرَ كما يكتسبُ المضافُ مِنَ المضافِ إليهِ التأنيثَ في مثلِ قولِهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة. وأما إذا فُسِّرَ بجمعِ ((المِفْتح)) بالكسر، وهوَ ما يُفتَحُ به؛ فلا يكونُ متصلاً به؛ لأنّ المفتاحَ لا يكونُ متصلاً بالكنوز، وإذا لمْ يكنْ متصلاً بهِ لا يكتسبُ منهُ التذكيرَ بإضافتِهِ إليهِ كما يكتسبُ الاسمُ التأنيثَ بمثلِ هذهِ الإضافة؛ لأنّ اتصالَ الظرفِ بالمظروفِ أَمَسُّ مِنَ اتصالِ المفتاحِ بالكنوز.

اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء. (لا تَفْرَحْ) كقوله: (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد: 23] وقول القائل: ولست بمفراحٍ إذا الدّهر سرّني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقالَ ابنُ جِنِّي: ذهبَ بالتذكيرِ إلى ذلكَ القَدْرِ والمبْلَغ؛ فلاحظَ معنى الواحدِ فحَمَلَ عليه. ونحوُهُ قولُ الراجز: مثلُ الفراخِ نتفت حواصلَه أي: حواصَل ذلكَ أو حواصَل ما ذكَرْنا. وقلتُ: هذا أَوْلى وأنسَبُ للقراءةِ المشهورة؛ لأنّ المرادَ أنّ مفاتحَ خزائنِهِ هيَ التي لتنوءُ بالجماعةِ مِنَ الناس، لا الخزائن، عَلى أنّ الخزائنَ نفسَها لا تثقلُ بالعُصْبة. وإنْ أُريدَ بهِ الأموالُ فيؤدِّي إلى خلافِ المرادِ مِنَ المبالغة، ويلزمُ إضافةُ الأموالِ إلى الكنوز. قالَ أبو البقاء: {ما} بمعنى: الذي، في موضِع نصبٍ بـ ((آتينا))، و ((إنّ)) واسمُها وخبرُها صلةُ ((الذي))؛ ولهذا كُسِرَتْ {إِنَّ}، والباءُ في {بِالعُصْبَةِ} مُعَدِّيةٌ مُعاقِبةٌ للهمزةِ في ((أنَأته))، يُقال: أنَاتُهُ ونُؤْتُ به، والمعنى: لتُنِيءُ: أي: تُثقِلُ العُصْبة. وقيل: هيَ على القلب؛ أي: لَتَنُوء بهِ العُصْبة. قالَ صاحبُ ((الكشف)): وُصِلَتْ {مَا} هاهنا بـ {إِنَّ} وكُسِرَتْ {إِنَّ} لأنّ الموصولةَ تُوصَلُ بكلتا الجملتَيْن الاسمية والفعلية. قولُه: (ولستُ بِمفراحٍ إذا الدّهرُ سَرّني)، تمامُه: ولا جازعٍ مِنْ صَرْفِهِ المتقلِّب

وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة، ويعلم أنه مفارقٌ ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل: أشد الغمّ عندي في سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ الله) من الغنى والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تفعل فيه أفعال الخير؛ من أصناف الواجب والمندوب إليه، وتجعله زادك إلى الآخرة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ) وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ) أو: أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض: ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل: إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ: (واتبع). [(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) 78] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البيتُ ينظرُ إلى قولِهِ تعالى: {لِكَيْلاَ تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَكُمْ} [الحديد: 23]. قولُه: (أَشَدُّ الغَمِّ عندي في سُرورِ) البيت، يقولُ: السرورُ الذي تَيَقّنَ صاحبُهُ الانتقالَ عنهُ هوَ أشدُّ الغمِّ؛ لأنهُ يُراعي وقتَ زوالِهِ فينتَفِضُ كلما ذكرَ زوالَه. وروي: والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، إِنَّ ما أوتيتم مِنَ الدنيا كإناخةِ ناقة؛ فعلامَ تفرحون، وإلامَ تنتظرون؟ ولله درُّ القائل: إنما الدنيا كظلٍّ زائلٍ ... أو كضيفٍ نازلٍ ثُمّ ارتَحَلْ

(عَلى عِلْمٍ) أي: على استحقاق واستيجاب؛ لما فىّ من العلم الذي فضلت به الناس؛ وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل: هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب: "كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نونٍ ثلثه، وكالب بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً". وقيل: علم الله موسى علم الكيمياء، فعلمه موسى أخته، فعلمته أخته قارون. وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب. وقيل: (عِنْدِي) معناه: في ظنى، كما تقول الأمر عندي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({عَلَى عِلْمٍ} أي: على استيجابٍ واستحقاق) قالَ القاضي: {عَلَى عِلْمٍ} في موضِع الحال، و {عِندِي} صفةٌ للعلم، وإلى هذا أشارَ بقولِه: ((على استحقاقٍ لِما فيَّ مِنَ العلمِ الذي فَضَلْتُ بهِ الناسَ)). قولُه: (هوَ علمُ الكيمياء)، قالَ الزجاج: هذا لا يصح؛ لأنّ الكيمياءَ باطلٌ لا حقيقةَ له. وقلتُ: لعلّ ذلكَ كانَ مِنْ قَبيلِ المعجزة. قولُه: (وقيلَ: {عِندِي} معناه: في ظني)، قالَ القاضي: وعلى هذا {عِندِي} يتعلّقُ بـ {أُوتِيتُهُ} صلةً له؛ كقولِك: جازَ هذا عندي؛ أي: في ظنِّي واعتقادي. وعنْ بعضِهِم: على ذلكَ قولُ القائل: ومَنْ أنتمُ حتّى يكونَ لكُمْ عِنْدُ؟ وكلمةُ ((عِندَ)) بيانُ الحُكْم؛ كما تقول: هذا عندَ أبي حنيفةَ والشافعي؛ أي: في حُكمِها.

كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى: (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر: 49] ثم زاد (عِنْدِي) أى: هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام. كأنه قيل: (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ) في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال: أوتيته على علمٍ عندي، فتنفج بالعلم وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبةً لكل نعمةٍ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال، أو: أكثر جماعةً وعدداً. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلعٌ على ذنوب المجرمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويجوزُ أنْ يكونَ نفيًا لعلمِهِ بذلكَ)، يريدُ أنّ الهمزةَ في قولِهِ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} إذا كانَ للتقريرِ أفادَ إثباتَ عِلمِ قارون، وإذا كانَ للإنكارِ كانَ نفيَ عِلمِه. وعلى التقديرَيْنِ المعطوفُ عليهِ محذوف؛ أي: ألم يَقْرَأِ التوراةَ ولمْ تُعلِّمْه الأحداثُ والوقائع؟ أي: قرأَ وعَلِم؛ أي: اغترّ بما عندَهُ مِنَ العلم، ولمْ يعلمْ ذلكَ ليعتَبِرَ ويُمسِكَ عنْ ذلكَ القول. قولُه: (فتَنَفّجَ)، يُروى بالخاءِ والجيم. الأساس: ومِنَ المجاز: فلانٌ نفّاجٌ وفيهِ نَفَج، وسمعتُ مَنْ يقول: فيهِ نفاجة. وفي الأساس أيضًا: ومِنَ المجاز: انتَفَخَ النهار: علا، ونفخَ شِدْقَيْه: تَكَبّر. قولُه: (لَمّا ذَكّرَ قارونَ مَنْ أُهلِكَ مِنْ قَبْلِه .... ، قالَ على سبيلِ التهديدِ له: والله مُطّلِعٌ على ذنوبِ المجرمين)، يريدُ أنّ هذهِ الجملةَ تذييلٌ للسابق؛ فإنّ قولَه: {[أَوَلَمْ] يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ} تهديدٌ لقارونَ ووعيدٌ لهُ بالهلاك، وقولُه: {وَلاَ يُسْئَلُ عَن

لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادرٌ على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى: (وَالله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153]، (بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقره: 283, المؤمنون: 51، النور: 28] وما أشبه ذلك. [(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) 79] (فِي زِينَتِهِ) قال الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلةٍ شهباء عليها الأرجوان وعليها سرجٌ من ذهب، ومعه أربعة آلافٍ على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلامٍ، وعن يساره ثلاثمائة جاريةٍ بيضٌ عليهنّ الحلي والديباج. وقيل: في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر: كان المتمنون قوماً مسلمين، وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله ولينفقوه في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} كقولِه: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283، النور: 28] في كونِهِ عالمًا بها لا يحتاجُ إلى سؤالِهم عنها. وفيهِ تهديدٌ بالهلاكِ بسببِ الإجرامِ لكلِّ مجرم، وهؤلاءِ منهم؛ فكانَ تأكيدًا له. وجيءَ بالواوِ فعُدّ تذييلاً أو معترضة. قالَ القاضي: كأنهُ لمّا هَدّدَ قارونَ بذِكْرِ إهلاكِ مَنْ قَبْلَهُ أكّدَ ذلكَ بأنْ بَيّنَ أنهُ لمْ يكنْ ما يخصُّهم؛ بَلِ الله مُطّلِعٌ على ذنوبِ المجرمينَ كُلِّهمْ مُعاقِبُهُمْ عليها. قولُه: (الأُرجوان)، النهاية: هوَ مُعرّبٌ مِنْ ((أُرغوان)) وهوَ شجرٌ له نَوْرٌ أحمر. وكلُّ لونٍ يُشبِهُهُ فهوَ أُرجوان. وقيل: هوَ الصّبْغُ الأحمر، وقيل: عربيةٌ والألفُ والنونُ زائدتان. وذكرهُ الجوهري في مُعتلِّ اللام.

سبل الخير. وقيل: كانوا قوماً كفاراً. الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد: هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه، فمن الغبطة قوله تعالى: (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) ومن الحسد قوله: (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء: 32] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال: «لا؛ إلا كما يضر العضاه الخبط»، والحظ: الجدّ، وهو البخت والدولة: وصفوه بأنه رجلٌ مجدودٌ مبخوت، يقال: فلانٌ ذو حظ، وحظيظٌ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظٍ وجدودٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ومِنَ الحَسَدِ قولُه: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32])، وذلكَ أنّ تَمَنِّي ما فُضِّلَ البعضُ على بعضٍ المُتمنّي عَيْنُ ما فُضِّلَ به، ولا يُتَوَصّلُ إلى ذلكَ إلا بزوالِهِ عَنِ المحسود. قولُه: (وقيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: هلْ يَضُرُّ الغَبط؟ قال: ((لا، إلا كما يَضُرُّ العِضاهَ الخَبْط)))، النهاية: الغَبْط: حَسَدُ خاص؛ يُقال: غَبَطْتُ الرجُلَ أَغبِطُهُ غَبْطًا. أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الغَبْطَ لا يَضُرُّ ضَرَر الحَسَد، وأنّ ما يَلْحَقُ الغابِطَ مِنَ الضررِ الراجعِ إلى نُقصانِ الثوابِ دونَ الإحباطِ بقَدْرِ ما يَلْحَقُ العِضاهَ مِنْ خَبْطِ وَرَقِها الذي هوَ دونَ قَطْعِها واستئصالها، ولأنهُ يعودُ بعدَ الخبط؛ فهوَ وإنْ كانَ فيهِ طَرَفٌ مِنَ الحسد؛ فهوَ دونَهُ في الإثم. والعِضاهُ: شَجَرُ أُمِّ غَيْلان، وكلُّ شَجَرٍ عظيم لهُ شَوْك، الواحدة: عِضةٌ بالتاء، والخَبْط: ضَرْبُ الشّجَرِ بالعصا ليتناثرَ ورقُها لعلفِ الإبل. قولُه: (وما الدنيا إلا أحاظٍ وجُدود)، مِنْ قولِ الحماسي: وليسَ الغني والفقرُ مِنْ حِيلَةِ الفتي ... ولكنْ أَحاظٍ قُسِّمَتْ وجُدودُ

[(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ الله خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ *فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) 80 - 81] ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبا لك. وأصله: الدعاء على الرجل بالإقراف في الحث على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: الحظ: النصيبُ والجَدّ، وجمعُ القِلّة: أَحُظٌّ، والكثير: حظوظٌ وأحاظٍ كأنهُ جَمْعُ أَحْظٍ، وأنشدَ البيت. الراغب: الحظ: النصيبُ المقدّر. قولُه: (ويلك: أصلُهُ الدعاءُ بالهلاك)، الراغب: قالَ الأصمعي: وَيْل: قبوح، وقدْ يُستعمَلُ على التحسُّر، ووَيس: استصغار، ووَيْح: ترحُّم. ومَنْ قال: ويل: وادٍ في جَهنّمَ لمْ يُرِدْ أنّ ((ويلاً)) في اللغةِ هوَ موضوعٌ لهذا؛ وإنما أراد: مَنْ قالَ الله فيهِ ذلك؛ فقدْ استحقّ مقرًّا مِنَ النارِ وثبتَ لهُ ذلك؛ {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ ووَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79])). قولُه: (كما استُعمِل: لا أبا لكَ وأصلُهُ الدعاءُ على الرجل)، وعنْ نَضْرِ بنِ شُمَيلٍ أنهُ قال: سألتُ الخليلَ عنْ قولِهم: لا أبا لك؛ فقال: معناه: لا كافيَ لك، وقيل: معناه: بعثٌ وتحضيض، وليسَ بنفيِ الأبُوة. قولُه: (الدعاءُ على الرجلِ بالإقراف)، أي: بالهُجْنة. الأساس: وأُقْرِفَ: أُدْنَي للهجْنة، ويُقال: الإقراف مِنْ جهةِ الأب. قال:

الفعل. والراجع في (وَلا يُلَقَّاها) للكلمة التي تكلم بها العلماء. أو للثواب؛ لأنه في معنى المثوبة أو الجنة، أو للسيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح (الصَّابِرُونَ) على الطاعات، وعن الشهوات، وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير. كان قارون يؤذى نبى الله موسى صلي الله عليه كل وقتٍ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينارٍ على دينار، وعن كل ألف درهمٍ على درهمٍ، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال: إنّ موسى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنْ نُتِجَتْ مُهرًا كريمًا فبِالحري ... وإنْ يكُ إقرافٌ فَمِنْ قِبَلِ الفَحْلِ وقيل: هوَ مِقْرف، بالكسر، وقدْ أقرفَ الهُجْنةَ وقارَفَها: قارَبَها وخالَطَها. أما قولُه: ((في الحثِّ)) ليسَ بمتّصِلٍ بالإقراف؛ بلِ استُعمِلَ كما استُعمِلَ ((لا أبا لك)) في الحث. نحوُه في الحثِّ قولُه تعالى: {حَرِضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ} [الأنفال: 65]. قال: أي: سَمِّهِ حرضًا وقُلْ له: لا أراكَ إلا ممرضًا في هذا الأمر؛ لتُهيِّجَهُ وتُحرِّكَ منه. قولُه: (للكلمةِ التي تكلّمَ بها العلماء)، وهيَ قولُه: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}. قولُه: ({الصَّابِرُونَ} على الطاعاتِ وعنِ الشهوات)، عنْ بعضِهِم: {الصَّابِرُونَ} لهُ متعلِّقان: الذي انقطعَ بهِ عنه، والذي اتصلَ به. والأولُ مَدْخَلُ ((عن)) وهوَ المعصية، والثاني مَدْخلُ ((على)) وهوَ الطاعة. و ((عَنْ)) هذهِ كـ ((مِنْ)) في قولِهِ: {لَن تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10، 116، المجادلة: 17] أي: بدلَ طاعتِه. أي: صابرونَ على الطاعاتِ بدلَ الشهواتِ ومقيموها مقامَها، وكذلكَ القليلُ مِنَ الكثير. مثلُهُ قولُه تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِ} [المائدة: 48] أي: بدلَ ما جاءَك. وجمهورُ المفسرينَ على أنّ معناه: مُنحرِفًا عما جاءَكَ أو متنحِّيًا؛ كقولِك: رميتُ عَنِ القَوْس.

أرادكم على كل شيءٍ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، فمر بما شئت، قال: نبرطل فلانة البغىّ، حتى ترميه بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار. وقيل: طستاً من ذهب. وقيل: طستاً من ذهب مملوءةً ذهباً. وقيل: حكمها، فلما كان يوم عيدٍ قام موسى فقال: يا بنى إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصنٍ جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإنّ بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها موسى بالذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فتداركها الله فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك لنفسي، فخرّ موسى ساجداً يبكى وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه: أن مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعةٌ لك. فقال: يا بنى إسرائيل، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معنى فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت اليهم لشدّة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم. وأوحى الله إلى موسى: ما أفظك! استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزتي لو إياى دعوا مرةً واحدةً لوجدوني قريباً مجيباً، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أرادَكُمْ على كلِّ شيء)، ضُمِّنَ ((أرادَ)) معنى ((قَهَرَ)) فعُدِّيَ تعديتَه؛ أي: قهرَكُمْ على كلِّ شيءٍ يريدُه. قولُه: (نُبَرْطِلُ)، أي: نرشو؛ مِنَ البِرْطيل. قولُه: (وقيل: حَكَّمَها)، أي: جَعَلَها حاكِمًا لنفسِها بما شاءتْ مِنَ المال. ويروي: ((حُكْمَها))؛ أي: ما حَكَمَتِ البغيُّ في مالِه.

موسى عليه السلام، أو من الممتنعين من عذاب الله تعالي. يقال: نصره من عدوه فانتصر، أى: منعه منه فامتنع. [(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ الله عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) 82] قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة، (مَكانَهُ) منزلته من الدنيا. (وي) مفصولةٌ عن كأن، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه: أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم: (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) وتندموا ثم قالوا: "ْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ" أى: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال: ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (على طريقِ الاستعارة)، أي: الاستعارةِ اللفظية، نحوُ استعارةِ المَرْسِن- وهوَ أنفٌ فيهِ رَسَن- لمُطلَقِ الأنف. وكذلكَ استعارَ ((الأمس)) وهوَ وقتٌ محدودٌ متعارَفٌ للزمانِ المستقرَب. قولُه: (أي: ما أشبهَ الحالَ بأنّ الكافرينَ لا ينالونَ الفلاح)، قالَ ابنُ جِنِّي: يُروى على قياسِ مذهبِ الخليلِ وسيبويهِ اسمٌ سُمِّيَ بهِ الفعلُ في الخبر؛ فكأنهُ اسمُ أَعْجَبُ، ثُمّ ابتدأَ فقال: ((كأنه))، ((كأن)) فيهِ عاريةٌ مِنْ معنى التشبيه. أنشدَ أبو علي: كأَنّني حينَ أُمسِي لا تُكلِّمُني ... مُتَيّمٌ يَشتَهِي ما ليسَ موجودا وفي ((المطلع)): قالَ عليُّ بنُ عيسى: شُبِّهتْ حالُ الكافرينَ بحالِ مَنْ لا يُفلِح؛ لأنكَ

وي كأنّ من يكن له نشبٌ يحـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى: ويلك، وأنّ المعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومةً إلى وى، كقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا قلتَ: كأنّ هذا الكافرَ لا يُفلِح؛ فُهِمَ مِنكَ أنّ حالَهُ حالُ مِنْ لا يُفلِح. هذا تقريرُ كلامِ المصنِّف، لكنْ يفتقرُ إلى مزيدِ بيان؛ فتقول: إنهُ أبرزَهُ مَبرَزَ فِعلِ التعجُّب؛ لِما في ((وَيْ)) مِنْ معنى التعجب. وأشارَ بقولِه: ((حال)) إلى أنّ الضميرَ في ((كأنه)) للحال، والباءُ في ((بأنّ)) صلةُ ((أشْبَهَ))؛ يعني: ظَهَرَ لنا مِنْ حالِ قارونَ- وهوَ استمتاعُهُ بالدنيا واغترارُهُ بزهرتِها، ثُمّ خسفُهُ بالأرضِ- مشابِهٌ لما تقرّرَ بأنّ الكافرينَ لا يُفلِحون. قولُه: (أنّ ((وَيْكَ)) بمعنى: وَيْلَك)، وأنّ المعنى: ألم يعلم أنّه لا يُفْلحُ الكافرون. وحكي صاحبُ ((المَطْلعِ)) عن خلفٍ الأحمرِ أنّ ((وَيْكَ)) بمعنى ((وَيْلك)) فحُذِفَ اللامُ استخفافًا، ونُصِبَ ((أنّ الله)) بفعلٍ مُضمَرٍ تقديرُه: وَيْلَك، اعلَمْ أنّ الله. قالَ الزجاج: هذا الخطأُ مِنْ غيرِ وجه؛ إذْ لوْ كانَ كما قال؛ لكانتْ ((إن)) مكسورةً ولمْ يُحذَفِ اللامُ منه؛ لأنهُ يقال: وَيْلَك، إنهُ لا يُفلِح. والصحيحُ ما ذكَرَهُ سيبويه عنِ الخليلِ ويونس: أنّ ((وَيْ)) مفصولةٌ مِنْ ((كأن))، والقومُ تنبّهُوا فقالوا: وَيْ؛ مُتندِّمِينَ على ما سَلَفَ مِنهم، وكلُّ مَنْ تَندّمَ أو نَدِم؛ فإظهارُ ندامتِهِ أو تندُّمه أنْ يقول: وَيْ، كما يعاتَبُ الرجُلُ على ما سلفَ مِنهُ فيقول: وَيْ كأنكَ قصدتَ مكروهي. قال العرجيّ: سَالتاني الطلاقَ أنْ رأتاني ... قلّ مالي قدْ جِئتُماني بنُكْرِ ويكأنْ مَنْ يكنْ لهُ نَشَبٌ يُحْـ ... ـبَبْ ومَنْ يفتقِرْ يَعِشْ عيش ضُرّ

ويك عنتر أقدم وأنه بمعنى لأنه، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو لأنه لا يفلح الكافرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النّشَب: المال، و ((يُحْبَبْ)) جوابُ ((مَنْ)) وفيهِ معنى الإنكار؛ أيْ أنّ الغَنِيّ محبوبٌ في الناس، والفقيرُ يعيشُ في الناسِ عَيْشَ ذُلٍّ وضُر. قالَ ابنُ جِنِّي: ومَنْ قال: إنها ((ويك))؛ فكأنهُ قال: أَعْجَبُ لأنهُ لا يُفلِحُ الكافرون، وأَعْجَبُ لأنّ الله يبسُطُ الرزقَ، وهوَ قولُ أبي الحسن. وينبغي أنْ يكونَ الكافُ حرفَ خطابٍ لا اسمًا بمنزلةِ الكافِ في ((ذلك، وأولئك))؛ لأنّ ((وي)) ليستْ مِما يُضاف. والاستشهادُ بالبيتِ مِنْ أَجْلِ أنّ الكافَ لا يجوزُ أنْ تكونَ ضميرًا أو حرفَ خِطاب؛ لفُقدانِ المطابقةِ لأنّ البيتَ السابقَ خطابٌ لمؤنثَيْن. وكذا قولُ الزوجِ للأعرابية؛ لأنهُ لوْ كانَ الكافُ خطابًا لكانَ مكسورًا لتأنيثِ المخاطَب. وأما قولُ عنتَرةَ فلا يُحمَلُ على ((ويلك))؛ لأنهُ زَجْرٌ ورَدْعٌ وبَعْثٌ على تركِ ما لا يرضى، وهوَ حَثٌّ وبعثٌ على الإقدام؛ لأنهُ في مقامِ مدحِ نفسِهِ بالشجاعة. وتلخيصُهُ أنّ ذاكَ زَجْرٌ عما لا يرضى وهذا حثٌّ على ما يرضى. قولُه: (ويكَ عنترَ أَقْدِمِ)، أولُه: ولقدْ شفى نفسي وأبرأَ سُقْمَها ... قيلُ الفوارسِ ويكَ عنترَ أَقْدِمِ قولُه: ((عنتر)) مُرخّم، يقول: لقدْ شفى نفسي قولُ الفوارسِ لي: يا عنترةُ أقدِمْ نحوَ العدوِّ واحمِلْ عليهِم. يريدُ أنّ تعويلَ أصحابِهِ عليه والتجاءَهُمْ إليهِ شفى نفْسَهُ ونفى هَمّه. قولُه: (واللامُ لبيانِ المقولِ لأجلِهِ هذا القول)، نحو: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]؛ فإنهُ لمّا قيل: وي؛ قيل: لَمِنْ؟ وأجيب: لك.

كان ذلك، وهو الخسف بقارون، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه»، ومنهم من يقف على «ويك». وقرأ الأعمش: (لولا منّ الله علينا). وقرئ (لَخَسَفَ بِنا) وفيه ضمير الله. ولا نخسف بنا، كقولك: انقطع به. ولتخسف بنا. [(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) 83] (تِلْكَ) تعظيمٌ لها وتفخيمٌ لشأنها، يعنى: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود: 113] فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه: إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: "ذهبت الأمانى هاهنا". وعن عمر بن عبد العزيز كان يردّدها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (مَنْ يقفُ على ((وي)))، يعني: الكسائي، وعلى ((ويك)): أبو عمرو. قولُه: (وقُرِئَ: {لَخَسَفَ بِنَا})، أي: على بناءِ الفاعل؛ قرأَها حفص. قالَ ابنُ جِنِّي: وهيَ قراءةُ الأعرجِ وغيرهِ، الفاعلُ ((الله))، والمفعولُ محذوف؛ أي: لخَسَفَ بنا الله الأرض. قولُه: (ولا نُخسِفُ بنا)، قالَ ابنُ جِنِّي: قرأَ بها الأعمشُ وطلحةُ وابنُ مسعود. ((بنا)) مرفوعةُ المَوْضِع؛ لإقامتِها مقامَ الفاعِل، نحو: انقطعَ بالرجُل، وسِيرَ بزَيْد. وإنْ شئتَ أضمرتَ المصدرَ مقامَ الفاعل، ولا يكونُ للفعلِ الواحدِ فاعلانِ قائمانِ مقامَهُ إلا على وجهِ الاشتراك. قولُه: (ومِنَ الطّماعِ مَنْ يجعلُ العُلُوّ لفِرعَون، والفسادَ لقارون)، قالَ صاحبُ ((الانتصافِ))

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهوَ يُعرِّضُ بأهل السُّنةِ في أنّ كلّ مُوحِّدٍ مِنْ أهلِ الجنة، وإنما طَمِعوا فيما أطمَعَهُمُ الله تعالى على لسانِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال: ((مَنْ قالَ: لا إله إلا الله؛ دخلَ الجنةَ وإنْ زَنى وإنْ سَرَق)) ثلاثًا، وفي الثالثة: ((وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذَرّ)). وقلتُ: لا شكّ أنّ العُلوّ في الأرضِ هوَ الاستكبارُ على الله تعالى، والاستطالةُ على الناس، والإفسادُ: إخراجُ الشيءِ مِنْ كونِهِ مُنتَفَعًا به. روى مُحيي السُّنة: {عُلُوًّا}: استكبارًا عنِ الإيمان، واستطالةً على الناسِ وتهاونًا بهم. و {فَسَادًا}: أخذُ أموالِ الناسِ بغيرِ حَق، والعملُ بالمعاصي. وأما ما رواهُ عنْ عليٍّ رَضيَ الله عنهُ: إِنَّ الرجُلَ لَيُعجِبُهُ أنْ يكونَ شِراكُ نعلِهِ أجودَ مِنْ شِراكِ نعلِ صاحِبهِ فيدخلُ تحتَها؛ فإنهُ مناقضٌ لِما رواهُ داودَ عنْ أبي هريرة: أنّ رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكانَ جميلا؛ فقال: يا رسولَ الله، إني رجُلٌ حُبِّبَ إليّ الجمالُ وأُعطِيتُ منهُ ما ترى حتى ما أُحِبُّ أنْ يفوقَني أحدٌ -إما قال: بشِراكِ نَعْل، وإما قال: بشِسْعِ نعل- أفَمِنَ الكِبْرِ ذلك؟ قال: ((لا، ولكنّ الكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الحقّ وغَمَطَ الناس)). وروى مسلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ عنِ ابنِ مسعود: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كانَ في قلبِهِ مِثقالُ ذَرّةٍ مِنْ كِبْرِ))؛ فقالَ رجُل: إنّ الرجُلَ يُحبُّ أنْ يكونَ ثوبُهُ حسنًا ونعلُه حسنًا! قال: ((إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناسِ)). هذا وإنّ التأويلَ الذي يُعتمدُ عليهِ هوَ ما يساعدُهُ النظم؛ فإنّ هذهِ الآيةَ كالتخلُّصِ مِنْ قصةِ موسى عليهِ السلامُ وقومِهِ معَ قارونَ وبَغْيِهِ واستطالتِهِ عليهم، ثُمّ هلاكِهِ ونُصْرةِ أهلِ الحقِّ عليه، إلى قصةِ سيدِنا صلواتُ الله عليهِ وأصحابِهِ معَ قومِهِ واستطالتِهم وإخراجِهم إياهُ مِنْ مَسقَطِ رأسِه، ثُمّ إعزازِهِ بالإعادةِ إلى مكةَ وفَتْحِه إيّاها منصورًا مُكرّمًا وذلكَ قولُه

متعلقا بقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)، (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كما تدبره علىّ والفضيل وعمر. [(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 84] معناه: فلا يجزون، فوضع (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) موضع الضمير؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً. فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيضٍ للسيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. روى محيي السُّنة: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} لَرَدُّكَ إِلَى مَعَاد: إلى مكة، وهيَ روايةُ العوفيِّ عنِ ابنِ عباس. قالَ القتيبي: معادُ الرجُل: بلدُه؛ لأنُه ينصرفُ منهُ ثُمّ يعودُ إليه. وقالَ الإمام: {مَن جَاءَ بِالهُدَى}: الإعزازُ بالإعادةِ إلى مكة. وإذا تقرّر هذا فينبغي أنْ يُفسّرَ العلوُّ والفسادُ بما اشتملَ عليهِ قصةُ قارون؛ فالعلوُّ فَرحُهُ بالدنيا؛ مِنْ قولِهِم: {لاَ تَفْرَحْ}، وبَطَرُ الحق؛ مِنْ قولِه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، وغَمْطُه الناس في قولِه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}. والفساد: البغيُ والظلمُ كما قالَ المصنِّفُ في قولِه: {وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، لا سيما ما أدخلَهُ في خروجِهِ على القومِ بتلكَ الزينة؛ حتى قالَ قائلُهُم: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتيَ قَارُونُ إِنَّهُ, لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ فإنهُ إفسادٌ عظيمٌ في الدين؛ فقولُه: {والعَاقِبةُ لِلْمُتَّقِينَ} لا ينافي تفسيرَهُ المنقولَ مِنْ أهلِ السُّنة؛ لأنّ المرادَ مَنْ لمْ يكنْ مِثلَ فرعونَ وقارونَ مِنَ المؤمنين. والمتّقِي هاهنا هوَ المتّقي مِن عُلُوِّ فرعونَ وفسادِ قارون؛ لأنّ قولَه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} تذييل.

وكرمه الواسع؛ أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبع مئةٍ، وهو معنى قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها). [(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) 85] (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعنى: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف. و (لَرادُّكَ) بعد الموت (إِلى مَعادٍ) أى معادٍ، وإلى معادٍ ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك. وقيل: المراد به مكة، ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأنٌ، ومرجعاً له اعتدادٌ؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه. والسورة مكيةٌ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبةٍ من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره، وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) بما قبله؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أَوْجَبَ عليكَ تلاوتَه)، أي: أوجبَ تلاوتَهُ عندَ تبليغِ الوحي؛ كقولِهِ تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [العنكبوت: 45]، لا في جميعِ الأوقات. والعملُ عاقِبُهُ؛ أيْ: مِنَ الفرائض، وأما الاستماعُ على الأمة ففي حالةِ الصلاة؛ قالَ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ, وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]. قولُه: ({إِلَى مَعَادٍ} أي: معاد)، الراغب: قيل: أرادَ بالمعادِ مكة، والصحيحُ ما أشارَ إليهِ عليٌّ رَضِيَ الله عنهُ وذكَرَهُ ابنُ عباسٍ أنّ ذلكَ الجنةُ التي خلقَهُ فيها بالقُوّةِ في ظَهْرِ آدمَ وأَظْهَرَهُ مِنه؛ حيثُ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذَرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172].

قلت: لما وعد رسوله الردّ إلى معادٍ، قال: قل للمشركين: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعنى نفسه، وما يستحقه من الثواب في معاده (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنيهم، وما يستحقونه من العقاب في معادهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لمّا وعدَ رسولَهُ الردّ إلى معاد)، هذا إذا أُريدَ بالمعادِ الإثابةُ والرجوعُ إلى مقاماتِهِ العاليةِ في الآخرة، والاتصالُ كما قالَ ظاهر. وأما إذا أُريدَ بالمعادِ مكة؛ فالمعنى: إنّ الذي حَباكَ نعمةَ الدين- لا سيما هذا الكتابَ الكريمَ الذي دُونَهُ كلُّ نعمة- يَمنَحُكَ فَتْحَ مكة، ويَرُدُّكَ إلى مَسْقَط رأسِك؛ كما قالَ تعالى: {إِنَّا فَتَحِنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إلى قولِه: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّستَقِيمًا} [الفتح: 1، 2]. فقُلْ لأعدائِك: موتوا كَمَدًا؛ ربي أعلمُ مَنْ جاءَ بالهدى مِنّا ومِنكُم، ومنْ هوَ في ضلالٍ مبين، يَنصُرُ المهتدي ويَخذُلُ الضال، وهوَ مالكُ الملك، يُعِزُّ مَنْ يشاءُ ويُذِلُّ مَنْ يشاء. وكما كنتَ غيرَ راجٍ أنْ يُلقي إليكَ هذا الكتاب، لكنّ الله لرحمتِهِ الواسعةِ ألقاهُ إليك، كذلكَ يَنصُرُكَ على أعدائكَ هوَ وحدَه، ويردُّكَ إلى معاد؛ فتوكّلْ عليهِ لا على غيره، ولا تَعتَمِدْ إلا عليه، ولا تكونَنّ ظهيرًا للكافرين. ويَنصُرُ هذا النّظْمَ قولُ القاضي: سيردُّكَ إلى معادٍ كما أَلقى إليكَ الكتاب، وما كنتَ ترجوه؛ ولكنْ ألقاهُ رحمةً مِنه. قولُه: (وما يستحقُّهُ مِنَ الثوابِ في معادِه، وما يستحقُّونَهُ مِنَ العقابِ في معادِهِم)، هذا يَحتَمِلُ المعنَيينِ في تفسيرِ {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}؛ أمّا حملُهُ على يوم القيامةِ فظاهر، وأمّا على الإعادةِ إلى مكة؛ فالهدى والضلال والحقُّ والباطل، أو العِزُّ والنُّصرةُ والخِذْلانُ والذل؛ كما روينا عنِ الإمام: {مَن جَاءَ بِالهُدَى}: الإعزازُ بالإعادةِ إلى مكة. وقالَ أهلُ التحقيق: هذا أَحَدُ ما يَدُلُّ على نُبُوّتِه؛ فإنهُ إخبارٌ عنِ الغَيْب. وقالَ مُحيي السُّنة: ربي أعلم من جاء بالهدى هذا جوابٌ لأهلِ مكةَ [لمّا قالوا] إنك في ضلال.

[(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) 86] فإن قلت: قوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمةً من ربك. ويجوز أن تكون (إلا) بمعنى (لكن) للاستدراك، أى: ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك. [(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 87] وقرئ: (يصدنك)، من أصدّه بمعنى صدّه، وهي في لغة كلب. وقال: أناس أصدوا النّاس بالسّيف عنهم ... صدود السّواقى عن أنوف الحوائم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (محمولٌ على المعنى)، يعني: مَنْ رأى نفسَهُ أهلاً لشيءٍ وأُشعِرَ بأمارةٍ أو تَوهّمَ مَخيلةً رُبما تعلّقَ رجاؤُهُ بحصولِه؛ فإذا نُفِيَ الرجاءُ انتفى حصولُهُ بالكلية؛ فكانَ معنى {ومَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ}: ما أُلقِيَ إليكَ الكتابُ لأمرٍ مِنَ الأمورِ إلا للرحمة؛ فانتَصَبَ {رَحْمَةً} على المفعولِ له. قولُه: (أناسٌ أصدُّوا الناس) البيت، السواقي: جمعُ الساقية؛ وهيَ الجماعاتُ التي تَسقِي الإبل، والحوائم: الإبلُ الغرائب، وقيل: العِطاش. والسوافي -بالفاء-: الرياح. ويُروى: ((أنوفِ الخرائم)) وهيَ أنوفُ الجِبال، والأولُ أصّحُّ صاحبُ ((ديوانِ الأدب)): يقول: صَرَفوا الناسَ بالسيفِ عنْ أنفُسِهِم؛ يعني أنَّهمْ هَزَمُوهُمْ كما تَطْرُدُ السواقي غرائبَ الإبلِ عنْ إبِلِهِم، وكما يصدُّ السُّقاةُ عنِ الحوضِ غيرَها.

(بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) بعد وقت إنزاله، و (إذ) تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ وليلتئذٍ ويومئذٍ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سبق ذكره. [(وَلا تَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 88] (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "طسم القصص" كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({إِلاَّ وَجْهُهُ,}: إلا إيّاه)، قالَ مكي: انتصبَ ((الوجه)) على الاستثناء، ويجوزُ الرفعُ على الصفة؛ أي: غيرُ وجهِه. كما قال: وكلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ وقالَ الإمام: فُسِّرَ الهلاكُ بالعَدَم؛ أيْ أنّ الله يُعدِمُ كلَّ شيء، وقدْ فُسِّرَ بإخراجِ الشيءِ عنْ كونِهِ مُنتَفَعًا به؛ إمّا بالإماتة، أوْ بتفريقِ الأجزاءِ وإنْ كانتْ باقية؛ كما يُقال: هلكَ الثوب، وهلكَ المتاع. وقيل: معنى كونِهِ هالكًا كونُهُ قابلاً للهلاكِ في ذاتِه. قولُه: (أنْ كلّ شيءٍ هالكٌ)، الوَجْهُ أنْ يكونَ ((أن)) مُخفّفةً مِنَ الثقيلة، وضميرُ الشأنِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محذوف؛ أي: أنهُ كلُّ شيءٍ هالك؛ كقولِهِ تعالى: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} [يوسف: 3]. تَمّتِ السُّورة، حامدًا لله ومصلِّيَا على رسوله.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية، وهي تسعٌ وستونٌ آية بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) 1 - 3] الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل. ألا ترى أنك لو قلت: حسبت زيداً وظننت الفرس: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورةُ العنكبوت مكِّيّة، وهي تسعٌ وستُّون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (الحِسْبانُ لا يَصِحُّ تَعليقُه بمعاني المفرَدات، ولكنْ بمَضامينِ الجُمَلِ) سَبَقَ في ((سُورة القَصَص)) تحقيقُ هذا الكلام. الراغب: الحِسْبانُ: أن يُحكمَ لأحدِ النقيضَيْن من غيرِ أنْ يخطرَ الآخرُ بباله فيَحْسِبُه ويعْقِدُ عليه الأَصِبع، ويكونُ بمَعرضٍ أن يعتريَه شَكٌّ، ويقاربُ ذلك الظنُّ، لكن الظنَّ أنْ يُخطرَ النقيضَيْن بباله، فيُغلِّبَ أحدَهما على الآخَر.

لم يكن شيئاً؛ حتى تقول: حسبت زيداً عالماً؛ وظننت الفرس جواداً، لأنّ قولك: زيدٌ عالم، أو الفرس جواد: كلامٌ دال على مضمون، فإن أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لم يكنْ شيئَا) أي: كلامًا مفيدًا، والضميرُ في ((يَكُنْ)) يعودُ إلى القولِ الَّذي يدلُّ عليه قولُه: ((لَوْ قُلْتَ)). قولُه: (ثابتًا عندَك) حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ ((أَردْتَ))، أوْ ((عن ذلك المَضمونِ))، وقيل: هو منصوبٌ عن كونِ مقدَّرٍ، أوْ عنَ كونِ ((ذلكَ المضمونِ ثابتًا عندَك))، يدلُّ عليه قولُه: ((فلمْ تَجدْ بُدًّا في العبارةِ عن ثَباتِه عندَك))؛ لأنَّه مِنَ التَّركِ الَّذي هو بِمعنى التَّصيير؛ يعني: يتعدَّى على مفعولَيْن، يشهدُ له الاستشهاد، وما سبقَ في أوَّلِ ((البقرةِ)) في قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17]، وفيهِ نَظَر؛ لأنّ قولَه: {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} حالٌ، الواوُ صادَّةٌ عن جعلِ الجُمْلة ثاني مفعولَيْ: تَرك. والظاهرُ أنَّه ممَّا يَتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ بمعنى يُخَلَّوا أو يُطرَحوا، ولعلَّه مالَ إلى مذهب الأخفش، حيث جوَّز دخولَ الواوِ في خبرِ ((كانَ)) وأخوَاتِها. قالَ شارحُ أبياتِ ((المفصَّل)): حُكيَ عن الأخفشِ: أنَّه كانَ يُجوِّز كان زيدٌ وأبوهُ قائِمٌ؛ على نُقصانِ ((كان)) وجَعْلِ الجملةِ خبرًا معَ الواو، وتَشبيهِها لخبرِ ((كانَ)) بالحال، وهذا كأنَّه التفاتٌ إلى مذهبِ الكوفيِّ، أنّ عندَه خبرُ ((كانَ)) حالٌ لا خبرٌ، وعليه قولُ المَعرّي: وَكَانتْ كالنَّخِيلِ وظَلَّ كُلٌّ ... وَمُشْبِهَةً مِنَ الضُّمْرِ الإِهَانُ المِصْراعُ الأخيرُ جملةٌ معَ الواوِ وخبر ظل. وأبطلَ أبو عليٍّ قولَ الكوفيِّ: تقولُ العرب: كنتُ إيَّاه وكنتُه، فالضمير الجامد لا يقعُ حالاً، إذْ هو لازمُ التَّعريف. لعلَّ مذهبَه كمذهبِ يُونس، إذْ هوَ يجوِّزُ تعريفَ الحال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقالَ صاحبُ ((التَّقريب)) في قولِه: ((أَحسِبوا تَركَهُم غيرَ مفتونِين كقولهِم: {آمَنَّا})) نَظَر؛ لأنَّه يؤدِّي إلى تُركوا غيرَ مفتُونِين. وإنّما الكلامُ في العلِّةِ وليسَ كذلكَ لما ذكر من معنى الآية: أي أَحَسِبَ الذين نَطقُوا بكلمة الشهادة أنّهم يُتركون غيرَ مُمتَحَنين، بل يُمتَحنون ليتميَّزَ الراسخُ في الدِّين من غيرِه. ولسَبَبِ النُّزولِ. فالوجهُ أن يُجعلَ {أَن يُتْرَكُوا} سادًّا مَسدَّ مفعوليَ ((حَسِبَ)) كما سَيذكر في {أَن يَسْبِقُونَا} بعدَ ((حَسِبَ)) ونظائرِه، و {أَن يَقُولُوا} علَّةً للحِسْبان؛ أي: أَحَسِبوا كقولهم: {آمَنَّا} أن يُتركوا غيرَ مفتُونين بسبب قولِهم هذا لا بسببٍ آخَر، وليس الكلامُ إلاّ في أنْ جَعَلوا قولَهم علَّةً لقولهم: {لاَ يُفْتَنُونَ}. وأما سَببُ النُّزولِ: فهو أنَّ ناسًا من الصحابة جَزِعوا من أذى المشركين، إلى آخره. وأُجيبَ: أنَّ ذلك إنّما لَزِم أنْ لو كان التقديرُ ما ذَكَره، أمّا لو قُدِّر: أَحَسِبُوا تَرْكُهُم غيرَ مفتُونينَ يحصلُ لقولهم: {آمَنَّا}، كما نصَّ عليه المصنِّفُ بقوله: ((على تقدير: حاصِلٌ ومستقرٌّ، قَبلَ اللاّم)) استقام، كأنّه قيل: لا ينبغي أن تَحسَبُوا أنَّ إجراءَ كلمةِ الشهادةِ على ألسنَتِكُم سببٌ لأنْ لا تُفتَنُوا؛ لأنّه مُقتَضٍ لازدياد الفتنةِ على ما سيجيءُ في حديث خبّابِ ابنِ الأَرتِّ، فإن لم يجعلوه مقتضيًا له فَلأَنْ لا يَجعلُوه لِعَدمِه أَولى. والحاصل أنّ دلالة المفهوم الذي ذَكَره، وأن الكلام في العلَّة مهجور؛ لأنَّ الكلام مع قومٍ مخصوصينَ؛ كقوله تعالى: {لاَ تَاكُلُوا الرِّبوَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، وقال الزَّجاجُ: في قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} معنى التَّقريرِ والتَّوبيخِ؛ أي: أَحَسِبوا أن نقنعَ منهم بأن يقولوا: إنّا مؤمنون فقط ولا يُمتَحنون بما تَتبيَّنُ به حقيقةُ إيمانِهم، وموضعُ ((أَنْ)) الأُولى نصبٌ؛ لأنَّه اسمُ ((حَسِبَ)) وخبرُه، وموضعُ ((أَنْ)) الثانية إما نصبٌ بـ {يُتْرَكُوا}. المعنى: أَحَسِبَ النّاسُ أن يُتركوا لأنْ يَقولوا أو بأنْ يقولوا، ثم حُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ، وإمّا أن يكونَ العاملُ فيها {أَحَسِبَ}، كأن المعنى: أَحَسِب الناسُ أن يقولوا: آمنّا وهم لا يُفتنون. والأوَّلُ أجودُ.

على وجه الظن لا اليقين، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه، من ذكر شطرى الجملة مدخلاً عليهما فعل الحسبان، حتى يتم لك غرضك. فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت: هو في قوله: (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، فالترك أول مفعولي "حسب"؛ ولقولهم: آمنا، هو الخبر. وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله: فتركته جزر السّباع ينشنه ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان، تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فتَرَكْنَهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ)، تَمامُه: يَقْضُمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمْعْصَمِ وفي روايةٍ: ((يَقْضَمْنَ قُلَّةَ رأسِه)). جزَرَ السِّباعِ: اللَّحمُ الذي تأكلُه، وهو مفعولٌ ثانٍ إن كان التَّرْكُ بمعنى التَّصييرِ، وإلاّ فحالٌ؛ أي: تَركنَه وهو جَزَرُ السِّباعِ. النَّوْشُ: التَّناوُلُ. القَضْمُ: الأكلُ بطَرَف الأسنانِ. يصف مقتولاً. إذا كانت الروايةُ بالنُّون فالضَّميرُ في ((تَرَكنه)) للخيل، وإذا كانت بالتاء فللشاعِر، والمسموعُ بالنُّون. الراغب: التَّرْكُ: رفضُ الشيءِ قَصْدًا واختيارًا، أو قَهْرًا واضطِرارًا، فمِنَ الأوَّلِ {وَتَرَكْنَا بَعْضُهْمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]، ومِنَ الثاني قولُه: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25]. ومنه: تَرِكُةُ فلانٍ؛ لِمَا يُخلِّفُه بعدَ موتِه. وقد يُقال في كلِّ فعلٍ ينتهي به إلى حالةٍ ما؛ نحو: تَرِكَتُه كذا، أو يَجري مَجْرى: جَعلتُه كذا، نحو: تَركتُ فلانًا.

آمنا، على تقدير: حاصلٍ ومستقر، قبل اللام. فإن قلت: (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول خروجه لمخافة الشر، وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت مخافة الشر، وضربته تأديباً: تعليلين. وتقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشر، وظننت ضربه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً. والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان: أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكن من العابد على حرف، كما قال: ) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ([آل عمران: 187]، وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر: وكان يعذب في الله. وقيل: في ناسٍ أسلموا بمكة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أوّل قتيلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في مِهْجَع بنِ عبدِ الله) وفي ((الاستيعاب)): مِهْجَعُ بنُ صالح، مولى عمرَ بنِ الخطّابِ، شهد بدرًا، وهو أوَّل من قُتل من المسلمين بينَ الصَّفَّينِ، أَتاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فقتَله، فقال ابنُ إسحاقَ: هو من اليمن. وقال ابن هشام: هو من عَكٍّ، أصابَه سِبَاءٌ فمَنَّ عليه عمرُ ابنُ الخطابِ.

من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " فجزع عليه أبواه وامرأته. (وَلَقَدْ فَتَنَّا) موصول ب- (أحسب) أو ب- لا يفتنون، كقولك: ألا يمتحن فلانٌ وقد امتحن من هو خير منه، يعنى: أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم، أو ما هو أشدّ منه فصبروا، كما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا) الآية [آل عمران: 146]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سَهْمٌ غَرْبٌ: أن لا يُعرفَ راميه، يُضاف ولا يُضاف. قوله: ({وَلَقَدْ فَتَنَّا} موصولٌ بـ {أَحَسِبَ} أو بـ {لاَ يُفْتَنُونَ})، فإذا اتَّصل بـ {لاَ يُفْتَنُونَ} دخل في حيِّز متعلِّق الحِسْبانِ المُنكَرِ؛ أي: أَحَسِبُوا أن لا يكونوا كغَيرِهم، وليس لهم أُسوةٌ بالأمم السالفةِ، فيكون حالاً من فاعل {لاَ يُفْتَنُونَ}، وإذا اتصل بـ {أَحَسِبَ} كان حالاً مقرِّرةً لجهةِ الإنكار؛ أي: أَحَصَل الحِسْبانُ والحالةُ هذه، وفي هذا تنبيهٌ على الخطأ وفي الأول تخطئةٌ. قوله: ({وَكَأَيِّن مِن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146]) تمهيدٌ لعُذْره في قوله: ((مَنْ هو خيرٌ منه))، فإنه تُوُهِّمَ منه أنَّ أتباعَ الأنبياءِ خيرٌ من هذه الأمَّةِ، فقال: المراد منه النبيون مع الربيِّين، فهو تتميم لصيانة المكروه. قوله: (قد كان مَنْ قَبلَكُم يؤخذ)، الحديثُ من رواية البخاريِّ وأبي داودَ والنَّسائيِّ، عن خبّابِ بن الأَرتِّ قال: شَكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد لَقينا من المشركينَ شدَّةً فقلنا: ألاَ تَستنصِرُ لنا، أَلا تَدعو لنا؟ فقال: ((قَدْ كانَ مَنْ قَبلَكُمْ يُؤخَذُ الرجل فيُحفَرُ له في الأَرضِ فيُجعَلُ فيها، ثُمَّ يُؤتَى بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ على رَاسِه فيُجعَلُ نِصفَينِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِه وعَظْمِه مَا يَصُدُّه ذلكَ عن دِينِه)).

دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» (فَلَيَعْلَمَنَّ الله) بالامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) في الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدومًا، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد، والمعنى: وليتميزن الصادق منهم من الكاذب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يَزَلْ يَعلمُه مَعدومًا ولا يَعلمُه موجودًا إلا إذا وُجِدَ)، الانتصاف: هذا يُوهِم مَذهبًا فاسدًا، وهو أنَّ العلمَ بالكائن غيرُ العلمِ بما سيكون، والحقُّ أنَّ علمَ اللهِ واحدٌ يتعلَّق بالموجودِ، زمانَ وجودِه وقبلَه وبعدَه على ما هو عليه. وفائدةُ ذِكْرِ العلمِ التَّنبيهُ بالسَّبب على المُسبِّب، وهو الجزاء؛ أي: لَيَعلَمَنَّهم فلَيُجازِيَنَّهُم بسَبب علمِه فيهم، هذا هو الوجهُ الثاني في الجوابِ. وقال الإمام: عِلْمُ اللهِ صفةٌ يظهرُ فيها كلُّ ما هو واقع، فقَبْلَ التَّكليفِ كان اللهُ سبحانه وتعالى يعلمُ أنَّ زيدًا سيُطيعُ وأنَّ عمرًا سَيعصي، ثمَّ وَقْتَ التَّكليفِ والإتيانِ يعلمُ أنه مطيعٌ والآخَرَ عاصٍ، وبعدَ الإتيانِ يعلمُ أنّه أطاعَ والآخَرَ عَصى، ولا يتغيَّرُ علمُه في شيءٍ منَ الأحوالِ، وإنّما المتغيٍّرُ المعلومُ، ويتبيَّن هذا بمثالٍ [منَ الحِسِّيّاتِ]- ولله المثلُ الأَعلى- وهو أنَّ المرآة الصَّقِيلةَ إذا عُلِّقت قُوبِلَ بها جهةٌ، فعَبَر عليها زيدٌ وعليه ثوبٌ أبيضُ، ثم عمروٌ وعليه ثوبٌ أصفرُ، فتَشكّلا فيه على حَسْب ما هُما عليه، فهل يُتصوَّر أنَّ المرآة من كَونها حديدًا أو مدورًا أو صَقِيلاً اختَلفت، بل يُقطع أن المتغيِّرَ الخارجُ، بل علمُ الله أعلى وأجلُّ، فإنَّ المرآة مخلوقةٌ، وعِلْمُ الله قديمٌ. وقال مُحيي السُّنة: ولَيُظهرنَّ اللهُ الصادقينَ من الكاذبينَ، حتى يُوجِدَ مَعلُومَه؛ لأنَّ الله تعالى عالمٌ بهم قَبل الاختبارِ.

ويجوز أن يكون وعدًا ووعيدًا، كأنه قال: وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين. وقرأ على رضى الله عنه والزهري: "وليعلمنّ"، من الإعلام، أى: وليعرفنهم الله الناس من هم. أو ليسمنهم بعلامةٍ يعرفون بها؛ من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها. (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)] 4 [ (أَنْ يَسْبِقُونا) أي: يفوتونا، يعنى: أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدّثوا به نفوسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي: في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويَجوز أن يكونَ وَعْدًا ووَعِيدًا)، قال ابن جِنِّي: فإنَّه من إقامةِ السَّبَبِ مقامَ المُسبِّب، والغرضُ فيه: ليُكافِئنَّ اللهُ الذين آمنوا، وذلك أن المكافآتِ على الشيء إنّما هي مُسبَّبة عن علم. قوله: (أو لَيَسِمَنَّهُم بعلامةٍ) قال ابن جنِّي: ((ولَيُعلِمَنَّ اللهُ)) بضمِّ الياءِ وكسرِ اللاّمِ؛ معناه: وَليُعَرِّفَنَّ الناسَ مَنْ هُم؟ فحُذف المفعولُ الأوَّلُ، ولك أنْ لا تحذفَه على أنَّه من قولهم: ثَوبٌ مُعْلَم، وفارسٌ مُعْلَم؛ أي: أَعلَمَ نفسَه في الحرب بثوب أو غيره. المعنى: ولَيُشْهِرنَّ اللهُ الذين صَدَقوا. قوله: (وهم لم يَطْمَعُوا في الفَوْت، ولكنّهم لِغَفلَتِهم وإصرارِهم على المعاصي: في صُورة مَن يُقدِّرُ ذلك)، يعني أنّه تعالى أَوقَعَ الحُسْبانِ على السَّبْق والفَوْتِ وهم لا يَعلمون ذلك، بل خلافُه مُتيقَّنٌ وُقوعُه، وهو لُحوقُ الجزاءِ بهم؛ لأنَّ قولَه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} في المؤمنين بدليل تَعْقِيبِه قولَه: أَحَسِبَ الناسُ أن يُترَكُوا وهم لا يَشُكُّونَ في الجزاء

ونظيره: (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)] العنكبوت: 22 [، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)] الأنفال: 59 [. فإن قلت: أين مفعولا (حسب)؟ قلت: اشتمال (صلة أن) على مسنٍد ومسنٍد إليه سدّ مسدّ المفعولين؛ كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)] البقرة: 214 [، ويجوز أن يضمن (حسب) معنى (قدر) و (أم) منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ): بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكمًا يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)] 5 [ لقاء الله: مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت، والبعث، والحساب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكن تَرَكَهُم بسَببِ جَرْيهم على غيرِ موجبِ العلم، وهو غَفلتُهم وإصرارُهم على المعاصي، منزلةَ مَنْ لم يتيقّن الجزاء؛ أي: لو اعتَقَدُوا ما أَصرُّوا على المعاصي. قوله: (ونَظيرُه {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت: 22]، {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59] أي: تَنْزيل المُتيقِّن منزلةَ الشّاكِّ. هذا إذا خُوطب الرسولُ صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون. قوله: (بئسَ الذي يحكمونَه حُكْمُهم). قال مَكِّيٌّ: ((ما)) في موضع نَصْبٍ وهي نكرة؛ أي: ساء شيئًا يَحكُمونَه. وقيل: ((ما)) في موضع رفعٍ وهي معرفة؛ أي: ساء الذي يَحكُمونَه. وقال ابنُ كَيْسانَ: ((ما)) مع الفعل مصدرٌ في موضع رفعٍ؛ أي: ساء حُكْمُهم.

والجزاء: مثلت تلك الحال بحال عبٍد قدم على سيده بعد عهٍد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب؛ لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى قوله: (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله) من كان يأمل تلك الحال، وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشرى (فَإِنَّ أَجَلَ الله) وهو الموت (لَآتٍ) لا محالة؛ فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه، ويحقق أمله، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه، فهو حقيق بالتقوى والخشية. وقيل: (يَرْجُوا): يخاف من قول الهذلي في صفة عسال: إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها فإن قلت: (فإن أجل الله لآت)، كيف وقع جوابًا للشرط؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لم يَرْجُ لَسْعَها)، تمامُه: وخالَفَها في بيتِ نُوبٍ عَوامِلِ الدَّبْرُ: جماعةُ النَّحْلِ. قيل: سمِّيت بذلك لِتَدْبيرها وحُسن نَيْقَتِها في العَمَل، ومن كلام سُكَينة بنتِ الحُسين- رضي الله عنها- قالت لأُمِّها: يا أُمَّاه، مرَّت بيد ُبَيْرة فلَسَعَتْنِي بأُبَيْرَةٍ لم يَرْجُ: لا يخافُ. والنُّوبُ: ضَربٌ منَ النَّحلِ قيل: سمّيت بذلك لأنها تَنُوبُ إلى أهلِها، والهاءُ في ((لَسَعَتْهُ)) يعودُ إلى العَسّال المتقدِّمِ ذِكْرُه. والعَسّالُ: الذي يَشُورُ العَسَلَ. قوله: ({فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَأَتٍ} كيف وقع جوابًا للشرط)، تلخيصه ما ذكره الإمام: أن قوله: {مَن كَانَ يَرْجُوا} شرط، وجزاؤه: {فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ}، والمعلَّق بالشرَّطِ عَدَمٌ عند عَدَم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشَّرْطِ، فيَلزمُ منه أنَّ مَن لا يَرجُو لقاءَ الله، لا يكونُ أَجَلُ الله آتيًا له، والأجلُ آتٍ لكلِّ أحدٍ لا مَحالَةَ. وخُلاصةُ جوابِ المصنِّف أنَّ هذا الكلامَ واردٌ في حقِّ من عَلِمَ، بدليل قوله: ((إذا عُلِمَ أنَّ لقاءَ الله عُنيت به تلكَ الحالُ المُمثَّلةُ)) يعني: هذا إنّما يَصِحُّ أنْ يقعَ جوابًا للشَّرط إذا عَلِمَ المُخاطَبُ أن المرادَ بلقاء الله تعالى ما هو، ووقتُه متى هو، والمراد بلقاء الله تعالى ووَقْتِه: هو ما قال: ((مَثَلٌ للوُصُولِ إلى العاقبةِ))؛ أي: يلقى مَلَكَ الموتِ والبَعْثَ والحسابَ والجزاءَ، وهو المراد من قوله: ((تلك الحالُ المُمثَّلةُ)) وإذا لم يَعلمِ المُخاطَبُ ذلك لا يُقال له ذلك، أَلا تَرى كيف استَشهد بقوله: ((إذا عَلِمَ أنه يَقعدُ للنّاسِ يومَ الجُمعةِ))؛ يعني: من كان يرجو نَيْلَ ثوابِ الله ويخافُ عقابَه، فلْيَعلَمْ أنَّ وقوعَ ذلك لا بدَّ منه، وهذا لا يَصِحُّ في حقِّ الكافرِ. ويَنصرُه أنَّ هذه الآيةَ قد عُقِّبت بها {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وسَبقَ أنّها في حقِّ المؤمنين، وفائدة هذا التَّنبيهِ الحَثُّ على طاعة الله تعالى وما يُنالُ به ذلك الثَّوابُ، والرَّدْعُ عن المعاصي والتأهُّبُ لأخْذِ الزادِ لذلك اليوم المَهُولِ، وإليه أشار بقوله: ((فلْيُبادِرِ العملَ [الصالحَ] الذي يُصدِّق رجاءَه، ويُحقِّق أَملَه ويَكتَسِبُ به القُربةَ عند الله والزُّلْفى))، وسبيلُ هذه الطريقةِ سبيلُ الكِنايةِ؛ لأنّه إذا حَصَل العلمُ بأنَّ لقاءَ الله مُستَلْزِمٌ للأجل المَضْرُوبِ، كان ذِكْرُ الأَجَلِ شاهدًا على حُصول اللِّقاءِ بوَجْهٍ بُرْهانٍّي، ولذلك علَّل قولَه: ((إنَّ لقاءَ الله لآتٍ)) بقوله: ((لأنَّ الأَجَلَ واقعٌ قيه))، وإلى هذا المعنى نَلْمَحُ ما روينا عن البخاريِّ ومسلم عن عبادةَ بن الصّامِتِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَحَبَّ لقاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لقاءَ الله كَرِهَ اللهُ لقاءَهُ، والموتُ قبل لقاءِ الله)) الحديثَ. فعلى هذا: الموتُ أحدُ الأسبابِ المُوصِلَة إلى النَّعيم الأَبَدِيِّ، والكَمالِ السَّرْمَدِيِّ، ثمَّ قولُه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تَذْيِيلٌ لتحقيق حُصولِ المَرْجُوِّ والمَخُوف وَعْدًا ووَعِيدًا، وإليه أشار بقوله: ((الذي لا يخفي عليه شيءٌ ممّا يقولُه عبادُه ومِمّا يَفعلُونَه، فهو حَقيقٌ بالتَّقوى والخَشيةِ))، وتَرَكَ ذِكْرَ الوَعْدِ؛ وهو أن يُقالَ: فهو جَديرٌ بأنْ يؤمَّل ويُناطَ بكَرَمِه

قلت: إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة، والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت، فكأنه قال: من كان يرجو لقاء الله؛ فإن لقاء الله لآت، لأن الأجل واقع فيه اللقاء، كما تقول: من كان يرجو لقاء الملك؛ فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)] 6 [ (وَمَنْ جاهَدَ) نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه (فَإِنَّما يُجاهِدُ) لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمر الله عز وجل ونهى، رحمةً لعباده وهو الغنى عنهم وعن طاعتهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)] 7 [ إما أن يريد قومًا مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم، وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم، أى: يسقط عقابها بثواب الحسنات، ويجزيهم أحسن الذي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرجاءُ؛ إيجازًا واختصارًا. وأما ((إذا)) في قوله: ((إذا عَلِمَ أنَّ لقاءَ اللهِ عُنيتْ به))، فهي كـ ((إذا)) في قوله: ((إذا عُلِمَ أنَّه يَقْعُدُ))، فكما أنَّ جزاءَ المِثالِ ما دلَّ عليه بقوله: ((مَن كان يَرجو لقاءَ المَلِكِ)) كذلك يقدَّر له الجزاءُ. والفاءُ في ((كأنَّه)) جوابُ شرطٍ محذوفٍ؛ أي: إذا كان كذلك فكأنَّه قال. قوله: (صالحين قد أَساؤوا في بعض أعمالِهم، وسيِّئاتُهم مَغْمُورةٌ بحَسناتِهم)، الانتصاف: هذا من تحجُّرِ رحمةِ الله الواسعةِ بناءً على مذهبِه في وَعِيد أصحابِ الكَبائِر، وقد سَبَق إبطالُه. وقلت: قد مَرَّ أنَّ الآياتِ واردةٌ في حقِّ المؤمنينَ تَعْييرًا على اجتِراحِ السَّيِّئاتِ، وتَحريضًا على اكتساب الحَسَناتِ، وأعلَمَهمُ اللهُ أنّ نَفْعَ ذلك كلُّه عائدٌ إليهم، بقوله: {وَمَن جَاهَدَ

كانوا يعملون، أى: أحسن جزاء أعمالهم؛ وإما قومًا مشركين آمنوا وعملوا الصالحات، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم؛ بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 8 [ (وصى) حكمه حكم (أمر) في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيدًا بأن يفعل خيرًا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه بيت "الإصلاح": ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}، وأكَّدَه بقوله: {إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، ثمَّ أتى بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، تَذْييلاً لذلك على سبيل التَّفضُّل، فلا بدَّ من إثبات أمرٍ يَعظُم شأنُه، فيُحمل قولُه: {لَنُكَفِرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} على الكبائر، ولذلك أتى بالقَسَمِيَّة وأَوقعَه في مقابل {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، كأنَّه قيل: لَنُكَفِّرَنَّ عنهم أَسوأ الذي كانوا يعملون، ولَنَجزِيَنَّهم أحسَنَ الذي كانوا يعملون؛ وهذا المعنى لا يَستقيمُ في حقِّ المشركينَ؛ لأنَّ التَّكفيرَ يَحصُل بمُجرَّد الإيمانِ، ولا مَدخَلَ فيه. وقال مُحيي السُّنةِ: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لَنُبْطِلَنَّها حتّى تَصيرَ بمنزلة ما لم يُعمل، فالتَّكفيرُ إذهابُ السَّيئةِ بالحَسَنة. وقد مرَّ في ((الفرقان)) نحوٌ من هذا التَّقدير وأيَّدْناه بالحديث الصَّحيح. قال الإمامُ: ذَكَر الله تعالى ممّا يَختَصُّ بالعَبد شيئَينِ: الإيمانَ والعملَ الصَّالح، وذَكَر في مُقابَلَتِهما ممّا يَختصُّ بالله شيئَينِ: التَّكفيرَ والجزاءَ، فتكفيرُ السَّيِّئاتٍ في مُقابَلَة الإيمانِ، والجزاءُ بالأحسنِ في مُقابَلَة العملِ الصالحِ، وهذا يَقتضي أنَّ المؤمنَ لا يُخلَّد في العذاب. قوله: (بيتُ ((الإصلاح))) وهو كتاب ((إصلاح المَنْطِق)) لابن السِّكِّيتِ. ((كَذَبَ))؛ أي:

وذبيانيّة وصّت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف كما لو قال: أمرتهم بأن ينتهبوها. ومنه قوله تعالى: (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ)] البقرة: 132 [أى: وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيدًا بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرٍو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً): وصيناه بإيتاء والديه حسنا، أو بإيلاء والديه حسنا؛ أى: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)] البقرة: 83 [وقرئ: (حسنا)، و (إحسانا)، ويجوز أن تجعل (حُسْناً) من باب قولك: زيدًا، بإضمار (أضرب) إذا رأيته متهيئًا للضرب، فتنصبه بإضمار: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَجَبَ نَهْبُ هذه الأشياء. الجوهريُّ: قال ابن السِّكِّيت: كَذَبَ [هاهنا] إغراءٌ؛ أي: عليكم به. وهي كلمة نادرةٌ جاءت على غير القياسِ، والقَراطِفُ جمعُ القَرْطَفِ: وهي القَطِيفةُ. والقَرْفُ- بالفتح: وِعاءٌ من جِلْد يُدْبَغُ بالقِرْفَةِ؛ أي: قُشُور الرُّمّانِ ويُجْعَل فيه الخَلْعُ، وهو لَحمٌ يُطبخ بتَوابِلَ فيُفْرَغُ فيه. والبيت لِمُعَقِّرِ بن حِمارٍ البارِقيِّ، يَصِفُ امرأةً ذُبْيانيَّةً أَمَرَت بَنِيها بأنْ يَنتَهِبُوها؛ أي: عليكم بها فاغتَنِموها. قوله: (وقرئ: {حُسْنًا} و ((إحسانً)))، الأُولى: مشهورةٌ، والثانيةُ: شاذَّةٌ. قال الزَّجّاجُ: {حُسْنًا} معناه: ووصينا الإنسان أن يَفعلَ بوالِدَيْه ما يَحسُنُ، و ((إحسانًا)) معناه: ووَصَّينا الإنسانَ أن يُحسِنَ إلى والِدَيْهِ إحسانًا. والأُولى أعمُّ في البِرِّ. وقيل: يَعُمُّ الفعلَ والقولَ. قوله: (أن تَجعلَ {حُسْنًا} من باب قولك: زيدًا، بإضمار: اضرِبْ) عطفٌ على قوله: ووَصَّيناهُ بإيتاء والِدَيهِ حُسنًا، وعلى الأوَّل المضافُ محذوفٌ وهو العاملُ في {حُسْنًا}

أولهما، أو: افعل بهما، لأن التوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، كأنه قال: قلنا: أولهما معروفًا، ولا تُطِعْهُما في الشرك إذا حملاك عليه. وعلى هذا التفسير إن وقف على (بِوالِدَيْهِ) وابتدأ (حُسْناً) حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لابد من إضمار القول، معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أى: لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم؛ نفى المعلوم، كأنه قال: لتشرك بى شيئًا لا يصح أن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على تقدير: فعلاً ذا حُسْنٍ، أو على المُبالغةِ، وعلى الثاني: العاملُ فعلٌ آخَرُ مضمَرٌ بقَرينة المَقامِ، وهو أَوْلِهِمَا منَ الإيتاء والإعطاءِ، والجملةُ مُستأنَفةٌ، كأنَّه لمّا قيلَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} فقيل: ما تلك الوَصِيَّةُ؟ فأُجيب قلنا: أَوْلِهِمَا مَعروفًا ولا تُطِعْهُما، وإليه الإشارةُ بقوله: ((إن وقف على {بِوَالِدَيْهِ} وابتدأ {حَسْنًا} حَسُنَ الوَقْفُ)). قوله: (وما بعدَه مطابقٌ له) يعني: النَّهْيَ في قولِه: {فَلاَ تُطِعْهُمَا} مطابقٌ للأمرِ؛ لأنَّهما من وادي الإنشائيّاتِ. قوله: (وعلى التفسيرِ الأول لابدَّ من إضمارِ القول)، يعني عند قوله: {وَإِن جَاهَدَاكَ}، لأنّ المعنى: أَمَرْنا الإنسانَ بإيلاء والِدَيْهِ ذا حُسْنٍ وقلنا: {إِن جَاهَدَاكَ}؛ أي: وعلى الثاني: القولُ مقدَّرٌ. قيل: عاملُ {حُسْنًا}: {وَإِن جَاهَدَاكَ} إلى آخره، عطفٌ على هذا العاملِ فلا يقدَّر القولُ عند قولِه: {وَإِن جَاهَدَاكَ} لاستغنائه بذلك عنه، ومِنْ ثَمَّ قُدِّر هاهنا: أَوْلِهِمَا معروفًا ولا تُطِعْهُما في الشِّرك إذا حَمَلاكَ عليه. قوله: (والمراد بنَفْي العِلْمِ نَفْيُ المَعْلُوم)، يعني هو من الكِنَايةِ، نَفْيُ الشَّيءِ بالبُرْهان؛ لأنَّ هذا الأسلوبَ يُستعمل غالبًا في حقِّ الله تعالى؛ نحو: أَتُعَلِّمون اللهَ بما لا يَعلَمُ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ نَفْيَ الشِّرك منَ العلمِ الضَّروريِّ، وأنَّ الفِطْرةَ السَّليمةَ مَجْبولةٌ عليه على ما وَرَد: ((كلُّ مَوْلودٍ يُولدُ على الفِطْرةِ))، وذلك أنَّ المُخاطَبَ بقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ} جنسُ الإنسانِ، واللهُ أعلم.

إلهًا ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكر، على أن كل حق وإن عظم ساقط؛ إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوٍق في معصية الخالق، ثم قال: إلىّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان: أحدهما: أن الجزاء إلىّ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما؛ لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أنى لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد. روى: أن سعد بن أبى وقاص الزهري رضى الله عنه حين أسلم قالت أمّه، وهي حمنة بنت أبى سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الفيح والريج؛ وإن الطعام والشراب علىّ حرام حتى تكفر بمحمد، وكان أحبّ ولدها إليها، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فنزلت هذه الآية، والتي في "لقمان"، والتي في "الأحقاف"، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان. وروى: نزلت في عياش بن أبى ربيعة المخزومي، وذلك: أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضى الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة: امرأة من بنى تميم من بنى حنظلة، فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمٍد صلة الأرحام وبر الوالدين، وقد تركت أمّك لا تطعم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رُويَ أنَّ سعدَ بنَ أبي وقّاصٍ) الحديثَ؛ من رواية مسلمٍ والتِّرمذيِّ، عن سعدٍ قال: أُنزلت فيَّ أربعُ آياتٍ منَ القرآنِ، قال: حَلفَتْ أُمُّ سعدٍ لا تُكلِّمُه أبدًا حتّى يَكْفُرَ بدِينِه، ولا تأكلُ ولا تَشربُ، قالت: زَعَمتُ أنَّ اللهَ وَصّاكَ بوالِدَيْكَ، فأنا أُمُّكَ وأنا آمُرُكَ بهذا، فمَكَثَتْ ثلاثًا حتّى غُشِيَ عليها من الجَهْدِ، فقام ابنٌ يُقال له: عُمارة فسَقاها، فجَعَلت تَدْعو على سَعدٍ، فأَنزلَ اللهُ: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ, وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]؛ يعني: التي في ((لقمان)).

ولا تشرب ولا تأوي بيتًا حتى تراك، وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا، وفتلا منه في الذروة والغارب، فاستشار عمر رضى الله عنه فقال: هما يخدعانك، ولك علىّ أن أقسم مالى بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك. قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله، فأخذاه وشدّاه وثاقًا، وجلده كل واحٍد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاٍب حتى ترجع عن دين محمد، فنزلت. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)] 9 [ (فِي الصَّالِحِينَ) في جملتهم. والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله. قال الله تعالى حكايةً عن سليمان عليه السلام: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفَتَلا منه في الذِّرْوَة والغارِبِ)، فَتَل منه في الذِّرْوَة والغارِبِ: مَثَلٌ يُضرَبُ لمَن يَتَحَيَّلُ في مَيْل صاحبِه إلى ما كان يمتَنعُ منه؛ أي: لم يَزلْ يَرْفُقْ به رِفْقًا يُشبه مَنْ يَفْتِلُ الشَّعْرَ في ذِرْوَة الجَمَلِ الصَّعْبِ وغارِبِه حتّى يَستأنِسَ. قوله: (والصَّلاحُ مِن أَبلَغ صفاتِ المؤمنينَ) وذلك أنَّ الصَّلاحَ ضِدُّ الفسادِ، والفسادُ: خروجُ الشَّيءِ عن كُوْنه مُنتفَعًا به، ولا كمالَ للإنسان أكملَ من حُصولِه على ما خُلِقَ له منَ البقاءِ، ولا يَحصُل ذلك في الدُّنيا؛ غايتَها الفَناءُ، وأيُّ فساد وراءَهُ؟ ! فإذن ليس له ذلك إلا {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55]، ولهذا كان طَلبُ الصَّلاحِ مُتَمنّى أنبياءِ الله، اللَّهمَّ أدخِلْنا في زُمرتهم. قال الإمام: الصَّالِح باقٍ والصّالحونَ باقونَ، وبقاءُهم ليس بأَنفُسِهم، بل بأعمالِهُم الباقيةِ والمَعْمولُ له- وهو وَجْهُ اللهِ-[باقٍ]، والعاملونَ باقون ببقاء أعمالِهم. هذا على خلافِ

عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)] النمل: 19 [، وقال في إبراهيم عليه السلام: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] البقرة: 130، النحل: 122، العنكبوت: 27 [أو في مدخل الصالحين وهي الجنة، وهذا نحو قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ) الآية] النساء: 69 [. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ الله وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)] 10 - 11 [ هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذًى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس، كان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارٌف للمؤمنين عن الكفر. أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفًا، وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا: (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أى: مشايعين لكم في دينكم، ثابتين عليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمورِ الدُّنيويةِ، فإنَّ في الدُّنيا بقاءَ الفعلِ بالفاعلِ، وفي الآخرة بقاءَ الفاعِلِ بالفعلِ. كأنَّه أَخذَ المعنى من قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرُ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [الكهف: 46]. قوله: (كان ذلك صارِفًا لهم عنِ الإيمانِ، كما أنَّ عذابَ الله صارفٌ للمؤمنينَ). قال الإمامُ: قيل: جَزِعُوا من عذاب النّاسِ كما جَزِعُوا من عذابِ الله. وبالجُملة معناه: جَعَلُوا فِتنةَ النّاسِ معَ ضعفها وانقِطاعِها موضعَ عذابِ الله الأليمِ الدائم، حتّى تَردَّدُوا في الأمرِ، وقالوا: إنْ آمَنّا نَتعرَّضُ لتأذِّي الناسِ، وإنْ تَركْنا الإيمانَ نتعرَّضُ لِمَا تَوَعَّدَنا به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ولا يكونُ التَّردُّدُ إلاّ عند التَّساوي. فقد أَبعَدوا المَرْمى. قوله: (أو كما يَجبُ أن يكونَ عذابُ الله صارفًا) أي: عن الكُفر من حيث هو هو وإن لم يَلتَفِتْ إليه الكافرُ ولم ينصرف.

ثباتكم، ما قدر أحد أن يفتننا، فأعطونا نصيبنا من المغنم. ثم أخبر سبحانه أنه أعلم (بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما تكنّ صدور هؤلاء من النفاق، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين، وقرئ: (ليقولنّ) بفتح اللام. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)] 12 - 13 [ أمروهم باتباع سبيلهم؛ وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا: ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن تحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش: كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأرادوا: لِيجتمعَ هذان الأمران) يُريد أنَّهم عَطَفوا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَكُمْ}، وهو أمرٌ لأنفُسِهم لِحَمْلِ خَطايا الأتباع على أمرِ المؤمنينَ باتباعِهم إرادةً للمُبالَغةِ، وأنَّ كِلَيْهما لا بدَّ منَ الحُصول والإدخالِ في الوُجود على طريقةِ قولهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَوَودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] في تَعْويل استعارة الرَّتْبِ إلى الذِّهن. ولو جيءَ بهما على ظاهرِهِما. وقيل: إن اتَّبعتمُونا حَملْنا خطاياكُم؛ على الشَّرطِ والجزاء كما قال، والمعنى: تعليقُ الحَمْل بالاتِّباع لم يكن منَ التحقيق في شيءٍ. قال القاضي: وإنّما أَمَرُوا أنفُسَهم بالحَمْلِ عاطفين على أمرِهم بالاتِّباع مبالغةً في تعليق الحَمْلِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيف الأوزارِ عنهم إن كانت، تشجيعًا لهم عليه، وبهذا الاعتبار ردَّ عليهم كَذِبَهُم بقوله: {وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَهُم}.

فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. ونرى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم: افعل هذا وإثمه في عنقي. وكم من مغروٍر بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم، ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه، فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين، بقيت الحاجة العظمى. قال: وما هي؟ قال: شفاعتك يوم القيامة، فقال له عمرو بن عبيٍد رحمه الله: إياك وهؤلاء، فإنهم قطاع الطريق في المأمن. فإن قلت: كيف سماهم كاذبين، وإنما ضمنوا شيئًا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذبا؛ لا حين ضمن، ولا حين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن عسى كان ذلك) قيل: التقدير: فإن كان ذلك فإنّا نَتَحمَّلُ، وذَكَر ((عسى)) قبل ذِكْر الشَّرِطِ إشارةً إلى أن ذلك مبنيٌّ على رجائكم لا عن تَحقيقٍ، واسمُ ((عسى)) ضميرٌ يعود إلى ما دلَّ عليه قولُه: ((كان ذلك)) فإنه مقدَّمٌ معنًى؛ لأنَّ حرفَ الشَّرطِ داخلةٌ عليه، وخبرُه محذوفٌ، كأنَّه قيل: عسى كَوْنُ ذلك أن نَتَحمَّل، وقد أجاز ذلك ابنُ الحاجبِ في ((شرح المفصَّل)) في باب التَّنازُعِ، وفيه نظرٌ، والظاهرُ أنَّ ((عسى)) مُقْحَمٌ مؤكِّد بمعنى الفَرْض، والتقدير: ولذا رُتِّب على قولِه: ((لا نُبعث نحن ولا أنتُم)). قوله: (فقال له عَمْرو بنُ عُبيد: إيّاكَ وهؤلاءِ، فإنَّهم قُطّاعُ الطَّريق في المَامَنِ)، الإنتصاف: عَمْرُو بنُ عبيد أوَّلُ القَدَريَّةِ المُنكِرينَ للشَّفاعةِ، والزَّمخشريُّ بَني كلامَه على أنه لا فَرق بين اعتقادِ أنَّ الكُفّارَ يَحملون خَطايا أتباعِهِم، فساقَهُما سِياقًا واحدًا، وفي الآيةِ نُكتةٌ وهي أنَّ الأمرَ قد يجيءُ بمعنى الخَبَرِ، فإنَّ بعضَ النّاسِ أنكَرَه والتَزم تَخريجَ جميعِ ما وَرَد في القرآن على الأمرِ، ولا يَتِمُّ له ذلك هاهُنا؛ لأنَّ التَّكذيبَ إنَّما يتطرَّق إلى الخَبَرِ. وقلت: قد مَرَّ أنَّ أَصلَ الكلامِ على التَّعليقِ، فإنَّ المرادَ: إنِ اتَّبعتُمونا نَتَحمَّلُ خَطاياكُم. والعُدولُ للمُبالغةِ.

عجز؛ لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب، وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم -حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون- بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد أنهم كاذبون، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف. (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أى: أثقال أنفسهم. (َأَثْقالًا) يعنى: أثّقالًا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها، وهي: أثقال الذين كانوا سببًا في ضلالهم. (وَلَيُسْئَلُنَّ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإنَّهم قُطَّاع الطَّريقِ في المامَنِ)، ((في المامَنِ)) تتميمٌ؛ لأنَّ قُطّاعَ الطَّريقِ إنّما يكونون في البَراريِّ والمَخاوَفِ. قوله: (ويَجوز أن يُريد أنَّهم كاذبون، لأنَّهم قالوا ذلك وقلوبُهم على خِلاَفِه) عطفٌ على قولِه: ((شَبَّه الله حالهم))، الجوابان مَبيّان على الاختلاف في أنَّ الكَذِبَ هل هو الإخبارُ عنِ الشَّيءِ خلافَ ما هو به في الواقع؟ أَمْ على خلافِ مُعتَقَد القائِلِ؟ والجوابُ الأوَّلُ مبنيٌّ على المذهب الأوَّلِ، لكن على التَّشبيه، واستعارةُ الكَذِب لضمانِهم عندَ الله لا على ما عليه المَضْمونُ. قال صاحب ((الفرائد)): قولُه: ((شَبَّه الله تعالى)) منظورٌ فيه؛ لأنَّ الواقعَ أنَّهم غيرُ حاملينَ من خطاياهم شيئًا؛ لقوله تعالى و: {وَلاَ تَزِرُ وَازْرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164]، فكانوا مُخبِرينَ عن شيءٍ لا على ما عليه، فظَهَر أنَّه تَركَ الحقيقةَ إلى المجاز بدون المانِعِ. قوله: (أثقالاً أُخَرَ غيرَ الخَطايا التي ضَمْنُوا للمؤمنين) وإنَّما قَيَّده به لِما عَلِمَ من قولهِ تعالى: {وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِن شَيْءٍ} نَفَى حَمْلَ خَطايا المؤمنينَ على سبيل الاستغراقِ.

سؤال تقريع (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أى: يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. وقرئ: (من خطيآتهم). (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)] 14 - 15 [ كان عمر نوح عليه السلام ألفًا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمئة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفًا وأربعمئة سنة. فإن قلت: هلا قيل: تسع مئةٍ وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم؛ لأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلتَ: ما فائدةُ {أَثْقَالَهُمْ}؟ إذْ لو قيلَ: ولَيَحْمِلُنَّ أثقالاً معَ أثقالِهم لأفادَ. قلت: أُريد بيانُ استقلالِ أثقال أنفُسِهم، وأنها بَهظَتْهُم واستَفرغَت جُهدَهُم، ومع ذلك جُعلت أثقالُ الذين يُضِلُّونَهم كالعَلاوَةِ عليها. نحوهُ قولهُ تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقْيَامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} [النحل: 25]. ومعنى التَّنكيرِ في {وَأَثْقَالاً} كمعنى ((مِن)) في {وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} [النحل: 25]. قال: وبعضُ أوزارِ مَنْ ضَلَّ بضَلالِهم، وهو وِزْرُ الإضلالِ. قوله: (كان عُمُر نوحٍ عليه السَّلام) إلى آخره، وفي ((جامع الأصول)): كانت مدَّةُ نُبوَّتِه تسع مئةٍ وخمسين سنةً، وعاش بَعد الغَرَقِ خمسينَ سنةً، وقيل: مئتي سنةٍ، وكانت مدَّةُ الطُّوفانِ ستةَ أشهرٍ آخرُها يومُ عاشُوراءَ. قوله: (ما أَورَدَه اللهُ أَحكمُ)؛ لأنَّه لو قيلَ كما قلتَ لجاز أن يُتَوهَّمَ إطلاقُ هذا العَدَدِ على أكثَرِه. وقال الزَّجّاجُ: الاستثناءُ مستعملٌ في كلامِهم، وتأويلُه توكيدُ العَدَدِ وكمالِه؛ لأنَّك قد تَذكُر الجُملةَ ويكونُ الحاصلُ أكثَرَها، فإذا أردتَ التَّوكيدَ في تمامِها قلتَ كلَّها، وإذا أردتَ

لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمئة وخمسين سنةً كاملةً وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظًا وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتًا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلًا بالسنة وثانيًا بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم؛ من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه، أو نحو ذلك. و (الطُّوفانُ) ما أطاف وأحاط بكثرةٍ وغلبة، من سيٍل أو ظلام ليٍل أو نحوهما. قال العجاج: وغمّ طوفان الظّلام الأثأبا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التوكيدَ في نُقصانها أَدخلْتَ الاستثناءَ تقول: جاءَني إخوتُكَ، يعني أن جميعَهم جاؤوكَ، وجائزٌ أن تعني أنَّ أَكثَرَهم جاءكَ، فإذا قلتَ: كلُّهم أكَّدتَ معنى الجماعةِ، وأَعلمتَ أنَّه لم يتخلَّفْ منهم أحدٌ، وإذا قلتَ: إلاّ زيدًا أكَّدتَ أنَّ الجماعةَ تَنقُصُ زيدًا، وكذلك رؤوسُ الأعدادِ مُشبَّهةً بالجماعة تَحتَمِلُ النُّقصانَ والتَّمامَ. وعن بعضِهم: الصَّحيحُ أنَّ العددَ لا يَقبلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، والمعدودُ يَقبَلُهما. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فإنَّه سَمّى بعضَ الشَّهرِ شهرًا خلافًا لمالكٍ، فإنَّ المعنى المُعَوَّلَ عليه أنَّ ما نَصَّ اللهُ مشتملٌ على الإيجابِ والنَّفْي، وما أورَدَه السائلُ إيجابٌ مَحْضٌ، والأوَّل أوكدُ. قوله: (وغَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأَثْأَبا) أوله:

(وأَصْحابَ السَّفِينَةِ) كانوا ثمانيةً وسبعين نفسًا: نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح عليه السلام: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجاٍل وخمس نسوة. وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة». والضمير في: (وَجَعَلْناها) للسفينة أو للحادثة والقصة. (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [16 - 18] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ النَّهارَ المُسْتَبينَ قد مَضَى ويُروى أوَّلُه: حتّى إذا ما يَوْمُها تَصَبْصَبا بعده: وأطاء مِنْ دَعْسِ الحَميرِ نَيْسَبَا يومها يومُ العانَةِ. وهي القَطيعُ منَ الحُمُرِ الوَحْشِ، وتَصَبْصَبَ الشيَّءُ: انمَحَقَ وذَهَب، وأطاء هذا الحمار طريقًا لينًا تَدْعسُه الحميرُ وتَطَؤُه. والنَّيْسَبُ: الطَّريقُ اللَّيِّنُ. عَمَّ؛ أي: غَطّى. الأَثْابُ: شَجَرٌ الواحدةُ: الأَثابة. الراغب: الطُّوفان: كلُّ حادثةٍ تُحيط بالإنسان، وصار متعارفًا في الماء المُتَناهي في الكَثرة؛ لأنَّ الحادثةَ التي نالَتْ قومَ نوحٍ عليه السلام كانت ماءً.

نصب (إِبْراهِيمَ) بإضمار (اذكر)، وأبدل عنه (إِذْ) بدل الاشتمال؛ لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها. أو هو معطوف على (نُوحاً) وإذ: ظرف لـ (أرسلنا)، يعنى: أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغًا صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم، ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله: (وإبراهيم)، بالرفع على معنى: ومن المرسلين إبراهيم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم. أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء؛ علمتم أنه خير لكم. وقرئ: (تخلقون) من: (خلق) بمعنى التكثير في (خلق)، و (تخلقون) من: (تخلق) بمعنى: تكذب وتخرص. وقرئ: (أفكا)، وفيه وجهان: أن يكون مصدرًا، نحو: كذب ولعب. والإفك: مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن يكون صفةً على (فعل)، أى: خلقًا إفكًا، ذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو إنْ نَظرتُم بعَينِ الدِّرايةِ المُبصِرَةِ) وعلى هذا {تَعْلَمُونَ} يجري مجرى اللاّزِم؛ نحو: فلانٌ يُعطي ويَمنعُ، وعلى الأوَّل المتعلِّق محذوفٌ بقرائنِ الأحوالِ، ولهذا قال: ((علمتُم أنه خير لكم))، وقوله: ((علمتم أنه خير لكم)) جزاءٌ على التَّقديرَينِ يدلُّ عليه ما قبلَ الشَّرطِ. قوله: (وقرئ: ((تُخَلِّقُون))) قال ابن جِنِّي: قرأها السُّلَميُّ وزيد بن عليّ. وقرأ فُضَيل ابنُ مروانَ: ((تَخْلِقُون أَفِكَاً)) بفتح الهمزةِ وكسرِ الفاء، وأمّا ((تَخْلِقُونَ)) فعَلَى وَزْنِ: تَكْذِبُون، ومعناه. وأمّا ((أَفِكًا))، فإمّا أن يكونَ مصدرٌ كالكَذِبِ والضَّحِكِ، وإمّا أن يكون صفةَ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: تَكْذبون كَذِبًا أَفِكًا، فحُذف وأُقيمتِ الصِّفةُ مقامَه؛ نحو: قمتُ مِثلَ ما قامَ زيدٌ؛ أي: قيامًا مثل قِيامِ زيدٍ. و ((أَفِكَ)) على هذا صفةٌ كبَطِرَ وأَشَرِ، ويجوز أن يكون بمعنى ((آفِك)) اسمُ فاعلٍ.

إفك وباطل. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهةً وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام إفكًا، وعملهم لها ونحتهم: خلقًا للإفك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد: لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله. فإنه هو الرزاق وحده؛ لا يرزق غيره. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقرئ: بفتح التاء، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وإن تكذبونني فلا تضروننى بتكذيبكم، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضرّوهم؛ وإنما ضروا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل: وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مكذبًا فيما بينكم؛ فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ، وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضةً في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش؛ بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم؛ فما المراد بالأمم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يستطيعون أن يَرزُقوكم شيئًا منَ الرِّزقِ، فابتَغُوا عند الله الرِّزقَ كلَّه) يعني: إنَّما نكّر أوَّلاً للتعليل مبالغةً في النَّفي وعَرِّفَ للاستغراقِ ليشملَ كلَّ ما يُسمّى رزقًا، وهذا من المواضع التي وَرَدت فيه المعرفةُ بعدَ النَّكرةِ، ولم يُرِد بالثاني الأَوَّلَ ذهابًا إلى معنى التَّقابُلِ وفَرْقًا بين الرِّزقَينِ. قوله: (وإن تُكذِّبوني فلا تَضُرُّونَني بتَكذيبكُم، فإنَّ الرُّسلَ قَبْلي) إشارةٌ إلى أن الجزاءَ مقدَّرٌ، والمذكورُ علَّة، ويجوز أن يكونَ المذكورُ جزاءً متضمِّنًا للإخبار والإعلامِ، يعني: تكذيبُكم إيّايَ سببٌ لأنْ أُخبرَكُم بأنْ كَذَّبت أُممٌ قبلكم، وأنَّ لي أُسوةً بالأنبياء من قَبْلي؛ نحو قولِهم: إنْ تُكْرِمْني الآنَ فقد أكرمتُك أَمْسِ؛ مرادًا به: إنْ تَعْتَدَّ بإكرامك إيّايَ الآنَ فاعتدَّ بإكرامي إيّاكَ أمسِ.

قبله؟ قلت: قوم شيٍث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوٍح أمّةً في معنى أمم جمةٍ مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنةٍ في قومه إلى أن رفع إلى السماء. وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه، وأعقابهم على التكذيب. (أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)] 19 - 22 [ فإن قلت: فما تصنع بقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)؟ قلت: هي حكاية كلام الله حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه، كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن. فإن قلت: فإذا كانت خطابًا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفى قصة إبراهيم؛ والجملة أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصاٍل بما وقعت معترضةً فيه؟ ألا تراك لا تقول: مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاةً له ومتفرجًا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو ما مني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش: إن تكذبوا محمدًا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمةٍ نبيها؛ لأن قوله: (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) لا بد من تناوله لأمّة إبراهيم، وهو كما ترى؛ اعتراض واقع متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها، لكونها ناطقةً بالتوحيد ودلائله، وهدم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إيرادُ قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ليس إلاّ إرادةً للتَّنفيسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .... إلى آخره، هذه قاعدةٌ شريفةٌ يُبنى عليها أكثرُ النَّظْمِ، وجُلُّ القَصَصِ واردٌ على هذا النَّهْجِ كما سَرَدْنا الكلامَ عليه مِرارًا. قوله: (كان مَمنُوًّا) أي: مُبْتلًى. الجوهري: مَنَوْتُه ومَنَيْتُه: إذا ابتَليتُه.

الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه قرئ: (يَرَوْا) بالياء والتاء. و (يبدئ) و (يبدأ). وقوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ليس بمعطوف على (يبدئ)، وليست الرؤية واقعةً عليه، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت، كما وقع النظر في قوله تعالى: (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) على البدء دون الإنشاء، ونحوه قولك: ما زلت أوثر فلانًا وأستخلفه على من أخلفه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ {يَرَوْا} بالتّاءِ والياءِ) أبو بكرٍ وحمزةُ والكسائيُّ: بالتّاءِ الفَوقانيّةِ، والباقون: بالياءِ. قوله: (ليس بمَعْطُوفٍ على {يُبْدِئُ} وليست الرُّؤيةُ واقعةً عليه، وإنّما هو إخبارٌ على حِيالِه)، الجوهريُّ: بحِيالِه بإزائه، وأصلُه الواو؛ يعني لا يجوزُ العطفُ على {يُبْدِئُ}؛ لأنَّ الرُّؤيةَ وَقعتْ على البَدْءِ لا على الإعادة. قال صاحب ((المطلع)): وإن جعلتَ الرُّؤيةَ بمعنى العِلْمِ لِتَمكُّنِهم من تَحصيله بالبحث عن دلائله والاستدلالِ بها، فلا حاجةَ إلى هذا التَّكليفِ في التَّقصِّي عن عُهدة العَطفِ. وقال صاحب ((الانتصاف)) أيضًا: ولقائلِ أن يقول: وإنْ لم تقعِ الرُّؤيةُ عليه إلاّ أنّها إخبار الله وهي كالماتيِّ به، فعُومِلَت معاملةَ المأتيِّ به. وقال الإمام: الآيةُ الأُولى إشارةٌ إلى العِلْم الحَدْسِيِّ، وهو حاصلٌ فلمْ يَحتجْ إلى الاستفهام، فاستَفهمَ ليُفيدَ استبعادَ عَدَمِه، والثانيةُ إشارةٌ إلى العلم الفكريِّ، كأنَّه قيلَ: إن كنتم لستم من قَبيل الأوَّل فسَيِّروا فِكْرَكُم في الأرض، وأَجِيلُوا ذِهْنَكُم في الحوادث الخارجةِ عن أنفُسِكم لتعلموا بَدْءَ الخَلْقِ وإعادته، والرُّؤيةُ أقوى منَ النَّظَر؛ لأنَّ النَّظرَ يُفْضي إلى الرُّؤية، يُقال: نَظَرتُ فرأيتُ. قوله: (ونحوُه قولك: ما زلتُ أُوثِرُ فلانًا وأستَخلِفُه)، وإنَّما لم يَحسُنْ عطفُ ((أستَخلفُه))

فإن قلت: هو معطوف بحرف العطف، فلا بد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو جملة قوله: (أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ) وكذلك: وأستخلفه، معطوف على جملة قوله: ما زلت أوثر فلانًا، (ذلِكَ) يرجع إلى ما يرجع إليه "هو" في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)] الروم: 27 [من معنى يعيد. دل بقوله: (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) على أنهما نشأتان، وأن كل واحدةٍ منهما إنشاء، أى: ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأول ليست كذلك. وقرئ: (النشأة) و (النشاءة) كالرأفة والرآفة. فإن قلت: ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله: (ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد إضماره في قوله: (كيف بدأ الخلق)؟ وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعًا في الإعادة، وفيها كانت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ((أُوثر))؛ لأنَّ في تعلُّق ((ما زلت)) بـ ((أُوثِرُ)) دلالةً على استمرار إيثاره غيرَه من غير انقطاعٍ، وليس حُكم استخلافِه على مَنْ يَخلفُه بهذه المنزلة، فإنَّ ذلك لا يقع إلاّ نادرًا وأحيانًا. قوله: ({ذَلِكَ} يَرجعُ إلى ما يَرجعُ ((هو))) يعني: موقعُ ذلك في هذه الآية لفظًا وحُكمًا موقعُ ((هو)) في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ, وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] في أنَّ معناه: أنَّ الإعادةَ على الله أَيْسَرُ من الإبداء فيما يجب عندكم، وَينْقاسُ على أصولكم وتَقْتَضيه عُقولُكُم. قوله: (دلَّ بقوله: {النَّشْأةَ الأَخِرَةَ}) يعني لمّا عَطَف {يُنشِئُ النَّشْأَةَ الأَخِرَةَ} على قوله: {بَدَأَ الخَلْقَ} دلَّ على أنَّ الإبداءَ إنشاءٌ، والإنشاء إبداءٌ، لا تَفاوُتَ بينهما، وكلاهما إخراجٌ منَ العَدَم إلى الوجودِ. قوله: (وقُرئ: {النَّشْأَةَ} بالمَدِّ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ، والباقون: {النَّشْأَةَ}

تصطك الركب، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى؛ هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب. (تُقْلَبُونَ) تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم أى: لا تفوتونه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تَصْطَكُّ الرُّكَبُ) وهي كنايةٌ عن موضع الخلافِ، ومَقامِ جُثُوِّ المُناظِرينَ للجِدالِ حتى تَصْطَكَّ رُكَبُهم. قولهُ: (فلّما قَرَّرهُم) أي: جَعلَهم مُقرِّين مُعترفينَ. قوله: (فكأنه قال: ثمَّ ذاكَ الذي أنشأَ النَّشأَة الأُولى هو الذي يُنشئُ النشأةَ الآخِرةَ) يعني: إنّما أعادَ في عَجُزِ الآيتَينِ ما بدأَ في صَدرِهِما ليكونَ كلُّ من صَدْر الآيتَينِ وعَجُزِهِما مُسَجّلاً بالاسم المُتَجلِّي في هذا المقام، لِمَعْنى القادرية التامَّةِ والعالِمِيَّة الكاملةِ، والمعنى: فلمّا قرَّرهم في قوله: {يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ} بأنَّه منَ الله القادرِ العالِمِ، ثم احتجَّ عليهم في قوله: {ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الأَخِرَةَ} بأنه أيضًا منه ولا فَرْقَ بينهما. قال الإمام: أشار في الآية الأُولى إلى الدَّليل النَّفْسيِّ، وفي الثانية إلى الآفاقيِّ، يعني قوله: {سِيرُوا فِي الأَرْضِ}، وعندَه تَمَّ الدَّليلانِ، فأكَّده بإظهار اسمِ الذاتِ الذيَ يُفْهِمُ المسمّى بصفاتِ كَمالِه، ونُعُوتِ جَلالِه؛ ليقعَ في الذِّهن كمالُ قُدرتِه، وشُمولُ علمِه، ونُفوذُ إرادتِه. هذا تلخيص كلامه مُفَسَّرٌ مُبَيَّنٌ في مواضعَ، فَسره في ((النساء)) عند قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] مُستوفٍي على مذهبه، وأَجبْنا عنه.

إن هربتم من حكمه وقضائه (فِي الْأَرْضِ) الفسيحة (وَلا فِي السَّماءِ) التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا)] الرحمن: 33 [، وقيل: ولا من في السماء كما قال حسان رضى الله عنه: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: ولا مَنْ في السَّماء) أي: على حَذْف المَوْصُولِ، فالموْصُولُ المحذوفُ عطفٌ على ((أنتُم)). قال الزَّجاجُ: أي: ليس يُعجِزُ الله -سبحانه وتعالى- خَلْقٌ في السَّماء ولا في الأرض. المعنى: ما أنتم بمُعجِزينَ في الأرض، ولا أهلُ السَّماء. هذا من قول ابن عبّاسٍ والكَلْبيِّ. قوله: (أَمَنْ يَهْجُو) البيتَ، في ((المطلعِ))؛ أي: ومَن يَمدحُه، وهذا كما يقال: أَكْرِمْ مَنْ أتاكَ، وأتى أباك؛ أي: وأكرِمْ من أتى أباكَ. وقيل: لو لم يقدِّر ((مَنْ)) لكان ((يَمدحُه)) عَطْفًا على ((يهجوه)) وكان داخلاً في حَيِّزِ الصِّلةِ، فكانَ الهاجي والمادحُ شخصًا واحدًا، وفَسَد المعنى ولا يَصحُّ قولُه: ((سَواءُ)). وقيل: إنَّ أبا سفيانَ بن الحارثِ هجا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعارَضَه حسانُ بنُ ثابتٍ بقصيدةٍ هذا البيتُ منها، ولمّا انتهى إلى قوله: هَجْوتَ محمّدًا فأَجبتُ عنه ... وعندَ الله في ذاكَ الجَزاءُ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((جزاكَ اللهُ الجنَّةَ))، فلمّا بلغَ منها قولَه: فإنَّ أبي ووالِدَه وعِرْضي ... لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وقاكَ اللهُ حَرَّ النّارِ))، ثم لمّا بلغ إلى قولِه:

ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)] النساء: 78 [أو: لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاٍء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ الله وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)] 23 [ (بِآياتِ الله) بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وعيد، أى: ييأسون يوم القيامة، كقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَتَهْجُوه ولستَ له بكُفْءٍ ... فشَرُّكُما لِخَيرِكُما فِداءُ قال مَنْ حَضَر: هذا أَنصَفُ بيتٍ قالتْهُ العربُ. وفيها: هَجَوْتَ مطَهَّرًا بَرًّا حَنيفًا ... أَمين الله شِيمَتُه الوَفاءُ قوله: (في مَهاوي الأرضِ) المَهْوى: بُعْدُ ما بَيْنَ الشَّيئينِ المُنتَصِبَيْنِ، حتى يُقال لِبُعْدِ ما بَين المَنكِبَيْن: مَهْوًى. قال: أَكَلتُ دمًا إنْ لم أَرُعْكِ بضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوى القُرْطِ طَيِّبةِ النَّشْرِ قوله: ({يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} وَعِيدٌ)؛ أي: سَيُعاقَبُونَ يومَ القيامةِ، وحاصلُ الوُجوهِ: أنَّ الكافر لا يُوصَفُ باليأس؛ لأنه مسبوقٌ بالرّجاء والكافرُ لا رجاء له لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7]، ففيه وُجوهٌ: أحدُها: أنَّه كِنايةٌ عن الوعيدِ؛ أي: يحصلُ لهمُ اليأسُ منَ الرَّحمة يومَ القيامةِ. وثانيها: أن يكونَ وصفًا لهم كما يُوصف المؤمنُ بـ ((صَبّار شكور))، كأنه قيل: والذين كفروا بآيات الله أولئك همُ الكامِلُون في الكُفرِ، فوُضِعَ مَوْضِعَه: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}

[الروم: 12]. أو هو وصف لحالهم؛ لأنّ المؤمن إنما يكون راجيًا خاشيًا، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف. أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة، وعن قتادة رضى الله عنه: إن الله ذمّ قومًا هانوا عليه فقال: (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وقال: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأَخِيهِ ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)] يوسف: 87 [فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته، وأن لا يأمن عذابه وعقابه. صفة المؤمن أن يكون راجيًا لله عز وجل خائفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: أن يكونَ تَمثيلاً، مُثِّلت حالُ هؤلاءِ الذين كَفروا بآيات الله ولقائه بحالِ قومٍ قُدِّرَ وجودُهم آيِسِينَ من رحمة الله، كما قال في {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] مُثِّلت حالُ قلوبِهم بحال قلوبٍ مقدَّرٍ خَتْمُ الله عليها، أو يُقال: شُبِّه حالُهم بحال مَن مات على الكُفر؛ مبالغةً في انتِفاءِ الرَّحمةِ عنهم، لأنَّ مَنْ عاشَ يُرجى إيمانُه فلا يكون مِمَّن أَيِسَ من رحمة اللهِ؛ أَبَرزَهُم في صورة الآيسينَ من رحمة اللهِ، وقريبٌ منه ما مَرَّ في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]، فإنَّ قولَه: {يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} نحوَ قولِه: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]. قال: كَنّى عنِ الموتِ على الكُفر بقولهِ: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90]، وفائدتُه: إبرازُ حالِهم في صورة الآيِسِينَ منَ الرَّحمة التي هي أغلظُ الأحوالِ وأَشدُّها. قال الإمام: أضافَ الرَّحمةَ إلى نفسِه عزَّ وجلَّ، ونَسَب العذابَ إليهم؛ لِيُؤذِنَ بأنَّ رحمتَه سَبقَت غَضبَه. وقلت: وفيه تنبيهٌ على أنَّهم حين لم يَلتفتوا إلى آيات الله، ولم يُؤمنوا بالآخرةِ، ولم يَعْملوا ما يَرْجُون به رحمةَ الله؛ حَرَّموا على أنفُسِهم ما وَسِعَت كلَّ شيءٍ، واستَحقُّوا العذابَ الأليمَ.

[(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ الله مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)] 24 [ قرئ: (جَوابَ قَوْمِهِ) بالنصب والرفع، (قالُوا): قال بعضهم لبعض، أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين، فكانوا جميعًا في حكم القائلين. وروى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار، نعنى: يوم ألقى إبراهيم في النار، وذلك لذهاب حرّها. [(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ الله أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَاواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)] 25 [ قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أى: لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قُرئ {جَوَابَ قَوْمِهِ} بالنَّصْبِ) وهي مشهورةٌ، والرَّفعُ: شاذَّةٌ. قوله: (على النَّصْب بغير إضافةٍ) يعني: ((مَوَدَّةً بَيْنَكم))؛ قرأها نافعٌ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ، وبإضافةٍ: حفصٌ وحمزةُ، وبالرفعِ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ. قوله: (على التَّعليل) فعلى هذا ((ما)) في {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} كافَّةٌ. قال مَكِّي في ((إعرابه)): ((ما)) يجوز أن تكون كافَّةً، ومفعول {اتَّخَذْتُم}: {أَوْثَانًا}، واقتصر على مفعولٍ واحدٍ كقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ} [الأعراف: 152] و {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} مفعول من أجله؛ أي: اتَّخذتُمُ الأوثانَ من دُونِ الله للمَودَّة فيما بَينِكُم، لا لأنَّ عند الأوثانِ نَفْعًا وضَرًّا.

يكون مفعولا ثانيًا، كقوله: (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)] الفرقان: 43 [، ] الجاثية: 23 [أى: اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم، على تقدير حذف المضاف. أو اتخذتموها مودّة بينكم، بمعنى: مودودة بينكم، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله)] البقرة: 165 [وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرًا لـ (إنّ) على أن (ما) موصولة. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: أنّ الأوثان مودّة بينكم، أى: مودودة، أو سبب مودّة. وعن عاصم: (مودّة بينكم) بفتح (بينكم) مع الإضافة، كما قرئ: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)] الأنعام: 94 [ففتح وهو فاعل. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: (أوثانًا إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا)، أى: إنما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي؛ يتلاعن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون خبرًا) قال مَكِّيٌّ: ((ما)) بمعنى ((الذي))، والعائدُ محذوف وهو المفعولُ الأوَّلُ، و {أَوْثَانًا} المفعولُ الثاني، و ((مَوَدَّةُ)) الخبرُ. وقيل: هي رفعٌ بإضمارِ: هي ((مودّة)). وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون ((ما)) مصدريةً، و ((مَوَدَّةُ)) الخبرَ، ولا حذفَ إلاّ في اسم ((إنَّ))؛ أي: [إنَّ] سببَ اتِّخاذِكُم مودةٌ. قوله: (أو تَوَدُّونَها في الحياة الدُّنيا) قال أبو البَقاء: يجوز أن يَتَعلَّقَ في {فِي الْحَيَوَاةِ الدُّنْيَا} بنَفْس {مَّوَدَّةَ} إذا لم يُجعل {بَيْنِكُمْ} صفةً لها؛ لأنَّ المصدرَ إذا وُصِفَ لا يَعملُ. وقال مَكِّي: وإذا جُعِلَت {بَيْنِكُمْ} صفةً لـ {مَّوَدَّةَ} كان في {فِي الْحَيَوَاةِ} في موضعِ الحالِ من الضَّمير في الظرف الذي هو صفة، والعاملُ الظَّرفُ، ولا يجوز أن يعملَ في الحال {مَّوَدَّةَ}؛ لأنَّك قد وصفتَها ومعمولُ المصدر متَّصلٌ به، فتكون قد فَرَّقتَ بينَ الصِّفةِ والموصوفِ بالصِّفة وأيضًا لو جعلتَه حالاً من الضَّمير في {بَيْنِكُمْ} يكونَ العاملُ الظَّرفَ

العبدة والأصنام، كقوله تعالى: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)] مريم: 82 [. [(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 26 [ كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه (وَقالَ) يعنى إبراهيم: (إِنِّي مُهاجِرٌ) من كوثى، وهي من سواد الكوفة إلى حرّان ثم منها إلى فلسطين، ومن ثمة قالوا: لكل نبى هجرة، ولإبراهيم هجرتان، وكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنَّ العاملَ في ذِي الحالِ هو العاملُ في الحال، ولو قَدَّرْنا أن يكون العاملُ فيها {مَّوَدَّةَ} لَزِمَ أن يجتمعَ عاملانِ على معمولٍ واحدٍ، ويجوز أن يكونَ {فِي الْحَيَاةٍ} صفةً أخرى لـ {مَّوَدَّةً}. والتقدير: إنّما اتَّخذتم مِن دُون الله أوثانًا مودَّةً مستقرَّةً بينكم، ثابتةً في الحياة الدُّنيا، فلمّا حُذف العاملانِ تحوَّل الضميرُ إلى الطَّرفَينِ. هذا تلخيصُ كلامِه. ثم قال: فافهَم هذه المسألةَ، فإنَّها من أسرار النَّحو وغرائبِه. وقال صاحب ((الكَشْف)): يجوز عندي أن تَعملَ المودَّة الموصوفة {فِي الْحَيَاةِ}؛ لأنَّه ظرفٌ، والظَّرفُ يُفارق المفعولَ به. وقال أبو البَقاءِ: ويجوز أن يتعلَّق {فِي الْحَيَاةِ} بـ {اتَّخَذْتُم} إذا جعلتَ ((ما)) كافَّة. قوله: (كان لوط ابن أخت إبراهيم). وفي ((جامع الأُصول)): هو لُوط بن هاران بن تارِح- بالحاء المهملة- وهاران هو أخو إبراهيمَ الخليلِ- عليه السّلام- ولوطٌ ابنُ أخيهِ، آمَنَ بإبراهيمَ وشَخَص معه مهاجرًا إلى الشام، فنَزل إبراهيمُ فلسطينَ، وأَنزلَ لوطًا الأردنَّ، فأرسلَه اللهُ إلى أهل سَدُوم. قوله: (ولإبراهيمَ هِجْرتانِ) عن أبي داودَ، عن عبدالله بن عمرٍو قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَتكون هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ أَلْزَمُهم مُهَاجَرَ

معه في هجرته: لوط، وامرأته سارّة، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة (إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرنى بالهجرة إليه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذي يمنعني من أعدائى (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرنى إلا بما هو مصلحتي. [(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] 27 [ (أَجْرَهُ) الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، والذرية الطيبة والنبوّة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه. فإن قلت: ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر، وذكر إسحاق وعقبه؟ قلت: قد دلّ عليه في قوله: (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوّ قدره. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إبراهيمَ، ويَبْقى في كلِّ أرضٍ إذْ ذاكَ شِرارُ أهلِها، تَلْفِظُهم أَرْضُوهم، تَقْذَرُهُم نَفْسُ الله، وتَحشُرُهمُ النارُ معَ القِرَدةِ والخَنازيرِ)). قوله: (قد دلَّ عليه في قولِه: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ} فكفى الدَّليلُ لشُهرةِ أمرِه، وعُلوِّ قَدْرِه) يُريد أنَّهم قد يُخففون ذِكْرَ بعضِ المُشتَهِرينَ، ويَكتَفُونَ برَمْزِهِ عن ذِكْره لشُهرتِه إعلاءً لقَدْرِه، ورَفعًا لمنزلتِه، وإيذانًا بأنَّه العلمُ المُشارُ إليه الذي لا يَلْتَبِسُ على كلِّ أحدٍ، كما قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] مُريدًا به نَبيَّنا صلى الله عليه وسلم وهاهنا لمّا عَطَف {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} على {وَوَهَبْنَا} عُلِمَ أنَّ الثاني هو المَوْهُوبُ الأعظمُ، والمَطلُوبُ الأوَّلُ، لا سِيَّما [إذا] جُعلت الذُّريةُ مكانًا للنُّبوةِ وظَرْفًا لها. ولا يَلتبسُ على كلِّ ذي بَصيرةٍ أنَّ النُّبوةَ والكتابَ لم يستقرَّا في أحدٍ منَ الأنبياءِ استقرارَهُ لِنبيِّنا صلى الله عليه وسلم فكان في ذِكْره ذِكرُ جَدِّه إسماعيلَ صلواتُ الله عليهما، فقولُه: ((لِشُهرة أَمْرِه)) تعليلٌ لقوله: ((فكَفى الدَّليلُ)) من حيث المعنى كما قَرَّرناه.

جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذرّيته من الكتب الأربعة التي هي: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن. [(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَاتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ الله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)] 28 - 30 [ (وَلُوطاً) معطوف على "إبراهيم"، أو على ما عطف عليه. والْفاحِشَة: الفعلة البالغة في القبح. و (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة، كأن قائلًا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازًا منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط؛ لخبث طينتهم وقذر طباعهم. قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط. وقرئ: (إنكم)، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني، قال أبو عبيدة: وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين: الياء والنون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَلُوطًا} معطوفٌ على ((إبراهيمَ))، أو على ما عُطِفَ عليه) أي: إبراهيمَ، وهو {نُوحًا} في قوله: {أَرْسَلْنَا نُوحًا} يؤيِّد الأوَّلَ أن قصَّة لوطٍ عليه السَّلام لا تكادُ تُوجد إلا مقرونةً بقصَّة إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه ابنُ أخيهِ ومُهاجِرٌ معه. والثاني قولُه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، فإنَّه معطوفٌ على قصَّة نوح عليه السَّلامُ لا غيرُ؛ لأنَّ التَّقديرَ: ولقد أرسَلْنا إلى مَدينَ أخاهم شُعيبًا، فيكون كلٌّ مِنَ القَصَص مُستَقِلاًّ بنفسه. قوله: (اشمئزازًا) أي: انقِبَاضًا. قوله: ({إِنَّكُمْ} بغير استفهام) نافعٌ وابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ وحَفصٌ.

قطع السبيل: عمل قطاع الطريق، من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة. وعن الحسن: قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. والْمُنْكَرَ عن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الخذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الإزار، والسباب، والفحش في المزاح. وعن عائشة رضى الله عنها: "كانوا يتحابقون". وقيل: السخرية بمن مرّ بهم. وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل، وكل معصية، فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء: من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له. ولا يقال للمجلس: ناٍد، إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديًا. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تعدناه من نزول العذاب. كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعًا وكرهًا، ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم، وقال الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)] النحل: 88 [. فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه. [(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [31 - 32] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتحابقون) أي: يَتضارَطُونَ. قوله: (ولأنَّهم ابتَدَعُوا الفاحشةَ) عطفٌ على مقدَّرٍ مَدْلُولٍ عليه بقوله: ((كانوا يُفْسِدونَ النّاسَ)) إلى آخره، يعني: إنّما لوطٌ صفةَ المُفسِدينَ؛ لأنَّهم كانوا يَحمِلُونَ النّاسَ على الإفسادِ، ولأنَّهم ابتَدَعوا الفاحشة؛ أي: فَعَلوا الفاحشةَ وحَمَلُوا النّاسَ عليها، وسَنُّوها فيمَن بعدَهم، والكافرُ إذا وُصِفَ بالفسقِ أو الإفسادِ كان مَحْمولاً على غُلَوائه في الكُفر. أَلاَ ترى كيف رتَّب الوَعيدَ بزيادة العذابِ في الآية المُستَشْهَدِ بها على الإفساد دُونَ الكُفرِ، ومِنْ ثَمَّ جَعلَ نبيُّ الله أيضًا الإفسادَ عَلَمَه لاستنزالِ شدَّةِ غَضَبِ الله بدُعائه. وفي إتيان الفاءِ في قوله: (فأراد لوطٌ) إشارةٌ إلى قولنا: ((ومِن ثمَّ جَعَل نبي .... )) إلى آخره.

(بِالْبُشْرى) هي: البشارة بالولد والنافلة، وهما: إسحاق ويعقوب. وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف. والمعنى: الاستقبال. والقرية: سدوم التي قيل فيها: أجور من قاضى سدوم. (كانُوا ظالِمِينَ) معناه: أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة، وهم عليه مصرون، وظلمهم: كفرهم وألوان معاصيهم. (إِنَّ فِيها لُوطاً) ليس إخبارًا لهم بكونه فيها، وإنما هو جدال في شأنه: لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم: اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم، وأراد بالجدال: إظهار الشفقة عليهم، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه، والتشمر في نصرته وحياطته، والخوف من أن يمسه أذًى أو يلحقه ضرر. قال قتادة: لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه (بِمَنْ فِيها) يعنون: نحن أعلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أَجوَرُ من قاضي سَدُومَ). قال المَيْدانيُّ: سَدُومُ- بفتح السِّينِ-: مدينةٌ من مدائنِ قومِ لُوطٍ. قال أبو حاتم: إنّما هو سَذُومُ؛ بالذالِ المُعجَمةِ، والدّالُ خطأ. قال الأزهريُّ: هذا عندي هو الصحيحُ. قال الطَّبريُّ: هو ملكٌ من بقايا اليُونانيةِ غَشُومٌ كان بمدينة سَرْمِينَ من أرض قِنَّسْرِين. قوله: ({إِنَّ فِيهَا لُوطًا} ليس إخبارًا لهم بكَوْنِه فيها، وإنَّما هو جِدالٌ) يعني: أنَّ مضمونَ هذه الجملةِ كان معلومًا عند الرُّسلِ، ففائدةُ الإخبار ما اقتضاه المقامُ منَ الاعتراضِ والجدالِ كما قال تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] لا سِيَّما وقد صُدِّرتِ الجملةُ بـ (إنَّ) المؤكِّدةِ، فكأنَّهم لمّا قالوا: {إنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وفيها ابنُ أخيه لوطٌ اعتَرضَ عليهم بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} إظهارًا للشَّفَقةِ عليه. قوله: (لا يرى المؤمنُ أنْ لا يَحُوط المؤمنَ) أي: لا ينبغي للمؤمن أن يتَّصفَ بهذا الوصفِ وهو أنْ لا يَحُوط أخاه، وهو معنى قوله: ((ومِمّا يجب للمؤمن مِنَ التَّشَمُّرِ في حِياطَة المؤمنِ؛ أي: في نُصْحه وكلامِه)).

منك وأخبر بحال لوٍط وحال قومه، وامتيازه منهم الامتياز البين، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب. وقرئ: (لَنُنَجِّيَنَّهُ) بالتشديد والتخفيف، وكذلك (منجوك). [(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)] 33 [ (أَنْ) صلة أكدت وجود الفعلين مترتبًا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما؛ كأنهما وجدا في جزٍء واحٍد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث، خيفة عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم. ذرعه: أى: طاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع: عبارة عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {لَنُنَجِّيَنَّهُ,} بالتَّشديد والتَّخفيف) حمزةُ والكسائيُّ: بالتخفيف، والباقون: بالتَّشديد. قوله: (أَكَّدت وُجودَ الفِعْلَينِ مُتَرتِّبًا أحدُهما على الآخر)، ((مُتَرتِّبًا)) حالٌ من الفعلينِ، والعاملُ فيه الوُجودُ، لا ((أَكَّدت))، وذلك أن المساءَةَ في قوله: {وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سْيءَ بِهِمْ} مُتَرتِّبٌ على مجيء الرُّسلِ، وأُقحِمَت ((أنْ)) توكيدًا للتَّرتُّبِ، فلا يجوز أن يكون العاملُ (أَكَّدت)؛ لأنَّ التأكيدَ في حالِ تَرتُّب أحدِهما على الآخَرِ. قوله: (ذَرْعُه؛ أي: طاقتُه)، الراغب: ضاقَ بكذا ذَرْعِي، نحو: وضاقَتْ به يَدي، وذَرَعْتُه: ضرَبتُ ذِراعَه، وذَرَعْتُ: مَدَدْتُ الذِّراعَ، ومنه: ذَرَع البَعيرُ في سَيْرِه؛ أي: مَدَّ ذِراعَه، وفَرسٌ ذَرِيعٌ وذَرُوعٌ: واسِعُ الخَطْوِ، وذَرَعَه القَيءُ: سَبقَه من قولهم: ذَرَعَ الفَرسُ.

فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا، إذا كان مطيقًا له، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة. (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 34 - 35 [ الرجز والرجس: العذاب، من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب. وقرئ: (مُنْزِلُونَ) مخففًا ومشدّدًا. (مِنْها) من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) هي: آثار منازلهم الخربة. وقيل: بقية الحجارة. وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض. وقيل: الخبر عما صنع بهم (لِقَوْمٍ) متعلق بـ (تركنا) أو بـ (بينة). (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)] 36 - 37 [ (وَارْجُوا) وافعلوا ما ترجون به العاقبة. فأقيم المسبب مقام السبب. أو: أمروا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: {مُنزِلُونَ} مخفَّفًا ومشدَّدًا) ابنُ عامرٍ: مشدَّدًا، والباقون: مخفَّفًا. قوله: (وافعلوا ما تَرْجُون به العاقبةَ، فأُقِيمَ المُسبِّبُ مَقامَ السَّببِ) أي: اعبُدوا اللهَ واعملوا صالحًا حتى تَتمكَّنُوا على رجاءِ أنْ يُثِيبَكُمُ اللهُ الجنَّةَ؛ لأنَّ مَنْ لم يَعملْ منَ الصالحات لم يَرْجُ الثَّوابَ الذي في الدار الآخرةِ، فالأعمالُ سببٌ للتَّمكُّن على الرَّجاء، فيكون عطفُ {وَارْجُوا} على {اعْبُدُوا اللهَ} للبيان والتَّفسيرِ. وقريبٌ منه ما مرَّ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَاتِ اللهِ وَلِقَاءِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}، ويجوزُ أن يكونَ العطفُ للحُصول والوُجودِ، ويُفوَّضُ الترَّتُّبُ إلى الذِّهْنِ.

بالرجاء: والمراد: اشتراط ما يسوّغه من الإيمان، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط. وقيل: هو من الرجاء بمعنى الخوف. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وعن الضحاك: صيحة جبريل عليه السلام؛ لأنّ القلوب رجفت لها (فِي دارِهِمْ) في بلدهم وأرضهم. أو في ديارهم، فاكتفى بالواحد؛ لأنه لا يلبس. (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين. (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)] 38 [ (وَعاداً) منصوب بإضمار (أهلكنا) لأن قوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) يدل عليه، لأنه في معنى الإهلاك، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) ذلك: يعنى: ما وصفه من إهلاكهم (مِنْ) جهة (مَسْكَنِهِمْ) إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) عقلاء متمكنين من النظر والافتكار. ولكنهم لم يفعلوا. أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم؛ لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمرادُ اشتراطُ ما يُسَوِّغُه) يعني: أمرَهم بالرَّجاء على سَنَن طَلَب مُقدِّمةِ الواجبِ بالواجبِ. قوله: ({مِّن} جِهَةِ {مَّسَاكِنِهِمْ} إشارةٌ إلى أنَّ ((مِنْ)) في {مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} ابتدائيَّةٌ. قوله: (أو كانوا مُتَبيِّنِينَ أنّ العذابَ نازلٌ بهم) عطفٌ على ما ((كانوا مُستَبْصرينَ عُقلاءَ))؛ أي: كان أهلُ مكَّةَ وقد تبيَّن لهم من مساكِنِ الظَّلَمةِ من قوم عادٍ وثَمودَ هلاكُهم بشُؤم كُفرِهِم، إمّا بطريق النَّظَرِ والاستدلالِ، وإمّا بطريق الإخبارِ مِنَ الرُّسل، لكنْ لم يَعتبروا، فلمْ يفعلوا بمُوجب العقلِ، ولا التَفَتُوا إلى النصِّ القاهرِ.

ولكنهم لجوا حتى هلكوا. [(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 39 - 40 [ (سابِقِينَ) فائتين، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. الحاصب: لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء. وقيل: ملك كان يرميهم. والصيحة: لمدين وثمود. والخسف: لقارون. والغرق: لقوم نوح وفرعون. (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ الله يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 41 - 42 [ الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلًا ومعتمدًا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لَجُّوا)، لَجَّ: مِنْ باب عَلِمَ، لَجَاجًا ولَجَاجَةً: تَمادي في الخُصومةِ، والَّجَّةُ بالفتح: الأصواتُ، وفي أمثالهم: لَجَّ فلانٌ حتّى حَجَّ؛ أي: غَلَب. قوله: (الغَرَضُ تَشبيه ما اتَّخذُوه مُتَّكَلاً ومُتَعمدًا في دينهم وتَولَّوْهُ من دُون الله بما هو مَثَلٌ عند النّاسِ في الوَهْن وضَعْفِ القُوَّةِ) اعلَمْ أنَّ الغَرضَ في التَّشبيه في الأَغلَب يكونُ عائدًا إلى المُشَبَّه، ويكون ذلك تَقويةَ شَانِه في نَفْس السامِعِ وزيادةَ تَقريرِه عندَه، كما إذا كنتَ معَ صاحبِكَ في تقريرِ أنَّه لا يحصلُ مِن سَعْيه على طائلٍ قلتَ كما قال:

وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأَصبحتُ من ليلى الغَداةَ كقابضٍ ... على الماءِ خانَتْهُ فُروجُ الأَصابِعِ ولمّا كانت حالُ الآلهةِ التي جَعلَها الكُفّارُ أندادًا لله لا حالَ أحقَرَ منها وأقلَّ، جُعل بيتُ العنكبوتِ مثلاً لها في الضَّعْفِ والوَهْنِ، وفي هذا التَّقرير إشارةٌ إلى تقدير مضافٍ في كلام المصنِّفِ عند المُشبَّه؛ أي: تَشبيه حالِ ما اتَّخذوه مُتَّكلاً، وعند المشبَّهِ به؛ أي: بحال ما هو مَثَلٌ عند الناسِ، وذِكْرُ المَثَلَينِ في التَّنزيل أيضًا يُوجبُ هذا الإضمارَ. قوله: (ألا تَرى إلى مَقْطَعِ التَّشبيهِ) أي: كيف دلَّ قولُه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} على أنَّ الغَرَضَ مِنَ التَّشبيه ما ذَكَرْنا. وكلامُه يَجمعُ أمورًا: أحدها: أنْ يكونَ قولُه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كالتَّذييلِ للتَّشبيه كما يُفهَمُ مِنَ الوجه الأوَّلِ مِنَ الوُجوهِ المَذكورةِ في جوابِ ما معنى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. وذلك أنَّ التَّشبيهَ عندَ قولِه: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} ثُمَّ ذُيِّل بقولِه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كما مَرَّ في قولهم: فلانٌ يَنطِقُ بالحقِّ، والحقُّ أَبْلَجُ. وحَدَثتِ الحوادثُ، والحَوادثُ جَمَّةٌ. فالتَّشبيهُ حينئذٍ يَحتملُ أن يكون مركَّبًا عقليًّا، إذا جُعِلَ الوجهُ الوَهْنَ كما أشار إليه في قوله: ((بما هو مَثَلٌ عند النّاسِ في الوَهْنِ))؛ لأنَّه هو الزُّبدةُ والخُلاصةُ المأخوذةُ مِنَ المجموعِ، أو وَهْمِيًّا بأنْ يكونَ الوجهُ مُنْتَزَعًا من عدَّة أمورٍ مُتوهَّمة، وفي قوله: ((وأنَّ أَمْرَ دينهِم بالغٌ إلى هذه الغايةِ مِنَ الوَهْن)) إيماءٌ إليه. وثانيها: أن يكونَ التَّمثيلُ بجُملته كالمقدِّمة الأولى، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} كالثانية، والنتيجةُ محذوفةٌ لشُهرتِها، ولذلك أتى بالفاء، وفي قولِه: ((فقد تبيَّن أن دِينَهم أَوْهَنُ الأديانِ))، فالكلامُ متضمِّنٌ للكناية الإيمائيَّةِ. وثالثها: أن يكونَ {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} استعارةً تَمثيليَّةً، وذِكْرُ

لبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)؟ فإن قلت: ما معنى قوله: (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وكل أحٍد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشبَّهِ والمُشبَّهِ به كالتَّسَبُّبِ والتَّوطئةِ لِذِكْرها؛ لأنَّ الاستعارةَ مسبوقةٌ بالتَّشبيه، وإليه الإشارةُ بقوله: ((أو أخرجَ الكلامَ بعدَ تَصْحيحِ التَّشبيه مخرجَ المَجازِ))، فعلى هذا الجملةُ أيضًا تذييلٌ مقرِّر لمعنى المُشبَّهِ كما كان مُقرَّرًا في الأوَّلِ للمُشبَّه به، نَحوُه التَّجريدُ والتَّرشيحُ في الاستعارةِ. ورابعها: أن يكونَ من تتمَّة التَّشبيهِ، داخلاً في حَيِّز المُشبَّه به حالاً منَ المنصوبِ، والعاملُ {اتَّخَذَتْ}، أو مِنَ المرفوعِ المُستَكِنِّ الراجعِ إلى العنكبوتِ، وعلى التَّقديرَينِ وُضِعَ موضعَ الرّاجعِ في الجُملة المُظْهَرِ، واللاَّمُ في {الْبُيُوتِ} استغراقيَّةٌ، يشهدُ له قولُه: ((إذا استَقْرَيْتَها بيتًا بيتًا))، والتَّشبيهُ حينئذٍ إمّا مِنَ التَّشبيهاتِ المُفرَّقة أو التَّمثيليَّةِ التي يكون وجهُها المُشبَّهُ مُنْتَزَعًا مِنَ الأمور المُتعدِّدة الوَهْميَّةِ، ولذلك قال: ((بالإضافة إلى رَجلٍ يبني بيتًا بآجُرِّ وجِصٍّ)) فالعنكبوتُ التي تَتَّخِذُ بيتًا في مُقابِلِ الكافرِ الذي يَعْبُدُ الوَثَنَ، والرَّجُلُ الذي يبني بيتًا بآجُرٍّ وجِصٍّ في مُقابِلِ المؤمنِ الذي يَعبُدُ اللهَ، وإنَّ أَوْهَنَ البيوتِ بيتًا بَيتًا وهو بيتُ العنكبوتِ، مقابلٌ لضَعْفِ دِين عَبَدةِ الأوثانِ دِينًا دِينًا، وإنَّ أقوى البيوتِ بيتًا بيتًا هو البيتُ المبنيُّ بالآجُرِّ والجَصِّ، مقابلٌ لقوَّةِ دين عِبادِ الرَّحمنِ دِينًا دِينًا، وكلُّ هذه التَّقريراتِ المُلتَزِمَةِ إدخالَ هذه الفَقْرَةِ في حَيِّزِ التَّشبيهِ. وأما قولُه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فإيغالٌ لأنَّ مَن وَقَف على قُبح القَبيحِ ربَّما أَقلَع عنه. وعن بغضِهم: الوَقْفُ على قولِه: {الْعَنكَبُوتِ} لازِمٌ، وهو قولُ الأَخفَشِ؛ لأنَّ جوابَ ((لو)) محذوفٌ، تقديرُه: لو كانوا يَعلمون وَهْنَ دِينِ عَبَدةِ الأوثانِ لَمَا اتَّخذوها أولياءَ، ولو وُصِل صار وَهْنُ بيتِ العنكبوت معلَّقًا بعِلْمِهم، وهو مطلَقٌ، والجملةُ لا تَصْلُح صفةً للمعرفةِ. وعن الفَرّاء: إنَّ الموصولَ محذوفٌ كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا} [الجمعة: 5]؛ أي: الذي يَحملُ الأسفارَ؛ وعلى هذا لا يُوقَفُ، وهو اختيارُ ابنِ دَرَسْتَوَيه في حَذْف المَوصُولِ.

يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت: معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. ووجه آخر: وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. ولقائٍل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوٍت يتخذ بيتًا، بالإضافة إلى رجل يبنى بيتًا بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا؛ بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا؛ عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. قرئ: (يدعون) بالتاء والياء. وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئًا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيه تجهيل لهم؛ حيث عبدوا ما ليس بشيء؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحبُ ((الفرائد)): يُمكن أن يكونَ المعنى مَثَلُ مَنْ أَشرَكَ وطَمِعَ في نَفْعِهم والإغناءِ عنها في الدّارَين كمَثَلِ العنكبوتِ جَعَلت لِنفسِها بيتًا وطَمِعَت في نَفْعِها مِنْ دَفْع الحَرِّ والبَرْدِ والإغناءِ عنها، فكما لا يَفي بذلك بيتُ العنكبوتِ كذلك اتِّخاذُهمُ الأوثانَ. قوله: (برئ {يَدْعُونَ} بالتاء والياء) بالياء التحتانية: أبو عمروٍ وعاصمٌ، والباقون: بالتاء. قوله: (وهذا توكيدٌ للمَثَل وزيادةٌ عليه) أي: تَتْمِيمٌ له للمبالغة فيه؛ لأنَّه أَثْبَتَ في المَثَلِ وَهْنَ دِين عابدِ الوَثَنِ وضَعْفَه، وجُعل هنا عَدَمًا صِرْفًا، فـ ((ما)) في {مَا يَدْعُونَ} نافيةٌ. قال أبو البقاء: يجوزُ أن تكونَ استفهاميّةً منصوبةً بـ {يَدْعُونَ}، و {مِن شَيْءٍ}: تَبْيِينٌ، ويجوز أن تكونَ نافيةً، و ((مِنْ)) زائدةً، و {شَيْئًا} مفعول {يَدْعُونَ}.

لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلًا، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي لا يفعل شيئًا إلا بحكمةٍ وتدبير. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ)] 43 [ كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إنّ ربّ محمٍد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال: (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أى: لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار؛ حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس معه مُصَحِّحُ العِلْمِ والقُدْرةِ)، أي: الحياة، يريدُ أنَّ قولَه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تتمِيمٌ لمعنى التَّجهيلِ الذي يُعطيه قولُه: {يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} يعني: ما عَرَفوا أنَّ ما يَدْعونَه ليس بشيءٍ، ولا عَلِموا أنَّه {الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} حيث تَرَكوا عبادةَ القادِرِ الحَكيمِ إلى ما ليس معه مُصحِّحُ العِلْمِ والقُدرةِ. قوله: (العالِمُ مَنْ عَقَل عن الله فعَمِلَ بطاعتِه واجتَنبَ سَخَطَه) الحديثَ، أورَدَه محيي السُّنة في ((معالم التنزيل)) عن جابرٍ. الجوهريُّ: قولُهم: ما أَعقِلُه عنك شيئًا، أي: دَعْ عنكَ هذا الشَّكَّ. هذا حرفٌ رواه سيبويه كأنه قال: ((ما أعلم شيئًا ممّا تقول، فدع عنك الشكّ)). وعن بعضِهم في الكلام حَذْفٌ، أي: الذي تقول ما أَعْقِلُه عنك شيئًا؛ ما أَعْقِل منه. وقلت: خلاصتُه أنَّ مِثْلَ هذا التَّركيبِ لا يُستعمل إلاّ في معنًى دقيقِ المَسْلَكِ، صَعْبِ المُرْتَقى.

[(خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)] 44] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومِنْ ثَمَّ جيء بقوله: ((العالمِ)) بلام الجِنْسِ؛ أي: العالِمُ الكامِلُ، الحكيمُ الحازمُ، ذو الدُّرْبَةِ والكِياسَةِ، مَنْ يَعقِلُ ويَعرِفُ ما صَدَر عنِ الله، ومِنْ ثَمَّ طبَّق التأويلُ النَّبويُّ التَّنزيلَ الإلهيَّ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} حيث جَمعَ العَقْلَ والعِلْمَ معًا على سبيل الحَصْرِ. ومِثْلُه: ((الكَيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ))، فإذن الواجبُ أنْ يُتَركَ قولهُ تعالى: {أَوْلِيَاءَ} - في قولِه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ} - على الإطلاقِ ليتناوَلَ سائرَ الولاياتِ التي يَجبُ على الموحِّد الاجتنابَ عنها، ويَشْتملَ على دقائق الشِّركِ ومَكامِنِه، ويَنْفي الحَوْلَ والقوَّةَ عمَّن سِواهُ إلى غير ذلك. وفيه مَسْحةٌ من معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. في ((حقائق السُّلَميِّ)): قال ابنُ عطاءٍ: مَنِ اعتَمَد شيئًا سوى اللهِ فهو هَباءٌ لا حاصِلَ له، وهَلاكُه في نَفْسِ ما اعتَمَده، ومَنِ اتَّخذ سِواهُ ظَهيرًا قَطَع عن نَفسِه سبيلَ العِصْمَةِ ورُدَّ إلى حَوْله وقُوَّتِه، كالعنكبوتِ اتَّخذت بيتًا ظَنَّه أنَّه يَكُنُّه. وأنشَدَ البُسْتِيُّ: مَنِ استَعانَ بغير الله في طَلَبٍ ... فإنَّ ناصِرَه عَجْزٌ وخِذلانُ والله أعلمُ.

(بِالْحَقِّ) أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكونا مساكن عباده وعبرةً للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته، ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ونحوه قوله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا)] ص: 27 [ثم قال: (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)] ص: 27 [. (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)] 45 [ الصلاة تكون لطفًا في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بالغَرَض الصَّحيح)، الانتصاف: اللَّفظُ والمعنى فاسدٌ، ولو فُرض أنَّ المعنى صحيحٌ لَكانَ الواجبُ اجتنابَ هذه الألفاظ الرَّديئةِ. قوله: (ونحوُه [قوله تعالى]: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27]) وذلك أنَّ الباطلَ في مُقابلِ الحقِّ، وأنَّ قولَه: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] في مُقابِلِ قولِه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، وأمّا ظَنُّ الكافرِ أنَّه باطلٌ فلأنَّه لم يَجعلِ الدَّلائلَ مَسارِحَ نَظَرِه ومطارِحَ فِكْرِه، لِيستَدِلَّ به على وُجودِ مُبدِعٍ فاطِرٍ، مُستَحِقٍّ لأنْ يُعبَدَ ويُطاعَ في أوامِرِه ونَواهِيه، كما أنَّ معنى يَقينِ المؤمنِ أنّه نَظَر وعَرَف فعَبَد وأطاعَ وانتَفَع بها، فكأنَّه أقَرَّ بحقِّيَّتِها. وفيه: أنَّ صاحبَ عِلْمِ الهيئةِ الذي لا عبادةَ له كأنَّه ما نظَرَ فيها ولا عَرفَها حقَّ مَعرفتِها.

الثواب: أن يدخل فيها مقدّمًا للتوبة النصوح، متقيًا؛ لقوله تعالى: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ)] المائدة: 27 [، ويصليها خاشعًا بالقلب والجوارح، فقد روى عن حاتم: كأنّ رجلي على الصراط، والجنة عن يمينى، والنار عن يساري، وملك الموت من فوقى، وأصلى بين الخوف والرجاء؛ ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر؛ لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا". وعن الحسن رحمه الله: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه". وقيل: "من كان مراعيًا للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهى عن السيئات يومًا ما، فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ فلانًا يصلى بالنهار ويسرق بالليل، فقال: «إنّ صلاته لتردعه». وروى أنّ فتًى من الأنصار كان يصلى معه الصلوات، ولا يدع شيئًا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له فقال: «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وعلى كل حاٍل فإنّ المراعى للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وأيضًا فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضى أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إنّ زيدًا ينهى عن المنكر؛ فليس غرضك أنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واللَّفظُ لا يَقْتضي أنْ لا يَخرُجَ واحدٌ) يعني: ليس التَّعريفُ في الصَّلاة للاستغراقِ لِيستوعِبَ جميعَ المُصلِّينَ، بل هو للجنسِ، فهو مُطلَقٌ في تَناوُلِه، ومعناه: مِنْ شأنِ الصَّلاةِ أنْ تَنهى عنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ، فقد وُجد في صُوَرٍ كثيرةٍ هذا الحُكْمُ، فلا يجبُ أن لا يَخرُجَ أحدٌ منَ المصلِّينَ عن قَضيَّتِها. والحاصلُ أنَّ تَعريفَ الجِنسِ- الذي هو المعهودُ الذِّهنيُّ- كالنَّكرة في الشِّياع، والنَّكرةِ في سياق الإثباتِ، لا يُفيد العُمومَ.

ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه، وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم. (وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ) يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله كما قال: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله)] الجمعة: 9 [وإنما قال: ولذكر الله: ليستقلّ بالتعليل، كأنه قال: وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته (وَالله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب. (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)] 46 [ (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالخصلة التي هي أحسن، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والسورة بالأناة، كما قال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)] المؤمنون: 96 [، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليستقلَّ بالتعليل) أي: لِيرَفعَه ويكونَ حاملاً له. الأساس: أقلَّه واستَقَلَّ به: رَفَعَه، يعني إنَّما عَدَل عنِ الظاهِرِ وهو قولُه: ((ولَلصَّلاةُ أكبر))؛ ليكونَ اللَّفظُ دالاًّ على المقصود بالمَجازِ ومُتضمِّنًا للتَّعليل؛ كأنَّه قيلَ: ولَلصَّلاةُ أكبرُ؛ لأنَّها ذِكْرُ الله، وقد عُلم أنَّ ذِكْرَ الله أكبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ. تلخيصُه: أنه مِنْ وَضْعِ المُظهَرِ موضعَ المُضمَرِ من غير لفظِه السابقِ؛ للإشعار بالعِلِّيَّة، ولو جيءَ بظاهِرٍ لم يُفِدْ هذا المعنى. قوله: (مِنَ اللُّطْف الذي في الصَّلاة) المراد باللُّطف على اصطلاحهم: ما يُقرِّب إلى الطاعة ويَزْجُر عنِ المعصيةِ، يعني: تأثير الزّاجِرِ بذِكْر الله، وذِكْرُ نَهْيِه ووَعِيدِه أكثرُ مِنْ تأثير الزّاجِرِ بالصَّلاة. قوله: (والسَّوْرَة)، الجوهريُّ: سَوْرَةُ السُّلطانِ: سَطْوَتُه واعتداؤه، و ((الأَنَاةُ)) بوزن القَنَاةِ: الحِلْمُ والوَقارُ.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق. فاستعملوا معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا: يد الله مغلولة. وقيل: معناه: ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)] التوبة: 29 [ولا مجادلة أشدّ من السيف: وقوله: (قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من جنس المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: لا تُجادلوا الدّاخِلينَ في الذِّمَّةِ) عطفٌ على قوله: ((وهي مُقابَلَةُ الخُشُونةِ باللِّينِ))، وعلى الأوَّل: المُجادَلَةُ بالحُجَّة، وعلى الثاني: بالسَّيفِ، والحاصلُ من الوُجوه أنَّ قولَه: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} مُطلَقٌ؛ إمّا أن يجريَ على إطلاقِه، فهو المرادُ من قولِه: ((إلاّ الذينَ ظَلَموا فأَفرَطُوا في الاعتداء))؛ لأنَّ الكافرَ إذا وُصِفَ بالفِسْق أو الظُّلم حُمِلَ على المُبالغة فيما هو فيه، ولذلك أتى بالفاء في ((فأَفْرَطُوا)) ليكونَ سببًا في الإفراط، أو يُقيَّدُ بما يُوجد منهم مِنَ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من قولهم: ما أنتَ بصاحِبنا، ولا نجدُ في كتابنا ذِكْرَكَ، وهو المرادُ من قوله: ((آذَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)) والقَرينةُ خارجيَّةٌ، أو القَرينةُ ما يُفهَمُ مِنْ قولِه: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ وأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلاَهُكُمْ وَاحِدٌ} وهو المرادُ من قوله: ((الذين أَثَبَتُوا الولدَ والشَّريكَ))، أي: منَ النَّصارى، ((وقالوا: يدُ الله مغلولة))، أي: منَ اليهودِ، أو يكونُ المرادُ من المُجادَلَةِ التَّعرُّضَ والقتالَ، لا المُقاوَلَةَ والظُّلمَ. على هذا أيضًا باقٍ على إطلاقِه، ونتيجتُه نَبْذُ العَهْدِ؛ لذلك جيءَ بالفاء في ((فنَبَذُوا الذِّمَّةَ)). قوله: (ما حدَّثَكُم أهلُ الكتابِ) الحديثَ؛ أخرجَه أبو داودَ، عن أبي نَمْلةَ الأنصاريِّ، وروى البخاريُّ عن أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُصَدِّقوا أهلَ

بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدّقوهم، وإن كان حقًا لم تكذبوهم». [(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ)] 47 [ ومثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أى: أنزلناه مصدّقًا لسائر الكتب السماوية، تحقيقًا لقوله: (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم). وقيل: وكما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتابِ بما يُحدِّثُونَكُم عن الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]))؛ لأنَّ الله أخبرَ بأنهَّم كَتَبوا بأيديهم وقالوا: هذه من عندِ الله. قوله: (وكما أنزَلْنا الكُتُبَ إلى مَنْ كان قَبلَكَ)، يعني: أنَّ ((الكافَ)) منصوبُ المَحَلِّ على المصدر، والمشارُ إليه بـ ((ذلك)): إمّا ما دلَّ عليه قولُه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}، وهو المرادُ من قوله: ((تحقيقًا لقوله: {آمَنَّا})) و ((تحقيقًا)) مفعولٌ له لمقدَّرٍ؛ أي: أشار بذلك تَحقيقًا له، أو المُشارُ إليه ما في الذِّهْنِ؛ أي: مثلَ ذلك الإنزالِ المَعلُومِ الذي أُنزل على الأنبياء من قَبلِكَ أَنزلْنا إليك. والمِثْلُ على الوجه الثاني: بمعنى النَّظيرِ والشَّبيهِ، وعلى الأوَّل: مُستعارٌ للصِّفة العَجيبةِ الشَّانِ. والفاءُ في ((فالذين آتيناهُم)) تفصيليَّةٌ؛ أي: مثلَ ذلك الإنزالِ العَجيبِ الشَّأنِ الداعي إلى الإيمان بجميع الكُتبِ المنزَّلَةِ وإلى التَّوحيد أَنزَلْناه، ثُمَّ النّاسُ مع ذلك تفرَّقوا فِرَقًا أربعًا؛ لأنَّ المبعوثَ إليهم إمّا أهلُ الكتابِ أو المشركون، فقولُه: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} المرادُ به بعضُ مَنْ آمَنَ من أهل الكتاب. وقولُه: {وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ} هم بعضُ المشركينَ. وقولُه: {وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} مُؤذِنٌ بأنَّهم الفريقانِ الباقيانِ من

سلام ومن آمن معه (وَمِنْ هؤُلاءِ) من أهل مكة، وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب: الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب. (ومن هؤلاء) ممن في عهده منهم. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه. (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)] 48 - 49 [ وأنت أمىّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاٍب ولا خط، (إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) لو كان شيٌء من ذلك، أى: من التلاوة والخط (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمى لا يكتب ولا يقرأ وليس به. أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده. فإن قلت: لم سماهم مبطلين، ولو لم يكن أمّيًا وقالوا: ليس الذي نجده في كتبنا، لكانوا صادقين محقين؟ ولكان أهل مكة أيضًا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارئ كاتب؟ قلت: سماهم مبطلين لأنهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُولئكَ، وهمُ تَوغَّلُوا في الكُفر وصَمَّمُوا عليه ولم يَفتحوا آذانَهم الصُّمَّ وأَعيُنَهم العُمْيَ، ولم يَلْتفتوا إلى الآيات البَيِّناتِ، والمرادُ بقوله: {بِئَايَتِنَا} الآياتُ المُنزَّلةُ في هذا الكتابِ الكريمِ، أو هو نفسُه آياتُ الله الباهرةُ، وحُجَّتُه القاهرةُ، واللهُ أعلمُ. قوله: (لِمَ سَمّاهُم مُبْطِلينَ) تَوجيهُ السُّؤالِ: لمَ سمّاهُم مُبْطِلِينَ في حال كَوْنِه كاتبًا قارئًا؛ لكونهم حينئذ محقين، وكونهم مبطلين إنما يصح أن لو لم يكن كاتبًا قرئًا؛ لِكَونِهم جينئذٍ عَلِموا الحقَّ وجَحَدوا؟ وخُلاصةُ الجوابِ: أنَّ التَّعريفَ في {الْمُبْطِلُونَ} للعَهْد، وهم قومٌ مَعْلُومونَ بدَليل قولِه: ((هؤلاء المُبْطِلُونَ))، يعني: هؤلاء المُجادلونَ المُبْطِلُونَ. تَزضيحُه: أنَّ {الْمُبْطِلُونَ} على تأويلِ مفهومِ اللَّقَبِ لا الصِّفةِ، كأنَّه قيل: هؤلاء الأشخاصُ الذين حَصَل لهمُ الإبطالُ.

كفروا به وهو أمىّ بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّيًا لارتابوا أشدّ الريب؛ فحين ليس بقارئ كاتٍب فلا وجه لارتيابهم. وشيءٌ آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذن: هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى. فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك)؟ قلت: ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصويٍر لما نفى عنه من كونه كاتبا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشيءٌ آخَرُ) يعني: سَمّاهُم مُبْطِلينَ؛ لأنَّهم لم يَنظروا إلى الدَّليل، وما يُثبتُ به رسالتَه من إظهار المُعجزةِ بعد سَبْقِ الدَّعوى كما ثَبتَتْ رسالةُ سائرِ الأنبياءِ، وحينئذٍ لم يَفْتقروا إلى النَّظَر في كَوْنه أُمِّيًّا أو غيرَ أُمِّيٍّ، وهو المرادُ من قوله: ((فما لهم لم يُؤمنوا به مِنَ الوَجْهِ الذي آمَنُوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام))، ومعَ هذا انضَمَّ معه ما يَزيدُ به الدَّليلُ إيضاحًا، وهو أنَّه أُمِّيٌّ لم يقرا ولم يَكتبْ، فهو أَولى بالقَبُولِ، وعلى كلِّ حالٍ إنَّهم مُبْطِلُونَ، سواءٌ كان أُمِّيًّا أو لم يَكنْ. وهذا إنَّما يَستقيمُ معَ المشركينَ؛ لأنَّ أهلَ الكتاب يُثْبتون نُبوَّتَه بأماراتٍ يَجِدُونها في كُتبهم، وهي أنَّه أُمِّيٌّ لا يكتبُ ولا يقرأُ، فلَهُم أن يقولوا: أنت نبيٌّ، لكنْ لستَ بصاحِبنا. وإلى هذا يُنْظَر قولُ صاحبِ ((التَّقريب)): هذا الوجهُ إنَّما يَرِدُ على المشركين لا على أهل الكتابِ، إذْ نَعْتُه عندَهم أنَّه أُمِّيٌّ. قوله: (زيادةُ تَصْويرٍ لِمَا نُفِيَ عنه من كَوْنه كاتبًا) يعني: هو مِنْ أُسلوب قولِهم: نَظَرتُه بعَيني، وأَخذتُه بيَدي، وقلتُه بفَمِي. فإن قلتَ: كيف جَمَعَ بينَ هذا وبينَ ما رَوى البخاريُّ ومسلمٌ والإمامُ أحمدُ والدارميُّ عن البَراء بن عازبٍ، قال: اعتَمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وساقوا الحديثَ إلى قوله: فلما كَتبوا الكتابَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كَتبوا: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ رسولُ الله، قالوا: لا نُقِرُّ بهذا، فلو نَعلمُ أنك رسولُ الله ما مَنَعْناك، ولكن أنتَ محمّدُ بنُ عبد الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا رسول الله، وأنا محمّدُ بنُ عبدِ الله))، ثم قال لعليٍّ رضي الله عنه: ((امْحُ رسولَ الله))، قال: لا والله لا أمحوكَ أبدًا، فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وليس يُحسِنُ يكتب، فكتب: ((هذا ما قاضي عليه محمّدُ بنُ عبد الله، لا يُدْخِلُ مكَّةَ السِّلاحَ إلا السَّيفَ في القِرَابِ، وأنْ لا يَخرُجَ من أهلِها بأَحَدٍ إن أراد أنْ يَتْبَعَه، وأن لا يَمْنَعَ من أصحابه أَحدًا إذا أراد أن يُقِيمَ بها)). الحديثَ. والجواب ما قال مُحيي السُّنة: يعني: لو كنتَ تَكْتبُ أو تَقرأً قبل الوحي لشَكَّ المُبْطِلُونَ. قلت: ويؤيِّدهُ قولُه تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ}؛ أي: من قَبْلِ إنزالِنَا إليكَ الكتابَ. وقال الشيخ مُحيي الدِّين النَّواوي في ((شرح صحيح مسلم)): وكما جاز أن يتلوَ جاز أنْ يَخُطَّ، ولا يَقْدَحُ هذا في كونه أُمِّيًّا، إذ ليستِ المُعجزةُ مجرَّدَ كونِه أُمِّيًّا، فإنَّ المعجزةَ حاصلةٌ بكَوْنه أوَّلاً كذلك، ثم جاء بالقرآن وبعُلومٍ لا يَعلَمُها الأُمِّيُّونَ. وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى علَّمَه ذلك حينئذٍ، حِينَ كَتَب، وجَعَل هذا زيادةً في مُعجزتِه، فإنَّه كان أُمِّيًّا، فكما علَّمَه ما لم يكن يَعْلم منَ العلمِ وجَعَله يقرأُ ما لم يَقرا، ويَتْلو ما لم يَتْلُ، كذلك عَلَّمه أن يَكتُبَ ويَخُطَّ ما لم يَخُطَّ بعدَ النُّبوةِ. واحتَجُّوا أيضًا بآثار جاءتْ في هذا عن الشَّعبيِّ وبعضِ السَّلفِ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَمُتْ حتّى كَتَب. تَمَّ كلامُه. ويمكنُ أن يُقالَ سبيلُ هذه الكتابةِ مع هذه الآيةِ سبيلُ قولِه: هل أنتِ إلاّ أُصْبَعٌ دَمِيتِ ... وفي سَبيل الله ما لَقِيتِ

ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات: رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته، فكذلك النفي (بَلْ) القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ) العلماء به وحفاظه، وهما من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظًا في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهرًا؛ بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونحوُه قولُه تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 29]، قال المصنف: ((ما هو إلاّ كلامٌ من جِنْس الكلامِ الذي يُرْمى به على السَّليقةِ من غير صَنْعَةٍ وقَصْدٍ إلى ذلك، ولا التفاتٍ منه إليه))، ويَعضُدُه قولُ راوي الحديثِ: ((وليس يُحسِن يَكْتُبُ)). قال في تفسير قولِه تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]: ((حقيقتُه: يحسن معرفته؛ أي: يَعرِفُه معرفةً حسنةً بتحقيق وإتقان)). وفي ((الروضة)): وممّا عُدَّ منَ المحرَّماتِ الشِّعرُ والخَطَّ، وإنّما يَتَّجهُ القولُ بتحريمهما لمَنْ يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يُحْسِنُهما، وقد اختُلف فيه؛ فقيل: كان يُحسنهما لكنه يمتنع منهما. والأصحُّ: أنه كان لا يُحسنهما. ثم قال صاحبُ ((الروضة)): ولا يمتنع تحريمهما وإن لم يُحسنهما، والمرادُ تحريمُ التَّوصُّلِ إليهما. قوله: (وهما من خصائص القرآنِ) مفسَّرٌ بقوله: ((كَوْنُ آياتِه بَيِّناتِ الإِعجازِ)) وبقوله: ((كَوْنُه محفوظًا في في الصُّدور))، يدلُّ عليه قوله: ((بخلاف سائرِ الكُتبِ))، فعلى هذا ((بل)) إضرابٌ عن مفهوم الآيتَينِ السابقتَينِ. المعنى: وكذلك أنزَلْنا إليكَ الكتابَ، والحال أنَّك أُمِّيٌّ ما كنتَ تَتْلُو مِنْ قَبلهِ من كتابٍ ولا تَخُطُّه بيَمينِكَ، بل ذلك الإنزالُ معجزةٌ خارقةٌ للعادات، وهي كَوْنُها في نفسِها آياتٍ بيِّناتٍ؛ لبلاغَتِها وفَصاحَتِها، وكَوِنُه اختُصَّ بأنْ حُوفِظَ [عليه] في صُدور العلماءِ دونَ سائر الكُتبِ. قوله: (صُدورُهم أَناجِيلُهم)، النهاية: في صفة الصَّحابة: ((معه قومٌ صُدورُهم

(وَما يَجْحَدُ) بآيات الله الواضحة، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون. [(وقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِالله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)] 50 - 52 [ قرئ: (آية) و (آيات) أرادوا: هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام، ونحو ذلك (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ الله) ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول: أنزل علىّ آية كذا دون آية كذا، مع علمى أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آيةٍ واحدةٍ في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أناجيلُهم)): هي جمعُ إنْجِيلٍ، وهي اسمُ كتابِ الله المنزَّلِ على عيسى- صلواتُ الله عليه- وهو عِبْرانيٌّ وسُريانيٌّ، وقيل: عربيٌّ، يريد أنَّهم يقرؤون كتابَ الله عن ظَهْر قُلوبِهم، ويَجمعُونَه في صُدورِهم حِفْظًا. وفي روايةٍ: ((وأَناجِيلُهم في صُدورِهم))؛ أي: كتبهم محفوظة فيها. ورُويَ في بعض كُتب التَّفسير في الكتابَينِ في صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِه: يجتزئ بالبُلْغَةِ، ويَلْبَسُ الشَّمْلَةَ مع عَصَابَةٍ، وأَناجِيلُهم في صُدُورِهم. ورُويَ في بعض كتب التفسير: ((وقَرابينهُم من نُفوسِهم)). قوله: (قرئ: ((آيةٌ))، و {آيَاتٌ})، ((آيةٌ)): ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون: {آيَاتٌ}.

ذلك، ثم قال: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ) آيةً مغنيةً عن سائر الآيات -إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكاٍن وزمان فلا يزال معهم آيةً ثابتةً لا تزول ولا تضمحلّ. كما تزول كل آيةٍ بعد كونها، وتكون في مكاٍن دون مكان. إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكاٍن وزماٍن إلى آخر الدهر (لَرَحْمَةً): لنعمةً عظيمةً لا تشكر، وتذكرةً (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقيل: أو لم يكفهم، يعني: اليهود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا القرآنُ الذي تَدُوم تلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ) إلى آخره، هذه المُبالَغاتُ إنَّما نَشأتْ من وضع {إِنَّا أَنزَلِنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} موضعَ ((القرآنِ))؛ لأنَّه مشتملٌ على صيغة التَّعظيمِ، فدلَّ على عظمة المنزَّل، واللاّم في {اَلْكِتَابَ} للجنس، فدلَّ على الكمالِ، أو للعهد فدلَّ على ما عُرف واشتُهر في البلاغة. ثم في استئنافِ {يُتْلَى} وتَخصِيصِه بالمضارع وجَعْلِه علَّةً للمنزَّل الدلالةُ على الاستمرار زمانًا ومكانًا، وإليه الإشارةُ بقوله: ((هذا القرآن الذي تَدُوم تِلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ وزمانٍ))، ثم تعليل الجملة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} تَتْمِيمٌ لذلك المعنى. قوله: (إنَّ في مِثْل هذه الآيةِ الموجودةِ) المِثْلُ: يُستعمل كنايةً عن ذات الشَّيء إذا كان متَّصفًا بأوصافٍ يَشترك فيها غيرُه تحقيقًا أو فرضًا، وهاهنا لمّا وَصَف القرآنَ بتلك الصفاتِ الفائقةِ وعقَّب بقوله ذلك لِيُستحضرَ بجميع صفاتِه، وآذَنَ بأنَّ القرآنَ جديرٌ بأنْ يكونَ رحمةً وذِكْرى، لِمَا له تلك الخِصَالُ الكاملةُ على سبيل التَّعليل. والقولِ الكُلِّيّ، حَسُنَ أن يُقالَ: إنَّ في مثل هذه الآيةِ كذا وكذا، ونَظيرُه في الكناية قولُهم: العَربُ لا تَخْفِرُ الذّْمَمَ. قوله: ({لَرَحْمَةً} لَنِعْمَةً عظيمةً لا تُشْكَرُ) يُريد: أَنَّ التَّتكيرَ في {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} للتَّعظيم، وأنَّها رحمة لا يُقادَرُ قَدْرُها، وتَذكرةٌ؛ أي: تَذْكرة للمؤمنينَ. وفيه تعريضٌ بمَن لم يَرفعْ به رأسًا، ويقترحُ آياتٍ غيرَها، لا نِسْبةَ بينَها وبينَها، يعني: أَوْلَيناهُم تلكَ النِّعمةَ المُتكاثِرةَ الفوائدِ لِيَشْكُروها ويَعْرفوا حقَّها بأنْ يؤمنوا، وهم عَكَسوا وكَفَروا بها وقالوا: لولا نُزِّل عليه آيةٌ.

أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. وقيل: إنّ ناسًا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتٍف قد كتبوا فيها بعض ما تقول اليهود، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوٍم أو ضلالة قوٍم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، فنزلت. والوجه: ما ذكرناه. (كَفى بِالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وأنكم قابلتمونى بالجحد والتكذيب، (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مطلع على أمرى وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) منكم، وهو ما تعبدون من دون الله (وَكَفَرُوا بِالله) وآياته (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون في صفقتهم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنَّ ناسًا منَ المسلمينَ) الحديثَ، من رواية الدارميِّ عن يَحيى بنِ جَعْدةَ قال: أُتَي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكَتِفٍ فيه كتابٌ، فقال: ((كفى بقومٍ ضَلاَلاً أنْ يَرْغَبُوا عمّا جاء به نَبيُّهم، إلى ما جاء بع غيرُ نَبيِّهم، أو كتابٍ غيرِ كتابِهم))، فأَنزلَ اللهُ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} الآيةَ. قوله: (والوَجْهُ ما ذَكَرِنا) أي: المعنى: أوَلَم يَكْفِهِم آيةٌ مُغْنيةٌ عن سائر الآياتِ؟ لأنَّه لا يلزمُ منَ الوَجْه الثاني كَوْنُه معجزةً بالغةً حَدَّ الإعجازِ والكَمالِ، ومِنَ الثالث كَونُه معجزةً أصلاً، والكلامُ في المُعجِزَة كقولهم: ((لولا أُنزل عليه آيةٌ))، يدلُّ عليه ما في ((المعالم)) و ((المطلع)): هذا جوابٌ لقولهم: ((لولا أُنزِلَت عليه آيةٌ من ربِّه)). قوله: (المَغْبُونونَ في صَفْقَتِهم) إشارةٌ إلى أنَّ قولَه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ} استعارةٌ للاشتراء والبيع تقديرًا، و {الْخَاسِرُونَ} قرينةٌ للاستعارة، فإنَّ الخُسْرانَ لا يُستعمل حقيقةً إلاّ في التِّجارة المُتعارَفةِ. شَبَّه استبدالَ الكُفرِ بالإيمان المُستَلْزِمِ للعقابِ بالاشتراء المُستَلْزِمِ للخُسْرانِ.

حيث اشتروا الكفر بالإيمان، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف، كقوله: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] سبأ: 24 [، وكقول حسان: فشر كما لخير كما الفداء وروى أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد، من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلاَّ أنَّ الكلامَ وَرَدَ مَوْرِدَ الإنصافِ) أي: على أُسلوبِ الاستدراج والكلامِ المُنْصِفِ، وذلك أنَّ قولَه: {قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ} الآيةَ كلامٌ فيه وَعيدٌ شديدٌ، وتهديدٌ عظيمٌ، لكن لم يُكافِحْ به مَنْ خُوطِبَ بأنْ لم يَقُلْ: والذين آمنوا بالباطلِ منكم، بل جيءَ به عامًّا على الغَيْبةِ، ولم يُصرِّحْ بما كان منهم من الجَحْد والتَّكذيبِ ليتفكَّروا فيه، ويَنظُروا: هل هم منَ الجاحِدينَ للحقِّ أو مِنَ المُنصِفِينَ، أو مِنَ الذين آمنوا بالله وكَفَروا بالطَّاغوتِ أو خلافِه، أو كانوا مُحِقِّينَ أو مُبْطِلِينَ؟ فحينئذٍ يُنْصَفُون من أنفُسِهم ويُذعنون للحقِّ، كما أنَّ حسّانَ وَبَّخ المخاطَبَ في صَدر البيت بقولِه: أتَهْجُوهُ ولستَ له بكُفْءٍ ثم أَبرزَ الكلامَ على الإنصافِ حيث لم يُبَيِّنِ الشِّريرَ والخَيِّرَ بقوله: فشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ فقولُه: ((إلا أنَّ الكلام وَرَد)) متعلِّقٌ بقوله: ((فهو مُطَّلِعٌ على أَمْري)) إلى آخِره؛ يعني: كان مِنْ ظاهرِ ما يَقتضيه الكلامُ أنْ يُقالَ: عالمٌ بحَقِّي وباطِلِكُم، والذين آمنُوا بالباطِلِ منكم، إلى آخِره، ولكنَّ الكلامَ وَرَدَ مَورِدَ الإنصافِ. قوله: (من يشهد لك بأنَّك رسولُ الله؟ فنَزلتْ) أي: قولُه: {قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}.

[(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَاتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 53 - 55 [ كان استعجال العذاب استهزاًء منهم وتكذيبًا، والنضر بن الحارث هو الذي قال: اللهم أمطر علينا حجارةً من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: (فأسقط علينا كسفا من السماء)] الشعراء: 187 [. (وَلَوْلا أَجَلٌ) قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلًا. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روى أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة. وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم، (لَمُحِيطَةٌ) أى: ستحيط بهم (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أو هي محيطة بهم في الدنيا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإنْ قلتَ: كيف الجمعُ بين هذا وبينَ قولِه تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ} [البقرة: 23]؟ لا تَسْتَشْهِدُوا بالله، ولا تقولوا: اللهُ يَشهدُ أنَّ ما نَدَّعِيه حقٌّ، كما يقولُه العاجِزُ عن إقامة البَيِّنةِ. قلت: المراد بالشَّهيد في هذه الآية: إظهارُ المُعجزةِ القاهرة على يَدِه، وإنزالُ هذا الكتاب الذي لا يزال معه آيةً ثابتةً في كلِّ مكانٍ وكلِّ زمانٍ يَشهدُ بذِلك الآيةُ السابقةُ. قوله: ({لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلاً) يدلُّ على هذا المقدَّر قولُه: {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى}، وقولُه: {وَلَيَاتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} عطفٌ تفسيريٌّ على {لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}؛ نحو: أَعجَبَني زيدٌ وكرمُه. قوله: (أي: سَتُحيطُ بهم) أي: أصلُ الكلامِ هذا، ولكن جيءَ بالجملة الاسميَّةِ مؤكَّدةً باللاّم، و ((إنَّ)) لِيُؤذنَ بأنَّ إخبارَ الله عن الكائنِ واقعٌ البَتَّةَ، لِصِدْق وَعْدِه ووَعيدِه؛ نحو قولِه تعالى: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1]، وعلى هذا: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} منصوبٌ بـ ((مُحِيطةٌ)). قوله: (أو هي مُحِيطةٌ بهم في الدُّنيا) تُنزَّلُ إحاطةُ أسبابِ العذابِ بهم منَ الكُفر والمعاصي

لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو: لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم. و (يَوْمَ يَغْشاهُمُ) على هذا منصوب بمضمر، أى: يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)] الزمر: 16 [، وَ (يَقُولُ) قرئ بالنون والياء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى: جزاءه. [(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)] 56 [ معنى الآية: أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلٍد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلٍد يقدّر أنه فيه أسلم قلبًا وأصح دينًا وأكثر عبادةً وأحسن خشوعًا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جرّبنا وجرّب أوّلونا، فلم نجد فيما درنا وداروا أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة، وأجمع للقلب المتلفت، وأضم للهم المنتشر، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من كثير من الفتن، وأضبط للأمر الديني في الجملة؛ من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منزلةَ إحاطةِ العذاب نَفْسِه؛ إطلاقًا لاسم المسبَّب على السَّببِ. قوله: (أو لأنَّها مآلُهم ومَرْجِعُهم لا مَحالَة) يريد أنَّ ((ما)) للوُقوع كالواقعِ لِتَظاهُرِ أسبابِه؛ نحو: مُتْ، وهو من باب المَجازِ باعتبار ما يَؤُولُ. قوله: (كَيْتَ وكَيْتَ) كنايةٌ عمّا يَقْصُر الوَصفُ عن بَيانِه؛ أي: حَدَثَ ووَقَع أمرٌ عظيمٌ، وخَطْبٌ جَسيمٌ، منَ الانتقام منَ المستهزئين وقَهْرِ المُكذِّبينَ، وتَشَفِّي غَليلِ المؤمنينَ، إلى غير ذلك، ولو قيل: واذكُرْ يومَ يغشاهُم، لم يُفِدْ هذه الفوائدَ. قوله: ({وَيَقُولُ} قُرئ بالنُّونِ والياءِ) بالنُّون: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو وابنُ عامر، والباقون: بالياء.

الشكر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرٍض إلى أرٍض وإن كان شبرًا من الأرض؛ استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» وقيل: هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)] النساء: 97 [وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة، (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) في المتكلم، نحو: إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير: فإياى فاعبدوا فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في (فَاعْبُدُونِ) وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف؛ لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإيّاكَ عَضَّتْكَ) بالعين المُهملة والضّادِ المُعجَمةِ، والفاعلُ مقدَّرٌ، وهو الحربُ، ((وإيّاك)) منصوبٌ على شَرِيطة التَّفسير. الأساس: مِنَ المُستعار: عَضَّه الأمرُ: اشتدَّ عليه، وعضَّتْهُ الحربُ. قوله: (فإيّايَ فاعبُدوا فاعْبُدون)، يُريد أنَّ ((إيايَ)) لا يجوزُ أن يكون مَعْمولاً لهذا المَذْكورِ؛ لأنَّه اشتَغَل عنه بضَميرِه، فوَجَب تقديرُ مُفسِّرٍ، وهو قولُه: ((فاعبُدوا)) وهو العاملُ في ((إيّايَ))، والفاءُ الأُولى جوابُ شرطٍ محذوفٍ والثانية كذلك، لكن أُنِيبَ مَنابَه تقدُّمُ المفعول، المعنى: يا عبادي إنَّ أرضي واسعةٌ. وإذا كان كذلك فأَخْلِصُوا لي العبادةَ أينما كنتُم، فإنْ لم تَتمكَّنوا منَ الإخلاص في أرضٍ تَتمكَّنون منه فيها. قال الزَّجاجُ: ((إيّايَ)) منصوبٌ بفعل مضمَرٍ يُفسِّرُه الظّاهرُ؛ أي: فاعبُدوا إيّايَ فاعبدوني، ولا يجوز انتصابه بالمذكور؛ لأنه مشغول بالضمير. وإذا قلت: ((فإيّايَ فاعبُدوا)) فـ ((إيّايَ)) منصوبٌ بما بعدَ الفاءِ، ولا تَنصبه بفعل مُضمَرٍ، كما إذا قلتَ: بزيدٍ فامْرُرْ، فالباء متعلِّقة بـ ((امْرُرْ))، وإذا قلتَ: زيدًا فاضربْ، فالفاء لا يَصلُح إلا أن تكونَ جوابًا للشَّرط، كأن قائلاً قال: أنا لا أضربُ عمرًا، ولكنّني أضربُ زيدًا. ثم قلتَ: زيدًا فاضْرِبْ، فجعلتَ تقديمَ الاسم بَدَلاً من لفظك بالشَّرطِ، كأنك قلت: إذا كان الأمر على ما قَصَدتَ فاضرِبْ زيدًا. هذا مذهبُ جميع البَصريِّينَ.

أرٍض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. [(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)] 57 [ لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت، أتبعه قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أى: واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم حَذِفَ الشرطُ وعُوِّضَ مِنْ حَذْفِه تقديمُ المفعولِ، مع إفادةِ تَقْديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاص) يعني: لمّا حُذف الشَّرطُ لدلالة الفاعليَّةِ، وعند الحَذْف خَفِيَ أمرُ المقدَّرِ أنَّه مِنْ أيِّ جنسٍ هو، فعُوِّض من ذِكْره تقديمُ المفعولِ معَ إفادةِ تَقْديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ، يعني: لمّا حُذف لدلالة الفاعليَّةِ وعندَ الحَذْفِ خَفِيَ أمر المقدَّر أنَّه من أيِّ جنس هو فعوض من ذِكْره تقديمُ المفعولِ، فإنَّه يُفيد الإخلاصَ ضِمْنًا لدلالتِه على الاختصاصِ، والاختصاصً والإخلاصُ من وادٍ واحدٍ، وإنّما أَخَّرْنا المفسَّرَ على المنصوبِ ليُفيدَ الاختصاصَ لاقتِضَاء المَقام، وهو قولُه: ((لأنَّ أَمْرَ دِينِهم ما كان يَسْتَتِبُّ لهم بينَ ظَهْرانَيِ الكَفَرة)). قوله: (وإنْ شَسَعَتْ) أي: بَعُدَتْ. الأساس: سَفَرٌ شاسِعٌ، وقد شَسِعَ شُسُوعًا. قوله: (كما يَجِدُ الذائقُ طَعْمَ المَذُوقِ)، الراغب: الذَّوْقُ: وُجودُ الطَّعم بالفَمِ، وأصلُه فيما يَقِلُّ تَناولُه دُونَ ما يَكْثُر منه، فإنَّه يُقال له الأكلُ، واخْتِيرَ في القرآن لفظُ الذَّوْقِ في العذابِ؛ لأنَّ ذلك- وإن كان في التَّعارُفِ للقليل- فهو مُسْتَصْلَحٌ للكثير، فخَصَّه بالذِّكر لِيَعُمَّ الأمرَينِ، وكَثُرَ استعمالُه في العذاب نحو: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]؛ وقد جاء في الرَّحمةِ؛ نحوُ {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9].

ومعناه: إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده. [(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)] 58 - 59 [ (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ) علالي. وقرئ: (لنثوّينهم) من الثواء، وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: إنَّكم مَيِّتون فواصِلُون إلى الجزاء) فإنْ قلتَ: لِمَ خالَفَ التِّلاوةَ حيث أَتى بالفاء، وفيها ((ثم))، وشَتّانَ ما بينَهما؟ قلت: الفاءُ الكاشفيَّةُ فَصيحةٌ، وليست للتَّعقيبِ المذكورِ؛ لأنَّ بينَ الموتِ والمُثُولِ بَيْن يَدَي المَلِكِ الجبّارِ في دار الجزاء تَراخِيًا؛ ولهذا جيءَ في التَّنزيل بـ ((ثُمَّ))، كأنَّه قيل: ثمَّ إنَّكم مَيِّتون فتُقبرون، ثم تُنشَرون فواصِلُون عَقِيبَه إلى الجزاء؛ كقوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. وفائدةُ العُدُولِ الإشعارُ بأنَّ ما هو آتٍ أت، كأنَّ مَنْ مات فقد قامَت قيامتُه، وتَرتَّب عليه الجزاءُ على نحوِ ما مرَّ في قوله: {وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ}. ويُمكن أن تُحملَ ((ثُمَّ)) على التَّراخي في الرُّتبة، المعنى: يا عبادي الذين آمنُوا، إنْ يَصْعُب عليكم مُفارقةُ الأَوطانِ والهِجْرةُ إلى دار الغُربة للتَّخلِّي لعبادتي، فاعلَمُوا أنَّ الفُرْقَةَ العُظمى -وهي الموت- لابدَّ منها؛ لأنَّها مكتوبةٌ على كلِّ نَفْسٍ، ثُمَّ أصعبُ منها الحصولُ في دار الجزاء بَين يَدَي جبّار السَّماواتِ والأرضِ، يومَ نَضَع الموازينَ القِسْطَ، يومَ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، ومَن كانت عاقبتُه هذه لم يكنْ له بُدٌّ من التَّزوُّد لها وأخْذِ الأُهْبَةِ لها بمَجْهُوده. قوله: (لَنُثوِيَنَّهُم) حمزةُ والكسائيُّ: بالثاء، مِنَ الثَّواءِ، وهي الإقامةُ؛ ساكنة من غير همز، والباقون: بالباء مفتوحة مع الهمزِ.

النزول للإقامة. يقال: ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى: غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولًا واحدًا، نحو: ذهب، وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم. أو حذف الجار وإيصال الفعل: أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. وقرأ يحيى بن وثاب: (فنعم)، بزيادة الفاء (الَّذِينَ صَبَرُوا) على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله. [(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)] 60 [ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة. فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدةً ليست لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفٍس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تطيق أن تحمله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال مَكِّيٌّ: من قرأ بالثاء المثلَّثة من الثَّواء فـ {غُرَفًا} منصوبٌ بحَذْف حرف الجرِّ؛ لأنَّه لا يتعدَّى إلى مفعولين. ولا يَحسُن أن يُنصبَ ((الغُرَف)) على الظَّرف؛ لأنَّ الفعل لا يتعدَّى إلى مفعولَينِ، يقول: بَوَّاتُ زيدًا منزلاً. وأما قوله: {وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، فاللاّم زائدةٌ كزيادتها في {رَدِفِ لَكُم} [النمل: 72] أي: رَدِفَكُم. قوله: (أو تَشبيهُ الظَّرفِ المؤقَّتِ بالمُبْهَمِ) أي: المعيَّنِ المَحْدودِ، وهذا أسْهَلُ في المُنكَّر منه في المُعرَّف في قول القائل: كما عَسَل الطَّريقَ الثَّعلَبُ لِمَا فيها منَ الإبهام، ومثل {غُرَفًا} في مجيئه ظرفًا منكرًا ((أرضًا)) في قوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9]. في ((المطلع)).

لضعفها عن حمله (الله يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أى: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: لا يرزق تلك الدَّوابَّ الضِّعافَ إلا الله) هذا الحَصْرُ مُستفادٌ من بناء {يَرْزُقُهَا} على الاسم الجامع، ومثل هذا التَّركيبِ يُفيدُ التَّخصيصً عنده كما مرَّ في ((سورة الرعد)) عند قوله تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِزْقَ} [الرعد: 26]. قوله: {وَإيَّاكُمْ} تتميم ومبالغة لمعنى الرازقية في قوله: {اللهُ يَرزُقُهَا}، ومِنْ ثَمَّ قال: ((ولا يَرزُقكُم أيضًا أيُّها الأقوياءُ إلاّ هو وإن كنتم مُطِيقينَ))، ويُمكن أن يُستنبَطَ معنى التَّخصيص من مَضْمون الكلامِ، وذلك أنَّه تعالى ما حَرَّض المؤمنينَ على المُهاجِرَةِ بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} إلى قوله: {كَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} إلاّ وأنَّهم اعتَقَدوا الضَّياعَ وخافوا الفقرَ، يَدلُّ عليه قولُه تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}. وتأويلُ المصنِّف {وَهُوَ السَّمِيعُ} لقولكم: نخشى الفقرَ والضَّيعةَ، {العَلِيمُ} بما في ضمائركم، فمعنى قولِه تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، أي: إنْ كان أمرُ دينِكُم لا يَسْتَتِبُّ بينَ الكَفَرةِ، فاعلَموا أنَّ أرضي واسعةٌ، فهاجروا إلى ما يَتَمكَّنُ فيه لكم ذلك الأمرُ. وفي لفظ {وَاسِعَةٌ} إشعارٌ بالوَعد من الضِّيق إلى السَّعَة، وقد أنجَزَ اللهُ وَعْدَه في المدينة. ولما أراد الوَعْدَ بالتَّوسعةِ في الآخرةِ والتَّسليةِ عن مُفارقَةِ الوطنِ قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وعقَّبَه بقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وبَنىَ عليه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ} ولمّا أَتمَّ أمرَ التَّسليةِ في مُفارقةِ الأوطان وأراد أن يُزيلَ عنهم خوفَ الفقرِ أتى بقوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}؛ ليكونَ كالتَّخلُّصِ من حديث التَّوسعةِ في الأَمكِنَةِ إلى حديث التَّوسعةِ في الرِّزق، وهو قولُه: {كَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}. ومِنْ ثَمَّ فسَّر المصنِّف الصَّبْرَ بقوله: ((صَبَروا على مُفارَقَة الأوطانِ))، فيكون هذا الكلامُ نفيًا لِمَا أَضْمَرُوا في أنفُسِهم من استشعارِ الخوفِ على الفقرِ إذا فارَقُوا أوطانَهم، وإثباتًا

ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن: (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تدّخره، إنما تصبح فيرزقها الله. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة. وعن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم: نخشى الفقر والضيعة، (الْعَلِيمُ) بما في ضمائركم. [(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)] 61 [ الضمير في (سَأَلْتَهُمْ) لأهل مكة، (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لِرازقيَّةِ الله تعالى على التَّوكيد البَليغِ، فيحصلُ الحَصْرُ من معنى نَفْي مُعتَقَدِهم وإثباتِ ما يُخالِفُه. قوله: (لو لم يُقْدِرْكُم ولم يقدِّرْ لكم)، أَقْدَرَهُ: جَعَلَه قادرًا، وقدَّره له: هَيّأهُ له، وهذا المعنى إنّما استُفِيدَ من عطفِ ((إيّاكم)) على ضمير الدَّوابِّ، وأنَّهم مشتركونَ معها في العَجْزِ. قوله: (في حِضْنَيهِ)، الأساس: الحِضْنُ: ما دُون الإبطِ إلى الكَشْحِ، حَضَنتِ المرأةُ وَلدَها، والحمامةُ بيضَها ومِحْضَنَةُ الحمامةِ، شِبْه قَصعتَينِ مُرَوَّحتينِ تُعمل من الطِّينِ. قوله: (فكيف يُصرفونَ عن توحيدِ الله)، الجوهريُّ: صَرَفْتُ الرَّجلَ عنِّي فانصَرَفَ، وصَرَف اللهُ عنك الأَذى. و((أن لا يشركوا به)) عطفٌ على سبيل التَّفسير على قوله: ((تَوْحيدِ اللهِ))، و ((معَ إقرارِهم)) حالٌ من فاعل ((يُصْرَفون)).

[(الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)] 62 [ قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه. فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله: (وَيَقْدِرُ لَهُ) هو: من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الفاءَ في {فَأَنَّى} جوابُ شرطٍ محذوفٌ مقدَّرٌ بعد جوابِ القَسَمِ السادِّ مَسَدَّ جواب الشَّرطِ، وهو: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}؛ أي: إذا كان جوابُهم عن قولِه: {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}، والاستفهامُ ولَّد التَّعجُّبُ، يعني: كيف يُمنَعون عنِ التَّوحيدِ وهُم مُقِرُّون بأنَّه خالقُ السَّماواتِ. قوله: (قَدَرَ الرِّزقَ وقَتَرَه) هذه الآيةُ- أعني قولَه: {للَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} -تكميلٌ لمعنى قولِه: {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}، لأنَّ الأوَّلَ الكلامُ في المَرْزُوقِ وعُمومِه، وهذا في الرِّزقِ وبَسْطِه وقَتْرِه. وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مُعتَرِضٌ لتوكيدِ معنى الآيتينِ، وتَعرُّضٌ بأنَّ الذين اعتَمدتُم عليهم في الرِّزق مقرِّونٌ بقُدرتِنا؛ كقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]. قوله: (الذي رجع إليه الضَّميرُ) يعني: إنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله عائد إلى ((مَنْ))، فيَلْزمُ منه أن يَجعلَ القَبْضَ والبَسْطَ لواحدٍ. وأجاب أن الضَّميرَ غيرُ عائدٍ إلى ((مَنْ))، بل وَضعَ موضعَ ((من يشاء))، بجامع كونهما مبهمتين فيتعدد المرزوق، ويجوز أن يرجع إلى ((من))، ويُرادَ به شخصٌ واحد، فيتعدد بحَسْبِ أحواله فيبسطُ له تارةً ويُقدِّر له أخرى. وقلت: يمكنُ أن يرجعَ إلى ((مَنْ))، ويرادَ به العمومُ بدليل بيانِه بقوله: {مِنْ عِبَادِهِ}، فيكونَ التعددُ بحَسبِ أشخاصِه، فالمعنى: إنَّ الله يبسطُ رزقَ بعضٍ ويُقدِّرُ رزْقَ بعضٍ، كما يقول: أكرمْتُ بني تميمٍ وأهنتُهم، ويريد البعضَ بقرينةِ المقام.

يحتمل الوجهين جميعًا: أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع "من يشاء"؛ لأن "مَنْ يَشاءُ" مبهم غير معين، فكان الضمير مبهمًا مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحٍد على حسب المصلحة (إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم. [(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)] 63 [ استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقرارًا عاطلًا كإقرار المشركين؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم؛ حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم، ثم قال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو: لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحتمل الوجهين جميعًا) اللام للعهد؛ أي: الوجهين المذكورين في السؤال منطوقًا ومفهومًا؛ لأن قوله: ((فكأنَّ بَسْطَ الرزقِ وقَدْرَه جعلا لواحد))، والحال أنهما للاثنين. قوله: (استحمدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) أي: طلب منه أن يحمده. الأساس: واستحمدَ الله على خلقِهك بإحسانِه إليهم وإنعامه عليهم. قوله: ({بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ما يقولون) هذا مبنيٌّ على الوجه الثاني، وهو أنهم أقروا بما هو حُجّةٌ عليهم، وقوله: أو لا يعقلون ما تريد، بينيٌّ على الوجهِ الأول، وهو قوله: ((إنه أقر بنحو ما أقروا به)، والأول أظهر لمُقْتضى بل من الترقي، كأنه قيل: احمَدِ الله على ما أقروا بما هو حُجّةٌ عليهم، وعلى تبكيتِهم وإلزامِهم، بل على جهلهم، وأن ما قالوه دلّ على سَلْبِ عقولهم.

[(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)] 64 [ (هذِهِ) فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة، يريد: ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعةً ثم يتفرقون. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أى: ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان: مصدر "حي"، وقياسه حييان، فقلبت الياء الثانية واوًا، كما قالوا: حيوة، في اسم رجل، وبه سمى ما فيه حياة: حيوانًا. قالوا: اشتر من الموتان ولا تشتر من الحيوان. وفي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي لا تزِنُ عنده جناحَ بعوضة) مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)). أخرجه الترمذي عن سهل بن سعد. قوله: (وقياسه: حَيَيان) قال أبو البقاء: فقُلبت الياءُ واوًا؛ لئلا يلتَبسَ بالتثنية، ولم يَقلب الفاء لتحرُّكِها وانتفاحِ ما قبلها؛ لئلا يحذف أحد الألفين. قوله: (وبه سُمِّيَ ما فيه حياةٌ: حيوانًا) قال صاحب ((الكشف)): أما قولهم: الحيوان للنفس، فإنه في الأصل مصدر، وسمي به الشخص على تقدير أنه ذو الحياة. قوله: (اشْتَر من المَوَتان)، الجوهري: الموتَانِ بالتحريكِ خلافُ الحيوان؛ أي: اشْترِ الأرضِينَ والدورَ، ولا تشتر الرقيقَ والدوَاب. والنَّزَوان من نزا نزوانًا، ونزا الذكر على الأنثى نِزا بالكسر، يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع. والنفَضان: التحرك، نفضَ رأسَه ينفضُ نفضًا ونفوضًا. واللَّهَبان بالتحريك: إيقاد النار، وكذلك اللهيبُ واللُّهبان بالضم.

بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنفضان واللهبان، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناٍء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ): فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها. [(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)] 65 - 66 [ فإن قلت: بم اتصل قوله (فَإِذا رَكِبُوا)؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كائنين في صورة من يخلص الدين لله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع) أي: لما فيه من المبالغة اختيرت، وأن المقام يقتضي المبالغة؛ لأنه واقع في مقابل حياة الدنيا، فكما بولغَ في قلّةِ ثباتها وسرعة تقضيها حيث جعلت لهوًا ولعبًا تشبيهًا بلعب الصبيان، يلعبون ساعة ثم يتفرقون؛ بولغ في دوامها وثباتها، كما قال: ((ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة .... فكأنها في ذاتها حياة)). قوله: (هم على ما وُصِفوا به من الشرك والعناد {فَإِذَا رَكِبُوا}، يريد: أن الفاء للتعقيب، وفي الكلام معنى الغاية، كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} إلى قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22]، يعني: هم مصروفون عن توحيد الله مع إقرارِهم بأنه الخالقُ مُقِرّون بما هو حجة عليهم في قولهم {لَيَقُولُنَّ اللهُ} حين سئلوا {مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ} لاهون بالدنيا، مشتغلون بما هو في وشك الزوال، ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك فحينئذ يرجعون إلى أنفسِهم داعين خاضعينَ مُخلصين له الدين. يدل على هذا الترتيب قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا}، فإنه نَشْرٌ لمضمون

من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلهًا آخر. وفي تسميتهم مخلصين ضرب من التهكم، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وآمنوا عادوا إلى حال الشرك: واللام في (لِيَكْفُرُوا) محتملة أن تكون لام "كى"، وكذلك في (وَلِيَتَمَتَّعُوا) فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعةً إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر، وقراءة من قرأ: (وليتمتعوا) بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى: (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)] فصلت: 40 [. فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناهٍ عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية. ومثاله أن ترى الرجل قد عزم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآيات السابقة من الشرك الذي بَيَّنَ عنه قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ومن التمتع بالدنيا المُومَأ إليه بقوله: {مَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}. قوله: (من قرأ: ((وَلْيَتَمتَّعُوا)) بالسكون) ابن كثير وقالون وحمزة والكسائي، والباقون: بكسر اللام. قال مكي: مَنْ كَسرها جَعلَها لام ((كي))، ويجوز أن يكون لام أمر، ومن أسكنَها فهي لامُ أمرٍ لا غير. ولا يجوز أن يكون مع الإسكان لام ((كي))، لأنّ لام ((كيْ)) حُذِفَتْ بعدها ((أن))، فلا يجوزُ حذْفُ حركتِها أيضًا لضعفِ عواملِ الأفعال. قوله: ({اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَت: 40])، فالأمر للتهديد. قوله: (مُتسخَّط)، الأساس: سَخِط عليه سُخْطًا، وهو مَسْخوطٌ عليه، وأسخطه: أعطاه قليلاً، فَتسخَّطه: لم يرضه، والبِرُّ مَرضاة للربِّ مَسْخَطةٌ للشيطان، ولا يَتعرّضُ لسُخْطةِ الملك.

على أمر، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى إلى ضرٍر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم، حردت عليه وقلت: أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر. وكيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة، فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت وتبعث عليه، ليتبين لك إذا فعلت صحة رأى الناصح وفساد رأيك. [(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ)] 67 [ كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضًا، ويتغاورون، ويتناهبون، وأهل مكة قارّون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة، وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده، مكفورة عندهم. [(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)] 68 [ افتراؤهم على الله كذبًا: زعمهم أن لله شريكًا. وتكذيبهم بما جاءهم من الحق: كفرهم بالرسول والكتاب. وفي قوله: (لَمَّا جاءَهُ) تسفيه لهم، يعني: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والآمِرُ بالشيء مريدٌ له) يعني: أمر الكافر بالإيمان، فلا يكون مريدًا للكفر منه. هذا مذهبه. وعند أهل السنة: يجوز أن يكون الأمر على خلاف المراد؛ لأن الله تعالى أمر فرعون بالإيمان ولم يرد منه إلا الكفر. قوله: (وتُبعَثُ عليه)، الأساس: بعثه على الأمر، وتباعثوا عليه.

لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور: يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر. ويستأنون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه، (أَلَيْسَ) تقرير لثوائهم في جهنم، كقوله: ألستم خير من ركب المطايا قال بعضهم: ولو كان استفهامًا ما أعطاه الخليفة مئةً من الإبل. وحقيقته: أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير، فهما وجهان، أحدهما: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يَتَلَعثَموا)، الجوهري: أبو زيد: تلعثم الرجل في الأمر: إذا مكث فيه وتأني. وقال الخليل: نكل عنه وتبصَّر. قوله: (المراجيح العقول)، ومن المجاز: رجل راجح العقل، وفلان في عقله رجاحة، وفي خُلقه سَجاحة. قوله: (ويَسْتَأنون)، تأني في الأمر واستأنى، يقال: تأنَّ في أمرك: اتَّئِد، واستأنيت فلانًا: لم أعجله، واستأنى: رفق. في ((الأساس)). هذا كُله معنى {لَمَّا} في {لَمَّا جَاءَهُ} قوله: (ألستُم خيرَ مَن ركبَ المَطايا)، تمامه: وأندى العالمين بطونَ راح يقال: نَدِيَتْ كفُّه بكذا؛ أي: جادت، يعني أكثرهم عطاء. قيل لما مدح الشاعر الخليفة بهذه القصيدة وبلغ البيت متكئًا فاستوى جالسًا فرحًا، وقال: مَنْ مَدحَنا فليمْدَحْنا هكذا، وأعطاه مئة من الإبل. قوله: (وفيها وجهان) ويروي: ((فهما)) بغير واو. قيل: ضميرُ التثنية مُبْهَمٌ فُسِّرَ بقوله: ((وجهان))، كقوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، فقوله: ((وألا

ألا يثوون في جهنم، وألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟ . [(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)] 69 [ أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول؛ ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، (فِينا) في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستوجبون الثواءَ فيها وقد افتروا)) هذا مستفاد من جعل التعريف في ((الكافرين)) للعهد، وتنزيله منزلة المضمر إشعارًا بالعِلّيّة. قوله: (والثاني: ألم يصحَّ عندهم أن في جهنم مثوىً للكافرين) على أن التعريف للجنس، فيلزم منه إدخالهم في ذلك الحكم بطريق برهاني. قوله: ({فِينَا} في حَقِّنا ومن أجلِنا ولوَجهنا) أكّد تفسيرَ ((فينا)) وترقّي فيه، وذلك لاستعمالِ ((في)) وإدخالها على صيغةِ التعظيم، كأنه أريد أنّ حَقيقة المجاهدة مكانُها ومستقَرّها أن تكونَ في الله وفي ذاته لا يتجَزّأُ منها شيءٌ إلى مكانٍ آخر، وهو كناية إيمائية. قال خُبيبٌ الأنصاريُّ المقتول صَبْرًا: فلستُ أبالي حين أُقتلُ مُسلمًا ... على أيِّ شِقٍّ كان لله مَصْرعي وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشَا ... يُباركْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمزَّع الممزَّع: المُفرَّق، والمقسَّم والشِّلْوُ: العضْوُ، وحديثُه بطولهِ مذكور في ((صحيح البخاري)) و ((سنن أبي داود)) عن أبي هريرة. ألا ترى كيف أظهَر الإخلاصَ حتى علّق البركةَ بالمشيئة. وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: المجاهدةُ صدقُ الافتقارِ، وهو انفصالُ العبدِ من نفسهِ واتصالُه بربه. وقال: من جاهَد بنفسِه لنفسِه وصلَ إلى كرامةِ ربه، ومن جاهد بنفسهِ لربِه وصل إلى ربه.

(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) لنزيدنهم هدايةً إلى سبل الخير وتوفيقًا، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)] محمد: 17 [، وعن أبى سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) لناصرهم ومعينهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مَنْ عمِلَ بما يعلمُ وُفِّق لما لا يعلم) مثله قولهم: العلم علمان: علم وراثةٍ وعلمُ دراسة، العارفون صدقَتْ مجاهداتهم فنالوا علومَ الدراسة، العارفون صدقَتْ مجاهداتهم فنالوا علومَ الدراسة، وصفَتْ معاملتُهم فمُنحوا علم الوارثة. قوله: ({لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} لَناصِرُهم ومعينهم)، أفادت النصرةَ المعيّةُ فطابق {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} لَناصِرُهم ومعينهم)، أفادت النصرةَ المعيّةُ فطابق {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. قوله: {جَاهَدُوا} لفظًا ومعنى، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى معين وناصر، ثم إن جملة قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} تذييلٌ للآية مؤكَّدٌ بكلمَتي التوكيد، محكيٌّ باسم الذات؛ ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشرهِ في ذاته تجلَّى له الربُّ عن اسمهِ باسمهِ الجامع في صفةِ النصرة والإعانةِ تجليًّا تامًّا. هذه خاتمةٌ شريفةٌ للسورة؛ لأنها مجاوبةٌ لمُفتتَحِها ناظرةٌ إلى فريدةِ قلادتِها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لامحةٌ إلى واسطةِ عِقْدِها {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، وهي في نفسها جامعة فاذة، ولهذا قال: ليتناولَ كل ما يجبُ مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطانِ وأعداءِ الدين. تمت السورة، حامدًا لله ومُصَلِّيًا ومسلِّمًا

سورة الروم

سورة الروم مكية، وآياتها ستون بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)] 1 - 5 [ القراءة المشهورة الكثيرة: (غُلِبَتِ) بضم الغين، و (سيغلبون) بفتح الياء. والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو: أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أى: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال مجاهد: هي أرض الجزيرة، وهي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورةُ الرُّوم مكِّيّةٌ، وآياتُها ستُّون بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (في أَدنى أرضِ العربِ منهم) ((منهم)) متعلِّق بـ ((أدنى))، والضَّميرُ للرُّوم. قوله: (على إنابة اللاَّم مَنابَ المضافِ إليه) فعَلى هذا: الأرضُ أرضُ الرُّوم، وإنّما نَسَب الأدنى إلى عدوِّهم في هذا الوجه؛ لأنَّ ((أدنى)) من الأمور النِّسبية، فإذا لم يُرد بها أرضَ العرب لابدَّ مِن أرضٍ أخرى، وليست إلا أرضَ عدوِّهم، وهو فارسُ، والقرينةُ {غُلِبَتِ}.

أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الأردن وفلسطين. وقرئ: (في أدانى الأرض)، والبضع ما بين الثلاث إلى العشر. عن الأصمعى. وقيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لأن فارس مجوس لا كتاب لهم، والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنّ نحن عليكم، فنزلت. فقال لهم أبو بكر رضى الله عنه: لا يقرّر الله أعينكم، فو الله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبى بن خلف: كذبت يا أبا فصيل، اجعل بيننا أجلًا أنا حبك عليه. والمناحبة: المراهنة، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل. فجعلاها مائة قلوٍص إلى تسع سنين. ومات أبىّ من جرح رسول الله، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبى، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدّق به. وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا أبا فَصيل) بالفاءِ والصادِ المُهْمَلة، أكثرُ ما يُطلق ((فَصيل)) في الإبل ((فَعيل)) بمعنى مفعول، وهو ولدُ الناقةِ إذا فُصِل عن أمِّه، ولم تسمع هذه الكنية فيه رضي الله عنه لا في الجاهلية ولا في الإسلام. ولعل هذا القائل ذهب إلى أنَّ ((أبا بَكَرٍ)) بالفتح في ((أبي بَكْر)) هو الفَتِيُّ من الإبل، بمنزلةِ الغلامِ من الإنسان، فوُضِع موضعَه الفَصِيل تلميحًا، والله أعلم. قوله: (ومادَّه في الأَجَل)، النهاية: المُدَّة: طائفةٌ مِن الزَّمانِ تقعُ على القليل والكثير، ومادَّ فيها، أي: أطالَها، وهي فاعَل من المدِّ، ومنه الحديث: ((إن شاؤوا مادَدْناهم)).

على صحة النبوّة، وأن القرآن من عند الله؛ لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وقرئ: (غلبهم) بسكون اللام. والغلب والغلب مصدران كالجلب والجلب، والحلب والحلب. وقرئ: (غلبت الروم) بالفتح، وسيغلبون، بالضم. ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين. وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم، وإضافة (غلبهم) تختلف باختلاف القراءتين، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول. وفي الثانية إضافته إلى الفاعل. ومثالها: (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ)] البقرة: 85 [، (وَلَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ)] الحج: 47 [. فإن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: ((غَلَبَتِ الرُّومُ)) بالفتح)، روى الترِّمذيُّ، عن أبي سعيد: لما كان يومُ بدرِ ظهرت الرُّوم على فارسَ، فأعجب ذلك [المؤمنين] فنزل: {أَلَم*غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ} قال: ففرح المؤمنون بظُهور الرُّوم على فارسَ. قال التَّرمذيُّ: وهكذا قرأَ نصرُ بن عليٍّ: ((غَلَبَت)). قال الزَّجاج: قرأ أبو عمرو وحدَه: ((غَلبت الرُّوم)) بفتح الغين، والمعنى على {غُلِبَتِ}، وهي إجماع القرّاء، وذلك أن فارسَ كانت قد غلبتِ الرُّومَ في ذلك الوقت، فالرُّوم مغلوبة، فالقراءة {غُلِبَتِ}. وقلت: التِّرمذيُّ من الثقات، والتَّوفيقُ بين الرِّوايتينِ أن يُقالَ: إنها نزلت مرَّتين، مرةً في مكَةّ؛ {غُلِبَتِ} بالضِّم، وأخرى يومَ بدرٍ؛ بالفتح. وتأويل الفتح ما ذَكَره المصنِّف أن الرُّومَ غَلبوا على رِيف الشّام، وسَيغلبهم المؤمنون في بضع سنين. والرِّيف: أرضٌ فيها زَرعٌ وخَصْب.

قلت: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت: عن قتادة رحمه الله تعالى أنه كان ذلك قبل تحريم القمار. ومن مذهب أبى حنيفة ومحمد: أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار. وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبىّ بن خلف. (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أى: في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين. ومن بعد كونهم مغلوبين. وهو وقت كونهم غالبين، يعنى: أن كونهم مغلوبين أوّلًا وغالبين آخرًا ليس إلا بأمر الله وقضائه، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)] آل عمران: 140 [وقرئ: (من قبل ومن بعد) على الجرّ من غير تقدير مضاٍف إليه واقتطاعه. كأنه قيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مِنْ قَبْلِ كَوْنهم غالبينَ)، وهو وقتُ كَونِهم مغلوبينَ ومِن بَعْدِ كونِهم مغلوبين، وهو وقتُ كونِهم غالبين؛ وذلك أنَّ كلاًّ مِن الوقتين، أَعني: وقتَ كَوْنِهم مغلوبين ووَقْتَ كَونِهم غالبين بالنِّسبة إلى الآخَرِ له اعتبارُ القَبْليَّةِ والبَعْديَّة، فأنَّ الرُّومَ كانوا في أوَّل الأمرِ مغلوبينَ، وفي ثاني الحالِ صاروا غالبينَ، فكَونهم مغلوبينَ قبلَ كونِهم غالبينَ، وكونهم غالبينَ بعدَ كونِهم مغلوبينَ، وذلك أن ((قَبْل)) و ((بَعْد)) من الغايات، فلا بدَّ من تقدير المضافِ إليه. قوله: (وقرئ: ((مِنْ قَبْلِ ومِنْ بَعْدِ)) على الجرّ)، قال الزَّجاجُ: ((إنهم يُجيزون بالتَّنوين، وبعضُهم بغير التَّنوين، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ ((قَبْل)) و ((بَعْد)) أصلُهما هاهنا الخفضُ، ولكن بُنِيَتا على الضمِّ؛ لأنَّهما غايتانِ، ومعنى الغايةِ أنَّ الكلمةَ حُذفت منها الإضافة وجُعلت غايةُ الكَلِمة ما بقيَ بعدَ الحَذْف، وإنما بُنِيَتا على الضَّمِّ؛ لأنَّ إعرابَهما في الإضافة النَّصْبُ والخفضُ ولا يُرفعان؛ لأنهما لا يُحدَّث عنهما، استُعملا ظرفَينْ، فلما عُدِلا عن بابهما حُرِّكا

قبلًا وبعدًا، بمعنى أوّلًا وآخرًا، وَ (يَوْمَئِذٍ) ويوم تغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله عزّ وجل من غلبتهم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم، وقيل: نصر الله أنه ولى بعض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بغير الحَركتين اللَّتينِ كنتا له يَدخلانِ بحقِّ الإعراب، وأما وجوبُ بنائهما وذهاب وإعرابهما فلأنَّهما عُرِّفا من غير جهةِ التَّعريف؛ لأنه حُذف منهما ما أُضيفتا إليه. وأما الخفضُ والتنوينُ فعلى جَعْلهما نَكرتَينِ، المعنى: للهِ الأمرُ مِنْ تَقَدُّمٍ ومِنْ تأخُّرٍ. وأما الكسر بلا تنوين، فذَكر الفرّاءُ أنه تُرك على ما كان عند الإضافة، واحتَجَّ بقوله: بين ذِراعَيْ وجبهَة الأسدِ وليس هذا القولُ مما يُعرَّج إليه؛ لأنَّ ذِكْرَ المضافِ إليه في البيت يَدلُّ على الآخَر. وقال مكيُّ: ((قبلُ)) و ((بعدُ)) بُنِيا؛ لأنَّهما تَعرَّفا بغير ما تتعرَّفُ به الأسماءُ؛ لأنَّ الأسماءَ تتعرف بالألفِ واللاّمِ، وبالإضافة إلى المعرفة، وبالإضمار ونحوها، وليس في ((قبل)) و ((بعد)) شيءٌ من ذلك، فلما تَعرَّفا بخلاف ما تتعرَّف به الأسماءُ- وهو حَذفُ ما أُضِيفَ إليهما- خالفا الأسماءَ وشابَها الحروفَ، فبُنِيَتا كما تُبنى الحروفُ، وإنّما بُنِيَتا على الضمِّ لمُشابهتِهِما المنادى المفرد، إذِ المُنادى يُعرب إذا أضيف. وقال بعضُهم: إنَّما بُنِيَا؛ لأنَّهما تعلَّقا بما بعدَهما فأَشْبَها الحروفَ إذ الحروفُ مُتعلِّقة بغيرها.

الظالمين بعضًا وفرق بين كلمهم، حتى تفانوا وتناقصوا، وفل هؤلاء شوكة هؤلاء؛ وفي ذلك قوّة للإسلام. وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: وافق ذلك يوم بدر، وفي هذا اليوم نصر المؤمنون، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ينصر عليكم تارةً وينصركم أخرى. [(وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)] 6 - 7 [ (وَعْدَ الله) مصدر مؤكد، كقولك: لك علىّ ألف درهم عرفًا: لأنّ معناه: أعترف لك بها اعترافًا، ووعد الله ذلك وعدًا؛ لأنّ ما سبقه في معنى (وعد). ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا، بله في أمر الدين، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجاراٍت ومكاسب. وعن الحسن: بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بإصبعه، فيعلم أرديء هو أم جيد. وقوله: (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله: (لا يَعْلَمُونَ) وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي هذا الإبدالِ من النُّكتة) إلى آخره، إرشادٌ إلى طريق استنباط المعاني الفائقةِ منَ العُدول عن مقتضى الظاهرِ واجتِنَاءِ ثمراتِ المَزايا من فُنون الكِناياتِ، وذلك أنَّ الأصلَ: ولكنّ أكثر الناس يعلمون ظاهرَ ما يتعيَّشون به في الدُّنيا من التِّجارات والمكاسب، ولا يعلمون باطِنَها من تجاراتِ الآخرةِ والفوزِ بالفلاح، فوُضِع {لاَ يَعْلَمُونَ} - هو مطلَقٌ، فيُفيد سَلْبَ العلم رأسًا- موضِعَ {يَعْلَمُونَ}، ونُكِّر {ظَاهِرًا} ووُضِع موضِعَ {لاَ يَعْلَمُونَ} بإظهارِ قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}؛ ليُفيدَ تلك الفوائدَ. وقلت: الاَوْلى أن يُقالَ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ ((وَعْدَ الله حقٌ))، وأنَّ ((لله

لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يفيد أن للدنيا ظاهرًا وباطنًا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة: يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر: أنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من جملة ظواهرها. و (هم) الثانية يجوز أن يكون مبتدأ. و (غافِلُونَ) خبره، والجملة خبر (هم) الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، و (غافلون) خبر الأولى. وأية كانت فذكرها مناٍد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمرَ من قبلُ ومن بعدُ))، وأنَّه ينصرُ المؤمنينَ على الكافرين، ويَقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فيَدمغُه؛ ليكونَ الدِّينُ كلُّه لله؛ لأنَّهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا كما قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]، وهم عن أسرار الله- من أنَّه تعالى ما خَلَق الخلقَ للَّهوِ واللَّعِبِ، بل خَلَقهم لِيَعرفُوه ويعبدُوه ويتزوَّدوا لدارِ القرارِ- غافلون كما قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]. ومِنْ ثَمَّ أَتبَع ذلك بقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الروم: 8] وخَتَمه بقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} والنّاسُ النّاسُ، فعلى هذا {يَعْلَمُونَ} الجملة استئنافيةٌ لبيانِ مُوجِب جَهْلِهم بوَعْد الله، واللهُ أعلم. قوله: (ومَعلَمها)، الأساس: يقول: هو مَعلَمُ الخيرِ، مِنْ مَعالِمِه؛ أي: من مَظانِّه، وخَفِيت معالمُ الطريقِ؛ أي: آثارُها. قوله: (وأنَّها منهم تَنْبعُ وإليهم ترجعُ)، أي: مصدرُها عنهم ومَورِدُها إليهم، وذلك أن ((هم)) الأوَّلَ دلَّ على الاختصاص؛ أي: هم الغافلون لا غيرهم، والثاني على التأكيدِ؛ أي:

[(أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)] 8 [ (فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يكون ظرفًا، كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أى: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك: تفكر في الأمر وأجال فيه فكره. و (ما خَلَقَ) متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه: فيعلموا، لأنّ في الكلام دليلًا عليه، (إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أى: ما خلقها باطلًا وعبثًا بغير غرٍض صحيٍح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة: وإنما خلقها مقرونةً بالحق مصحوبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هم الذين استقرَّ وثبتَ فيهم الغَفْلةُ بالتَّحقيق، فبالاعتبار الأوَّل يُعلمُ أنَّ ليس للغَفْلة محلٌّ سِواهم، وأنها إليهم ترجعُ، وبالثاني تحقَّق أنهم مَعْدِن الغَفْلة ومَعْلَمُها ومَقَرُّها، ومنهم تَنبعُ. قوله: (وقيل: معناه: فيَعلموا، لأنّ في الكلام دليلاً عليه)، أي: على تقدير (فيَعلَموا)؛ لأنَّ العلمَ نتيجةُ الفِكْرِ. قوله: (بغير غَرَضٍ صحيحٍ)، مذهبُه، جَعَلَ الحقَّ في مقابل الباطِل، وفسَّره بالعَبَث، والعبثُ: أن لا يكونَ في الخَلْق فائدةٌ، ولمّا عُلم أنَّ الفائدةَ غيرُ راجعةٍ إلى الله بل إلى المكلَّفين، يجبُ أن يُقالَ: ما خَلَقها إلاّ بأنْ تكونَ مساكنَ المكلَّفين ومسارحَ نَظَرِ المتفكِّرين؛ ليعرفُوه فيعبُدوه. فلا يُقالُ: لغرض صحيح؛ لئلاّ يُوهم النُّقصان. قوله: (ولا لتبقى خالدة وإنَّما خَلَقها مقرونةً بالحقِّ) إلى آخره، مَشعرٌ بأنَّ قولَه: {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} عطفٌ تفسيريٌّ على قوله: {بِالحَقِّ}، ولذلك استَشهد بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وذلك أنَّ هذا في حقِّ مُنكِري البعثِ، بدليل تَعْقيبه بقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} تقريعًا وتوبيخًا.

بالحكمة، وبتقدير أجٍل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)] المؤمنون: 115 [كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثًا. والباء في قوله: (إِلَّا بِالْحَقِّ) مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت: إذا جعلت (فِي أَنْفُسِهِمْ) صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت: معناه: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهرًا وباطنًا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من انتهاٍء إلى وقٍت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك؛ أمرها جاٍر على الحكمة والتدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى. [(أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 9 [ (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا) تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاٍد وثمود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى يَعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخَلائق كذلك) قال القاضي: لأنَّ نَفْسَ الإنسان مرآةٌ يتجَلّى للمُستَبصِر فيها ما يَتجلّى له في المُمْكِنات بأسرها، فإذا تفكَّر فيها تحقَّق له قُدرةُ مُبدِعِها على إعادتها كما أَبدأَها.

وغيرهم من الأمم العاتية، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) وحرثوها قال الله تعالى: (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ)] البقرة: 71 [، وقيل لبقر الحرث: المثيرة. وقالوا: سمى ثورًا لإثارته الأرض. وبقرة؛ لأنها تبقرها؛ أى تشقها، (وَعَمَرُوها) يعنى أولئك المدمّرون (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) من عمارة أهل مكة، وأهل مكة: أهل واٍد غير ذى زرع، ما لهم إثارة أرٍض أصلًا ولا عمارة لها رأسًا فما هو إلا تهكم بهم، وبضعف حالهم في دنياهم؛ لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة، وهم أيضًا ضعاف القوى، فقوله: (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أى: من عاٍد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل، كقوله: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)] فصلت: 15 [وإن كان هذا أبلغ؛ لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلمًا لهم، لأنّ حاله منافية للظلم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم. [(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)] 10] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من هذا القبيل) خبرٌ لقولِه: ((فقوله وقوله))؛ أي: أراد بقوله: ((من هذا القَبِيل)) قَبِيلَ التَّهكُّم في قوله: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} يريد أنه كما أسنَدَ العِمَارةَ إلى أهل مكّةَ وهم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرعٍ تهكُّمًا بهم. كذلك نَسَب إليهم القُوَّةَ في قوله: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} حيث شارَكَهم مع عادٍ وثمودَ في القوَّة وهم ضِعافُ القُوى تَهكُّمًا، وعلى التَّهكُّم وَرَد قولُه تعالى: {وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فُصِّلَت: 15]، وإن كان هذا في التَّهكُّم أبلغ؛ لأنَّه لا يُتصوَّر التَّفاوُتُ بينَ البَشَرِ في القوَّةِ. قال صاحبُ: ((الفرائد)): يُمكن أن يكونَ المرادُ من العِمارةِ الأَبنيةَ من الدُّور والقُصور والحُصون، فعلى هذا لم يكن تَهكُّمًا. قلت: أين يذهب عليه قولُه تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ}.

قرئ (عاقبة) بالنصب والرفع. و (السُّواى) تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم السوأى؛ إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أى: العقوبة التي هي أسوأ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {عَاقِبَةَ} بالنَّصب والرفع) نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ: بالرفع، والباقون: بالنَّصب. قوله: (ثم كانت عاقبتُهم السُّوأى) تقريرٌ لقراءة الرَّفعِ، ووُضع {الَّذِينَ أَسَاءُوا} موضعَ الضَّمير لبيان العلَّة، ثم أُضِيف إليه اسمُ {كَانَ}، والخبرُ)) السوأي ((، وكذا على الوجه الثاني، لكنَّ {السُّوَأي} داخلٌ في حيِّز الصِّلةِ، والخبرُ مقدَّرٌ، ولم يَذكر وَجْهَ قراءة النَّصب. قال أبو البقاء: مَن نَصَب {الْعاقِبَةَ} جعلها خبرَ ((كان))، والاسمُ {السُّوأَى} أو {أَن كَذَّبُوا}. ويجوز أن يكون {أَن كَذَّبُوا} بَدَلاً من {السُّوأَى} أو خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، و {السُّوأَى} فُعلى؛ تأنيث الأَسوأ، صفة مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: ((أساؤوا الإساءةَ السُّوأي))، وإن جعلتَها اسمًا أو خبرًا كان التقديرُ: ((العقوبة السّوأي))؛ أي: الفعلة السُّوأي. قال صاحب ((الفرائد)): على تقدير قراءةِ النَّصب هو الخبرُ، والاسمُ {أَن كَذَّبُوا} المعنى: كان عاقبةُ الذين فَعَلُوا الفِعْلةَ السَّوأي؛ أي: التَّكذيب؛ أي: لقّاهم شؤم أفعالهم في الكُفر؛ كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ} [التوبة: 77]، فعلى هذا ليس المُظْهَرُ واقعًا مَوقِعَ المُضمَرِ، بل هو كلامٌ يَدخل فيه المَذكورون. وقلت: لا بدَّ منَ القولِ بوضع المُظْهَرِ موضعَ المُضمَرِ؛ لأنَّ {ثُمَّ} هاهنا للاستبعاد؛

العقوبات في الآخرة، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين. و (أَنْ كَذَّبُوا) بمعنى: لأن كذبوا، ويجوز أن تكون (أن) بمعنى: أى؛ لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء؛ كانت في معنى القول، نحو: نادى. وكتب، وما أشبه ذلك. ووجه آخر: وهو أن يكون (أَساؤُا السُّواى) بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا، و (أَنْ كَذَّبُوا) عطف بياٍن لها، وخبر (كان) محذوف كما يحذف جواب (لما) و (لو)؛ إرادة الإبهام. [(الله يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)] 11 [ (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أى: إلى ثوابه وعقابه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] يعني: أيقظناهم من غَفْلتهم بقولنا: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ودَلَلْناهم على طريق الإيقاظ. والعِبْرةُ بقولنا: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}؛ لِيُقلعوا عمّا كانوا عليه منَ العِنَاد والتَّكذيب، ثمَّ بعدَ ذلك لم يكن عاقبتُهم إلاّ الفَعْلةَ السَّوأي والتَّكذيب، والله أعلم. قال القاضي: وُضِع الظّاهرُ مَوضِعَ المُضمَر للدَّلالة على أنَّ ما اقتَضى أن تكونَ تلك عاقبتَهم هو أفعالُهم السّوأي، بمعنى اقتَرفوا الخطيئةَ. فعلى هذا: الإساءةُ أعمُّ من أن تكون قوليةً أو فعليةً، وعلى أن تكون ((أن)) مفسِّرة يجب أن تكونَ قوليَّةً لا فعليةً؛ ليصحَّ جَعْلُها بمعنى القولِ، وإليه الإشارةُ بقوله: ((تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء)).

وقرئ بالتاء والياء. [(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ)] 12 - 13 [ الإبلاس: أى يبقى بائسًا ساكنًا متحيرًا. يقال: ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتجّ. ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو. وقرئ "يبلس" بفتح اللام، من أبلسه إذا أسكته، (مِنْ شُرَكائِهِمْ) من الذين عبدوهم من دون الله (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أى: يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها. أو: وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ بالياء والتاء) أي: {تُرْجَعُونَ}، قرأ أبو بكر وأبو عمروٍ: بالياء التَّحتانية، والباقون: بالتاء. اعلَمْ أنَّه تعالى لمّا استَبعدَ فِعْلتَهم السوأي جاء بالوعيد والتَّهديد، يعني: لا بدَّ من الرُّجوع إلى القادر العظيمِ الشأنِ الذي بدأَ خَلقَكُم ثم يُعيدكم، فعند ذلك لا مجالَ للتَّكذيب، بل تَبْقون آيسِينَ ساكتينَ متحيِّرين، فوَضَعَ المجرمين في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} موضعَ الضَّميرِ، يدلُّ عليه قولُه تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ}. قوله: (وقرئ ((يَبْلَسُ)) بفتح اللام)، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ ((أَبْلَسَ)) لا يُستعمل متعدِّيًا، ومخرجه أن يكونَ أقام المصدرَ مقامَ الفاعِلِ وحَذَفه، وأقام المضافَ إليه مقامَه؛ أي: ((يُبْلس إبلاسَ المجرمين)).

وكتب (شفعواء) في المصحف بواٍو قبل الألف، كما كتب (علمؤا بنى إسرائيل)] الشعراء: 197 [، وكذلك كتبت (السوأى) بألٍف قبل الياء؛ إثباتًا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. [(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)] 14 - 16 [ الضمير في (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضى الله عنه: هو تفرّق المسلمين والكافرين: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين. وعن قتادة رضى الله عنه: فرقة لا اجتماع بعدها، (فِي رَوْضَةٍ) في بستان، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرٍض ذات نباٍت وماء. وفي أمثالهم: أحسن من بيضةٍ في روضة، يريدون: بيضة النعامة. (يُحْبَرُونَ) يسرون. يقال: حبره؛ إذا سرّه سرورًا تهلل له وجهه، وظهر فيه أثره، ثم اختلفت فيه الأقاويل؛ لاحتماله وجوه جميع المسارّ؛ فعن مجاهد رضي الله عنه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكتب {شُفَعَاءُ} في المصحف بواوٍ قَبْل الألفِ ... ، و {السُّوأَى} بألفٍ قَبل الياء؛ إثباتًا للهمزة على صُورة الحرف الذي منه حركتُها) قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظرٌ، إذِ الثانيةُ لا تختصُّ بالمصحفِ، بل هو قياس الخطِّ، وذلك العذرُ لا يستمرُّ في الأُولى، إذ مُقتضاه تأخيرُ الواو عن ألف {شُفَعَاءُ}. قوله: (تَهلَّل له وجهُه وظَهر فيه أثرُه)، الراغب: الحِبْرُ: الأثرُ المُستَحسَن، ومنه ما روى: ((يَخرجَ مِن النّارِ رَجُلٌ ذهبَ جِبْرُه وسِبْرُه))؛ أي: جمالُه وبهاؤه. ومنه سمِّي الحَبُرْ، وشاعر

يكرمون، وعن قتادة: ينعمون. وعن ابن كيسان: يحلون وعن أبى بكر بن عياش: التيجان على رءوسهم. وعن وكيع: السماع في الجنة. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابىّ فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ قال: «نعم يا أعرابى، إنّ في الجنة لنهرًا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصواٍت لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة». قال الراوي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروى: «إنّ في الجنة لأشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحًا من تحت العرش؛ فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصواٍت لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربًا»، (مُحْضَرُونَ) لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، كقوله: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها)] المائدة: 37 [، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)] الزخرف: 75 [. [(فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)] 17 - 19 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محبِّر، وشعر مُحبَّر، وثوبٌ حَبِير محسَّنٌ، والحَبْر: العالم؛ لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس، ومن آثار أفعالهِم الحَسَنةِ المقتدى بها، وإليه أشار عليٌّ رضي الله عنه بقوله: العلماءُ باقون ما بقيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ، وآثارُهم في القلوب موجودةٌ. وقولُه تعالى: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي: يفرحون حتّى يظهر عليهم حَبارُ نَعِيمِهم. قوله: (من كل بيضاء خُوْصانيةٍ) مشابهةٌ بخُوص النَّخل؛ أي: وَرَقه في اللِّين والرِّقة، وقيل: رقيقه الخضر. الأساس: هَضبة خَوْصاء: مرتفعة.

لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجى من الوعيد، والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء، والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة. وقيل: الصلاة. وقيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية. (تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء، و (تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر، (وَعَشِيًّا) صلاة العصر. و (تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر. وقوله: (وَعَشِيًّا) متصل بقوله: (حِينَ تُمْسُونَ)، وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض بينهما. ومعناه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ أتبعَه ذِكْرَ ما يُوصِل إلى الوَعْد ويُنجِّي منَ الوعيدِ) بيانٌ لاتصال {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية بالآياتِ السابقة. وفيه أنَّ الفاءَ فيه جزاءُ شرطٍ محذوفٍ، وأنَّ قولَه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تفصيلٌ لما أجملَ في قوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: إذا كان الأمر كما تقرَّر فاستعدُّوا لما تَسعَدوا به في ذلك اليوم وتَفُوزوا برَوْضات الجِنَانِ، وبما تتخلّصوا به من الشَّقاوة الأبديَّةِ والحُضورِ في دَرَكاتِ النِّيرانِ، وهو استغراقُ الأوقاتِ في ذِكْر الله وطاعاتِه التي أوجَبَها عليكم، وفي النِّداء على الجميل لما أَوْلَيناكم من نعمة الإرشاد إلى الفلاح والنَّجاة. ثم بيَّن على طريق الاستئناف مُوجِبَ التَّسبيح والتّحميد لله عزَّ وجلَّ بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إلى آخر الآيات الدّالَّةِ على الفَرْدانيَّة، وعلى اختصاصِه بالعُبوديَّة؛ أي: اعبُدوه واحمَدُوه؛ لأنَّه يُحيي ويُميت، وله الآياتُ الباهرةُ المتظاهرةُ، فظهَر من هذا البيانِ أنَّ المصدرَ أُنيب مَنابَ الأمرِ، ورَجَح به تأويلُ حَبْر الأُمَّة رضي الله عنه من إيجاب الصَّلواتِ الخمسِ بإشارة النَّصِّ، والله أعلم.

إنّ على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. فإن قلت: لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت: لأنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة، وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقٍت معلوم. والقول الأكثر: أنّ الخمس إنما فرضت بمكة. وعن عائشة رضى الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) الآية. وعنه عليه السلام: «من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن على المميِّزين كلِّهم من أهل السَّماوات والأرضِ أن يَحمَدُوه) فيه معنى الوُجوب، وذلك أنَّ الاعتراضَ تأكيدٌ لمعنى المعتَرض فيه، ولما دلَّ ذلك على وُجوب الصَّلوات على المميِّزين لقول ابن عباس، كان التأكيدُ مِثْلَ المؤكَّد، وكما أن يعبَّر عن الصَّلاة بالتَّسبيح لأنها مشتملةٌ عليه، جاز أن يُعبَّر عنها بالتَّحميد لذلك. قوله: (أنّ الخَمْسَ إنّما فُرضت بمكَّةَ) وهو الصَّحيحُ لحديث المِعْراج، مُراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع موسى عليه سلام على ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ والنسائيُّ، عن أنسٍ في آخِره: ((يا محمدٌ، إنَّهنَّ خَمسُ صَلَواتٍ كلَّ يومٍ وليلَةٍ)) الحديثَ. قوله: (فُرضتِ الصَّلاةث ركعتَين) روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ ومالكٍ وأبي داودَ والنسائيِّ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فَرضَ اللهُ الصَّلاةَ حينَ فَرضَها رَكعتينِ ركعتين في الحَضَر والسَّفرِ، فأُقِرَّت صلاةُ السَّفرِ، وزِيدَ في صلاةِ الحَضَرِ. وفي أخرى قالت: فُرضتِ الصَّلاةُ رَكعتينِ، ثمَّ هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَفُرضت أربعًا، وتُرِكَت صَلاةُ السَّفرِ على الفَريضة الأُولى. قولُه: (من قال حين يُصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الحديثَ بتمامِه أخرجَه

إلى قوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته في ليلته، وفي قراءة عكرمة: (حينا تمسون وحينا تصبحون)، والمعنى: تمسون فيه وتصبحون فيه، كقوله: (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)] البقرة: 48 [بمعنى: فيه، (الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الطائر من البيضة، و (الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): البيضة من الطائر. وإحياء الأرض: إخراج النبات منها (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون. والمعنى: أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس؛ من إخراج الميت من الحىّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي. وقرئ: (الميت) بالتشديد، و (تخرجون) بفتح التاء. [(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)] 20 - 21 [ (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو داودَ عن ابن عبّاسٍ. قوله: (وقرئ: {الْمَيِّتِ} بالتَّشديد) نافعٌ وحفصٌ وحمزةُ والكسائيُّ، و ((تَخْرُجون)) بفتح التاء: حمزة والكسائي.

لأنه خلق أصلهم منه. و (إِذا) للمفاجأة. وتقديره: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرًا منتشرين في الأرض. كقوله: (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً)] النساء: 1 [، (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)؛ لأن حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال، أو من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) التوادّ والتراحم بعصمة الزواج، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم. وعن الحسن رضى الله عنه: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال: (وَرَحْمَةً مِنَّا)] مريم: 21 [، وقال: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ)] مريم: 2 [. ويقال: سكن إليه، إذا مال إليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنَّه خَلَق أصلَهم منه)، أي: إنَّما صحَّ الخطابُ للخَلْق بقوله: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} لذلك، والمعنى: خَلَق أصلَكم من تُرابٍ ليتَّصلَ به قولُه: {ثُمَّ}؛ أي: ثُمَّ فاجأتُم وقتَ كونِكُم بَشَرًا، و {ثُمَّ} للتَّرَاخي في الرُّتبة لا في الزَّمان، فإنَّ المفاجأةَ تدفعُه. قوله: (كقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]) وَجهُ التَّشبيه أنَّ قولَه: {أَنتُم} مبتدأٌ، و {بَشَرٌ} جنسٌ وقع خبرًا له، و {تَنتَشِرُونَ} صفةٌ لـ {بَشَر}، فـ {بَشَرٌ} مِثلَ قولِه: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، و {تَنتَشِرُونَ} مثل قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} [النساء: 1]. قال صاحب ((المطلع)): ثم إذا أنتُم خلقٌ كثيرٌ من لحمٍ ودَمٍ تَنبسطونَ في الأرضِ. قوله: (كما قال: {وَرَحْمَةً مِّنَّا})، أي: في قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً} [مريم: 21]، والمراد بالرَّحمة: عيسى عليه السلام. قوله: ({ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ} [مريم: 2] وتقريرُه: أنَّ {ذِكْرُ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وهو مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، و {عَبْدَهُ} مفعولُ {رَحْمَتِ} و {} بَدَلٌ مِنْ {عَبْدَهُ}، و {إِذْ نَادَى} ظرفٌ لـ {رَحْمَتِ} أو لـ {ذِكْرُ}؛ أي: هذا إنَّ ذِكْرَ ربِّك رحمتَه

كقولهم: انقطع إليه، واطمأن إليه، ومنه السكن. وهو الإلف المسكون إليه. فعل بمعنى مفعول. وقيل: إن المودة والرحمة من قبل الله، وإن الفرك من قبل الشيطان. [(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ)] 22 [ الألسنة: اللغات، أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همٍس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت، وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحلىّ؛ وفي ذلك آية بينة؛ حيث ولدوا من أٍب واحد، وفرّعوا من أصٍل فذ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعَبدِه زكريا وَقْتَ طَلَبَه الولدَمن ربِّه. هذا يُفهم من تقديرِ أبي البقاء، فعلى هذا: الرحمةُ هي الولدُ. قوله: (وإنَّ الفِرْكَ من قِبَل الشَّيطانِ) الفِرْك: بُغْضُ أحدِ الزَّوجين للآخَر. قوله: (فيَعْروك الخطأُ في التَّمييز بينهما) أي: يُغشيك. الجوهريُّ: عَراني هذا الأمرُ واعتَراني: إذا غَشِيكَ.

وقرئ: (للعالمين) بفتح اللام وكسرها، ويشهد للكسر قوله تعالى: (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)] العنكبوت: 43 [. [(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)] 23 [ هذا من باب اللفّ، وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين. لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيٍء واحد، مع إعانة اللفّ على الاتحاد. ويجوز أن يراد: (منامكم) في الزمانين، (وابتغاءكم) فيهما، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {لِّلْعَالِمِينَ} بفَتْح اللاّمِ وكَسْرها) بالكسر: حفصٌ وحدَه، والباقون: بفتحها. قوله: (فَصَلَ بينَ القرينَينِ الأوَّلَين) أي: {مَنَامُكُم} و {وَابْتِغَاؤُكُم} (بالقرينَين الآخِرَينِ) أي: {اللَّيْلِ} و {النَّهَارِ}. وإنّما جاز ذلك؛ لأنَّ الليلَ والنهارَ ظرفانِ، والوقعان فيهما المنامُ والابتغاءُ، والظرفُ والمظروف كشيء واحدٍ، فلا فَصْلَ بالأجنبيِّ. ومعنى قولِه: (مع إعانة اللَّفٍّ على الاتِّحادِ) هو أن اللَّف يُعين السامعَ على أن يَرُدَّ كلَّ واحد من القرينينِ إلى مآلهِ، ويَتَّحد به من النشر. قوله: ({مَنَامُكُم} في الزَّمانينِ {وَابْتِغَاؤُكُم} فيهما) فعلى هذا: لا يكون من باب اللَّفِّ، بل من المُقابلةِ، فحذَفَ في إحدى المتقابلينِ ما يُقابل الآخَر لدلالةِ التَّقابُلِ، قال: عجبتُ لهم إذ يَقتُلونَ نُفوسَهم ... ومقتَلُهم عندَ الوَغى كانَ أعذَرا

والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية. [(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 24 [ في (يُرِيكُمُ) وجهان: إضماران، وإنزال الفعل منزلة المصدر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: يقتلون نفوسَهم عند السِّلم، فحُذف لدلالة الوَغَى في المشطور الثاني عليه. قوله: (لتكرُّره في القرآن) نحو قولِه تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]، وقولِه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11]، وغيرها. قوله: (إضمارانِ، وإنزالُ الفعل منزلةَ المصدرِ) هو بيانٌ لقوله: ((وجهانِ))، أمّا قولُه: ((وبهما فُسّر المَثَل: ((تَسْمعَ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أنْ تَراه))، وقول القائلِ))، فيَحتمل وجهَيْن: أحدهما: أن يُرادَ اللَّفُّ والنَّشْرُ، وعليه ظاهرُ كلام صاحب ((اللُّباب))؛ حيث قال نحو: ((تَسمعُ بالمُعيديِّ خيرٌ مِنْ أن تَراه)) محمولٌ على حذف ((أنْ)) مثلها في قوله: ألا أَيّهذا اللاّئمِي أحضُرَ الوَغى فيمَن روى مرفوعًا، أو على تنزيل الفعل منزلةَ المصدرِ، مثلُه في قوله: وقالواما تشاءُ فقلتُ أَلْهُو وثانيهما: أن يكونا مثالين، لكن البيت لا يساعد عليه على ما ذهب إليه الشارحُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: ونحوُ ((تَسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أن تَراهُ)) محمولٌ على حذف ((أنْ))، أو على تنزيل الفعل منزلةَ المصدر، مِثْلُه في قوله: ((وقالوا ما تشاء))، أي: ((سماعُك بالمُعِيديِّ))، كما كان الفعلُ منزّلاً منزلةَ المصدرِ في قوله: ((فقلت أَلْهُو)). وثالثهما: أن يكونا مثالَيْن، لكن البيت لا يُساعِدُ عليه على ما ذهب إليه الشارح، قال: ((وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه)) محمول على حذف ((أنْ)) أو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، أي: الفعل ((سماعك بالمعيدي))، كما كان الفعل منزلاً منزلة المصدر في قوله: ((فقلت ألهو)) وهو متعيُنِّ فيه؛ لأنَّ معنى قوله: ((ما تشاء)): أيُّ شيءٍ تشاءُ، فهو سؤال عن مفردٍ؛ لأنَّ ((ما)) مفردٌ، وهو مفعول ((تشاء)) مقدَّمًا، فحقُّه أن يُجابَ بالمفرد، و ((أَلْهو)) جملة منزَّلةٌ منزِلةَ المفرد ليكونَ مطابقًا للمسؤولِ عنه. فإن قلت: لو حُمل على حذف ((أنْ)) لكان أيضًا بتقدير مفردٍ، فَلِمَ لمْ يُحمل عليه؟ قلت: لأنَّ قولَه: ((ما تشاء)) سؤالٌ عمّا تشاؤه في الحال ظاهرٌ، كما إذا قلتَ: ما تريدُ؟ أي: الآنَ، فلو قُدِّر: ((أن أَلْهُو)) لكان مستقبَلاً، فكأنَّه سأله عمّا يشاؤه في الحال، فأجابَه بما يشاؤه في المستقبل لا في الحال، فلا ظاهرًا، فلذلك حَملَه على المصدر بدون حذف ((أنْ))؛ لأنَّ ((أنْ)) عَلَمٌ للاستقبال، وفيه بحثٌ، وهو ما ذَكَره الإمامُ عند قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قال: قال تعالى هاهنا: {أَن تَقُومَ} وقبلَه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ولم يقل: وأنْ يُريكم، وذلك أنَّ القيامَ لما كان غير مُتعيّن أخرجَ الفعل بـ ((أنْ)) وجَعل في تأويل المصدر ليدلَّ على الثُّبوت وإِراءَةُ البرقِ لما كانت من الأمورِ المتجَدّدة، لم يَذكر معها ما يدلُّ على المصدر.

وبهما فسر المثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". وقول القائل: وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذى أثير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب ((الكَشف)): تقدير الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ} آيةُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}، فحَذف الموصوفَ وأقام الصفةَ مقامَه، وكان أبو عليٍّ يحملُها على حذف ((أنْ))؛ أي: ومِن آياتِه أنْ يُريكم البَرْقَ، كقوله: ((أحضُرُ الوغي)) وأراد أن يأخذَ على أبي إسحاقَ حَذْفَ ((أنْ)) في قوله: ((أعبُد))، فنقل كلامَه ثم تذكَّر هذا الموضعَ فأمسَكَ. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون الموصوفُ محذوفًا؛ أي: ((ومن آياته آيةٌ يُريكم فيها البَرْقَ))، فحَذَف الموصوفَ والعائد؛ أي: ((ومن آياته شيءٌ أو سحاب))، ويكون فاعل {يُرِيكُمُ} ضميرَ شيءٍ المحذوف. قوله: (تَسمعُ بالمُعيديِّ) قيل: هو تصغيرُ ((معدِّيٍّ))، أو ((مَعَدٍّ))، خَفَّف الدالَ استثقالاً للجمع بين التشديد مع ياء التصغير. يُضربُ للرَّجل الَّذي له صِيتٌ في الناس، فإذا رأيتَه ازدرَيْتَه. قالَه المنذر لشِقّةَ، مضى شرحُه مستوفًى في ((الأعراف)). قوله: (وقالوا ما تَشاء) البيت لعروة بن الورد قبله: أَرِقتُ وصُحْبتي بمَضيقِ عمقٍ ... لبرقٍ من تِهامةَ مُستطيرِ سَقَوْني الخَمرَ ثمَّ تَكنَّفوني ... عُداةَ اللهِ من كَذِبٍ وزُورِ آثَرَ من الإيثار، من: آثرت فلانًا على نفسي. قوله: (ذي أَثير) من قولك: فلانٌ أثِيري؛ أي: خُلْصاني، أي: آثَرَ اللَّهْوَ أوَّلَ كلِّ شيء. قال الميداني في قولهم: ((افعل ذاك آثِرًا مّا)) قالوا: معناه: افعل أوّلَ كل شيء، أي:

(خَوْفاً) من الصاعقة أو من الإخلاف، (وَطَمَعاً) في الغيث. وقيل: خوفًا للمسافر، وطمعًا للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له. فإن قلت: من حق المفعول له أن يكون فعلًا لفاعل الفعل المعلل؛ والخوف والطمع ليسا كذلك. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن المفعولين فاعلون في المعنى، لأنهم راءون، فكأنه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفًا وطمعًا. والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوٍف وإرادة طمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكونا حالين، أى: خائفين وطامعين. وقرئ: (ينزل) بالتشديد. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)] 25 - 26 [ قيام السماوات والأرض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ افْعَله مؤثرًا له. وقال الأصمعيُّ: معناه افعل ذلك عازمًا عليه و ((ما)) تأكيد، ويقال أيضًا: ((افعلْه آثرَ ذي أثير))، أي: أوّلَ كلِّ شيء. وقيل: معناه: وقالوا: ما تشاءُ، فقلت: أن أَلْهو، واللَّهو إلى الصُّبح آثَرُ كلِّ شيءٍ يُؤثَرُ فِعْلُه. قوله: (من حقِّ المفعول له أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلَّل)، الانتصاف: الخوفُ والطمعُ مخلوقان لله تعالى، فيلزم اجتماعُ شرائطِ النَّصب فيهما، وهو كونُهما مصدرَيْنِ مقارَنيْن، والفاعل والخالقُ واحدٌ، فلا بدَّ من تخريجه على هذا الوجه، وهو أنَّ قولَ النُّحاة: أنَّ يكونَ فِعلاً لفاعل الفعلِ المعلَّلِ، وأن يكون مُتّصِفًا به، فإذا قلت: جئتك إكرامًا لك، فقد وصفتَ نفسَك بالإكرام؛ أي: جئتك مُكْرِمًا لك، واللهُ تعالى وإن خَلَق الخوفَ والطمعَ، إلاّ أنه تعالى مُقدَّسٌ عن الاتِّصاف بهما، فاحتِيجَ إلى تأويلِ الزَّمخشريِّ على المذهَبينِ.

واستمساكهما بغير عمٍد (بِأَمْرِهِ) أى بقوله: كونا قائمتين. والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال. وقوله: (إِذا دَعاكُمْ) بمنزلة قوله: يريكم، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوةً واحدة: يا أهل القبور اخرجوا. والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقٍف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه، كما قال القائل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستمِساكُهما) قيل: هو من قولهم: هو لا يَستمسكُ على الرَّاحلة؛ أي: لا يقدر على إمساكِه نفسَه وضبطِها والثباتِ عليها. قوله: ({بِأَمْرِهِ} أي: بقوله: كونا قائمتَيْن) أي: قيل: بأمره، وأُريد هذا القول، ولم يُرد بالقول حقيقتَه، بل المرادُ إقامتُه لهما وإرادتُه لحدوثهما قائمتين، فقوله: ((إرادته لكونِهما)) خبرٌ، و ((المراد بإقامتهِ لهما)) مبتدأٌ، كذا صحّ، واللامان صِلَتانِ، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. والمراد: أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنّما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناعٍ ولا قَوْلَ ثَمَّةَ، كذلك معنى قوله: ((كونا قائمتينِ)) حصولُهما على صفة القيام على وَفْق إرادتِه من غير توقُّفٍ ولا قَوْلَ ثَمَّةً، وإليه الإشارةُ بقوله: ((والمراد به سرعةُ وجودِ ذلك من غير توقُّف ولا تَلبُّثٍ)). قال الإمام: قوله: {بِأَمْرِهِ} أي: بقوله: قوما، أو بإرادته قيامهما، وذلك أن الأمرَ عند المعتزلةِ موافقٌ للإرادة، وعندنا ليس كذلك، ولكن النزاعَ في الأمر الذي في التَّكليف لا في الأمر الذي في التَّكوينِ، فإننا لا نُنازعُهم في أنّ قولَه: ((كن))، و ((كونا))، و ((كونوا)) موافقٌ للإرادة.

دعوت كليبا دعوة ... فكأنّما دعوت به ابن الطّود أو هو أسرع يريد بابن الطود: الصدى، أو الحجر إذا تدهدى، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ"ثم"؛ بيانًا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر، كما قال عز وعلا: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)] الزمر: 68 [. قولك: دعوته من مكان كذا، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك، تقول: دعوت زيدًا من أعلى الجبل فنزل علىّ، ودعوته من أسفل الوادي فطلع إلىّ. فإن قلت: بم تعلق (مِنَ الْأَرْضِ) أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. فإن قلت: ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت: الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وقرئ: (تخرجون) بضم التاء وفتحها، (قانِتُونَ) منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه. (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 27 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دعَوتُ كُليْبًا) البيت، قوله: ((دعوتُ به))، أي: بكُلَيب، وهو من التجريد، جُرِّد منه شيءٌ يسمى بابن الطّوْدِ، وهو نفسُه. قوله: (تدَهدى) أصله: تَدَهْدَه، أبدلت الهاء ياء، كما في تَظَنَّيْتُ، أصله: تَظَنَّنتُ. قوله: (هيهاتَ) وهو اسم فعلٍ فاعلُه ضميرٌ مستترٌ يعود إلى ما دلَّ عليه الكلامُ المتقدِّم؛ أي: بعد تعلُّقه بالمصدر مع وجود الفعل. قوله: (بَطَلَ نهْرُ مَعْقِل)، الاستيعاب: هو مَعقل بن يسار المُزني، سكن البصرة، وإليه يُنسب نهر معقل الذي بالبصرة، شهد بيعةَ الحُديبية، وتوفي بالبصرة في آخر خلافة معاوية.

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء؛ كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أوّل الغزو أخرق، وتسمون الماهر في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم) وتحقيقُه أنَّ الإنسانَ الضعيفَ العاجزَ الذي لا يُطيق حَمْل معاني الحكمة الإلهيَّةِ والأسرارِ الرُّبوبيةِ، إذ لو كُوشفوا ببعضِها لاضمَحَلَّت قُواهم وتلاشَتْ عقولُهم. ولله درُّ الإمامِ حُجّةِ الإسلامِ وقولِه في ((الإحياء)): لا طاقةَ للبَشَر أن ينفذوا غَوْرَ الحكمةِ، كما لا طاقةَ لهم أن ينفذُوا بأبصارهم ضوءَ عينِ الشَّمسِ، ولكنَّهم ينالون منها ما تحيي به أبصارُهم، ويستدلُّون بع على حوائجهم فقط. وقد تأنَّق بعضُهم في التعبير عن وجه اللُّطفِ في إيصالِ معاني كلامِ اللهِ المجيدِ مع علوِّ درجتِه إلى فَهْم الإنسان مع قُصورِ رُتبته، وضربَ له مثلاً ولم يُقصِّر فيه، قال: إنّا رأينا الناسَ لمّا أرادوا أن يُفهِموا بعضَ الدَّواب والطيرِ ما يُريدون من تقديمِها وتأخيرها، ورَأَوا الدَّوابَّ تَقصُر عن فَهْمِ كلامِهم الصادرِ عن أنوار عقلِهم مع حُسنه وترتيبِه، فنزلوا إلى درجةِ تمييزِ البَهائم وأوصلوا مقاصِدَهم إلى بواطنِها بأصواتٍ يضعونها لائقةٍ بها من النَّفيرِ والصَّفير والأصواتِ القريبةِ من أصواتِهم، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائمِ التي تُطيقُ حملَها، وكذلك الناسُ يعجَزون عن حملِ كلام الله المجيد بكُنْهه وكمال صفاتِه، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات، ولا يمنع ذلك معاني الحكمة المخْبوءةِ في تلك الصفات. قوله: (أوّل الغزوِ أخْرق)، يعني: أنّ صاحَبه غِرٌّ لم يَصْطَلِ بنارِه، ويُضرَبُ لمن ابتدأ أمرًا وهو لا يَحْذَقُه. قال الميداني: قال أبو عبيد: يُضَربُ في قلّةِ التجارِب. قال الشاعر: الحَربُ أوّلُ ما تكونُ فَتيَّةً ... تسعى بزينتِها لِكلِّ جَهولِ حتى إذا استعرت وشبَّ ضِرامُها ... عادت عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ

صناعته معاودًا، تعنون أنه عاودها كرّةً بعد أخرى؛ حتى مرن عليها وهانت عليه. فإن قلت: لم ذكر الضمير في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، والمراد به الإعادة؟ قلت: معناه: وأن يعيده أهون عليه. فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقدّمت في قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)] مريم: 21 [؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو علىّ هين، وإن كان مستصعبًا عندكم أن يولد بين هم وعاقر؛ وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله: (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ) حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ووصف الغزو بالخُرْق؛ لخَرْقِ الناس فيه كما قيل: ليل نائم. قوله: (مُستَصعِبًا) صحّ بكسرِ العين؛ لأنه لازم، الجوهري: استَصعَبَ عليه الأمرُ؛ أي: صَعُب. قوله: (بين هِمٍّ وعاقر)، النهاية: الهِمُّ بالكسر: الكبير الفاني. قوله: (وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص)، يعني: اقتضى مقامُ خَرْقِ العادة هناك التَّقديمَ كأنَّ العادة تأبى أن يحصُلَ الولدُ بين الهِمِّ والعاقِرِ لِما جُرِّبَ وعُلِمَ بالاستقراء، فقيل: أنا القادر وحدي أن أخرق العادة دون غيري، وهاهنا العادة حاكمة قاطعةٌ بأنَّ منَ أعاد صَنعةَ شيءٍ كانت أسهلَ عليه وأهونَ من إنشائها، لكن الدُّهْريَّ المخذولَ يُنكِرُ فعلَه، فجيء بالجملة المفيدة لتقوي الحُكمَ على مجرى العُرف والعادة. قوله: (ما بالُ الإعادة استُعْظِمت)، يعني: عطف قولِه: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} على قوله: {أَن تَقُومَ السَّمَاءُ} بحرف التَّراخي في الرُّتبة، فأفاد عظمةَ الثاني، فإنَّ الأوّلَ أَدْونُ حالاً

ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل: الضمير في (عليه) للخلق. ومعناه: أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام والتمام أهون عليه وأقل تعبًا وكبدًا، من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه. ثم قيل في هذه الآية: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ففهم منه أنه أَدْوَنُ منه، وأجاب بما يدلُّ على أنّ اعتبارَ التعظيمِ في الأولِ لكونِ الإعادة في نفسِها عظيمةً؛ لأنّها الغايةُ في الإيجاد والمقصودُ في الإنشاء، وبها يستقرُّ كلٌّ من السُّعداء والأشقياء في درجاتهم ودَرَكاتِهم، واعتبارُ الأَهْوَنِ بحَسَب الإيجاد والقَصْد في الخَلْق. وبهذا التقرير يُتخلَّص من إشكالِ صاحب ((الانتصاف)) حيث قال: {ثُمَّ} على بابها في تراخي الزَّمان أو يُسَلِّمُ تراخي المراتبِ على أن مرتبةَ المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا تأكيدًا في مجيئها، فإن المعطوف بها في أكثر المواضع أرفع درجة من المعطوف عليه. وقلت: ويجوز أن يُحملَ {ثُمَّ} على مجردِ البُعْدِ مجازًا، فيُعتَبرُ التراخي في الزمانِ والمَرْتبةِ معًا. قوله: (لأنَّ تكوينَه في حدِّ الاستِحكامِ والتَّمامِ أهونُ عليه وأقلُّ تَعَبًا وكبَدًا، يعني: بالنِّسبة إلى الخَلْق. قال الإمام: لأنَّ في البَدْء يكون عَلَقةً، ثم مضغةً، ثم لَحمًا، ثم عَظْمًا، ثم يُخلق بَشَرًا، ثم يَخرج طفلاً، ثم يَترعرعُ إلى غير ذلك، فَيصعب عليه كلُّ ذلك. وأمّا في الإعادة فيَخرج بَشرًا سَوِيًّا بِكُن فيكون، فهو أهونُ عليه.

أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ. وقيل: الأهون بمعنى: الهين. ووجه آخر: وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله، لأنها لجزاء الأعمال، وجزاؤها واجب، والأفعال: إما محال، والمحال ممتنع أصلًا خارج عن المقدور، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارٌف وهو القبيح، وهو رديف المحال؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة. وإما تفضل والتفضل حالة بين بين؛ للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله. وإما واجب لا بدّ من فعله، ولا سبيل إلى الإخلال به، وكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الأَهْوَنُ بمعنى: الهين) روى الزَّجاج عن أبي عُبيدة وكثيرٍ من أهل اللغة: أنَّ {أَهْوَنُ} هاهنا ليس معناه: أنَّ الإعادةَ أهونُ عليه من الابتداء؛ لأنهما سهل عليه، ومثلُه في قوله: لَعَمرُكَ ما أدري وإنّي لأوْجَلُ ... على أيِّنا تَعدُو المَنيَّةُ أوّلُ أي: لَوَجِلٌ. وقالوا: اللهُ أكبر، أي كبيرٌ. قوله: (لأنَّها لجزاءِ الأعمالِ، وجزاؤها واجبٌ)، قال صاحب ((التقريب)): وفيه نظرٌ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الوُجوب العقليِّ، ولأنَّ الوُجوبَ إن كان في الذات نَافَى القُدرةَ كالامتناع، وإلاّ كان ممكنًا، فتساوى النقيضانِ؛ لاشتراكهما في مصحح المقدوريَّة، وهو الإمكانُ. وقال صاحب ((الانتصاف)): هذا على أُصولهم أيضًا غيرُ مستقيم، فإنَّ مقتضاها وجوبُ الإنشاء إذْ لولا مصلَحة اقتَضت الإنشاءَ لما وقعَ، وتلك المصلحةُ تُوجبُ متعلِّقها، فوَضَح أنَّ الزَّمخشريِّ لا إلى تَرقّى ولا على مذهب الاعتزالِ بَقِيَ.

الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول. فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب، كانت أبعد الأفعال من الامتناع. وإذا كانت أبعدها من الامتناع، كانت أدخلها في التأنى والتسهل، فكانت أهون منها. وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أى: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيٍء من إنشاٍء وإعادة وغيرهما من المقدورات، ويدل عليه قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى: القاهر لكل مقدور، (الحكيم) الذي يجرى كل فعٍل على قضايا حكمته وعلمه. وعن مجاهد (المثل الأعلى) قول لا إله إلا الله، ومعناه: وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية. ويعضده قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ)] الروم: 28 [، وقال الزجاج: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) أى: قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد ضربه لكم مثلًا فيما يصعب ويسهل. يريد: التفسير الأوّل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويَعضُده قوله: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ})؛ لأنَّ الكلام فيه لنَفْي الشَّريكِ وإثباتِ التَّوحيدِ، وتلخيصُ معناه يعودُ إلى معنى كلمةِ التَّوحيدِ، فصَحَّ أن يُسمَّى القولُ بكلمةِ التَّوحيدِ بـ {الْمَثَلُ الْأَعْلَى}. قال الزَّجاج: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} للعهد، وأن قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: معناه كالمثل المشهور بين الناس، أي: المسلمين منهم في كل زمان، نحو الأمثال المضروبة عند العرب، ويَقرُبُ منه قول المصنِّف: ((أي: الوصفُ الأعلى الذي ليس لغيرهِ مثلُه قد عُرف به ووُصِفَ في السّماواتِ والأرضِ)) إلى آخره، لكن الزَّجاج أجرى المَثلَ كالقولِ السَّائر على حقيقته وجعلَه المصنِّف مجازًا عن الوصف العَجيب الشأنِ ليشملَ القولَ وغيرَه، ولذلك قال: ((على ألسِنةِ الخلائق وأَلْسِنَةِ الدّلائلِ))، وخصَّ قَوْلَ الزَّجاجِ بالقول. قوله: (يُريد التَّفسيرَ الأوّلَ)، أي: لقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وهو أن يكون الضَّميرُ-

[(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)] 28 [ فإن قلت: أى فرق بين (من) الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)، (مِنْ شُرَكاءَ)؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيٍء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم؛ وعبيدكم أمثالكم بشر كبشٍر وعبيد كعبيد، أن يشارككم بعضهم (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها، ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفضلةٍ بين حرّ وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبيٍر عليهم كما يهاب بعضكم بعضًا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في {عَلَيْهِ} - لله؛ أي: ضرَب اللهُ قولَه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مثلاً فيما يَصعُب ويَسهُل عندكم، وينقاسُ على أُصولِكُم، لا التفسير الثاني، وهو أن يَرجِعَ الضَّميرُ إلى الخَلْقِ. قوله: (أن يَشارِكَكُم بعضُهم) مفعول ((تَرضونَ))، و ((عبيدكم أمثالكم)) حالٌ من فاعلِه. قوله: (تكونون أنتُم وهم فيه على السَّواء) والجملةُ بيانُ: ((أنْ يُشارِكَكُم)). قوله: (تَهابُون أن تَستَبِدُّوا) تفسيرٌ لقولِه: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ}. وقال أبو البقاء: {تَخَافُونَهُمْ} في موضع الحالِ من ضمير الفاعل في {سَوَاءٌ}؛ أي: فتساوَوْا خائفًا بعضُكم بعضًا مشاركتَه له في المال، أي: إذا لم ترضَوْا أن يُشارِكَكم عبيدُكم في المال، فكيف تشرِكون في عبادة الله مَن هو مصنوعٌ لِله تعالى؟ ! قوله: (وأن تفتاتوا بتدبير عليهم)، الأساس: فاتني بكذا: سبقني به وذهب به عني،

ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ (كَذلِكَ) أى: مثل هذا التفصيل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أى: نبينها؛ لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وافتاتَ فلانٌ عليكم برأيه: سبَقكم به ولم يُشاوِرْكم، وفلانٌ لا يُفات عليه، ولا يُفتاتُ عليه؛ أي: لا يُستَبدُّ برأيٍ دونَه. النهاية: قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي بكرٍ: ((أَمِثْلي يُفتاتُ عليه في بَناتِه))، فهو افْتَعل من الفَواتِ: السبق، يُقال لكلِّ مَن أحدثَ شيئًا في أمرِك: قد افتات عليك فيه. قوله: (ألا ترى كيف صوَّر الشرك بالصُّورة المشوَّهة)؛ أي: القبيحة. يريد أن الغرض مِن ذِكْر التَّمثيل تقبيحُ شأنِ الشِّركِ وإبرازُه في ذِهن السّامع بصُورة يَشْمئِزُّ منها، وذلك بأن يَتصوَّر حالَة سَيدٍ له رقيقٌ مستبدٌّ متصرفٌ في أمواله تصرُّفَ الشُّركاءِ من غير تَفْصِلةٍ، بحيث إن أراد السَّيدُ التَّصرفَ هابَ منه. ولما كان ضربُ الأمثالِ لإدْناء المتوهَّم إلى المعقول وإرادة المتخيَّلِ في صورة المحقَّق، أتى في هذه الفاصلة بقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وكذلك في الآية السابقة: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}؛ لأن ذلك تمثيل لإحياء النّاس وإنشارِ الموتى. وأمّا الفاصلةُ بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، لأنَّ القصدَ في خَلْق الأزواج السُّكونُ إليها وإلقاءُ المحبَّة بينَ الزَّوجينِ ليس لمجرَّد قضاء الشَّهوة التي يَشترك فيها البهائمُ، بل لتكثير النَّسْل وبقاءِ نَوع المُتفكِّرين الذين يؤدِّيهم الفِكرُ إلى المعرفةِ والعبادة التي ما خُلقت السَّماواتُ والأرضُ إلاّ لها، فناسَب ذلك التَّفكُّر. وخُصَّ قولُه: {مَنَامُكُم} بالليل، {وَابْتِغَاؤُكُم} بالنهار بالسَّمع؛ لأنَّ أكثرَ الناس

[(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)] 29 [ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى: أشركوا، كقوله تعالى: (إنّ الشرك لظلم عظيم)] لقمان: 13 [، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى: اتبعوا أهواءهم جاهلين؛ لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه. وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء، (مَنْ أَضَلَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُنْسدِحون باللَّيل كالأمواتِ ومتردِّدون كالبهائم بالنهار، لا يَدرون فيمَ هم ولم ذلك، لكن من ألقى السَّمعَ وهو شهيدٌ يَتنبَّه لواعظِ الله ويصغي إليه؛ لأنَّ مَرَّ اللَّيالي وكَرَّ النَّهار يناديانِ بلسانِ الحالِ: ((الرَّحيلَ الرحيلَ من دارِ الغرور إلى دار القرار))، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. وأمّا اختصاصُ قولِه: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} بالعلم الذي هو يُوجب تمييزًا؛ فلأنَّ كلَّ مَنْ له أدنى مُسْكَةٍ يُمَيِّزُ بين مخلوقٍ بالمَنطِق واللَّونِ، وكذا دلالةُ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ على وُجود الصانعِ أظهرُ الأشياء وأَبيَنُها لا تخفى على كلِّ مَنْ له تمييزٌ، ولما فيه مِنَ العُموم. وقرئ {لِّلْعَالِمِينَ} بالفتح والكسر. ثم جيء بعدَ آيات بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، وفصَل بقوله: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إيذانًا بأنه تعالى ذلك بمَحْضِ مشيئته، وبأنَّ ليس الغِنى بفعل العبد وجهده ولا العُدْمُ بعَجْزه وتقاعده، ولا يَعرفُ ذلك إلاّ مَنْ آمَن بأنَّ ذلك تقديرُ العزيز العليمِ كما قال: كم من أديبٍ فَهِمٍ قَلْبُه ... مستكملِ العقلِ مُقِلٍّ عَديمْ ومِن جهولٍ مُكثَرٍ مالُه ... ذلك تقديرُ العزيزِ العليمْ

الله) من خذله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له، فمن يقدر على هداية مثله. وقوله: (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. [(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)] 30 - 32 [ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) فقوّم وجهك له وعدّله، غير ملتفٍت عنه يمينًا ولا شمالًا، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} دليل على أنَّ المرادَ بالإضلالِ: الخذلانُ) كأنه قيل: من يَنصرُ من خذَله اللهُ ومَنع الإلطافَ عنه، والحالُ أنه لا ناصرَ له. وقلت: ليس الكلامُ في النُّصرةِ والخِذلانِ، بل في الهدايةِ والضَّلالِ {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} كالتتميم لمعنى إرادة الإضلال والمَنْع من الهداية، وذلك أنّه تعالى عَقِيب ما عَدَّد الآياتِ البيِّناتِ والشواهدَ الدّالَة على الوحدانيّةِ ونَفْي الشَّريكِ وإثبات القول بالمَعاد وضَربَ المَثَل، وفَصَل ذلك بقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. أراد أن يُسَلِّيَ حبيبَه صلى الله عليه وسلم ويُوطِّنَه على اليأس من إيمانهم، فأضرَبَ عن ذلك وقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم} وجَعل السَّبب في ذلك أنه تعالى ما أراد هدايتَهم وأنه مختوم على قلوبهم، ولذلك رتَّب عليهم قوله: {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} على التَّقريع والإنكارِ، ثم ذَيَّل الكُلَّ بقولِه: {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} يعني: إذا أراد اللهُ منهم ذلك لا مَخْلَص لهم منه، ولا أحدَ يُنقذهم لا أنتَ ولا غيرُك، فلا تذهب نفسُكَ عليهم حسرات، فاهتَمّ بخاصّةِ نفسك ومَنْ تَبِعَك، وأقِمْ وجهَك معهم للدِّين حنيفًا. قوله: (فقوِّم وجهكَ له وعدِّله)، الأساس: وقوَّمَ العُودَ وأقامه، فقام واستَقامَ وتقوَّم، ورُمحٌ قويم.

بالشيء عقد عليه طرفه، وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه، مقبلًا به عليه. و (حَنِيفاً) حال من المأمور، أو من الدين (فِطْرَتَ الله) أى: الزموا فطرة الله. أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ومنيبين: حال من الضمير في: الزموا. وقوله: (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصلاة وَلا تَكُونُوا) معطوف على هذا المضمر. والفطرة: الخلقة. ألا ترى إلى قوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) والمعنى: أنه خلقهم قابلين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: الزَمُوا فِطرةَ اللهِ، أو عليكم فِطرةَ اللهِ) قال مكيُّ: {فِطْرَتَ اللَّهِ} نصب بإضمار فعلٍ؛ أي: ((اتَّبِعْ فطرةَ الله))، ودلَّ عليه قولُه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}؛ لأنَّ معناه: ((اتَّبعِ الدِّينَ))، وقيل: {فِطْرَتَ اللَّهِ} انتَصبَ على المصدر؛ لأنَّ الكلامَ دَلَّ على فَطْرِ الله [الخلقَ] فِطرةً. والتَّقديرُ الأوَّل أقربُ إلى تأليف النَّظْم؛ لأنَّه موافقٌ لقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم}، ولترتُّبِ قولِه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} عليه بالفاء. وأما قولُه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} فهو حالٌ من الضَّمير في {أَقِمْ}، وإنَّما جُمع لأنَّه مردودٌ على المعنى؛ لأنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمّتِه؛ أي: أَقيمُوا وُجوهَكُم مُنيبِينَ إليه. وقال الفرّاءُ: أي: ((أقِمْ وَجهَكَ ومَنِ اتَّبعكَ))؛ كقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] فلذلك قال: {مُنِيبِينَ}. وفي ((المرشد)): أنَّ {مُنِيبِينَ} متعلِّق بمُضْمَرٍ، أي: كُونوا مُنيبينَ؛ لقوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: كونوا منيبين ولا تكونوا مشركين وقال: هذا حَسَنٌ. قوله: (أَلا تَرى إلى قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} يعني دلَّ قولُه: {لِخَلْقِ اللَّهِ} على أنَّ معنى فِطْرةَ الله: الخَلْقُ، وأنه من إقامة المُظْهَرِ موضعَ المُضْمَرِ من غير لفظِه السابقِ، وفائدتُه

للتوحيد ودين الإسلام، غير نابين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبًا للعقل، مساوقًا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينًا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإشعارُ بأنَّ أصلَ الجِبِلَّةِ السَّليمةِ المتهيئةِ لقَبولِ الحَقِّ أن لا تُغيٍّرَ ولا تَتْرُكَ لِمَحْضِ التَّقليد، فإنه مُجاوِبٌ للعقل. هذا معنى ما روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مولودٍ إلاّ ويولَد على الفِطرةِ، فأَبواهُ يهوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتِجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاءَ، هل تُحسُّون فيها من جَدعاءَ)). ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. الجَمعاءُ: التي لم يذهب من بدنها شيءٌ. والجَدْعاء: المقطوعةُ الأُذنِ والأَنف أو الشَّفة أو اليد، ونحو ذلك. والمعنى: أن المولودَ يُولدُ على نوعٍ مِن الجِبِلَّة، وكونِه متهيِّئًا لقبول الحقِّ طبعًا لو خَلَّته شياطينُ الإنسِ والجنِّ، كما أن البَهيمة تولَد سَويَّةَ الأطرافِ، لولا النّاسُ وتعرُّضهم إليها لبَقِيَت كما وُلِدت سَلِيمةً. قوله: (مساوقًا للنَّظر)، الأساس: هو يًساوقُه ويُقاودُه، وتَساوقَتِ الإبلُ: تَتابعت. قوله: (كلُّ عبادي خَلَقتُ حُنَفاءَ) هذا حديث طويلٌ رواه عياضٌ بن حِمار رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((إنِّي خَلَقتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنِّهمْ أَتتْهُمُ الشَّياطينُ فاجتَالَتْهُم عن دِينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهُم أن يُشركوا بي)). أخرجه مسلم.

عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بى غيرى» وقوله عليه السلام: "كل مولوٍد يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه»، (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) أى: ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير. فإن قلت: لم وحد الخطاب أولًا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص، (مِنَ الَّذِينَ) بدل من المشركين، (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تركوا دين الإسلام. وقرئ: (فرّقوا دينهم) بالتشديد، أى: جعلوه أديانًا مختلفة لاختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) فرقًا، كل واحدةٍ تشايع إمامها الذي أضلها، (كُلُّ حِزْبٍ) منهم فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقًا ويجوز أن يكون (مِنَ الَّذِينَ) منقطعًا مما قبله، ومعناه: من المفارقين دينهم كل حزٍب فرحين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اجتالَتْهُم: استخفَّتهم، فجالُوا معهم، يُقال للقوم إذا تَرَكوا القَصْدَ والهُدى: اجتالَتْهُمُ الشَّياطينُ؛ أي: جالُوا معهم في الضَّلالة. قوله: (وقرئ: {فَرَّقُوا}، حمزة والكسائي: ((فارقوا))، والباقون: {فَرَّقُوا}. قوله: (ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} منقطعًا ممّا قبلَه) أي: لم يكن بَدَلاً من المشركين بإعادة الجارِّ، ويكون خبرًا، والمبتدأ: {كُلُّ حِزْبٍ}، و ((فرحون بما لديهم)) وصفُه؛ فعلى هذا الآيةُ عامَّةٌ. روى الواحديُّ عن مقاتل: كلُّ أهل مكّةَ بما عندهم من الدِّين راضون. وسبيل الآية مع قولِه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} الآية، سبيلُ قولِه تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]؛ لأن وِزانَ الآيةِ الآخرة ووزِانَ الآيةِ الآخرة وزِانُ قولهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

بما لديهم، ولكنه رفع (فرحون) على الوصف لكل، كقوله: وكل خليل غير هاضم نفسه [(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)] 33 - 34 [ الضر: الشدّة من هزاٍل أو مرٍض أو قحٍط أو غير ذلك. والرحمة: الخلاص من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن التِّرمذيِّ، عن عبدِ الله بنِ عَمرٍو رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ بَني إسرائيلَ تَفرقت ثنتين وسَبعِين مِلَّةً، وتَفترق أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبعِين مِلَّة، كلهم في النّار إلاّ مِلَّة واحدةً)) قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)). وعلى الوجهِ الأوّلِ: الآيةُ خاصَّةٌ، ومِن ثمَّ جاءَ بضمير المشركين في قوله: ((كلُّ حزبٍ منهم)). قوله: (ولكنّه رفع {فَرِحُونَ}) قيل: يعني: كان مِنْ حقِّ الظاهر أن يَجرَّ {فَرِحُونَ}؛ لكونه صفةَ {حِزْبٍ}؛ لأنَّ الصِّفةَ في الأعداد وما هو من قَبِيلها ينبغي أن تكون للمضاف إليه؛ لقوله تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43]، ولكنَّه وصفَ هاهنا المضافَ ليبيِّنَ أنَّ الفرحَ شاملٌ للكلِّ وهو أبلَغُ. قوله: (وكلُّ خلِيلٍ غَيرُ هاضِمِ نَفسِه) تمامه: لِوصلِ خلِيلٍ صارمٌ أَو مُعَارِز ((غيرُ هَاضِمِ نَفسِه)) صفة لـ ((كُلُّ خَلِيلٍ)). ((مُعَارِز)) أي: مجانب، بالرّاء والزاي بَعْدَه يقول: كلُّ خليلٍ لا يكسِرُ نفسَه ولا يَحمل أذى صاحبِه، فهو لا محالةَ مُصارِمُه أو مُعاتِبُه. وقيل: تمامُه:

الشدّة. واللام في (لِيَكْفُرُوا) مجاز مثلها في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا)] القصص: 8 [. (فَتَمَتَّعُوا) نظير (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)] فصلت: 40 [(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال تمتعكم. وقرأ ابن مسعود: (وليتمتعوا). [(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)] 35 [ السلطان: الحجة، وتكلمه: مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن. ومعناه الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. و (ما) في (بِما كانُوا) مصدرية أى: بكونهم بالله يشركون. ويجوز أن تكون موصولةً ويرجع الضمير إليها. ومعناه: فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون، ويحتمل أن يكون المعنى: أم أنزلنا عليهم ذا سلطان، أى: ملكًا معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون. [(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)] 36 [ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أى: نعمةً من مطٍر أو سعةٍ أو صحةٍ (فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أى: بلاء من جدب أو ضيق أو مرض، والسبب فيها شؤم معاصيهم، قنطوا من الرحمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فبالصدِّ والإعراضِ عنه جَديرُ قوله: (اللام في {لِيَكْفُرُوا} مجاز)؛ لأن المعنى: ثم أذاقهم منه رحمةً ليشكروا ما أَوْلاهم من رحمته ولا يُشرِكوا به شيئًا، فعكسوا وأشركوا ليكفروا. وتحريرُه: أنَّهم ما قَصَدوا في اتِّخاذهم كُفرانَ النِّعمة، بل قَصَدوا بذلك أنْ يكونوا لهم شفعاءَ، فأدَّى ذلك إلى الكُفران، كما في قصّةِ موسى وفرعون.

[(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)] 37 [ ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته. [(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] 38 [ حق ذى القربى: صلة الرحم. وحق المسكين وابن السبيل: نصيبهما من الصدقة المسماة لهما. وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. وعند الشافعي رحمه الله: لا نفقة بالقرابة إلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد احتَجَّ أبو حنيفةَ رضي الله عنه بهذه الآية في وُجوب النَّفقةِ للمَحارم إذا كانوا محتاجينَ) قال القاضي: وهو غير مُشْعِرٍ به {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}؛ أي: آتِهِما ما وُظِّف لهما منَ الزَّكاة، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو لمَن بُسِطَ له، ولذلك رُتِّبَ على ما قبله بالفاء. وقال الإمام: لمّا بيَّن الله تعالى أنه يبسطُ [الرزق] ويَقدِر، فلا ينبغي أن يتوقَّفَ الإنسان في الإحسان، فإنَّ اللهَ إذا بَسطَ الرِّزقَ لا ينقصُ بالإنفاق، وإذا قَدَرَ لا يزداد بالإمساك. وقلت: إنه تعالى لمّا حَكى في جنس الناس أنَّهم إذا أذاقَهم منه رحمةً فرحوا بها بَطِرِينَ أَشِرِينَ، وإنْ تُصبْهم سيِّئةٌ قَنَطُوا من رحمة الله، أَنكَر عليهم ذلك، ونَبَّههُم على أنَّ تلك الإذاقة والإصابة من بَسْط الله الرِّزقَ وقَبْضِه، وقال: فلا يكن منكم بَطَرٌ عند البَسْطِ بل

على الولد والوالدين: قاس سائر القرابات على ابن العم؛ لأنه لا ولاد بينهم. فإن قلت: كيف تعلق قوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبى) بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت: لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اشكُروا اللهَ، وأنفِقُوا ممّا رَزَقكمُ اللهُ في سبيله ووَجْهِه، في الأقربينَ واليَتامى والمساكين ليزيدَكم من فَضْله، وتفوزوا بالفلاح عاجلاً وآجلاً، فلا يُوجد منكم يأس أيضًا عند القَبْض، بل ارجِعُوا إلى الله مُنيبينَ؛ لأنَّ ذلك من شؤم معاصيكم. وإليه الإشارةُ بقوله: ((لما ذكر أن السَّيئةَ أصابتْهُم بما قدَّمت أيديهم أتبعَه ذِكْرَ ما يَجبُ أن يُفْعلَ وما يَجِبُ أن يُتركَ))، ولعلَّ وجهَ استدلال أبي حنيفة رضي الله عنه رتَّب الأمرَ بإيتاء ذي القُربى على الوَصْف المناسبِ، وهو إصابةُ السَّيئةِ باجتراحِ المعاصي بعد أن ضَمَّ معَ الإيتاء لفظة: {حَقَّهُ} فيكون للوجوب، وأيضًا علَّل إثبات الفلاح باسم الإشارة إلى ذلك الوَصْفِ، وهو إيتاءُ ذي القُربى. والشافعيُّ رضي الله عنه رأى عطفَ {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} على {ذَا الْقُرْبَى} أمارةً لاشتراكهم في وُجوب الزَّكاة دُون النَّفقةِ؛ لأنَّ حُكمَ المعطوفينَ في النَّفقة خارجٌ بالاتِّفاقِ؛ لأنَّ مَنِ استحقَّ الزَّكاة سَقَطت نفقتُه. قوله: (قاس سائرَ القَرابات على ابنِ العَمَّ)، قال صاحب ((الهداية)): النَّفقةُ لكلِّ ذِي رَحِمٍ محرَّم منه، ويُعلَمُ منه أنَّ مَن كان ذا رَحِمٍ ولم يكن محرَّمًا كأولاد العَمِّ والخال، فلا تَجبُ النفقةُ عليه؛ لأنَّ الصِّلةَ في القَرابةِ واجبةٌ دونَ البعيدةِ. وأمّا قول المصنف: ((للمَحارم إذا كانوا محتاجين)) فمحمولٌ على المَحارم من النَّسَبِ دونَ الرَّضاعِ والمصاهَرة؛ لأن سياقَ الكلامِ في ذي القربى.

أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك (يُرِيدُونَ وَجْهَ الله) يحتمل أن يراد بوجهه: ذاته أو جهته وجانبه، أى: يقصدون بمعروفهم إياه خالصًا وحقه، كقوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)] الليل: 20 [أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهةً أخرى، والمعنيان متقاربان، ولكن الطريقة مختلفة. [(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ الله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)] 39 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أتبعَه ذِكْر ما يَجِبُ أن يُفعل وما يَجبُ أن يُترك) يعني: إذا تَقرَّر أن ما يُصيبهم من مصائبَ دنيويَّةٍ ودِينيَّةٍ بسَببِ معاصِيهم، فعلى كلِّ ذي لُبٍّ أن يعتبرَ العاقبة ويتحرّى إيتاءَ معروفِه في أهله ومُستَحقِّه، ويجتنبَ إيتاءَ ما يَمحَقُه الله في الدُّنيا من الرِّبا والسُّخط على صاحبه في العُقبى منَ الرِّياء، وممّا يدلُّ على أنَّ الآيتينِ متقابلتان تَكريرُ {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} فيهما، وتخصيصُ كلٍّ منَ الآيتينِ باسم الإشارة الدَّالٌ على أنَّ ما قبلَه جديرٌ بما بعدَه لأجل ذِكْرِ مُوجبه. قوله: (أي: يَقْصدون بمعروفهم إيّاه [خالصًا] وحقَّه) عطفٌ على إياه؛ نحو: أعجَبَني زيدٌ وكَرمُه، وقيل: إنّما جاء بالضَّمير منفصلاً لما أهمَّه تقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول به، فيتعذَّر الاتصالُ. هذا على تقدير أنْ يُرادَ بوجهه ذاتُه، فيُفيدُ الاختصاصَ والإخلاص، وبقوله: ((أو يقصدون جهةَ التقرُّب على أن يُراد بوجهِه جهتُه وجانبُه)) فيه نَشْرٌ لما لفَّ في قولِه: ((يَحتملُ أن يُرادَ بوجهه ذاتُه أو جهتُه))، أو لِمَا في الثاني من معنى الكناية عن الذاتِ؛ لأنه تعالى مقدَّسٌ عنِ الجانبِ؛ كقوله تعالى: {مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56] ورجع المعنى إلى ذاته عزَّ وجل معَ مُراعاة العَظَمة، قال: و ((المعنيان متقاربانِ، ولكنَّ الطريقةَ مختلفةٌ)).

هذه الآية في معنى قوله تعالى: (يَمْحَقُ الله الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ)] البقرة: 276 [سواًء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا (مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي) أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله، ولا يبارك فيه (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أى: صدقةٍ تبتغون به وجهه خالصًا، لا تطلبون به مكافأةً ولا رياًء وسمعة، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الحسنات. ونظير المضعف: المقوي والموسر، لذي القوّة واليسار: وقرئ بفتح العين. وقيل نزلت في ثقيف، وكانوا يربون. وقيل: المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدى له، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى، فليست تلك الزيادة بحرام، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة. وقالوا: الربا ربوان: فالحرام: كل قرٍض يؤخذ فيه أكثر منه: أو يجرّ منفعة. والذي ليس بحرام: أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها. وفي الحديث: «المستغزر يثاب من هبته» وقرئ: (وما أتيتم من ربا)، بمعنى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي الحديث: ((المُستَغْزِرُ يُثابُ من هِبَتِه)))، النهاية: عن بعض التابعين: الجانبُ المُستغزِرُ يُثاب من هِبَتِه. المُستغزِرُ: الذي يطلبُ أكثرَ مما يُعطي، وهي المُغازرَة؛ أي: إذا أهدى لك الغريبُ شيئًا يَطلبُ أكثرَ مِنه فأعطِه في مقابلة هديتِه. وأما قولُه تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدَّثر: 6] فمخصوصٌ. قوله: (قرئ: ((ما أتيتم من رِبًا))) قرأها ابنُ كثير مقصورًا، وهو يعود في المعنى إلى المشهورة، يقال: أتى معروفًا وأتى قبيحًا إذا فَعلَهما. وقرأ نافع: ((لتُربوا)) بالتاء مضمومة؛

وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا. وقرئ: (لتربوا)، أى: لتزيدوا في أموالهم، كقوله تعالى: (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أى يزيدها. وقوله تعالى: (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم: هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. والمعنى: المضعفون به؛ لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره: فمؤتوه أولئك هم المضعفون. والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذًا، والأوّل أملأ بالفائدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لتصيروا ذوي زيادةٍ. من قولهم: أقوى الرَّجلُ وأضعَفَ: إذا صار ذا دابَّة قويٍّ وضعيفٍ في ((المطلع)). قوله: (فهو أمدحُ لهم من أن يقول: فأنتُم المُضْعِفُون)؛ لأنَّه إذا التفت إلى الغير شاكرًا لصنيعهم واستحمادًا منه لهم وترغيبًا له فيما نالوا به هذه المنزلة، كان أبلغَ وأبلَ ممّا لو قال لهم: فأنتم المُضعِفُون. وإليه الإشارةُ بقوله: ((كأنّه قال لملائكتِه وخواصِّ خَلْقِه: فأولئك [الذين] يُريدون وَجْهَ الله)) مباهاةً بهم. وأيضًا فيه إشعارٌ بأنَّ أولئك محقُّون بأنْ يكونوا مُضعِفيَن لاكتسابهم تلك الفضيلةَ، وليس في ((فأنتم المُضْعِفُون)) من ذلك شيءٌ. قوله: (فمُؤْتُوه) روي بضمِّ التاء؛ اسمُ فاعِلٍ من الإيتاء، ورويَ بفتحها؛ اسم مفعولٍ. وفي الحاشية: الصوابُ: ((فمُؤتَوْهُ)) بفتح التّاء، والمراد به: أخْذُ الزَّكاة تفضيلاً لهم على أخذِ الرِّبا. قوله: (وهذا أسهلُ مأخذًا والأوّل أملأُ بالفائدة)، قال صاحب ((التقريب)): والأوَّلُ أملأُ بالفائدة لدقيقةِ الالتفاتِ، والثاني أسهلُ مأخذًا؛ لأنَّ حَذْفَ المبتدأ أكثرُ في الكلام،

[(الله الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)] 40 [ (الله) مبتدأ وخبره (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أى: الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيٍء منها أحد غيره، ثم قال: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الذين اتخذتموهم أندادًا له من الأصنام وغيرها (مَنْ يَفْعَلُ) شيئًا قط من تلك الأفعال؛ حتى يصح ما ذهبتم إليه، ثم استبعد حاله من حال شركائهم. ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة للمبتدأ، والخبر: (هل من شركائكم) وقوله: (مِنْ ذلِكُمْ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ؛ لأن معناه: من أفعاله، و (من) الأولى والثانية والثالثة: كل واحدةٍ منهنّ مستقلة بتأكيد، لتعجيز شركائهم، وتجهيل عبدتهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولأنَّ الضَّميرَ في ((به)) راجعٌ إلى ((ما))، فلابُدَّ من تقدير مضافٍ؛ أي: بإيتائه، فيَكثُر الإضمارُ. وعن بعضِهم: عُرُوُّ الثاني عن دقيقةِ الالتفاتِ لعُمومه. قوله: (والخبر: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم}) أي: الله الموصوفُ بكونِه خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا، مَقولٌ في حقّه: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم} مَن هو موصوفٌ بما هو موصوفٌ به. قوله: (لأن معناه: من أفعاله) أي: المشار إليه بـ ((ذلك)): الخَلْقُ والرِّزقُ والإماتةُ والإحياء، وقد عُلِمَ أنّها من أفعال الله. قوله: (كلُّ واحدةٍ منهنَّ مستقلةٌ بتأكيد لتَعْجيز شركائهم)، أما أولاً: فإنَّ ((مِن)) لبيان ((مَنْ يفعل))، ومتعلِّقُه محذوفٌ؛ أي: هل جصل واستقرَّ مَنْ يفعلُ كائنًا من شركائكم؟ ! أَنكر أن يكونَ لهم شركاءُ تَفْعَلُ ما يفعل الباري. وأما ثانيًا: فقيل: {مِن ذَلِكُم} و ((مِن)) للتَّبعيض؛ أي: يفعل بعضَ ما يفعلُه الباري ولو أقلَّ شيءٍ، كلاّ {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

[(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)] 41 [ (الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) نحو: الجدب، والقحط، وقلة الريع في الزراعات، والريح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق، وإخفاق الصيادين والغاصة، ومحق البركات من كل شيء، وقلة المنافع في الجملة، وكثرة المضارّ. وعن ابن عباس: أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر. وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أنّ المراد بالبحر: مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة: العرب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما ثالثًا: فهي زائدة لتأكيد النَّفي معنًى، وقيل: ((مِنْ)) الأُولى والثانيةُ للتبعيض. قوله: (الحَرَق)، المغرب: الحَرَقُ: اسمٌ منَ الإحراقِ، كالشَّفَقِ مِن الإشفاقِ، ومنه: الحَرَقُ والغَرَقُ والشَّرَق. قوله: (وإخفاق الصَّيادين)، الأساس: أخفَق الصّائد والغازي: لم يَظْفَرْ. قال: فيُخفقُ مَرَّةً ويصيدُ أخرى ... ويَفجعُ ذا الضَّغائن بالأريب قوله: (والغاصَة) روى صاحب ((المطلع)): عن فُضَيلِ بنِ مرزوقٍ، قلت لعطية: أيُّ فسادٍ في البحر؟ قال: يقال: إذا قَلَّ المطَرُ قَلَّ الغَوْصُ؛ لأنَّ الأصداف تفتح أفواهَها إذا مطرت [السماء]، فما وقع فيها من ماء السَّماء فهو لؤلؤ. وروى محيي السُّنة عن عكرمة نحوه.

تسمي الأمصار البحار. وقرئ: (في البر والبحور)، (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب معاصيهم وذنوبهم، كقوله تعالى: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)] الشورى: 30 [. وعن ابن عباس: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ) بقتل ابن آدم أخاه. وفي البحر بأن جلندى كان (يأخذ كل سفينة غصبا)، وعن قتادة: كان ذلك قبل البعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت: ما معنى قوله: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه، وأمّا على الثاني فاللام مجاز، على معنى أنّ ظهور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تسمي الأمصارَ البِحارَ) ومنه حديثُ عبدِ اللهِ بنِ أُبيٍّ: اصطلح أهلُ هذهِ البُحَيرَةِ أن يُعصِّبوه بالعصابة. البُحيَرة: المدينة. قوله: (رجع راجعون) أي: رجع قوم راغبون في الإسلام رجوعًا. قوله: (وأمّا على الثّاني فاللاّمُ مجاز)؛ لأنَّ المراد بالفساد حينئذ ظهورُ الشَّرِّ والمعاصي في الأرض بسبب كَسْبِ النّاس ذلك وقوله: {لِيُذِيقَهُم} عِلَّة لكَسْب الناس المعاصي وليس غرضُهم في كسبها أن يُذيقَهم اللهُ وبالَ ما كَسَبوا، فاللاّمُ حينئذٍ كاللاّم في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. وأمّا على الأوَّل فهي عِلَّة لظُهور الفَسَادِ، والمراد بالفساد: الجَدبُ والقَحْطُ ومَحْقُ البَركاتِ وأمثالُها، وهي فعلُ اللهِ زجرًا لهم ورَدْعًا من ذلك الكَسْب، وإليه أشار بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمّا هم عليه. قال أبو البقاء: {لِيُذِيقَهُم} متعلِّق بـ {ظَهَرَ} أي: ليصيرَ حالُهم إلى ذلك. وقيل: التقدير: ((عاقَبهم ليُذيقَهُم)).

الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك. وقرئ: (لنذيقهم) بالنون. [(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)] 42 [ ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله، حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم، وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، ودل بقوله: (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سببًا لذلك. [(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)] 43 [ القيم: البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج، (مِنَ الله) إمّا أن يتعلق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (((لنذيقهم)) بالنون) قرأها ابن كثير. قوله: (ثم أكَّد تَسبُّبَ المعاصي لغَضَبِ الله ونكالِه حيث أمرَهم بأنْ يَسيروا) هذا مبنيٌّ على قوله: ((أنَّ اللهَ تعالى قد أفسَد أسبابَ دُنياهم ومَحقَها؛ ليُذيقَهم وَبَالَ بَعضِ أعمالِهم في الدُّنيا)). وقال الإمامُ: لمّا بيّن حالَهم بظُهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم، بيَّن لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالُهم كأفعالهم، فقال: {قُلْ سِيرُوا}. ويجوز أن يكون مبنيًّا على الوجهِ الثاني، واللاّمُ في قول المصنِّف: ((لغضب الله)) تتعلّق بـ ((المعاصي)) على التَّهكُّميَّة؛ أي: أكَّد تسبُّبَ أن يعصوا لأجل غضب الله.

بـ (يأتي)، فيكون المعنى: من قبل أن يأتى من الله يوم لا يردّه أحد، كقوله تعالى: (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها)] الأنبياء: 40 [أو بـ (مردّ)، على معنى: لا يردّه هو بعد أن يجيء به، ولا ردّ له من جهته. والمردّ: مصدر بمعنى الردّ، (يَصَّدَّعُونَ) يتصدّعون: أى يتفرّقون، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)] الروم: 14 [. [(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)] 44 - 45 [ (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ؛ لأنّ من كان ضاره كفره؛ فقد أحاطت به كلّ مضرّةٍ (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى: يسؤون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغص ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو بـ {مَرَدَّ} أي يتعلق قوله: {مِنَ اللَّهِ} بـ {مَرَدَّ}، و {مِنَ} ابتدائيةٌ؛ ولهذا قال: ((من جهتِه))، والوجهُ الأوّلُ أبلغُ لإطلاق الردِّ وتَفخيمِ اليومِ، وإن إتيانَه من جهة عظيمٍ قادرٍ ذي سلطان قاهرٍ. قوله: ({فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} كلمةٌ جامعةٌ) أي: قليلةُ الألفاظِ عظيمةُ المباني وافرةُ المعاني ونظيرُه ما وَردَ في الحديث يومَ بدرٍ: ((هذا يومٌ له ما بعدَه))، أي: ما يعدهُ من الظفر والنُّصرة؛ إذ هو فتحُ الفتوح، وبه يدخل الناس في دِين الله أفواجًا إلى قيام القيامة. ومنه قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. قوله: (لئلاّ يُصيبَه في مَضْجَعِه ما يُنيبه عليه) من النُّبُوّ، أي: يجعله نابيًا، يقال: نَبَا على المَضْجَع: إذا لم يستقرَّ عليه، وأنباه عليه غيرُه: وتقول العرب: الصِّدقُ يُنبي عنك لا الوعِيد، أي: يُبعِدُ عنك العدوَّ. الأساس: نَبَا به منزله وفِراشُه. قال: فأقم بِدارٍ ما أصبتَ كرامةً ... وإذا نَبا بك منزلٌ فتحوَّلِ

عليه مرقده: من نتوٍء أو قضض أو بعض ما يؤذى الراقد. ويجوز أن يريد: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أمّ فرشت فأنامت. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه. ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه. (لِيَجْزِيَ) متعلق بـ (يمهدون) تعليل له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو قضض)، الأساس: وقعنا في قَضَّةٍ وقَضَض: في حصًى صغارٍ مُكسَّرة، وفي فِراشِه قَضَضٌ، وأقَضَّ عليه المَضْجعُ، أي: تَترَّب وخَشُنَ، وأقضَّ اللهُ عليه يتعدَّى ولا يتعدَّى. قوله: (أمّ فرشت فأنامت) مَثلٌ يضربُ في بر الرَّجلِ صاحِبه وحُنوِّه عليه. قال قُراد ابن غَوِيّة: وكنت له عَمًّا لطيفًا ووالدًا ... رَؤُوفًا وأمًّا فَرَّشَتْ فأنامت ورواية الميداني: مهدت فأنامت، فعَلى هذا قولُه: {فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} كنايةٌ إيمائيةٌ عن الشَّفقةِ والمَرْحمةِ، وعلى الأوَّل استعارةٌ تبعيَّةٌ، شبَّه حالة الملكَّف مع عَمَله الصالحِ وما يتحصَّل به من الثَّوابِ ويَتخلَّص منَ العقاب، بحالة مَن يُمهِّدُ فراشَه ليستريحَ عليه، ولا يُصيبه في مَضجَعِه ما يُنغِّص عليه. قولُه: ({لِيَجْزِيَ} متعلِّق بـ {يَمْهَدُونَ} تعليلٌ له) قال القاضي: هو عِلَّة لـ {يَمْهَدُونَ} أو لـ {يَصَّدَّعُونَ}، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصودُ بالذات، والاكتفاء على فحوي قولِه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}، فإنَّ فيه إثباتَ البُغْضِ لهم والمحبَّة للمؤمنينَ ومَنْ فَضْلُه دالٌّ على أنَّ الإثابةَ تَفضُّلٌ مَحْضٌ، وتأويلُه بالعطاء أو الزيادةِ على الثَّواب عُدولٌ عنِ الظاهرِ.

(مِنْ فَضْلِهِ) مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب؛ وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب؛ فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له: أو أراد من عطائه وهو ثوابه؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. وتكرير. (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الظاهِرُ أن قولَه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} -الآيةُ بتمامِها- كالمُوردِ للسّؤال، والخطابُ لكلِّ أحدٍ من المكلَّفين. وقولُه: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} -الآية- واردٌ على الاستئنافِ، مُنْطَوٍ على الجواب، فكأنَّه لمّا قيلَ: أَقيمُوا على الدِّين القيِّم، قَبْلَ مجيءِ يومٍ يتفرَّقون فيه، فقيل: ما للمُقيمين على الدِّين وما على المُنحرفين عنه، وكيف يتفرَّقون؟ فأُجيبَ: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} الآية. وأمّا قولُه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} -الآية- فينبغي أن يكونَ تعليلاً للكلِّ ليفصل ما ترتَّبَ على ما لهم وعليهم، ولكن يتعلَّقُ بـ {يَمْهَدُونَ} وحدَه لشدَّة العنايةِ بشأن الإيمانِ والعمل الصالحِ وعَدَم العَبْءِ بعمل الكافرِ، ولذلك وُضِع مَوضِعَه {نَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. قال الإمام: {نَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وعيد، ولم يُفَصِّله، وهذا الإجمالُ فيه كالتفصيل، فإنَّ عدمَ المحبةِ مِن اللهِ تعالى غايةُ العذابِ. قوله: (وهذا يشبه الكناية)، يعني: استعمال الفضل هنا من الكناية، وليست بكنايةٍ تامَّةٍ؛ لأنَّه لم يُرِد بِالفَضْل الأجرَ الواجبَ على مَذهبِه، بل الزِّيادةَ ولكن بعد حُصول مَتْبُوعِه، فهو بهذا الاعتبار كناية، ولَعَمْري هذا تَعسُّفٌ، والوجه الثاني أشدُّ تَعسُّفًا منه. قوله: (لأنَّ الفُضولَ) عن بعضِهم: الفُضول: جَمعُ الفَضْلِ، يُستعملُ في الذَّمّ، والواحد في المَدْح، بخلاف الرِّيح والرِّياح، فإنهما عكس هذا.

الصالح. وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) تقرير بعد تقرير، على الطرد والعكس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الطَّرد والعَكْس) وهو كلُّ كلامَين يُقَرِّرَ الأوَّلُ بمنطوقِه مفهوم الثّاني وبالعكس. قال ابن هانئ: فما جازَهُ جودٌ ولا حلَّ دونَه ... ولكن يَصيرُ الجودُ حيثُ يصيرُ قال المالكيُّ في ((المصباح)): متى انتَفى كونُ الجُود يتقدَّم شخصًا ويتأخَّر عنه، فقد ثَبَت كونُه معه وبالعكس. وأما تنزيلُ الآيةِ عليه على ما قرَّره المصنِّفُ، فإنَّه تعالى قال أولاً: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، ثم علَّله بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ}، وكان من حقِّ الظاهر: (لِيَجْزِيَهم) فوُضع المُظهَرُ موضِعَ المضمَرِ إشعارًا بالعِلِّيةِ، وأنَّ الإيمانَ والعملَ آذنا بأنَّ الله وليُّ صاحبِهما حيثُ يَجزيه من فَضْله، فيكون مفهومُ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} الموافقُ أنَّه يُحب المؤمن الصالح، مفهومُه المخالفُ أنَّه لا يحبُّ الكافرَ، فقولُه: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} بمَنطُوقه مقرِّرٌ لمفهوم السّابِق وبالعكس. وفي بعض الحواشي المغربية: أنَّ كُلَّ مؤمنٍ صالحٍ مفلحٌ عندَه وعَكسُه في ضِمنه، وهو مَن ليس بمؤمنٍ صالحٍ لا يُفلح عندَه، وكذلك قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} طَرْدُه كلُّ كافرٍ غير محبوبٍ عندَه وعكسه في ضِمنه، وهو مَن ليس بكافر محبوبٌ عندَه؛ لأنه مؤمنٌ، والعكس ملزومُ الطَّردِ؛ لأنَّ العكسَ يحتاج إلى الطَّردِ قطعًا، بخلاف الطَّردِ فإنه لا يحتاج للعكس. قال الإمام: وفي الآية لطيفةٌ، وهي أنَّ الله تعالى عندما أسندَ الكُفر والإيمانَ إلى العبدِ قدَّم الكافرَ، وعندما أسنَدَ الجزاءَ إلى نفسه قدَّم المؤمنَ؛ لأنَّ قولَه: {مَن كَفَرَ} وعيدٌ للمكلَّف ليمتنعَ عمّا يَضرُّه فيُنقذه من الشرِّ. وقولُه: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} تحريضٌ له وتَرغيبٌ في الخير ليُوصِلَه إلى الثَّواب، والإيعادُ مُقدَّم، وأمّا عند الجزاء ابتدأَ بالإحسان إظهارًا للكَرم والرَّحمة.

[(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)] 46 [ (الرِّياحَ) هي الجنوب والشمال والصبا، وهي رياح الرحمة، وأما الدبور فريح العذاب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وقد عدد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الرِّياَحُ} هي الجنوبُ والشَّمالُ والصَّبا) قال المرزوقيُّ في كتاب ((الأزمنة والأمكنة))، روى ابنُ الأعرابيِّ عن الأصمعي وغيره قالوا: الرِّياح أربعة: الجنوبُ والشَّمال والصَّبا والدَّبور. قال ابن الأعرابي: وكلُّ ريحٍ بينْ ريحينِ فهي نَكباءُ، والجمع: نَكْبٌ. وأما مَهبُّهنَّ فقال ابن الأعرابيِّ: مَهبُّ الجنوب مِن مَطلعِ سُهيلٍ إلى مطلع الثُّريّا، والصَّبا من مطلع الثُّريّا إلى بنات نَعْشٍ، والشَّمال مِن بَنات نَعْشٍ إلى مسقط النَّسْر الطائرِ، والدَّبُور من مَسقط النَّسر الطَّائِر إلى مَطلعِ سُهَيل. وعن أبي عُبيدَة: الشمال عند العرب للرَّوح، والجنوب للأمطار والأنداء وللشِّقّ والعُمْق، والدّبُور للبَلاء، وأهونُه أن يكون غُبارًا عاصفًا يُقذي العينَ، وهي أقلُّهن هُبوبًا، والصّبا لإلقاح الأشجار. قوله: (اللَّهم اجعلها رياحًا ولا تَجعلها رِيحًا)، النهاية: العربُ تقول: لا تَلقَحُ السَّحاب إلا من رِياح مختلفة؟ يريد: اجعَلْها لَقاحًا للسَّحاب ولا تَجعلْها عذابًا، ويُحقِّقُ ذلك مجيءُ الجَمعِ في آيات الرَّحمةِ، والواحدِ في قِصصِ العذابِ؛ كـ {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] و {رِيحًا صَرْصَرًا} [فُصِّلَت: 16]. الراغب: الريحُ معروف، وهي فيما قيل الهواءُ المتحرِّك، وعامَّة المواضعِ التي ذكر [الله تعالى] فيها إرسالَ الريح بلفظ الواحد فعبارةٌ عن العذاب؛ كقوله: {نَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا

الأغراض في إرسالها، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض». وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك، (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) في البحر عند هبوبها. وإنما زاد (بِأَمْرِهِ) لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت فأغرقتها، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يريد تجارة البحر؛ ولتشكروا نعمة الله فيها. فإن قلت: بم يتعلق (وليذيقكم)؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون معطوفًا على (مبشرات) على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم. وأن يتعلق بمحذوف تقديره: وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صَرْصَرًا} [القمر: 19] وكلُّ موضعٍ ذُكر فيه بلفظ الجمع عبارةٌ عن الرَّحمة؛ كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}. قوله: (إذا كَثُرت المؤتَفِكاتُ زَكَتِ الأرضُ)، الأساس: أَفِكَه عن رأيه: صَرَفهُ، ورأيتُ أن أفعَلَ كذا فأَفكْتُ عن رأيي، وائتفكت الأرض بأهلها: انقلبت، وإذا كَثُرت المؤتَفِكات زَكَتِ الأرضُ، وهي الرِّياحُ المختلفاتُ المهابِّ. قوله: (لأنَّ الريحَ قد تهبُّ ولا تكونُ مؤاتيةً)، قال صاحب ((المطلع)): يعني هبوبُها مواتيةً أمرٌ من أمورِه التي لا يقدر عليها غيرُه. وإليه الإشارةُ: بقوله {إِن يَشَا يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، ثم قال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أي: بالغَرَق إذا اشتدَّت الرِّيح وقيل: الحاصلُ أنّه قد يُجرى الرِّيح على وَجْهٍ لا تكونُ مواتيةً أي: موافقةً للمُراد، فيحتاج الملاَّحون إلى حَبْس السُّفنِ، ولو كان بطبيعة الرِّيح لما اختَلفت، فعُلم أن ذلك بإرادة الله وأمْرِه. قوله: (ولِيُذيقكم وليكونَ كذا وكذا أرسلناها) ((كذا وكذا)) كنايتان عن قوله: {وَلِتَجْرِيَ

[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)] 47 [ اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا ... وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، والمحذوفُ المقدَّر: ((أرسلناها))، والمحذوفُ المقدَّر: ((أرسلناها))، فيكون عطفَ جملةٍ على جملةٍ. قال القاضي: {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} وهي المنافع التابعة لها من الخِصْب والرَّوح، وهو عطفٌ على علَّة محذوفةٍ دلَّ عليها {مُبَشِّرَاتٍ}، أو عليها باعتبار المعنى، أو على {يُرْسِلَ} بإضمار فعلٍ معلَّلٍ دل عليه {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ}. قوله: (اختَصَرَ الطريقَ إلى الغَرَض) إلى آخره، لخَّصَه صاحبُ ((المطلع)) وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى هؤلاء {فَجَاءُوهُم} بالدَّلالاتِ الواضحاتِ على صِدْقِ دَعْواهم كما أَتيتَ هؤلاءِ بالمُعجزات الدَّالةِ على صدقكَ {فَانتَقَمْنَا} أي: انتصرنا {مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} وهم المكذِّبون {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} اختَصَر الطَّريقَ إلى الغَرَض بأنْ أدرج تحتَ ذِكْر الانتصار والنصر ذِكْرَ الفريقَينِ-أعني المكذِّبين والمصدِّقين- وقد أَخْلى الكلامَ أولاً عن ذكرهما، وفي هذا تبشير للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ بالنَّصرِ في العاقبةِ على المكذبينَ، وأكَّد ذلك بقوله: {حَقًّا} ومعنى حَقًّا أنَّه تعالى أَخْبر به، وإذا أَخبر بشيء حُقَّ ذلك الشَّيءُ ووُجد ما أخبرَ به. قوله: (بأن أَدرَجَ تحتَ ذكرِ الانتصار)، الأساس: أَدْرجَ الكُتيب في الكتاب: جعلَه في دُرْجِه؛ أي: في طَيِّهِ وثَنِيِّه. وقلت: هاهنا ثلاثةُ مَقامات: أولها: قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} وليس فيه أنَّ هذا القوم من هم؟ المصدِّقون أم المكذبون؟ وإليه الإشارة بقوله: ((وقد أخلي الكلامُ أولاً عن ذِكرهما)).

وقد أخلي الكلام أوّلًا عن ذكرهما. وقوله: (وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية؛ حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم، وقد يوقف على (حقًّا)، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقًا، ثم يبتدأ: (علَيْنا نَصْرُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}، صرَّح فيه ذكر المجرمين، وأَدرج فيه ذِكْر المؤمنين، لأنَّ المُراد: انتقمنا للَّذين آمنوا من الذين أجرموا. وثالثها: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} صرَّح بذكر المؤمنين، وأدرج ذكر المكذبين؛ لأنَّ المعنى: كان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين على الكافرين، وإليه الإشارةُ بقوله: ((أدرجَ تحتَ ذِكْر الانتصارِ والنَّصر ذِكْر الفريقين))، صرَّح في الانتقام بذِكْر المجرمينَ، وفي النَّصر بذِكْر المؤمنين تعظيمًا للمؤمنين وازدراءً بالمكذِّبين، ورَفْعًا لشأن أولئك، وحَطًّا من منزلة هؤلاء، والله أعلم. قوله: (وقد يُوقَفُ على {حَقًّا}، ومعناه: وكان الانتقامُ منهم حقًّا) قال صاحبُ ((الكواشي)): أُوْلِعَ جماعةٌ بالوَقْف على {حَقًّا} وليس بمُختارٍ؛ لأنَّ الوَقْفَ على {حَقًّا} يُوجب الانتقامَ ويُوجبُ نَصْرَ المؤمنين، ولا يَلزم أنه تعالى يَنتقمُ من كلٍّ، بل قد يعفو، وتَرْكُ الوَقْف على {حَقًّا} إنّما يُوجب نَصْرَ المؤمنين، ولا يحتاج إلى تقديرِ محذوفٍ؛ أي: كان الانتقامُ. ذَكَر هذا المعنى صاحبُ ((المُرشد)) وزاد: أنه تعالى قد يعفو ولا ينتقمُ كما فَعَل بقوم يونسَ مِنْ صَرْف العذابِ، ولا بدَّ أن يَنْصُرَ المؤمنين على كلِّ حالٍ. وقلت: وفي القول بإيجاب نَصْرِ المؤمنينَ إيجابُ القولِ بالانتقام من الكافرين، وبالعكس كما مَرَّ الكلامُ في الإدراج، والأسلوبُ من باب الطَّردِ والعَكسِ أو التَّذييل. فإن قلت: لِمَ ذهب إلى الإدراج؟ وهَلاّ جَعل القرينتَينِ مستقلَّتينِ في الدّلالةِ كما قالا.

الْمُؤْمِنِينَ)، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا قوله تعالى: (كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). [(الله الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)] 48 - 49 [ (فَيَبْسُطُهُ) متصلًا تارةً (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أى: قطعًا تارةً (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين جميعًا. والمراد بالسماء: سمت السماء وشقها، كقوله تعالى: (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)] إبراهيم: 24 [، وبإصابة العباد: إصابة بلادهم وأراضيهم (مِنْ قَبْلِهِ) من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها)] الحشر: 17 [. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلتُ: لا بُدَّ من القولِ به؛ لأنَّ موقعَ قولِه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} موقعُ التوكيدِ والتَّذييلِ والتعليل من قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}؛ لأنَّ المعنى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} فكذَّبوهم واستهزؤوا بهم وقَصَدوا الفَتْكَ بهم، {فَانتَقَمْنَا} منهم ونَصَرْنا المؤمنين، وقد جَرت سُنَّةُ الله بالانتقام والنَّصر. قوله: (ما من امرئ مسلم) الحديث بتمامه مذكورٌ في ((شرح السُّنة)) عن أبي الدَّرداء. قوله: (وشِقّها) أي: ناحيتها. الأساس: قعد في شِقٍّ من الدّار؛ أي: ناحيةٍ منها. قوله: (وتمادي إبلاسُهم)، الأساس: ناقةٌ مِبْلاس: لا تَرْغو من شِدّة الضَّبَعَة، وقد أبلَسَتْ، ومنه أبلَسَ فلانٌ: إذا سَكت من يأس، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}.

[(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)] 50 [ قرئ: "أثر" و (آثار) على الوحدة والجمع. وقرأ أبو حيوة وغيره: (كيف تحيى)، أى: الرحمة (إِنَّ ذلِكَ) يعنى: إنّ ذلك القادر الذي يحيى الأرض بعد موتها: هو الذي يحيى الناس بعد موتهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: ((أَثَرِ)) و {آثَارِ} على الوحدة والجمع) على الوحدة: نافعٌ وابن كثيرٍ وأبو عمرٍو وأبو بكرٍ، والباقون: على الجمع. قوله: (وقرأ أبو حَيوةَ وغيرُه: ((كيف تُحيي))؛ أي: الرحمة) قال ابن جِنِّي: قرأها الجَحْدريُّ وابنُ السَّميفع وأبو حيوة ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرَّحمةِ، ولا يقول على هذا: أما ترى إلى غلامِ هندٍ كيف تَضْرِب زيدًا؟ بالتاء. والفَرقُ أنَّ الرحمةَ قد يقوم مقامَها أَثرُها، فإذا ذكَرتَ أثرَها فكأنَّ الغرضَ إنما هو هي، وليس كذلك غلامُ هندٍ. وقوله: {كَيْفَ يُحْيِي} جملة منصوبةُ المحَلِّ على الحال حملاً على المعنى لا على اللَّفظ، وذلك أن اللّفظ استفهامٌ، والحال ضربٌ من الخبر، والاستفهام والخبر متدافعان. وتلخيص كونه حالاً قولُك: فانظر إلى أَثرِ رحمةِ الله مُحييةً للأرضِ بعد موتها. قوله: (الذي يحيي الأرض بعد مَوتها: هو الذي يُحيي الناسَ بعد موتِهم)، ((يحيي)) الأول حكايةُ حالٍ ماضيةٍ بشهادة قولِه: {فَانظُرْ}؛ لأنَّ الأمر بالنَّظرِ مسبوقٌ بوجود المنظورِ إليه، وإنّما عَدَل إلى المضارع لإحضارِ تلك الحالةِ العَجيبةِ الشأنِ في مشاهدة السامِع، وهي اخضرارُ الأرضِ بآثار رحمةِ الله بعد جَفافِها نَحْوَ قولِه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المقدورات قادر، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء. [(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)] 51 - 53 [ (فَرَأَوْهُ) فرأوا أثر رحمة الله؛ لأنّ رحمة الله هي الغيث، وأثرها: النبات. ومن قرأ بالجمع: رجع الضمير إلى معناه؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. (ولئن): هي اللام الموطئة للقسم، دخلت على حرف الشرط، و (لَظَلُّوا) جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين، أعنى: جواب القسم وجواب الشرط، ومعناه: ليظلنّ، ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السماء ماء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]. قال: صُرِفَ من الماضي إلى لفظ المضارع لنُكتةٍ فيه، وهي إفادةُ بقاء أثَرِ المطر زمانًا بعدَ زمانٍ. وأما ((يُحيي)) الثاني فمضارعٌ، ولمّا كان وَعْدُ الله مقطوعَ الحصولِ جيءَ به في التنزيل اسمًا مع اللام خبرًا لـ (أنَّ) واسمُه اسمُ الإشارةِ، والمشارُ إليه ما يُفهم من الكلام السابق الدالِّ على القُدرة الباهرة، ولذلك قال: ((ذلك القادر))، وذُيِّلَتْ بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قوله: ({عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من المَقدُورات قادرٌ)، الراغب: القديرُ: هو الفاعلُ لِمَا يشاءُ على قَدْر ما تَقتضيه الحكمةُ لا زائدًا ولا ناقصًا، ولهذا لا يصحُّ أن يُوصفَ به إلاّ الله تعالى. قوله: (ومعناه: ليَظَلُّنَّ)، قال أبو البقاء: {لَّظَلُّوا} بمعنى: لَيَظَلُّنَّ؛ لأنَّه جوابُ الشَّرط، وكذلك {أَرْسَلْنَا} بمعنى: يُرسل.

القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر؛ استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل ريحًا فضرب زروعهم بالصفار، ضجوا وكفروا بنعمة الله، فهم في جمع هذه الأحوال على الصفة المذمومة؛ كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، فلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب ((الكشف)): الماضي بمعنى المستقبل؛ كقوله تعالى: {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ}، ثم قال: {لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]. وقال مكّي: {لَّظَلُّوا} معناه: لِيَظَلُّوا، فالماضي في موضع المستقبَل، وحَسُن هذا؛ لأنَّ الكلامَ بمعنى المجازاةِ، والمجازاةُ لا تكونُ إلا بمُستقبَل. هذا مذهبُ سيبويه. قوله: (بالصُّفار) والصُّفار بالضم: صُفْرةٌ تعلو اللَّونَ والبَشَرة، وصاحبه مَصْفورٌ. الأساس: رجلٌ مَصْفُورٌ وبه صُفار: داءٌ يَصفر منه. قوله: (فهم في جميع هذه الأحوال) نتيجة قوله: ((ذمَّهم الله)). وقوله: ((كان عليهم أن يتوكَّلوا)) إلى آخِره، بيانٌ لتعكيس أُمورِهم في جميع ما به ذَمَّهم اللهُ تعالى في الآيات الثلاث: إحداها: قولُه: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}، وهو المراد من قوله: ((إذا حَبسَ عنهمُ القَطْرَ قَنَطُوا من رحمته))، وبيانٌ لتعكيسِهم فيه قوله: ((كان عليهم أن يتوكَّلوا على اللهِ فقَنَطُوا)). وثانيتها: قولُه تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ} الآية، وبه عني بقوله: ((فإذا أصابَهم برحمتِه)) إلى آخِره، وبيانُ التَّعكيسِ فيه قولُه: ((وأن يَشكُروا نِعْمتَه فلم يَزيدوا على الفَرَح)). وثالثتُها: قولُه تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} الآية، ويُفَسِّره: ((فإذا أرسلنا عليهم ريحًا)) إلى آخِره، وبيانُ التَّعكيس قولُه: ((وأن يَصْبروا على بلائه فكَفَروا)).

يزيدوا على الفرح والاستبشار، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. والريح التي اصفرّ لها النبات: يجوز أن تكون حرورًا وحرجفًا، فكلتاهما مما يصوح له النبات ويصبح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلتَ: مُقتضى الظاهر أن يُوضعَ موضعَ: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لم يَحمَدُوا؛ لقوله: ((وأن يَشْكُروا نِعمتَه))، ومَوضِعَ {لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} لضَجُّوا وجَزِعُوا؛ لقوله: ((وأن يصبروا على بلائه)). قلت: إنما عَدَل في الأوَّل ليُؤذِنَ بأنَّ الفرحَ المُفرِطَ بَطَرٌ وأَشَرٌ وليس ذلك من شأن الشّاكر الحامِدِ، بل من دَيْدَنِ الكافر، وأشعَرَ بالثاني أنَّ فقدانَ الصَّبرِ عند نزول البلاء دليلٌ على عدم الرِّضى بالقضاء، وهو إخراجٌ لِرِبْقَةِ العُبوديَّةِ، كما قيل: ((من لم يَصبرْ على بلائي؛ فلْيَتَّخذ ربّاً سِواي)). فإن قلتَ: قد عُلم من تقديم المصنِّف معنى الإبلاس على الاستبشار أنه راعي معنى لفظ ((قبل)) في الآية الثانية، فما فائدة تأخيرِه في التَّنزيل وتكرير ((قبل))؟ قلت: أخَّرَ الإبلاسَ عن الاستبشار، وأبرزَه في صُورة الشَّرطيَّة إرادةً للمبالغة وتثنيةً للتَّقريع، إذ لو أُريدَ الظاهرُ لقيل: فإذا أصاب به القانطينَ فَعَلوا كذا؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] ولذلك قَطَع ما هو متَّصلٌ بأصل الكلام من قوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ}، وعلَّق به نوعًا آخَر من التَّوبيخ إشعارًا بتعديد النِّعَم وتكرير تَلقِّيهم إيّاها بالكفران. ألا ترى كيف عقَّب ذلك بقوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآيةَ. قوله: (حَرورًا) وهي الرّيحَ الحارَّة، وهي باللّيل كالسَّمُومِ بالنَّهار، والحَرْجَف: الرِّيحُ الباردَةُ.

هشيمًا. وقال: مصفرّا؛ لأنّ تلك صفرةٌ حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرًا، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر. [(الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)] 54 [ قرئ بفتح الضاد وضمها، وهما لغتان. والضم أقوى في القراءة، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: "قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف، فأقرأنى من ضعف". وقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) كقوله: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)] الأنبياء: 37 [، يعنى: أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)] النساء: 28 [، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تصَوَّحَ البقل: إذا يبس أعلاه وفيه نُدُوّة، وصَوَّحتْهُ الرِّيحُ أيبسَتْهُ. كلها في ((الصِّحاح)). قوله: (وقال مصفرّاً) أي: لم يقل: ((أصفر)). قوله: (قُرِئَ بفَتْح الضادِ وضَمِّها) أبو بكر وحمزةُ: بالفتح، وعن حفصٍ وجهان، والباقون: بضمِّها. قوله: (لِما روى ابنُ عمرَ) روينا عن الترمذيِّ وأبي داودَ، عن ابنِ عمرَ. قال عطيَّة ابن سعد العوفي: قرأتُ على عبد اللهِ بنِ عمرَ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} قال: ((من ضُعْفٍ))، قرأتُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتَها عليَّ، فأخَذَ عليَّ كما أخذتُها عليكَ. في ((المعالم)): الضمُّ لغةُ قريشٍ، والفتح: لغةُ تميمٍ. قال الزَّجاج: الاختيارُ الضمُّ؛ للرِّواية.

أي: ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافًا. وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الاشدّ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم. وقيل: من ضعف من النطف، كقوله تعالى: (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ)] السجدة: 8، المرسلات: 20 [وهذا الترديد في الأحوال المختلفة، والتغيير من هيئةٍ إلى هيئةٍ وصفةٍ إلى صفة: أظهر دليٍل وأعدل شاهٍد على الصانع العليم القادر. [(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)] 55 [ (السَّاعَةُ) القيامة، سميت؛ بذلك لأنها تقوم في آخر ساعةٍ من ساعات الدنيا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ابتدأناكم في أوَّل الأمر ضعافًا) فـ {مِّن} لابتداء الغاية، نحو قول القائل: فلانٌ ربّي فلانًا من فَقْره وجعله غَنيًّا؛ أي: من حالة فقرِه، فقوله: {مِّن ضَعْفٍ} أي: من حالةٍ كان فيها جَنينًا وطِفلاً مولودًا ورضيعًا. قوله: (وبلوغ الأَشُدِّ) قيل: هو ما بين ثماني عشرةَ إلى ثلاثين، وهو واحدٌ على بناء الجمع. وقيل: هو جَمعٌ لا نظير له من لفظه. وكان سيبويه يقول: واحِدُه: شِدَّة. الرّاغب: ويَدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ من قوله: {ضَعْفٍ} إشارةٌ إلى حالةٍ غيرِ الحالةِ الأُولى؛ ذِكْرُهُ مُنكَّرًا. قوله: (وقيل: من ضُعْف) من النُّطَف، أي: أنشأكم من ماءٍ ذي ضعْف، وهو قِلَّتُه وحَقارتُه كقوله تعالى: {مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ}. قوله: ({السَّاعَةُ}: القيامة)، الراغب: السَّاعة جزءٌ من أجزاء الزَّمانِ، ويعبَّر به عن القيامة كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] سُمِّيت بذلك لسرعةِ حسابها،

أو: لأنها تقع بغتةً وبديهة. كما تقول: في ساعةٍ لمن تستعجله، وجرت علمًا لها كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة. وأرادوا: لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث: «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» قالوا: لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو لِما نَبَّه عليه بقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35]. وقيل: السّاعاتُ التي هي القيامةُ ثلاثة: السّاعة الكبرى، وهي بَعْثُ النّاس للمُحاسَبة المَشَار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِن أشراطِ السّاعة: أن يَتقاربَ الزمانُ، ويَنقُصَ العِلمُ، وتَظهرَ الفِتنُ، ويُلقي الشُّحُّ، ويَكثُرَ الهَرْجُ؛ أي: القَتْلُ)). أخرجه البخاريٌّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن عبد الله وأبي موسى. والسّاعة الوسطى: وهي موتُ أهل القَرْنِ الواحدِ نحوَ ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن ابن عمرَ قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ العِشاءَ في آخر حياتِه، فلما سلَّم قال: ((أَرأيتُكم ليلَتكم هذه، فإنَّ على رأس مئة سَنَةٍ لا يَبقى ممَّن هو اليومَ على ظَهر الأرضِ أحد)). وزاد الترمذيُّ وأبو داودَ: وقال ابنُ عمرَ: وإنَّما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبقى اليومَ ممَّن هو على ظَهْر الأرضِ)) يريد بذلك أن يَنخَرِمَ ذلك القَرْنُ. والسّاعةُ الصُّغرى، وهي موتُ الإنسانِ، فساعةُ كلِّ إنسانٍ موتُه. وذلك نحو ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان الأعرابُ إذا قَدِموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن السّاعةِ: مَتى السّاعةُ؟ فنَظَر إلى أحدَثِ إنسانٍ منهم، فقال: ((إن يَعِشْ هذا لم يُدركْهُ الهَرَمُ حتى تَقومَ عليكم ساعتُكم)). قال هشامٌ: يعني: موتَهم. قوله: (وفي الحديث: ((ما بينَ فَناءِ الدُّنيا إلى وَقْت البَعْثِ أربعونَ))) الحديثَ، من رواية

يعلم أهي أربعون سنةً أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون. أو يخمنون (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أى: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق. أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بَين النَّفخَتَينِ أربعونَ)) قالوا: أربعونَ يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيتُ. قَالوا: أربعونَ شهرًا؟ قال: أبَيتُ. قالوا: أربعونَ سَنةً. قال: أبَيتُ. الحديثَ. قوله: (أو يُخمِّنون)، الأساس: التَّخمينُ: الوَهْم والتَّقديرُ، وخَمَّن كذا، أي: حَزَره، وخَمَّنَه يَخمِنُه خَمْنًا. الرّاغب: التَّخمين: أن يَتوهَّم في الشيء أمرًا ما لا عَن أمارةٍ. قوله: (وهكذا كانوا يبنون أمرَهم) عطفٌ تفسيريٌّ على الجملة قبلَه. الراغب: الإفكُ: كلُّ مصروفٍ عن وَجْهِه الذي يحقُّ أن يكونَ عليه، ومنه قيل للرِّياح العادلةِ عن المَهابِّ: مُؤتفِكَة. قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9]. وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]؛ أي: يُصرفون عن الحقِّ في الاعتقادِ إلى الباطل، ومن الصِّدقِ في المقال إلى الكَذبِ، ومن الجَميل في الفعل إلى القَبيحِ. ومنه قولُه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9]، ورجلٌ مَافوكٌ. مصروفٌ عن الحقِّ إلى الباطلِ. وقال الواحديُّ: أَفَكَ فلانٌ إفكًا إذا صُرِف عن الصِّدقِ وعن الخيرِ.

بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة. [(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ الله إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)] 56 - 57 [ القائلون: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. (فِي كِتابِ الله) في اللوح. أو في علم الله وقضائه، أو فيما كتبه، أى: أوجبه بحكمته. ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه، وأطلعوهم على الحقيقة تم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم: (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. فإن قلت: ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله: فقد جئنا خراسانا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الكلبيُّ: كَذَبوا في قولهم: {غَيْرَ سَاعَةٍ} كما كذبوا في الدنيا. وقال مقاتلٌ: يقول: هكذا كانوا يُكذِّبون بالبعثِ كما كذبوا أنَّهم لم يلْبَثُوا في قُبورهم إلاّ ساعةً، والمعنى: أنَّ اللهَ أرادَ أن يفضَحَهم فحَلَفُوا على شيءٍ يتبيَّنُ لأهلِ الجمعِ من المؤمنين أنّهم كانوا كاذبينَ في ذلك، ويستدلُّون بكذبِهم هناك على كِذبِهم في الدُّنيا، وكان ذلك مِنَ قضاء الله وقَدَرِه. يعني كما صُرفوا عن الصِّدق في حَلِفِهم حين حَلَفوا كاذبين، صُرِفُوا في الدُّنيا عن الإيمان، ثم ذَكَر إنكارَ المؤمنين عليهم كَذِبَهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الروم: 56]. قوله: (بما تَبيَّن) صلةُ ((الاغترار))، و ((ما)) موصوفةٌ أو موصولةٌ، يعني: مثل ذلك الإفكِ مطلقًا كانوا يؤفكُون في اغترارهم بشيءٍ ظَهر لهم الآنَ أنَّه ما كان إلاّ ساعةً، وهو طُولُ مُكْثِهم الذي غرَّهم بأنْ كذَّبوا بالبَعث والجزاء، وهو معنى قول مقاتلٍ: هكذا كانوا يكذِّبون بالبَعث. قوله: (فقد جِئنا خُراسانا)، تمامُه:

وحقيقتها: أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان، وآن لنا أن نخلص، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث، أى: فقد تبين بطلان قولكم. وقرأ الحسن: (يوم البعث)، بالتحريك، (لا يَنْفَعُ) قرئ بالياء والتاء، (يُسْتَعْتَبُونَ) من قولك: استعتبني فلان فأعتبته، أى: استرضانى فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيًا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله: غضبت تميم أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعتبوا بالصّيلم كيف جعلهم غضابا، ثم قال: فأعتبوا، أى: أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى: لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبةٍ وطاعة، ومثله قوله تعالى: (لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)] الجاثية: 35 [. فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها، وهو قوله: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)] فصلت: 24 [؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين: فهذا معناه. وأما كونهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: خُراسانُ أقصى ما يُرادُ بنا ... ثمَّ القُفُولُ، فقد جِئنا خُراسَانا قوله: (وقرأ الحسَنُ: ((يوم البَعَثِ))) قال ابن جنِّي: ((البَعَث)) بفتح العين، حرَّك العين لكونهما حرفَ حَلْقٍ. قوله: ({لَّا يَنفَعُ} قرئ بالياء)، عاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون: بالتاء الفوقانيّةِ. قوله: (إذا كنت جانيًا) أي: إذا دُمتَ على جنايتك عليه، فيسترضيك المجني عليه بعَفْوٍ عنه وتَصْرِفُ جنايتَكَ عنه.

غير معتبين، فمعناه: أنهم غير راضين بما هم فيه، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه، فإن يستعتبوا الله: أى يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته. [(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)] 58 - 60 [ (وَلَقَدْ) وصفنا لهم كل صفةٍ كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصةٍ عجيبة الشأن، لصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة إذا جئتهم بآيةٍ من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزوٍر وباطل، ثم قال: مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله: منع الألطاف التي تنشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فشُبِّهت حالُهم بحال قومٍ)، هذا على معنى كونهم غيرَ مُعتَبين، وعلى معنى كونهم غيرَ مُستَعْتَبِينَ وهو جارٍ على الحقيقة؛ لأنَّهم بحيث لا يقال لهم: أرضُوا ربَّكم بالتَّوبة والطاعة. قوله: (يَطبعُ اللهُ على قلوب الجَهَلَةِ) يعني: قولُه: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وُضِعَ موضعَ الراجعِ إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا}، أو أنَّه عام يَدخلُ أولئك فيه دُخولاً أَوَّليًّا؛ وكلامُه محتَمِلٌ المعنَيينِ. وقال القاضي: {لَا يَعْلَمُونَ} لا يطلبون العلمَ، ويُصرُّون على خُرافاتٍ اعتَقَدوها، فإنَّ الجهلَ المركَّب يَمنعُ إدراكَ الحَقِّ، ويُوجب تكذيبَ المُحِقِّ. وقلت: كأنَّه ذَهب إلى الاحتمال الأوَّل.

عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كنايةً عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها، فكأنه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة، (فَاصْبِرْ) على عداوتهم (إِنَّ وَعْدَ الله) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله (حَقٌّ) لا بدّ من إنجازه والوفاء به، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعًا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق ويعقوب: (ولا يستحقنك)، أى: لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسناٍت بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يَحملَنَّك على الخِفَّة والقَلَق جَزَعًا)، فاعل ((لا يَحمِلَنَّك)): {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}، على مِنْوال: لا أرَينَّكَ هنا و ((جَزَعًا)) تمييزٌ، والظاهر أنه مفعولٌ له، وإن لم يكن فعلاً لـ {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}؛ لأنه لمّا كان المنهيُّ في الحقيقة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاز ذلك، و ((مما يقولون)) متعلِّق بـ ((جزعًا)). المعنى: لا يَحمِلَنَّك الذين لا يُوقنون على ما يَدخُلُكَ منه خفّة؛ لأن يُجزع من قولهم؛ أي: لا تكُن بحيث يَحمِلُكَ الجَزَعُ على الخِفَّة والعَجَلة، فَتَمْنعَكَ من تبليغ الرِّسالة؛ كقوله تعالى: {فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2]. والله أعلم. تَمَّتِ السُّورة بحمد الله وعَوْنه، وبالله المُستعان.

سورة لقمان

سورة لقمان مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: ثلاث بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] 1 - 5 [ (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذى الحكمة. أو: وصف بصفة الله تعالى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة لقمان مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: ثلاث وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ({الْحَكِيمِ} ذي الحكمة) عن بعض المَغاربةِ: وصْفُ الكتابِ الحكيمِ بذي الحكمة مجازٌ أيضًا على طريق التَّضْمينِ؛ لأنَّ الوَصفَ بـ ((ذو)) للتَّمَلُّك، والكتاب لا يملك الحكمةَ بل يَتضمَّنُها، فلأَجْل تَضمُّنِه الحكمةَ وُصِفَ بالحكيم على معنى ذِي الحكمةِ، والظاهرُ أنه منَ الاستعارة المَكْنيَّة كما في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41].

على الإسناد المجازي. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعًا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها: ما في (تلك) من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. (لِلْمُحْسِنِينَ): للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس: الألمعى الّذى يظن بك الظّ ... ـنّ كأن قد رأى وقد سمعا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الإسناد المجازيِّ) عن بعضهم: أنَّ ((الحكيم)) من صفات الله تعالى لا من صفات الكتاب، فأسَنَد صفةَ الله تعالى إلى الكتاب مجازًا؛ لأنَّ الكتابَ منه بدء وهو بسَبَبه. قوله: (فحُذِفَ المضافُ) أي: قائلٌ في قائلِه، وأُقيمَ الهاءُ الذي هو المضافُ إليه مقامَ قائل، وبقي الهاء المتصل به مُنفردًا فانقلبت إلى ((هو)) المنفصِل، فصار مرفوعًا؛ لأنه فاعلٌ بعد أن كان مجرورًا؛ لأنه كان مضافًا إليه ثمَّ استَكَنَّ هذا الهاءُ المُنقَلِبُ من الجرٍّ إلى الرَّفع في {الْحَكِيم} الذي هو الصِّفةُ المُشبَّهةُ، كما يَستَكِنُّ في: يضرب. قوله: (بالنَّصب على الحال عن الآيات، والعاملُ فيها: ما في {تِلْكَ} من معنى الإشارةِ) فقد سَبق في أوَّل ((البقرة)) عند قوله: {هَدًى} [البقرة: 2] الخلافُ فيه. وردَّ ابنُ الحاجِبِ قولَ الزَّجَّاجِ وغيرِه. وأما أبو البقاء فذَكَر هاهنا ما ذكره المصنِّف. قوله: ({وَرَحْمَةً} بالنصب، وبالرفع على أنه خبر) حمزةُ: بالرَّفع، والباقون: بالنَّصب. قوله: (الألمَعيُّ الذي يَظُنُّ بك) البيت، قبلَه:

حكي عن الأصمعي: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو: للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث لفضل اعتداد بها. [(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)] 6 - 7 [ اللهو: كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنَّ الذي جَمَع السَّماحةَ والنْـ ... نَجْدَةِ والبأسَ والتُّقى جَمعَا النَّجْدة بفتح النُّون: الشَّجاعة والبلوغُ في الأمر بحيث يَعجِزُ منه غيرُه، والبأسُ: الحربُ، و ((الألمعيُّ)) خبرُ ((إنَّ))، وفي النُّسخ المصَّححة: ((الألمعيَّ)) بالنَّصب. الأساس: رجل أَلْمَعيٌّ ويَلْمَعي: فَرّاسٌ. وعن ابن الأعرابيِّ: الألمعيُّ: الذي إذا لَمَع له أوَّلُ الأمرِ يكتفي بظنِّه دون يَقِينهِ، وهو منَ اللَّمع، وهو الإشارة الخَفيَّة والنَّظر الخَفِيّ. قوله: (ثم خصَّ منهمُ القائمينَ بهذه الثّلاثِ)، فعلى الأوَّل: ((المُحسنين)) معبِّرٌ عن الذوات، و {الَّذِينَ} وصفٌ مجرورٌ جارٍ عليه على سبيلِ الكشفِ والبيان، وعلى الثاني: ذواتٌ مخصوصةٌ مُيِّزت تمييزَ جبريلَ وميكائيلَ عن ملائكته، يشهد له الضَّميرُ في قوله: ((خصَّ منهم)). ويجوز أن يكون منصوبًا بتقدير: أَعْني، أو: أَذْكُر على الاختصاصِ؛ لأناقةِ المذكوراتِ وفَضْلِ مَنِ اتَّصف بها.

بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشًا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاٍد وثمود؛ فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمنحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشتري المغنيات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالخرافات)، المغرب: الخرافاتُ: الأحاديثُ المُستَمْلَحةُ، ومنه: الفُكاهةُ من الفاكهة. قوله: (مِنْ كان وكان) كناية عن الأحاديث التي لا يُعتنى بها من فضول الكلام، كما أنّ ((كَيْتَ وكَيْتَ)) كِنايةٌ عمّا لا يُعتنى بشأنه. قوله: (الموسيقار)) وفي بعض الحواشي: هو عِلْمُ الألحانِ، روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ وأبي داود، عن نافعٍ قال: كنتُ مع ابن عمرَ في طريقٍ فسمعَ مِزْمارًا، فوَضَع إصبَعيه في أُذنيهِ، ونَأَى عن الطَّريق إلى الجانب الآخَرِ، ثم قال لي بَعد أنْ بَعُدنا: يا نافعُ، هل تسمعُ شيئًا؟ قلت: لا، فرفعَ أُصبَعيهِ من أُذنيهِ، وقال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمِعَ صوتَ يَراعٍ، فصنع مثلَ ما صنعتُ. قال نافع: كنتُ إذ ذاك صغيرًا. النهاية: اليَرَاعُ: قَصَبةٌ كان يُزْمَرُ بِها. قوله: (فيستمنحون)، أي: يَسْتَحْسِنون من المَنْحِ، وهو العطاء. وفي بعض النسخ: ((يَسْتَمْلِحون)).

فلا يظفر بأحٍد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ" وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت"، وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى (من)، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز وباب ساجٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يَحِلُّ بيعُ المُغنِّيات) الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل والترمذيّ وابن ماجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَشْتروا القَيْناتِ ولا تَبيعُوهنَّ، ولا خيرَ في تجارتِهنَّ، وثَمنُهنَّ حرامٌ)). وفي مثل ذلك أُنزلت هذه الآيةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} جعل الله القَيناتِ نَفْسَ لَهْوِ الحديثِ مبالغةً، كما جَعل النّساءَ في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} نفس الزينة. قوله: (صُفّة خَزّ) بضم الصاد المهملة. الأساس: أصْلِحْ صُفَّةَ سَرْجِكَ، وأصفَفتُ السَّرجَ: جعلت له صُفَّةً. المغرب: صُفَّة السَّرج: ما غُشِّيَ به بين القَرَبوسَيْنِ، وهما مقدَّمُه ومؤخَّرُه.

والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث: الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى (من) التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله: (يَشْتَرِي) إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم، أو من شراء القيان. وإما من قوله: (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ)] آل عمران: 177 [أى: استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: (لِيُضِلَّ) بضم الياء وفتحها. و (سَبِيلِ الله) دين الإسلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإضافة بمعنى ((مِن)) التَّبعيضيةِ) فعلى الأوَّل: يُشبِهُ أن يكونَ من إضافة العامِّ إلى الخاصِّ، كما قال: اللهوُ يكون منَ الحديث وغيرِه. وعلى الثاني: عكسه؛ لأنَّ الحديثَ قد يكون لَهْوًا وغيرَه كما قال: ((بعض الحديثِ الذي هو اللهو منه))، والضميرُ المجرورُ راجعٌ إلى ((الحديث)). قوله: (قُرئ: {لِيُضِلَّ} بضَمِّ الياءِ وفَتْحِها) ابنُ كثير وأبو عمرو: بالفَتح، والباقون: بالضَّم. قال الزَّجاجُ: من قرأ بالضَّم فمعناه: لِيُضِلَّ غيرَه، وإذا أَضلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضًا. ومن قرأ بالفتح فمعناه: لِيَصيرَ أمرُه إلى الضَّلال، فَدلَّ بالرَّديفِ على المَرْدوف. قال صاحب ((الفرائد)): هذا لا يَخْلو عن نَظَرٍ، فإنَّ الرَّديفَ لا يدلُّ على المَرْدوفِ؛ لأنَّ الضّالَّ لا يلزمُ أن يكون مُضِلاًّ. قلت: لمّا جعلَه من الكِناية لَزِمَ أن تكونَ الملازَمةُ مساويةً، إمّا أنَّها كذلك حقيقةً أو

أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه. والثاني: أن يوضع (ليضل) موضع (ليضل) من قبل أن من أضل كان ضالًا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) قلت: لما جعله مشتريًا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى: (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)] البقرة: 16 [أى: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ (وَيَتَّخِذَها) بالنصب والرفع عطفًا على (يشترى). أو (ليضل)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ادعاءً للشُّهرةِ، وكان المَخذُول أي: النَّضْرُ مشهورًا في إضلال الناسِ باشتراء اللهو، فإذا قيل له: ضالٌّ، جاز أن يكون منه الإضلال بقرائن الأحوال. قوله: (لمّا جعله مشتريًا لهْوَ الحديثِ بالقرآن) إلى آخره. تلخيصُه: أنَّه لما استُعير استبدالُ الضّلالِ بالهدى، والباطلِ بالحقِّ: الشِّراءُ، نُظِر إلى المُستعار له، وجيء بوَصْفٍ ملائمٍ له، فكان تجريدًا للاستعارة كما أنَّ قولَه: {رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ترشيحٌ لتلك الآيةِ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] تجريدٌ لها، وقد سَبَق في ((البقرة)) تقريرُه. قوله: ({وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ والرَّفع) بالنَّصب: حفصٌ وحمزةُ والكسائيُّ، والباقون: بالرَّفع. قال صاحب ((الكشف)): النَّصبُ على العطف على {لِيُضِلَّ}، والرَّفعُ على {يَشْتَرِي}؛ أي: مَنْ يشتري لَهْوَ الحديثِ ويتَّخذُها هُزُوًا، وما بين ((يشتري)) و ((يتَّخذ)) مِنَ الصِّلة ليس

والضمير للسبيل؛ لأنها مؤنثة، كقوله تعالى: (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً)] الأعراف: 86 [. (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) زامًا لا يعبأ بها، ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أى: ثقلًا ولا وقر فيهما، وقرئ بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من (مستكبرا) والثانية من (لم يسمعها)، ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في (كأن) المخففة: كأنه، والضمير ضمير الشأن. [(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ الله حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] 8 - 11 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأجنبيٍّ، والباقي {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للحالِ؛ أي: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} جاهلا. قوله: (زامًّا) الجوهري: زمَّ لأنْفِه، أي: تكَبَّر، فهو زَامٌّ. قوله: (وقُرئ بسكون الذّال) قرأها نافعٌ. قوله: (والأُولى حالٌ من {مُسْتَكْبِرًا}) أي: من المُسْتَكِنِّ فيه يدلُّ عليه. قوله: (والثانية مِنْ {لَّمْ يَسْمَعْهَا}) يكون حالانِ مُتَداخلانِ. قال أبو البقاء: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ، والعاملُ {وَلَّى} أو {مُسْتَكْبِرًا}، و {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}، {وَقْرًا}: إما بدلٌ من الحال الأُولى، أو تَبيينٌ لها، أو حالٌ من فاعل ((يسمع)).

(وَعْدَ الله حَقًّا) مصدران مؤكدان، الأوّل: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره؛ لأن قوله: (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما (حَقًّا) فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله: (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ). (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو (الْحَكِيمُ) لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل، (تَرَوْنَها) الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودةٍ على قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيٍف ولا رمٍح تراني. فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أى: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمٍد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته (هذا) إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. و (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. (فأرونى) ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال. (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ)] 12 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ}) متعلِّقٌ بقوله: ((استشهاد))، و {بِغَيْرِ عَمَدٍ} في التَّنزيل حالٌ من {السَّمَاوَاتِ}، و {تَرَوْنَهَا} جملةٌ مستأنفةٌ مُبيِّنة؛ لأنَّ السَّماوتِ خُلقت بغير عَمَدٍ. كأنَّه لمّا قيلَ: خَلَق السَّماواتِ والأرضَ بغير عَمَدٍ، قيل: وما الدَّليلُ عليه؟ فقيل: رؤيةُ النّاس لها غيرَ مَعْمُودةٍ، وكذلك لما قلت: أنا بغير سيفٍ ولا رُمحٍ، فقيل: ما الذي يدلُّ عليه؟ أجبت: لأنَّك تراني بلا سيفٍ ولا رُمحٍ. ويجوز أن يكون من باب نَفْي الشيءِ بنَفْي لازِمِه.

هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيًا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًا، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لقمان لم يكن نبيًا ولا ملكًا، ولكن كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًا. وقيل: خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة. وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطًا، وعن مجاهد: كان عبدًا أسود غليظ الشفتين متشفق القدمين. وقيل: كان نجارًا. وقيل: كان راعيًا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمةً. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلًا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: خُيِّر بين النُّبوة والحكمة فاختار الحِكمةَ)، الانتصاف: وفيه بُعْدٌ بيِّنٌ، فإنَّ الحكمةَ قَطْرةٌ من بحر النُّبوةِ، وأعلى درجاتِ الحكمةِ يَنْحَطُّ عن أَدنى مراتبِ النُّبوةِ، وليس من الحِكمة اختيارُ الحكمةِ المجرَّدة على النُّبوة. قوله: (الصَّمت حُكْمٌ وقليلٌ فاعلُه) قال المَيْدانيُّ: الحُكم: الحِكْمةُ، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، ومعناه: استعمالُ الصَّمتِ حِكمةٌ، ولكن قَلَّ مَنْ يَستعملُها.

فقال له داود: بحق ما سميت حكيمًا. وروى أن مولاه أمره بذبح شاةٍ، وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر، ولقمان. "أَنِ" هي المفسرة؛ لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما، وعبادة الله، والشكر له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بحقٍّ ما)، ((ما)) صفةُ ((حقّ))، وهي إبهاميَّةٌ، وهي التي إذا اقتَرنت باسمٍ نَكِرةٍ أَبْهَمَتْهُ إبهامًا وزادتُه شِياعًا وعُمومًا. قوله: (بلال ومِهْجَع)، الاستيعاب: بلالٌ هو مولى أبي بكر، [كان] لبعض بني جَمُح، مُولَّدًا من مُوَلَّدِيهم، وقيل: من مُولَّدي مكةَ. وقيل: من مولَّدي السَّراة، اسمُ أبيه رَباحٌ وأُمُّه حَمامة. ومِهْجَع: هو ابن صالح مولى عمر بن الخطاب، وقال ابن إسحاق: هو من اليَمنيِّينَ. وقال ابن هشام: هو من عَكٍّ، أصابه سِباءٌ، فمَنَّ عليه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه. قوله: (((أنْ)) هي المفسٍّرةُ) في ((المطلع)): عن المُبرِّد {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تأويلَ الحكمةِ، كقولك: قد قدَّمتُ إليه أنْ ائتِ عَمرًا؛ أي: ائتِ عَمْرًا. المعنى: اشكرِ الله فيما أعطاكَ من الحكمة بالتَّوحيد والعبادةِ له. قوله: (أنَّ الحكمةَ الأصليَّةَ والعِلْمَ الحقيقيَّ هو العملُ بهما) أي: بالحكمة والعلم،

حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر (غَنِيٌّ) غير محتاٍج إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد. [(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)] 13 [ قيل: كان اسم ابنه (أنعم) وقال الكلبي: (أشكم) وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعَطْفُ العلمِ الحقيقيِّ على الحكمة الأصليَّةِ عطفُ تفسيرٍ، وكذا عطفُ ((وعبادة الله)) على ((العمل بهما))، وكذلك الشُّكر لله على العبادةِ؛ لأنَّ الشُّكرَ: تعظيمُ المُنْعِمِ في القلب، وثناؤه باللِّسان، وتحقيقُ مَراضِيهِ بالجوارح. النهاية: الحكيم: ذو الحكمة، والحِكمةُ: عبارة عن معرفة أفضلِ الأشياء بأفضلِ العلوم. وقال: الحُكمُ: العلمُ والفقهُ، وهو مصدرُ حَكَم يَحكُم، ومنه الحديث: ((الخِلافَةُ في قُريشٍ، والحُكمُ في الأنصار)) خصَّهم بالحُكم؛ لأنَّ أكثرَ فقهاءِ الصَّحابةِ منهم. المُغرب: الحِكمةُ: ما يمنعُ من الجَهْل. وقيل: كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ. وعلى حَسْب ظاهرِ الحكمةِ فمعنى الآيةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي: المعرفةَ بأفضلِ الأشياءِ، فلمّا عَدَل منه إلى العمل والشُّكرِ، عُلم أنَّ الحكيمَ كلَّ الحكيمِ مَنْ عَمِل بمُقتضى الحكمةِ، ولا يَكتفي بالمعرفة فحَسْبُ. وقال ابن يُونسَ: أمّا الحكمةُ فتُطلق بإزاء مَعْنَييْن: أحدهما: أنّها عبارةٌ عن الإحاطة المجرَّدة بنَظْم الأمور ومعانيها الدَّقيقة والجَليلةِ. والثاني: وُقوع الأفعال متقنةً بحَسْب عِلْم الفاعلِ.

فما زال بهما حتى أسلما (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة -ولا يتصوّر أن تكون منه- ظلم لا يكتنه عظمه. [(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 14 - 15 [ أى (حَمَلَتْهُ) تهن (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) كقولك: رجع عودًا على بدٍء، بمعنى؛ يعود عودًا على بدٍء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفًا فوق ضعف، أى: يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلًا وضعفًا. وقرئ: (وهنا على وهن) بالتحريك. عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن، ووهن يهن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ظلمٌ لا يُكْتَنهُ عِظَمُه) خبرٌ لـ ((أنّ)) وقوله: ((ولا يُتصوَّر أن يكونَ منه)) اعتراضٌ توكيدٌ لقوله: ((لا نعمةَ إلا هي منه)). قوله: (رجع عَوْدًا على بدء)، وأصله قولهم لمن يستأنف العمل: رجع عَودَه على بَدْئه؛ أي: رجع يَعودُ عودًا على بدئه، ثم حُذف الفعل وجُعل المصدر دليلاً عليه، وأُضيف إلى ضمير ذي الحال. والمثالُ تُرِكَ فيه الضَّمير، والمصدرُ ليس بحالٍ، وإنّما الحالُ مَدْلوله، وهو الفعل. قال أبو البقاء: المصدر هنا حالٌ، أي: ذاتُ وَهْنٍ، أو مَوْهُونة. قوله: (((وَهَنًا على وَهَن))؛ بالتَّحريك عن أبي عمرو) أي: في قراءته الشاذة. روى ابن جِنِّي عن أبي عمرو وعيسى الثَّقفيِّ: ((وَهَنًا على وَهَنٍ)) فيهما، والكلام فيه كالكلام في قوله: {يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]، وهو أنهم يحركون الساكن في حروف الحَلْق في مثل هذه المواضع.

وقرئ: (وفصله)، (أَنِ اشْكُرْ) تفسيٌر لـ (وصينا) (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أراد بنفي العلم به نفيه، أى: لا تشرك بى ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله تعالى: (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)] العنكبوت: 42 [. (مَعْرُوفاً) صحابًا، أو مصاحبًا معروفًا حسنًا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفَصْلُه) بسكون الصاد، قال ابن جنِّي: وهي قراءة الحسن وغيره، والفَصْل أعمُّ من الفِصَال، والفِصَالُ هاهنا أوقع؛ لأنه موضع يختص بالرَّضاع، وهو مصدر ((فاصلتُه))، فعبَّر عن هذا المعنى، وإن كان الأصل واحدًا. قوله: (أراد بنَفْي العمل به نَفْيَه) أو هو من باب نَفْي الشيء بنَفْي لازِمِه، وذلك أنَّ العلمَ تابعٌ للمعلوم، فإذا كان الشيءُ معدومًا لم يتعلَّق به موجودًا. الانتصاف: هو من باب على لاحِبٍ لا يُهتدى بمَنارِهِ أي: لا تشرك بي ما ليس بإلهٍ، فيكون لك به علم، وليس من باب ما ذكره في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. قال ابن الحاجب: لا يستقيم أن يكونَ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بدلاً عن {بِي}؛ لأنه يقال: أشرك زيدٌ كذا بكذا؛ أي: جعلَه شريكًا له، وهم كانوا يجعلون لله شُركاءَ، وجعلوا لله شركاءَ، فالوجهُ أنه مفعول {تُشْرِكَ}، فلو جُعل {تُشْرِكَ} بمعنى: تكْفُر، وجُعلت ((ما)) نكرةً أو بمعنى ((الذي)) بمعنى: كُفْرًا، أو الكفر، ويكون نصبًا؛ لكان وجهًا حسنًا.

وإن كنت مأمورًا بحسن مصاحبتهما في الدنيا، ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثًا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسًا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدًا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت: فقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة، إيجابًا للتوصية بالوالدة خصوصًا. وتذكيرًا بحقها العظيم مفردا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص) تقدَّم سببُ نزوله في العنكبوت. قوله: (حتى شَجَروا فاها)، النهاية: أي: أدخلوا في شَجْرها عُودًا حتى يفتحوه به، والشَّجْر: مَفتحُ الفم، وقيل: هو الذَّقَنُ. قوله: (لما وصّى بالوالدَينِ ذكر ما تُكابده الأمُّ) يريد أن جملةَ قولِه: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} جملةٌ مستأنفةٌ على سبيل التَّعليل تذكيرًا. الانتصاف: هذا من قول الفقهاء: تعليلُ الحُكمِ يُفيده تأكيدًا. قوله: (وتذكيرًا بحقِّها العظيم مفردًا)، قيل: مفردًا يجوز أن يكون حالاً من قوله: ((ما تُكابِدُه)) أي: ذكر ما تُكابِدُه مفردًا، وأن يكون حالاً من ((بحقِّها)) والأصوب أن يكون صفة لـ ((تذكيرًا))؛ أي: إيجابًا خصوصًا وتذكيرًا مفردًا، يعني: إنما أدخل ذكر ما تكابده الأُمُّ

ومن ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك». وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه: أحمل أمّى وهي الحمّاله ترضعنى الدرّة والعلالة ولا يجازى والد فعاله فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت: المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه، ويدل عليه قوله تعالى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة: 233] وبه استشهد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين المفسِّر والمفسَّر اهتمامًا بشأن التَّوصية في حقها؛ ليكون إيجابًا للتوصية في حقها؛ ليكون إيجابًا للتوصية خصوصًا وتذكيرًا بحقِّها مستقلاًّ. قوله: (لمن قال له: مَنْ أبرُّ؟ ) روينا عن الترمذيِّ، عن بَهْزِ بن حَكيم، عن أبيه، عن جَدِّه قال: قلتُ يا رسول الله، من أَبَرُّ؟ قال: ((أُمَّك)). قال: قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قال: ((أمَّكَ)) قال: قلت: ثمَّ مَن. قال: أمَّكَ. قال: قلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قال: ((ثمَّ أباكَ، ثمَّ الأقربَ فالأقربَ)). ولأبي داودَ قريبٌ منه. قوله: (تُرضِعُني الدِّرَّة والعُلالة) الدِّرَّةُ: كثرةُ اللَّبنِ وسَيلانُه، والعُلالة: بقيَّة اللَّبن، والحَلْبة بين الحَلْبتينِ، وبقيَّةُ جَرْيِ الفرس.

الشافعي رحمه الله على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رحمه الله فمدة الرضاع ثلاثون شهرًا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعًا. وإن أكل أكلًا ضعيفًا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم. [(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَاتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ)] 16 [ قرئ (مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان، أى: إن كانت مثلًا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى (يَاتِ بِهَا الله) يوم القيامة فيحاسب بها عاملها (إِنَّ الله لَطِيفٌ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأمّا عند أبي حنيفة فمدَّة الرَّضاع ثلاثون شهرًا) قالوا: إن الآية عنده لبيان الرَّضاع المستحقِّ على الأُم، لا لبيان مدَّة الرَّضاع؛ لأن مدة الرَّضاع عنده ثلاثون شهرًا. قوله: (الضمير للهنَة)، المُغرب: الهَنُ: كناية عن كلِّ اسم جنس، وللمؤنث هَنَةٌ، ولامُه ذاتُ وجهين، فمن قال: ((واو))، فالجمع هَنَوات، والتصغير هُنَيَّة. ومن قال: ((ها)) قال: هُنَيهةٌ، فقول المصنف: ((من الإساءة أو الإحسان)) إشارة إلى جنسيها. قوله: (والقَماءة) الجوهري: وقَمُؤ الرَّجل بالضم قَماءً وقَماءة صار قَميئًا، وهو الصغير الذليل.

يتوصل علمه إلى كل خفى (خَبِيرٌ) عالم بكنهه. وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال؛ لإضافته إلى الحبة، كما قال: كما شرقت صدر القناة من الدّم وروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أى: في مغاصه يعلمها الله؟ فقال: إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة؛ لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء. وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ: (فتكن) بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا. [(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)] 17 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما شَرِقَت صَدرُ القَناةِ مِن الدَّمِ) أوله: وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذْعْته قوله: الشَّرَقُ: الشجا والغُصَّة، وقد شَرِق برِيقِه، أي: غَصَّ. أنَّث ((شَرِقَت)) لإضافة ((الصدر)) إلى ((القناة))، وصدر القناة: هو ما فوقَ نصفِه. قوله: (إنَّ الله يعلمُ أصغرَ الأشياءِ في أخفى الأمكِنةَ). الانتصاف: هذا من باب التَّتميم البديع، تَمّم خفاءَها في نفسها بخَفاءِ مكانِها من الصَّخرة. قالت الخنساء: وإنَّ صَخرًا لَتاتَمُّ الهُداةُ بِه ... كأنَّه علَمٌ في رأسِه نارُ قوله: (((فتكِنْ)) بكسرِ الكاف)، قال ابن جنِّي: هي قراءة عبد الكريم الجَزَريّ، كأنه منَ

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يجوز أن يكون عامًا في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصًا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر (إِنَّ ذلِكَ) مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» أى لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام: «لمن لم يبيت الصيام» ومنه: «إنّ الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»، وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه. وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أى: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرًا في معنى الفاعل، أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى: (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ)] محمد: 21 [كقولك: جد الأمر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المقلوب؛ لأن الكون الاستقرارُ، وعليه قالوا: قد تكَوَّن في منزله واستقرَّ. قوله: (وأصلُه من معزوماتِ الأمور، أي: مقطوعاتِها ومفروضاتها)، النهاية: ومنه حديث: ((الزكاةُ عَزْمةٌ من عَزَماتِ الله))؛ أي: حقٌّ من حُقوقِه، وواجبٌ من واجباته.

وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورًا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها. [(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)] 18 - 19 [ "تصاعر" و (تصعر): بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خدّه، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعًا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد: (وَلا تَمْشِ) تمرح (مَرَحاً)، أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ)] الأنفال: 47 [. والمختال: مقابل للماشي مرحًا. وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرًا (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) واعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين؛ لا تدب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصَدَقَ القتالُ)، الأساس: رجل صادقُ الحَمْلةِ، وذو مَصدَقٍ في القتال، وصدقوهم القتال. قوله: (و {تُصَعِّرْ} بالتشديدِ والتخفيف) ابنُ كثيرٍ وعاصمٌ وابنُ عامرٍ: بالتشديدِ من غيرِ ألف، والباقون: بالألف وتخفيف العين.

دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن»، وأما قول عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ: (وأقصد) بقطع الهمزة، أى: سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر؛ من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه، (أَنْكَرَ الْأَصْواتِ): أوحشها، من قولك: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دبيبَ المُتماوتين)، النهاية: يقال: تَماوتَ الرَّجلُ إذا أظهَر من نفسه التَّخافُتَ والتَّضاعُفَ من العِبادة والزُّهد والصَّوم. ومنه حديثُ عمرَ رضي الله عنه؛ رأى رجُلاً مطأطِئًا رأسه، فقال: ارفع رأسَك، فإن الإسلام ليسَ بمريض. ورأى رجُلاً متماوِتًا فقال: لا تُمِتْ علينا دينَنا أماتَك الله. قوله: (كان إذا مشى أسرع)، النهاية: أن عائشة رضي الله عنها نظرتْ إلى رجلٍ كادَ يموتُ تَخافُتًا، فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنَّه من القُرّاء، فقالت: كان عُمرُ سيِّدَ القُرّاء، وكان إذا مَشى أسرَعَ، وإذا قال أسمَعَ، وإذا ضَربَ أوجَعَ. قوله: (إذا قصَّرَ به) أي: نَسَبه إلى التقصير أو القُصور، والباء علم المجاز، لأنَّ المجاز يكون بالزيادة كما يكون بالنقصان، والأصل: قصره، و ((وضع منه))؛ أي: حَطَّ من درجته، والتَّواضُع: التذلُّل، وهو من الوَضْع الذي خلافُ الرفعِ، والأصل وضعه، وحرف الجر علم المجازية كأشاد بذكره وجَذَب بضَبُعِه.

شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردًا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوٍم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافًا وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرًا وصوتهم نهاقًا؛ مبالغة شديدة في الذم والتهجين، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأساس: وضَع منه: غَضَّ منه ونقَض، يقال: عليك في هذا غَضاضَة؛ أي: نَقصٌ وعَيبٌ، وفُلانٌ غَضِيضٌ: ذليلٌ بَيِّنُ الغَضاضَة. الراغب: الغَضُّ: النُّقصان من الطَّرْفِ والصوتِ وما في الإناء، يقال: غَضَّ وأغَضَّ. قال عز وجل {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وقال: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وغَضَضْتُ السِّقاءَ: نقصت ممّا فيه. والغَضُّ: الطَّرِيُّ: الذي لم يَطُل مُكْثُه. وقوله: (وتَفاديهم) الأساس: ومن المجاز تَفادي منه: تَحاماه. قوله: (وإن بَلغت منه الرُّجْلَة) أي: أعْيَتْهُ. الأساس: فلان راجلٌ بيِّنُ الرُّجلة، وحَملَك الله عن الرُّجْلَة. قوله: (مبالغةٌ شديدةٌ في الذَّم والتَّهجين) إشارة إلى أنّ قوله: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ} تعليلٌ للأمر بغَضِّ الصَّوت على الاستئناف، كأنَّه قيل: لمَ أَغضُّ الصَّوتَ؟ فأجيبَ: لأنَّك إذا رفعتَ صوتكَ كنتَ بمنزلةِ الحمارِ في أخسِّ أحوالِه. ثم ترك المشبَّه وأداة التشبيه ووجهه، وأخرجَ المشبَّه به مخرجَ الاستعارةِ المصرِّحة المركَّبة العقلية أو التمثيلية.

على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحٍد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنٍس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. [(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)] 20 [ (ما فِي السَّماواتِ) الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَما فِي الْأَرْضِ) البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى، (وَأَسْبَغَ) قرىّ بالسين والصاد، وهكذا كل سيٍن اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ: صلخ، وفي سقر: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الحيوان الناطِقِ) أي: ذي الصَّوت، يقال: مالٌ صامِتٌ، ومالٌ ناطِقٌ. قوله: (صَوْتُ هذا الجنسِ، فوجبَ توحيده) يريد: أن التعريف فيه تعريفُ الماهيَّةِ والحقيقةِ من حيثُ هي هي، وتمييزها من بين سائر الحقائق؛ نحو: الرجلُ خيرٌ من المرأة، فلا معنى للجمع. قال صاحب ((الفرائد)): فعلى هذا ينبغي أن يقال: ((لصَوْتُ الحمارِ))، ويمكن أن يُجابَ: أن المقصودَ في الجمع التَّتميمُ والمبالغةُ في التَّنفير، فإنَّ الصوتَ إذا تَوافقت عليه الحميرُ كان أنكَرَ. قوله: ({وَأَسْبَغَ}، قرئ بالسِّين والصّاد) وبالصَّاد شَاذٌّ. قال ابنُ جنِّي: هي قراءة يحيي بن عُمارة، وأصلُها السِّين إلا أنها أُبدلت للغَيْنِ صادًا، كما قالوا في سالغ: صالغ، وذلك أن حروفَ الاستعلاءِ تجذبُ السِّيَن عن

صقر، وفي سالخ: صالخ. وقرئ: (نعمه)، و (نعمةً)، (ونعمته). فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمةً، لأنه إما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سِفالتِها وحكى يونس عنهم في السّوق: الصوق. سَلَغتِ البقرةُ والشاة تَسْلغُ سُلُوغًا: إذا أسقطَتِ السِّنَّ التي خَلْفَ السَّديس، يقال: سلغَت وصلَغتْ، ورجل سالغٌ وصالغ. قوله: ({نِعَمَهُ} و ((نِعْمةً)))، نافع وأبو عمرو وحفص: {نِعَمَهُ} على الجمع والتذكير، والباقون: على التوحيد. قال الزَّجاج: من قرأ ((نعمة)) فعلى معنى: ما أعطاهم من التوحيد، ومن قرأ: {نِعَمَهُ} فعلى: جميع ما أنعَمَ به عليهم. وقيل: التَّوحيد على الجنس؛ كقوله تعالى: {إِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وعليه كلامُ المصنِّف. قوله: (كل نَفْعٍ قُصِدَ به الإحسانُ) قال الإمام: النِّعمةُ عبارةٌ عن المنفعةِ المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. وقالوا: إنما زدنا هذا القيد؛ لأنَّ النِّعمةَ يُستحقُّ بها الشَّكر، وإذا كانت قبيحةً لا

حيوان، وإما غير حيوان، فما ليس نعمةٌ على الحيوان، والحيوان نعمةٌ من حيث أنّ إيجاده حيًا نعمةٌ عليه؛ لأنه لولا إيجاده حيًا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمةٌ. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودًا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثًا، والعبث لا يجوز عليه، ولا يجوز أن يكون لغرٍض راجع إليه من نفع؛ لأنه غنى غير محتاٍج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرٍض يرجع إلى الحيوان؛ وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو: لا يعلم أصلًا، فكم في بدن الإنسان من نعمةٍ لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الإمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة: الستر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستحقُّ بها الشُّكر. والحقُّ أن هذا القَيْدَ غيرُ معتَبرٍ؛ لأنه يجوز أن يُستحقَّ الشكرُ بالإحسان وإن كان فِعْله محظورًا؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشُّكر غيرُ جهةِ استحقاقِ الذَّم والعقابِ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألا ترى الفاسق يستحقُّ الشُّكرَ لإنعامِه، والذمَّ لمعصيةِ الله تعالى، فلمَ لا يجوز أن يكون الأمرُ هاهنا كذلك؟ أما قولنا: ((المنفعة))، فلأنَّ المضرَّةَ المَحْضَةَ لا تكون نعمةً. وقولنا: ((المفعولة على جهة الإحسانِ))؛ لأنه لو كان نفعًا وقَصَد الفاعل به نَفْع نَفْسِه لا نَفْعَ المفعولِ به، لا يكون نعمةً، وذلك كمن أحسَنَ إلى جاريته ليربحَ عليها. قوله: (الظاهرة: الإسلامُ، والباطنة: السَّترُ) قال في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: مَن أنعَمَ الله تعالى عليه بنعمة الإسلام لم تَبْقَ نعمةٌ إلا أصابتْهُ. وفي قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]: فيه دليلٌ على أن كَشْف العَوْرةِ من عظائم

وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء. والباطنة: المعرفة. وقيل: الظاهرة: البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: "إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك؛ فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس". ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس. [(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ الله قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)] 21 [ معناه أَيتبعونهم وَلَوْ (كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أى: في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب. [(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى الله عاقِبَةُ الْأُمُورِ)] 22 [ قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: (ومن يسلم) بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ماله عدّى بـ (إلى)، وقد عدّى باللام في قوله: (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)] البقرة: 112 [؟ قلت: معناه مع اللام: أنه جعل وجهه، وهو ذاته ونفسه سالمًًًا لله؛ أى: خالصًا له. ومعناه مع (إلى): أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من باب التمثيل؛ مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمورِ، ولم يَزلْ مُستَهجَنًا في الطِّباعِ، مُستَقْبَحًا في العقول، فنعمةُ الإسلامِ نعمةٌ جزيلةٌ، ونعمةُ التَّستُّرِ نعمةٌ جميلةٌ، وتلك مَوفُورة ظاهرةٌ، وهذه مَستورةٌ ساترة. قوله: (الظاهرة: البصر) البَصَرُ: تحقُّقُ الشيء الباصِرَة، والنَّظر: تقليب الحَدَقةِ نحو المَرئيِّ التماسًا لرؤيته، والأعمى له نَظرٌ وليس له بَصَرٌ.

شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروةٍ من حبٍل متيٍن مأموٍن انقطاعه (وَإِلَى الله عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى: هي صائرة إليه. [(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)] 23 - 24 [ قرئ: "يحزنك" و (يحزنك) من: حزن وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله (إِنَّ الله) يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه. (نُمَتِّعُهُمْ) زمانا (قَلِيلًا) بدنياهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)؛ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: ((يُحْزِنْكَ)) و {يَحْزُنكَ})، الأولى: لنافعٍ، والثانية: لغيره. قوله: (والذي عليه الاستعمال) أي: يستعملون ((أَحزَنَ)) في الماضي، و ((يَحزُنُ)) في المستقبل. قوله: (شَبَّه إلزامَهم التَّعذيبَ) وقوله: (الغِلَظُ: مُستعارٌ من الأجرام) يؤذن أن في هذه الفاصلة استعارتينِ تَبَعيَّتينِ: إحداهما: في قوله: {نَضْطَرُّهُمْ} فإنّه شبَّه إلزامَهم التعذيبَ باضطرارِ المُضطَرِّ إلى الشيء، فاستُعير له الاضظرار ثم سَرَى منه إلى الفعل. وثانيتهما: وَصْفُ العذاب بالغَليظ، وهو صفةٌ مشبَّهةٌ تُوصَفُ بها الأجسام. والاستعارةُ الأُولى واقعةٌ على سبيل التَّمثيل، ومن ثَمَّ اعتبر أمورًا متوهَّمة.

لا يقدر على الانفكاك منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد. الشدّة والثقل على المعذب. [(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ)] 25 - 27 [ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه) إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: تفسير هذا الاضطرار هو أنهم لشدَّة ما يُكابدون من النار يطلبون البرد، فيُسَلِّطُ عليهم الزَّمْهَرير، فيكون أشدَّ عليهم من اللهب، فيسألون العَوْدَ إلى اللهب اضطرارًا، فهو اختيار عن اضطرارٍ. وبأذيالِ هذه البلاغة تعلَّق الكنديُّ في قولِه: يروْنَ الموتَ قُدّامًا وخلفًا ... فيختارون والموتُ اضطرارُ فيختارون؛ أي: الموت. قوله: ({قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلزامٌ لهم على إقرارِهم) يعني: لما اعترفتم بأنّ خالق السّماوات والأرض هو الله، يَجبُ عليكم أن تعرفوا أنَّ العبادةَ مختصَّةٌ به؛ لأنَّ كلَّ فضيلةٍ ونعمةٍ منه لا من غيره، فلا تشكروا إلاّ إيّاه، فيكون قولُه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تَتْميمًا للتَّبكيت المستَفادِ من قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وقَوْلُه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إيغالٌ؛ لأنَّ النُّكتةَ فيه تجهيلُهم؛ وأن جَهْلَهم انتهى إلى أنهم لا يعلمون أنَّ الحمدَ لله إلزامٌ لهم. وقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تَهاونٌ بهم، وإبداءٌ أنّه تعالى مُستَغْنٍ عنهم

هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا (إِنَّ الله هُوَ الْغَنِيُّ) عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه. قرئ: (والبحر) بالنصب عطفًا على اسم (أنّ)، وبالرفع عطفًا على محل (أن) ومعمولها؛ على: ولو ثبت كون الأشجار أقلامًا، وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحٍر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن حَمْدِهم، ولذلك علله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، وإليه الإشارةُ بقوله: ((وإن لم يَحْمَدُوه)). قوله: (قرئ: ((والبحرَ)) بالنَّصب)، أبو عمرو، وبالرفع: غيرُه. قوله: (عطفًا على محلِّ ((أنّ)) ومعمولها؛ على: ولو ثبت كون الأشجار) قال الزَّجاجُ: لأن ((لو)) تطلب الأفعالَ. وقال ابن جِنِّي: وأما رفعُ {لْبَحْرُ}، فإن شئتَ كان معطوفًا على موضع ((أنَّ)) واسمِها، وإن كانت مفتوحةً كما عُطف على موضعها في قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]. وقال ابن الحاجب في ((الأمالي)): ((من قرأ ((والبحرَ)) بالنَّصب فمعطوفٌ على اسم ((أنَّ))، و {يَمُدُّهُ} خبرٌ له؛ أي: لو ثبت أنَّ البحرَ ممدودٌ من بَعْدِه بسبعةِ أبحُرٍ، ولا يستقيم على هذا أن يكون {يَمُدُّهُ} حالاً؛ لأنه يؤدِّي إلى تقييد المبتدأ الجامدِ بالحال؛ لأنها بيانٌ لهيئة الفاعل والمفعول، والمبتدأُ ليس كذلك، ويؤدِّي أيضًا إلى أن يبقى المبتدأ لا خَبرَ له. ولا يستقيمُ أن يكونَ {أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] خبرًا له؛ لأنه خبرُ الأوَّل.

أو على الابتداء والواو للحال، على معنى: ولو أنّ الأشجار أقلاٌم في حال كون البحر ممدودًا، وفي قراءة ابن مسعود: و (بحر يمدّه) على التنكير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا مَن قرأ بالرَّفع فمعطوفٌ على فاعل ((ثبت)) المُرادُ بعد ((لو))، وهو ((أنَّ)) واسمُها وخبرُها جميعًا، يُقَدَّرُ بالمفرد، فـ ((البحر)) معطوفٌ على ما هو في معنى الكَوْن المقدَّر، فعلى هذا: {يَمُدُّهُ} لا يصحُّ أن يكون خبرًا، فيجب أن يكون حالاً؛ أي: لو ثبت البحر في حال كونِه ممدودًا بسبعة أبحُرٍ. ولا يستقيمُ أن يُقالَ: إن ((البحرَ)) معطوفٌ على موضع ((أن))؛ لأنَّ العطفَ على الموضع في ((أن)) شَرطُه أن تكون مكسورة، ومثلِ: {نَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] لوُقوعه بعدَ قولِه: {وَأَذَانٌ} [التوبة: 3] بمعنى: وإعلامٌ، وهو مثل: عملتُ أنَّ زيدًا قائمٌ وعمروٌ، وإنَّما لم يعطف على المفتوحة لفظًا ومعنىً؛ لأنَّها واسمَها وخبرَها بتأويل جزءٍ واحدٍ، فلو قدَّرْتَ أنها في حُكمِ العَدَم لأَخلَلتَ بموضوعها بخلاف ((إنَّ)) المكسورةَ؛ لأنها لا تغير المعنى، فجاز تقديرُ عَدَمِها لكونها للتأكيد المَحْضِ، كما جاز تقديرُ عَدَم الباء المؤكِّدة في قوله: فلسْنا بالجبالِ ولا الحديدا)). قوله: (أو على الابتداء) عطفٌ على قوله: ((عطفًا على محلِّ ((أن)) ومعمولها))، وإنما قيَّد هذا الوجهَ بقوله: ((والواوُ للحال))؛ لأنّ العطفَ يُوجِبُ المحذورَ الذي أشار إليه ابنُ الحاجبِ. قوله: (ولو أنَّ الأشجارَ أقلامٌ) على تأويل: لو ثبتَ أنَّ الأشجارَ أقلامٌ؛ ليكون عاملُ الحالِ ((ثَبت)).

ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ: (يمدّه) و (يمدّه) وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلاٌم، والبحر مداد. قلت: أغنى عن ذكر المداد قوله: (يمدّه)، لأنه من قولك: مدّ الدواة وأمدّها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويَجب أن يُحمل هذا على الوجه الأوّل) وهو أن يكونَ ((البحرُ)) مرفوعًا عطفًا على محل ((أن)) ومعمولها، وذلك بأن يكونَ في تقديرِ الفاعلِ للفعلِ المقدَّر؛ أي: لو ثبت بحرٌ ممدود، ويفهم منه عدمُ جوازِ الحال؛ لأن بحرًا نكرة إذن. ولهذا قال صاحب ((التقريب)): ((بحر)) عطف على موضع ((أن))، لا مبتدأ. قال ابن جني: قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف: ((ويَحْرٌ يَمُدُّه)) رفع ((بحرٌ)) بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ؛ أي: هناك بحرٌ يمدُّه من بعدِه سبعةُ أبحُرٍ، فالواوُ واوُ الحالِ لا مَحالةَ، ولا يجوز أن يَعطفَ ((وبحرٌ)) على ((أقلام))؛ لأنّ البحرَ وما فيه ليس من حديثِ الشَّجرِ والأقلام، وإنّما هو من حديث المدَادِ. وقال أبو البقاءِ: {مِن شَجَرَةٍ} حالٌ من ضميرِ الاستقرارِ ومن ((ما)). قوله: (وقُرئ: {يَمُدُّهُ} و ((تَمدُّه)) بالياء والتاء) بالياء التَّحتانيّةِ: المشهورةِ، وبالتّاءِ: الشّاذةِ. وقال ابن جِنّي: وأمّا ((يُمدُّه)) بضمِّ الياءِ فتشبيه بإمدادِ الجيشِ، يقال: مَدَّ النهرُ ومدَّهُ نَهرٌ آخَرُ، وأمَدذتُ الجيشَ بمدَدٍ. قوله: (أغنى عن ذِكرِ المِداد قولُه: {}) يعني: ذَكرَ فيه ما يَدلُّ على المقصود مع ما

جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءةً مدادًا، فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبًّا لا ينقطع. والمعنى: ولو أنّ أشجار الأرض أقلاٌم، والبحر ممدوٌد بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)] الكهف: 109 [فإن قلت: زعمت أنّ قوله: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله: وقد اغتدى والطّير في وكناتها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يزيدُ في المبالغةِ، وهو تصويرُ الإمدادِ المستمرِّ حالاً بعد حالٍ، وتعليقُ {مِن بَعْدِهِ}، وذكر السَّبعة؛ ليكون على وِزانِ قولِه: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] في إفادة الشُّمولِ والإحاطةِ، وإليه الإشارةُ بقوله: ((فهي تَصُبُّ فيه مِدادَها أبدًا صَبًّا لا ينقطعُ)). ولو قيل: ((والبحرُ مِدادًا)) لم يُفِد هذه الفائدةَ. قوله: (وكُتِبَتْ بتلك الأقلام وبذلك المِدادِ كلماتُ الله) يشير إلى أنَّ في الكلام حذفًا. قال ابنُ جنّي: في الآية حذفٌ تقديرُه: فكُتبتْ بذلك كلماتُ الله ما نَفِدَتْ، فحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه؛ كقولهِ تعالى: {مَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]؛ أي: فحَلَقَ فعَلَيْه فِدية، فاكتفى بالمُسَبِّبِ- وهو الفِدْية- عن السَّببِ وهو الحَلْق. قوله: (وقد أغتَدي والطَّيرُ في وُكُناتِها) تمامُه: بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ قولُه: الاغتداءُ: الغُدوُّ. والوُكْنَةُ: موقعة الطَّير. وانجَردَ في سيره؛ أي: مضى، أي: أن المنجردَ لسرعتِه يقيِّدُ الوحشَ لا يدعُه يبْرحُ، والهيكلُ مِن الخيلِ: الفرَسُ الطَّويلُ الضَّخمُ،

و: جئت والجيش مصطٌف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل: (مِنْ شَجَرَةٍ) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبَيتُ النّصارى يُسمَّى هيكلاً، وقيل: بمُنْجَرِدٍ: قصيرِ الشَّعرِ. والمعنى: أغتَدي في السَّحَرِ للصَّيدِ، ـ والحالُ أنَّ الطَّيرَ بَعدُ مستقرةٌ في أوكارِها. قوله: (جئتُ والجيشُ مصطَفٌّ) أي: جئتُ القومَ والحالُ أنَّ الجيشَ قد اصطَفَّ للقتال. وفي ((التَّهذيب)): بحقيقةِ أنّه إذا رجَعَ إلى معنى الظَّرفِ يكون متضمِّنًا للضَّمير؛ أي: جئتُ كائنًا في حالِ اصطفافِ الجيش، وتقديرُ الحالِ الأُولى: أَتيتُ بُكْرةً باكرةً، وتقدير الحال الثانية: والجيشُ مصطَفٌّ عندي. قوله: (مِنَ الأحوالِ التي حُكْمها حُكْمُ الظرّوف) أي: الظروف الملغاة. قال في ((المُفصَّل)): شَبَّهَ الحالَ بالمفعولِ من حيثُ أنّها مفعولٌ فيها. قال صاحب ((التخمير)): الحال يُشبِه الظَّرفَ مِنْ حَيْثُ إنَّك إذا قلتَ: ((جاء زيدٌ راكبًا))، فمعناه: جاء زيد حالَ كونِه راكبًا، فقولك: حال كونِه راكبًا ظرفٌ. وقال: عندي أنّه يجوز أنْ يكون الواو في مثل: ((جئتُ والشَّمسُ طالعةٌ)) واوَ الظرفِ؛ لاستقامة: جئتُ وقتَ طلوعِ الشَّمسِ، والظَّرفُ والحالُ مشتبهان جدًّا، ولذلك اشتَبها في قولِك: جاءا معًا وذهبا معًا. قال عليُّ بن عيسى: نَصْبُ ((معًا)) على الحالِ، كأنه قيل: ذهبا مجتمعَين، ويجوز على الظرف، كأنه قيل: ذَهَبا في وقتِ اجتماعِهما. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى وبحْرُها) أي: بكَوْنِ الراجعِ إلى ذي الحال الألفَ واللامَ اللَّذينِ أُقيما مقامَ الضَّميرِ المضافِ إليه؛ كقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]. فإن قلتَ: على الأوَّل كانتِ الجملةُ حالاً من المستقرِّ في الظَّرف الراجعِ إلى الموصولِ المعنيِّ به الشَّجرة، والمعنى ظاهر، فما المعنى على هذا التقدير؛ وهو أن يكونَ ذو الحالِ الأرض؟

على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجٌر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرةً شجرةً، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلامًا. فإن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الحالُ في الحقيقة صفةٌ لصاحبها، فيكون المعنى: لو ثَبَت كونُ الأشجارِ المستقرَّةِ في الأرض التي بَحْرُها كالدَّواة يَمُدُّها أبحرٌ سبعةٌ أقلامًا. وهذا أبلغُ لاحتمالِ التّعريفِ في البحر على الأوَّلِ العهدَ، وهو الحِصَّةُ المعلومةُ عند المخاطَبِ فلا يَعُمّ، وإليه أشار بقوله: ((جَعَلَ البحرَ الأعظمَ بمنزلة الدَّواةِ)) بخلاف الإضافة والنِّسبةِ، فإنّها تَستَغرقُ جميعَ ما يُنسَب إليها، سواءً عَلِمَه المخاطَبُ أم لا. وأيضًا أن يَفرضَ الأبحُرَ الممدودةَ بها خارجةً ممّا هو فيها بخلاف الأوَّلِ. قوله: (وتَقصِّيها شجرةً شجرةً)، الأساس: واستقصيتُ الأمرَ وتقصَّيتُه: بَلغْتُ أَقصاهُ في البحث عنه. قوله: (ولا واحدِهِ) يروي بكسر الدّال والإضافة إلى ضمير الجِنْسِ، ويروي بالتاء وضمِّها، والأول أظهر من حيث اللفظ والمعنى. أما الأول: فإن الاستثناءَ مفرَّغٌ، وقوله: ((وقد بُرِيَتْ أقلامًا)) حال، والمذكورُ نكرةٌ لا يَصْلُحُ أنْ يكونَ ذا حال المُقَدَّر؛ لأنَّ التقديرَ حينئذٍ لا يبقى من جنسِ الشَّجرِ أفرادٌ ولا واحدةٌ بخلاف الأَوَّل، فإنَّ التقدير: لا يبقى من جنس الشَّجر البقيّةُ، ولا من واحدِ الجنس. وأمّا الثّاني: فإنّ قولَه: ((ولا واحدةٌ)) جيء به مؤكِّدًا لشمول الماهيَّةِ؛ أي لم تبق مِن هذه الحقيقة بقيَّة، ولا كذلك الأول لأنّ من نَفْيِ الفرد لا يَلزمُ نَفْيُ بقيَّةٍ منه، كلُّ هذه الفوائد إنّما تُستفادُ من جعل اسمِ ((أَنَّ)) موصولاً لا مبهمًا، ثمَّ البيان بالماهيّة وحَمْل أقلامٍ -وهو جَمعٌ- عليه كأنَّ هذا السؤالَ والجوابَ من تَتمَّةِ سؤاله السّابقِ؛ لأنّه سأل عن شيئينِ: عن الشّجرِ أقلاَمٌ وعن البحرِ مدادٌ، فأجاب عن الثاني وترك الأَوَّلَ.

قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابًا لليهود لما قالوا: «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة»، وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا -يعنون الوحي- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء. (إِنَّ الله عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه. [ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِير)] 28 [ (إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها؛ أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنَّ هذا- يَعنونَ الوحْيَ- كلامٌ سينفَدُ) فسَّر هذا بالوحي دون القرآنِ؛ لأنّ الوحيَ غيرُ نافذٍ والقرآنُ نافذٌ عندَه، ومَنْ قال: المُشارُ إليه القرآنُ؛ أراد أنَّ مدلولَه لا يَنفدُ، وهو الكلام النَّفْسيُّ. قوله: (ومثلُه لا تَنفَدُ كلماتُه وحِكَمُه)، ((مِثْلُ)) هاهنا كناية؛ نحوُ: مِثْلُك لا يَبخلُ، ليس هذا إثباتَ مِثْلٍ، وإنَّما المرادُ أنت لا تبخل، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كالتَّعليلِ لإثبات العِلمِ الواسع، كأنَّه قال: لانفادَ لعلمِه الواسع؛ لأنَّ المعلوماتِ إمّا كثيفةٌ تحتاج في إدراكها إلى علم متينٍ، فهو عزيزٌ لا يُعجِزُه شيءٌ عمّا يُريدُه، وإمّا لطيفةٌ يَفتقِرُ لإدراكِها إلى عِلْم دقيق، فهو حَكيمٌ يُدركُ بدقيق حكمتِه تلك المعانيَ والجواهرَ اللَّطيفةَ، فتكون الفاصلةُ كالتَّتميمِ لِما سَبقَ؛ لأنَّ بعض التعليلِ يُجاء به للمبالغة والتَّأكيدِ، ولذلك قالتِ الفقهاء: تَعليلُ الحَكيمِ يفيده تأكيدًا.

الكثيرة العدد؛ أن لو شغله شأٌن عن شأٍن وفعٌل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك. (إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع كل صوٍت ويبصر كل مبصٍر في حالةٍ واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث. [أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ الله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)] 29 - 30 [ كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقٍت معلوم؛ الشمس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكذلكَ الخَلقُ والبَعث) أي: كما أنَّ المعلوماتِ لا يَشغَلُه إدراكُ بعضِها عن إدراكِ بعضِ، كذلك المخلوقاتُ لا تَتفاوتُ فيما يراد منها مِنَ الإيجادِ والإعدامِ، فلا يَشْغَلُه فِعْلٌ عن فِعْل، فشبَّه المقدوراتِ فيما يراد منها بالمعلوماتِ فيما يُدرَكُ منها. والظّاهر أنَّ قولَه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليلٌ لإثباتِ القُدرةِ الكاملةِ بالعِلْمِ الواسعِ، وأنَّ شيئًا مِنَ المقدوراتِ لا يَشْغَلُه فيما يراد منه عن الآخَرِ؛ لأنّه تعالى عالم بتفاصيلها وجزئيّاتها يَتصرَّفُ فيها كيف شاء، كما يقال: فلان يُجيد تلك الصَّنعَةَ وهو ماهرٌ فيها؛ لأنه عارفٌ بدقائقها ومتمِّماتها. والمقصودُ من إيرادِ الوَصْفَين إثباتُ الحَشْرِ والنَّشْرِ؛ لأنَّهما عُمْدَتان فيه. ألا ترى كيف عَقَّبَ بقوله: {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} إلى قوله: {أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تقريرًا له؛ فَدَلَّ بالأَوَّلِ على عِظَم قُدْرَتِه، وبالثّاني على شمول عِلمِه. وإليه الإشارةُ بقوله: ((على عِظَمِ قُدرتِه وحكْمتِه)) فإنّه نَشْرٌ لقوله: ((أيضًا باللَّيلِ والنَّهارِ))، وقوله: ((وبإحاطته بجميع أعمال الخَلْقِ))، وذلك أنَّ قولَه: {أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عَطْفٌ على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، فَدَلَّ بالأَوَّلِ على القُدرةِ الكاملة، وبالثَّاني على الحكمةِ البالغة، فقولُه: ((وبإحاطته)) عطفٌ على ((باللَّيلِ والنَّهار))، وقولُه: ((وكلُّ ذلك)) مبتدأٌ، و ((على تقديرٍ وحساب)) خبره، والجملةُ معترِضةٌ.

إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة؛ لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئٍذ. دلّ أيضًا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما -كل ذلك على تقديٍر وحساب- وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجٍل مسمى، ويجرى إلى أجٍل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن، ولكن المعنيين -أعنى الانتهاء والاختصاص- كل واحٍد منهما ملائٌم لصحة الغرض؛ لأنّ قولك: يجرى إلى أجل مسمى معناه: يبلغه وينتهي إليه. وقولك: يجرى لأجٍل مسمًّى: تريد يجرى لإدراك أجٍل مسمًّى، تجعل الجري مختصًّا بإدراك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أهو مِن تعاقبِ الحَرفَين) يعني: جاء في ((فاطر)): {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13]، و ((إلى)) هاهنا، و ((اللام)) هناك أهما مما يَتعاقبُ كلُّ واحدةٍ منهما مكانَ صاحبَتها مِنْ غيرِ تفرقةٍ؟ أو بينَهما تفاوتٌ؟ وأجاب: أن بينهما بَونًا بعيدًا من حيث الوضع؛ لأنّ أحدَهما للانتهاء والآخَرُ للاختصاص، وكلُّ واحدٍ منهما ملائمٌ لصحَّة الغَرضِ في موضعهِ الخاصّ. ويمكن ان يقال: إنَّ الغرضَ منهما الغايةُ، وهو حاصلٌ بهما؛ لأنّ الغاياتِ يَجمعُها معنى انتهاءِ الغايةِ والعِلَّة؛ لأنَّ {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} معناه: يجري إلى ما ينتهي إليه أجلُه، ويبلغ ما ضَربَ له من الحدِّ، و {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13] معناه: يجري لإدراك أجلٍ معيَّن سُمّي له. ولذلك فسَّر القاضي {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} بقوله: إلى منتهى الشَّمسِ إلى آخِرِ السَّنةِ والقمر إلى آخِر الشَّهر. كما فَسَّر المصنِّفُ {لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} [فاطر: 13] بهذا المعنى؛ لأنَّ مآلَ المعنَيَين إلى واحد.

أجٍل مسمًّى. ألا ترى أن جرى الشمس مختٌّص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين غير ناٍب به موضعه. (لِكَ) الذي وصف -من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله- إنما هو بسبب أنه هو (الحق) الثابت إلهيته، وأنّ من دونه باطل الإلهية (وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ) الشأن (الْكَبِيرُ) السلطان. أو: ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق، وأنّ إلهًا غيره باطٌل، وأنّ الله هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به. [لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ الله لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [31] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {ذَلِكَ} الذي وصَفَ مِن عجائب قدرتِه وحِكمتِه) إلى قوله: (إنَّما هو بسبب أنَّه الحقُّ) يعني: أتى باسم الإشارة بعد إجراء تلك الصفات على الذات المُتميِّزة؛ ليؤذن بأنَّ تلك الصِّفاتِ إنَّما تَثْبُتُ له لأنَّه هو الإلهُ الثَّابتُ الإلهيّة؛ لِمَا تقرَّر أَنَّ مَنْ كان إلهًا كان قادرًا خالقًا عالمًا معبودًا رازقًا، فهذه الآيةُ كالفَذْلَكَةِ لتلك الآيات من لَدُنْ قوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ}، وكُلٌّ مِنْ فواصِلِها نحو: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} مُتضمنةٌ لأسرارٍ لا يعلم كُنهَها إلا اللَّطيفُ الخبيرُ، وكما أنَّ قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} كالمُجْمَلِ لتلك المُفَصَّل؛ كذلك قرينتُها، أي: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فذلكة تلك الفواصلِ، والله أعلم. قوله: (فكيف بالجماد الذي يدعونه) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوف، وهو العامل في الاستفهام أيضًا؛ أي: فكيف ظنُّكم بالجماد؟ كقوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87]. وإنما أدخلَ هذا المعنى في مفهوم ذلك الذي هو المبتدأ؛ لاشتمال خبرهِ على قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ}.

قرئ: "الفلك" بضم اللام، وكل "فعل" يجوز فيه "فعل"، كما يجوز في كل "فعل": "فعل"، على مذهب التعويض. و (بنعمات الله) بسكون العين، وعين "فعلاٍت" يجوز فيها الفتح والكسر والسكون. (بِنِعْمَتِ الله) بإحسانه ورحمته (صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه، وهما صفتا المؤمن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: ((الفُلُكُ)) بضمِّ اللام) قال ابنُ جِنّي: وهي قراءة موسى بن الزُّبير، وحكي عن عيسى بن عُمَر أنه قال: ما سُمِعَ ((فُعلٌ)) بضمِّ الفاء وسكونِ العين إلا وقد سُمِعَ فيه ((فُعُلٌ)) بضَمِّ العين. فقد يكون هذا منه أيضًا. قوله: (((وبنِعمات الله))) قال ابنُ جِنّي: ((بنِعْمات الله)) ساكنة العين، قَرأَها جماعةٌ؛ منهم الأعرجُ. وقال الزَّجّاجُ: ويقرأ: ((بنعْمات الله)) بفتح العين وسكونها، وأكثرُ القرَّاءِ: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ} على الوحدة. قوله: ({صَبَّارٍ} على بلائه)، الرّاغبُ: الصَّبورُ: القادرُ على الصَّبرِ، والصّبّار: [يقال] إذا كان فيه ضَرْبٌ مِنَ التَّكلُّفِ والمجاهدة. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. قوله: (وهما صفتا المؤمن) يريد: ما وَردَ من قولهم: ((إنَّ الإيمانَ نصفان: نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ))؛ لأنَّ التَّكاليفَ أفعالٌ وتروكٌ، والتُّروكُ: صَبرٌ عن المألوف، والأفعال: شُكرٌ على المعروف.

فكأنه قال: إنّ في ذلك لآياٍت لكل مؤمن. [وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)] 32 [ يرتفع الموج ويتراكب، فيعود مثل الظلل، والظلة: كل ما أظلك من جبٍل أو سحاب أو غيرهما، وقرئ: (كالظلال)، جمع ظلةٍ، كقلة وقلال، (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو: مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعنى أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف، لا يبقى لأحٍد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى الزَّجَّاجُ، عن قتادة: أَحَبُّ العِبادِ إلى الله تعالى مَن إذا أُعطي شَكَر، وإذا ابتُلى صَبرَ. قوله: (فكأنه قال: إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلٍّ مؤمنٍ) فهو من الكنايةِ المطلوبِ بها نفسُ الموصوفِ؛ نحو: الإنسان حيٌّ مستوي القامة، عريضُ الأظفار. قوله: (مِن غُلَوائه)، الأساس: هو منِّي بغَلْوَةٍ سَهمٍ، وتقول: خَفِّضْ مِنْ غُلَوائك، وفَعل ذلك في غُلَواءِ شَبابِه. المغرب: يقال: غَلا بسهمه غَلْوًا به غِلاءً: إذا رمى به أبعدَ ما قَدِرَ عليه. قوله: (وقيل: مؤمنٌ قد ثبتَ على ما عاهدَ عليه الله في البحر): يريد أنَّ قوله تعالى: {فَمِنْهُم} للتَّفصيلِ، فلا بُدَّ من النَّظَرِ إلى قِسْم آخَرَ غيرِ المقتصد، فإذا جعل ذلك ما دَلَّ عليه {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} قيل: فمنهم مقتصدٌ في الكفر ومنهم جاحِد، وإذا نُظَر إلى مُخْلصِين قيل: فمنهم مُقْتصدٌ في الإخلاص ومنهم جاحِد. فالحاصلُ أنَّ المراد بالمقتصد الكافرُ باعتبارَين: إمّا متوسط في الظلم والكفر أو متوسط

والختر: أشدّ الغدر. ومنه قولهم: إنك لا تمدّ لنا شبرًا من غدٍر إلا مددنا لك باعًا من ختر، قال: وإنّك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر [يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ)] 33 [ (لا يَجْزِي) لا يقضى عنه شيئا، ومنه قيل للمتقاضى: المتجازى، وفي الحديث في جذعة ابن نيار: "تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك"، وقرئ: (لا يجزئ)؛ لا يغنى. يقال: أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى: لا يجزى فيه، فحذف. (الْغَرُورُ) الشيطان. وقيل: الدنيا، وقيل: تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرّة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر. وقيل: المقتصد: المؤمِنُ الثّابتُ على ما عاهد الله عليه في البحر. قوله: (وإنَّكَ لو رأيتَ أبا عُمَير، مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ)، وهو عبارةٌ عن حُصولِه بالغادِرِ المبالِغِ في غَدْرِه، وبمَنْ كلُّه غَدْرٌ؛ كقولك: هذا ما حَصَّلَتْ يَداك. وقيل: من عَدَّ خَصائلَ أحدٍ بأصابعِ يَدَيه، يقبض بكلِّ خصلة أُصبَعةً من أصابعِها، فإذا بلغ العَشْرَ قَبضَ على أصابع يَدَيه أجمعَ. يعني أنه عَدَّ في أبي عُميرٍ عَشْرًا من الأخلاق الذَّميمة، وهو متكلَّف. قوله: (في جَذَعةِ ابنِ نِيَارٍ) تقدم في ((البقرة)) حديثهُ بتمامِه.

لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرّة. وقرئ بضم الغين، وهو مصدر غره غرورًا، وجعل الغرور غارّا، كما قيل: جدّ جدّه. أو: أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت: قوله: (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وارٌد على طريٍق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوٌف عليه. قلت: الأمر كذلك؛ لأنّ الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بضمِّ الغَيْن) قال ابن جِنِّي: وهي قراءة سماك بن حرب، والغَرورُ: الاغْتِرارُ؛ أي: لا يَغرنَّكم اغتِرارُكم وتَمادي السَّلامةِ بكم. الراغب: يقال: غَرَرْتُ فلانًا: أصبْتُ غِرَّتَه ونِلْتُ منه ما أريده، فالغِرَّةُ: غفلة في اليَقظة، والغِرارُ: غَفْلةٌ مع غَفوة، وأَصلُ ذلك من الغُرِّ، وهو الأثرُ الظّاهرُ من الشيء، ومنه غُرَّةُ الفَرَسِ، وغَرُّ الثَّوب: أَثَرُ كَسْرهِ، وقيل: اطْوِهِ على غَرِّه، وغَرَّه كذا غُرورًا، كأنَّما طواه على غَرِّه، والغَرورُ: كُلُّ ما يَغُرُّ الإنسانَ مِنْ مالٍ وجاهٍ وشهواتٍ وشيطانٍ، وقد فُسِّرَ بالشَّيطانِ لأنَّه أَخْبثُ الغارِّين. قوله: (واردٌ على طريقٍ من التَّوكيدِ لم يَرِدْ عليه ما هو معطوفٌ عليه) قال صاحب ((التقريب)): لكون الجملةِ اسميَّةً، ولفظ {هُوَ} و {مَوْلُودٌ} والتصريح بلفظ {شَيْئًا} فيه ولفظ {جَازٍ} مع أن قوله: هو يجزي لا يخرجها عن الاسميَّةِ، وأنَّ العُمومَ في {مَوْلُودٌ} بملاصَقةِ النَّفيِ وفي {وَالِدُ} بسياق النَّفي، وأنَّ الثّاني مسبوق بـ ((ما)) وهو عدمُ إغناءِ الوالدِ عن ولدِه، وأنه كان مكررًا، إذ ربما يفهم العقل من الأول الإقناط، ويقيس عليه

انضم إلى ذلك قوله: (هُوَ) وقوله: (مَوْلُودٌ)، والسبب في مجيئه على هذا السنن: أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عكسه بجامع عدم إغناء الغير عن الغير، فيَرِدُ الثَّاني كأنَّه مفهومٌ مرَّتين، وانفرادُ الثّاني بتأكيدٍ أو بالسَّلامةِ عن مخالَفتين للأصلِ أو عن ممتنع؛ لأنَّ لفظَ {شَيْئًا} إن لم يُضْمَرْ في الأَوَّلِ لَزِمَ الأمرُ الأَوَّلُ، وإنْ أُضْمِرَ بقرينةٍ لزم الثَّاني؛ لأنَّ الإضمارَ خِلافُ الأصلِ، وتأخير الدّال عليه أيضًا خلافُ الأصل، وإن أُضْمِرَ بلا قَرينةٍ لَزِمَ الثّالثُ. وقلت: إذا لم يضمر كان آكد؛ لأنَّه حينئذٍ مِنْ بابِ: فلانٌ يعطي ويَمنعُ؛ أي: لا يَصْدَرُ من الوالد حقيقةُ الإِجزاءِ عن المولودِ، على أنَّ المعنى على الإضمار بقرينةِ الآتي وقوله تعالى: {لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]. قوله: ((لزم مخالفةُ الأَصْلِ))، فيقال: مخالفةُ الأصلِ وسلوكُ العُدولِ عن مقتضى الظّاهرِ دَابُ المؤخرين من البُلَغاءِ، فإنَّهم إذا ظَفِروا بذلك لم يُعرِّجوا إلى ما سِواهُ، ألا ترى إلى قول عُرْوةَ: عَجبتُ لهم إذ يَقتلونَ نُفوسَهم ... ومقتلُهم عند الوغى كانَ أعذَرا أي: نفوسهم عند السِّلْم. وقول الآخر: نحنُ بما عندَنا وأنتَ بما ... عندَك راضٍ والرّأيُ مُختلِفُ وكم ترى لهما نظائر وشواهد في التنزيل. قوله: (وعِلْيتِهم) الأساس: وهو من عِلْيَةِ النّاسِ، جمعُ عَليّ.

قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم: أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا؛ فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته، فضلًا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد؛ بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قُبِضَ آباؤُهم على الكُفرِ ... ، فأُريدَ حَسمُ أطماعِهم)، الانتصاف: هذا الجواب يَتوقَّفُ على أنَّ الخطابَ للموجودِين حينئذٍ، والصَّحيحُ أنَّه عامٌّ لهم ولكلِّ مَنْ ينطلقُ عليه اسمُ النّاسِ، والجوابُ الصَّحيحُ: أنَّ الله أوجبَ على الأبناءِ برَّ الآباءِ، وقرنَ النَّهي عن عقوقهما بالشِّركِ، وأوجبَ على الولدِ كفايةَ أبيه، فقَطَعَ هاهنا وَهْمَ الوالدِ عن أنْ ينفعَه وَلدُه في الآخرة كما كان في الدُّنيا، فلما كان جزاءُ الولدِ عن الوالد مظنَّةَ الوقوعِ مطلوبًا في الدنيا كان حَقِيقًا بتأكيد النفي. وقال الإمام: الابنُ مِنْ شأنِه أن يكون جازيًا عن والدِه لما له عليه من الحقوق، والوالد يجزي لما فيه من الشَّفقةِ، وليس الثَّاني كالأَوًّلِ. قوله: (لأنَّ الولدَ يقعُ على الولدِ وولدِ الولدِ): قال الإمامُ الرّافعيُّ في ((الشَّرح الكبيرِ)): إذا قال القائل: وقَفتُ هذا على أولادي هل يدخلُ فيه أولادُ الأولادِ؟ فيه وجهان؛ أصحُّهما، لا؛ لأنَّ الولَد يقع حقيقة على ولد الصُّلْب. ألا ترى إلى أنه لا يَنتظمُ أن يُقال: ليس هذا ولدُه وإنَّما هو وَلَدُ وَلَدِه. والثّاني: نعم؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]. قال صاحب ((المغرب)): يقال للصغير: مَوْلودٌ، وإن كان الكبيرُ مولودًا أيضًا لقُربِ

[إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ)] 34 [ روى: أنّ رجلا من محارٍب وهو الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، أخبرنى عن الساعة متى قيامها؟ وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد أبطأت عنا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ وإنى علمت ما علمت أمس، فما أعمل غدًا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت" وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عهده من الوِلادة، كما يقال: لَبَنٌ حليبٌ، ورُطَبٌ جنيٌّ: للطريّ منهما. قوله: (فقد اشتملتْ ما في بطنها)، الجوهري: والشَّمَل بالتحريك: مصدر قولك: شَمْلَتْ ناقتُنا لِقاحًا من فَحْلِ فلانٍ، تَشمَلُ شَمَلاً: إذا لَقِحَتْ. الأساس: شَمِلَهم الخير شُمولاً، وأنا مشمولٌ بنعمةِ الله، ويُروى: اشتَمَلت على ما في بطنها. الأساس: واشْتَمَلَ به الشَّمْلةَ، والرَّحِمُ مُشتمِلةٌ على الوَلَدِ. قوله: (إيَّاكم والكهانةَ)، ابنُ الأثير: الكاهن الذي يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبَل الزَّمانِ ويدَّعي معرفةَ الأسرارِ. قالَ الزَّجّاجُ: فمَنِ ادَّعى أنَّه يعلم شيئًا مِنْ هذه كَفَرَ بالقرآنِ العظيمِ؛ لأنَّه خالفه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقد روينا عن البخاريِّ ومسلمٍ والتَّرمذيِّ، عن مَسْروقٍ، عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالت له: من حدَّثك أنَّه يعلم ما في غد فقد كَذَبَ، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} قوله: {عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أيَّانُ مُرساها {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في إبّانه) مُؤذِنٌ بأن ((يُنزِّل)) عطفٌ على الظَّرفِ مع فاعله. قال أبو البقاء: هذا يدل على قوّة شبهِ الظَّرفِ بالفعلِ؛ لأنه عَطَفَ ((يُنزِّل)) على ((عنده)). قال صاحب ((الكشف)): جاء بالظرف وما ارتفع به، ثم قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، فعَطَفَ الجملةَ على الجملةِ، ومثلُه: {سْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [المؤمنون: 21]، فصدَّر بالفعل والفاعل، ثم عَطَفَ بالظَّرفِ وما ارتفع به. قال الحماسي: نُقاسمهم أسيافَنا شَرَّ قِسْمةٍ ... ففينا غَواشيها وفيهم صدورها فصدَّر بالفعل والفاعل، ثم أتى بالظَّرفِ وما ارتَفَع به. ويجوز أن يكون التَّقديرُ: وأنْ يُنزِّلَ الغيثَ؛ أي: عندهُ عِلمُ السَّاعةِ وإنزالُ الغيثِ، فحَذَفَ ((أَنْ)) كقوله: أَحْضُرُ الوغى. تَمَّ كلامُه. وكذلك قولُه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} عَطْفٌ عليه. وأمَّا قولُه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فمعطوفان على الجَرِّ مِنْ حيث المعنى بأنْ يَجعلَ المنفيَّ مثبَتًا، وأنْ يُقالَ: يَعلَمُ ماذا تكسب كُلُّ نفسٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غدًا، ويَعلمُ أنَّ كُلَّ نفسٍ بأي أرضٍ تموت ومثلُه جائزٌ في الكلام إذا رُوعِيَت نُكَتُه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] الآيات. قال المصنِّفُ: لَمَّا وَردت هذه الأوامرُ مع النَّواهي وتقدَّمهُنَّ فِعلُ التَّحريم واشتَركْنَ في الدُّخولِ تحت حُكْمِه، عُلِمَ أنَّ التَّحريمَ راجعٌ إلى أضْدَادِها، وهي الإساءةُ إلى الوالدَين، وبَخْسُ الكيل، وتَرْكُ العَدْلِ. فإن قلتَ: كيف التَّوفيقُ بين هذه الآية وبين تفسيرِها عن سَيِّدِ المرسلِين صلى الله عليه وسلم، على ما روينا في ((صحيح البخاريِّ))، عن ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ)) ثم قرأ: {نَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية. وفي روايةٍ: ((مفاتيح الغيبِ خَمْسٌ لا يعلمُها إلا الله: لا يَعلمُ أحد ما يكونُ في غدٍ إلا الله، ولا يَعلمُ أَحدٌ ما يكون في الأرحام إلا الله، وما تَعلمُ نفسٌ ماذا تَكْسِبُ غدًا، ولا تدري نفس بأيِّ أرضِ تموتُ، وما تدري نفسٌ متى يجيء المطر)) وما وردَ في الحديثِ المشهورِ في: ((خمسٌ لا يعلمهنَّ إلاّ الله))، فإنّه صلواتُ الله عليه أدخلَ كلّهن في علمِ الغيب على سبيلِ الحصر، فأين أداةُ الحصرِ، وإذا عطفَ ((يُنزِّل)) على الظرف خرج عن أن يَكونَ مِنْ جملةٍ العلوم فضلاً عن أنْ يَكونَ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ؟ قلت -وبالله التوفيق-: أما دلالة التركيب على الحصر فقد مرَّ غيْرَ مرَّةٍ عن المصنِّف أنَّ اسمَ الله الجامعَ إذا وقعَ مسنَدًا إليه ثم يبني عليه الخبر على إرادةٍ تُقَوِّي الحُكْمَ أفاد تخصيصًا البتَّة. وهذا المقامُ ممّا يجب أن يُحتَجَّ به على صِحَّةِ مذهبِه، وإنَّما خولف بين {عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ليدلَّ في الأَوَّلِ على مزيد الاختصاص وفي الثّاني على الاستمرار بحسب تجدُّدِ المتعلِّقات مع الاختصاص.

فإن الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره، فرأى في منامه كأن خيالًا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأوّلوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أيان مرساها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برّة أو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأمّا دلالةُ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} على عِلْمِ الغَيبِ، فمِنْ حيثُ دلالةُ المقدورِ المُحْكَمِ المُتيقَّنِ على العِلْمِ الشّاملِ، هذا على تقديرِ أنْ يُعطَف ((يُنَزّل)) على الظَّرْفِ، وأمّا إذا عطف على {السَّاعَةِ} المضافِ إليها، فيكون ((يعلم)) وما عُطِفَ عليه مَسُوْقًا على المضاف والمضاف إليه، يعني: عنده عِلْمُ السّاعةِ وإنزال الغيثِ، وعنده عِلْمُ ما في الأرحام وعِلْمُ ماذا تكسب كُلُّ نفسٍ غدًا. هذا على تقدير حذف ((أن)) كما مَرَّ، فإفادة الحصر إذن من تقديم الخبر على المبتدأ. فإن قلت: ما تلك النُّكتةُ التي دَعَتْ إلى العدول عن المُثْبتِ إلى المَنْفِيِّ في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}؟ قلت: هي أنَّ في نفي الدِّرايةِ المخصوصة وتكريرها واختصاصها بالذِّكْرِ دون العِلْمِ لِما فيها من معنى الحِيلةِ والخِداعِ، وفي تكريرِ النَّفْسِ وتنكيرها وإيقاعها في سياق النَّفيِ وتخصيصِ ما هو من خويصّةِ كُلِّ نَفْسٍ الدلالةَ على أنَّ النَّفْسَ إنْ لم تَعرفْ ما يُلْصَقُ بها ويَخْتَصُّ بها وإن أَعْمَلَت حِيلَتَها، ولا شيء أَخَصُّ بالإنسان من كَسْبِه وعاقبتِه، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفةِ ما عَداهما أَبعدُ، أعني: من معرفة وقتِ السّاعةِ، وإبَّانِ إنزالِ الغيث، معرفةِ ما في الأرحام. قوله: (في إبّانه) الجوهري: إبّان الشيء- بالكسر والتَّشديد-: وقته.

فاجرةٌ (ماذا تَكْسِبُ غَداً) من خيٍر أو شر، وربما كانت عازمة على خيٍر فعملت شرًا، وعازمة على شر فعملت خيرًا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحها وأقبر فيها، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدّثتها به ظنونها. وروى أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني؟ وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبًا منه، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. وجعل العلم لله والدراية للعبد؛ لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ: (بأية أرٍض). وشبه سيبويه تأنيث (أىّ) بتأنيث «كل» في قولهم: كلتهنّ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو أقبرُ فيها) أي: إلى أن أُقْبَرَ فيها، ويروي: ((وأقبر فيها)) بالواو. قوله: (مَرامِي) جمع مِرْماة، وهي السِّهام. المغرب: المِرْماة: سَهْمُ الهَدفِ. قوله: (من معنى الخَتْلِ)، الجوهريُّ: خَتَلَهُ وخاتَلَهُ؛ أي: خادَعَه. المَطَرِّزي: المُداراة: المُلاطفةُ والمُلايَنَةُ، وأصلُها المُخايلةُ، من: دَرَيتُ الصَّيدَ وأَدْرَيتُه: إذا خَتَلتُهُ، ومنه الدِّرايةُ، وهي العلم مع تكلُّفٍ وحِيلةٍ، ولهذا لم يُجيزوا اسم الدّاري على الله سبحانه وتعالى. قوله: (ولا يتخطاها)، الأساس: أخطأَ المطرُ الأرضَ: لم يُصِبْها، وتخاطَأَتْه النَّبْلُ: تجاوزَتْه. قوله: (وشبه سيبويه تأنيث ((أيّ)) بتأنيث ((كل)) في قولهم: كُلَّتُهُنّ)، لأن ((أيًّا)) اسمٌ

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقًا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرًا عشرًا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مبهمٌ لازمةُ الإضافة، كالكل، فإذا جيء بالتاء فحقُّها أن تنقطع عن الإضافة، لئلا يتصل من المضاف والمضاف إليه، كقول بعضهم: أيةً سلكوا، فشبهت بقولهم: كُلتهن، وجمعت بين الإضافة والتاء. تمَّتِ السُّورةُ، والحمد لله وحدَه.

سورة السجدة

سورة السجدة مكية، وهي ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)] 1 - 3 [ (الم) على أنها اسم السورة مبتدأ خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ)، وإن جعلتها تعديدًا للحروف ارتفع (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) بأنه خبر مبتدٍإ محذوف: أو هو مبتدأ خبره (لا رَيْبَ فِيهِ) والوجه أن يرتفع بالابتداء، وخبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له. والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أى في كونه منزلًا من رب العالمين، ويشهد لوجاهته قوله: (أَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة السجدة مكية، وهي ثلاثون آية، وقيل: تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (ويَشهدُ لِوَجاهتِه)، الأساس: رجلٌ وجيهٌ بيِّنُ الوَجاهة، وله جاهٌ وحُرمَة؛ أي: يؤيِّد أنَّ الوَجْهَ في الإعراب هذا الأخير تَعقيبُه بقولِه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، وبقوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}.

يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أوّلًا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأن (أم) هي المنقطعة الكائنة بمعنى (بل) والهمزة، إنكارًا لقولهم وتعجيبًا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا أسلوبٌ صَحيحٌ مُحكَم)؛ لحصول التَّرقِّي في كونه {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}. أما الجملةُ الأولى: فبالتَّصريح وتوكيدُها بالجملة المُعتَرِضة، وأمّا الثانيةُ: فلأنَّ الإنكارَ البليغَ والإضرابَ عن الأوَّل يدلُّ على أنَّهم قد أظهروا أمرًا غريبًا يجب أن يُقضى منه العجب، وهو أنَّ أقلَّ سورةٍ منه إذا كان معجوزًا عنه؛ فكيف يُقال لمثلِه: إنه مفترًى، ولهذا قال: ((تعجيبًا منه لظهور أمرِه)). وأما الثالثة فلتصريح {بَلْ} وتعريفِ {الْحَقُّ} الذي هو الخبرُ بلام الجنسِ، وتخصيصُ لفظِ {الْحَقُّ}. وأمّا التخصيصُ بعد التَّعميم؛ أعني: {رَّبِكَ} و {رَّبِّ الْعَالَمِينَ} فللتَّخلص إلى إثبات نبوَّته صلى الله عليه وسلم، والإيذانِ بأنَّ المنزَّل الكائن من جهة مالكِ العالمينَ ومدبِّرِ أمورِ المخلوقاتِ كلِّها هو الثابتُ من جهة مَن هو مالِكُك ومُدبِّر أمرِكَ خاصةً، فدلَّ التخصيصُ بعد التَّعميم على عِظَم شأنِه صلى الله عليه وسلم، ثم التَّصريحُ باسم الذاتِ والحضرة الجامعةِ، وإثبات الخالقيَّة والمدَبِّريَّة بعد الحُكم بإنزال هذا القرآنِ، دلَّ على تعظيم شأنِ هذا المُنزَّلِ والمُنزَّلِ عليه، كأنَّه قيل: هو الحقُّ من ربِّك ذلك الذي خَلق السَّماواتِ والأرضَ، ثمّ استوى على العرش، فهو من باب تَرتُّبِ الحُكم على الوَصْف. قوله: (النَّظَرُ أوّل الأفعال الواجبة) إلى آخره. قال نجمُ الدِّين الخوارزميُّ في كتاب

عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم: (افْتَراهُ)؟ قلت: معنى (لا رَيْبَ فِيهِ): أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله: لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه؛ وهو كونه معجزا للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((الصَّفوة)): النَّظَرُ أول الواجباتِ؛ لأنَّ سائرَ الواجباتِ الشرَّعيّةِ فرعٌ على معرفة الله بتوحيدِه وعَدْلِه، ومعرفتُه فرعٌ على النَّظَرِ، فكان النَّظرُ مقدَّمًا على الكلِّ. فإن قيل: رَدُّ الوديعةِ، وقضاءُ الدَّين، وتَرْك الظُّلم، وشُكر نِعَم العبادِ: واجبةٌ عند كمال العَقْل، فلمْ يكنِ النَّظرُ أوَّلَ الواجبات؟ قلنا: نحن لا ندَّعي ذلك على الإطلاق، ولكنّا نقول: النَّظرُ أولُ الأفعالِ الواجبةِ المقصودةِ التي يَنفكُّ عنها كلُّ عاقلٍ، وبهذه القُيودِ اندفَعَ جميعُ النُّقوضِ لانتفائها. وقلت: أمّا تنزيلُ الآيةِ على الكلام المصنّفِ فهو أن يُقالَ: أنَّ أصل المَسألةِ: الم ذلك الكتاب تنزيلٌ من ربِّ العالمينَ، والتعليل هو قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، وما دلَّ على الاعتراض قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}؛ لأنَّ قولَهم هذا إنكارٌ لأنْ يكونَ من ربِّ العالمين، وقد احترز عن هذا الاعتراض في قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}؛ لأنّه كلامٌ جامعٌ، ومعناه: أن هذا الكتاب لوُضوحِ دلالتِه وسُطوعِ بُرْهانِه ليس فيه مجالٌ للشُّبهة ولا مَدْخلٌ للرِّيبةِ. قوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ} ردٌّ للاعتراض، وإشارةٌ إلى أنَّ قولَه: {لَا رَيْبَ فِيهِ} قد احترز في من ذلك؛ لأنَّه متضمِّنٌ لمعنى أنه غيرُ مُفترًى، ثم عاد بقوله: {لِتُنذِرَ قَوْمًا} إلى تقرير الكلام السابقِ. قوله: (لأنَّ نافيَ الرَّيبِ ومُميطَه معه لا ينفكُّ عنه)، ((معه)) خبرُ ((أنّ))، و ((لا يَنْفَكُّ)) إمّا خبرٌ بعدَ خبرٍ، وإمّا حالٌ مؤكّدّةٌ من المُستترِ في الخبر.

وأما قولهم: (افْتَراهُ) فإما قول متعنٍت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهٍل يقوله قبل التأمل والنظر؛ لأنه سمع الناس يقولونه. (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) كقوله: (ما أنذر آباؤهم)] يس: 6 [وذلك أن قريشًا لم يبعث الله إليهم رسولًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زماٍن. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)] طه: 44 [على الترجي من موسى وهارون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمّا قِيام الحُجَّةِ بالشرائع) الجواب ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الأنبياءَ لم تَزَل مبعوثةً والحجةُ بهم لازمةً، على أنَّ المرادَ: ما أتاهم من نذير منهم. قال الزَّجّاجُ: أمّا الإنذارُ بما تقدَّم من رُسلِ الله فعلى آبائهم به الحُجَّةُ، وعليهم أيضًا؛ لأنَّ الله لا يُعذِّب إلاَّ مَن كَفرَ بالرُّسلِ، والدَّليلُ عليه قولُه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فعلى هذا قولُه: {مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} أي: رسولٌ منهم ومن قَومِهم يُنذرهم خاصَّةً وعامَّةً كافة النّاس. قوله: (لأنَّ أدلةَ العَقل المُوصِلة إلى ذلك معهم)، الانتصاف: مَذهبُنا أنَّه لا تُدرَكُ أحكامُ التَّكليفِ إلا بالشَّرع، وقاعدةُ الحُسنِ والقُبْحِ قد تكرَّر إبطالُها، فتعرض عمّا يقولُه حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيرِه، وإنّما قامتِ الحُجَّةُ على العرب بمَن تقدَّم مِن الرُّسل كأبيهم إسماعيلَ، وقولُه: {مَّا أَتَاهُم} يعني: في زمانه صلى الله عليه وسلم.

[الله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)] 4 [ فإن قلت: ما معنى قوله: (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)؟ قلت: هو على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معنى قولِه: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} أي: يقتضي، دليلُ الخطابِ أنَّ الله شفيعٌ، وكيف يَحسُن أن يُسمَّى شفيعًا؛ يدلُّ عليه قولُه: ((أي: ناصِرُكم على سبيل المجازِ)). أجاب أن معنّى {مِّن دُونِهِ}: المجاوزةُ عن رِضاه، يعني: ((دون)) هنا: بمعنى التَّجاوُز من شيءٍ إلى شيءٍ، قال الشّاعر: يا نَفسُ مالَكِ دونَ الله من واقِ أي: إذا تجاوزتِ وِقايةَ الله ولم تناليها لم يَقِكَ غيرُه، فـ {مِّن دُونِهِ} حالٌ من المجرور، والعاملُ الجارُّ والمجرورُ؛ أي: ما استقرَّ لكم مجاوِزينَ الله شفيعٌ يشفعُ لكم. ويجوز أن يكونَ حالاً من {شَفِيعٍ} قُدِّمت لكون ذِي الحالِ نَكرةً، و ((دون)) بمعنى: غير، والشَّفيعُ بمعنى الناصِر، فيكون عطفُه على {وَلِيٍّ} تتميمًا ومبالغةً؛ كقوله تعالى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 31]. والحاصل أنَّ الشَّفيع على الأوَّل: غيرُ الله، وعلى الثّاني: هو الله تعالى؛ على المجازِ، وبيانُ الاتِّصالِ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}، وخصوصًا يتولى أمورَ معاشِكُم ومعادِكُم، فإنْ تجاوزتم عنه إلى وليٍّ وشفيعٍ لم تجدوا أبدًا، وهو المتولِّي وهو الشفيعُ والناصرُ لا غير.

معنيين، أحدهما: أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليًّا، أى: ناصرًا ينصركم ولا شفيعًا يشفع لكم. والثاني: أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم، أى: ناصركم على سبيل المجاز؛ لأن الشفيع ينصر المشفوع له، فهو كقوله تعالى: (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فإذا خذلكم لم يبق لكم ولىّ ولا نصير)] البقرة: 107 [فإذا خذلكم لم يبق لكم ولٌّي ولا نصير. [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)] 5 [ (الْأَمْرَ) المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرًا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصًا كما يريده ويرتضيه إلا في مدةٍ متطاولة؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة؛ لأنه لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُنزِّله مُدبَّرًا) يريد أنَّ {يُدَبِّرُ} مضمَّن معنى: ينزِّل، حيثُ عدِّي بـ ((مِنْ)) و ((إلى))، وقُوبل بقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ}، فلا بدَّ من تقدير: يُنزِّل. قوله: (إلا في مُدَّةٍ مُتطاوِلة) يعني: يراد بألف سنةٍ المدةُ المتطاولةُ لا التَّعيينُ والتَّوقيتُ. قال القاضي: معنى {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}: ثم يَصعدُ إليه، ويثبتُ في علمه موجودًا؛ أي: أعمالُكم في بُرْهَةٍ من الزَّمان متطاولة، يعني بذلك استطالَة ما بينَ التَّدبيرِ والوُقوع، وإليه أشارَ المصنِّفُ: ((ولا يصعدُ ذلك المأمورُ خالصًا ... إلاَّ في مدةٍ متطاوِلةٍ لقلَّة عمّالِ الله والخُلَّصِ)). ويَنصُر هذا التأويلَ الفاصلةُ، وهي قولُه: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}، فإنّها كالفاصلة السابقةِ؛ أي: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. ولفظة {ذَلِكَ} في قوله: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} شاهدةٌ بذلك، كأنَّه قيل: ذلك الخالقُ المدبِّرُ الذي خَلَق الكائناتِ ودبَّر أمورَ العالمينَ، وخُصوصًا أمرَ أعمالِكُم، له العلمُ

يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره: (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ)] السجدة: 9 [، أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض: لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، كما قال: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)] الحج: 47 [، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى: يصير إليه، ويثبت عنده، وبكتب في صحف ملائكته كل وقٍت من أوقات هذه المدّة ما يرتفع من ذلك الأمر، ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوٍم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاملُ، وله العزَّةُ والرحمةُ، وله التفضُّلُ عليكم حيث أنشأكُم- حيًّا عالمًا، سميعًا، بصيرًا، قادرًا، ذا دريّة- من أخسِّ الأشياءِ من طينٍ ومن ماءٍ مهينٍ. وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} كالتَّوطئة والتَّمهيدِ؛ لقوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ} وما اشتمل عليه من حُسْن التقدير فيه، ثمَّ قيلَ: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} حيث لا يَصعدُ ما أمرناكُم به خالصًا كما نريدُه ونَرتَضِيه إلاَّ في مدَّةٍ متطاولةٍ، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، والأمرُ على هذا الوجه، يعني المأمور به. والعُروجُ بمعنى الصُّعودِ، مأخوذٌ من قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. قوله: (أو يُدبِّرُ أمرَ الدُّنيا) عطفٌ على قوله: (({الْأَمْرَ} المأمورَ به)) من حيث المعنى، والأمرُ على هذا بمعنى الشَّأن، والعُروجُ بمعنى الإثباتِ والكَتْب. قوله: (ويَثبُتُ)، أي: يُثبَت، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94]، أي: مُثبتون في صحيفة عَمَلهِ كما ثَبتت الكتابةُ في الرَّقِّ، قال تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ} [المجادلة: 22]. قوله: (وهَلُمّ جرًّا) من الأمثال. قال في ((المفصَّل)): معناه: تَعالَوا على هَيْنَتِكُم كما يَسْهُل عليكم، وتقول: كان ذاك عامَ كذا، وهلمَّ جرًّا إلى اليوم.

وقيل: ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض. ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل، وذلك في وقٍت هو في الحقيقة ألف سنة؛ لأن المسافة مسيرة ألف سنةٍ في الهبوط والصعود؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل؛ لأنه يقطع مسيرة ألف سنةٍ في يوم واحد، وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: يُنزِّل الوحيَ) سمّيَ الوحيُ أمرّا؛ لأنَّه منه كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وهو قولُ قتادةَ والسُّدِّيِّ ومقاتلٍ. والعُروج: الصُّعودُ الحقيقيُّ، فيكون التّقديرُ: في يوم كان مقدارُ مسافةِ السَّيرِ فيه مسافةَ ألفِ سنة، ويَقرُب منه قولُه تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قوله: (وقيل: يُدبِّر أمرَ الدُّنيا من السَّماء إلى الأرضِ)، قال صاحب ((المطلع)): هذا قول ابنِ عبّاس رضي الله عنه. وفي رواية عطاءٍ: ينزِّل القضاءَ والقَدَرَ منَ السماءِ إلى الأرضِ ثم يَعرُج إليه؛ أي: يَرجِعُ إليه في يوم كان مقدارُه ألف سنةٍ ممَّا تَعُدُّون، وهو يومُ القيامةِ لأنَّ يومًا من أيام الآخرة مثل ألف سنةٍ من أيام الدنيا، ومعناه: ثمَّ يصير الحُكمُ فيما قضى وقدّر إليه يوم القيامةِ كقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]. فإن قلت: كيف التَّوفيقُ بين هذه الآيةِ وبينَ قولِه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 4، 5]؟ قلت: أمّا على الوجه الأوَّل فهو ما قال الإمامُ: ذلك إشارةٌ إلى امتداد نفاذِ الأمر، وذلك لأنَّ مَنْ نَفَذ أمرُه غايةَ النفاذِ وانقطعَ في يومٍ أو يومينِ لا يكون مثلَ مَنْ يَنفذ أمرُه سنين متطاولةً، يعني: يُدَبّرُ الأمرَ في زمانٍ يومٌ منه ألفُ سنةٍ، فكم يكونُ شهرٌ منه؟ وكم تكون سنةٌ منه؟ وكم يكونُ دهرٌ منه؟ وعلى هذا لا فرقَ بينَ الآيتينِ؛ لأنَّ المرادَ استطالةُ نَفاذِ الأمرِ،

ذلك الأمر كله؛ أى يصير إليه ليحكم (فيه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة: (يعرج) على البناء للمفعول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فسواءٌ يعبَّر بالألف أو بالخمسين [ألفًا لا يتفاوت]. نعم المبالغةُ في الخمسين أكثر. وأما على الوجه الأخيرِ فإنَّ طُولَ يوم القيامةِ يَمتدُّ إلى خمسينَ ألفَ سنةٍ، وفي هذه المدَّة يتصلُ عُروجُ الملائكةِ ونُزولها لشؤون أنفُسِهم العبادِ، ومنها ألفُ سنةٍ بحَسْبِ تقديرِ العبادِ يَحكمُ فيها سبحانه وتعالى فيما يَرجعُ من شؤون عبادِه ممَّا تَقَعُ عليه المحاسبة، وإذا ليس في تلك المدَّةِ كلَّها الحسابُ؛ لأنَّ فيها الوقوفُ متحيِّرينَ، ثم تقعُ الشَّفاعة، ثم يكون الجوازُ على الصِّراطِ، ثم يكونُ المصيرُ إمّا إلى الجنَّةِ أو إلى النارِ. ويمكن أن يُرادَ به شدَّة اليومِ وهَوْلُه على الكافِرِ، وعلى المؤمن دُونَ ذلك بحَسْبِ السَّعادةِ والشَّقاوةِ. رواه مُحيي السُّنة في ((المعالم)). وفي ((شرح السُّنة)): عن أبي سعيد: قِيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يومًا كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنة، فما أطولَ هذا اليومَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والَّذي نَفسي بيده، إنَّه لَيُخَفَّفُ على المؤمن حتّى يكون أخَفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلّيها في الدُّنيا)). يدلُّ عليه قولُه: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]، فإنَّه تَصبيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من النَّضْر بنِ الحارث معه من استعجالِه العذابَ استهزاءً وتكذيبًا، يعني: هذا الكافرُ يَستعجلُ العذابَ، وإنَّ قُدَّامَه يومٌ حالُه في شدَّته وفظاعتِه ذلك. ويُشبه أن يكونَ هذا من المُتَشابَهِ الذي استأثرَ الله به. روى مُحيي السُّنة عن ابن أبي مُليكةَ أنه قال: سأل فيروز ابنَ عبّاسِ عن الآيتينِ، فقال له: أيّامٌ سمّاها الله تعالى لا أدري ما هي، وأكرهُ أن أقولَ في كتابِ الله ما لا أعلمُ.

وقرئ: (تعدون) بالتاء والياء. [ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)] 6 - 9 [ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) حسنه، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة؛ فجميع المخلوقات حسنة؛ وإن تفاوتت إلى حسٍن وأحسن، كما قال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)] التين: 4 [وقيل: علم كيف يخلقه؛ من قوله: قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته. يحسن معرفته أى: يعرفه معرفةً حسنةً بتحقيق وإتقان. وقرئ: (خلقه) على البدل، أى: أحسن فقد خلق كل شيء. و (خلقه) على الوصف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: {تَعُدُّونَ} بالتاء والياء)، بالتّاء الفوقانيّةِ: السَّبعةُ، وبالياء: شاذَّة. قوله: (من قوله) أي: من قول عليٍّ رضي الله عنه: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسِنُه. أي: كلُّ مَنْ زاد علمُه زاد في صُدور الناس قَدْرُه وقيمتهُ، وكلُّ مَنْ نقص علمُه نقصَ في قلوب الناسِ جاهُه وحِشْمَتُه. قوله: (وقرئ: {خَلَقَهُ}) ابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ وأبو عمروٍ: بإسكان اللاّم، والباقون: بَفْتحها. قال أبو البقاء: بالسُّكون بَدَلٌ مِن {كُلَّ}، بدلُ اشتمالٍ؛ أي: أَحسَنَ خَلْقَ كلِّ شيءٍ، ويجوز أنَ يكون مفعولاً أوَّلَ، و {كُلَّ شَيْءٍ} ثانيًا، و {أَحْسَنَ} بمعنى عَرَّف؛ أي: عرَّف عبادَه كلَّ شيءٍ. وبالفتح فِعْلٌ ماضٍ، وهو صفةٌ لـ {كُلَّ شَيْءٍ}.

أي: كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلًا؛ لأنها تنسل منه، أى: تنفصل منه وتخرج من صلبه ونحوه قولهم للولد: سليل ونجل، و (سَوَّاهُ) قوّمه، كقوله تعالى: (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)] التين: 4 [ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية] الإسراء: 85 [كأنه قال: ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته. [وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)] 10 - 11 [ وَ (قالُوا) قيل: القائل أبى بن خلف، ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعًا. وقرئ: (أءنا)، و (إنا) على الاستفهام وتركه. (ضَلَلْنا) صرنا ترابا، وذهبنا مختلطين بتراب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي ((الحُجَّة)): {خَلْقَهُ} منصوبٌ على المفعول المُطلَق من قوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} والضميرُ لله كقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88]، و {وَعْدَ اللهِ} [النساء: 122]. قال: هو مذهبُ سِيبَويه، ويجوز البَدَلُ. قوله: (لأنَّها تَنسِلُ منه) نَسَل الوَبْرُ وريشُ الطائرِ بنفسه يتعدَّى ولا يتعدَّى. قوله: (ونَفخَ فيه مِن الشَّيء الَّذي اختَصَّ هو بهِ وبمعرفتهِ)، هذا معنى الإضافةِ؛ لأنه لا يُضافُ إلى الله إلاَّ مالَه فَخامةٌ في نَفسِه، إذ كلُّ شيءٍ مملوكُه ومختصٌّ به؛ كقولك: بيتُ الله، وناقةُ الله. قال القاضي: أضافه إلى نفسِه تَشريفًا [له] وإشعارًا بأنّه خَلْق عَجيبٌ، وأنَّ له شأنًا وله مناسبةً ما إلى الحضرة الرُّبوبية؛ ولأجله قيلَ: مَنْ عَرف نفسَه فقد عَرف ربَّه. قوله: (وقرئ: {أَءِنَّا} و ((إنّا)) على الاستفهام وتَرْكِه)، بتَرْكِه: نافعٌ، والباقون: بالاستفهام.

الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا (فِي الْأَرْضِ) بالدفن فيها؛ من قوله: وآب مضلّوه بعين جليّة وقرأ على وابن عباس رضى الله عنهما: (ضللنا) بكسر اللام، يقال: ضل يضل وضل يضل. وقرأ الحسن رضى الله عنه: صللنا، من صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن. وقيل: صرنا من جنس الصلة وهي الأرض. فإن قلت: بم انتصب الظرف في (أَإِذا ضَلَلْنا)؟ قلت: بما يدل عليه (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)] الرعد: 5 [وهو نبعث، أو يجدد خلقنا. (لقاء ربهم): هو الوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت وما وراءه، فلما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وآبَ مُضِلُّوهُ بعَينٍ جَليَّةٍ)، تمامُه في ((المطلع)) للنّابغة يَرثى النُّعمانَ بنَ المنذرِ: وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزمٌ ونائلُ جليَّة: قريرة، وجولان: موضع؛ أي: رَجعَ الذين غَيَّبوه في الأرض بالدفن بعُيونٍ قَريرةٍ شماتة، والحزامةُ والعطاءُ تُرِكا بدفن الميت في الجولان. ويروي: ((بغير حلية)). قوله: (الصِّلة وهي الأرضُ)، النهاية: الصَّلْصالُ: هو الصّال، الماء يقع على الأرض؛ فتنشق، فيجفّ، ويَصير له صوت. قوله: (بما يدلُّ عليه)، وإنما قال: ((بما يدلُّ عليه {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ})) إلى آخره؛ لأنَّ ما بعد ((إنَّ)) لا يعملُ فيما قبلَه. قوله: (((لقاءُ ربِّهم)): هو الوصولُ إلى العاقِبَةِ) وهو للحَصْر عند أهل السُّنةِ، فيكون لقاءُ الله: لقاءَ ثوابهِ وعقابهِ، ويَكون الرُّؤية.

ذكر كفرهم بالإنشاء، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر؛ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالإنشاء وحده، ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك، مبعوثين للحساب والجزاء، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا. والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح، قال الله تعالى: (الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ)] الزمر: 42 [وقال: (أخرجوا أنفسكم)] الأنعام: 93 [، وهو أن تقبض كلها لا يترك منها شيء؛ من قولك: توفيت حقي من فلان، واستوفينه؛ إذا أخذته وافيًا كاملًا من غير نقصان. والتفعل والاستفعال: يلتقيان في مواضع: منها: تقصيته واستقصيته، وتعجلته واستعجلته. وعن مجاهد رضى الله عنه: حويت لملك الموت الأرض، وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن قتادة: يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة. وقيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها. [وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)] 12 - 14 [ (وَلَوْ تَرى) يجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أن يراد به التمني، كأنه قال: وليتك ترى، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة: «لو نظرت إليها» والتمني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للمُغيرة: ((لو نظرتَ إليها))) الحديث من رواية التِّرمذيِّ والنَّسائيِّ عن المغيرةِ: أنَّه خَطبَ امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظرْ إليها إنَّهُ أحرى أنْ يُؤدَمَ بينكُما)).

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الترجي له في (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون (لو) الامتناعية قد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمرًا فظيعًا. أو: لرأيت أسوأ حال ترى. ويجوز: أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم، إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا تريد به مخاطبًا بعينه، فكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه، ولو وإذ: كلاهما للمضى، وإنما جاز ذلك؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود المقطوع به في تحققه، ولا يقدر لترى ما يتناوله، كأنه قيل: ولو تكون منك الرؤية، و (إذ) ظرف له. يستغيثون بقولهم (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) فلا يغاثون، يعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك. أو: كنا عميًا وصمًا فأبصرنا وسمعنا (فَارْجِعْنا) هي: الرجعة إلى الدنيا (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) على طريق الإلجاء والقسر، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: أي تكون بينكما المحبَّة والاتفاقُ يقال: أدَمَ الله بينهما يأدِم أدْمًا بالسُّكون؛ أي: ألَّفَ ووفَّق، وكذلك آدم يُؤدِم بالمدِّ فَعَلَ وأفْعَل، وليس في الحديث ((لو))، وكلمةُ ((لو)) للتَّقدير والتَّمنيِّ، والتقديرُ: يلتقيانِ؛ لأنَّ المُتمنِّي لا يخلو من تقديرٍ، ويفرض بها غير الواقع واقعًا كما يُطْلب بـ ((ليت)) ما لا يُمكن حصولُه، ولمناسبةٍ بينها جُعلت ((لو)) للتمَّني. قوله: (أو كنّا عُميًا وصُمًّا) يعني: لا يقدَّر لـ {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} مفعولٌ، ليكون بمنزلة اللازِم. قوله: (ولكنّا بَنَينا الأمرَ على الاختيار) ينادي على أن هذا التأويل بمجرد الرأي لاستدراك الله بقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وما أدري كيف وضع مكان هذا الاستدراك استدراكه.

العمى دون البصراء. ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله: (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ) فجعل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى ما عقَّبه به من قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ} يعني: دلّ نسبةُ النِّسيان إليهم، وجعلُه سببًا للإذاقةِ على أن المشيئة المطلقةَ مقيَّدة بقيد الإلجاءِ والقَسْر، وأنَّ العلمَ الأزلي تابعٌ لاختيارهم. انظر إلى هذا التَّعوُّج عن الجادَّةِ المستقيمةِ حيث أوقَعَ قولَه: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} المعبِّر عن العلم الأَزَليِّ المُستتبع لجميع الكائناتِ على وَفْقِه مسبّبًا عن استحبابِهم العَمَى على الهُدُى، وجعل الاستحبابَ مسبَّبًا عن اختيارِهم المعدوم. والحقُّ ما قاله الإمامُ: أنَّ قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية، جوابٌ عن قولهم: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}؛ أي: هذا الذي جرى علينا ما جرى إلاَّ بسبَبَ تَرْكِ العَمَلِ، أمّا الإيمانُ فإنّنا مُوقنون بما أنكرنا ثَمّ، فارجعْنا حتَّى نَتلافى العملَ، فأُجيبوا بقوله: {وَلَوْ شِئْنَا} أي: أنّا لو أردنا الإيمان لهديناكم في الدُّنيا ولمّا لم نهدكم تبيَّن أنّا ما أردنا إيمانَكُم فلا نَرُدُّكم، فذُوقوا العذابَ المقدَّرَ عليكم بسَبب كَسْبِكُم، فلا ينفعُكم الآنَ شيء. عن بعضهم: لو عَلِمْناها أهلاً للهدى لهَدَيْنَاها. قال محيي السنة: المراد بقوله: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} قولُه لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]. وقلت: دلَّ على هذا الاستبدادِ صيغةُ التَّعظيمِ في {وَلَوْ شِئْنَا} وعلى أنَّ هذا جواب عن قول الكَفَرة، تَرتَّب قولُه: {فَذُوقُوا} عليه، أي: لما أَوْجَبْنا القولَ بأنّا نملأ جهنَّمَ من الجنَّةِ والنّاسِ أجمعين، وأنتُم من أولئك، فذُوقوا. وأمّا معنى قولِه: {بِمَا نَسِيتُمْ} فما ذكره القاضي هذا النص تصريحٌ بعَدَم إيمانِهم

ذوق العذاب نتيجة فعلهم: من نسيان العاقبة، وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعنى: أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها، ثم قال: (إِنَّا نَسِيناكُمْ) على المقابلة، أى: جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، أى: تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة، وفي استئناف قوله: (إنا نسيناكم) وبناء الفعل على (إن) واسمها تشديد في الانتقام منهم. والمعنى: فذوقوا هذا أى: ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم؛ بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعَدَم المشيئةِ المسبَّب عن سَبْق الحُكم بأنَّهم من أهل النارِ، ولا يدفعُه جَعْلُ ذَوْقِ العذابِ مسبَّبًا عن نِسْيانِهمُ العاقبةَ وعَدَمِ تَفكُّرِهِم، كأنه من الوسائط والأسبابِ المقتضيَينِ له. قوله: (تشديدٌ في الانتقام) مبتدأٌ، والخبرُ: ((في استئناف))، كأنه لمّا قيل لهم: ذُوقوا عذابَ الخِزْي والغَمِّ بسَببِ تَرْكِ الاستعدادِ ليوم التَّنادِ، قالوا: فما حُكمُنا بعدَ هذا الخِزْي هل يَرحَمُنا، ويكشفُ عنّا هذا الغَمَّ والخِزْيَ؟ فقيل لهم: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: نخزيكم جزاءَ نسيانِكُم بالحرمانِ من الرَّحمةِ وبإذاقة ما هو أشدُّ من الخِزْي، وهو العذابُ السَّرْمَدُ، وأخرج الكلامَ إلى الماضي المحقَّقِ، وصُدِّرت الجملةُ بـ ((إنّ))، وعطف الطَّلَبيّ على الخَبَريّ تشديدًا للانتقامِ منهم. قوله: (والمعنى: فذُوقوا هذا، أي: أنتم فيه من نَكْس الرُّؤوس والخِزْي) إشارةٌ إلى أنّ مفعول {فَذُوقُوا}: ((هذا))، وكذا قدَّرَ أبو البقاء أيضًا، والمشارُ إليه معنى قولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}، ويَستلزمُهمُ الخِزْيُ والغَمُّ.

بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر الموبقة. [إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)] 15 - 17 [ (إِذا ذُكِّرُوا بِها) أى: وعظوا؛ سجدوا تواضعًا لله وخشوعًا، وشكرًا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه، وأثنوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقدَّرَ الواحديُّ صفة لـ {يَوْمِكُمْ} وتكرير {فَذُوقُوا} لتعلُّق معنًى زائد، والآياتُ منتظمةٌ جامعةٌ للعذابَينِ الرُّوحاني والجسمانيِّ. وفي قوله: (بسَببِ ما عَملتُم من المعاصي والكبائر) إدخالُ أهلِ القِبْلةِ في عُموم قولِه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}، ويرُدُّه سياقُ الآيةِ: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}، سياقُه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} الآيةَ، وما سيجيءُ من بيان النَّظْمِ الفائِق. وقول المصنِّف: ((والتَّمنّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تجرَّع منهم الغَصَص ومن عَداوَتِهم وضِرارهم))؛ لأنَّ مَنْ عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا مُعاندًا. الانتصاف: مذهبُ أهلِ السُّنَة أنَّ الموجِبَ للخُلودِ الكُفرُ خاصَّةٌ، والمسألةُ سَمعيَّةٌ، وأدلتُها من الكتابِ قطعيَّةٌ. قوله: (ونزَّهوا الله مِنْ نِسبة القَبائح) تعريضٌ بأهل السُّنة، وفسَّرهُم قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} بما يلزم منه نسبة القَبيح إليه، يقال: وهو خَلَق الكُفر في الكافر ثم أذاقَه العذابَ بسَببه، بل الآيةُ تعريضٌ بهم، بل تصريحٌ بأنَّ المؤمنَ بالآيات مَنْ إذا جاءه نَصٌّ من النُّصوصِ أذعنَ له وخضعَ لِما جاءَه من عند الله، وعَزَلَ

عليه حامدين له (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) كما يفعل من يصر (مستكبرا كأن لم يسمعها)] لقمان: 7 [، ومثله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا)] الإسراء: 107 - 108 [. (تَتَجافى) ترتفع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العقل عن أن يَحكم في الأمورِ الدِّينيةِ بالحُسْنِ والقُبْح، ويَدُلُّ على الخضوعِ تَتميمُ الآيةِ بقولهِ: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. ثمَّ إنَّ الآيةَ مقابلةٌ لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} في {الَمَ* تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يدلُّ عليه قولُه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. قوله: ({تَتَجَافَى}: تَرتفع) يَتجافى جَنْبُه عن كذا، يجوز أن يكون {تَتَجَافَى} مُستأنفًا؛ فلا محلَّ له من الإعراب، ويجوز أن يكون حالاً من المُضمَرِ في {خَرُّوا} وكذلك {يَدْعُونَ} في موضع الحال، وكذلك {سُجَّدًا}، وكذلك {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، وكذلك قولُه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} كلُّها أحوالٌ من المُضمَر الذي في الحال قبلَه. الراغب: أصلُ الجَنْبِ الجارحةُ، ثم يُستعار للنّاحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائرِ الجوارحِ، لذلك نحوَ اليمينِ والشِّمال؛ كقول الشاعر: من عن يميني مرّةً وأمامي وقيل: جَنْب الحائطِ وجانبُه، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} أي: القريب. وقوله: {فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 56]؛ أي: في أمره وَحَدِّه الذي حدَّه لنا، وسار جَنِيبَه وجنيبته وجنابَيْه وجَنابَتَيْهِ، وجَنَبتُه أصبْتَ جَنْبَه: نحو: كَبَدْتُه وفأَدْتُه، وجُنِبَ: شَكى جَنْبَه، وجنبَ فلانٌ: أبعدَ عن الخير، وكذلك يقال في الدُّعاء في الخير، وسمِّيت الجَنابةُ بذلك؛ لكونها سببًا لتجنُّبِ الصَّلاة.

وتتنحى (عَنِ الْمَضاجِعِ) عن الفرش ومواضع النوم، داعين ربهم عابدين له؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وهم المتهجدون. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «قيام العبد من الليل»، وعن الحسن رضى الله عنه: أنه التهجد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس». وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فنزلت فيهم. وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها. (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) على البناء للمفعول، (ما أخفى لهم) على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيَسْرَحون جميعًا إلى الجنَّة)، الأساس: سَرَحَه في المَرْعى سَرْحًا؛ أي: أرسَلَه، وسَرح بنَفْسِه سُروحًا، وسَرَحَ السَّيلُ، وسَيلٌ سارحٌ: يَجري جَرْيًا سَهلاً. لعلَّ النَّظرَ فيه إلى معنى قولِه تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزُّمَر: 73]. قوله: (يُصلّونَ مِن صَلاةِ المغربِ إلى صَلاةِ العِشاء الآخِرة) رَوَينا عن التِّرمذيِّ، عن أنس في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}: نَزلت في انتظار الصَّلاةِ الَّتي تُدعى العَتَمة. وفي روايةِ أبي دَاودَ: كانوا يَتَنفَّلون ما بين المغربِ والعِشاء. وكان الحسن يقول: قيامُ اللَّيل. قوله: ({مَّا أُخْفِيَ لَهُم} على البناء للمفعول) قرأ حمزةُ: {مَّا أُخْفِيَ لَهُم} بإسكان الياء، والباقون: بفتحها.

و (ما أخفي لهم)، و (ما نخفى لهم)، و (ما أخفيت لهم)؛ الثلاثة للمتكلم، وهو الله سبحانه. و (ما): بمعنى: الذي، أو بمعنى أى. وقرئ: (قرّة أعين) و (قرات أعين). والمعنى: لا تعلم النفوس كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ؛ لا ملك مقرب ولا نبىّ مرسل أىّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو؛ مما تقر به عيونهم، ولا مزيد على هذه العدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزَّجّاج: بالإسكان معناه: ما أُخْفِي انا لهم؛ إخبارًا عن الله تعالى، وبالفتح على تأويل الفعل الماضي، ويكون اسمُ ما لم يسم فاعلُه ناب عنه ما في ((أخفي)) من ذكر يعودُ إلى ((ما)). قال أبو البقاء: {مَّا} استفهاميةٌ، وموضعُها رفعٌ بالابتداء، و {أُخْفِيَ لَهُم} خَبرُه على قراءة من سكنها وجعل ((أُخفي)) مضارعًا تكون ((ما)) في موضع نصب بـ ((أخفي))، ويجوز أن تكون بمعنى ((الذي)) منصوبة بـ ((تعلم)). قوله: (و ((من قرّات أعين)))، قال ابن جِنِّي: هي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي هريرة وأبي الدَّرداء وابنِ مسعود، والقرَّة: مصدرٌ، وقياسُه أن لا يُجمعَ؛ لأنَّ المصدرَ اسمُ جنسٍ، والأجناسُ أبعَدُ شيءٍ عن الجمعيَّةِ، لكن جُعِلت القُرَّةُ هاهنا نوعًا فجاز جَمعُها، كما تقول: نحن في أشغالٍ وبيننا حروبٌ. وحَسَّنَ الجمعَ أيضًا إضافتُه إلى لفظ الجماعةِ-أعني {أَعْيُنٍ} - فقولنا: أشغال القوم أشبه من أشغال زيدٍ، ولا يُحتقر في هذه اللغةِ الشَّريفة تجانسُ الألفاظِ. قوله: (ممَّا تَقرُّ به عُيونُهم) بيانُ أيِّ نوع عظيم من الثَّواب هذا في مقابَلَة قولِه: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزُّمَر: 48] وقولِهِ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزُّمَر: 47].

ولا مطمح وراءها، ثم قال: (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فحسم أطماع المتمنين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا مَطْمَح وراءَها)، الأساس: طمَحتُ ببَصَري إليه، ونساءٌ طَوامِحُ إلى الرِّجال، وطَمحَ المُتكبِّر بعَينه: شَخَص بها. قوله: (فحَسَم أطماعَ المُتمنِّين)، الانتصاف: يُشيرُ إلى أهل السُّنَّة واعتقادِهم أنَّ المؤمنَ العاصي موعودٌ بدخولِ الجنَّةِ لا بُدَّ له منها، وفاءً بوعدِ الله تعالى، وأنَّ أحدًا لا يَستحقُّ على الله شيئًا بعَمَلِه، أَخذَه من قوله: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وأهل السُّنةِ -بناءً على قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَدخُلُ أحدٌ منكمُ الجنَّةَ بعملِه)). قيل: ولا أنتَ؟ قال: ((ولا أَنا، إلاَّ أن يَتغمَّدَنِي الله برحمتِه)) - يحملون الآيةَ على أنَّ المراد منها قسمةُ المنازِلِ بينهم في الجنَّة، فهي على حَسْبِ الأعمالِ، وليس بقويِّ، فإنَّ المذكورَ في الآية مجرَّدُ الدُّخولِ، والأظهرُ أنْ تُحمل على أنَّ الله لمّا وَعَد المؤمنَ الجنَّةَ- ووَعْدُه الحقُّ- صارتِ الأعمالُ بالوَعْد كالأسباب يعبَّر بها عنها تأكيدًا لصدق الوعد في النُّفوس وتَصويرِه بصُورَةِ المستحقِّ بالعمل. وقلت: نحن وإن قلنا: إنّ الكلَّ بقضاء الله وقَدَرِه، ولكن نُئبِتُ للعبد كسبًا يُئاب به ويُعاقب، وفائدةُ ذِكْر الجزاءِ وجَعْلِه مسبَّبًا عن الأعمال التَّرغيبُ فيها. قوله: (يقول الله تعالى: ((أعددتُ لِعبادي الصَّالحينَ))) الحديث، رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما عن أبي هريرةَ، والرِّواية: ((أطلعتُكم)). النهاية: بَلْهَ زَيدٍ، أي: تَرْكَ زَيدٍ، وقوله: ((ما أطلَعْتُهم عليه))، يُحتمل أن يكون منصوبَ المحَلِّ ومجروره على التَّقديرَين، والمعنى: دَعْ ما اطَّلعَتْمُ عليه من نعيم الجنَّة وعرفتُموه من لذَّاتها.

سمعت ولا خطر على قلب بشٍر، بله ما أطلعتهم عليه. اقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين)»، وعن الحسن رضى الله عنه: أخفى القوم أعمالًا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. [أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَاوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَاواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن: أخفى القومُ أعمالاً في الدُّنيا، فأخفى الله تعالى لهم ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمعتْ)، هذا يؤذن بأنَّ الفاءَ في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} رابطةٌ لِلاحقةِ بالسابقة، مرتّبة لها عليها تَرتُّبَ في قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ}، وكان الأصلُ: تتجافى جُنوبُهم عن المضاجعِ يدعُون ربَّهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا يعلمون ما أخفي لهم، فيَجزيهم الله الجزاءَ الأوفى؛ بشهادة قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فوضع النَّفسَ موضع الضَّميرِ ونكَّرها تنكيرَ تفخيم، لو وصفت بكلِّ وصفٍ ما بلغ هذا المبلغ، ثمَّ رُوعيت المناسبةُ في قوله: {مَّا أُخْفِيَ لَهُم} حيث أَبْهَمَ الجزاءَ، ولم يعيِّنِ الفاعلَ تعظيمًا له. وفيه أنَّ ذلك الإنفاق غيرُ الواجب، وأنَّ هذه الأعمالَ هي أبوابُ الخير، وبها تُنال الزُّلْفى عند الله والدَّرجاتُ العالية. ويَعضُدُه ما روينا عن التِّرمذيِّ، عن معاذ قلت: يا رسولَ الله، أخبرني بِعَملٍ يُدخلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني من النّار. قال: ((لقد سَألْتَني عن عظيم، وإنَّه ليَسيرٌ على من يَسَّرَه الله، تَعبُدُ الله ولا تُشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاة، وتُؤتي الزَّكاة، وتَصومُ رمضان، وتَحجُّ البَيت))، ثمَّ قالَ: ((ألا أدُلُّك على أبوابِ الخيرِ))؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: ((الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدقةُ تُطفِئُ الخَطيئَةَ كما يُطفِئ الماءُ النَّارَ، وصَلاةُ الرَّجلِ في جَوفِ اللَّيلِ شِعارُ الصَّالحينَ)) ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}.

أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)] 18 - 21 [ (كانَ مُؤْمِناً) و (كانَ فاسِقاً) محمولان على لفظ من و (لا يَسْتَوُونَ) محمول على المعنى، بدليل قوله تعالى: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) ونحوه قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ)] محمد: 16 [. و (جَنَّاتُ الْمَاوى) نوع من الجنان؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَاوى)] النجم: 13 - 15 [، سميت بذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: تأوى إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرئ: (جنة المأوى) على التوحيد (نُزُلًا) عطاًء بأعمالهم. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عامًّا (فَمَاواهُمُ النَّارُ) أى: ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أى: النار لهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجنَّة مأواهم النّار)، قال صاحب ((الفرائد)): العُدولُ عن الحقيقة إلى غيرها دون الضَّرورة لا يجوز، وأي ضَرورةٍ في تقدير المضاف. والجواب أنَّ المأوى: هو المكان الذي يَقصدُه الرَّجلُ للسّكونِ والاستراحَة أو الالتجاء. الأساس: اللهمَّ آوِني إلى ظلِّ كَرَمِكَ وعَفوِكَ يا ربّ. وتقول: أنا أهوي إلى معاقلك هَويًّا وآوي إلى ظلالك أويًّا. وقال ابن عبّاسٍ للأنصار: بالإيواءِ والنَّصرِ، إلاَّ جَلستُمْ. فاستعماله في النّار من التَّهكُّم، ولهذا استشهد بقوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7]. ويجوز أن يكون من باب المُشاكَلَةِ؛ لأنّه لما ذَكَر في أحد الفَصلَين {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَاوَى} ذَكَر في الآخَرِ {فَمَاوَاهُمُ النَّارُ}. وقال ابنُ الحاجب في ((الأمالي)): فإنْ قيلَ: لمَ أُعِيدَ ذِكْرُ النارِ مظهرًا ولم يستغنِ بالضَّمير لتقدُّم الذِّكرِ، الجوابُ من وجهَينِ: أحدهما: أنَّ سياقَ الآيةِ للتَّهديد والتَّخويفِ وتعظيم الأمرِ، وفي ظاهر ذِكْر النارِ من ذلك ما ليس في الضَّمير.

مكان جنة المأوى للمؤمنين؛ كقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)] آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24 [. (الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا من القتل والأسر، وما محنوا به من السنة سبع سنين. وعن مجاهد رضى الله عنه: عذاب القبر. و (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة، أى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أنَّ الجملةَ الواقعةَ بعدَ القولِ حكايةٌ لما يُقال لهم يومَ القيامةِ عند إرادتِهم الخروجَ من النارِ فلا يُناسب ذلك وَضْعُ الضَّميرِ، إذْ ليس قولهم حينئذٍ مقدَّمًا عليه ذِكْرُ النارِ وإنَّما اتفق ذِكْرُ النارِ قبلَها إخبارٌ عن أحوالهم. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا القولَ أيضًا داخلٌ في حيِّزِ الإخبارِ؛ لأنَّه عطفٌ على {أُعِيدُوا}، وهما مرتَّبان على {كُلَّمَا}؛ أي: كلَّما أرادوا أن يخرجوا فخرجوا أعيدوا وقيل لهم ذوقوا، فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه فما المانع في المعطوف سوى إرادةِ المبالغةِ من موضعِ المُظْهَرِ موضعَ المَضمَر؟ على أنَّ هذا القولَ أشدُّ تسويرًا وأقطع تحسرًا عليهم من الإعادة، ومعنى الخروج بَيَّنه المصنفُ في ((سورة الحج)). وقال صاحب ((الكَشْف)): قال هاهنا: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}، وقال في الأخرى: {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42]، فذكَّر هاهنا وأنَّث هناك، وسِرُّهُ أنه ذكَّر حملاً على العذاب دون النارِ؛ لأنَّ ((النارَ)) هاهنا لما وقع موضعَ المُضمَر، والمُضمَرُ لا يُوصف، لم يستجز إجراء ((الذي)) على المضافِ إليه دون المضافِ، وفي تلك الآية لم يَجْرِ ذِكْرُ النارِ في سياق الآية، فلم تقع النّار موقع الضَّميرِ، فوصف النار دونَ العذابِ، وكذا ذَكَره الراغبُ في ((دُرّة التنزيل)). قوله: ({الْعَذَابِ الْأَدْنَى}: عذاب الدُّنيا مِنَ القَتْل والأَسْر) يعني: يومَ بدرٍ.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى: يتوبون عن الكفر، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه، كقوله تعالى: (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [وسميت إرادة الرجوع رجوعًا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)] المائدة: 6 [، ويدل عليه قراءة من قرأ: (يرجعون) على البناء للمفعول. فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و (لعل) من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئًا كان ولم يمتنع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن مسلمٍ، عن أبيّ بن كعب: عذابُ الأدنى: مَصائبُ الدُّنيا والرُّومُ والبَطشَةُ أو الدُّخانُ. قوله: ({لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يتوبونَ عَن الكُفر) هذا إذا فُسِّرَ عَذابُ الأدنى بعذابِ الدُّنيا، وقوله: ((أو لعلَّهمُ يريدون الرُّجوعَ)) إذا فُسِّر بعذاب القبرِ. قوله: (ويدلُّ عليه قراءةُ مَن قرأَ: ((يُرجعُون)))، وذلك أن معنى هذه القراءة، والأولى على إرادة الرُّجوعِ، يَلْتقيان في معنى {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}؛ لأنَّ كلاًّ منهما يستدعي معنى الرُّجوعِ منهم إلى الدُّنيا بخلاف الأوَّل. نعم لو قيل: إنَّ معنى التَّرجِّي في ((لعلَّ)) راجعٌ إلى الكُفَّار لأفاد أيضًا ذلك. قوله: (مِن أين صَحَّ تفسيرُ الرُّجوع بالتَّوبة) أي: كيف يَستقيمُ أن يفسَّرَ الرُّجوعُ بالتَّوبةِ، ولفظةُ (لعلَّ) من جهة الله محمولةٌ على الإرادةِ، وهذه الآيةُ واردةٌ في قومٍ مخصوصِينَ، وأنَّهم ماتوا على الكُفرِ، فيلزمُ تخلّفُ مرادِ الله تعالى عن إرادته. وخلاصةُ الجوابِ أنَّ تخلّفَ مرادِ الله تعالى في أفعاله الخاصَّةِ وما يلحقُ بها من القَسْر على أفعال الغير محال، لكن في أفعال العباد إذا ثبت لهم الاختيارُ غيرُ محالٍ؛ لأنه لا يَقْدحُ في قُدرته. الانتصاف: هذا فصلٌ رديء، وشِركٌ جَليّ لا يخفى، وجرَّه إلى ذلك تحريفُ كلمةِ

وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئًا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده: فإما أن يريدها وهم مختارون لها، أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((لعلَّ)) إلى الإرادة، والحقُّ أنها لترجِّي المخاطبينَ، وكذا فسَّرها سيبويه. وقال إمامُ الحرمينِ: ذهبتِ المعتزلةُ ومَنْ تَبِعَهم من أهل الأهواءِ إلى أنَّ الواجباتِ والمندوباتِ من الطّاعات مراداتُ لله تعالى وَقعتْ أو لم تَقعْ. والمعاصي والفواحشُ والله تعالى كارةٌ لها غيرُ مريدٍ لوُقوعِها. والمباحاتُ وما لا يدخلُ تحتَ التَّكليفِ من أفعال البهائمِ والمجانينِ تقعُ، وهو لا يريدُها ولا يَكرهُها، وإذا دَلَّلنا على أنَّ الرَّبَّ تعالى خالقٌ لجميعِ الحوادثِ يترتَّبُ عليه أنَّه مريدٌ لما خلقَ، قاصدًا إلى إبداعِ ما اخترعَ. ثم يقول: قد قضتِ العُقولُ بأنَّ قصور الإرادةَ وعَدَمَ نفوذِ المشيئةِ من أصدقِ الآياتِ على سماتِ النَّقص، والاتِّصافِ بقُصورٍ وعجز، ومن ترشَّحَ لِلملك، ثم لا ينفذ مرادُه في أهل مملكته عُدَّ ضعيف المنّة مِضْياعًا لفرصتِه، وإذا كان ذلك يزري العاجز، فكيف في حقِّ مَلِكِ الملوكِ وربِّ الأرباب؟ فإن قالوا: الربُّ سبحانه وتعالى قادرٌ على أنْ يَرُدَّ الخلائق إلى الطّاعة قهرًا، ويُظهر آية تَظلُّ رِقاب الجبابرة لها خاضعة، قلنا: من فاسد أصلكم أنه لا يجوز في حكم الإله إجبار الخلائق على الطاعات، واضطرارهم إلى الخيراتِ ولا يريد منهم المعاصي والكُفرَ، وإنَّما يريد منهم الإيمانَ الاختياريّ فما يُريده لا يَقدرُ عليه وما يقدر عليه لا يُريده. وقد اجتمع سَلَفُ الأُمَّةِ على كلمةٍ لا يجحدُها أهلُ الإسلام، وهو قولُهم: ((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يَكُن))، والآياتُ الشاهدةُ لأهل السُّنة لا تُحصى كَثْرة.

مضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها؛ لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالًا على عجزك. وروي في نزولها: أنه شجر بين على بن أبى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبىّ؛ أنا أشبّ منك شبابًا، وأجلد منك جلدًا، وأذرب منك لسانًا، وأحدّ منك سنانًا، وأشجع منك جنانًا، وأملأ منك حشوًا في الكتيبة. فقال له على رضى الله عنه: اسكت، فإنك فاسق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شجر بَيْن علي رضي الله عنه). النهاية: شَجَرَ الأمرُ يَشْجُر شجُورًا: إذا اخْتلط، وتشاجَروا: إذا تنازَعوا واختَلفوا. قوله: (وأَذْرَب منك لسانًا)، النهاية: هو من قولهم: ذَرِبَ لِسانُه: إذا كان حادَّ اللِّسانِ لا يُبالي ما قال. قوله: (وأملأ منك حَشوًا في الكَتيبة)، والحَشْو: ما يُحشى به الشَّيء؛ أي: الشَّيءُ الذي أحشو به الدرع أبلغ في ملئها من حشوك؛ أي: أنا أبْدَنُ منك فيها. الأساس: وهو من حَشْو بني فلان: قال الرّاعي: أتتْ دُونَها الأحلافُ مذحج ... وأبناءُ كعبٍ حَشْوها وصَمِيمُها قال صاحب ((الاستيعاب)): الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمانَ لأُمِّه، أسلَمَ يومَ الفتحِ هو وأخوه خالدُ بن عُقبةَ، وأظنُّه يومئذٍ كان قد ناهَزَ الاحتلام. وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس قال: نزلت في عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه والوليدِ بن عُقبةَ في قصَّةٍ ذَكَرها {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ}.

فنزلت عامّة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما. وعن الحسن بن على رضي الله عنهما: أنه قال للوليد: كيف تشتم عليًّا وقد سماه الله مؤمنًا في عشر آيات؟ وسماك فاسقا؟ . [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)] 22 [ (ثم) في قوله: (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) للاستبعاد. والمعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فنزلت عامَّةً للمؤمنينَ والفاسقينَ، فتَناوَلَتْهما وكلَّ مَن في مِثلِ حالهِما)، قال صاحب ((الانتصاف)): ذَكَر السَّببَ المحقَّق، والمراد بالفاسِقِ وبالذين فَسَقوا: الكُفّارُ، وأَدْرَجَ فيها المؤمنين تعصُّبًا لمذهبه في وُجوب خُلودِ الفُسّاقِ. وقال صاحب ((الإنصاف)): ولم يَشْفِ في الجوابِ، فإنَّ الاعتبارَ بعُموم لفظِ الآيةِ لا بخُصوصِ سَبَبِها، والفِسْقُ يُطلق على المؤمن؛ لقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحُجُرات: 11]، و ((فاسقًا)) نكرةٌ في الشرط فيَعُمّ. والجوابُ الصَّحيحُ تَسليمُ العُمومِ وتَخْصِيصُه بالآياتِ والأخبارِ الدّالةِ على اعتبار الطّاعةِ وحُصولِ الشَّفاعَة. وقلت: ما أنصَفَ ولا انتصَفَ من صاحب ((الانتصاف)) حيث سَلَّم العُموم، وقال: {فَاسِقًا} نكرةٌ في الشرط فيَعُم. أمَا نَظَر إلى نَظيرتِها: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، أو إلى المُجْمَلِ: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} ليقيد المُطْلَقَ بالكافِرِ؟ وأمَا اعتَبَر الفاصلةَ: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} ليَعلَمَ أنَّ المؤمنَ لا يُكذِّبُ بالآخرة؟ وأمَا تأمَّلَ النَّظْم وتعقيبَه بقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}.

الفرصة ثم لم تنتهزها؛ استبعادًا لتركه الانتهاز. ومنه (ثم) في بيت الحماسة: لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة ... يرى غمرات الموت ثمّ يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها. فإن قلت: هلا قيل: إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالٍم، ثم توعد المجرمين عامةً بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يَكشِفُ الغَمّاء) البيت، الغَما والغَمُّ والغُمَّة: مرجعها إلى التَّغطية، والمراد هاهنا: شدةُ اقتحام الحربِ؛ أي: لا يَكشِفُ الأمرَ العظيمَ إلاَّ رجلٌ كريم يرى قحم الموت ثم يتوسَّطها، وإنما قال: ابنُ حُرَّة؛ ليُهيِّجَه ويُحرِّضَه على الزَّيادة؛ أي: زيادة غَمَراتِ الموتِ بعدَ رؤيتها مستبعدةً مستنكرةً في العقل والعادةِ، وهو مع ذلك يزورها بعد استيفائه إيّاها، بالغَ في مدحِه بذلك؛ حيث باشَرَ مثل هذا المستبعدِ بشجاعته، وكذا في الآية بالغَ في الذمِّ؛ ولهذا قال: ((أنَّ الإعراض عن مثل آياتِ الله في وُضوحِها وإنارتِها ... مستبعدٌ في العقل والعَدْل)). وإنّما ذَهَب في ((ثم)) إلى المجاز وإن احتَمَل الحقيقة؛ لأنَّ الشاعرَ يمدحُ جَريًا لا يبالي بالموتِ ويقتحمُ الأهوالَ، لا أنه يَرى الغَمراتِ ثم يَمكُث زمانًا طويلاً متفكِّرًا ثم يَزُورها؛ لأنَّه ذَمٌّ له، وكذا ما في الآية؛ الأصلُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، فوَضَع ((ثُمَّ)) موضعَ الفاءِ لبيان عنادِه وتَمرُّدِه. قوله: (جعلَه أظلمَ كُلِّ ظالم، ثمَّ تَوعَّدَ المُجرِمين عامَّة بالانتقام)، فيه رائحةٌ من الاعتزالِ كما سَبق منه عند قولِه: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: ((بسَبب ما عملتُم منَ المعاصي والكبائِر المُوبِقَةِ))، يقال: هلاّ يجعلُه من إقامةِ المُظْهَرِ موضعَ المُضمَرِ؛ ليُؤذِنَ بأنَّ عِلَّةَ الانتقام ارتكابُ هذا المُعرض مثل هذا الجُرْمِ العظيمِ.

[وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)] 23 - 25 [ (الْكِتابَ) للجنس، والضمير في (لِقائِهِ) له. ومعناه: إنا آتينا موسى عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال محيي السُّنة: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} من المشركين، ولا ارتيابَ أنَّ الكلامَ في ذمِّ المعرضِينَ، وهذا الأسلوبُ أذمُّ لهم من ذلك؛ لأنه يُقرّرُ أن الكافرَ إذا وُصِف بالفِسْقِ والظُّلم والجرمِ حُمِلَ على نهاية كُفره وغايةِ تمرُّدِه؛ لأنَّ هذه الآيةَ كالخاتمةِ لأحوالِ المكذِّبِينَ القائلين: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. والتَّخلُّص إلى قصَّة الكَليمِ عليه السَّلامُ مَسْلاةٌ لقلب الحبيبِ صلى الله عليه وسلم يعني: آتيْنا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقَّيْناه مثل ما لقَّيناك، وكما جعلنا المنزَّل عليه هدّى لقوم صبروا، كذلك نجعل كتابك هدًى ونورًا لمن يصبرُ، وكما جعلنا كتابَه مختلفًا فيه كذلك نجعل كتابك مختلفًا فيه، وكما أهلَكْنا المَعرِضِينَ نُهْلِك هؤلاء {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} [السجدة: 26] {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، ويؤيِّده قولُ المصنِّفِ: ((والضمير في {لَهُمْ} لأهلِ مكَّةَ)). قوله: ({الْكِتَابَ} للجنس) إنَّما دعاه إلى اعتبار الجنسِ؛ لأنَّ الضَّميرَ في {لِقَائِهِ} راجعٌ إليه، ولا ارتياب أنَّ عَيْنَ ذلك الكتابِ مالقاه، كأنَّه قيل: ولقد آتينا موسى ما يُقال له: الكتاب، فلا تكن في شك من أنك لقيتَ مثله. قال مكِّيّ: وقيل: الهاءُ تعود على ما لاقى في موسى؛ أي: فلا تكُ في مريةٍ من لقاء ما لاقى موسى من قومه من الأذى والتَّكذيبِ، ويجوز أن تعودَ على الكتاب، أضاف المصدرَ إلى المفعول؛ أي: من لقاء موسى الكتاب، وأضمَر موسى لتقدُّم ذِكْرِه.

السلام مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره، كقوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)] يونس: 94 [ونحو قوله: (مِنْ لِقائِهِ) وقوله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)] النمل: 6 [وقوله: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً)] الإسراء: 13 [. وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (هُدىً) لقومه (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، لصبرهم وإيقانهم بالآيات. وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدًى ونورًا، ولنجعلنّ من أمّتك أثمة يهدون مثل تلك الهداية؛ لما صبروا عليه من نصرة الدين، وثبتوا عليه من اليقين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: على أن تعود الهاءُ إلى ما لاقى، فالفاءُ مثلُها في قول الشاعر: ليسَ الجَمالُ بِمئزرٍ ... فاعلَمْ وإنْ رُدِّيت برْدا دَخلت على الجملة المعترضة بدلَ الواوِ اهتمامًا بشأنها؛ لأنَّ قولَه: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى}، إلى آخر الآية عطفٌ على قوله: {آتَيْنَا} وجعل كونهم أئمَّةً وهُداةً معللان بالصَّبر والإيقانِ في المعتَرِض فيه، ثم نهاه عن الامتراءِ في لقاء ما لاقوا منَ الأذى والصَّبر اقتداءً بهم؛ لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. قوله: (فلا تَكُ في شكٍّ من أنك لقيتَ مثلَه) هذا معنى الفاء في {فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ} يعني: معرفتك بأنَّ موسى نبيٌّ مرسلٌ وأُوتَي التَّوراة، ينبغي أن تكون سببًا لإزالة الرَّيب عنك في أن المنزَّلَ عليك قرآنٌ وكتابٌ وإنا اخترناك كما اخترناه، ونبتليكَ بمثل ما ابتليناهُن ولهذا قال كقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94].

وقيل: من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء، أو يوم القيامة. وقيل: من لقاء موسى عليه السلام الكتاب؛ أى: من تلقيه له بالرضا والقبول. وقرئ: (لما صبروا) و (لما صبروا)؛ أى: لصبرهم. وعن الحسن رضى الله عنه: صبروا عن الدنيا. وقيل: إنما جعل الله التوراة هدًى لبنى إسرائيل خاصةً، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام. (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يقضى، فيميز المحق في دينه من المبطل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: من لقائك موسى ليلةَ الإسراءِ) عطفٌ على قوله: (({الْكِتَابَ} للجنس والضَّميرُ في {لِقَائِهِ} له))، يؤيِّدُه ما روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن ابن عبّاس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيتُ ليلةَ أُسريَ بي مُوسى رَجُلاً آدمَ طُوالاً جَعْدًا، كأنَّه مِن رجال شَنُوءَة)). قوله: (وقرئ: {لَمَّا صَبَرُوا} و ((لِمَا صَبُرُوا)))، حمزةُ والكسائيُّ: بالتَّخفيف، والباقون: بالتشديد. قال الزَّجَّاجُ: فإذا خُفِّفَ فالمعنى: جَعلناهم أَئمَّةً لِصبرهم، وإذا شُدِّد، فالمعنى: على المُجازاة، كأنه قيل: إنْ صبرتُم جَعلناكم أئمَّة، فلمّا صَبَروا جُعلوا أئمَّة. وقيل: إنَّ كلمةَ الظَّرفِ تُقام مقامَ التَّعليل؛ نحوَ قولك: أكرمتكَ إذا أكرمتَ زيدًا؛ لأنَّ الظَّرف يُقارن المظروفَ، كما أنَّ العِلَّة تَقُارنُ المَعلول. قوله: (هدًى لبني إسرائيلَ خاصّةً، ولم يَتَعبَّد بما فيها ولدَ إسماعيل)، هذا التَّخصيصُ إنّما يفيدُه لامُ الاختصاص، وإيقاعُ قولِه: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} مشبّهًا به كما مَرَّ، وعطف {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} على {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى}.

[أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)] 26 [ الواو في (أَوَ لَمْ يَهْدِ) للعطف على معطوٍف عليه منوي من جنس المعطوف، والضمير في (لَهُمْ) لأهل مكة. وقرئ بالنون والياء، والفاعل ما دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا) لأنّ (كم) لا تقع فاعلة، لا يقال: جاءني كم رجل، تقديره: أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون. أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه، كقولك: تعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال. ويجوز أن يكون فيه ضمير (الله) بدلالة القراءة بالنون. و (الْقُرُونِ) عاد وثمود وقوم لوط (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعنى: أهل مكة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الواوُ في {أَوَلَمْ يَهْدِ} للعطف على معطوفٍ عليه [منويٍّ] من جنس المعطوفِ)، أي: ألم نُنَبِّههُم ولم يَهْدِ لهم كم أهلكنا من قَبلِهم، يعني: قلنا لهم: سيروا في الأرض ثم انظُروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلكم. قوله: (وقُرئ بالنُّون والياء) الياءُ: مشهورةٌ، والنُّون: شاذَّة. قال الفَرّاءُ: {كَمْ} في موضع رفع بـ {يَهْدِ}، كأنَّكَ قُلتَ: أو لمْ يهدِ لهم القرونُ الهالكةُ فيتَّعظوا. قال الزَّجاج: عند البصريِّينَ لا يجوز أن يعمل ما قبل ((كم)) في ((كم))، فلا يجوز في قولك: كم رجلٌ جاءني: جاءني كم رجل؛ لأنَّ كم تزال عن الابتداء، و ((كم)) هاهنا في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} وفاعل يهدي ما دلَّ عليه المعنى فيما سلف، وتكون ((كم)) أيضًا دليلاً على الفاعل في {يَهْدِ}، ويدلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ: {أولم نَهدِ لهم}؛ أي: أو لم نبيِّن لهم.

يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم. وقرئ: (يمشون) بالتشديد. [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)] 27 [ (الْجُرُزِ) الأرض التي جرز نباتها، أى: قطع؛ إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز. ويدل عليه قوله: (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنها أرض اليمن. وعن مجاهد رضى الله عنه: هي أبين. (بِهِ) بالماء (تَاكُلُ) من الزرع (أَنْعامُهُمْ) من عصفه (وَأَنْفُسُهُمْ) من حبه. وقرئ: (يأكل) بالياء. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)] 28 - 30 [ الفتح: النصر، أو الفصل بالحكومة، من قوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا)] الأعراف: 89 [وكان المسلمون يقولون: إنّ الله سيفتح لنا على المشركين. ويفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون قالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (((يُمَشَّونَ)) بالتشديد) قال ابن جِنّي: هي قراءةُ ابنِ السَّميفع، فهو للكثرة. قوله: (وعن مجاهد: هي أبين)، النهاية: أبيَنُ: بوزن أحمر: قريةٌ على جانب البحر في ناحيةِ اليمن، وقيل: هو اسمُ مدينة عدَن. قوله: ({بِهِ} بالماء) أي: الضَّمير في {بِهِ} للماء، وفي {مِنْهُ} للزَّرع، و {تَاكَلُ مِنْهُ} صفةُ زرعًا، وفيه معنى الجمع؛ لأنه مشتمل على آكلينَ ومأكولاتٍ مختلفين، ومن ثَمَّ قسَّمه؛ أي: تأكل أنعامُهم من التّبن وأنفسُهم من الحَبِّ.

(مَتى هذَا الْفَتْحُ) أى: في أىّ وقت يكون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنه كائن. ويَوْمَ الْفَتْحِ يوم القيامة، وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم، ويوم نصرهم عليهم. وقيل: هو يوم بدر. وعن مجاهد والحسن رضى الله عنهما: يوم فتح مكة. فإن قلت: قد سألوا عن وقت الفتح، فكيف ينطبق هذا الكلام جوابًا على سؤالهم؟ قلت: كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالًا منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأنى بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}، {مَتَى} في موضع نَصَبٍ على الظَّرف، وهو خبرُ الابتداء، وهو {هَذَا}، و {الفَتْحُ} نعتٌ لـ {هَذَا} أو عطفُ بيان. ويجوز أن يكون {مَتَى} في موضع رفع على تقدير حذف مضافٍ مع {هَذَا}، وتقديره: متى وقت هذا الفتح؟ قوله: (كان غرضهُم في السُّؤال عن وقتِ الفتح، استعجالاً منهم على وجه التَّكذيب والاستهزاءِ)، يعني: إنما طابَقَ هذا الجوابُ مضمونَ ما أرادوا بسؤالهم في قولهم: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}، وهو القطعُ بأنَّ ذلك كذبٌ ولا ينبغي أن يكونَ، وأنت ممن يجب أن يضحك منه. وأجاب أن كَينونَته ممّا لا ارتيابَ فيه، وأنَّه لا بدَّ أن يقعَ، لكنِّي أخبرُكم عن أحوالكم فيه كأني أنظر إليكم الآنَ، وأنتم على تلك الحالِ، وهو قريبٌ من الأسلوب الحكيمِ. قوله: (فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم)، قال المُطرزي: قولهم: كأنِّي بك: كأنِّي أبصرتُك، إلا أنّه تُرك الفعلُ لِدلالة الحالِ وكثرةِ الاستعمال، ومعناه: أعرف ما أشاهد من من حالك اليومَ وكيف يكونُ حالُك غدًا، كأنِّي أنظرُ إليك وأنتَ على تلك الحالِ. ومثلُه: مَن لي بكذا، يعنون من يَكفُل لي به، وله نظائر. قال المُظهرِي: كأنِّي بك مبصرٌ وعالمٌ بحالك أنّك سَتَهلِك. وهذا اللَّفظُ يُستعمل في كل موضع يُتيقَّن ما يصير إليه حالُ الرَّجل.

الإيمان، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. فإن قلت: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر؛ كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر؟ قلت: المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليكم وهلاككم، كقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)] التوبة: 52 [، وقرأ ابن السميفع رحمه الله: (منتظرون)، بفتح الظاء. ومعناه: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعنى: أنهم هالكون لا محالة. أو: وانتظر ذلك؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ: (الم تنزيل)، و (تبارك الذي بيده الملك)، أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر»، وقال: «من قرأ (الم تنزيل) في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المراد أنَّ المقتولينَ منهم لا ينفعُهم إيمانُهم في حال القتل)، وقلت: لو حملَه على قوم مخصوصينَ وهمُ الذين استهزؤوا وعاندوا وقالوا: متى هذا الفتحُ؟ إقامةً للمُظهر موضعَ المضمَرِ حتّى يكونَ من بابِ قولِه: على لاحِبٍ لا يُهتدى بمنارِه أي: لا يؤمنون حينئذٍ فلا ينفعُهم إيمانُهم لَحَسُنَ. قوله: (مَنْ قرأَ: {أَلَمْ * تَنزِيلُ}) روينا عن أحمدَ والترمذيِّ والدارميِّ عن جابرٍ: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأَ {أَلَمْ * تَنزِيلُ} و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ الله كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفى بِالله وَكِيلاً)] 1 - 3 [ عن زرّ قال: قال لي أبىّ بن كعب رضى الله عنه: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأحزاب مدنيّةٌ، وهيَ ثلاث وسبعون آيةً بسم الله الرحمن الرحيم قولُه: (عن زِرِّ) في ((جامعِ الأصول)): هو زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ الأسَديُّ الكوفيُّ، جاهِليٌّ إسلامي، من أكابرِ القُرّاءِ والمَشْهورين من أصحاب عبدِ الله بن مسعود، وسمعَ عُمرَ رضيَ الله عنه، وروى عنه خَلْقٌ كثيرٌ من التابعينَ وغيرِهم. زِرٌّ: بكَسْرِ الزاي وتشديدِ الراء. وحُبَيْشٌ: بضَمِّ الحاءِ المُهْمَلة وفَتْح الباءِ المُوحَّدة وسكونِ الياءِ والشينِ المُعْجَمة. وحديثُه هذا مشهورٌ في ((مسندِ الإمامِ أحمَد بنِ حنبلٍ))

قلت: ثلاثًا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). أراد أبىّ رضي الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفةٍ في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن: فمن تأليفات الملاحدة والروافض. جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله)، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ)] التحريم: 1 [، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)] المائدة: 67 [، وترك نداءه باسمه، كما قال: (يا آدم)] البقرة: 33 [، (يا موسى)] البقرة: 55 [، (يا عيسى)] آل عمران: 55 [، (يا داود)] ص: 26 [، كرامةً له وتشريفًا، وربئًا بمحله، وتنويهًا بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع تغييرٍ يسير. وفي ((الموطّأ)): ((الشيخُ والشيخةُ فارجُموهما البَّتة))، وكذا في روايةِ ابنِ ماجه. قولُه: (الداجن)، النهاية: هي الشاةُ التي يعلِفُها الناسُ في منازلِهم، وقد يقَعُ على غيرِ الشاءِ مِن كلِّ ما يألفُ البيوتَ من الطيورِ وغيرهِ. يقالُ: شاةٌ داجِنٌ، ودجَنَتْ تدجُنُ دُجونًا. قولُه: (ورَبْئًا بمَحلِّه)، الأساس: إني لأرْبأُ بك عن هذا الأمر: أرفَعُك ولا أرضاهُ لك، ورَباتُ بنَفْسي عن عَملِ كذا. ونوّهْتُ به تَنويهًا: رفَعْتُ ذِكْرَه وأشهَرْتُه، وينصُرُه ما روَيْنا في ((صحيح البخاري)): أنَّ البراءَ حين دعا بقولِه: اللهمَّ إني أسلَمْتُ نَفسي إليك، وفَوَّضْتُ أمري إليك، وألجاتُ ظَهْري إليك آمنتُ بكتابِك الذي أنزَلْتَ، ورَسولِك الذي أرسَلْتَ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ونَبيِّكَ الذي أرسلت)). النهاية: قيل: إنّ النبيَّ مُشتَقٌ من النَّباوةِ وهو الشيءُ المُرتفِع. ومن المهموزِ شعْرُ عبّاسِ بنِ مِرْداس يمدَحُه:

أوقعه في الإخبار في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله)] الفتح: 29 [، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)] آل عمران: 144 [. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)] التوبة: 128 [، (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ)] الفرقان: 30 [، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يا خاتمَ النَّبئين إنّك مُرْسَلٌ ... بالحقِّ كلُّ هُدى السبيلِ هداكا ومن الأولِ حديثُ البَراء. وإنّما رَدّ عليه ليَخْتلفَ اللفظانِ ويَجْمَعَ له الثناءَيْن من معنى النبوةِ والرسالةِ تعديدًا للنعمةِ في الحالَيْن. وتعظيمًا للمِنَّة على الوجهين. وعن الراغب: النبوَّةُ: سِفارةٌ بينَ الله عزَّ وجَلَّ وبين ذَوي العُقول مِن عباده لإزاحةِ عِلَلِهم في أمْرِ معادِهم وومعاشِهم، والنبيُّ لكونِه مُنَبّئًا بما تسكُنُ إليه العقولُ الزكية يصحُّ أن يكونَ بمعنى فاعلٍ، لقولِه تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحِجْر: 49]، وأن يكونَ بمعنى مفعولٍ، لقولِه {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]. وقلتُ: والذي يقتضيه هذا المقامُ من التنويهِ أنّ قولَه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} خطابٌ فَظيعٌ هائلٌ خصوصًا مُهِّدَ بقولِه: {اتَّقِ اللَّهَ} فصَدَّر بما يَنْجَبِرُ به تلك الفظاعة، يعني: يا مَنْ تصدّي لمنصبِ النُبوة، كيفَ يليقُ بكَ طاعةُ أعداءِ الدين؟ ! ومن الأسلوبِ قولُه تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ابتدأ بالعَفْوِ ثم إبداءِ الذنب.

رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)] الأحزاب: 21 [، (وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)] التوبة: 62 [، (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)] الأحزاب: 6 [. (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)] الأحزاب: 56 [، (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالنَّبِيِّ)] المائدة: 81 [؟ (اتق الله): واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه؛ وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ): لا تساعدهم على شيء، ولا تقبل لهم رأيًا ولا مشورة، وجانبهم، واحترس منهم؛ فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبنى قينقاع، وقد بايعه أناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم؛ فنزلت. وروى: أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع؛ وندعك وربك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وهموا بقتلهم؛ فنزلت. أى: اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى: أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ولا مشورةً)، الجوهري: المَشْوَرةُ: الشُّورى، وكذلك المَشُورة بضَمِّ الشِّين، تقولُ منه: شاوَرْتُه واستَشرْتُه بمعنى. قولُه: (على النفاق)، حال، أي: والحالُ أنّ قلوبَهم مُنْطويةٌ على النفاق. والفاءُ في ((فكان يُلين)) جواب ((لمّا)). قولُه: (في المُوادَعة)، الجوهري: المُوادَعة: المُصالَحةُ، والتوادُعُ: التصالح.

شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع؛ فنزلت. (إِنَّ الله كانَ عَلِيماً) بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة، (حَكِيماً) لا يفعل شيئًا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك، إِنَّ الله الذي يوحى إليك خبير (بِما تَعْمَلُونَ) فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ: (يعملون) بالياء، أى: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله) وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره. (وَكِيلًا): حافظًا موكولًا إليه كل أمر. [(ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَالله يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 4 - 5 [ (مَا جَعَلَ اللَّهُ): ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقرِئ: ((يَعْملونَ)) بالياء)، أبو عَمْرو، والباقونَ بالتاءِ الفَوْقانية. قولُه: (ودِعْوةً)، النهاية: الدِّعْوَةُ في النَّسَبِ: بالكَسْر، وهو أن ينتسِبَ الإنسانُ إلى غيرِ أبيهِ وعشيرتِه. وكانوا يَفْعلونه فنُهِيَ عنه، وجُعِلَ الولدُ للفراش.

قلبين؛ لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب؛ فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك؛ فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدًا كارهًا، عالمًا ظانًا، موقنًا شاكًا في حالة واحدة -لم ير أيضًا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجًا له؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان؛ وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنًا له؛ لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب سبى صغيرًا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في زيدِ بنِ حارثة)، وهو رجلٌ مِن كَلْب، ذَكر ابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستيعاب)): هو زيدُ بنُ حارثةَ بنِ شُراحيل بن كعبِ بن عبدِ العُزّي بن زيدِ بن أسدِ بن عبدِ القيْس بن عابدِ بن النعمانِ بن عَبْدِ بن وُدّ بن امرئِ القيس بن النعمانِ بن عُمَرَ بن عبدٍ بن عوف بن كِنانة بن بكرِ بن عُذْرَةَ بن زيدِ بن اللاتِ بنُ رُفيْدَة بن ثَوْر بن كَلْب بن وَبْرةَ. قد أصابه سَبْيٌ في الجاهليةِ فاشتراهُ حَكيمُ بنُ حِزامٍ لخديجةَ بنتِ خُوَيْلد فوهَبتْهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتبنّاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبْلَ النبوَّة، وهو ابنُ ثمانِ سنين، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أكبَرُ منه بعَشْر سِنين، وقيل: بعِشرين سنةً. قال عبدُ الله بُن عَمَر: ما كُنّا نَدْعو زيدَ بنَ حارثَة إلا زيْدَ بنَ محمدٍ حتى نزلَتْ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}. عن البُخاريِّ ومسلمٍ وأحمدَ بنِ حَنْبلٍ والتِّرمذيِّ عن ابنِ عُمَر قال: إنّ زيدَ بنَ حارثَة مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما كُنّا نَدْعُوه إلا زيْدَ بنَ مُحمَدٍ حتى نزلَ القرآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].

حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فأنزل الله عزّ وجلّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وطلبَه أبوهُ وعَمُّه، فخُيِّر، فاختارَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)، وفي ((الاستيعاب)): حَجَّ ناسٌ مِنْ كَلْبٍ فرأَوْا زيدًا فعَرفهم فقال لهم: أبلِغوا أهلي هذه الأبيَات فإنّي أعلَمُ أنّهم قَد جَزِعوا علي فقال: أحِنُّ إلى قومي وإن كُنتُ نائيا ... فإنّي قعيدُ البيتِ عند المَشاعرِ فكُفّوا منَ الوجْدِ الذي قد شَجاكُم ... ولا تُعْمِلوا في الأرضِ نَصَّ الأباعِرِ فإنّي بحَمْدِ الله في خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كرام مَعَدٍّ كابرًا بَعْدَ كابر النصُّ -بالصادِ المُهْمَلة-: السيرُ الشديد. كابرًا بعد كابر؛ أي: كبيرًا عن كبير. فانطلق الكَلْبيون فأعلَموا أباه، فخرَج حارثةُ وكَعْبٌ ابنا شُراحيل لفدائِه، فقالا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا ابنَ عبدِ المطلَب، يا ابنَ هاشمٍ، يا ابن سَيِّدِ قَوْمِه، أنتُم أهلُ الحرَمِ وجيرانُه، تَفكُّون العَاني وتُطْعمونَ الأسير، جئْناكَ في ابنِنا عندك فامنُنْ علينا وأحسِن، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ادعُوه، فإنْ اختاركم فهو لكم، وإن اختارَني فوالله ما أنا بالذي اختارُ على مَنِ اختارَني أحدًا، فدَعاه فقال: هل تعرفِ هؤلاء؟ قال: نَعم هذا عَمِّي وهذا أبي، قال: فأنا مَنْ قد علِمْتَ ورأيْتَ صُحْبَتي فاختَرْني أو اختَرْهُما، فقال زيدٌ: ما أنا بالذي أختارُ عليكَ أحدًا، فقالا: ويحكَ يا زيدُ! أتختارُ العُبوديّةَ على الحريَّةِ وعلى أبيكَ وعَمِّك وأهلِ بيتِك؟ قال: نعم، قد رأيتُ مِنْ هذا الرجلِ شيئًا ما أنا بالذي أختارُ عليه أبدًا، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [ذلك] أخرجَهُ إلى الحِجْرِ فقال: يا مَنْ حضر، اشهَدوا أنّ زيدًا ابني يَرِثُني وأرِثُه، فلمّا رأى ذلك أبوه وعَمُّه طابَت نفوسُهما فانصرَفا، ودُعيَ زيدَ بنَ محمَّد حتى جاءَ اللهُ بالإسلام، فنزلَتْ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}، فدُعِيَ يومئذٍ زيْدَ بن حارثة.

هذه الآية، وقوله: (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ)] الأحزاب: 40 [. وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله. فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب. فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلىّ، فأكذب الله قوله وقولهم، وضربه مثلًا في الظهار والتبني. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وأرْواهم)، وهو مِنَ الرواية، أي: أكثرُهم رِواية. قولُه: (فأكذَبَ اللهُ قَوْلَه وقَوْلَهم وضرَبَه مَثَلاً في الظِّهارِ والتبنِّي)، أي: قَوْلَ جميلٍ: إنّ لي قلبَيْن، وقَوْلَ مَنْ وافَقه من العربِ، ويشهَدُ ما رواه مُحيي السنة عن الزُّهْري ومُقاتلٍ: هذا مَثَلٌ ضرَبَه الله عزَّ وجلَّ للمُظاهِرِ من امرأتِه وللمُتَبنِّي ولَدَ غيرِه يقول: فكما لا يكونُ لرجلٍ قَلْبان، كذلك لا تكونُ امرأةُ المظاهِر أُمَّه، ولا يكونُ أحدٌ ابنَ رجُلَيْن. وإنّما قُلْنا: إنّ المرادَ بقَوْلِهم ما وافَقوه فيه؛ لِما قالَ مُحْيي السنّة: فعَلِموا يومئذٍ أنه لو كان له قلبانِ لما نَسِي نَعْلَه في يده. وقالَ الزجّاج: رُوِيَ أنّ عبدَ الله بنَ حَنْظَلٍ قال: إنّ لي قلبَيْن، أفْهَمُ بكُلِّ واحدٍ منهما أكثرَ مما يعقِلُ محمد، فأكْذَبَهُ الله تعالى فقال: {اجَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ثم قرنَ بهذا الكلامِ ما يقولُه المُشركون مِمّا لا حقيقةَ له. وقلتُ: فعلى هذا المذكوراتُ الثلاثُ بجُمْلتِها مَثَلٌ فيما لا حقيقةَ له، ثمَّ ذَيَّلَ الكُلَّ بقوله: {اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. وقال صاحبُ ((الانتصاف)): وأسَدُّ ما ذُكِرَ فيه: أنّهم كانوا يَدَّعونَ لابنِ الحَنْظلِ قلبَيْن،

المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، فأكذبهم الله. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول: نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في "رجل"، وإدخال "من" الاستغراقية على (قلبين) تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فنفى الله صحَّة ذَلك، وقَرنَه بأقاويلهِم الباطلةِ وهي جَعْلُهم الأدعياءَ أبناءً، والزوجاتِ أمهات، ففي الأولِ لزِمَ قيامُ أحدِ المعنَييْن بالآخَر كالعِلْمِ والجهْل، والأمنِ والخوْف، وأما الثاني فالزوجةُ في مَقامِ الامتنان، والأمُّ في مَقامِ الإكرام، وأما الثالثُ فإنَّ البُنُّوَّةَ أصالةٌ والدَّعْوةَ عَلامةٌ عارضةَ، فالكلُّ مُتناف. قال القاضي: ما جَعَلَ قلبَيْنِ في جَوْف؛ لأنّ القلْبَ معدِنُ الروحِ الحَيَوانيِّ المتعلِّقِ بالنَّفَس الإنسانيِّ أوّلاً، ومَنْبعُ القُوى بأسْرِها، وذلك يمْنَعُ التعدُّدَ؛ لأدائِه إلى تناقُضٍ، وهو أن يكونَ كلٌّ منهما أصلاً لكلِّ القُوى، وغَيْرَ أصل. قولُه: (فقالتِ اليهودُ: له قَلْبان)، رَويْنا عن الإمام أحمَد بنِ حَنْبلٍ والتِّرمذيِّ عن ابنِ عباسٍ: قيلَ له: ما عنى الله تعالى بقولِه {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}. قال: قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا يُصلِّي فخَطرتْ خَطْرةٌ، فقالَ المُنافقونَ الذين يُصلُّونَ معه: ألا ترون أنّ له قلبَيْن: قلبًا معكم وقَلبًا معهم؛ فنزلَتْ. قولُه: (ما جعلَ اللهُ لأمّةِ الرجالِ ولا لواحدٍ منهم قلبَيْن البتَّة)، لعلّه ذهبَ إلى أنّ الأصلَ: ما جعلَ اللهُ لأحدٍ من الرجالِ قلبَيْن في جَوْفِه فقولُه: لرجلٍ وُضِعَ موضعَ أحدٍ بوَساطةِ التنكير، وقَدَّر لأمةٍ منَ الرجالِ باستعانةِ ((من)) الاستغراقيةِ نَحْوَ قولِه تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32].

كالفائدة في قوله: (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)] الحج: 46 [؛ وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي المدلول عليه؛ لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفًا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار. قرئ: (اللايئ)، بياء وهمزة مكسورتين، و (اللائي) بياء ساكنة بعد الهمزة. و (تظاهرون) من: ظاهر، و (تظاهرون) من: اظاهر، بمعنى: تظاهر. و (تظهرون) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (قرئَ: ((اللايئ)))، قالون، وقُنبلٌ: ((اللاءِ)) بالهمْز من غير ياء، ووَرْشٌ: بياءٍ مُخْتلَسةٍ خلفًا من الهمزةِ في الحالَيْن، والباقونَ: بالهمزةِ وياءٍ بعْدَها في الحالين قال أبو البقاء: اللاتي: جَمْعُ ((التي))، والأصلُ إثباتُ الياءِ، ويجوزُ حَذْفُها اجتزاءً بالكَسرةِ، ويجوزُ تلْيينُ الهمزةِ وقَلْبُها ياء. قولُه: ({تُظَاهِرُونَ} مِنْ: ظاهَر)، عاصم: {تُظَاهِرُونَ} بضَمِّ التاءِ وتخفيفِ الظاءِ وألفٍ بعْدَها وكَسْرِ الهاء، وابنُ عامرٍ: بفَتْحِ التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاءِ والهاءِ من غيرِ ألف، أمّا ((يَظَّهَرون)) فالأصلُ: يتظهّرون، فأدغَم التاءَ في الظاءِ، و ((تَظاهرون)) بفتحِ التاءِ والتخفيف، فالأصلُ: تتَظاهرون، فحُذِفَت إحدى التاءَيْن، و ((تَظّاهرون)) بتشديدِ الظاءِ وإدغامِ التَّاءِ الثانيةِ في الظاء كلُّها لغات. الراغب: الظهْرُ: الجارحة، وقولُه تعالى {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}، الظهر هاهنا تشبيهًا للذُّنوبِ بالحِمْلِ الذي يَنوءُ بحامِله، واستُعيرَ لظاهرِ الأرضِ وقيل: ظَهْرُ الأرضِ وبَطْنُها، ويُعَبَّرُ عن المركوبِ بالظَّهْر، ويُستعارُ لَمنْ يُتَقوّى به، وبَعيرٌ ظَهيرٌ: قَويٌّ بَيِّنُ الظَّهارة، والظِّهْريُّ: ما تجعَلُه بظَهْرِك فتَنْساه، وظهر عليه: غَلَبَه، وظاهَرْتُه: عاونْتُه، وظَهَرَ

من: أظهر، بمعنى: تظهر، و (تظهرون) من: ظهر، بمعنى: ظاهر، كعقد بمعنى: عاقد. و (تظهرون) من: ظهر، بلفظ: فعل، من الظهور. ومعنى "ظاهر من امرأته": قال لها: أنت علىّ كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم؛ إذا قال لبيك، وأفف الرجل؛ إذا قال: أف، وأخوات لهنّ. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بـ"من"؟ قلت: كان الظهار طلاقًا عند أهل الجاهلية، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها: تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها، وظاهر منها: حاذر منها، وظهر منها: وحش منها، وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدّى بـ"من"، وإلا فـ"آلى" في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه. فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت علىّ كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت علىّ حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر؛ لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر رضى الله عنه: "يجيء به أحدهم على عمود بطنه". أراد: على ظهره. ووجه آخر؛ وهو أن إتيان المرأة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيءُ أصْلُه: أن يحصُلَ على ظَهْرِ الأرض، وبَطَنَ إذا حصَلَ في بُطْنانِ الأرض فيَخْفى، ثم صارَ مُسْتعملاً لكلِّ بارزٍ للبَصَرِ والبصيرة. قولُه: (ومنه حديثُ عُمرَ رضيَ الله عنه: ((يجيءُ [به] أحدُهم)))، أي: يجيءُ بالغَلَّة أحدُ التُّجارِ على ظهرِه، وأنتم تَخرجونَ وتتلقَّوْنَهم تَشْرونها منهم أرخَصَ من سِعْرِ البلد. ذكَر في ((المُغْرب)): قال عُمرُ رضيَ الله عنه: ((أيُّما جالبٍ جَلَبَ على عَمودِ بَطْنِه، فإنّه يَبيعُ أنّى شاء ومتى شاء))، يعني الظَّهْرَ؛ لأنّه قِوامُ البطن ومِساكُه. وعن الليث: هو عرق يمتد من الرُّهابةِ إلى السُّرَّةِ. قال أبو عُبَيْد: هذا مَثَلٌ والمرادُ أنه به في تَعبٍ ومَشقّةٍ لا أنه يحمِلُه على

وظهرها إلى السماء كان محرّمًا عندهم محظورًا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك. فإن قلت: الدعىّ: فعيل بمعنى: مفعول، وهو الذي يدعى ولدًا، فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقىّ وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى؟ قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي. (ذلِكُمْ) النسب هو (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ): هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقًا. (والله) عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق، وهدى إلى ما هو سبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظّهْرِ أو على هذا العِرْق. والرُّهابةُ: عَظْمٌ في الصدرِ مُشْرِفٌ على البطنِ كأنّه لسانُ الكلب. قولُه: (فلَمْ يَتَّرِكْ)، المُغْرب: في حديثِ عليٍّ رضيَ الله عنه: ((مَنْ أوصى بالثُّلُثِ فما اتَّرك)) وهو مِنْ قَوْلِهم: فَعل فما اتَّركَ، هو افتَعل من التَّرْكِ، غَيْرُ مُعدًّى إلى مفعولٍ، أي: مَنْ اوصى بالثُّلُثِ لم يَتْرُكْ مما أُذِنَ له فيه شيئًا. المَعْنى: فلم يَتْرُكْ شيئًا منَ المُبالغةِ في التحريم إِلا ذكَره، فهو من بابِ التتميم. قولُه: (الدَّعِيُّ: فَعيلٌ بمَعْنى: مفعول)، قال صاحبُ ((المُطلع)): فإنْ قيلَ: فإذا كان فَعيلاً بمعنى مَفعولٍ، فما له جُمِعَ على أفْعِلاء، وهو جَمْعُ فعيلٍ بمَعناك فاعلٍ، كتَقيٍّ وأتقياءَ وشَقِيٍّ وأشقياء؟ قُلنا: هو شاذُّ عن القياسِ كقُتَلاءَ وأُسَراءَ؛ قَتيلٍ وأسيرٍ، وطريقُه تُشاكِلُهما لفظًا، يعني: شُبِّه فَعيلٌ بمَعْنى مفعول، بفَعيلٍ بمَعْنى فاعلٍ، فجُمِعَ كما جُمِع. قولُه: (لا يقولُ إلا ما هو حَقٌّ ولا يَهْدي إلاّ سبيلَ الحق)، أمّا دَلالةُ {هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} على الحصرِ فظاهِرٌ؛ لأنّه على مِنوالِ: أنا عَرفْتُ، لكنّ دَلالةَ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}

الحق، وهو قوله: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ)، وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل. وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة: (وهو الذي يهدى السبيل). وقيل: كان الرجل في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الحصرِ فإنَّ عنْدَه مِثْلُ هذا التركيبِ مُفيدٌ للتخصيصِ، كما مَرَّ في قولِه {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} [الرعد: 26] وأمثالِه. قولُه: (وفي فَصْلِ هذه الجُمَلِ ووَصْلِها من الحُسْنِ والفَصاحةِ ما لا يَغْبى على عالمٍ بطريقِ النَّظْم)، يعني: في إخلاءِ العاطفِ وتوسيطهِ بين الجُمَلِ من مُفْتَتحِ السورة إلى هاهنا موضعُ تأمّل. وبيانُه: أنَّ الأوامرَ والنهْيَ في قولِه: {تَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} {واتَّبِعْ}، {وَتَوَكَّلْ}: وارداتٌ على نَسَقٍ عجيبٍ وتَرتيبٍ أنيق؛ فإنّ الاستهلالَ بقولهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} دالٌّ على أنّ الخطابَ مُشتملٌ على التنبيهِ على أمرٍ مَعْنيٍّ بشَأنه لائحٍ فيه معنى التهييجِ والإلهابِ، ومِنْ ثمَّ عَطَفَ عليه: {وَلَا تُطِعِ} كما يُعْطَفُ الخاصُّ على العامِّ، وأرْدَفَ النَهْيَ بالأمرِ على نحوِ قولِك: لا تُطِعْ مَنْ يخذُلُك واتَّبعْ ناصِرَك، ولا يبعُدُ أن يُسَمّى بالطردِ والعكْس. ثُمَّ أمرَ بالتوكُّلِ تشجيعًا على مخالفةِ أعداءِ الدينِ، والتجاءً إلى حَريمِ جلالِ الله ليكفيَه شرورَهم، ثُمَّ عقَّبَ كلاًّ من تلك الأوامرِ على سبيلِ التتميم والتذييلِ بما يُطابقُه، وعَلَّل قولَه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} تتميمًا للارتداعِ؛ أي: اتّقِ الله فيما تأتي وتَذّرُ في سِرِّك وعلانِيتِك؛ لأنه عليمٌ بالأحوالِ كُلِّها يجبُ أن تحذَرَ مِنْ سَخَطِه، حكيمٌ لا يُحِبُّ متابعةَ حبيبهِ أعداءَه، وعَلّل قوْلَه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} بقولِه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} تتميمًا أيضًا؛ أي: اتَّبعِ الحقَّ ولا تَتَّبعْ أهواءهم الباطلة وآراءَهم الزائغةَ؛ لأنّ الله يعلَمُ عَملَكَ وعَمَلَهم فيُكافِئُ كُلاًّ بما يستحِقُّه. وذَيَّلَ قولَه: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} تقريرًا وتوكيدًا على

الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا) لهم آباء تنسبونهم إليهم (فـ) هم (إِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وأولياؤكم في الدين، فقولوا: هذا أخى، وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي، يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه. (ما تَعَمَّدَتْ) في محل الجرّ عطفا على "ما أخطأتم"، ويجوز أن يكون مرتفعًا على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنوالِ: فُلانٌ ينطِقُ بالحقِّ والحقُّ أبلَج، مِنْ حَقِّ مَنْ يكون كافيًا لكلِّ الأمورِ، حَسيبًا في جَميع ما يرجِعُ إليه أن تُفَوَّضَ الأمورُ إليه ويُتوكَّلَ عليه، وفَصل قولَه {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} على سبيلِ الاستئنافِ تنبيهًا على بعضٍ منْ أباطيلِهم وتمحُّلاتِهم، وقوْلُه: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} فَذْلَكةٌ لتلكَ الأقوالِ آذنَتْ بأنّها جَديرَةٌ بأن يُحكَمَ عليها بالبُطلان، وحَقيقٌ بأن يُذَمَّ قائلُها فَضْلاً عن أن يُطاع. ثمَ وصَل {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} على هذه الفَذْلكِة بجامعِ التضادِ على مِنوالِ ما سَبق في المُجْمَلِ في {وَلَا تُطِعِ} {وَاتَّبِعْ}، وفَصَل قولَه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} وقَوْلَه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} وهلُمَّ جَرًّا إلى آخرِ السورة تفصيلاً لقَوْلِ الحقِّ والاهتداءِ إلى السبيلِ القويم، {اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، نسألكَ اللهمَّ التوفيقَ للقولِ بالسداد، والهدايةَ لسُبلِ الرشاد. قولُه: (جَلَدُ الرجلِ وظُرْفُه)، الجَلَدُ والجَلادةُ: الصَّلابةَ، والجَليدُ: ضدُّ البليد، قال أبو بكر الخوارزميّ: عدوى البليدِ إلى الجليدِ سَريعةٌ ... كالجمْرِ يوضَعُ في الرماد فَيخْمَدُ الظُّرْفُ: الكَياسةُ وحُسْنُ التأنِّي في الأمور. الأساس: فيه ظُرْفٌ وظَرافةٌ، أي: كَيْسٌ وذكاءٌ، وقد ظَرُفَ فهو ظَريف. قولُه: ({مَّا تَعَمَّدَتْ} في محلِّ عطفًا على ((ما أخطأتُم))) وقيل: هذا ضَعيفٌ؛ لأنّ

الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى، أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنىّ، على سبيل الخطأ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد»، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وضع عن أمّتى الخطأ والنسيان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعطوفَ المجرورَ لا يُفصَلُ بينَه وبينَ ما عُطِفَ عليه، واستَدلَّ سيبوَيهِ بقولهم: ((ما مِثْلُ عبدِ الله يقولُ ذاك ولا أخيه)) على أن المُضافَ محذوفٌ، وأقيمَ المُضافَ إليه على إعرابه، إذ لا يجوزُ أن يُعطفَ ((أخيه)) على ((عبدِ الله)) للفصل المذكور. وأُجيبَ بأنْ لا فَصْلَ، لأنّ المعطوفَ الموصولَ مع الصِّلةِ على مِثْلِه وهو ((ما أخطأتُم)). قولُه: (على طريقِ العموم)، وعلى الأولِ: الخَطأُ والعَمْدُ مختَصّانِ بفِعْلِ التبنِّي، فالجُملةُ عَطْفٌ على {ادْعُوهُمْ} بالتأوُّلِ؛ جمعَ بينَ الأمرِ الذي يَلْزَمُ الجُناحُ في التفريطِ فيه قبْلَ ورودِ النهْيِ، وبين رَفْعِ الجُناحِ فيما وقعَ فيه التفريط، أي: ادعوهُم لآبائِهم هو أقسَطُ لكم ولا تَدْعوهم لأنفُسِكم مُتعِّدين، فتأثَموا. وإليه الإشارةُ بقولِه: ((لا إثْمَ عليكُم فيما فَعلْتُموه من ذلك مخطئين))، وعلى الثاني: الجملةُ مُستطرَدةٌ على طريقٍ كُلّيٍّ ويدخلُ فيه هذا الحكمُ وما يُشاكِلُه. قولُه: (وَضِعَ عن أمتي الخطأُ)، الحديث رواه ابنُ ماجَه عن ابنِ عباس. ورُوِيَ عن

وما أكرهوا عليه»، ثم تناول -لعمومه- خطأ التبني وعمده. فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب، وأصغر سنا من المتبنى: ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له: عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله: لم يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند صاحبيه: لا يعتق. وأما المعروف النسب: فلا يثبت نسبه بالتبني، وإن كان عبدًا: عتق. (وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً) لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد. [(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)] 6 [ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) في كل شيء من أمور الدين والدنيا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ ولهدا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي ذَرٍّ: ((الله تجاوز عن أمتي)). قولُه: (إذا كانَ المُتنبيّ مَجهولَ النَّسَب)، إلى آخره. قال القاضي: اعلَمْ أنَّ التبَنّيَ لا عِبْرَة به عندنا، وعندَ أبي حنيفةَ: يوجِبُ عِتْقَ مَملوكِه، ويثبتُ النسبُ بمَجْهولِه الذي يمكنُ إلحاقه به. قولُه: (ووِقاءَه إذا لقِحَتْ)، الوِقاية: ما وقَيْتُ به الشيء. ولقِحَتْ: إذا اشتدّت. قال: قرِّبا مَرْبِطَ النعامةِ مِنّي ... لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال

وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه؛ لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم؛ لئلا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أو: هو أولى بهم، على معنى: أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)] التوبة: 128 [. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: بعدَ حِيال. قولُه: (فأخَذَ بحُجَزِهم؛ لئلاّ يتهافَتوا)، وفي بعضِ النُّسَخِ: ((فأخذه)). هذا مُقْتبسٌ من حديثٍ رَواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن أبي هُريرَة: أنه سمِعَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّما مَثَلي وَمَثلُ الناسِ كمَثَلِ رجلٍ استوقَد نارًا فلما أضاءت ما حوْلَه، جعلَ الفَراشُ وهذه الدوابُّ التي تَقعُ فيها فجعلَ يَنْزِعهُنَّ ويَغْلِبْنَه فَيقْتَحِمْنَ فيها فأنا آخِذٌ بحُجَزِكم عنِ النار فتَغْلبوني، وتتقَحَّمون فيها)). الاقتحامُ في الشيء: إلقاءُ النّفسِ فيه برَغْبَةٍ وإيثارٍ، والحُجَزُ: جَمْعُ حَجْزَةٍ وهيَ مَعْقِدُ الإزارِ، وحُجْزَةُ السّراويلِ مَعْروفة، وهَتَفَ الشيءُ هُتافًا: تطايرَ لخِفّتِه. ورُوِيَ: ((ما يحمِلُكم على أن تَتابعوا في الكَذِبِ كما يتتابَعُ الفراشُ في النارِ وأنا آخِذٌ بحُجَزِكم))، وهذا معنى قوله تعالى: {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، فأيما مؤمٍن هلك وترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينًا أو ضياعًا فإلىّ». وفي قراءة ابن مسعود: (النبىّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم). وقال مجاهد: كل نبىّ فهو أبو أمّته، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام؛ وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن، وتحريم نكاحهن، قال الله تعالى: (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)] الأحزاب: 53 [وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات؛ ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: لسنا أمهات النساء. تعنى أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال؛ لكونهنّ محرّماٍت عليهم كتحريم أمّهاتهم. والدليل على ذلك: أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات. كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ما مِنْ مؤمنٍ إلاّ انا أولى به)، الحديثُ مِن رِوايةِ أحمدَ والبُخاريِّ ومُسلمٍ وابن ماجه والدارميِّ عن أبي هُريرةَ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِنْ مؤمنٍ إِلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، وأيُّما مؤمنٍ تركَ مالاً فليرِثه عصبَتُه مَنْ كان، فإنْ تَرَك دَيْنًا أو ضَياعًا فليأتِني فأنا مولاه)). ضَياعًا: مَصْدر وصفٍ لمحذوفٍ، أي: عِيالاً ضَياعًا. النهاية: ضاعَ يَضيعُ ضَياعًا، فسَمّى العِيالَ بالمصدر، وإن رُوِيَ بكَسِرِ الضادِ فيكونُ جَمْعَ ضائعٍ، كجائعٍ وجِياع. قولُه: (وهو أبٌ لهم)، قال الزجاج: لا يجوزُ أن يُقرأَ بها، لأنها ليسَتْ في المُصحفِ المُجمَعِ عليه.

كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهاٍم لهم في الصدقات، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام وعزّ أهله، وجعل التوارث بحق القرابة. (فِي كِتابِ الله): في اللوح، أو: فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية، أو في آية المواريث، أو فيما فرض الله، كقوله: (كِتابَ الله عَلَيْكُمْ)] النساء: 24 [. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يجوز أن يكون بيانًا لأولى الأرحام، أى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضًا من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أى: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة. فإن قلت: مم استثنى (أَنْ تَفْعَلُوا)؟ قلت: من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول: القريب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كما كانت تتألّف)، صفةُ مصدرٍ محذوف أي: يتألفون بالإرث تألفًا كما كانت. قولُه: (ثم نُسِخَ)، عن بعضِهم أي: نُسِخَ بحديثٍ رواهُ عمرُ رضيَ الله عنه، وقَبلَت الصحابة، لأنَّ الإجماعَ لا يصلُحُ ناسخًا، أو عادَ على موضعِه بالنَّقضِ؛ لأنّ الله تعالى أعزَّ الإسلامَ وأغنى عنهم، وهذا لا يَكونُ مَطابقًا لقولُه: ((نُسِخَ))، والصحيحُ أنه نُسِخَ بقولِه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. قولُه: (دَجا الإسلام)، النهاية: أي شاعَ وكَثُر؛ من: دَجا الليل؛ أي: تَمَّتْ ظُلْمتُه ولَبِسَ كل شيء. قولُه: (ويجوز أن يكونَ لابتداءِ الغاية)، أي: ((مِنْ)) في {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: إما بيانٌ لـ ((أُولى الأرحام))، وصلَةُ ((أولى)) مَحْذوفة، وإليه الإشارةُ بقولُه: ((إلاّ قُربًا مِن هؤلاءِ أولى من الأجانبِ))، أو لابتداءِ الغاية، أي: يكونُ صِلَة. قولُه: (من أعمِّ العامِّ في معنى النفع)، أي: أولو الأرحامِ أولى من الأجنبيِّ في كلِّ نَفْعٍ إلا في الوصية هو استثناءٌ مفرَّغٌ في الموجِب، نَحْوَ قولك: قرأتُ إلاّ يومَ كذا، خَصَّ

أولى من الأجنبي إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفٍع من ميراث وهبةٍ وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية. والمراد بفعل المعروف: التوصية؛ لأنه لا وصية لوارٍث، وعدى تفعلوا بـ"إلى"، لأنه في معنى: تسدوا وتزلوا، والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين. (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعًا. وتفسير الكتاب: ما مر آنفًا، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعروفَ بالوصيّة وجعَلَها من جُملة المُنتفَعِ به، وعنى بقَوْلِه: {كِتَابِ اللَّهِ} اللوحَ أو الموحى، وبـ {أَوْلِيَائِكُم} نفْسَ أُولي الأرحام، وَضْعًا للمُظْهَرِ موضِعَ المُضْمَرِ، ليصحَّ أن يكونَ الاستثناءُ متصلاً، وأما لو أُريدَ بـ {أَوْلِيَائِكُم} المؤمنون والمهاجرونَ، ويكونُ ((المعروفُ)) مُجرًى على عمومهِ، فالظاهرُ أن يكونَ الاستثناءُ منقطعًا. وعن بعضِهم: وهو استثناءٌ مُنْقَطع، وخبرُه محذوفٌ، ومعناه: لكنّ فعْلَكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، ولا يكون على وجه نهاه الله عنه ولا أذن فيه. قال مكي وأبو البقاء: الاستثناء منقطع، والمعنى: أُولوا الأرحامِ أولى من المؤمنينَ والمهاجرين في كتابِ الله، أي: في الميراثِ، لكنْ إذا أردْتُم ابتداءَ المعروفِ إليهم: أي: إلى المؤمنينَ والمُهاجرين. والأول الوَجْه. قولُه: (وتُزْلوا)، الجوهري: أزلَلْتُ إليه نعمةً: أسدَيْتُها، وأزللْتُ إليه مِنْ حَقِّه شيئًا؛ أي: أعطَيْت. قولُه: ({ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ في الآيَتيْن) أي: في قولِه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية، وقولِه {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}. قولُه: (وتَفْسيرُ الكتابِ)، أي: الكتابِ المذكورِ في قولِه: {فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}، وقد مرَّ في قوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} في اللوحِ إلى آخره، ثم الجملةُ كالخاتمةِ أي: كالتتميمِ أو التذييلِ لِما سبَق، ومن ثمَّ شرعَ في مَشْرَعٍ آخر وهو قولُه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ}.

[(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)] 7 - 8 [ (َو) اذكر حين (أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ) جميعا (مِيثاقَهُمْ) بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم (وَمِنْكَ) خصوصا (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى) وإنما فعلنا ذلك (لِيَسْئَلَ) الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، من جملة من أشهدهم على أنفسهم: (ألست بربكم قالوا بلى)] الأعراف: 172 [(عَنْ صِدْقِهِمْ): عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين. أو: ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم؛ لأن من قال للصادق: صدقت، كان صادقا في قوله. أو: ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم. وتأويل مسألة الرسل: تبكيت الكافرين بهم، كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله)] المائدة: 116 [. فإن قلت: لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده؟ قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين؛ قدم عليهم؛ لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (على نوحٍ فمَنْ بعده)، الفاءُ مِثْلُها في الحديثِ: ((ثُمَّ الأمثلُ فالأمثَل)). قولُه: (ودَراريُّهم)، جمع دُرِّيٍّ وهو الكوكبُ الثاقبُ المضيءُ، نُسِبَ إلى الدُّرٍّ؛ جْمع دُرَّةٍ، وقد يُكْسَرُ، كسُخْريِّ وسِخْرِيٍّ، وهذا من بابِ تغييراتِ النسب. الأساس: ودرأ الكوكبُ: طلعَ كأنه يدْرأُ الظلام. قولُه: (قُدِّمَ عليهم؛ لبيانِ أنَّه أفضَلُهم، ولولا ذلك لقُدِّمَ مَنْ قَدَّمَه زمانُه)، قال الزجاج:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاءَ في التفسيرِ: إني خُلِقْتُ قبْلَ الأنبياءِ وبُعِثْتُ بَعْدَهم، فعلى هذا لا تقديمَ في الكلامِ ولا تأخير، ومَذهَبُ أهلِ اللغة: أنّ الواوَ معناهُ الاجتماع، وليس فيها دليلٌ أنَّ المذكورَ أوّلاً معناه التأخير. وقال صاحبُ ((الانتصاف)): ليسَ التقديمُ في الذِّكْرِ مقتضيًا ذلك؛ ألا ترى إلى قولِ الشاعر: بهَا ليلُ مِنهم جعفرٌ وابنُ أُمِّه ... عليٌّ، ومنهم أحمَدُ المُتخَيِّرُ خَتَم به تشريفًا، فالسرُّ في تقديمهِ أنه هو المخاطَبُ بهذا، والمُنزَّلُ عليه هذا المَتْلُوُّ، وكان أحقَّ، ثمّ جرى ذكْرُ الأنبياءِ بعْدَه على الترتيب. وقلتُ: إنّما يٌقالُ مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزالِ لا للقارِّ في مَكانه، ثُمّ لم يكُنِ التقديمُ إلا للاهتمامِ بحَسْبِ اقتضاءِ المقامِ، والواوُ لا مَدْخَلَ له في الاعتبار، فإنَّ الأنبياءَ المذكورينَ بعْدَه صلى الله عليه وسلم مُرتَّبون على حَسَبِ تقدُّمِهم في الزمان، وكانَ ينْبغي تأخيرُه لذلك، ولابد لهذهِ المخالفةِ مِنْ فائدةٍ جَليلة، وكَوْنُه مُقدَّمًا بحَسبِ الفَضْل، وأنّه أقدَمُ الأنبياءِ خَلْقًا كما قال الزجاج؛ شَرَفٌ لا مَطْمَحَ وراءه. روَيْنا عن الترمذيِّ، عن أبي هُريرةَ قال: قالوا: يا رسولَا لله متى وجَبتْ لك النبوة؟ قال: ((وآدَمُ بين الروح والجسد)) زاد رَزين: ((وآدَمُ مُنجَدِلٌ في طينتهِ بين الروح والجسد)). والمقامُ يقتضي ذلك؛ لأنه سبُحانه وتعالى جعلَ مُفتتحَ السورةِ وبراعةَ استهلالِها خِطابَه بذكْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضَلُ خطابٍ من جانبِ ربِّ العِزّة كما مرَّ، ثمّ معاقِدُ هذه

فإن قلت: فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية؛ وهي قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)] الشورى: 13 [، ثم قدم على غيره! قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك؛ وذلك أنّ الله عز وجل إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السورةِ واردةٌ على تَنْويهِ فَضْلِه ورَباءِ محَلِّه، وأنه أولى بالمؤنينَ من أنفُسِهم، وأفضَلُ النبيينَ مكانةً، وأسبَقهم منزلةً، وهلمَّ جّراً إلى آخرِ السورة. وأمّا تأخيرُ ذكْرِه صلى الله عليه وسلم في البيتِ الذي أنشَده صاحبُ ((الانتصاف)) فللترقِّي والأخْذِ بالأفضَل فالأفضَل، وشاهِدُه تأخيرُ ذكْرِه صلى الله عليه وسلم إذ لو قُدِّم ابتدأ الفضلُ منه، فله الفضْلُ مُتقدِّمًا ومُتأخِّرًا. قولُه: (أرادَ به ذلك الميثاقَ بعَيْنه)، يريدُ به أنّه أُعيدَ قولُه: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} توكيدًا، ويُعَلَّلُ بقوله {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} وإليه الإشارةُ بقولِه: ((أكّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينهِ لأجلِ إثابةِ المؤمنينَ {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}، وكان أصلُ الكلام: أعدَّ للمؤمنين الإثابةَ وللكافرين التعذيب، وذِكْرُ الأنبياءِ وأخْذُ الميثاقِ العظيمِ توطئةٌ لذكْرِ إثابةِ المؤمنينَ ليُؤْذِنَ بأنّ الله تعالى سبقَتْ رحمتُه غضَبَه، ولعلّه أخفى فيه: أنّه تعالى لا يريدُ من المكلَّفين إلا الإيمانَ، ولو عُطِفَ على {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} من حيثُ المعنى؛ ليرجِعَ المعنى إلى أنّ الله أخذَ من النبيِّين ميثاقَه ليُبلِّغوا رسالاتِ ربِّهم إلى عَبيدهِ، ليَهلِكَ مَنْ هَلك عن بَيِّنة، ويحيا مَنْ حَيَّ عن بَيِّنة، ويسألَ المؤمنينَ عند تواقُفِ الأشهادِ عن صدْقِهم، فيفوزوا بما لا عَيْنٌ رأتْ ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، وليُجْزى الكافرونَ

بذلك الميثاق ميثاقًا غليظًا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل: الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ)؟ قلت: على (أخذنا من النبيين)؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين (وأعد للكافرين عذابا أليما). أو على ما دل عليه (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ)، كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)] 9 - 11 [ (اذْكُرُوا) ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُود) وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على رؤوسِ الأشهاد، ثمّ المآلُ إلى ما أعدّ الله لهم؛ أي من النَّكالِ والعذابِ الأليم؛ لَكَانَ أَحْسَنَ. قال صاحبُ ((التقريب)): {أَعَدَّ} عَطْفٌ على {أَخَذْنَا} أو على ما دل عليه {لِيَسْئَلَ}، وهو: فأثابَ المُؤمنين وكذا عن القاضي. قولُه: (وقيل: الميثاقُ الغليظُ: اليمينُ بالله)، يعني: بَعْدَما أخذَ من النبيِّين الميثاقَ بتبليغِ الرسالةِ أكّد باليمينِ بالله على الوفاءِ بما حُمِّلوا، فعلى هذا لا يكونُ تكريرًا. قولُه: (فأرسلَ الله)، وفي ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبل)): عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلْنا يوْمَ الخندَق: يا رسولَ الله، هَل مِنْ شيءٍ نَقولُه، فقد بلغَتِ القلوبُ الحناجرَ؟

بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة، وكانوا ألفا، بعث الله عليهم صبًا باردة في ليلةٍ شاتية، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء! فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاٍف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: ((نعَمْ اللهمَّ استُرْ عوراتِنا وآمِن روعاتِنا)) قال: فضربَ الله وجوهَ أعدائِه بالريح، فهزمَهم الله بالريح. قولُه: (فأخصَرَتْهُم)، الأساس: يومٌ خَصِرٌ: بارد، وخَصِرَتْ أناملُه من البَرْدِ وأخْصَرَها القَرُّ. قولُه: (وأكفأتِ القُدورَ)، أي: كَبَّتْها وقَلبَتْها، والفاعلُ: الريح. قولُه: (فالنجاءَ النجاءَ)، النهاية: أي: انجُوا بأنفُسِكم. وهو مَصْدرٌ بفِعْلٍ مُضْمَر، أي انجوا النجاءَ. قولُه: (في الآطام)، النهاية: واحدها: أُطُم، وكلُّ بناءٍ مُرْتفعٍ، يعني: أبنيتَها المرتفعَة كالحصون. قولُه: (ونَجَمَ النفاق)، النهاية: كلُّ ما طلعَ وظَهر فقد نجَم.

المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر! لا نقدر أن نذهب إلى الغائط! وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاٍف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألٍف ومن تابعهم من أهل نجد، وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهٍر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر. (تَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء. (مِنْ فَوْقِكُمْ): من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش، تحزبوا وقالوا: سنكون جملةً واحدة حتى نستأصل محمدا. (زاغَتِ الْأَبْصارُ): مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرةً وشخوصًا. وقيل: عدلت عن كل شيٍء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها؛ لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة؛ وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلًا في اضطراب القلوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (من الأحابيش)، النهاية: هم أحياءٌ من القارَةِ انضمّوا إلى بني لَيْثٍ في محاربتِهم قُريشًا، والتحبُّشُ: التجمُّع. وقيل: حالفوا قريشًا تحتَ جبلٍ يُسمّى حُبْشِيّاً فسموا بذلك. قولُه: ({تَعْمَلُونَ} بالياءِ والتاء)، أبو عَمْروٍ: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. قولُه: (وشُخوصًا)، المُغْرب: شخَصَ بَصَرُه: امتدّ وارتفَع، ويُعَدّى بالباء، فيقال: شخَصَ ببَصَرِه.

ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقةً. (وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا) خطاٌب للذين آمنوا، ومنهم الثبت القلوب والأقدام، والضعاف القلوب؛ الذين هم على حرف، والمنافقون؛ الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم؛ فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. وعن الحسن: ظنوا ظنونًا مختلفة: ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون، وظنّ المؤمنون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ووَجيبِها)، النهاية: يقال: وجَبَ القلبُ يجُب وجيبًا: إذا خفَق. قولُه: (الذين هم على حَرْف)، أي: على وَجْهٍ واحد، وهو أن يعبُدَ اللهَ على السرّاءِ دونَ الضراء. النهاية: أي: جانبٍ وطرف، فالمؤمنون صنفانِ: صنفٌ ثابتون يظنّونَ النُّصْرةَ والظَّفرَ، والآخَرُ آيِسون قانِطون، وهم الذين على حرف. قولُه: (فظَنَّ الأولون)، أي: الذين آمنوا، وهم فَريقان: الثُّبَّتُ القلوب، خافوا الزّلَل، أي: ذنوبًا اكتَسبوها فمنَعْتُهم التأييدَ وتقويةَ القلوبِ حتى تزلزلوا، كما قالَ في قولهِ تعالى: {نَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]. والفريقُ الثاني: الضعافُ القلوبِ، فخافوا ضَعْفَ الاحتمالِ؛ أي: احتمالِ الملاقاةِ والمحاربة. ففي كلامِ المصنِّفِ لَفٌّ ونَشْر. وأمّا الآخرونَ فهم المنافِقون وما حُكِيَ عنهم، هو ما حَملَهم على أن يقول رئيسُهم مُعَتِّبُ بنُ قُشَيْر: كانَ محمّدٌ يَعِدُنا كنوزَ كِسْرى! لا نقدِرُ أن نذهبَ إلى الغائط! على ما مرّ، وما رُوِيَ عن الحَسنِ وجْهٌ آخَرُ في الآية. ثمَّ المناسِبُ أن يُرادَ بالابتلاءِ على الوجْهِ الأولِ المِحْنةُ والبَلاء، وعلى الثاني الاختبار، كما أُريدَ مِنْ ظَنِّ المنافقينَ: ما حَملَهم على تلكَ الكلمةِ الشنعاءِ على الأول، وعلى الثاني: الاستئصال.

أنهم يبتلون. وقرئ: (الظنون) بغير ألف في الوصل والوقف، وهو القياس، وبزيادة ألٍف في الوقف زادوها في الفاصلة، كما زادها في القافية من قال: أقلّى الّلوم عاذل والعتابا وكذلك: (الرسولا)] الأحزاب: 66 [و (السبيلا)] الأحزاب: 67 [، وقرئ: بزيادتها في الوصل أيضًا؛ إجراًء له مجرى الوقف. قال أبو عبيد: وهنّ كلهنّ في الإمام بألف. وعن أبى عمرو إشمام زاى (وزلزلوا). وقرئ: (زلزالا) بالفتح، والمعنى: أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج. [(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَاذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (قُرِئ: ((الظُّنون)) بغيرِ ألف)، أبو عَمْرو وحَمزةُ: ((الظنون)) و ((الرسول)) و ((السبيل)) بحَذْفِ الألِفِ في الحالين، وحَفْصٌ والكِسائيُّ: بحَذْفِها فيهن في الوصل خاصّة، والباقون: بإثباتِها في الحالين. قولُه: (أقِلّي اللوم عاذِلَ والعتابا)، تمامُه أنشدَ الزجاج: وقولي إن أصَبْتُ لقد أصابا يقول: يا عاذِلَتي أقِلّي ملامَتي وعِتابي وقولي- إنْ فعَلْتُ حَسَنًا وصَوابا-: لقد أصابَ فلانٌ في قولِه وفِعْلِه. قولُه: (وقُرِئ: ((زَلْزالاً)) بالفتح)، في الشواذِّ. قال الزجّاج: والمصدَرُ من المُضاعَفِ

بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً)] 12 - 14 [ (إِلَّا غُرُوراً): قيل: قائله: معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا! ما هذا إلا وعد غرور! (طائِفَةٌ مِنْهُمْ): هم: أوس بن قيظى ومن وافقه على رأيه. وعن السدى: عبد الله بن أبىّ وأصحابه. ويثرب: اسم المدينة. وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) قرئ بضم الميم وفتحها، أى: لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَجيءُ على ضربَيْن: على فِعْلال وفَعْلال، نحو: قَلْقَلْتُه قَلْقالاً وقِلْقالا والكَسُرْ أجْودُ، لأنّ غيْرَ المُضاعَفِ من هذا البابِ مكسورٌ، نحو: دَحْرَجْتُه دِحْراجًا. قولُه: (أن يتبرّز)، النهاية: البَرازُ بالفَتْحِ: اسمٌ للفضاءِ الواسعِ، فكَنَّوْا به عن قَضاءِ الغائطِ كالخلاءِ؛ لأنّهم كانوا يتَبرّزون في الأمكنةِ الخالية. قولُه: (ويَثْرِبُ: اسمُ المدينة)، النهاية: هي اسمُها قديمةً فغَيَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسَمّاها طَيْبةَ وطابَةَ، كراهةً للتثريبِ، وهو اللومُ والتعبير. وقيل: هو اسمُ أرْضِها، وقيل: سُمِّيَتْ باسمِ رجلٍ من العمالقة. قولُه: (قُرِئ بضَمِّ الميم وفَتْحِها)، حَفْصٌ: بالضمِّ، والباقونَ: بالفَتْح. قال الزجّاج: فمَنْ ضَمَّ فالمعنى: لا إقامَة لكم، تقول: أقَمْتُ في المصرِ إقامةً ومُقامًا، ومَنْ فَتَح فالمعنى: لا مكانَ لكُم تقومون.

(فَارْجِعُوا) إلى المدينة؛ أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا، وإلا فليست يثرب لكم بمكاٍن. قرئ: (عورة) بسكون الواو وكسرها، فالعورة: الخلل، والعورة: ذات العورة، يقال: عور المكان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المُغْرب: المَقامُ بالفتح: موضِعُ القيام، ومنه مَقامُ إبراهيم: الحَجَرُ الذي فيه أثرُ قدَمَيْه وموضِعُه أيضًا، وبالضمِّ موضِعُ الإقامة. الجوهري: المَقامُ والمُقامُ: يكون كلُّ واحدٍ منهما بمعنى الإقامةِ وموضعِ القيام، لأنك إذا جَعْلتَه مِن: قامَ يقومُ، فَمفْتوح، وإن جَعْلتَه من: أقامَ يقيم، فمَضْموم. فَقْولُ المصنِّف: ((لا قَرارَ لكم ولا مكانَ تُقيمونَ فيه)) فهو بمعنى الفتح، وقوله: ((أو تُقيمونَ)) بمعنى الضم. قولُه: (بالهَربِ من عسْكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)، أي: مُعَسْكرِه، كما سَبَق في قولِه: ((وحينَ سمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندَقَ على المدينة ... ، ثمّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المسلمين فضَربَ مُعَسْكَرهُ، والخندقُ بينه وبَيْنَ القوم)). أي: قالَ طائفةٌ من المنافقين: يا أهلَ يَثْرِبَ نُقِلْتُم منَ المدينةِ إلى هذا المُقام الصَّعْبِ فارجعوا إليها. قولُه: (وأسْلِموا مُحمّداً)، هو مِن قولهم: أسْلَمَه؛ أي: خَذَلَه. قولُه: (قُرِئ: {عَوْرَةٌ} بسُكون الواو وكَسْرِها)، قال ابن جِنِّي: بكَسْرِ الواو: ابنُ عبّاسٍ وابنُ يَعْمَرَ وأبو رجاءٍ بخلاف، وصحَّةُ الواوِ في هذا شاذَّةٌ من طريقِ الاستعمال، لأنّها مُتحَرِّكةٌ بعد فَتْحَةٍ، والقياسُ قَلْبُها ألِفًا فيُقال: عارَة، كما يقال: كَبْشٌ صافٌ ونَعْجَةٌ صافَةٌ ويومٌ راحٌ، وله نظائِرُ، وكُلُّ ذلك فَعِلٌ، كرجلٍ فَرِقٍ وحَذِرٍ. ومِثْلُ ((عَوِرةٍ)) في

عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق. ويجوز أن تكون (عَوْرَةٌ) تخفيف عورة؛ اعتذروا أنّ بيوتهم معرّضة للعدو ممكنة للسراق؛ لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار. (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة. وقيل: بيوتهم، من قولك: دخلت على فلان داره. (مِنْ أَقْطارِها): من جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفًا منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها، وان ثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة (الْفِتْنَةَ) أى: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، (لأتوها): لجاؤها وفعلوها. وقرئ: (لآتوها): لأعطوها، (وَما تَلَبَّثُوا بِها): وما ألبثوا إعطاءها (إِلَّا يَسِيراً)، ريثما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صحةِ واوِها قولُهم: رجلٌ عَوِزٌ لَوِزٌ، أي: لا شيءَ له، وكأنَّ عَوِرَة أسهل. وعن بعضِهم: عَوِرَةٌ خَبرُ ((إنّ)) وهو مَصْدَرٌ في الأصلِ، فِعْلُه: عَوِرَ، وهو بمعنى: ذاتِ عَوِرَة، ويجوز أن يكونَ اسمَ فاعل أصله: عَوَرَةٌ، ثم سُكّن، ويجوزُ أن يكونَ مصدرًا في موضعِ اسمِ الفاعلِ، كَعْدلٍ بمعنى عادِل. قولُه: (مُعَرَّضةٌ للعدو)، أعرضَ لك الخيرُ، أي: أمكَنك، وأعرَضَ لك الظَّبيُ فارْمِه؛ إذا ولاّكَ عُرْضَه، وعرَضْتُ الشيءَ فأعْرضَ، مثل: كَبْتُه فأكبَّ، وأمكَنْتُه من الشيء ومكَّنْتُه الشيء. قولُه: (وانثالَتْ على أهاليهِم)، الجوهري: تناثل إليه الناس أي: انصبُّوا. قولُه: (وقرئَ: {لَأَتَوْهَا})، كلّهم إلاّ نافعًا وابنَ كثيرٍ فإنّهما قرآ: ((لأتَوْها)) بالقَصْرِ.

يكون السؤال والجواب من غير توقف، أو: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرًا، فإن الله يهلكهم. والمعنى: أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولًا ورعبًا؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم: كونوا على المسلمين؛ تسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام، وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر، وتهالكهم على حزبه. [(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا الله مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ الله مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)] 15 - 16 [ عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا لنقاتلنّ. وعن محمد بن إسحاق: عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعد ما نزل فيهم ما نزل. (مَسْؤُلًا): مطلوبًا مقتضًى حتى يوفى به. (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ((لو كَبَسوا عليهم)، أي: تغلَّبوا للإغارةِ فُجْأة. الأساس: أي: اقتَحموا عليهم وسَمِعْتُهم يقولون: أدخله بالكبس؛ إذا قَهَرَه وأذلّه. قولُه: (نزلَ بهم ما نزل)، أي: من الهزيمةِ وقَتْلِ سَبْعين منهم وما حصَلَتْ فيهم من المُثْلَة وشَجَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكَسْرِ رَباعِيَتهِ. وذلك مِن مُخالفةِ أمْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتَرْكِهم المركزَ ومَيْلِهم إلى الدنيا وطَلبِ الغنيمة. قولُه: (مطلوبًا مُقْتضى)، يقال: اقتضى حَقّه، أي: تقاضاه. الأساس: تقاضَيْتُه دَيْني، وبدَيني، واقتضيتُه، واقتضَيْتُ منه حَقِّي: أخذتُه.

حتف أنف أو قتل، وإن نفعكم الفرار -مثلًا- فمنعتم بالتأخير؛ لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانًا قليلًا. وعن بعض المروانية: أنه مرّ بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب. [(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)] 17 [ فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه: أو يصيبكم بسوٍء إن أراد بكم رحمةً، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله: متقلّدا سيفا ورمحا أو حمل الثاني على الأوّل؛ لما في العصمة من معنى المنع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كيفَ جُعِلَت الرحمةُ قَرينةَ السُّوء)، يعني: أوقَعَ كلمةَ الترديدِ بين السوءِ والرحمةِ، وأدخَلَهُما تحتَ معنى العِصْمة، والعِصْمةُ لا تُناسِبُ الرحمةَ؛ إذْ لا عِصْمةَ إلاّ من السوءِ؛ أي: العذاب. وأجابَ: أنّ تقديرَ الكلام: مَنْ ذا الذي يعصِمُكم منْ عذابِ الله إن أرادَ بكم سوءًا؟ أو: مَنْ ذا الذي يُصيبُكم بسوءٍ إنْ أراد بكُم رَحْمة؟ قولُه: (مُتَقلِّدًا سيفًا ورمحا)، أوّلُه: يا ليت زوْجَك قد غدا ويروي: ((في الوغى))؛ أي: حاملا ومُعْتَقِلا. قولُه: (أو حُمِلَ الثاني على الأولِ لِما في العِصْمةِ مِن معنى المنع)، قال صاحب ((المطلع)): كأنّه قيلَ: مَنْ الذي يمنَعُكم من أحدِهما إن أراده بكم؟ وقلتُ: أو المعنى: مَنْ الذي

[(قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَاتُونَ الْبَاسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَاتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)] 18 - 20 [ (الْمُعَوِّقِينَ): المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون؛ كانوا يقولون (لِإِخْوانِهِمْ) من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم و (هَلُمَّ إِلَيْنا) أى: قربوا أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز؛ يسؤون فيه بين الواحد والجماعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعصِمُكم من الله إن أرادَ بكم سُوءًا ومَن الذي يَمنعُ رحْمةَ الله منكم إن أراد بكم رحمة؟ وقرينةُ التعدِّي ما في {يَعْصِمُكُم} من معنى المَنْع. قولُه: (أكَلَةُ رأس)، أي: قليلون يُشْبِعُهم رأسٌ واحد. قولُه: (لالتَهمَهُم)، الأساس: التَهمَ الشيءَ: ابتلَعَه، والتَهم الفصيلُ ما في ضَرْعِ أمه: اشتَفْه، بالشينِ المعْجَمة؛ مِن: اشتَفَّ ما في الإناء. قولُه: (وهي لغة أهل الحجاز؛ يُسَوّون فيه بين الواحد والجماعة)، قال مَكِّي: وغَيْرُ أهلِ الحجازِ يقولون: هلمّوا للجماعة، وهَلُمِّي للمرأة، وأصلُ هَلُمَّ: ها الممْ، ها: للتنبيه، والمُمْ: اقصُدْ وأقْبِل، فكَثُرَ الاستعمالُ فحُذِفَتْ ألِفُ الوصلِ لمّا تَحرَّكَتِ اللامُ لضّمةِ الميمِ عندَ الإدغامِ فصارَ: ها لُمَّ، فحُذِفَتْ ألفُ ((ها)) لسكونِها وسكونِ اللامِ بعْدَها، لأنّ حركَتها عارضةٌ، فاتَّصلَت الهاءُ باللام، وفُتِحَت الميمُ لالتقاءِ السَاكنَيْن، نحو: رَدَّ وصَدَّ.

وأمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعدّ، مثل: احضر وقرب، (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ)] الأنعام: 15 [. (إِلَّا قَلِيلًا): إلا إتيانًا قليلًا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئًا قليلًا إذا اضطرّوا إليه، كقوله: (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا)] الأحزاب: 20 [، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت؛ حذرًا أو خورًا ولواذًا بك، (فإذا ذهب الخوف) وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير -وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم، وضربوكم بألسنتهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (يتَرفْرَفون)، الأساس: ومنَ المجازِ: رَفْرفَ على ولدِه: إذا تحنّى عليه، فقولُه: ((يتَرفْرفون)) تفسيرٌ لقوله: ((ضَنّاً بكم))، أي: يوهِمون أنّهم مُشْفِقون عليكم بُخَلاءُ بأنفُسِكم أنْ تقعَ في التهلُكَة. الجوهري: ضَنَّ بالشيءِ: إذا بَخِلَ به. أي: يتملَّقونَ للمؤمنينَ الذين يذبُّون؛ عنهم؛ ضَمَّنَ {أَشِحَّةً} معنى: رَفْرَفَ عليه، أي: تَملَّق، وعَدِّي تَعْدِيتَه، فالضميرُ في ((عنه)) و ((دونه)) راجعٌ إلى الرجُل أو إلى الموصولِ وهو الألِفُ واللامُ في الذابِّ والمناضلِ، فإذن المعنى إذا أتَوُا البأسَ تملَّقوا وأظهَروا الشفقةَ عليكُم كما يترَفْرفُ الطائرُ ليقَعَ على الشيء، وإذا حصَلوا في الخوفِ نظَروا إليك نَظَرَ المَغْشيِّ عليه من الموت لتذبّوا عنهم، ثُمَّ إذ حصَلَتْ قِسمةُ الغنائم نَقلوا ذلك التملُّقَ إلى القولِ الغليظِ طالبين المَال، ونَسُوْا تلك الحالةَ، وإليه الإشارةُ بقولِه: ((نقلوا ذلك الشُّحَّ)) إلى آخرِه. قولُه: (وخَوَراً)، أي: رخاوة، الأساس: ومنَ المجازِ: رجلٌ خَوَّارٌ جَبان. قولُه: (ضربوكم بألسنتهم)، هو بمعنى {سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ}. قال الزجاج: معنى {سَلَقُوكُم}: خاطَبوكم أشدَّ مخاطبة وأبلغَها في الغنيمةِ، يقال: خطيبٌ مِسلاقٌ وسَلاّقٌ؛ إذا كان بليغًا في خُطْبتِه.

وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم، وبنا نصرتم عليه. ونصب (أَشِحَّةً) على الحال، أو على الذمّ. وقرئ: (أشحة) بالرفع، و (صلقوكم) بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا، ولكنه تعليم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره؛ وهو الإيمان الصحيح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ونُصِبَ {أَشِحَّةً} على الحال)، قال أبو البقاء: {أَشِحَّةً} الأولى حالٌ من الضميرِ في {وَلَا يَاتُونَ}، والثاني من الضميرِ المرفوعِ في {سَلَقُوكُم}. وقال مكِّي: الصحيحُ أنَّ {أَشِحَّةً}، و {وَلَا يَاتُونَ} حالٌ من الضميرِ في {وَاَلْقَائِلِينَ}، وكذلك إنْ جَعَلْتَهما جميعًا حالَيْن من المُضْمَرِ في {وَاَلْقَائِلِينَ} ويجوزُ نَصْبُه على الذمِّ. وقيل: {يَنظُرُونَ} حالٌ من الضميرِ في {رَأَيْتَهُمْ}، و {تَدُورُ} حالٌ من الضميرِ في ((ينظرون كالذي)) أي: دورانًا كدَورانِ عينِ الذي، ويجوزُ أن يكونَ الكافُ حالاً من أعيُنهِم أي مُشْبِهةً عينَ الذي. قولُه: (و ((صَلَقوكم)) بالصاد، وأنشد صاحبُ ((المطلع)): فصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقةً ... وصُداءٍ ألحَقَتْهُم بالثَّلَل الثَّلَل: الهلاكُ. والصَّلْقةُ: الصّدْمَة أيضًا والواقعة المنكرة. قولُه: (وفيه بَعْثٌ على إتقان المكلَّفِ أساسَ أمرِه)، يريدُ أنّ إحباطَ العملِ إنما يُتَصَّوُر

وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباًء منثورًا. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً) وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف. (يَحْسَبُونَ) أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا وُجِدَ هناك عَملٌ والمنافِقُ لا عَمَلَ له حتى يُحْبَطَ، لكنَّ ورودَ هذا الأسلوبِ على التعريضِ بمَنْ له عَملٌ والحثِّ له على الاحتياطِ والإتقانِ فيه لئلاّ يؤولَ إلى الإحباطِ كقولهِ تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فُصِّلت: 6 - 7]، وليسَ من المشركين مَنْ يُزَكّي، ولكنْ حَثَّ المؤمنينَ على أدائِها لأنّ المنْعَ مِن صفةِ المُشركين فلا يَنْبغي للمؤمنِ أن يتَّصفَ به. ومسألةُ الإحباطِ سَبَق في أولِ ((البقرة))، قال القاضي: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}: فأظهَر بطلانَها إذ لم تَثْبُتْ لهم أعمالٌ فتَبْطل، أو أبطَل صنيعَهم ونِفاقَهم. قولُه: (معناهُ: أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بالإحباط تدعو إليه الدواعي)، يريدُ أنّ قولهُ تعالى: {كَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} كنايةٌ عن هذا المعنى، كما أنّ الناسَ إذا عَقَدوا هِمَمَهم على حصولِ أمرٍ بَعيدِ المَنالِ واهتَمُّوا به قيل لهم تَسلّيًا: وما ذلك على الله بعزيز. قال القاضي: {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} هيّناً لتعلُّقِ الإرادةِ به وعَدَمِ ما يَمْنَعُه عنه. وقال صاحبُ ((التقريب)): لا يخافُ اعتراضًا عليه. قولُه: (فانصرَفوا عن الخندقِ إلى المدينة راجعين)، ليس في ((المعالم)) ولا في

المفرط. (وَإِنْ يَاتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية -تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة- أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب (يَسْئَلُونَ) كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم، (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة. وقرئ: (بدّى) على فعّل جمع باد، كغاٍز وغزّى. وفي رواية صاحب "الإقليد": (بديا)، بوزن: عدىّ. و (يساءلون)، أى: يتساءلون. ومعناه: يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو: يتساءلون الأعراب، كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((الوسيط)) هذا. لعلّ ذلك نشَأَ له من فِعْل الحُسْبانِ؛ إذْ لو لم يَغيبوا عن الخندق لم يَحْسِبوا ذلك، وهو ضعيف. قولُه: (مِمّا مُنوا)، أي: ابتُلوا، الجوهري: مَنْوتُه ومَنْيتُه؛ إذا ابتلَيْتَه. قولُه: (ولم يرجِعوا إلى المدينة)، أي: منَ الخندقِ إلى المدينةِ، يدلّ عليه قولُه: ((فانصرَفوا من الخندقِ إلى المدينة)). قولُه: (تَعِلّة)، الجوهري: عَلَّلَه بالشيءِ، أي: ألهاهُ كما يُعَلَّلُ الصبيُّ بشيءٍ من الطعام يَتجزّأ به عن اللبن. النهاية: ومنه حديثُ أبي حَثْمةَ يصِفُ التَّمْر: ((تَعِلّةُ الصبي)) أي: ما يُعلَّلُ به الصبيُّ ليسكت. قولُه: (وقُرِئ: ((بُدًّى)))، قال ابن جِنّي: وهيَ قراءةُ ابنِ عَبّاس: ((بُدّى)) شديدة الدالِ مُنَوَّنةٌ، جَمْعُ بادٍ، كغُزّى جَمْعُ غازٍ، على فُعَّلٍ، ولو كان على فَعَّالٍ لكانَ بُدّاءً وغُزّاءً، ككتابٍ وكُتَّابٍ، وضارِبٍ وضُرَّاب. قولُه: (كما تقولُ: رأيتُ الهلالَ وتَراءَيْناه)، يريدُ أنَّ ((يتساءلون)) بمعنى: يَسْألون، قال: سمِعْتُ العربَ تقولُ: تباصَرْتُه، أي: أبصَرْتُه.

[(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)] 21 [ كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه. فإن قلت: فما حقيقة قوله: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وقرئ: (أسوة) بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أى: قدوة، وهو الموتسى به، أى: المقتدى به، كما تقول: في البيضة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فتُؤازِروه)، النهاية: يقال: آزَرَه وأَزَّره: إذا أعانَه وأسْعَده، من الأَزْرِ: القُوَّةِ والشِّدة. قولُه: (وفي مَرْحى الحرْب)، النهاية: قال سُليمان بن صُرَد: ((أتيتُ عَلِيًّا حين فرغَ مِنْ مَرْحى الحرب)). المرحى: الذي دارَتْ عليهِ رحى الحرب، يقال: رحَيْتُ الحرْبَ ورَحْوُتها إذا أدَرْتَها. قوله: (وقُرئ: {أُسْوَةٌ} بالضمِّ) عاصمٌ، والباقونَ: بالكَسْر. المُغْرِب: يُقالُ: آسَيْتُه بما لي؛ أي: جَعلْتُه أُسْوةً أقتدي به ويَقْتدي هُو بي، وواسَيْتُ: لغةٌ ضعيفة، وإليه الإشارةُ بقولِه: ((كانَ عليكمُ أن تُواسوا الله بأنفُسِكم كما آساكُم بنَفْسِه في الصبرِ على الجهاد)). قولُه: (أنّه في نفسِه أُسْوَةٌ حَسَنة)، أي: أنّه من بابِ التجريدِ، جُرِّدَ مِنْ نَفسِه الزكيةِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ قُدوةً، وهي هو. وأنشد أبو عليّ:

عشرون منا حديٍد، أى: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع؛ وهي المواساة بنفسه. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله) بدل من (لكم)، كقوله: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)] الأعراف: 75 [، (يرجو الله واليوم الآخر): من قولك: رجوت زيدًا وفضله، أى: فضل زيد، أو: يرجو أيام الله واليوم الآخر خصوصًا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف، (وَذَكَرَ الله كَثِيراً): وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفاءت بنو مروانَ ظُلْمًا دِماءَنا ... وفي الله إن لم يحكموا حكَمٌ عَدْلُ قال ابنُ جِنّي: وهو تعالى أعرَفُ المعارفِ، وقد سَمّاهُ الشاعرُ حكَمًا عَدْلاً، وأخرجَ اللفظَ مُخْرَجَ التنكيرِ والمآلُ إلى معنى التعريف، ومنه قولك: لئِنْ لقِيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لتلقَيَنَّ منه رجلاً مُتناهيًا في الخيرِ ورسولاً جامعًا لسُبُلِ الفَضْلِ، فقد آلَتْ به الحالُ إلى معنى التجريد. قولُه: ({لِّمَن كَانَ يَرْجُو} بدَلٌ من {لَكُمْ}) قال أبو البقاء: منعَ منه الأكثرون، لأنّ ضميرَ المُخاطَبِ لا يُبدَلُ منه، فعلى هذا يجوزُ أن يَتَعلَّقَ بـ {حَسَنَةٌ} أو يكونَ نعتًا لها، ولا يَتَعلَّقُ بـ {أُسْوَةٌ}، لأنّها قد وُصِفَت. قال صاحب ((التقريب)): {لِّمَن} بدَلٌ مِن {لَكُمْ} بَدَلَ بعضٍ أو اشتمالٍ، إذِ المُظْهَرُ لا يُبدَلُ من المُخاطَبِ بدَلَ الكلّ. قولُه: ({يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} من قولك: رَجوْتُ زيدًا وفَضْلَه)، أي: هو من بابِ: أعجَبني زيدٌ وكَرُمه، على تقديرِ: يرجو اللهَ وثوابَه، فوُضِعَ اليومُ الآخِرُ مَوْضِعَه، لأنّ ثوابَ الله يَقعُ فيه، وهو من إطلاقِ اسمِ المحلِّ على الحالِّ، وعليه قولُه تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أي: في الجنّة. والوجهُ الثاني: من بابِ عَطْفِ العامِّ على الخاصّ. قال صاحب ((الفرائد)): يُمكنُ أن يكونَ التقديرُ: يرجو رحْمةَ الله تعالى أو رِضا الله وثوابَ اليومِ الآخر.

والمؤتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك. [(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً)] 22 [ وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه، ويستنصروه في قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)] البقرة: 214 [فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ)، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعًا أو عشرًا، أى: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء. (إِيماناً) بالله وبمواعيده (وَتَسْلِيماً) لقضاياه وأقداره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والمُؤْتسي)، هو المبتدأُ، والخبرُ ((مَنْ كان كذلك))، والجملةُ معطوفةٌ على جملة: ((قَرَنَ الرجاءَ بالطاعاتِ الكثيرةِ))، المعنى: مَنْ كان مُقْتديًا بسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومُقْتفيًا آثارَه يَنْبغي أن يخافَ اليومَ ويتوفَّرَ منَ الأعمالِ الصالحة. قولُه: (وعدَهم اللهُ أن يُزَلْزَلوا حتى يَسْتغيثوه)، تفسيرٌ لقولِه تعالى {لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]. قال الزجّاج: الوعْدُ في قولِه: {وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وهو قولُه تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. ولمّا ابتُلِيَ أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وزُلْزِلوا زلزالاً شديدًا علِموا أنّ الجنّة والنصرَ قد وَجبا لهم. قولُه: (وشُخِصَ بهم)، الأساس: ومِنَ المجازِ: شُخِصَ بفُلانٍ: إذا ورَدَ عليه أمرٌ أقْلَقه. قولُه: ({إيمَانًا} بالله)، مفعولٌ له، أي: قالوا هذا مُشيرينَ إلى الخَطْبِ أو البلاءِ إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائِه وَقَدرِه.

[(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ الله قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَاسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)] 23 - 27 [ نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى الله عنهم، (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعنى حمزة ومصعبًا، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث: «من أحب أن ينظر إلى شهيٍد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة». فإن قلت: ما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (نَذَر رجالُ من الصحابةِ أنّهم إذا لَقُوا حَربًا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثَبَتوا وقاتلوا)، روَيْنا عن البُخاريِّ ومُسلِمٍ والتِّرمذِّي عن أنسٍ: قال عمِّي أنسُ بنُ النَّصْرِ- سُمِّيتُ به، لم يشهَدْ بدرًا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكَبُرَ عليه- فقال: أوّلُ مشهدٍ شَهِدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسولِ صلى الله عليه وسلم بعْدُ ليرَيَنَّ اللهُ ما أصنَعُ. قال: فهابَ أن يقولَ غيرَها، فشهِدَ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوْمَ أحُدٍ منَ القابلِ، فاستقبَلَه سعْدُ بن مُعاذ فقال له أَنسٌ: يا أبا عَمْروٍ، أيْنَ؟ ثم قال: واهاَ لريحِ الجنَّة أجِدُها دونَ أحُد، فقاتلَ حتّى قُتِل، فوُجِدَ في جَسَدِه بِضْعٌ وثمانونَ؛ مِنْ ضَربةٍ وطَعْنةٍ ورَمْيةٍ. قالت عَمَّتي الرُّبَيِّعُ بنتُ النَّضْر: فما عرفْتُ أخي إلا ببَنانِه، ونزلَتْ هذه الآيةُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} [الأحزاب: 23].

قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حى لا بدّ له من أن يموت، فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أى: نذره. وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يحتمل موته شهيدًا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله: (صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ)؟ قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني؛ إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: "صدقنى سنّ بكره" فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل؛ فلا يخلو (ما عاهَدُوا الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويحتَمِلُ وفاءَه بنَذْرهِ منَ الثباتِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فيه حَزازة، لأنّه لما أجابَ عن معنى قَضاءِ النَّحْبِ بأنّه كِنايةٌ عن الموتِ لم يحسُنْ هذا التقسيم. الراغب: النَّحْبُ: النَّذْرُ المحكومُ بوجوبه، يُقال: قضى فلانٌ نَحْبَه؛ أي: وَفّى بنَذْرهِ قال تعالى {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} [الأحزاب: 23]، ويُعَبَّرُ به عَمَّنْ مات كقَوْلِهم: قضى أجلَه، واستَوْفى أُكْلَه، وقَضى من الدنيا حاجتَه. والنحيبُ: البكاءُ الذي معه الصوت. قولُه: ((استَوْفى أُكْلَه)): كنايةٌ عن انقضاءِ الأجلِ، والأُكْلُ: اسمٌ لما يُؤكَلُ، بضَمِّ الكافِ وسُكونِه، ويُعَبَّرُ به عن النصيبِ، يقال: فُلانٌ ذو أُكلٍ من الدنيا. قولُه: (صَدَقَني سِنَّ بَكْرِه)، قال الميداني: البَكْرُ: الفتيُّ من الإبلِ، يُقال: صدَقْتُه الحديثَ وفي الحديث، يُضْرَبُ مثلاً في الصدق. وأصْلُه: أنّ رجلاً ساومَ رجُلاً في بَكْرٍ فقال: ما سِنُّة؟ فقال صاحبُه: بازِلٌ، ثم نَفَر البَكْرَ له صاحبه: هِدَعْ هِدَعْ، وهذه لفظةٌ تُسَكَّنُ بها الصِّغار من الإبلِ، فقال المُشتري: صَدقني سِنَّ بَكْرِهِ، ونُصِبَ على معنى: عَرَّفَني سِنَّ بكره ويجوزُ أن يُقالَ: صَدَقَني خَبَرَ سِنٍّ، ثم حَذفَ المُضافَ، ويُروي: ((صَدَقني سِنُّ)) بالرفعِ،

عَلَيْهِ) إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقًا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به؛ فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، ولكان مكذوبًا، (وَما بَدَّلُوا) العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحٍد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة»، وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جَعل الصِّدْقَ للسنِّ توسّعًا، وعليه قولُ المصنِّف: ((أن يُجْعلَ المُعاهَدُ عليه مَصْدوقًا على المجاز)). قولُه: (أوجَبَ طلحة)، النهاية: في الحديثِ: مَنْ فعلَ كذا وكذا فقَد أوْجَبَ، يُقال: أوجَبَ الرجلُ: إذا الرجلُ: إذا فَعل فِعْلاً أوجَبَ له الجنّةَ أو النار. قولُه: (وفيه تَعْريضٌ بمَنْ بَدّلوا من أهلِ النفاق)، أيْ: في قولِه تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، كأنّه قيلَ: من المؤمنينَ رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا عليه وما بَدَّلوا تبديلاً ليَجْزِيَهم الله بصِدْقِهم، ومن المنافقينَ رجالٌ كذَبوا ما عاهدوا الله وبَدّلوا تبديلاً ليُعذِّبَهم، فوضَعَ موضِعَ الضميرَيْن المُظْهَرَيْن؛ للإيذانِ بأنّ استحقاقَ كلٍّ بسَببِ عَمَلِه، فاللامُ المُقدَّرُ في ((ليُعَذّبَهم)) مَجازٌ للعاقبة، وهاهُنا طريقٌ أسْهَلُ مأخذًا، وأبْعَدُ من التعسُّفِ، وأقربُ إلى المقصود وهو أن تُعَلَّقَ اللامُ بمعنى قوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}، كأنه قيلَ: إنّما ابتلاهُم اللهُ برؤيةِ ذلك الخَطْبِ المشارِ إليه ((بهذا)) - كما قال: (({هَذَا} إشارةٌ إلى الخَطْبِ أو إلى البلاءِ)) - ليَجْزِيَ الصادقينَ بصِدْقِهم ما لا يدخُلُ تحْتَ الوَصْفِ والعَدِّ، ويُعَذِّبَ المُنافقين، كما سَبق مِثْلُه في قولِه تعالى:

ومرض القلوب؛ جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم؛ لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم (إِنْ شاءَ) إذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا تابوا، (وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا) الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) مغيظين، كقوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)] المؤمنون: 20 [. (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب، ويجوز أن تكون الثانية بيانًا للأولى أو استئنافًا، (وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ) ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب، (مِنْ صَياصِيهِمْ): من حصونهم. والصيصية: ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى: صيصية، ولشوكة الديك؛ وهي مخلبه التي في ساقه؛ لأنه يتحصن بها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 8] قال: (({وَأَعَدَّ} عَطْفٌ على {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ}؛ لأنّ المعنى: أنّ اللهَ أكّد على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينهِ لأجلِ إثابةِ المُؤمنين وأعَدَّ للكافرين .... )). وفي كلامِ أبي البَقاء إشعارٌ بهذا حيث قال: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ} يجوزُ أن تكونَ لامُ العاقبة، وأن تَتعلَّقَ بـ {صَدَقُوا} أو بـ {زَادَهُمْ} أو بـ {مَا بَدَّلُوا}. وعلى الزجَّاج بـ {صَدَقُوا}. قولُه: (بتداخُلٍ أو تعاقُب)، التداخلُ: أن يُعْمِلَ الحالَ الأولى في الثانية ويكونُ الحالانِ لشَيْئين لفظًا، والتعاقُبُ: أن يكونا لشيءٍ واحد. قولُه: ({كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالريحِ والملائكة)، الراغب: الكفايةُ: ما فيه سَدُّ الخَلَّةِ وبلوغُ المرادِ في الأمرِ، والكُفْيةُ من القُوت: ما فيه كِفاية.

روي أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال: "ما هذا يا جبريل؟ " فقال: من متابعة قريش. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالسير إلى بنى قريظة، وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة، فأذن في الناس: أن "من كان سامعًا مطيعًا فلا يصل العصر إلا في بنى قريظة"، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمسًا وعشرين ليلةً حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنزلون على حكمى؟ " فأبوا، فقال: "على حكم سعد بن معاذ؟ " فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ورُويَ أنّ جِبريل أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)، الحديث مِنْ روايةِ البُخاريِّ ومُسلمٍ عن عائشةَ رضيَ الله عنها: فلما رَجَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منَ الخندقِ ووضعَ السِّلاحَ واغتَسل، أتاه جبريلُ عليه السلامُ وهو ينفُضُ رأسَه من الغُبار فقال: ((قد وضَعْتَ السلاحَ! والله ما وضَعْتُه، اخرُجْ إليهم)). فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فأين؟ )) فأشارَ إلى بَني قُريظَةَ فأتاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حُكْمه، فَردَّ الحُكْمَ إلى سعدٍ. قال: فإني أحكُمُ فيهم أن تُقْتَلَ المُقاتِلةُ وتُسبي النساءُ والذُّريّةُ وأن يُغْنَم أموالهُم))، وزادَ في رواية: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد حَكَمْتَ فيهم بحُكْمِ الله))، وفي رواية: ((بحُكْمِ المَلِك)).

سبعة أرقعة»، ثم استزلهم، وخندق في سوق المدينة خندقًا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمان مئة إلى تسع مئة، وقيل: كانوا ست مئة مقاتٍل وسبعمئة أسير. وقرئ: (الرعب) بسكون العين وضمها. و (تأسرون) بضم السين. وروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: "إنكم في منازلكم"، وقال عمر رضى الله عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: "لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس"، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) عن الحسن رضى الله عنه: فارس والروم. وعن قتادة رضى الله عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضي الله عنه: هي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سَبْعةِ أرْقِعَة)، جاءَ على لفظِ التذكيرِ كأنه ذهبَ إلى السقف. النهاية: يعني سَبْعَ سماواتٍ، كلُّ سماءٍ يُقال لها: رَقيع، والجَمْعُ أرْقِعَة، ويقال: الرقيعُ: اسمُ سماءِ الدنيا، فأُعْطيَ كلُّ سماءٍ اسْمَها. قولُه: (خَنْدَقَ)، أي: حَفَرَ. قولُه: (من ثمانِ مئة إلى تسعِ مئة)، أي: هم كائنونَ من بين ثمان مئةِ رأسٍ إلى منتهى تسع مئةٍ، لا ينقُصون مِن ذلك، ولا يزيدونَ على هذا. قولُه: (وقُرِئ: {الرُّعْبَ} بسكونِ العَيْنِ وضَمِّها)، بالضمِّ: ابنُ عامرِ والكِسائيُّ، والباقون: بالسكون. قولُه: (فقالَ الأنصارُ في ذلك)، أي: في شأنِه وأمْرِه.

خيبر. وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)] 28 - 29 [ أردن شيئًا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة، وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، فبدأ بعائشة رضى الله عنها، وكانت أحبهنّ إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك؛ فأنزل: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ)] الأحزاب: 52 [. روى: أنه قال لعائشة: "إنى ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك"، ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ؟ ! فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وروى: أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: "إنما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فشكَر لهنَّ الله)، أي: حَمِدَ اللهُ على اختيارِهن الرسولَ صلى الله عليه وسلم، ووعَدَ لُهنَّ تَضْعيفَ الأجْرِ والرزقِ الكريم. قولُه: (رُويَ أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((إنّي ذاكرٌ لك أمرًا)))، الحديث، أخرجَه البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه عنها مع تغييرٍ يسيرٍ في اللَّفظ. قولُه: (ورُوِيَ أنها قالت: لا تُخبر أزواجَك)، هذه الروايةُ في ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل)) زائدةٌ على الحديثِ الأوّلِ ومُتَّصلةٌ به، قالت: وأسأَلُك أنْ لا تذكُر لامرأةٍ من نسائِك

بعثني الله مبلغًا ولم يبعثني متعنتًا". فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لا بد من ذكر النفس في قول الخير أو المخيرة؛ وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي رحمه الله اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية، وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها؛ لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى الله عنها: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقًا. وروى: أفكان طلاقا؟ وعن علىّ رضى الله عنه: إذا اختارت زوجها: فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها: فواحدة بائنة. وروى عنه أيضًا: أنها إن اختارت زوجها فليس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما اختَرْت، فقال: ((إنّ الله لم يبعَثْني مُعنِّفًا، ولكنْ بعَثَني مُعلِّمًا مُيسِّراً، لا تسألنَّ امرأةٌ عما اختَرْتِ إلا أخبرتُها)). أوقَعَ ((مُتعنِّتاً)) مقابِلاً لقولِه: ((مُبلِّغاً))، فيجبُ التطابقُ بينهما من جهةِ التضاد. والتعنُّتُ: تَفعُّلٌ من العَنَتِ، أي: الفسادِ والمشقَّة والهلاكِ والإثْمِ والخطأ. والتفعُّلُ والاستفعالُ يَلْتقيانِ في مواضعَ، يُقال: تعجَّلْتُه وتقصَّيْتُه واستقصَيْته، والنبيُّ ما بُعِثَ لطلبِ ذلك وإنَّما بُعِثَ لزَفْعِها وإزالتِها. المُغِرب: أعْنتَه إعناتًا: أوقَعَه في العَنَتِ فيما شقَّ عليه، ومنه: تَعنَّتَه في السؤالِ إذا سأله على جهةِ التلبيسِ عليه، والتلبيسُ ممّا يُنافي الإبلاغ. قولُه: (إذا اختارَتْ زوجَها فواحدةٌ رجْعِيةٌ وإن اختارَتْ نَفْسَها فواحدةٌ بائنة)، قال القاضي: تعليقُ التسريحِ بإرادتِهنَّ الدنيا وجَعْلُها قسيمًا لإرادتِهنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أن

بشيء. أصل "تعال": أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى "تعالين": أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ، كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب يكلمني، وقام يهددنى. (أُمَتِّعْكُنَّ): أعطكنّ متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة. وعن الزهري: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية: حق على المتقين: من طلق بعد ما يفرض ويدخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة، فقال: متعها إن كنت من المتقين، ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير: المتعة حق مفروض. وعن الحسن: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة. والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتدار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: (أمتعكنّ وأسرحكنّ) بالرفع؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المُخَيَّرَة إذا اختارَتِ الزوجَ لم تطلُقْ خِلافًا لزيدٍ والحسنِ ومالكٍ وإحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه، يؤيِّدُه قولُ عائشةَ رضيَ الله عنها: خَيَّرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاختَرْناه، ولم يَعُدَّه طلاقًا. وتقديمُ التمتيع على التسريحِ المسبَّبِ عنه من الكَرَمِ وحُسْنِ الخلق. قولُه: (المُطلَّقةُ التي لم يُدْخَلْ بها ولم يُفْرَضْ لها في العَقْدِ مُتْعتُها واجبةٌ عند أبي حنيفة)، قال القاضي: ليس في الكلام ما يدلُّ عليه. قولُه: (وعن الزُّهْريِّ مُتْعتان)، هما مبنيتان على ما في ((البقرة)) مِنْ قَوْلِه {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] بعد قوله {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ

وجهه الاستئناف (سَراحاً جَمِيلًا) من غير ضراٍر طلاقًا بالسنة. (مِنْكُنَّ) للبيان لا للتبعيض. [(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)] 30 - 31 [ الفاحشة: السيئة البليغة في القبح، وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهر فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنّ، وطلبهن منه ما يشق عليه، أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله. وقيل: الزنا، والله عاصم رسوله من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهنّ؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحٍد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابًا يتبع كون الفعل قبيحًا، فمتى ازداد قبحًا ازداد عقابه شدّة؛ ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح؛ ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد، حتى إن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً) إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئًا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب؟ فكان داعيًا إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارٍف عنه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]، قال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري: المتعةُ واجبةٌ لكل مُطَلَّقة وفَرَّقَ هاهنا بين الواجبَيْن بأن قال في الأول: ((يقضي به السلطان))، أي: يُجبِرُ عليه، وفي الثاني: ((حَقٌّ على المتَّقين))، وأتْبَع ذلك حُكْمَ شُرَيْحٍ: ((مَتِّعْها))، ولم يُجبره.

قرئ: (يأت) بالتاء والياء، (مبينة) بفتح الياء وكسرها؛ من بين بمعنى تبين، (يضاعف) و (يضعف) على البناء للمفعول، و (يضاعف)، و (نضعف) بالياء والنون. وقرئ: (تقنت) (وتعمل) بالتاء والياء. و (نؤتها) بالياء والنون. والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف أجرهنّ؛ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة، وتوفرهنّ على عبادة الله، والتقوى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرئ: {يَاتِ} بالتاء والياء)، بالياءِ التحتانية: سَبْعة، والتاء: شاذة. قولُه: ({مُّبَيِّنَةٍ}، بفتحِ الياءِ)، ابنُ كثيرٍ وأبو بكرٍ، والباقون: بكَسْرِها. قولُه: ({يُضَاعَفْ} و ((يُضَعَّفْ)))، ابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ: بالنون وكسر العين وتشديدها من غير ألف، ((العذابَ)) بالنَّصْب، والباقون: بفَتْحِ العين ورَفْع ((العذاب))، وشَدَّد أبو عَمْروٍ العينَ وحذفَ الألفَ قبلها، وخَفَّفها الباقون وأثبتوا الألف. قولُه: (وقرئ: {يَقْنُتْ} {وَتَعْمَلْ})، بالياءِ التحتانية: السبعة، وبالتاءِ: شاذّة، ((ويعمل صالحًا يؤتها)) بالياء التحتانية فيهما: حمزة والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية في الأول، وبالنون في الثاني. قولُه: (إنّما ضوعف أجرُهُنّ لطلبهنّ)، ولو عَلّل بما علّل به قولَه: {مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب: 30] من نحوِ قوله: لأنّ زيادةَ قُبْح المعصية مع زيادةِ الفضلِ والمرتبة، بأن يقول: كما أن العذاب لأجلِ زيادةِ الفضل، وزيادة النعمة من كونهنّ نساءَ خير البَرِيّة، كذلك مضاعفة العذاب لأجلِ ذلك؛ كان أحسَن وأشدّ التئامًا مع قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ}

[(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا)] 32 [ "أحد" في الأصل بمعنى وحٍد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ): لستن كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعةً جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله عز وجل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (تُقُصِّيَت)، أي: استُقصِيَت وتُتبِّعَتُ، والتقصِّي: الاستقصاءُ وهو بلوغُ الأقصى. قولُه: (أي: إذا تُقُصِّيَت أمةُ النساء جماعةً جماعةً، لم توجَدْ منهن جماعةٌ واحدةٌ تُساويكنَّ في الفضل)، الانتصاف: أراد المطابقةَ بين المتفاضلَيِن، فإنّ نساءَ النبيِّ جماعة، وقد كان مُستغنيًا بحملِ المعنى على الوحدة ويكون أبلغ، أي: ليست واحدةٌ منكنَّ كأحدٍ، أي: كواحدةٍ من آحادِ النساء. ويلزَمُ على ما قال تفضيلُ الجماعةِ على الجماعة، ولا يلزم ذلك في عكسه فتأمله، وجاء التفصيلُ هاهنا كمجيئه في قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} [النحل: 17]، وكقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى} [آل عمران: 36]، وقد مضت فيه نكته، أي: الأصلُ: أفمَنْ لا يخلقُ كمَنْ يخلق، وليس الأنثى كالذكر، وكذا هاهنا: ليسَت إحداكُنَّ نحو أحدٍ من آحادِ النساء. وقلت: لا شكّ أن اسمَ ((ليسَ)) ضميرُ الجماعةِ، وقد حُمِلَ عليه {كَأَحَدٍ}، وبُيِّن بقوله: {مِّنَ النِّسَاءِ}، والتعريفُ فيه للجنس، فوجبَ حَملُ الأحدِ في هذا السياقِ على الجماعة، كما في قولِه تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ولو حُملَ أحدٌ على الواحدِ لزمَ التفصيلُ بحسب الوُحْدان، ويرجع ذلك إلى تفضيلهنَّ عليهن على واحدٍ واحدٍ من النساء، ولا ارتيابَ في بُطلانِه. وأمّا تأويلُه بقولِه: ((ليست واحدةٌ منكنّ)) فخلاف

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)] النساء: 152 [يريد بين جماعةٍ واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ): إن أردتن التقوى، وإن كنتن متقيات. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ): فلا تجبن بقولكن خاضعًا، أي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر، وأمّا قولُه: ((يلزَمُ تفضيلُ الجماعةِ على الجماعة ولا يلزم ذلك في عكسِه)) فجوابه: أنَّ تفضيل كلِّ واحدٍ واحدٍ منهنَّ يعُلَمُ من دليلٍ آخرَ، إما عقليٌّ أو نَصّ، مثل: ((ونساؤه أمهاتكم)) وغيره. الراغب: أحدٌ تُستعملُ على ضربَيْن: أحدُهما: في النفي فقط، وهو لاستغراق جنسِ الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق، نحو: ما في الدار أحد، أي: واحد ولا اثنان فصاعدًا لا مجتمعَيْن ولا مُفترقَيْن، وهذا المعنى لم يصلُح استعمالُه في الإثبات، لأنَّ نفْيَ المُتضادّين يصحُّ ولا يصحُّ إثباتهما، فلو قيل: في الدارِ أحدٌ لكان فيها إثباتٌ واحدٍ منفردٍ مع إثباتِ ما فوق الواحدِ مُجتمعِين ومُتفرِّقين، وذلك ظاهر الإحالة، ولتناولِه ما فوقَ الواحدِ يصحُّ أن يقال: ما من أحد فاضلين كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]. وثانيهما: في الإثبات، وهو على ثلاثةِ أوجه: أحدُها: في الواحدِ المضموم إلى العَشرات نحو أحد عشر. وثانيها: أن يُستعملَ مُضافًا أو مُضافًا إليه، كقوله تعالى {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] وقولهم: يوم الأحد، أي الأول. وثالثها: أن يستعمل مطلقًا وصفًا وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وأصله: وَحَد، لكن وَحَد يُسْتعملُ في غيره. قال النابغة: كأنَّ رحلي وقد زال النهارُ بِنا ... بذي الجليل على مستأنسِ وَحِد قولُه: ({إنِ اتَّقَيْتُنَّ} إن أرَدتُنَّ التقوى)، قال صاحب ((الفرائد)): حَمَلَ الاتقاَءَ على

لينًا خنثًا مثل كلام المربيات والمومسات (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أى: ريبة وفجور. وقرئ: بالجزم؛ عطفًا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول، ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن: أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول؛ أى: فيطمع القول المريب. (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً): بعيدًا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولًا حسنًا مع كونه خشنًا. [(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)] 33 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إرادتِه بطريق المجاز، ومتى أمكن الحقيقة لم يجز الحمل على المجاز، وقد حمله وذكر معه الحقيقة. وقلت: هاهنا تفصيل، وذلك أنّ المخاطَب إما أن يكونُ متقيًا، فيجري الكلام على الحثِّ، كما حكى الله عن مريم تُخاطبُ عليهما السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. روى البخاريُّ عن أبي وائل قال: علِمَت مريمُ أن التقيَّ ذو نُهْيَة حين قالت: {إِن كُنتَ تَقِيًّا}. هذا الطريق هو الذي سلكَه المصنِّفُ لاقتضاء المقام إياه تهييجًا وإلهابًا، وقد نبّه عليه بقوله: ((وإن كُنتُنَّ مُتَّقيات)) على ((إن)) الشرطية، أو تخاطبُ من لم يتَّصف بصفة التقوى وأرادَ الاتصافَ بها، فحينئذ لابد من تقدير الإرادة، والأول أوجه؛ لأن المخاطباتِ مُتَّقياتٌ، والشرطُ كالتعليل. قولُه: (ليّنًا خَنِثًا)، الأساس: خَنِثَ: تكَسّر وتثَنّى. وقد خَنث وتخنّث وخَنّث كلامَه: ليَّنه. قولُه: (المومسِات)، النهاية: المومسة الفاجرة.

(وَقَرْنَ) بكسر القاف، من: وقر يقر وقارًا، أو من: قرّ يقرّ، حذفت الأولى من رائى: أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، و (وقرن): بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب "التبيان" وجهًا آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع، ومنه: القارة؛ لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ والْجاهِلِيَّةِ الْأُولى: هي القديمة التي يقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام؛ كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ((وقِرْنَ) بكَسْرِ القاف)، قرأ نافع وعاصم: بفَتْح القاف، والباقون: بكَسْرِها. قال مكّي: مَنْ قرأ بالكسرِ جَعله من الوقارِ والتوقيرِ في البيوت، نَحْو: عِدْنَ وزِنَّ محذوفَ الفاء، وهو الواو. ويجوز أن يكون من القرار فيكون مُضَعَّفًا. أي: قَرَّ في المكان يَقَرُّ. وأصله: اقرُرْنَ، ثم تُبدلُ من الراءِ التي هي عينُ الفعلِ ياء كراهيةَ التضعيف فتَصيرُ الياءُ مكسورة، فتُلقى حركتُها على القافِ، وتُحذَفُ لسكونها وسكونِ الراءِ، ويُستغنى عن ألفِ الوصل لتحرُّكِ القافِ، فتصير ((قَرْن))، وقيل: بَل حُذِفت الراءُ الأولى كراهةَ التضعيف كما قالوا: ظَلْتُ، والأصلُ: ظَلَلْتُ، وأُلقِيَتْ حركتُها على القافِ فحُذِفَت ألِفُ الوصلِ لتحرّك القافِ أيضًا. ومَنْ قرأ بفَتْحِ القافِ وهي لُغةٌ قليلة حَكاها أبو عُبيدةَ عن الكسائي أنه قال: قَررْتُ في المكان أقرُّ، وأنكَرها المازِنيُّ وغيرُه، ثم جرى الاعتلال على الوجهَيْن المذكورين في الكسر. قولُه: (عَضَلٍ والدَّيْش)، بفتحِ الدالِ وكسْرِها وسكونِ الياء. الجوهري: عضل بن الهون بن خُزَيمةَ أخو الديش وهما القارة، سُمُّوا قارة؛ لاجتماعهم والتفافهم. قولُه: (الجاهلية الجهلاء)، الجوهري: ((الجهلاءُ)) توكيدٌ للأولِ يُشتَق له من اسمِه ما يؤكَّدُ به، كما يقال: ليلةٌ ليلاء وَيوْمٌ أيْوَمُ.

والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر، ويعضده ما روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى الدرداء رضى الله عنه: «إن فيك جاهلية»، قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: «بل جاهلية كفر». أمرهن أمرًا خاصًا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عامًا في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن، وأمرهن، ووعظهن؛ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب الرجس، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ولا تُحْدِثْنَ بالتبرُّج جاهليةً في الإسلام)، قال الزجاج: التبرُّج: إظهارُ ما يُستدعى به شهوة الرجل، والأشبَهُ أن يراد بالجاهلية الأولى مَنْ كان منذ زمنِ عيسى إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم الجاهلية المعروفون، وكانوا يتخذون البغايا الفواجر، وإنما قيل الأولى، لأن كلّ مُتقدمٍ ومُتقدّمةٍ أوّلُ وأُولى؛ أي: إنَّهم تقدموا أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم. قولُه: (إن فيك جاهليةً)، قال أبو ذر: إني كنت سابَبْتُ رجلاً وكانت أُمّه أعجميةً، فَعيَّرتُه بأمِّه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أبا ذَرّ إنك امرؤ فيك جاهلية)) قال: ((إنَّهم إخوانكم فضلكم الله عليهم فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تُعذِّبوا خلق الله))، أخرجَه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذي. النهاية: فيك جاهلية؛ أي: الحالةُ التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنسابِ والتكبُّرِ والتجبُّرِ وغير ذلك. قولُه: (لئلا يُقارِف)، الأساس: فلان يقترِفُ لعياله؛ يكتسبُ، واقترفَ الإثم، وقارفَ، وهو يقترف بكذا؛ يُتَّهم به، وهو مَقْروفٌ به.

وللتقوى الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات. فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. و (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء، أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وفي هذه الاستعارة ما يُنفِّر أولى الألباب عمّا كرهه)، يريد: أن الغَرَضَ من أصل الاستعارة التنفيرُ والترغيب، فإنّ تشبيه الذنب بالرِّجْسِ مما يُتصَوَّرُ في نفسِ ذي اللُّبِّ ما يُوحِشُه ويُنفِّرُ طبعَه كما أن تشبيه التقوى بالطهارة مما يُرغِّبه ويُميلُ طبْعَه إليه. قال ابنُ الرومي في شأن العسل: تقولُ هذا مُجاجُ النحلِ تمدَحُه ... وإن تَعِبْ قُلْتَ ذا قَيءُ الزنابير قال الزجاج: الرجسُ كلُّ مستنكرٍ ومُسْتَقذرٍ من مأكول أو عمل أو فاحشة. قولُه: (وفي هذا دليلٌ بَيِّن على أنّ نساءَ النبي صلى الله عليه وسلم من أهلِ بيته)، يُعَرِّضُ بالشيعة. قال القاضي: وتخصيصُ الشيعة أهلَ البيتِ بفاطمةَ وعليِّ وابنيهما رضي الله عنهم؛ لما رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم خرجَ ذات غُدوةٍ وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعرٍ أسودَ، فجلسَ فأتت فاطمةُ فأدخلَها فيه، ثم جاء علي فأدخَله فيه، ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلهما فيه، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}، والاحتجاجُ بذلك على عِصْمتِهم وكونِ إجماعِهم حُجَّةً ضعيفٌ؛ لأن التخصيصَ بهم لا يناسِبُ ما قبل الآية وما بَعدَها، والحديثُ يقتضي أنّهم أهلُ البيت لا أن ليسَ غيرهم. وقال الزجاج: {أَهْلَ الْبَيْتِ} هنا يدلُّ على الرجالِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنساء لقوله: {عَنكُمُ} بالميم، ودليلُ إدخال النساء قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}. وقلتُ: هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ عن عائشة مع تغيير يسير، ورَوينا عن أم سلمةَ قالت: إن هذه الآيةَ نزلَتْ في بيتِها {نَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت: وأنا جالسةٌ عند البابِ قلت: يا رسولَ الله ألسْتُ من أهلِ البيت؟ فقال: ((إنّك إلى خير، أنت من أزواج رسول الله))، وفي البيتِ رسولُ الله وعليٌّ وفاطمةُ والحسَنُ والحسينُ، فَجلَّلَهم بكساءٍ وقال: ((اللهمَّ هؤلاء أهلُ بَيْتي فأذهِبْ عنهم الرجْسَ وطَهِّرْهم تطهيرًا)) أخرَجه رَزينٌ، وأخرجه الترمذي، ولم يَزِدْ على: ((إنّك إلى خير)). اعلمْ أنّ قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} كالاستئنافِ على سبيلِ التعليل للآياتِ السابقة من لَدُنْ قولهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، وفيها الحثُّ على مكارمِ الأخلاقِ والردعُ عن رذائِلها، فالواجبُ أن تُعَلَّلَ العِلّةُ بما يدل على التخلية والتحلية. ومن ثَمَّ قال: ((استعار للذنوبِ الرجسَ وللتقوى الطُّهر، لأنّ عِرْضَ المقترفِ للمُقَبّحاتِ يتلوّثُ بها كما يتلوّثُ بدنه بالأرْجاسِ، وأما المُحسَّنات فالعِرْضُ معها نقي كالثوب الطاهر))، شرعَ أولاً في التخييرِ بين الحياتَيْن: الدنيوية والأخروية، وفيه: أنّ راسَ الأرجاسِ محبَّةُ الدنيا، كما أنّ أساسَ الدينِ محبَّة الله ومحبَّة رسوله. وثانيًا في تفصيلِ ما يؤدي إليه المحبتان: المحبةُ الدنيوية تؤدِّي إلى الفاحشة، والأخروية تستدعي القنوت لله والطاعة للرسول. وإنما أخَّر {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} لتكون كالخاتمة التي تشتمل على التخلص إلى نوع آخر من الكلام.

[(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ الله وَالْحِكْمَةِ إِنَّ الله كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)] 34 [ ثم ذكرهن أنّ بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات يدل على صدق النبوّة؛ لأنه معجزة بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. (إِنَّ الله كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوّته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته، أو حيث جعل الكلام الواحد جامعًا بين الغرضين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: الخاتمة تذكيرٌ بما أنعَم الله عليهنّ حيثُ جعَلهنَّ أهلَ بيتِ النبوة ومهبطَ الوحي وما شاهَدْنَ من بُرَحائه مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة والإيثار بما كُلِّفْنَ به. قولُه: (أو حيثُ جَعلَ الكلامَ الواحدَ)، عَطْفٌ على قوله: ((حين علِمَ ما ينفعكم))، فـ ((حين)) كـ ((حيث)) في إفادة التعليل، يعني: أن قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} تعليل لقوله: {ايُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}، والمرادُ بالمتلوِّ: القرآن؛ لأنّ المعنى: ما يُتلى من الكتاب الجامع بين أمرين؛ هو آيات بَيِّنات؛ وهو حكمة وعلوم، ونظيرُه قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] قال المصنف: ((يعني: الجامعَ بين كونِه كثابًا مُنزّلاً وفرقانًا)) يعني: التوراة، كقولك: رأيت الليثَ والغيثَ، تريدُ: الرجل الجامع بين الجود والكرم. ثُمَّ التعليلُ: إما راجعٌ إلى نفس المكنيِّ عنه-وهو القرآنُ- من غيرِ اعتبارِ ما كنى به من المعنَيين على نحو قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، يعني: السفينة،

[(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)] 35 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحققنا القول فيه في ((الأنفال))، ويدل على هذا إفرادُ ضميرِ القرآنِ في قوله: ((لأنه معجزة))، وقوله: ((فأنزَلَه عليكم)) وهو لوجهَيْن: أحدهما: أن يكون المُعلَّلُ القرآن، من حيث كونُه نازلاً لمصالحِ الخلق ومنافعِهم وهو المرادُ من قولهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} حين علم ما ينفعُكم ويُصلحُكم من دينكم فأنزله عليكم. وثانيهما: أن يكون مُعلَّلاً من حيثُ كونه نازلاً على حضرةِ الرسالة، وبيوتُهنَّ مهابطُه احترامًا لهن، وإليه الإشارة بقوله ((وعَلِمَ منْ يصلحُ لنبوته ومَنْ يصلح لأن يكون أهلَ بيته)). وإما راجعٌ إليه باعتبار المعنيين، وهو المراد من قولِه: ((أو حيث جَعلَ الكلامَ الواحدَ- أي: القرآنَ- جامعًا بين الغرضَيْن)) أي: بين كونه معجزة وبين كونه مشتملاً على بَيانِ العلمِ والعمل المُعَبَّرِ بهما عن الحكمة، وهذا الوجه أحسَنُ طِباقًا وأجرى على قانونِ البلاغةِ لِما في العلّة والمُعلَّلِ من اللفِّ والنشرِ، فإن قولَه: {لَطِيفًا} نَشْرٌ لقوله: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} المعنيِّ بهما المعجزة، وقولَه: {خَبِيرًا} نشرٌ لقولِه: {وَالْحِكْمَةِ} واللطفُ فيه: أنّ شأنَ الإعجازِ يحتاج إلى لُطفِ إدراكٍ ودقّةِ نَظر كما قال صاحب ((المفتاح)): شأنُ الإعجازِ عَجيبٌ يدرك ولا يُمكنُ وصفه، فناسب صفة اللطف وأن تحقيقَ وضعِ الشرائعِ والأحكامِ يفتقرُ إلى حِكَم بليغة ولا يصل إلى كُنْهِ تلك الحكمة إلا علم العليم الخبير فناسب الخبير الحكمة، نحوه قوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] والله أعلم.

روي: أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة. وقيل: السائلة أم سلمة. وروى: أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، من أسلم وجهه إلى الله. والمؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به. والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر: الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله، ولا يخل بالنوافل. وقيل: من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين. والذاكر الله كثيرًا: من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما، وقراءة القرآن، والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعًا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات»، والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف؛ لأنّ الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أى فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (رُوي أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)، الحديثُ من روايةِ الترمذي عن أم عُمارَة الأنصارية قالت: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ما أرى كلَّ شيءٍ إلا للرجال، وما أرى النساءُ يذكَرْنَ بشيءٍ، فنزلت الآية. قولُه: (من اسيقظ من نومه)، الحديثُ رواه أبو داود وابنُ ماجَه عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة مع تغيير يسير.

قلت: العطف الأوّل نحو قوله تعالى: (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)] التحريم: 5 [في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات (أَعَدَّ الله لَهُمْ). (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)] 36 [ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد الله؛ فنزلت، فقال: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه، وساق عنه إليها مهرها ستين درهمًا وخمارًا وملحفًة ودرعًا وإزارًا وخمسين مدًا من طعام وثلاثين صاعًا من تمر. وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أوّل من هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد قبلت"، وزوّجها زيدًا، فسخطت، هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجنا عبده! والمعنى: وما صح لرجل ولا امرأةٍ من المؤمنين (إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ) أى: رسول الله، أو لأنّ قضاء رسول الله هو قضاء الله (أَمْراً) من الأمور؛ أن يختاروا من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (العطف الأول نحو قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5])، قال صاحب ((التقريب)): عطفُ الإناثِ على الذكور لاختلافهما ذاتًا، وعطفُ الزوجَيْن على الزوجَيْن لاختلافهما صفة. وقلت: لما كان الثاني على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنهما ليسا جنسين مختلفَين كالأولِ قال بحرفِ الجمع ليؤذنَ بأنه مسلوبُ الدَّلالة على المغايرة. قال في قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]: ((ويجوزُ أن يكون الواو بمعنى: مع))، وقد بُيِّن معناه في مقامه. قولُه: (أي: رسول الله)، يريدُ: قضى رسول الله صلى الله عليه، على هذا: ذِكْرُ الله تمهيدٌ للذكْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو أعجبني زيد وكرمُه. وفائدةُ هذه الطريقة قوةُ الاختصاص وأنه

أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجٍل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم، ولكنهما وقعا تحت النفي؛ فعما كل مؤمن ومؤمنة؛ فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ: (يكون) بالتاء والياء. و (الْخِيَرَةُ) ما يتخير. [(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً)] 37 [ (لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ) بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه) بما وفقك الله فيه، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صلوات الله عليه بمنزلةٍ من الله ومكانة، وعلى الثاني: المرادُ بقضاءِ الله نَصُّه وهو القرآنُ المُنزل، وبقضاءِ رسول الله امتثالُ أمرِه. ذكَر الوجهَيْن في أولِ ((الأنفال))، فليُنظَر هناك ليتحقق. قولُه: (فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ)، لم يذكر الفائدةَ في العدول عن الظاهر، ولعل الفائدةَ فيه الإيذانُ بأنه كما لا يصحّ لكل فردٍ من المؤمنين أن يكون لهم الخِيرَةُ، كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويَتَّفِقوا على كلمةٍ واحدة؛ لأن تأثيرَ الجماعة واتفاقَهم أقوى من تأثيرِ الواحد، فجمعَ في الآية المعنَيين معًا. قولُه: (قُرئ: {يَكُونَ} بالتاءِ والياءِ)، وبالتاءِ الفَوْقانية: نافعٌ وابنُ ذَكْوان، والباقون: بالياء.

رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يعنى زينب بنت جحش رضى الله عنها؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال: "سبحان الله مقلب القلوب"؛ وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: "مالك؟ أرابك منها شيء؟ " قال: لا والله؛ ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم علىّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أجد أحدًا أوثق في نفسي منك، اخطب علىّ زينب". قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئًا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن (زَوَّجْناكَها) فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أو لم على امرأةٍ من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار. فإن قلت: ماذا أراد بقوله: (وَاتَّقِ الله)؟ قلت: أراد: واتق الله فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم؛ لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها. وقيل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لأنّ الأولى أن لا يُطَلِّق)، عن أبي داودَ عن مُحاربٍ: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحلَّ الله شيئا أبغض إليه من الطلاق))، وفي روايةٍ أخرى عن ابنِ عُمر عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغَضُ الحلالِ إلى الله الطلاق)).

مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدًا سيطلقها وسينكحها؛ لأن الله قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية. فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته؛ لأن الله يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لو كتمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا)، الحديثُ من روايةِ البخاريِّ والترمذيِّ والنسائي عن أنس قال: جاء زيدُ بن حارثة يشكو، فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتّقِ الله وأمسِك عليك زوجك))، لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا لكتَم هذه الآية. قولُه: (وكان من الهُجْنة)، الأساس: هذا ما يُستهجَنُ وفيه هُجْنة. الجوهري: تهجينُ الأمر تقبيحه. قولُه: (كأنّ الذي أرادَ منه عز وجل أن يصمُت)، فيه اعتزالٌ وسوءُ أدبٍ، بل كان الذي أولى له صلى الله عليه وسلم أن يسكُتَ، وإنْ كان السكوتُ والنُّطق بإرادتِه ومشيئته. قولُه: (والتجاوب في الأحوال)، الأساس: كلامُ فلانٍ متناسبٌ متجاوب، ولا يتجاوب أول كلامِك وآخرُه. قولُه: (مُستَتِبّة)، الأساس: واستتَبَّ الطريق: ذلَّ وانقاد، كما يُقال: طَريقٌ مُعبَّد. واستتَبَّ له الأمر، ويجوز أن يقال للاستقامةِ والتمام: الاستتباب، أي: طلبِ التّباب، من: تَبَّ الرجل: إذا شاخ لأن التبابَ يتبَعُ التمام. الراغب: التبابُ والتبُّ الاستمرارُ في الخسران.

كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلىّ فأقتله، فقال: "إن الأنبياء لا تومض، ظاهرهم وباطنهم واحد". فإن قلت: كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به، ولا يستهجن النبىّ صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: تَبًّا له وتَبَّ له وتَبَبْتهُ إذا قلت له ذلك ولتضمن الاستمرار قيل: استَتَبَّ لفلان كذا أي استمر. قولُه: (كما جاءَ في حديثِ إرادةِ رسول الله صلى الله عليه)، وحديثُه على ما رواه أبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ فتح مكة أمّن رسول الله الناسَ إلا أربعةَ نفرٍ وامرأَتين- فسَمّاهم- وابنُ أبي سَرْح، فذكر الحديث. وأما ابنُ أبي سَرْحٍ فإنه اختبأ عند عُثمان رضي الله تعالى عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى البيعةِ جاءَ به حتى وقفه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، بايعِ عبد الله، فرفع رأسَه فنظر إليه ثلاثًا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابةِ فقال: ((أما كان منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كفَفْتُ يدي عن بَيعتِه فيَقتله فقالوا: مَا ندْري يا رسولَ الله ما في نفسِك ألا ما أوماتَ إلينا بعينك؟ قال: ((لا ينبغي لنبيّ أن يكونَ له خائنة الأعين)). قولُه: (لا تُومضُ)، الأساس: ومنَ المجازِ: أومَضَتْ بعَيْنها سارَقتِ النظر. قال: قُل للهُمامِ وخَيْرُ القولِ أصدَقُه ... والدهرُ يومِضُ بعد الحالِ بالحال هو من قولك: وَمضَ البرقُ وَميضًا ووَمْضًا، وبَرقٌ وامِضٌ، وأوْمضَ إيماضًا: إذا لَمع خَفِيًّا.

وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر؟ ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟ ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيٍء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلمًا إلى حصول واجباٍت يعظم أثرها في الدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقالةُ الناس)، النهاية: وفي الحديثِ: ((وفَشَتِ القالةُ بين الناس)) أي: كثرةُ القولِ وإيقاعُ الخصومة بين الناس بما يُحكى للبعضِ عن البعض. قولُه: (ولم يَعْصِمْ نَبِيَّه)، أي: ومالَهُ لم يعصِم نَبيّه عن تعلق الهُجْنَة به؟ هو عطفٌ على قوله: ((ولم يأمره)). قولُه: (يتحفظ منه)، الأساس: عليكَ بالتحفّظِ من الناسِ وهو التوقِّي. قولُه: (وربما كان الدخول في ذلك المباح سُلّمًا إلى حُصولِ واجباتٍ يَعظُم أثرُها في الدين)، قال بعضُ المحقِّقين: لعلّ السرَّ في طَلاقِ الزوجِ مَرغوبتَه امتحانُ إيمانِه، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتلاءُ بَبليّةِ البشريةِ ومَنْعِه من خائنةِ الأعيُن وإظهارِ ما يخالفُ الإضمارَ وكان ذلك منه في غاية التشديد، ولو كُلِّفَ بذلك آحادُ الناس لما فَتحوا أعيُنهم في الشوارع. قال شيخُنا شيخُ الإسلام أبو حَفْصٍ السُّهْروردي قدّسَ الله سِرَّه- في قولِه صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليُغانُ على قلبي)) -: ((إن روحَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَزْل في الترقِّي إلى مقامِ القربِ مستتبعةً للقلبِ في رُقيِّها إلى مركزِها، وهكذا كان القلب يستتبعُ نَفْسَه الزكيَّة، ولا خفاءَ أنّ حركةَ الروحِ والقلبِ أسرَعُ وأتمُّ من نهضةِ النفسِ وحركتِها، وكانت خُطى النفسِ تقصُر عن مدى الروحِ والقلبِ في العروجِ والولوجِ من حريم القلب ولحوقِها بِها فاقتضت العواطفُ الربانية على الضعفاءِ من الأمةِ إبطاءَ حركةِ القلب بإلقاءِ الغَيْنِ عليه؛ لئلا يُسرعَ ويَسرحَ في معارج الروح ومدارِجها فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فيبقى العبادُ مُهمَلين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرومين من الاستنارةِ بأنوارِ النبوة والاستضاءةِ بمشكاةِ مصباحِ الشريعة، فظهرَ أن الغَيْن كان كمالاً أو تتمَّة كمالٍ لا نقصًا في حاله. قلت- والله أعلم-: إنه سَبقَ أن هذه السورة إلى مختتمها في بيان فضله صلى الله عليه وسلم فسلك في هذه الآيات مسلك أن حاله صلى الله عليه وسلم مباينٌ لأحوالِ غيره وأنه مَظْهرُ رحمةِ الله تعالى على خلقِه، ولا يصدرُ عنه إلا ما يكونُ منطويًا على مصالح جَمَّة، وإن خفي عليه وعلى الناس أمرُه، فنَبّه عليه بقوله أولاً: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، ثم خَصَّ أزوجَه بالتخييرِ، وأنّ شأنه ليسَ كشأنِ سائر الأزواج، ثم فَرّعٍ عليهما قولَه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} تقريرًا وتوكيدًا، ثم جاءَ بتصويرِ حالةٍ من حالاته التي لا يرضى له بعض الناس بحَسْبِ العُرفِ والعادةِ وجَعله سُلّمًا إلى حصول ما يعظم أثره في الدين وهو قوله: {تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}، يعني: كان الواجب عليك إظهار ما أخْطَرْنا في بالِك وأن لا تخشى قالةَ الناسِ كما عليه العُرْفُ والعادة لأن أمرك خلاف أمرِهم وبشريتُك مغمورةٌ في درجاتِ روحانيتك، ومن تقديرنا أن لا يجري عليك إلا ما فيه رحمةٌ للعباد وإليه الإشارة بقَوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} و {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا}؛ ألا ترى كيف عَلّل ذلك برَفْع الحَرجِ عن المؤمنين وعن نفسه الطاهرة بقوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ}، وختمَ ذلك بقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، هذا كلُّه معنى قولِ المصنِّف: ((كان الدخولُ في ذلك سُلّمًا إلى واجباتٍ يعظُمُ أثرُها في الدين)). ويقرُبُ منه ما روى مُحيي السنة أنّ زينَ العابدين عليّ بنَ الحُسين بن علي رضي الله تعالى عنه سأل عليَّ بن زيد بن جُدعان: ما يقولُ الحسَنُ في قوله عز وجل: {تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}؟ قال: يقول: لما قال زيدٌ: يا نبيَّ الله، إني أريدُ أن أطلِّقَ زينبَ، أعجَبَه ذلك وقال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}، فقال زين العابدين: ليس كذلك، كان الله قد أعلمَه أنها ستكونُ من أزواجِه، وأنّ زيدًا سيُطَلِّقَها، فلما قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، عاتبه الله وقال: لم قُلْت: أمسِكْ عليكَ زوْجَك، وقد أعلمتُك أنها

ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلًا وعلمًا ودينًا ونظرًا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها، ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم، ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)] الأحزاب: 53 [، ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا؛ لشق عليهم، ولكان بعض القالة؟ فهذا من ذاك القبيل؛ لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته -من امرأة أو غيرها- غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع؛ لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ستكونُ من أزواجِك؟ وهذا هو الأولى والألْيقُ بحالِ الأنبياءِ فهو مُطابقٌ للتلاوةِ، لأنّ الله تعالى أعلمَ أنه تعالى يُبدي ما أخفاهُ، ولم يُظهر غيرَ تزويجِها فقال: {زَوَّجْنَاكَهَا}، فلو كان الذي أضمَره محبَّتها وإرادةَ طلاقِها؛ لكان يُظهِرُ ذلك، ثم قال في آخرِ كلامه: هذا قول حَسَنٌ مرضي. قولُه: (مرتكزين)، أي: ثابِتين، من: ركزْتُ الرُّمحَ، وكذا غرَزْتُه في الأرض. قولُه: (لا يَريمون): لا يَبْرحون، الجوهري: رامَه يَريمه رَيْمًا، أي: بَرَحَه. قولُه: (ولا طَلَبٍ إليه)، النهاية: ومنه حديثُ نُقادةَ الأسدي قلت: يا رسول الله اطلُبْ إليّ طَلِبةً فإني أحبُّ أن أُطْلِبَكَها. الطَّلِبةُ: الحاجةُ، والاطّلابُ: إنجازُها وقضاؤها. يُقال: طلبَ إلي فأطْلَبتُه، أي: أسعَفْتُه بما طلب. والضميرُ في ((مِنْه)) لزيد، و ((منْ)) صلة،

قوة العلم بأن نفس زيٍد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها، ولم يكن مستنكرًا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنًا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر؛ فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدةٌ ولا مضرّة بزيٍد ولا بأحد، بل كان مستجرًا مصالح -ناهيك بواحدة منها: أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة، ونالت الشرف، وعادت أما من أمّهات المسلمين-، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً)، فبالحرى أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه. بقوله: (أَمْسِكْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و((مِن)) الثانية هي التي تستعمل مع ((أفعل))، و ((أن يُواسيه)) مفعولُ ((طلب)). ((وهو أقربُ منه من زِرِّ قميصه)) جملةٌ معترضة، والجملةُ كنايةٌ عن رضاه على المبالغة. قولُه: (آسَتْهُم الأنصار)، من المواساة، وروي: ((اسْتَهَمَ)) أي: اقترع. قولُه: (أن بنتَ عَمّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم)، زينبُ بنت جحش، أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، لم تكن امرأةٌ خيرًا من زينب في الدين، وأتقى لله، وأصدقَ حديثًا، وأوصَل للرحم، وأعظَم صدقةً، وأشدَّ تبذُّلاً لنفسها في العملِ الذي يُتصَدَّقُ به ويتقرب إلى الله تعالى. قولُه: (أمِنَت الأَيْمةَ)، أي: أمِنَتْ من أن تَصير أَيِّمةً. قولُه: (إلى ما ذكر الله)، متعلِّق بقولِه ((مُسْتَجِرًّا))، وقولُه: ((ناهيك)) إلى قوله: ((أمهات المؤمنين)) معترضةٌ، و ((منها)) صفةٌ لـ ((واحدة)) و ((أن بنتَ عمةِ رسول الله)) بدَلٌ من ((واحدة)). قولُه: (فبالَحرى أن يُعاتِبَ اللهُ رسولَه حين كتمه)، جواب ((إذا))، وهو تلخيصُ الجوابِ

عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله)، وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات في مواطن الحق؛ حتى يقتدى به المؤمنون؛ فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرًا. فإن قلت: الواو في (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ)، (وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ) ما هي؟ قلت: واو الحال، أى: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيًا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس، حقيقًا في ذلك بأن تخشى الله؛ أو واو العطف، كأنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن قولِه: ((كيف عاتَبه الله في سَتْرِ ما استُهْجِنَ التصريحُ به؟ ))، وقولُه: ((كَمْ من شيء يتَحفَّظُ منه الإنسان)) إلى آخره، توطئةٌ للجواب على وجه كلِّي، وقولُه: ((وتناولُ المباحِ بالطريقِ الشرعيِّ ليس بقبيح)) إلحاقٌ لهذه الصورة المخصوصة بذلك، بدليل قوله: ((وهو خِطبةُ زينب))، وقولُه: ((لأَنّ طموحَ قلبِ الإنسانِ)) إلى قوله: ((غيرُ موصوفٍ بالقبحِ لا بالعقلِ ولا في الشرعِ))، وقولُه: ((لذا كان مباحًا)) إثباتٌ للحكمِ المستلزمِ للمقصودِ في الجواب، وهو قوله: ((فبالحرى أن يعاتبَ الله رسولَه حين كتمه)). هذا تقريرٌ متين، لكنّ قولَه: ((فلا يستحيوا من المكافحةِ بالحق وإن كان مُرًّا)) غيرُ موافقٍ لما قال قَبْلُ: ((كان الذي أرادَ منه عز وجل أن يصمُت)). قولُه: (وأن لا يرضى له إلا اتّحادَ الضمير)، أي: وبالحرى أن لا يرضي لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا مطابقةَ ما في ضميره لما في ظاهره، وذلك بأن يخاطب زيْدًا مكافحًا بأنّ زوجتَك ستكون امرأتي وأريد أن لا تُمسكها. قولُه: (من المكافحة)، الأساس: كافَحه: لاقاهُ مواجهةً عن مفاجأةٍ. ومن المجازِ: كفَحْتُ الدابة وأكفَحْتُها: تلقَّيْتُ فاها بلِجام. قولُه: (واو الحال)، الجملةُ الواو فيها للحال على سبيل التداخل، فقولُه: {وَتُخْفِي} حال من المستتر في {تَقُولُ}، وإليه الإشارةُ بقوله: ((لزيدٍ مُخْفيًا))، وقوله: {تَخْشَى النَّاسَ} من فاعل ((تُخفي))، وهو المرادُ بقولِه: و ((تُخْفي خاشيًا قالةَ الناسِ))، وقولُه: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} من فاعل ((تخشى الناس))، وإليه أومأ بقوله: ((وتخشى الناس حقيقًا في ذلك بأن تخشى الله)).

قيل: وإذ تجمع بين قولك: (أمسك)، وإخفاء خلافه، وخشية الناس، (والله أحق أن تخشاه)؛ حتى لا تفعل مثل ذلك. إذا بلغ البالغ حاجته من شيٍء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيٍد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها (زَوَّجْناكَها). وقراءة أهل البيت: (زوّجتكها). وقيل لجعفر بن محمد رضى الله عنهما: أليس تقرأ علىّ غير ذلك؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن علىّ على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كذلك. (وَكانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا) جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه مفعولًا مكونًا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن، ويجوز أن يراد بأمر الله: المكون؛ لأنه مفعول بـ"كن"، وهو أمر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} حتى لا تفعلَ مثل ذلك)، هذا تقرير معنى كون الجملة مستأنفةً وتذييلٌ للكلام السابق. قولُه: (إذا بلغ البالغ حاجته)، قال الزجاج: قال الخليل: الوَطَرُ: كل حاجةٍ لك فيها هِمّة. فإذا بلغها البالغ قال: قد قضى وَطَره. الراغب: الوَطر: النَّهْمة والحاجَةُ المهمة. قولُه: (ويجوز أن يراد بأمر الله المُكوَّن)، لأنه مفعول بـ ((كُنْ)))، هذا كما قيل لعيسى عليه الصلاة والسلام: ((كلمة الله)) من إطلاق السَّببِ على المسبَّبِ، فالأمرُ بمعنى المأمور، وأصلُه الأمرُ الذي هو واحد الأوامر، لقوله: ((لأنه مفعول بـ (كن)))، وعلى الوجه الأول: لقوله: ((وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه مفعولاً مكونًا))، فمعنى {أَمْرُ اللهِ}: مخلوقُه ومراده.

[(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وَكَفى بِالله حَسِيباً)] 39 - 38 [ (فَرَضَ الله لَهُ): قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا، ومنه: فروض العسكر؛ لرزقاتهم. (سُنَّةَ الله) اسم موضوع موضع المصدر -كقولهم: تربًا، وجندلًا- مؤكد لقوله تعالى: (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ)، كأنه قيل: سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين؛ وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مئة امرأةٍ وثلاث مئة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاث مئة وسبعمئة (فِي الَّذِينَ خَلَوْا): في الأنبياء الذين مضوا. (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) يحتمل وجوه الإعراب: الجرّ، على الوصف للأنبياء، والرفع والنصب، على المدح على: هم الذين يبلغون، أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: (رسالة الله). (قدرا مقدورا): قضاًء مقضيًا، وحكمًا مبتوتًا، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا الله تعريض بعد التصريح في قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)] الأحزاب: 37 [. (حَسِيباً): كافيا للمخاوف، أو: محاسبًا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لرَزَقاتِهم) جمع الرَّزْقةِ، بالفتح، وهو المرة الواحدة، وهي أطماع الجُنْد، أي: إقطاعهم. الأساس: أجْرى عليه رِزْقًا، وكَم رِزْقُك في الشهر، أي: جِرايتُك، وأخذ الجند رَزَقاتَهم وأرزاقَهم. قولُه: (تُرْبًا وجَنْدلاً)، أي: رُغمًا وهوانًا وخيبة. قولُه: ({قَدَرًا مَّقْدُورًا}: قضاءً مَقْضِيًّا)، وهو في التلاوةِ مُقدَّمٌ على {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} وقد أخّره.

حقّ الخشية من مثله. [(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)] 40 [ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أى: لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، (وَلكِنْ) كان (رَسُولَ الله) وكل رسوٍل أبو أمّته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقةً، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير، (وَ) كان (خاتَمَ النَّبِيِّينَ) يعنى: أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال؛ لكان نبيًا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى: أنه قال في إبراهيم حين توفى: "لو عاش لكان نبيا". فإن قلت: أما كان أبًا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله: (مِنْ رِجالِكُمْ) من وجهين؛ أحدهما: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (حَقَّ الخَشْيةِ مِنْ مثله)، أي: منه، يعني: مَنْ هو في صِفتِه من كونه كافيًا للمخاوف أو محاسبًا على الصغيرةِ والكبيرة، وليس كمِثله شيء، فهو كناية. قولُه: ({وَلَكِن} كانَ {رَّسُولَ اللهِ} صلى الله عليه وسلم وكُلُّ رسولٍ أبو أمته)، وذلك أن ((لكن)) يقع بين المُتغايرَيْن، فلما نفى عنه صلى الله عليه وسلم معنى الأبوة الحقيقية أثبت له الأبوة المجازية، وهو كونه رسولاً، فيقتضي أن يوقروه تعظيم الآباء، وهو يشفق عليكم شفقة الأبناء. روى صاحب ((الروضة)): قال بعضُ أصحابنا: لا يجوز أن يقال: هو أبو المؤمنين بهذه الآية. قال: ونَصَّ الشافعيُّ على أنه يجوز ((أبو المؤمنين))، أي: في الحرمةِ، المعنى ليس أحدٌ من رجالكم ولدَ صُلْبِه.

أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم، وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئٍذ، وهما أيضًا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده؛ لقوله تعالى: (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ)، ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغَ الرجال)، روَيْنا عن البخاريِّ وابن ماجَه عن إسماعيل بن خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أرأيْتَ إبراهيمَ بن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعَم، مات صغيرًا، ولو قُضيَ أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان ابنَه، ولكن لا نبيَّ بعده. قولُه: (وشيء آخر) عَطْفٌ على قولِه: ((بلى، ولكنّهما لم يكونا رجلَيْن))، وتقرير السؤال والجواب حينئذ أن يقال: أما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا الحسن والحسين؟ قال: نعم أي: لم يكن أباهما، لأنه تعالى إنّما قصد بقوله: {أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} ولده خاصةً، لا ولد ولدِه لقولِه بعد ذلك: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} لأنه يوجبُ أن لا يكون له ولدٌ بلغَ مبلغَ الرجالِ فيصيرَ نَبِيًّا لما يؤدِّي ذلك إلى أنه لم يكن خاتمَ النبيين، ألا ترى كيف بلغ الحسن والحسين مبلغ الرجال وأوانَ أن ينزل عليهما الوحي، وهو بلوغُ أحدِهما فوقَ الأربعين، والآخر الخمسين، ولم ينزل عليهما النبوة، وفي هذا الوجه تكلُّف. قولُه: (ألا ترى الحسن والحسين قد عاشا)، ذكر في ((جامع الأصول)): أنه ولد الحسن بن على سنة ثلاث من الهجرة ومات سنة خمسين، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: ثمان وأربعين، وقيل: سبعًا، وكان للحسن يوم قتل وخمسون. وفي ((الاستيعاب)): قيل: كانت سن الحسن يوم مات سِتًّا وأربعين سنة، وسن الحسين يوم قتل ابن سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين. وفي ((تاريخ الكامل)): كانت الأحزابُ في السنة الخامسة من الهجرة،

قرئ: (ولكن رسول الله) بالنصب؛ عطفًا على (أَبا أَحَدٍ)، وبالرفع؛ على: ولكن هو رسول الله، و (لكنّ) بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكنّ رسول الله من عرفتموه، أى: لم يعش له ولد ذكر. (وخاتم) بفتح التاء: بمعنى الطابع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهي ابنةُ عَمّته، فيكون عمرُ الحسنِ يومئذ سنتَيْن. قولُه: (و ((لكنّ)) بالتشديدِ) وهي شاذّة، قال ابن جِنّي: روى عن أبي عمرو: ولكنّ رسولَ الله محمد، وعليه قولُ الفرزدق: فلو كنتَ ضَبّيًا عرفْتَ قَرابتي ... ولكنّ زَنْجِيًّا غليظَ المشافر أي: ولكن زنْجيًّا لا تعرِفُ قَرابتي، فحَذف الخبرَ لدلالةِ ما قبله عليه، وهو قوله: عرفتَ، كما أن قوله: {ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} يدل على أنه مخالف لهذا الضرب من الناس. يريد: ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم، مفهومُه: أنه ليس ممن عرفتموه، كأنه قيل: محمد ممن عرفتموه من الرجال الذين يعيش لهم أولاد ذكور، ولكنّ رسولَ الله ممّن عرفتموهُ أنه لم يعِشْ له ولَدٌ ذَكَر. قولُه: ({وَخَاتَمَ} بفَتْح التاء) عاصم، والباقون: بكَسْرِها. قال الزجاج: فمَنْ قرأها: ((وخاتِم)) فعناه: خَتم النبيين، ومن قرأه: ((خاتَم)) بفتح التاء فمعناه: آخِر النبيين لا نبي بعده.

وبكسرها: بمعنى الطابع وفاعل الختم، وتقوّيه قراءة ابن مسعود: (ولكنّ نبيا ختم النبيين). فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء: أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملًا على شريعة محمد، مصليًا إلى قبلته، كأنه بعض أمّته. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)] 41 - 42 [ (اذْكُرُوا الله): أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أى: في كافة الأوقات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله على فم كل مسلم"، وروى: "في قلب كل مسلم". وعن قتادة: قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان -أعنى: اذكروا وسبحوا- موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة؛ ليبين فضله على سائر الأذكار؛ لأن معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (بمعنى الطابع)، النهاية: في حديث الدعاء: ((اختُمْه بآمين، فإنّ آمين مثلُ طابَع- بالفتح- الخاتم))، يريد: أنه يختم عليها ويُرفَعُ كما يَفعَل الإنسان بما يعِزُّ عليه. قولُه: ({بُكْرَةً وَأَصِيلًا})، ذُكِرَ الوقتانِ المخصوصان وأريد الدوام، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]. قال القاضي: وتخصيصُ الوقتَيْن بالذكر للدلالةِ على فَضْلِهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين، كإفراد التسبيح بالذكر من جملة الأذكار لأنها العمدة فيها.

الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار: فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل، ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات؛ فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرةً وأصيلًا وهي الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة على غيرها. أو: صلاة الفجر والعشاءين؛ لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ. [(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) [43 - 44] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فَضْلُ وَصْف العبدِ بالنزاهةِ من أدناس المعاصي)، على سائر أوصافه من كثرةِ الصلاة والصيام. وذلك أن العادة استمرت أنه إذا أريد المبالغة في الوصف قيل: فلان معصومٌ نقيُّ الذيلِ طاهرُ الجيب، ومنها قولُه تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا}، وقولُ حسّان في أمِّ المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها في رواية الشيخين: حَصَانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتُصْبحُ غَرْثى من لحوم الغوافل لأن النفسَ إذا كانت زكية طاهرة يتسهَّلُ لها محاسنُ الشِّيَم ولا يتأبّى عليها مكارم الأخلاق. الحصَانُ -بالفتحِ-: المرأةُ العفيفة. ما تُزَنُّ -بالزاي-: أي: ما تُتَّهَمُ يقال: زَنَّه بكذا وأزنّه: إذا اتّهمه به. وغَرْثانُ: جَوْعان، وامرأة غَرْثى.

لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره؛ حنوّا عليه وترؤفًا، كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: صلى الله عليك، أى: ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) إن فسرته بـ: يترحم عليكم ويترأف، فما تصنع بقوله: (وَمَلائِكَتُهُ)؟ وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك الله، أى أحياك وأبقاك، و: حييتك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لما كان من شأنِ المصلِّي أن ينعطفَ في ركوعِه وسجوده)، إشارة إلى ما قال في ((البقرة)) أن اشتقاق الصلاة من تحريك الصَّلَوَيْن. قولُه: (جُعلوا لكونهم مُستجابي الدعوة كأنهم فاعِلونَ الرحمةَ والرأفةَ)، الانتصاف: هو يفِرُّ من إرادةِ الحقيقة والمجاز معًا، وقد التزمَه هاهنا بجَعْلِ الصلاة رحمةً من الله حقيقة ومن الملائكة مجازًا. وأجابَ صاحبُ ((الإنصاف)): يُصَلُّونَ فيه ضميرُ جمعٍ فهو مُنزَّلٌ منزلةَ تكرارِ لفظةِ ((يُصَلِّي))، فليس هذا من إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد، فلا حاجةَ إلى اعتذارِ محمودٍ ولا جوابِ أحمد عنه. قلت: ذهبَ المصنِّفَ إلى القول بالقدرِ المُشتَركِ وعمومِ المجاز وهو معنى الرأفة والرحمة، وإطلاق هذا المعنى على الصلاتين مجاز. ألا ترى إلى قولِه: ((استُعيرَ لمن يتعطَّفُ على غيره))، نعم هذا في حقِّ الملائكة مجَاز بمرتبتَين، وذلك لا يمنعُ من الإيرادِ، وذهب عن صاحب ((الانتصاف)) أن النحويين يشبهون: جاءني زيدٌ، وزيدٌ وزَيدٌ بقَولِهم: جاءَني الزيدون، في أن العامل واحد.

أي: دعوت لك بأن يحييك الله؛ لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك الله، وعمرتك، وسقاك الله، وسقيتك، وعليه قوله تعالى: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْه)] الأحزاب: 56 [أى: ادعوا الله بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة؛ (لِيُخْرِجَكُمْ) من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)] الأحزاب: 56 [قال أبو بكر رضى الله عنه: ما خصك يا رسول الله بشرٍف إلا وقد أشركنا فيه؛ فأنزلت. (تَحِيَّتُهُمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول، أى: يحيون يوم لقائه بسلام. فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلًا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم، وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)] الرعد: 23 - 24 [، والأجر الكريم: الجنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: الفعل يتعدّدُ معنًى لا لفظًا، والمرادُ بالصلاةِ المُشتَركُ وهو العنايةُ بصلاحِ أمرِكم وظهور شرفكم، مستعار من الصلاة، وقيل: الترحُّمُ والانعطافُ المعنوي مأخوذٌ من الصلاةِ المشتملةِ على الانعطافِ الصوري الذي هو الركوع والسجود. وقلتُ: هذا التأويلُ أقوى لقولِه تعالى: {لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}، ولذلك اختاره المصنِّف، ونصَّ عليه بقوله: (({وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} دليلٌ على أن المرادَ بالصلاة الرحمةُ))، والتأويلُ الأول أي: ظهورُ الشرف أنسَبُ لقولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية.

[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)] 45 - 46 [ (شاهِداً) على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أى: مقبولًا قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدًا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدًا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة كمسألة "الكتاب": مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، أى: مقدرا به الصيد غدًا. فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيًا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله: (بِإِذْنِهِ)؟ قلت: لم يرد به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارًا للتسهيل والتيسير؛ لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلًا لما تعذر من ذلك؛ وضع موضعه؛ وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل: (بإذنه) للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله الله ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذوٍن له في الإنفاق، أى: غير مسهل له الإنفاق؛ لكونه شاقًا عليه داخلًا في حكم التعذر. جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو: أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة؛ لأن من السرج ما لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (جَلّى به الله ظلماتِ الشرك)، اعلم أنّ قوله: ((سراجًا مُنيرًا)) موقعُه المُشبَّهِ بِه، والمشبه الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ}، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون من التشبيهِ المركّبِ العقلي؛ شبهّه سُبحانه وتعالى بالسراجِ المنيرِ في كونه جَلّى به الظَّلماءَ وهَدى به الضالين. وثانيها: أن يكون من التمثيلي، وهو أن يكون الوجْهُ منتزعًا من عدة أمور متوهمة، ولهذا اعتَبرَ شيئين: أحدُهما: قولُهك أمَدَّ بنور نبوتهِ نورَ البصائر، وثانيها: وصْفُه بالزيادة، ويجوز أن يكون الثاني مُفَرّقًا فالمشبّه به يكونُ حْسّيًّا والمشبَّه عَقْليًّا.

يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليًا سراجًا منيرًا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف (أَرْسَلْناكَ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ومائدةٌ يُنْتَظَرُ)، وأنشد في معناه: رَسْمٌ جرى في الناسِ ليس بحامدٍ ... جوعَ الجماعةِ بانتظارِ الواحد قولُه: (وقيل: وذا سِراج منير)، قال الزجاج: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} أي: وكتابًا مبينًا. المعنى: أرسلناك شاهدًا وذا سراجٍ منير، أي: وذا كتاب نَيِّر، وإن شِئْتَ كانَ ((سراجًا)) منصوبًا على معنى: وداعيًا وتاليًا كتابًا بيِّنا. وقال أبو البقاء: والسراجُ اسمٌ للتسريجِ وليس بالمصدر. قولُه: (ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كافِ {أَرْسَلْنَاكَ})، يعني: تفسيرُ ((ذا سراج)) أو ((وتاليًا سِراجًا)). قال صاحبُ ((التقريب)): إذ يجوزُ أن يكون حالَ الإرسالِ ذا سراج وتاليًا له، فيصحّ تقدير ((أرسلنا)) فيه، وأمّا على الأول -وهو أنه سراجٌ انجلَتْ به الظلماتُ- فلا يصحُّ تقدير ((أرسلنا)) معه، إذ لم يكن حالَ الإرسالِ كذا، بل مُقَدّرًا كونُه كذلك، فحقُّه أن يُعطفَ على الأحوال المقدرة قبله، ويجوزُ أن يكونَ مرادُه أنّ السراجَ المنير إذا أُريدَ به القرآنُ على الكاف، أي: أرسَلْناك وقرآنًا وإنما صَحَّ بالتبعية وإلا فالقرآنُ لا يكون مرسَلاً. وقلت: عكْسُه ((وأنزل معه الكتاب))، على معنى: أنزلَ معه نبوتَه؛ لأن استنباءَهُ كان مصحوبًا بالقرآن مشفوعًا به، والتحقيق: أنّ هذا العطفَ مِن قَبيل: مُتقلّدًا سيفًا ورُمحا

[(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبِيراً)] 47 [ الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادةً على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب؟ ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أنّ لهم فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة الله، وأنه آتاهم ما فضلوهم به. [(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفى بِالله وَكِيلاً)] 48 [ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه، أو التهييج. (أَذاهُمْ) يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول، يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذا فسِّر سراجًا بـ ((ذا سِراجٍ)) يعني به القرآن، وكان التقدير: إنا أرسلناك شاهدًا وأنزلنا عليك ذا سراجٍ منير، وإذا فُسِّر بـ ((تاليًا سِراجًا)) كنايةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البيّنة: 2] كان التقدير: أرسلناكَ شاهدًا وجعلناك تاليًا سراجًا منيرًا، ويجوز على هذا أن يكون من باب {ص وَالْقُرْآنِ} [ص: 1] إن أريدَ بهما اسما السورة؛ جَرَّدَ من رسولِ الله صلى الله صلى الله عليه وسلم المنعوتِ بتلك الصفاتِ الكاملةِ تاليًا سراجًا مُنيرًا، كما جَرَّدَ من الرجلِ في قولِه: مررتُ بالرجلِ الكريمِ والنَّسمَةِ المباركةِ، وعُطِفَتْ عليه وهي هو. قولُه: (الفَضل ما يتفضَّلُ به عليهم، زيادةَ على الثواب)، مَذْهَبُه، وبيانُه مَرَّ مرارًا. قولُه: (وكَبَّرَه فما ظَنُّك بالثوابِ؟ )، أي: وصفَ المتفضَّلَ به بالكِبَرِ في قوله: {فَضْلًا كَبِيرًا}. قولُه: (معناه الدوامُ والثباتُ على ما كان عليه)، أي: من عدمِ إطاعتِه إيّاهم في فَسْخ عَهْدٍ وفيما لا يحلّ.

تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي منسوخة بآية السيف. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله) فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوّضا إليه. ولقائل أن يقول: وصفه الله بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاٍب مناسب له: قابل الشاهد بقوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وصفه الله تعالى بخَمْسةِ أوصاف، وقابل كُلاًّ مِنها بخطاب مناسب له) إلى آخره، نَظْمٌ في غايةٍ من الحُسْن لكنَّ في مُقابلةِ المُبشِّرِ بالإعراض عن الكافرين: كَلفةً، ولهذا قال القاضي: {وَبَشِّرِ} معطوف على محذوف مثل: فراقِبْ أحوالَ أمتك، لأن ما بعده قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} إلى آخره كالتفصيل له، وقابلَ المُبشِّرَ بالأمرِ بالبشارةِ للمؤمنين، والنذيرَ بالنهيِ عن مراقبةِ الكفار والمبالاةِ بأذاهم، والداعي إلى الله بتيسيره بالأمرِ بالتوكل عليه، والسراج المنير بالاكتفاء به، فإن مَنْ أنارَهُ الله برهانًا على جميعِ خلقه كان حقيقًا بأن يُكْتَفى به عن غيره. وقلت: نظير هذا الآية ما رَوْينا عن البخاريِّ والإمامِ أحمدَ بن حنبل عن عطاء بن يسار قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمروٍ وقلتُ: أخْبِرني عن صفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببَعْض صفَتهِ في القرآن: يا أيها النبي، إنا أرسَلْناك شاهدًا ومُبشّرًا ونذيرًا وحِرْزًا للمؤمنين، أنتَ عَبْدي ورسولي سمَّيتُك المتوكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخّابٍ في الأسواقِ ولا تدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ ولكن تَعْفو وتصفَحُ، ولن يَقْبضَه الله حتى يُقَيم به المِلّةَ العَوْجاء ويفتحَ به أعُينًا عُمْيَا وآذانًا صُمًّا وقُلوبًا غُلْفا. وقد روى الدارميُّ نحْوَه عن عبدِ الله بن سَلام. فقولُه: ((حِرْزًا للمؤمنين)) مُقابلٌ لقوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيرِه وتسهيلِه، فإنّ دَعْوَتَه صلوات الله عليه إنما حصلت فائدتُها فيمن وفَّقه الله بتيسيره وتسهيله، فلذلك أمِنوا من مكارِه الدنيا وشدائد الآخرة، فكان صلوات الله عليه بهذا الاعتبار حِرْزًا لهم.

(وبشر المؤمنين)] الأحزاب: 47 [؛ لأنه يكون شاهدًا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير؛ والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة؛ والنذير بدع أذاهم؛ لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر -والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل؛ والداعي إلى الله بتيسيره بقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله)؛ لأنّ من توكل على الله يسر عليه كل عسير؛ والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا؛ لأن من أناره الله برهانًا على جميع خلقه، كان جديرًا بأن يكتفى به عن جميع خلقه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)] 49 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقولُه: ((سمَّيْتُك المتوكِّلَ)) إلى آخرِ الحديث مُقابِلٌ لقولِه: ((سِراجًا مُنيرًا)). فعُلمَ أنّ قولُه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} مناسبٌ لقولِه: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}، فإنّ السراجَ مضيءٌ في نَفْسِه ومُنَوِّرٌ لغيرِه، فكَوْنُه متوكّلاً على الله يكون كَمالاً في نفسِه، فهو مناسب لقولِه: ((أنت عَبدي ورسولي سمَّيتُك المتوكلَ)) إلى قولِه: ((يعفو ويَصفح))، وكونُه منيرًا بفَيْضِ الله عليه يكونُ كمالاً لغيرِه، وهو مناسبٌ لقوله: ((حتى يُقيم به المِلّةَ العَوْجاءَ ويفتح به أعينًا عُميًا وآذانا صُمًّا)). هذا معنى قول المصنف: ((أنارَه الله بُرهانًا على جَميع خلقِه، كان جديرًا بأن يُكتَفَى به عن جميع الخلق))، والله أعلم. ويمكن أن تُنَزَّل المراتب على لسان أهل العرفان؛ فقولُه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} هو مقامُ الشريعةِ ودعوةِ الناسِ إلى الإيمانِ وتَرْكِ الكفر ونتيجةُ بِشارةِ مَنْ آمن وإنذارِ مَنْ أعرض، وقولُه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} مقامُ الطريقةِ ونتيجةُ الإعراضِ عمّا سوى الله، والأخذِ في السيرِ والسلوكِ والالتجاءِ إلى حَرم لُطْفِه والتوكلِ عليه وقولُه: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} هو مقامُ الحَقيقة ونتيجتُه فَناءُ السالكِ وقيامُه بقَيُّوميتِه، وكفى بالله وكيلاً، واللهُ أعلَمُ بمراده من كلامه.

النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا؛ لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثمًا؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز: أسنمة الآبال في سحابه سمى الماء بأسنمة الآبال؛ لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (تسميتُهم الخَمْرَ إثمًا)، قال: شربتُ الإثمَ حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثمُ يذهَبُ بالعقول قولُه: (أسْنِمةُ الآبالِ في سَحابه)، بعده: أقبلَ في المُسْتَنِّ مِن رَبابه استنّ الفرسَ: قَمَصَ. وفي المَثل: استَنَّتِ الفِصالُ حتى القرعى. قولُه: (ومِن آدابِ القرآنِ الكنايةُ عنه- أي: الوَطء- بلفظ الملامَسةِ) ونحوه احترازًا عن الاستهجان. فإن قيل: هذا لا يناسبُ قولَه: ((ولم يَرِدْ النكاحِ في كتابِ الله إلا بلفظِ العَقْدِ))، لأنّ الكنايَة أن يعدِل من اللفظِ الموضوعِ لمعنًى إلى ما يَسْتلزمُه، ورعايةُ الأدبِ العدولُ عن لفظٍ فيه بَشاعةٌ إلى ما ليسَ كذلك، كَالملامسةِ والمُماسّة والقُربان والغِشيانِ، لا عَنْ لفظٍ ليس فيه بَشاعةٌ كالعقدِ إلى ما فيه بشاعةٌ كالوطء. والجوابُ: أنّ استعمالَ النكاحِ في معنى العقد ليس من الكناية في شيء، بل إنه من الحقيقةِ الشرعية منْسيًّا فيه المعنى اللغوي، ولا يكادُ يُفْهَمُ منه معنى الوطءِ إلاّ بقرينة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} كيف قرنَه به حين أرادَ به ذلك المعنى؟ فعلى هذا قولُه: ((لأنه في معنى الوطء)) تعليلٌ لكونها

فإن قلت: لم خصّ المؤمنات، والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق، فما بال الكوافر! ويستنكف أن يدخل تحت لحاٍف واحٍد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة "ثم" في قوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ)؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى أن يتوهم تفاوت الحكم بين أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منقولةً شرعيةً لا أنه كِنايةٌ فصَحَّ قولُه: و ((مِن آدابِ القرآنِ الكنايةُ عنه بالملامسةِ)) يعني: لا يرادُ به الكناية، بل الاصطلاح؛ لأن من آدابِ القرآنِ عكسَه. قولُه: (وهذه فيها تعليم ما هو الأولى)، وبيان الاختصاص أن ما في ((المائدة)) وردَت في بيانِ تحريمِ ما يجب تحريمُه وتحليلِ ما هو مباحٌ من الأطعمة والأنكحة كما قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] ففيها تعلُّمُ ما هو جائزٌ غيرُ مُحرَّم. وأما اختصاص هذه الآية بما ذكر فهو أنها عقيب قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، فجُعِلَت تخلُّصًا إلى ذكر ما هو الأفضلُ والأولى والأطيبُ والأزكى بحاله صلى الله عليه وسلم من النساء وما يتعلَّق بهن، فطبّقت لذلك مَفْصِلَ البلاغة. قولُه: (نَفْيُ التوهُّمِ عمَّن عسى أن يتوهَّم)، يعني: لا تفاوتَ في عدمِ وجوبِ العِدَّة عليها سواءٌ كانت قريبةَ العهدِ بالنكاحِ أو بعيدتَه منه؛ وذلك أن المرأةَ إذا تراخى بها المدة في حِبالةِ الزوجِ استأنسَ كل واحد بصاحبه وربما توقّعَ الرجلُ من توهُّمِ عُلْقَةِ الزوجية وقد تَقَّرر عندَه أَنّ العِدَّةَ حقٌّ واجبٌ للنساءِ على الرجالِ فجيء بـ ((ثُمَّ)) لإزالةِ هذا التوهمِ وبيانِ أنّ العُلْقةَ إنما تتمُّ بالدخول. قال القاضي: فائدة ((ثمّ)) إزاحةُ ما عسى يتَوهَّمُ متوهِّمٌ أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابةُ كما يؤثِّر في النسب يؤثِّر في العدة.

يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها. فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟ قلت: نعم، عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله: (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال. (تَعْتَدُّونَها): تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك: كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ: (تعتدونها) مخففًا؛ أى: تعتدون فيها، كقوله: ويوم شهدناه والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)] البقرة: 231 [. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في حِبالة الزوج)، الجوهري: الحِبالة: التي يُضادَ بها. قولُه: (نعم عند أبي حنيفة وأصحابه)، قال القاضي: ظاهرُ الآية يقتضي عدمَ وجوبِ العِدّةِ بمُجرَّدِ الخَلْوة. قولهُ: ({تَعْتَدُّونَهَا}: تستوفون عَدَها) أي: تعدُّونها عليهنَّ، قال أبو البقاء: {تَعْتَدُّونَهَا} تفتعلونها من العدد، أي: تعدّونها عليهِنّ، وموضعُه جَرٌّ على اللفظ أوْ رَفْعٌ على الموضع. قولُه: (وقُرِئ: ((تَعْتَدُونَها)) مخفّفًا)، وهو من الاعتداء، كما في قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] أي: لتظلموا. قولُه: (ويومٍ شَهِدناه)، تمامه: سُهيلاً وعامِرًا ... قليلٍ سوى الطعنِ الدِّراكِ نوافلُه

فإن قلت: ما هذا التمتيع؟ أواجب أم مندوب إليه؟ قلت: إن كانت غير مفروض لها؛ كانت المتعة واجبةً، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها؛ فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة، وبعض على الوجوب. (سَراحاً جَمِيلًا) من غير ضراٍر ولا منع واجب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة)، قال القاضي: {فَمَتِّعُوهُنَّ} إن لم يكُن مفروضَا لها، فإن الواجبَ المفروضَ لها نصفُ المفروضِ دونَ المتعةِ، ويجوز أن يُؤوَّلَ التمتيعُ بما يعمّهما أو الأمر بالمشتركِ بين الوجوبِ والندبِ، فإنّ المتعة سنةٌ للمفروضِ لها. سبقَ تقريره في البقرة. قولُه: ({سَرَاحًا جَمِيلًا} من غيرِ ضِرار)، السَّراح: اسمُ التسريح، وليسَ بمصدر. الراغب: السَّرْحُ: شجَرٌ له ثمَر، الواحدة سرحة وسَرَّحْتُ الإبلَ: أن تُرْعِيَه السرح ثم جُعِلَ لكل إرسالٍ في الرعي قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، والتسريح في الطلاق مستعارٌ من تَسريحِ الإبلِ، كالطلاقِ في كونه مُستعارًا من إطلاقِ الإبل، واعتُبر في السرحِ المُضيُّ، فقيل: ناقةٌ سُرُحٌ: تسرَحُ في سيرِها، ومضى سَرْحًا جميلاً، والمُنسرِحُ: ضَرْبٌ من الشعر، استعيرَ لفظَهُ من ذلك. وقلت: وأما بَيانُ رَبْط هذه الآية بأنها كالتمهيدِ للشروع في نوعٍ آخرَ من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم وفضائله وهو استئثار الله له الأفضلَ والأولى واستخارتُه الأطيبَ والأزكى في قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}، واختصاصُه من دون المؤمنين بنكاحِ الموهوبةِ نفْسَها لإزاحةِ الحَرجِ عنه وإخلاءِ باله. ألا ترى كيف ضَيَّق على المؤمنين في طلاقِ غيرِ المدخولِ بها حيث أسقط حَقَّهم من العِدّةِ وأمرَهم بسَوْقِ المُتْعةِ والتسريحِ الجميل هذا يؤيد قوله: (({قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مُعْتَرضٌ))، هذا ما خَطر بالبالِ، والله أعلم بحقيقة الحال.

[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 50 [ (أُجُورَهُنَّ): مهورهنّ؛ لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلًا، وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، و: (مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ)، و: (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ)؟ وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر؛ وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزًا؛ وله أن يماسها، وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلًا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره. وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب. والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة: ما سبى من أهل الحرب، وأما من كان له عهد فالمسبي منهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (من الإِثْر)، أي: من الخُلاصةِ والنُّقاوة. الجوهري: الإثرُ بالكَسْر: خُلاصَةُ السَّمْنِ، ويُروى: ((من الأُثَر)) جَمْعُ أُثْرَة. قولُه: (وخُطبة سيفهِ ورمحه)، ينظرُ إلى قولِ الفرزدق: وذاتِ حَليلٍ أنكحَتْها رماحُنا ... حلالٌ لمنْ يبني بها لم تُطلّقِ

سبي خبثة، ويدل عليه قوله تعالى: (مِمَّا أَفاءَ الله عَلَيْكَ)؛ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانيء بنت أبى طالب: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل الله هذه الآية؛ فلم أحلّ له؛ لأنى لم أهاجر معه؛ كنت من الطلقاء. وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وعن أم هانئ)، في ((جامع الأصول)): هي فاختةُ بنت أبي طالب أختُ علي، خطَبها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة مُصْبِيةٌ، فاعتذرت إليه فعذَرها. وعن الترمذيِّ عن أم هانئ: خطَبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذَرْتُ إليه فعذَرني، ثم أنزل الله تعالى: {نَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 51]. قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجِر، وكُنت من الطّلقاء. النهاية: الطلقاءُ: هو الذين خَلّى عنهم يوم فتح مكة وأطلَقهم ولم يسترِقَّهم، الواحدُ: طَليقٌ؛ فَعيلٌ بمعنى مَفعول، وهو الأسيرُ إذا أُطلِقَ سَبيلُه. قولُه: (وأحلَلْنا لك مَن وقع لها أن تهبَ نفسها لك)، إشارة إلى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} عطْفٌ على قوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} على تقديرِ الفعل. قال صاحبُ ((الكشف)): ما أظنّك أنك إذا أعربْتَ {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} إلاّ أن تقول: إن انتصابها محمولٌ على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما قَبْلَه من قولِه: {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}، وهذا مِن سوءِ تأمُّلك، لأنّ {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} شَرطٌ، والشرطُ لا يصحّ في الماضي وكذا الجزاء، ألا ترى أن لو قُلْتَ: إن قمتُ غدًا قمتَ أمس، لكنت مخطئًا، وقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إخبارٌ عن إحلاله في الماضي، فلا يصحُّ ذلك التقدير، بل التقدير: ويُحلُّ لك امرأةً مؤمنةً إن وهبَتْ، ليصحَّ به الجزاء، كما تقول: أقومُ إن قمتَ، وأخرجُ إن خرجْتَ، فافهمه. وعن أبي علي أنه قال: فإن قلتَ: فإن هذا امتنانٌ منه عزَّ وجلَّ على نَبيِّه بأن أحلَّ له امرأةً وهبَت نفْسَها له فيما مضى، وليس الامتنانُ عليه بامرأةٍ ستفعل ذلك، فإنه يكونُ من باب قوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، أي: صحَّ أني كنتُ قلته، فكذلك {إِن وَهَبَتْ} أي: إن صح أنها وهبَتْ فإنه تحل لك، فهذا معنى هذا الكلام. وقال القاضي: ((امرأة)) نصبٌ بفعلٍ يُفَسِّرُه ما قبْلَه، أو عطفٌ على ما سبق، ولا يدفعُه التقييد بـ ((إنْ)) التي للاستقبال، فإن المعنيَّ بالإحلال الإعلامُ بالحلِّ، أي: أعلمناك حِلَّ امرأةٍ مؤمنةٍ تهَبُ لك نفسَها ولا تطلبُ مهْرَها إن اتفق، ولذلك نكرها. وقال أبو البقاء: قيل في ناصب ((وامرأةً)) وجهان: أحدُهما: {أَحْلَلْنَا} في أول الآية، وقد ردّ هذا قوم وقالوا: {أَحْلَلْنَا} ماضٍ، و {إِن وَهَبَتْ} - وهو صفةُ المرأة- مُستقبل ف {أَحْلَلْنَا} في موضع جوابه، وجوابُ الشرطِ لا يكونُ ماضيًا في المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ لأن معنى الإحلال هاهنا الإعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك، كما تقول: أبحْتُ لك أن تكلِّمَ فلانًا إن سَلَّمَ عليك. وقلت: فائدةُ العدولِ المبالغةُ في الامتنان.

ولا تطلب مهرًا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك؛ ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك: فعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة. وقيل: الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم، رضى الله عنهن. قرئ: (إِنْ وَهَبَتْ) على الشرط. وقرأ الحسن رضى الله عنه: (أنْ) بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرًا محذوفًا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا، بمعنى: وقت دوامه جالسًا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير "إن". فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ميمونة بنت الحارث)، في ((الجامع)): توفي عنها أبو رُهم، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القَضِيَّةِ بسرف، على عشرة أميال من مكة. قولُه: (وزينب بنت خُزيمة)، في ((الجامع)): وزينب بنت خزيمةَ بنت الحارث العامرية، كانت تسمى في الجاهلية أمَّ المساكين لإطعامِها إياهم، كانت تحتَ عبدِ الله بن جحش، فقُتل عنها يومَ أحدٍ، فتزوَّجها صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث. قولُه: (وأم شريك بنت جابر)، في ((الجامع)): قيل: أم شريك غزيّةُ بنت جابر طلقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلَ بها، وهي وهَبتْ نفْسَها للنبي صلى الله عليه وسلم. قولُه: (وخولة بنت حكيم)، في ((الجامع)): هي التي وهبَت نفْسَها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرجأها، فتزوّجَها عثمان بن مظعون. قولُه: (وقرئ: {إِن وَهَبَتْ} على الشرط)، وهي المشهورة.

لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: (نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ) ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي؛ للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله) صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعا؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وتكريره تفخيمٌ له [وتقريرٌ] لاستحقاقِه الكرامةَ لنبوته)، يعني: دلَّ إقامةُ المُظهرِ موضعَ المُضْمرِ في قوله: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} على أنَّ المرأة إنما وهبَتْ نفسَها له، وجاز له ذلك دون غيره تكرِمَةً لأجل نُبوتِه، ودل تكرير ذلك في قولِه: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} على أن الله تعالى إنما آثر إرادته في ذلك لكونه صلوات الله عليه أهلاً لذلك لأجلِ نُبوَّتِه، فظهَر أن طريقَ التعليلَيْن مختلفة، فكما أنّ نبوتَه اقتضت ذلك كذا إرادته، قال الزجاج: وإنما قيل: {لِلنَّبِيِّ}؛ لأنه لو قيل: إن وهبَتْ نفْسَها لك، كان يَجوزُ ان يُتوهَّمَ أن في الكلام دليلاً على أنه يجوز ذلك لغير النبيِّ، كما جاء في {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ}. قولُه: (وقد خُصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعًا)، قال الإمام: قال الشافعيُّ رضي الله عنه: معنى الآية إباحةُ الوَطْءِ بالهبة، وحصولُ التزوجِ بلفظِها من خواصك. وقال أبو حنيفة رضيَ الله عنه: تلك المرأة صارت زوجةً ومن أمهات [المؤمنين] لا تحلُّ لغيرِك أبدًا، وقال: ويمكن أن يقال: فعلى هذا التخصيصُ بالواهبةِ لا فائدةَ فيه؛ فإن أزواجَه كلّهن خالصاتٌ له.

إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله تعالى: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) وقال أبو بكر الرازي: لا يصح؛ لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد؛ فهما متنافيان. (خالِصَةً) مصدر مؤكد، كـ (وعد الله)] النساء: 122 [، و (صبغة الله)] البقرة: 138 [، أى: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصًا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وجهُ التقريرِ: أن الله تعالى ذكر في هذه الآية طبقاتِ النساءِ المحلّلاتِ للرسول صلى الله عليه وسلم، واختصاصَهنَّ بما لم يوجَدْ في غيرِهن، وهي كونُهنَّ أمهاتِ المؤمنين ولم يذكر في شيء منها لفظًا تنعقدُ به عُلْقةُ الزوجية سِوى ما ذكر في هذه الواهبة نفسها، فإنه تعالى ما اكتفى بكونها صائرةً من أمهات المؤمنين بسبب إحلالِ الله إياها كالبواقي بل صَرَّح بلفظِ الهبة، ولو لم يكن له مَدخلٌ في الاختصاصِ لم يكن لذكرهِ فائدة، ولقائل أن يقول: فَرْقٌ بين هذه الصورةِ وبين غيرِها فإنه لو لم يذكر لفظ الهبة لم يحصُل المقصود، بخلافِ غيرها فلذلك ذكَره لا أن له مدخلاً في الاختصاص. قولُه: (أي خَلَصَ إحلالُ ما أحلَلْنا لك خالصة)، يعني: أن {خَالِصَةً} مصدرٌ مولِّدٌ لمضامين الجمل كلها كَوْعدَ الله وصِبْغةَ الله، فلا تختصُّ بقولِه: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} كما قال أبو البقاء: {خَالِصَةً} حالٌ من ضميرِ {وَهَبَتْ} أو صفةٌ لمصدرٍ محذوف، واستدلّ المصنِّف لمذهبه بأن قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وردَ بعد ذكرِ الإحلالاتِ التي جمعَها معنى الاختصاصِ برسول الله صلى الله عليه وسلم دون المؤمنين. وقيل: الغرضُ في شرعيتها له خاصة. ومفهومُه مؤكِّدٌ لمضمونِ المعاني كلها لا تختصُّ بواحدة دون واحدة، وهو ما قال: ((قد عَلِمْنا ما فيه مصلحةُ المؤمنينَ ففرَضْناها وعلمنا ما فيه مصلحةُ الرسول من الاختصاصِ ففَعلْنا))، فلو عَلّقَ {خَالِصَةً لَّكَ} بقِصّةِ الموهوبة لم يكنْ {قَدْ عَلِمْنَا} معترضًا بل يكون أجنبيًّا وذلك لا يَجوز.

والقاعد، والعافية، والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصةً برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها، قوله: (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بعد قوله: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وهي جملة اعتراضية، وقوله: (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متصل بـ (خالصة لك من دون المؤمنين)، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية: أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أى حدّ وصفةٍ يجب أن يفرض عليهم؛ ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به؛ ففعل ومعنى: (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ): لئلا يكون عليك ضيق في دينك؛ حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك؛ حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: (خالصة) بالرفع، أى: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين. ومن جعل (خالصة) نعتًا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويلزم أيضًا أنها وحدها خالصة لك من دونهم، قال محيي السنة: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أوجَبْنا على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، أن لا تزوجوا أكثر من أربع، ولا يتزوجوا إلا بولي وشهودٍ ومَهْرٍ وما ملكت أيمانهم، أي: ما أوجبنا من الأحكام في مِلكِ اليمين لكي لا يكون عليك حرج، وهذا يرجع إلى أول الآية، أي: أحللنا لك أزواجَك، وما ملكت يمينك، والموهوبة؛ لكيلا يكون عليك حرج، أي: ضيق. قولُه: (وفي دَنْياكَ) عَطْفٌ على ((دينِك))، يعني: أطلقَ الحرجَ ولم يُقيِّد أنه في أيِّ شيء، لدَلالة سَوْقِ الكلامِ عليه، والمراد باختصاص التبرئة ما يدل عليه قوله: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} من أن لا تترك التسمية، ولا تعجيل المهر، وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من أن لا تكون مُشتراةً مجلوبة، وباختصاصِ ما هو أولى، ما يُنْبيءُ عنه قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فإن المهاجراتِ معه من قرابتِه أفضَلُ من غير المهاجرات.

(وَكانَ الله غَفُوراً) للواقع في الحرج إذا تاب (رَحِيماً) بالتوسعة على عباده. روى: أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهنّ شهرًا، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. وروى: أن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله، إنى أرى ربك يسارع في هواك. [(تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشَاءُ ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ولا يَحْزَنَّ ويَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) [51] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} للواقعِ في الحرج إذا تاب)، اعلم أن قولَه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} واردٌ على سبيل التذييل للآية أجمعِها، ومضمونُها رَفْعُ الحَرجِ عن حضرةِ الرسالةِ في أمور النساء، كذا عن الواحدي، فجيء بالفاصلةِ عامة في نفي الحرج من جميع التكاليف في الدين لِسائرِ المؤمنين، فيدخل فيه أمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم أوّليًّا فإذن لا مَدْخَل لحديثِ التوبة. قولُه: (وغِظْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الجوهري: الغيظُ: غضَبٌ كامنٌ للعاجز، يقال: غاظه فهو مَغيظ، ولا يقال: أغاظه. قولُه: (إني أرى ربّك يُسارع في هواك)، روى البُخاريّ ومُسلم وغيرُهما عن عائشة رضي عنها. كانت خولةُ بنتُ حكيمٍ من اللاتي وهَبْنَ أنفُسَهنّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تَهب نفْسَها للرجل، فلما نزَلت: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ}، قلت: يا رسولَ الله، ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواك.

(تُرْجِي) بهمز وغير همز: تؤخر (وَتُؤْوِي): تضمّ، يعنى: تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء. أو: تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء. أو: لا تقسم لأيتهن، تقسم لمن شئت. أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوّج من شئت. وعن الحسن رضى الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. وهذ قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق، وإما أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({تُرْجِى} بهَمْز وبغيرِ همز)، بالهمْزِ: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بغَيْرِ همز. قال الزجاج: الهَمْزُ أجودُ وأكثرُ، والمعنى واحد. يقال: أرجأت الأمرَ وَأرجيتُه؛ إذا أخرته. قولُه: (وهذه قسمةٌ جامعة)، قال صاحب ((التقريب)): أي: حاضرة؛ لأنه إما أن يُطلق أو يُمْسك، فإذا أمسَك ضاجَع أوْ لا، قَسَم أوْ لا، وإذا طَلَّق إما أن يَبْتغيها أوْ لا، قال محيي السنة: المراد من قوله تعالى: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} تردُّ إليك مَنْ تشاء بعد العزل، بلا تجديد عقد. واعلم أنّ الزجاجَ والواحديَّ وأبا البقاء جعلوا {فَلاَ جَنَاحَ} خبرًا لقوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} فَقدّر الزجاجُ: إنْ أردْتَ أن تُؤويَ إليك امرأةً ممن عزلتَ فلا جناح عليك، والواحدي قال: إن أردتَ أن تُؤوي إليك امرأةً ممّن عزلتَهنَّ من القَسْمِ وتضمَّها إليك

يمسك؛ فإذا أمسك: ضاجع أو ترك، وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل: فإما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. وروى: أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضى الله عنهن، أرجأ خمسًا وآوى أربعًا. وروى أنه كان يسوّى مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة؛ فإنها وهبت ليلتها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. (ذلِكَ) التفويض إلى مشيئتك (أَدْنى) إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء، وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى، وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه؛ اطمأنت نفوسهن، وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون، وسلت القلوب. (وَالله يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبر الله من ذلك وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه. وقرئ: (تقرّ أعينهنّ) بضم التاء ونصب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا سَبيلَ عليك بلومٍ ولا عَتَب، فجعلَ الجملةَ الشرطيةَ عَطْفًا على قوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} وقسيمًا لقوله: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ} ولم يذكر فائدةَ المعطوف، والمصنّفُ اعتبرَها، وذلك أنه فسر: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} أولاً بالوجوهِ الأربعةِ الماضية، ثم ثنّى ببناءِ التقسيمِ الحاصِر على الوجهِ الثاني، على طريقةِ الجمْع من الوجوهِ الأربعةِ باستعانةِ انضمام قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} معها، على أنّ المرادَ بـ ((مَن عزلت)): المطلقةُ المبتغي إيواؤها، فأوجَب ذلك أن يُضَمَّنَ قولُه: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ} معنًى يَشْملُ المعزولةَ غيرَ المُبتغي إيواؤها أيضًا ليستَقيم ذلك التقسيم، فحينئذ ((أو)) في الوجوهِ المذكورةِ للتنويعِ لا للترديدِ أو للإباحة، كما في قولِه تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]، وقولُه: ((ورُويَ: أنه أرجَأ منهن)) إلى آخره: بيانٌ لبعضِ مَنْ وقعَ إليه التقسيم.

"الأعين"، و"تقرّ أعينهن" على البناء للمفعول. (وَكانَ الله عَلِيماً) بذات الصدور، (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر. (كُلُّهُنَّ) تأكيد لنون (ويرضين)، وقرأ ابن مسعود: (ويرضين كلهن بما آتيتهنّ) على التقديم. وقرئ: (كلهن)، تأكيدًا لـ «هن» في (آتَيْتَهُنَّ). [(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)] 52 [ (لا يَحِلُّ) وقرئ بالتذكير؛ لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغيرِ فصلٍ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرِئ: ((كُلَّهن)) تأكيدًا لـ ((هُنَّ)) في {آتَيْتَهُنَّ})، قال ابن جِنِّي: وهي قراءةُ أبي إياس وهي راجعةٌ إلى معنى قراءةِ العامةِ {كَلُّهُنَّ} بضَمِّ اللام، وذلك أنّ رضاهُنَّ كلَّهن بما أوتينَ كُلُّهنَّ على انفرادهِن واجتماعِهن فالمعنيان إذن واحد إلاّ أن للرفع معنى أقوى، وذلك أنّ فيه إصراحًا من اللفظِ بأن يَرْضَيْن كلّهن. والإصراحُ في القراءةِ الشاذةِ -أعني النَّصْبَ- إنما هو في إيتائِهن، وإن كان محصولُ الحالِ فيهما واحدًا مع التأويل. وقلت: في توكيدِ الفاعلِ دون المفعولِ إظهارٌ لكمالِ الرضى منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملاً سَويًّا، وفي توكيد المفعول إظهارُ أنّهن مع كمال الإيتاء غيرُ كاملاتٍ في الرضى، والأول أبلغُ في المدح؛ لأن فيه معنى التتميم، وذلك أن المؤكِّدَ رفَع إبهامَ التجوُّزِ عن المؤكد. قولُه: (((لا تحِلُّ))، وقُرئ بالتذكير) أبو عَمْرو: بالتاءِ الفوقانية، والباقون: بالياء. قال الزجاج: مَنْ قرأ بالتاءِ فلأنّ النساءَ في معنى جميعِ النساء، والنساءُ يدلُّ على التأنيث فيُسْتغني عن تأنيثِ ((يحلُّ))، ومعنى التاءِ: لا تحِلُّ لك جماعةُ النساء.

في قوله تعالى: (وَقالَ نِسْوَةٌ)] يوسف: 30 [؛ كان مع الفصل أجوز. (مِنْ بَعْدُ) من بعد التسع؛ لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ؛ فلا يحل له أن يتجاوز النصاب، (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ): ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أخر بكلهنّ أو بعضهن، أراد الله لهنّ كرامةً وجزاًء على ما اخترن ورضين. فقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وهي التسع اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر، حفصة بنت عمر، أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، سودة بنت زمعة، أمّ سلمة بنت أبى أمية، صفية بنت حيي الخيبرية، ميمونة بنت الحرث الهلالية، زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى الله عنهن. "من" في (مِنْ أَزْواجٍ) لتأكيد النفي، وفائدته: استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل: معناه: لا تحل لك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقيلَ: معناه: لا تحِلّ لك)، معطوفٌ على قولِه: ((من بعد التِّسْع)). والفرقُ أنّ الأولَ فيه حكمان: تحريمُ الزيادةِ على التسعِ وتحريمُ التبديل، والثاني: فيه حُكمٌ واحدٌ، وهو تحريمُ غيرِ ما نَصَّ عليه من الأجناس الأربعةِ المذكورة في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية، وقولُه: {وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} تأكيدٌ لذلك، فيجوز أن يزيدَ على العدد، وأن تُبدِّلَ بكُلِّهنَّ أو ببَعْضهنَّ من جِنْسِ ما نَصَّ عليه. يدلُّ عليه ما روى مُحيي السنة عن أبي صالح: أُمِرَ أنْ لا يتزوّجَ أعرابية ولا غريبَةً، ويتزوَّجَ من نساءِ قومِه من بناتِ العمِّ والعمّةِ والخالِ والخالة إن شاء ثلاث مئة. فقولُ المصنِّف: ((من الأعربياتِ والغرائبِ)) بيانُ النساءِ في {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ}، وقولُه: ((من الأجناسِ الأربعة)) بيانُ النساءِ اللاتي نُصَّ إحلالهنَّ، والأعرابيات في مقابلةِ المهاجراتِ، والغرائبِ في مقابلةِ القرايب، والكتابياتُ في مقابلةِ امرأةٍ مؤمنةٍ، والإماءُ بالنكاحِ في مقابلة {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ}. فإن قُلت: ما فائدةُ الاختلافِ بأن جاء بـ ((أو)) في المعطوفَيْن الأخيرَيْن، أي: في قولِه:

النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية؛ كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحٍد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى: أنّ عيينة بن حصن دخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عيينة، أين الاستئذان؟ " قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هذه عائشة أمّ المؤمنين". قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله قد حرّم ذلك"، فلما خرج قالت عائشة رضى الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: "أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه». وعن عائشة رضى الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء. تعنى: أنّ الآية قد نسخت. ولا يخلو نسخها: إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى: (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ)] الأحزاب: 50 [، وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في (تَبَدَّلَ)، لا من المفعول الذي هو (مِنْ أَزْواجٍ)؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ)) دون الثاني، والأصل الواو؟ قلتُ: ليؤذنَ بالاختلافِ والجمعِ بين الأقوال، فالواوُ في ((والغرائب)) إشارةٌ إلى قولِ أبي صالحٍ: أن لا يتزوَّجَ أعرابيةً ولا غريبةً، و ((أو)) في ((أو من الكتابيات)) مشيرةٌ إلى ما رَوى مُحيي السنة عن مُجاهدٍ: أنّ معناهُ: لا يحلُّ لك اليهودياتُ والنصرانياتُ، ولا أن تَبدَّلَ بالمسلماتِ غيرَهُنَّ من اليهودِ والنصارى، إلا ما ملكَتْ يمينُك من الكتابياتِ أن تَتسَرّى بهنَّ. وأما ((أو)) في ((أو من الإماء)) فهو ظاهرٌ، لأنه غيرُ مُسْتَنْكرٍ من آحادِ المسلمين أن يتزوج أمَة الغيرِ، فكيفَ بمَنْصِبِ الرسالة، فلو جِيءَ بالواوِ لم يُعْلَم اختلافُ الأقوالِ، وكذا لو أتى بـ ((أو)) في الغرائب لم يُعلَمْ أنه قولُ واحد، وأما صاحبُ ((التقريب)) فقَد أجرى الكلَّ على ((أو)).

لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضًا إعجابك بهنّ. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. (رَقِيباً): حافظًا مهيمنًا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه. [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ الله عَظِيماً)] 53 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لأنه مُوغِلٌ في التنكير)، وقُلتُ: جائزٌ أن يكونَ صفةً لـ {أَزْوَاجٍ}، والواوُ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ كما تَقرَّر، فالمعنى: ولا أن تبدَّلَ بهنَّ من أزواجٍ مفروضًا إعجابُك بهنَّ لا تفارقُ الإعجابَ عنهن لحُسْنِهُنَّ. وعند صاحبِ ((المِفتاح)): يجوزُ أن يكونَ حالاً من {أَزْوَاجٍ}، ومُصحِّحها موصوفِيّةُ {أَزْوَاجٍ}، لأنه على تقديرِ: أزواجٍ من الأزواج، ودخولُ الواوِ لعدَمِ الإلباس بالصفة بناءً على أنه لا يجوزُ توسيطُ الواوِ بين الصفةِ والموصوف. المعنى: ولا أن تبدَّلَ بهنَّ مِن أزواجٍ وإن كُنَّ بالغاتٍ في الحسنِ غايَته، وهذا أبلغ. قولُه: (واستُثنيَ ممّن حُرِّم عليه الإماءُ)، وهُنَّ اللاتي أشيرَ إليهنَّ في {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وكُرِّرَ توكيدًا لطول الكلام. وقال أبو البقاء: {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} في موضعِ رَفْعٍ بَدلاً من {النِّسَاءُ} أو موضعِ نَصْبٍ على الاستثناءِ، وهو من الجنْسِ، فيكونُ متَّصلاً، ويجوزُ أن يكونَ من غيرِ الجنسِ، فيكونَ مُنقطعًا.

(أَنْ يُؤْذَنَ) في معنى الظرف، تقديره: وقت أن يؤذن لكم. و (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من (لا تَدْخُلُوا) وقع الاستثناء على الوقت والحال معًا، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام -إلا أن يؤذن لكم إلى طعاٍم غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصًا، لما جاز لأحٍد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يؤذن له إذنًا خاصًا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة: أنه قرأ: (غير ناظرين) مجرورًا صفة لـ (طعام)، وليس بالوجه؛ لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقعَ الاستثناءُ على الوقتِ والحالِ معًا)، يعني: وقعَ الاستثناء على وقتِ الإذنِ المصحوبِ بقيدِ {غَيْرَ نَاظِرِينَ}، وهما قيدان للفعل، فوجبَ تقديرُ مستثنًى منه من أعمِّ هذا المستثنى. أي: لا تدخُلوا في وقتٍ من الأوقاتِ إلا في هذا الوقتِ، لكنَّ النهيَ واردٌ في قومٍ مخصوصين كانوا يضبطون وَقْتَ إدراكِ الطعام فنُهوا عن ذلك، وإليه الإشارةُ بقولِه: ((وإلا فلو لم يكُنْ لهؤلاءِ خُصوصًا لَما جازَ لأحدٍ أن يدخُلَ إلاّ أن يؤذَنَ له إذنًا خاصًّا، وهو الإذنُ إلى الطعامِ فحَسْبُ))، لكنه يجوزُ الدخولُ بالإذْنِ مُطلقًا. قال أبو البَقاء: {إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} في موضع الحال، أي: لا تدخُلوا إلا مأذونًا لكم، وهو على هذا حالٌ من فاعل {تَدْخُلُوا} أو حالٌ من المجرور في {لَكُمْ}. قولُه: (يتحَيَّنون)، أي: يضْبطونَ وقْتَ إدراكِ الطعامِ وحينَه. قولُه: (كقولك: هِنْدٌ زيدٌ ضارِبتُه هي)، في ((المُقْتَبس)) عن الطبّاخي: التاءُ علامةٌ لا

وإنى الطعام: إدراكه، يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى، ومنه قوله: (بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)] الرحمن: 44 [: بالغ إناه. وقيل: (إِناهُ): وقته، أى: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم على زينب بتمٍر وسويٍق وشاةٍ، وأمر أنسا أن يدعو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فاعل، والفاعلُ ((هي))، وإنّما أتى به وإن كانَ في اللفظ ما يدلُّ على أن الضرْبَ لهندٍ وهو التاءُ، لأنه يأتي في مواضعَ مَشْكِلاً، فاحتيجَ إلى هذا المُنفَصِل ليَجْرِيَ المُشْكِلُ وغيرُه على سَنَنٍ واحد. قال ابنُ الحاجب: إذا قلتَ: نحنُ الزيدونَ ضارِبون، أو: زيدٌ ضاربٌ، ونحوُهما، يؤدِّي إلى اللَّبْسِ، فَعدلوا إلى المنفصل. قال الشيخُ عبدُ القادر: يجبُ الإبرازُ في قولِك: هندٌ ضارِبتُه هي، ولو قُلتَ: زيدٌ هِنْدٌ ضارِبَتُه، لم يجبْ؛ لأنَّ في الأولِ جَرى الوصْفُ على غيرِ ما هو له. قال مكّي: {غَيْرَ} حالٌ من ((كُم)) في {لَكُمْ} والعاملُ {يؤْذَنَ}، ولا يجوزُ أن يكونَ وصفًا للطعامِ إذ لو كان وصفًا له لقيل: غيْرَ ناظرينَ أنتُم، لأنّ اسْمَ الفاعلِ إذا جَرى صفةً أو حالاً أو صِلةً من غَيرِ مَنْ هو له لَم يَسْتَترِ فيه ضميرُ الفاعلِ بخلافِه في الفعلِ، فلو قيل: إلى طعامٍ لا يَنْتظرونَ إناهُ؛ على الوصْفِ لجاز. قولُه: (وإني الطعام: إدراكُه)، قال الزجاج: إناهُ: نُضْجُه وبُلوغُه، تقول: أنى يأني إنًى: إذا نَضَج وبَلغ. قال مكّي: {إِنَاءُ}: ظرفُ زمانٍ مقلوبٌ مِن: آن، التي بمعنى الحين، فقُلِبَتِ النونُ قبلَ الألفِ وغُيِّرت الهمزةُ إلى الكسرةِ، أي: غَيْرَ ناظرينَ آنه، أي: حينَه، ثم قُلِبَتْ وغُيّرت. قولُه: (أوْلَمَ على زَيْنبَ بتمرٍ)، الحديثُ من روايةِ البخاريِّ ومُسلمٍ والتِّرمذيِّ

بالناس، فترادفوا أفواجًا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه، فقال: "ارفعوا طعامكم"، وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفٍر يتحدثون، فأطالوا؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى الله عنها، فقال: "السلام عليكم أهل البيت"، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن، ودعون له؛ ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليًا خرجوا، فرجع؛ ونزلت. (وَلا مُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ): نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعٍض لأجل حديث يحدثه به، أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه. وهو مجرور معطوف على (ناظرين). وقيل: هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لا بد في قوله: (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من تقدير المضاف، أى: من إخراجكم، بدليل قوله: (وَالله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) يعنى: أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنَّسائيِّ عن أنسٍ قال: كنتُ أعلمَ الناسِ بشأنِ الحجابِ حين أُنزِلَ، وكانَ أوّلَ ما أُنزِلَ في مُبتنى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بزينبَ بنتِ جَحْش؛ أصبحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عروسًا فدعا القومَ فأصابوا الطعامَ ثم خَرجوا، وبقيَ رَهْطٌ منهم عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا المُكْثَ، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فخرجَ وخرجتُ معه، الحديثُ على نَحْو ما ذكَره المصنِّفُ مع تغييرٍ في رواياتٍ شتّى. قولُه: (وتوجُّسُه)، الجوهري: التوجُّسُ: التسمُّعُ إلى الصوتِ الخَفيّ. قولُه: (بدليلِ قوله: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ})، لأن معناه: لا يتركُ تأديبَكم، والتأديبُ في هذا المقامِ إخراجُهم من البيتِ لأنّ جلوسَهم فيه كان يُؤذي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فوجبَ لذلك أن يُقدَّرُ إخراجُهم ليتطابقَ النفيُ والإثبات. وفي وَضْع الحقِّ مقامَ الإخراجِ إيذانٌ بتعظيمِ جانبِ الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال قيل: (لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم. وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وعن عائشة رضى الله عنها: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: (فإذا طعمتم فانتشروا). وقرئ: (لا يستحى) بياٍء واحدة. الضمير في (سَأَلْتُمُوهُنَّ) لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن؛ لأنّ الحال ناطقة بذكرهن، (مَتاعاً) حاجة (فَسْئَلُوهُنّ) المتاع. قيل: إن عمر رضى الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبًة شديدة، وكان يذكره كثيرًا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؛ فنزلت. وروى: أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلًا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى الله عنها: يا ابن الخطاب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ولمّا كان الحياءُ ممّا يمنَعُ الحَيِيَّ من بعض الأفعال قيل: {لَا يَسْتَحْيِي})، يعني: استُعير لقولِنا: لا يمتنعُ ولا يتركُ، لفظُ: {لَا يَسْتَحْيِي} بعد التشبيه، بدليلِ قولِه: ((تَرْكَ الحَيِيِّ))، أو لأنّ الله سبحانَه وتعالى إذا وُصِفَ بما يختَصُّ بالأجسامِ حُمِلَ على نهاياتِ أغراضِه لا على بداياتِه، فإن الإنسان إذا حيي عن فِعْلٍ عِيبَ فيه، تركَه وامتنعَ منه. قولُه: (تَرْكَ الحَيِيِّ)، منصوبٌ على المصدر، أي: لا يتركُه تركًا مثْلَ تَرْكِ الحَييِّ منكم. فيه إشعارٌ بأنَّ استعمالَ الحياءِ هنا مَجازٌ مسبوقٌ بالتشبيهِ، فيكونُ استعارةً، لأنَّ المُشَبَّه المتروكَ هو: لا يترك. قولُه: (قيل: إنّ عُمرَ رضيَ الله عنه كان يُحِبُّ ضَرْبَ الحجاب عليهن)، روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسٍ: قال عمر رضي الله عنه: قلتُ: يا رسولَ الله، يدخلُ عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرْتَ أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزلَ الله سُبحانَه وتعالى آيةَ الحجاب. قولُه: (لو أُطاع فيكُنَّ ما رأتكُنَّ عين)، كنايةٌ عن ضَرْبِ الحجابِ، أي: عَيْن الأجانب.

إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا! فلم يلبثواإلا يسيرا حتى نزلت. وقيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فنزلت آية الحجاب. وذكر: أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم الله أن ذلك محرم. (وَما كانَ لَكُمْ): وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده، وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيًا وميتًا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت؛ لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان: أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفًا واستهتارًا، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها؛ تصورًا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء: أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة؛ فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك. [(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)] 54 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وذُكِرَ أنّ بعْضَهم قال: أنُنهي أن نُكَلِّمَ بناتِ عَمِّنا)، روى مُحيي السنّةِ عن مُقاتل بن سُليمانَ: أنّه طَلْحة بن عُبيد الله. وفي روايتِه بَدَلَ ((فُلانةٍ)): عائشةُ رضيَ الله عنها. قولُه: (لا يرى الدنيا بها)، قيل: الباءُ فيه كالباءِ في: بِعْتُ هذا بهذا. قولُه: (واستهتارًا)، الاستهتار: أن يبلُغَ في الحبِّ غايةً لا يُبالي فيه ما قيلَ فيه، مأخوذٌ من الهَتْرِ، وهو مَزْقُ العِرْض. قولُه: (في هَدْمِ الثلاث)، أي: الطلقاتِ الثلاثِ عند إرادةِ التحليل.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) من نكاحهن على ألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم (فَإِنَّ الله) يعلم ذلك فيعاقبكم به. وإنما جاء به على أثر ذلك عامًا لكل باٍد وخاٍف؛ ليدخل تحته نكاحهن وغيره؛ ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل. [(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ الله إِنَّ الله كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)] 55 [ روى: أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ) أى: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء، ولم يذكر العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبًا، قال الله تعالى: (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)] البقرة: 133 [، وإسماعيل عم يعقوب. وقيل: كره ترك الاحتجاب عنهما؛ لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد، فقيل: (وَاتَّقِينَ الله) فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه، وفيما استثنى منه ما قدرتن، واحفظن حدودهما، واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإنما جاءَ به على أثَرِ ذلك عامّاً)، يعني: كانَ منَ الظاهرِ أن يُقال: إن تبدوا إنكاحَهُنَّ على ألسنتِكم فإنَّ اللهَ يَعلمُ ذلك، فوضَعَ في مَوْضعِهما {شَيْئًا} و {شَيْءٌ}؛ ليدخُلَ تحْتَ هذا العامِّ دخولاً أوّليًا على سبيلِ البُرْهان، وكان أجْزَل وأهْول. قولُه: (فقيل: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ})، متَّصلٌ بقَوْلِه: ((ثمّ نَقَلَ الكلامَ من الغَيْبةِ إلى الخطاب))، وقولِه: ((وفي هذا النقلِ ما يدلُّ على فَضْلِ تشديد)) اعتراض، وإنما كان فَضْلَ تشديدٍ لأنّ الخطابَ أقوى من الغيبةِ، ومَنْ كان مُشافَهًا في الزَّجْرِ كان أرْدَع له مِمّا كان غائبًا، ولذلك قيل: كافَحَه وواجَهَه في الكلام. قولُه: (واحفَظْنَ حدودَهما)، أي: حدودَ الاحتجاب وما استُثْنيَ منه من عدمِ الاحتجابِ

غير محتجبات؛ ليفضل سركن علنكن (إنَّ الله كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه (شَهِيداً) لا يتفاوت في علمه الأحوال. [(إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)] 56 [ قرئ: (وملائكته) بالرفع؛ عطفًا على محل (إن) واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين: أن يحذف الخبر؛ لدلالة (يصلون) عليه. (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) أى قولوا: الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها؛ فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره، وفي الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل علىّ فدخل النار فأبعده الله»، ويروى: أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به؛ إنّ الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من المذكورين. قولُه: (مَنْ ذُكِرْتُ عنْدَه فلم يُصَلِّ عليَّ فَدخلَ النارَ)، روى الشيخُ مُحيي الدين في ((الأذكار)). عن ابنِ السُّنِّي عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ذُكِرْتُ عندَه فلم يُصَلِّ عليَّ فقد شَقي)). وروى أيضًا عن التِّرمذيِّ عن أبي هُريرَة رضيَ الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنْدَه فلَمْ يُصَلِّ عليّ)). قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسن.

وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلٍم فيصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابًا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبٍد مسلٍم فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته لذينك الملكين: آمين»؛ ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاٍء في أوله وآخره؛ ومنهم من أوجبها في العمر مرةً، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط الصلاة عليه عند كل ذكر؛ لما ورد من الأخبار. فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطًا، وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك -يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو: السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي -رحمه الله- فقد جعلها شرطًا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ)] الأحزاب: 43 [، وقوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)] التوبة: 103 [، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبى أوفى»، ولكن للعلماء تفصيلًا في ذلك؛ وهو: أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى الله على النبي وآله؛ فلا كلام فيها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وهو أنّها إن كانت على سبيلِ التبع)، قال الشيخُ مُحيي الدين في كتابِ ((الأذكار)): أجمعوا على الصلاةِ على نَبيِّنا وعلى سائرِ الأنبياءِ والملائكةِ استقلالاً، وأما غَيْرُ الأنبياءِ فالجُمهورُ لا يُصَلّى عليهم ابتداءً، واختُلِفَ فيه فقيل: هو حرام، وقيل: مَكْروهٌ كَراهةَ تنزيهٍ، لأنّه شِعارُ أهلِ البِدَع، وقالوا: إنَّ الصلاةَ صارَتْ مخصوصةً في لسانِ السلفِ بالأنبياءِ كما أنّ قولَنا عزَّ وجَلّ مخصوصٌ بالله سُبحانَه وتعالى، وكما لا يُقالُ: محمَّدٌ عزَّ وجلَّ، وإن كان عزيزًا جليلاً، لا يقالُ: أبو بكرٍ أو عَليٌّ صلى الله عليه وإن كان صحيحًا. واتفقوا على جوازِ غيرِ الأنبياءِ تَبَعًا لهم فيقال: اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجهِ وأتباعهِ؛ للأحاديثِ الصحيحة. وأما السلامُ فقال الشيخُ أبو محمَّدٍ الجُوَيْني: هو في معنى الصلاةِ،

وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو: فمكروه؛ لأن ذلك صار شعارًا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم". [(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)] 57 - 58 [ (يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ) فيه وجهان؛ أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوّة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازًا فيهما جميعًا، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا يُسْتَعملُ في الغائبِ فلا يُفْرَدُ به غيرُ الأنبياء فلا يُقال: عليٌّ عليه السلام، وسواءٌ هذا في الأحياءِ والأموات، وأما الحاضرُ فيُخاطَبُ به، ويُسْتحَبُّ الترضِّي والترحُّمُ على الصحابةِ والتابعينَ فمَنْ بعْدَهُم من العلماءِ والعُبَّادِ وسائرِ الأخيارِ. وأما ما قالَه بعضُ العلماءِ: إن قوِلَه: رضيَ الله عنه، مخصوصٌ بالصحابة، ويُقالُ في غيرِهم: رحِمَه الله، فليسَ كما قال، بل الصحيحُ الذي عليه الجمهورُ استحبابهُ ودلائلُه أكثَرُ من أن تُحْصى. قولُه: (على سبيلِ المجاز)، متعلِّقٌ بقَوْلِه: ((أن يُعَبَّر)) يعني: أطلقَ {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأريدَ به فْعْلُ ما لا يَرْضيانه من الكفرِ والمعاصي وغيرِهما، كأنه قيل: إنّ الذين يَفْعلونَ ما لا يُرْضي الله ورسولَه، فأطْلقَ السَّببُ وأريدَ المسبَّب، وإنّما ارتكبَ طريقَ المجازِ، وإن صَحَّ إطلاقُ الإيذاءِ في حَقِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حقيقةً؛ لئلاّ يَجْعلَ العبارةَ الواحدةَ مُعطيةً معنى المجازِ والحقيقةِ معًا، هذا الطريقُ هو الذي يُسمِّيه الأصوليون عُمومَ المجاز.

والثاني: أن يراد: يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل في أذى الله: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: (يد الله مغلولة)] المائدة: 64 [، و: (ثالث ثلاثة)] المائدة: 73 [، و: (المسيح ابن الله)] التوبة: 30 [، و: الملائكة بنات الله، و: الأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «شتمني ابن آدم، ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني؛ فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدًا. وأما أذاه فقوله: إن الله لا يعيدني بعد أن بدأنى». وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلٍق مثل خلق الله. وقيل في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي وأطلق إيذاء الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والثاني: أن يُرادَ: يُؤذونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)، فيكونُ ذِكْرُ الله تمهيدًا لذكْرِه، وأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندَ الله بمكانةٍ حتى إنّ إيذاءَه إيذاؤه. قولُه: (شتَمني ابنُ آدمَ ولم يَنْبغِ له أن يَشْتُمَني)، الحديث من روايةِ البُخاريِّ والنَّسائي عن أبي هريرة، قد أوردناهُ، وفيما أورَده اختلافٌ في الألفاظ. قولُه: (وقيل: [طعنُهم عليه] في نكاحِ صَفِيّةَ بنت حُيَيّ)، روى في ((الاستيعاب)) عن أبي عُبَيدةَ: كانت صَفِيّةُ عند سَلاّمِ بن مِشْكَم وكان شاعرًا، ثم خَلفَ عليها كِنانَةُ وهو شاعرٌ، فقُتِلَ يوْمَ خَيْبَر، وتزوَّجَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم سنَةَ سَبْعٍ من الهجرة. ورُويَ عن أنسٍ أنه قال فيه: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما جَمعَ سَبْيَ خَيْبَر جاءَه دِحْيَة فقال: أعْطِني جاريةً من السَّبْي، فقال: ((اذهَبْ فخُذْ جاريةً))، فأخذَ صَفِيّةَ فقيل: يا رسولَ الله، إنَّها سيِّدةُ بَني قُريظةَ والنَّضير، ما تصْلُحُ إلاّ لَك، فقال النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ((خُذْ جاريةً غَيْرها))، قال ابن شِهاب: كانَتْ مِمّا أفاءَ الله عليهِ فحَجَبها، وأوْلَم عليها بتَمْرٍ وسَويقٍ وقَسَم لها، وكانَتْ إحدى أمَّهاتِ المؤمنين.

ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا، وأما أذى المؤمنين والمؤمنات؛ فمنه ومنه. ومعنى (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): بغير جنايةً واستحقاٍق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليًا رضى الله عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى الله عنها. وقيل: في زناةٍ كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات. وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبًا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف؟ وكان ابن عوٍن لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمّة؛ لما فيه من الروعة عند كرّ الحول. [(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 59 [ الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد: مجلبب من سواد اللّيل جلبابا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورُويَ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخَل عليها وهي تَبْكي، فقال لها: ((ما يُبكيك))؟ فقالت: إنّ عائشَة وحَفْصَة تنالانِ منّي وتقولان: نَحْنُ خَيْرٌ من صَفيّةَ، قال: ((ألا قُلْتِ لهنَّ: كيفَ تكُنَّ خيرًا مني وأبي هارونُ وعَمِّي موسى وزوجي مُحمَّد))، وكانَتْ مِن سِبْط هارون. وليس في ((الاستيعاب)) ولا في ((الجامع)) أنَّ أحدًا طَعَنَ في نكاحِها، والله أعلم. قولُه: (فمِنْه ومنْه)، أي فمْنْهُ حَقٌّ ومِنه باطل. والفاءُ للتعقيبِ دخَلَتْ على التفصيل.

ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ): يرخينها عليهنّ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك؛ وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلاٍت، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون -إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهنّ في النخيل والغيطان- للإماء، وربما تعرّضوا للحرّه بعلة الأمة؛ يقولون: حسبناها أمةً، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن طامع؛ وذلك قوله: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أى: أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى (مِنْ) في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهنّ من الجلابيب، والمراد: أن لا تكون الحرة متبذلة في درٍع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (مُبْتذلاتٍ)، الجوهري: وابتذالُ الثوب وغيره: امتهانُه، والتبذُّلُ: ترْكُ التصاوُن. قولُه: (والغِيطان)، الجوهري: أصلُ الغائطِ: المطمئنُّ منَ الأرضِ الواسعُ، والجمْعُ: غُوطٌ وأغواطٌ وغِيطان. قولُه: (والمرادُ: أن لا تكون الحرَّةُ مُبتذَلة)، يعني: عَبر بقوله: ((يُدنيَن عليهنّ بَعْضَ جلابيبهنَّ)) عن كوْنِ الحرَّةِ غيرَ مبتذلة، لأنه يلزَمُ من ذلك أن تكونَ ذات جلابيبَ، فلا تُنزل نَفْسَها بمَنْزلةِ مَنْ ليسَ لها إلا دِرْعٌ وخِمار، كالأمةِ. قولُه: ((ولها جِلْبابان))، حالٌ من الضمير في ((مُبْتذَلة)). قولُه: (والماهِنة)، أي: الخادمة. الجوهري: المَهْنة بالفَتْح، أي: الخِدمةُ، وحكى أبو زيدٍ

في بيتها. والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين. وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهنّ. أراد بالانضمام معنى الإدناء. (وَكانَ الله غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط، مع التوبة؛ لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل. [(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً)] 60 - 62 [ (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)] الأحزاب: 32 [. (وَالْمُرْجِفُونَ): ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا؛ إذا أخبر به على غير حقيقة؛ لكونه خبرًا متزلزلًا غير ثابت، من الرجفة؛ وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والكِسائيُّ بالكَسْرِ، وأنكَره الأصمعيُّ، والماهِنُ: الخادم. قولُه: (لأنّ هذا مِمّا يُمكنُ معرفتُه بالعقل)، وعندَ أهلِ السنّة: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} لِما عسى يصدُر عنهُنَّ [من] الإخلالِ في أمرِ التستُر رحيمًا بهنَّ بعد التوبة. وقيل: {غَفُورًا} لِما وَقَع منهنَّ قبْلَ الأمرِ فلا يُؤاخِذهُنَّ به، في ((المطلع)). قولُه: (يُرْجِفون بأخبارِ السوء)، الراغب: الرجفُ: الاضطرابُ الشديد، والإرجافُ: إيقاعُ الرجفةِ إما بالفِعْلِ أو القولِ، ويقال: الأراجيفُ مَلاقيحُ الفِتن.

عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء: لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها (إِلَّا) زمنًا (قَلِيلًا) ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم. فسمى ذلك إغراء -وهو التحريش- على سبيل المجاز. (مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال، أى: لا يجاورونك إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معًا، كما مرّ في قوله: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ)] الأحزاب: 53 [، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وتَنُوءُهم)، الجوهري: قال ابنُ السكّيت: يُقال: له عندي ما ساءَهُ وناءَهُ، أي: أثْقَلَه، وما يسوءُه وينوءُه. وقال بعضُهم: أراد: ساءَهُ وأناءه، وإنّما قال: ناءَهُ، وهو لا يتَعدّى لأجل ((ساءَه)) ليَزْدوِجَ الكَلام. قولُه: (ويلتقطون أنفُسَهم)، الأساس: لَقَطَ الحصا وغَيْرَه والتقَطه ويَلْقُطُه. الانتصاف: في قولهِ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} إشارةٌ إلى ما فَسَّره الزمخشريُّ إلى أنّ مَنْ توجَّه عليه إخلاءُ مَنْزلٍ مملوكٍ للغيرِ بوَجْهٍ شَرْعيٍّ؛ يُمْهَلُ رَيْثَما نفْسَه ومَتاعَه وعيالَه إن كان له موضعٌ، وإلا يُمْهَلُ حتّى يتَيَّسر له موضِعٌ آخَر. قولُه: (فسَمّى ذلك إغراءً)، أي: أطلقَ على الأمرِ بأن يَفْعلَ بهم الأفاعيلَ التي تَسوءهُم الإغراءَ بقولِه: {لَنُغْرِيَنَّكَ} على المجازِ مُبالغة. قولُه: (التحريش)، النهاية: وفي الحديث: نهي عن تحريش البهائم، وهو الإغراءُ وتَهْييُج بعضِها على بعضِ، كما يُفعَلُ بين الجمالِ والكِباشِ والديوك. قولُه: (دخَل حرْفُ الاستثناءِ على الظرفِ والحالِ معًا)، كأنّه قيل: لا يُجاورونَك فيها في حالٍ من الأحوالِ وزَمنٍ من الأزمنةِ، إلاّ مَطرودين مَلعونين، زمنًا قليلاً، ريْثَما يرتحِلون ويلتقطونَ أنفُسَهم وعِيالاتِهم.

ولا يصح أن ينتصب عن (أُخِذُوا)؛ لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في (قَلِيلًا): هو منصوب على الحال أيضًا، ومعناه: لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع (لا يجاورونك)؟ قلت: (لا يجاورونك) عطف على (لنغرينك)؛ لأنه يجوز أن يجاب به القسم، ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك؟ فإن قلت: أما كان من حق (لا يجاورونك) أن يعطف بالفاء، وأن يقال: لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببًا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابًا آخر للقسم معطوفًا على الأوّل، وإنما عطف بـ"ثم"؛ لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه. (سُنَّةَ الله) في موضع مصدر مؤكد، أى: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وعن مقاتل: يعنى: كما قتل أهل بدر وأسروا. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ الله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)] 63 [ كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة؛ استعجالًا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا؛ لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به؛ لم يطلع عليه ملكًا ولا نبيًا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع؛ تهديدا للمستعجلين، وإسكاتًا للممتحنين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أما كانَ مِن حَقِّ {لَا يُجَاوِرُونَكَ} أن يُعطَفَ بالفاءِ)، لأنّ جَلاءَهم عن الأوطانِ كان مُسَبّبًا عن التحريشِ بهم وما يَضْطَرُّهم إلى طَلبِ الجلاء؟ وخُلاصةُ الجواب: أنّ ما عليه التلاوةُ أبلغ، ولاحتواءِ الفائدةِ أملأ، كأنّه قيل: لئن لم يَنْتهِ المنافقونَ ليحصُل لهم خَطْبانِ عَظيمان، لكنّ الثاني أعظَمُ عليهِم من الأول، لأنّ مُفارقةَ الوطنِ أعظَمُ المصائب، ألا ترى إلى بني إسرائيلَ كيفَ اختاروا القَتْلَ على الجَلاء.

(قَرِيباً): شيئًا قريبًا، أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب. [(إِنَّ الله لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)] 64 - 65 [ السعير: النار المسعورة الشديدة الإتقاد. [(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)] 66 [ وقرئ: (تقلب) على البناء للمفعول، و (تقلب) بمعنى: تتقلب، و (نقلب)، أى: نقلب نحن، و (تقلب) على أن الفعل للسعير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({قَرِيبًا}: شيئًا قريبًا، أوْ لأنّ الساعةَ في معنى اليوم)، يعني: مِن حَقِّ الظاهرِ أن يُقال: قريبة، لأنّها خَبرُ ((كان)) واسمُه مؤنَّث، فقيل: {قَرِيبًا} على تأويلِ أنّه صفةُ موصوفٍ محذوفٍ، أو الساعةُ بمعنى اليومِ أو الزمان. روى الزجّاجُ عن أبي عُبيدة: أن ((قَريبًا)) يكونُ للمؤنَّث والثِّنتَيْن والجَمْع بلَفْظِ واحدٍ، ولا يُدْخِلون الهاءَ لأنه ليسَ بصفةٍ ولكن ظَرف، وأنشدَ: وإنْ تُمْسِ ابنةُ السَّهْميِّ منا ... بعيدًا لا تُكلِّمنا كلاما فإذا جَعلوها صفةً في معنى: مُقْتربة، قالوا: هي قريبة. قولُه: (وقُرِئ: {تُقَلَّبُ} على البناء للمفعول)، هي المشهورة. قولُه: (و ((نُقَلِّبُ))، أي: نُقَلِّبُ نحنُ، و ((تُقَلِّبُ)) على أنّ الفعلَ للسَّعير)، قال ابن جِنّي: ((تُقَلِّبُ وجوهَهم)) بالنصبِ، فاعلُه ضميرُ السعيرِ، فنُسِبَ الفِعْلُ إليها، وإن كان المُقَلِّبُ هو اللهَ تعالى بدلالةِ قراءةِ أبي حَيْوَةَ: ((نُقَلِّبُ)) بالنونِ للملابسةِ التي بينهما، قال الله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] نسَبَ المكْرَ إليهما لوقوعِه فيهما، وعليه قولُ الشاعر: لقَدْ لُمتِنا يا أمَّ غَيْلاَن في السُّرى ... ونِمْتِ وما ليلُ المطيِّ بنائمِ

ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو: تغييرها عن أحوالها، وتحويلها عن هيئاتها. أو: طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أكرم موضٍع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيتُ ((الكتاب)): أما النهارُ ففِي قَيْدٍ وسِلْسلةٍ ... والليلُ في جَوْفِ مَنْحوتٍ من الساج أي: المذكورُ في نَهاره في القَيْدِ وفي لَيْلهِ في بَطنِ المنحوتِ، أي: السفينةِ، وقد جاءَ في الأماكنِ نَحْو: سارَتْ بهم الفِجاجُ، أي: ساروا فيها. قولُه: (ومعنى تقْليبها: تَصْريفُها في الجهات)، الراغب: قَلْبُ الشيء: تصريفُه وصَرْفُه عن وجْهٍ إلى وجه، وقَلْبُ الإنسان أي: صَرْفُه عن طريقتِه والانقلابُ الانصراف قال الله تعالى: {انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، وقَلبُ الإنسانِ قيل: سُمِّيَ به لكَثْرةِ تَقَلُّبهِ، ويُعَبَّرُ بالقلْبِ عن المعاني التي تختصُّ به من الروحِ والعلمِ والشجاعةِ وسائرِ ذلك، وقولُه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] أي: الأرواح، وقولُه: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي: عِلْمٌ وفَهْم. وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10] أي: تثبُتَ به شجاعَتُكُم ويزولَ خوفُكم، وعلى عكْسِه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]، وتقليبُ الشيء: تَغْييرُه مِن حالٍ إلى حالٍ نَحْو: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66]، وتقليبُ الأمور: تدبُّرها والنظرُ فيها، قال الله تعالى: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [التوبة: 48]، وتقليبُ الله القلوبَ والبصائرَ: صَرْفُها مِن رأيٍ إلى رأي، وتقليبُ اليدِ: عبارةٌ عن النّدمِ ذكرًا لحالِ ما يُوجَدُ عليه النادمُ، قال تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] أي: يُصفِّقُ ندامةً، والقَليبُ: البئرُ التي لم تُطْوَ، والقُلْبُ: المقلوبُ من الإسورة.

على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف: (يَقُولُونَ)، أو محذوف؛ وهو: «اذكر»، وإذا نصب بالمحذوف كان (يَقُولُونَ) حالًا. [(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)] 67 - 68 [ وقرئ: (سادتنا)، و (ساداتنا)، وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضلّ السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف؛ لإطلاق الصوت؛ جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها: الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ: (كثيرا)؛ تكثيرًا لإعداد اللعائن، و (كبيرا)؛ ليدل على أشد اللعن وأعظمه. (ضِعْفَيْنِ) ضعفًا لضلاله، وضعفًا لإضلاله. يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ الله مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ الله وَجِيهاً)] 69 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وإذا نُصِبَ بالمحذوفِ كان {يَقُولُونَ} حالاً)، قال أبو البقاء: {يَقُولُونَ} حالٌ من الوجوهِ، لأنّ المرادَ أصحابُها، ويَضْعُفُ أن يكونَ من الضميرِ المجرورِ، لأنه مُضافٌ إليه. قولُه: (وقُرئ: {سَادَتَنَا} و ((ساداتِنا)))، ابنُ عامر: بالجمع وبكسر التاء، والباقون: {سَادَتَنَا} بفتح التاء. قولُه: (وقرئ: ((كثيرًا)))، عاصمٌ وحْدَه: {كَبِيرًا} بالباء، والباقون: بالثاءِ المثلثة. قولُه: (يعترفون ويَسْتغيثون ويتَمنَّوْن)، إشارةٌ إلى نَظْمِ الآياتِ، فالتمنِّي قَوْلُهم: {يَالَيْتَنَى}، والاستغاثةُ: {رَبَّنَا}، والاعتراف: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا}.

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قيل: نزلت في شأن زيٍد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها. وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون، وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتًا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيٍب في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم الله على أنه بريء منه. (وَجِيهاً): ذا جاٍه ومنزلةٍ عنده؛ فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه؛ لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن به عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة: (وكان عبد الله وجيها). قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه؛ لأنها مفصحة عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقيل: في أذن موسى عليه السلام)، الحديثُ رَواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ والتِّرمذيُّ عن أبي هُريرَة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهورٌ وقد أورَدْناه فيما سبق. قولُه: (قَرفوهُ بعَيْبٍ): اتهَّموه، الأُدْرَةُ؛ بالضم: نَفْخَةٌ بالخُصْية. قولُه: (صَلَّيْتُ خَلْفَ ابنِ شَنَبوذ في شهرِ رَمضانَ فسَمِعتُه يقرؤُها)، أي: ((عبدًا لله)) بالباء. قال صاحبُ ((الروضة)): وتُجْزِئُ بالقراءاتِ السبعةِ، وتَصِحُّ بالقراءةِ الشاذّةِ إن لم يكُنْ فيها تغييرُ معنى ولا زيادةُ حَرْفٍ ولا نُقصان، وهاهُنا بين المعنَيينْ بَوْنٌ كما ذكَره المصنِّفُ، ونَحْوُه عن ابن جِنّي.

وجاهته عند الله؛ كقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)] التكوير: 20 [، وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله: (مِمَّا قالُوا) معناه: من قولهم، أو: من مقولهم؛ لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان؛ فكيف تصح البراءة منه؟ قلت: المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه؛ وهو الأمر المعيب، ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة، والقالة بمعنى القول؟ [(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ الله الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً)] 70 - 73 [ (قَوْلًا سَدِيداً): قاصدا إلى الحق. والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصٍد وعدٍل في القول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فكيفَ تَصِحُّ البراءةُ منه)، يعني: لا يقال: بَراءةٌ من القولِ، بل من العَيْب والدِّين. قولُه: (سَمّوا السُّبَّةَ بالقالة)، النهاية: في الحديثِ ((فشَت القالةُ بين الناس))، أي: كَثْرَةُ القولِ وإيقاعُ الخُصومةِ بين الناسِ بما يُحكى للبعضِ عن البعض. قولُه: (والمرادُ: نَهْيُهم)، قيل: أي: بـ {لاَ تَكُونُوا}، ((والبعثُ)) أي: بقَوْله: ((قولوا)). وقلت: وليس بذاك، لأنه عنى بالنَّهْي خوْضَهم في حديثِ زينَب من غيرِ قَصْدٍ وعَدْلٍ في القول، والمنهيُّ في الآية السابقةِ كوْنُهم في أذى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِثْلَ كَوْنِ قومِ موسى عليه السلام في أذاهُ، بل عَطْفُ قوْلِه: و ((البَعْثُ)) على ((نَهْيْهِم)) مبنيٌّ على أن الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عن ضِدّه، ولو أريدَ بهذا العطفِ ذلك المعنى لجاءَ قولُه: ((وهذه الآيةُ مُقرِّرةٌ للتي قَبلَها))

والبعث على أن يسد قولهم في كل باب؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة؛ من: تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل: إصلاح الأعمال: التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية. وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ؛ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال: (وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ) وعلق بالطاعة الفوز العظيم؛ أتبعه قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وهو يريد بالأمانة الطاعة؛ فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان: أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها؛ حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا وتكوينًا وتسويةً على هيئاٍت مختلفةٍ وأشكاٍل متنوعة، كما قال: (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)] فصلت: 11 [، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع. والمراد بالأمانة: الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة: فمن قولك: فلان حامل للأمانة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى آخرهِ مُكَرّرًا مُسْتَدْرَكًا مع إتباعِ النهيِ ما يتضمَّنُ الوعيدَ من قصةِ موسى عليه السلام، وإتباعِ الأمرِ الوعْدَ. والأولُ على سبيلِ التشبيهِ ليُتصوَّرَ التهديدُ من قولِه: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} مِن أنّ الملِكَ لابُدَّ مِن أن ينتَقِم ممَّن يُريدُ نقيصةَ مَنْ له عندَه قُربةٌ ووَجاهةٌ فيُجْتَنبُ عن مِثْلِه، والثاني على سبيل الاشتقاقِ والتعليلِ فيقوى داعيةُ المأمورِ في الامتثالِ بالمأمورِ به، هذا أحسَنُ من قَوله: ((فيقَوى الصارفُ عن الأذى والداعي إلى تركِه))، والله أعلم.

ومحتمل لها؛ تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبةً له ولا هو حاملًا لها. ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصرًا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل، منه قول القائل: أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه ... وترفضّ عند المحفظات الكتائف أى: لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده؛ بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه، فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان): فأبين إلا أن يؤدينها، وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملًا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم؛ لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل؛ لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه؛ وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (قولُ القائل- وهو القُطاميُّ-: أخوكَ) البيت، الحِسُّ: مصدَرُ قَوْلِك: حَسَّ له، أي: رَفَق له. والارفضاضُ: تَرْشيحُ الدمعِ، وكلُّ مُتَفرِّقٍ ذاهبٍ: مُرفَضّ. الكتيفة: الحِقْد، والمُحْفِظات: المُغْضِبات. يقول: أخوكَ هو الذي إنْ أصابَك مِن أحدٍ ما يَسؤوك يغضَبُ لك ويَرِقُّ لأجْلِك ويذهَبُ حِقْدُه، ولا يُمْسِكُ الرِّقَة والعَطْفَ، بل يَبْذلُ ذلك ويَسْمح به. قولُه: (والثاني: أنّ ما كُلِّفه الإنسان)، اعلَمْ أنّ الفرْقَ بين الوجهَيْن هو: أنّ التمثيلَ على الأولِ واقعٌ في هذه الأجرام العِظام؛ شُبِّهَتْ حالةُ انقيادِها وأنَّها لا تَمْتنعُ عن مشيئةِ الله وإرادتِه إيجادًا وتكوينًا وتسويةً بهيئاتٍ مُختلفةٍ بحالِ مأمورٍ مُطيعٍ منقادٍ لا يتوقَّفُ عن الامتثالِ إذا توجَّه إليه أمرُ آمرِه المطاعِ كالأنبياءِ وأفرادِ المؤمنين كقولِه: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصّلت: 11]، وهذا معنى قولِه تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]، فعلى هذا التأويلِ: معنى {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أنّها بَعْدَ ما انقادَت وأطاعَتْ ثَبتَتْ عليها وأدَّتْ ما التزَمتها من الأمانةِ وخرجَتْ عن عُهدتِها، سوى الإنسانِ، فإنه ما وَفّى بذلك وخاسَ به، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. وعلى الثاني: بعكسِ الأول؛ فإنه شَبَّه حالةَ الإنسانِ وهي ما كُلِّفَه من الطاعةِ بحالةٍ مفروضةٍ لو عُرِضَتْ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ لأبَتْ حَمْلَها وأشفَقتْ مِنها لعِظَمه وثِقَل مَحْمَلِه، وحَمَله الإنسانُ على ضَعْفه وَرِخاوةِ قُوَّته، إنه ظَلومٌ على نفسِه جاهلٌ بأحوالِها حيثُ قَبِلَ ما لم يُطْقْ عليه هذه الأجرامُ العِظام. وعلى هذا: قولُه: {وَحَمَلَهَا} مُجرًى على حقيقتِه. والمرادُ بالأمانةِ: التكليفُ ومرجِعُه الطاعة، لأنّ المُكلِّفَ ما يريدُ مِنْ تَكليفِه على المُكلَّفِ إلا إظهارَ طاعتِه، فلذلك صَرَّحَ في الأولِ بقوله: ((والمرادُ بالأمانةِ الطاعةُ لأنّها لازمةُ الوجودِ)) بَعْدَ ما فَرَّعَ الوجهَيْن عليها حيثُ قال: ((وهو يريدُ بالأمانةِ الطاعَة))، وفيه وَجْهان، والوجْهُ الأول مِن قولِ الزجاج قال: وحَقيقةُ هذه الآية: أعلَمَنا الله تعالى أنه ائتمنَ بني آدمَ على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمنَ السماواتِ والأرضَ والجبالَ على طاعتِه والخضوعِ له، فأمّا السمواتُ والأرضُ والجبالُ فإنَّهُنَّ أطَعْنَ الله بقوله: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ولم تحتمل الأمانة، أي: أدَّتْها، وكلُّ مَنْ خانَ الأمانةَ فقد احتمَلَها، وكذلك كلُّ مَنْ أثِمَ فقد احتمَلَ الإثْم، وأداؤها طاعةُ الله فيما أمرَ به. قال الحسن: الكافرُ والمُنافق حملا الأمانَة، أي: خانا ولم يُطيعا. قال الزجاج: ومَنْ أطاعَ من الأنبياءِ والصدِّيقين والمؤمنينَ فلا يُقال: كان ظلومًا، وتصديقُ ذلك ما يتلوهُ من قوله: {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} الآية.

بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم؛ من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج. وكم وكم لهم من أمثاٍل على ألسنة البهائم والجمادات! وتصوّر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى صاحبُ ((المُطْلع)) عن الأزهريِّ قال: ما علِمْتُ أحدًا فَسَّر هذه الآيةَ ما فَسّرَهُ أبو إسحاقَ الزجّاج رَحِمه الله. هذا والذي عليه الاعتماد: أنَّ الله عز وجلَّ قادِرٌ بقُدْرتِه على أن يخلِقَ في كُلِّ ذَرّةٍ من ذَرّاتِ الكائناتِ العلمَ والحياة والنُّطقَ للتخاطُب. روى مُحيي السنّة رَحمِه الله: عرضَ اللهُ الأمانةَ على أعيانِ السماواتِ والأرضِ والجبال. وعليه جماعةٌ من التابعين وأكثرُ السّلف فقال لهن: أتَحْمِلْنَ هذه الأمانةَ بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسَنْتُنَّ جوزيتنَّ وإن عَصَيْتُنَّ عُوقِبتُنَّ، قُلْنَ: لا يا ربُّ لا نُريدُ ثوابًا ولا عِقابًا خشيةً وتعظيمًا لدينِ الله، وكان العرْضُ تخييرًا لا إلزامًا، ولو ألزمَهُنَّ لم يمتَنِعْنَ من حَمْلِها، والجماداتُ كلّها خاضعةٌ لله ساجدةٌ له، لقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله: {أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18] الآية. قال: بعضُهم: ركَّبَ الله فيهن العَقْلَ والفهْمَ حين عرضَ الأمانةَ عليهِنَّ حتى عقَلْنَ الخِطابَ وأجَبْنَ بما أجَبْنَ. تمَّ كلامُه، والله أعلم. قولُه: (ثم خاسَ بضمانه)، الأساس: خاسَ بعَهْدِه وبوَعْده: إذا نكَثَ وأخْلَفَ، وخاسَ بما كان عليه. قال ابنُ الدُّمَيْنَة: فيا ربِّ إنْ خاسَتْ بما كانَ بيننا ... من الودِّ فابعَثْ لي بما فعلَتْ صبرا

مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويرًا هو أوقع في نفس السامع؛ وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى؛ لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه، وكل واحٍد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئًا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟ وفي نظائره: مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات؛ مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في (لِيُعَذِّبَ) لام التعليل على طريق المجاز؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وترجُّحه بين الرأيَيْن)، الأساس: ترجَّحَ في القول: تَرجَّحَ في القول: تَميَّلَ فيه، وترجَّحَتِ الأرجوحةُ، ورجَحَ أحدُ قولَيْه على الآخر. قولُه: (واللامُ في {لِّيُعَذِّبَ} لامُ التعليل على طريق المجاز)، يعني: عَلَّل بقَوْلِه: {لِّيُعَذِّبَ} قَولَه: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} من حَيثُ إنه نتيجةُ الخيانةِ وإليه مآلُ الحَمْل، كقَولِه تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، ولما كانَ كَرامةُ العدوِّ غَيْظَ العدوِّ وموجبَ شَماتتهِ وكانت التوبةُ على المؤمنين إرغامًا للكافرين، عَطَفَ {وَيَتُوبَ} على {لِّيُعَذِّبَ} ليجمَعَ لهم بينَ العذابَيْن، وإليه الإشارةُ بقوله: ((إذا تِيبَ على الوافي كان نوعًا من عذاب الغادر)).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التكلُّفُ إنّما لزِمَه لأنه فسّرَ الإنسانَ بالكافر، وجعَل التعليلَ للحَمْلِ بدليلِ قوله: ((ليُعذِّب الله حاملَ الأمانة، ويتوبَ على غيرِه مِمّن لم يحمِلها)) حيثُ أوقعَ حاملَ الأمانةِ موقعَ ((على المؤمنين))، ولو حُمِلَ التعليلُ على عَرْضِ الأمانة- كما روى مُحيي السنَّةِ عن ابنِ قُتيبة: عرَضْنا الأمانةَ ليَظْهرَ نِفاقُ المُنافقِ وشِرْكُ المُشْرك فيُعذِّبَهم الله، ويظهَرَ إيمانُ المؤمنِ فيتوبَ الله عليه، أي: يعودُ عليه بالرحمةِ والمغفرةِ إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات -وحِمُلَ الإنسانُ على الجِنْس كما نَقْلنا عن الزجاج: أنّ الله ائتمنَ آدمَ وأولادَه على ما افترضَه عليهم من طاعتِه إلى آخره، كانَ له مَنْدوحةٌ عن ذلك، وجَرتْ الكلماتُ الأربعُ أعني: اللامَ والحَمْلَ والإنسانَ والتوبةَ على ظواهِرِها. ولعلّه احترزَ أن يُعلِّلَ بإرادةِ العذاب. أو نقولُ -وبالله التوفيق-: إنّ الله تعالى خلَقَ الخلْقَ ليكونَ مَظاهِرَ أسمائِه الحُسْنى وصفاتهِ العُليا؛ فحاملُ معنى الكبرياءِ والعَظَمةِ: السماواتُ والأرضُ والجبالُ من حيثُ كوْنُها عاجزةً عن حَمْلِ سائرِ الأماناتِ لعدمِ استعدادِها وقَبولِها، ولذلك أبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ مِنها ولعظَمِها عن أقدارِها، وحملَها الإنسانُ لقُوَّةِ استعداده واقتدارِه لكونِه ظلومًا جَهولاً، فاختُصَّ لذلك من بينِ سائرِ المخلوقاتِ بقَبولِ تَجلِّي القهّارية والتّوابيةِ والمغفرة، وشاركَها بقَبولِ تَجلِّي الرحمة، وله النصيبُ الأوفرُ منها لقوةِ استعدادِه واقتداره. قال السجاوَنْدي: إن الله في الأنبياءِ والأصفياءِ ترائكَ وبدائعَ من خصائصِ الإنسانيةِ تحصُل بالسَّهْو وتذهبُ بالعِبَر. ذكَره في ((سورة الرعد)). وينصُره ما رَويْنا في ((مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل)) عن أبي هريرة: قُلنا: يا رسولَ الله، إنا إذا رأيْناكَ قلوبُنا وكنّا من أهلِ الآخرة، وإذا فارقْناك أعجَبَتْنا الدنيا وشَمِمْنا النساءَ والأولادَ قال: ((لو أنّكم تكونونَ على حالٍ على الحالِ التي أنتم عليها عندي لصافحتكُم الملائكةُ بأكفِّهم ولزارتكم في بيوتِكم،

لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في: "ضربته للتأديب" نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش: (ويتوب)؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ: (ويتوب الله). ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها؛ لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعًا من عذاب الغادر. والله أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولو لم تُذْنِبوا لجاءَ الله بقومٍ يُذْنبون كي يغفِرَ لهم)). ورُويَ الفصلُ الأخير عن أبي أيوب الأنصاري. وقال الإمام: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} أي: كان مِن شأنِه الظلمُ والجهْلُ، فلما أودعَ الله الأمانةَ فيهم تركَ بعضُهم الظُّلمَ والجهلَ وفاءً بما التزمَه، وبقيَ لعضُهم على ما كان فيهِ فخاس فيه. والله تعالى أعلم.

سورة سبأ

سورة سبأ مكية أربع وخمسون آيةً بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)] 1 - 2 [ ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة سبأ مكية، وهي أربع وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (ما في السماواتِ والأرضِ كلُّه نِعمةٌ من الله تعالى)، وذلك لأنه مَسارحُ أنظارِ المُتفكِّرين، ومهابطُ أنوارِ ربِّ العالمين، ومنها مَقاماتُ عروجِ العارِفين، فحُقَّ لذلك أن يُحمَدَ ويُثنى عليه. وحينَ ذكَرَ الله سبحانَه وتعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وصَفَ ذاتَه بأنه مالك هذه النِّعمةِ الجسيمة وأنها مِنه، عَلمْنا أنه المحمودُ على نِعَم الدنيا، ولمّا قرَنَ به {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو مَطلق لم يُعْلَمْ أنّ الحمْدَ لأيِّ شيءٍ هو لِما فيه من نعوتِ الكَمال أو لِما أنّ منه النعمةَ والإفضالَ، فقَيَّد بالنعمةِ لدلالةِ القرينةِ الأولى عليها، وآل المعنى إلى أنه المحمودُ على النعمةِ الدنيوية والمحمودُ على النعمةِ الأخروية. قال القاضي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَلْقًا ونِعمةً، فله الحمْدُ في الدنيا لكمالِ قُدرتِه وعلى تمامِ نِعْمته، ولو الحمْدُ في الآخرةِ لأنَّ ما في الآخرةِ أيضًا كذلك، وليس هذا من عَطْفِ المُقيَّدِ على المُطلقِ، فإنّ الوصفَ بما يدلُّ على أنه المُنعِم بالنِّعمِ الدُّنيويةِ قَيَّد الحمْدَ بها، وتقديمُ الصلةِ للاختصاص، فإنّ النَّعمَ الدُّنيويَة قد تكونُ بوَساطةِ مَنْ يستحقُّ الحمْدَ لأجلِها ولا كذلك نِعَمُ الآخرة. وقلت: لعلّه أرادَ بالمُقيَّدِ الحَمدَ الثاني لأنه مُقَيَّدٌ بقَوله: {فِي الْآخِرَةِ}، والأولُ مُطلقٌ حيثُ لم يُذكَرْ معه ((في الدنيا))، لكنَّ المصنِّفَ قَيَّدهُ بحَسبِ المُقابلة والعَطْفِ على نحوِ قول الشاعر: عَجِبْتُ لهم إذ يَقْتلونَ نفوسَهم ... ومقتلُهم عند الوغى كان أعذَرا أي: يقْتلونَ نفوسُهم في السِّلْمِ بقرينةِ الوغى، بل قَيَّده بأنّه في الدنيا لأنَّ قولَه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يدلُّ على ذلك لقولِه: ((ثُمَّ وصفَ ذاتَه بالإنعامِ بجميعِ النِّعَمِ الدُّنيوية))، وهذا عَيْنُ ما ذكَره القاضي، ولعله عَرَّضَ بغيرِ المُصنِّفِ. ويُمكنُ أن يُقال: إن كُلاًّ من الحَمْدَيْن مُقَيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ بما يُنبُئ عن التعليلِ وتَرتُّبِ الحُكمِ على الوصفِ. والثاني مُطْلقٌ منه، والثاني مُقَيَّدٌ بكَوْنهِ {فِي الْآخِرَةِ}، والأولُ مُطلَقٌ منه. وأما إطلاقُ الأولِ فلقِلَّةِ مبالاةٍ بالدنيا وتحقيرِ شأنِها، وإطلاقُ الثاني للإيذانِ بفَخامةِ شأنِه وأنّه مما لا يدخُلُ تحْتَ الوصفِ من الإفضالِ والإكرامِ وغيرِ ذلك.

وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ" ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: أحمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه. ولما قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت: ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب؛ لأنه على نعمة متفضٍل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب؛ لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بجميع النِّعم الدنيوية)، تأويلٌ لقولِه: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأنه عبارةٌ عنِ العالَم، كما قالَ المصنِّفُ في قولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]: ((لا يخفى عليه شيءٌ في العالَمِ فعَبَّر عنه بالسماءِ والأرض)). قولُه: (وأما الحمْدُ في الآخرةِ فليسَ بواجبٍ، لأنه على نعمةٍ واجبةِ الإيصالِ إلى مُستَحِقِّها)، محْضُ التَّقليد. ويردُّه ما روَيْناه عن البُخاريِّ ومُسلمٍ عن أبي هُريرةَ وجابرٍ قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((قارِبوا وسَدِّدوا واعلَموا أنّه لن يَنْجُوَ أحَدٌ مِنكم بعَمَلِه)) قالوا: ولا أنْتَ يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتَغمَّدني الله برَحْمتِه))، وفي روايةٍ أخرى لأبي هُريرَة: ((لن يُدْخِلَ أحدًا مِنكم عَمَلُه الجنّة)). الانتصاف: الحقُّ في الفَرْقِ بين الحمدَيْن: أنّ الأوّلَ عبادةٌ تُكَلَّفُ بها، والثاني لا تكليفَ إنّما هو في الآخرةِ كالأمورِ الجِبِلِّيةِ في الدنيا، كما جاءَ: ((يُلِهَمون التسبيحَ كما يُلْهَمون النفس))، وإلا فكلا النّعمتَينْ فَضْل.

وإنما هو تتمة سرور المؤمنين، وتكملة اغتباطهم: يلتذون به كما يلتذ من به العطاش بالماء البارد. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته، (الْخَبِيرُ) بكل كائٍن يكون. ثم ذكر مما يحيط به علمًا (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الغيث كقوله: (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)] الزمر: 21 [، ومن الكنوز والدفائن والأموات، وجميع ما هي له كفات، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من الشجر والنبات، وماء العيون، والفلز والدواب، وغير ذلك. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: إنّ قولَه: ((لأنه نعمةٌ واجبةُ الإيصال)) ليس على إطلاقِه عندهم أيضًا، لأنّ ما يُعطي الله العبادَ في الآخرةِ ليس مقصورًا على الجزاءِ عنْدَهم بل بَعْضُ ذلك تَفَضُّلٌ وبعضُه أجْر. قوله: (تَتِمّةُ سُرور)، أي: يحمَدونه سُرورًا به لا تعبُّدًا فهو تتميمٌ للسرورِ، لأنّ مَنْ حصَلَ في نعيمٍ بعد مُقاساةِ الشدّةِ والتَّعبِ لا يخلو حالُه مِن تذكُّرِ تلك المقاساةِ، وإذا أخْطَرَهُ ببالِه ورأى ما عليه من الكرامةِ والنعيم يزيدُ سرورُه وابتهاجُه، فقولُهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] إشارةٌ إلى هذا المقام. ثمَّ إذا ذكر أنّ ذلك النعيمَ وتلكَ الكرامةَ دائمةٌ على وجهِ التعظيمِ وليسَ كنعيمِ الدنيا في أنّه في وَشْكِ الزَّوالِ وسُرعةِ الانفصالِ بل جُلُّها بالاستدراجِ يَزيدُ ذلك السرورُ والاغتباط، وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ناظرٌ إلى هذا المطلوب. قولُه: (العُطاشُ بالماءِ البارد)، الجوهري: العُطاشُ: داءٌ يُصيبُ الإنسان يشربُ الماءَ لا يَروي. قوله: (ما هي له كِفات)، الجوهري: كَفَتُّ الشيءَ أكفُتُه كَفْتًا: إذا ضمَمْتَه إلى نفسِك والكُفاتُ: الموضعُ الذي يُكْفَتُ فيه شيءٌ أي: يُضَمُّ.

والملائكة، وأنواع البركات والمقادير، كما قال تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)] الذاريات: 22 [. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة وأعمال العباد. (وَهُوَ) مع كثرة نعمه، وسبوغ فضله (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: (ننزّل)، بالنون والتشديد. [(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَهُوَ} مَع كَثرةِ نِعَمِه)، يعني قوله {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} تَتْميمٌ لمعنى ما يَسْتلزمُه قولُه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} إلى آخرهِ من الامتنانِ بمُوجبِ الحمْدِ من فَضائِله المُتكاثرةِ ومن التفريطِ فيما أوجبَ عليهم من الشُّكرِ على تلك النعمةِ الجَسيمة. أي: نَبَّه بهذا الإعلامِ على هَاذَيْن المعنَييْن، ثمَّ عقَّبه بهاذَيْن الوصفَيْن تتميمًا للمقصودِ، يعني: أنّ الله مع ما أولاهُم تلك النعمَ وشَهِدَ منهم ذلك التقصيرَ يزيدُ في تلكَ النِّعَمِ ويَغْفرُ لهم ذلك التفريط. فإن قُلْتَ: أليسَ من الظاهرِ أن يَفْصِلَ الآيةَ الأولى بقوله {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لمّا اشتملَتْ على إيجابِ الحمْدِ على نِعمةِ الدارَيْن ليرحمَهم ويَغْفِرَ لهم ما أن عسى أن فرّطوا فيه. والآية الثانيةَ بقولهِ {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} لمُناسبةِ العلْمِ الحكمةَ والخِبْرة؟ قلتُ: بَلى ولكن خُولفَ ليتكاثرَ المعنى ويحصُلَ التتميمُ والتكميل، فدَلَّ انضمامُ الأولى بفاصلتِها الدالةِ على نوعٍ من العلمِ على معنى التكميل، وأنّ الله تعالى كما أنّه مُنْعِمٌ في الدارَيْن كذا يُحكِمُ أُمورَهما على وجْهٍ قويٍّ رَصين ويعلمُ ما يصدرُ عن العبادِ من تفاصيلِ الحمدَيْن ليَجْزِيَهُم بها على وجهِ الكمالِ والتمامِ، وانضمامُ الثانيةِ بفاصِلتِها آذَنَ بالتتميمِ الذي أشَرْنا إليه ولو أُجْرِيا على الظاهرِ لفاتَ أكثرُ تلك الفوائد. والله أعلمُ بأسرارِ كلامه.

كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)] 3 - 4 [ قولهم: (لا تَاتِينَا السَّاعَةُ): نفى للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية، كقولهم: (مَتى هذَا الْوَعْدُ)] يونس: 48 [. أوجب ما بعد النفي بـ (بلى) على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكدًا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أنبع المقسم به من الوصف بما وصف به، إلى قوله: (لِيَجْزِيَ)؛ لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه، وشدّة ثباته واستقامته؛ لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبًا، وأبين فضلًا، وأرفع منزلةً، كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ. فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأوّلها مسارعةً إلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم أُعيدَ إيجابُه مؤكَّدًا بما هو الغايةُ في التوكيدِ والتشديدِ وهو التوكيدُ باليمين)، قال صاحب ((الفرائد)): اقتضى المقامُ اليمينَ. لأنّ مَنْ أنكَر ما قيلَ له، فالذي وجبَ أن يُقالَ بعدَ ذلك إذا أُريدَ مُقتَرِنًا باليمين، وإلا كان خَطأً بالنظرِ إلى علم المعاني وإنْ كان صحيحًا بالنظرِ إلى العربيةِ والنحوِ، وما ذكَر مِنْ أنّ عَظمةَ المُقْسَم به تُؤْذِنُ بعَظمةِ الحالِ المُقْسَمِ عليه مُستقيم. فلو وُصِفَ بغَيرِ هذا الوصفِ مما يقتضي العظمةَ كان كذلك، وأما الوصفُ المذكورُ، فلأنَّ إنكارَهم البَعْثَ باعتبارِ أنّ الأجزاءَ المُتفرقةَ المُنْتشرةَ يمتنعُ اجتماعُها كما كانَ يدلّ عليه قولُه تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] فالوصْفُ بهذه الأوصافِ رَدٌّ لزَعْمِهم واستحالتِهم؛ وهو أنَّ مَنْ كان عِلْمُه بهذه المَثابَةِ كيفَ يَمْنتعُ ذلك منه؟ تَمَّ كلامُه وقد أحسَنَ وأجادَ رَحِمَه الله. قولُه: (نَعمْ وذلك أنّ قيامَ الساعةِ مِن مشاهيرِ الغُيوب)، إلى آخره، قال صاحبُ ((الفرائد)): لا شكَّ أنه لزِمَ منه أن يكونَ عالمًا بوَقْتِ قيامِ الساعةِ لأنّ مَنْ لا يَعْزُبُ عن

القلب إذا قيل: (عالم الغيب)، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة -فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئًا واضحًا. فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان، وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبًا، كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عِلْمِه شيءٌ لا يَعزبُ عن عِلْمهِ وقْتُ قيامِ الساعة. وأما الاختصاصُ الذي ذكرَ فلزومُه عن ذلك ممنوع. وقلت: دلّ على الاختصاص قولُهم: {لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} فإنه إنكارٌ لما هو العُمْدَةُ في الإتيانِ بها من العِلمِ بِالكلِّياتِ والجُزئيات والقدرة على المقدوراتِ، فلما أُجيبَ ب {بَلَى} ضُمِّنَ إثباتُ ما نَفوْهما، فخُصَّ بإحدى العُمْدتَيْن لاختصاصِهما بالتهديدِ والوعيدِ للمُكذِّب. وعَمَّ ليدخُلَ فيه ما أُريدَ إثباتُه أوّلَ شيءٍ. والله أعلم. قولُه: (هذا لو اقتصَر على اليمين ولم يُتبِعْها الحجَّةَ القاطعة)، قال صاحبُ ((الفرائد)): كلامُه مُشْعِرٌ بأنّ اليَمينَ لم تكُنْ مُصَحِّحة، فَوجودها وعَدَمُها سَواء في التصحيح، والتصحيحُ إنّما يكونُ بالحُجّةِ القاطعةِ بَعْدَها، فلزِمَ أن لا فائدةَ في اليمينِ هاهنا، وهذا ممّا لا سبيلَ إليه، وقد مرَّ إعادةَ ما قبلَ الإنكارِ لابُدّ مِنْ أن يكونَ مقترنًا بالقَسَمِ وإلاّ كانَ خطأٌ بحسب علْمِ المعاني، فلما أوجبت الحكمةُ الإعادةَ وجبَ اقترانُها بالقَسَمِ سواءٌ كان القَسَمُ مُصَحِّحًا لِما أنكروهُ أو غَيْرَ مُصَحِّح. وقلتُ: والعجَبُ مِنْ هاذَيْن الفاضْلَيْن كيف ذَهَلا عن جَدْوي هذه اليمينِ وجَليلِ عائِدتها في هذا المقام! فإنَّهم جَرَّبوه صلى الله عليه وسلم ولم يُشاهدوا منه إلا الحقَّ ولم يَسْمعوا منه غَيرَ الصِّدْق، ولهذا سَمَّوْه بالأمين، وما كانَ تكذيبُهم إلاّ عن عِنادٍ ومُكابَرة وحَسَد. يدلُّ عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما أورَد في ((الأنعام)) عند قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] عن أبي جَهْل: والله إنّ محمدًا لصادق وما كذَب قَطّ ولكن إذا ذهبَ بنو قُصَيٍّ باللواءِ، إلى آخره، وفي ((حم)) عند قوله: {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] عن عُتبةَ بنِ رَبيعة: وقد عَلِمْتُم أنّ محمّدًا إذا قالَ شيئًا لم يكذِبْ قط، إلى غير ذلك، فأتى أوّلاً بالنصِّ القاطعِ المؤيَّدِ بالقَسَمِ المُقترنِ بالوصفِ المُناسبِ، وعَقَّبه بالبُرهانِ الساطعِ ليكونَ تقريرًا بعْدَ تقرير. وإنك أمعَنْتَ النظرَ وجَدْتَ جُلَّ الإقسامِ التنزيلي غيْرَ مُقْترنٍ بشَيءٍ من الحجَّةِ فكانَ ذِكْرُ الحُجَّةِ هاهنا كالتتميمِ للنصِّ والمتفرعِ عليه لا الأصل، وإنما اقتضى هذا التوكيدَ- وهو إتيانُ {بَلَى} وإعادةُ قَوْلِه {لَتَاتِيَنَّكُمْ} ثم الإقسامُ عليه، ثم إتباعُه بالوَصْفِ المُناسبِ ثم انضمامِ البُرهان مع ذلك- أنه تعالى هذه السورةَ الكريمةَ بذِكْرِ الحَمْدَيْنِ الجامْعَيْن لأمرِ الدارَيْن، فأوجبَ التكليفَ لعِلّةِ كَوْنِه مالكًا لِما في السماواتِ وما في الأرض، ورَتَّبَ عليه الحمْدَ في الآخرةِ على نِعْمةِ الثواب، فآذَنَ بأنَّ القَصْدَ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ليس إلا المعرفةُ والعبادة، ثم جَزاءُ المحسن العارف العابد وعقابُ المُسيء المعاندِ كقولهِ تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، ولهذا استُبْعدَ استبعادَ مَنْ يكفُرُ بذلك حيث عطف {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} على ما قَبْلَه، كقولِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، فاقتضى المقامُ لذلك أن يُؤكّدَ الكلامُ بكُلِّ ما أمكَنَ من المُؤكِّدات، فجيءَ أولاً ب {بَلَى} تقريرًا، ثمَّ أعيدَ ما أنكروه تمهيدًا ثم أقسمَ عليه باسْمهِ ووُصِفَ بما يُناسبُ الجوابَ تنصيصا، ثم ختَم كلَّ ذلك بالبُرهانِ تتميمًا وإيذانًا بقُصورِ فَهْمِهم عن إدراكِ النصِّ القاطع، وينصُرُه قولُ الإمام: وعندي أن الدليلَ المذكورَ في قولِه: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أظهرَ، وذلك

البينة الساطعة، وهي قوله: (لِيَجْزِيَ)، فقد وضع الله في العقول، وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب. وقوله: (لِيَجْزِيَ) متصل بقوله: (لَتَاتِيَنَّكُمْ تعليلًا له. قرئ: (لتأتينكم) بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء: أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند إلى (عالم الغيب)، أى: ليأتينكم أمره، كما قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ)] الأنعام: 158 [وقال: (أوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)] النحل: 33 [. وقرئ: (عالم الغيب)، و (علام الغيب): بالجر، صفة لـ"ربي". و (عالم الغيب)، و (عالم الغيوب): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنّه إذا كان عالمًا بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأجسامِ ويقدرُ على جمعها فالساعة ممكنة القيام، والصادق قد أخبر عنه فتكون واقعة، والله أعلم. قولُه: ({لَتَاتِيَنَّكُمْ} بالتاءِ والياء)، بالتاءِ الفوقانية: العامة، وبالياء: شاذّة. قال ابن جنّي: روى هارونُ عن طُلَيْق قال: سمعتُ أشياخَنا يقرؤون: ((ليأتينكم)) بالياء. وجازَ التذكيرُ بعد قوله: {لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ} لأنّ المخوفَ منها إنما هو عقابُها والمأمولُ ثوابُها، فغُلِّبَ التذكيرُ الذي هو مَرْجُوٌّ ومَخوفٌ فذَكَّر، فإذا جازَ تأنيثُ المُذكَّرِ بالتأويلِ كانَ تذكيرُ المؤنَّثِ لغَلَبةِ التذكيرِ أحرى. قال تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] لأن بعضَها سَيَّارة أيضًا، وقالوا: ذهبَتْ أصابِعه لأنّ بعْضَها أُصْبَعٌ في المعنى. قوله: (وقُرئَ: {عَالِمِ الْغَيْبِ})، حمزةُ والكِسائيُّ: ((عَلاَّمِ الغيبِ)) بالألفِ بعد اللامِ، وخَفْضِ الميمِ على وَزِنِ فَعّال. والباقونَ: ((عالم)) بالألفِ بعد العَيْنِ على وزنِ ((فاعلٍ))، ورَفَعَ الميمَ نافع وابن عامر، وخَفَضَها الباقون.

بالرفع، على المدح. و (لا يعزب): بالضم والكسر في الزاى، من العزوب وهو البعد. يقال: روض عزيب: بعيد من الناس. (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر نملة. (ذلِكَ): إشارة إلى (مثقال ذرّة). وقرئ: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر): بالرفع على أصل الابتداء، وبالفتح على نفى الجنس، كقولك: لا حول ولا قوّة إلا بالله، بالرفع والنصب، وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت: هل يصح عطف المرفوع على (مثقال ذرّة)، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر، زيادة لا لتأكيد النفي، وعطف المفتوح على (ذرّة) بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف، كأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({لاَ يَعْزُبُ} بالضّمِّ والكَسْر)، الكِسائيّ هنا وفي ((يونَس)): بالكَسْر، والباقونَ: بالضمِّ. قولُه: (وقُرئَ {وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ})، وهي مَشْهورة، والفَتْحُ شاذّة. قوله: (وبالفَتْح على نَفْي الجِنْس)، وفيه إشكالٌ، لأنّ قولَه تعالى: {وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} مُضارعٌ للمضافِ، نَحْوَ: لا خَيرًا منه. فلو كَان ((لا)) لنَفْيِ الجنْس لوجبَ فيه النصبُ كما نصَّ عليهِ في ((المفصَّل)): لا خيرًا منه قائمٌ هنا، ويُمكنُ أنّه وضعَ الفَتْحَ موضِعَ النَّصْبِ على الكوفيِّ، كما وضعَ النصْبَ موضعَ الفتحِ في قولِه: ((لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله بالرفعِ والنَّصب. قوله: (وهو كلامٌ مُنقطعٌ عما قبله)، قال القاضي: هو جُملةٌ مؤكدة لنفي العزوب، ورَفْعُه بالابتداءِ، ويُؤيِّده القراءةُ بالفتحِ على نَفْيِ الجنْس. قولُه: (هل يصحُّ عَطْفُ المرفوعِ على {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ})، إلى قوله: (عَطْف المفتوحِ على

قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في (عَنْهُ) للغيب، وجعلت (الْغَيْبِ) اسمًا للخفيات قبل أن تكتب في اللوح؛ لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب، على معنى: أنه لا ينفصل عن الغيب شيء، ولا يزل عنه إلا مسطورًا في اللوح. [وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)] 5 [ وقرئ: (معجزين). و (أليم): بالرفع والجر. وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {ذَرَّةٍ}؟ ) وقد قال بِهما أبو البقاء. قولُه: (يأبى ذلك حَرْفُ الاستثناء)، لأنّ الاستثناءَ حينئذٍ مُنقطع، فيكونُ التقديرُ: لا يعزُبُ عن عالمِ الغيبِ مثقالُ ذَرّةٍ ولا أصغَرُ من مثقالِ ذَرّة ولا أكبرُ منه، لكن ما في كتابٍ مُبينٍ يعزُبُ عنه. وإذا جعَلْتَ الضميرَ للغيبِ يصيرُ المعنى: ولا يعزُب، أي: لا ينفصلُ عن الغيب، أي: الخَفِيّات، مثقالُ ذَرّةٍ، ولا أصغرُ منه ولا أكبر، لكن في كتابٍ مُبينٍ يَعْزُبُ عنه، لأنّ ما في اللوحِ خارجٌ من الغَيبِ لِمَا يَطَّلِعُ فيه الملائكةُ المُقرَّبون. والمعنى على هذا: أنّ ما أظهَرهُ من علومهِ الت يتنفد الأبحرُ دونَ نفادِها بالنسبةِ إلى ما أخفاهُ كالقَطْرةِ بالنسبةِ إلى الأبحُرِ السبعة. قولُه: (وقُرئَ: ((مُعَجِّزين)))، بالتشديد: ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْروٍ، والباقونَ: {مَعَاجِزِينَ} بالألفِ. و ((أليمٌ)) بالرفعِ: ابنُ كثير وحَفْصٌ، والباقونَ بالجرِّ. قال الزجاج: ((معاجزين)) بمَعْنى: مسابقين، ومُعَجِّزين: أنّهم يُعَجِّزونَ مَنْ آمنَ بها ويكون بمعنى: مُثَبِّطين.

[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)] 6 [ (ويرى): في موضع الرفع، أى: ويعلم أولو العلم، يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يطأ أعقابهم من أمّته. أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، مثل كعب الأحبار، وعبد الله ابن سلام رضى الله عنهما. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... الْحَقَّ): هما مفعولان لـ"يرى"، و (هو) فصل. ومن قرأ بالرفع جعل "هو" مبتدأ و"الْحَقَّ" خبرًا، والجملة في موضع المفعول الثاني. وقيل "يَرَى": في موضع النصب، معطوف على (لِيَجْزِيَ) أى: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علمًا لا يزاد عليه في الإيقان، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا. ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه الحق فيزدادوا حسرة وغما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({وَيَرَى} في موضعِ الرفعِ)، أي: ابتداءُ كَلام. قولُه: (ومَنْ بطأُ أعقابَهم)، النهاية: في حديث عَمّارٍ: ((أنّ رجلاً وشى به إلى عَمَرَ رضي الله عنه فقال: اللهمَّ إن كان كذبَ فاجْعَله مُوطّأَ العَقِب)) أي: كثيرَ الأتباع، دَعا عليه أن يكونَ سلطانًا أو ذا مالٍ فيَتْبعُه الناسُ ويَمْشون وراءَه فيَقعُ في التَّبِعة. قولُه: (ويجوزُ أن يُريدَ: وليعلمَ مَنْ لم يؤمِنْ)، عَطْفٌ على قَوْلِه: ((وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة))، هذانِ الوجهانِ مَبْنيّانِ على أنّ {يَرَى} في موضعِ النصبِ، كما بنى على القولِ الأولِ الوجهَيْن، وهو أن يكونَ {الْحَقَّ} مفعولاً ثانيًا، على قراءةِ النَّصْب، والضميرُ المرفوعُ للفصلِ، وعلى قراءةِ الرفعِ الجملةُ سادَّةٌ مسَدَّ المفعولِ الثاني، قال أبو البقاء: فاعلُ ((يهدي)) ضَمير، ويجوزُ أن يكونَ ضميرَ اسمِ الله، ويجوزُ أن يُعْطَفَ على موضعِ الحقِّ فتكون ((أن)) محذوفةً، فيكونَ مفعولاً ثانيًا، ويجوزُ أن يكونَ في موضعِ اسمِ الفاعل، أي: ويَروْن المُنَزَّلَ حَقًّا وهاديا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قُلتَ: كيفَ خَصَّ أحدَ التفسيرَيْن بقوله: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقانِ))، والآخَر بقوله: ((فيزدادوا حَسرْة وغمًّا))؟ قلتُ: لأنّ المرادَ بـ ((يرى)) ومفعولَيْه: حصولُ العلمِ بعد عَدَمِه، فإذا أًريدَ بأولي العِلمِ الأحبارُ الذين لم يُؤمنوا؛ كان المعنى: ويعلمُ الأحبارُ أنّ المُنزَّلَ حقٌّ حينَ لا ينفَعُهم سوى الحَسْرةِ والندامةِ، كقولِه تعالى: {يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ} [الأعراف: 53] أي: يأتي تأويلُ الكتابِ وعاقبةُ أمرِه مِن تَبَيُّنِ صِدْقِه وظهورِ ما نَطقَ به من الوعدِ والوعيد، فإذا فَسَّرَ أُولي العلمِ بالمُؤمنين، يَنبغي أن يُقالَ: انقلبَ عِلْمُ اليقينِ إلى حَقِّ اليقين لحصُلَ فائدةُ مزيدِ العلم كما قال: ((عِلمًا لا يُزادُ عليه في الإيقان)). فإن قُلتَ: هل لاختصاصِ تفسيرِ أُولي العلمِ بالأحبارِ الذين لم يُؤمنوا على وجهِ إرادةِ النصبِ دونَ الرفعِ مِن فائدة؟ قلتُ: نعم، لأنّ هذا العطْفَ من قَبيلِ قولِه تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] في الاشتراكِ أو الابتداءِ، فإذا انتصبَ ((يَرى)) دخلَ في حَيِّزِ التعليلِ، وإذا ارتفعَ كانَت جُملةً مُستقلةً معطوفةً على جملةِ قولِه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى} إلى آخرِ الآياتِ الثلاث، وحصولُ العِلْمِ حينئذٍ في الدنيا في الآخرةِ كما في وَجْهِ النَّصْب، فلا يحسُنُ التقابلُ بينَ المعطوفَيْن إلاّ على إرادةِ المؤمنينَ من أولي العلم، كأنه قيل: وقال الجَهَلةُ من الذين كفروا بآياتِ الله: لا تأتينا الساعةُ: وعَلِمَ الذين أوتوا العِلْمَ أنّ المُنزَّلَ حَقٌّ وما نطَقَ به من الوعدِ والوعيدِ صِدْقٌ، وإليه يَنْظُر قولُه {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. ومما يعضُدُ هذا التأويلَ عَطْفُ قولِه: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} الآية على قولِه:

[وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى الله كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ)] 7 - 8 [ (الَّذِينَ كَفَرُوا): قريش. قال بعضهم لبعض: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم؛ يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب: أنكم تبعثون وتنشئون خلقًا جديدًا بعد أن تكونوا رفاتًا وترابًا، ويمزق أجسادكم البلى (كل ممزق)، أى: يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد. أهو مفتٍر على الله كذبًا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية، على منوالِ قولهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وكقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} إلى قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4]، وقد وضع {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} موضعَ ضميرِ الذينَ كَفروا، لأنّ المعنى: ليأتينَّكم عالِمُ الغيْبِ ليُثيبَ المُؤمنين ويُعاقبَكم أيها الساعونَ في إبطالِ آياتِنا سَعيًا بليغًا، وفيه إشعارٌ بأنَّ منكرَ الحشرِ مكذِّبٌ لله وآياتِه المنزلةِ، ولذلك وردَ: ((كَذّبني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك))، وأنه مستحقٌّ بأن يُنكَّلَ بما لا بَعْدَه من العذابِ والرِّجْزِ الأليم، أعاذنا الله من ذلك. قولُه: (يُحدّثكم بأعجوبةٍ من الأعاجيب)، دلّ على هذا المعنى تَسْميتُه صلواتُ الله عليه بـ ((رجلٍ)) وتنكيرُه؛ جعلوا القولَ بالإعادةِ من قَبيلِ شيءٍ غريبٍ وأمرٍ عجيب، ونَزّلوا قائلَه مَنْزِلةَ مَنْ لا يُعْرَف. قال صاحبُ ((المفتاح)): كأنّهم لم يكونوا يعرِفونَ منه إلاّ أنّه رجُلٌ ما، وهو أشْهَرُ عندهم من الشمسِ، وهو من باب التجاهل. قولُه: (أهو مُفْتَرٍ) إلى قوله: (أم به جنون)، ((أم)) هذه يحتملُ أن تكونَ متّصلةً وأن تكونَ منقطعة. وعلى الأولِ ظاهرُ كلامِ الجاحظِ على ما رويَ أنّه احتجَّ بهذه الآيةِ على أنّ من الخبرِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما ليسَ بصادقٍ ولا كاذب، لأنهّم حصروا دعوى النبيِّ الرسالةَ في الافتراءِ وفي الإخبارِ حالَ الجنون، وليسَ إخبارُه حال الجنونِ كذِبًا لجَعْلِهم الافتراءَ مقابلاً له، ولا صِدْقًا لأنّهم لم يعتقدوا صِدْقَه، فثبتَ أنّ من الخبرِ ما ليس بصادقٍ ولا كاذب. وأجيب: أنّ الافتراءَ هو الكَذِبُ عن عَمْدٍ، فهو نوعٌ من الكذب، فلا يمتَنعُ أن يكونَ الإخبارُ حالَ الجنونِ نوعًا منه، وهو الكذِبُ لا عَنْ عَمْدٍ، فيكون التقسيمُ للخبرِ الكاذبِ لا للخبرِ مُطْلقًا. وقلتُ: هذا جوابٌ حسَنٌ لطيف لكنّ الأصلَ مَدْخولٌ فيه من وجهَيْن: أحدُهما: أنّ ورودَ الآيةِ في البعثِ والحشرِ لا في دعوى الرسالة بدليلِ السابقِ أي: قولهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] واللاحق أي: قولُه {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سبأ: 8]، ولذلك كان قولُ المصنّف: ((من ذلك)) بيانًا لقولِه: ((ما يُنْسَبُ إليه))، والمشارُ إليه ما دلَّ عليه قولُه: ((إنّكم تُبْعثونَ وتُنْشئونَ خَلْقًا جديدًا)) إلى آخرهِ. وثانيهما: ظهورُ ((أم)) في كونِها مُنقطعةً لفظًا لاختلافِ مدخولَي الهمزة و ((أم)) لأنّ المعانِدين لمّا أخرجوا قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} مُخْرَجَ الطَّنْزِ والسخرية متجاهلين برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبكلامِه من إثباتِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، وعَقّبوهُ بقوله {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أضربوا عنه إلى ما هو أبْلغُ منه تَرقِّيًا من الأهون إلى الأغلظِ مِن نسبةِ الجنونِ إليه

يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمٌد من الافتراء والجنون في شيء، وهو مبرأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك، وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقًا على عقولهم. جعل وقوعهم في العذاب رسيلًا لوقوعهم في الضلال، كأنهما كائنان في وقت واحد؛ لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته؛ جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان. وقرأ زيد بن علىّ رضى الله عنه: (نبيكم).فإن قلت: فقد جعلت الممزق مصدرا، كبيت الكتاب: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: دعوا حديثَ الافتراءِ فإنّ هاهنا ما هو أطمُّ منه، لأنّ العاقلَ كيف يُحدِّثُ بإنشاءِ خَلْقٍ جديدٍ بعد الرُّفات والتراب، فإنَّ جُنونَه يُوهمُه ذلك ويُلقيه على لسانه. ولمّا كان التعويلُ على ما بعدَ الإضرابِ مِن إثباتِ الجنون أوْقعَ الإضرابَ الثاني ردًّا عليهم قولَهم، ونَفْيًا عنه صلواتُ الله عليه ما أثبتوا فيه من الجنون وإثباتًا له فيهم كما قال المصنِّف: ((بل هؤلاءِ القائلون الكافرون بالبعثِ)) إلى قوله: ((أجنُّ الجنونِ وأشدُّه إطباقًا على عقولِهم)) كأنّه قيل: لمّا قالوا: أهو مُفْتَرٍ على الله بل به جِنّة، أضْربَ عنه وقيل: بل القائلون بهم أشدُّ الجنون. فوَضعَ ((القائلون)) قولَه: {لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} على سبيلِ العُمومِ ليدخلوا فيه دخولاً أوّليًّا، وليُسَجِّلَ عليهم الجنونَ بالطريقِ البُرهاني، ووضع موضعَ: ((بهم الجنون)) قولَه: {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} وضعًا للسببِ موضعَ المُسَبَّب ليؤذِنَ بأنّ الإضلالَ أبْعدُ مِن ضَلالِ مُنكرِ البَعْثِ لأنّه مُبْطِلُ حِكْمةِ الله في خَلْقِ العالَم، ومكَذِّبُ الله تعالى في وَعْدِه ووعيدِه كما قال: ((كذبني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك)) الحديث، وجاهلٌ مُفرِطٌ في جَهْلِه حيث تعرَّضَ لسَخَطِ الله وإيقاعِ نَفْسِه في العذابِ السَّرْمَدِ. والله أعلم. قولُه: (رَسيلاً لوقوعِهم في الضلال)، الأساس: يقال: هو رَسيلُك في الغناء، أي: يُباريك في إرسالِك، ومن المجاز تقول: القَبيحُ سوءُ الذِّكْرِ رَسيلُه، وسوءُ العاقبةِ زَميلُه.

ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلاعيّا بهنّ ولا اجتلابا فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت: نعم. معناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح. فإن قلت: ما العامل في "إذا"؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ألم تَعْلَمْ مُسَرَّحيَ)، البيت: ((مُسَرَّحي)): سرَّح القومُ الإبلَ: إذا أرسلوها في في المرعى. مُسَرَّحي، أي: تسريحي، فلا أعيا بهِنَّ إعياءً، ولا أجتَلِبُهُنَّ اجتلابًا، أي: انتحالاً. قولُه: (ما العاملُ في ((إذا))؟ )، قال الزجاج: في هذه الآيةِ نظرٌ لطيف، وهو أنَّ ((إذا)) في موضعِ نَصْبٍ بـ {مُزِّقْتُمْ} ولا يَعملُ فيها {جَدِيدٍ} لأنّ ما بعْدَ ((أنّ)) لأنّ ما بعْدَ ((أنّ)) لا يَعملُ فيما قَبْلَها. المعنى: هل ندلُّكم على رجلٍ يقولُ لكم: إنكم إذا مُزِّقتُم تُبعثون، ويجوزُ أن يكونَ العاملُ مُضمرًا يدلّ عليه {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. المعنى: هل ندلّكم على رجلٍ يقولُ لكم: إذا مُزِّقْتم بُعِثْتُم، إنكم في خَلْقٍ جديد كقوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82]. وقال أبو البقاء: لا يجوزُ أن يعملَ فيها {مُزِّقْتُمْ} لأنّ ((إذا)) مُضافةٌ إليه. وقال الزجاج: ((إذا)) حينئذٍ بمنزلة ((إنْ)) الجزاء يعملُ فيها الذي يليها. قال قيس بن الخَطيم: إذا قَصُرَتْ أسيلفُنا كان وَصْلُها ... خُطانا إلى أعدائنا فنُضارِبِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: يكُنْ وصلُها. والدليلُ على ذلك جَزْمُ ((فنُضارب)). والكنايةُ في ((وَصْلُها)) للأسياف. المعنى: إذا يكونوا بحيث لا تَصِلُ أسيافُنا إليهم نحنُ نتقَدَّمْ إليهم ونُضاربْهم بها. قال السَّجاوَنْدي: عاملُ ((إذا)) محذوف، أي: ((بُعِثْتُم)) دلّ عليه {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، إذْ {مُزِّقْتُمْ} إنّما يَعْملُ في ((إذا)) إذا كان كان مجزومًا بها، نحو: مَنْ تَضِربْ يَضْربْني، فإنّه إذا لم يُجْزَمْ بها كانت مُضافةً إلى الفعل، والمضافُ إليه لا يعملُ في المضاف، فالجزْمُ بـ ((إذا)) وإنْ جاءَ في الشِّعرِ ضرورةً لا يُحْمَلُ عليه القرآن. وروايةُ الجزمِ في الشعر: إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان طولُها ... خُطانا إلى أعدائنا فنُضاربِ وخَطّأه المَغْربيُّ لأنَّ القصيدةَ مرفوعةُ القوافي، وفيها: وقد عشتُ دهرًا والغواةُ صحابتي ... أولئك خُلْصَانِي الذين أصاحبُ وفيها: وللمالِ عندي اليومَ راعٍ وكاتبُ ولا يجوزُ أن يَعْملَ في ((إذا)): {يُنَبِّئُكُمْ}، لأنّ التنبئةَ قبلَ التمزُّق.

قلت: ما دلّ عليه: (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، وقد سبق نظيره. فإن قلت: الجديد: فعيل، بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت: هو عند البصريين بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جديد، كحد فهو حديد، وقلّ فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى: مفعول، من جده إذا قطعه. وقالوا: هو الذي جده الناسج الساعة في الثوب، ثم شاع. ويقولون: ولهذا قالوا: "ملحفة جديد"، وهي عند البصريين كقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ)] الأعراف: 56 [ونحو ذلك. فإن قلت: لم أسقطت الهمزة في قوله: (أَفْتَرى) دون قوله: (السحر)، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت: القياس الطرح، ولكن أمرا اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو: (السحر) وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر؛ لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام. فإن قلت: ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت: هو من الإسناد المجازى؛ لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة، وكلما ازداد عنها بعدًا كان أضل. فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورًا علمًا في قريش، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في الثوب)، مُتعلّقٌ بـ ((قالوا)). أي: قالوا في الثوب: جديد، لأنه هو الذي جَدَّه، أي: قَطَعهُ الناسجُ الساعةَ، ثم شاعَ هذا اللفظُ في كلِّ شيءٍ. ويقولون: كتابٌ جديد، وبيتٌ جديد، وغلامٌ جديد. قولهُ: (وهي -أي: المِلْحَفة جديدٌ- عند البصريين) في تأويلِ شيءٍ جديد، أي: ثوبٍ جديد، أو على تَشْبيهِه بفَعيلٍ الذي بمعنى مفعولٍ نحو: قتيلٍ وأسيرٍ كما شُبِّه ذلك به. فقيل: قُتَلاءُ وأسَراء، فإنّ فَعيلاً يُجْمَعُ على فُعَلاءَ، نَحْو: كريمٍ وكُرَماء، ورحيمٍ ورُحَماء. قولُه: (دونَ قوله {السِّحْرُ})، أي: في قولِه تعالى: {مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} [يونس: 81] على الاستفهامِ في سورةِ يونس عليه السلام.

وكان إنباؤه بالبعث شائعًا عندهم، فما معنى قوله: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على مجهوٍل في أمٍر مجهول؟ قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. [أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)] 9 [ أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجلّ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفًا، لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله (لَآيَةً)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قَولُه: (ببعضِ الأحاجي)، الجوهري: حاجَيْتُه فحَجوْتُه: إذا داعَيْتَه فَغَلبْتَه. والاسمُ: الأحْجِيَّةُ، وهي لُعبةٌ وأُغلوطة يتعاطاها الناسُ بينهم. قولُه: (أعَمُوا فلم ينظروا)، يريدُ أنّ همزةَ الإنكارِ الداخلةَ على قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من حيث التقدير داخلٌ على فعلٍ هو السَّبَبُ في الفعلِ المذكورِ، ((وأمامَهم وخَلْفَهم)) خبرانِ و ((مُحيطتان بهم)): عَطْفُ بيانٍ له أو بَدَل. قوله: (من ملكوتِ الله)، أي: السماواتِ والأرض، لأن ((من)) بيان ((ما)) في ((عمّا هم فيه)). قولُه: (وما يدلاّن)، عطفٌ على الضميرِ المجرور، أي: والفكرِ فيما يدلاّن عليه، أو على ((السماءِ والأرضِ))، وهو الأصوبُ.

ودلالة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): وهو الراجع إلى ربه، المطيع له؛ لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، على أنه قادر على كل شيٍء من البعث ومن عقاب من يكفر به. قرئ: "يشأ" و"يخسف" و"يسقط" بالياء؛ لقوله تعالى: (أَفْتَرى عَلَى الله كَذِباً)] سبأ: 8 [. وبالنون لقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا). و (كسفا): بفتح السين وسكونه. وقرأ الكسائي: (يخسف بهم) بالإدغام، وليست بقوية. [وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (على أنّه قادرٌ على كلِّ شيءٍ من البعثِ ومن عقابِ مَنْ يكفُرُ به)، مَتَعلِّقٌ بقوله: ((ودلالة))، يريدُ أنّ قولَه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} تذييلٌ لقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم} وتعريضٌ بقلّةِ النظرِ في مُنكري البعثِ والحشرِ في آياتِ الله، وإليه الإشارةُ بقوله: ((لأنّ المنيبَ لا يخْلو من النظرِ في آياتِ الله)). وفيه الإشارةُ إلى بيانِ نظْمِ هذه الآية بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} وبقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} لأنه كالتخلُّصِ منه إليه، لأنه منَ المُنيبين المتفكِّرين في آياتِ الله، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]. قال القاضي: قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} تذكيرٌ بما يُعاينوه مما يدلُّ على كمالِ قدرةِ الله تعالى وما فيه إزاحةُ استحالتِهم الإحياءَ حتى جَعلوه افتراءً وهُزوًا، وتهديدٌ عليهم. قولُه: (((يَشَا)) و ((يَخْسِفْ)) و ((يُسْقِط))، بالياءِ): حَمزةُ والكِسائي: ثلاثتُها بالياء. وأدغَم الكِسائيّ الفاءَ في الباء، والباقون: بالنونِ فيهنّ، وقرأ حَفْصٌ: {كِسَفًا} بفَتْح السينِ، والباقونَ بإسكانها. قولُه: (((يخْسِفْ بهم)) بالإدغام، وليست بقوِيّة)، المُطْلع: لزيادةِ صوتِ الفاءِ على صوتِ الباءِ كما لا يجوزُ إدغامُ الراءِ في اللام.

شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)] 10 - 13 [ (يا جِبالُ) إمّا أن يكون بدلا من: (فَضْلًا)، وإمّا من: (آتَيْنا)، بتقدير: قولنا: يا جبال. أو: قلنا: يا جبال. وقرئ: (أوّبى) و (أوبى) من التأويب والأوب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بتقديرِ: قولنا: يا جبالُ، أو قُلنا: يا جبالُ)، رُوِيَ ((قَوْلنا)) بالنَّصْبِ والجرِّ. الأوّلُ على تقديرِ أن يكونَ بدَلاً مِن {فَضْلاً} أي: ولقد آتينا دوادَ مِنّا قَوْلَنا: {يَا جِبَالُ}، والثاني على أن يكونَ بَدَلاً مِن {آتَيْنَا} أي: ولقد قُلنا: يا جبالُ أوِّبي مع داود. قوله: (وقُرئَ: {أَوِّبْي} و ((أُوبي)))، الأولى هي المشهورةُ، والثانية شاذة. الراغب: الأَوْبُ: ضَرْبٌ من الرجوعِ، لأنّ الأَوْبَ لا يُقال إلاّ في الحيوانِ الذي له إرادةٌ، والرجوعُ عام يُقالُ: آبَ أوْبًا وإيابًا ومآبًا. والأوّاب كالتوابِ وهو الراجعُ إلى الله تعالى من المعاصي وفعل الطاعات قال تعالى: {أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32]، ومنه قيلَ للتوبةِ أوْبَة. قولُه: (من التأويب والأوب)، قال صاحبُ ((التقريب)): أي: رَجِّعي معه التسبيحَ أو: ارجِعي معه في التسبيح بترجيعِه. قلتُ: في كلامِ المصنّفِ إشعارٌ بأنّ مَرْجعَ معنى القراءتَيْن- وهو الرجوعُ معه في التسبيحِ- إلى واحد، وتعليلُه مُنْبِئٌ عنه؛ لأنّ الترجيعَ مستلزمٌ للرجوع. ذكَر في سورةِ ((ص)): وضَعَ الأوّابَ موضِعَ المُسَبِّحِ لأنّها كانت تُرجِّعُ التسبيح والمُرَجِّعُ رَجَّاعٌ لأنّه يَرْجِعُ إلى فِعْلِه رجوعًا بعد رجوع، ولأنّه إذا رَجَّعَ الصوتَ أي: رَدَّده فقد رَجَعَ فيه أي: رجَعَ إلى ما

أي: رجعي معه التسبيح. أو: ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه، ومعنى تسبيح الجبال: أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحًا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح؛ معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها، والطير بأصواتها. وقرئ: (والطير) رفعًا ونصبًا عطفًا على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدأَ منه. ويعضُدُه ما رَويْنا عن البخاريِّ ومُسلمٍ وأبي داودَ عن عَبدِ الله بنِ مُغَفَّل قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ فَتْح مكّةَ على ناقتِه يقرأُ سورةَ الفتحِ، فرجَّع فيها، قال: ثُمَّ قرأَ مُعاويةُ يَحْكي قراءةَ ابنِ مُغفَّل فَقال: لولا أن يجتمِعَ الناسُ عليكُم لرجَّعْتُ كما رَجَّعَ ابنُ مُغفَّلٍ يحكي النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: اآ اآ اآ ثلاث مرات)). النهاية: الترجيعُ: ترديدُ القراءةِ. وقيل: هي تقاربُ حروفِ الحركاتِ في الصوتِ. وقد حكى ابنُ مُغَفَّل تَرْجيعَه بمَدِّ الصوت في القراءة. وهذا إنّما حصلَ منه- والله أعلمُ- يوْمَ الفتحِ؛ لأنّه كان راكبًا فجَعلتِ الناقةُ تحرِّكه. قال مُحيي السنَّة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} سَبِّحي معه إذا سَبَّح، فقيل: هو تفعيلٌ من الإيابِ، وهو الرجوعُ، أي: رَجِّعي معه. قال القُتَيْبي: أصله من التأويبِ في السَّير، وهو أن يَسيرَ النهارَ كلَّه بالتسبيحِ معه. قوله: ({وَالْطَّيْرَ} رفعًا ونَصْبًا)، والنَّصْبُ هي المشهورة والرّفعُ شاذّ. قوله: (وجَوّزوا أن ينتصِبَ مفعولاً معه) قال الزجّاج: ويجوزُ أن يكونَ ((الطير)) منصوبًا على معنى: مع، كما تقول: قَمْتُ وزيدًا أي: قَمْتُ مع زيدٍ، فالمعني: أوِّبي معَه ومعَ الطير.

وأن يعطف على (فضلا)، بمعنى: وسخرنا له الطير. فإن قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا)؛ تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما! ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى؛ من الدلالة على عزّة الربوبية، وكبرياء الإلهية؛ حيث جعلت الجبال منزّلةً منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا؛ إشعارًا بأنه ما من حيواٍن وجماٍد وناطٍق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وجعلناه له لينًا كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير ناٍر ولا ضرٍب بمطرقة. وقيل: لان الحديد في يده لما أوتى من شدّة القوّة. وقرئ: (صابغات) وهي الدروع الواسعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وأن يُعْطَفَ على {فَضْلاً}، قال الزجاج: حكاهُ أبو عُبَيْدَة عن أبي عَمْرو بن العلاء، وهو كقولِه: علفتُها تِبْنًا وماءً باردا وإليه الإشارةُ بقوله: ((وسَخَّرْنا له الطيرَ))، وعن بَعْضِهم: يجوزُ أن يكونَ منادًى كأنه قال: أدعو الجبالَ والطير. قوله: (كَمْ بينهما)، أي: مِنْ فَرْق. ونَحْوُه تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243] بدَل: أماتَهم الله، وقولُه: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] بدل: مَسخَهم قِردةً. وهو أمرٌ على سبيلِ التسخير، وفائدتُه غايةُ التأديب. قوله: (وناطقٍ وصامت)، تفسيرٌ لقولِه: ((حيوانٍ وجماد)). الراغب: النطقُ في التعارفِ: الأصواتُ المُقَطَّعةُ التي يُظهِرُها اللسانُ وتَعيها الآذانُ، ولا يُكادُ يقال إلاّ للإنسانِ، ولا يقال لغيرِه إلاّ على سبيلِ التَّبعِ، نَحْو: الناطقِ والصامتِ، فيُرادُ بالناطقِ: مالَه صَوْتٌ، وبالصامتِ: ما لاصَوْتَ له.

الضافية، وهو أوّل من اتخذها، وكانت قبل صفائح. وقيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف، فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدّق على الفقراء. وقيل: كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا، فيسأل الناس عن نفسه، ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه، فقيض الله له ملكًا في صورة آدمى فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه، فريع داود، فسأله، فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع. (وَقَدِّرْ): لا تجعل المسامير دقاقًا فتقلق، ولا غلاظًا فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع. (وَاعْمَلُوا) الضمير لداود وأهله. (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) فيمن نصب. ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع. وكذلك فيمن قرأ: (الرياح)، بالرفع. (غُدُوُّها شَهْرٌ): ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (الضافية)، الجوهري: الضُّفُوُّ: السبوغُ وثَوْبٌ ضافٍ أي: سابغ. قال الزّجاج: معنى السابغ: الذي يُغَطِّي كلّ ما تحْتَه حتى يفضُلَ عليه. عن بعضِهم: قولُه تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} ((أنْ)) مُفَسِّرة كأنه قيل: وأَلَنّا له الحديد، أي: اعمَلْ سابغات، وبمعنى: قُلْنا له: أن اعمَلْ سابغاتٍ، أو يكون في معنى: لأن يعمَلَ سابغاتِ، ويَصِل ((أن)) بلفظةِ الأمر، ونَظيرُه: أرْسِلْ إليه أنْ قُمْ إلى فُلان، أي: قال له: قُمْ أو يكون بمعنى: أرسِلْ إليه بأن يقومَ إلى فُلان. قولُه: (والسَّرْدُ: نَسْجُ الدُّروع)، قال الزجّاج: السردُ في اللغة: تَقْدِمَةُ شيءٍ إلى شيءِ تأتي به مُتّسِقًا بعْضُه في إثْرِ بعضٍ مُتتابعًا، ومنه قولُهم: سَرَد فلانٌ الحديث. قوله: ({و} سَخَّرنا {لِسُلَيْمانَ الرِيّحَ} فيمَنْ نَصَب)، أبو بكرٍ: ((الريحُ)) بالرفعِ، والباقون: بالنصب. قال الزجاج: ومعنى الرفعِ: ثَبَتَ لسليمانَ الريحُ، وهو يؤولُ إلى

جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ: (غدوتها) و (روحتها). وعن الحسن رضى الله عنه: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أنّ بعضهم رأى مكتوبًا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله. القطر: النحاس المذاب من القطران. فإن قلت: ماذا أراد بـ (عين القطر)؟ قلت: أراد بها معدن النحاس، ولكنه أساله كما ألان الحديد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معنى: سَخَّرْنا الريحَ، كما إذا قُلْتَ: لله الحمدُ، فتأويلُه: استَقرّ لله الحمدُ، وهو يرجِعُ إلى معنى: أحمَدُ الله الحَمْد. قوله: (جَرْيُها بالغداةِ مَسيرةُ شَهْرٍ، وجَرْيُها بالعَشيٍّ كذلك)، قال مَكّي: مَسيرةُ غُدوِّها مَسيرةُ شهرٍ، وكذلك {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. وإنّما احتيجَ إلى ذلك لأنَّ الغُدوَّ والرواحَ ليسا بالشهرِ وإنما يكونان فيه. وقال ابن الحاجبِ في ((الأمالي)): الفائدةُ في إعادةِ لَفْظِ الشهرِ الإعلامُ بمقْدارِ زمنِ الغُدوِّ والرواحِ، والألفاظُ التي مُبيِّنةً للمقاديرِ لا يحسُنُ فيها الإضمارُ، ألا ترى أنك تقول: زِنَةُ هذا مِثقالٌ، فلا يحسُنُ الإضمارُ كما لا يحسُنُ في التمييزِ، وأيضًا فإنه لو أُضْمِرَ فالضميرُ إنما يكونُ لِما تقدَّم باعتبار خُصوصيتهِ، فإذا لم يكُنْ له وجبَ العدولُ عن المُضْمَرِ إلى الظاهر، ألا ترى أنّك إذا أكرَمْتَ رجلاً وكسَوْتَه لكانَتِ العبارةُ: أكرَمْتُ رجلاً وكَسَوْتُه. ولو أكرمتَ رجلاً وكسوْتَ غيره، لكانت العبارة: أكرَمْتُ رجلاً وكسَوْتُ رجلاً. فتبيَّن أنه ليسَ من جَعْلِ الظاهرِ موضِعَ المُضْمَر. قوله: (النحاسُ المُذاب من القَطَران)، وعن بَعْضِهم: صحَّ بفَتْحِ الطاءِ، وهو مصدر، وبالكسر مُشتَقٌّ منه.

لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال: (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)] يوسف: 36 [. وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام (بِإِذْنِ رَبِّه): بأمره. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ): ومن يعدل (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان. وقرئ: (يزغ) من أزاغه. و (عذاب السعير): عذاب الآخرة. عن ابن عباس رضى الله عنهما وعن السدى: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى. لمحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، سميت محاريب؛ لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد. والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: القُطْرُ: الجانبُ. وقَطَرْتُه ألقَيْتُه على قُطْرِه. وتَقَطَّر وقَع على قُطْرِه، وتَقَطَّر وقَع على قُطْرِه، وتَقاطر القومُ: جاءوا أرسالاً كالقَطْرِ، ومنه قِطارُ الإبلِ، والقَطِران بكَسْرِ الطاءِ ما يتقطَّر من الهِناء. قوله: (باسمِ ما آل إليه)، يعني: أصلُه: أسَلْنا له معدنَ القطرِ بأن جعَلْناه مِثْلَ الماء ينبع كما يَنْبع، ولما كان المآلُ إلى هذا قيلَ ابتداءً: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} تسميةً للشيءِ باسم ما يؤول إليه. قوله: (وقيل: كان يسيل)، أي: القطر. روى مُحيي السنة عن المفسرين: أُجْرِيَتْ له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن بأرض اليمن. قوله: (سُمِّيت مَحاريبَ لأنه يُحامي عليها ويُذَبّ عنها)، رُوِيَ عن المصنف أنه قال: يُقال: رجلٌ مِحْرَبٌ ومِحرابٌ، للكثيرِ الحروب كما يُقال: مكانٌ مِحْلالٌ لكَثْرة مَنْ يحل فيه. أنْشَدني الشيخ الأثيرُ لبعْضِ أهلِ الشام: قرنَ الشجاعةَ بالخضوعِ لربِّه ... ما أحسَنَ المحرابَ في مِحْرابهِ

وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع؛ لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب. وعن أبى العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان، كصور الأشجار وغيرها؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيواٍن وغير حيوان. أو تصوّر محذوفة الرؤوس. وروى: أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى: الحياض الكبار، قال: تروح على آل المحلّق جفنة ... كجابية السّيح العراقىّ تفهق لأنّ الماء يجبى فيها، أى: يجمع. جعل الفعل لها مجازًا، وهي من الصفات الغالبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سُمِّي المحرابُ مِحرابًا لكَثْرة ما يُحامي عليه وَصْفًا للمكان بصفةِ صاحبه. قوله: (تروحُ على آل المُحلَّقِ)، البيت. مضى خبرُ المُحَلَّقِ وسَببُ قولِ الأعشى فيه في سورة ((طه)). تفهَقُ: تَمْتَلئ حتى تطفح. يقال: فَهِق الإناء بالكسر يَفْهَقُ فهقًا؛ إذا امتلأ حتى تصبب، وإنما الشَيْخَ لضَعْفِه، وأنه لا يجد الماء في كل وقت فإذا وجده افترصَ وملأ حوْضَه، قيل: أراد بالشيخ العِراقي كسرى. وفي ((ديوان الأعشى)) بالسين والحاءِ المهملتين، أي: الماءِ الجاري على وجه الأرض، وقيل: أراد به الفرات. وأما قول المصنف: ((جعل الفعل لها)) أي: ((تروحُ)) أُسْنِدَ إلى الجفنة، والظاهر أن الجابية اسمُ فاعل. الأصل مَجْبُوٌّ فيها فأسنده إلى الجابية مجازًا، كما قيل في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي} [النور: 2] سماها زانيةً وإنما هي المزنيُّ بها.

كالدابة. وقيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ: بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ)] القمر: 6 [. (راسِياتٍ): ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ): حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب (شُكْراً) على أنه مفعول له، أى: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر. أو على الحال، أى: شاكرين. أو على تقدير: اشكروا شكرا؛ لأن (اعملوا) فيه معنى اشكروا، من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب بـ (اعملوا) مفعولا به. ومعناه: إنا سخرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرا، على طريق المشاكلة. و (الشَّكُورُ): المتوفر على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة)، كلُّهم إلا ابنَ كثيرٍ وأبا عَمْرو ووَرْشًا. وقال الزجاج: كان الأصلُ الوقفَ بالياءِ إلا أن الكسرة تنوب عنها، وكانت بغير ألفٍ ولامٍ والوقفُ عليها بغير ياء، تقول: هذه جَوابٍ، فأدخلت الألف واللام، وترك الكلام على ما كان عليه قبل دخولهما. قوله: (ويجوزُ أن ينتصبَ بـ {اعْمَلُوا} مفعولاً به)، إلى قولِه: (طريقِ المشاكلة) يعني: كانَ أصلُ الكلام: اشكروا الله آلَ داود شكرًا، فأقيمَ مُقامَ ((اشكروا)): {اعْمَلُوا}؛ ليشاكل قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ}. قال ابنُ الحاجب: يجوزُ أن يكونَ مفعولاً به، كأنَّ العملَ له تعلُّقٌ بالشكر، كما تقول: عملتُ كذا، فأَجْراه لذلك مُجرى المفعول به، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرِ لأنه نوعٌ من العمل نَحْو: قعَدْتُ القُرْفُصاءَ، وإما عَمِلوا فقد تضمَّن ذلك شُكرًا لا يحتمل العملُ غيره، فيكون من باب {كِتَابَ اللهِ} [النساء: 24]. هذا الذي عَناه المصنّفُ بقوله:

أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه؛ اعتقادًا واعترافًا وكدحًا، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((إن العملَ للمُنْعمِ شُكْرٌ له)). قوله: (قد شَغَل به قلْبَه ولِسانَه وجَوارحَه)، لفٌّ. وقولُه: ((اعتقادًا واعترافًا وكَدْحًا)) نَشْرٌ، وهو ينظرُ إلى قولِه في الفاتحة: ((وأما الشكرُ فعلى النعمةِ خاصّةً وهو بالقلبِ واللسانِ والجوارح)). الراغب: الشكرُ: تصوُّر النعمةِ وإظهارُها، وقيل: هو مقلوبٌ الكَشْر، أي: الكشف، ويُضادُّه الكفر، وهو نسيان النعمة وسترها، ودابّةٌ شَكور: مظهر بسِمَنِه إسداءَ صاحِبه. وقيل: أصلُه عَيْنٌ شَكْرى، أي: ممتلئة، فالشكرُ على هذا الامتلاءُ من ذِكْرِ المنعم. والشكرُ ثلاثةُ أضربُ: شُكرٌ بالقلبِ وهو تصوُّرُ النعمةِ، وشُكرٌ باللسانِ وهو الثناءُ على المُنْعِم، وشُكرٌ بسائرِ الجوارح وهو مكافأةُ النعمةِ بقَدْرِ استحقاقِه، وقولُه تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] قيل: انتصابُه على التمييزِ، أي: اعملوا ما تعملونَه شكرًا لله، وقيل: مفعول لقوله: {اعْمَلُوا}، وذكَر {اعْمَلُوا} ولم يقُلْ: ((اشكروا)) ليُنبِّه على التزامِ الأنواع الثلاثة. قوله: (مَنْ يشكُرُ على الشكر)، وعليه قال: إذا كان شُكْري نعمةَ الله نعمةً ... عليَّ له في مِثْلِها يجبُ الشكرُ فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفَضْلهِ ... وإن طالتِ الأيامُ واتّسَع العُمْرُ إذا مسَّ بالنعاءِ عَمَّ سرورُها ... وإن مَسَّ بالضراءِ أعْقَبهَا الأجْرُ

أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتى ساعةٌ من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائٌم يصلى. وعن عمر رضى الله عنه: أنه سمع رجلًا يقول: اللهم اجعلنى من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنى سمعت الله يقول: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)، فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر. [فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَاكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)] 14 [ قرئ: (فلما قضى عليه الموت). ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها: السرفة، والأرض فعلها، فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضًا. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء، من أرضت الخشبة أرضًا، وهو من باب فعلته ففعل، كقولك: أكلت القوادح الأسنان أكلًا. وأكلت أكلًا. والمنسأة: العصا؛ لأنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو أيضًا معنى قوله: ((وقيل: مَنْ يرى عَجْزَه عن الشُّكرِ)). قوله: (السُّرْفَة)، النهاية: دُويبّةٌ صَغيرةٌ تثقُبُ الشجرةَ وتتخذ بَيْتًا، يُضْرَبُ بها المثل، يقال: أصْنَعُ من سُرْفَة. الراغب: سُمِّيت بذلك لتصوُّرِ معنى الإسرافِ منها، يقال: سُرِفَتِ الشجرةُ فهيَ مَسْروفة. قولُه: (والأَرْضُ فِعْلُها)، أي: أكْلُها الخَشَبَ، يُشيرُ إلى أنَّ ((الأَرْضَ)) مصدر. قولُه: (بفتحِ الراء)، أي: في ((دابةِ الأرَض)) أي: من الباب الذي يكونُ مضمومَ العينِ متعدّيًا، ومكسورَ العين لازمًا، ولذلك قال: مِن: أرِضتِ الخشبةُ بالكَسْرِ. قوله: (أكلتِ القوادحُ الأسنانَ)، الجوهري: قَدحَ الدودُ في الأسنانِ والشجرِ قَدْحًا، وهو تآكلٌ يقع فيه، والقادحةُ الدّود.

ينسأ بها، أى: يطرد ويؤخر. وقرئ بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلبًا وحذفًا، وكلاهما ليس بقياس، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. و (منسأته) على مفعالة. كما يقال في الميضأة: ميضاءة. و (من سأته)، أى: من طرف عصاه، سميت بسأة القوس على الاستعارة. وفيها لغتان، كقولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقُرئ بفَتْحِ الميمِ وبتَخْفيفِ الهمزة قَلْبًا وحَذْفًا)، وفي ((التيسيرِ)): نافعٌ وأبو عَمْرو: ((منساته)) بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزةِ والبَدلُ مَسموع، وابنُ ذَكْوانَ: بهَمْزةٍ ساكنةٍ، ومثلُه قد يجيءُ في الشعرِ لإقامةِ الوزنِ، وأنشَد الأخفشُ الدمشقي: صريعُ خمرِ قامَ مِن وُكاتِه ... كقومهِ الشيخِ إلى مِنْساتِه والباقونَ: بهَمْزةٍ مفتوحةٍ. وحَمْزةُ إذا وقفَ جَعَلها بَيْنَ بَيْنَ على أصله. قال ابنُ جِنِّي: المشهورُ {مِنسَأَتَهُ,} و ((مِنْساتَه)) بالهَمْزِ وبالبَدَلِ من الهمزِ، وهي العَصا، مِفْعَلَةٌ؛ من: نَسْأتُ الناقةَ والبعيرَ إذا زجَرْتَه. قال الفراء: هي من سِيَةِ القوس، وهي مَهْموزةٌ، ويجوزُ عند الفرّاءِ سِئة وسأة، وشَبَّههما بالقِحَةِ والقَحَةِ والضِّعَة والضَّعة، والتفسيرُ إنما هو على العصا لا سِيَةِ القوسِ، وهي من (ن سء) أو إن كانت السِّيَةُ والسأةُ من: نسَأتُ، فهي عَلَة، والفاءُ محذوفةٌ نحو العِدَةِ والزِّنةِ والضِّعة والقِحَة، وذلك مما فاؤه ((واو)) لا نون، ولم يَمْرُرْ بنا ما حَذِفَتْ نونُه وهي فاء، وسِيَةُ القوسِ: فِعَة، واللام محذوفة. وسُئل أبو عَمْروٍ عن تركِ همزة ((مِنْساته)) قال: وجدتُ لها في كتابِ الله تعالى أمثالاً {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البيّنة: 7] و {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6]، وكان أبو عَمْرو ويهمِزُ ثم تركَها. ويريدُ أنّ البريةَ من: برأَ الخلْقَ، فتركَ همْزَها تخفيفًا، و ((الترُونَّ)) أصلُه: تراءى. قولُه: (على الاستعارة)، أي: اللفظيةِ لا المعنوية، كما سيجيءُ في قوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] ومنه تسميةُ مطلَقِ الأنفِ للرسن.

قحة وقحة. وقرئ: (أكلت منسأته). (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) من: تبين الشيء؛ إذا ظهر وتجلى. و (أَنْ) مع صلتها بدل من (الجن) بدل الاشتمال، كقولك: تبين زيد جهله. والظهور له في المعنى، أى: ظهر أنّ الجن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ)؛ أو: علم الجن كلهم علمًا بينًا بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم، وتوهمهم أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب؛ أو: علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قِحَة وقَحَة)، الجوهري: وَقُحَ الرجلُ: إذا صار قليلَ الحياءِ، فهو وَقِحٌ ووَقاحٌ بيِّنُ القِحَة؛ بفَتْحِ القافِ وكسرها، والهاء عِوَضٌ من الواو وكذلك سِيَةُ القوسِ، وهي ما عُطِفَ من طرفَيْها، والجمعُ سِياتٌ، والهاءُ عِوَضٌ من الواو. قوله: ({أَن} مع صلتها بدل من {الْجِنُّ})، وقيل: بدَلٌ من مُقدَّر وهو أمر؛ أي: تبيّن أمرُ الجنِّ، وعلى التقديرَيْن محلّه رَفْع. قوله: (والظهور له)، أي: للجهل في المعنى؛ يعني أسندَ تبيَّن الذي بمعنى ظَهر إلى زيدٍ، وفي المعنى الظهور للجهل لا لزيد، فجيء بزيد توطئة، وعليه قولُه: ((ظَهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون)) أي: ظَهر جَهْلُ الجنِّ للناس. قوله: (أو عَلِمَ الجنُّ)، عطْفٌ على (({تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} من: تبيَّن الشيء))، يعني: {تَبَيَّنَتِ} يجوز أن يكون لازمًا وأن يكون متعدّيًا. الجوهري: تبيَّنَ الشيء، أي: ظَهر، وتبينتُه أنا، يتعدّى ولا يتعدّى. وإلى معنى اللازم أشار بقوله: ((ظهرَ أنّ الجنَّ لو كانوا يعلمونَ الغيْبَ))، وعلى أن يكونَ متعديًا إذا جُعلَ التعريفُ في ((الجن)) للجنس كان المعنى كما قال: ((أو علم الجنُّ كلُّهم علمًا بينًا)) إلى آخره، وإذا جعل للعهد والمرادُ جِنّ سليمانَ فيكونَ من بابِ وَضْعِ المُظْهَر موضعَ المُضْمَرِ فيفيدُ بحَسبِ المَقام معنى التهكّم، وأن يقال: لو عَلِمَ المُدَّعون علْمَ الغيبِ عَجْزَهم كما تقول لمن يدَّعي معرفةَ الشيءِ وهو يعلَمُ جَهْلَه ثم يعجَزُ عنه: قد عَلِمَ المدعي أنه لا يقدِرُ على شيءٍ من هذه المسائل، والحالُ أنه لم يزل عالمًا به. قولُه: (عَجْزَهم وأنّهم لا يعلمونَ الغيب)، قيل تنازعَ فيه قولُه: ((أو عَلِمَ الجنُّ كلُّهم))

التهكم بهم كما تتهكم بمدّعى الباطل إذا دحضت حجته، وظهر إبطاله بقولك: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل لذلك متبينًا. وقرئ: (تبينت الجن) على البناء للمفعول، على أن المتبين في المعنى هو: (أَنْ) مع ما في صلتها؛ لأنه بدل. وفي قراءة أبىّ: (تبينت الإنس). وعن الضحاك: (تباينت الإنس)، بمعنى: تعارفت وتعالمت. والضمير في (كانُوا) للجن في قوله: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ)] سبأ: 12 [، أى: علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب؛ ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: (تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب). روى: أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله، فيسألها: لأى شيء أنت؟ فتقول: لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها، فقالت: نبت لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((وعلم المُدَّعون)) أو يقول: هو معمولُ الثاني وحُذِفَ مفعولُ الأولِ لدلالةِ هذا عليه، ويؤيِّدُ الوجْهَ الأخيرَ قولُه: ((وإن كانوا عالمينَ قبل ذلك بحالهم)) إلى آخره. قوله: (على أن المتبيَّنَ في المعنى)، يعني {تَبَيَّنَتِ} قرئ مجهولاً بناءً على أنّ المسندَ إليه ((أن)) مع ما في صلتِها، وذِكْرُ الجنِّ كالتوطئِة، ومَرْجِعُه إلى الوجْهِ الأول. قوله: (تَبيَّنتِ الإنس)، قال ابن جني: هي قراءةُ ابنِ عباسٍ والضّحاك وعليِّ بن الحسين رَضِيَ الله عنهم، أي: تبينتِ الإنسُ أنّ الجنَّ لو عَلِموا بذلك ما لبِثوا في العذاب المُهين، ويدلُّ عليه ما رواه مَعبدٌ عن قَتادة قال: في مُصْحَفِ عبد الله: ((تبيَّنتِ الإنسُ أنّ الجنَّ لو كانوا يعلمون ما لبثوا)). قوله: (الخرّوبة)، النهاية: في حديثِ سليمانَ عليه السلام: كان يَنْبُت كلَّ يوم في مُصَلاه شجرةٌ فيسألها: ما أنت؟ فتقول: أنا شجرةُ كذا، أنبُت في أرضِ كذا، أنبُت في أرضِ كذا، أنا دَواءٌ من داء كذا،

وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائٍط له وقال: اللهم عم عن الجن موتى، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون العيب. وقال لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر، فإذا سليمان قد خر ميتًا، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوٍم وليلةٍ مقدارًا، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيًا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنةً. وروى: أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيأمرُ بها فتُقْطَع، ثم تُصَرُّ ويُكْتَبُ على الصُّرة اسمُها ودَواؤها، فلما كان في آخر ذلك نَبَتتِ الينبوتةُ، فقال: وما أنتِ؟ فقالت: أنا الخرُّوبة وسكتَت، فقال: الآن أعْلَم أنّ الله قد أذِن في خَرابِ هذا المسجد وذَهاب هذا المُلِكِ، فلم يَلْبَث أن مات. وقريب منه في ((معالم التنزيل)). قوله: (في موضعِ فُسطاطِ موسى عليه السلام)، الجوهري: الفُسطاطُ بيْتٌ من شَعَر، وفسطاطُ: مدينةُ مصر. والظاهرُ غيرُ ذلك. أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنّ المشهورَ أنّ موسى عليه السلام ما وصلَ إلى بيتِ المقدس ولا رآه. ويؤيِّدُه ما رواه المصنِّفُ في المائدة في

فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه؛ وليبطل دعواهم علم الغيب. روى: أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه، وكان عمر سليمان ثلاثًا وخمسين سنةً؛ ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقى في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. [لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)] 15 - 17 [ قرئ: (لِسَبَإٍ) بالصرف ومنعه، وقلب الهمزة ألفاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قصتِه قال: رُوِيَ أنّ هارونَ ماتَ في التيه، ومات موسى بَعْدَه فيه بسَنة، ودخل يوشَعُ أريحا بعد موتِه بثلاثة أشهر. وروَيْنا في حديثِ قَبْضِ روحِه عن البخاريِّ ومُسلم والنَّسائي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((فسألَ الله أن يُدْنِيَه من الأرضِ المُقَدَّسةِ رَمْيَة حجر)) قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كُنْتُ ثَمَّ لأرينُكُم قَبْرَه إلى جانبِ الطريقِ عند الكثيب الأحمر)). قوله: (قُرئ: {لِسَبَإٍ} بالصرفِ ومَنْعِه)، البَزِّيُّ وأبو عَمْروٍ: بفَتْح الهمزةِ من غيرِ تنوين، وقُنْبُلٌ: بإسكانِها على نيّةِ الوقفِ، والباقونَ: بالخفْضِ مع التنوين. قال الزجّاج: مَنْ فَتحَ وتركَ الصرفَ فلجَعْلِه اسما للقبيلةِ ومَنْ صَرَفَه جعَله اسمًا لرجلٍ أو للحيِّ.

و (مسكنهم): بفتح الكاف وكسرها، وهو موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها، أو مسكن كل واحد منهم. وقرئ: (مساكنهم). و (جَنَّتانِ): بدل من (آية). أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره: الآية جنتان. وفي الرفع معنى المدح، تدل عليه قراءة من قرأ: (جنتين) بالنصب على المدح. فإن قلت: ما معنى كونهما آية؟ قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آيةً، وإنما جعل قصتهما وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما، وأبدلهم عنهما لخمط والأثل؛ آية وعبرة لهم ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (و {مَسْكَنِهِمْ} بفَتْح الكاف وكَسْرِها)، حفْصٌ وحمزةُ: بإسكانِ السين وفَتْحِ الكافِ، والكسائيٌّ كذلك غير أنه يكسِرُ الكافَ، والباقونَ: بفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِ الكافِ وألفٍ بينهما. قال مَكِّي: مَنْ قرأَ بالتوحيدِ وفَتْحِ الكافِ جَعله مَصْدرًا ولم يجمَعْه وأتى به على القياس، لأن ((فَعَلَ يَفْعَل)) قياس مطرد بالفتح نَحْو المَقْعَدِ والمَدْخَلِ، وقيل: هو اسمٌ مُفردٌ للمكانِ يؤدِّي عن الجمعِ، ومَنْ كسَر الكافَ جعلَه اسمًا للمكانِ كالمسجدِ، وقيل: هو مَصْدرٌ خرَج عن الأصلِ كالمَطْلَع. قوله: (ويجوز أن تَجْعلَهما آية)، أي: علامةً دالّةً على الله وعلى قدرتهِ، فعلى الأولِ المضافُ محذوفٌ، وعلى الثاني هو مِثْلُ قولِه: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] قال: حالُهما بمَجْموعهما آيةٌ واحدة وهي ولادتُها إيّاهُ مِن غيرِ فَحْل. اعلَم أنّ في مثل هذه الآية يجوزُ أن ينتفعَ بها المكلَّفُ من حيثُ الاعتبارُ، فيَنْزجرُ ويَرْتدِعُ عن كُفرانِ نعم الله لئلا يُصيبَه بمثْلِ ما أصابهم أو من حيث القدرة الكاملة والإحسان إليه حيث ما ابتلاه بمثْلِ ما ابتلاهم، فيشكر الله عليه وهذا معنى قولهم: تجبُ سجدةُ الشكرِ عند

أي: علامة دالة على الله، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره. فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورب قريةٍ من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامهما، كأنها جنة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال: (جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب)] الكهف: 32 [. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ): إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ولما قال: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أتبعه قوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) يعنى: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اندفاعِ نِقمةٍ أو هُجومِ نعمةٍ، وإلى الأولِ الإشارةُ بقوله: ((فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفرِ)) وإلى الثاني بقوله: ((وإحسانهِ ووجوبِ شكره)). قوله: (لم يُرِدْ بَستانَيْن اثنَيْن فحَسْب)، أي: {جَنَّتَانِ} إما بَدلٌ من {آيَةٌ} أو خبرُ مبتدأٍ محذوف والجملةُ بَيان، وقولُه: {لِسَبَإ} اسمُ قبيلةٍ أو حيٍّ محمولٌ على {آيَةٌ} لأنها اسمُ {كَانَ} وينبغي أن يُحملَ {جَنَّتَانِ} على الكلِّ: إما باعتبارِ الجنس وما يُقال له: جَنّتان، وإليه الإشارةُ بقوله: ((وإنّما أراد جماعتَيْن)) إلى آخرِه، أو باعتبارِ أفرادِ الجنسِ وهو المرادُ مِن قَوْلِه: ((أو أرادَ بُسْتانَيْ كُلِّ رجلٍ منهم وليسَ كذلك بساتينُ سائرِ البلادِ لسائرِ الناس))، فأدّى مآلُ المعنى إلى أنَّ أهلَ تلك البلادِ مُتْرَفين قاطبةً أصحابَ بساتين. قولُه: (أتْبَعَه)، فيه إشعارٌ بأنّ في التنزيل لفًّا ونَشْرًا، وأنّ وصْفَ البلدةِ بالطيِّبة ناظرٌ إلى قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 85]، وإليه أشارَ بقوله: ((هذه البَلدةُ

ابن عباس رضي الله عنهما: كانت أخصب البلاد وأطيبها؛ تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل، فتعمل بيديها وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر. (طَيِّبَةٌ): لم تكن سبخة. وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ: (بلدة طيبة وربا غفورا) بالنصب على المدح. وعن ثعلب: معناه: اسكن، واعبد. (الْعَرِمِ): الجرذ الذي نقب عليهم السكر؛ ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقًا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا قيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيًا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم، فكذبوهم، وقالوا ما نعرف لله نعمة -سلط الله على سدّهم الخلد فنقبه من أسفله فغرقهم. وقيل: العرم: جمع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التي فيها رِزْقُكم بلدةٌ طيِّبة))، إلى قوله: ((غفورٌ لمن شكر))، وإيذانٌ بأنّ شُكرَهم لم يكن وافيًا بتلك النعمة، وأنّه تعالى يرضى عنهم بقليلِ الشكرِ من كثيرِ النعمة. قوله: (اسْكُن واعبد)، أي: اسكُن بلدةً طَيبةً واعبُدْ ربًّا غَفورًا. قوله: (الجرْذ)، الجوهري: الجُرْذُ ضرْبٌ من الفأرِ والجمْعُ جُرْذان. والخُلْدُ أيضًا ضَرْبٌ من الجُرذانِ. قيل: سُمِّيَ خُلدًا لإقامتِه عند جُحره لعماه. الراغب: قيلَ: العَرِمُ الجُرْذُ الذَّكَر نُسِبَ إليه الفعل لأنه هو الذي نقبَ المَسْناةَ. وقال: العَرامة: شَراسةٌ وصُعوبةٌ في الخُلُقِ ويظهر بالفعل يقال: عَرِمَ فهو عارِم، وعَرِمَ تَخلَّقَ بذلك، ومنه: عُرام الجيش، وقولهُ تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] وقيل: العَرِمُ: المَسْناةُ. قوله: (والقار)، الجوهري: القارُ القِيرُ والقَارةُ: الأكَمَة، وجمعها: قار. قوله: (فحقنت)، الأساس: حَقَنَ اللبنَ في السِّقاء: جَمَعَه، وسَقاه الحَقينَ أي: اللبنَ المَحْقون.

عرمة، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة التي عقدوها سكرًا. وقيل: العرم اسم الوادي. وقيل: العرم المطر الشديد. وقرئ: (العرم) بسكون الراء. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقرئ: (أكل) بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة. والأكل: الثمر. والخمط: شجر الأراك. وعن أبى عبيدة: كل شجر ذى شوك. وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة، حتى لا يمكن أكله. والأثل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودًا. ووجه من نون: أن أصله: ذواتي أكل أكل خمط؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للكُدْسِ)، الأساس: كُدْسٌ من الطعام وأكداسٌ. ومنَ المجازِ: مررْتُ بأكداسٍ من الطعام، وتكَدَّستِ الخيلُ: اجتمعَتْ وركِبَ بعضُها بَعْضًا في سَيْرِها. قوله: (المُسَنّاة)، قيل: ما يُبنى للسيل ليَرُدَّ الماءَ. قوله: (عَقَدوها سِكْرًا)، الجوهري: السَّكَرُ: مصْدرُ أسكَرْتُ النّهرَ أسكُرُه سَكَرًا: إذا سدَدْتَه، والسِّكْرُ بالكَسْرِ: العَرِم. و((السِّكْرُ)) في الكتابِ حالٌ مُقدَّرة نَحْوَ قولِه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149]. قوله: (وقُرئ أُكْلٍ، بالضمِّ والسكونِ والتنوينِ والإضافة)، قرأ أبو عَمْروٍ: بضَمِّ الكافِ مع الإضافة، وابنُ كثيرٍ: بالسكونِ مُنوّنًا، والباقون: بالضمِّ من غيرِ إضافة. وعَن بَعْضِهم: التقديرُ: أُكلِ ذي خَمْطٍ، وقيل: هو بدَلٌ منه، وجُعِلَ خَمْطًا أُكلاً لمُجاورتِه إيّاه وكَوْنِه سَببًا له. قوله: (ووجهُ مَن نوّن)، يعني: التنوينُ في {أُكُلٍ} مُشكل، إما أن يُجعلَ {خَمْطٍ} بدلاً منه على حذفِ مضافٍ، أو يذهب على تأويل الخمط الذي هو اسم الشجر بمعنى

أو وصف الأكل بالخمط، كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. ومن أضاف، وهو أبو عمرو وحده؛ فلأن أكل الخمط في معنى البرير، كأنه قيل: ذواتي برير. والأثل والسدر معطوفان على (أكل)، لا على (خمط)؛ لأن الأثل لا أكل له. وقرئ: (وأثلا وشيئا)، بالنصب عطفًا على (جنتين). وتسمية البدل جنتين؛ لأجل المشاكلة، وفيه ضرب من التهكم. وعن الحسن رحمه الله: قال السدر؛ لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ: (وهل يجازى)، (وهل نجازى) بالنون، (وهل يجازى) والفاعل الله وحده، (وهل يجزى) والمعنى: أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البَشِعِ ليصحّ الوصفُ به، قال الزجاج: كل نَبْتٍ أخذ طعمًا من مرارةٍ حتى لا يُمكِنُ أكلُه فهو بَشع. قوله: (في معنى البَرير)، النهاية: البَرير: ثَمرُ الأراك إذا اسوَدَّ وبلغَ، وقيل: هو اسمٌ له في كل حال. البرير: بالباءِ الموحَّدة والراءِ والياءِ المنقطعةِ من تحتُ نُقطتان والراء. قوله: (كأنه قيل: ذواتي بَريرٍ)، والإضافةُ للبيان، نحو: بابِ ساجٍ، والمضاف إليه بمعنى برير، ومِن ثَمَّ قال: ((والأَثْلُ والسدرُ معطوفان على {أُكُلٍ} لا على {خَمْطٍ})) إذ لو عطف على {خَمْطٍ} لزمَ أن يكون لهما ثَمر ولا ثمرَ لهما. قال صاحبُ ((الفرائد)): الأكُل الثمرُ، والخَمْطُ الأراك، والبرير ثَمَرُ الأراك فقولُه: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} يساوي: ذواتَيْ بَرير، فأي فائدة في هذا التقدير، أي: تقدير تفسير الخمط بالأراك دونَ كل شجرٍ ذي شوك، فيقال: الفائدة مَزيدُ بيانٍ وتقدير وإظهار كمال بشاعة، والمَقامُ يَقْتضيه. قوله: ({وَهَلْ نُجَازِي})، حَفْصٌ وحمزةُ والكسائي: بالنونِ وكَسْرِ الزاي، {إلاَّ الْكَفُورَ} بالنصبِ، والباقونَ: بالياء وفَتْحِ الزاي، وبالرفع. قولُه: (والمعنى أنّ مثلَ هذا الجزاءِ لا يستحقُّه إلا الكافر)، ومعنى المثل مستفادٌ من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إيقاع قولِه: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} تذييلاً لقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا}، وذلك في مثل هذه الموانع يُفيدُ المعنى الكلِّيَّ وهو العِلّيّةُ، وذلك أنه ورد عَقيبَ أوصافِ أُجْرِيَتْ على موصوفٍ، فآذن بأنَّ المذكورَ قبله مُستحَقٌّ بما بعده، أي: ذلك الجزاء لأجلِ اتصافه بتلك الصفات كما مر. قال صاحب ((الفرائد)): قولُه: ((إن مثل هذا الجزاء لا يستحقُّه إلا الكافر)) صحيح، ولكن قوله: ((وهو العقابُ العاجلُ)) منظور فيه لأن المؤمن يبتلي بالعقاب العاجل أيضا فكيف وقد جاء في الحديث: ((جَعل عذاب هذه الأمة في الدنيا))، وقال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] وقوله: ((وليس لقائلٍ أن يقولَ)) إلى آخرهِ منظورٌ فيه يعرف بالتأمل، والوجه أن يقال: وهل نجازي بمِثْلِ هذا الجزاء وهو السلب والتبديل إلا الذي بالغ في الامتناعِ من الشكرِ وكان في ضِمْنِ قوله: {اَلْكَفُورَ} دون ((الكافر)) أنه يعفو عن كَثيرٍ، ولا يُعاقبُ بمثْلِ هذا إلا الذي بلغَ هذا الحدَّ من الكُفر، فيلزَمُ أن يكونُ الكفورُ كافرًا، لأنّ المؤمنَ لا يكون امتناعُه من الشكرِ بهذه المَثابة. وقلت: ويمكنُ أن يُستنبطَ هذا المعنى من قولِه: ((وقيل: المؤمن تُكَفَّرُ سيئاتُه بحسناتِه)) إلى آخره، يعني: مِثلُ هذا الجزاء أي: العقابُ الذي يكونُ مجازاةً بجميعِ ما يَفعلُه من السوءِ لا يستحقُّه المؤمن، لأن المؤمنَ تُكفَّرُ سيئاتُه بحسناتِه، والكافرُ هو الذي يستحقّه لأن حسناته محبطة فيُجازي بجميعِ ما يفعلُه بجميعِ ما يفعلُه من السوء، فإذَن التعريفُ في قوله: ((العقاب العاجل)) للعهدِ، وهذا من قول الزجاج قال: هذا مما يسأل عنه ويقال: إنّ الله يُجازي الكفورَ وغير الكفور. وجوابُه: أن المؤمنَ يكفَّر عنه السيئات لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] والكافر يحبط عمله فيجازي بكل سوء يعمله لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].

وهو العقاب العاجل. وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء، ووجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله: (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بمعنى: عاقبناهم بكفرهم؛ قيل: (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بمعنى: وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح. وليس لقائل أن يقول: لم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن الجزاء عام لكلٍّ مكافأةٍ)، أي: مشتركٌ في معنَييْن متضادَّيْن فاحتيجَ إلى تعيينِ المرادِ بالقرينةِ المُخصِّصة لَمّا قُرِنَ هاهنا بقولِه: {بِمَا كَفَرُوا} تَعَيَّنَ المرادُ، ثم قيل: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} لكونِه تذييلاً، فيكون معناهُ معناه، وهو المراد من قوله بعد هذا: ((لم يُرِدِ الجزاءَ العامّ وإنما أرادَ الخاصّ))، ومن قولِه: ((ولا يجوزُ أن يرادَ العمومُ وليس موضعَه، ألا ترى أنّك لو قلتَ: جزَيْناهُم بما كفروا وهل نُجازي إلا الكافرَ والمؤمنَ لا يصحُّ))، فعلى هذا قوله: ((وليسَ لقائلٍ أن يقول)): لا افتقارَ إليه، ولعلَّ مُرادَ صاحبِ ((الفرائد)) من قولِه: ((ولقائل أن يقول: منظور فيه)) هذا. ويمكن أن يكونَ أصلُ الكلام: فهل يُجازي إلا العاملُ، فَعَدلَ إلى ((الكفورِ)) ليشاكِلَ قولَه: {بِمَا كَفَرُوا}. قوله: (وهو الوجه الصحيح)، مشعر بأن في الآية وجوهًا، لكنّ الصَحيح هذا، وفيه أن الوجْهَ الأولَ ليس بقويّ لاختصاصِ الجزاءِ والمجازاة فيه بالشرِّ دون الخير ابتداء. قال ابنُ جِنِّي: ذكر شيخُنا أبو علي: أنه كان أبو إسحاق يقولُ: جزيتُ الرجلَ في الخيرِ وجازيْتهُ في الشرِّ، واستدلَّ عليه بقراءةِ العامة: {وهل يجازي إلا الكفور}، وقرأتُ على أبي عليٍّ عن أبي زيدٍ: لعمري لقد بَرًّ الضِّبابَ بنوه ... وبعضُ البنين حُمَّة وسُعال جزَوْني بما ربَّيتُهم وحملتُهم ... كذلك ما إنّ الخطوبَ دَوال وينبغي أن يكونَ أبو إسحاقَ يقول: يريدُ أنّك إذا أرسلتَهُما ولم تُعَدِّهما إلى المفعول الثاني كان كذلك، فإذا ذكرْتَه إشتركا، ألا ترى إلى قولِه:

قيل: وهل يجازى إلا الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للكافر والمؤمن؟ لأنه لم يرد الجزاء العام، وإنما أراد الخاص وهو العقاب، بل لا يجوز أن يراد العموم، وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا، وهل يجازى إلا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جزاني الزُّهْدَ مانِ جَزاءِ سوء ... وكُنْتُ المرءَ أُجْزي بالكَرامهْ وأما قراءةُ ابنِ جُنْدَبٍ: ((وهل يُجْزي إلا الكفور)) فوجْهُها: إذا كان الجزاءُ عن الحسنةِ عَشْرًا، فلذلك تَفضُّلٌ وليس جزاءً، وإنما الجزاءُ في تعادُلِ العملِ والحسابِ والثوابِ عنه، ولله دَرُّ جريرٍ حيث يقول: يا أم عمرو جزاك الله صالحة ... رُدِّي عليّ فُؤادي كالذي كانا وروي مُحي السنّةِ عن مجاهدٍ: ((يُجازي)) أي: يعاقب، ويقال في العقوبة: نُجازي، وفي المثوبة: نَجْزي. وقال الفراء: المؤمنُ يُجزي ولا يُجازي، أي يُجزي الثوابَ بعَمَله ولا يُكافأُ بسيئاته. وروى الإمامُ عن بعضِهم: أنّ المُجازَاةَ في النقمةِ والجزاءَ في النعمة. ثم قال: قولُه: {جَزَيْنَاهُم} يدلُّ على أن ((يَجْزي)) يُستَعْمَلُ في النعمةِ أيضًا، ولعلّهم ذَهبوا إلى أنّ المجازاة مفاعلة، وهي في أكثرِ الأمرِ تُستعملُ بين اثنين بأخْذِ كلِّ واحدٍ جزاءَ حَقِّه من الآخَر، ولا يكون ذلك في النعمةِ، لا سيَّما من الله تعالى، لأن الله تعالى مبتدئُ النعم. وقلتُ: القولُ المُختارُ ما قال المصنِّف.

الكافر والمؤمن؛ لم يصح ولم يسد كلاما، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. [وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)] 18 - 19 [ (الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها): هي قرى الشام. (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين؛ أو راكبة متن الطريق، ظاهرة للسابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) قيل: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا عدوًا، ولا يحتاج إلى حمل زاٍد ولا ماء. (سِيرُوا فِيها): وقلنا لهم: سيروا، ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير، وسويت لهم أسبابه؛ كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله: (لَيالِيَ وَأَيَّاماً)؟ قلت: معناه: سيروا فيها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ظاهرةٌ لأعيُنِ الناظرين)، النهاية: كتب عمر إلى أبي عبيدة رضيَ الله عنهما: ((فاظهَرْ بمَنْ معَك من المسلمين إليها)) يعني: إلى الأرض، يعني: اخرُجْ بهم إلى ظاهرِ الأرضِ. عن بعضِهم: قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} الآية عَطْفٌ على قوله {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ}. قوله: (ما معنى قوله: {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا})، أي: السيرُ لا يكون إلا في هذَيْن الزمانَيْن، فما فائدة تَخْصيصهِما بالذكر؟ وأجاب بوجوهٍ ثلاثة: أحدُها: المراد بتخصيصِ الوقتَيْن عدمُ تفاوتِ الأمنِ باختلافِ الأوقات لأنّ بالليلِ والنهار يتبيَّنُ الاختلافُ. وعلى هذا الظاهرُ أن يكونَ الواو بمعنى ((أو)) قال في قولِه تعالى:

إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات. أو: سيروا فيها آمنين لا تخافون، وإن تطاولت مدة سفركم فيها، وامتدت أيامًا وليالي. أو: سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حيٍن وزمان، لا تلقون فيها إلا الأمن. قرئ: (ربنا باعد بين أسفارنا) و (بعد) و (يا ربنا)، على الدعاء. بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش، وملوا العافية، فطلبوا الكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها، ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. وقرئ: (ربنا بعد بين أسفارنا) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] الواو قد يجيء للإباحة نحو قولِك: جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين، ومِن ثَمَّ أتى بالجملة الشرطية في التفسير. وثانيهما: أن يُعَبَّر بذكرِهما عن طولِ الزمان وامتدادِ المدة من غير اعتبار شيء آخر. وثالثها: أن يراد امتداد الزمان لكن مقيد بأيام المخاطبين ولياليهم، فإنك إذا قلت لزيدٍ: صُمْ نهارًا وصَلِّ ليلاً، لم تُرِدْ إلا أيامَه ولياليه ما عاش، وفيه تعَسُّف. قوله: (قُرئَ: {رَبَّنَا بَاعِدْ})، ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْرو هِشام: ((بعِّد))، والباقون: {بَاعِدْ}. قوله: (بَطِروا النعمة)، يقال: بَطِرْتَ عَيْشَكَ كما يقال: رَشَدْت أمرَك. وبَشِموا: البَشَمُ: التُّخمَة. الجوهري: بَشِمَ الفصيلُ سن كثرةِ شُرْبِ اللبن. قوله: (لو كانَ جَني جِنَانِنا)، أي: المُجْتني من الثمارِ التي جُنِيَتْ. قوله: (ربَّنا بَعُدَ بينُ أسفارنا)، قال ابن جني: قرأ ابنُ عباس ومحمدُ بن الحنفية وغيرُهما: ((رَبُّنا بَعَّدَ بين أسفارِنا)) بضَمّ الباء من ((رَبّنا)) على الخبرِ وفَتْحِ الباءِ والعينِ من ((بَعَّدَ)) ونَصْبِ ((بَيْنَ)). وقرأَ ((بَعُدَ)) بفَتْحِ الباءِ وضَمِّ العين ورَفْعِ ((بَيْنُ)): محمَّد بن السَّمَيْفَع وابنُ يَعْمَر

و (بُعِّد بين أسفارنا) على النداء وإسناد الفعل إلى "بين" ورفعه به، كما تقول: سير فرسخان. و (بوعد بين أسفارنا). وقرئ: (ربنا باعد بين أسفارنا) و (بين سفرنا)، و (بعد) برفع "ربنا" على الابتداء، والمعنى خلاف الأوّل، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها؛ لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه. (أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم، وفرقناهم تفريقًا اتخذه الناس مثلًا مضروبًا، يقولون: ذهبوا أيدى سبا، وتفرقوا أيادى سبا. قال كثير: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وغيرُهما. وقَرأ: ((رَبُّنا باعَدَ بين أسفارِنا)): ابن عباسِ والحسَنُ وغيرهما. أما ((بَعِّدْ)) و ((باعِدْ)) فإنَّ ((بَيْنَ)) منصوبٌ على المفعولِ به، لا على الظرف، لأنه يريدُ: بَعِّد وباعِدْ مسافَةَ أسفارِنا، ولا يريدُ: بَعِّدْ أو باعِدْ فيما بين أسفارِنا، بذلك عليه قِراءةُ مَنْ قَرأ ((بَعُدَ بينُ أسفارنا)) أي: بَعُدَ مدى أسفارنا، فرَفْعُه دليلُ كونِه اسمًا، ولأنّ ((بعَّد)) و ((باعَد)) فِعلانِ مُتعدِّيان، فمفعولُهما معهما. وكان شيخُنا أبو علي يذهبُ إلى أنّ أصلَ ((بَيْن)) مصدَر: بانَ يَبينُ بَيْنًا، ثم استُعْمِل ظرفًا اتّساعًا وتجوُّزًا، كمَقْدَمِ الحاجِّ، ثم استُعْملت واصلةً بين الشيئين وإن كانت في الأصلِ فاصلة، وذلك لأن جِهتَيْها وصلتا ما يُجاورهما: بهما، فصارت واصلةٌ بين الشيئين، وعليه قراءةُ من قرأ: ((لقد تَقَطَّعَ بَينُكم)) [الأنعام: 94] بالرفعِ أي]: وَصْلُكم. قوله: (يتشاجَوْنَ على ربِّهم)، الأساس: شَجاه الهمُّ شَجْوًا، وأمرٌ شاجٍ: مَحْزن، وتشاجَتْ فُلانةُ على زوجها: تحازنَتْ عليه، يعني: يُدِلُّون. قوله: (يقولون: ذَهبوا أيدي سَبا)، وعن بَعْضِهم: المعنى: مِثْل أيدي سبا فتضمَّن المَثَلُ أنّ ((أيدي سبا)) وقع حالاً عن فاعلِ ((ذَهبوا)) وهو مَعرفة، لأنَّ إضافتَه حَقيقيّة. ومن حَقِّ الحالِ أن يكون نكرةً. والتقديرُ مُتَفرِّقين. وسَبا: مهموزٌ في الأصلِ غير أنه التُزِمَ التخفيفُ في

أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكم ... فلم يحل بالعينين بعدك منظر لحق غسان بالشآم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان. (صَبَّارٍ) عن المعاصي (شَكُورٍ) للنعم. [وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)] 20 - 21 [ قرئ: (صدّق) بالتشديد والتخفيف، ورفع إبليس ونصب الظن، فمن شدّد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا المثل، والأيادي: عبارةٌ عن التفرقةِ، أي: تَفرَّقوا في البلادِ، مِنْ قولِهم: أخذَ يَدَ البَحْرِ، أي: طلب طريقه. وقيل: أيادي سَبأ: أولادُ سبأ، لأنّ الأولادَ أعضادُهُ لتقوِّيه بهم. مضى قصَّتُهم في النملِ مُستوفيً. قوله: (أيادي سَبا يا عَزُّ)، البيت. تقديرُه: يا عَزَّةُ كنتُ بعْدَكم أياديَ سَبا، و ((ما)) مزيدةٌ أو للدوامِ. ويقال: حَلى الشيءُ في فَمي يحلو، وحَلِيَ بعَيْني وقَلْبي يَحْلي. قوله: (قُرئ: {صَدَّقَ} بالتشديد)، عاصمٌ وحمزةُ والكِسائي، وبالباقون: بالتخفيف. قال الزجّاج: صِدْقُه في ظَنِّه: أنّه ظَنَّ بهم أنه إذا أغْواهُم اتّبعوه، فوجَدَهم كذلك، فمَنْ شَدَّدَ نصَبَ ((الظنَّ)) لأنه مفعولٌ به، ومَنْ خَفَّف نَصَبه على معنى: صَدَقَ عليهِم في ظَنِّه. روى مُحيي السنّةِ عن ابنِ قُتيبة: أنّ إبليسَ لما سألَ النَّظِرةَ فأنْظَره الله تعالى قال: لأغوِينَّهم

فعلى: حقق عليهم ظنه، أو وجده صادقا؛ ومن خفف فعلى: صدق في ظنه، أو صدّق يظن ظنًا، نحو: فعلته جهدك؛ وبنصب "إبليس" ورفع "الظن"، فمن شدّد فعلى: وجده ظنه صادقًا، ومن خفف فعلى: قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، يقولون: صدقك ظنك. وبالتخفيف ورفعهما على: صدق عليهم ظن إبليس، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق، كقوله: صدقت فيهم ظنوني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولأُضِلَّنَّهم، ولم يكُنْ مستيقنًا وقْتَ هذه المقالةِ، إنما قالَه ظَنًّا، فلمّا اتَّبعوه وأَطاعوه صَدَّق عليهم ما ظَنَّه فيهم. قال ابنُ جني: ((على)) مُتعلِّقةٌ بـ {صَدَّقَ}، كقولك: صَدَّقْتُ عليك فيما ظنتهُ بك، ولا يتعلَّقُ بالظن. قوله: (وبنَصْبِ ((إبليس)) ورَفْع ((الظنِّ)))، قال ابنُ جني: المُخفَّفةُ قرأَها الزهري. والمعنى: أن إبليسَ كان سَوّلَ له ظنُّه شيئًا فيهم فصَدَّقه ظنُّه فيما كان عقدَ عليه معَهم من ذلك الشيء. قوله: (ورَفْعِهما)، قال أبو البقاء: ويُقرأُ برَفْعِهما بجَعْلِ الثاني بدَل اشتمال. قال الزجاج: هو كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، ويجوز: ((ولقد صَدَّق عليهم إبليسُ ظنُّه))، وقد قُرئ بهما على معنى: صَدَقَ ظنُّ إبليسَ اتباعُهم إياه. قوله: (صدّقَتْ فيهم ظنوني)، تمامه:

ومعناه: أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إنّ ذرّيته أضعف عزمًا منه، فظنّ بهم اتباعه، وقال: (لأضلنهم)] النساء: 119 [، (لأغوينهم)] ص: 82 [. وقيل: ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة: أنه يجعل (فيها من يفسد فيها)] البقرة: 30 [، والضمير في (عَلَيْهِمْ) وَ"اتَّبَعُوهُ" إمّا لأهل سبأ؛ أو لبنى آدم. وقلل المؤمنين بقوله: (إِلَّا فَرِيقاً)؛ لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار، كما قال: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)] الإسراء: 62 [، (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)] الأعراف: 17 [. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ) من تسليٍط واستيلاٍء بالوسوسة والاستغواء إلا لغرض صحيح وحكمة بينة؛ وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها. وعلل التسليط بالعلم، والمراد ما تعلق به العلم. وقرئ: (ليعلم) على البناء للمفعول. (حَفِيظٌ): محافظ عليه، وفعيل ومفاعل متآخيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فدَتْ نفسي وما مَلَكْت يَميني ... فوارسَ صَدَّقَتْ فيهم ظنوني ((فَدَتْ)) خبرٌ في معنى الدعاء، وتَضْعيفُ العينِ في ((صَدَّقَتْ)) للتكثيرِ، وفوارسُ- في جَمعِ فارسٍ-: شاذٌ، لأنّ فواعلَ إنما يكونُ جَمْعَ فاعلةٍ في صفاتِ ما يَعْقِلُ، دون فاعل. قولُه: (والضميرُ في {عَلَيْهِم} و ((اتبعوه)) إما لأهلِ سبأ أو لبني آدم)، فإن كان الأول فالكلامُ تَتِمَّةٌ للأول إما حالاً أو عَطْفًا، وإن كان الثاني فهو كالتذييلِ تأكيدًا له. قوله: (وقُلَّل المؤمنينَ بقولِه: {إِلاَّ فَريقًا} لأنهم قليلٌ بالإضافةِ إلى الكفار)، في ((المطْلع)): هذا إذا جَعَلْتَ ((مِنْ)) للتبين، وإن جعَلْتَها للتبعيضِ فالمرادُ بالفريقِ: الخُلَّصُ من المؤمنين الذين لم يتبعوه فيما دعاهم إليه من المعاصي. قولُه: (وعُلِّلَ التسليطُ بالعلم، والمرادُ ما تَعلَّق به العلم)، المطْلع: وهو الإيمانُ والكفر، والمعنى: إلا لنعلمَ إيمانَ المؤمنِ بالآخرةِ ظاهرًا موجودًا، وكذلك كُفْرَ الكافرِ الذي هو في شكِّ منها، لأنَّ العلمَ بهما موجودَيْن هو الذي يتعلَّقُ به الجَزاء. قال القاضي: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} إلاّ ليتعلَّقَ علْمُنا بذلك تعلُّقًا يترتَّبُ عليه الجزاءُ، أو ليتميَّزَ

[قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)] 22 [ (قُلِ) لمشركي قومك: (ادْعُوا الَّذِينَ) عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه. وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون أن يستجيب لكم ويرحمكم. ثم أجاب عنهم بقوله: (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر، أو نفع أو ضر فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ وَما لَهُمْ في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك، كقوله تعالى: (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الكهف: 51 [، وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه؛ يريد: إنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المؤمنُ من الشاكِّ، أو ليُؤمِنْ مَنْ قُدِّرَ إيمانُه ويَشُكَّ مَنْ قُدِّرَ ضلاله، والمرادُ من حصولِ العِلْمِ حصولُ مُتَعلَّقِه مُبالغة. وفي نَظْمِ الصِّلَتيْن نُكتةٌ لا تَخْفى. وقلتُ: لعلّ النكتةَ إيقاعُ الشكِّ في الصلة الثانية في مقابل الإيمان المذكور في الصلة الأولى، وأن لم يقُلْ: من هو مؤمنٌ بالآخرة ممن هو كافر بها، أو: من يوقن بالآخرة ممن هو في شكٍّ منها، ليؤذن بأن أدنى شك في الآخرة كفر، وأنَّ الكافرين لا يوقنون بالردِّ بل هم مُستقرُّون في الشك لا يتجاوزونَ إلى اليقين. قوله: (فيما يَعْروكم)، الجوهري: عراني هذا الأمر واعْتَراني: إذا غَشِيَك، وعروْتُ الرجلَ أعروهُ عروًا: إذا ألمَمْتُ به وأتيته طالبًا، وهو مَعْرُوٌّ. قوله: (ثُم أجابَ)، عَطْفٌ على قوله: ((قل لمُشْركي مكة)) أي: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي مكة، ثم أجاب. قوله: (في هذَيْنِ الجنسَيْن)، أي: السماواتِ والأرض، يعني: عدلَ عن ضميرِ الجمع نحو: ((فيهنَّ)) و ((فيها)) إلى التثنية لإرادة الجنسَيْن.

أحوال الربوبية، فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى، ويرجوا كما يرجى؟ فإن قلت: أين مفعولا زعم؟ فإن قلت: أحدهما: الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول. وأمّا الثاني: فلا يخلو إمّا أن يكون (مِنْ دُونِ الله)، أو (لا يَمْلِكُونَ)، أو محذوفًا. فلا يصح الأول؛ لأنّ قولك: هم من دون الله، لا يلتئم كلامًا، ولا الثاني؛ لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم، وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقى أن يكون محذوفًا تقديره: زعمتموهم آلهةً من دون الله، فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ الله)] الفرقان: 41 [استخفافا، لطول الموصول لصلته، وحذف "آلهة"؛ لأنه موصوف صفته: (مِنْ دُونِ الله)، والموصوف يجوز حذفه، وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما، فإذن مفعولا "زعم" محذوفان جميعًا بسببين مختلفين. [وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير)] ُ 23 [ تقول: الشفاعة لزيد، على معنى أنه الشافع، كما تقول: الكرم لزيد، وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أن يكون على أحد هذين الوجهين، أى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بسَبَبَيْنِ مختلفين)، أي: بسَببِ الاستحقاقِ وبسَبب إقامةِ الصفةِ مُقامَ الموصوف. قوله: (على أحدِ هذين الوجهين)، أي: اللام في {أَذِنَ لَهُ,} صلة للفعل، فيجوز أن يكون مثل اللام في قولك: الشفاعةُ لزيدٍ، على أنه الشافع فقولهُ: ((من الشافعين)) بيانٌ لقوله: {مَنْ أَذِنَ لَهُ}، وأن يكونَ مِثْلَ اللام من قولك: القيامُ لزيد، أي: قامَ أحدٌ كرامةً لزيدٍ على أنه المشفوعُ له، وقولُه: ((أي: بشفيعه))، تفسيرٌ لقوله: {لَهُ,} في قولِه: {مَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لا تَنْفَع الشفاعة إلا لشخص أذن لشفيعه أن يشفع له.

له من الشافعين ومطلقة له. أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له، أى: لشفيعه؛ أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أى لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)] يونس: 18 [. فإن قلت: بما اتصل قوله: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، ولأى شيء وقعت (حتى) غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظارًا للإذن وتوقعًا وتمهلًا وفزعًا من الراجين للشفاعة والشفعاء؛ هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عز وجلّ: (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)] النبأ: 37 - 38 [. كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون مليًا فزعين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن تكون هذه اللامُ بمعنى: لأجل، ولامُ الصلةِ مع متعلِّقِه محذوفًا، نَحْوَ قولك: أذن لزيد لعمرو، وإليه الإشارة بقوله: ((وقع الإذنُ للشفيعِ لأجلِه)). هذا هو الذي يقتضيهِ النظمُ، لأنَّ الذي هو سَوْقُ الكلامِ أن شركاءهم لا تنفَعُهم في الدنيا ولا يملكون مثقالَ ذَرةٍ من خيرٍ أو شَرٍّ أو نَفْعٍ أو ضُرٍّ فيها، ولا لهم تصرُّف ما، فعَبّرَ بقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} عن العالم، أي في الدنيا، كما سبق في آل عمران، ولا ينفعهم في الآخرة، لأنه إن قُدِّرَ لهم نَفْعٌ فلا يكون إلا في الشفاعة، فجيء بقوله: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} تعريضًا بأنَّ أصنامَهم لا يَشْفعون لأنهم ليسوا في صَدَدِ أن يُؤذَنَ لهم. هذا هو المرادُ من قولِه: ((وهو الوجْهُ- لأن فيه العلمَ بالشفيعِ والمشفوعِ له كليهما- وهذا تكذيبٌ لقولِهم {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ})). قال أبو البقاء: واللام في {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ,} يجوز أن يتعلّق بالشفاعة، لأنك تقول: شفَعْتُ له، وأن يتعلق بـ {تَنفَعُ}. قوله: (هل يؤذن)، مُتعلِّقٌ من حيثُ المعنى بقولِه ((راجين)). قوله: (وتوقّفون مَلِيًّا)، وذلك أنَّ المقامَ مقامُ الهيبةِ والجلالِ لا سيَّما المشفوع له خائفٌ

وهلين. (حتى إذا فزع عن قلوبهم)، أى: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا: (ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا): قال (الْحَقَّ)، أى: القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة». وقرئ: (أذن له)، أى: أذن له الله، و (أذن له) على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: (فزع) مخففًا، بمعنى فزع. وقرئ: (فزع) على البناء للفاعل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والشافعُ راجٍ هل يُؤذَنُ له في الشفاعة أم لا؟ وضم مع ذلك ((حتى)) المعطيةَ لمعنى التدرُّج والغايةِ، وقوله: {إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يؤذَنُ بالإمهالِ وطولِ الانتظارِ وكما نُشاهدُ من أحوال الجبابرةِ وملوكِ الزمان إذا ضُرِبَ لقضاءِ الشؤونِ، ولذلك استشهَد بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38]، ومنه قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 29]. قوله: (وَهِلِين)، الجوهري: الوَهلةُ: الفزعةُ، والوَهَلُ بالتحريك: الفزَعُ، وقد وَهِلَ يَوْهَلُ فهو وَهِلٌ ومُسْتَوْهِل. قوله: (فَزَّعَتْهُ الشفاعةُ)، التفزيعُ: إزالةُ الفَزعِ، كالتمريضْ والتَّفريدِ، أي: أزالَ الفَزَعَ وكَشفَ عنه الفَزعَ. الراغب: الفزعُ: انقباضٌ ونِفارٌ يعتري الإنسانَ من الشيءِ المُخيف، وهو من جنسِ الفزع، ولا يقال: فَزِعْتُ من الله، كما يقال: خفتُ منه. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أي: أزيلَ، يقال: فزِعَ إليه: إذا استغاثَ به عند الفَزع، وفَزِع له: أغاثه. قوله: (((فَزَّعَ)) على البناءِ للفاعلِ)، ابنُ عامرٍ، والباقون: على بناءِ المفعول. ومعنى {فُزِّعَ}: كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبهم، و ((فَزَّعَ)): كشَفَ الله الفَزَع. وقراءةُ ((فُرِّغ)) بالراءِ والغينِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة ترجعُ إلى هذا المعنى لأنها فُرِّغَتْ من الفَزَع. قال الزجّاج: وتفسيرُ هذا: أنّ جبريلَ عليه السلام لما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحِي ظَنَّتِ الملائكةُ أنه أنزل بشيء من أمرِ الساعة، ففَزِعت لذلك، فلما انكشَفَ عنها الفَزعُ قالوا: ماذا قال ربكم؟ سألَتْ: لأيِّ شيءٍ نزلَ جبريل؟ قالوا: الحقَّ. تَمَّ كلامه، وعليه كلامٌ أكثر المفسرين. ويعضُدُه ما روَيْناه عن البخاريِّ والترمذيِّ وابنِ ماجه عن أبي هريرة: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمرَ في السماءِ ضربَت الملائكةُ أجنحتَها خُضعانًا لقولِه، كأنه سِلسلةٌ على صَفوانٍ، فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم؟ قال الذي قال: الحق وهو العليُّ الكبير)). وعن أبي داودَ عن ابن مسعود قال: إذا تكلَّم الله عز وجل بالوَحْيِ سَمِعَ أهلُ السماء صَلْصلةً كجَرِّ السلسلةِ على الصَّفا، فيُصْعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريلُ، فإذا جاء جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم، فيقولونَ: يا جبريلُ ماذا قال ربُّكم؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحقَّ الحقّ. فإن قلتَ: قد ظهرَ من هذه الرواياتِ أنّ الموصوفينَ بهذه الصفاتِ هم الملائكةُ، والذي ذهب إليه المصنِّف هم الشفعاءُ مُطلقًا، وأن هذه الحالةَ واقعةٌ يوْمَ القيامة لقولِه: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، فإذَنْ ما معنى الغايةِ في ((حتى))، وما وَجْهُ انطباقِه على الأحاديث الصحيحة؟ قلت -والله أعلم-: يُستخرَجُ معنى المُغَيَّا من المفهوم؛ وذلك أن المشركينَ لما ادّعَوا شفاعةَ الآلهةِ والملائِكة وأجيبوا بقَوْله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} {لاَّ يَمْلِكُونَ الْشَّفَاعَةَ}، ومعناه ما قال المصنف: قل لمَشركي مكّة: ادعوا الذين عبَدْتُم من دونِ الله

وهو الله وحده، و (فرّع)، أى: نفى الوجل عنها وأفنى، من قولهم: فرغ الزاد، إذا لم يبق منه شيء. ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور، كما تقول: دفع إلىّ زيد، إذا علم ما المدفوع وقد يخفف، وأصله: فرغ الوجل عنها، أى: انتفى عنها وفنى. ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور. وقرئ: (افرنقع عن قلوبهم)، بمعنى: انكشف عنها. وعن أبى علقمة: أنه هاج به المرار، فالتف عليه الناس، فلما أفاق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الأصنامِ والملائكة وسَمَّيتموهُم باسمِه، والتجئوا إليهم، فإنهم لا يملكون مثقالَ ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا تنفع الشافعة من هؤلاء إلا الملائكة لكن مع الإذن والفزع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمُرتضَيْن، فعبَّر عن الملائكة بقوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} الآية كناية، كأنه قيل: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاّ ممّن هذا شأنُه ودأبُه، وأنه لا يثبت عند صَدْمةٍ من صدماتِ هذا الكتاب المُبين وعند سماعِ كلامِ الحقِّ، يعني: الذين إذا نُزّلَ عليهم الوحيُ يفزعون ويُصْعقون، حتى إذا أتاهم جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم يقولون: ماذا قال ربّكم؟ فيقول: الحقَّ، فيقولون: الحقَّ الحقَّ. ونحوه في الأسلوبِ قوله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 9 - 10]. قال المصنِّف: ((معنى {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} إلى آخره: ليَنسُبُنَّ خَلْقَها إلى الذي وُصِفَ بهذه الأوصاف وقيل في حَقّه تلك النعوت)). قولُه: (فَزَّعتُه الشفاعةُ)، أي أزالت الشفاعة عنه الفزع؛ أي إذْنُ الشفاعةِ، يدلُّ عليه قولُه: كَشِفَ الفَزَعُ بكلمةٍ يتكلَّم بها ربُّ العِزَّةِ في إطلاقِ الإذن. قوله: (وقُرئ: ((افرُنقِعَ)))، قال ابن جنِّي: قال أبو عَمْرو الدّوري عن عيسى بن عُمر: أنه كان يقرأ ((افرُنقِعَ عن قلوبهم)).

قال: ما لكم تكأكأتم علىّ تكأكؤكم على ذى جنة؟ ! افرنقعوا عنى. والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط، مع زيادة الراء. وقرئ: (الحق) بالرفع، أى: مقوله الحق. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبىّ أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى. [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)] 24 [ أمره بأن يقررهم بقوله: (مَنْ يَرْزُقُكُمْ)، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم الله؛ وذلك بالإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) حتى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: التكأكؤ: التجمُّع، وقال في بابِ العينِ وفَصْل الفاء: افرَنْقِعوا عني، أي: انكشفوا عني. واقمطَرَّ يومنا، أي: اشتد. أبو عُبَيْد: المُقْمَطِرُّ: المُجْتمِع. قَمَطَ الطائرُ أُنثاه يَقْمِطُها أي: يَسْفِدُها. والقُماطُ: حَبْلٌ يُشَدُّ به قوائم الشاة عند الذبحِ وكذلك ما يُشَدُّ به الصبيُّ في المهدِ. والمِرَّةُ: إحدى الطبائعِ الأربعِ. وهذه القصة رواها الجوهريّ عن عيسى بن عمر، وروى ابنُ جِنّي في ((المُحْتسب)) أيضًا عن أبي عَلْقمةَ النحوي كما رَواهُ المصنِّف، وفي آخرِها: قال بعضُ الحاضرين: إنّ شيطانَه يتكلَّمُ بالهندية. قوله: (ولأنهم إنْ تَفَوَّهوا)، عَطْفٌ على قوله: ((لأن الذي تمكَّنَ في صدورهم)).

قال: (فَسَيَقُولُونَ الله)] يونس: 31 [ثم قال: (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)] يونس: 32 [فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادًا وضرارًا وحذارًا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عزّ وعلا: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)] الرعد: 16 [. وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضلال)، يعني: أنهم لو تفوهوا بأن الله رازقهم لزِمَ أن يقال لهم: فما لكم تعبدون من يرزقكم؟ كما قيل لهم في تلك الآية التي مضمونها مضمون هذه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}. قوله: (يتلعثمون عنادًا)، أي: يتمكثون ويتكلَّمون. عن الجوهري. قوله: (وأمَرَه أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام)، قال صاحب ((الانتصاف)): يعني: ألزَمهم الحجة من قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ} إلى هذه الآية. وهذا الإلزامُ وإن لم يَزِدْ على إقرارِهم بألسنتهم لم يتقاصَرْ عنه؛ أمره أن يقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} وهذا من الكلام الذي يبادر كل سامع من موافقٍ أو مخالف أن يقول: قد أنصَفك خَصْمُك، وهذا أوْصَلُ إلى الغرض وأقطَعُ للشَّغَبِ وهو تفسيرٌ مُهَذَّبٌ وافتنان مستعذب، فلا يُنكَرُ على الفقهاء قولُهم في المجادَلاتِ: أحدُ الأمرَيْن لازمٌ، فهو غيرُ بعيدٍ من هذا الوادي. وقلتُ: إنه تعالى لما أمر حبيبَه صلى الله عليه وسلم أولا بأن يُكافِحَهم ويُجيبَهم لقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ}، ثم يسألهم بقوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ويتولى الإجابة والإقرارَ عنهم بنفسِه في قوله: {قُلِ اللهُ} ليؤذنَ أن الذي تمكّنَ في صدورِهم من العنادِ قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق، أمَره بأن يُرخيَ العِنانَ معهم ويقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ليناديَ على تماديهم في الضلال، وأنّهم مع علمهم بصحة ما جاء به بعد إقرارِهم به، مُنْغمسون في ضلالٍ ظاهرٍ مكشوفٍ، فالكلام من أوله

هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال. وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من مواٍل أو مناٍف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أوصل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم، وفلّ شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب. ومنه بيت حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واردٌ على ترتيبٍ أنيقٍ ونظمٍ رَصين مشتملٍ على فوائدَ وإشاراتٍ، وهو من باب الترقِّي. قوله: (يتوحَّدون)، ويُروى: ((يُوحِّدون))، يقال: توحَّد بكذا: اعترفَ به، وفلان توحَّدَ بكذا: إذا اعتزلَ وتفرَّد من الناس به، ومنه الأوْحَديُّ، أي: من الذين ينفرِدون بعبادةِ مَنْ يرزقُهم من السماء بإنزال الأمطار ومن الأرض بإنبات البركات. قوله: (بالهُوَينا)، النهاية: الهُوَينا: تصغيرُ الهونا؛ تأنيثُ الأهون، والهُونُ: الرِّفق واللين. قوله: (أتهجوه) البيت، قيل: لما أنشدَ حَسّانُ البيتَ مَنْ حضر: هذا أنصَفُ بيتٍ قالته العرب.

مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبىّ: (وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين). [قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)] 25 - 26 [ هذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ فيه من الأوّل؛ حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مرتبك)، الجوهري: ارتبكَ الرجلُ في الأمر، أي: تشبَّثَ فيه ولم يكَدْ يتخَلَّصُ منه. قوله: (وفي قراءةِ أبِّي: ((وإنا أو في إياكم إما على هدى أو في ضلالٍ مبين)))، قال أبو البقاء: {أَوْ إِيَّاكُمْ} معطوفٌ على اسمِ ((إنّ))، والخبرُ مُكَرَّر كقولِهم: إنّ زيدًا وعَمْرًا قائم. واختلفوا في الخبر، قال سيبويه: المذكورُ للثاني والأولُ محذوفٌ وهو أولى من عَكْسِه، فعلى هذا يكونُ {لَعَلَى هُدًى} خبرَ الأولِ و {أَوْ فِي ضَلَالٍ} معطوفًا عليه وخَبَرُ المعطوفِ محذوفٌ لدلالةِ المذكورِ عليه. والكلام على المعنى غيرِ الإعراب لأنَّ المعنى: إنا على هدى من غيرِ شكّ، وأنتم على ضلالةٍ على يقين، لكن خَلَطَه على افتنانِهم، كقولهم: أخزى الله الكاذبَ مِنّي ومنك. قوله: (هذا أدخَلُ في الإنصافِ، وأبلغُ فيه)، الانتصافُ: وذكرَ الإجرامَ المضافَ إلى النفسِ بصيغةِ الماضي التي تُعطي معنى التحقيق، وذكرَ العملَ المنسوبَ إلى الخصمِ بما لا يُعطي ذلك. قوله: (وإنْ أرادَ بالإجرام)، هذا شَرْطٌ لا يُذْكَرُ جَوابُه للمبالغةِ والجملةُ للحالِ أي: هذا أبلغُ من الأول، وإن أريدَ في الحقيقةِ بالإجرامِ الصغائرُ وبالعملِ الكفرُ لأنَّ في الظاهرِ أسندَ مُطلقَ الإجرام إلى المتكلِّم ومُطلقَ العملِ إلى المخاطَب.

وبالعمل الكفر والمعاصي العظام. وفتح الله بينهم وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار. [قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 27 [ فإن قلت: ما معنى قوله: (أَرُونِيَ) وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم؛ ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. و (كَلَّا): ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (أُفٍّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى)، هذا كما يقول القائل لغيره إذا أفسد شيئًا: أرِني هذا الذي أفسَدْتَه لأُريك فسادَه. قوله: (وأن يُقايسَ على أعينهم)، فإن قُلْتَ: عَدّى ((يُقايِسُ)) بـ ((على)) فيما ليسَ بمَقيسٍ عليه، ثم عَدّاهُ في قولِه: ((القياس إليه)) بـ ((إلى)) وهو يُعَدّى بـ ((على)). قلت: هما حالانِ والمتعلِّقٌ محذوف، أما الأول فمعناه أن يُقاسَ الأصنامُ على الله تعالى ظاهرًا على أعينهم مكشوفًا كما في قوله تعالى: {فَاتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} الأنبياء: 61] أي: مُعايَنًا مُسْتعليًا على الأعينِ استعلاءَ الراكبِ على المركوب، ومعنى الثاني ليُطلعَهم على إحالةِ القياس منتهيًا إليه، أي: مُحالٌ أن ينتهي قياسُ شيءٍ إلى الله تعالى وإلى صفاتِه، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. قوله: (و {كَلاَّ} رَدْعٌ لهم عن مذهبهم بعد ما كَسره)، قال القاضي: {قُلْ أَرُونِيَ} استفسارٌ عن شُبهتِهم بعد إلزامِ الحجّةِ عليهم زيادة في تبكيتهم. وقلت: هذه قاعدةٌ شريفةٌ وأدبٌ جَميلٌ في آدابِ المجادلة وقَمْعِ شُبهةِ الخصم الألدِّ الأبِّي، فإنه ينبغي أنْ يُرْخى عِنانُ الكلامِ معه أولاً، ويُجاري معه على سَنَنٍ يَبعثُه على التفكرِ والنظرِ في أحوالِ نفسهِ ليعثُرَ حيثُ يراد تَبْكيتُه عند إيرادِ الحجةِ البالغة وعليه قولُ إبراهيم

لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله)] الأنبياء: 67 [بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم وإن لم يقدروا الله حق قدره بقوله: (هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات، وهو راجع إلى الله وحده، أوهو ضمير الشأن، كما في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)] الإخلاص: 1 [. [وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)] 28 [ (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) إلا إرسالة عامةً لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج: المعنى: أرسلناك جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالًا من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه السلام: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 78 - 79] بعد قوله: {هَذَا رَبّي} [الأنعام: 78]. قوله: (وهو راجعٌ إلى الله)، أي: الضميرُ منهم راجعٌ إلى الله في الذهنِ، وجازَ لأنّ ما بعده يفسره، كما قال في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37] في ((المؤمنين)): ((هذا ضميرٌ لا يُعلمُ ما يعني به إلا بما يَتلوه، وأصلُه: إنِ الحيَاةُ إلا حياتنا الدنيا، ثم وضَع ((هيَ)) موضِعَ ((الحياةِ))، لأنّ الخبرَ يدلُّ عليها، ومنه: هيَ العربُ تقولُ ما شاءَتْ)). والفرقُ بين هذا الضميرِ وضميرِ الشأن أن الجملةَ بعد ضميرِ الشأن مُبَيِّنةٌ له وخبرُه هذا الضمير وَحْدَه مُفَسِّرٌ له، ولذلك قال: ((هو راجعٌ إلى الله وَحْدَه))، ونظيرُه قولُه تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] في وجهٍ، وقولك: رُبَّه رجُلاً، ونحو هذا الضميرُ اسم في قولك: هذا أخوك، قال المصنِّف: ((لا يكونُ ((هذا)) إشارةً إلى غيرِ الأخ)). قوله: (وقال الزجاج المعنى: أرسلناكَ جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ، فقد جعله

ومن جعله حالًا من المجرور متقدّمًا عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حالاً من الكاف). وأما حكايةُ كلامِه فإنه قال: معنى {كَآفَّةً}: الإحاطةُ في اللغةِ، والمعنى: أرسلناكَ جامعًا للناسِ في الإنذارِ والإبلاغِ، وأُرسلَ صلى الله عليه وسلم إلى العربِ والعجَم. وقال أبو البقاء: كأنه حالٌ من الكافِ، والهاءُ زائدةٌ للمبالغةِ، و {للناسِ} مُتعلِّقٌ به، أي: وما أرسلناك إلا كافّةً للناسِ عن الكفر والمعاصي. وقال المالكي في ((شرح التسهيل)): قولُ الزجاج باطلٌ لأنّه جعَل {كَآفَّةً} حالاً من مفرد، ولا يُعرَفُ ذلك في غيرِ محلِّ النزاع، وجَعَلَه مِن مُذَكَّرٍ مع كَوْنِه مُؤنّثًا، ولا يتأتى ذلك إلا بجَعْلِ تائِه للمبالغةِ، وبابُه مقصورٌ على السماعِ، ولا يتأتى غالبًا ما هي فيه إلا على أحدِ أمثلةِ المبالغةِ، كنَسّابةٍ وفَروقةٍ ومِهْدارة، وكافّة بخلافِ ذلك، فبَطل أن يكونَ منها لكونِها على فاعلة. فإن حُمِلت على رواية حملت على شاذّ الشاذّ، لأنّ إلحاقَ تاءِ المبالغةِ لأحدِ الأمثلةِ شاذّ، وإلحاقُه لما لا مُبالَغة فيه أشذّ. وأما الزمخشريّ فقد جعلَ {كَآفَّةً} صفةً، ولم يستعمله العربُ إلاّ حالاً، وليتَه إذْ أخرجَ ((كافة)) عن استعمالِ العرب سلكَ به سبيلَ القياسِ بل جعلَه لموصوفٍ محذوفٍ لم تستعمله العرب مفردًا ولا مقرونًا بصِفة؛ أعني: إرسالَه، وحَقّ الموصوفِ المُسْتغني بصفتِه أن يُعتادَ ذكْرُه مع صفتِه قبل الحذفِ ولا تصلح الصفة لغيره. قوله: (ومَنْ جعلَه حالاً من المجرور مُتقدِّما عليه فقد أخطأ، لأنّ تقدُّمَ حالِ المجرورِ عليه في الإحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجار)، وقال ابن الحاجب: تقديمُ الحال على المجرور- إذا كان صاحبُ الحالِ هو المجرورَ- مختلفٌ فيه؛ فأكثرُ البصريِّين على منعِه، وكثيرٌ من النحويين على تجويزِه، ووجه الجواز: أنه حال عن معمولِ فعلٍ لفظيِّ فجاز التصرُّف فيه بالتقديمِ والتأخيرِ كسائرِ أحوالِ الأفعال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووجه المنع: أنه كَثُرَ الحالُ من المجرورِ في كلامِهم ولم يُسمَعْ من الفصحاءِ تقديمُه، ولأنّ حالَ المجرورِ صفةٌ لصاحبِها، وهي معمولة في المعنى بحَرْف الجر، إلا أنهم نصبوها لغرضِ الفصلِ بين الصفة والحال، وكما أن معمولَ الجارِّ لا يتقدَّم عليه ففَرْعُ مَعمولِ الجارِّ بأن لا يتقدَّم على الجارِّ أجدر. وقلت: ويمكن أن يُنزَّلَ قولُ المالكي منزلةَ الجواب عن هذين الاحتجاجَيْن، أعني قولَه: ومن أمثلةِ تقديمِ الحال على صاحبها إذا كان مجرورًا ما ذَكره أبو علي في ((التذكرة)): زيدٌ خَيْرٌ منك خَيْرَ ما يكون، فجعل ((خَيْرَ ما يكون)) حالاً من الكافِ المجرورِ، ومن الأمثلة قول الشاعر: إِذَا المرءُ أعيَتهُ المروءةُ ناشئًا ... فمطلبُها كَهْلاً عليه شديد أراد: فمَطْلَبُها عليه كهلاً شديدٌ، ومِن ذلك قولُ الآخر: تسلَّيْتُ طُرًّا عنكُمُ بعْدَ بَينِكم ... بذِكراكُم حتّى كأنّكم عندي أراد: تسلَّيتُ عنكم طُرًّا. وربَّما قُدِّم الحالُ على صاحبِه المجرورِ وعلى ما يتعلَّقُ به الجارُّ، كقوله: غافلاَ تعرِضُ المنيةُ للمر ... ءِ فيُدْعي ولاتَ حينَ إباءِ أراد: تعرِضُ المنيةُ للمرءِ غافلاً. وإذا قد ثَبتَت دلائل السماعِ مستوفاة، فَلأُبَيِّن ضَعْفَ شُبَهِ المَنْعِ، فمِن ذلك: ادّعاءُ أنّ حقَّ الحال إذا عدي العامل لصاحبه بواسطة أن يعدي إليه بتلك الواسطة، فيقال للمدعي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك: لا نسلم هذا الحق حتى يترتب عليه التزام التأخر تعريضًا، بل حقُّ الحالِ المُشَبَّهةِ بالظرفِ أن يستغني عن واسطة، على أن الحال أشدُّ استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدي بحرف الجر كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتشبيه والتمني. ومن الشُّبهِ لالتزامِ التأخير: إجراءُ الحالِ المجرورِ بالحرفِ مُجرى الحالِ المجرورِ بالإضافةِ، فيقال لصاحب هذه الشبهة: المجرورُ بالحرفِ كالأصلِ للمجرور بالإضافةِ، فلا يصلُحُ أن يحمل حال المجرور بحرف عليه لئلا يكون الفرع متبوعًا والأصل تابعًا، وأيضًا فالمضافُ بمنزلةِ موصولٍ والمضافُ إليه بمنزلة صلتِه، والحالُ منه بمنزلةِ جُزءِ صلَتهِ، فوجبَ تأخيره كما يجب تأخيرُ أجزاءِ الصِّلة، وحالُ المجرورِ بحَرْفٍ لا يُشْبِهُ جزء صلة، فأجيز تقديمُه إذ لا محذورَ في ذلك. ومن الشُّبَهِ: تَشْبيهُ بابِ: مررْتُ بهند جالسةً، ببابِ: زيدٌ في الدار متكئًا، فيقال: بين البابَيْن بَوْنٌ، فإنَّ ((جالسةً)) منصوبٌ بـ ((مَرَرْتُ))، وهو فعل مُتصرِّفٌ لا يفتقر في نصبِ الحال إلى واسطة، كما لا يفتقرُ إليها في نصب ظرفٍ أو مفعولٍ له وحَرْفُ الجر الذي عدّاه لا عمل له إلا الجر، ولا جيءَ به إلا لتعديةِ: مررت، والمجرور به بمنزلة المنصوب فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب، وأما ((متكئًا)) في المسألة الثانية فمنصوبٌ بـ ((في)) لتضمّنِها معنى الاستقرار وهي أيضًا رافعةٌ ضميرًا عائدًا على زيد، وهو صاحبُ الحالِ، فلم يَجُزْ لنا أن نقدِّمَ ((مثكئًا)) على ((في)) لأن العمل لها، وهي عاملٌ ضعيفٌ متضمِّنٌ معنى الفعلِ دون حروفِه، فمانعُ التقديم في نحوِ: زيدٌ في الدار متكئًا، غيرُ موجودٍ في نحو: مررْتُ بهندٍ جالسة، وإذا بطل قول الزجاج والزمخشري تَعيَّن القول بصحة أن يكونَ الأصل: وما أرسلناك إلا للناس كافة، فقَدَّم الحالَ على صاحبِها مع كونه مجرورًا، وهو مذهبُ أبي علي وابن كَيْسان، حكاه ابن بَرْهان، ويجوزُ غيرُه، وقال غيره: جَوَّزَ ابنُ كَيْسان وأبو علي الفارسي كون {كَآفَّةً} حالاً من المجرور باللامِ وهو {لِلنَّاسِ} من حيث إنّ العاملَ في الحالِ هو

وكم ترى ممن يرتكب هذا بالخطأ، ثم لا يقنع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطإ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين. [وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَاخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)] 29 - 30 [ قرئ: (ميعاد يوم)، و (ميعاد يوم). و (ميعاد يوما). والميعاد: ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ: (ميعاد يوم) فأبدل منه اليوم. فإن قلت: فما تأويل من أضافه إلى (يوم)، أو نصب (يوما)؟ قلت: أما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: سحق ثوب، وبعير سانية. وأما نصب "اليوم" فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد أعنى يومًا، أو أريد يومًا؛ من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا، أعنى التعظيم. فإن قلت: كيف انطبق هذا جوابًا على سؤالهم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعلُ، ولا يفتقرُ الفعلُ في عملهِ في الحال إلى الجارِّ، وإنما يفتقر إليه في عمله في المفعولِ به، فإذا جاز أن يعمل في الحال ما لا يعملُ في صاحبِ الحال كان أوْلى بالجواز. وقولُ القائل: المجرورُ لا يتقدَّمُ الجارَّ، فإنّما يلزَمُ هذا أنْ لو كان الجارُّ عاملاً في الحالِ، كقولك: قائمًا في الدار زيد، لا يجوز لكون الجار عاملاً في الحال، وقد ذكر بأن العامل هو الفعل فلذلك جاز. واعلم أن المالكي يُجوِّز تَعَدُّدَ العامل في الحال وصاحبها، وقد أسلفنا القول فيه في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] مستوفي. قوله: (وبعير سانية)، الجوهري: السانية: الناضجة، وهي الناقة التي يستقي عليها. قوله: (كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ )، يعني: أنهم سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالِهم فيها، وتلخيصُ الجواب: أنه من الأسلوبِ الحكيم يعني: دَعوا السؤالَ عن وقت إرسائها، فإن كينونته لا بدَّ منه؛ بل سَلوا عن أحوالِ أنفسكم وكيف

قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتًا لا استرشادًا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقًا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرًا عنه ولا تقدّمًا عليه. [وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)] 31 [ الذي بين يديه: ما نزل قبل القرآن من كتب الله. يروى: أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب الله عز وجل في الكفر، فكفروا بها جميعا. وقيل: الذي بين يديه: يوم القيامة. والمعنى: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى، أوأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب: (وَلَوْ تَرى) في الآخرة موقفهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشاهدون، هذا ألَيقُ بحالِكم من أن تسألوا عنه. هذا المعنى وإن لم يعلم ظاهرًا من جواب المصنف لكن مآلُه إليه. قوله: (ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتًا لا استرشادًا)، قولُه: ((إلا تعنُّتًا)) استثناءٌ مفرّغٌ والمستثنى منه أعمُّ الأحوال، وهذا التركيبُ مثلُ قولك: ما زيدٌ إلا قائم لا قاعدٌ، وقد أباه صاحبُ ((المفتاح))، مضى بيانُه غير مرة. قوله: (أو أن يكون لما دل عليه)، يجوز أن تكونَ ((كانَ)) ناقصةً، واسمُه ضميرَ الشأن، و ((حقيقةُ)) بالرفعِ مبتدأ، والخبر: ((لما دلّ عليه))، والجملةُ مبينةٌ ضميرُ الشأن وخبر له، وأن تكون ناقصةً، وفاعلُها ((حقيقة))، و ((لما دل)) متعلَّق بـ ((حقيقة)).

وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم؛ لرأيت العجب، فحذف الجواب. والمستضعفون: هم الأتباع، والمستكبرون: هم الرءوس والمقدّمون. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَامُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)] 32 - 33 [ أولى الاسم -أعنى "نَحْنُ"- حرف الإنكار؛ لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم، كأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين. (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان، وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين؛ لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت: "إذ" و"إذا" من الظروف اللازمة للظرفية، فلم وقعت (إذ) مضافًا إليها؟ قلت: قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليها الزمان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهم يتجاذبون أطراف المحاورة)، ينظر إلى قول الشاعر: ولما قضَيْنا من مِنًى كلَّ حاجةٍ ... ومَسَّح بالأركان من هو ماسح أخَذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا ... وسالت بأعناقِ المطيِّ الأباطح أراد بأطراف الأحاديث ما يتعاطاه المُحبون وذوو الصبابة من التعريض والتلويح دون البيان والتصريح. قوله: (قد اتُّسِعَ في الزمان ما لم يُتَّسَعْ في غيرهِ، فأضيف إليها الزمان)، قال صاحب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((التقريب)): وإنما أضيف إلى ((إن)) لزومه الظرفية اتّساعًا بإضافة الظرف إليه، كما أضيف إلى الجُمَل نحو: حينَ جاءَ زيد. وقال صاحب ((الفرائد)): لزومُ ظرفِيَّتهما إذا كنتا مُسْتعملتَيْن لحقيقتهما، فإذا استعملتا بمعنى آخر كان لهما حكم لفظ ذلك المعنى، وهنا المراد بعد مجيء الهدى لأن المراد من وقت الهدى لا وقته، وما ذكر ليس بجواب السؤال الذي ذكر، لأن لزوم الظرفية يأبى جواز ما ذكر. وقلت: كفى بقوله: ((يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسع في غيرِها)) جاوبًا، وتقدير السؤال: أنْ ((إذ)) و ((إذا)) من الظروف اللازمة الظرفية، فكيف وقعت ((إذ)) هاهنا مجرورة مضافًا إليها. وأجاب: أنّ الظروفَ لا سيما الزمانيةَ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسع في غيرها، ويمكن أن يكون مراده: أنه ((إذا)) جُرِّدَتْ ((إذ)) عن معنى الظرفية وانسلخَتْ عنه رأسًا وصُيِّرَت اسمًا صِرْفًا فأضيفَ إليها، ألا ترى كيف وقعت مجرورة في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد وحينئذ ويومئذ، فإذن معنى الآية: أنحنُ صدَدْناكم عن الهدى بعد مجيئه إياكم، فليس فيه رائحةُ الظرفية. وعن صاحب ((الضوء)): نصَّ سيبويه في ((الكتاب)) وأجاز: إذا يقومُ زيدٌ إذاً يقعُدُ عمرو، بمعنى: وقْتُ قيامِ زيدٍ وقتُ قعود عمرو، فارتفع إذا هاهنا مبتدأ وخبرًا، وأنشد: وبعد غد يا لهْفَ نفسيَ من غَد ... إذا راح أصحابي ولست برائح قالوا: ((إذا)) هاهنا مجرور المحلِّ على البدَلية من ((غد))، ولذلك حكموا عليه بأنه منصوبُ المحلّ بوقوع عليه في أوائل القصص، وهو ((اذكر)) مُضمَرًا أو ظاهرًا، نَحو {إذْ قَالَ رَبُّكَ}.

كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد، وحينئذ، ويومئذ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم: (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا بقولهم: (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهار)، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من جهة مكركم لنا دائبًا ليلًا ونهارًا، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ: (بل مكر الليل والنهار) بالتنوين ونصب الظرفين، و (بل مكرّ الليل والنهار) بالرفع والنصب، أى: تكرّون الإغواء مكرًّا دائبًا لا تفترون عنه؛ فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟ قلت: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم أو مكرّكم، أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك. والنصب على: بل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما وجه الرفع والنصب؟ )، أي: في القراءتين، يعني: قراءة من قرأ ((مَكْر)) من المكر، ومن قرأ: ((مكَرّ)) من الكرور. وأجاب: إنه يجوز أن تكون ((مكركم)) خبرَ مبتدأ محذوف، والتقدير: سبب ذلك مكرُكُم أو مكرُّكم، أو مبتدأ خبرَه محذُوف، أي: مكركُم أو مكرّكم سبب ذلك. قال ابن جني: ((بل مكرُّ الليل والنهار)) قراءة أَبِّي، و ((بل مكرٌ الليلَ والنهارَ)) قراءة قتادة، وقرأ راشد ((بل مكْرَ)) بالنصب، وأما المكَرّ والكُرور أي: اختلاف الأوقات، فمَنْ رَفَعه فإما فِعْلٍ مضمرٍ دلَّ عليه قوله: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} فإنه كالجواب له، أي: بل مكَرُ الليل والنهار في كرورهما، وإما على حذف الخبر، أي: مكر الليل والنهار صَدّنا، فمَنْ نصبه فعلى الظرف كقولك: زُرْتُكَ خفوقَ النجم، وهو متعلق بفعل محذوف، أي: صددتمونا في هذه الأوقات على هذه الأحوال.

تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار. فإن قلت: لم قيل: (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) بغير عاطف؛ وقيل: (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)؟ قلت: لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأوّل. فإن قلت: من صاحب الضمير في (وَأَسَرُّوا)؟ قلت: الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله: (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)] سبأ: 31 [. يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين. (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أى: في أعناقهم، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم؛ وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة: أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، وهو من الأضداد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعطف على كلامهم الأول)، أي: على قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}، وفيه أن المستضعفين تكلموا بكلامَيْن، وأجابهم المستكبرون عن أحدهم دون الآخر لإفحامهم بقوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى آخره، ثم كلا الفريقين مكَروا وأسرّوا الندامة حين لم ينفعهم الندم سرًّا. قوله: (يندم المستكبرون على ضلالهم)، يعني: الضمير في ((أسرُّوا)) راجع في قوله: {إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} وإنما فسروا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وهو ماض بقوله: ((يندمون)) وهو مضارع ليوافق قوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}، ولم يعكس لأنه حكاية للحال الآتية استحضارًا لصورة المجرمين وأنهم موقوفون عند ربهم راجعون بعضهم إلى بعض. قوله: (أسروا الندامة: أظهروها، [وهو] من الأضداد) عطف على قوله: ((يندم المستكبرون))، فعلى الأول أضمر الفريقان الندامة وأخفوها مخافة التعبير، والثاني الوجه، لأن التعبير واقع وقد علم من قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ذلك وقيل: أسرَّ إذا ثبت له الخفاء، وأسَرّه أزال عنه الخفاء ونظيره. أشكيتُه، أي: أثبتَّ له الشكاية أو أَزْلتُها عنه، وأنشد المصنِّف لنفسه:

[وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)] 34 - 35 [ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والمفاخرة وزخارفها، والتكبر بذلك على المؤمنين، والاستهانة بهم من أجله، وقولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)] مريم: 73 [، وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شكوتُ إلى الأيام سوءَ صنيعِها ... ومِن عَجَبٍ باكٍ تَشكّى إلى المُبكي فما زادني الأيام إلا شكايةً ... وما زالتِ الأيامُ تُشكَى ولاتُشْكي الراغب: الندم: والندامة: التحسُّرُ من تغيُّرِ رأيٍ في أمر فائت، قال تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، وأصله من منادمة الحزن له، والنديم والندمان والمنادم متقارب. وقال بعضهم: المنادمة والمداومة يتقاربان، وقال بعضُهم: الشّريبانِ سُمِّيا نديمَيْن لما يتعقب أحوالهما من الندامة على فعلهما. قوله: (مما مني به من قومه)، يقال: مَنْوتُه ومَنيتُه، أي: ابتَلَيتُه. قوله: (والاستهانةِ بهم من أجله)، أي: من أجل التكبر، قال القاضي: واستهانوا بمن لم يَحْظَ منها. ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} على مقابلة الجمع بالجمع، قوبل {وَمَا أَرْسَلْنَا ...... مِّن نَّذِيرٍ} بقوله: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}، ومن ثم طابقه قوله: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}. قوله: (وأنه لم يرسل)، عطف على قوله: ((تسلية)) على سبيل البيان.

مكة، وكادوه بنحو ما كادوه به، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم؛ فعلى قياسهم ذلك قالوا: (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ): أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم؛ نظرا إلى أحوالهم في الدنيا. [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)] 36 [ وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس، وربما وسع عليهما وضيق عليهما، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق. وقدر الرزق: تضييقه. قال تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)] الطلاق: 7 [وقرئ: "يقدّر" بالتشديد والتخفيف. (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)] 37 - 38 [ أراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم (بالتي تقربكم)، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، ويجوز أن يكون "التي" هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أى: ليست أموالكم بتلك الموضوعةِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (((يَقدِرُ)) بالتشديد والتخفيف)، بالتخفيف: مشهورة، وبالتشديد: شاذة. قوله: (ويجوز أن يكون ((التي)) هي التقوى)، يعني: عبر عن التقوى بقوله: {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} كناية، كأنه قيل: وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتقوى، لأن التقوى هي المقرِّبة عند الله زلفى وَحْدَها؛ يدل عليه قوله: ((ليسَت أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب)) أي: وضعَ الشارعُ لفظة التقوى بإزاء معنى التقريب، كما أن صاحبَ اللغة وضعَ الألفاظَ

للتقريب. وقرأ الحسن: (باللاتى تقرّبكم)؛ لأنها جماعات. وقرئ: (بالذي يقرّبكم)، أى: بالشيء الذي يقرّبكم. والزلفى والزلفة: كالقربى والقربة، ومحلها النصب، أى: تقرّبكم قربة، كقوله تعالى: (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)] نوح: 17 [. (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من «كم» في (تُقَرِّبُكُمْ)، والمعنى: أنّ الأموال لا تقرب أحدًا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدًا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين، ورشحهم للصلاح والطاعة. (جزاء الضِّعْفِ): من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم: جزاء الضعف، ثم (جزاء الضعف). ومعنى (جزاء الضعف): أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشراً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للمعاني، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، قال القاضي: أو أنها صفة موصوف محذوف، أي: ما أموالكم ولا أولادكم بالتقوى التي تقربكم عندنا زلفى. قوله: ({إِلاَّ مَنْ آمَنَ} استثناء مِن ((كم))) قال الزجاج: موضعُ {مَنْ} نَصْبٌ بالاستثناء على البدل من الكاف والميم، أي: لا يُقَرِّبُ الأموالَ إلا مَنْ آمن وعمل بها في طاعة الله تعالى. وقال القاضي: ويجوز أن يكون مستثنى من {أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} على حذف المضاف، أي: إلاّ مالَ من آمن وولد من آمن. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء، أي: {مَنْ} مبتدأ، وما بَعْدَه خَبر. قوله: (ورشّحهم)، أيْ: ربّاهم وهَيّأهم.

وقرئ: (جزاء الضعف)، على: فأولئك لهم الضعف جزاء، و (جزاء الضعف) على: أن يجازوا الضعف. و (جزاء الضعف) مرفوعان، "الضعف" بدل من "جزاء". وقرئ: (فِي الْغُرُفاتِ) بضم الراء وفتحها وسكونها، و (في الغرفة). [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)] 39 [ (فَهُوَ يُخْلِفُهُ): فهو يعوّضه، لا معوّض سواه؛ إما عاجلًا بالمال، أو القناعة التي هي كنزلا ينفد؛ وإما آجلًا بالثواب الذي كل خلف دونه. وعن مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإنّ الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولن: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و ((جزاءٌ الضعفُ)) مرفوعان)، قال الزجاج: ويجوزُ رفعُ ((الضِّعف)) من جهتين: على معنى: فأولئك لهم الضِّعفُ، على أن يكون ((الضعفُ)) بدلاً من ((جَزاء))، ويكونَ مرفوعًا على إضمارِ ((هو))، كأنه لما قيل: {فَأُولَائِكَ لَهُمْ جَزَاءُ}، كأن قائلاً قال: ما هو؟ فقال: هو الضعفُ، ويجوزُ النصب في ((الضعف)) على مفعول ما لم يسم فاعلُه، على معنى: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، والقراءة المشهورة: خفض ((الضعف)) ورفع ((الجزاء)). قوله: (قُرئَ: {فِي الْغُرُفَاتِ})، كُلَّهم إلا حمزة، فإنه قرأ: ((في الغرفة)) بسكون الراء. قوله: (ولا يَتأول) ويروي: (ولا يتأوّلنَّ {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}) أي: لا يصرفُه عن ظاهره ويقول: وما أنفقتم من شيء فإن الله يعوضه في الدنيا لأن ((ما)) شرط، وقولَه: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} جزاء، والآية واردة على سبيل الوعد على الإنفاق وأن الله لا يضيع أجر المحسنين على الإنفاق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي ((المعالم)): عن جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ معروفٍ صَدَقة، وكلَّ ما أنفق الرجل على نفسِه وأهله كتبَ له صَدقَة، وما وَقى به الرجل عِرْضَه كُتب له به صدَقة، وما أنفقَ المؤمنُ من نفقةٍ فعلى الله خَلَفُها ضامنًا إلا ما كانَ من نفقتِه في بُنيان أو في معصية الله)). وفي الكواشي: ((ما)) شَرْطٌ نُصِبَ بقوله: {أَنفَقْتُم} و {مِن شَيْءٍ}، بيانه، وجواب الشرط الفاء بعد، أو بمعنى الذي مبتدأ، وخبره {فَهُوَ يُخْلِفُهُ,} أي: فالله يعوضه هنا بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى، ثم بالثواب في العقبى، وفي الحديث: ((من أيقنَ بالخلفِ جادَ بالعطية))، وفيه حكايةٌ عن الله تعالى: ((أنفق أنفق عليك)). وقلت: هذا هو الوجه، وعليه الوجه الأول، ولذلك أردفه بقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تذييلاً للكلام، أي: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. ويؤيدُه ما روَيْنا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يومٍ يصبحُ العبادُ فيه إلا وملكانِ ينزِلان فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنافقًا خَلَفا، ويقولُ الآخر: اللهم أعطِ مُمسكًا تَلَفا)). وعن الإمام أحمد بن حنبل عن أبي أمامة: قال أبو ذَرّ: يا نبي الله أرأيتَ الصدقةَ ماذا هي؟ قال: أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد)).

فإن هذا في الآخرة. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه. (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وأعلاهم رب العزة، لأن كل ما رزق غيره؛ من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله؛ فهو من رزق الله، أجراه على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق، وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدنى وجعلني ممن يشتهى؛ فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهى. [(يوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)] 40 - 41 [ هذا الكلام خطاب للملائكة، وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر: إيّاك أعني واسمعي يا جاره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنظمُ أيضًا يساعدُ عليه، لأن الآية حث على الصدقةِ والإنفاقِ في سبيلِ الله، ولأنّ هذه الآيةَ تقريرٌ لمعنى قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَائِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} كما قال: ((إن الأموال لا تقرب أحدًا إلا المؤمنَ الصالحَ الذي يُنفقُها في سبيلِ الله)) فمعنى الآية: أن الله هو القابضُ الباسطُ، فلا تَخافوا النفقةَ في سبيلهِ، فإن الله خير الرازقين ولا يُضيعُ أجْرَ المحسنين. قوله: (الحمد لله الذي أوجدني). الجوهري: أوجده، أي: أغناه، يقال: الحمدُ لله الذي أوجَدني بعد فقر، وأوجدني بعد ضعف، أي: قَوّاني. قوله: (إياك أعني واسْمَعي يا جارَه) قال الميداني: أولُ من قال ذلك سَهْلُ بن مالك الفَزاري، وذلك أنه خرج يريد النعمان فمَرَّ ببعضِ أحياءِ طيّء، فسأل عن سَيّدِ الحيِّ فقيل: حارثة بن لأمٍ، فأمَّ فلم يُصبْهُ، فقالت له أُخته: انزِلْ في الرّحبِ والسَّعة، فنزل فأكرَمته وألطفَته، ثم خرجت من خِبائها. فرآها أجْمَلَ أهل دهرِها وألطَفهمَ وكانت عَقِيلَةَ قومِها وسيدة نسائها، فوقع في نفسه، فجلس يومًا بِفناء الخِباء يُنْشِدُ وهي تسمع: يا أختَ خَيْرِ البَدْوِ والحضارَهْ ... كيفَ تَرَيْنَ في فتى فَزَارَهْ

ونحوه قوله عز وعلا: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله)] المائدة: 116 [، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا؛ فيكون تقريعهم أشدّ، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم؛ وهو أنه ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفًا لمن سمعه، وزاجرًا لمن اقتص عليه. والموالاة: خلاف المعاداة. ومنها: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وهي مفاعلة من الولي، وهو القرب. كما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطارَهْ ... إيَّاكِ أعْنِي واسْمَعي يا جَارَهْ فقالت له مجيبة: إنِّي أقُولُ يا فَتَى فَزَارَهْ ... لا أبْتَغي الزَّوْجَ ولا الدَّعارَهْ ولا فِراقَ أَهْلِ هذِي الجَارَهْ ... فارْحَلْ إلى أهْلِكَ باسْتِخارَهْ فاسْتَحَى الفتى، وقال: ما أردتُ منكرًا. قالت: صدَقْتَ. فكأنها اسْتَحْيَتْ من تسرُّعِها إلى تُهمَته، فارتحل إلى النعمان، فلما رجع نزلَ على أخيها، فتطلَّعت إليه وكانَ جميلاً. فأرسلت إليه: أنِ اخْطُبني، فخَطبها وتزوّجها، وسارَ بها إلى قومه. يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا آخر. قال أبو البقاء: ((هؤلاء)) مبتدأ، و {كَانُوا يَعْبُدُونَ} خبره، و {إِيَّاكُمْ} في موضع نصب بـ {يعبدون} وفيه دلالة على جواز تقديم خبر ((كان)) عليها، لأن معمولَ الخبر بمنزلته. قوله: (اللهمّ والِ مَنْ والاه وعادِ من عاداه)، روينا في ((مسند الإمام أحمد بن حنبل)) عن البراءِ بنِ عازبٍ وزيد بن أرقَم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزَل بغَديرِ خُمٍّ أخَذ بيد عليٍّ رضي الله عنه فقال: ((ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ )) قالوا: بلى، فقال: ((اللهم من كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه)) فلقيه عمر رضي الله عنه فقال:

أنّ المعاداة من العدواء، وهي البعد. والولي: يقع على الموالي والموالي جميعًا. والمعنى: أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم. فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): يريدون الشياطين؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل: صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقرئ: (نحشرهم) و (نقول) بالنون والياء. [(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)] 42 [ الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعةً ولا مضرّة لأحد؛ لأنّ الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلى بينهم، يتضارّون ويتنافعون. والمراد: أنه لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هنيئًا يا ابن أبي طالب، أصبَحْتَ مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة. في ((المطلع)): الوَليُّ: فَعيلٌ من الولايةِ، بمعنى المَوْلى والموالي جميعًا، الولي القُرْبُ من باب فعل يفعِلُ بكَسرِ العين في الماضي والمستقبل معًا من الشواذِّ، وولي الوالي البلَد، وولي البيعَ وغيره ولاية، فهما من الباب أيضًا. قوله: (من العُدَواء)، والعُدواء: بُعْدُ الدار، ومنها قولُ ذي الرمة: منها على عُدواء الدار تَسْتَقمِ قوله: (وقرئ {نَحْشُرُهُمْ} و {نَقُولُ} بالنون والياء)، بالنون: حفص، والباقون: بالياء.

ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله: (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) معطوفًا على (لا يَمْلِكُ). [(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)] 43 [ الإشارة الأولى: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثانية: إلى القرآن. والثالثة: إلى الحق. والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو. وفي قوله: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وفي أن لم يقل: وقالوا، وفي قوله: (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ)، وما في اللامين، من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي "لما" من المبادهة بالكفر -دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم، وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فبتوا القضاء على أنه سحر، ثم بتوه على أنه بين ظاهر، كل عاقل تأمّله سمَّاه سحرا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما في اللامين من الإشارة)، عطف تفسيري نحو: أعجبني زيدٌ وكرمُه، على قوله: ((وفي قوله: وقال الذين كفروا)) إلى آخره، يعني: أن اللامين في ((الذين كفروا)) وفي ((الحقِّ)) للعهد ومدخولهما أقيما مقام المضمرين، أما أوّلاً فإن قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} يوجب الإضمار وأن يقال: قالوا، وأمّا ثانيًا: فإن قوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ} وقوله: {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} يقتضيان أن يقال: لهما، وقد تقرر أن سلوك هذه الطريقة لا يكون إلا للإيذان بأن الأمرَ عظيم والخطبَ جَليل، وإليه الإشارة بقوله: ((أولئك الكفرةُ المتمرِّدون بجُرأتهم على الله ومكابرتِهم لمثلِ هذا الحق النيِّر قالوا: إنْ هذا إلا سِحرٌ مُبين))، أما قوله: ((قبل أن يذوقوه)) فإشارة إلى دلالة لما جاءهم على المبادهة وقوله: ((فبَتّوا القضاء)) إشارة إلى معنى ما يعطيه ((أن)) و ((إلا)) من معنى الحصر، وقوله: ((ثم بتوه على أنه بين ظاهر)) إشارة إلى معنى {هَذَا} ولفظة {مُّبِينٌ}.

[(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)] 44 - 45 [ وما آتيناهم كتبًا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا أرسلنا إليهم نذيرًا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، كما قال عز وجل: (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)] الروم: 35 [. أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية، لا ملة لهم وليس لهم، عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول، كما قال: (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)] الزخرف: 21 [فليس لتكذيبهم وجه متشبث، ولا شبهة متعلق، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ) تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار، وقوّة الأجرام، وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو وصَفَهم بأنهم قومٌ أمِّيُّون)، عطف على قوله: (({وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها برهان)) من حيث المعنى. اعلم أن وَصْفَ كُتبٍ بقوله: {يَدْرُسُونَهَ} يمكن أن يكون من قولك: ما عندي كتاب يقرأ، فهو نفي القراءة وحدها وأن عنده كتابًا إلا أنه لا يقرأ، أو نفيهما جميعًا وأن لا كتاب عنده ولا كونه مقروءًا، والوجهان اللذان قَرَّرهما من القبيل الثاني. قوله: (جاءَهم إنكاري بالتدمير)، يعني: قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} يقتضي هذا المقدر. صَرَّح القاضي به حيث قال: فحينَ كَذّبوا رُسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري فليحذر هؤلاء من مثله فتكونُ الفاء في {فَكَيْفَ} فصيحةً لأنها تقتضي هذا المقدَّر، والنكير والإنكارُ وتغييرُ المُنكر، ويجوز أن يُجعَل العذابُ من جنس الإنكار تنزيلا للفعل

فما بال هؤلاء؟ وقرئ: (يدرّسونها) من التدريس، وهو تكرير الدرس. أو من درّس الكتاب، ودرّس الكتب: و (يدّرسونها)، بتشديد الدال: يفتعلون من الدرس. والمعشار كالمرباع، وهما: العشر والربع. فإن قلت: فما معنى: (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) وهو مستغنى عنه بقوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)؟ قلت: لما كان معنى قوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه؛ جعل تكذيب الرسل مسببًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منزلة القولِ ادّعاءً نَحْوَ قولِه: تَحِيّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجيع قوله: (وقرئ: ((يُدرِّسونها))، من التدريس) قال ابن جني: وهي قراءة أبي حَيْوَة، وهو أقوى معنًى من {يَدْرُسُونَهَا} لأن افتعل بزيادة التاء أقوى من فعل، كما أن قوله: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] أقوى من: قادر. قوله: (وأقدموا عليه)، يعني: هو من أسلوبِ قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، فعلى هذا قوله: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} جملة معترضة، لأن المراد منهم المشركون، فقُدم اهتمامًا وإيذانًا بأن إيرادَ هذا الكلام سبَبُه هؤلاء المكذّبون تهديدًا ووعيدًا، ويجوز أن لا تكون معترضةً، بل يكون قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} توطئة وتمهيدًا لقوله: {وَمَا بَلَغُوا}، وينعطف قوله: {فَكَذَّبُوا} على {وَمَا بَلَغُوا} أي: وما بلغ هؤلاء المكذبون مِعْشارَ ما آتينا أولئك المكذبين السابقين من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال، فكيف أقدموا على كفر أعظم وتكذيب أبلغ من أولئك، فكذبوا سيد الرسل لدلالة جميع الرسل، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ويجوز أن يكون من قبيل قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وإنما كذبوه وحده لأن الرسالة وصف جامع، فيلزم من تكذيبه تكذيبهم، وهذا الوجه أحسن من الاعتراض وأبلغ وللمقصود أدعى.

عنه، ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله: (وما بلغوا)، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)، أى: للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله. [(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)] 46 [ (بِواحِدَةٍ): بخصلة واحدة، وقد فسرها بقوله: (أَنْ تَقُومُوا)، على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة. والمعنى: (إنما أعظكم بواحدة) إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم، وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصًا، متفرّقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به. أمّا الاثنان فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى، ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه. وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدٍل ونصفة، من غير أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على أنه عطف بيان لها)، قال أبو البقاء: محلّ {أَن تَقُومُوا} جر؛ بَدلاً من {وَاحِدَةٍ}، أو رفع على تقدير: هي أن تقوموا، أو نصب على تقدير: أعني. قلت: هذا التقدير أوفق لاختيار المصنف، وأدعي لاقتضاء المقام، لأن طلب الواحدة مقصودٌ أوّليٌّ في كلام المصنف وأرخى للعِنان. قوله: (وتفرُّقهم عن مُجتمعهم عنده)، قيل: ((عنَده)) حال من ((مجتمعهم))، ولا يجوز أن يعمل فيه، لأنه اسم المكان لا يعمل.

يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقرّ عنده من عادات العقلاء، ومجارى أحوالهم. والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب. وأراهم بقوله: (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعًا، لا يتصدّى لا دعاء مثله إلا رجلان: إمّا مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإمّا عاقل راجح العقل، مرشح للنبوّة، مختار من أهل الدنيا، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه، وقد علمتم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلًا، وأرزنهم حلمًا، وأثقبهم ذهنًا، وآصلهم رأيًا، وأصدقهم قولًا، وأنزههم نفسًا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به؛ فكان مظنة لأن تظنوا به الخير، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت: (ما بِصاحِبِكُمْ) ثم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون كلامًا مستأنفًا؛ تنبيهًا من الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رِقْبَة العواقِب) أي: خوفها، الأساس: رَقَبه وراقبَه: حاذره، لأن الخائف يرقب العقابَ ويَتوقَّعُه. قوله: (بل عَلِمْتمُوه أرجحَ قريشٍ عقلاً، وأرزنَهم حلمًا، وأثْقَبَهم ذهنًا، وآصلَهم رأيًا، وأصدَقَهم قولاً، وأنزهَهم نفسًا، وجمَعهم لما يُحمَدُ عليه الرجالُ ويُمْدَحون به)، هذه المعاني كلها تلوحُ من الأسلوب الاستدراجي والكلام المنصف وتخصيص ((صاحبكم)) واقترانِه بـ {جِنَّةٍ}، لله دَرّه ما أحسنَ بيانَه وما أعذبَ ألفاظَه وما أدقَّ مسالكَه، اللهمَّ أحسِنْ جَزاءه فيما يتعاطاه من هذا القبيل، وتجاوز عن فرَطاتِه من قَبيل التعصّب. قوله: (وآصلهم رأيًا)، هو من قولهم: هو أصيل الرأي، وقد أصَلَ أصالةً. قوله: (كلامًا مستأنفًا)، أي يكون {مِّن جِنَّةٍ} مبتدأ، والخبرُ {بِصَاحِبِكُم}، وزِيدَت

على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية. (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) كقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت في نسم الساعة». [(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)] 47 [ (فَهُوَ لَكُمْ): جزاء الشرط الذي هو قوله: (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)، تقديره: أىّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم، كقوله تعالى: (ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ)] فاطر: 2 [. وفيه معنيان، أحدهما: نفى مسألة الأجر رأسًا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((مِن)) الاستغراقية لنَفْيِ ما يقال له جِنَّة، كأنهم لما سمعوا ذلك الكلام الذي يقطر منه معنى الإنصاف والانتصاف بخطب اتجه لهم أن يسألوا: أي شيء هذه الإقامة وهذا الخلوص، وهذا النظر الدقيق واستعمال الفكر؟ فقيل لهم: ذلك لاستعلامِ حالِ صاحبِكم واستكشافِ أمرِه لأنه تصدّى للأمرِ العظيمِ الذي تحتَه مُلْكُ الدنيا والآخرة، وفي إطلاق {يَتَفَكَّرُوا} مبالغةٌ ليسَتْ في تقييِده. قوله: (بُعِثْتُ في نَسَمِ الساعة)، رَوينا عن الترمذي عن المستورد بِن شَدَّاد قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت في نَفَسِ الساعةِ فسَبقْتُها كما سبقَتْ هذه لهذه)) لأصبَعَيْه السبابةِ والوسطى. النهاية: قيل: هو جَمْعُ نَسَمة، أي: بُعثت في ذَوي أرواحٍ خلَقهم الله قبلَ اقترابِ الساعة، كأنه قال في آخرِ البَشَرِ من بني آدم. الجوهري: نَسَمُ الريحِ: أولُها حين يُقبلُ بلينٍ قبل أن يشتدَّ، ومنه الحديث: ((بُعِثتُ في نَسَم الساعة)) أي: حينَ ابتدأت وأقبلَتْ أوائلها. قوله: (نَفْيُ مسألة الأجر رأسًا)، قيل: ((رأسًا)) حال، أي: في حال كون الأمر منفيًا منفردًا

شيئًا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئًا، ولكنه يريد به البت؛ لتعليقه الأخذ بما لم يكن. والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا)] الفرقان: 57 [، وفي قوله: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)] الشورى: 23 [؛ لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودّة في القرابة؛ لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): حفيظ مهيمن، يعلم أنى لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء. [(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)] 48 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بحيث لا يشذُّ منه شيء، فلذلك يقال: هو بمعنى مجموعًا، يقال: ما تركتُه أصلاً ورأسًا، أي: بالكُلّية، ويجوز أن يكونَ مصدرًا، أي: نَفْيًا كُلّيًا، كأنه قيل: تَنبَّهوا فاعلموا أني أي شيء أسألكم عليه من الأجر فذلك الشيء حقكم وملككم، وليس لي في ذلك من حق، وأنا مقرٌّ بذلك معترفٌ به فهو أبلغ من لو قيل: ما أسألكم عليه من أجر، وهو المراد من قوله: ((يريد به البتَّ والقَطع)). قوله: (لتعليقِه الأخْذَ بما لم يكُنْ)، يعني: عَلَّق الجزاءَ وهو الأخذُ بما لم يكُن وهو الإعطاءُ، وهو أبلغُ من مجردِ قولك: ما أعطيتَني شيئًا، لأنه تقريرٌ للخصمِ وإقرارٌ منه بأنّه ما أعطاك شيئًا، لأن له أن يقول: كيفَ آخُذُ ما لم أعْطِك، فَينبغي الإعطاء بانتفاءِ الأخذ على البت. قوله: (والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله: {قُل لَّا أَسْئَلُكُمْ})، يعني: إن كان أجري هدايَتكم وسلوكَ طريقِ الحقِّ فأنا أطلبُ منكم ذلك، وقد علِمْتُم أنّ نَفْعَ ذلك لا يعود إلاّ إليكم، وكذلك معنى الآية: الذي أسألكم من أجر هو إيمانُكم وهدايتُكم وقد عرفتُم أن نفع ذلك ليس إليّ، يدل عليه قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فـ ((ما)) في قوله: {مَا سَأَلْتُكُم} على الأول: شرطية، وعلى هذا: موصولة. قوله: (لأن القرابةَ قد انتظمته وإياهم)، يعني: أجري أن تَصِلوا الرحِمَ، وهذا المعنى غير مختص به، لأنه وإياهم سواء في هذا الحكم، لأن أقاربه أقاربهم ويرجعُ نفع ذلك إليهم.

القذف والرمي: تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء، ومنه قوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)] الأحزاب: 26 [، (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)] طه: 39 [. ومعنى (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ): يلقيه وينزله إلى أنبيائه. أو: يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ): رفع محمول على محل "إن" واسمها، أو على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تزجيةُ السَّهم ونحوِه)، قيل: التزجيةُ: دَفْعُ الشيءِ برفقٍ وهي غير مناسب للمقام؛ لأن فيه دفعَ الشيء بعنف. وفي ((مجمل اللغة)): التزجية: دَفعُ الشيء كما تُزْجي البقرة ولدَها وتسوقه، والريحُ تُزجي السحابَ تسوقُه سَوْقًا رَفيقا. وكذا في ((الصِّحاح)) و ((الأساس))، ولعلّ المصنِّف جعل التزجيةَ عامًّا ثم قيده بدفعٍ واعتماد. قوله: (ويُستعارانِ من حقيقتِهما لمعنى الإلقاء)، ونحوُه في المجاز: استعمالُ المَرْسن -وهو موضوعٌ للأنفِ فيه رَسَن- في مُطلقِ الأنف. قوله: (أو يَرْمي به الباطل فيدمَغُه ويُزهِقُه)، فعلى هذا: هو من الاستعارة المصرِّحةِ التحقيقية كما قال صاحب ((المفتاح)): أصلُ استعمالِ القَذْف والدمغِ في الأجسامِ، ثم استعير القذفُ لإيرادِ الحقِّ على الباطل، والدامغُ لإذهابِ الباطلِ، فالمستعارُ منه حسيٌّ، والمستعارُ له عَقْلي، وقولُه: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} كما قَرّر تذييلٌ، لأنّ الآية الثانية مقررة للأولى، وعلى الأول تكميل، لأن الأولى إثباتٌ للحقِّ والثانية إزالةٌ للباطل، ويجوز أن يكون من باب الطرد والعكس. قولُه: (محمولٌ على محلٍّ ((إنَّ)) واسمِها)، قال مكي: مَنْ رفعَ جعلَه نعتًا لـ ((ربّ)) على الموضع، أو على البدل منه، أو على البدل من المضمر في {يَقْذِفُ}، ونصَبه عيسى بن عُمر نعتًا لـ ((ربٍّ)) على اللفظ أو على البدلِ. ويجوزُ الرفعُ على أنه خبرٌ بعد خبرٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ.

المستكن في (يقذف)، أو هو خبر مبتدأ محذوف. وقرئ: بالنصب صفة لـ (ربي)، أو على المدح. وقرئ: (الغيوب) بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت. والغيوب كالصيود، وهو الأمر الذي غاب وخفى جدا. [(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)] 49 [ والحىّ إمّا أن يبدئ فعلًا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: "لا يبدئ ولا يعيد" مثلًا في الهلاك. ومنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن بعضِهم: لا يقالُ: لا يجوزُ البدليةُ لأنه يُفسدُ التركيبَ إذا حُذِفَ المُبدَلُ منه، لأن البدليةَ لا تستلزمُ جوازَ حَذْفِ البدل مطلقًا كما ذكر في ((المفصّل)). قوله: (وقُرئ: {اَلْغُيُوبِ} بالحركات الثلاث)، أبو بكرٍ وحمزة: بكسر الغَيْن حيثُ وقعَ، والباقونَ: بضَمِّها. قال الزجاج: الأجودُ الضمُّ. قيل: ((الغِيوبُ)) بالكسر والضمِّ: جمع غَيْبٍ، كالبيوتِ جَمْعُ بَيْت، وبالفَتْح: مُفردٌ كالضُّروب للمبالغة. قوله: (كالصّيود)، الجوهري: كَلْبٌ صَيود، وكلابٌ صِيدٌ وصُيُدٌ أيضًا. قولُه: (((لا يبدئُ ولا يُعيد)) مثلاً في الهلاك)، قال بعضُهم: أي: هلَكَ، كما تقولُ: لا يأكلُ ولا يشربُ، أي: مات. وقال الواحدي: ما يُبدئ الباطلُ وما يُعيد، أي: ذهبَ الباطل ذهابًا لم يَبْقَ منه إقبالٌ ولا إدبار ولا إعادة. يريدُ أنّ هذا الكلامَ عن معنى الهلاكِ كنايةٌ عنه من غير نظرٍ إلى مفرداتِه، وإليه الإشارةُ بقوله: ((وجاءَ الحقّ وهَلك الباطل)).

قول عبيد: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ)] الإسراء: 81 [وعن ابن مسعود رضى الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول: " (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)] الإسراء: 81 [، (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) ". والحق: القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: السيف. وقيل: الباطل: إبليس، أى: ما ينشأ خلقًا ولا يعيده، المنشئ والباعث: هو الله تعالى. وعن الحسن: لا يبدئ لأهله خيرًا ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قولُ عَبيد)، وهو عَبيدُ بن الأبرصِ. أقْفَر: أي: خَلا من أهله وهلَك. وذلك أنّ المنذرَ بنَ ماءِ السماء كان مَلِكًا. وكان له يومٌ في السنة يذبَحُ فيه أوّلُ مَنْ يلقي، فاتّفق اليومَ إشرافُ عَبيدٍ فأمَر بقَتْله، فقيل له: امدَحْه، فقال: حالَ الجريضُ دونَ القَريض، فقال الملِك: أنشِدْنا قولك: أقفَر مِن أهله مَلْحوبُ ... فالقُطَّبيّاتُ فالذنوب فقال: أقفَرَ من أهله عَبيد ... فاليومَ لا يُبدي ولا يُعيد الجريضُ: الغُصَّةُ من الجَرْضِ وهو الريقُ يُغَصَّ به على هَمٍّ وحُزن، والقريضُ: الشِّعرُ، ومَلْحوبٌ: موضع، وكذلك القُطَّبيّاتُ والذَّنوب. قوله: (وعن ابن مسعودٍ)، الحديث رواه البخاريُّ ومُسلمٌ والترمذي، وليس في آخره هذه الآية. قوله: (أي ما ينشئ خلقا ولا يعيده)، الفاعلُ إبليسُ وما نافيةٌ والكلامُ مُجرًى على

يعيده، أي: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: أىّ شيء ينشئ إبليس ويعيده، فجعله للاستفهام. وقيل للشيطان: الباطل؛ لأنه صاحب الباطل، أو لأنه هالك، كما قيل له: الشيطان، من شاط إذا هلك. [(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)] 50 [ قرئ: (ضللت) (أضلّ) بفتح العين مع كسرها. و"ضللت" "أضلّ"، بكسرها مع فتحها، وهما لغتان، نحو: ظللت أظلّ، وظللت أظلّ. وقرئ: (اضلّ) بكسر الهمزة مع فتح العين. فإن قلت: أين التقابل بين قوله: (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وقوله: (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)؟ وإنما كان يستقيم أن يقال: فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التصريحِ لا الكناية كما في الوجهِ السابق وقال الزجاج: ((ما)) في موضعِ نصبٍ على معنى: وأيُّ شيء يُبدئُ الباطلُ وأيُّ شيءٍ يُعيد، والأجودُ أن يكونَ نَفْيًا على معنى: ما يُبدئُ الباطلُ وما يُعيد، والباطل إبليسُ؛ أي لا يبعَثُ الخَلْقَ ولا يخلُق، والله عزَّ الخالقُ الباعث. وقلت: الوجه هذا هو الأول لأنه تعالى لما قال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي شأنه عز وجل أن يرمي بالحق الباطلَ فيُزْهِقَه قال صلوات الله عليه: ((ثم ماذا أقول؟ )) قال: قل جاءَ الحقّ أي: الإسلامُ أو القرآن فزَهقَ الباطلُ والشيطان. قوله: (وقرئ: {ضَلَلْتُ} {أَضِلُّ} بفَتْح العين مع كسرها)، وهي المشهورة، و ((ضَلِلْتُ)) و ((أضَلُّ)) شاذّتان. في ((المطْلع)): ((ضَلَلْتُ)) بفَتحِ اللام ((أضِلُّ)) بكسرِ الضادِ، و ((ضَلِلْتُ)) بكَسرِ اللام ((أضل)) بفَتْحِ الضاد، من باب: ضرب، وعلى نحو: ظَلِلْتُ أظَلَّ، وظَلَلْتُ أظَلّ، وإضَلّ: بكَسْر الهمزة مع فتحِ الضادِ، على لغةِ من يقول: إعلم.

أهتدى لها، كقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)] فصلت: 46 [، (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)] الزمر: 41 [، أو يقال: فإنما أضل بنفسي؟ قلت: هما متقابلان من جهة المعنى؛ لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها، أعنى: أن كل ما هو وبال عليها، وضار لها فهو بها وبسببها: لأن الأمّارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عامّ لكل مكلف، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يقال: فإنما أضل بنفسي)، يريد: أن التقابل الحقيقي هو أن يقابل ((على)) باللام كقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] أو يُطابقَ بين البابَيْن ليكونَ المعنى: إن ضلَلْتُ فإنّما أضلُّ بسَببِ نفسي، فإن اهتَديتُ فإنّما أهتَدي بتَسديدِ الله بسَببِ وَحْيٍ يُنَزِّلُه عليّ. وتلخيصُ الجوابِ: أن المقصودَ أن يكون الكلام جامعًا لهذين المعنيين مع سلوكِ طريق الاختصار. والمعنى: أن ما على النفس من الوبال هو بسببها، وأنَّ مالها من النفع هو بسبب الله، فدل لفظ ((على)) في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية، والباءُ في القرينة الثانية على معنى السببية في الأولى، فإذن التقدير: قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي، وإن اهتديت فإنما أهتدي لنفسي بعون الله وبتوفيقه، فقوله: ((لأنّ النفسَ كلُّ ما عليها فهو بها)) تعليل لصحة تقدير الباء في القرينة الأولى، وقوله: ((وما لها مما ينفعها فبهداية ربها)) تعليل لاستقامة تقدير ((لها)) في الثانية، انظر إلى هذا النظر الدقيق. قوله: (وهذا حكم عام لكل مكلف)، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأنه إذا دخل تحته كان غيره أولى. وقال الإمام: فيه إشارةٌ إلى أنّ ضلالَ نفسي كضلالِكم لأنه صادرٌ من نفسي ووبالُه على نفسي، وأما اهتدائي فليس كاهتدائِكم بالنظرِ والاستدلالِ، وإنما هو بالوَحْيِ المنير. وقلت: هذا البيانُ يدلُّ على أنّ دَليل النقلِ أعلى وأفخَمُ من دليلِ العقل. وقال مُحيي

أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله، وسداد طريقته كان غيره أولى به. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يدرك قول كل ضالّ ومهتد وفعله، لا يخفى عليه منهما شيء. [(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)] 51 [ (وَلَوْ تَرى): جوابه محذوف، يعنى: لرأيت أمرًا عظيمًا وحالًا هائلة. و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي (فزعوا) و (أخذوا) و"حيل بينهم"؛ كلها للمضى. والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه. ووقت الفزع: وقت البعث وقيام الساعة. وقيل: وقت الموت. وقيل: يوم بدر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت في خسف البيداء، وذلك أنّ ثمانين ألفًا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم. (فَلا فَوْتَ): فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة: إن كفارَ قريش كانوا يقولون: إنك قد ضَللْتَ حين تركْتَ دينَ آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي: إثْمُ ضَلالتي على نَفْسي، وإن اهتديت فبما يُوحى إلي من ربي من القرآن والحكمة. قوله: (نزلت في خَسْفِ البَيْداء)، روينا في ((مسند أحمد بن حنبل)) عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي جيشٌ مِنْ قِبَلِ المشرقِ يريدونَ مكّة حتّى إذا كانوا بالبيداءِ خُسِفَ بهم)) فقلت: يا رسولَ الله، فكيف بمَنْ كان منهم مُسْتكرهًا؟ قال: ((يُصيبهم كلّهم ذلك ثم يَبْعَث الله عزّ وجل كل امرئ على نيته)). قيل: كان ذلك في أيام ابن الزبير. والبيداءُ: بَيْداءُ أهل المدينةِ، ونحوًا منه رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وليس فيه ذكر أيام ابن الزبير.

وقرئ: (فلا فوت). والأخذ من مكان قريب: من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأُخِذُوا)؟ قلت: فيه وجهان: العطف على (فزعوا)، أى: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على "لا فوت"، على معنى: إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. وقرئ: (وأخذ)، وهو معطوف على محل (لا فوت)، ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخْذٌ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأخذُ من كان قريب)، قيل: هذا مبتدأٌ، والخبرُ: ((من الموقفِ))، أي: الأخذُ من مكانٍ قريب هو الأخذُ من الموقف منتهيًا بهم إلى النار. قوله: (العطفُ على {فَزِعُوا})، أي: فَزعوا وأُخذوا فلا فَوْتَ لهم، أي: الفاءُ فيه معنى السببية، أي: حصَلَ فَزَعُهم وأخْذُنا إياهم فإذن فلا فَوْتَ لهم. لعلَّ هذا إشارةٌ إلى قول ابن جني أنه قال: ينبغي أن يكونَ {وَأُخِذُوا} في قراءةِ العامةِ معطوفًا على ما دلَّ عليه قوله: {فَلاَ فَوْتَ} أي: أُحيطَ بهم ووأُخِذوا، ولا يصحُّ أن يكونَ معطوفًا على {فَزِعُوا} لأنّه لا يُرادُ: ولو تَرى وَقْتَ فَزَعِهم وأخْذِهم، وإنما المرادُ: ولو تَرى إذ فَزعوا، فلم يفوتوا وأُخِذوا، فعَطفَ على ما فيه الفاءُ السببيةُ فيكونُ حُكْمُه حكْمَه. قوله: (وقُرئ: ((وأخْذٌ)) وهو معطوفٌ على محلِّ ((لا فوت)))، قال الزجاج: ويجوزُ: ((فلا فَوْتٌ))، ولا أعلم أحدًا قرأ بها، فإن لم تَثْبُتْ بها روايةٌ فلا تقرأَنَّ بها. قال ابن جني: ((وأخْذٌ)) قراءةُ طَلْحة بن مُصَرِّف، وفيه وَجْهان: أحدُهما: أنه مرفوعٌ بفعْلٍ مُضْمَرٍ يدلُّ عليه: {فَلاَ فَوْتَ} أي: وأحاطَ بهم أخْذٌ من مكان قريب، وذكَر القُرْبَ لأنه ألزمُ، وثانيهما: أنهُ مُبتدأٌ وخَبرُه محذُوف، أي: هُناك أخْذٌ وإحاطةٌ بهم.

[(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)] 52 - 54 [ (آمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لمرور ذكره في قوله: (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)] سبأ: 46 [. والتناوش والتناول أخوان؛ إلا أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب، يقال: ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال: تناوشوا في الحرب، ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولًا سهلًا لا تعب فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({آمَنَّا بِهِ,} بمحمدٍ صلوات الله عليه، لمرورِ ذكْرِه في قولهِ: {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ})، إشارةٌ إلى بيانِ النظم، وذلك أن كُلاًّ من الآياتِ المُصدَّرة بـ ((قل)) من قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم} {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} {قُلْ إِن ضَلَلْتُ} فيه تذكير بليغ ووعظٌ شافٍ كافٍ، فلما ختمت بقوله: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} - وفيه إيماءٌ إلى معنى المشاركةِ وأنَّ تلك النصيحةَ ما نفعَتْ فيهم- قيل له مسليًا والتفتَ إلى كُلِّ مَنْ يتأتّى منه النَّظَرُ مخاطبًا بقوله: {وَلَوْ تَرَى} لعِظم الأمرِ وفخامةِ الشأن، أي: ولو ترى أيها الناظرُ وَقْتَ فَزَعِهم وأخْذِهم فلا فَوْتَ لهم، ووقْتَ قولهم: آمنّا بمحمد، صلى الله عليه وسلم فلا ينفعهُم إيمانُهم حينئذٍ، لرأيْتَ خطبًا جليلاً وأمرًا هائلاً. قوله: (مِن غَلْوة)، وهي مِقدارُ رمية. المغرب: مِن مُستعارِ المجاز: الغَلْوةُ مقدارُ رمية. وعن الليثِ: الفَرْسَخُ التامٌّ: خمسٌ وعشرونَ غلْوةً، يقال: غَلا بسَهْمه غَلْوًا، أو غالي به غلاءً: إذا رمى به أبعدَ ما قَدَر عليه.

وقرئ: (التناؤش): همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر. وعن أبى عمرو: التناؤش بالهمز: التناول من بعد، من قولهم: نأشت: إذا أبطأت وتأخرت. ومنه البيت: تمنّى نئيشا أن يكون أطاعنى أى: أخيرا. (وَيَقْذِفُونَ) معطوف على "قد كفروا"، على حكاية الحال الماضية، يعنى: وكانوا يتكلمون (بِالْغَيْبِ) ويأتون به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر ساحر كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي؛ لأنهم لم يشاهدوا منه سحرًا ولا شعرًا ولا كذبًا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله؛ لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور. وقرئ: (ويقذفون بالغيب)، على البناء للمفعول، أى: يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه. وإن شئت فعلقه بقوله: (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنا في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئَ: ((التناؤش)))، الحَرَمِيان وابنُ عامرٍ وحَفْص: {التَّنَاوُشُ} بضَمِّ الواوِ، والباقونَ: بهَمْزِها. قوله: (تمني نئيشًا أن يكونَ أطاعني)، تمامُه في ((المُطلع)): وقد حدثَتْ بعد الأمورِ أمورُ يقول: إنَّ صاحبي تمنّي آخرَ الأمرِ أن يكونَ أطاعَني فيما نصحْتُه مِنْ قَبْلُ، والحالُ أنْ قد حدثَتْ أمورٌ بعد أمورٍ دلّتْ على رَشادي وصِدْقِ رأيي. قوله: (وإن شِئْتَ)، عَطْفٌ على قوله: {وَيَقْذِفُونَ} معطوفٌ على (قد كفروا))) أي: يكونُ حالاً من ضمير ((قالوا))، أي: قالوا: آمنًا به، والحالُ أنَّهم يُرْمون مِن مكانٍ بعيد،

الآخرة، وذاك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئًا من مكاٍن بعيٍد لا مجال للظن في لحوقه؛ حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبًا عنه شاحطًا. والغيب: الشيء الغائب. ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله: (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وكانوا يقولون: (وما نحن بمعذبين)] سبأ: 35 [، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فهذا كان قذفهم بالغيب، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف. (ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة، أو من الردّ إلى الدنيا، كما حكى عنهم: (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [. (بِأَشْياعِهِمْ): بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم. (مُرِيبٍ): إما من أرابه، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل، إذا صار ذا ريبةٍ ودخل فيها، وكلاهما مجاز؛ إلا أنّ بينهما فريقًا وهو أنّ المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبًا من الأعيان إلى المعنى، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول: شعر شاعر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويرومون ما حصولُه أبعد، وإليه الإشارة بقوله: ((مثَّلَهُم في طلبِهم)) إلى قوله: ((بمَن يقذِفُ شيئًا مِن مكان بعيدٍ)) وهو اتسعارةٌ تمثيلية. قوله: (ويجوزُ أن يكونَ الضمير)، عَطْفٌ على قوله: ((آمنّا بمحمد صلى الله عليه وسلم))، يعني الضميرُ إما راجعٌ إلى عذابٍ شديدٍ في قوله تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أو إلى صاحبكم. قولهُ: (مُريبًا)، وذلك أنّ المُريبَ صِفةٌ للعاقلِ، لا يصحُّ وصْفُ الشكِّ به، فإمّا أن يُجْعلَ الشكّ كالإنسانِ على الاستعارةِ المكنية، ثم يُنْسَبَ إليه ما هو من خَواصِّ الإنسان

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبىّ إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بلازمه وهو الرَّيْبُ على سبيلِ الاستعارةِ التخييليةِ، وإليه الإشارةُ بقَوله: ((إنّ المريبَ منقولٌ من الأعيانِ إلى المعنى)) أو أن يُسْتعارَ الإسنادُ من صاحبِ الشكِّ ليكونَ من الإسنادِ المجازيِّ. تمتِ السورةُ بحَمْدِ الله وغُفرانه.

سورة الملائكة

سورة الملائكة مكية، خمس وأربعون آية بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)] 1 [ (فاطِرِ السَّماواتِ): مبتدئها ومبتدعها. وعن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما كنت أدرى ما (فاطر السماوات والأرض)، حتى اختصم إلىّ أعرابيان في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الملائكة مكية، خمس وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قولُه: (عن ابن عباس: ما كنت أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ})، ورواه الزجاج أيضًا، وقال الراغب: أصل الفَطْر: الشقُّ طولاً، يقال: فَطَر فلانٌ كذا فَطْرًا، وأفْطَرَ هو فطورًا، وانفطرَ انفطارًا، وقال تعالى: {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3]، أي: من اختلالٍ ووَهْيٍ فيه، وفَطَرْتُ الشاة: حلبتُها بأصبعين وفطرْتُ العجينَ: إذا عجَنْتَه فخَبزْتَه من وقتِه، ومنه الفِطرة، وفَطْرُ الله الخلْقَ، وهو إيجادُه وإبداعُه على هيئةٍ مترشِّحةٍ لفعلٍ من الأفعال،

بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أى: ابتدأتها. وقرئ: (الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة). وقرئ: (جاعل الملائكة)، بالرفع على المدح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقولُه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، إشارة إلى ما أبدع وركزَ في الناسِ من معرفتِه، وهو المشارُ إليه بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، ويصحُّ أن يكونَ الانفطارُ في قوله: {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]، إشارةً إلى قَبولِ ما أبْدعَها وأفاضَهُ عليها منه، والفِطْرُ: تَرْكُ الصوم، يقال: فَطرْتُه وأفطَرْتُه، وأفطَر هو. وقال أبو البقاء: الإضافةُ مَحْضة، لأنه للماضي لا غَيْر، وأما {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ} فكذلك في أجْوَدِ المذهبَيْن، وأجازَ بعضُهم أن تكونَ غيرَ محضَةٍ على حكايةِ الحال، و {رُسُلاً} مفعولٌ ثان، و {أُوْلِي} بدَلٌ منه أو نَعْتٌ له، ويجوز أن يكون {جَاعِلِ} بمعنى: خالق، و {رُسُلاً} حالٌ مقدرة. وقال غيرُه: {فَاطِرِ الْسَّمَوَاتِ} صفةٌ لله ومَعرفةٌ إذ لم يجر على الفعل، بل أريد به الاستمرار والثبات والدوام، كما يُقالُ: زيْدٌ مالكُ العبيدِ جاءَ، أي: زَيْد الذي مِنْ شأنِه أن يملكَ العبيد. قولُه: (وقُرِئَ: ((الذي فطر)))، قال ابن جِنِّي: هي قراءةُ الضحّاك. قولُه: (((جاعلُ الملائكة))، بالرفْعِ على المدح). قال ابن جنِّي: وهي قراءةُ الحسن، هذا على الثناءِ على الله وإبرازِه في الجملةِ بما فيها من الضميرِ أبلَغُ، وكلّما زادَ في الإسهاب كان أحرى، ألا ترى إلى قولِ خِرْنِق:

(رُسُلًا) بضم السين وسكونها. (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة. وأولوا: اسم جمع لـ"ذو"، كما أن أولاء اسم جمع لـ"ذا"، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ): صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف؛ لتكرر العدل فيها؛ ذلك أنها عدلت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يَبعُدَنْ قَومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ النازلينَ بكُلِّ مُعْترَكٍ ... والطيبينَ معاقِدَ الأُزْرِ ويُروى: ((النازلونَ ....... والطيِّبون)) و ((النازلونَ ...... والطيِّبين)) وبالعكسِ، فكلما اختلفتِ الجُمَلُ كان الكلامُ أفانينَ وضروبًا فكانَ أبْلغَ منه إذا لزِمَ سرحًا واحدًا، فقولُك: أُثْني على الله الذي أعطانا فأغنى، أبلغُ، من قولك: أثْني على الله المُعْطينا والمُغْنينا، لأن معَك هُنا جملةً واحدةً وهناك ثلاثُ جُمَل، ويدلُّ على صحّةِ هذا المعنى قراءةُ خُلَيْد: ((جعل الملائكة)) قال أبو عبيدة: إذا طال الكلام خرجوا فيه من الرفع إلى النَّصْب، ومن النصْبِ إلى الرفع، يريدُ ما نحنُ عليه لتختلفَ ضُروبُه وتتباينَ تراكيبُه. قولُه: ({رُسُلاً} بضَمِّ السِّين)، وهي المشهورةُ، وسكونُها شاذّة. قال القاضي: {رُسُلاً}: وسائطَ بينَ الله وبينَ أوليائِه برسالاتهِ بالوحيِ والإلهامِ والرؤيا الصادقةِ أو بَيْنَه وبين خَلْقِه يُوصلونَ إليه آثار صنعه. قولُه: (المخاضُ والخَلِفة)، الجوهري: المخاضُ: الحواملُ من النوقِ، واحدتُها خَلِفة، ولا واحدَ لها من لفظِها، وأما ((أولو)) فجَمْعٌ لا واحدَ له من لفظه، وواحده: ذو. قولُه: (وإنما لم تَنْصَرِفْ لتكرُّرِ العَدْل فيها)، قال الزجاج: أحدُهما: أنه معدولٌ عن ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، والثاني: أنّ عَدْلَه وقعَ في حال النكرة، قال:

عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل "عمر" عن "عامر" و"حذام" عن "حاذمة"؛ وعن تكرير إلى غير تكرير؛ وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُه ... ذئابٌ تَبغّى الناسَ مثنى وموحدا ورُويَ أن سيبويه زعم: أن عدمَ الصرفِ للعدلِ والصفةِ وغيرُه: أنّ عدمَ الصرفِ للعدولِ عن لفظةِ ثلاثة إلى مَثْلَث، وعن معنى ثلاثةٍ ثلاثةٍ إلى هذا، لأنك إذا قُلْت: جاءتِ الخيلُ مَثْلَثَ عنَيْتَ به ثلاثةً ثلاثة. وقال صاحبُ ((الكشف)): معنى قولِهم: {مَّثْنَى} معدولٌ عن اثنَيْن اثنَيْن: أنك إذا أردْتَ بـ ((مَثْنى)): ما أردْتَ باثنَيْن اثنَيْن، والأصلُ أن تُريدَ بالكلمةِ معناها دون معنى كلمةٍ أُخرى، فالعَدْلُ ضدُّ الاستواءِ، لأنَّ الاستواءَ هو الذي ذكَرْنا، والعدْلُ أن تلفظَ كلمةً وأنت تريدُ كلمةً أُخرى، فلما كان كذلك كان العَدْلُ ثابتًا فإذا اجتمعَ مع الصفةِ وجبَ أن يَمْنعا الصرف. قولُه: (و ((حَذامِ)) من ((حاذمة)))، عن بعضِهم: حاذمة في أسماءِ الأجناسِ القاطِعة، ثم نُقِلَ إلى العَلَمية، ثم نُقِلَ عن حاذمة إلى حذام. قولُه: (وأما الوصفيةُ فلا تفْترقُ الحالُ فيها فلا يُعَرَّجُ عليها)، أي: لو كانت الوصفيةُ مؤثرةً في المنْعِ من الصرفِ لقُلْتَ: مررْتُ بنسوةٍ أربَعَ مفتوحًا، فلما صَرفْتَه عُلِمَ أنها ليسَتْ بمُؤثّرة أي: أَنّ الوصفيةَ ليست بأصل، لأن الواضعَ لم يضَعْها وصفًا بل عرَضَتْ لها، وذلك نَحْو: مرَرْتُ بجُبّةٍ ذِراعٍ ورجُلٍ أسَد، فالذراع والأسد ليسا بصفتين للجُبّة والرجل حقيقة. قال صاحبُ ((الفرائد)): يفترقُ الحالُ فيها؛ فإنَّ مَثْنى وغيرَها يقعُ صفةً البتّة، والثلاثةُ

المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول: مررت بنسوة أربع، وبرجال ثلاثة، فلا يعرج عليها. والمعنى: أن الملائكة خلقًا أجنحتهم اثنان اثنان، أى: لكل واحد منهم جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ)، أى: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل الجناحان؛ لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران، وأعون عليه، فإن قلت: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه، فما صورة الثلاثة؟ قلت: لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران؛ فقد مرّ في بعض الكتب أن صنفًا من الملائكة لهم ستة أجنحة؛ فجناحان يلفون بها أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ست مئة جناح. وروى: أنه سأل جبريل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وغيرُها وقوعُها صفةً بالتأويل، تقول: رجالٌ ثلاثة أي: مُقَدَّرةٌ بثلاثة، وكذا عن صاحبِ ((التقريب))، فإنه قال: لا يلزَمُ من عَدمِ اعتبارِ عدمِ الوصفيةِ في المعدولِ عنه لعروضِها فيه عَدَمُ اعتبارِها في المعدولِ مع أنه لم يقَعْ إلا وصفًا. ووجَدْتُ لبعضِ المَغاربةِ كلامًا يصلُحُ أن يكونَ جوابًا عنه وهو: أنّ ((ثُلاثَ ورُباع)) لا يخلو من أن يكون موضوعًا للصفةِ من غيرِ اعتبارِ الثلاثةِ أو لا يكون، فإن كانَ الأولَ لم يكُن فيه العدد، والمُقَدَّرُ خِلافُه، وإن كان الثاني كان الوصفُ عارضًا لثُلاثَ كما كان عارضًا لثلاثة فيُمكن أن يُقال: إنّ هذه الأعدادَ غيرُ مُنصرفةٍ للعدلِ المكرَّر كالجَمعِ وألغي التأنيث. قولُه: (فلا يُعَرَّجُ عليها) مسَبَّبٌ عن قولُه: ((فلا تفترقُ الحال فيها)). النهاية: وفي الحديث: فلم أعرِّجْ عليه، أي: لم أُقِمْ ولم أحتَبسْ، أي: لا يُلتفَتُ إليها ولا تُعْتَبر. قولُه: (أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج)، روينا عن البخاريِّ ومُسلمٍ والتِّرمذي

صلوات الله عليه أن يتراءى له في صورته، فقال: إنك لن تطيق ذلك. قال: «إنى أحب أن تفعل"، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشى على رسول الله، ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال: "سبحان الله ما كنت أرى أن شيئًا من الخلق هكذا"، فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل، له اثنا عشر جناحا؛ جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع، وهو العصفور الصغير. وروى: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن مسعود في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]، قال: رأى جبريل عليه السلام له ستُّ مئة جناح. وعن الترمذي قال مسروقٌ عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَرَ جبريلَ عليه السلام في صورتهِ إلاّ مرّتَيْن: مَرّةً عندَ سِدرةِ المُنتهى، ومَرّةً في جِياد، له ستُّ مئة جناحٍ قد سَدَّ الأفق. قولُه: (ليتضاءَل)، النهاية: وفي حديث إسرافيل: ((وإنه ليتضاءَلُ مِن خَشْيةِ الله))، أي: يتصاغَرُ تواضعًا له. وتضاءَل الشيء: إذا انقبضَ فانضَمَّ إلى بعض. الضئيل: النَّحيفُ الرقيق. قولُه: (حتى يعودَ مثْلَ الوَصَع)، النهاية: ((إنّ العرْشَ على مَنْكِبِ إسرافيل، وإنّه ليتواضَعُ لله تعالى حتّى يَصيرَ مِثْلَ الوَصَعِ)) بفَتْح الصادِ المُهْمَلَةِ وسكونِها؛ طائرٌ أصغَرُ من العُصفور، والجَمْعُ: وُصْعان.

ما يَشاءُ): «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن» وقيل: «الخط الحسن»؛ وعن قتادة: الملاحة في العينين؛ والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق؛ من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأى، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف. [(ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)] 2 [ استعير الفتح للإطلاق والإرسال. ألا ترى إلى قوله: (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مكان: لا فاتح له، يعنى: أى شيء يطلق الله من رحمة، أى: من نعمة؛ رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها، وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها. وأىّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. فإن قلت: لم أنث الضمير أوّلا، ثم ذكره، وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت: هما لغتان: الحمل على المعنى وعلى اللفظ، والمتكلم على الخيرة فيهما، فأنث على معنى الرحمة، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه؛ ولأنّ الأوّل فسر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير. وقرئ: (فلا مرسل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وحَصافةٍ في العقل)، النهاية: الحَصيف: المُحْكَمُ العقلِ، وإحصاف الأمر: إحكامُه. قولُه: (وذَلاقةٍ في اللسان)، النهاية: ذَلَقُ كُلِّ شيء: حَدُّهُ. يقال: لِسانٌ ذَلْقٌ طَلْقٌ، أي: فَصيحٌ بَليغ. قولُه: (ولَباقةٍ في التكلُّم)، الجوهري: اللَّبِقُ واللَّبيق: الرجلُ الحاذقُ الرفيقُ بما يعمَلُه، وقد لبِقَ -بالكسْرِ- لَباقة.

لها). فإن قلت: لا بد للثاني من تفسير، فما تفسيره؟ قلت: يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأوّل. ولكنه ترك لدلالته عليه، وأن يكون مطلقًا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته، وإنما فسر الأوّل دون الثاني؛ للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة، وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فما تَقولُ)، الفاءُ تدلّ على إنكارٍ على الكلامِ السابق، يعني: أنّك إنْ فَسَّرْتَ الرحمةَ بالنعمةِ من الرزقِ والصحةِ والأمنِ وما يتَّصلُ بها فهو صَحيح، لأنّ إمساكَها وإرسالَها مَبنيٌّ على مُراعاةِ الأصْلح، فما تقولُ فيمن فَسَّرها بالتوبة؛ لأنه يعودُ إلى خَلقِ الأفعال. وأنّ الله تعالى إذا فتحَ التوبةَ على أحدٍ فلا مُمْسِكَ لها، وما يُمْسِكُ منها فلا مُرْسِلَ لها، وهذا غيرُ صَحيحٍ لما يلزَم من ذلك انتفاصُ التكليفِ المَبْنيِّ على الاختيار. فأجابَ بما يُوافقُ مَذَهبَه من التأويل البعيد. والذي يَسْتدعيه النظمُ: العمومُ في كلِّ رحمةٍ مُختصَّةٍ بالإنسانِ، وذلك أنّه لما بيَّنَ كمالَ قُدرتهِ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ والملائكةِ وغيرِها أتْبعَه أنّه مُولي جميع النِّعمِ على الناسِ ظاهرةً وباطنة، دينيةً ودُنيوية، وكما فُصِّلَتْ تلكَ الآيةُ بقَوْله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليدُلَّ على عمومِ المقدورِ وفُصِّلَتْ هذه بقولِه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ليدلَّ على شمولِ المعسورِ والمَيْسور، على أنَّ تخصيصَ ذِكْري العزيز والحكيم يُشْعِرانِ بما ذهبَ إليه حَبْرُ الأمة لقولِه: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، لأنه لا يفتَحُ على مَنْ يفتَحُ عليه بالتوبةِ، ولا يُمْسِكُ على مَن يُمسِكُ عليهِ بالتوبةِ، إلا مَنْ ليسَ له فوْقَه أحدٌ يمنَعُه من ذلك، وإلاّ مَنْ عَلِمَ الحكمةَ فيما يفعلُه وإنْ خَفِيَتْ على غيرِه، فالأولُ دلَّ على أنّه الغالب الذي يفعَلُ ما يَشاء في مُلكِه فما يمنعه أحد، والثاني على أنه تعالى عالم بما خَفِيَ على كلِّ أحدٍ فلا يقفُ على أسرارِ حكْمتِه أحد. فإن قُلت: فما تقولُ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 30]، لأنه خَصَّ فيه النعمةَ الظاهرةَ دون الباطنة؟

إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها، وهو الذي أراده ابن عباس رضى الله عنهما -إن قاله- فمقبول؛ وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب؛ فمردود؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبدًا، ولا يجوز عليه أن لا يشاءها. (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد إمساكه، كقوله تعالى: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله)] الجاثية: 23 [، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله)] الجاثية: 6 [، أى: من بعد هدايته، وبعد آياته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الغالب القادر على الإرسال والإمساك، (الْحَكِيمُ) الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه. [(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)] 3 [ ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن به وبالقلب، وحفظها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ليسَ التعريفُ في الناسِ الثاني كما في الأول، لأنّه للجنس، والثاني للعَهد، وأنَّ المرادَ بالناسِ قَوْمٌ بأعيانِهم وهم قريشٌ، كما قال ابنُ عباس: هم قريشٌ، كما ابنُ عباس: هم أهلُ مكةَ أنعمَ الله عليهم بالنعمةِ الظاهرةِ لتكونَ وسيلةً إلى تحصيلِ الباطنة، فكفَروا بالمُنعمِ وغَمَطوا تلك النعمةَ، فوبَّخَهم سُبحانه وتعالى عليها بهذه الآية؛ يدلُّ عليه الترتُّبُ في قولِه: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، ثم تعقُّبه بقَوْلِه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ}، والله أعلم. قولُه: (لأنَّ الله يشاءُ التوبةَ أبدًا، ولا يجوزُ عليه أن لا يشاءَها)، مَردودٌ باطلٌ لِما أجمع سَلَفُ الأمةِ وخَلَفُها على كلمةٍ لا يجحَدُها أهلُ الإسلام، وهي: ((ما شاءَ الله كانَ ولما لم يَشا لم يكُن)) وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. قولُه: (حِفْظُها)، عَطْفٌ على مُضْمَرٍ بعْدَ ((لكن))، أي: ولكن ذِكْرُها باللسانِ وبالقَلْبِ وحِفْظُها عن الكُفران. وقولُه: ((واعترافٍ بها))، عَطْفٌ على ((معرفةِ حَقِّها)) أي: وشُكْرُ

من الكفران والغمط، وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادىّ عندك، يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها. والخطاب عام للجميع؛ لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد: يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم؛ حيث أسكنكم حرمه، ومنعكم من جميع العالم، والناس يتخطفون من حولكم. وعنه: نعمة الله العافية وقرئ: (غير الله)؛ بالحركات الثلاث؛ فالجرّ والرفع على الوصف لفظًا ومحلًا، والنصب على الاستثناء. فإن قلت: ما محل (يَرْزُقُكُمْ)؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لـ (خالق)، وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل (من خالق)، بإضمار (يرزقكم)، وأوقعت (يرزقكم) تفسيرًا له، أو جعلته كلامًا مبتدأ بعد قوله: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النعمةِ بالقَلْب، بمَعْرفةِ المنعِم وباللسانِ بالاعترافِ بأنّها منه، وبالجوارحِ بالطاعةِ لمولاها أخذَهُ من قَوْلِ القائل: أفادَتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يَدي ولِساني والضَّميرَ المُحَجَّبا قولُه: (وقُرِئَ: {غَيْرُ اللهِ})، بالحركاتِ الثلاث: حَمْزةُ والكِسائيُّ: بالجرِّ، والباقونَ: بالرفع. والنّصْبُ: شاذّ. وعن بَعْضِهم: الخبرُ وَصْفُ الخالقِ لفظًا والرفْعُ نعْتٌ له مَحَلاً، لأنّ {خَالِقٍ} مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ، و ((من)) زائدة، تقديره: هل مِن خالقٍ غيرِ الله الله أو للأشياء. وقيل: {غَيْرُ اللهِ} يجوزُ أن يكونَ مرفوعًا على فاعلِ {خَالِقٍ}، أي: هل يخلقُ غيرُ الله شيئًا؟ قولُه: (أو جعَلْتَه كلامًا مبتدأً، بعد قولِه: {مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ})، قيل: هذا الوجهُ ضَعيفٌ، لأنَّ مِثْلُ قولك: هل زيدٌ خرَج؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابنُ الحاجبِ في ((شرح المفصل)): هل زيدٌ خرَج؟ شاذّ، فهو على شُذوذِه مُقَدَّرٌ على ما ذكَره، وإنّما لم يحسُنْ عندَهم: هل زيدٌ خرج؟ وشِبْهُه إما لأنّ ((هل)) بمعنى ((قَدْ)) على ما يقولُه سِيبَويْه، فكانت بالفعل أولى، فإذا وقعَ بعدَها الاسمُ كان وقوعُه بعد ((قد)) ولا يسوغُ ذلك، فلا يسوغُ هذا، وإما لأنّ ((هل)) موضوعٌ للاستفهام مُقْتَضٍ للفعلِ في المعنى، فكان ذِكْرُ الفعلِ بعده لفظًا هو القياسَ، ولا يَرِدُ عليه: أزيدٌ خرَج؟ فإنَّ الهمزةَ تَصرفوا فيها ما لم يتَصرَّفوا فيها في ((هل)). وقلت: شهدَ هذا القائلُ على نفسهِ أنه خارجٌ من زُمرةِ البُلغاء، ولله درُّ صاحب ((المفتاح)) حيثُ تَفرَّس لمثْل هذا وقال: ولكَوْنِ ((هل)) أدعي للفعلِ من الهمزةِ لا يحسُن: هَل زيدٌ منطلقٌ، إلاّ من البليغ. ولما ثبتَ أنّ ((هل)) أدعي للفعلِ من الهمزةِ، فتَرْكُ الفعلِ معَه يكونُ أدْخَل في الإنباء لاستدعاء المقام عدم التجدد، يعني: في قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، ونَحْوُه: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. وقَوْلُ تأبّط شَرّاً: هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا وأما قولُ سِيبَويْه: ((هل)) بمَعْنى: ((قد))، فمَعْناه: أنّ ((هل)) مَتضمِّنةٌ لمعنى ((الهمزة)) و ((قد))، فإذا جُرِّدَتْ منها خَلُصَتْ لمعنى ((قد))؛ ألا ترى إلى قولِ المصنِّف في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ} [الإنسان: 1]: الأصل أهَل؟ والمعنى: ((أقَد أتى)) يدلُّ عليه أنك لا تُقدِّر الهمزةَ م. ع ((قَدْ)) في مثل {قَدْ أَفْلَحَ}، كما تقدر في {هَلْ أَتَى}، فإذَنْ يسوغُ في ((هل))

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله عز وجل؟ قلت: نعم، إن جعلت (يَرْزُقُكُمْ) كلامًا مبتدأ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأمّا على الوجهين الآخرين: وهما الوصف والتفسير. فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على اختصاصه، بالإطلاق؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما لا يسوغُ في ((قد))، فيقال: هلْ زيدًا ضربْتَ؟ ولا يقال: قَد زيدًا ضربْتُ. ونصَّ بخلافهِ ابنُ الحاجب أيضًا في قِسْم الحروف. قولُه: (فكيفَ يُستشهَدُ به على اختصاصِه بالإطلاق)، أي: كيف يُستشهَدُ به على اختصاصِ الله بإطلاقِه عليه وقد تَقيّد بقَيْدِ ((يرزقُكم)) فإن المعنى على وجهَيْن: ليس خالقٌ سوى الله صفتُه أنّه يرزقُكم، فيُفْهمُ أن هناك خالقًا سوى الله ليسَ برازق. وأمّا على الابتداءِ فمعناه: ليسَ خالقٌ سوى الله موجودًا. فاتّجه لسائلٍ أن يقول: لِمَ لَمْ يكُنْ غيرُه خالقًا؟ فقيل: لأنّه يرزقُكم من السماءِ والأرض؛ لأن الخالقَ يَنْبغي أن يكونَ رازقًا، فإنَّ صفةَ الرزاقيّةِ كالتتميمِ للخالقية. هذا هو الوجهُ الفصيحُ القويُّ وعليه مذهبُ أهل الحقّ. الانتصاف: القَدريُّ يقول: نعم، [ثَمَّ] خالقٌ غَيْرُ لله. وكلُّ أحدٍ عندَهم يخلُقُ، ولهذا وَسَّعَ الدائرة وأتى بالأوجهِ النافرة، والذي يُحقِّقُ الوجْهَ الثالثَ المانعَ من إطلاقِ الخالقِ على غيرِ الله: أنَّ المُخاطبينَ مُشركون إذا سُئلوا: مَنْ خَلقَ السماواتِ والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سُئلوا: من يرزُقُ منهما؟ قالوا: الله، فقُرِّروا بإقامةِ الحُجّةِ عليهِم بإقرارِهم، ولو كانَ كما قالَ الزَّمخشريُّ لكانَ مفهومُه إثباتَ خالقٍ غيرِ الله، لكن لا يرزق، وهؤلاءِ الكَفَرةُ قد تَبرّءوا منه فلا لتقريعهم بما لا يلائِمُ قوْلَهم، وأيضًا فإنّ {يَرْزَقُكَم} و {لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ} جَمْلتانِ سيقتا مَساقًا واحدًا والثانية مفصولةٌ اتفاقًا فكَذا الأُولى. وقلت: قد أحسنَ وأجادَ حيثُ نظرَ إلى النَّظْم.

والرزق من السماء: المطر، ومن الأرض: النبات. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مفصولة لا محل لها، مثل: (يرزقكم) في الوجه الثالث، ولو وصلتها كما وصلت (يرزقكم) لم يساعد عليه المعنى؛ لأنّ قولك: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق، غير مستقيم؛ لأن قولك: هل من خالق سوى الله؟ إثبات لله. فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضًا بالنفي بعد الإثبات. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فمن أى وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والرزقُ من السماءِ المطر)، قيل: إن جُعِلَ الرزقُ مصدرًا فالمضافُ من الخبرِ محذوفٌ أي: إنزالُ المطرِ وإنباتُ وإن جَعلْتَه اسمًا بمعنى المرزوقِ فلا حاجةَ إلى التقدير. قولُه: (فلو ذهَبْتَ تقولُ ذلك لكُنْتَ مناقِضًا)، وذلكَ أنّ الصفةَ هاهنُا مُميِّزة، والاستفهامُ مؤكِّدٌ للأنكار، وفيه معنى النفي، لأنّ الكلامَ مع المُعانِدين، ولذلك زيدَ ((مِنْ)) الاستغراقية، فإذا أنكَرْتَ أن يكونَ خالقًا غيْر الله، يلزَمُ منه إثباتُ ذاتهِ عزَّ وجل، وهو المرادُ من قولهِ: ((هل مِنْ خالقٍ سوى الله؟ إثباتٌ الله)) ثمَّ إذا رجَعْتَ ومَيَّزْتَه مرّةً أُخرى بقولك: ((لا إله إلا ذلك الخالقُ)) لزِمَ نَفْيُ ما أثبتَّه أولاً، وهو المرادُ بقولِه: ((لكُنْتَ مناقِضًا بالنفيِ بعدَ الإثبات)). قال صاحبُ ((التقريب)): في لزومِ التناقضِ نَظَر، إذ التقدير: لا خالقَ مُنْفَرِدًا بالإلهية إلاّ الله على الاستثناء أو مغايرًا لله على الوصف، ولا تناقُضَ فيه. نعم، لو فصّلْتَ مع عَوْدِ الضميرِ إلى الخالق المغاير لزم، أما معَ الوصل فلا. قلت: ويُمكنُ أن يقال: إنَّ قولَك للمشرك: هل مِنْ خالقٍ سوى الله، إثباتٌ لله بِوَصْفِ المُغايَرة؛ لأنَّ المُغايَرةِ إثباتُ المُتغايرَيْن، فيلزَمُ منه إثباتُ الله، ثم إذا قُلْت: ((لا إله إلا ذلك الخالقُ)) يلزَمُ منه نَفْيُ الله، أما إذا الإثباتُ ناشئًا من الإنكارِ الواردِ على الموضوفِ والصفةِ معًا لزِمَ ما ذَكرَه صاحبُ ((التقريب)).

[(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ)] 4 [ نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله، وتكذيبهم بها، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوةً، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد؛ من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه. وقرئ: (ترجع) بضم التاء وفتحها. فإن قلت: ما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط، وهذا سابق له؟ قلت: معناه: وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع: (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) موضع: فتأس؛ استغناًء بالسبب عن المسبب، أعنى بالتكذيب عن التأسى. فإن قلت: ما معنى التنكير في (رسل)؟ قلت: معناه: فقد كذبت رسل، أى: رسل ذوو عدد كثير. وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم، وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له، وأحث على المصابرة. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [5 - 7] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحقُّ أنّ المانعَ من ذلك التقديرِ النظْمُ المُعْجِز، وحاكمُه الذوقُ السليم، ولأنَّ السؤالَ بقولِه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سؤالُ تبكيتٍ واردٌ على قولِه: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، وقولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: تقريرٌ للتوحيدِ بعْدَ تقريرِ إقرارِهم بنَفيْ الغير، ولذلك رَتَّبَ عليه بالفاءِ قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: إذا كنتم تُقرّون أن لا خالقَ سوى الله يرزقُكم فلا يكونُ سواه معبودًا، لأنّ المعبودَ ينبغي أن يكون خالقًا رازقًا فكيف تُصرفونَ عنه وتكفرون نِعمتَه وتعبدونَ غيره. قولُه: (ومن حقِّ الجزاءِ أن يتعقَّبَ الشرط)، والآيةُ مثل: إن أكرمْتَني الآن فقد أكرمتُك أمس. وخُلاصةُ الجواب: أنَّ الجزاءَ مبنيٌّ على الإخبارِ والتنبيهِ على التأسِّي والتسلِّي، كما أن المثالَ فيه تنبيهٌ على معنى الاعتقاد.

وعد الله: الجراء بالثواب والعقاب. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) فلا تخدعنكم (الدُّنْيا) ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ): لا يقولن لكم: اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة. والغرور: الشيطان؛ لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره، كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ، كقاعد وقعود. أخبرنا عز وجل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لا يقولَنَّ لكم: اعمَلوا ما شئتم، فإنّ الله غَفورٌ يغفرُ كلَّ كبيرة، ويعفو عن كلِّ خطيئة)، الانتصاف: يُعرِّضُ باعتقادِ أهلِ السنّةِ، وهذا لا يناقضُ مُعتقَدهم، فإنَّ الله وعَدَ العفْوَ على الكبائرِ، وقرنَ الوعيدَ بالمشيئةِ في حقِّ الموحِّدين، في مثْلِ قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]. قولُه: (والغَرور: الشيطانُ؛ لأنّ ذلك دَيْدَنُه)، الراغب: غررْتُ فُلانًا: أصَبْتُ غِرَّتَه ونِلْتُ منه ما أريده، فالغِرّةُ غَفْلَة في يَقظة، والغِرارُ مع غفوة. وأصلُ ذلك من الغُرِّ وهو الأثرُ الظاهرُ من الشيءِ، ومنه: غُرّةُ الفَرس، وغِرارُ السيفِ: حَدُّه، وغَرُّ الثوبِ: أثَرُ كَسْره، وقيل: اطْوِه على غَرِّه. وغَرَّه كذا غرورًا كأنّما طواهُ على غَرِّهِ، قال تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، فالغَرورُ: كلّ ما يَغُرُّ الإنسانَ من مالٍ وجاهٍ وشَهْوةٍ وشيطان، وقد فُسِّرَ بالشيطانِ إذْ هو أخبَثُ الغارِّين، والغَرر: الخَطَر من الغَرّ، وباعتبارِ غُرّةِ الفَرسِ وشُهرتِه قيل: فُلانٌ أغَرٌّ؛ إذا كان مشهورًا كريمًا، ويُقال: الغُرَرُ لثلاثِ ليالٍ من أوّلِ الشهرِ لكون ذلك منه كالغرة. قولُه: (وقُرِئَ بالضمِّ وهو مَصْدر)، وعن بعضِهم: الغُرور بالضمّ: الأباطيل، وفُعولٌ في الأفعالِ المتعدية قليل، منه: لزِمَه لُزومًا، ونَهَكَه المرضُ نُهوكًا.

أن الشيطان لنا عدوّ مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم صلوات الله عليه، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عز وجل بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم. ولا يوجدن منكم ما يدل إلا على معاداته ومناصبته في سركم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال المصنِّف: كلُّ مَغْرورٍ غُرورُه مصلحةٌ له في تَرْكِ غُروره، وأنتُم لفَرْطِ اغترارِكم غُرورُكم مفسدةٌ لكم داعيةٌ إلى الغرور، أو المرادُ أهلُ الغرورِ، أو ذو الغرور. قولُه: (وكيف انتدبَ لعداوةِ جنسِنا قبل وجوده)، أي: قبلَ وجودِ جنسِنا، وهي عداوتُه لآدمَ عليه السلام، وبعدَ وجودِ الجنسِ، وهو توريطُ بني آدمَ في كلِّ ضلالٍ وخِزْيٍ ونكال، فكما قال في ((مريم)): وهو عدوُّكَ وعدوُّ أبيكَ وأبناءِ جنسِك. الأساس: نُدِبَ لكذا وإلى كذا فانتدَبَ له، وتكلَّمَ فانتدَبَ له فُلانٌ إذا عارضَه، ورجُلٌ نَدْبٌ؛ إذا نُدِبَ لأمرٍ خَفَّ له، وأراكَ نَدْبًا في الحوائج، وندَبه لأمر كذا فانتدبَ له، أي: دعاهُ له فأجاب. قولُه: (وأنتم تعامِلونه) أي: نَزَّلَ العالِمَ منزلةَ الجاهلِ، وذلك بأنْ خاطبَ الناسَ بقولِه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} مع أنهم لا يشكُّون فيه، وأدخَل على الجملةِ حرْفَ التحقيقِ مع أنَّهم مُقِرُّون بذلك ولا يُنكرونه؛ لعَدمِ جَرْيِهم على مُوجِبِ العلم، وتَماديهم في اتباعِ خُطُواتِ الشيطان. قولُه: (ولا يوجَدَنَّ منكم ما يدلُّ إلا على مُعاداتِه)، إشارة إلى أن قولَه تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} نَهْيٌ للشيطانِ، وفي الحقيقةِ نَهْيٌ للإنسان بأنْ يكونَ على وَصْفٍ يتمكَّنُ الشيطانُ منه على الغُرور، نَحْو: لا أرينَّك هاهنا. قولُه: (ومناصبتِه)، يقال: نصَبَ لفلانٍ نَصَبًا: إذا عادَيْتَه، وناصَبْتَه الحرْبَ مُناصبة.

وجهركم. ثم لخص سر أمره، وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته؛ هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء، وقشر اللحاء؛ ليقطع الأطماع الفارغة، والأمانى الكاذبة، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما. [(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)] 8 [ لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا؛ قال لنبيه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَناً)، يعنى: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وقشرَ اللِّحاءَ)، قال المَيْداني: ((قشَرْتُ له العَصا))؛ أظهَرْتُ له ما كان في نَفْسي ويقال: اقشِرْ له العَصا، أي: كاشِفْه وأظهِرْ له العداوة. قولُه: (لما ذكرَ الفريقَيْن كَفروا والذين آمنوا قال لنَبيِّه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} يعني: أفَمَنْ زُيِّن له سوءُ عَمَلِه من هذَيْن الفريقَيْن كَمَنْ لم يُزيَّنْ له)، جعَلَ الاثنَيْن من بابِ اللفِّ والنَّشر. وقلت: الأحسَنُ أن تُجعلَ الآياتُ من الجمْعِ والتقسيمِ والتفريق، فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} جَمع الفريقَيْن معًا في حكمِ نِداءِ الناس وجمَعَ مالهما من الثوابِ والعقاب في حُكْمِ الوعدِ وحَذَّرهما معًا عن الغرورِ بالدنيا والشيطان، وأما التقسيمُ فهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لأنه بَيَّنَ فيه أحوالَ الفريقَيْن ومالهُما وعليها من الثوابِ والعِقاب. وأما التفريقُ فقولُه: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} لأنه فَرَّق فيه، وبَيَّنَ التفاوتَ بين الفريقَيْن كما قال: (({أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} من هَذَيْن الفريقَيْن كمَنْ لم يُزَيَّنْ له))، فظهرَ مِن هذا البيان أنّ ((الفاء)) في ((أفمَنْ)) للتعقيبِ والهمزةُ الداخلةُ بين المعطوفِ والمعطوفِ

فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، فقال: (فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ). ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدى عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه لإنكارِ المساواةِ وتقريرِ البَوْنِ العظيمِ بين الفريقَيْن، وأن المختارَ من الوجوهِ المذكورة في ((المفتاح)): تقديرُ ((كمن هَداهُ الله))، فحَذفَ لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}. قال مُحيي السُّنّة: في الآية حَذْفٌ مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطلَ حقًّا كمَنْ هَداه الله فرأى الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً، فإنّ الله يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويَهْدي من يشاء. وقال أيضًا: معنى الآيةِ: فلا تغتَمَّ بكُفرهِم وهلاكِهم، وهو المرادُ من قولِ المصنِّف: وإذا خذلَ الله المُصمِّمين على الكفرِ وخَلاّهم وشأنَهم، فإنّ على الرسولِ أن لا يهتمَّ بأمرهم. وفيه التسلِّي والتخلِّي من الاهتمامِ بشأنِ المدعوِّ فلا يدخلُ فيه العاصي من أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم، فلا وَجْه لقوله: ((وهو أن يكونَ العاصي على صفةٍ لا تجدي عليه المصالحُ)) إلى آخره، لأن معناه: يكون العاصي على وجهٍ لا ينتفعُ من رعايةِ المصالحِ التي أوجبَها الله على نفسِه بوجهٍ من الوجوه. فقولُه: ((لا تُجدي)) إلى آخرِه صفةٌ لصفةٍ، والعائدُ محذوفٌ، أي: معها. قولُه: (فكأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا)، واعلَمْ أنّ الفاءَ في قولِه: {أَفَمَن زُيِّنَ} رابطةٌ للجملةِ التاليةِ بالسابقة، وقد وُسِّطَتْ همزةُ الإنكارِ بينهما، و ((مَنْ)) موصولة، والفاء {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} جَزائية، ولا يستقيمُ أن تكونَ خبرًا لها، لأنّ الإنكارَ دافعه، فيجبُ أن تُقدَّرَ خبرًا لها، وشرطًا للجزاءِ. والمُنْكَرُ ما كان يرتكبُه صلواتُ الله عليه من الحرْصِ على الإيمانِ القومِ وتهالُكهِ في أن يسلكَ الضَّالين في زمرةِ المهتَدِين فقيلَ له على سبيلِ الإنكار: أفمَنْ زُيِّن له سوءُ عَملِه من هذَيْن الفريقَيْن كمَن لم يُزَيَّن له، فلا بُدَّ مِنْ أن يُقِرَّ بالنفيِ ويقول: لا، فحينئذٍ يقالُ له: فإذا كان كذلك {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، فقَدَّم وأخَّر، وما أوضَحَه مِن دليلٍ على مذهَبِ أهلِ السنة.

وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال، ويطلق آمر النهى، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبح حسنًا والحسن قبيحًا، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويقعد تحت قول أبى نواس: اسقني حتّى تراني ... حسنا عندي القبيح وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم؛ فإنّ على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقى بالًا إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم؛ اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج: أنّ المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب؛ لدلالة (فلا تذهب نفسك) عليه. أو: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة (فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) عليه. (حسرات): مفعول له، يعنى: فلا تهلك نفسك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (سُلِبَ تَمْييزَه)، ((تمييزَه)) نَصْبٌ على أنه تَمْييز، وإن كانَ معرفةً، كقولِه تعالى: {إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. قولُه: (ويَقعدُ تحتَ قولِ أبي نُواس)، الأساس: إنّ حَسَبَكَ لَمُقعِدُك عن بُلوغِ الشرفِ، وما يُقْعِدُه وما اقتعَدَه إلا لُؤْمُ عَنْصُرِه، وقبله: غَرَّدَ الديكُ الصَّبوحُ ... فاسقِني طابَ الصَّبوحُ قَهْوةً تُذْكِرُ نَوحًا ... حين شادَ الفُلْكَ نوحُ نَحْنُ نُخْفيها فتأتي ... طيبُ ريحٍ فتَفوحُ اسقِني حتى تَراني ... حَسنًا عندي القَبيحُ قيل: ((حسنًا)) مفعولٌ ثانٍ لـ ((تَراني))، و ((القبيحُ)) فاعلُ ((حسنًا))، يقولُ للساقي: اسقِني حتى يكونَ القبيحُ عندي حَسَنًا.

للحسرات. و (عليهم) صلة (تذهب)، كما تقول: هلك عليه حبًا، ومات عليه حزنًا. أو هو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بـ (حسرات)؛ لأنّ المصدر لا يتقدم عليه صلته، ويجوز أن يكون حالًا، كأن كلها صارت حسراٍت لفرط التحسر، كما قال جرير: مشق الهواجر لحمهنّ مع السرى ... حتّي ذهبن كلاكلا وصدورا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وذكرَ الزجّاج)، والمذكورُ في ((كتابه)): الجوابُ هاهُنا على ضربَيْن: أحدُهما يدلُّ عليه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، ويكونُ المعنى: أفمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عملِه كمَنْ هداه الله، ويكونُ دليلُه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}. وقلت: فيه تنبيهٌ على أنّ كلَّ واحدٍ من الجُمَلِ المدخولِ عليها الفاء لا يصحُّ أن يكونَ جوابًا لمانِع معنى الإنكارِ في الهمزة. قولُه: (هلكَ عليه حُبًّا وماتَ عليه حُزنًا)، قال صاحب ((الفرائد)): التقدير: لا تذهَبْ نفسُك واقعةً عليهم حَسرات؛ لأن المُحِبَّ يَنْحني إلى المحبوب إذا أشرفَ على الهلاك وإذا بالغَ في الميل إليه وقعَ عليه. قولُه: (أو هو بيانٌ للمُتحسَّرِ عليه)، فإنّه لما قيلَ له صلواتُ الله عليه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فقال: على مَنْ؟ فقيل: عليهم، على أنّ {عَلَيْهِمْ} مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ بناءً على أنّ ((حَسَراتٍ)) لا يعمَلُ فيما قبلَه لكونِها مصدرًا، ويجوزُ أن يُضَمَّنَ ((تذهَب)) معنى: ((تحسَّر)) بوساطةِ ((على))، وأنّ الأصل: فلا تتحَسَّرْ عليهم ذهابًا بنفسك، أي: هالِكًا. وأما قولُه: كما تقولُ: هلكَ عليه حُبًّا، فمِن بابِ المجازِ لا التضمين. قولُه: (مَشَقَ الهواجرُ) البيت، المَشْقُ: السرعةُ في الطعنِ والضربِ والكاتبة. أي: بَرى لحومَهُنَّ السيرُ في الهواجرِ والسُّرى في الليالي حتى رجَعْنَ ولم يَبْقَ منهن إلا كلا كلُها وصدورُها.

يريد: رجعن كلاكلًا وصدورًا، أى: لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قوله: فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام وقرئ: (فلا تذهب نفسك). (إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ): وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم. (وَالله الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)] 9 [ وقرئ: (أرسل الريح). فإن قلت: لم جاء (فَتُثِير) على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فعلى إثْرِهم) البيت، ((إثرِهم)): أي: عَقِبِهم، ((تَساقطُ))؛ أي: تتساقَطُ، و ((حَسَراتٍ)) حالٌ من ((نَفْسي)). يقول: إن الأحبةَ رحَلوا ونَفسي تتساقَطُ حَسَراتٍ في عَقِبِهمْ، وذكْرُهم سَقامٌ لي بعْدَهم. قولُه: (وقُرئ: ((أرسلَ الريحَ)))، حمزةُ والكِسائيُّ وابن كثير. قولُه: (وهكذا يفعلون)، يريد: أنَّ كلَّ فعلٍ ماضٍ إذا أريدَ به نوعُ خصوصية بحال -إمّا أن تكونَ مُستغربةً أو مهتمًّا بشأنِها أو غيرَ ذلك- يُعدلُ منه إلى المضارعِ ليؤذِنَ بأنّ هناك نُكتةً سَرِيّة؛ إما الاستغرابُ كما تنبئُ عنه هذه الآيةُ وقَوْلُ تأبَّط شرًّا لما استحضرَ منهما الحالةَ العجيبةَ الشأنِ في ذهنِ السامع وجُعِلتا مشاهدتَيْن لنظرِه، وإما الاهتمامُ كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12]، لاقتضاءِ ((لو)) معنى المُضيٍّ؛

وخصوصية، بحال تستغرب، أوتهمّ المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا: بأنىّ قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصّحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها مشاهدةً؛ للتعجيب من جرأته على كل هول وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة، قيل: فسقنا، وأحيينا؛ معدولًا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه. والكاف في (كَذلِكَ) في محلّ الرفع، أى: مثل إحياء الموات نشور الأموات. روي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُنْزِلَ أمرُ القيامةِ منزلةَ الماضي المقطوعِ به؛ لاهتمامِ وقوعِه، وإما غيرُ ذلك كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، جُعِلَتْ طاعتُه طاعتُه صلواتُ الله عليه مستمرةَ الامتناعِ على سبيلِ التجدُّدِ ليفيدَ استمرارَ امتناعِ عَنَتِهم ساعةً فساعة. قولُه: (بأنِّي قد لقيتُ الغولَ)، البيتين، قبله: فمن يُنكرْ وجودَ الغولِ إني ... أُخَبِّرُ عن يَقينٍ بل عِيانِ تهوي، أي: تهبطُ، بسَهْبٍ: بفَلاةٍ واسعة، والصَّحْصحان: المكانُ المستوي من الفلاة. والجِرانُ: مُقدَّمُ عُنُقِ البَعيرِ من مَذَبَحِه إلى مَنْحَرِه والجمع: الجرن، فكذلك من الفرس. ولليدَيْن أي: على اليدَيْن، إنّما عدلَ من ((على)) إلى اللام؛ ليفيدَ أنه جعلَ اليدَ والجِرانَ للصرع، واختصَّ بهما؛ لأنّ اللامَ للاختصاصِ، كما قال في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]: وجعل ذَقْنَه ووَجْهَة للخُرورِ واختَصَّه. قولُه: (مَشاهَدةً؛ للتَّعجيب)، ((مشاهدة)): صيغةُ مفعولٍ حالٌ من الحالة.

أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بوادي أهلك محلًا ثم مررت به يهتزّ خضرًا». فقالوا: نعم. فقال: «فكذلك يحيى الله الموتى وتلك آيته في خلقه». وقيل: يحيى الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمنى الرجال، تنبت منه أجساد الخلق. [(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ)] 10 [ كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)] مريم: 81 [، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)] النساء: 139 [، فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه. وقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)] المنافقون: 8 [، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أنه قيلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يُحيي الله الموتى؟ )، الحديث مذكورٌ في ((جامع الأصول))، رواه رَزينٌ العَبْدريُّ عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تغييرٍ يسير. قولُه: (كمَنيِّ الرجال)، في حديث مسلمٍ عن عروةَ بن مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((يُنزلُ اللهُ مطرًا كأنه الطلُّ، فتنبتُ أجسادُ الناس)) الحديث. قولُه: (كان الكافرون يتعزَّزون بالأصنام)، إلى قوله: (والذينَ آمنوا بألسنتِهم كانوا يَتعزَّزون بالمشكرين)، وإلى قولِه: (فبَيَّن أن لا عزة إلا لله ولأوليائه)، وهلم جَرًّا إلى آخره. فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إشعار بأن الخطاب بقوله: {كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} مع المخالفين، والتعريف في ((العزةِ)) الأولى: للجنسِ، وفي الثانية: للاستغراق، بشهادةِ قوله: {جَمِيعًا}، وأنّ تقديمَ الخبرِ على المبتدأِ في قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} لاختصاصِ العزّةِ بالله أصالةً ورسولِه تَبَعًا باقتضاءِ المقام، ولهذا قال: ((أن لا عِزّةَ إلا لله ولأوليائِه))، وأنَّ قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} كالبيانِ لطريقِ تَحصيلِ العزّةِ وسلوكِ السبيلِ إلى نَيْلِها. واعلَمْ أنَّ في انتظام قَوْلِه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} بما قبله نظرًا دقيقًا يحتاجُ إلى فَضْلِ تأمُّل. نقلَ مُحيي السُّنة في ((تفسيره)) عن أبي العالية: أنها في الذين مكَروا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في دارِ الندوةِ، كما قال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]. وروى عن مُجاهدٍ وشَهْرِ بن حَوْشَب: هم أصحابُ الرِّبا. ومختارُ المصنِّفِ القولُ الأولُ. فحينئذٍ قولُه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية كالاستطراد والتقرير لمضمون الأولى على طريقِ الاستشهادِ والتمثيل، وفي إخراجِ الكلامِ مخرجَ الشرطِ نوعُ توبيخ وتنبيهٌ للمخاطَبين على خطأِ رأيِهم وفسادِ طريقتِهم وتَضْليلهم فيما هم فيه من طلبِ العزّةِ من غيرِ موضعِها ومكانِها، كأنه قيل: أيها الضالّون تنبَّهوا على خطئِكم وتيقَّنوا أنْ ليسَ الوصولُ إلى المطلوبِ ما أنتُم عليه من رَوْمِ العزّةِ من عندِ غيرِ الله، لأنّ العزةَ كلَّها ملكُ الله ومُختصّةٌ به وبأوليائِه، وطريقُ الوصولِ إليها الإيمانُ والعملُ الصالحُ، واعلَموا أنَّ مَنْ أعزَّهُ الله فلا مُذِلَّ له ومَنْ أذلَّه مُعزَّ له. ألا تروْنَ إلى قريشٍ حين بَذَلوا جُهَيْداهُم في إطفاءِ نورِ الله وإذلالِ مَنْ أعزَّه الله ورفَعَ مِنْ قَدْرِه، ومكَروا تلك المنكراتِ السيئاتِ من الإثباتِ والقتلِ والإخراجِ، وأبى الله إلا أن

والمعنى فليطلبها عند الله، فوضع قوله: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) موضعه؛ استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد: فليطلبها عندهم، إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه. ومعنى: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً): أنّ العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، والكلم الطيب: لا إله إلا الله. عن ابن عباس: يعنى أنّ هذه الكلم لا تقبل ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عز وجل: (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)] المطففين: 18 [، إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها. وقيل: الرافع الكلم، والمرفوع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُتمَّ نورَه، كيفَ قلبَ الأمرَ عليهم حيث أخرجَهم من مكّةَ وأبادَهم بالقتلِ في بدرٍ وأثبتَهم في قَليبِه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. وعلى أن يُرادَ بهم أصحابُ الرِّبا فالجملةُ عطفٌ على جملةِ الشرطِ والجزاء، فيجبُ حينئذٍ مراعاةُ التطابُقِ بين القرينتَيْن والتقابلِ بين الفريقَيْن بحَسبِ الإمكانِ بأن يُقَدَّرَ في كلٍّ منهما ما يحصُلُ به التقابُل بدلالةِ المذكورِ في الأولى على المتروكِ في الأخرى وبالعكس، و {يَمْكُرُونَ} على القولَيْن يجري على غيرِ حقيقتِه، فعلى الأول: حكايةٌ للحالِ الماضيةِ لتصويرِها في مشاهدةِ السامع، وعلى الثاني: مرادٌ منه الاستمرار والدوام. قولُه: (والمعنى: فليطلبها عند الله)، فوضعَ قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} موضعَه، يعني: وضعَ السببَ موضعَ المسبَّب؛ لأنَّ الطلبَ مُسبَّبٌ عن حصولها عند الله تعالى، وفي العدول -أي: ترْكِ السببِ- إلى المسبَّبِ إيذانٌ بأن المقصودَ الأَولى هو: العزّة، والطلبُ هو: الوسيلة، كما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ} [الأعراف: 160]. قولُه: (العملُ الصالحُ الذي يُحقِّقها ويُصدِّقُها)، قال صاحبُ ((الكشف)): المختار أن يرفعَ العملُ الصالحُ الكَلِمَ، دون أن تكون الهاء المنصوبة تعود إلى العمل، لأنه لو كان عائدًا إليه لكانَ ((العملُ الصالحُ)) بالنصبِ على مقتضى قول سيبويه؛ لأنه قال: إذا قُلْتَ: قامَ زيدٌ

العمل؛ لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد. وقيل: الرافع الله، والمرفوع العمل. وقيل: الكلم الطيب: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه». وفي الحديث: «لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعَمْرٌو يَضْرِبُه، كان الاختيارُ في ((عَمْرٍو)) النصب، لأنّ المصدرَ فِعلٌ وفاعل، وإنما أنَّثَ المصنِّف ضميرَ المتكلم، وفي التنزيل: مذكر؛ لوصفِه بالطيِّب؛ لأنه اعتبرَ الكَثْرة في الجنس. قال شارحُ ((الإيضاح)) لأبي عليّ: الكَلِمُ: جْمَع كَلمةٍ، وهو من أسماءِ الأجناس، وإنما يُطلقُ عليه اسمُ الجمعِ مجازًا، وهي: كتَمْرٍ وتَمرةٍ، وغيرِها من الصيغ التي بَيْن جَمْعِها وواحدِها ((الهاء)). ثم إنه لو كان جمعًا لم يخلُ إما أن يكون: جَمْعَ صحةٍ، وليس به، بكونِه بالواوِ والنون والألفِ والتاء، أو جَمْعَ تكسيرٍ، وليسَ به أيضًا، لأن مِن شأنِه أن ينكسرَ فيه الواحد، والكَلِمُ لم يتغير نَظْمُه عما عليه في واحدِه، وهو كلمة، فوضَحَ من ذلك أنه ليسَ بجَمْع، فإذا لم يكن جمعًا وهو يفيدُ الكَثْرة علِمْنا إنّ إفادة الكثرةِ من حيث إنه جنس. قولُه: (فحَيّا بها وجْهَ الرحمن)، استعارةٌ من استقبالِ المُحيّا وهو الوجْه، ومنه: التحياتُ لله. النهاية: وفي الحديث: ((إنَّ الملائكةَ قالت لآدمَ: حيّاك الله)) معناه: أبقاكَ من الحياةِ، وقيل: هو من استقبالِ المَحَيّا -وهو الوجْه- من التحية والسلام.

ولا يقبل قولًا ولا عملًا إلا بنيةٍ، ولا يقبل قولًا وعملًا ونيةً إلا بإصابة السنة». وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وقرئ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) على البناء للمفعول. و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) على تسمية الفاعل، من: أصعد. والمصعد: هو الرجل، أى: يصعد إلى الله عز وجل الكلم الطيب، وإليه يصعد الكلام الطيب. وقرئ: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عز وعلا. فإن قلت: مكر: فعل غير متعدّ، لا يقال: مكر فلان عمله، فبم نصب (السَّيِّئاتِ)؟ قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)] فاطر: 43 [، أصله والذين مكروا المكرات السيئات، أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ولا يقبلُ قولاً وعملاً إلا بنية)، يُمكنُ أن يكونَ تعريضًا بأهلِ الرياء. قيلَ: إنّ قولَه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} فيهم. نقلَ الإمامُ في ((تفسيره)) عن الأستاذِ أبي عليٍّ الدّقاق رحمَهُ الله أنه قال: علامةُ أنّ الحقّ -عزَّ اسمُه- رفعَ عمَلَك: أن لا يبقى عندَك، فإن بقِيَ عملُك في نظرِك فهو مدفوع، وإن لم يبق معك فهو مرفوع. قولُه: (إلا بإصابة السنة)، وفيه مَسْحةٌ من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، والإصابةُ هنا بمعنى المناولةِ ومتابعتها. النهاية: ((يُصيبون ما أصابَ الناسُ))، أي: ينالون ما ناولوا. ومنه الحديث: ((يُصيبُ من بعضِ نسائِه وَهو صائم)) أراد التقبيل. قولُه: (وقُرِئَ: ((إليه يُصعَد)))، كلّ هذه القراءات شواذّ، سوى {يَصْعَدُ} بفَتْحِ الياء.

في دار الندوة وتداوروا الرأى في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)] الأنفال: 30 [. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) يعنى: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، أى: يكسد ويفسد، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعًا، وحقق فيهم قوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ)] الأنفال: 30 [، وقوله: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)] فاطر: 43 [. [وَالله خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ)] 11 [ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (في دار الندوة)، هي الدار التي بناها قُصَيٌّ بمكّةَ كانوا يجتمعون فيها للمُشاورة، يقال: ندَوْتُ القومَ، أي: جمعْتُم. قولُهك (إما إثباتُه)، المغرب: أثبتَ الجَريح: أوْهَنه حتى لا يقدِرَ على الحِراك، ومنه قولُ محمد: أثبته الأول وذفف عليه الثاني، وفي التنزيل: {لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30]، ليجرحوك جراحة لا تقوم معها. قولُه: (يبورُ، أي: يكسد)، الأساس: فلانٌ له نوره وعليك بروُه، أي: هلاكُه. ومن المجاز: بارَتِ البِياعاتُ؛ كسَدَت، وبارتِ الأرضُ؛ إذا لم تُزْرَعْ، وأرضٌ بَوار. وقال الراغب: البَوار: فَرْطُ الكَساد، ولمّا كان فرطُ الكسادِ يؤدِّي إلى الفسادِ، كما قيل: كَسدَ حتى فَسد، عَبَّر بالبوارِ عن الهَلاك، قال تعالى: {تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}. وقلت: {لَّن تَبُورَ} على هذا ترشيحٌ لاستعارةِ التجارةِ بمزاولةِ الطاعة، وعلى ما في ((الأساس)) يقربُ أن يكونَ تجريدًا لها.

(أَزْواجاً) أصنافًا، أو ذكرانًا وإناثًا، كقوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً)] الشورى: 50 [، وعن قتادة: زوج بعضهم بعضًا. (بِعِلْمِهِ) في موضع الحال، أى: إلا معلومة له. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ)؟ قلت: معناه: وما يعمر من أحد. وإنما سماه معمرًا بما هو صائر إليه. فإن قلت: الإنسان إما معمر، أى: طويل العمر، أو منقوص العمر، أى: قصيره. فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال، فكيف صح قوله: (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ)؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالًا على تسديدهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (إلا معلومة)، أي: هو حالٌ من {أُنثَى} فاعل {تَحْمِلُ} و {تَضَعُ}، و ((مِنْ)) زائدة، لأنّ ((ما)) نافية. فإن قلت: سياقُ الكلام يقتضي أن يكونَ حالاً من المحمولِ والموضوعِ لأنهما مفعولانِ مُقدَّرانِ، والكلام فيهما لا في الأنثى، لقوله: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} و {جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}. قلت: لا يخلو المُقدَّرُ أن يكونَ منويًا أوْ لا، فإن كان الثاني فلا يقَعُ عنه الحالُ، وإن كانَ الأول فإثباتُ العلْمِ على المحمولِ والموضوعِ بإثباتِ العلم بالحاملِ والواضعِ لأجْلِها أبلَغُ من إثباتِه لهما ابتداءً، كما سبق في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]، والذي يَقتضيه مقامُ الخطابِ بقولهِ: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} وقوله: {جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} هذا الثاني كما سَيجيء. قولُه: (هذا من الكَلام المُتسامَح فيه، ثقةً في تأويلهِ بأفهامِ السامعين) وعن بعضِهم: مثالُه قولُ القائل: له عليَّ درهمٌ ونِصْفُه، فإنّ الضميرَ يعودُ إلى درهمٍ آخر. وفي ((المطلع)): قال الفرّاء: يريد آخرَ غيرَ الأولِ فكَنى عنه كأنه الأولُ، لأنّ لفْظَ الثاني لو ظهر كان كالأول، وجازَ لأمنِ الإلباسٍ، كأنه قيل: لا يطولُ عُمُر أحدٍ ولا ينقُصُ من عُمرِ أحدٍ، وهذا كما يقال: ما تنعَّمُتُ بلدًا ولا اجتَويتُه، أي: اجتويْتُ بلدًا آخر.

معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض؛ يقولون: لا يثيب الله عبدًا، ولا يعاقبه إلا بحق. وما تنعمت بلدًا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى. وفيه تأويل آخر: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: النَّعْمة بالفَتْح: التنعّم، يقال: نَعّمه الله فتنَعَّم، ويقال: أتيتُ أرضَ فلان فتنَعَّمَتْني: إذا وافَقته، واجتويتُ المقام: إذا كرِهْتَ المُقامَ فيه. قولُه: (لا يُثيب الله)، إلى آخره، فيه اعتزالٌ خَفِيٌّ وذلك أن مذهبَهم: أن استحقاقَ العقابِ بالكبيرةِ يحبطُ استحقاقَ الثوابِ بالطاعة، فعلى هذا لا يجتمعُ الثوابُ والعقابُ في شخص واحد، وأما عندَ أهلِ السّنةِ فلا يبعُدُ ذلك، لأن أهلَ النارِ من العاصِين لا يُخلَّدون فيها. وقال القاضي: المعنى: ما يُمَدُّ من عُمرٍ يُصَيِّرهُ إلى الكِبَرِ ولا يُنْقِصُ من عمرِ المنقوصِ عُمُرُه بجَعْلِه ناقصًا، والضميرُ له وإن لم يُذكر لدلالةِ مقابلِه عليه. وهذا قريبٌ من الوجهِ الأول في المعنى. قولهُ: (وفيه تأويلٌ آخَرُ)، إلى آخره. وقلت: القولُ الجامعُ فيه يظهَرُ من بيانِ النظمِ والعلمُ عند الله؛ وذلكَ أنه عزَّ وجلَّ ذكرَ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ سائرَ أحوالِ الإنسانِ وتَقلُّبَه في أطوارٍ مختلفةٍ مما هو أصولُها ويُعرفُ منه توابعُها ولواحقُها على مراتبَ ثلاثٍ كما هو عليه في الوجود، وسُلِكَ فيه فنٌّ غريبٌ وأسلوبٌ عجيب، حيثُ أُخْرِجَ في جُملٍ ثلاثٍ على طريقٍ يُنبئُ عن صفاتِ جَلالِه وحُسنِ تدبيرِه مِنَ القُدرةِ الكاملةِ والعلم الشاملِ وثبوتِ القضاءِ والقدرِ بحَسب تلك المراتب، فبدأَ أوّلاً بقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} إظهارًا لتصرُّفهِ فيه تلك الأطوار، وثَنّى بقولِه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} بيانًا للطْفِ علْمِه ونفوذِه فيما هو مِن أدقِّ أحوالِ الإنسانِ من عُلْقَةِ النطفةِ حينَ المباشرةِ واستقرارها في مكانة الرحِم، ثم ما تكابدُ الأنثى من ثِقَلِ الحمْلِ ومُقاساةِ شِدَّتِه وما يَجري عليها عند الوضع من وجع المَخاض، وما تلَطَّفَ عليها من الخلاصِ من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تلك الورطةِ المُهلكة، وثَلَّث بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ} على إرادةِ وما يُعَمَّرُ منكم أيُّها الإنسان مَنْ يُعَمَّرُ {لَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} إثباتًا لقضائهِ وقَدَرِه وأنَّ ما هو من خويصّةِ الإنسانِ الذي هو أعظمُ مطالبِه ليس إليه بل إلى الله وإلى قضائه، وأنه مُثبتٌ عنده لا يزيدُ ولا ينقصُ عما هو عليه {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. فعُلِمَ من قولِنا خُوَيْصّةِ الإنسانِ أنَّ ((مُعمَّرًا)) محمولٌ على الجنس، أي: ما مِنْ شأنِه أن يُعَمَّرَ وأن يُنْقَصَ من عُمرِه وإليه يُنظر قولُ أبي الطيب: ومَقانبٍ بمَقانبٍ غادَرْتها ... أقواتُ وحشٍ كُنَّ من أقواتها فإنّ الوحشَ منها جنسٌ شائعٌ في مأكولِ اللحم وغيرِه شَرْعاً؛ ليصحَّ أن يكونَ قوتًا للإنسانِ، والإنسانُ له أحرى وإلا لَزِمَ أن يكونَ الأكلُ عَيْنَ المأكول، ولأنّ عوْدَ الضميرِ من ((كُنَّ)) إلى الوحشِ يوجبُ أن يكونَ جِنسًا. وإما بمعنى الزيادةِ في العمرِ بالصدقةِ وصلَةِ الرحِمِ على ما وردَ عليه الألفاظُ النبوية فَبيانٌ وإعلامٌ لما قُدِّرَ في الكتابِ من مَدِّ العَمرِ ونُقصانِه وما يتَّصلُ بهما من الأسبابِ المُثبتةِ فيه وينصرُه ما رَوَيْنا عن التِّرمذي عن أبي خِزامةَ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ رُقي نَسْترقي بها، ودواءً نَتداوى بها، وتقاةً نتَّقيها هل تَردُّ مِن قَدَرِ الله شيئا؟ قال: ((هو مِنْ قَدَر الله)). وأما معنى قولِ كعب: فهو أنَّ عمرَ رضيَ الله عنه لو دَعا الله ووافَقه القَدرُ لأُخِّرَ في أجَلِه لأنه كان رفيعَ القَدْرِ مُستجابَ الدعوة. ونَحْوُه ما رَوى البخاريُّ ومُسلم وأبو داودَ والنَّسائي عن أنس بن مالك: أنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّتَه كَسَرتْ ثَنِيّةَ جاريةٍ فطلبوا إليها العَفْوَ فأَبوْا، فعَرضوا الأَرْشَ، فأَتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبَوْا إلا القِصاص، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقِصاص، فقال أنسُ ابنُ النَّضْر: يا رسولَ الله أتُكْسَرُ ثَنِيّةُ الرُّبَيِّعِ؟ ! لا والذي بعثَك بالحقِّ لا تُكْسَرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثَنِيُّتُها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أنسُ، أليسَ كتابَ الله القِصاصُ؟ فرضِيَ القوم فعفَوْا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِنْ عبادِ الله مَنْ لو أقسَمَ على الله لأبرَّه))، هذه روايةُ البخاريِّ، وروى مسلمٌ قريبًا منه. وأما قولُه: فقد قال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} في جواب من قال: أليس قد قال الله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، فتفسيرُه ما روى مُحيي السُّنة في ((المعالم)) بعد هذا المذكورِ في ((الكشاف)): فقيل له: إنّ الله يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فقال: هذا إذا حضرَ الأجلُ، فأمّا ما قبلَ ذلك فيجوزُ أن يُزادَ ويُنقَصَ، وقرأ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. وروى الشيخُ مُحيي الدِّين في ((شرح صحيح مسلم)) عن بعضِ العُلماءِ أنه قال: قد تقرَّرَ بالدلائلِ القاطعةِ أنّ الله تعالى عالمٌ بالآجالِ والأرزاقِ وغيرِها، وحقيقةُ العلم: معرفةُ المعلومِ على ما هو به، فإذا علِمَ الله تعالى أنَّ زيدًا يموتُ سنةَ خمس مئةٍ استحالَ أن يموتَ قبْلَها أَو بعْدَها، فاستحالَ أنّ الآجالَ التي عليها عِلْمُ الله أن تزيدَ أو تنقصُ، فتعيَّن تأويلُ الزيادةِ أنّها بالنسبةِ إلى ملَكِ الموتِ أو غيرِه ممّن وكِّلَ بقَبْضِ الأرواحِ وأمرَهُ بآجالٍ محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمُرَه بذلك أو يثبتَ في اللوح المحفوظ ينقصُ منه أو يزيدُ على ما سبقَ به علمُه في كلِّ شيء، وهو معنى قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وعلى ما ذكرناه يُحملُ قولُه: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2]. وقال الراغب: القضاءُ من الله أخصُّ من القدر؛ لأنّه الفَصْلَ بين التقدير، والقدر هو التقدير، والقضاء هو التفصيلُ والقطع، وقد ذكر بعضُ العلماءِ أنَّ القَدَر بمَنزلة المُعَدِّ للكَيْل، والقضاء بمنزلة الكيل، ولهذا قال أبو عُبيدةَ لعُمر رضيَ الله عنهما لما أرادَ الفِرار من الطاعون بالشام: أتفِرُّ من القضاء؟ قال: أفِرُّ مِن قَضاءِ الله إلى قَدَرِ الله، تنبيهًا على أنّ القَدَر

وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية، وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار، وتزيدان في الأعمار» وعن كعب: أنه قال حين طعن عمر رضى الله عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله، فقيل لكعب: أليس قد قال الله: (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)] يونس: 49 [؟ قال: فقد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما لم يكن قَضاءً فمرجُوٌّ أن يدفَعَه الله فإذا قُضِيَ فلا مَدْفَع له ويشهَدُ لذلك قوله عز وجل: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21، ] وقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71]، تنبيهًا على أنه صار بحيثُ لا يُمكنُ تَلافيه. وقلت: ذكر صاحبُ ((التاريخ الكامل)): أن عُمَر بن الخطاب رضِي اللهُ عنهُ قَدِم الشامَ، فلما كان بسَرْغٍ لقيَه أُمراءُ الأجنادِ فيهم أبو عبيدة بن الجرّاح، فأخبروه بالوَباءِ وشِدّتِه، وكان معه المهاجرون والأنصار فاستشارهُم فاختلفوا عليه، فنادى عمرُ في الناس: إني مُصْبِحٌ على ظَهْرٍ، فقال أبو عُبيدة: أفرارًا من قدرِ الله تعالى؟ فقال عمر: لو غيرُك قالَها يا أبا عُبيدة! نَعم نفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيْتَ لو كان لك إبِلٌ فهَبَطْتَ واديًا له عُدْوتان: إحداهما: خِصْبة، والأُخرى: جَدْبة، أليسَ إن رعَيْتَها الخِصْبَة رعَيْتها بقَدرِ الله، وإن رعَيْتَ الجَدْبَة رعَيْتَها بقَدرِ الله تعالى، فسمِعَ بهم عبدُ الرحمن بن عوف فأخبرَه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمِعْتُم بهذا الوباءِ ببلدٍ فلا تخرُجوا فرارًا منهُ)) فانصرفَ عُمر بالناسِ إلى المدينة. والروايةُ الأخيرةُ أخرجَها البخاريّ ومسلم في ((صحيحَيْهِما))، والأولى مختصرةٌ من ((صحيحِ البخاريِ)) عن ابن عباس.

قال الله: (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ). وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك، وفسخ في مدتك، وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يكتب في الصحيفة: عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتى على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. والكتاب: اللوح. عن ابن عباس رضى الله عنهما: ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله، أو صحيفة الإنسان. وقرئ: (ولا ينقص) على تسمية الفاعل. (من عمره) بالتخفيف. [(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)] 12 [ ضرب البحرين -العذب والملح- مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه: (وَمِنْ كُلٍّ)، أى: ومن كل واحد منهما (تَاكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا): وهو السمك، (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (العَذْبَ والمِلْح)، الراغب: المِلْح: الماءُ الذي تغيَّرَ طَعْمُه التغيُّرَ المَعْروف وتَجمَّدَ، ويُقالُ له: ملح إذا تغيَّرَ طعْمُه وإن لم يتجمّد، فيقال: ماءٌ مِلْحٌ، وقلّما تقولُ العربُ: ماءٌ مالحٌ، قال تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}، وملّحْتُ القدْرَ: ألقيْتُ فيها المِلْحَ، ثم استُعيرَ من لفظِ الملْحِ المَلاحة، فقيل: رجُلٌ مَليحٌ وذلك راجعٌ إلى حسنٍ يغمضُ إدراكه. قولُه: (على سبيلِ الاستطرادِ)، عن بعضِهم: وذلك لأنّه لما ضربَ البَحْرَ الملْحَ مثلاً للكافرِ وكان لا يناسبُ وَصْفَه بما يشعرُ بمَدْحِه؛ لأنه في معرضِ الذمِّ، استعذرَ بأنّه على سبيلِ الاستطرادِ، مثالُه: أن يذهبَ الرجلُ إلى موضعٍ مخصوصٍ صائدًا، فيعرضُ له صيدٌ آخر، فاشتغلَ به، فأعرضَ عن الصيدِ الأولِ، وفيه بحث.

وهي اللؤلؤ والمرجان. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ): في كل (مَواخِرَ): شواق للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب: بنات مخر، لأنها تمخر الهواء. والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره. (مِنْ فَضْلِهِ): من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية، ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل؛ لدلالة المعنى عليه. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنما قيل: لتبتغوا، ولتشكروا. والفرات: الذي يكسر العطش. والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته. وقرئ: (سيغ) بوزن سيد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (بناتُ مَخْرٍ)، عن بعضِهم: بناتُ مَخْرٍ: سحائبُ رِقاقٌ بيضٌ ينشأن في أيامِ الربيع، ويقال: بناتُ بَحْرٍ، بالباءِ والحاءِ المهملة؛ لأن معناه السقّ، يقال: شَقّه، أي: قَشَره، والسَّفْن: الذي اشتُقَّت منه السفينة. الجوهري: السَّفن: ما يُنْحَتُ به الشيء، قال: وأنتَ في كَفِّك المِبْراةُ والسَّفَن أي: أنتَ نَجّار. وفي ((الأساس)): بَرى العودَ بالسَّفَن، وهو مِبراةُ السِّهام، ومنه السفينة؛ لأنها تسفِنُ الماءَ كما تَمْخُرُه. قولُه: (وحرفُ الرجاءِ مستعار لمعنى الإرادة)، أو هو تمثيلٌ، شَبَّه معاملتَه مع المكلَّفين فيما منحَهم من الاختبارِ الظاهرِ وابتلائِهم بالبلوى بصورةِ مَنْ يرجو ويأمُل، وإنما خولفَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، أي: {لِنَبْتَغُوا} و {لَعَلَّكُمْ}، ليؤذِنَ بأنّ المرادَ بالشكر: العبادةُ والتقوى، كقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وليس كذلك ابتغاءُ الفضلِ، فناسبَ أن يُجاءَ في كُلٍّ بما يُناسبه. قولُه: (والفُراتُ: الذي يكسِرُ العطش)، الراغب: الفراتُ: الماءُ العَذْب. يقالُ للواحدِ

و (سيغ) بالتخفيف؛ و (ملح): على فعل. والأجاج: الذي يحرق بملوحته. ويحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجمعِ. والأُجاجُ: شديدُ الملوحة والحَرارةِ، مِن قولهم: أجيج النار وأَجَّتها، وقد أجَّت، وائتجّ النهار، ويأجوجُ ومأجوجُ منه شُبِّهوا بالنارِ المضطرمةِ والمياهِ المتوّجة؛ لكثرة اضطرابِهم، وأجّ الظَّليم: إذا عدا أجيجًا تشبيهًا بأجيجِ النار. قولُه: (ويحتملُ غيرَ طريقة الاستطراد)، وفي اتصال {وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ} بما قَبْلَه وجوه: أحدُهما: أن يكونَ مُستطرَدًا وذلك إذا لم يُنظر إلى التمثيلِ أي: المُمثَّل والمُمثَّلِ به بل إلى نفس المُمثَّلِ به فلما قيل: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أوردَ قوله: {وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} في الذكرِ من غيرِ قَصْد، ولما كان له نوعُ تعلَّقٍ بأصلِ الكلام أي: ما عُطِفَ عليه وهو الممثَّلُ به بالواو. وثانيها: أن يكونَ ترشيحًا للاستعارةِ، لأنه تفريعٌ على المستعار منه بعد الفراغِ من الاستعارة، ومُصَحِّحُه خَلْقُ النفع في المُشَبَّه دون المُشَبَّه به، وموقعُه موقعُ التتميم صيانةً لحقِّ البحرِ لأنّ في تشبيهِ الكافرِ بالبحْرِ المالح إيذانًا بهَضْمِ جانبهِ، وهو المُراد مِنْ قوله: أن يُشَبَّه الجنسَيْن بالبحرَيْن، ثم يفضِّلَ البَحْرَ الأجاجَ على الكافر. نظيرُه في الاستدراك صيانةُ قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74]. وثالثها: أن يكونَ من تَتِمّةِ التمثيل: إمّا مُركَّبٌ وَهْمي، أو مُركَّبٌ عقلي، وعلى الأولِ كانَ مُفردًا عَقْليًّا. قال القاضي: وهو استطرادٌ أو هو تمامُ التمثيلِ. والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات؛ لأنه خالط أحد الماءين ما أفسده وغَيَّر مِن كمال فِطْرته، وكذا لا يساوي المؤمنُ الكافرَ وإن اتفقَ اشتراكُهما في بعض الصفاتِ

على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجرى الفلك فيه، والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)] البقرة: 74 [، ثم قال: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله)] البقرة: 74 [. [(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)] 13 [ (ذلِكُمُ) مبتدأ، و (الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أخبار مترادفة. أو (الله رَبُّكُمْ) خبران، و (له الملك) جملة مبتدأة واقعة في قران قوله: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كالشجاعةِ والسَّخاوةِ والعِفّةِ، لاختلافِهما فيما هو الخاصِّيةُ العُظمى وبقاءِ أحدِهما على الفطرةِ الأصليةِ دون الآخر. قولُه: ({وَلَهُ الْمُلْكُ} جملةٌ مبتدأة واقعة في قِرانِ قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ})، وعلى الأول داخلٌ في حَيِّزِ الحُكمِ المُعَلَّل، أي: ذلكم الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ التي أُجرِيَت عليه مُستَحق؛ لِأنْ يُعبَد ويُتَّخَذَ مالكًا، ويُخَّصّ بالعبادةِ دونَ الغير، فقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} عطف على: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} وعلى الثاني قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} يكون مستأنفا مُقَرِّرًا للجُملِ السابقة من قوله: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ} وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ}، ويكون قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} حالاً من الضميرِ المستَقرِّ في الظرف.

الإشارة، أو عطف بيان، و (ربكم) خبرا لولا أن المعنى يأباه. والقطمير: لفافة النواة؛ وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها. [(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)] 14 [ إن تدعوا الأوثان (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ)؛ لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض والتمثيل لـ (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ)؛ لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية، ويتبرءون منها. وقيل: ما نفعوكم: (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ): ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به. يريد: أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لولا أنّ المعنى يأباه)، عن بعضِهم: إنما يأباه؛ لأن {ذَلِكُمُ} إشارةٌ إلى معلومٍ سبقَ ذكْرُه، وكونُه صِفةً أو عطفَ بيانٍ يقتضي أن يكونَ فيما سبقَ ضَرْبُ إبهام، وفيه نظر بحَسبِ كونِه صفة، وأما جَعْلُه عطفَ بيانٍ ففيه تخييلٌ للشركة، ألا ترى إذا قلت: ذلك الرجلُ سَيِّدُك، ففيه نوْعُ شركة؛ لأنّ ((ذا)) اسمٌ مُبهَمٌ ثم تُبيِّنُه. وقلتُ: ويُمكنُ أن يقال: إنّ المشارَ إليه الإشارةِ ما سبق، كما قررناه آنفًا، ولو جُعِلَ موصوفًا أو مُبيَّنًا لكان المشارُ إليه ما بعْدَه، فلا يبقى ذلك الترتيبُ المُعتبر، وهو أنّ ما قبله جَديرٌ بما بعدَه لأجل إجراءِ تلك الصفاتِ عليه، إذ المعنى: ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ الممُيَّزةِ والنعوتِ الكاملةِ هو العبودُ المستحِقُّ للعبادةِ المالكُ المُتفرِّدُ بالإلهية، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، وفيه: أنْ ليسَ كلُّ ما يصحُّ إعرابًا كان وَجْهًا؛ لأنّ الإعرابَ تابعٌ للمعاني ولا ينعكس. قولُه: (وقيل: ما نفعوكم)، عَطْفٌ على قولِه: {لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} لأنهم جَماد، أي: ما نَفعوكم لعدمِ قُدرتِهم على شيء، وذلك أنّ المرادَ بالدعاءِ طلبُ النفع. قولُه: (يريدُ أنّ الخبيرَ بالأمرِ وحده هو الذي يخبرُك بالحقيقة)، هذا الاختصاصُ يُفيده

الأوثان هو الحق؛ لأنى خبير بما أخبرت به. وقرئ: (يدعون)، بالياء والتاء. [(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ)] 15 - 17 [ فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم؛ لأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لفظُ {مِثْلُ}، ووَضْعُ {خَبِيرٍ} موضعَ المَضْمَر، قال مُحيي السُّنّة: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: لا يُنبِّئُك أحدٌ مثلي خَبير. وقلتُ: نظيرُه ما إذا أخبرَكَ بالأمرِ مُخبرٌ صادقٌ مُتقِنٌ في الأمور، ثم قالَ بعْدَه: ما يُخبركَ به مِثْلُ خبير، أي: مثلي، يعني: أنا مُختصٌّ به فلا تسأَلْ عن غيري، فالمعنى: لا يُخْبِرُ بالأمرِ مُخبرٌ هو مثْلُ الخبيرِ العالمِ الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا يعزُبُ عن عِلْمِه مثقالُ ذرّة. قولُه: (وقُرِئَ: {تَدْعُونَ} بالتاء والياء)، بالتاءِ الفوقانية: العامة، والياءُ: شاذّة. قولُه: (أن يُرِيَهم أنَّهم لشدَّةِ افتقارِهم إليه هم جنسُ الفقراء)، يريد: أنه تعالى أوقعَ الفقراءَ خبرًا لـ {أَنتُمُ} وهو محلّى بلامِ الجنسِ وهو يفيدُ الاختصاص، وأنّ غيرَهم من المخلوقاتِ ليس كذلك، وليسَ كذلك؛ لأنّ الخلائقَ كلَّهم مُفْتَقرون إليه، لكنْ سلكَ فيه المبالغةَ وأن افتقارَ غيرِهم بالنِّسبةِ إلى افتقارِهم كَلا افتقار، وإليه الإشارةُ بقوله: ((وإن كانتِ الخلائقُ كلُّهم مُفْتقرين إليه)). قال صاحب ((الفرائد)): الوجه أن يُقالَ -والله أعلم-: المرادُ الناسُ وغيرُهم، وهو على طريقةِ تغليبِ الحاضرِ على الغائبِ وأُولى العلْمِ على غيرهم، كما في قولِه تعالى: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11]، يريدُ أولي العقل وغَيْرَهم، وهو كما أنَّ واحدًا من

الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)] النساء: 28 [، وقال: (الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)] الروم: 54 [؛ ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل (الفقراء) بـ (الغنى)، فما فائدة (الحميد)؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعًا بغناه إلا إذا كان الغنىّ جوادًا منعمًا، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم، واستحق عليهم الحمد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القومِ حاضرٌ وهو زيد، وبقيَّتُهم غيرُ حاضرين فقالَ له مَنْ هو حاكمٌ على القوم بعد أن عَدَّ عليه نِعَمَه في حقِّ القوم وأظهَرَ لأنهم لا يمتثِلون أمْرَهُ ولا يمتنعون عما نهاه: يا زَيْدُ أنتُم المحتاجونَ إليَّ في حصولِ فائدةِ ما أمرتُكم به وحصولِ فائدةِ ما نهيتُكم عنه، وفي غيرِهما من كل الوجوه، لا أنا محتاجٌ إليكم في حصولِ فائدتِهما أو في شيءٍ غيرِهما، لأني غَنِيٌّ على الإطلاق، حَميدٌ على الإطلاق، لا يرجعُ إليَّ نفْعٌ من أمثالِكم ولا مَذَمّةٌ من تقصيرِكم، وبعضُهم غيرُ مأمورٍ وغيرُ مَنْهيّ، إلا أنَّ الكلَّ مُفْتقرٌ إليه من جميعِ الوجوه، وهو غنيٌّ عن الكلِّ بجميعِ الوجوهِ، وهو الذي أرادَ مِن قوله: {أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} والله الهادي. وقلت: الذي يقتضيهِ النظمُ -والله أعلم-: أن يُحملَ التعريفُ في {الْنَّاسُ} على العهد، وفي {الْفُقَرَاءُ} على الجنس؛ لأنّ المخاطبينَ هم الذين خوطبوا في قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي: ذلكم المعبودُ وهو الذي وُصِفَ بصفاتِ الجلالِ لا الذين تدعون من دونِه، وأنتُم أشدُّ الخلائق احتياجًا إليه، وهو غنيٌّ عنكم وعن عبادتِكم؛ لأنه حَميدٌ يحمَدونه وإن لم تَحْمدوه أنتم، وهو المرادُ من قوله: ((الحميد على ألسنةِ مؤمنيهم))، ويؤيِّدُه قولُه: {إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وتَفْسيرُه بقولِه: وهذا غَضَبٌ عليهم لاتخاذِهم له أندادًا، ولأنّ القَصْدَ من الإيرادِ إظهارُ كمالِ استغنائِهم عما يَدْعونه من دونِ الله وكمالِ افتقارِهم إلى الله عزَّ وجلّ، وغايةِ عَجْزِهم وعِظَمِ قُدرتِه.

ذكر الحميد؛ ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه. (الحميد) على ألسنة مؤمنيهم. (بِعَزِيز): ٍ بممتنع، وهذا غضب عليهم؛ لاتخاذهم له أندادًا، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)] محمد: 38 [، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئًا. [(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ)] 18 [ الوزر والوقر أخوان؛ ووزر الشيء: إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولى، والجار بالجار. فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل (وازرة)؟ قلت: لأن المعنى: أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها. فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ذكرَ الحَميدَ؛ ليدلَّ به على أنَّه الغنيُّ النافع بغِناه خَلْقَه)، وهو من التكميلِ، كقولِ كَعْب الغَنَوي: حليمٌ إذا ما الحِلْمُ زَيَّنَ أهْلَه ... مع الحِلْمِ في عَيْنِ العَدوِّ مَهيبُ فإنّه رأى أنَّ الوصفَ بمُجَرَّدِ الحِلْم غيرُ واف، فكَمَّل بقَوْله: ((في عَيْنِ العدوِّ مَهيب)). قولُه: (لا ترى منهنَّ واحدةً إلا حاملةً وزْرَها، لا وِزْرَ غيرِها)، هو مثلُ قَوْلك: ما زيدٌ إلا قائمٌ لا قاعد.

قوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ)] العنكبوت: 13 [؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ)] العنكبوت: 12 [بقوله: (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ)] العنكبوت: 12 [؟ فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وبين معنى (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ)؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسًا بغير ذنبها، والثاني: في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفسًا قد أثقلها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ما الفرْقُ بين معنى قولِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ}) إلى آخره، توجيهُ السؤالِ أن يُقال: إذا كان معنى الأول: أنّ النفوسَ الوازراتِ لا ترى منهنَّ واحدةً إلا حاملةً وِزْرَها لا وِزْرَ غيرِها، وكان معنى الثاني: أنَّ النفسَ المُثقلَة بذنوبِها إن تَدْعُ نَفْسًا أخرى وندبت إلى حْمْلِها لا تحمِلُ ثِقَلَها رجعا إلى معنى واحد، فما الفرق؟ وأجاب: أنّ المقصودَ في الإيراد مفهومُهما وإظهارُ وصفَيْن من أوصافِ بارئِهما، دلَّ الأول على ظهورِ عَدْلِ الله، والثاني على ظهورِ الهيبةِ والجلال على طريقِ الكناية، كقولِه تعالى: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والمقام يَقْتضيه، لأنه لما قيل: {إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إظهارًا لغضبِه على المشركين، وأنه لا أحدَ يمنَعُهم من إمضاءِ قَهْرِه عليهم، وأتبَعَه بذكَرِ أهوالِ يومِ القيامة، فدَلَّ قولُه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} على عَدْلِه وأنه إن أهلكَهم فبشُؤم عَملِهم: مِنْ كفرِهم بآياتِ الله واتخاذِهم له أندادًا، لأنّ مِنْ شأنِ عَدْلِه عزَّ وجلَّ أن لا يؤاخِذَ نفسًا إلا بذَنْبِها لا بذَنْبِ غيرِها، ومِنْ شأنِ عِزَّتِه أن لا يمنَعَه أحد عند صَدماتِ جلاله عما أراد وشاء، وإليه الإشارةُ بقوله: (({بِعَزِيزٍ}: بممتنع)).

إلام أسند (كان) في (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)؟ قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ). فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت: ليعمّ ويشمل كل مدعوّ. فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة. قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ: (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) على "كان" التامّة، كقوله: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ)] البقرة: 290 [؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأنّ المعنى على أن المثقلة إن دعت أحدًا إلى حملها لا يحمل منه، وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى؛ لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه، على أنّ هاهنا ما ساغ أن يستتر له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (إلامَ أسندَ) هذا السؤالُ والجوابُ مُستدركٌ لقوله آنفًا: ((وإن كانَ المدعوُّ بعْضَ قرابتِها)). قولُه: (فلِمَ تُركَ ذكْرُ المَدْعوِّ؟ )، أي: مفعول {تَدْعُ} في قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}. قولُه: (ليعمَّ ويشمَلَ كلَّ مَدْعوٍّ) أي: ممن يصحُّ أن يُدعى نحو المعبودِ بالحق والجن والإنس، ومما لا يصحُّ أن يُدْعى مثل الأصنام وغيرِها، ولو قُدِّرَ شيءٌ من ذلك لاختصَّ به ولفاتَ العُمومُ المراد. قولُه: (ولا يصحُّ أن يكونَ العامُّ ذا قربى)، يريد: أنَّ خبرَ {كَانَ}: {ذَا قُرْبَى}، فإذا جُعِلَ اسمُه أعمَّ منه لا يصحُّ حَمْلُه عليه. وخلاصةُ الجواب: أنَّ العامَّ على نوعَيْن: عامٌّ على وَجْهِ الشمول، وعامٌّ على وَجْهِ البدَل، والمرادُ هنا الثاني، فيكونُ المعنى: وإن تَدْعُ النفسُ المُثقَلةُ الناس: إمّا هذا وإما ذلك، لا يُحمَلُ منه شيءٌ وإن كان ذلك المَدْعوُّ ذا قُرْبى. قولُه: (لتفكّكَ وخرج عن اتِّساقه)، لأنَّ الجملةَ الشرطيةَ كالتتميمِ والمبالغةِ في أنْ لا غِياثَ البتّةَ، ولو قُدِّرَ المَدْعوُّ ذا قربى. روى مُحيي السُّنة: عن ابن عباس: يلقي الأبُ والأمُّ ابنَه فيقول: يا بُنيَّ احمِلْ عني

ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته. (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول، أى: يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائبًا عنهم. وقيل: بالغيب في السر. وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها منارًا منصوبًا وعلمًا مرفوعًا، يعنى: إنما تقدرعلى إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم. (وَمَنْ تَزَكَّى): ومن تطهر بفعل الطاعات وترك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضَ ذُنوبي، فيقول: لا أستطيعُ حَسْبي ما عليّ. إذ لو قلت: إنْ تدْعُ النفسُ المثقلةُ إلى تخفيفِ ما عليها لا تجد أحدًا يُساعده، ولو وُجدَ ذا قُرْبى لا يحسُنُ ذلك الحُسْن. قولُه: (بخلافِ ما أوْرَدْتُه)، يعني: في قولِه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]، و ((ما)) في ((ما ساغَ)) بمعنى: الذي. قيل: وفيه نَظَر، لأنه يجوزُ أن يُقال: وإن كان الغَريمُ ذا عُسْرةٍ لدلالةِ السياق. نعَمْ يصحُّ أن يُقال: الإضمارُ هاهنا أوْلى لدلالِة ((إن تَدْعُ)) على المدعوِّ، بخلافِه ثَمَةَ، لأنه ليسَ في اللفظِ ما يدلُّ على الغريمِ، ولذلك لم يُقْرا في المشهورةِ هنا بالرفعِ وهُناكَ بالنصب. وعن بعضِهم: المعنى أنَّ مُسوِّغَ الاستتارِ هاهنا بخلافِ المُسوِّغ في {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]، لأنه هاهنا جُملةٌ اعتراضية فارتبطَتْ بما قبْلَها، وفي تلك مُنقطعةٌ عما قَبْلها، بدليلِ ذكْرِ جوابِه لفظًا وهو {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. قولُه: (إنّما تَقْدِرُ على إنذارِ هؤلاء [وتحذيرهم] مِن قومِك .... دون متمرِّديهم)، إشارةٌ إلى أنّ بيانَ مواقع استعمالِه، لأن ((إنّما)) يُستعملُ في حُكْمٍ لا يُعْوِزُ تَحْقيقُه، ولا يخفى على مَنْ به مُسْكة أنّ الإنذارَ إنما يكون إنذارًا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله والبعثِ والقيامةِ وأهوالِها، لا مع غَيْرِه. وبيانُه: أنه تعالى لما أظهرَ غَضَبَه على من اتَّخَذ من دونِ الله أندادًا بقوله: {إِن يَشَأ

المعاصي. وقرئ: (ومن ازكى فإنما يزكى)، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة؛ لأنهما من جملة التزكى. (وَإِلَى الله الْمَصِيرُ) وعد للمتزكين بالثواب. فإن قلت: كيف اتصل قوله: (إِنَّما تُنْذِرُ) بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله: (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال: (إِنَّما تُنْذِر) كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع؛ فنزل (إِنَّما تُنْذِرُ)، أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم. [(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ)] 19 - 23 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يُذْهِبْكُمْ} وأتبعَه الإنذارَ بيومِ القيامة وأهوالِها التفتَ إلى حبيبِه صلواتُ الله عليه ناعيًا له تمرُّدَهم وعِنادَهم وأنَّ الوعْظَ لا يُنْجِعُ فيهم، لأنَّهم لا يخافونَ عقابَه لأنهم جُهّالٌ لا يتفكَّرون في العاقبة، وإنما يُنْجِعُ فيمن يُوقنُ أنَّه لا بدَّ من المصيرِ إلى الله فيَخْشى عِقابَه وإليه ينظر قولُه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. قولُه: (مِن قومك) أي: مِن جَملةِ قومِك ومن بينهم، قيل: ((مِنْ)) للتبعيضِ، وهو حالٌ إمّا من قولِه: ((هؤلاء)): أو مِن ((هُم)) في ((تحذيرِهم))، والوجْهُ أن يكونَ المشارُ إليه بقولِه: ((هؤلاءِ)): {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم}، و ((مِن قومِك)) بيانٌ لاسمِ الإشارة حالٌ منه. وقلت: وإذا جُعِلَ ((مِنْ)) تبعيضًا، فالظاهرُ أنَّ ((مِنْ قومِك)) بدَلٌ مِنْ ((هؤلاء))، أي: إنّما تَقْدِرُ على إنذارِ بعضِ قومِك دونَ مُتمرِّديهم. قولُه: (وقُرِئَ: ((ومَن ازّكَّى)))، أصلُه: تزّكى، أدغمَ التاءَ في الزاي، ثم أتى بهَمْزةِ الوصلِ، ثم أُسْقِطَتْ في الدَّرْج.

الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للكافر والمؤمن -كما ضرب البحرين مثلًا لهما- أو للصنم والله عزّ وعلا، ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (الأعمى والبصيرُ مَثَلٌ للكافرِ والمؤمنِ .... أو للصَّنَمِ والله عزَّ وجل)، أي: يجوزُ أن يكونَ المُشبَّهُ بالأعمى الكافر وأن يكونَ الصنم، وأن يكونَ المُشبَّهُ بالبصيرِ المؤمنَ، وأن يكون الله تعالى، فعلى الأول: التمثيلُ مردودٌ على التمثيلِ الأوّلِ، أي: قولِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}، وإليه الإشارة بقولِه: ((كما ضربَ البحرَيْن مَثَلاً لهما))، وعلى الثاني: مَلْزوزٌ في قَرَنِ قولِه تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، والأولُ أجرى على تأليفِ النظم، فإنّه شَبَّه أوّلاً منْ آمنَ بالبحرِ العَذْبِ والكافرَ بالمِلحِ الأُجاجِ وبَيَّن فيه عَدَمَ الاستواء، ثم نَبَّه أنّ الكافرَ أدْوَنُ حالاً من البحرِ المِلْحِ بقوله: {وَمِن كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} الآية، لأن فيه منافعَ جَمّةً والكافِرُ خلْوٌ من النفع، ثم أتى بتمثيلٍ آخرَ، فشَبَّههما بالأعمى والبصيرِ في الضلالِ والاهتداءِ وشَبَّه ما يَرْدِفُهما من متابعةِ الحقِّ التي تورِثُ المؤمنَ الثوابَ ومن الذهاب إلى الباطلِ الذي يؤدِّي الكافرَ إلى العقاب ببالظلماتِ والنورِ والظلِّ والحَرور، ثم جَعل كُلاًّ من التمثيلَيْن تمهيدًا وتوطئةً لقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ}؛ لأن المراد بالأحياء: المؤمنون الذي دخَلوا في دارِ السلام، وانتفعوا بدَعْوةِ نبيِّ الرحمةِ صلواتُ الله عليه، وبالأموات: الذين يُقُوا خارجينَ عن دارِ أمانِ الدعوة، ولم يرفعوا لها رأسًا وأصرُّوا واستكبروا، وإليه الإشارةُ بقوله: ((والأحياءُ والأموات مثَلٌ للذينَ دَخلوا في الإسلامِ والذينَ لم يدخلوا فيه وأصَرُّوا على الكفر)). وفُهِمَ من هذا التقرير: أنّ التعريفَ في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} وفي قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} للجنسِ، وفي {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} للعهد، وأن المقصودَ الأوْلى في الإيرادِ هذا التمثيلُ الثالث، ولهذا كرَّرَ {وَمَا يَسْتَوِي}، وأكَّدَ النفيَ بتكريرِ ((لا))، وعلَّلَه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} مُسَلِّيًا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإقناطًا له من إيمانِ المُصرِّين وإيذانًا بأنَّ الهادي والمُضِلَّ هو الله سبحانه وتعالى. يعني: أنّ

والظلمات والنور والظنّ والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤدّيان إليه من الثواب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي تعلّقَتْ مشيئةُ الله وإرادتُه بإسلامِه كالأحياءِ فانتفَع بدعوتِك وانتجَعَ فيه وعظُك، ومَنْ تعلّقتْ مشيئتُه بضلالتِه كالموتى فلا ينتفعُ بوَعْظِك، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، فلا تتهالكْ أنت في إسلامِ مَنْ يُريدُ الله إضلالَه فما أنْتَ بمُسمِعٍ للموتى. هذا تقريرٌ واردٌ على مذهبِ أهلِ السنّة، وهو ظاهرٌ مطابقٌ للآية. وأما المصنِّفُ فأرادَ بقَوْله: ((فَيهْدي الذي قد عَلِم أنّ الهدايةَ تنفَع فيه، ويخذلُ مَنْ علِمَ أنها لا تنفعُ فيه)) تقريرَ مَذْهبِه، وهو كما ترى مُتَعَسَّفٌ من حيثُ النظمُ، على أنه يؤدِّي إلى أن تكونَ مشيئةُ الله تابعةً لفعْلِ العبد. وقال القاضي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} تمثيلٌ آخرُ للمؤمنين والكافرين، أبلَغُ من الأول، ولذلك كَرَّر الفعْلَ. وقولُه: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ترشيحٌ لتمثيلِ المُصرّين على الكفرِ بالأمواتِ ومبالغةٌ في إقناطِه عنهم. وقلت: في التمثيلاتِ الثلاثِ تَرَقٍّ من الأهونِ إلى الأغلظِ وفي كلِّ مِنهما تفريعٌ على الأصل: بَنى على البحرين اللحمَ الطريَّ وجَرَيانَ الفُلْك وعلى الأعمى والبصير: الظلماتِ والنور وعلى الأحياءِ والأموات: استماعَ الحقِّ وعدَمَه. قولُه: (والظلماتُ والنورُ والظلُّ والحَرورُ: مَثَلان)، اعلَمْ أنّ ((لا)) في: {وَلَا النُّورُ} {وَلَا الْحَرُورُ} مَزيدة، لأن المعنى: الظلماتُ لا تُساوي النور، وليس المرادُ أن النورَ في نفسِه لا يَسْتوي، وكذلك في: {وَلَا الْأَمْوَاتُ}، قال في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34]: إن الحسنةَ والسيئةَ مُتفاوتتانِ في أنفُسِهما، فخَذْ بالحسنةِ التي هي أحسَنُ من أختها، وقيل: ((لا)) مَزيدة، والمعنى: ولا تَسْتوي الحسنةُ والسيئة، وهنا ليسَ المعنى: على

والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر. والحرور: السموم؛ إلا أنّ السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة. فإن قلت: "لا" المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها؛ لتأكيد معنى النفي. فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعًا إلى شفع، وبعضها وترًا إلى وتر. (إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ): يعنى أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدى الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفى عليك أمرهم؛ فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين، ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال: (إِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنّ الأحياءَ والأمواتَ مثلاً متفاوتان فَمِنْ مَيِّتٍ أدْوَنُ حالاً من مَيِّت، وحيٍّ أرفَعُ منزلةً من حَيّ، فتُحمَلُ على مُجرَّدِ التأكيد. فإن قُلْتَ: فلم أُخْلِيَتِ القرينةُ الأولى وهي الأعمى والبصيرُ من التوكيد؟ قلتُ: هي كالتوطئةِ لذكْرِ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ}، ولذلك أُعيد {وَمَا يَسْتَوِي}، وعُلِّل بقوله: {إنَّ اللهَ يُسْمِعُ} الآية، وأما القرينتانِ المُتوسِّطتان فهما مَقْصودان أيضًا، لأنهما مَثَلانِ للحقِّ والباطل وما يُؤدِّيان إليه من الثوابِ والعقاب. قولُه: (ضَمَّت شَفْعًا إلى شَفْعٍ)، أما التي ضَمَّتِ الشَّفْعَ فهي الواوات في: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ}، وأما التي ضَمَّتِ الوِتْرَ فهي التي توسَّطَتْ بين الضِّدَّيْن. قولُه: (فيَهْدي الذي قد عَلِمَ أنَّ الهدايةَ تنفَعُ فيه، ويَخْذِلُ من عَلِمَ أنها لا تنفَعُ فيه)، هذا التقريرُ يهدِمُ قاعدةَ الاعتزال، لأنَّ خِلافَ علْمِ الله محالٌ وقوعُه، فلا يصدُرُ عنه إلا ما عَلِمَ الله تعالى صدورَه عنه، فإذن لا اختيارَ له فيه.

أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أى: ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدى المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى. [(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ)] 24 [ (بِالْحَقِّ) حال من أحد الضميرين، يعنى: محقًا أو محقين، أو صفة للمصدر، أى: إرسالًا مصحوبًا بالحق، أو صلة لبشير ونذير على: بشيرًا بالوعد الحق، ونذيرًا بالوعيد الحق. والأمّة: الجماعة الكثيرة. قال الله تعالى: (وجد عليه أمّة من الناس)] القصص: 23 [، ويقال لأهل كل عصر: أمّة، وفي حدود المتكلمين: الأمّة: هم المصدقون بالرسول دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد هاهنا: أهل العصر. فإن قلت: كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقيةً لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ويُقال لأهلِ كُلِّ عَصْر أمّة)، قال التُّورِبِشْتيُّ- في شَرْحِ قولِه صلى الله عليه وسلم: ((والذي نَفْسُ محمَّدٍ بيدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ من هذه الأمة؛ يَهوديٌّ ولا نَصْرانيٌّ ثم يَموتُ، ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كانَ من أصحابِ النار)). رواه مسلم عن أبي هريرة-: الأمّة: كلُّ جماعةٍ يجمَعُهم أمر؛ إمّا دينٌ واحدٌ أو دَعوةٌ واحدة أو طريقةٌ واحدة أو زَمانٌ واحدٌ أو مكانٌ واحد. وأرادَ به هاهنا الجماعةَ التي يجمَعُها زمانُ الدعوةِ إلى الشريعةِ الحنيفية؛ لأنه أدخَلَ في جُملتِهم اليهودَ والنصارى. وعلى هذا يدخُلُ فيها كلُّ ما تنتهي إليه الدعوةُ من أهلِ الملَلِ الزائغةِ والأديانِ الباطلة، وخُصَّت اليهودُ والنصارى لخُصوصيةٍ فيهم.

آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت: لما كانت النذارة مشفوعةً بالبشارة لا محالة، دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما. [(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)] 25 - 26 [ (بِالْبَيِّناتِ): بالشواهد على صحة النبوّة، وهي المعجزات (وَبِالزُّبُر): ِ وبالصحف، (وَبِالْكِتابِ الْمُنِير) نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادًا مطلقًا، وإن كان بعضها في جميعهم؛ وهي البينات، وبعضها في بعضهم؛ وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لما كانَت هذه الأشياءُ في جنْسِهم أَسندَ المجيءُ بها إليهم إسنادًا مطلقًا)، يريدُ أنّ قولَه: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} مِن قَبيل: بنو فُلانٍ قَتلوا فلانًا، وإنما القاتلُ رجلٌ منهم. قولُه: (وفيه مَسْلاةٌ)، أي: في قولِه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} إلى آخره قولِه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} بعد قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} المعنى: أعرِضْ عن هؤلاء المصرِّين المُعانِدين ولا تحرِصْ ولا تتهالَكْ على هداهُم، إن أنتَ إلا نَذيرٌ وما عليك إلا أن تُبلِّغَ وتُنْذِر، فإن أصرُّوا فلا عليك، وكذلك دأبُ الأممِ السالفةِ مع أنبيائِهم الماضية {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، فجيءَ بقولِه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} توطئةً لقولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وأقحَمَ بشيرًا مزيدًا للتسلية وتتميمًا وصيانةً عن توهُّمِ أنه مقصورٌ على النِّذارةِ كقَوْلِه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وحينئذ لا يُفْتقَرُ إلى ذكْرِ البشيرِ مشفوعًا مع النذير في قولِه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وأيضًا فيه: أنّ الناسَ لتَماديهم في الضلالِ والغفلةِ وتهالُكِهم

[(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ)] 27 - 28 [ (أَلْوانُها): أجناسها؛ من الرّمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يحصر، أو هيئاتها؛ من الحمرة، والصفرة، والخضرة، ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد: أو مذهب جدد على ألواحه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في حُبِّ الشهواتِ واللّذاتِ وتقليدِ الباطلِ أشدُّ احتياجًا إلى المُنْذِرِ من المُبشِّر، وكثيرًا ما ترى في التنزيلِ النذيرَ غَير مشفوعٍ بالبشيرِ ولا ترى البشيرَ بدونِهن والله أعلم. الراغب: الإنذار: إخبارٌ فيه تَخْويف، كما أنَّ البشيرَ إخبارٌ فيه سرور. والنَّذيرك المُنذرُ ويقَعُ على كلِّ شيءٍ إنذارَ إنسانٍ كانَ أو غُيْرَه، والنُّذُرُ، والنُّذُرُ جَمْعُه. قولُه: (أو مُذَهَبٌ جُدَدٌ على ألواحِه)، تمامه: والناطقُ المَبْروزُ والمَختومُ وقبله: فكأنَّ معروفَ الديارِ بقادِمٍ ... فبُراقِ غَوْلٍ فالرِّجامِ وُشومُ شَبَّه ما عرفَ من الديارِ كالطَّلَل بالوشوم وهي ما بقيَ من آثارِ الوَشْم، أو بلَوْحٍ مُذْهَبٍ على ظواهرِه جُدَدٌ وطرائقُ، والناطقُ الكتاب.

ويقال: جدة الحمار: للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. (وَغَرابِيبُ) معطوف على (بيض)، أو على (جدد)، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود. فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود، يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك؛ وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه، ومنه: الغراب، ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك! قلت: وجهه: أن يضمر المؤكد قبله، ويكون الذي بعده تفسيرًا لما أضمر، كقول النابغة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذكر في ((الصحاح)): أنّ الروايةَ: ((ألناطق)) بقَطْعِ الألفِ وإن كان وَصْلاً، وذلك جائز في ابتداءِ الأنْصاف؛ لأنّ التقديرَ الوقفُ على النِّصْفِ من الصَّدْر. وقال: كتابٌ مَبْروز، أي: مَنْشور، وقال: لعلَّه المَزْبُور وهو المَكْتوب. وقال لبيدٌ في كلمةٍ أخرى: كما لاحَ عنوانُ مَبْروزةٍ ... يلوحُ مَع الكَفِّ عنوانُها هذا يدل على أنه لُغَتُه، والرواةُ كلُّهم على هذا، فلا معنى لإنكارِ من أنكره. والمختوم: المكتومُ، وهو الدارس. الراغب: جُدَدٌ بيض: جَمْعُ جُدّةٍ، أيك طريقةٍ ظاهرة مِن قولهم: طريقٌ مَجْدود، أي: مَسْلوك مقطوع، ومنه جادّةُ الطريق. وقيل: الخُطّة: الطريقةُ، وهي اسمُ المَخْطوط، فُعْلَةٌ بمعنى: المفعولِ، كالغُرْفَةِ والقُنْصَةِ، من الخطِّ، كالنُّقْطة.

والمؤمن العائذات الطّير وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقى الإظهار والإضمار جميعًا، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله: (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) بمعنى: ومن الجبال ذو جدٍد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: (ثمرات مختلفا ألوانها). (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُه)، يعنى: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: (ألوانها)، وقرأ الزهري: (جدد)، بالضم: جمع جديدة؛ وهي الجدّة، يقال: جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبى ذؤيب يصف حمار وحش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والمؤمِنِ العائذاتِ الطير)، تمامُه: ... يمسَحُها ... رُكبانُ مكّةَ بين الغَيْل والسَّنَد ما إن نَدِيتُ بشَيءٍ أنتَ تكرهُه ... إذاً رفعَتْ سَوْطي إليَّ يدي المؤمن: اسمُ الفاعِل وهو الله تعالى، مِن: آمن. والعائذات: الحمائمُ، بماّ عاذَتْ بمكّة والتجأت إليها حَرُمَ قتْلُها وصَيْدُها وأن تُهاج. والغَيْلُ والسَّنَد: موضِعان، و ((المؤمن)) مجرورٌ بالقَسَم، و ((العائذاتِ)) منصوبٌ باسمِ الفاعلِ وهو المُؤمن، و ((الطيرَ)) منصوب: إما بَدلٌ أو عَطْفُ بَيانٍ أو بإضمارِ: أعني، وفيه نَظَر، لأنَّ الاستشهادَ بأنّ هذا الطيرَ المذكورَ دالٌّ على المحذوفِ وهو مفعولٌ لاسم الفاعل، والعائذاتُ صِفَتُه، أي: المُؤمن الطيرَ العائذاتِ الطّير، وقولُه: ((ما إن نَدِيت)) جوابُ القَسَم، يقول: والله المؤمنِ الطيرَ العائذاتِ ما نطقْتُ ولا بَلَلْتُ به لِساني، وما أتَيْتُ بشيءٍ تكرهُه وإلا فَشُلَّتْ يَدي. قولُه: (ولابُدَّ مِن تقديرِ حَذْفِ المضاف)، يعني: حصلَتْ هاهنا قرائنُ ثلاث، والقرينتانِ هاهنا اتَّفقتا على معنى، فوجبَ تنزيل الفَذّةِ منها على معنى أختَيْها، وإلاّ لَزِمَ الاختلاف

جون السّراة له جدائد اربع وروى عنه: (جدد)، بفتحتين؛ وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين أشياءَ انخرطَتْ في سِلْكٍ واحِدٍ، وإليه الإشارةُ بقَوْلِه: ((حتى يؤولَ إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانه)) إلى آخره، وتحريرُه: أن التنكيرَ في قوله: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} للنوع، والمعنى: فأخرَجْنا بالماءِ نوعًا من الثمراتِ مختلفًا ألوانُه، وكذلك قولُه: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، فإنّ المعنى: منهم بَعْضٌ مختلفٌ ألوانُه، كما نَصَّ عليه، وهو قول الفرّاء قال: {أَلْوَانُهُ} على تأويلِ: خَلْقٍ مُختَلفٍ ألوانه. وقال مُحيي السُّنة: ذكرَ الكِنايةَ لأنها رَدٌّ إلى ما في الإضمارِ، ومَجازُه: ومنَ الناسِ والدوابِّ والأنعامِ ما هو مختلفٌ ألوانه. قولُه: (جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربع)، أولُه: والدَّهْرُ لا يَبْقَى على حَدَثانِه الجَوْن: الأسود، والسَّراة: الظَّهْر، والجدائد: الأُتنُ اللاتي قد جَفّتْ ألبانهُنَّ؛ مِن جَدِّ اللَّبَن أي: قَطْع، أي: أهْلكَ الدهر بَنِيّ، وتوترَتْ عليَّ المصائب، ثمّ عزّى نَفْسَه بأنَّ الدهرَ لا يَبْقى على حَدَثانِه شيءٌ، حتى الحمارِ مع الأُتْنِ التي ترعى في القِفار. قالَ ابن جِنِّي: ((جَدَدٌ)) بفَتْح الجيمِ والدالِ في روايةِ سهلٍ عن الوقّاصيِّ عن الزُّهري. قال قُطْرب: قراءةُ الزُّهري: ((جُدُد)) بضَمِّهما، أما ((جُدُدٌ)) فجَمْعُ جَديدٍ، أي: آثارٌ جُدُدٌ غيرُ مُخْلقةٍ فهو أوضَحُ للونِها، وأما ((جَدَدٌ)): فهو الطريقُ الواضحُ المُسْفِرُ فالمعنى نَحْوُ الأول.

الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ: (والدواب) مخففًا، ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: (ولا الضألين)؛ لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين؛ فحرك ذاك أوّلهما، وحذف هذا آخرهما. وقوله: (كَذلِكَ) أى: كاختلاف الثمرات والجبال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({كَذَلِكَ} أي: كاختلافِ الثمراتِ والجبال)، يعني: الكافُ نَصْبٌ على المَصدَر، والأظهرُ أنه رفعٌ على الخبر، والإشارةُ بـ ((ذلك)) إلى المذكورِ من الدلائل في هذه الآيةِ وحدَها، ويكونُ قولُه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} مَقطَعًا لهذه الآية، ونظيرُ ((ما)) قولُه تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فإن قلت: لِمَ خُولِفَ بينَ المَقطَعَين؟ قلت: ما نحنُ فيه أبسَطُ وأجمَعُ من تلك الآية، لأنّ فيها ذِكرَ الثمارِ والجبالِ والناسِ والدَّوابِّ والأنعام واختلافِها، وهي مختصّةٌ بالثمرات، وصُدِّرَت هذه الآيةُ بهمزة الاستفهام وحرفِ النفي لإفادةِ مَزيدِ التقرير، وبالخطابِ العامِّ لئلاّ تختصَّ الرؤيةُ براءٍ دونَ لفَخامةِ الأمر، ثم قُرِّرَ هذا المعنى في أثنائهما بقوله: {كَذَلِكَ}، أي: الأمرُ كما ذكرت، كأنه تعالى يقول: هذه الأشياءُ كلُّها مُتساويةٌ في الجِسْميّة، واختِلافُ أنواعِها ثم اختِلافُ كُلٍّ منها بما خُصَّ به من الأصنافِ لا بُدَّ لهُ من قادرٍ مُختارٍ قاهرٍ يَتَصرَّفُ في مُلكِهِ كيفَ يشاء. وهذا ظاهرٌ جليٌّ عندَ كُلِّ ذي مُسْكة، فمَن أنكرَ ذلك وقالَ بالإيجاب فهو مُعانِدٌ جاهلٌ لم يخشَ الله، وإن جمعَ أسفارَ الحِكَم، ومَن أنصفَ وسلكَ السَّبيلَ المُستقيمَ وخشيَ الله فهو عالِمٌ جِدُّ عالم، فحينَئذٍ من أينَ اختصَّ {الْعُلَمَاءُ} بالعُلماءِ العَدْليّة؟ ! عفا اللهُ عنه. فإن قلت: لِمَ لا تجعلُ {كَذَلِكَ} نَصْبًا على المَصدَر، كما ذهبَ إليه المُصنِّف؟ قلت: لقِلّةِ جَدْواه، وعلى ما ذهبنا إليه تصيرُ جُملةً مُقرِّرةً لِمَا في شأنِهِ الاهتمامُ على ما مَرّ، ويكونُ موقعًا للسُّؤالِ على الاستئِناف، يعني: إذا كان الأمرُ ظاهِرًا لكُلِّ أحدٍ كما ذكرت، فلِمَ

والمراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علمًا ازداد منه خوفًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختَصَّ العُلماءُ بالذِّكرِ دونَ غيرهم؟ أُجيب: لخشيةِ هؤلاء وإنصافِهم، ولعِنادِ أولئك وعَدَم خشيتهم. وتلخيصُه: أنّ المذكورَ إنْ لم يَدُلَّ على ذلك بالتصريح، يَدُلُّ عليه بالتعريض. قولُه: (العلماءُ الذين عَلِموا بصفاتِه وعَدْلِه وتوحيدِه وما يجوزُ عليه وما لا يَجوز)، اعلم أنه تعالى كما جعلَ مقطعَ التمثيلِ الأولِ قوْلَه: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، جعلَ مقطعَ هذَيْن التمثيلَيْن بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} والمُشارُ إليه بقوله: {كَذَلِكَ} جميعُ ما سبقَ من البياناتِ والإنذاراتِ الكافيةِ، أي: الأمرُ كما ذُكِرَ لكن إنما ينجَعُ فيمن خَشِيَ الرحمنَ بالغيب، كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]، فوضَعَ موضعَه ((العلماءَ)) تعريضًا بجَهْلِ الكَفَرة، وجَهْلِ مَنْ يَدَّعي العِلْمَ ولم يَخْشَ الله تعالى، وتَنْويهًا برِفْعةِ منزلةِ العلماءِ العاملينَ المحقِّقين، وإليه أشارَ بقوله: ((مِثْلُك ومَنْ على صِفَتِك)). ثم الآيةُ كالتخلُّصِ من ذكْرِ أعداءِ الدينِ إلى ذكْرِ الأولياءِ من المؤمنين التالينَ كتابَه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، المقيمينَ الصلاة والمُنْفقينَ أموالَهم سِرًّا وعلانيةً، ومع ذلك يَرْجون رحمةَ الله، ويأمَلون أن يُوَفِّيَهم أجورَهم ويزيدَهم مِنْ فَضْلِه، ولا يُوجبونَ على الله شيئًا بأعمالِهم، ولا يَقطعون بشيءٍ من ذلك، وكذلك لا يحكمُمون على الظالم لنفسِه والمُقْتَصدِ بالوعيدِ وكونِهما من أصحابِ النار، ولهذا فُصِلَتْ الآيةُ بقَولِه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} لأنه كالتعليلِ للكلامِ السابق، أي: أنه تعالى عزيزٌ غالبٌ يفعَلُ ما يَشاءُ في مُلْكِه لا أحدَ فوْقَه يوجبُ عليه شيئًا، فالعمالُ يَعْملونَ ويأملونَ أن يُوَفّيهم أجورَهم، والظالمُ لنفسِه يرجو الغُفْران ولا يقطَعُ بالدمار، لأنه تعالى بليغُ الغُفْرانِ والرحمة.

ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث: «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية»، وعن مسروق: كفى بالمرء علمًا أن يخشى، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بدّ من ذلك؛ فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت (العلماء) كان المعنى: أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وفي الحديثِ: ((أعلمُكُم بالله أشدُّكُم [له] خَشْيةً)))، ورَوَينا عن الدراميِّ عن عطاءٍ قال: قالَ موسى عليهِ السلام: يا رَبِّ أيُّ عبادِكَ أحكَم؟ قال: الذي يحكُمُ للناسِ كما يحكُمُ لنفسِه. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أغنى؟ قال: أرْضاهُم بما قَسمْتُ له. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أغنى؟ قال: أرْضاهُم بما قَسمْتُ له. قال: يارَبّ، أيُّ عبادِكَ أخْشى؟ قال: أعلَمُهم بي. قولُه: (وإذا عملتَ على العكس انقلب المعنى)، وذلك أن ((إنّما)) فرْع ((ما)) و ((إلاّ))، وفي الأصلِ: الحَصْرُ أبدًا في ((ما)) يلي ((إلا))، وفي الفرعِ الحَصْرُ في الجُزْءِ الأخيرِ، فقولهُ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فَرْعُ ((ما يَخْشى اللهَ من عبادِه إلا العلماء))، وهو يَقْتضي انحصارَ خَشْيةِ الله على العلماءِ دونَ غيرِهم، وقولُك: إنّما يخشى العلماءُ من عبادِه اللهَ، فَرْعُ قولِك: ما يخشى العلماءُ من عبادِه إلا الله، فيلزَمُ انحصارُ خَشْيةِ الله دونَ غيرِه. قال الشيخ عبدُ القاهر رحِمَه الله: لما كان الغرضُ من الآيةِ بيانَ الخاشينَ والإخبارَ بأنَّهم العلماءُ خاصّة دون غيرِهم قَدّم اسمَ ((الله)) على ((العلماء))، ولو أُخِّرَ منه لصارَ المعنى على ضِدِّ ما عليه وهو: أنَّ الغرضَ بيانُ المَخْشيِّ والإخبارُ بأنه تعالى دونَ غيره، وهذا المعنى الأخيرُ وإن كان قد جاءَ في التنزيل قال تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، لكن ليس

إلا الله، كقوله تعالى: (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا الله)] الأحزاب: 39 [، وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال: (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم (أن الله أنزل من السماء ماء)، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك (إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)، كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الغرضَ هاهنا، ولا اللفظُ يحتمِلُ له التبّةَ، ومَنْ أجاز حَمْلَها عليه كأنه قد أبطَل فائدةَ التقديمِ وسَوّى بين الكلامَيْن، فإذَنْ يلزَمُ أن يُسوِّيَ بين قولنا: ما ضربَ عَمْرو وإلا زيدًا وما ضرَبَ زيدًا إلا عَمْرٌو وذلك مما لا شُبْهَةَ في امتناعه. وقلتُ: قولُه: ((لكن ليسَ هو الغرضَ هاهنا))، معناه: أنَّ اقتضاءَ المقامِ يوجبُ بيانَ الخاشين والإخبارَ بأنهم العلماءُ خاصّةً دونَ غيرِهم ليكون تعريضًا بالمُنذَرين المصرِّين على العنادِ والكفر وأنَّهم جهلاءُ بالله وبصفاته، ولذلك لا يخشَوْن الله ولا يخافون عقابَه، ولو قلتَ: ما يخشى العلماءُ من عبادهِ إلا الله لم يكن من التعريضِ في شيء والمقامُ يَقْتضيه، أما قولُه تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، فكلام في تبليغِ الرسالة وتعريضٌ به صلواتُ الله عليه بعد التصريحِ بقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} فبَيْنَ المقامَيْن بَوْن. قولُه: (أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمَكم به)، روينا عن البخاريِّ ومُسلم عن عائشة رضي الله عنها: صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئا فترخَّصَ فيه فَتنزَّه عنه قوم، فبلغَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخَطب فحَمِدَ الله تعالى ثم قال: ((ما بالُ أقوامٍ يَتنزَّهون عن شيء أصنَعُه، فوالله إني لأعلمُكم بالله وأشدُّكم له خشية)).

فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: (إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وهو عمر بن عبد العزيز، ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده. (إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب حقه أن يخشى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فما وَجْهُ قراءة)، الفاءُ تدلُّ على إنكارِ قولِه: ((لا بدَّ من ذلك))، أي: من تقديمِ المفعولِ، أي: إذا كان الواجب ذلك لصحّةِ المعنى، فما وَجْهُ هذه القراءة؟ قولُه: (كما يُجَلُّ المَهيب)، ((ما)) مصدرية، أي: إنما يُجلُّهم إجلالاً مِثلَ إجلالِ المَهيبِ المخشيِّ من الرجال. هذا بيانُ وَجْهِ الاستِعارة، وذلكَ أنّ الاستِعارةَ مسبوقةٌ بالتشبيه، شبّه حالةَ مُعامَلةِ الله تعالى معَ العُلماءِ في تعظيمِه إياهُم وإجلالِهِ لهم كمُعامَلةِ مَنْ يُجِلُّ ويُعظِّمُ السُّلطان ومَن هو بصَدَدِه خشيةَ سَطوتِهِ وهَيْبته، فأُدخِلَ المُشبَّهُ في جِنسِ المُشبَّهِ به، واستُعمِلَ فيما يُستَعمَلُ في المُشبَّهِ به دَالاًّ عليه، بقرينةِ ما هو مُنزَّةٌ من ذلك ومُتعالٍ عنه من الخشية، وهي الاستعارةُ التَّبَعيةُ الواقعةُ على طريق التمثيل. قولُه: (المعاقِبُ المثيبُ حقُّه أن يُخْشى)، فإن قُلتَ: المثيبُ كيفَ يخشى، والوصفُ بالغُفْرانِ موجبٌ للرجاءِ لا للخوف؟ قلتُ: جوابُه ما ذكرَ في ((الفرقان)) في قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 6]: ((دل بهذا على القدرةِ التامةِ؛ لأنه لا يوصفُ بالمغفرةِ والرحمةِ إلا القادرُ على العقوبة)). ويمكنُ أن يقال: إنّ حالتَي سَطَواتِ القهرِ إما أن تكون بَغْتةً أو إمهالاً، فدلّ العزيزُ على الأولِ والغفورُ على الثاني، قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]، فالعالِمُ يخافُ الحالتَيْن خصوصًا الثانية؛ لأنها قد تكونُ استدراجًا، بخلافِ الجاهلِ لأنه لا يأمَنُ فيها كلَّ الأمن.

[(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ الله وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)] 29 - 30 [ (يَتْلُونَ كِتابَ الله) يداومون على تلاوته، وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف رحمه الله: هي آية القرّاء. وعن الكلبي: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به. وعن السدى: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون. (يَرْجُونَ) خبر (إن). والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. و (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق بـ (لن تبور)، أى: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} يداومون [على] تلاوته) يعني: دلَّ عطفُ الماضي -أي: قولُه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا} - على المضارعِ على أن المرادَ به الاستمرارُ والمداومةُ والتحقُّقُ فيه، ويساعدُه مقامُ المدحِ نحو: فلانٌ يَقْري الضيفَ ويَحْمي الحريم. قولُه: (عن مُطَرِّفٍ)، قال صاحبُ ((الجامع)): وهو أبو عبد الله مُطَرِّفٌ بن عبد الله ابن الشخِّير العامري البصري، روى عن أبي ذرٍّ وعُثمان بن أبي العاص ماتَ سنةَ سبعٍ وثمانين. قولُه: (يعملون ما فيه ويعملون به)، يريد: أوجبَ عطفُ قولِه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا} على {يَتْلُونَ} أن تُفَسَّرَ التلاوةُ بالعمل بما فيه، لأنّ التلاوةَ لم تكن مُعتبرةً إذا لم يُعْلَمْ معنى المَتْلوِّ، ولم يُعتَدَّ بالعلم إذا لم يَقْترنْ معه العمل. قولُه: ({لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلِّق بـ {لَّن تَبُورَ}، أي: تجارةً ينتفي عنها الكَساد)، وقوله: ((ينتفي عنها الكَساد)) تفسيرٌ لقولِه: {لَّن تَبُورَ} لا بالمطابقةِ؛ لأن أصلَ البوار الهلاك. قال في ((الأساس)): ومن المجاز: بارَتِ البِياعاتُ كسَدَتْ. وقولُه: ((وتَنْفُقُ عند الله)) تفسيرٌ

عنده (أُجُورَهُمْ)؛ وهي ما استحقوه من الثواب، (وَيَزِيدَهُمْ) من التفضل على المستحق. وإن شئت جعلت (يَرْجُونَ) في موضع الحال على: وأنفقوا راجين ليوفيهم، أى: فعلوا جميع ذلك؛ من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض. وخبر (إن) قوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) على معنى: غفور لهم شكور لأعمالهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للتفسيرِ فيكونُ كنايَة، لأن {لَّن تَبُورَ} لازمُ انتفاءِ الكساد وهو لازمُ كونِها نافقة، كأنه قيل: يرجونَ تجارةً نافقةً عند الله مُرْبحةً ليُوفِّيَهم الله أجورَهم، ثم هذه الكناية ترشيحٌ للإستعارة. قولُه: (وإن شئتَ جَعلْتَ {يَرْجُونَ} في موضعِ الحال)، فعلى هذا ((ليوفِّيهم الله أجورَهم)) يتعلَّقُ بالتلاوةِ وأقاموا الصلاةَ والإنفاق، ولهذا قال: ((فعلوا جميعَ ذلك .... لهذا الغرض))، وهو التوفيه، وإنما عَلَّق المصنِّفُ {يَرْجُونَ} بقولِه: {وَأَنفَقُوا} دون {يَتْلُونَ} و {وَأَقَامُوْ}، لئلا تجتمعَ على معمولٍ واحد عواملُ، ولأنَّ ما يتعقَّبُ الجُمَلَ من القيدِ يختَصُّ بالأخيرِ على مذهبِ أبي حنيفةَ رضيَ الله عنه. ويمكنُ أن يُعلَّقَ بمحذوفٍ على معنى: فَعلوا جميعَ ذلك راجينَ لهذا الغرض، وهو الظاهر. قال أبو البقاء: {يَرْجُونَ} خبرُ {إِنَّ}، {لِيُوَفِّيَهُمْ} يتعلَّق بـ {يَرْجُونَ}، وهي لامُ الصيرورة. وقلت: تأويلُه: أنّ غرضَهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارةٍ غيرِ كاسدة، لأنّ صلةَ الموصولِ هنا علّةٌ وإيذانٌ بتحقيقِ الخبر، ولمّا أدّى ذلك إلى أن وفّاهم الله أجورَهم أتى باللام، وإنما لم يذهَبْ إليه المصنِّف؛ لأن هذه اللام لا توجَدُ إلا في يترتَّبُ الثاني على الأول، ولا يكونُ مطلوبًا به كقولِه تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

والشكر مجاز عن الإثابة. [(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)] 31 [ (الْكِتابِ) القرآن، ومن (للتبيين)، أو الجنس و (من) للتبعيض (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ): لما تقدّمه من الكتب. (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعنى أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلًا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب. (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)] 32 - 35 [ فإن قلت: ما معنى قوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ)؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والشكرُ مَجازٌ عن الإثابة)، النهاية: في أسماءِ الله: الشَّكور، وهو الذي يَزْكو عنده القليلُ من أعمالِ العبادِ فيضاعِفُ لهم الجزاءَ، فشُكْرُه لعبادِه مغفرتُه لهم، والشَّكورُ من أبنية المبالغة. قولُه: (عيارٌ على سائر الكتب)، أي: مِعيارٌ لسائرِ الكتبِ، وبه يُقاسُ صِحّة غيرِه. المغرب: عايَرْتُ المكاييلَ والموازين: إذا قايسْتُها، والمعيارُ: الذي يُقاسُ به غيرُه ويُسوّى. قولُه: (ما معنى قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ}؟ )، يعني: الظاهرُ أنّ قولَه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} عَطْفٌ

إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك، أى: حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه، وهو يريد: نورثه؛ لما عليه أخبار الله. (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)؛ وهم أمّته من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على {أَوْحَيْنَا}، و ((ثُمَّ)) يقتضي الترَّخيَ في الزمانِ، وأن يقال: ثم نورثُه بعدَك المُصْطَفيْن، فما معنى مجيءَ {أَوْرَثْنَا} ماضيًا؟ وأجاب بوجهَيْن: أحدُهما: أنّ المرادَ: ثمَّ حكَمْنا بَعْدَك بتوريثه، أو وضَعَ الماضي موضِعَ المُستقبل، تنزيلاً لما هو الكائنُ بمنزلةِ الكائن. وثانيهما: أنّ هذه الآيةَ مُتَّصلةٌ بما سبقَ من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وهو المرادُ من قوله: إنه قَدَّم إرسالَه في كلِّ أمة رسولاً، أي: قَدَّم اللهُ على إرسالهِ صلوات الله عليه إرسالَ الرسلِ في كلِّ أمةٍ، وعَقَّبه بما يُنبئُ أن تلك الأُممَ تفرَّقت حزبَيْن: حِزْبٌ كَذَّبوا الرسلَ وما أُنْزِلَ معهم، وإليه الإشارةُ بقولِه: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}، وحِزْبٌ صَدَّقوهم وآمنوا وتلَوْا كتابَ وعَمِلوا بمُقتضاه وإليه الإشارةُ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا}، وعلى هذا الوجه يكون {أَوْرَثْنَا} ماضيًا يَجْري على ظاهره، والذي يدلّ على هذا التقسيمِ قولُ المصنِّف: ((فأنثى على التالينَ لكُتبه، العاملينَ بشرائعِه، من بين المُكذِّبين بها من سائرِ الأمم)). ولما فرغَ من ذلك جاءَ بما يختصُّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية مستطرَدًا معترضًا، ثم أخبر بعد ذلك إيراثَه هذا الكتاب الكريم، بهذه الآية بعد إعطاء تلك الأمم الزُّبُرَ والكتابَ المنير؛ فيكونُ ثمَّ للتراخي في الإخبار، وإليه الإشارةُ بقوله: ((ثم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي: مِنْ بَعدِ أولئك المذكورين))، ويمكنُ أن يُحْمَل ((ثمَّ)) على التراخي في المرتبةِ أيضًا إيذانًا بفَضْلِ هذا الكتاب على سائرِ الكتبِ، وفضل هذه الأمة على سائر الأمم.

الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطًا؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم: وهو المرجأ لأمر الله؛ ومقتصٍد: وهو الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا؛ وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولًا، وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاءوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ثم قال: (إنّ الذين يتلون كتاب الله)] فاطر: 29 [، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم، واعترض بقوله: (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) ثم قال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أى: من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية. فإن قلت: فكيف جعلت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدلًا من (الفضل الكبير)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ظالم لنفسِه مُجْرِم)، الراغب: ظلمُ النفسِ في الحقيقة هو التقصيرُ في تهذيبِها وسياستِها المذكورة في قوله {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 10]، وذلك أنّ كلَّ إنسانٍ سائسُ نَفْسِه، فمَتى لم يُوفِّ حَقَّ السياسةِ فقد ظلمَها ظُلْمَ الوالي رَعيّتَه، وخوطبَ مَنْ أُعْطِيَ القوّةَ ومُكِّنَ من البلوغِ إلى الدرجاتِ الرفيعةِ فرضيَ لنفسِه بأدنى منزلة. قولُه: (المُرجَأ لأمرِ الله)، النهاية: الإرجاء: التأخيرُ، مَهْموز. وفي حديثِ توبةِ كَعب بنِ مالك: ((وأرجَأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا)): أخَّرَنا. قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106]، أي: مؤخَّرون حتى يُنْزِلَ الله فيهم ما يُريد. قوله: (فكيف جعلت {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ})، يعني: لما كانت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}، وهو عبارةٌ عن السبق بالخيرات، فيلزَمُ أن يكونَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلاً من السبقِ بالخيرات، وليس بينهما مناسبةٌ ظاهراً ليُبْدَل منه. وتلخيصُ الجواب: أنّ السبقَ بالخيراتِ لما كان سببًا لنيلِ الثوابِ حُمِلَ على نَفْسِ الثوابِ إقامةً للسببِ مُقامَ المُسبَّب، ثم أُبْدِلَ منه، ولعَمْري هذا بعيدٌ عن الذوق، متعسِّفٌ جدًّا، وما دعاهُ إليه إلا تصحيحُ مَذْهَبه، ونحن معاشرَ أهل السنَّة نجعلُ المشارَ إليه بقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} ما سبق من معنى الإيراث، كما في ((الوسيط))، ونجعلُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} جملةً مستأنفة. قال مُحيي السُّنة: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني: إيراثَهم الكتابَ، ثم أخبرَ بثَوابهم فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعني: الأصناف الثلاثة. وقال أبو البقاء: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبرُ مُبتدأٍ محذوف أو مبتدأ، والخبر {يَدْخُلُونَهَا}. ويؤَيِّدُه ما رواهُ المصنِّفُ أنّه قُرِئَ: ((جَنّاتِ عَدْنٍ)) بالنصبِ على إضمارِ فعْلٍ يُفَسُرِّه الظاهرُ، أي: يدخلونَ جَنّاتِ عَدْنٍ يدخلونها، فنَتخَلَّصَ بهذا التأويلِ من هذا المضيقِ ويَسْلَمَ النظمُ السَّريُّ من الانفكاك، وهذا أولى مما ذهبَ إليه بوجوه: أحدُها: أن سُنّة الله جاريةٌ في هذا الكتابِ المجيد أن يُقابلَ ذكْرَ المؤمنينَ بذكْرِ مُخالفيهم، ويقارِنَ ذكر الجنة بذكر النار. ولما ذكر أوصافَ المؤمنينَ وما إليه مصيرُهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} وهلُمَّ جرًّا إلى قوله: {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} قابلَه بذكْرِ الكافرين وما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إليه مصيرُهم في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، فلو جعلَ بعضَ أولئك من أهل النارِ لبطلَ التقابُل ولناقضَ تفسيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رواه الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال: ((هؤلاءِ كلّهم بمنزلة واحدةٍ وكلُّهم في الجنة)). وثانيها: أنَّ قولَهم: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} لا يلتئمُ بما قبْلَه إذا جُعِلَ الشكورُ مقولاً للسابقِ بالخيراتِ والغفورٌ للظالمِ والمُقْتصِد، والعجَبُ أنه كيفَ بادرَ إلى لفظِ الشكورِ وقال: دلَّ الشكورُ على أنّ القومَ كثيروا الحسناتِ وتقاعَدَ عن لفظِ الغَفور في أنه دلَّ على أنّ القومَ كثيرو السيئات، وعن قولِ ابن عباس: ((غفَرَ العظائمَ من ذنوبِهم، وشكرَ اليسيرَ من محاسنِ أعمالِهم))! وما روى الإمام أحمد عن أبي الدرداءِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد ما ذكرَ تفسيرَ الفريقَيْن قال: ((وأما الذينَ ظلموا أنفُسَهم فأولئك الذي يُحْبَسون في طولِ المَحْشَر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، وفي ((المعالم)): نحوه. وثالثها: وهل يليقُ ويَستقيمُ أن يمدحَ الله قومًا في أولِ كلامِه بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} - وقد قال المصنِّف: ((وهم أمَّةٌ من الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ بعدَهم إلى يومِ القيامة، لأنّ الله تعالى اصطفاهُم على سائرِ الأُمم وجعلَهم أمةً وسطًا شُهداءَ على الناسِ واختَصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضَلِ رُسِل الله وحَمْلِ الكتابِ الذي هو أفضَلُ كُتبِ الله، ثم قَسَّمهم إلى ظالمٍ لنفسه)) إلى آخرِ ما قال فيهم- ثم يرجعُ إلى آخرِ كلامِه ويجعلُ أكثَرهم من الذين يُخَلَّدون في النار؟ ! قال صاحبُ ((الانتصاف)): قد صُدِّرَتِ القصّةُ

الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بـ (ذلك)؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب؛ فأبدلت عنه (جنات عدن). وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذرًا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»؛ فإنّ شرط ذلك صحة التوبة؛ لقوله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بذكْرِ المصطفَيْن من عبادِ الله، ثم قَسَّمهم إلى الظالمِ والمقتصدِ والسابقِ فيلزَمُ اندراجُ الظالمِ الموَحِّدِ في المصطَفْين وإنّه لمنهم، وأيُّ نِعمةٍ أعظمُ من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدَع، فما بالُ الزمخشريّ يُطنبُ في التسوية بين الموحِّدِ المُصْطفى وبين الكافرِ المَخْزِيِّ. وقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عائدٌ إلى المصطفَيْن عُمومًا، وإعرابُها مبتدأٌ، و {يَدْخُلُونَهَا} خَبرهُ، وقولهُ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إلى آخرِ الآيةِ خَبَرٌ بعدَ خَبَر. قولُه: (حَذَرًا) أي: فليَحذَرْ حَذَرًا أيَّ حَذَر، وليهلكَ من جِهةِ الحِذار، أو لأجلِه، أو حالَ كونِه حَذِرًا. قولُه: (وعليهما بالتوبة النصوح)، عن بعضِهم: هو من قولِهم: نصحت الإبل الشُّرْبَ تنصَحُ نُصوحًا، أي: صدقتُها، وأنصَحْتُها أنا أروَيْتُها، ومنه التوبةُ النصوحُ، وهي الصادقة. قولُه: (سابقُنا سابق)، الحديث رواه البيهقيُّ في ((البعث والنشور))، ومعنى: ((سابقنا سابق)) أي: مَن زادت حسناته على سيئاته فهو الذي يدخلُ الجنة بغير حساب، و ((مقتصدنا ناجٍ)): أن من استوت حسناتُه وسيئاتُه فهو يحاسبُ حسابًا يسيرًا، ثم يدخل الجنة، و ((ظالمنا مغفورٌ له)): أن من أوْثقَ نَفْسَه بالذنوب، فهو إمّا أن تُدركه الشفاعةُ، أو يغفر الله تعالى له بفَضْله، أو يُعذّبه بقَدرِ ذَنْبِه ثم يخرجه ويدخله الجنة. روى البيهقيُّ عن جابرٍ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنه حديثًا موقوفًا عليه هذا معناه.

تعالى: (عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)] التوبة: 102 [، وقوله: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)] التوبة: 106 [، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر، ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ: (سباق). ومعنى: (بِإِذْنِ الله): بتيسيره وتوفيقه. فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقرئ: (جنة عدن) على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين، و: (جنات عدن): بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر؛ أى يدخلون جنات عدن يدخلونها، و (يدخلونها) على البناء للمفعول، و (يحلون) من: حليت المرأة، فهي حال. (وَلُؤْلُؤاً) معطوفًا على محل (من أساور)، و (من) داخلة للتبعيض، أى: يحلون بعض أساور من ذهب، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض، كما سبق المسوّرون به غيرهم. وقيل: إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ. و (لولؤا) بتخفيف الهمزة الاولى. وقرى: (الحزن) والمراد: حزن المتقين، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة، كقوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم)] الطور: 26 - 27 [. وعن ابن عباس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كأنه بعضٌ سابقٌ لسائرِ الأبعاض)، أي: في ذكْرِ البعضِ الدلالةُ على فَضَلِها وتفوقها على سائر الأبعاضِ كما سبقَ المُسَوَّرون به غيرَهم بهذا البعضِ من الأساورِ، ونحوهُ قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، وأريد به محمَّدٌ صلواتُ الله عليه، واللامُ في ((لسائرِ)) كاللام في: ((أنا ضاربٌ لزيد)). قولُه: (((ولولؤًا)) بتخفيفِ الهمزةِ الأولى)، في ((التيسير)): ترك أبو بكر وأبو عَمْروٍ -إذا خفف- الهمزة الأولى من ((لؤلؤًا))، وحَمزَة إذا وقفَ: سَهَّل الهمزتَيْن على أصلِه، وهشامٌ: يسهِّلُ الثانيةَ فيه في غيرِ النصبِ على أصلِه، والباقونَ يُحقِّقُونهما.

رضي الله عنهما: حزن الاعراض والآفات. وعنه: حزن الموت. وعن الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. وقيل: همّ المعاش. وقيل: حزن زوال النعم، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه: أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا، حتى هذا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم؛ وكأنى بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) ". وذكر الشكور دليل على أن القوم كثير والحسنات. (المقامة): بمعنى الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقامًا ومقامة. (مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه وإفضاله؛ من قولهم: لفلاٍن فضول على قومه وفواضل، وليس من الفضل الذي هو التفضل؛ لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (يخرجونَ من قبورِهم وهم ينفضون الترابَ عن وجوهِهم ويقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ})، الحديث ما وجدته في الأصول، غير أنه غيرُ موافقٍ لظاهر الآية؛ لأنَّ السابقَ جنات عدن يدخلونها، واللاحق الذي أحلنا دار المقامة صريح في أن مثل هذا القول صادر عنهم في الجنة. قولُه: ({الْمُقَامَةِ} بمعنى الإقامة)، عن بعضِهم: دار المُقامةِ مفعولٌ ثانٍ لـ {أَحَلَّنَا}، وليسَت بظَرْفٍ لأنها محدودة، {وَلاَ يَمَسُّنَا} حالٌ من المفعولِ الأول. قولُه: ({مِنْ فَضْلِهِ}: من عطائِه وإفْضاله)، الإفضالُ: الإحسانُ. أفضَلَ عليه وتفَضَّل: بمَعنى، وأفضَلَ منه فَضْلةً. قولُه: (وليسَ من الفضلِ الذي هو التفضُّل)، وعند أهلِ السنّة مِنْ تَفضُّلهِ وكَرمه. قال الزجاج والواحدي: ذلك بتفضّلهِ لا بأعمالِنا، وفي ((المطْلع)): لا باستحقاقِنا. لأن العملَ

والتفضل كالتبرع. وقرئ: (لغوب) بالفتح؛ وهو اسم ما يلغب منه، أى: لا نتكلف عملًا يلغبنا، أو مصدر كالقبول والولوغ، أو صفة للمصدر، كأنه لغوب لغوب، كقولك: موت مائت. فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له، وأما اللغوب: فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب: نفس المشقة والكلفة، واللغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معناه زائلٌ، ثوابُ الجنةِ دائم لا يزولُ، ولعلّ المصنِّفَ لما خَصَّ قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} إلى آخره بالسابقِ دونَ الظالمِ والمُقتصِدِ ذهبَ إلى هذا المعنى. قولهُ: (وقُرِئَ: ((لَغوب)) بالفتح)، قالَ ابنُ جنِّي: وهي قراءةُ عليٍّ رضي الله عنه والسُّلَميِّ، وفيه وجهان: إن شئْتَ حَمَلْتَه على ما جاء من المصادر على الفَعولِ، نَحْو: الوَضوء والوَلوع والوَقود، وإن شئْتَ جعلتَه صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا يَمسُّنا فيها لُغوبُ لَغوبٍ، على قولِهم: شِعْرُ شاعرٍ ومَوْتُ مائتٍ، كأنه وصَفَ اللُّغوبَ بأنه قد لَغِبَ، أي: أعيي وتَعِب. وعليه قولُهم: جُنَّ جنونُه، وخرَجَتْ خَوارجُه، وعلى هذا حملَ أبو بكرٍ قولَهم: توضأت وَضوءًا، أي: وُضوءًا وَضوءًا. وحكى أو زيد: رجلٌ ساكوتٌ بيِّن الساكوتة، فلما قرأتُ هذا على أبي عليٍّ حمله على قياس قول أبي بكر، فقال: تقديرُه بَيِّن السكتةِ الساكوتةِ، فجَعل الساكوتةَ صفةَ مصدرٍ محذوف، وحَسَّنَ ذلك عندي أنه من لفظِه. قولُه: (واللُّغوب: نتيجتُه)، أجابَ عن الفَرْقِ ولم يُبيِّنِ الأسلوبَ بأنه مِن أيِّ قَبيلٍ هو، ولأيِّ فائدةٍ تكرارُ ((المسّ))؟ أما الأسلوبُ فمن باب قولِه: لا ترى الضَّبَّ بها يَنجَحِر

[(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)] 36 - 37 [ (فَيَمُوتُوا) جواب النفي، ونصبه بإضمار "أن". وقرئ: (فيموتون) عطفًا على (يقضى)، وإدخالًا له في حكم النفي، أى: لا يقضى عليهم الموت فلا يموتون، كقوله: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)] المرسلات: 36 [. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء (يجزى)، وقرئ: (يجازى)، و (نجزى كُلَّ كَفُورٍ) بالنون. (يَصْطَرِخُونَ): يتصارخون: يفتعلون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقولِه: على لاحِبٍ لا يُهتَدى بمَنارِهِ أي: لا ضَبَّ ولا انجِحار، ولا مَنارَ ولا اهتِداء، ولا نَصَبَ ولا لُغوب. والمُرادُ نفيُ النَّصَب، وإنما ضمَّ إليه نتيجتَه ليُؤذِنَ بأنّ انتِفاءَ السَّبَبِ أمرٌ مُحقَّقٌ لا نِزاعَ فيه، وبلغَ في تحقُّقِه إلى أنْ صارَ كالشاهدِ على نفي المُسبَّب، وهو اللُّغوب. وتكريرُ ((المسّ)) للترديدِ وتعليقِ كُلِّ مرّةٍ ما لم تُعلَّقْ به أولاً، كقولِ الشاعر: لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرّاءُ قولُه: ({فَيَمُوتُوا} جوابُ النفي)، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم} في محلِّ فاعل {يُخَفَّفُ}، و {مِّنْ عَذَابِهَا} في موضع نصب، ويجوز العكس. قولُه: (وقُرِئَ ((يُجازي)) و ((يُجْزي)) و {نَجْزِي})، بالنون: كلّهم إلا أبا عمروٍ، فإنه قرأ بالياءِ مَضمومةً وفتَحَ الزاي)).

من الصراخ؛ وهو الصياح بجهد وشدّة. قال: كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته. فإن قلت: هلا اكتفى بـ (صالحا) كما اكتفى به في قوله تعالى: (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً)] السجدة: 12 [؟ وما فائدة زيادة (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) على أنه يوهم أنهم يعملون صالحًا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت: فائدة زيادتها التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به. وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي؛ ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرةٍ صالحة، كما قال الله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)] الكهف: 104 [، فقالوا: أخرجنا نعمل صالحًا غير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كصَرْخَة حُبْلى)، أوَّلُه: قصدْتُ إلى عَنْسي لأجدَحَ رَحْلَها ... وقد حانَ من تلك الدِّيارِ رَحيلُها فأنَّتْ كما أنَّ الأسيرُ وصَرَّخَتْ ... كصَرْخةِ حُبْلى أسلمَتْها قَبيلها أسلمَتْها: خذَلَتْها، مِن قولهم: أسلَمَه، أي: خذَلَه. والقبيلُ: القابلة، وقيل: كلُّ جيلٍ من إنسٍ وجنٍّ قَبيل. قولُه: (ولأنهم كانوا يَحسَبون)، تسليمٌ للاعتراضِ بعد الاعتذارِ منه، أي: يجوزُ اعتبارُ أنَّهم يعملون صالحًا آخرَ بناءً على زَعْمِهم؛ لأنهم كانوا يُحْسِنون صُنعًا، فعلى الأول: الصفةُ مؤكِّدة، وعلى الثاني: مميِّزة. قال أبو البقاء: {صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي} يجوز أن يكونَ صفتَيْن لمصدرٍ محذوفٍ أو مفعولٍ محذوف، ويجوزُ أن يكونَ {صَالِحًا} نعتًا للمصدرِ و {غَيْرَ الَّذِي} مفعولاً.

الذي كنا نحسبه صالحًا فنعمله. (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ) توبيخ من الله، يعنى: فنقول لهم. وقرئ: (ما يذكر فيه من أذكر) على الإدغام، وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشرة وسبع عشرة. و (النَّذِيرُ): الرسول. وقيل: الشيب. وقرئ: (وجاءتكم النذر). فإن قلت: علام عطف (وجاءكم النذير)؟ قلت: على معنى: (أو لم نعمركم)؛ لأن لفظه لفظ استخبار. ومعناه معنى إخبار، كأنه قيل: قد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} توبيخٌ من الله)، يعني: فنقولُ لهم، أي: يقولُ الله لهم ذلك موبِّخًا. قالَ الزجاج: معناه: أو لم نُعَمِّرْكم العُمرَ الذي يتذكَّر فيه مَنْ تذكَّر. وقال ابن الحاجب: {مَّا} لا يستقيمُ أن تكونَ نافيةً من حيثُ اللفظ ومن حيث المعنى. وأما اللفظُ فلأنها يجبُ قَطْعُها عن {نُعَمِّرْكُم}، لأنه لا يجوزُ أن يكونَ النفيُ من معمولهِ، وأيضًا فإنَّ الضمير في {فِيهِ} يرجع إلى غير مذكور. وأما المعنى: فلأن قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} إنما سيق لإثباتِ التعميرِ وتوبيخِهم على تركِهم التذكيرَ فيه، فإذا جُعِلَ نفيًا كان فيه إخبارٌ عن نفيِ تذكُّرِ متذكِّر فيه فظاهرُه على ذلك نَفْيُ التعمير؛ لأنه إذا كان زمانًا لا يتذكَّرُ فيه متذكِّرٌ لزِمَ أن لا يكون تعميرًا وهو خلافُ قولِه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم}. قولُه: (العُمْرُ الذي أعذرَ الله فيه) الحديثُ من رواية البخاري عن أبي هريرة قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعذَرَ الله إلى امرئٍ أخّر أجلَه حتى بلغ ستين سنة)). النهاية: أي: لم يُبْقِ فيه موضعًا للعتذارِ حيث أمهَلَه طولَ هذه المدةِ ولم يَعْتَذر. يقال: أعذَرَ الرجلُ؛ إذا بلغ أقصى الغايةِ في العُذْر.

عمرناكم وجاءكم النذير. (إِنَّ الله عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)] 38 [ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كالتعليل؛ لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون؛ فقد علم كل غيٍب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها، وهي تأنيث "ذو" في نحو قول أبى بكر رضى الله عنه: ذو بطن] بنت [خارجة جارية. وقوله: لتغنى عنّى ذا إنائك أجمعا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ذو بَطْنِ [بنت] خارجة)، قيل: خارجة: جاريةُ امرأةٍ من بَجيلةَ ولدَتْ كثيرًا من قبائلِ العرب. أي: جَنينُها جارية. المغرب: ذو بَطْنِ بنتِ خارجة جارية؛ أي: جَنينُها، وألقت الدجاجة ذا بَطْنِها. قولُه: (لتُغْنيَ عني ذا إنائك أجْمعا)، أوله: إذا قالَ قَدْني قُلْتُ بالله حِلْفة قدْني وقَطْني؛ أي: حَسْبي. حِلْفةً: نصْبٌ مَصْدَرٌ للفعلِ المحذوف الذي يتعلَّق به الباءُ في ((بالله))، واللامُ في ((لتُغْنيَ)) للقسَم وأصله: ((لتُغْنينْ)) بالنون الخفيفة المؤكّدة، فلما حُذفَت بَقِيت الياءُ مفتوحةً على ما كانت عليه قبل الحذفِ لثبوتِ النونِ الخفيفة في النية. ((لِتُغْني عني)) أي: بَعِّدْ عني وتَنَحَّ جميعَ ما في إنائك، ولا تُعِدْهُ إليَّ بل اشرَبْ، والعرب تقول: اغنِ عَنّي وَجْهَك، أي: بَعِّدْه، وإنما أضافَ الإناءَ إلى المخاطَبِ وليس الإناء له وإنما هو للمتكلِّم؛ لِما بينَ المخاطَبِ وبينَ الإناءِ مُلابَسة، تقول لما نزل الضيفُ بالمُضيف: أكرم مثواه، وبالغ في سَقْيه، فقال الضيفُ للمضيفِ وهو يسقيه ما في الإناء: حَسْبي ما شربتُه، فقال له الساقي: أُقْسِمُ بالله لتشربَنَّ جميعَ ما في إنائِك من اللبن. قال المصنِّف: فَرْقٌ

المعنى: ما في بطنها من الحبل، وما في إنائك من الشراب؛ لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء. ألا ترى إلى قولهم: معها حبل؟ وكذلك المضمرات تصحب الصدور، وهي: معها، وذو: موضوع لمعنى الصحبة. [(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً)] 39 [ يقال للمستخلف: خليفة وخليف؛ فالخليفة يجمع: خلائف، والخليف: خلفاء، والمعنى: أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها؛ لتشكروه بالتوحيد والطاعة، (فَمَنْ كَفَر) منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية، فوبال كفره راجع عليه؛ وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزى وصغار، وخسار الآخرة الذي ما بعده خسار. والمقت: أشدّ البغض، ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتى؛ لكونه ممقوتًا في كل قلب. وهو خطاب للناس، وقيل: خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: جعلكم أمّة خلفت من قبلها، ورأت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين قولك: رجلٌ ذو إناءٍ وقولِك: اشرَبْ ذا إنائك، وذلك أنك وصفْتَ الرجلَ بأنه صاحبُ إناءٍ ومالكُه وليس كالآخر لا إناءَ له، وأردْتَ بالثاني: أنه في الإناءِ فإضافتُه كإضافةِ اشرَبْ شرابَ إنائك. أي: اشرَبْ جميعَ ما في الإناء. قولُه: (خلفاءَه في أرضِه)، الراغب: خلفَ فلانٌ فلانًا: قامَ بالأمرِ إما بَعْدَه وإما معَه، والخلافة: النيابةُ عن الغيرِ إمّا لغيبةِ المنوبِ عنه، وإما لموتِه، وإما لعَجْزه، وإما لتشريفِ المُسْتخلَف، وعلى الوجهِ الأخيرِ استخلف الله تعالى عباده في الأرض قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}. وقلت: وإلى هذا المعنى نظرَ المصنِّفُ حيث قال: ((وغَمَطَ مثْلَ هذه النعمةِ السَّنية)).

وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، فمن كفر منكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة، كما أنّ ذلك حكم من قبلكم. [(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً)] 40 [ (أَرُونِي) بدل من (أرأيتم)؛ لأنّ معنى (أرأيتم): أخبرونى، كأنه قال: أخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة، أرونى أى جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله، أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب؟ أو يكون الضمير في (آتَيْناهُمْ) للمشركين، كقوله: (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً)] الروم: 35 [. (أم آتيناهم كتابا) من قبله. (بل إن يعد) بعضهم؛ وهم الرؤساء (بَعْضاً)؛ وهم الأتباع (إِلَّا غُرُوراً)؛ وهو قولهم: (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ الله)] يونس: 18 [. وقرئ: (بينات). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أيَّ جزءٍ من أجزاءِ الأرضِ استبدُّوا بخَلْقِه دون الله)، إنما فَسَّر {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} بهذا، وجعل ((ما)) استفهامية ليتنزّل إلى قولِه: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ثم إلى قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا}، لأنّ ((أم)) مُنقطعةٌ متضمِّنةٌ للهمزة، و ((بل)) تقتضي التدرُّج، كأنه قيل: أخبروني الذين تَدْعونَ من دون الله هل استبدّوا بخلقِ شيءٍ حتى يكونوا مَعْبودينَ مثْلَ الله، ثم نزلَ منه إلى: ألَهُمْ شَرِكةٌ في الخَلْق؟ ثم نزلَ منه إلى: أم معَهم بَيِّنةٌ وحُجّةٌ مكتوبةٌ بالشرِكة؟ وإذا جُعلَ الضميرُ في {آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} للمشركين لا للأصنام، فيكونُ التدرجُ من دليلِ العقل إلى دليل النقل. قولُه: (وقُرِئَ: ((بَيَّناتٍ)))، نافعٌ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ والكِسائيّ: بالجمع، والباقون: بغيرِ ألفٍ على التوحيد.

[(إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)] 41 [ (أَنْ تَزُولا): كراهة أن تزولا، أو: يمنعهما من أن تزولا؛ لأن الإمساك منع. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن يهدّا هدّا؛ لعظم كلمة الشرك، كما قال: (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)] مريم: 90 [. وقرئ: (ولو زالتا). وإن أمسكهما: جواب القسم في (وَلَئِنْ زالَتا) سدّ مسدّ الجوابين، و (من) الأولى مزيدة لتأكيد النفي، والثانية: للابتداء. و (من بعده): من بعد إمساكه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه قال لرجٍل مقبٍل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبًا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب! أما ترك يهوديته بعد؟ ! ثم قرأ هذه الآية. [(وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً (43) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً)] 42 - 44 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (غَيْرَ مُعاجلٍ بالعُقوبةِ حيثُ يُمْسِكُهما)، قالَ الزجاج: سأل بعضُهم: لم كانَ في هذا الموضع ذِكْرُ الحلم والمغفرة والمقام يدل على القدرة؟ والجوابُ: أنه تعالى لما أمسكَ السماواتِ والأرضَ عند قولهم: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88]، حَلُمَ فلم يُعَجِّل لهم بالعقوبة، وكان مِن حَقِّ السماوات والأرضِ أن تَزولا مِن عَظيمِ فِرْيَتِهم.

بلغ قريشًا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسوٌل لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه. وفي (إِحْدَى الْأُمَمِ) وجهان؛ أحدهما: من بعض الأمم، ومن واحدةٍ من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم. والثاني: من الأمّة التي يقال لها إحدى الأمم؛ تفضيلًا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. (ما زادَهُمْ) إسناد مجازى؛ لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورًا عن الحق وابتعادًا عنه، كقوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)] التوبة: 125 [. (اسْتِكْباراً) بدل من (نفورا)، أو مفعول له، على معنى: فما زادهم إلا أن نفروا استكبارًا وعلوًّا فِي الْأَرْضِ، أو حال بمعنى: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ويجوز أن يكون (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوفًا على نفورًا فإن قلت: فما وجه قوله: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ)؟ قلت: أصله: وأن مكروا السيئ، أى المكر السيئ، ثم ومكرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (من الأمةِ التي يقال لها إحدى الأمم)، هذا كما يقال: واحدُ القومِ وأوحَدُ العصر، أي: أفضَلُهم. الأساس: وهو واحدُ قومِه وأوحَدُهُم، وهو واحدُ أُمّه، وفلانٌ وَحدٌ وَوحيدٌ، واستوحَدَ: انفرد، وأوحَدَ الله فلانًا: جَعَله بلا نَظير، وعن بعضِهم: تقولُ العربُ للداهيةِ العظيمة: هي إحدى الإحَد، وإحدى من سبع، أي: إحدى ليالي عادٍ في الشدَّة. قولُه: (أصلُه: وأن مكَروا السيّء، أي: المَكْرَ السيء)، قالَ مَكّي: هو من إضافةِ الموصوفِ إلى الصفةِ تقديرُه: ومكَروا المكْرَ السيءَ، ودليلُه قولُه بعد ذلك: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فـ ((مَكْرَ السَّيِّئ)) انتصبَ على المصدرِ ثم أُضيفَ إلى نَعْتِه اتساعًا، كصلاةِ الأولى ومسجد الجامع. وفي ((التيسير)): نحوهُ إضافة الحق إلى اليقين، ووصفه بالسيء؛ لأنه كانَ

السيئ، ثم ومكر السيئ. والدليل عليه: قوله: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). ومعنى (يحيق): يحيط وينزل. وقرئ: (ولا يحيق المكر السيئ) أى: لا يحيق الله، ولقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً؛ فإنّ الله تعالى يقول: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا، يقول الله تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم)] يونس: 23 [». وعن كعب: أنه قال لابن عباس رضى الله عنهما: قرأت في التوراة: من حفر مغواةً وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية. وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جبًا، وقع فيه منكبًا. وقرأ حمزة: (ومكر السيئ) بإسكان الهمزة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للصدِّ عن الحق، وقد يكون المكرُ حَسنًا إذا كان احتيالاً للدعاء، ومنه قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. قولُه: (مُغَوّاة)، الجوهري: المُغوَّياتُ بفَتْح الواو مُشَدَّدة جَمْعُ المُغَوّاة، وهي: حُفْرة كالزُّبْيةِ بالزاي المضمومةِ، يقال: مَنْ حَفر مُغَوّاةً وقع فيها. وفي ((المستقصى)): يُضرَبُ لمن أرادَ بصاحبهِ مكرًا فحاقَ به. قولُه: (وقرأَ حَمْزة: ((ومَكْرَ السِّيْئ))، بإسكانِ الهمزةِ)، في ((التيسير)): قرأها حمزةُ في الوصلِ لتوالي الحركات تخفيفًا، كما سكَّن أبو عمروٍ والهمزةَ في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] لذلك، وإذا وقَف أبدَلها ياءً ساكنة، والباقون: بخَفْضِها في الوصلِ، ويجوزُ روْمُها وإسكانُها في الوقف. وفي ((المطْلع)): قال أبو جعفر النحاس: وقفَ عليه حمزةُ، وهو وَقْفٌ تامّ، فظنّ الراوي أنه وَصْلٌ لخفة الوقفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: وقرأ حمزة: ((ومَكْرَ السّيِّئ)) موقوفًا، وهذا عند النحويين لَحْن، وإنما يجوز في اضطرارِ الشعر، وأنشدوا: إذا اعوجَجْنَ قلتُ: صاحِ قَوِّمِ أي: يا صاحب، والأصلُ: يا صاحبُ قَوِّم، لكنه حذفَ مَضطرًّا، وكان الضم بعد الكَسر، والكسر بعْدَ الكسر مستثقلاً، وأنشَدوا: فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتحقِبٍ ... إثْمًا من الله ولا واغِلِ وهذان البيتان قد أنشدَهما جميعُ النحويينَ الحذّاق، وزعموا كلهم أن هذا من الاضطرار لا يجوز مثله في كتاب الله تعالى، وأنشدَهما محمدُ بن يزيد: إذا اعوجَجْن قُلْتُ: صاحِ قَوِّمِ وهذا جيد بالغ، وأنشدنا: فاليومَ فاشْرَبْ غيرَ مستحقِب وأما ما يُروى عن أبي عمروٍ بن العلاء: ((إلى بارِئْكم)) [البقرة: 54]، فإنّما هو أن يختلسَ الكَسْر اختلاسًا ولا يَجْزِم، وراويه غيرُ ضابطٍ ضَبْطَ سيبَويْهِ والخليل. ورواهُ سيبويهِ باختلاسِ الكَسْر، كأنه يقلل صوتَه عند الكسر.

وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظنّ سكونًا، أو وقف وقفةً خفيفة، ثم ابتدأ (وَلا يَحِيقُ). وقرأ ابن مسعود: (ومكرا سيئا). (سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ): إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، وجعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم، وبين أنّ عادته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها، أى: لا يغيرها؛ وأنّ ذلك مفعول له لا محالة، واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسائرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم. (لِيُعْجِزَهُ): ليسبقه ويفوته. [(وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)] 45 [ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقالَ أبو عليّ: هو على إجراءِ الوصلِ مُجرى الوقفِ كما حكى سيبويه من قولهِ: ثَلَثْهُم. وقيل: يحتملُ أنه خَفَّف آخرَ الاسمِ لاجتماعِ الكسرتين والياءَيْن، كما خفَّفوا الباءَ من ((إبل))؛ لتوالي الكسرتين، ونُزِّلَ حركةُ الإعرابِ بمنزلةِ غيرِ حركةِ الإعراب. قولُه: (ومكرًا سَيِّئًا)، قالَ ابنُ جنِّي: يشهد لتنكيره تنكير ما قبله وهو {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}، وقراءةُ العامّة أقوى معنى لتعريفِه، كأنه قال: المكرَ السَّيئ مُستنكَرٌ في النفوس، مفعولٌ له لا محالة، أي: لله تعالى أن يفعَله. قولُه: (وجعل استقبالَهم لذلك انتظارًا له منهم)، اللام متعلِّقٌ بـ ((انتظارِ)) أي: أُريدَ أن يقال: فهل يَسْتقبلونَ إلا ما فَعلنا بما مضى من الأمم الماضيةِ من الدمارِ، وقيل: فهل ينتظرونَ، حُلولَ ميعادِه؟ قولهُ: (أي: لا يُغيِّرها)، معنى التبديلِ والتحويل. وقولُه: ((وأنَّ ذلك مفعولٌ له)) أي: لله تعالى، عَطْفٌ تفسيريٌّ، فَسَّر معنى ((لن)) وتكريرَه وما يَتَّصِلُ بهما.

(بِما كَسَبُوا): بما اقترفوا من معاصيهم. (عَلى ظَهْرِها): على ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ): من نسمة تدب عليها، يريد بنى آدم. وقيل: ما ترك بنى آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم تلا هذه الآية. وعن أنس: إن الضب ليموت هزلًا في جحره بذنب ابن آدم. وقيل: يحبس المطر فيهلك كل شيء. (إِلى أَجَلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: ({عَلَى ظَهْرِهَا} على ظهر الأرض)، قد جرى ذكْرُ الأرض فيما قبل هذه الآية، يَليها قولُه: {لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فلذلك جاءَ {عَلَى ظَهْرِهَا}. قالَ مَكِّي في قولِه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}: العاملُ في ((إذا)) هو {جَاءَ} لأن ((إذا)) فيها معنى الجزاء، والأسماءُ التي يُجازي بها يعملُ فيها ما بعْدَها، تقول: مَنْ أُكْرِمْ يُكْرِمْني، فأُكْرِم هو العاملُ في ((مَنْ)) بلا خلاف فأشبهَتْ إذن حروفَ الشرطِ لما فيها من معناه فعمِلَ فيها ما بعدها، وكان حقُّها أن لا يعملَ فيها، لأنها مُضافةٌ إلى ما بعْدَها من الجملِ والمضافُ إليه لا يعملُ في المضافِ لأنه مِن تَمامِه وفيه خلاف. والحقُّ أن الموضعَ الذي يُجازي بها يمكنُ أن يعمَلَ فيها الفعلُ الذي يليها، والموضعُ الذي لا يُجازي بها لا يحسُنُ أن يعمَل بها. قولُه: (إنّ الضّبَّ ليموتُ هَزْلاً في جُحْرِه بذَنْب ابنِ آدم)، النهاية: أي: يحتبسُ عنه المطرُ بشُؤم ذنوبهم، وإنما خَصَّ الضبّ، لأنه أطولُ الحيوانِ نَفْسًا، وأصبَرُها على الجوع. ورُوِيَ: ((الحُبارى)) بدَلَ ((الضبِّ)) لأنها أبعَدُ الطير نُجْعةً.

مُسَمًّى): إلى يوم القيامة. (كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) وعيد بالجزاء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة: أن أدخل من أى باب شئت». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هَزُلَتِ الدّابةُ هُزالاً، وأهْزَلْتُها أنا هَزْلاً، وأهزَلَ القوم: إذا أصابَت مواشيَهم السنة، فَهَزُلَتْ، أي: ضعُفَتْ، والهَزْلُ ضدّ السِّمَن. تَمَّتِ السورةُ بحَمْدِ الله

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب وهو حاشية الطيبي على الكشاف للإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي المتوفى سنة 743 هـ رحمه الله تعالى الجزء الثالث عشر تفسير السور من يس إلى نهاية فصلت

سورة يس

سورة يس مكية، وهي ثلاث وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1 - 7] قرئ: (ياسين) بالفتح، كـ"أين" و"كيف"، أو بالنصب على: اتلُ ياسين؛ وبالكسر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة يس مكية وهي ثلاث وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ("ياسين" بالفتح كـ"أين")، والمشهورة "ياسين" مبني على السكون، أبو بكر وحمزة والكسائي: بإمالة فتحة الياء، والباقون: بإخلاص فتحها. وقال ابن جني: فتح النون قراءة ابن أبي إسحاق [بخلاف] والثقفي، وبكسر النون أبو السمال، وبالرفع هارون. أما الفتح والكسر فكلاهما لالتقاء الساكنين وذلك

على الأصل، كـ"جير"، وبالرفع على: هذه ياسين، أو بالضم كـ"حيث". وفخمت الألف وأميلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: يا إنسان في لغة طيء. والله أعلم بصحته. وإن صح فوجهه أن يكون أصله: يا أنيسين، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: مُ الله، في: ايمن الله. {الحَكِيمِ}: ذي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه بنى الكلام على الإدراج، لا على وقف حروف المعجم؛ فحرك لذلك، ومن فتح هرب إلى خفة الفتحة لأجل ثقل الياء قبلها والكسرة، ومن كسر جاء به على أصل حركة التقاء الساكنين. وهو نظير جير وهيت لك وإيه وسيبويه وعمرويه وبابهما. ومن ضم احتمل أمرين: أحدهما لالتقاء الساكنين كـ"جير" و"هيت لك"، وفي الآخر: ما عندي فيه وهو: يا إنسان؛ لكنه اكتفى منه بالسين وحذف الفاء والعين وجعل السين اسمًا قائمًا بذاته، فـ"يا" فيه حرف نداء، ونظيره ما جاء في الحديث: "كفى بالسيف شا" أي: شاهدًا، فحذف العين واللام. ويؤيده ما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إليه في "حمعسق" ونحوه أنها حروف من جملة أسماء الله تعالى، وهي: رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك. قوله: (كـ"جير")، الجوهري: جير، بكسر الراء: يمين العرب، ومعناه: حقا، وقال: وايمن الله: اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون وألفه ألف وصل، وربما حذفوا منه النون فقالوا: أيم الله، وربما حذفوا الياء وقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة وقالوا: م الله.

الحكمة، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي، أو لأنه كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به. {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر، أو صلة لـ {المُرْسَلِينَ}. فإن قلت: أي حاجة إليه خبرًا كان أو صلةً، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي) أي: نسب الحكيم إلى ضمير القرآن، وجعل القرآن على سبيل الاستعارة المكنية كالشخص الناطق بالحكمة، والقرينة نسبة الحكيم إليه، أو أسند الحكمة إليه إسنادًا مجازيا؛ لأنه صدر من الحكيم، وإليه الإشارة بقوله: "فوصف بصفة المتكلم به". قوله: ({عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر أو صلة لـ {المُرْسَلِينَ})، روى صاحب "المرشد" عن الزجاج أنه قال: الأحسن في العربية أن يكون {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبرًا ثانيًا، والمعنى: إنك لمن المرسلين، إنك على صراط مستقيم، ويجوز أن يكون {عَلَى صِرَاطٍ} من صلة {المُرْسَلِينَ}، أي: المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، وقال القاضي: يجوز أن يكون حالًا من المستكن في الجار والمجرور، وفائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحًا وإن دل عليه: {لَمِنَ المُرْسَلِينَ} التزامًا. قوله: (ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره) إلى قوله: (وإنما الغرض وصفه) إلى آخره، وقال صاحب "الفرائد": لم يحصل مما ذكر جواب السؤال من الأول، وأما الثاني فهو قوله: فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه كنهه، فمنظور فيه، لأن الصراط

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المستقيم واحد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]. والجواب أن يقال: هذه الآية لرد قول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: لست مرسلًا، وإنك تركت الطريق المستقيم، ألا ترى إلى قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، فلا بد في الجواب من ذكرهما، وما ذكر أنه على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه، مسلم إلا أنه واحد ولا يلزم منه أن يكون الصراط المستقيم متعددًا. وقلت: من لم يقف على الأساليب كلها، ولم يستوعب معرفة أفانينهم بأسرها لا بد أن يحصل على شيء في أمثال هذين الجوابين: أما الجواب الأول، فنحوه قول صاحب "المفتاح": وإما لأن كونه، أي: المسند إليه متصفًا بالخبر [يكون] هو المطلوب لا نفس الخبر، كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ قلت: الزاهد يشرب ويطرب. وأورد صاحب "الإيضاح" أن قوله: "لا نفس الخبر" يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر وهو باطل، لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما أن يكون تصديقًا وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا فغير صحيح أيضًا. وأجيب: بأن مضامين الجمل مشتملة على أمرين: الإخبار عن الوقوع، وعن اتصال المسند إليه بالمسند وقد يقصد أحدهما قصدًا أوليًا، ويكون الآخر تبعًا له. قال الإمام في "النهاية": وقد يتصور في الفعل أن يكون المراد به وقوعه من الفاعل، وأن يكون مجرد اتصافه به. تم كلامه. وههنا ليس الغرض في إيقاع "عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" خبرًا أو صلةً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجرد الإخبار، وإنما الغرض أنه صلوات الله عليه وسلامه مستقر فيه ثابت عليه، وأنه جادته بل هو عادته. وقال المصنف في قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]: "وإذا كان الكلام منصبًا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض مطرح". وأما الجواب عن الثاني فعلى التجريد. قال ابن جني - في قراءة الحسن: "اهدنا صراطًا مستقيمًا"-: أراد -والله أعلم- التذلل لله تعالى وإظهار الطاعة له، أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: "صراطٌ مستقيم"، ولسنا نريد المبالغة في قول من قال: "اهدنا الصراطَ المستقيم" أي: الصراط الذي قد شاعت استقامته وتعولمت في ذلك طريقته، فإن قليل هدايتك لنا زاكٍ؛ وزاد في حسن التنكير ما دخله من المعنى، وهو أدم هدايتك لنا فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم، فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقين منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الخير، فقد آل إلى معنى التجريد، وأنشد أبو علي: أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل والله تعالى أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وعليه قوله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68]. وإليه ينظر قول "المصنف": "على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه" كأنه جعل الصراط المستقيم الصرط كلها، ثم جرد منها صراط مستقيم وهو هي، والله أعلم.

ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضًا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه. وقرئ: (تنزيلُ العزيز الرحيم) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على: أعني، وبالجر على البدل من {الْقُرْآنِ}. {قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ}: قومًا غير منذر آباؤهم على الوصف، ونحوه قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]، {وَمَا أَرْسَلْنَا الَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44]، وقد فسر {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} على إثبات الإنذار. ووجه ذلك: أن تجعل {مَا} مصدرية: لتنذر قومًا إنذار آبائهم، أو موصولةً منصوبةً على المفعول الثاني: لتنذر قومًا ما أنذره آباؤهم من العذاب، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40]. فإن قلت: أي فرق بين تعلقي قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} على التفسيرين؟ قلت: هو على الأول متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، وعلى الثاني: بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل، أو: فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت: لا مناقضة؛ لأن الآي في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تنزيل") قرأ حفص وابن عامر وحمزة والكسائي: بالنصب، والباقون: بالرفع. قال أبو البقاء: "تنزيل العزيز" أي: هو تنزيل، والمصدر بمعنى المفعول، أي: منزل العزيز، ويقرأ بالنصب على أنه مصدر، أي: نزل تنزيلًا، وبالجر أيضًا صفة للقرآن، وقوله: {لِتُنْذِرَ} يجوز أن يتعلق بـ {تَنْزِيلَ}، وأن يتعلق بمعنى قوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: مرسل لتنذر. قوله: (أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني) وعلى النافية كان صفة لـ"قوم"، وعلى المصدرية مفعولًا مطلقًا. قوله: (كيف يكونون منذرين غير منذرين؟ ) هذا السؤال وارد على ترتيب من ذهب

نفي إنذارهم لا في نفي إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أن آباءهم لم ينذروا، وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت: أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد. {الْقَوْلُ}: قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنِّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، يعني: تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب؛ لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر. [{إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 8 - 9] ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى إثبات الإنذار، وأن "ما" مصدرية أو موصولة. يعني: دل على إثبات الإنذار كما قلت: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم، أو ما أنذره آباؤهم، ودل قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46] {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42] على أن الإنذار لم يوجد رأسًا. وأجاب: أن الآيات لم تدل إلا على نفي إنذارهم، أما على نفي إنذار آبائهم فلا يشك في أن التفسيرين متنافيان لدلالة أحدهما أن آباءهم ما أنذروا، والثاني على أن آباءهم أنذروا. فأجاب: أن المراد ما أنذر آباؤهم الأقربون دون القدماء. قوله: (ثم مثل تصميمهم على الكفر)، الانتصاف: يكون تصميمهم على الكفر مشبهًا بذي الأغلال، واستكبارهم مشبهًا بالإقماح، لأن المقمح لا يطاطئ رأسه. وقوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} تتمة للزوم الإقماح، وعدم النظر في القرون الخالية مشبهًا بالسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهًا بسد من قدامهم. ونقل صاحب "الفرائد" عن صاحب "التيسير": الأغلال مع الأيدي مجموعة إلى الأذقان: عبارة عن منع التوفيق حين كانوا متكبرين مستثقلين للحق، لأن المتكبر يوصف

إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين؛ في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ}؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها؛ وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، تكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرًا من الحلقة إلى الذقن، فلا يخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله، فلا يزال مقمحًا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. قمح البعير فهو قامح: إذا روي فرفع رأسه، ومنه: شهرا قماح؛ لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء؛ لبرده فيهما، وهما الكانونان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بانتصاب العنق، والمتواضع يوصف بضده، قال تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 26]. قوله: (إلى ارعوائهم)، أي: امتناعهم وإمساكهم، يقال: ارعوى عن القبيح: إذا كف عنه. قوله: (نادرًا من الحلقة إلى الذقن)، الأساس: ندر: نادر من الجبل: إذا خرج ونتأ، وندر من بيته: خرج. قوله: (والمقمح: الذي يرفع رأسه)، الراغب: القمح: رفع الرأس لسَفِّ الشيء، ويسمى السويق من القمح -أي البر-: قميحه، ثم يقال لرفع الرأس كيف ما كان قمح، وقمح البعير رأسه وأقمحت البعير: شددت رأسه إلى خلف، وقوله تعالى: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} تشبيه بذلك، ومثل لهم، وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد للحق والتأبي عن الإنفاق في سبيل الله، وقيل: إشارة إلى حالهم يوم القيامة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل.

ومنه: اقتمحت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي، وزعم أن الغل لما كان جامعًا لليد والعنق -وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالًا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه: قوله: {فَهُم مُّقْمَحُونَ}، ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله: {فَهِيَ إِلِى الْأَذْقَانِ}؟ ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرًا، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اقتحمت السويق). عن بعضهم: أقمحت الدواء: إذا ألقتيه في فمك، ويقال: اقتمحته؛ أي: أشفقته، وذلك إنما يكون عند رفع الرأس. قوله: (فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي؟ ) قال محيي السنة: فهي كناية عن الأيدي وإن لم يجر لها ذكر، لأن الغل يجمع اليد إلى العنق. وقال الزجاج بعد ما ذكر نحوًا من هذا: ولم تذكر الأيدي إيجازًا واختصارًا، لأن الغل يتضمن اليد والعنق، ومثله قول الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضًا .... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه .... أم الشر الذي هو يبتغيني؟ فذكر الخير وحده، وقد علم أن الخير والشر معرضان للإنسان، ونحوه قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. قوله: (ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرًا)، الانتصاف: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كقوله: {فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ}، أو للتسبب، فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح، لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها، ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول، فربما تحيل بها على فكاك الغل فيكون منبهًا على انسداد باب الحيلة.

وترك الظاهر الذي يدعو المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. فإن قلت: فقد قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (في أيديهم)، وابن مسعود: (في أيمانهم)، فهل تجوز على هاتين القراءتين أن يجعل الضمير للأيدي أو للأيمان؟ قلت: يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للأغلال، وسداد المعنى عليه كلما ذكرت. وقرئ: {سَدًّا} بالفتح والضم، وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله فبالضم. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: فأغشينا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ظهور كون الضمير للأغلال) فاعل "يأبى"، و"سداد المعنى" عطف على "ظهور". قال الزجاج: من قرأ "في أيمانهم" أو "في أيديهم" المعنى واحد، وذلك أن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون العنق، فالمعنى: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيمانهم أغلالًا، {فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ} كناية عن الأيدي لا عن الأذقان لأن الغل يجعل اليد إلى الذقن، والعنق هو مقارب للذقن لا يجعل الغل العنق إلى الذقن. قوله: (وقرئ: {سَدًّا} بالفتح والضم) بالفتح: حمزة والكسائي وحفص، والباقون: بالضم. الراغب: أصل السد مصدر: سددته. وشبه به الموانع، والسدة كالظلة على الباب، وقد يعبر به عن الباب كما قيل: الفقير الذي لا يفتح له سدد السلطان، والسَّداد والسِّدَد: الاستقامة، والسِّداد: ما يسد به الثلمة والثغر، واستعير لما يسد به الفقر.

أبصارهم، أي: غطيناها وجعلنا عليها غشاوةً من أن تطمح إلى مرئي. وعن مجاهد: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين؛ من العشى. #وقيل: نزلت في بني مخزوم؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده، حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر فذهب، فأعمى الله بصره. [{وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وأَجْرٍ كَرِيمٍ} 10 - 11] فإن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار، ثم قفاه بقوله: {إنَّمَا}، وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيًا. قلت: هو كما قلت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بالعين؛ من العشى). قال ابن جني: هي قراءة ابن عباس وعكرمة وغيرهما من: عشى يعشى؛ إذا ضعف بصره، فعشي وأعشيته، كعمي وأعميته. وأما قراءة العامة فهي على حذف المضاف، أي: فأغشينا أبصارهم. وينبغي أن يعلم أن (ع ش ي) يلتقي معناها مع (غ ش ي)، فإن العشاوة على العين كالغشي على القلب، كل منهما يركب صاحبه ويتجلله، غير أنهم خصوا ما على العين بالواو وما على القلب بالياء من حيث كانت الواو أقوى من الياء، وما يبدو للناظر من العشاوة على العين أبدى إلى الحس مما يخامر القلب، ولهذا في هذه اللغة نظائر ما لو أودع كتابًا لكبر حجمه. قوله: (وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيًا)، الانتصاف: في سؤاله سوء أدب، وكان ينبغي أن يقال: ما وجه ذكر الإنذار الثاني؟

ولكن لما كان ذلك نفيًا للإيمان مع وجود الإنذار، وكان معناه: أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة، وهي الإيمان؛ قفي بقوله: {إنَّمَا تُنذِرُ} على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين، وهم المتبعون للذكر -وهو القرآن، أو الوعظ- الخاشون ربهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: توجيه السؤال أن قوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يستدعي سبق عدم الإنذار، أي: إنك لا تنذر من لم يتبع الذكر، وإنما تنذر من اتبعه، فكيف أثبت الإنذار بقوله: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} ثم عقبه بقوله: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}؟ وحاصل الجواب: أنه نزل وجود الإنذار الذي لم يفض إلى المقصود منزلة العدم، كأنه قيل: ما أنذرت أولئك لأنهم لم يؤمنوا، إنما تنذر هؤلاء الذين انتفعوا به. قال صاحب "المفتاح" - في قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]-: لا يخفى على أحد ممن به مسكة أن الإنذار إنما يكون إنذارًا ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله والبعث والقيامة وأهوالها. والنظم يساعد عليه، لأن أصل الكلام وارد على تقسيم المنذرين، وذلك أن قوله: {إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} مطلق شامل في المنذرين الذين لا ينفع فيهم الإنذار وفيمن ينفع فيهم ذلك، ثم قسم المنذرين في قوله: {لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} على قسمين، وحكم على أكثرهم أنهم لا يؤمنون، وأكد ذلك بالجملة القسمية، وسجله بسبق التقدير كما تعلق بهم هذا القول، أي: قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وثبت عليهم ووجب، ثم علل ذلك بخلق الكفر فيهم وجعلهم مصممين عليه، وآذن حبيبه صلوات الله عليه بالإياس عنهم بقوله: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، وجعله كالتخلص إلى ذكر الفريق الأقلين وهم المتبعون للذكر الخاشون ربهم، ولهذا التقرير البليغ والتقدير المقتضي ينبغي أن يستسلم العاقل ولا يكابر النص القاطع.

[{إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُّبِينٍ}] نحيي الموتى: نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم من الشرك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم) يعني: يجوز أن يحمل {يُحْيِ الْمَوْتَى} على الحقيقة كما سبق، وعلى المجاز كما ذهب إليه الحسن. اعلم أن التعريف في {المَوْتَى} يحتمل أن يجري على الجنس وعلى العهد. وعلى الثاني: إما أن يراد بهم المصممون على الكفر المعني بقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ}، أو المنتفعون بالإنذار في قوله: {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، أو الفريقان جميعًا، وقول الحسن منزل على الثالث. وتقديره: أنه تعالى لما أمره صلوات الله عليه وسلامه بإنذار هؤلاء وبشارتهم بالمغفرة والأجر الكريم اتجه لسائل أن يسأل: لم خص هؤلاء بهذين الأمرين؟ فأجيب لأنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان ونكتب ما قدموا وآثارهم من الخير والشر فنغفر سيئاتهم ونثيبهم على حسناتهم. وتقرير الوجه الثاني هو: أن الله تعالى لما ذكر ما دل على انتفاء إيمان أولئك المصممين، وقفاه بما دل على انتفاع الإنذار في حق هؤلاء، ورتب على الثاني البشارة بالمغفرة والأجر، قيل: إذا كان حكم هؤلاء هذا فما حكم أولئك المصممين؟ فقيل: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى} الآية. وتحرير المعنى: اشتغل بمن ينتفع بإنذارك وبشرهم بالفوز بالبغيتين ودع أولئك الموتى إلينا، فإنا نبعثهم ثم ننبئهم بما عملوا كما قال: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]، قال المصنف: هؤلاء الموتى - يعني الكفرة - يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم. وأما تقرير الجمع أو الجنس فمحمول على الفريقين وعلى أعم منهم، فيقدر الاستئناف على ما يقتضيه المقام، والله أعلم.

إلى الإيمان. {وَنَكْتُبُ مَا} أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد، أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك؛ أو سيئ؛ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله؛ من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها، ونحوه قوله عز وجل: {يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وأَخَّرَ} [القيامة: 13] أي: قدم من أعماله، وأخر من آثاره. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. وعن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما هلكوا عنه) أي: ماتوا وتركوا، وهو عطف على "ما أسلفوا"، وقوله: "أثر حسن" نشر لقوله: "ما أسلفوا"، وقوله: " أو سيئ كوظيفة" نشر لقوله: "وما هلكوا". قوله: (أو حبيس) أي: وقف. النهاية: يقال: حبست أحبس حبسًا، وأحبست أحبس إحباسًا، أي: وقفت. والاسم الحبس بالضم. قوله: (أو سكة أحدثها فيها تخسيرهم) أي: فيها ذهاب مال المسلمين. الأساس: ومن المجاز: خذ في هذه السكة أي: في هذه الطريقة وأنت عامل على سكة واضحة. وعن بعضهم: السكة: الحديدة التي يحرث بها. وسكة الدراهم، وطريقة النخل، وواحد السكك سكة إذا أثبته. قوله: (وعن جابر) الحديث من رواية الترمذي عن أبي سعيد قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا.

خالية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتانا في ديارنا، وقال: "يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد"، فقلنا: نعم، بعد علينا المسجد، والبقاع حوله خالية، فقال: "عليكم دياركم، فإنما يكتب آثاركم". قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلًا شيئًا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح. والإمام: اللوح. وقرئ: (ويكتب ما قدموا وآثارهم) على البناء للمفعول، (وكل شيء) بالرفع. [{واضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ القَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ومَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} 13 - 15] {واضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا}: ومثل لهم مثلًا، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي: على مثال واحد. والمعنى: واضرب لهم مثلًا مثل أصحاب القرية، أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية. والمثل الثاني بيان للأول. وانتصاب {إَذْ} بأنه بدل من {أَصْحَابَ القَرْيَةِ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه الأشياء على ضرب واحد) أي: مثال واحد. ذكر في "الأساس" في قسم المجاز: هم ضربائي، وقولهم: هو ضربه وضريبه، أي: مثله. قوله: (والمثل الثاني بيان للأول). قال أبو البقاء: قيل: التقدير: واذكر مثلًا أصحاب القرية، والثاني بدل من الأول، والظاهر أن "اضرب" بمعنى: اجعل، فـ {أَصْحَابَ}: مفعول أول، {مَثَلًا} مفعول ثان، واختار مكي هذا. وقال: أصح ما يعطي القياس فيه هذا.

والقرية: أنطاكية. و {الْمُرْسَلُونَ}: رسل عيسى صلوات الله عليه إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق، وكانوا عبدة أوثان، أرسل إليهم اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا شيخًا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب ياسين، فسألهما فأخبراه، فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض سنتين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فشفي على أيديهما خلق كثير، ورقي حديثهما إلى الملك، وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا. ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون؛ فدخل متنكرًا، وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فأنس به، فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين، فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك، فدعاهما، فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال: صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين، فدعوا الله حتى انشق له بصر، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سرًا، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد ذكرنا تعليله في قوله تعالى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] وهو اختيار المصنف هناك. قوله: (صاحي ياسين) روى صاحب "الجامع" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قتل ثقيف عروة بن مسعود: "مثل عروة مثل صاحب يس، دعا قومه إلى الله تعالى فقتلوه"، ولعل معنى النسبة مجيء ذكره في هذه السورة، وقريب منه تسمية السورة بالبقرة ونحوها لذكرها فيها.

يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم، ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام، فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه، فآمن، وآمن قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام فهلكوا. {فَعَزَّزْنَا}: فقوينا. يقال: المطر يعزز الأرض: إذا لبدها وشدها، وتعزز لحم الناقة. وقرئ بالتخفيف من عزه يعزه: إذا غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا، {بِثَالِثٍ} وهو شمعون. فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون، وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل، وإذا كان الكلام منصبًا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح، ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق إليه: قولك: بالحق؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَعَزَّزْنَا}: فقوينا)، الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز. أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، كقولهم: تظلف، أي: حصل في ظلف من الأرض، والعزيز: الذي يقهر ولا يقهر، وعز المطر الأرض: غلبها، وعز الشيء: قل، اعتبارًا بما قيل: كل موجود مملول، وكل مفقود مطلوب. قوله: (وقرئ بالتخفيف) أبو بكر: بتخفيف الزاي، والباقون: بتشديدها، وهما لغتان كشده وشدده، أي: قويناهما. قوله: (لم ترك [ذكر] المفعول به) أي: لم يقل: فعززناهما بثالث.

فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. إنما رفع {بَشَرٌ} هنا ونصب في قوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]؛ لأن "إلا" تنقض النفي، فلا يبقى لـ"ما" المشبهة بـ"ليس" شبه، فلا يبقى له عمل. فإن قلت: لم قيل: {إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} أولًا، و: {إنَّا إلَيْكُم لَمُرْسَلُونَ} آخرًا؟ قلت: لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار. [{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} 16 - 17] وقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قولهم: شهد الله، وعلم الله. وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم: {ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} أي: الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته؛ وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي، ولم يحضر البينة؛ كان قبيحًا. [{قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} 18 - 19] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الأول ابتداء إخبار) فيه نظر، لأن قوله تعالى: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} يدل على إنكار سابق، ولا سيما وقد سبق {أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا}، فلابد من كلام كذبا فيه، والجملة الابتدائية هي التي يتلقى بها خالي الذهن، وتكون خلوا من المؤكدات. قوله: (مع قولهم: {ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ}) متعلق بقوله: "وإنما حسن"، يريد: لولا قولهم: {ومَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} لم يحسن قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}؛ لأن هذا قول العاجز من الدليل الذي لم يبق له متشبث يتشبث به سوى هذه الكلمة، قال في قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ} [البقرة: 23]: أي: لا تستشهدوا بالله، ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه. وحين كان معترفًا به وهو أمارة على إقامة البينة فجاز وحسن، لأن البلاغ إنما يكون مبينًا إذا كان مؤكدًا بالمعجزات الظاهرة والآيات المشاهدة.

{تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}: تشاءمنا بكم؛ وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منهم نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشأموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا، و: بشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: {وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى ومَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]، وعن مشركي مكة: {وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78]. وقيل حبس عنهم القطر فقالوا ذلك. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم. {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ}، وقرئ: (طيركم)، أي: سبب شؤمكم معكم؛ وهو كفرهم، أو أسباب شؤمكم معكم؛ وهي كفرهم ومعاصيهم. وقرأ الحسن: (اطيركم) أي تطيركم. وقرئ: {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزة الاستفهام وحرف الشرط، و: (آإن ذكرتم) بألف بينهما، بمعنى: أتتطيرون إن ذكرتم؟ وقرئ: (أأن ذكرتم) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم)، الراغب: الطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء، وتطير فلان واطير، وأصله التفاؤل بالطير، ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم وقوله: (إنما طائرهم عند الله) أي: شؤمهم: ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم. قوله: (وقرئ: "طيركم") قال الزجاج: طائر وطير بمعنى واحد، ولا أعلم أحدًا قرأ "طيركم" بغير ألف. قوله: (وقرئ: {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزة الاستفهام وحرف الشرط) وهي المشهورة، وقرأ أبو عمرو وقالون وهشام: "آئن" بألف بينهما، وهو استفهام وشرط محذوف الجواب، تقديره: آئن ذكرتم، أي: وعظتم وزجرتم عن الشرك تطيرتم؟

بهمزة الاستفهام و"أن" الناصبة، بمعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرئ: (أن)، و: (إن) بغير استفهام بمعنى الإخبار، أي: تطيرتم لأن ذكرتم، أو: إن ذكرتم تطيرتم. وقرئ: (أين ذكرتم) على التخفيف، أي: شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أأن") إلى آخرها شواذ، قال ابن جني: قرأ الماجشون: "أن ذكرتم" بهمزة واحدة مفتوحة مقصورة ولا ياء بعدها، والأعمش وأبو جعفر: "أين" بهمزة بعدها ياء ساكنة والنون مفتوحة. "ذكرتم" مضمومة الذال خفيفة الكاف. أما "أن ذكرتم" فمنصوبة الموضع بقوله: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ}، فإنهم لما قالوا: {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أجيبوا: بل طائركم معكم أن ذكرتم، أي: هو معكم لأن ما ذكرتم، فلم تذكروا ولم تنتهوا، فاكتفى بالسبب الذي هو التذكير من المسبب الذي هو الانتهاء، كما وضعوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيق الغراب أو بروحه. وأما "أين ذكرتم" أي: حللتم وكنتم ووجدتم فذكرتم، فاكتفى بالمسبب الذي هو الذكر من السبب الذي هو الوجود، و"أأين" هاهنا شرط وجوابها محذوف لدلالة {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} عليه، أي: أين وجدتم وجد شؤمكم معكم. ولا يجوز الوقف على هاتين القراءتين على {مَّعَكُمْ}، لاتصال "أن" "وأين" بها، لكن جاز على الاستفهام لأن الاستفهام يقطع ما قبله عما بعده. قوله: (وإذا شئم المكان بذكرهم). أي: هو من باب الكناية، وذلك أن أجري ذكرهم في مكان دليل على أن المكان حامل على ذكرهم لأمارة أو أثر شؤم منهم فيه، ويقرب منه قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. قوله: ({بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان) هذا مبني على أن الإضراب من قوله:

ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو: بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله. [{وجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ * ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ}، وحده. فيكون قوله: {أَئِن ذُكِّرْتُم} شرطًا جزاؤه محذوف لدلالة {تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}، والشرط والجزاء معترضة، وإليه أشار بقوله: "أتطيرون إن ذكرتم؟ " أثبت أولًا {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} بمعنى: أسباب شؤمكم معكم، وهو كفرهم ومعاصيهم، وهو التقدير الثاني، وأكده بالجملة الشرطية، ثم أضرب عنه بقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: مسرفون في عصيانكم، فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله. "أو: بل أنت قوم مسرفون في ضلالكم متمادون" هذا مبني على أن الإضراب من المجموع بمعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وإلى التعليل أشار بقوله: "حيث تتشاءمون" بمعنى: سبب شؤمكم - وهو كفرهم - لأجل أن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا، وهو التقدير الأول، ثم أضرب عنه بقوله: " {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به". قال القاضي: {أَئِن ذُكِّرْتُم} شرط جوابه محذوف، أي: وعظتم تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب؛ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان. فمن ثم جاء الشؤم والإسراف في الضلال، ومن ثم توعدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يتبرك به. وأما ما قدره أبو البقاء: إن ذكرتم ثم كفرتم، فليس بشيء لأن الكلام مع الكفار، والكفر موجود فلا يجوز تعلق الشرط به والله أعلم.

مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ولا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} 20 - 25] {رَجُلٌ يَسْعَى}: هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما ست مئة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا؟ فوثبوا عليه فقتلوه. وقيل: توطؤوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم اهد قومي؛ وقبره في سوق أنطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: على بن أبي طالب، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون". {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خرج قصبه) القصب: الأمعاء وبه سمي القصاب، لأنه يزاول الأمعاء. قوله: (اللهم اهد قومي) روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". قوله: (كلمة جامعة في الترغيب فيهم) وذلك أن القائل أومأ بقوله: {اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} إلى أن المرسلين واجبو الاتباع، وأن من أرسله الله تعالى ليرشد الخلق ويخرجهم من الظلمات إلى النور كان صلاحهم في الدارين متابعته، وتعقيبه ذلك بقوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} تتميم؛ معناه: وأن من سعى في أمر لابد أن يطمع ويتوقع أجره، وهؤلاء السادة بخلاف ذلك، وبقوله {وهُم مُّهْتَدُونَ} إشارة إلى أن غرضهم في ذلك ليس إلا محض النصح لا متابعة أمر الشهوة والرياء، وأن يكونوا موطئي العقب،

شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم ابرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم؛ ليتلطف لهم ويداريهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه، ولقد وضع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو إيغال في نهاية من الكمال. روى ابن الأفلح الكاتب في المقدمة: أن النابغة الذبياني كان يضرب له قبة آدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها فأتاه حسان فأنشده، وأتاه الأعشى فأنشده، ثم أتته الخنساء فأنشدته القصيدة الرائية فلما بلغت: وإت صخر آلتأتم الهداة به .... كأنه علم في رأسه نار فقال لها: أما كفاك أن جعلته علما حتى صيرت في رأسه نارًا، والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر أهل زمانك من الجن والإنس.

قوله: {ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} مكان قوله: ومالكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله: {وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؟ ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} يريد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع)، قال صاحب "المفتاح": ولولا التعريض لكان المناسب: وإليه أرجع، وكذا {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ولا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} المراد: أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمان بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئًا ولا ينقذوكم إنكم إذًا لفي ضلال مبين، ولذلك قيل: {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} وأتبعه {فَاسْمَعُونِ} ولا تعرف حسن موقع هذا التعريض إلا إذا نظرت إلى مقامه وهو يطلب إسماع الحق على وجه لا يورث طالبي دم المسمع مزيد غضب، وهو ترك المواجهة بالتضليل والتصريح بارتكاب الباطل. قلت: قد ذهبا إلى أن قرينة التعريض هو قوله: ترجعون، ولو لاه لم يكن تعريضًا كأن هذا تعريض منهما بالواحدي حيث قال: فلما قال هذا، أي: الرجل: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} إلى آخره/ فرفعوه إلى الملك فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: {ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي: أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وإليه ترجعون، تردون عند البعث فيجزيكم بكفركم؟ تم كلامه. وذلك أنه إذا رجع الإنكار إليه لا إلى القوم لم يكن لخطاب القوم بقوله: {تُرْجَعُونَ} معنى، وكان الظاهر إليه أرجع.

فاسمعوا قولي وأطيعوني، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: إن الرجل كان في غيظ شديد من تكذيبهم الرسل، وقولهم: {مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} إلى قوله: {ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وانتهز الفرصة للانتقام، فلما تمكن من تهديدهم أوقع قوله: {وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في البين؛ أي: مالي لا أعبد الذي من علي بنعمة الإيجاد ونعمة الانتقام منكم والتشفي من غيظكم إذ ترجعون إليه، فيجزيكم بكفركم وتكذيبكم الرسل وعنادكم، لكن النظم يساعد على الأول، فإن التقدير: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون في عبادة الملك العلام الضار النافع، وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وما لكم أيها القوم لا تتبعونهم، ولا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فيجزيكم على أعمالكم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ثم نبه على ضلالتهم، وأنهم على خلاف ما عليه الرسل من الاهتداء بقوله: {إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ورشح التنبيه بقوله: {فَاسْمَعُونِ} أي: اسمعوا ما قلت لكم من حال الرسل وحالكم ثم حالي، لتفرقوا بين الحق والباطل، فتتبعوا الرسل. وقد يقال: إن الأسلوب من الالتفات المعنوي حيث التفت من حكاية النفس في {ومَا لِيَ} إلى الخطاب في {تُرْجَعُونَ}، ولا بأس باختلاف المفهومين، لأن المراد ما لكم كما سبق، وقريب من الأسلوب قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] قال المصنف: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} عبارة عن البخل، و {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة، والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما يقول: سبني سب الله دابره، أي: قطعه، لأن السب أصله القطع. قوله: (وما أدفع العقول وأكرها لأن تستحبوا) معناه: ما أدفع العقول وأنكرها

على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز. وقيل: لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم: {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي: اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. وقرئ: (إن يردني الرحمن بضر) بمعنى: إن يوردني ضرًا، أي: يجعلني موردًا للضر. [{قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ} 26 - 27] أي: لما قتل {قِيلَ} له: {ادْخُلِ الجَنَّةَ}. وعن قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق. أراد قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} [آل عمران: 169]. وقيل: معناه البشرى بدخول الجنة وأنه من أهلها. فإن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف؛ لأن هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأن قائلًا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل: ادخل الجنة، ولم يقل: قيل له؛ لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى القول له مع كونه معلومًا، وكذلك {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم. وإنما تمنى علم قومه بحاله؛ ليكون علمهم بها سببًا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر، والدخول في الإيمان، والعمل الصالح المفضيين بأهلها إلى الجنة. وفي حديث مرفوع: "نصح قومه حيًا وميتًا". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاستحبابكم عبادة أشياعكم على عبادة الله؛ إن أراد الله أن يضركم فهؤلاء لم يتمكنوا من الشفاعة. قوله: (نصح قومه حيًا وميتًا) أما نصحه حيًا فظاهر، وأما في الممات فإنه لا تمنى من الله

وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام؟ ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزًا، ولم تعقبه إلا سعادة؛ لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأول أوجه. وقرئ: (المكرمين). فإن قلت: "ما" في قوله تعالى: {بِمَا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى أن يعلم قومه بأنه تعالى غفر له وجعله من المكرمين لا يبعد أن الله تعالى أعطى مناه وحقق متمناه وأعلمهم ذلك إما بإلهام أو برؤية صادقة، وكان علمهم بذلك سبب لاكتساب مثلها لأنفسهم إلى آخر ما أشار إليه المصنف. هذا معنى نصح الميت. قوله: (في غمار) يقال: دخلت في غمار الناس وغمار الناس؛ بفتح وبضم، أي: كثرتهم وزحمتهم. قوله: (والأول أوجه) وهو أن يكون قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} تمنى علم قومه بحاله ليكون علمهم بذلك سببًا لاكتساب مثلها، لا تمنى أن ينتهوا عن خطئهم وصوابه، لما ينبئ ذلك على أنه نصح قومه حيًا وميتًا؛ ولما اشتمل على تلك الفوائد المتكاثرة على سبيل الإدماج بخلافه في الثاني، فإن فيه شائبة حظ النفس من الشماتة بهم والاغتياظ بها قال، فلا يطابق قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} كما سبق أن غرضهم في الدعوة لم يكن سوى محض النصح. قوله: (وقرئ: "المكرمين")، وهي شاذة.

غَفَرَ لِي رَبِّي} أي الماآت هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة؛ أي: بالذي غفره لي من الذنوب. ويحتمل أن تكون استفهامية؛ يعني: بأي شيء غفر لي ربي؟ يريد به ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل، إلا أن قولك: بم غفر لي، بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزًا؛ يقال: قد علمت بها صنعت هذا، [أي: بأي شيء صنعت]، و: بم صنعت. [{ومَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ} 28 - 29] المعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم يتنزل لإهلاكهم جندًا من جنود السماء، كما فعل يوم بدر والخندق، فإن قلت: وما معنى قوله: {ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ}؟ قلت: معناه: وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندًا من السماء؛ وذلك لأن الله عز وجل أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الإكرام والتكريم: أن يوصل إلى الإنسان نفع لا تلحقه فيه غضاضة، أو جعل ما يوصل إليه شيئًا شريفًا، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]، أي: جعلهم كرامًا، وقال: {وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ}، وقوله: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] منطو على المعنيين. قوله: (بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزًا)، أنشد في "المطلع": إنا قتلنا بقتلانا سراتكم .... أهل اللواء ففيما يكثر القتل قال: "ففيما" بالألف.

ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]؟ فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؛ قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، {بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124]، {بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؟ قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحته، ولكن الله فضل محمدًا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل، فضلًا على حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فضلًا عن حبيب النجار) وفي بعض النسخ: "على حبيب النجار"، وهو مفعول مطلق، يعني: فضل الله تعالى محمدًا صلوات الله عليه على كبار الأنبياء فضله على حبيب النجار، يعني: له أسوة بسائر الأنبياء في أن لم ينزل الله تعالى في إهلاك قومهم جندًا من السماء، لأن ذلك من خصائص سيدهم صلوات الله عليه وعليهم. فإن قلت: أي فرق بين الاستعمالين؟ قلت: على الأول ينعكس المعنى وذلك أنه تعالى لما قال: {ومَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ} على معنى: ما كان يصح في حكمة الله أن ينزل في إهلاك قوم حبيب جندًا من السماء، لأن ذلك من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها حبيب النجار، ولو أريد ذلك المعنى لقيل: ولكن الله تعالى فضل محمدًا صلوات الله عليه على كبار الأنبياء حيث خصه بهذه الفضيلة ولم يعطها أحدًا منهم فضلًا عن حبيب النجار، فيلزم منه تنقيص الحبيب، لأن "فضلًا" إذا عدي بـ"عن" ضمن معنى التجاوز، واستعمل في

لم يوله أحدًا؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنودًا من السماء، وكأنه أشار بقوله: {ومَا أَنزَلْنَا}، {ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ} إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك. {إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً}: إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على "كان" التامة، أي: ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل؛ لأن المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ، وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، وبيت ذي الرمة: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موضع يستعبد فيه الأدنى ويراد به استحالة ما فوقه، وما كان طريقًا إلى بيان فضله كان أولى بالسلوك مما فيه بيان نقصه. قوله: (وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل) قال الزجاج: من قرأ بالنصب فالمعنى: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة، ومن قرأ بالرفع فالمعنى: ما وقعت عليهم عقوبة إلا صيحة واحدة. وقال ابن جني: في الرفع ضعف لتأنيث الفعل، ولا يقوى أن تقول: ما قدمت إلا هند، لأن الكلام محمول على: ما قام أحد إلا هند، وأما محصول الآية فقد كان هناك صيحة واحدة فجيء بالتأنيث، ومثله قراءة الحسن: "فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم" [الأحقاف: 25]، وقول ذي الرمة: طوى النحز والأجراز ما في غروضها .... وما بقيت إلا الصدور الجراشع أي: ما بقي شيء منها إلا الضلوع، وفي رواية: برى لحمها سير الفيافي وحرها طوى، أي: أضمر. والنحز: الضرب بالأعقاب في الاستحثاث.

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع وقرأ ابن مسعود (إلا زقية واحدة)، من زقا الطائر يزقو ويزقي؛ إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزواقي. {خَامِدُونَ} خمدوا كما تخمد النار، فتعود رمادًا، كما قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه .... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع [{يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} 30] {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأجراز: الأمحال والأرضون التي لا نبت بها، جمع جرز. والغروض: جمع غرض، وهي الغرضة بضم الغين المعجمة. والتصدير: وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج. والجراشع: جمع الجرشع، وهو المنتفخ الجنب يملأ الحزام. يقول: هزل النياق الاستحثاث والارتحال وما بقيت إلا الضروع المنتفخة. قوله: (وقرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة). قال ابن جني: يقال: زقي الطائر يزقو ويزقي زقوًا وزقيًا: إذا صاح، وهي الزقوة والزقية، وإنما استعمل هنا صياح الطائر تنبيهًا على ان البعث من عظيم القدرة، وإعادة ما استرم من إحكام الصنعة، وإنشار الموتى من القبور: سهل كزقية الطائر، ومثله قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]. قوله: (أثقل من الزواقي) قال الميداني: قال محمد بن قدامة: سألت الفراء عنها فلم يعرفها، فقالجليس له: غن العرب كانت تسمر بالليل، فإذا زقت الديكة استثقلتها لأنها تؤذن بالصبح، فاستحسن الفراء قوله.

نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نداء للحسرة عليهم) قال الزجاج: هذا [من] أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة مما لا يجيب، فالفائدة في مناداتها كما أنك تقول لمن هو مقبل عليك: يا زيد، ما أحسن ما صنعت! فإنه أوكد وأبلغ من إذا قلت: ما أحسن ما صنعت! لتنبيهه بالنداء على المطلوب، فكذا إذا قلت: وأنا أعجب مما فعلت، فقد أفدته أنك متعجب، ولو قلت: واعجباه مما فعلت! كان أبلغ في الفائدة، والمعنى: يا عجب أقبل فإنه من أوقاتك، وإنما نداء العجب تنبيه لأن يتمكن علم المخاطب بالتعجب من فعله. والحسرة: هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرًا. قوله: (وهي حال استهزائهم) بيان لاسم الإشارة في "فهذه"، أي: حال استهزائهم بالرسل حال من أحوالك يا حسرة، فاحضري فيها. وفيه: أن قوله تعالى: {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} بيان للكلام السابق، كأنه لما قيل: {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ}، قيل: لأي شيء؟ فأجيب بأنه {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} فالمتحسر إما عام يعني بلغ الأمر فخامته وشدته إلى حيث كل من يأتي منه التلهف إذا نظر إلى حالة استهزائهم الرسل تحسر عليهم، وقال: فيا لها من خسار وخيبة على هؤلاء المجازفين حيث بدلوا الإيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وإما كل من يعتد منه التحسر كما في قوله لهم: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وهو المراد من قوله: من جهة الملائكة والمؤمنين، وأما التحسر من الله فمجاز. وذلك أن التحسر هو تلهف ورقة تعتري الإنسان لا يلحق بصاحبه من مشقة وشدة، وغايته أن يستعظم ذلك الأمر، وينكر على مرتكبه، ويتعجب منه كيف تورط فيه، وفي حق الله تعالى محمول على غايته لا على بدايته، وإليه أشار بقوله: في تعظيم ما جنوه على أنفسهم إلى آخره.

المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون. أو: هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله عز وعلا على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه، وقراءة من قرأ: (يا حسرتا) تعضد هذا الوجه، لأن المعنى: يا حسرتي. وقرئ: (يا حسرة العباد)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على سبيل الاستعارة) إلى قوله: (وتعجيبه منه)، قال في قوله تعالى "بل عجبت ويسخرون" [الصافات: 12] بضم التاء: معنى التعجب من الله تعالى: إما مجرد الاستعظام، أو يتخيل العجب ويفرض. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى في "الصافات". قوله: (وقرئ: "يا حسرة العباد") قال ابن جني: هي قراءة ابن عباس والضحاك وأبي بن كعب. وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب: "يا حسره" ساكنة الهاء، ففيه نظر، لأن قوله: {عَلَى الْعِبَادِ} متعلق بها، أو صفة لها، فلا يحسن الوقف عليها دونه إلا أن يقال: إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به، ولا معتزمة عليه، أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ المعبر عنه، قال: قلنا لها: قفي لنا، قالت: قاف أي: وقفت. فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونًا بالحال، وتثاقلا عن الإجابة، أو {عَلَى العِبَادِ} غير متعلقة بـ {يَا حَسْرَةً} بل بمضمر يدل عليه {حَسْرَةً}، كأنه قيل: أتحسر على العباد. وأما الإضافة فعلى وجهين: أحدهما: أن العباد فاعلون في المعنى كقولك: يا قيام زيد،

على الإضافة إليهم؛ لاختصاصها بهم؛ من حيث إنها موجهة إليهم. و (يا حسره على العباد) على إجراء الوصل مجرى الوقف. [{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وإن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} 31 - 32]. {أَلَمْ يَرَوْا}: ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في {كًمْ}؛ لأن "كم" لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناه نافذ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويا جلوس عمرو، وكأن العباد إذا شاهدوا ذلك تحسروا. وثانيهما: أن العباد مفعولون في المعنى، وشاهده القراءة الظاهرة، أي: يتحسر عليهم من يعنيه أمرهم، ويهمه ما يهمهم. ويقوي الوجه الأول قول صاحب المطلع: {مَا يَاتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} كالبيان لسبب حسرتهم، كأنه قيل: ما سبب تحسرهم؟ فقيل: استهزاؤهم بالرسل. والقراءة بالإضافة تدل على هذا المعنى. قال صاحب "الكشف": {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} نداء مطول مشابه للمضاف لتعلق الجار بالمصدر، فهو كقولهم: با خيرًا من زيد. وفي "المنتقي": وقفوا بالهاء الساكنة على {حَسْرَةً} وقفًا طويلًا تعظيمًا للأمر ثم قال: {عَلَى العِبَادِ}. وفي "اللوامح": وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه، ثم وصلوه على تلك الحال. قوله: (لأن "كم" لا يعمل فيها عامل قبلها)، قال الزجاج: موضع "كم" نصب بـ {أَهْلَكْنَا}، لأن "كم" لا يعمل فيها ما قبلها خبرًا كانت أو استخبارًا، تقول في الخبر: كم فرسخ سرت؟ تريد: سرت فراسخ كثيرة. ولا يجوز: سرت كم فرسخ، وذلك أن "كم" في بابها بمنزلة "رب" وإن كان أصلها الاستفهام والإبهام، فكما أنه لا يجوز في الاستفهام: سرت كم فرسخًا، كذا في الخبر، لأن الإبهام قائم.

في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم يروا إن زيدًا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه. و {أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى، لا على اللفظ، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. وعن الحسن: كسر: "إن" على الاستئناف. وفي قراءة ابن مسعود: (ألم يروا من أهلكنا)، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، وهذا مما يرد قول أهل الرجعة. ويحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له: إن قومًا يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن إذن؛ نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه. قرئ: (لما) بالتخفيف، على أن "ما" صلة للتأكيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى لا على اللفظ)، قال صاحب "الكشف": {أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من موضع {كَمْ أَهْلَكْنَا}، وليس بدلًا من "كم" وحده، لأن العامل في "كم" هو {أَهْلَكْنَا} ولا يعمل {أَهْلَكْنَا} في "أن"، إذ ليس المعنى: أهلكنا أنهم لا يرجعون، والتقدير: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا، أي: ألم يعتبر كفار مكة بكثرة من أهلكنا من قبلهم واستئصالنا وتدميرنا إياهم حتى لم يبق منهم أثر فيقلعوا عما هم فيه! قوله: (والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال) لأن "من أهلكنا" ذات، وعلى ألأول: كان بدل الكل، فإنهم كونهم غير راجعين عبارة عن إهلاكهم، لأنه لازم له وهو المراد من قوله: "بدل على المعنى لا على اللفظ". قوله: (مما يرد قول أهل الرجعة) أي: التناسخية، يقال: فلان يؤمن بالرجعة، أي: بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت. قوله: (وقرئ: "لما" بالتخفيف) عاصم وابن عامر وحمزة: بتشديد الميم، والباقون: بتخفيفها، وسبق تفسيره في سورة "هود".

و"إن": مخففة من الثقيلة، وهي متلقاة باللام لا محالة؛ و {لَّمَّا} بالتشديد، بمعنى: إلا، كالتي في مسألة "الكتاب": نشدتك بالله لما فعلت، و {إِنْ} نافية، والتنوين في {كُلٌّ} هو الذي يقع عوضًا من المضاف إليه، كقولك: مررت بكل قائمًا. والمعنى: أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. وقيل: محضرون: معذبون. فإن قلت: كيف أخبر عن "كل" بـ"جميع" ومعناها واحد؟ قلت: ليس بواحد؛ لأن "كلا" يفيد معنى الإحاطة، وان لا ينفلت منهم أحد، والجميع: معناه: الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاؤوا جميعًا. [{وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ * وجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وأَعْنَابٍ وفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَاكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس بواحد؛ لأن "كلا" يفيد معنى الإحاطة) والجميع: معناه: الاجتماع. الانتصاف: ومن ثم أوقع "أجمع" في التوكيد تابعًا لـ"كل". قوله: (يقال: حي جميع)، الأساس: وهو جميع الرأي، وجميع الأمر، وحي جميع. الجوهري: والجميع: الحي المجتمع، قال لبيد: عريت وكان بها الجميع فأبكروا .... منها وغودر نؤيها وثمامها واعلم أن ألفاظ التوكيد كأجمع وأكتع وأبصع، لا تكون إلا تأكيدًا وتابعًا لما قبله، لا يبتدأ بها، ولا يخبر عنها، ولا تكون فاعلًا ولا مفعولًا، ولفظ "جميع" من التوكيد الذي يقع تارةً اسمًا وأخرى تأكيدًا، مثل: نفسه وعينه وكله. ويكون صفة كقولهم: حي جميع، ولهذا قال: والجميع فعيل بمعنى مفعول.

أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ} 33 - 36] القراءة بـ {المَيْتَةُ} على الخفة أشيع؛ لسلسها على اللسان. و {أَحْيَيْنَاهَا} استئناف، بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك {نَسْلَخُ} [يس: 37]، ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل؛ لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما؛ فعوملا معاملة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بيان لكون الأرض الميتة آية) كأن قائلًا قال: كيف تكون الأرض الميتة آية؟ فقال: {أَحْيَيْنَاهَا}. قال أبو البقاء: {آيَةٌ} مبتدأ و {لَّهُمْ} الخبر، و {الْأَرْضُ} مبتدأ و {أَحْيَيْنَاهَا} الخبر، والجملة تفسير الآية. وقيل: {الْأَرْضُ} مبتدأ و"آية" خبر مقدم و {أَحْيَيْنَاهَا} تفسير الآية، و {لَّهُمْ} صفة الآية. قوله: (ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل) أي: بـ {أَحْيَيْنَا} و {نَسْلَخُ}، لأنه أريد بهما الجنسان، والتقدير: وآية لهم أرض ميتة من الأراضي الميتة أحييناها، وليل من الليالي سلخنا منه النهار. الانتصاف: غير الزمخشري يمنع من وقوع الجملة وصفًا للمعرفة وإن كانت جنسًا، ويراعي المطابقة اللفظية. قلت: قد ذكرنا عن ابن جني أنه قال: إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته؛ ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدًا واحدًا معينًا، وإنما تريد: خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس. وقال ابن الحاجب: المحققون قالوا في مثل قوله:

النكرات في وصفهما بالأفعال، ونحوه: ولقد أمر على اللئيم يسبني وقوله: {فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} بتقديم الظرف؛ للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقد أمر على اللئيم يسبني إن قوله: "يسبني" صفة، لكونه لم يقصد لئيمًا معهودًا، فجرى في ذلك مجرى المنكر لما كان باعتبا الموجود مثله. قوله: (ولقد أمر على اللئيم يسبني)، تمامه: فمضيت ثمت قلت لا يعنيني فإن قلت: لم تمنع أن يكون "لا يعنيني" حالًا لا صفة ويراد: لئيم معهود؟ قلت: كان الشاعر يصف نفسه بالتؤدة، وأنه حليم ذو أناة، ولا يستتب له ذلك بمروره مرة على لئيم ولا مرتين حتى يصير ذلك ملكة راسخة. قوله: (بتقديم الظرف) للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش يعني: عقيب إخراج الحب الأكل مع تقديم صفة الأكل المفيد للاختصاص. وقد علم أن المأكول غير مختص به، لكن قدم ليدل على أنه الأصل في الارتزاق والمأكولات تابعة له، ألا ترى أنه إذا قل نزل القحط وإذا حصر جاء الهلاك، فالدوران معه، فإرادة التخصيص على المبالغة والادعاء نحو إطلاق اسم الجنس على فرد من أفراده كحاتم الجواد. ويجوز أن يقدم رعاية للفواصل.

القحط ووقع الضر، وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء. قرئ: {وَفَجَّرْنَا} بالتثقيل والتخفيف، والفجر والتفجير، كالفتح والتفتيح لفظًا ومعنى. وقرئ: {ثَمَرِهِ} بفتحتين، وضمتين، وضمة وسكون، والضمير لله تعالى، والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر {وَ} من {مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} من الغرس والسقي والإبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {وَفّجَّرْنَا} بالتثقيل) هي المشهورة. قوله: (وقرئ: {ثَمَرِهِ} بفتحتين وضمتين) بالضمتين: حمزة والكسائي. وقوله تعالى: {مِنَ الْعُيُونِ} "من" على قول الأخفش زائدة، وعلى قول غيره: المفعول محذوف، أي: من العيون ما تنتفعون به. قوله: (والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر {وَ} من {مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}) فـ"ما" على هذا موصولة وهومع صلته، عطف على ما بينه قوله: {مِن ثَمَرِهِ} وهو ما خلقه الله. وتلخيصه ما قال: إن الثمر في نفسه فعل الله، وفيه آثار من كد بني آدم. وعن بعضهم: في "ما عملته" ثلاثة أوجه: أحدهما: أن تكون "ما" موصولة، والثاني: أن تكون نكرة موصوفة. وعلى الوجهين هو في موضع جر عطفًا على {ثَمَرِهِ}، ويجوز نصبه على موضع {مِن ثَمَرِهِ}. والثالث: أن تكون نافية، أي: ليأكلوا من ثمره ولم تعلمه أيديهم، ويقرأ بغير هاء. وتحتمل الأوجه الثلاثة إلا أن كونها نافية ضعيف، لأن "عملت" لم يذكر له مفعول، وهو من قول أبي البقاء. قوله: (والإبار)، الجوهري: تأبير النخل: تلقيحه. يقال: نخل مؤبرة، والاسم منه الإبار، على وزن الإزار. قوله: (وإبان أكله) إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته، يقال: كل الفواكه في إبانها، أي: في وقتها.

من كد بني آدم، وأصله من ثمرنا كما قال: {وَجَعَلْنَا} [المائدة: 130]، {وَفَجَّرْنَا} [الكهف: 23]، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها؛ لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره. ويجوز أن يراد: من ثمر المذكور؛ وهو الجنات، كما قال رؤبة: فيها خطوط من بياض وبلق .... كأنه في الجلد توليع البهق فقيل له، أردت: كأن ذاك. ولك أن تجعل "ما" نافية، على أن الثمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على طريقة الالتفات) ليس هذا من مظان الالتفات، لأن القصد في جعل الجنات وتفجير العيون إخرج الثمر المأكول، فكان التمكن على الأكل أولى بالتفخم لأنه أدل على الامتنان، وأنت تعلم الفرق بين ضمير الإفراد والجمع للواحد المطاع، بل الضمير راجع إلى المذكورات ليكون على وزان قوله: {وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} ويظهر التفاوت بين ذلك المأكول وبين هذا من تقديم المعمول وتأخيره عن العامل، ثم جعل "ما" نافية أحرى مما تجعل موصولة لإيراد قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} على التقريع والتوبيخ، وأيضًا يلزم من الموصولة أن يكونوا مستقلين في ذلك العمل، وليس فيه لله تعالى أثر، كقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] لأن التركيب من باب قولهم: أخذته بيدي ورأيته بعيني، وذلك ينافي أن يكون قوله: {أَحْيَيْنَاهَا وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَاكُلُونَ} إلى آخر الآيتين، بيانًا لقوله: {وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ}، والله أعلم. قوله: (ويجوز أن يرجع إلى النخيل) عطف على قوله: "والضمير لله". الجوهري: النخل والنخيل بمعنى، والواحدة نخلة. قوله: (فيها خطوط) البيت، التوليع: ظهور النقط البيض على الشيء، والمولع كالملمع إلا أن التوليع استطالة البلق. قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت البياض والبلق فقل: كأنهما، فقال: كأن ذلك ويلك.

خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه. وقرئ على الوجه الأول: (وما عملت) من غير راجع، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير. {الْأَزْوَاجَ}: الأجناس والأصناف. {ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ}: ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقًا إلى العلم به؛ لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم، ولو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: لم يسهم. وفي الحديث: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتهم عليه" فأعلمنا بوجوده وإعداده، ولم يعلمنا به ما هو، ونحوه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دل على عظم قدرته واتساع ملكه. [{وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإذَا هُم مُّظْلِمُونَ} 37] سلخ جلد الشاة: إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية: لخرشائها، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ على الوجه الأول) أي: على أن تكون "ما" موصولة. قال القاضي: ويؤيده قراءة الكوفيين عن حفص بلا هاء، فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها. قوله: (وفي الحديث: "ما لا عين رأت") الحديث، أخرجناه في سورة السجدة. قوله: (وإعداده) أي: قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. قوله: (فاستعير لإزالة الضوء وكشفه) يعني: استعار لإزالة الضوء السلخ، وهي

عن مكان الليل وملقى ظله. {مُظْلِمُونَ}: داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا، كما يقال: أعتمنا وأدجينا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استعارة تبعية مصرحة، والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر. وقوله: (عن مكان الليل وملقى ظله): ظاهره مشعر بأن النهار طار على الليل. قال المرزوقي: الآية دلت على أن الليل قبل النهار، لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ، كما أن المغطى قبل الغطاء. وقال الفراء: الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها إذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي: كشط وأزيل فتظهر الظلمة. قال محيي السنة: معناه: نذهب بالنهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها. ويؤيده ما روى الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليه من نوره، فمن أصابه من نوره اهتدى، ومن أخطاه ضل"، لكن قوله في سورة الرعد في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] أي: يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلمًا بعد ما كان أبيض منيرًا، مؤذن بأن بين الليل والنهار توالجًا وتداخلًا، قال الله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] قال: إن الليل والنهار خلفة؛ يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه، فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس.

[{والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قول صاحب "المفتاح": المستعار له ظهور النهار والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته، فمأخوذ من تفسير الزجاج قال: {وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} معنى نسلخ: نخرج منه النهار إخراجًا لا يبقى معه شيء من ضوء النهار، وذلك من العلامات الدالة على توحيد الله وقدرته، فصح قوله: {فَإذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلام. وفي "النهاية": كتب عمر إلى [أبي] عبيدة رضي الله عنهما: "فاظهر بمن معك من المسلمين إليها"، أي: إلى الأرض، يعني: اخرج بهم إلى ظاهرها. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "كان يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من حجرتها"، أي: لم يرتفع ولم يخرج إلى ظهرها. وفي "المغرب": أصل الظهور خلاف الخفاء، وقد يعبر به عن الخروج والبروز، لأنه يردف ذلك؛ أي: هو كناية عنه. هذا التفسير موافق لما ذهب إليه المصنف؛ لأن الظهور بمعنى الزوال، وقد قال: "إذا كشطه عنها وأزاله". حكى الجوهري يقال: وهذا أمر ظاهر عنك عاره، أي: زائل. وفي "النهاية": لما قيل لابن الزبير: با ابن ذات النطاقين، تمثل بقول أبي ذؤيب. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها يقال: ظهر عني هذا العيب: إذا ارتفع عنك.

حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 38 - 40] {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}: لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقًا مشرقًا ومغربًا مغربًا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع، فذلك حدها ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه، أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا؛ وهو المغرب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لحد لها مؤقت مقدر) بيان لقوله: "مؤقت"، فاللام في {لِمُسْتَقَرٍّ} للاختصاص، لأن جريها مختص به كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر. قال المصنف في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143]: "لوقتنا الذي وقتنا له وحددناه، ومعنى اللام الاختصاص". ولو قيل: إلى مستقر لها، كان للغاية والانتهاء، ومعنى الاختصاص يعود للانتهاء، لأن جريها لما يختص بها ينتهي إليه، ولهذا قال: ينتهي إليه. قوله: (أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب) يريد أن الشمس كل يوم لها مشرق ومغرب إلى ستة أشهر إلى أن تنتهي إلى غاية ارتفاعها في زمان الصيف، فذلك حدها في الارتفاع لا تعدوه، ثم ترجع على تلك المقنطرات ستة أشهر أخرى إلى أن تنتهي إلى غاية انخفاضها في زمان الشتاء، فذلك حدها في الانخفاض لا تعدوه، واختلاف المشارق والمغارب بحسب ارتفاعها وانخفاضها وحركاتها المخصوصة شيئًا فشيئًا بحسب التدرج أو التدلي، وهو المراد من قوله: لأنها تتقصاها مشرقًا مشرقًا ومغربًا مغربًا. الأساس: تقصيت المكان: صرت في أقصاه، وهو مني بالقصا، أي: بالبعد.

وقيل: مستقرها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه؛ وهو آخر السنة، وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها، وهو يوم القيامة. وقرئ: (تجري إلى مستقر لها)، وقرأ ابن مسعود: (لا مستقر لها) أي: لا تزال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: مستقرها: أجلها)، فعلى هذا: المستقر اسم الزمان، وعلى الأول: اسم المكان. قوله: (وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة)، فالمستقر أيضًا: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها. الأساس: يقال: قررت عنده الخبر فتقرر، ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: "يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "تذهب لتسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وذلك قوله تعالى: {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} ". متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. قوله: (وقرأ ابن مسعود: "لا مستقر لها") قال ابن جني: قرأ بها ابن عباس وعكرمة وعطاء وظاهرها العموم، ومعناه الخصوص؛ لأن "لا" النافية للجنس لا تدخل إلا نفيًا عامًا؛ فقولك: لا رجل عندي، جواب عن سؤال عام، أي: هل عندك قليل أو كثير من هذا الجنس الذي يقال لواحده: رجل؟ فقوله تعالى: "لا مستقر لها" نفي أن تستقر أبدًا، ونحن نعلم أن السماوات إذا زلن بطل سير الشمس أصلًا، فاستقرت مما كانت عليه من السير. ونعوذ بالله أن تقول: إن حركتها دائمة كما تذهب إليه الملحدة. ونحوه قول الشاعر: أبكي لفقدك ما ناحت مطوقة .... وما سما فنن يومًا على ساق

تجري لا تستقر. وقرئ: (لا مستقر لها) على أن "لا" بمعنى "ليس". {ذَلِكَ} الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، ما هو إلا {تَقْدِيرُ} الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علمًا بكل معلوم. قرئ: (والقمر) رفعًا على الابتداء، أو عطفًا على {اللَّيْلُ} [يس: 37]، يريد: ومن آياته القمر، ونصبًا بفعل يفسره {قَدَّرْنَاهُ}، ولابد في {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} من تقدير مضاف؛ لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل، والمعنى: قدرنا مسيره منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلًا، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ما عشت أبدًا بكيتك، كذلك "لا مستقر لها" ما دامت السماوات على ما هي عليه. قوله: (على أن "لا" بمعنى "ليس") المعنى: ذلك الجري على ذلك التقدير: ليس بمستقر للشمس، ذلك تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور. قوله: (قرئ: "القمر"، رفعًا على الابتداء) قرأها الكوفيون وابن عامر: بالنصب، والباقون: بالرفع. قال أبو البقاء: "والقمر" بالرفع مبتدأ، و {قَدَّرْنَاهُ} الخبر، وبالنصب على فعل مضمر، أي: وقدرنا القمر، لأنه معطوف على اسم قد عمل فيه الفعل، فحمل على ذلك، ومن رفع قال: هو محمول على {وآيَةٌ لَّهُمْ} في الموضعين أو على {والشَّمْسُ} وهي أسماء لم يعمل فيها فعل، و"منازل"؛ أي: ذا منازل، فهو حال أو مفعول ثان لأن "قدرنا" بمعنى: صيرنا، وقيل: التقدير: قدرنا له منازل.

على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثمانية والعشرين، ثم ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة، وهي: الشرطان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأنواء المستمطرة)، المغرب: الأنواء: جمع نوء وهي منازل القمر. وكانت العرب تعتقد أن الأمطار والخير كله يجيء منها. الجوهري: النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، ويقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يومًا. قال أبو عبيد: ولم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه فتقول: مطرنا بنوء كذا، والجمع أنواء ونوآن أيضًا مثل عبد وعبدان وبطن وبطنان. قوله: (الشرطين)، قال المرزوقي في كتاب "الأزمنة والأمكنة": الشرطان سمي بذلك لأنهما كالعلامتين، أي: سقوطهما علامة ابتداء المطر، والشرط: العلامة، ولهذا قيل لأصحاب السلطان: الشرط لأنهم يلبسون السواد كأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها، ويقال: أيهما قرنا الحمل، وهما أول نجوم فصل الربيع ونوؤه ثلاثة أيام. والبطين: وسمي بذلك لأنه بطن الحمل، ونوؤه ثلاث ليال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثريا: ويسمى النجم والنظم، وهو تصغير ثروى من الكثرة ونوؤه خمس ليال. والدبران: وسمي بذلك لأنه دبر الثريا، أي: صار خلفها ويسمى المجدح، ونوؤه ثلاث ليال. فإن قيل: أتقول لكل ما دبر كركبًا الدبران؟ قلت: لا، لأنه قد يختص الشيء من جنسه بالاسم حتى يصير علمًا له، وإن كان المعنى يعم الجميع، وعلى ذلك قولهم: النابغة، في الجعدي [والذبياني]، وابن عباس في عبد الله، وأنشد: وردن اعتسافًا والثريا كأنها .... على قمة الرأس ابن ماء محلق تبدت على آثارها دبرانها .... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق والهقعة: تشبيها سميت بذلك تشبيهًا بهقعة الدابة تكون عند رجل الفارس في جنب الدابة، يقال: فرس مهقوع، وهي ثلاثة كواكب تسمى رأس الجوزاء ونوؤه ست ليال، ولا يذكرون نوءها إلا بنوء الجوزاء، وتسمى الأثافي لأنها ثلاثة صغار منقاة. والهنعة: وهي منكب الجوزاء الأيسر، وسميت بذلك من قولهم: هنعت الشيء: عطفته وثنيت بعضه على بعض، وكأن كل واحد منها منعطف على صاحبه، ونوؤها لا يذكر، وهو ثلاث ليال، وإنما يكون في نوء الجوزاء. والذراع: ذراع الأسد وله ذراعان: مقبوضة ومبسوطة، ونوؤها خمس ليال، وقيل: ثلاث ليال وأحد كوكبي الذراع الغميصاء وهي تقابل العبور والمجرة. ويقال لكوكبها الآخر: الشمال المرزم، ويروى ومرزم الجوزاء، ولا نوء له.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنثرة: وهي ثلاثة كواكب، وسميت نثرة لأنها مخطة مخطها الأسد كأنها قطعة سحاب. ويجوز أن تسمى بذلك لأنها كأنها من سحاب قد نثر، والنثرة الأنف، ونوؤها سبع ليال. والطرف: سميت بذلك لأنها عينا الأسد، يقال: طرف فلان، أي: رفع طرفه، ونوؤه ثلاث ليال. والجبهة: جبهة الأسد، ونوؤه سبع ليال. والزبرة: زبرة الأسد، أي: كاهله، وقيل: زبرته شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه، ونوؤها أربع ليال. والصرفة: سميت بذلك لأن البرد ينصرف بسقوطها، وقيل: أرادوا صرف الأسد رأسه من قبل ظهره، وأيام العجوز في نوئها وهو ثلاث ليال. والعواء: يمد ويقصر، والقصر أجود وأكثر، وهي خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب، وسميت العواء للانعطاف والالتواء الذي فيها، تقول العرب: عويت الشيء: عطفته. ويجوز أن يكون من "عوى": إذا صاح، كأنه يعوي في آثر البرد. ولهذا سميت طاردة البرد، ونوؤها ليلة. والسماك: سمي السماك الأعزل لأن السماك الآخر يسمى رامحًا لكوكب تقدمه كأنه رمحه، ونوؤه أربع ليال، وسمي سماكًا لأنه سمك، أي: ارتفع. والغفرة: وهي ثلاثة كواكب. قيل: هو من الغفرة، وهو الشعر الذي في طرف ذنب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأسد، وقيل: سميت الغفرة لأنها ينقص ضوؤها، ويقال: غفرت الشيء: إذا غطيته، فعلى هذا هو في معنى مفعول. ونوؤها ثلاث ليال، وقيل: بل ليلة. والزباني: وسمي بزبانى العقرب، وهما قرناها. كوكبان [وهو] مأخوذ من الزبن: الدفع. وكل واحد منهما مندفع عن صاحبه غير مقارن له، ونوؤها ثلاث ليال. والإكليل: وهي ثلاثة كواكب مصطفة على رأس العقرب، ولذلك سميت به، كأنه من التكلل وهو الإحاطة. ونوؤها أربع ليال، وهو من العقرب. والقلب: وهي كوكب أحمر نير. سمي بالقلب لأنه في قلب العقرب، ونوؤها ليلة. والقلوب أربعة: قلب العقرب، وقلب الأسد، وقلب الثور، وهو الدبران، وقلب الحوت. والشولة: سميت بذلك لأنها ذنب العقرب، وذنبها شائل أبدًا. والحجازيون يسمونها الإبرة، ونوؤها ثلاث ليال، وهما كوكبان مضيئان. والنعائم: وهي ثمانية كواكب: أربعة منها في المجرة وتسمى الواردة، لأنها شرعت في المجرة كأنها تشرب، وأربعة خارجة تسمى الصادرة، وإنما سميت نعائم تشبيهًا بالخشيات التي تكون على البئر، ونوؤها ليلة. والبلدة: وهي فرجة بين النعائم وبين سعد الذابح، وهو موضع خال ليس فيه كوكب،

البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوا، السماك، الغفر، الزبانى، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشاء. فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس، و {عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ}؛ وهو عود العذق، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج: هو فعلون، من الانعراج؛ وهو الانعطاف. وقرئ: (العرجون) بوزن الفرجون؛ وهما لغتان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما سميت بذلك تشبيهًا بالفرجة التي تكون بين الحاجتين غير مقرونين. يقال: رجل أبلد؛ إذا اقترن حاجباه. ونوؤها ثلاث ليال، وقيل: ليلة. والذابح: سمي بذلك لكوكب بين يديه يقال: هو شاته التي تذبح. ونوؤه ليلة. والبلع: سمي بذلك لأن الذابح معه كوكب بمنزلة شاته، وهذا لا كوكب معه، فكأنه قد بلع شاته. وقيل: سمي به لأن صورته صورة فم فتح ليبلع، ونوؤه ليلة. وسعد السعود: سمي بذلك لأن في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم، ونوؤها ليلة. وسعد الأخبية: وسمي بذلك لكوكب في كواكبها على صورة الخباء. وقيل: لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئًا. ونوؤه ليلة. وفرغ الدلو المقدم: ويقال الأعلى. وقال: إنما سمي به لأن في وقته تأتي الأمطار كثيرًا، فكأنه فرغ دلو، وهو مصب الماء، ونوؤه ثلاث ليال. وفرغ الدلو المؤخر: ونوؤه أربع ليال. والرشا: وهو السمكة، ويقال: بطن السمكة وقلب الحوت. تم كلام المرزوقي، والله أعلم. قوله: (العرجون) وهو المحش، أي: مشط تدلك به الدابة من الحديد.

كالبزيون والبزيون؛ والقديم المحول، وإذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبه به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل مدة الموصوف بالقدم الحول، فلو أن رجلًا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته: عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وقرئ: (سابق النهار) على الأصل، والمعنى: أن الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (البزيون والبزيون)، الجوهري: بالضم: السندس. قوله: (والقديم المحول)، الجوهري: أحال عليه الحول، أي: حال وأحالت الدار وأحولت، أي: أتى عليه حول، فهو محيل. قال الكميت: وما أنت والطلل المحول؟ قوله: (فشبه به من ثلاثة أوجه) أي: هو من تشبيه الهيئة الحاصلة من مجموع أمور بمثلها، نحو تشبيه النجم بعنقود الكرم في الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير في المرئي على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص، وفي معنى التدرج والعود الذي يغطيانه "حتى" و"عاد" الإشعار بأن الابتداء إنما هو من الشبه بالعرجون حتى يتدرج إلى أن يصير بدرًا ثم ينزل إلى العود إلى ما بدئ منه. قوله: (وقرئ: "سابق النهار" على الأصل)، قال أبو البقاء: وقرأ بعضهم: "سابق النهار" بالنصب بلا تنوين، وهو ضعيف، وجوازه على أن يكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين.

وآيتيهما قسمًا من الزمان، وضرب له حدًا معلومًا، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وآيتيهما قسمًا من الزمان) عطف تفسيري على قوله: "الليل والنهار" نحنو: أعجبني زيد وكرمه، وهما النيران من قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وإنما فسر به لينطبق على قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} كأنه قيل: ولا القمر سابق الشمس لينطبق عليه قوله: {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. قال القاضي: وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. واعلم أن هذه الآية من المعضلات، وقد زاد في إشكالها عبارة المصنف؛ فقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} معناه: لا يتسهل لها أن تتصرف في سلطان القمر، وفي الليل لوقوع التدبير في المعاقبة بين الليل والنهار، وذلك أن سلطان القمر في الليل فلا تطلع الشمس فيه، فتزيل سلطانه وتصرفه عن مطارح ضيائه وصبغه الفواكه وغير ذلك، وقوله: {ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} معناه: لا يتسهل للقمر أن يكون ذا سلطان في النهار بل تراه جرمًا لا نورانية له، ولا بهاء فيه، فضلًا أن يزيل سلطان الشمس. تلخيصه: أن كلا منهما مدبر بأمر معلوم ومقام مختص به، وتسخير معين في السير، نحوه قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] وينصره النظم. أما السباق فقوله: {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا .... والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} والسياق {وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وإليه الإشارة بقوله: ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، كأنه قيل: لا الشمس ينبغي لها أن تتصرف في الليل

للشمس - أي: لا يتسهل لها، ولا يصح، ولا يستقيم؛ لوقوع التدبير على المعاقبة، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله - {أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} فتجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره، ولا يسبق الليل النهار، يعني: آية الليل آية النهار، وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا القمر أن يتصرف في النهار. ويرد على هذا التأويل إشكال وهو أن يقال: إن كان المراد من ذلك عدم تسهل تصرف كل واحد في سلطان الآخر، فلم خولف بين العبارتين بالسبق والإدراك؟ وهو المراد من قوله: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ وخلاصة الجواب: أنه روعي المناسبة بين العبارتين لا غير، لأن إثبات صفة الإدراك وسلبها مناسب للشمس، كما أن إثبات صفة السبق ونفيها مناسب للقمر لسرعة سير القمر وبطء سير الشمس. ويؤيد هذا التأويل ما روى محيي السنة عن بعضهم: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر؛ لا تطلع الشمس بالليل، ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا، وأدرك كل واحد منهما صاحبه، فلقد قامت القيامة. وقيل: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ} أي: لا يجتمع معه في فلك واحد تم كلامه. فإن قلت: لم عدل عن الظاهر، وأن يقال: ولا القمر سابق الشمس كما صرح به المصنف، ولا يسبق الليل النهار، أي: أية الليل آية النهار؟ قلت: ليؤذن بالتعاقب بين الليل والنهار، ومنصوصية التدبير على المعاقبة، فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل واحد منهما عليها، والله أعلم.

من ذلك، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر، ويطلع الشمس من مغربها. فإن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك؛ لتباطؤ سيرها عن سير القمر، والقمر خليقًا بأن يوصف بالسبق؛ لسرعة سيره. {وَكُلٌّ} التنوين فيه عوض من المضاف إليه، والمعنى: كلهم، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره. [{وآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ * وخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وإن نَّشَا نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ولا هُمْ يُنقَذُونَ * إلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا ومَتَاعًا إلَى حِينٍ} 41 - 44] {ذُرِّيَّتَهُمْ}: أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء؛ لأنهن مزارعها، وفي الحديث: أنه نهى عن قتل الذراري، يعني النساء. {مِّن مِّثْلِهِ}: من مثل الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل: {الفُلْكِ المَشْحُونِ}: سفينة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره) أي: في "سورة الأنبياء"، قال فيها: "والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها" وقد شرحناه. وإنما جمعها بالواو والنون لما وصفا بما يختص بذوي العقول وهو السبح. قال الزجاج: ومعنى "يسبحون" يسيرون فيه بانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومن ذلك السباحة في الماء. قوله: (وقيل: اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها)، قال في " الفائق": قال حنظلة الكاتب: كنا في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرأى امرأة مقتولة فقال: "هاه! ما كانت

نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم؛ لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. و {مِّن مِّثْلِهِ}: من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق. {فَلا صَرِيخَ}: لا مغيث. أو: لا إغاثة. يقال: أتاهم الصريخ. {ولا هُمْ يُنقَذُونَ}: ولا ينجون من الموت بالغرق {إلاَّ رَحْمَةً}: إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة، {إلَى حِينٍ}: إلى أجل يموتون فيه لابد لهم منه بعد النجاة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه تقاتل، الحق خالدًا وقل: لا تقتلن ذرية ولا عسيفًا". وهي نسل الرجل، وقد أوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء. وقال الراغب: الذرية: أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان يقع على الصغار والكبار معًا في التعارف، ويستعمل في الواحد والجمع، وأصلها الجمع، قال الله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] وفيه ثلاثة أقوال: قيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزه كـ" روية"، و"برية" وقيل: أصله ذروية، وقيل: هو فعلية من الذر نحو قمرية. قوله: (لا مغيث أو لا إغاثة) وفي "اللباب": الصريخ والصارخ: المغيث، والصريخ والصارخ: المستغيث. قوله: (لا ينجون من الموت بالغرق {إلاَّ رَحْمَةً} إلا لرحمة منا) مشعر بأن الاستثناء متصل والمستثنى منه أعم عام المفعول له.

من موت الغرق. ولقد أحسن من قال: ولم أسلم لكي أبقى، ولكن .... سلمت من الحمام إلى الحمام وقرأ الحسن رضي الله عنه: (نغرقهم). [{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * ومَا تَاتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} 45 - 46] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: هو مفعول له أو مصدر، وقيل: استثناء منقطع. وقد اختار المصنف في "الأنعام" هذا وتقديره: ولا هم ينجون من الغرق البتة ولكن رحمة ربي هي التي تنجيهم. قوله: (ولم أسلم) البيت. يقول: إن أسلم من مرض لم أبق خالدًا، ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرض أو سبب آخر. الانتصاف: القائل أبو الطيب، أخذ المعنى من هذه الآية، أخبر الله تعالى أنهم إن يسلموا من موت الغرق فذلك سلامة إلى أجل يموتون فيه لابد لهم منه. قوله: ({اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ} كقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [سبأ: 9] وجه المشابهة: إحاطة العذاب بهم من كل أدب، وأنهم أينما ساروا فإنه أمامهم وخلفهم محيط بهم لا يقدرون الخروج عما هم فيه يدل عليه قوله: {إِنْ نَشَا نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وهذا هو الوجه لقوله {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ولا هُمْ يُنقَذُونَ * إلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} ولذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ومَا خَلْفَكُمْ} كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سبأ: 9]، وعن مجاهد: ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الوقائع التي خلت، يعني: من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، {ومَا خَلْفَكُمْ}: من أمر الساعة، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب {إِذَا} محذوف مدلول عليه بقوله: {إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، كأنه قال: وإذا قيل لهم: اتقوا: أعرضوا. ثم قال: ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة. [{وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 47] كانت الزنادقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ودأبهم الإعراض عند كل آية) إشارة إلى أن قوله: {ومَا تَاتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} كالتذييل للكلام السابق. قوله: (كانت الزنادقة). في "المغرب": قال الليث: الزنديق معروف. وزندقته: أنه لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق. وعن ثعلب: ليس "زنديق" من كلام العرب، ومعناه ما تقول العامة: ملحد ودهري. وقال الإمام: الزنادقة هم المانوية، وكان المزدكية يسمون بذلك، ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ، وزعم أن الأموال والحرم مشتركة، وأظهر كتابًا سماه "زندا"، وهو كتاب المجوس الذي جاء به زردشت الذي زعموا أنه نبي فنسب أصحاب مزدك إلى زند، وعربت الكلمة فقيل: زنديق.

لو شاء الله لأغنى فلانًا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا؛ فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله. ومعناه: أنطعم المقول فيه هذا بينكم؟ وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله؛ لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ ! وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرًا على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله، يعنون قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم. {إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} قول الله لهم. أو حكاية قول المؤمنين لهم. أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنطعم المقول فيه هذا القول)، فـ {مَنْ} موصولة، وصلته الجملة الشرطية، ولذلك أوله بالمقول فيه، وجعل المجموع في تأويل المفعول به لقوله {أَنُطْعِمُ}، والظاهر أن الصلة مفتقرة إلى التأويل، كما قال في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء: 9]: ما معنى وقوع "لو تركوا" وجوابه صلة لـ {الَّذِينَ}؟ وأجاب: معناه: ليخش الذين صفتهم وحالهم أتهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافًا. ويمكن أن يقال: إن الصلة والموصول كشيء واحد، فلذلك جاز تأويله بالموصولة تارة والصلة أخرى بذاك. قوله: (ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك) قال القاضي: هذا من فرط جهالتهم، فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له.

[{ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَاخُذُهُمْ وهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} 48 - 50] قرئ: (وهم يخصمون) بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر، و: (يختصمون) على الأصل، و (يخصمون) من: خصمه. والمعنى: أنها تبعتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها، لا يخطرونها ببالهم مشغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون. ومعنى يخصمون: يخصم بعضهم بغضًا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون، لا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم {تَوْصِيَةً}، ولا يقدرون على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهم يخصمون) قرأ ابن كثير وورش وهشام: بفتح الخاء وتشديد الصاد، وقالون وأبو عمرو: باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، والنص عن قالوا: بالإسكان، وحمزة: بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، والباقون _وهم: عاصم وابن ذكوان والكسائي_: بكسر الخاء وتشديد الصاد. قال مكي: من قرأ بفتح الياء وكسر الخاء مشددًا فأصله يختصمون ثم إذا ألقى حركة التاء على الخاء وأدغمها في الصاد. ومن قرأ بفتح الياء وكسر الخاء مشددًا، فإنه لم يلق حركة التاء على الخاء إذا أدغمها، ولكن حذف الفتحة لما أدغم فاجتمع ساكنان: الخاء والمشدد، فكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وكذلك التقدير في قراءة من اختلس فتحة الخاء، اختلسها لأنها ليست بأصل في الخاء ولم يمكنه إسكان الخاء لئلًا يجمع بين ساكنين، فيلزمه الحذف والتحريك. قوله: (وقيل: تأخذهم) عطف على قوله: يخصم إلى آخره. قيل: قوله: "يخصم بعضهم بعضًا" قريب من معنى"يختصمون" و"يخصمون" بالتشديد. وقوله: "وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة" من قولهم: خصمته أي: غلبته بالحجة، أي: أنهم عند أنفسهم

الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم، بل يموتون بحيث تفجؤهم الصحية. [{ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَإذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا ويْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} 51 - 52] قرئ: {الصُّورِ} بسكون الواو؛ وهو القرن، أو جمع صورة، وحركها بعضهم، و {الأَجْدَاثِ}: القبور. وقرئ بالفاء. (ينسلون) يعدون، بكسر السين وضمها، وهي النفخة الثانية. قرئ: (يا ويلتنا). وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (من أهبنا)، من هب من نومه؛ إذا انتبه، وأهبه غيره. وقرئ: (من هبنا) بمعنى أهبنا، وعن بعضهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يغلبون بالحجة في عدم البعث وفي الواقع مغلوبون محجوجون. الجوهري: خاصمته مخاصمة وخصامًا، والاسم الخصومة. وخاصمته فخصمته أخصمه بالكسر ولا يقال بالضم إلا في الشذوذ. ومنه قراءة حمزة"وهم يخصمون". قوله: (قرئ: {الصُّورِ} بسكون الواو) وهي قراءة العامة، وحركها بعضهم كما تقول: درر ودرور، وكذا {يَنسِلُونَ} بكسر السين. قوله: (وقرئ: "من هبنا") قال ابن جني: هي قراءة أبي بن كعب. و"من أهبنا" بالهمز عن ابن مسعود، وهي أقيس. ويقال: هب من نومه أي: انتبه، وأهببته أنا: أي: أنبهته. قال: ألا أيها النوام ويحكم هبوا .... أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟ وأما أهبني أي: أيقظني فلم أرلها أصلا، ولا مربنا في اللغة مهيوب بمعنى موقظ، اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفًا أي: هب بنا، أي: أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل وليس

أراد هب بنا، فحذف الجار وأوصل الفعل. وقرئ: (من بعثنا)، و (من هبنا)، على "من" الجارة والمصدر، و {هَذَا} مبتدأ، و {مَا وَعَدَ} خبره، و {مَا} مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون {هَذَا} صفة للمرقد، و {مَا وَعَدَ} خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا وعد الرحمن، أي: مبتدأ محذوف الخبر، أي: {مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} حق عليكم. وعن مجاهد: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا: من بعثنا؟ وأما {هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ} فكلام الملائكة. عن ابن عباس، وعن الحسن: كلام المتقين. وقيل: كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضًا. فإن قلت: إذا جعلت {مَا} مصدرية؛ كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله: {وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} إذا جعلتها موصولة؟ قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن، والذي صدقة المرسلون، بمعنى: والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى على: من هب فهببنا معه، وإنما معناه: من أيقظنا كما أن قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ليس معناه أنه تعالى ذهب وذهب بنورهم معه، بل أذهب نورهم، فذهب به كأذهبه، أي: أزاله فاعرف ذلك. قوله: (وقرئ: "من بعثنا") قال ابن جني: قرأها علي رضي الله عنه. فمن الأولى متعلقة بالويل، أو حال منه متعلقة بمحذوف، أي: كائنا من بعثنا، وجاز أن يكون حالًا منه كما يجوز أن يكون خبرًا منه، كقول الأعشى: ويلي عليك وويلي منك يا رجل ومن في {مِن مَّرْقَدِنَا} متعلقة بنفس البعث.

ومنه: صدقني سن بكره. فإن قلت: {مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ذلك جوابًا؟ قلت: معناه: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنباكم به الرسل؛ إلا أنه جيء به على طريقة: سيئت بها قلوبهم، ونعيت إليهم أحوالهم، وذكروا كفرهم وتكذيبهم، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به، وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه، وهو بعث النائم من مرقده، حتى يهمكم السؤال عن الباعث، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع، وهو الذي وعده في كتبه المنزلة على السنة رسله الصادقين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه: صدقني سن بكره) أي: في سن بكره. مضى شرحه في "الأحزاب" عند قوله تعال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. قوله: (فكيف طابقه ذلك جوابًا) يعني: سألوا عن الفاعل وعن الباعث بقولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ وكان من الظاهر أن يجابوا بأنه الرحمن أو الله، فكيف قيل: {هَذَا مَا وعَدَ الرَّحْمَنُ وصَدَقَ المُرْسَلُونَ}؟ وأجاب: أن ذلك القدر ليس بكاف في الجواب ظاهرًا، لأن قولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} حكاية عن قولهم هذا عند البعث بعد ما سبق من قولهم: {ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فلا بد في الجواب من قول يتضمن معنيين فإذا مقتضى الظاهر أن يقال: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث، وأنبأكم به الرسل كما صرح به المصنف. لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم وتصوير حال كفرهم ليكون أهول وفي التفريع أدخل. والجواب وارد على الأسلوب الحكيم يعني: لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم، وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن، وإنما الذي يهمكم أن تسألوا: ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع إلى آخر ما ذكره المصنف.

[{إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} 53 - 58] {إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} قرئت منصوبة ومرفوعة. {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ} حكاية ما يقال في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره. {فِي شُغُلٍ}: في أي شغل وفي شغل لا يوصف، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم، ووقع في تلك الملاذ التي أعدها الله للمرتضين من عباده، ثوابًا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم، وذلك بعد الوله والصبابة، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أي شغل) إلى آخره، بيان لإطلاق {شُغُلٍ}، وتقرير لمعنى التنكير فيه. الراغب: الشغل والشغل: العارض الذي يذهل الإنسان، وقد شغل فهو مشغول، ولا يقال: أشغل. وشغل شاغل. قوله: (بعد الوله): الوله: التحير من شدة الوجد، و" الصبابة": رقة الشوق وحرارته. وذلك إشارة إلى قوله: "شغل من سعد" إلى آخره، أي: فما ظنك بشغل من سعد بالمذكور بعد الوجد والتشوق إلى نيل المباغي، ثم إلى قوله: "الخشية" متعلق بالأمور الدنيوية، ومن قوله: " وتخطي الأهوال" إلى آخره، متعلق بما عند الموت والبرزخ إلى آخر أخطار القيامة. وفي معناه قول القائل: الوصول إلى المطلوب بعد النصب أعز من المنساق بلا تعب.

التقوى والخشية، وتخطي الأهوال، وتجاوز الأخطار، وجواز الصراط، ومعاينة ما لقي العصاة من العذاب؟ ! وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار. وعنه: في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان: في التزاور. وقيل: في ضيافة الله. وعن الحسن: شغلهم عما فيه أهل النار: التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم؛ لئلًا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ: {في شُغُلٍ} بضمتين، وضمة وسكون، وفتحتين، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ، ومنه: الفاكهة؛ لأنه مما يتلذذ به، وكذلك: الفكاهة؛ وهي المزاحة. وقرئ: {فَاكِهُونَ}، و (فكهون)، بكسر الكاف وضمها، كقولهم: رجل حدث وحدث، ونطس ونطس. وقرئ: (فاكهين)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار) شروع في تقييد {شُغُلٍ} بعد تفسيره بما ينبئ عن العموم أو الإطلاق وما لا يدخل تحت الحصر، فتارة قيده ب"في" وأخرى ب"عن" في قوله: "شغلهم عما فيه أهل النار". قوله: ({في شُغُلٍ} بضمتين) الحرميان وأبو عمرو: بإسكان الغين، والباقون: بضمها. قوله: (وكذلك الفكاهة؛ وهي المزاحة) الراغب: الفكاهة: حديث ذوي الأنس. قال تعالى: {فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ}. قوله: (رجل حدث وحدث)، الجوهري: رجل حدث_ بضم الدال وكسرها_ أي: حسن الحديث. قوله: (ونطس ونطس)، الجوهري: التنطس: المبالغة في التطهر وكل من أدق النظر في الأمور واستقصى علمها فهو متنطس ومنه: رجل نطس بضم الطاء وكسرها.

و (فكهين) على أنه حال، والظرف مستقر. {هُمْ} يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون تأكيدًا للضمير في {شُغُلٍ}، وفي {فَاكِهُونَ} على أن أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال. وقرئ: (في ظلل)، والأريكة: السرير في الحجلة. وقيل: الفراش فيها. وقرأ ابن مسعود: (متكئين). {يَدَّعُونَ} يفتعلون، من الدعاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("فكهين" على أنه حال)، قال أبو البقاء: ويقرأ {فَاكِهينَ} على الحال من الضمير في الجار، وعلى المشهورة: {فَاكِهُونَ} خبر ثان، والأول {فِي شُغُلٍ}، أو هو الخبر، و {فِي شُغُلٍ} يتعلق به. قوله: (وقرئ: "في ظلل") حمزة والكسائي: بضم الظاء من غير ألف، والباقون: بكسرها وبالألف. وقال أبو البقاء: {فِي ظِلَالٍ} يجوز أن يكون خبر {هُمْ}، و {عَلَى الْأَرِائِكِ} استئناف، ويجوز أن يكون الخبر {مُتَّكِئُونَ}، و {فِي ظِلَالٍ} حال و {عَلَى الْأَرِائِكِ} منصوب بمتكئون. وظلال: جمع ظل، كذئب وذئاب، أو جمع ظلة، كقبة وقباب، والظلل: جمع ظلة لا غير. قوله: (في الحجلة) وهي واحدة حجال العروس وهي بيت يزين بالثبات. قوله: (يفتعلون من الدعاء) قال مكي: أصل {يَدَّعُونَ}: يدتعيون، على وزن: يفتعلون، من: دعا يدعو، فأسكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل: بل ضمت العين لأجل واو الجمع بعدها، ولم تلق

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليها حركة الياء، لأن العين كانت متحركة فصارت يدتعون، فأدغمت التاء في الدال وكان ذلك أولى من إدغام الدال في التاء، لأن الدال حرف مجهور، والتاء حرف مهموس والمجهور أقوى، فكان رد الأضعف إلى الأقوى أولى، فأبدلوا من التاء دالًا فأدغمت فصارت: يدعون. و"ما" ابتداء بمعنى: الذي، أو مصدر، أو نكرة وما بعدها صفة لها و"لهم" الخبر. وقال أبو البقاء: وقيل: الخبر {سَلَامٌ}، وقيل: {سَلَامٌ} صفة ثانية ل"ما" أو من الهاء المحذوفة، أي: ذا سلامة أو مسلمًا، و {قَوْلًا}: مصدر، أي: يقول الله أو الملائكة قولًا، و"من" صفة لـ {قَوْلًا}. قوله: (هو بدل من "ما") هذا إذا كانت "ما" نكرة موصوفة فظاهر، وأما إذا كانت معرفة موصولة فجائز عند بعضهم وقال: من ذهب إلى اشتراط النعت في البدل فقوله فاسد والدليل على ذلك قوله: إنا وجدنا بني سلمى بمنزلة .... كساعد الضب لا طول ولا قصر ف" لا طول" و"لا قصر" نكرتان، وهما بدلان من "ساعد الضب" ولم ينعتا، ولا يجوز أن يكون نعتين، لأن ساعد الضب معرفة. قال الإمام: ليس معناه: أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب بعد الطلب، بل معناه: لهم ما يدعون لأنفسهم أي: لهم ذلك فلا حاجة إلى الدعاء كما أن الملك إذا طلب مملوكه منه شيئا يقول: لك ذلك ففهم منه تارة أنك مجاب إلى مطلوبك وأخرى الرد، أي: إن ذلك حاصل لك فلم تطلبه؟ أي: لهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم، أو لهم الطلب والإجابة،

أي: يدعون به لأنفسهم، كقولك: اشتوى واجتمل؛ إذا شوى وجمل لنفسه. قال لبيد: فاشتوى ليلة ريح واجتمل ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه، كقولك: ارتموه، وتراموه. وقيل: يتمنون، من قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي، و: فلان في خير ما ادعى، أي: في خير ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أي: ما يدعوا به أهل الجنة يأتيهم. و {سَلَامٌ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن الطلب أيضًا لذة وكذلك العطاء، فإن من يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه فله منصب عظيم. قوله: قال لبيد أوله: وغلام أرسلته أمه .... بألوك فبذلنا ما سأل أرستله فأتاه رزقه .... فاشتوى ليلة ريح واجتمل الألوك: الرسالة، والجميل: الإهالة المذابة، أي: أذاب وشوى لنفسه. قوله: (يتداعونه) قال الإمام: فهو افتعال بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل، ومعناه ما ذكرنا: أن كل ما يصح أن يدعوا أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل. قوله: (قال الزجاج)، والمذكور في تفسيره: {مَا يَدَّعُونَ} معناه: ما يتمنون، يقال: فلان في خير ما ادعى، أي: ما تمنى، وهو مأخوذ من الدعاء، أي: كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم.

بدل من {مَا يَدَّعُونَ}، كأنه قال لهم: سلام يقال لهم {قَوْلًا مِن} جهة {رَبٍّ رَحِيمٍ}. والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس: فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل: {مَا يَدَّعُونَ} مبتدأ، وخبره {سَلاَمٌ}، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. و {قَوْلًا} مصدر مؤكد لقوله تعالى: {ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلامٌ} أي: عدة من رب رحيم. والأوجه: أن ينتصب على الاختصاص، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {سَلاَمٌ}: بدل من "ما"، المعنى: لهم ما يتمنونه سلام، أي: هذا منى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم. قوله: (أو بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم) فيقال له: ليس أبلغ في التعظيم وألذ الملاذ أن ينظروا مع ذلك إلى وجهه الكريم، على ما روينا عن ابن ماجه، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] قال: فنظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره"، وماذا على المصنف لو آمن به وترك التعصب. قوله: "يحتجب عنهم": الاحتجاب: جعل الخلق في حجاب من رؤيته، ويجوز أن يقال: الله تعالى محتجب وليس بمحجوب، لأن الاحتجاب اقتدار وقهر، والمحجوب مقهور، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. قوله: (والأوجه أن ينتصب على الاختصاص) أي: {قًوْلًا} إذا جعل منصوبًا على

وهو من مجازه. وقرئ: (سلم) وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود: (سلامًا) نصب على الحال، أي: لهم مرادهم خالصًا. [{وامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ} 59] {وامْتَازُوا} وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الروم: 14 - 16]. يقال: مازه فانماز وامتاز. وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. وعن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المدح كان أوجه من أن ينتصب على المصدر بفعل محذوف، أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، لأن المقام من مجاز المدح، لأن هذا القول صادر عن رب رحيم في مقام التعظيم، وكان جديرًا بأن يفخم أمره ويعظم قدره، ويكون جملة مستقلة مفصولة عما سبق. وأما جواز أن يكون النصب على المدح نكرة، فقد سبق في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]. قوله: (وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة)، أي: يقال للمجرمين: وامتازوا عن المؤمنين ليسار بهم إلى النار كما يسار بالمؤمنين إلى الجنة، ويخاطبون بما يقابله، أي: وامتازوا اليوم أيها المؤمنين؛ على تضمين {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ} هذا المعنى. وبيانه: أن قوله {وَلاَ تُجْزَوْنَ} خطاب مجمل يعم أهل المحشر وفيهم الفريقان، وتفصيله قوله: {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ} وقوله: {وامْتَازُوا}، فلا بد من ذلك التقدير ليصح عطف الطلبي على مثله، وإنما لم يقدر خلافه بأن يقال: إن أصحاب النار كذا، لأن المجمل وهو {الْيَوْمَ} {تُجْزَوْنَ} خطاب، والمناسب أن يكون التفصيل أيضًا خطابًا ليطابق المجمل، وإلى الإجمال والتفصيل الإشارة باستشهاد بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] إلى آخر الآيات. قوله: (فانماز وامتاز)، الجوهري: مزت الشيء أميز ميزًا: عزلته، وكذلك: ميزنه تمييزًا، فانماز وامتاز وتميز واستماز: كله بمعنى، يقال: امتاز القوم: إذا تميز بعضهم من بعض.

الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يرى ولا يرى. ومعناه: أن بعضهم يمتاز من بعض. [{أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 60 - 60] العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركز فيهم من أدلة العقل، وأنزل عليهم من دلائل السمع. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ: (إعهد) بكسر الهمزة، وباب "فعل" كله يجوز في حروف مضارعته الكسر، إلا في الياء؛ و (أعهد) بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب: نعم بنعم وضرب يضرب؛ و (أحهد) بالحاء، و (أحد) وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحامحًا. {هَذَا}: إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن؛ إذ لا صراط أقوم منه، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير: لئن كان يهدى برد أنيابها العلا .... لأفقر مني إنني لفقير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد جوز الزجاج)، وذكر في "تفسيره": ويقرأ "أعهد" بالكسر، والأكثر الفتح، على قولك: عهد يعهد، والكسر على ضربين: على: عهد يعهد، مثل: حسب يحسب. قوله: (قولهم: دحامحًا)، قال في "المطلع": وقرئ بالحاء مكان العين، وبحاء مشددة على الإدغام والقلب بالحرفين، وهي لغة تميم، ومنه قولهم: "دحامحا" في: دعها معها، أي: دع هذه القربة مع هذه المرأة. قوله: {هَذَا} إشارة إلى لفظ {هَذَا} في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}. قوله: (لئن كان يهدى) البيت، قال المرزوقي: أفقر لا يصح أن يكون من افتقر

أراد: إنني لفقير بليغ الفقر، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه في، وإلا لم يستقم معنى البيت، وكذلك قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن شرط بناء التفضيل أن يكون من الثلاثي ولكن من "فقر" المرفوض استعماله. أو بني منه على حذف الزوائد نحو: ريح لاقح، أي: ملقح، ويهدى: من الإهداء: الإتحاف، أو من الهداء: الزفاف. أنيابها العلى؛ أي: الشريفة العالية أو الأعالي، فإنها مواضع القبل. وقوله: "إنني لفقير"؛ فعيل: بناء مبالغة، ولا سيما أطلق إطلاقًا، فلا يقال: فقير إلى كذا وكذا، فيخصص، أي: لا غاية لفقري. قوله: (وإلا لم يستقم معنى البيت) أي: لو لم يخمل "لفقير" على: بليغ الفقير؛ لم يستقم معنى البيت، لأن أفعل التفصيل يستدعي أن يكون المهدى إليه كذلك كأنه قيل: لم تجد أحدًا أفقر مني لأني بلغت غايته، كما قال المرزوقي. كذلك لو لم يحمل {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} على المبالغة لم يتم معنى قوله: {لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ... وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} لأن النهي عن عبادة الشيطان نهي عن متابعة سبيله، وهو جميع طرق الضلالات والأهواء والبدع، والأمر بعبادة الرحمن أمر باختصاص متابعة سبيل الحق، كأنه قيل: لا تعبدوا الشيطان وخصصوني بالعبادة، لأن صراطي بليغ في استقامته، وأيضًا إن قوله {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} جملة مستأنفة على بيان الموجب فلو لم يحمل على ما شرحه لم يتم ذلك. ونحوه ما روينا عن النسائي والدارمي عن ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان

يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه. ويجوز أن يراد: هذا بعض الصرط المستقيمة؛ توبيخًا لهم على العدول عنه، والتفادي عن سلوكيه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدي إلى الضلالة والتهلكة، كأنه قيل: أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق: أن يعتمد فيه كما يعتمد في الطريق الذي لا يضل السالك، كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار؛ توبيخًا له على الإعراض عن نصائحه. [{ولَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا اليَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} 62 - 64] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدعوا إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. قوله: (يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته)، قال صاحب الفرائد: الذي حمله على هذا البيان أن حق المقام في الظاهر التعريف إدارة الحصر بأن يقال: هذا الصراط المستقيم، أو هذا هو الصراط المستقيم ليكون إثباتًا له ونفيًا لغيره؛ لأن الصراط المستقيم لم يمكن أن يكون غير هذا، لكن لهذا المعنى الدقيق اللطيف عدل إلى التنكير. قوله: (ويجوز أن يراد: هذا بعض الصرط المستقيمة توبيخًا لهم عن العدول عنه)، أي: أن قوله: {هَذّا} بعض الطرق المستقيمة، مع أن الواقع أنه كل الطرق، بل ليس الطريق إلا هو، للإيذان بأن المخاطب قد تفادى وتحامى وانزوى عن سلوكه، يعني: هب أن هذا الطرق ليس من الطرق التي بلغت في الكمال غايته، أليس أنه بعض منها؟ وأقل ما عليك أن تعتقد أنه طريق لا يضل السالك فيه، فهضم من حقه ليكون توبيخًا للمخاطب على عدم التفاته إليه، وأهجم به على الغلبة وأبعث على التفكير لأنه من الكلام المنصف.

قرئ: (جبلًا) بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديدة، وكسرتين، وكسرة وسكون، وكسرتين وتشديدة، وهذه لغات في معنى الخلق. وقرئ: (جبلاُ) جمع جبلة، كفطر وخلق، وفي قراءة علي رضي الله عنه: (جيلًا) واحد الأجيال. [{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 65] يروى: أنهم يجحدون ويخاصمون؛ فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: "يقول العبد يوم القيامة: إني لا أجيز علي شاهدًا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل"، وقرئ: (يختم على أفواههم)، و (تتكلم أيديهم)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: جبلًا): قرأ نافع وعاصم: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمر وابن عامر: بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام، والباقون: كذلك غير أنهم ضموا الباء. قوله: (وهذه لغات في معنى الخلق). قال الإمام: الجيم والباء واللام لا تخلو من معنى الاجتماع. قوله: (أناضل) أي: أدافع. الجوهري: فلان يناضل عن فلان: إذا تكلم عنه بعذره ودفع.

وقرئ: (ولتكلمنا أيديهم وتشهد) بلام "كي" والنصب، على معنى: ولذلك نختم على أفواههم. وقرئ: (ولتكلمنا أيديهم ولتشهد) بلام الأمر والجزم، على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. [{ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) ولَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًا ولا يَرْجِعُونَ} 66 - 67] الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل: فاستبقوا إلى الصراط، أو يضمن معنى: ابتدروا، أو يجعل الصراط مسبوقًا لا مسبوقًا إليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ولتكلمنا أيديهم") قال ابن جني: قرأها طلحة، وفيه حذف أي: لتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ما نختم من أفواههم، كقولك: أحسنت إليك ولشرك ما أحسنت إليك، وأنلتك سؤلك. قوله: (أو يضمن معنى: ابتدروا) قال في "الأساس" في قسم الحقيقة: واستبقوا الصراط: ابتدروه. وقال أيضًا: تبادروا الباع وابتدروها. قوله: (أو يجعل الصراط مسبوقًا لا مسبوقًا إليه) يعني: على الاتساع، كقوله: ويوم شهدناه

أو ينتصب على الظرف. والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرًا كما كانوا يستبقون إليه ساعتين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم؛ لم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: واستبقنا في العدو، أي: تسابقنا. قوله: (أو ينتصب على الظروف)، على نحو قوله: كما عسل الطريق الثعلب على تقدير: في، وفيه إشكال، لأن حكم مؤقت المكان كحكم غير الظرف. قوله: (والمعنى أنه لو شاء)، اعلم أنه ذكر في {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} وجهًا على اللف، ومن هنا شرع في النشر، فقوله أولًا: "فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق" مبني على حذف "إلى" وإيصال الفعل، أو على تضمين معنى"ابتدروا". وقوله ثانيًا: "فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف" مبني على أن ينتصب {الصِّرَاطَ} على الظرف، فأبرز لذلك لفظة "في". وقوله: "فلو طلبوا أن يخلقوا الصراط" مبني على أن {الصِّرَاطَ} مفعول به، وإليه أشار بقوله: " أو يجعل الصراط مسبوقًا". وعن بعضهم: استبق الصراط: جاوزها. و {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي: لا يبصرون، لأن معنى {فَأَنَّى} في هذا المقام معنى "كيف" على الإنكار. قوله: (إلى الطريق المهيع)، وفي حاشية" الصحاح": طريق مهيع، أي: مسلوك. وأبو عبيد: المهيع: الطريق الواسع الواضح. قوله: (موضعين)، الجوهري: وضع البعير وغيره، أي: أسرع في سيره.

يقدروا، وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلًا عن غيره. أو: لو شاء لأعماهم، فلوا أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا. أو: لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقًا، يعني: أنهم لا يقدرون إلًا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطريق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيها ألفوا وضروا به من المقاصد دون غيرها. {عَلَى مَكَانَتِهِمْ}، وقرئ: (على مكاناتهم)، والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أي: لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضي ولا رجوع. واختلف في المسخ؛ فعن ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ: {مُضِيًا} بالحركات الثلاث، فالمضي والمضي كالعتي والعتي، والمضي كالصبي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتعايا عليهم)، الأساس: عي بالأمر وتعيى به وتعايا، وأعياه الأمر: إذا لم يضبطه. قوله: (وضروا به) أي: تعودوا. الجوهري: وقد ضري الكلب بالصيد ضراوة: تعود. قوله: (وقرئ: "على مكاناتهم") قرأ أبو بكر: بالجمع، والباقون: على التوحيد. قوله: (وقرئ: {مُضِيًا} بالحركات الثلاث)، بالضم: هي المشهورة، وبالفتح والكسر: شاذ.

[{ومَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} 68] (ننكسه في الخلق): نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه قبلًا؛ وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسد، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]، وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، ومن العلم إلى الجهل بعدما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم) إلى قوله: (قادر على أن يطمس [على] أعينهم ويمسخهم) يريد أن قوله {ومَن نُّعَمِّرْهُ} الجملة معطوفة على متعلق علة محذوفة، المعنى: لو نشاء لفعلنا الطمس، ولو نشاء لفعلنا المسخ، لأنا قادرون على كل شيء وعلى قلب الحقائق، ألا ترى كيف نقلب الإنسان في الخلق فتخلقه على عكس ما خلفناه قبلًا، وهذا ليس بأعرب من ذلك، وقوله: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} تنبيه على التفكير وتوبيخ لما لو عسى أن ينكر منكر أنه تعالى كيف يختم على الأفواه يوم القيامة لتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل، ومثله ما روينا عن البخاري ومسلم عن أنس: أن رجلًا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34] أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا

وأراد. وقرئ بكسر الكاف، و {نُنَكِّسْهُ}، و (نَنْكُسْهُ) من التنكيس والإنكاس. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} بالتاء والياء. [{ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} 69 - 70] كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، وروي: أن القائل: عقبة بن أبي معيط، فقيل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة". قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. قوله: (وقرئ بكسر الكاف و {نُنَكِّسْهُ}): عاصم وحمزة: {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الكاف وتشديدها. والباقون: بالفتح للنون الأولى وإسكان الثانية وضم الكاف مخففة. قوله: (أي: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر) يعني: قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} كناية تلويحية عن كون القرآن ليس بشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأن الآية رد لقولهم: هو شاعر، وذلك أنهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ نشأ بين ظهرانيهم ما ينبئ عن الشعر ولا نسبوه إلى الشاعرية أصلًا، فلما سمعوا منه هذا القرآن المجيد نسبوه إليها إيذانًا بأن القرآن شعر فقيل لهم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ودل به على أن القرآن ليس بشعر، أي: وما جعلنا تعليمنا القرآن له ذريعة إلى تعلم الشعر حتى يكون شاعرًا، فإذا لم يكن تعليم القرآن ذريعة إليه، فلا يكون القرآن شعرًا، ولا يكون هو شاعرًا،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالباء في قول المصنف: " وما علمناه بتعليم القرآن الشعر" للاستعانة، وذلك أن من يمارس الدواوين والأشعار ربما يستعين به على قرض الشعر. وإذا لم يكن القرآن من الشعر في شيء فكيف يستعان به عليه؟ وإليه الإشارة بقوله: فأين الوزن وأين التقفية، وأين المعاني وأين النظم وأين الأساليب؟ والغرض في ارتكاب هذه الكناية تطبيق هذا الرد على قولهم لرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شاعر، وتلفيق قوله {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} فقوله: " وما ينبغي له" اعتراض لتقرير أنه ليس بشاعر، وقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} تقرير للمقدر. وأورد أن هذا ليس من قبيل الكناية فضلًا عن أن يكون تلويحية لأنه انتقال من ملزوم واحد إلى اللازم، فيقال: لا ارتياب أن دلالة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} على أن القرآن ليس بشعر، ودلالة ذلك على نقي الشاعر ليس من قبيل المفهوم الحقيقي، وهو نفي تعليم الشعر منه. ولا من قبيل المجاز عند مقتني صناعة البيان؛ لا من أنواع المفرد منه ولا المركب، أي: الاستعارة التمثلية أو الإسناد المجازي، فوجب المصير إلى الكناية باستعانة اقتضاء المقام كما سبق لما يلزم من نفي الشاعرية حينئذ نفي كون القرآن شعرًا ومن نفيه نفي تعليم الشعر بواسطة القرآن، فآذن الانتقال من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي: أن القرآن ليس بشعر، ومن ذلك إلى أنه صلوات الله عليه ليس بشاعر انتقال من اللازم إلى الملزوم بمرتبتين، ولا يعني بالتلويح الأبعد والانتقال؛ ألا ترى إلى ما أنشده صاحب"المفتاح" من قوله ابن هرمه: لا أمتع العوذ بالفصال ولا .... أبتاع إلا قريبة الأجل فإنه استعان بوساطة مقام المدح وتسلسل اللوازم على أنه مضياف، والله أعلم وأما البيان النظم فإن قوله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} الآية خاتمة لبيان

وما هو من الشعر في شيء، وأين هو عن الشعر، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحوال المعاد، وكالتخلص إلى ذكر أحوال المكذبين من قوم الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقريعهم وتوبيخهم، وهو قوله: {ولَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} {ولَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لا تتعجبوا بما نختم على أفواههم في القيامة، ولو شئنا الآن لطمسنا على أعينهم، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف لم يستطيعوا، ولو نشاء لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لفعلنا، ومن تكاذبهم قولهم في القرآن وفي من أنزل عليه: إنه شاعر وهو شعر حتى رد عليهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} إلى قوله: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ}، وهذا المعنى يملح إلى ما أفتتح به السورة من قوله: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}. قوله: (والشعر إنما هو كلام موزون مقفى)، الراغب: الشعر معروف، والجمع أشعار، قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل: 80] وشعرت: أصبت الشعر، ومنه استعير، شعرت: كذا، أي: علمت علمًا في الدقة كإصابة الشعر. قيل: وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته. فالشعر في الأصل: اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري، وصار في التعارف اسمًا للموزون المقفى من الكلام والشاعر المختص بصناعته. وقوله تعالى حكاية عن الكفار: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] كثير من المفسرين حملوه على أنهم رموه بكونه أتى بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظة تشبه الموزون من نحو قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]. وقال بعض المحصلين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به، لأنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأغتام من العجم فضلًا عن بلغاء العرب، وإنما رموه بالكذب، فإن الشعر يعبر به عن الكذب، والشاعر: الكاذب، حتى سمى قوم الأدلة الكاذبة الشعرية، ولهذا قال في وصف عامة الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ

يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم عن نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت، اللهم إلا أن هذا لفظه عربي، كما أن ذاك كذلك. {ومَا يَنْبَغِي لَهُ}: وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] ولكون الشعر مقر الكذب، قيل: أحسن الشعر أكذبه، وقال بعضهم: لم ير متدين صادق اللهجة مفلقًا في شعره. والشعار: الثوب الذي يلي البدن لمماسته الشعر. والشعار: ما يشعر به الإنسان نفسه في الحرب أي: يعلم، والشعراء ذباب الكلب لملازمته شعره. قوله: ({ومَا يَنْبَغِي لَهُ} وما يصح له ولا يتطلب)، روي عن المصنف أنه قال: في" كتاب" سيبويه حرف واحد: كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال، كضرب وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة. وقال ابن الحاجب: {مَا يَنْبَغِي} بمعنى: لا يستقيم عقلا كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]؛ لأنه لو كان ممن يقول الشعر لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه. ولذلك عقبه بقوله: {ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ}؛ لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة، فيحق القول عليهم. أشار إلى اتصال هذا الآية بما قبلها وما بعدها كما قررناه آنفًا. قال الإمام: وفيه وجه أحسن من ذلك، وهو أن الشعر لا يليق بمثله، ولا يصلح له، لأن الشعر يدعوا إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف، وكلها تستدعي الكذب، وجل جناب الشارع عنه، فما هو إلا كتاب

كما جعلناه أميًا لا يتهدى للخط ولا يحسنه؛ لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت: فقوله: أنا النبي لا كذب .... أنا ابن عبد المطلب وقوله: هل أنت إلا أصبع دميت .... وفي سبيل الله ما لقيت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته الفوز في الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرًا. وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن عائشة قالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر. وفي "المسند" أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أبالي ما ركبت إذا أنا شربت ترياقًا أو علقت تميمة، أو قلت شعرًا من قبل نفسي". قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، قاله صلوات الله عليه يوم حنين حين نزل ودعا واستنصر في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن البراء.

قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة، من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك كما ينفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرًا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزن البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرًا، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال: {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُّبِينٌ} يعني: ما هوا إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجن، كما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27]، وما هو إلا قرأن كتاب سماوي، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ {لِيُنذِرَ} القرآن، أو الرسول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا أصبع دميت .... وفي سبيل الله ما لقيت قوله: (على السليقة)، الجوهري: هي الطبيعة يقال: فلان يتكلم بالسليقة، أي: بطبعه، لا عن تعلم وهي منسوبة. قوله: (المشطور من الرجز)، عن بعضهم: المشطور: الذي أخذ شطره، وهو الذي ليس بمصرع، كقوله: يا ليتني فيها جذع .... أخب فيها وأضع

وقرئ: (لتنذر) بالتاء، و (لينذر): من: نذر به؛ إذا علمه. {مَن كَانَ حَيًا} أي: عاقلًا متأملًا؛ لأن الغافل كالميت؛ أو معلومًا منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان، {ويَحِقَّ القَوْلُ}: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "لتنذر") بالتاء: نافع وابن عامر، والباقون: بالياء التحتانية. قوله: (من: نذر به: إذا علمه)، الجوهري: ونذر القوم بالعدو بكسر الذال المعجمة؛ إذا علموا. قوله: (أو معلومًا منه أنه يؤمن)، عطف على " عاقلًا متأملًا"، وعلى الأول {حَيًّا} استعارة مصرحة بحقيقته استعبر الحياة للعقل لجامع التكميل والتزيين. وعلى الثاني استعارة للإيمان كذلك، ثم مجاز باعتبار ما يؤول. كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] قال: سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، كأنه قيل: لينذر من كان مآل أمره إلى الإيمان به لأنه الذي ينتفع بالإيمان، ولذلك رتب "فيجيء بالإيمان" على قوله: "معلومًا منه أنه يؤمن". وقال بعض المشاهير: أطلق كان والمراد يكون مجازًا باعتبار ما يؤول، فيقال: " كان" في هذه الآية نحوها في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]؛ ولذلك قال: "معلومات منه أنه يؤمن". وهذا الوصف على هذا التقدير ثابت للموصوف، وكذا على الوجه الأول. قال الراغب: "كان" يستعمل منه في جنس الشيء متعلقًا بوصف لينبه على أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك كقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، ومن ثم قوبل به قوله: {ويَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} لأنه معبر به عن العلم الأزلي، واختير قوله {عَلَى الكَافِرِينَ} على "من يكفر"؛ أي: وجب وثبت في علم الله واستمراره على الكفر كما ثبت في

وتجب كلمة العذاب {عَلَى الكَافِرِينَ} الذين لا يتأملون ولا يتوقع منهم الإيمان. [{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ومِنْهَا يَاكُلُونَ * ولَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ومَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 71 - 73] {مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}: مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا، وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة والحكمة فيها، والتي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدي: استعارة من عمل من يعملون بالأيدي، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي: خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع بها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون، من قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علم الله دخول ذلك في الإيمان، فظهر من هذا التقابل: أن الكافر كالميت والمؤمن كالحي. وقوله: " ({عَلَى الكَافِرِينَ} الذين لا يتأملون) مقابل لقوله: أي عاقلًا متأملا. وقوله: "ولا يتوقع منهم الإيمان" مقابل لقوله: "أو معلومًا منه الإيمان" والله أعلم. قوله: (وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة) يعني: إنما قرن إنا خلقنا لهم بقوله: {مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وآثر صيغة التعظيم والأيدي مجموعة ليدل على إبداع خلق عجيب وإبداع صنع غريب فيه، لأن اليد إذا استعيرت للقدرة دلت على دقة في المقدور. قوله: (وعمل الأيدي استعارة من عمل من بعمل) يعني: استعير عمل الأيدي من مكان يستعمل فيه هذا اللفظ حقيقة، وهو الإنسان، لمن لا يستعمل فيه عمل الأيدي إلا مجازًا، وهو الله سبحانه وتعالى، ونحوه استعمال الطلع في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] فيما لا طلع له من الشجر، واستعمال المرسن في أنف لا رسن له. قوله: (أو: فهم لها ضابطون) فالمالك بمعنى القاهر والقادر من ملكت العجين: إذا أجدت عجنه فقويته، ومنه أخذ الملك لأنه القدرة على المملوك، والفاء على الأول للتسيب وهي فصيحة لتقدير فملكناهم وهذا أوجه، لأن قوله: {وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وتقسيمه بالركوب

أصبحت لا أحمل السلاح ولا .... أملك رأس البعير إن نفرا أي: لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها؟ كما قال القائل: يصرفه الصبي بكل وجه .... ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى .... فلا غير لديه ولا نكير ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]. وقرئ: {رَكُوبُهُمْ} و (ركوبتهم)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأكل يدل على الضبط والقهر فدل "مالكون" على أن أحدًا لا يمنعهم من التصرف فيها ودل {وذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} على أنها في أنفسها لا تمتنع من التصرف فيها بما أراد صاحبها، وعلى الوجه الثاني: وذلللناهم لهم عطف تفسيري على قوله: {مَالِكُونَ} وليس بقوي. قوله: (أصبحت) البيت، وبعده: والذئب أخشاه إن مررت به .... وحدي وأخشى الرياح والمطرا سئل عن أبي هرمة: كيف أصبحت؟ فأنشد البيتين. قوله: (يصرفه الصبي) البيتين، الجرير: حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة غير الزمام، والخسف: الذل. والهراوى: جمع الهراوة وهي العصا الضخمة، والغير: اسم من قولهم: غيرت الشيء فتغير، أو جمع غيره. قوله: (وقرئ: {رَكُوبُهُمْ})، وهي قراءة العامة. قال ابن جني: قرأ الحسن والأعمش بضم الراء. وقرأت عائشة رضي الله عنها ركوبتهم، وأما الضم فمصدر، والكلام محمول

وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. وقيل: الركوبة: جمع. وقرئ: (ركوبهم) أي: ذو ركوبهم، أو: فمن منافعها ركوبهم. {مَنَافِعُ}: من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك. {ومَشَارِبُ}: من اللبن، ذكرها مجملة، وقد فصلها في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} الآية [النحل: 80]. والمشارب: جمع مشرب؛ وهو موضع الشرب، أو الشرب. [{واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ومَا يُعْلِنُونَ} 74 - 76]. اتخذوا الآلهة طمعًا في أن يتقووا بهم ويعضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدروا؛ حيث هم جند لآلهتهم معدون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على حذف المضاف، أي: ذو ركوبهم، وهو المركوب ومرجعها إلى قراءة من قرأ بفتح الراء وإن شئت قدرت: فمن منافعها أو من أعراضها ركوبهم، وأما ركوبتهم فهي المركوبة كالجزورة والحلوبة، أي: ما يجز ويحلب. وقال مكي: ركوبتهم: الأصل عند الكوفيين؛ ليفرق بين ما هو فاعل وبين ما هو مفعول، يقولون: امرأة صبور وشكور فهذا فاعل، ويقولون: ناقة حلوبة وركوبة فهذا مفعول. قوله: (هو موضع الشرب، أو الشرب)، في" المطلع": مشارب: جمع مشرب، بمعنى موضع الشرب، أو هي مصدر بمعنى المشروب، وهو لبنها ومخيضها والزبد والسمن والأقط والجبن والرائب وغيرها.

{مُحْضَرُونَ} يخدمونهم ويذبون عنهم، ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا؛ حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقودًا للنار. قرئ: {فَلا يَحْزُنكَ} بفتح الياء وضمهما، من حزنه وأحزنه. والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بـ {مَا يُسِرُّونَ} من عداوتهم {ومَا يُعْلِنُونَ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مُحْضَرُونَ} يخدمونهم) أي: يحضرونها لخدمتها وعبادتها، لقوله: "محضرون لعذابهم" حيث صرح باللام. وأما اتصال هذه الآية بما قبلها فأن تجعل حالًا مقررة لجهة الإشكال؛ أي: إنا خلقناهم وفعلنا كذا وكذا وهم اتخذوا من دون الله ما لا يستطيعون نصرهم، ومع ذلك إنهم يذبون عنها ويغضبون لها، وإليه الإشارة بقوله: والأمر على عكس ما قدروا. قوله: (قرئ: {فَلا يَحْزُنكَ} بفتح الياء وضمها): نافع: بالضم، والباقون: بالفتح. قوله: (والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم) إلى آخره، لابد لهذا الفاء من كلام تتصل به، والذي يصلح لذلك قوله: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}، لأنه في جواب من قال: إنه صلوات الله عليه شاعر والقرآن شعر. وأما بيان النظم، فإنه تعالى بعد ما رد عليهم قولهم: إنه شاعر، أتى بقوله: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} الآيات، مسليًا حبيبه صلوات الله عليه، يعني: لك التأسي بربك، فإنه تعالى أراهم تلك الآيات الباهرة، وأولاهم تلك النعم المتظاهرة، وعلموا أنه المتفرد بها، ومع ذلك كابروا وعاندوا واتخذوا من دونه آلهة أشركوها به في العبادة، فإذا كان كذلك فلا يحزنك قولهم، لأنا مجازوهم على تكذيبهم إياك إشراكهم بي.

وإنا مجازوهم عليه، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة؛ حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن. فإن قلت: ما تقول فيمن يقول: إن قرأ قارئ: (أنا نعلم) بالفتح: انتقضت صلاته، وإن اعتقد بما يعطيه من المعنى: كفر؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون على حذف لام التعليل، وهو كثير في القرآن والشعر، وفي كل كلام وقياس مطرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد والنعمة لك"، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي، وكلاهما تعليل. والثاني: أن يكون بدلًا من {قَوْلُهُمْ}، كأنه قيل: فلا يحزنك، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن)، الجملتان مقررتان على النفي والإثبات طردًا وعكسًا. قوله: (وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، عن البخاري ومسلم ومالك وغيرهم، عن ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدًا يقول: " [لبيك] اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" لا يزيد على هذه الكلمات. النهاية: التلبيد: هو أن يسرح الشعر ويجعل فيه شيء من صمغ ليلتزق ولا يتشعث في الإحرام. قوله: (مع المكسورة) يعني: هذا المحذور أيضًا قائم مع المكسورة على تقدير المقول، فعليك أن لا تقدر البدل فاتحًا، ولا تقدر مقول القول كاسرًا لأنه على التقديرين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالمًا بسرهم وعلانيتهم، بل يقدر على الفتح، والكسر للتعليل، وهو المراد بقوله: وإنما يدوران على تقديرك: فينفصل إلى آخره على أن ذلك جائز على سبيل التعريض كقوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105].

للقول، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالمًا وعدم تعلقه لا يدوران على كسر "إن" وفتحها، وإنما يدوران على تقديرك، تتفضل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل، كما أنك تتفضل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية، ثم إن قدرته كاسرًا أو فاتحًا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل، فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالمًا بسرهم وعلانيتهم، وليس النهي عن ذلك ما يوجب شيئًا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 68]، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87]، {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [الشعراء: 213]. [{أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ * إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 77 - 83] قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا لا ترى أعجب منه وأبلغ، ودل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا)، قال القاضي: هذه تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. يريد أن قوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ} معطوف على قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} وأسلوبها أسلوبها في التعكيس، يعني: أنا كما تولينا إحداث النعم ليكون ذريعة إلى أن يشكروها فجعلوها وسيلة إلى الكفران، كذلك خلقناهم من أخس الأشياء وأمهنها، ليخضعوا ويتذللوا، فإذا هو خصيم مبين.

وتغلغله في القحة؛ حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه؛ وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار، ويبرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعدما ومت عظامه؟ ! ثم يكون خصامه في ألزام وصف له وألصقه به؛ وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي الكابرة التي لا مطمح وراءها، وروي: أن جماعة من كفار قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك، فقال لهم أبي: ألا ترون إلى ما يقول محمد: إن الله يبعث الأموات، ثم قال: واللات والعزى لأصيرن إليه ...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في القحة)، الجوهري: وقح الرجل إذا صار قليل الحياء، وهو وقح ووقاح بين القحة والوقاحة، والهاء عوض من الواو. قوله: (ويمحك)، الجوهري: المحك: اللجاج، وقد محك يمحك فهو رجل محك ومماحك. قوله: (ثم يكون خصامه في ألزم وصف) ثم هذه يجوز أن تكون للاستعباد؛ يعني ينكر الحشر، ويخاصم مع مهانته الجبار مع مهابته في شيء في غاية من الظهور والجلاء! ما أبعد ذلك من العاقل! قوله: (والعاص بن وائل)، عن بعضهم: العاص، صح بالرفع، لأنه من الأعياص، من العوص لا من العصيان، والأعياص من قريش وهم أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم أربعة: العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، والعيص الأصل.

ولأخصمنه، وأخذ عظمًا باليًا فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رم؟ ! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم". وقيل: معنى قوله: {فَإِذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأخصمنه)، وخاصمت فلانا فخصمته أخصمه بالكسر، ولا يقال بالضم، وهو شاذ. ومنه قراءة حمزة: " وهم يخصمون". قوله: (نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم)، من الأسلوب الحكيم، أي: إحياؤه مما لا كلام فيه، فسل عن حالك كيف تصير إلى جهنم؟ قيل: ليس هذا من الأسلوب الحكيم في شيء، بل أجاب وزاد في الجواب بالبعث والعقاب. فيقال: الأسلوب الحكيم: هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب والسائل بغير ما يتطلب، فقوله صلوات الله عليه: " ويبعثك ويدخلك جهنم" هو الجواب المفحم، وقوله: "نعم" توطئة للجواب، واللعين لم يترقب ذلك، على أن سؤاله ذاك لم يكن سؤال مسترشد طالب للحق بل سؤال متعنت متهكم لم يقنع بلا ونعم. فكيف لا وقد أسلف: ألا ترون ما يقول محمد: إن الله يبعث الأموات إلى آخر ما ذكره، نظيره قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18] جوابًا عن قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16] على أن الزائد على الجواب لا يتبينه إلا الحكيم الحاذق. قال الراغب: السؤال ضربان: سؤال جدل وحقه أن يطابقه جوابه لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، وسؤال تعلم وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم فيطلب ما يشفيه طلبه المريض أو لم يطلبه.

هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام، {مُّبِينٌ}: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. فإن قلت: لم سمى قوله: {مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} مثلًا؟ قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل؛ وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه؛ لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى، فإذا قيل: من يحيي العظام؟ على طريق الإنكار لأن يكون ذلك ممًا يوصف الله تعالى بكونه قادرًا عليه؛ كان تعجيزًا لله وتشبيهًا له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبرًا لمؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مثاله من غلب عليه مرة السوداء إذا طلب من الطبيب تناول الجبن فيقول: عليك بمائه كما أجيب عن قولهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وإذا طلب من قهره الصفراء العسل فيقول له: مع الخل، وعليه ما نحن بصدده، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215]. قوله: (من التشبيه؛ لأن ما أنكر) إلى آخره، تلخيصه: أن إحياء الأموات من قبيل الصفات التي يوصف بها الباري ليمتاز عن الخلق كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وقال تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان: 8]، فإذا أنكر ذلك لزم منه العجز وهو ما يرصف به المخلوق، فلذلك قيل: {وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي شبهنا بالمخلوقين. قال الإمام: {وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب. قوله: (ولا هو فعيل بمعنى فاعل) قيل: هو معطوف على قوله "غير صفة". وفي

مفعول. ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام، ويقول: إن عظام الميتة نجسة؛ لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها. وأما أصحاب أبي حنيفة فهي عندهم ظاهرة، وكذلك الشعر والعصب، ويزعمون أن الحياة لا تحلها؛ فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون: المراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس. {وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم كيف يخلق، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات من أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي توري بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، ويقطع الرجل منهما غصنين من مثل السواكين وهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "المطلع": الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبر لمؤنث؟ قال القاضي: والرميم: ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل؛ من: رم الشيء، فصار اسمًا بالغلبة، ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول؛ من: رممته، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء. وقال محيي السنة: لم يقل رميمة لأنه معدول عن فاعلة، وكل ما كان معدولًا عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن أخواته لقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أسقط الهاء؛ لأنها كانت مصروفة عن: باغية. قوله: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار)، استمجد: يستعمل في تفضيل الفاضل على الفضلاء، قال الميداني: يقال مجدت الإبل تمجد مجودًا إذا نالت من الخلى قريبًا من الشبع، واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثر وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شُبِّها

خضراوان، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ، وهو ذكر، على العفار، وهي أنثى، فتنقدح النار بإذن الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب. قالوا: ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ: {الْأَخْضَرِ} على اللفظ، وقرئ: (الخضراء) على المعنى، ونحوه قوله تعالى: {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة: 52 - 54]. من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسي أقدر، وفي معناه قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. وقرئ: (يقدر). وقوله: {أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض، أ: أن يعيدهم؛ لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمن يكثر العطاء طلبًا للمجد، لأنهما يسرعان الوري. يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض، وليس في الشجر أورى زنادًا من المرخ. والزند الأعلى يكون من العفار، والأسفل من المرخ قال: إذا المرخ لم يور تحت العفار قوله: (والقماءة)، الجوهري: قمؤ الرجل قماء وقماءة، قميئًا، وهو الصغير الذليل، وأقمأنه: صغرته وذللته فهو قميء؛ على: فعيل. قوله: (لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به) أي: أم المعاد مثل المبتدأ وليس بعينه، كما فسره صاحبا"المطلع" و"التقريب". وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر لأنه خلاف المذهب وقد أحسن وأجاد بعض فضلاء العصر حيث قال: ما ذكره المصنف مناف لما صرح به قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} لأن الضمير في {يُحْيِيهَا} و {أَنشَأَهَا} راجع إلى أمر واحد. فيكون المحيي هو المنشئ أول مرة فالمعاد عين المبتدأ، ولأن قولهم: {مَن يُحْيِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العِظَامَ} إنكار لخلق تلك العظام الرميمة البالية بعينها إحياء، فلو لم يكن المراد من قوله: {يُحْيِيهَا} أن الله يجعلها أحياء بعينها لم يطابق السؤال الجواب. وقال الإمام رحمه الله: إعادة المعدوم عندنا جائز خلافًا لجهور الفلاسفة خذلهم الله، الكرامية وطائفة من المعتزلة. وقال أيضًا: والدليل على أن حشر الأجساد حق أن عود البدن في نفسه ممكن والله قادر على كل الممكنات. وعالم بكل المعلومات فكان القول بالحشر ممكنًا والأنبياء قد أخبروا عن وقوعه، والصادق إذا أخبر عن وقوع شيء ممكن وجب القطع بصحته، وإنما احتجنا إلى إثبات القدرة والعلم، لأنه تعالى إذا علم بجميع المعلومات علم بأجزاء تلك العظام النخرة والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الآفاق، وإذا قدر على جميع المقدورات كان قادرًا على تمييز الأجزاء وجمعها وإعادتها كما كانت أول مرة فسبحان الخلاق العليم. هذا تلخيص كلام الإمام. وقال: قد جمع الله سبحانه وتعالى هذه المقدمات بأسرها صريحًا في جوابه عن قولهم {مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ}، أما ما يدل إثبات القدرة على الممكن فهو قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} إلى آخره، وأما ما يدل على إثبات العلم بالجزئيات فهو قوله: {وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وأما ما يدل على الإخبار عن الصادق فهو قوله: {قُلْ}، أي: قل أيها الصادق المصدوق المشهور عندهم بالأمين، الثابت نبوته بالدلائل والبرهان، فظهر أن الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما المصنف هو الوجه تصحيحًا وذوقًا. أما التصحيح فكما مر، وأما الذوق فإن لفظة"مثل" ههنا كناية عن المخاطبين نحو قولك: مثلك يجود، وهو المراد من قوله: "أن يخلق مثلهم" في الصغر والقماءة ثم الالتفات

{وهُوَ الخَلاَّقُ}: الكثير المحذوفات {العَلِيمُ}: الكثير المعلومات. وقرئ: (الخالق). {إنَّمَا أَمْرُهُ}: إنما شأنه {إذَا أَرَادَ شَيْئًا}: إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه ولا صارف {أَن يَقُولَ لَهُ كُن}: أن يكونه من غير توقف {فَيَكُونُ} فيحدث، أي: فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت: ما حقيقة قوله: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن}؟ قلت: هو مجاز من الكلام وتمثيل؛ لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت: فما وجه القراءتين في {فَيَكُونُ}؟ قلت: أما الرفع؛ فلأنها جملة من مبتدأ وخبر؛ لأن تقديرها: فهو يكون، معطوفة على مثلها؛ وهي: أمره أن يقول له: كن. وأما النصب؛ فللعطف على {يَقُولُ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم} إلى قوله: {مِثْلَهُم} لمزيد الاحتقار والازدراء أي: مثل أولئك البعداء، ولأن وزان هذه الآية وزان قوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] ولو جعل المثل بمعنى مثل المبتدأ لفات أكثر هذه الفوائد. قوله: (وتمثيل لأنه لا يمتنع) أي: تمثيل لعدم الامتناع، فاللام صلة وليس بتعليل. والضمير فيه للبيان، وقوله: "وأنه بمنزلة المأمور" عطف تفسيري عليه، والضمير للشيء؛ فالممثل الشيء المكون والممثل به المأمور المطيع، والتمثيل "كن فيكون" لأنه اللفظ المستعار لذلك المعنى، ولو أريد التعليل لقيل تمثيل، لأنه ليس ثم قول ولا أمر ولا مأمور حقيقة. قوله: (فما وجه القراءتين في {فَيَكُونُ}؟ ) يعني الرفع والنصب. النصب ابن عامر والكسائي، والباقون بالرفع. قوله: (وأما النصب فللعطف على {يَقُولُ})، قال أبو علي في "الإغفال": لا يجوز أن يكون جوابًا لقوله: "كن" لأن الجواب بالفاء إنما يكون لغير الموجب نحو: النفي والأمر والنهي والتمني والعرض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فقد تقدم {كُنْ} وهو أمر فهلًا جاز انتصابه به نحو: أتيتني فأعطيك؟ قلت: كن وإن كان على لفظ فليس بأمر، لأن الأمر يقتضي مأمورًا موجودًا أو معدومًا، فإن كان موجودًا فلا وجه للأمر، وإن كان معدومًا، فلا يجوز أن يؤمر المعدوم بالكون والحدوث لما يلزم أن يكون المأمور المعدوم فاعلًا لنفسه كما يكون المتلقي لما يؤمر به وذلك فاسد. وإذا لم يكن أمرًا كان خبرًا، وإذا كان خبرًا لم يجز انتصاب الفعل بعدها على حد ما تنتصب الأفعال، ويكون المعنى- والله أعلم-: فإنما يكونه فيكون، ففاعل الفعل اسم الله تعالى، وأما ما في "النحل" فالرفع على "فهو يكون"؛ لأن المعنى ليس على جواب الأمر كقولك: قم فأعطيك، فالأول أمر والثاني ضمان، فقوله: كن "للأمر فيكون" ما يقع من المأمور. وعن أبي العباس: فإنما يقول له كن فيكون "رفع ولا يجوز إلا الرفع لأنه ليس مثل قوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] لأن الأول منهم والثاني من غيرهم، ووجه النصب على الجواب. فأما إذا كان ألأول والثاني من واحد، فلم يكن إلا العطف، فقوله: {كُن فَيَكُونُ} ليس منه القول ومن المخلوق شيء، وليس هو أكثر من التكوين والإيجاد. وقال أيضًا: ليس كن مثل قم فأعطيك، لأن أحد الفعلين مع المخاطب والآخر منك، ومن نصب نصب فهو على ما ذكر، وليس على الجواب. ذكره في البقرة عند قوله: {فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة: 102]. ويمكن أن يقال: إنك إذا قلت لزيد: اضرب عمرًا فضرب، فهم أن ضربه مسبب عن قولك، لا عن اضرب.

والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئًا مما تقدر عليه؛ من المباشرة بمحال القدر، واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب، إنما أمره- وهو القادر العالم لذاته- أن يخلص داعيه إلى الفعل، فيتكون، فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ {فَسُبْحَانَ}: تنزيه له ممًا وصفه به المشركون، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا. {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: هو مالك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام)، يعني: إنما عقب بقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ما سبق من إثبات القدرة على خلق السماوات والأرض وخلق مثلهم، لئلا يقيس الجاهل المنكر الغائب بالشاهد، والقادر على الإطلاق بالعاجز المحتاج؛ لأن الباري عز شأنه إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء يحدث بلا توقف لا محالة. على أن هذا تفهيم وتقريب. قوله: (العالم لذاته)، مذهبه. قوله: (وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا)، أي: الجماعة من كفار قريش، منهم: أبي بن خلف، وأبو جهل والعاص والوليد كما سبق؛ تكلموا في البعث وأنكروه كل الإنكار حتى أخذ أبي عظمًا باليًا، فجعل يفته بيده ويقول: يا محمد، أترى يحيى هذا بعدما رم؟ ولما أجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وعقبه بقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} رتب عليه بالفاء قوله {فَسُبْحَانَ} تأكيدًا وتقريرًا أي: إذا تقرر هذا {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فكان من حق الظاهر أن يقال: بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فخص رجوع المشركين بالذكر دلالةً على غضب شديد وتهديد عظيم، لقولهم: من يحيي العظام وهي رميم؟ ولهذا السر أيضًا أجاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أبيًا عن هذا القول بقوله: "نعم. ويبعثك ويدخلك جهنم" كما سبق.

كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وقرئ: (ملكة كل شيء)، و (مملكة كل شيء)، و (ملك كل شيء)، والمعنى واحد. {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك، فإذا إنه لهذه الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبًا، وإن قلب القرآن {يس}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "ملكة كل شيء")، قال ابن جني: قرأها طلحة وإبراهيم والأعمش، أي: عصمة كل شيء، وهو من: ملكت العجين: إذا أجدت عجنه، فقويته بذلك. ومنه: الملك؛ لأنه القدرة على المملوك، ومنه الملك لأن به قوام الأمور. والملكوت: فعلوت منه للمبالغة، ولهذا لا يطلق إلا على الأمر العظيم، ونظيره: الجبروت والرغبوت والرهبوت. قوله: ({تُرْجَعُونَ} بضم التاء): العامة، وفتحها: شاذ. قوله: (إن لكل شيء قلبًا وإن قلب القرآن {يس}) الحديث من رواية الترمذي عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء قلب، وقلب القرآن {يس}، ومن قرأها كتب الله له قراءة القرآن عشر مرات". وروى الإمام عن حجة الإسلام أنه قال: إنما كان قلب القرآن، لأن الإيمان صحته الاعتراف بالحشر والنشر، وهذا المعنى مقرر فيه بأبلغ وجه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" وأبي داود عن معقل بن يسار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا سورة {يس} على موتاكم". قال الإمام: وذلك أن اللسان حينئذ ضعيف القوة والأعضاء ساقطة المنة، لكن القلب قد أقبل على الله بكليته، فيقرأ عليه ما تزداد قوة قلبه، ويشتد تصديقه بالأصول، فهو إذن عمله. وقلت -والعلم عند الله-: إن هذه السورة الكريمة من فاتحتها إلى خاتمتها في تقرير أمهات علم الأصول وجميع المسائل المعتبرة التي أوردها العلماء في مصنفاتهم بأبلغ وجه وأتمه: فقوله تعالى: {يس * والْقُرْآنِ الحَكِيمِ} وقوله: {تَنزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ} في إثبات المعجزة، فإن الحكيم بمعنى مفعل؛ أي: المحكم المتقن الرصين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فهو محكم في نفسه، فلو حام حوله سمة الحدوث ووصمة العدم لم يكن محكمًا في نفسه، ولم يكن تنزيلًا من عزيز رحيم، ومحكم في ترصيفه وتركيبه، فلو عورض لمثله لم يكن محكمًا في ترصيفه وترتيبه ولم يكن منزلًا من لدن عزيز رحيم. وقوله: {إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} إلى قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ} في بيان المسائل المعتبرة في النبوات من التبليغ والبشارة والنذارة وكيفية دعوة الأمة واستعمال اللين والرفق فيها وعدم الطمع في الأجر، وأحوال الأمم وقبول البعض وإباء الآخرين، وبيان خاتمة السعداء منهم والأشقياء، وقوله: {لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إثبات القدر وأن الكائنات كلها واقعة بقدر الله ولا يخرج شيء منها من علمه، وقوله: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا} الآيات في إثبات القضاء. وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وإن كان كسبًا لهم، فعلم أنه لا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا فلتة خاطر إلا بقضاء الله وقدره وإدارته ومشيئته وقوله: {ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} وقوله: {وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} في إثبات التوحيد ونفي الأضداد والأنداد ومواجب العبادة. وقوله: {وآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} إلى آخر الآيات كالبحر الزاخر في إثبات الصفات المعتبرة في أصول الدين مدبجًا بدليل الآفاق والأنفس على أتم وجه. وقوله: {مَا يَنظُرُونَ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} إثبات لأمارات الساعة لأنها هي النفخة الأولى، يدلك عليه قوله: {تَاخُذُهُمْ وهُمْ يَخِصِّمُونَ} على ما روينا عن مسلم: "وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم"، وفيه: "أول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله" الحديث. كما أن قوله: {ونُفِخَ فِي الصُّورِ} إثبات للنفخة الثانية، وقوله: {قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} إلى آخره في بيان الإعادة، وقوله: {فَإذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} في بيان الحشر. وقوله: {فَإذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بيان للحضور في العرصات والموقف. وقوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} إثبات للحساب والجزاء. وقوله: {إنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ} وقوله {وامْتَازُوا اليَوْمَ} في بيان المرجع والمآب بعد الحساب: فريق في الجنة وفريق في السعير.

من قرأ {يس} يريد بها وجه الله، غفر الله له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة {يس} نزل بكل حرف فيها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفًا يصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون غسله، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ ياسين وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: {ولَهُم مَّا يَدَّعُونَ} في بيان أن لهم ما تشتهي الأنفس. وقوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} في بيان حصول ما يلذ به السمع وتقر به الأعين، وهو نيل الحسنة الكبرى والبغية الأسنى وهي رؤية الله تعالى كما دل عليه حديث المصطفى وقد أوردناه في موضعه من هذه السورة. وقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} كالفذلكة للمذكورات. وقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} كالخاتمة المشتملة على أسرار عجيبة، تتحير فيه الأفهام، وتكل من شرحه الألسن والأقلام، ولهذا قال حبر الأمة على ما رواه المصنف: كنت لا أعلم ما روي في فضائل {يس} وقراءتها كيف خصت بذلك، فإذا إنه لهذه الآية. وفي تقديم بعض هذه الأصول وتأخير بعضها معان لا تكاد تنضبط. هذا ومن رام التفصيل فقد حاول نزف البحر هيهات {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] فلله تعالى في كل كلمة من القرآن كلماته التي ينفد البحر دون

الجنة وهو ريان". وقال عليه الصلاة والسلام: "إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نفادها. ولله در شيخنا شيخ الإسلام قدس سره وإنشاءه في كتابه "العوارف": أنعى إليك قلوبًا طال ما هطلت .... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم تمت السورة حامدًا لله ومصليًا على خير خلق الله * * *

سورة "والصافات"

سورة "والصافات" مكية، وهي مئة وإحدى وثمانون، وقيل: واثنتان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{وَالصَّافَّاتِ صَفًا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا ورَبُّ المَشَارِقِ} 1 - 5] أقسم سبحانه بطوائف الملائكة، أو بنفوسهم الصافات أقدمها في الصلاة، من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة "والصافات" مكية، وهي مئة وإحدى وثمانون آية، وقيل: واثنتان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (بطوائف الملائكة) عن بعضهم: أي: بالطوائف الصافات أو بنفوسهم الصافات، وهي جمع صافة؛ لأنه لا يقال في الملائكة صافات، وهو من قولهم: صفت الإبل قوائمها وهي صافة، والناقة تصف يديها عند الحلب، وصففت القوم فاصطفوا. وقال أبو مسلم: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث، والملائكة مبرءون من هذه الصفة. وأجاب الإمام: إن "الصافات" جمع الجمع، فإنه يقال: جماعة صافة ثم يجمع على

قوله عز وجل: {وإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]، أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. {فَالزَّاجِرَاتِ} السحاب سوقًا، {فَالتَّالِيَاتِ} لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل: الصافات: الطير، من قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41]. والزاجرات: كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات: كل من تلا كتاب الله، ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، {فَالزَّاجِرَاتِ} بالمواعظ والنصائح، {فَالتَّالِيَاتِ} آيات الله والدراسات شرائعه، أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صافات، ولأن التأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم، لكن اللفظي لا مانع منه، وكيف وهم المسمون بالملائكة؟ . الراغب: الصنف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم كالناس والأشجار ونحو ذلك، وقد يجعل -فيما قال أبو عبيد- بمعنى الصاف. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]. قوله: ({فَالزَّاجِرَاتِ}: السحاب سوقًا) الراغب: الزجر طرد بصوت، يقال: زجرته فانزجر. قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13]، ثم يستعمل في الطرد تارة، وفي الصوت تارة، قال تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أي: الملائكة التي تزجر السحاب. وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] أي: طرد ومنع من ارتكاب المآثم، واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود، نحو: اغرب وتنح وراءك.

وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل. كما يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله: يا لهف زيابة للحارث الص .... صابح فالغانم فالآيب كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، ؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتب موصوفاتها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما يحكى عن علي رضي الله عنه)، قيل: كان علي رضي الله عنه يخرج من الصف، وسيفه ينطف دمًا، فإذا رقي رباوة يأتي بالخطبة الغراء. هكذا وجدته في "الحاشية". وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب": سئل الحسن البصري عن علي رضي الله عنه، فقال: كان والله سهمًا صائبًا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وسابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنومة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب. قوله: (وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه) يعني: يجوز أن يكون بين الشيئين تفاوت بحسب اعتبارين، فإن الشيء قد يكون أفضل من الآخر من بعض الوجوه وذلك الآخر أفضل منه من وجه آخر، فعومل بالفاء هاهنا معاملة ثم في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17]، وقد ذكر في قوله تعالى: {فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 202 - 203]: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة. وترى "ثم" يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه.

في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقين فالمقصرين؛ فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات. فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رحم الله المحلقين فالمقصرين) أي المحلق أقرب من المقصر، والفاء لدنو رتبة المقصر من المحلق. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "والمقصرين". أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. عطفوا قولهم: "والمقصرين" على قوله صلوات الله عليه: "المحلقين" ويسمى مثل هذا العطف عطف تلقين، كقوله تعالى {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]، فعلى هذا خرج الحديث عن أن يصلح للاستشهاد، ويستشهد له بما روينا عن الترمذي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه". الحديث. قوله: (إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل)، وقلت: قد ذكر في القوانين أمثلة ثلاثة، والقسمة الصحيحة أربعة؛ لأنه كما جاز في الصفات الدلالة على ترتب معانيها في الوجود كذلك يجوز في الموصوفات، كما تقول: حل المتمتع فالقارن فالمفرد. وإنما لم يعتبر في الآية الترتب في الوجود لا في الصفات ولا في الموصوفات؛ لأن ما يقسم به يجب أن يكون عظيم الشأن وله مزية في نفسه، ولا يدخل الترتب في الوجود في معنى التعظيم سواء كان في توحيد الموصوف وتعدد الصفات أو في تعدد الموصوفات.

فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها؛ فعطفها بالفاء يفيد ترتبًا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إما أن يكون الفضل للصف ثم الزجر ثم للتلاوة) وذلك أنه تعالى أقسم بطوائف الملائكة الصافات بأقدامها في الصلوات إجلالًا وتعظيمًا، وبأجنحتها منتظرة لأمر الله تدبيرًا، فالزاجرات الغير وعظًا وتذكيرًا والسحاب حياة للبلاد ورحمة على العباد، فالتاليات لكلام الله لا غير. وإما على العكس، فأقسم بطوائف التاليات لكلام الله العاملات بما فيه ليلًا ونهارًا، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا} الآية [فاطر: 29] كما مر، فالزاجرات السحاب رحمة للعباد، فالصافات بأجنحتها في الهواء لا غير، هذا ما يمكن أن يقال على ما قال. "وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه". قوله: (وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة)، أي: مثل ذلك الحكم من التنزل والترقي، ومن توحيد الموصوف وتثليثه يجري في العلماء والغزاة، مثاله العالم في صفوف الجماعات مكمل لنفسه، وفي الوعظ والتذكير مكمل لغيره، فبقوارع الآيات يزجر المستمتعين، وبكواشفها. يدعوهم إلى الصراط المستبين، وبالعكس، فإن التالي لنفسه أحط منزلة ممن يشتغل بإكمال غيره تارة بالقلب واللسان، وأخرى باليد والسنان. روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الانتصاف": جعل الزمخشري الأول للأفضل بدءًا بالأهم فالأهم وعكسه مراعاة للترقي. وقلت: مثال الأهم ما روينا من حديث مصعب: "ثم الأمثل فالأمثل"، ومثال الترقي قوله تعالى: {فَيَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء: 202 - 203]. وقال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يقال: المراد الطوائف التي يحصل منهن الصف والزجر والتلاوة في سبيل الله وطلب رضاه، سواء كانوا ملائكة أو غيرها من العلماء والغزاة، فيدخل فيه كل طائفة حصلت فيها هذه الصفات، ولذلك أطلقت. وقلت: يمكن أن يرجح الوجه الأول -وهو أن يراد صفوف الملائكة- بما روى محيي السنة عن ابن عباس والحسن وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا. وبما روينا عن البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: "يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف". وبما يقتضيه قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا}، والمراد المذكورات في أول السورة. قال المصنف في تفسيره: يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المردة، وغلب أولي العقل على غيرهم.

وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر؛ فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل، أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلًا، أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات: الطير، وبالزاجرات: كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات: كل نفس تتلو الذكر؛ فإن الموصوفات مختلفة. وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال. {رَبُّ السَّمَوَاتِ} خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. والمشارق: ثلاث مئة وستون مشرقًا، وكذلك المغارب، تشرق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بإدغام التاء) أدغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها من طرف اللسان وأصول الثنايا من غير إشارة، والباقون: يكسرون التاء في الجميع من غير إدغام إلا ما كان من مذهب أبي عمرو في الإدغام الكبير. قوله: ({رَبُّ السَّمَوَاتِ} خبر بعد خبر) يعني {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جملة وهذا متصل به داخل في خبر جواب القسم. قال القاضي: والفائدة في قوله: {إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم، وأما تحقيقه فبقوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا} فإن وجودها وانتظامها على الوجه الواقع مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته، وما بينهما يتناول أفعال العباد وأنها من خلقه. قوله: (والمشارق ثلاث مئة وستون مشرقًا، وكذلك المغارب) قال القاضي: تشرق

الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. فإن قلت: فماذا أراد بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]؟ قلت: أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. [{إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ * وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} 6 - 7] {الدُّنْيَا}: القربى منكم. والزينة: مصدر كالنسبة، واسم لما يزان به الشيء كالليقة: اسم لما تلاق به الدواة، ويحتمهما قوله: {بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ}، فإن أردت المصدر: فعلى إضافته إلى الفاعل، أي: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب، أو على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كل يوم في واحد، وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، وما قيل: إنها مئة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال، وإليه الإشارة بقوله: "ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين". قوله: ({الدُّنْيَا}: القربى منكم) قال القاضي: إن تحقق قولهم: إن الكواكب كلها سوى القمر ليست في السماء الدنيا لم يقدح في ذلك؛ لأن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. وقيل: "من" في قوله: "القربى منكم" ليست مما يستعمل مع أفعل التفضيل؛ وإلا لم تجتمع مع الألف واللام، بل هي صلة "القربى"، نحو "قريب منك". قوله: (كالليقة: اسم لما تلاق به الدواة)، وعن بعضهم: هو من قولهم: لاقت الدواة تليق أي: لصقت، ولقتها أنا يتعدى ولا يتعدى؛ إذا أصلحت مدادها. قوله: (وأصله: بزينة الكواكب)، عاصم وحمزة: بالتنوين، والباقون: بغير تنوين. أبو بكر: "الكواكب" بالنصب، والباقون: بالخفض.

إضافته إلى المفعول، أي: بأن زان الله الكواكب وحسنها؛ لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها، وأصله: (بزينة الكواكب) وهي قراءة أبي بكر والأعمش وابن وثاب، وإن أردت الاسم: فللإضافة وجهان: أن تقع الكواكب بيانًا للزينة؛ لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، وأن يراد ما زينت به الكواكب. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: {بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ}: بضوء الكواكب. ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة؛ كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وقرئ على هذا المعنى: (بزينة الكواكب) بتنوين "زينة" وجر "الكواكب" على الإبدال. ويجوز في نصب "الكواكب" أن يكون بدلًا من محل {بِزِينَةٍ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب: الزينة: تطلق على ما يتزين به وعلى المصدر، كقولك: زانه يزينه زينة. فمن قرأ بالإضافة احتمل أن يراد ما يتزين به من أصناف متعددة، فأضيف إلى صنفه؛ ليتبين أنه المراد، وأن يراد المصدر على أن التزيين بما اشتملت عليه الكواكب من الصفات المخصوصة من النور والترتيب والهيئة المخصوصة التي هي عليها. وإضافتها كإضافة "ضرب" إلى زيد. ومن قرأ بالتنوين وخفض {الكَوَاكِبِ} فعلى البدل أو عطف بيان من "الزينة" التي هي مصدر، ومن نصب قدر فعلًا "أعني: الكواكب"، والزينة أيضًا بمعنى ما يتزين به؛ لأن الكواكب كالتفسير لها، إلا أن يقدر "أعني: زينة الكواكب" وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون في قراءة النصب بدلًا من {السَّمَاءَ} على أنه بدل اشتمال، كأنه قيل: إنا زينا الكواكب في سماء الدنيا بزينة، فتكون الزينة بمعنى المصدر. قوله: (وجاء عن ابن عباس: {بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ}: بضوء الكواكب)، استشهاد لقوله: وأن يراد ما زينت به الكواكب؛ لأن ما زينت به الكواكب هو الضوء وأشكالها المختلفة ومطالعها ومسايرها. قوله: (ويجوز في نصب "الكواكب" أن يكون بدلًا من محل {بِزِينَةٍ})، أي أنه في موضع

و {وحِفْظًا} مما حمل على المعنى؛ لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظًا من الشياطين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصب، وهو قول الزجاج. وقال صاحب "الكشف": مثله قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] إلى قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}، يجوز أن يكون التقدير: وجاهدوا في دين الله، فيكون {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} بدلًا من موضع الجار والمجرور. وقال ابن الحاجب: وهو ضعيف ضعف قولهم: مررت بزيد أخاك، فلا ينبغي أن يحمل عليه قراءة ثابتة صحتها، ووجه ضعفه: أنه إذا جعل بدلًا كان في المعنى معمولًا للعامل الأول، ولا يستقيم أن يكون العامل الأول مسلطًا باعتبار المعنى بنفسه، ألا ترى أنك لو قلت في " مررت بزيد أخاك": "مررت أخاك" لم يجز، كذلك هذا. قوله: ({وَحِفْظًا}: مما حمل على المعنى) أي: قوله: {وَحِفْظًا} عطف ومنصف لابد له من معطوف عليه ومن ناصب، فإما أن يعطف على {بِزِينِةٍ} من حيث المعنى؛ لأنه في الحقيقة مفعول له لقوله: {زَيَّنَّا}، والتقدير: خلقنا الكواكب زينة وحفظًا، وإما أن يقدر الناصب ويؤخر، وهو "زيناها" ليفيد الاهتمام، أو يقدم بأن يقال: وحفظناها حفظًا؛ ليفيد التوكيد، قال المبرد/ إذا ذكرت فعلًا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر، نصبت المصدر لتدل به على فعل آخر، نحو قولك: افعل وكرامة، أي افعل ذلك وأكرمك كرامة. وقلت: وفيه توكيد آخر من هذه الحيثية ودلالة على أن الحفظ أهم من التزيين وأعنى، ولذلك أتبعه الله عز وجل: {لا يَسَّمَّعُونَ إلَى المَلأِ الأَعْلَى}.

[الملك: 5]، ويجوز أن يقدر الفعل المعلل، كأنه قيل: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ} زيناها بالكواكب. وقيل: وحفظناها حفظًا. والمارد: الخارج من الطاعة المتملس منها. [{لا يَسَّمَّعُونَ إلَى المَلأِ الأَعْلَى ويُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ولَهُمْ عَذَابٌ واصِبٌ * إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 8 - 10]. الضمير في (لا يسمعون) لكل شيطان؛ لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون. وبهذا ينصر التخفيف على التشديد. فإن قلت: (لا يسمعون) كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المتملس منها) أي: الخارج من الطاعة على وجه لا يخالطه شيء منها، الجوهري: انملس من الأمر إذا أفلت منه، وناقة ملسى أي: تملس وتمضي لا يتعلق بها شيء من سرعتها. الراغب: المريد والمارد من شياطين الجن والإنس: المتعري من الخيرات، من قولهم: شجر أمرد، إذا تعرى من الورق. قوله: (وقرئ بالتخفيف والتشديد) حفص وحمزة والكسائي: {لا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم، والباقون: بإسكان السين وتخفيف الميم. قوله: (وبهذا تنصر قراءة التخفيف على التشديد) وذلك أنه أثبت التسمع، فلا يبقى للنفي في قراءة التشديد معنى، ولأن اتصال قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ} بقوله: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} يقتضي ذلك التقدير؛ لأن الحفظ مسبوق بتطلب سماع منهم، أي: هم يتطلبون

من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لـ {كُلِّ شَيْطَانٍ}، أو استئنافًا فلا تصح الصفة؛ لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف؛ لأن سائلًا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم؛ فبقي أن يكون كلامًا منقطعًا مبتدأ اقتصاصًا لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة، أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله: لئلا يسمعوا، فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقي أن لا يسمعوا، فحذفت "أن" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السماع فلا يتمكنون من الإصغاء فضلًا عن السماع، ولأن "يسمعون" يتعدى بنفسه، قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [النبأ: 35] فلما عدي بـ"إلى" فسر تارة بقوله: "لا يسمعون القول مائلين إلى الملأ الأعلى"، وأخرى "لا يصغون إلى الملأ الأعلى"، وأما الاستئناف فيمكن أن يكون على وجه آخر غير ما ذكره وهو بأنه لما قيل: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: حفظناها حفظًا، فقيل: فما يكون إذن؟ فأجيب: لا يسمعون أو لا يتطلبون السماع إلى الملأ الأعلى، أي: لا ينتهي طلبهم السماع إلى مكان الملأ الأعلى؛ لأنهم يقذفون من كل جانب دحورًا. قوله: (فبقي أن يكون كلامًا مبتدأ اقتصاصًا) يعني: مستطردًا، فإنه تعالى لما ذكر أن الكواكب إنما خلقت للتزيين وأن الحفظ هو المقصود بالذات أتى بما عليه حال المسترق اقتصاصًا. قوله: (هل يصح قول من زعم أن أصله: لئلا يسمعوا؟ ) وجه ثالث للمنع من اتصال {لا يَسَّمَّعُونَ} بما قبله، قال صاحب "الانتصاف": أبطل أن يكون صفة وأن يكون أصله "لئلا يسمعوا" لاجتماع حذفين، وكلا الوجهين صحيح، وعدم استماع الشيطان

وأهدر عملها، كما في قول القائل: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى؟ قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما كان بسبب الحفظ، فحاله عند الحفظ أن لا يسمع فيصير موصوفًا حالة الحفظ بذلك، ومثله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} [النحل: 12] فالعامل في "مسخرات" -وهي حال- قوله: "سخر"، فالحال التي سخرها ملازمة لكونها مسخرة، وقد أشار الزمخشري في هذه الآية إلى ما يقرب من هذا، لكنه ذكر معه تأويلًا آخر كالمستبعد لهذا الوجه، فجعله جمع "مسخر" كممزق، وجعل معناه أنواعًا من التسخير. ومن هذا النمط: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} [المؤمنون: 44] وليسوا رسلًا إلا بعد الإرسال. وأما الإنكار اجتماع حذفين؛ فقد ساغ في قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا. قوله: (ألا أيهذا الزجراي أحضر الوغى)، وتمامه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي "أحضر" محمول على حذف "أن" لدلالة عطف "أن أشهد" عليه، فلو لم تقدر حتى تكون بتقدير المصدر لزم عطف المفرد على الجملة، وهو غير مستقيم.

فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أي فرق بين: سمعت فلانًا يتحدث، وسمعت إليه تحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديث؟ قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بـ"إلى" يفيد الإصغاء مع الإدراك. والملأ الأعلى: الملائكة؛ لأنهم يسكنون السماوات، والإنس والجن: هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة. {مِن كُلِّ جَانِبٍ}: من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق، {دُحُورًا} مفعول له، أي: ويقذفون للدحور؛ وهو الطرد، أو مدحورين على الحال، أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل: يدحرون، أو قذفًا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعدى بـ"إلى" يفيد الإصغاء مع الإدراك) الإصغاء: الإمالة للسماع، ومنه الحديث: "كان عليه السلام يصغي الإناء للهرة". قال القاضي: وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة وتهويلًا لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة من قرأ {لا يَسَّمَّعُونَ} بالتشديد وهو طلب السماع. قوله: (يدحرون، أو: قذفًا) هذا من الإيجازات الحسنة، أي تقدر "يدحرون دحورًا" أو "يقذفون قذفًا".

بفتح الدال على: قذفًا دحورًا طرودًا. أو: على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبًا، يعني أنهم في الدنيا مجرمون بالشهب، وقد أعد لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع. {مَنْ} في محل الرفع بدل من الواو في (لا يسمعون)، أي: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي {}. وقرئ: (خطف) بكسر الخاء والطاء وتشديدها، و (خطف) بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: {فَأَتْبَعَهُ}، و (فاتبعه). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بفتح الدال) قال ابن جني: هذا على وجهين: أحدهما: على أنه من المصادر الذي جاء على فعول؛ بفتح الفاء. وثانيهما: على أن المعنى: ويقذفون من كل جانب بداحر أو بما يدحر، على حذف حرف الجر وإرادته. قوله: (مجيء القبول والولوع) ومنه الوزوع، وليس في المصادر "فعول" سوى هذه الثلاثة، قال سيبويه: روي: توضأت وضوءًا وتطهرت طهورًا، والوجه الضم. قوله: (وقرئ "خطف" بكسر الخاء والطاء وتشديدها) قال الزجاج: هذا لا وجه له إلا وجهًا ضعيفًا جدًا، ويكون على إتباع الطاء كسر الخاء، وهو أخذ الشيء بسرعة، وقيل: وجه "خطف" بكسرتين: أنهم حركوا الخاء بحركة الهمزة بعد حذفها، فلما سكنوا التاء وقلبوا وأدغموا احتيج إلى تحريك الطاء فحركوها بالكسر على أصل التقاء الساكنين. ووجه "خطف" بفتح الخاء وكسر الطاء، أنهم نقلوا حركة التاء إلى الخاء وحذفت همزة الوصل، ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين. والقراءتان شاذتان. قوله: ({فَاَتْبَعَهُ}) هي المشهورة، والتشديد: شاذة.

[{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} 11] الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها؛ فلذلك قيل: {فَاسْتَفْتِهِمْ}؛ أي: استخبرهم {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا}؟ ولم يقل: فقررهم. والضمير لمشركي مكة. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولي العقل على غيرهم، فقال: {مَّنْ خَلَقْنَا}، والدليل: عليه: قوله بعد عد هذه الأشياء: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} بالفاء المعقبة. وقوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} مطلقًا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم: أهم أشد خلقًا أم الذي خلقناه من ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير) أي: الهمزة في {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} وإن خرجت عن موضوعها الأصلي وهي الاستفهام؛ لأنه طلب لما في الخارج لينتقش مثل ذلك في الذهن إلى تقرير الثابت؛ لأن هذا الأمر المسؤول مقرر معين لم يحتج إلى أن يستفهم منه، لكن أجريت على الاستفهام ظاهرًا؛ ليجعل المقرر غير مقرر فيصح دخول "استفتهم" عليا، والفائدة الإنكار والتوبيخ، كأنه لم يعلم ذلك فاستفتهم وهو معين مقرر، والأسلوب من باب سوق المعلوم مساق غيره، وعليه قول الخارجية: أيا شجر الخابور، مالك مورقًا؟ .... كأنك لم تجزع على ابن طريف

وتقطع به قراءة من قرأ: (أمن عددنا) بالتخفيف والتشديد. {أَشَدُّ خَلْقًا}: يحتمل أقوى خلقًا، من قولهم: شديد الخلق، و: في خلقه شدة، وأصعب خلقًا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة؛ لأن ما يصنع من الطين غير موصوف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتقطع به قراءة من قرأ: "أمن عددنا") أي: تثبت الحجة وتجعل الدليل قاطعًا، يعني: يدل على أن المراد خلقنا كذا وكذا قراءة من قرأ "أمن عددنا" دلالة قاطعة. فقوله: "خلقنا" كناية عن ذلك المعدود. وقريب منه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] قال فيه: إنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارًا. قوله: (وأصعب خلقًا) قسيم لقوله: "أقوى خلقًا"، وهو الاحتمال الثاني. وقوله: "على معنى الرد" متصل بالاحتمال الثاني دون الأول؛ لقوله: هان عليه ولم يصعب. وقوله: (إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة) إلى آخره، معناه: أن قوله: {إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} كالتعليل لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} فإذا فسر بقوله: "أهم أقوى خلقًا" على سبيل الإنكار كان دليلًا على إثبات الضعف والرخاوة لهم، وإذا فسر بقوله: "أصعب خلقًا وأشقه" كذلك كان احتجاجًا عليهم بإهانتهم وسهولة تأتيهم من حيث المخلوقية؛ لأن المنكر حينئذ خصومتهم وإنكارهم البعث بقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} ففيه لف ونشر، وكذلك قوله: "بل عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة" مبني على الاحتمال الأول، وقوله: "أو من إنكارهم البعث" على الاحتمال الثاني، والمقام يقتضي الاحتمال الثاني؛ لقوله بعد ذلك: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وإليه الإشارة بقوله: " وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث".

بالصلابة والقوة، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا} [الرعد: 5]. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: {مَّنْ خَلَقْنَا} من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويعضد المعنى الأول ما سبق من مفتتح السورة إلى ها هنا؛ لأنه في شأن إثبات التوحيد وإظهار القدرة الكاملة، يعني كيف يشركون ويستكبرون عن عبادتي؟ أو لا يرون إلى ما خلقنا من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والمغارب والكواكب، كيف انقادوا وأطاعوا مع عظم خلقهم وقوة بطشهم لما أردنا فيهم؟ كقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وهم يمتنعون عن الانقياد {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا} ولذلك عقبه بقوله: {بَلْ عَجِبْتَ}. قوله: (وليس هذا القول بملائم) لأن {مَّنْ خَلَقْنَا} مطلق يحمل على النقيد، ولم يسبق للأمم الماضية ذكر، وقد سبق ذكر الملائكة والسماوات وغيرهما فوجب تقييده بها، وإليه الإشارة بقوله: "وقوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من غير تقييد بالبيات اكتفاء ببيان ما تقدمه"، وأيضًا الفاء في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} يقتضي ترتب الثاني على الأول، وإليه الإشارة بقوله: "والدليل عليه قوله بعد هذه الأشياء: {فَاسْتَفْتِهِمْ} بالفاء المعقبة. قال صاحب "الفرائد": هذا القول مذكور في "التيسير"، قال: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: فاسأل المشركين يا محمد: أهم أشد خلقًا أم من خلقنا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا؟ فإن أجابوك بأنهم أشد ممن سلف فقل لهم: إنا خلقناهم، أي: خلقنا جميعهم من طين لازب، يعني: أصلهم منه وهو آدم عليه السلام، مما خلقهم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه، فكيف صاروا هم أشد منهم؟ وكيف توهموا لشدتهم عند أنفسهم أنهم يعجزونني وأنا خالق جميعهم وموجدهم من العدم؟ وعليه جمهور المفسرين سوى الإمام. ثم قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ} يتعلق بما قبله وهو أنه تعالى أقسم أن الإله واحد؛ لإنكارهم ذلك وادعائهم الشرك، ثم ذكر ما لا مقال لهم فيه احتجاجًا عليهم وهو خلقه السماوات والأرض وغيرهما من البدائع والعجائب، فألزمهم بما ذكر أن يقروا بأنه واحد لا شريك له، فلما لم يقروا وعاندوا مع وضوح الدليل كما عاند من قبلهم وداموا على الشرك كما داموا عليه، قيل لهم: فانتظروا الإهلاك؛ لأنكم لا تكونون أشد خلقًا منهم، وقد اُهلكوا بمثل هذا العناد، فأنتم أيضًا ستهلكون به، فوضع {فَاسْتَفْتِهِمْ} موضعه لإفادته معناه، ويمكن أن يكون قوله: {إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} لاستكبارهم المنتج للعناد، كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] ويدل على ما ذكرت الإضراب بعده وهو قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} وقوله بعده حكاية عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا} الآية، ذكر استبعادهم بعد الإضراب، فالظاهر أنه غير متعلق بما قبل الإضراب، والله عز وجل أعلم بمفهوم كلامه وبالمراد منه. وقلت - والله أعلم-: خالف المصنف في أمور، أحدها: أنه مجرى على ظاهره فيمن يعقل دون التغليب. وثانيها: أن {فَاسْتَفْتِهِمْ} كوضوع موضع: فلما لم يقروا وعاندوا إلى آخره، والمصنف جعلها للتعقيب، وجعل الهمزة للتقرير، والسؤال للتبكيت، يعني: إذا تقرر ذلك فاستفتهم. وثالثها: أن قوله: {أَئِذَا مِتْنَا} لا يصح أن يتصل بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ}. هذا ولا يخفى على الحذاق بمعرفة التأليف والنظام وعلى ذوي دربة بأساليب الكلام أن القول ما ذهب إليه المصنف؛ لأن وزان الآية مع السوابق واللواحق وزان قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81]، وقد سبق تقريره

وقرئ: (لازم)، و (لاتب)، والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة. [{بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ * وإذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وإذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} 12 - 14]. {بَلْ عَجِبْتَ} من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة {وَ} هم {يَسْخَرُونَ} منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث. وقرئ بضم التاء، أي: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي؟ ! أو: عجبت من أن ينكروا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في موضعه، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. وأما معنى "بل" في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} فهو إضراب عن الأمر بالاستفتاء، أي: لا تستفتهم فإنهم معاندون مكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من قدرة الله على خلق هذه المذكورات وعلى قدرته على إعادتكم وأنتم تراب كما كنتم؛ لأنهم صم بكم عمي، وإنما يتعجب مثلك ممن له إنصاف ونظر صحيح موفق من عند الله، ألا ترى كيف قيده بقوله: {وَيَسْخَرُونَ} وعطف عليه {وقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} الآية. قوله: (وقرئ بضم التاء) حمزة والكسائي، والباقون: بفتحها.

البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن مجرد العجب لمعنى الاستعظام، والثاني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ممن هذه أفعاله) "من" متعلق بقوله: "أن يشطروا". قوله: (روعة) الجوهري: الروع -بالفتح-: الفزع، والروعة: الفزعة. الأساس: ومن المجاز: وفرس رائع، يروع الرائي بجماله، يريد: يدخل روعة الهيبة، ومنه الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي". قوله: (أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام) هذا على أصول الماكلمين، قالوا: عامة صفات الله التي تستدعي الجسمية تفسر على أحوالنا لأعراضنا في الانتهاء لا في الابتداء، فيحمل التعجب على الاستعظام، فإن من رأى منا أمرًا عظيمًا لم يره من قبل تفجؤه الروعة فيستعظمه، لذلك فالله تعالى منزه عن المعنى الأول فيحمل على الثاني، وأورد بأن ترتب الاستعظام على عكس ما ذكر ضرورة أنه يستعظم الشيء أولًا ثم تعتري الروعة، وتعريفه المذكور في "الكشاف" دال عليه، فيقال: الوجدان حاكم أن استعظام الشيء مسبوق بانفعال يحصل في الروع من رؤية أمر غريب، كمشاهدة جوهرة نفيسة أو درة يتسمة، هذا هو المعني بالروعة عند التعجب. وأما قوله: "وتعريفه المذكور دال عليه" فممنوع، ولفظ "عند" في قوله: "عند استعظامه الشيء" لا ينافي ما ذكرنا؛ لأنه إنما دل على المعية الزمانية، على أن الإمام نص في هذا المقام على هذا المعنى، حيث قال: القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات العراض لا على بداياتها، ومن تعجب من شيء فإنه يستعظمه، والتعجب في حق الله تعالى محمول

أن يتخيل العجب ويفرض، وقد جاء في الحديث: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أنه تعالى يعظم تلك الحالة، إن كانت قبيحة فيترتب عليها العقاب، وإن كانت حسنة فيترتب عليها الثواب، تم كلامه. والحاصل في إضافة التعجب إلى الله تعالى وجهان: عجب مما يرضى، ومعناه الاستحسان والخبر التام عن الرضا، وعجب مما أنكره ومعناه الإنكار والذم له، والله أعلم. قوله: (أن يتخيل العجب ويفرض) أي: يجعل التركيب من الاستعارة التخييلية، كما في قولهم: لسان الحال ناطق بكذا، فيكون إثبات التعجب لله سبحانه وتعالى كتخييل اللسان للحال. وقال صاحب "الفرائد": إن كان المراد من التخيل أنه يفرض له تعالى ذلك- ولم يكن- كان كذبًاعليه، وإن كان أنه مفروض له وكان جائزًا عليه- ومعلوم أنه لا يجوز- فكان كذبًا أيضًا، فلا وجه للفرض، ويمكن أن يجاب بأن يقال: هو عند الله تعالى بمنزلة لو جاز عليه العجب لعجب، ويمكن أن يقال: عجب، أي: حمل على العجب؛ لأن الحامل على الفعل يسمى فاعلًا. تم كلامه. والعجب أنه سد باب الاستعارة بهذا البيان، وقد صرح المصنف بلفظ الاستعارة في "يس" عند قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ {[يس: 30]. وأما التفصي عن الكذب فيصيب القرينة كما نص عليه صاحب "المفتاح"، فيتصور معنى يليق بجلال الله عز وجل- وإن لم تعرف كيفيته- موافقًا للأمر المتعارف يعني التعجب، ثم يطلق على هذا المتصور اسم المتعارف، والقرينة نسبته إلى ذاته المقدسة عن صفات المخلوقين.

"عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم". وكان شريح يقرأ بالفتح، ويقول: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. فقال إبراهيم النخعي: إن شريحًا كان يعجبه علمه، وعبد الله أعلمخ. يريد عبد الله بن مسعود، وكان يقرأ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه قول الإمام مالك رضي الله عنه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة. والله أعلم. وأما الإسناد المجازي فوجه حسن، نقل محيي السنة عن سيد الطائفة جنيد قدس سرهما، قال: الله تعالى لا يعجب من شيء، ولكنه تعالى وافق رسوله صلى الله عليه وسلم لما عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] أي هو كما تقوله. قوله: (عجب ربكم من ألكم)، النهاية. وفي الحديث: "عجب ربكم من ألكم وقنوطكم"، الأل: شدة القنوطن ويجوز أن يكون منرفع الصوت بالبكاء، يقال: أل يئل ألا، قال أبو عبيد: المحدثون يروونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عند أهل اللغة الفتح، وهو أشبه بالمصادر. قوله: (إن شريحًا كان يعجبه علمه، وعبد الله أعلم) وعن بعضهم: مثله ما ورد: "نعم الله بيك عينًا"، وحدث به في مجلس شعبة فأنكره شعبة، فحدث إنكاره ابن الأعرابي فقال:

بالضم. وقيل: معناه: قل يا مجمد: بل عجبت. {وإذَا ذُكِّرُوا}: ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به، {وإذَا رَأَوْا آيَةً} من آيات الله البينة؛ كانشقاق القمر ونحوه، {يَسْتَسْخِرُونَ}: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. [{وقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وأَنتُمْ دَاخِرُونَ* فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذَا هُمْ يَنظُرُونَ} 15 - 19]. و(آباؤنا) معطوف على محل (أن) واسمها، أو على الضمير في (مبعوثون)، والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفها. والمعنى: أيبعث أيضًا آباؤنا؟ ! على زيادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعذرهم فإنهم لا يعلمون. قال المصنف: وجهه أن الباء ها هنا للتعدية، أي: أنعمك الله عينًا، أي: أقر عينك، وظن شعبة أن العين وقع تمييزًا من الفاعل وأن الباء بمنزلة الباء في: سررت به وفرحت، ولذلك أنكره. وتأويل الآية على قراءة عبد الله: أن الله تعالى ذكر إنكاره عليهم ما هم فيه من الكفر والتكذيب، وذكر سخطه عليهم، وهم يسخرون ويستهزئون ولا يتذكرون. قول: (الفصل بهمزة الاستفهام) قرأ قالون وابن عامر: "أو آباؤنا" بإسكان الواو، والباقون: بفتحها، أي: لولا همزة الاستفهام والفصل بها لما جاز العطف على الضمير المرفوع بالصريح من غير تأكيد. قال القاضي: أصله: أنبعث أئذا متنا؟ فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار وإشعارًا بان البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحال أشد استنكارًا، ويمكن أن يجعل الكلام ذا جملتين معطوفتين، والتقدير: أنبعث إذا كنا ترابًا وعظامًا؟ ويبعث أيضًا آباؤنا الأقدمون؟ ثم أدخل همزة الإنكار بين المعطوف والمفطوف عليه لمزيد الاستبعاد.

الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ: {أَوْ آبَاؤُنَا}. {قُلْ نَعَمْ}: وقرئ: (نَعِم) بكسر العين، وهما لغتان. وقرئ: (قال نعم) أي: الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون {وأَنتُمْ دَاخِرُونَ}: صاغرون. {فَإِنَّمَا} جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان ذلك فما {هِيَ} إلا {زَجْرَةٌ واحِدَةٌ} وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضعها خبرها. ويجوز: فإنما البعثة زجرة واحدة؛ وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنما هي مبهمة موضعها خبرها) وهي {زَجْرَةٌ واحِدَةٌ}، ونظيرها قول الشاعر: هي النفس ما حملتها تتحمل وقال الآخر: هما خطتا إما إسار ومنة .... وإما دم، والقتل بالحر أجدر الخطة: الحال والأمر. والإسار: القد الذي يشد به خشب الرحل. والإسار: الأسر. قوله: (ويجوز: فإنما البعثة زجرة واحدة) أي: لفظة {وَهِيَ} يجوز أن ترجع إلى شيء، وهي البعثة المفهومة من قوله: {لَمَبْعُوثُونَ}. قال الزجاج: المعنى: قل لهم: نعم تبعثون وانتم صاغرون، ثم فسر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة؛ بقوله: {فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإذَا هُمْ} يحيون ويبعثون بصراء ينظرون. وقول المصنف: "إذا كان ذلك": أي: القيامة أو نفخة القايمة، هو المراد بقول الزجاج: "ثم فسر أن بعثهم".

قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم؛ إذا صاح عليها فريعت لصوته، ومنه: زجر أبي عروة السباع إذا .... أشفق أن يختلطن بالغنم يريد تصويته بها. {فَإِذَا هُمْ} أحياء بصراء {يَنظُرُونَ}. [{وقَالُوا يَا ويْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} 20 - 21]. يحتمل أن يكون {هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} إلى قوله: {احْشُرُوا} [الصافات: 22] من كلام الكفرة بعضهم مع بعض، وان يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون {وقَالُوا يَا ويْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} كلام الكفرة، و {هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ} من كلام الملائكة جوابًا لهم ويوم الدين: اليوم الذي ندان فيه، أي: نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل: يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلالة. [{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأَزْوَاجَهُمْ ومَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ * وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} 22 - 26]. {احْشُرُوا} خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض، {وأَزْوَاجَهُمْ}: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (زجر أبي عروة) البيتن المصنف: "زجر" يروى بفتح الراء، عن بعضهم: وهو يحتمل وجهين: أن يكون مصدرًا، وأن يكون فعلًا ماضيًا، والأصل: زجر، ثم خفف، ويروى برفعها، وهو مصدر لا غير. فيه نظر. روى المصنف: أن أبا عروة كنية العباس بن عبد المطلب في سورة "الحجرات"، وأنشد البيت، وقال: زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، ولم أجد لهذا أصلًا. وكنيته في "الاستيعاب" و"جامع الأصول": أبو الفضل.

وضرباءهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنى مع أهل الزنى، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على دينهم، {فَاهْدُوهُمْ}: فعرفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. {بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}: قد أسلم بعضهم بعضًا وخذله عن عجز، وكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ: (لا تتناصرون)، و: (لا تناصرون) بالإدغام. [{وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إنَّكُمْ كُنتُمْ تَاتُونَنَا عَنِ اليَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * ومَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ* إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} 27 - 35]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وضرباءهم) الضرباء والأضراب: الأمثال. قال: سمعت غير واحد من العرب يقول: هذا ضربه، أي: مثله، بكسر الضاد، ويعضده قولهم: مثل ومثيل، وشبه وشبيه، وأنهم جمعوه على أضراب، والذي في الكتب المضبوطة: بفتح الضاد. قوله: (وهم نظراؤهم وأشباههم) قال الزجاج: تقول: عندي من هذا أزواج، أي: أمثال، وكذلك: زوجان من الخفاف، أي: كل واحد نظير صاحبه، وكذلك: الزوج: المراة، والزوج: الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح. وقال أبو البقاء: الجمهور على نصب {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: احشروا أزواجهم، وهو بمعنى "مع"، وهو في المعنى أقوى، وقرئ شاذًا بالرفع عطفًا على الضمير في {ظَلَمُوا}. قوله: (وقرئ: لا "تتناصرون") روى البزي عن ابن كثير.

اليمين لما كانت أشرف العضوين وامتنهما وكانوا يتيمنون بها؛ فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال؛ ولذلك سموها: الشؤمى، كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبًا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله- استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين- أي: من قبل الخير وناحيته- فصده عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق، ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات، ومن أتاه من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويماسحون) قيل: يعاقدون ويعاهدون، أو يتبركون. النهاية: إنما سمي عيسى بالمسيح؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ. قوله: (وتيمنوا بالسانح)، النهاية: هو ما مر من الطير والوحوش بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به؛ لأنه أمكن للرمي والصيد، والبارح: ضده. قوله: (وكان الأعسر معيبًا) الجوهري: يقال: أعسر بين العسر، الذي يعمل بيساره. قوله: (استعيرت لجهة الخير) جواب "لما". قوله: (فقيل) متصل بقوله: "استعيرت"، وقصده بقوله: "أتاه" يعني: لما كانت اليمين أشرف العضوين استعيرت لجهة الخير، قيل: أتاه من جهة الخير، فصده عن الخير، وعليه معنى الآية، وتحريره: قال بعض أهل الجحيم لبعض: {إنَّكُمْ كُنتُمْ تَاتُونَنَا} من قبل الخير وتصدوننا عن الإيمان وتضلوننا عن سبيل الحق، ولذلك كان جواب البعض الآخر: {بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب، ومن أتاه من خلفه: خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده؛ فلم يصل رحمًا، ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازًا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك؛ ولك أن تجعلها مستعارة للقوة والقهر؛ لأن اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم، {بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قولهم: أتاه من جهة الخير) يعني قولهم: أتاه من جهة اليمين كما تقرر، مستعار من قولهم: أتاه من جهة الخير، والخير لا جهة له، فكيف يستعار منه؟ وأجاب أنه مجاز في المرتبة الثانية، فهو كالمسافة، وهي موضع الشم في الأصل، من سافه [إذا] شمه، ثم استعير لبعد ما بين الموضعين، ثم استعير لفرق ما بين الكلامين. قوله: (ول كان تجعلها مستعارة) عطف على قوله: "اليمين لما كانت أشرف العضوين"، ويجوز أن يقال: إنه عطف من حيث المعنى على قوله: "استعيرت لجهة الخير"، وهما نشر لما لف في قوله: "وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون" إلى آخره؛ لأنه مناسب لقوله: "اليمين لما كانت أشرف العضوين"، كما أن قوله: "مستعارة للقوة والقهر" مناسب لقوله: "وأمتنهما" وليست هذه الاستعارة من التي مبناها على التشبيه، بل هي من إطلاق السبب على المسبب، وقد جمع المعنيين من قال: وكنا الأيمنين إذا التقينا .... وكان الأيسرين بنو أبينا

بل أبيتم أنت الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر، غير ملجئين إليه، {ومَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم} من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم، {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا} مختارين الطغيان {فَحَقَّ عَلَيْنَا}: فلزمنا {قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ} يعني: وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم؛ لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل: لقد زعمت هوازن قل مالي ولو حكىت قولها لقال: قل مالك. ومنه قول المحلف للحالف: احلف لأخرجن، ولتخرجن؛ الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف. {فَأَغْوَيْنَاكُمْ}: فدعوناكم إلى الغي دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستجابتكم الغي على الرشد، {إنَّا كُنَّا غَاوِينَ} فأردنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحالنا) قال القاضي: بينوا بقولهم: {َحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إنَّا لَذَائِقُونَ} أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العقاب كان أمرًا مقضيًا لا محيص لهم عنه، وأن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي؛ لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليس من قبلهم. قوله: (لقد زعمت هوازن قل مالي) تمامه: وهل لي غير ما أنفقت مال؟ قوله: (دعوة محصلة للبغية) يريد أن الإغواء ضد الهداية، كما أن الهداية معناها

إغواءكم؛ لتكونوا أثالنا، {فَإِنَّهُمْ} فإن الأتباع والمتبوعين جميعًا، {يَوْمَئِذ} يوم القيامة {مُشْتَرِكُونَ} في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية، {إِنَّا} مثل ذلك الفعل {نَفْعَلُ} بكل مجرم، يعني: أن سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها. {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا} سمعوا بكلمة التوحيد نفروا واستكبروا عنها وأبوا إلا الشرك. [{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ * إنَّكُمْ لَذَائِقُوا العَذَابِ الأَلِيمِ * ومَا تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 36 - 39]. {لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم، {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} رد على المشركين {وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} كقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97]، وقرئ: (لذائقو العذاب) بالنصب على تقدير النون، كقوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا بتقدير التنوين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدلالة الموصلة إلى البغية، كذلك الإغواء لكن على العكس، ولذلك قابل الغي بالرشد في قوله: "استحبابكم الغي على الرشد". قوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلا)، أوله: فألفيته غير مستعتب قبله. فذكرته ثم عاتبته .... عتابًا رقيقًا وقولًا جميلًا أي: غير راجع بالعتاب عن قبح ما فعل. والأصل: ولا ذاكرًا الله إلا قليلًا، بالتنوين ونصب "الله"، إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين لا للإضافة، ولهذا كان منصوبًا، و"ذاكر" مجرور، عطف على "مستعتب".

وقرئ على الأصل: (لذائقون العذاب). {إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: إلا مثل ما عملتم جزاء سيئًا بعمل سيء. [{إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ ولا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} 40 - 49] {إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ}: ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع. فسر الرزق المعلوم بالفواكه؛ وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع) وفي "المطلع": المعنى: لكن الموحدون الذين أخلصهم الله بالهدى والإيمان أولئك لهم رزق معلوم في الجنة بدل العذاب الأليم للكفرة. وقيل: الاستثناء متصل بالجزاء، أي: إلا عباد الله المخلصين فإن جزاؤهم يضاعف أضعافًا تفضلًا منه تعالى عليهم، وقيل: متصل بالذوق، أي: يذوقون إلا عباد الله المخلصين. وقلت: والي عليه ظاهر كلام المصنف أنه متعلق بالجزاءن لكن على الانقطاع، والتقابل حاصل؛ لأن جزاءهم -كما سبق- هو ذوق العذاب الأليم إهانة، وجزاء أولئك الرزق المعلوم والفواكه كرامة. وقال القاضي: هو استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في {تُجْزَوْنَ} لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة، فإن ثوابهم مضاعف، والمنقطع أيضًا بهذا الاعتبار. قوله: (فسر الرزق المعلوم بالفواكه)، يعني {فَوَاكِهَ} عطف بيان للرزق، وفي المطلع: بدل منه بدل الكل من الكل، وعلى أنه يراد: {رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} منعوت بخصائص بدل البعض من الكل؛ لأن الفواكه بعض رزقكم.

يعني: أن رزقهم كله فواكه؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]. وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة. وقوله: {فِي جَنَّاتِ} يأباه. وقوله: {وهُم مُّكْرَمُونَ} هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يمكن أن يقال: إن قوله: {مَعْلُومٌ} إما ممول على المتعارف، أي: كما عرف في الدنيا عند أهلها، فيكون بدل الكل من الكل لقوله: ورزقهم كله فواكه، وإما محمول على المعروف، أي كما عرف عند أهل التترف والتنعم، فيكون أيضًا بدل الكل؛ لأن قوله: (من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر) كله صفة الفواكه، ويؤيده قول الإمام: المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: لما كانت الفاكهة حاضرة أبدًا كان الإدام أولى بالحضور، وإما محمول على الوقت كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] فيكون {فَوَاكِهَ} خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة، والمراد بالفواكه كل طعام يؤكل للتلذذن كما مر في الوجه الأول. قوله: ({فِي جَنَّاتِ} يأباه) قال أبو البقاء: {فِي جَنَّاتِ} يجوز أن يكون ظرفًا أو حالًا أو خبرًا ثانيًا، وكذلك {عَلَى سُرُرٍ}. ويجوز أن يتعلق {عَلَى} بـ {مُتَقَابِلِينَ}، ويكون {مُتَقَابِلِينَ} حالًا من {مُكْرَمُونَ}، أو من الضمير في الجار، و {يُطَافُ عَلَيْهِم}، يجوز أن يكون مستأنفًا وأن يكون كالذي قبله، وأن يكون صفة لـ {مُكْرَمُونَ}، و {مِّن مَّعِينٍ} نعت لـ"كأس"، وكذلك {بَيْضَاءَ} و {عَنْهَا} يتعلق بـ {يُنزَفُونَ}.

على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوي الهمم، كما أن من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هوان أهل النار وصغارهم. التقابل أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. ويقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسًا، قال: وكأس شربت على لذة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على سبيل المدح): مقرن بقوله "العلماء"، يعني: يقولون: الثواب هو الخير الذي يوصل إلى العالم على سبيل التعظيم، احترزوا به عن الاستدراج، فقوله: {وهُم مُّكْرَمُونَ} كالتكميل للكلام السابق، والظاهر أنه كالتذييل. قوله: (ويقال للزجاجة فيها الخمر: كأس)، الجوهري: الكأس: مؤنثة، قا الله تعالى: {بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ}. وأنشد الأصمعي: من لا يمت عبطة يمت هرمًا .... الموت كأس والمرء ذائقها قال ابن الأعرابي: لا يسمى الكاس كأسًا إلا وفيها الشراب. يقال: مات فلان عبطة، أي صحيحًا شابًا؛ بالباء الموحدة والعين المهملة. قوله: (وكأس شربت على لذة)، تمامه للأعشى: وأخرى تداويت منها بها وبعده

وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس. {مِّن مَّعِينٍ}: من شراب معين. أو: من نهر معين؛ وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون، وصف بما يوصف به الماء؛ لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء، قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد: 15]. {بَيْضَاءَ}: صفة للكأس، {لَذَّةٍ} إما أن توصف باللذة كانها نفس اللذة وعينها؛ أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ، ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال: ولذ كطعم الصر خي تركته .... بأرض العدى من خشية الحدثان يريد النوم. الغول: من غاله يغوله غولًا؛ إذا أهلكه وأفسده. ومنه: الغول الذذي في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم: الغصب غول الحلم. و {يُنزَفُونَ} على البناء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكي يعلم الناس أني امرؤٌ .... أتيت المعيشة من بابها يقول: رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها. قوله: (وصف بما يوصف به الماء)، قال القاضي: وذلك للإشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة؛ لكمال اللذة. قوله: (الصرخدي) أي: الشراب المنسوب إلى الصرخد، وهو موضع بالشام. قوله: (يريد النوم)، الأساس: لذ الشيء لذة ولذاذة والتذ التذاذًا، وشيء لذ ولذيذ، وهو في لذ من العيش، وله عيش لذ. وأنشد البيت. قوله: (الغصب غول الحلم)، أي العقل، قال الميداني: أي مهلكه، ويقال: أية غول

للمفعول، من: نزف الشارب؛ إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ويقال للمطعون: نزف فمات؛ إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية حتى نزفتها؛ إذا لم تترك فيها ماء. وفي أمثالهم: أجبن من المنزوف ضرطًا. وقرئ: (يُنزِفون)؛ من: أنزف الشارب؛ إذا ذهب عقله أو شرابه. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أغول من الغضب؟ وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول. قوله: (أجبن من المنزوف ضرطًا)، وقال في "المستقصى": وقيل: سافر رجلان فلاحت لهما شجرة، فقال أحدهما: أرى قومًا رصدونا، وقال الآخر: إنما هي عُشرة، فظنه يقول: عشرة، فجعل يقول: وما غناء اثنين في عَشَرة ويضرط حتى مات. وقيل: هو دابة بين الكلب والذئب إذا صيح بها أخذها الضراط من الجبن. العُشرة: اسم شجرة. وقال الميداني: ومن حديثه: أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فزوجن إحداهن رجلًا كان ينام الضحى، فإذا أتينه بصبوح، فيقول لهن: لو نبهتنني لعادية؟ فلما رأين ذلك قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما كن يأتينه فأيقظنه، فقال: لو لعادية نبهتنني؟ فقلن: هذه نواصي الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، ويضرط حتى مات. قوله: (وقرئ: "يُنزِفُونَ") قرأها حمزة والكسائي.

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم .... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا ومعناه: صار ذا نزف، ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكببته، وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: (يَنزُفون) بضم الزاي، من: نزُف ينزُف، كقرب يقرب؛ إذا سكر. والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر؛ من مغص، أو صداع، أو خمار، أو عربدة، أو لغو، أو تأثيم، أو غير ذلك، ولا هم يسكرون، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}: قصرن أبصارهن على أزواجهنن لا يمددن طرفًا إلى غيرهم، كقوله تعالى: {عُرُبًا} [الواقعة: 37]. والعِين: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لَعمري) البيت، يخاطب آل أبجر، ويقول: بئس الندامى أنتم سكارى أو صاحين. قال الزجاج: الشعر للأبيرد اليربوعي، وأبجر: هو الحر بن جابر العجلي، وأنزفتم: نفد شرابكم وفني، ويُروى: أو سكرتم. قوله: (لا فيها فساد قط) معنى قوله: "لا فيها غولٌ ولا هم يسكرون": معنى {ولا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}، فيكون من عطف الخاص على العام، ولذلك قال: "وهو أعظم مفاسدها فأفرزه". قوله: (من مغص)، الجوهري: المغص- بالتسكين-: تقطيع في المعي ووجع، والعامة تقول: مغص، بالتحريك. قوله: (أو عربدة) قال: عربد عليه: إذا أساء إليه، ولا يستعمل إلا في السكارى، مشتق من العربد، وهي حية تنفخ ولا تؤذي. قوله: (أو تأثيم) أي: نسبة الرجل إلى الإثم. قوله: (كقوله تعالى: {عُرُبًا} [الواقعة: 37]) قال: هو جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.

النجل العيون، شبههن ببيض النعام المكنون في الأداحي، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. [{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المُحْضَرِينَ} 50 - 57]. فغن قلت: علام عطف قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}؟ قلت: على {يُطَافُ عَلَيْهِم}، والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الأداحي)، الجوهري: مدحى النعامة: موضع بيضها، وأدحيها: موضعها الذي تفرخ فيه، وهو أفعول من دحوت؛ لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض، وليس للنعام عش. قال صاحب "المطلع": شبههن ببيض النعام المكنون في الأداحي التي لا يصيبها شمس ولا ريح ولا غبار فيغير لونها. وقال: ألوانهن ألوان بيض النعام. ويجوز أن يكون {مَكْنُونٌ} مصون، يقال: كننت الشيء؛ إذا سترته وصنته، فهو مكنون. قوله: (فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب)، الجوهري: الشرب: جمع شارب، مثل: صاحب وصحب. واعلم أنه لما قيل: {وهُم مُّكْرَمُونَ} وجيء بالخبار المتوالية، أولها: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وثانيها: {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}، وثالثها: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ}، وعلق بـ {يُطَافُ} قوله: {وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} تكميلًا للذة الشراب بلذة الحسان الوجوه، وأريد تتميم معنى تلك النعمة ألقى في خلدهم تذكر ما كانوا عليه في الدنيا مع القرين السوء الذي كاد أن يفوت عليهم هذا النعيم المقيم؛ ليزيد غبطتهم وتبجحهم، وإليه الإشارة بقوله: {ولَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المُحْضَرِينَ} قال أبو البقاء: في جنات.

وما بقيت من اللذات إلا .... أحاديث الكرام على المدام فيقبل بعضهم على بعض {يَتَسَاءَلُونَ} عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيًا على عادة الله في أخباره. وقرئ: {لَمِنَ المُصَدِّقِينَ} من التصديق، و (من المصَّدِّقين) مشدد الصاد، من التصدق. وقيل: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه؛ فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله به في الاخرة خيرًا منه، فقال: أئنك لمن المصدقين بيم الدين؟ أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئًا. {لَمَدِينُونَ}: لمجزيون، من الدين؛ وهو الجزاء. أو: لمسوسون مربوبون. يقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {لَمِنَ المُصَدِّقِينَ}) بتشديد الدال: المشهورة، وبتشديد الصاد والدال: شاذة، قال الزجاج: المصدقين، خفيفة الصاد، من: صدّقت فأنا مصدق، ولا يجوز بتشديدها؛ لأن المصدِّين الذين يعطون الصدقة، والمصدقين الذين لا يكذبون. يريد: أن معنى التصدق غير مناسب لقوله: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} بل هو مناسب للتصديق ملائم له، فالمعنى: كان لي قرين يقول: إنك ممن يصدق بالبعث بعد أن يصير ترابًا وعظامًا، فأحب قرينه المسلم أن يراه بعد أن قيل له: {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} أي: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار؟ فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يك 1 ب بالبعث في وسط الجحيم. قلت: هذا تقرير حسن ملائم للنظم، ويؤيده ما رواه محيي السنة: هما اللذان قص الله خبرهما في الكهف {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] يقول: أئنك لمن المصدقين بالبعث؟ قوله: (فاستجدى) أي استعطى، الجوهري: الجدا: العطية، والجدوى: مثله.

دانه: ساسه، ومنه الحديث: "العاقل من دان نفسه". {قَالَ} يعني ذلك القائل: {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار. وقيل: القائل هو الله عز وجل. وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار؟ وقرئ: {مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ}، و (فأطَّلَعَ) بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب؛ و (مطلعون فأطلع)، و (فأُطلع) بالتخفيف على لفظ الماضي والمضارع المنصوب، يقال: طلع علينا فلان، واطَّلع وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضًا؟ أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه الحديث: "العاقل من دان نفسه") والحديث من رواية الترمذي عن شداد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنة على الله المغفرة". دان نفسه: حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة. قوله: (يعني ذلك القائل) وهو المذكور في قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي: قرين في الدنيا ينكر الحشر، {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} لأريكم ذلك القرين؟ وقال الواحدي ومحي السنة: قال المؤمن لإخوانه في الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لتنظروا كيف منزلة أخي؟ فقال أهل الجنة: إنك أعرف به منا فاطلع أنت، فاطلع فرأى أخاه في وسط الجحيم. قوله: (والمعنى) أي: على أن "اطلع" و"أطلع" بمعنى واحد، فقوله: "هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضًا"، هذا على أن يكون "أطلع" مضارعًا جوابًا للاستفهام، نحو قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53]. قوله: (أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه)، هذا على أن يكون "اطلع" ماضيًا

وإن جعلت الإطلاع من: أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، -وهو من آداب المجالسة؛ أن لا يستبد بشيء دون جلسائه- فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: (مطلعون) بكسر النون، أراد: مطلعون إياي؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و{هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} بمعنى الأمر، نحو قوله تعالى" {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ ولذلك قال: فاعترضوه، أي: فامتثلوا أمره. و"اعترض" مطاوع "عرض"، أي: قبلوا عرضه وقالوا: نعم. فالفاء في {فَاطَّلَعَ} فصيحة؛ لأن "فاعترضوه" سبب لقوله: فاطلع، كقوله: فـ {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60]. وينصره ما روينا عن الواحدي: "فاطلِع أنت، فاطلع فرأى أخاه"، بالأمر والماضي. قوله: (وإن جعلت الإطلاع من: أطلعه) معطوف على قوله: "واطلع وأطلع بمعنى واحد"، أي لك أن تجعل قراءة من قرأ "مطلَعون" من: أطلعه غيره فاطلع هو، فالمعنى: فهل أنتم مطلعون إياي على حال ذلك القرين فأطلع أنا؟ يعني انظروا إلى حاله حتى أنظر إليه، فإن نظري إليه متوقف على نظركم. وإليه الإشارة بقوله: "إنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم يقول هذا بعضهم لبعض"، بدليل قوله: "وهو من آداب المجالسة أن لا يستبد بشيء دون جلسائه". قوله: (فكأنهم مطلعوه) جزاء "لما"، وما توسط بينهما اعتراض. وهذا المعنى يشتمل على التقديرين: الماضي والمضارع. ولا يجوز أن يكون القائل الله تعالى ولا الملائكة، نعم يجوز أن يكون الخطاب للملائكة، فيقول: هل أنتم يا ملائكة الله مطلعي على حال قريني فأطلع أنا عليها؟ أي: أطلعوني قريني أيها الملائكة لأطلع أنا قرنائي من أهل الجنة. قوله: (وقرئ: "مطلعون" بكسر النون). قال أبو البقاء: وهو بعيد جدًا؛ لأن النون إن كانت للوقاية فلا تلحق بالأسماء، وإن كانت للجمع فلا تثبت في الإضافة.

فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله: هم الفاعلون الخير والآمرونه أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كانه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. {فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ}: في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائي، وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب -يا أبا عبيدة- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: فهو شاذ بالإجماع، وله وجه ضعيف، وقد جاء في الشعر: هم الفاعلون الخير والآمرونه .... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين، تقول: زيد ضاربي، وهما ضارباك، وهم ضاربوك، ولا يجوز هو ضاربني، ولا هم ضاربونك إلا في الشعر؛ إلا أنه قد قرئ: "مطلعون" على: مطلعوني، فحذف الياء كما تحذف في رؤوس الآي، وبقيت الكسرة دليلًا عليها. وأجود القراءة وأكثرها: {مُّطَّلِعُونَ}؛ بتشديد الطاء وفتح النون، ويليه: "مطلعون" بالتخفيف والفتح. قوله: (حتى انقطع سوائي) أي وسطي وهو الظهر. الراغب: سواء وسط، وقيل: سواء وسوى. قال تعالى: {مَكَانًا سُوًى} [طه: 58] أي: يستوي طرفاه، ويستعمل ذلك وصفًا وظرفًا، وأصل ذلك مصدر. والشيء المساوي، كعدل ومعادل وقتل ومقاتل، تقول: سيان زيد وعمرو، وأسواء: جمع سي: كنقض وأنقاض، يقال: قوم أسواء، والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا، وأصله ساواه في القدر. قوله: (يا أبا عبيدة) قال رحمه الله: إن كانت الهمزة بعد حرف النداء همزة قطع أسقطت

حتى ينقطع سوائي. {إِن} مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على "كاد" كما تدخل على "كاد"، ونحوه {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان: 42]، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: (لتُغوِين). {نِعْمَةُ رَبِّي} هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء، أو: إنعام الله بالثواب، وكونه من أهل الجنة. {مِنَ المُحْضَرِينَ} من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك. [{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى ومَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 58 - 59]. الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين. وقرئ: (بمائتين)، والمعنى: أن هذه حال المءمنين وصفتهم وما قضى الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الألف وأثبت الهمزة، وإن كانت الهمزة همزة وصل أسقطت الهمزة وأثبت الألف، كقولك: يا ابني. قوله: {نِعْمَةُ رَبِّي} هي العصمة إلى آخر ما قدر؛ لأنها لما كانت مطلقة قيدت بحسب اقتضاء المقام بما ذكر. قوله: (أنحن مخلدون منعمون) هي الجملة المقدرة بعد الهمزة التي عطفت عليها: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ}، والهمزة للتقرير، وهو مقول آخر للمؤمن على سبيل الاغتباط والابتهاج، فإن تذكر الخلود في الجنة لذة دونها كل لذة، وفي عكسه أنشد المتنبي: أشد النعم عندي في سرور .... تيقن عنه صاحبه انتقالا قوله: (وما قضى الله) عطف تفسيري على حالهم، و"أن لا يذوق" مفعول "قضى"، وقوله: "للعلم باعمالهم" اعتراض أتى به بيانًا لمذهبه.

به لهم -للعلم بأعماله- أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء: ما شر من الموت؟ قال: الذي يُتمنى فيه الموت. [{إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} 60 - 61] يقوله المؤمن تحدثًا بنعمة الله واغتباطه بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخًا له يزيد به تعذبًا، وليحكيه الله فيكون لنا لطفًا وزاجرًا. ويجوز أن يكون قولهم جميعًا، وكذلك قوله: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} أي: إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من وقل الله عز وجل تقديرًا لقولهم وتصديقًا له. وقرئ: (لهو الرزق العظيم)، وهو ما رزقوه من السعادة. [{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليحكيه الله) عطف على "ليكون"، يريد: أن هذا القول معروف معلوم ما أتى للإعلام بل للاغتباط والتحدث بنعمة الله تعالى توبيخًا ولطفًا. قوله: (ويجوز أن يكون قولهم جميعًا) أي: المؤمن وأصحابه، وهو عطف على قوله: "يقوله المؤمن"، والمعنى: لما فرغ القرين من توبيخ قرينه. وذكر عصمة الله له من تلك الورطة حمدًا لله تعالى أتبع ذلك هو ومن صحبه من عباد الله المخلصين اغتباطًا وتحدثًا بنعمة الله. قوله: (وقيل: هو من قول الله) أي قوله: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} وعلى الوجهين السابقين كان من قول المؤمن أو المؤمنين.

ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الجَحِيمِ * إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 62 - 70]. تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: {أَذَلِكَ} الرزق {خَيْرٌ نُّزُلًا} أي: خيرٌ حاصلًا {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}؟ وأصل النزل: الفضل والريع في الطعام، يقال: طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم. وانتصاب {نُزُلاَ} على التمييز، ولك أن تجعله حالًا، كما تقول: أثمر النخلة خير بلحًا أم رطبًا؟ يعني: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى [ذكر] الرزق المعلوم) هذا بيان لنظم الآي، وفيه أن قصة المؤمن ذكرت مستطردة بين الكلامين المتصلين معنى، وذلك أنه تعالى لما ذكر رزق أهل الكرامة، ومن كرامتهم أنهم على سرر متقابلين، واتصل به قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} واستوفى القصة أقبل إلى ذكر أهل الشقاوة وتهكم بهم بقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}. قوله: (وأصل النزل: الفضل والريع)، المغرب: ومنه قوله: العسل ليس من أنزال الأرض، أي: من ريعها وما يحصل منها. وعن الشافعي رضي الله عنه: لا يجب فيه العشر، لأنه نزل طائر. قوله: (أثمر النخلة خير بلحًا أم رطبًا؟ ) فإن قلت: المثال غير مطابق للآية؛ لأن السؤال عن حال الثمرة لا نفسها، وفي الآية السؤال عن الرزق المعلوم وعن شجرة الزقوم، قلت: ليس السؤال عن الرزق والشجرة نفسهما بل عن حالهما، ألا ترى كيف قال: "فأيهما خير في كونه نزلًا؟ ". نعم فيه اختلاف من جهة أن المثال فيه شؤال عن حالتي شيء واحد، والآية هنا سؤال عن حالة واحدة لشيئين مختلفين، وهذا لا يضر في الاستشهاد.

أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة، وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلًا؟ والنزل: ما يقام للنازل بالمكان من الرزق. ومنه: أنزال الجند؛ لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن. ومعنى الأول: أن للرزق المعلوم نزلًا، ولشجر الزقوم نزلًا، فأيهما خير نزلًا؟ ومخعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم؛ قيل لهم ذلك توبيخًا على سوء اختيارهم، {فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}: محنة وعذابًا لهم في الآخرة. أو ابتلاءً لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؛ فكذبوا. وقرئ: (نابتة في أصل الجحيم)، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: البلح: قبل البسر، والواحدة: بلحة، أول التمر طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر. قوله: (ولكن المؤمنين لما اختاروا) يعني: لما كان مؤدى فعل الكافرين إلى شجرة الزقوم كمؤدى فعل المؤمنين إلى الرزق المعلوم؛ حمل ذاك على هذا حملًا للنقيض على النقيض تهكمًا. ويجوز أن يكون من المشاكلة المعنوية، ويجوز أن يكون من أسلوب قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. فإن قلت: لم فرق بين المعنيين في الاعتبارين؟ فإنه جعل {نُزُلًا} تمييزًا في الأول وحالًا في الثاني. قلت: لأنه لما استعار النزل للحاصل من الشيء تعين أن يكون تمييزًا دون الحال؛ لأن حاصل الشيء لا يصدق عليه، ومن شأن الحال صدقه على ذي الحال، ويجوز أن يحمل في الثاني على التمييز أيضًا نحو قوله: لله دره فارسًا.

إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برؤوس الشياطين؛ دلالة على تناهيه في الكراهية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إما استعارة لفظية أو معنوية) عن نور الدين الحكيم رحمه الله: اللفظية: نحو رأيت أسدًا، وعنَّت لنا ظبية. والمعنوية كقوله: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فإنك في الأول تجعل الشيء الشيء وليس به، وفي الثاني تجعل الشيء للشيء وليس له. وأيضًا إذا رجعت في الأول إلى التشبيه الذي هو المقصود يأتيك عفوًا، نحو: "رأيت رجلًا كالأسد"، وغن رمته في الثاني لم يواتك تلك المواتاة. وقلت: يمكن أن يقال: أما اللفظية فهي أن الطلع موضوع لحمل الشجرة مع قيد أن تكون تلك الشجرة نخلة، فاستعمل هنا في غيرها، وهو كالمرسن فإنه موضوع لأنف بشرط أن يكون فيه رسن، فإذا استعمل في أنف إنسان كان مجازًا لفظيًا ليس فيه مبالغة؛ لأنهما كالمترادفين. وأما المهنوية فهي أن تشبه حمل تلك الشجرة بالطلع الحقيقي تشبيهًا بليغًا، ثم يطلق على ذلك الحمل اسم الطلع، والقرينة الإضافة. ويحتمل أن تكون تحقيقية وأن تكون مكنية مستلزمة للتخييلية كقول القائل: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله .... وعري أفراس الصبا ورواحله وفي تسمية الأول بالاستعارة تسامح؛ لأنه من المجاز المرسل الخالي من الفائدة فسماه بها مبالغة أو تعظيمًا. قوله: (وشبه برؤوس الشياطين) يعني: استعير لحمل شجرة الزقوم اسم الطلع، وشبه برؤوس الشياطين، والتشبيه تخييلي؛ لأن المشبه به لا حقيقة له في الخارج؛ لأن قبح

وقبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شرٌّ محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كانه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وإذا صوره المصورون جاؤوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله؛ كما أنهم اعتقدوا في المَلَك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وهذا تشبيه تخييلي. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدًا. وقيل: إن شجرًا يقال له الأستن خشنًا منتنًا مرًا منكر الصورة، يسمى ثمره: رؤوس الشياطين. وما سمت العرب هذا الثمر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منظر الشياطين مركوز في الجبلة؛ لأن الشيطان -كما زعم- لا يُرى ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون -لو رأى الرائي- في أقبح صورة، وأنشد الزجاج قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي .... ومسنونة زرق كأنياب أغوال ولم ير الغول ولا أنيابها، ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ، ففي باب المذكر يمثل بالشيطان، وفي باب المؤنث يشبه بالغول فيما يستقبح. قوله: (وقيل: الشيطان حية عرفاء) قال محيي السنة: قيل: أريد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا، فعلى هذا لا يكون التشبيه تخييلًا بل تحقيقًا. العرفاء: طويلة العرف. الجوهري: العرف: عرف الفرس، سميت به لكثرة شعرها. قوله: (يقال لها الأستن) قال أبو عبيد: الأستن: أصول الشجرة البالية، الواحدة: أستنة. قوله: (وما سمت العرب هذا الثمر) يعني: ما سموا ثمرة الأستن برؤوس الشياطين إلا للقصد إلى أحد هذين التشبيهين أي: الصوري أو المعنوي عند بعضهم، والظاهر هو

برؤوس الشياطين إلا قصدًا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلًا ثالثًا يشيه به. {مِنْهَا}: من الشجرة، أي: من طلعها {فَمَالِئُونَ} بطونهم؛ لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو: يقسرون على اكلها وإن كرهوها؛ ليكون بابًا من العذاب؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابًا من غساق أو صديد، شوبه أي: مزاجه، {مِنْ حَمِيمٍ} يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27]. وقرئ: (لَشُوبًا) بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأول تسمية بالمصدر. فغن قلت: ما معنى حرف التراخي في قوله: {ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا}، وفي قوله: {ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ}؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنهم اعتقدوا أن الشيطان قبيح المنظر أو أنه في الحقيقة حية عرفاء، ثم أدخل هذا الثمر لكثرة الاستعمال في جنس هذين الأصلين وصار أصلًا ثالثًا مثلهما مشبهًا به، ومثله قول التنوخي: فانهض بنار إلى فحم كأنهما .... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتفقا وذلك أنه لما سمع الله عز وجل نعت العدل بالنور في قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا و} [الزمر: 69] ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصف الظلم بالظلمات في قوله: "الظلم ظلمات يوم القيامة" خيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام وجعلهما مشبهًا بهما. قوله: (من غساق) الغساق: المنتن البارد. والغساق -بالتخفيف-: لغة. قوله: (شوبه أي: مزاجه) ويروى: شوبًا أي: مزاجًا، و"شوبًا" يجوز ان يكون بمعنى مشوب، وأن يكون مصدرًا على بابه، والشوب الخلط، وسمي العسل شوبًا؛ لأنه كان عندهم مزاجًا لغيره من الأشربة.

في الأول وجهان؛ أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملي؛ تعذيبًا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو أحر؛ وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: انه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بـ"ثم"؛ للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام، ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها، إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملؤوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الأول وجهان) والجواب الأول مبني على أن "ثم" للتراخي في الزمان، والأسلوب من الترقي من الحار إلى الأحر، والثاني على أن "ثم" للتراخي في الرتبة، والأسلوب من التكميل، حيث كمل عذاب الأكل بالشرب. وأما معنى الثاني- أي: السؤال الثاني الذي تقدم على قوله تعالى: {ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ} - فظاهر. وفي قوله: (ثم يرجعون إلى دركاتهم) إشعار بترتيب أنيق، وذلك أن أهل النار أول ما يقام لهم في النار من الرزق شجرة الزقوم، ثم يسقون شوبًا من حميم، ثم يستقرون بعد ذلك إلى دركاتهم، وعليه جرى العرف، وعلى هذا نزل أهل الجنة: الرزق المعلوم، وهو الفواكه وما يأكلونه على سبيل التلذذ، ثم السقي من كأس معين بيضاء لذة للشاربين، ثم يرجعون إلى ما وراء ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قائلين: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} اللهم بفضلك اجعلنا من الفائزين به. قال القاضي: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} فيه دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل، ولهم وراء ذ لك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار من الأمم.

وقرئ: (ثم إن منقلبهم)، (ثم غن مصيرهم)، (ثم إن منفذهم) إلى الجحيم؛ علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثًا. وقيل: إسراع فيه شبيه بالرعدة. [{ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * ولَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنذَرِينَ * إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ} 71 - 74] {ولَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ}: قبل قومك قريش. {مُّنذِرِينَ}: أنبياء حذروهم العواقب. {المُنذَرِينَ}: الذين أنذروا وحذروا، أي: أهلكوا جميعًا {إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ}: الذين ىمنوا منهم واخلصوا الله دينهم، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين. [{ولَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ (75) ونَجَّيْنَاهُ وأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ (76) وجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ (77) وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ (79) إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ (80) إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِين} 75 - 82]. لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذَرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه، واللام الداخلة على "نعم" جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فوالله لنعم المجيبون نحن. والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى: إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته؛ من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بألغ ما يكون. {هُمُ البَاقِينَ}: هم الذين بقوا وحدهم وقد فني غيرهم، فقد روي: أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو: هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم الذين بقوا وحدهم) هذا الاختصاص يعطيه ضمير الفصل.

وكان لنوح عليه السلام ثلاثة اولاد: سام، وحام، ويافث، فسامٌ أبو العرب، وفارس، والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} من الأمم هذه الكلمة؛ وهي: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} يعني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} من الأمم هذه الكلمة) يريد أن "تركنا" واقع على قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} وهو مفعول به. كانه قيل: تركنا على نوح قولنا: سلام على نوح في كل أحد من العالمين، كما يقال: السلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة، واللعنة على إبليس في المشرق والمغرب، فقوله: {فِي العَالَمِينَ} متعلق بالجار والمجرور. قال صاحب "الكشف": {سَلاَمٌ} مبتدأ، والجار بعده في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعول لـ {وَتَرَكْنَا} ولو أعمل "تركنا" فيه لقيل: "سلامًا" ويجوز أن يكون التقدير: وتركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن، فحذف مفعول "تركنا"، ثم ابتدأ وقال: "سلام". ويجوز أن يكون التقدير: وتركنا عليه في الاخرين الثناء الحسن وقلنا: سلام. وقال محيي السنة: "تركنا عليه"، أي: أبقينا له ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا فيمن بعده إلى يوم القيامة. وقلت: هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ان يكون المفعول {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} من حيث المعنى، كما قال الزجاج أي: تركنا عليه الذكر الجميل، وذلك الذكر قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} أي: تركنا عليه في الآخرين أن يسلم عليه إلى يوم القيامة. وثانيهما: المفعول محذوف، وهو الثناء كما سبق، فعلى هذا: يبقى "تركنا" مطلقًا غير

يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1]. فإن قلت: فما معنى قوله: {فِي العَالَمِينَ}؟ قلت: معناه: الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعًا، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه غلى آخر الدهر بأنه كان محسنًا، ثم علل كونه محسنًا بأنه كان عبدًا مؤمنًا، ليريكجلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه. [{وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} 83 - 87] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقيد، أي: تركنا على نوح في الآخرين من الأمم ذكرًا جميلًا، وكذا وكذا، كقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} [الشعراء: 84]، ويكون {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} دعاء من الله تعالى كقوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. قوله: (فما معنى قوله: {فِي العَالَمِينَ}؟ ) جاء في السؤال بالفاء، يعني: إذا كان معنى {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}: تركنا في الاخرين من الأمم أن يسلموا عليه تسليمًا ويدعوا له، فما معنى {فِي العَالَمِينَ} فإنه كالتكرار؟ وأجاب: إن في إعادة ذكر العالمين الشمول والاستغراق؛ لئلا يخرج أحد ممن يدخل في العالمين من الملائكة والثقلين منه، والحاصل أن {فِي العَالَمِينَ} كالتتميم للمعنى السابق والمبالغة فيه، ولو اكتفى بقوله: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} لقصر عن هذا المعنى، فرجع معنى: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} إلى قوله: "ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم". قوله: (ليريك جلالة محل الإيمان) يعني: ان نوحًا ليس ممن لا يؤمن حتى يوصف بالإيمان تمييزًا، وإنما جيء به للمدح، يعني أن صفة الإيمان من الصفات التي تصلح أن يمتدح بها النبي المرسل ترغيبًا للمؤمن.

{مِن شِيعَتِهِ}: ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو: شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود صالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وست مئة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم {لإبْرَاهِيمَ}، او بمحذوف؛ وهو: اذكر، {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من جميع آفات القلوب. وقيل: من الشرك، ولا معنى للتخصيص؛ لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها. فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه: أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلًا لذلك. {أَئِفْكًا} مفعلو له، تقديره: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ألفان وست مئة وأربعون سنة)، وفي "جامع الأصول": ألف سنة ومئة واثناتن وأربعون سنة. قوله: (وهو: اذكر) أي: اذكر إذ جاء ربه، أي: وقت مجيئه ربه. قوله: (ولا معنى للتخصيص)، أي: لا معنى لتخصيص قوله: {سَلِيمٍ} بشيء من الآفات. قال صاحب "الفرائد": لما كان المقام مقام المدح وجب أن يكون سالمًا عن كل الآفات؛ لأن السالم عن البعض يدخل فيه كل القلوب؛ لأنه ما من قلب إلا وهو سالم من البعض. قوله: (فضرب المجيء مثلًا لذلك)، أي: لقوله: "من أخلص لله قلبه". وفي "المطلع": ومعنى محبة ربه: أنه اخلص لله قلبه وعرف ذلك منه كما يعرف الغائب واحواله بمجيئه وحضوره، فضرب المجيء مثلًا لذلك. وقال الإمام: معناه انه إذا اخلص لله تعالى قلبه فكأنه استحق حضرة الله بذلك القلب. ورأيت في التوراة: أن الله تعالى قال لموسى: يا

أتريدون آلهة من دون الله إفكًا؟ ! وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون {أَئِفْكًا} مفعولًا، يعني: اتريدون به إفكًا؟ ثم فسر الإفك بقوله" {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} على أنها إفك في نفسها. ويجوز أن يكون حالًا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ {فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو الحقيق بالعبادة؛ لأن من كان ربًا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام؟ والمعنى: أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادًا؟ أو: فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موسى أحب إلهك بكل قلبك. وقلت: يمكن أن يقال: كان أصل الكلام إذا أخلص لربه، فلما أريد مزيد التصوير وأن لا بد للإخلاص من السلوك وقطع العلائق والعروج من حضيض الأمارية إلى يفاع المطمئنية، قيل: {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: من آفاته، لكن في إسناد المجيء إليه شائبة بقاء الوجود، وفي وصفه بـ"السليم" نقاء القلب أيضًا. وأما قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ففيه إشارة إلى الجذبة الحقانية التي لا تبقي من الوجود والصفات شيئًا، وإنما أثبت العبدية ليمكن الإخبار عن ذلك المقام، ولولا إزادة الإخبار لم يذكر ذلك أيضًان والله أعلم. قوله: ({فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو حقيق بالعبادة) إلى آخره، قال القاضي: معنى {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} إنكار ما يوجب ظنًا، فضلًا عن قطعه، فضلًا عن عبادته، أو يجوز الاشتراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام.

[{نَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} 88 - 90]. {فِي النُّجُومِ}: في علم النجوم، أو: في كتابها، أو في أحكامها، وعن بعض الملوك: أنه سئل عن مشتهاه، فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الإنكار والتجهيل راجع إلى ظنهم بري العالمين، إما باعتبار الوصف أو الحقيقة، أما الوصف فعلى وجهين: أحدهما: معنى التربية وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئاَ؛ لأن الممكن كما هو مفتقر إلى المحدث حال حدوثه مفتقر إلى المبقي حال بقائه، وهذا معنى الإنعام الذي يجب أن يشكر عليه مسديه ولا يصد عن عبادة موليه، وهو المراد من قوله: {فَمَا ظَنُّكُم} بمن هو حقيق بالعبادة؛ لأن من كان ربًا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه. وثانيهما: معنى المالكية وهو مستلزم لمعتى القهر والقدرة التامة، وإليه الإشارة بقوله: {فَمَا ظَنُّكُم} ماذا يفعل بكم؟ وكيف يعاقبكم؟ وأما الحقيقة فهو المعن بقوله: {فَمَا ظَنُّكُم} أي شيء هو من الأشياء؟ قال في "الشعراء" في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]: أي: أي شيء هو على الإطلاق؟ تفتيشًا عن حقيقته الخاصة ما هي؟ أي: إنما يصح جعل الأصنام ندًا له إذا عرفت المماثلة، فما لم يعرفوا حقيقته كيف يجعلون الأصنام ندًا له؟ الراغب: المثل أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك الجوهر فقط، والشبه فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي فيما يشارك في الكمية فقط، والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والمثل عام في جميع ذلك. قوله: (حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه) ومنه قول القائل: هل من كتاب أو أخ أو فتى أنظر فيه أو له أو إليه؟

القوم نجامين، فاوهمهم انه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم {فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ}: إني مشارف للسقم؛ وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى؛ ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرض وورى، والذي قاله إبراهيم صلوات الله عليه: معراض من الكلام، وقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم، ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد: فدعوت ربي بالسلامة جاهدا .... ليصحني فإذا السلامة داء وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس، وقالوا: مات وهو صحيح، فقال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليتفرقوا عنه) يتعلق بقوله: {فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ}. قوله: (معراض من الكلام) جمعه: معاريض، ومنه قولهم: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. ومر في فاتحة البقرة كلام مشبع فيه. قوله: (فدعوت) قبله: كانت قناتي لا تلين لغامز .... فألانها الإصباح والإمساء فدعوت ربي بالسلامة جاهدًا .... ليصحني فإذا السلامة داء القناة: الرمح، فاستعار لقامته. والغمز: العصر باليد. يصف قوته في الشباب وضعفه في الكبر. قيل لشيخ كبير: كيف أصبحت؟ قال: في داء يتمناه الناس.

أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه! وقيل: أراد: إني سقيم النفس لكفركم. [{فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَاكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} 91 - 93] {فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ}: فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، {إلَى آلِهَتِهِمْ}: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل: 27]. {أَلا تَاكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ}: فأقبل عليهم مستخفيًا، كأنه قال: فضربهم {ضَرْبًا}؛ لأن "راغ عليهم" في معنى: ضربهم. أو: فراغ عليهم يضربهم ضربًا. أو: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا} بمعنى ضاربًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ}: فذهب إليها في خفية) يريد: ضمن {فَرَاغَ} معنى "ذهب" وعدي بـ"إلى"، كما أن {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} مضمن للإقبال ويعدى بـ"على"، ولذلك قال: فذهب إليها في خفية، "فأقبل عليهم مستخفيًا" بعد استعارة الروغان للخفية. قال في "الأساس": ومن المجاز: فلان يروغ عن الحق، ولا يقال: راغ عن كذا إلا إذا كان عدوله عنه في خفية، وما زلت أراوغه على هذا الأمر فما راغ إليه أي: أدواره. وحقيقته: حملته على الروغان، مأخوذ من روغان الثعلب، وأراغ العقاب الصيد؛ إذا ذهب الصيد؛ هكذا وهكذا. قوله: (بمعنى ضارباَ) فعلى هذا: {ضَرْباَ} حال، وعلى الأول: مفعول مطلي، نحو "قعدت جلوسًا"، وعلى الثاني: مصدر مؤكد والعامل مضمر. قال صاحب "الفرائد": يبعد أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لأن الإقبال على الشيء مستخفيًا لا يدل على الضرب. وقلت: في جعل الإقبال عليهم نفس الضرب مبالغة، فهو مجاز من باب إطلاق السبب على المسبب؛ لأن إقباله عليهم لم يكن للضرب. ويجوز أن يكون من باب المجاز باعتبار ما يؤول إليه، أي: أقبل عليهم إقبالًا مؤديًا إلى الضرب، كما قال في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] هدىً للضالين الصائرين إلى التقوى، فالمعنى: فمال إلى الأصنام يضربها ضربًا؛ لأن الإنحاء على الضرب بمعنى الضرب.

وقرئ: (صفقًا)، و (سفقًا)، ومعناهما: الضرب. ومعنى {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}: ضربًا شديدًا قويًا؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما. وقيل: بالقوة والمتانة، وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]. [{فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ} 94] {يَزِفُّونَ}: يسرعون، من زفيف الناعم. و (يزفون): من أزف، إذا دخل في الزفيف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "صفقًا" و"سفقًا") قال ابن جني: قرأ الحسن: "سفقًا" باليمين، و"صفقًا" أيضًا. وقالوا: صفقت الباء وسفقته، والصاد أعلى. قوله: (وقيل: بالقوة والمتانة)، فعلى هذا: {بِالْيَمِينِ} متعلق بـ {ضَرْبًا}، وعلى الأول: متعلق بمحذوف صفة لـ {ضَرْبًا}. قوله: ({يَزِفُّونَ}: يسرعون)، حمزة: "يُزِفون" بضم الياء، والباقون: بفتحها، من: أزف، أي صار إلى الزفيف، ومثله قول الشاعر: تمنى حصين أن يسود جدذاعه .... فأضحى حصين قد أذل فأقهرا أي: فصار إلى القهر. قال الزجاج: أصله الفتح وتشديد الفاء، من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوه وآخر مشيه، وبالضم والتشديد: معناه: يصيرون إلى الزفيف، و"يزفون" بالتخفيف: من: وزف يزف بمعنى: أسرع، ولم يعرفه الفراء والكسائي.

أو: من أزفه؛ إذا حمله على الزفيف، أي: يزف بعضهم بعضًا. و (يزفون)، على البناء للمفعول، أي يحملون على الزفيف. و (يزفون)، من وزف يزف؛ إذا أسرع. و (يزفون)، من: زفاه؛ إذا حداه، كأن بعضهم يزفو بعضًا لتسارعهم إليه. فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59 - 60] كالتناقض؛ حيث ذكر ها هنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر؛ ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر! قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرًا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على السبيل التورية والتعريض بقولهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] لبعض الصوارف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن جني: وهي قراءة عبد الله، وذهب قطرب أنها تخفيف "يزفون"، كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي: اقررن. قوله: (والتعريض بقولهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] لبعض الصوارف)، خلاصة الدفع عن التناقض أن قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} لا يناقض قوله: {فَأَقْبَلُوا

والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر، وقولهم: قالوا: فأتوا به على أعين الناس. [{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 95 - 96]. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعنى خلقكم وما تعملونه من الأصنام، كقوله: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] أي: فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقًا لله معمولًا لهم؛ حيث أوقع خلقه وعملهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، لأن هؤلاء الذين أبصروه وزفوا إليه سمعوه بعد مضي الجمهور إلى العيد يقول في نفسه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] فلما ذهبوا وشرع في الضرب باليمين أقبل إليه المتخلفون يزفون ليكفوه، فلما رجع الجمهور من عيدهم سألوهم فلم يجسر هؤلاء أن يجيبوا بما سمعوا منه من القول فضلًا عن أن يظهروا ما شاهدوا منه من الفعل؛ لئلا ينسبوا إلى التقصير ويؤنبوا بالعجز، بل عرضوا بقولهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] لعل هذا هو المراد من قول المصنف: "والتعريض بقولهم لبعض الصوارف" وفي قوله في سورة "الأنبياء": "قال ذلك القول، أي {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] سرًا من قومه. وروي: سمعه رجل واحد منهم"، إيماء إلى هذا المعنى. قوله: (كيف يكون الشيء الواحد) يعني: عطف {وَمَا تَعْمَلُونَ} على مفعول "خلق" فيكون مخلوقًا لله، وأوقع {تَعْمَلُونَ} على الضمير الراجع إلى "ما" فيكون معمولًا لهم، وهو المراد من قوله: "وقع خلقه وعملهم عليها" أي: على الشيء الواحد، وإنما أنثه ليكون معبرًا عن الأصنام بدليل قوله: "ما تعملونه من الأصنام".

عليها جميعًا؟ قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعامل أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت أن تكون "ما" مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: والله خلقكم وعملكم، كما يقول المجبرة؟ قلت: أقرب ما يبطل به السؤال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أقرب ما يبطل به هذا السؤال) إلى آخره، وخلاصة الجواب أن قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} هو عين ما ينحتون؛ لأن قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} احتجاج على ما أنكر عليهم بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}، وإنما يصح أن يكون احتجاجًا ومطابقًا للسؤال أن يقال: والله خلقكم وما تنحتون. قال مكي: قالت المعتزلة: "ما" بمعنى "الذي" فرارًا من أن يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي نحتت الأصنام وبقيت الأعمال والحركات غير داخلة في خلق الله، تعالى الله عن ذلك، بل كل من خلق الله لا خالق إلا الله، وخلق الله لإبليس -الذي هو الشر كله- يدل على أنه تعالى خلق جميع الأشياء. وقال تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]؛ أجمع القراء كلهم -حتى أهل الشذوذ- على إضافة "شر" إلى "ما"، وقد فارق عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وقرأ "مِنْ شَرٍّ مَا خَلَقَ" بالتنوين؛ ليثبت أن مع الله خالقين يخلقون الشر، والصحيح أن الله تعالى خلق الشر وأمرنا أن نتعود منه، فإذا خلق الشر وهو خالق الخير [بلا اختلاف]، دل ذلك على أنه تعالى خلق أعمال العباد كلها من خير وشر، فيجب أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى: أنه تعالى عم جميع الأشياء بأنها مخلوقة له، أي: الله خلقكم وعملكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: هذا أبلغ؛ لأن فعلهم إذا كان بخلق الله فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال، ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز. وقلت: تمام تقريره هو: أنه قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية أولى من التصريح، فإذا نفى الحكم العام لينتفي الخاص كان أقوى وأثبت للحجة، وكم قد كرر في كتابه هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] إذ أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا ينفك من حال عند وجوده، فكان إنكارًا لوجوده على الطريق البرهاني. وقال صاحب "الانتصاف": يتعين حمل "ما" على المصدرية؛ إذ لم يعبدوا الأصنام من حيث هي حجارة عارية من الصورة، ولولاها لما خصوا حجرًا دون غيره، بل عبدوها باعتبار أشكالها وهي أثر عملهم، فعلى الحقيقة إنما عبدوا عملهم، فوضحت الحجة في أنها مخلوقة لله، فكيف يعبد مخلوق مخلوقًا؟ ! . قوله: "هي موصولة والمراد عمل أشكالها" مخالفة للظاهر واحتياج إلى حذف مضاف، أي: "وما تعملون شكله وصورته" وهو موضع لبس، وإذا جعل المعبود نفس الجوهر كيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من صنعة العابد وهم يوافقون أن جواهر الأصنام ليست من خلقهم؟ فيكون على هذا ما هو من عملهم ليس معبودًا، وما هو معبود -وهو الجوهر- ليس عملًا لهم.

بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب: أن معنى الآية يأباه إباء جليًا، وينبؤ عنه نبوًا ظاهرًا؛ وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعًا خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق؟ ! على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها، ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم؛ لم تكن محتجًا عليهم، ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر؛ وهو أن قوله: {وَمَا تَعْمَلُونَ} ترجمة عن قوله: {مَا تَنْحِتُونَ}، و {مَا} في {مَا تَنْحِتُونَ} موصولة لا مقال فيها، فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن. فإن قلت: أجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم. قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق؛ وذلك أنك وإن جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "المطابقة تنفك على رأي أهل السنة" لا يصح، فإنا نحمل الأولى على المصدر وهم في الحقيقة عبدوا نحتهم؛ لأنها قبل النحت لم تعبد، فالمطابقة والإلزام على هذا أبلغ، ولو كان كما قال لقامت الحجة لهم ولكافحوا وقالوا: ما خلق الله ما نعمل؛ لأنا عملنا الشكل والصورة، ولله الحجة البالغة. قوله: (بل الإلزامان)، أي: بطلانه بحجج العقل ومطابقة المقام، في عنق المجبرة.

كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضًا فإنك قاطع بذلك الوصلة بين {مَا تَعْمَلُونَ} و {مَا تَنْحِتُونَ}؛ حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بـ {مَا تَنْحِتُونَ}: الأعيان التي هي الأصنام، وبـ {وَمَا تَعْمَلُونَ}: المعاني التي هي الأعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية. [{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} 97 - 98]. الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم. والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعًا، وأذلهم بين يديه: أرادوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كحالك وقد جعلتها مصدرية) يعني: حالك في جعلها موصولة على هذا التأويل، كحالك في جعلها مصدرية في أنك غير محتج بالآية على المشركين؛ لأن المقصود نفس ما ينحتون لا العمل كما سبق، وأيضًا فإنك قاطع بذلك الوصلة بين ما يعملون وما ينحتون، يعني: إذا جعلت "ما" موصولة وحذفت الراجع وأردت ما تعملونه من أعمالكم لم يتجاوب الرد والاحتجاج. وقلت: هذا تطويل، إذ لابد لصاحب المعاني أن يراعي الفرق بين العبارتين؛ بين أن يقال: والله خلقكم وما تنحتون، كما يقتضيه الظاهر، وبين ما عليه التلاوة، ويلتزم الأبلغية في الثاني صونًا لكلام الله تعالى من العبث، وليس ذلك إلا الكناية كما سبق، والله أعلم. قوله: (الجحيم: النار الشديدة)، الراغب: الجحمة: شدة تأجج النار، ومنه الجحيم، وجحم وجهه من شدة الغضب استعارة من جحمه النار، وذلك من ثوران حرارة القلب. قوله (في المقامين جميعًا) المقام الأول: قوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا

أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم، فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه. [{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} 99 - 101]. أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام؛ كما قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، {سَيَهْدِينِ}: سيرشدني إلى "ما فيه صلاحي في ديني، ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] كأن الله وعده وقال له: سأهديك، فأجرى كلامه على سنن موعد ربه، أو بناه على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى صلى الله عليه: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَعْمَلُونَ} وهو المراد من قوله: "فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم الحجر"، والثاني {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}، وإليه الإشارة بقوله: "فأبطل الله مكرهم" إلى آخره. قوله: (ولو قصد الرجاء والطمع لقال ... : {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} يريد أنه عليه السلام قطع بقوله {سَيَهْدِينِ} حصول الهداية؛ لأن سين الاستقبال للجزم بوقوع الفعل. قال في "المفصل": إن "سيفعل" جواب "لم يفعل"، وكانت عادة الله معه جارية على القطع في الإرشاد، فحدث بذلك لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] أو أجرى كلامه على المشاكلة وسنن موعد ربه، أو أظهر بذلك للقوم ومن كان قاصده ويريد كيده التجلد، يعني أن حالي مع ربي بهذه المثابة فلا أبالي بكيدكم، فالمقام يأبى الرجاء والطمع.

{هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}: هب لي بعض الصالحين، يريد الولد؛ لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] قال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90]. وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهما حين هنأه بولده علي أبي الأملاك: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أو أن الحلم، وأنه يكون حليمًا، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ثم استسلم لذلك؟ ! وقيل ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام، بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت الله به إبراهيم في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]؛ لأن الحادثة شهدت بحلمهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هنأه بولده علي أبي الأملاك) يعني: أبي الخلفاء، وفي "جامع الأصول": هو أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، أحد سادات بني هاشم، كان كثير العبادة، يقال: إنه ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسمي باسمه، ومات بالشام سنة ثماني عشرة ومئة، وقيل: سنة عشر ومئة. وفي قوله: "أبي الأملاك" تعريض بهم وأنهم لم يكونوا خلفاء.

[{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} 102]. فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: {مَعَهُ} بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو: إما أن يتعلق ب {بَلَغَ}، أو بـ {السَّعْيَ}، أو بمحذوف، فلا يصح تعلقه بـ {بَلَغَ}؛ لاقتضائه بلوغهما معًا حد السعي، ولا بـ {السَّعْيَ}؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه؛ فبقي أن يكون بيانًا، كأنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يسعى مع أبيه في أشغاله) الراغب: السعي: المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدرك ما سعى في طلبه. قوله: (لاقتضائه بلوغهما معًا حد السعي) يريد أن لفظة "مع" تقتضي استحداث المصاحبة، قال في قوله تعالى: {دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36]: "مع" يدل على معنى الصحبة واستحداثها فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له؛ لأن "معه" على هذا حال من فاعل "بلغ" فيكون قيدًا للبلوغ فيلزم منه ما ذكره من المحذور؛ لأن معنى المعية المصاحبة وهي مفاعلة، وقد قيد الفعل بها فيجب الاشتراك فيه. لا يقال: إن قول بلقيس: {مَعَ سُلَيْمَانَ} -على ما ذكر- يقتضي استحداث إسلامهما معًا، وليس كذلك؛ لأنا نقول: لا يبعد ذلك، فلعله عليه السلام وافقها أو لقنها، وإنما المعنى على بلوغ إسماعيل عليه السلام الحد الذي يقدر فيه على العمل في صحبة أبيه إبراهيم عليه السلام. وروى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنه: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم. والمعنى: بلغ أن يتصرف معه ويعينه، فإذن لابد من تعلقه بالسعي، لا كما ظن أنه يجوز أن

لما قال: فلما بلغ السعي، أي: الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل: مع من؟ فقال: مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب: أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء، فلا يحتمله؛ لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتعلق بـ"بلغ" وحين لم يجز تقديمه عليه وجب أن يقدر مثله على شريطة التفسير، كما قال في تفسير قوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]: "فيه" ليس من صلة "الزاهدين" لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أي شيء زهدوا؟ فقيل: زهدوا فيه. وهكذا التقدير، لما قال: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي القدرة على أن يسعى. فقيل: مع من يسعى؟ فقيل: مع أبيه. والفائدة في التكرير التأكيد كما في تركيب الإضمار على شريطة التفسير والمبالغة في استصحابه إياه، كأنه بلغ معه واستكمل في أخلاقه من بدء حاله، وفي تخصيص ذكر الأب ما ذكره، والفائدة في تخصيص هذا الحد من العمر الدلالة على أنه على غضاضة سنه كان فيه من رصانة الحلم ما جسره على احتمال تلك البلية. قال صاحب "الفرائد" أي افتقار إلى البيان وإلى السؤال؟ والوجه أن يقال: التقدير فلما بلغ السعي كائنًا معه، فيكون حالًا من "السعي" متقدمًا عليه. وقلت: المعنى لا يساعد عليه؛ لأنه عليه السلام ما بلغ سعيًا وصفه أنه كائن مع أبيه؛ لأن المعنى أنه عليه السلام بلغ حدًا من العمر يسعى مع أبيه.

بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة؛ فلهذا قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة. وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح رَوَّا في ذلك من الصباح إلى الرواح: أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، ثم سمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره؛ فسمي اليوم بيوم النحر. وقيل: إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له: أوف بنذرك. {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} من الرأي على وجه المشاورة. وقرئ: (ماذا تري)، أي: ماذا تبصر من رأيك وتبديه، و (ماذا ترى) على البناء المفعول، أي: ماذا تريك نفسك؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بذلك الجواب الحكيم) وذلك أنه فوض الأمر إليه في استشارته بقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، وكان من الظاهر أن يجيب: افعل أولا تفعل، فأجاب بقوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، أي ليس هذا من مقام المشاورة؛ لأن الواجب عليه إمضاء ما أمرت به وامتثال أمر ربك. قوله: (وقيل إن الملائكة حين بشرته) عطف على قوله: "وقيل: رأى ليلة التروية". فإن قيل: فعلى هذا لا يلزم أن يكون قد رأى شيئًا، فما يصنع بقوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام}؟ فيقال: يمكن أنه قد رأى رؤيا بعد قول الملائكة، وقيل له فيها: أوف بنذرك، تأكيدا لوفاء النذر. قوله: ("وماذا ترى" على البناء المفعول) حمزة والكسائي: "ماذا تري"؛ بضم التاء

من الرأي، {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله: أمرتك بالخير فافعل ما أمرت به أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمًرا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكسر الراء كسرة خالصة، يجعلانه فعلًا رباعيًا، والباقون: بفتحهما، يجعلونه ثلاثيًا، قال صاحب "الكشف": فمن قال: "ماذا تري" فالتقدير: ماذا ترينيه؟ إذا جعلت "ما" مبتدأ و"ذا" بمعنى "الذي" فالهاء عائدة إلى "ذا". ومن جعل "ما" و"ذا" كالشيء الوحيد كان نصبًا مفعولًا ثانيًا لـ"ترى" وحذف المفعول الأول، أي: أي شيء تريني؟ وقوله: "تري" من: أرى يري، وليست التعدية إلى ثلاثة منقولًا من: رأى؛ إذا علم، لكنه منقول من قولهم: فلان يرى رأي أبي حنيفة. هذا ويتعدى إلى مفعول واحد، فإذا دخلت عليه الهمزة تعدى إلى مفعولين؛ كقوله تعالى: {مَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي: بما أراكه الله. ومن قال: {مَاذَا تَرَى} بفتح التاء إن جعل "ما" و"ذا" كالشيء الواحد كان مفعول {تَرَى}، وإن جعل "ما" مبتدأ و"ذا" بمعنى "الذي" كان التقدير: ماذا تراه؟ وقال مكي: لا يحسن أن يكون {تَرَى} من العلم؛ لأنه يحتاج أن يتعدى إلى مفعولين، وليس في الكلام غير واحد وهو {مَاذَا} بجعلهما اسمًا واحدًا، وليس أيضًا من نظر العين؛ لأنه لم يأمره برؤية شيء، وإنما أمره أن يدبر رأيه فيما أمر به، ولا يحسن عمل {تَرَى} في "ذا" وهي بمعنى "الذي" لأن الصلة لا تعمل في الموصول.

وقرئ: (ما تؤمر به). فإذا قلت: لم شاوره في أمر حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطئها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله؛ ولأن المغافصة بالذبح مما يستسمج؛ وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك. فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أري يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء؛ وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين؛ لأن الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد إحداهما. [{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 103 - 111]. يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم، بمعنى واحد، وقد قرئ بهن جميعًا؛ إذا انقاذ له، وخضع، وأصلها من قولك: سلم هذا لفلان؛ إذا خلص له. ومعناه: سلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المغافصة)، الجوهري: غافصت الرجل؛ إذا أخذته على غرة. قوله: (لو شاور آدم الملائكة) يعني أن الملائكة مع أنهم طعنوا فيه بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] لو استشيروا لنصحوا أو ظهرت له من كلامهم أمارة دلت على الترك.

من أن ينازع فيه، وقولهم: سلم لأمر الله، وأسلم له: منقولان منه، وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى: استسلم: استخلص نفسه لله. وعن قتادة في {أَسْلَمَا}: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على شقه، فوقع أحد جنبيه على الأرض، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروي: أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. فإن قلت: أين جواب {لَمَّا}؟ قلت: هو محذوف، تقديره: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف: من استبشارهما، واغتباطهما، وحمدهما لله، وشكرهما على ما أنعم به عليهما؛ من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب. وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس. {الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}: الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو: المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. الذبح: اسم ما يذبح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمنى)، "منى" يصرف ولا يصرف، من: مني؛ إذا قدر، فسمي بذلك؛ لأنه تمنى فيه منايا الأضاحي، أي تقدر فيه، وقيل: تمنى فيه دماء الهدى، أي: تراق. قوله: (من الثواب والأعواض) وقد سبق أن الثواب عندهم هو الجزاء على أعمال الخير، والعوض هو البدل عن الفائت، كالسلامة التي هي بدل الألم، والنعم التي هي في مقابلة البلايا والمحن والرزايا والفتن.

وعن الحسن: فدي بوعل أهبط عليه من ثبير. وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة، وذبح الناس أبناءهم. {عَظِيمٍ}: ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي. وقوله عليه السلام: "استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم". وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروي: أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة، فرماه بسبع حصيات حتى أخذه، فبقيت سنة في الرمي. وروي أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده. وروي: أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد؛ فبقي سنة. وحكي في قصة الذبيح: أنه حين أراد ذبحه وقال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له: اشدد رباطي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجيز علي؛ ليكون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من ثبير)، النهاية: هو الجبل المعروف عند مكة، وهو أيضًا اسم ماء في ديار مزينة. قوله: (استشرفوا ضحاياكم)، النهاية: وفي حديث الأضاحي: "أمرنا أن نستشرف العين والأذن"، أي نتأمل سلامتها من آفة تكون. وقيل: هو من الشرفة وهي خيار المال، أي: أمرنا أن نتخير. قوله (حتى تجيز علي)، الجوهري: جزت الموضع أجوزه جوازًا: سلكته، وأجزته: خلفته وقطعته، وأجزته: أنقذته. وعن بعضهم: أجهزت على الجريح وأجزت: إذا أسرعت في قتله.

أهون؛ فإن الموت شديد، وأقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل؛ فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم يعمل؛ لأن الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه، وأتى المنحر من منى فذبحه. وقيل: لما وصل موضع السجود إلى الأرض جاء الفرج. وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده: أنه يلزمه ذبح شاة. فإن قلت: من كان الذبيح من ولديه؟ قلت: قد اختلف فيه؛ فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين: أنه إسماعيل. والحجة فيه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أملح)، الجوهري: الملحة من الألوان: بياض يخالطه سواد، يقال: كبش أملح. قوله: (وقد استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فيمن نذر بذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة)، قال صاحب "التقريب" وفيه نظر؛ إذ ليس فيها ذكر النذر ولا لزوم الذبح، بل إن الله تفضل بالفداء وأيضًا هو شرع من قبلنا. قوله: (من كان الذبيح)، "كان" زائدة، أي من الذبيح؟ ولو نصب وتكون "كان" ناقصة جاز.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا ابن الذبيحين". وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين، فتبسم، فسئل عن ذلك، فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله: لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، والثاني إسماعيل". وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، فقال موسى عليه السلام: يارب، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، وأنا بين أظهرهم قد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال: يا موسى، لم يجبني أحد حب إبراهيم قط، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني، وأما إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه، وأما إسرائيل، فإنه لم ييأس من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله)، روى ابن الجوزي في كتاب "الوفا": أن عبد المطلب قد رأى في المنام: احفر زمزم، ونعت له موضعها، فقام يحفر وليس له ولد يومئذ إلا الحارث، فنازعته قريش، فنذر لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تموا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، وكتب كل واحد منهم اسمه في قدح فضرب القدح على عبد الله فأخذ الشفرة ليذبحه، فقامت قريش من أنديتها فقالوا: لا تفعل حتى نعذر فيه، فانطلق به إلى عرافة، فقالت له: كم الدية فيكم؟ قال: عشر من الإبل. قالت: قربوا صاحبكم وقربوا عشرًا من الإبل ثم اضربوا عليه القداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإبل فقد رضي، ففعلوا حتى بلغ الإبل مئة، فخرج القدح على الإبل فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليه وعليها مرات، ففعل فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع. وقد ذكر محمد بن هشام صاحب سير النبي صلى الله عليه وسلم أبسط من ذلك.

روحي في شدة نزلت به قط. ويدل عليه: أن الله تعالى لما أتم قصة الذبيح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112]. وعن محمد بن كعب: أنه قال لعمر بن عبد العزيز: هو إسماعيل، فقال عمر: إن هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب. ويدل عليه: أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت. وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصميعي، هو أين عزب عنك عقلك؟ ! ومتى كان إسحاق بمكة؟ ! وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة. ومما يدل عليه: أن الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]، وهو من صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به؛ ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفًا للموعد في يعقوب. وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين: أنه إسحاق. والحجة فيه: أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدًا، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والحجة فيه أن الله تعالى أخبره عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا) إلى آخره، قلت: هذه الحجة ضعيفة؛ لأنه تعالى لما حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وعقبه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} بالفاء، وكذلك قصة الرؤيا والذبح، وذيل القصة بقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ} كما ذيل القصص المذكورة في هذه السورة الكريمة بمثله،

ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل الله بن اسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. فإن قلت: قد أوحي إلى إبراهيم صوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح! . قلت: قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح: من بطحه على شقه، وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيًا ولا مفرطًا، بل يسمى مطيعًا ومجتهدًا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابتدأ بحديث إسحاق وبشارته وما يتعلق به، وقال {بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} والظاهر أن هذه البشارة غير البشارة الأولى والمبشر به غير الأول، وسيجيء تقريره بعيد هذا. قوله: (وفرت الأوداج): الجوهري: فريت الشيء أفريه فريًا: قطعته لإصلاحه. والودج والوداج: عرق في العنق، وهما ودجان. قوله: (وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل) يعني: لما بذل إبراهيم عليه السلام وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه، وأمر الشفرة على حلقه لم يكن هذا من ورود النسخ قبل الفعل في شيء كما يسبق إلى بعض الإفهام، يعني: ورود النسخ قبل الفعل جائز، لكن هذه الآية ليست من المسألة في شيء، يدل عليه قوله في قصة البقرة: "يجوز النسخ قبل الفعل، ولا يجوز قبل وقت الفعل"، يعني: أن إبراهيم عليه السلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى بالمأمور به لأنه باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود ولم يكن منه تقصير، ولو لم يمنع مانه لتم الذبح المأمور به، ولهذا قال تعالى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. وعن بعضهم: الذبح هو الاعتماد، وقد وجد ذلك، لكن الانذباح لم يوجد، كما تقول: هديته فلم يهتد، أو هديته فاهتدي، وكسرته فانكسر، أو كسرته فلم ينكسر. هذا على خلاف ما ذكره المصنف في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. قال الإمام: وليس كذلك لأن معنى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أنه قد اعترف بكون الرؤيا واجب العمل، لا أنه بكل ما رآه في المنام، ولو كانت المباشرة كافية في كل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء، وحيث احتاج علمنا أنه م يكن آتيا في المباشرة بكل ما أمر به، هذا هو السؤال الذي أورده المصنف، فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح إلى آخره، وأجاب عنه بقوله: "قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل" يعني: نحن إن قلنا: إنه امتثل الأمر وخرج عن عهده المأمور به، لكن حقيقته لم تحصل فوهب الكبش ليقيم ذبحه مقاوم تلك الحقيقة. وفائدته إيجاد المأمور به بكل ما يدخل تحت الإمكان. وقال ابن الحاجب: أما دفعهم أنه ذبح فكان يلتحم عقبيه، أو يجعل عنقه صفيحة فلا يسمع ويكون نسخا قبل التمكن. يعنى: هذا النقل مما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يسمع، وإن سمع يكون نسخا قبل التمكن من الفعل. قال الإمام: هذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ، واختلف الناس في أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال؟ قال أكثر أصحابنا: إنه يجوز. وقالت المعتزلة وكثير من فقهائنا والحنفية: إنه لا يجوز. وقالت المعتزلة: إنه تعالى لو أمر شخصا بإيقاع فعل معين في وقت معين دل على حسن ذلك الفعل في ذلك الوقت، ثم إذا نهى عنه في ذلك الوقت دل على قبحه، وهذا مبني على تحسين الفعل وتقبيحه بحسب

ولا قبل أو أن الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشغل بالكلام فيه، فإن قلت: الله تعالى هو المفتدى منه؛ لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فاديًا حتى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العقل وهو باطل، ولئن سلم فإن العقل قد يكون حسنًا باعتبار وقبيحًا باعتبار، فإن السيد إذا أمر عبده شيئًا في زمان مخصوص وينهاه بعينه فيه يكون غرضه من الأمر والنهي مجرد اختبار العبد في الانقياد والطاعة. وقال البزدوي: شرط النسخ التمكن من عقد القلب، فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا، وقالت المعتزلة: إنه شرط. وحاصل الأمر: أن حكم النسخ بيان المدة لعمل القلب والبدن جميعًا، أو لعمل القلب بانفراده، وعمل القلب هو المحكم عندنا في هذا والآخر من الزوائد، لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخمسين صلاة ثم نسخ ما زاد على الخمس وكان ذلك بعد العقد، ولأن النسخ صحيح إجماعًا بعد وجود جزء من الفعل أو مدة تصلح للتمكن من جزء منه، وإن كان ظاهر الأمر يحتمل كله؛ لأن الأدنى يصلح مقصودًا بالابتلاء وكذلك عقد القلب على حسن المأمور وعلى حقيقته. قوله: (الله تعالى هو المفتدى منه)، الجوهري: افتدى منه بكذا أو فادى بكذا. وقال المصنف في المقدمة: افتدى منه بكذا اشترى منه نفسه بشيء. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36]. وهو يروى بفتح الدال وكسرها، وعلى الفتح ليس في "المفتدى" ضمير؛ لأنه مسند إلى الجار والمجرور، والضمير المجرور عائد إلى اللام، وعلى الكسر فيه ضمير راجع

قال: {وَفَدَيْنَاهُ}؟ قلت: الفادي هو إبراهيم عليه السلام، والله عز وجل وهب له الكبش ليفدي به، وإنما قال: {وَفَدَيْنَاهُ} إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته. فإن قلت: فإذا قلت: فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح، فما معنى الفداء، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت: قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فري الأوداج وإنهار الدم، هوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة؛ حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى الله تعالى، والمجرور إلى إبراهيم، وفيه تعسف ونبو عن مظنة استعماله. ولتضمنه معنى التخليص علله بقوله: "لأنه الآمر بالذبح"، فعلى هذا: الضمير في قوله: "ليفتدي به" راجع إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى الله تعالى كما سبق إلى بعض الأوهام. وتلخيص السؤال أنه تعالى قال {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فيكون الفادي هو الله تعالى، وفي الحقيقة هو المفتدى منه، وإبراهيم هو الفادي، وأجاب بأن الإسناد مجازي؛ لأنه تعالى لما وهب لإبراهيم الكبش ليفتدي ابنه فكأنه تعالى هو الفادي؛ إذ لولا تمكنه من الفداء بهبته لما قدر إبراهيم أن يفتدي به. ونحوه: "كسا الخليفة الكعبة"، وفائدته تعظيم الفداء، وكذلك وصفه بالعظم والله أعلم. قوله: (فإذا كان ما أتى به إبراهيم عليه السلام) تقرير السؤال: أن الفداء إنما يكون إذا أريد التخليص من الذبح، فإذا فعل ما في حكم الذبح اضطرارًا فما معنى الفداء؟ وأجاب: أنه وإن فعل ما في حكم الذبح لكنه ليس بذبح في الحقيقة، فكان الفداء جبرانًا لذلك النقصان وتحصيلًا لتلك الحقيقة بما أمكن، ثم سأل: فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة وقد استغني عنها بما وجد منه عليه السلام من البطح وإمرار الشفرة؟ وأجاب: أن الفائدة بذل المجهود في امتثال الأمر، وحصول الذبح بأي وجه كان فحين لم يحصل في إسماعيل ينبغي أن يحصل في بدله، والفاءان في أثناء السؤالين مترتبتان على ما سبق عليهما.

ولكن في نفس الكبش بدلًا منه. فإن قلت: فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة، وقد استغني عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت: الفائدة في ذلك: أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه. فإن قلت: لم قيل هنا هنا {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وفي غيرها من القصص: {إِنَّا كَذَلِكَ}، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية. [{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} 112 - 113]. {نَبِيًّا} حال مقدرة كقوله تعالى {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}؛ وذلك أن المدخول موجود مع وجود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره)، قال الراغب في "درة التنزيل": إن قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لما جعل أمارة لانتهاء كل قصة، وكانت قصة إبراهيم عليه السلام متضمنة ذكره وذكر ولده الذبيح فقيل له بعدما تله للجبين: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فجاء في هذا المكان وقد بقيت من القصة آيات فلما أتمها جاء بما جعل خاتمة لكل قصة من قصصهم {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فلم يذكر "إنا" لسببين: أحدهما: تقدم ذكرها في هذه القصة، والآخر: أن يخالف بين منتهى هذه القصة لأنها من القصة الأولى التي ختمت بـ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وبين منتهى قصة ليس ما قبلها منها، فكأن {إِنَّا كَذَلِكَ} لما ذكر في هذه القصة مرة اكتفى بها ولم يكن منقطعاا لها فخالفت ما تقدمها وما تأخر عنها لذلك. قوله: (فرق بين هذا وبين قوله)، مبتدأ وخبر، أي: فرق عظيم بين هذا وذلك؛ لأنه لما

الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت: مقدرين الخلود، فكان مستقيمًا، وليس كذلك المبشر به؛ فإنه معدوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة؛ لأن الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضًا بوجوده، بل تراخت عنه مدة متطاولة، فكيف تجعل {نَبِيًّا} حالا مقدرة، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به؛ فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها صفتهم؛ لأن المعنى: مقدرين الخلود، وليس كذلك النبوة؛ فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق؛ قلت: هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال: أنه لابد من تقدير مضاف محذوف؛ وذلك قولك: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: {نَبِيًّا} حال مقدرة كقوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] قال: لا يقاس هذا بذاك لافتراق بينهما وبعد أحدهما من الآخر. قوله: (لابد من تقدير مضاف محذوف) أي: بشرناه بوجود إسحاق نبيًا بأن يوجد مقدرة نبوته. هذا البحث موقوف على مقدمة وهي: أنه تقرر عند أصحاب المعاني أن لابد من تقرر الوصف والموصوف معا عند إثباته له. قال صاحب "المفتاح" إن حق كل ما يقصد ثبوته للغير أن يكون في نفسه ثابتًا وعندك، فما لا يكون ثابتًا كذلك أو متحققًا يمتنع منك جعله وصفًا. وقال: إن محاولة إثبات الثابت في نفسه لشيء آخر يستدعي ثبوت ذلك الشيء الآخر في نفسه لا محالة. وهو المراد من قول المصنف، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله؛ لأن الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، ولهذه النكتة قالوا في قوله {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة: 162] حال مقدرة؛ لأن الخلود لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، وعلى هذا ذو الحال- الذي هو

وبشرناه بوجود إسحاق نبيًا، أي: بأن يوجد مقدرة نبوته؛ فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. {مِنَ الصَّالِحِينَ}: حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريط؛ لأن كل نبي لابد أن يكون من الصالحين. وعن قتادة: بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه، وهذا جواب من يقول: الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموصوف في الحقيقة وهو إسحاق- لم يكن موجودًا عند البشارة، فلابد من التأويل وتقدير الوجود. قال القاضي: معنى قوله {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} مقضيًا نبوته مقدرًا كونه، وبهذا الاعتبار وقعا حالين، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به للاعتبار المعني بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملًا فيهما مثل "وبشرناه بوجود إسحاق" أي: بأن يوجد إسحاق نبيًا من الصالحين، ومع ذلك لا يصير نظير قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] فإن الداخلين مقدورون خلودهم وقت الدخول، وإسحاق لم يكن مقدرًا نبوة نفسه وصلاحهما حيثما توجد. قوله: (الثناء والتفريط)، الجوهري: التقريظ: مدح الإنسان وهو حي، والتابين مدحه وهو ميت. قوله: (وعن قتادة: بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه)، جواب آخر عن السؤال بغير التزام الفرق بين قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} وبين {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، لأن البشارة بالنبوة بعد الوجود. قوله: (لصاحبه عن تعلقه)، "اللام" و"عن" متعلقان بقوله: "جواب" والضمير في

قالوا: ولا يجوز أن الله يبشره الله بمولده ونبوته معًا؛ لأن الامتحان بذبحه لا يصح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لـ"صاحبه" يرجع إلى "من يقول"، وفي "تعلقه" إلى "صاحبه"، وفي "بقوله" إلى "الله" تعالى. قوله: (قالوا: لا يجوز) جملة مستأنفة بيان لاحتجاج صاحبه القائل بأن الذبيح إسماعيل؛ المعنى: قول قتادة: وبشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه، جواب من يقول: إن الذبيح إسحاق لصاحبه، أي: لمن يقول بأنه إسماعيل عليهما السلام، ويتمسك بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} لأن كونه نبيًا ينافي الامتحان بذبحه. وتقريره: أن ليست البشارة بوجوده بل بنبوته بعدما امتحنه بذبحه. قال الزجاج: من قال: إن الذبيح إسحاق قال: إن فيه بشارتين: إحداهما: قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، وثانيهما: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} حين استسلم للذبح. وقال الإمام: ولا يجوز أن يكون المعنى: وبشرناه بإسحاق حال كون إسحاق نبيًا؛ لأن البشارة متقدمة على صيرورته نبيًا، فوجب أن يكون المعنى: فبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبيًا، وحال ما حكمنا عليه بكونه نبيًا، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ كانت هذه البشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق عليه السلام. وقال صاحب "التقريب" وفي قولهم: لا يصح الامتحان بالذبح مع علمه بأنه سيكون نبيًا، نظر؛ لأن الحال المقدرة على ما قرر تقتضي أن يبشر بوجوده مقدرًا نبوته، ولا يلزم من تقدير نبوته العلم بتقديرها، اللهم إلا أن يبشر هكذا وهو أنه يوجد مقدرًا نبوته. وقلت: من قال: إنها مقدرة يذهب إلى أن هذا ابتداء بشارة بالوجود وبالنبوة معه، فهو

مع علمه بأنه سيكون نبيًا. {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وقرئ: (وبركنا) أي: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، كقوله: {وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27]، وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه. وقوله: {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقولك: خطت الثوب قميصًا، فلا يخفى على أحد أنه عند هذه البشارة لم يكن نبيًا، فالعلم بتقديرها ظاهر لم يحتج إلى التصريح، ولو بشره الله بنبوة إسحاق بعدما امتحنه بذبحه- كما قال قتادة- لكان الظاهر أن يقال: وبشرناه بنبوة إسحاق بل بنبوته؛ لما سبق ذكره وذكر البشارة به. ومما يدل على استقلال القصة تذييل القصة السابقة بما ذيلت به سائر القصص المذكورة من مثل قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} فإذا صح ذلك فلا يجوز أن يؤمر بالذبح امتحانًا وهو عالم بأنه يصير نبيًا؛ لأن الامتحان إنما يصح إذا أيقن الذابح أنه سيذبح ولا يتأخر أجله. قوله {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، يعني: نظيره في أن ذريته عليه السلام لا يجب أن يكونوا محسنين كلهم. قال الإمام: دخل تحت قوله: "محسن" الأنبياء والمؤمنون، وتحت قوله: "الظالم" الفاسق والكافر. وفيه تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن؛ لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود. وقال التهامي: لا تحسبن حسب الآباء مكرمة .... لمن يقصر عن غايات مجدهم حسن الرجال بحسنى لا بحسنهم .... وطولهم في المعالي لا بطولهم

فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وهذا يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه. [{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 114 - 122]. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الغرق، أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم، َ {وَنَصَرْنَاهُمْ} الضمير لهما ولقومهما في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا}. {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} البليغ في بيانه؛ وهو التوراة، كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]. وقال من جوز أن تكون التوراة عربية أن تشتق من وري الزند "فوعلة" منه، على أن التاء مبدلة من واو. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقال من جوز أن تكون التوراة عربية) عن بعضهم: إن "قال" عطف على "قال" في "كما قال"، و"أن" في "أن تشتق" مصدرية وهي مع "ما" في صلتها بمعنى المفعول أي مشتقة والتقدير: وكما قال من جوز هذا: إن فيها معنى الإنارة والضوء مشتق من الورى. فإن قلت: فما وجه التشبيه بالآيتين؟ وكيف استشهد بهما على الاشتقاق؟ قلت: وجه التشبيع إثبات المبالغة في البيان، فكما أن استعمال سين الطلب فيما لا طلب له تدل على المبالغة كذلك استعارة النور- لما في الكتاب من البيانات الشافية الكافية- تدل على المبالغة، فإن قولك: "رأيت أسدًا يرمي" ابلغ من قولك: "رأيت شجاعا يرمي". وأما وجه الاشتقال؛ فإن مراعاة تسمية الكتاب بالتوراة وإنما كانت لأنها اشتملت على

{الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صراط أهل الإسلام، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. [{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} 123 - 132]. قرئ: {إِلْيَاسَ} بكسر الهمزة، (الياس) على لفظ الوصل. وقيل: هو إدريس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدلائل الباهرة والبراهين الساطعة كالنور في الظهور، وتحريره: أن الكتاب إنما وصف بالمستبين لما فيه من الكشف التام، كما سمي بالنور لذلك، وكما قيل: إن التوراة إنما اشتقت من الوري لما فيها من البيان التام. قوله: ({الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صراط أهل الإسلام) يعني أن الله تعالى كشف عن هذا الصراط المستقيم في الفاتحة وأوضحه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] حيث قيده أولًا بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ليخرج اليهود، وثانيًا بقوله {وَلَا الضَّالِّينَ} ليخرج النصارى، فيختص بالمسلمين، فيكون ذكره ها هنا تعريضًا باليهود. قوله: قرئ {إِلْيَاسَ} بكسر الهمزة، و"الياس" على لفظ الوصل)، بالوصل: ابن ذكوان عن ابن عامر، والباقون: بكسر الهمزة. قال ابن جني: قرأ ابن محيصن وعكرمة والحسن بخلاف بغير همز، وكذا "الياسين" أما "الياس" فإن الاسم منه "ياس" ثم لحقه لام التعريف، كأنه على إرادة ياء النسب.

النبي. وقرأ ابن مسعود: (وإن إدريس)، في موضع {إِلْيَاسَ}. وقرئ: (إدراس)، وقيل: هو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى. {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}: أتعبدون بعلًا؛ وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل. وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعًا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربع مئة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقيل: البعل: الرب؛ بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار؟ أي: من ربها؟ والمعنى: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "وإلياسين" على هذا كما حكى عنهم صاحب "الكتاب" والنميرون؟ ، يريد: الأشعريين والنمريين، وعن قطرب: هؤلاء زيدون، منسوبون إلى "زيد" بغير ياء النسبة. ويجوز أن يجعل كل واحد من أهل إلياس: ياسا، يقال: الياسين، كقوله: فدني من نصر الخبيبين قدي يريد: أبا خبيب وأصحابه، كأنه جعل كل واحد منهم خبيبًا. ونحو منه قولهم: "شابت مفارقة" جعل كل جزء من مفرقة مفرقًا ثم جمعه. ويشهد لوصل ألف "ياسين" قوله: أمهتي خندف والياس أبي واللام بمنزلتها في "اليسع" زائدة؛ لأن الاسم علم، وليس بصفه. قوله: (فتنوا به) افتتن الرجل وفتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله.

{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ} قرئ: بالرفع على الابتداء، والنصب على البدل، وكان حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع. وقرئ: (على إلياسين) و (إدريسين)، و (إدراسين)، و (إدراسين)، على أنها لغات في "إلياس" "وإدريس". ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. وقرئ: (على الياسين) بالوصل، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه، كقولهم: الخبيبون والمهلبون. فإن قلت: فهذا حملت على هذا {إِلْ يَاسِينَ} على القطع وأخواته؟ قلت: لو كان جمعًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بالرفع على الابتداء) أي: "الله ربكم" حفص وحمزة والكسائي: بالنصب، والباقون: بالرفع. قال الزجاج: النصب على صفة "أحسن الخالقين" والرفع على الابتداء والخبر. ولو قال على البدل في النصب كان أولى. قوله: (وبالنصب على البدل) أي: قرئ بالثلاثة بالنصب بدلا من {أحسن}. قوله: (وإدراسين) قال ابن جني: قرأها ابن مسعود ويحيى وغيرهما، وجاء عنه "إدرسين" وكذا عن قتادة، وفي بعض القراءة "إدريسين" وأما "إدراسين" فيجب أن تكون من تغيير العرب الكلم الأعجمي؛ لأنه ليس من لغتها، والقياس "إدريسين". قوله: (الخبيبون) قيل لعبد الله بن الزبير ومن كان على رأيه؛ لأن خبيبًا من أجبن أولاده، وأولياؤه يسمونه أبا بكر، قيل في كونه مثل الخبيبيين: خبيب، وأجيب أن العرب إذا تكلمت بالعجمية قالت ما شاءت. قوله: (فهذا حملت على هذا {إِلْ يَاسِينَ} على القطع) في السؤال شائبة إنكار، أي: لم ما

لعرف بالألف واللام. وأما من قرأ: (على آل ياسين) فعلى أن ياسين اسم أبي إلياس، أضيف إليه الآل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حملت على "الياسين" بالوصل قراءة من قرأ {إِلْ يَاسِينَ} بالقطع وإخوانه من (إدريس) و"إدراسين" و"إدرسين" وقلت: إنها جموع، بل زعمت أن زيادة الياء والنون لمعنى في السريانية؟ وأجاب: لو كان جمعًا لعرف بالألف واللازم كما في الخبيبون والمهلبون، وكما مر عن ابن جني في "الأشعرون" و"النميرون". وقال الزجاج: من قرأ بالوصل فهو جمع "الياس" هو وأمته المؤمنون، وكذا يجمع ما ينسب الشيء إليه بلفظ الشيء، نحو المهلبة أي بني المهلب. قوله: (وأما من قرأ "على آل ياسين") نافع وابن عامر: "على آل ياسين" منفصلًا. مثل: آل محمد، والباقون: بكسر الهمزة وإسكان اللام متصلًا، وفي "المطلع" حجة من قرأ منفصلًا أنها في المصحف مفصولة. قال الفراء وأبو عبيدة: الوجه قراءة العامة؛ لأنه لم يقل في شيء من السورة: سلام على آل فلان، إنما جيء بالاسم، كذلك "إلياسين"؛ لأنه بمعنى: إلياس أو إلياس واتباعه. وقيل: الوجه أن ياسين اسم أبي إلياس وأضيف إليه الأول. وقيل القاضي" وقيل إل ياسين أبو إلياس، أو محمد، أو القرآن، أو غيره من كتب الله، والكل لا يناسب نظم سائر القصص ولا قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 131 - 132] إذ الظاهر في الضمير في {إِنَّهُ} لإلياس. وقلت: لو حمل آل ياسين على نفس إلياس -كما في قوله تعالى: {آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] ويراد موسى وهارون- لم يبعد ذلك.

[{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 133 - 138}. {مُصْبِحِينَ}: داخلين في الصباح، يعني: تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلًا ونهارًا، أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ ! . [{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 139 - 148]. قرئ: (يونس) بضم النون وكسرها. وسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقًا على طريقة المجاز. والمساهمة: المقارعة. ويقال: استهم القوم؛ إذا اقترعوا. والمدحض: المغلوب المقروع. وحقيقته: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روي: أنه حين ركب في السفينة وقفت، فقالوا: ها هنا عبد أبق من سيده، وفيما يزعم البحارون أن السفينة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقًا على طريقة المجاز)، أي: الاستعارة تصويرًا لقبحه؛ لأن "أبق" يستعمل في المملوك إذا هرب من سيده. الجوهري: ابق العبد يابق إباقًا، أي: هرب، ويجوز أن يكون على طريقة استعمال المرسن في أنف الإنسان. قوله: (والمساهمة: المقارعة)، الراغب: السهم ما يرمى به، وما يضرب به من القدح، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وبرد مسهم عليه صورة سهم، وسهم وجهه تغير والسهام داء يتغير منه الوجه. قوله: (البحارون) هم الذين يكونون أكثر أعمارهم في البحر للتجارة وغيرهما.

إذا كان فيها آبق لم تجر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس، فقال: أنا الآبق، وزج بنفسه في الماء، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}: داخل في الملامة. يقال: رب لائم مليم، أي: يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ: (مليم) بفتح الميم، من: ليم فهو مليم، كما جاء: مشيب في مشوب، مبنيًا على شيب. ونحوه: مدعي، بناء على دعي. {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}: من الذاكرين الله كثيرًا بالتسبيح والتقديس. وقيل: هو قوله في بطن الحوت {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وقيل: من المصلين. وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وعن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. قال: وكان يقال: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع وجد متكئًا. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله، وإقباله على عبادته، وجمع همه لتقييد نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة؛ لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد. {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} الظاهر: للبث فيه حيًا إلى يوم البعث. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وزج بنفسه)، الجوهري: زجه: دفعه في وهدة. قوله: ({وَهُوَ مُلِيمٌ}: داخل في الملامة)، قال الزجاج: يقال: قد ألام الرجلل فهم مليم إذا أتى ما يجب أن يلام عليه، وقد ليم إذا أتى بلوم ولا موه عليه. وأنشد غيره. إن نفسي على هواها ألامت .... كل نفس على هواها مليمه قوله: (وهذا ترغيب من الله في إكثار المؤمن)، الترغيب مستفاد من الوصف بالتسبيح دون النبوة والرسالة، والإكثار من جعله من زمرتهم ومن جملة مت يواظب على التسبيح، نحو "فلان من العلماء" أي: له مساهمة معهم في العلم، وهذا الوصف كاللقب المشهور له ولا يشتهر به إلا بكثرة الممارسة.

وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة. وروي: أنه حين ابتعله أوحى الله إلى الحوت: إني جعلت بطنك له سجنًا، ولم أجعله لك طعامًا. واختلف في مقدار لبثه: فعن الكلبي: أربعون يومًا، وعن الضحاك: عشرون، وعن عطاء: سبعة، وعن بعضهم: ثلاثة، وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلًا، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروي: أن الحوت سار مع السفينة رافعًا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظة سالمًا لم يتغير منه شيء، فأسلموا. وروي: أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. والعراء: المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. {وَهُوَ سَقِيمٌ} اعتل مما حل به، وروي: أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد. واليقطين: كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق، كشجر البطيخ، والقثاء، والحنظل، وهو "يفعيل" من قطن بالمكان؛ إذا قام به. وقيل: هو الدباء. وفائدة الدباء: أن الذبان لا تجتمع عنده. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال: "أجل هي شجرة أخي يونس". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعراء: المكان الخالي) العراء: يمد ويقصر، فالمقصور: الناحية، والممدود: المكان الخالي. وقيل: معناه الأرض الخالي. وقيل: هو الدباء، لأم الدباء إن كان همزة من دبأ إذا هذا، يقال دبأت المكان، كما قيل له: اليقطين من قطن، جعل انسداحه قطونًا وهدوءًا إن كان ياء من تركيب "دبي" وهو الجراد، ويحتمل أن يكون كالدباء من الدبيب، جعل انبساطه دبيبا. قوله: (إنك لتحب القرع) روينا عن البخاري عن أنس قال: "دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام خياط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد وعليه دباء، قال أنس: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع

وقيل: هي التين، وقيل: شجرة الموز، تغطي بورقها. واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. وقيل: كان يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه، فيشرب من لبنها. وروى: أنه مر زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحي إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مئة ألف على يد الكافر؟ ! فإن قلت: ما معنى: {أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً}؟ قلت: أنبتناها فوقه مظلة له، كما يطنب البيت على الإنسان {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ}: المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه من الأولين أو إلى غيرهم. وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى؛ لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا {أَوْ يَزِيدُونَ} في مرأى الناظر؛ أي: إذا رآها الرائي قال: هي مئة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدباء، قال أنس: فجعلت أتتبعه وأصفه بين يديه، قال: وما زلت بعد أحب الدباء". وفي رواية الترمذي عن أنس: "أنه كان يأكل قرعًا وهو يقول: يا لك من شجرة! ما أحبك إلي لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك". قوله: (ما معنى: {أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ}؟ ) يعني: {وَأَنْبَتْنَا} تعدى بـ"على" فأجاب: أن {عَلَيْهِ} ليس بصلة بل هو حال، أي انبتنا الشجرة مستعلية عليه، نحوه: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ} [يوسف: 18]. قوله: (وقيل: هو إرسال ثان) وعلى الأول: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ} عطف على قوله: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على سبيل البيان؛ لأنه دل على ابتداء الحال وعلى انتهائها وعلى ما هو المقصود بالإرسال من الإيمان، واعترض ما بينهما قصة اعتناء بشأنها لاحتوائها على أمر عجيب، وكذلك يقدر: اذكر إذ أبق.

ألف أو أكثر؛ والغرض: الوصف بالكثرة. {إِلَى حِينٍ}: إلى أجل مسمى. وقرئ: (ويزيدون) بالواو، و (حتى حين). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ويزيدون" بالواو) قال ابن جني: هي قراءة جعفر بن محمد رضي الله عنهما. وفيه إعراب حسن، وذلك أن قوله: "يزيدون" خبر مبتدأ محذوف، أي: هم يزيدون، والواو لعطف الجملة على الجملة، كقولك: مررت برجل مثل الأسد وهو والله أشجع، ولقيت رجلا جوادا وهو والله فوق الجواد. ويفسد أن يقال: إن {يَزِيدُونَ} عطف على {مِئَةِ}، لأن "إلى" لا تعمل في "يزيدون"، فلا يجوز أن يعطف {يَزِيدُونَ} على معموله. فإن قلت: قد يجوز في العطف ما لا يجوز في المعطوف عليه، كقولنا: رب رجل وأخيه، ورب شاة وسخلتها، ومررت برجل صالح أبواه لا طالحين، ونحو ذلك، ونحو ذلك، قلنا: لو قدرت المتجوز في هذا ونحوه لا تبلغ ما رمته من تقدير حرف الجر مباشرًا للفعل، ألا تراك لا تجيز مررت بقائم ويقعد، وأنت تريد بقاعد، ومع ذلك يلزم فساد المعنى؛ لأن المعنى حينئذ: وأرسلناه إلى جمعين: مئة ألف والآخر زائد، وليس الغرض ذلك؛ لأن الغرض وأرسلناه إلى جمع لو: رأيتموهم لقلتم أنتم: هؤلاء مئة ألف وهم أيضًا يزيدون، فالجمع إذن واحد لا جمعان، وكذلك قراءة العامة: {أَوْ يَزِيدُونَ} أي: أو هم يزيدون. قال الزجاج: روي عن الفراء وابي عبيدة: معنى {أَوْ يَزِيدُونَ}: بل يزيدون. وقال غيرهما: أو يزيدون في تقديركم أنتم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مئة ألف أو يزيدون. هذا هو القول. وقيل: معناه الواو، وهو يعيد؛ لأن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل على أن أحد الشيئيين قبل الآخر.

[{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 149 - 157]. {فَاسْتَفْتِهِمْ} معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث أولًا، ثم ساق الكلام موصولًا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها؛ حيث ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أمر رسوله صلوات الله عليه باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث، أولا، ثم ساق الكلام موصولًا بعضه ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة)، يريد أنه تعالى أمر حبيبه صلوات الله عليه أن يستفتي قريشًا في هذه السورة الكريمة مرتين، أولاهما: يستفتيهم في وجه إنكارهم البعث بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} ثم ساق الكلام في بيان أمر الحشر والنشر وما إليه مآل الفريقين المصدقين له والمكذبين إياه، وأشبع الكلام فيه، ثم علل أن إنكارهم ذلك ما نشأ إلا من التقليد بقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ولا فائدة في الحرص على إيمانهم، مسليا حبيبه صلوات الله عليه؛ لئلا تذهب نفسه عليهم حسرات، وقرر ذلك بقوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} إذ دأب قومك معك كدأب سائر الأمم السالفة مع أنبيائهم، وبين وخامة عاقبة المكذبين وحسن عواقب المرسلين ومصدقيهم مفصلًا، فبدأ من نوح عليه السلام إلى أن ختم بيونس عليه السلام. ثم شرع في نوع آخر من الاستفتاء وهو الكلام في الإلهيات، وختم السورة بما يتصل بها. فإن قلت: قد علم وجه اتصال الاستفتاء الأول بفاتحة السورة وأنه من جهة الخالقية وأن المخلوقات السابقة أشد خلقًا من خلق المنكرين للبعث، فما وجه اتصال هذا الاستفتاء بها؟

جعلو لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهم، واستنكافهم من ذكرهن. ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر؛ أحدها: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام. والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم: كما قال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه؛ حيث أنثوهم، ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء؛ للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه، وذلك في وأهاجيهم بين مكشوف، فكرر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرات، ودل على فظاعتها في آيات: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: من وجه كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه مناف للمجانسة كما تقرر في قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. قوله: "عن وجه القسمة الضيزى" وهي من ضاز حقه يضيزه ضيزا، بخسه ونقصه. قوله تعالى: {قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] أي: جائزة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء؛ لأنه ليس في كلامهم فعلى صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. وقال الفراء: بعض العرب تقول: ضأزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع بعض العرب يهمز الضيزى. قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته وهو أنه يتزين في الزينة والنعمة؟ وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال.

شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 88 - 90]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء: 26]، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]، {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات: 151 - 152]، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور، 39]، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]، {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16]، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]. {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ}: فإن قلت: لم قال: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} فخص علم المشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل، وكذلك قوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]، ونحوه قوله: {أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]؛ وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولًا عن ثلج صدور وطمأنينة نفس؛ لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقهم، وقرئ: (ولد الله) أي: الملائكة ولده. والولد "فعل" بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة) يعني: نفي طريق المشاهدة بالاستهزاء بهم وبتجهيلهم ليسند جميع طرق العلم، كأنه قيل: ما حصل لكم العلم الضروري بهذا القول ولا أخبركم به صادق ولا طريق للاستدلال والنظر إليه، فبقي أنكم شهدتم ذلك، أخبروني به إن حصل ذلك. قوله: (عن ثلج صدر) أي: عن طمأنينة. الأساس: ومن المجاز: ثلج فؤاده، وهو مثلوج الفؤاد.

تقول: هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. فإن قلت: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} بفتح الهمزة: استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ}، وقد قرأ بها حمزة والأعمش. وهذه القراءة وإن كان هذا محملها فهي ضعيفة، والذي أضعفها: أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها؛ وذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد قرأ بها حمزة والأعمش) أي: في الشاذ. قوله: (فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين) يعني: قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} كلام الله تعالى على سبيل الإنكار، فلو جعل {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} إخباريا لكان من كلام الكفار فيختل النظم. وقلت: جعله إخباريًا لا يمنع من أن يكون من كلام الله على سبيل الإنكار، ألا ترى إلى قوله تعالى {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] بكسر الهمزة؟ وتفسير الحسن أنه قول الله يكذبهم. وقد قال المصنف: قول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون على نحو قوله: أفرح أن أرزأ الكرام وأنشدوا لعمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا! .... عدد الرمل والحصى والتراب أي تحبها؟ وبهرًا، أي عجبًا.

وقرئ: (تَذَكَّرُونَ) من ذكر. {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ} أي: حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله، {فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ} الذي أنزل عليكم في ذلك، كقوله: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]، وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، وإنكار فظيع، واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش، وتجهيل نفوسها، واستركاك عقولها، مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدث به نفسًا؛ فضلًا أن يجعله معتقدًا ويتظاهر به مذهبًا. [{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} 158 - 160]. {وَجَعَلُوا} بين الله {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} وأراد الملائكة {نَسَبًا}؛ وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى: جعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت: لم سمي الملائكة جنة؟ قلت: قالوا: الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرًا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرًا كله فهو ملك؛ فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم؛ وضعًا منهم وتقصيرًا بهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "تذكرون"، من ذكر) يعني: بالتخفيف؛ حفص وحمزة والكسائي. قوله: (أن يبلغوا منزلة المناسبة) ينازع فيه قوله: "وضعًا وتقصيرًا"، وقوله: "وإن كانوا معظمين في أنفسهم" تتميز للصيانة. اعترض بين العامل والمعمول، كما في قوله تعالى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].

التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتبان والاستتار- وهو من صفات الأجرام- لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله: أن تسوي بين الملك وبين بعض خواصه ومقربيه، فيقول لك: أتسوي بيني وبين عبدي؟ ! وإذا ذكره في غير هذا المقوم وقره وكناه. والضمير في {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} للكفرى. والمعنى: أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب؛ حيث أضيف إلى علم الذين ادعوا لهم تلك النسبة. وقيل: قالوا: إن الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل: قالوا: إن الله والشيطان أخوان. وعن الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله. ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين: أن يكون الضمير في {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} لهم، والمعنى: أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من المحضرين، معناه: ولكن المخلصين ناجون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمراد المبالغة في التكذيب) يعني كذبهم الله بقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} حيث سماهم بالجنة، ولما أريد التتميم ومزيد المبالغة قيل: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} حيث أوقع الجملة القسمية حالا وأعيد لفظ {الْجِنَّةُ} للتوضيع والتكذيب وجعلهم عالمين بأن معظمهم معذبون بتلك المقالة كما تقول: إن الذي مدحته وعظمته هو الذي يعلم أنك كاذب وهو يسعى في نكالك وخزيك. قوله: (وقيل: قالوا إن الله والشيطان أخوان) قال الإمام: روينا أن قوما من الزنادقة يقولون: إن الله وإبليس أخوان، والله هو الأخ الكريم، وإبليس هو الأخ الشرير الخسيس. وعندى أن هذا القول أقرب وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن.

و {سُبْحَانَ اللَّهِ}: اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في {يَصِفُونَ}، أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصين براء من أن يصفوه به. [{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} 161 - 163]. الضمير في {عَلَيْهِ} لله عز وجل، ومعناه: فإنكم ومعبوديكم {مَا أَنْتُمْ} وهم جميعا {بِفَاتِنِينَ} على الله إلا صاحب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كيف تقول: أفسدها عليه وخببها عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في {يَصِفُونَ} فعلى هذا أيضًا منقطع، ولا يجوز أن يكون متصلا؛ لأن المعنى يأباه. وقيل: يجوز أن يكون الاستثناء من "جعلوا" واختار الواحدي الأول، وهو إنما يحسن كل الحسن، إذا فسر الجن بالشياطين ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] أي: إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في إغوائنا إياهم، لكن الذين أخلصوا لطاعة الله وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون، ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضًا بالمشركين وإرغامًا لأنوفهم ومزيدا لغيظهم، أي أنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول. والله أعلم. قوله: (وخببها عليه)، الجوهري: الخب: الرجل الخداع الحربز. وقد خبب غلامي فلان أي: خدعه. وقيل: خبها؛ من الخب، وهو الطرار، وقيل: التخبيب، تعليم الخب وهو الدهاء، والدهاء العلم بالشر.

ويجوز أن يكون الواو في {وَمَا تَعْبُدُونَ} بمعنى "مع" مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته؛ جاز أن يسكت على قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}؛ لأن قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ساد مسد الخبر، لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أي: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، أي: على ما تعبدون {بِفَاتِنِينَ} بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلاب، {إِلَّا مَنْ هُوَ} ضال مثلكم. أو يكون في أسلوب قوله: فإنك والكتاب إلى علي .... كدابغة وقد حلم الأديم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى مع) قال أبو البقاء: المشهور أن الواو في "وما تعبدون" للعطف، أي إنكم ومعبودكم. وقيل: يضعف أن يكون بمعنى "مع" إذ لا فعل هنا. قوله: (أو يكون في أسلوب قوله: فإنك والكتاب إلى علي) عطف على قوله: (مثلها في قولهم) إلى آخره. أي تكون "الواو" بمعنى "مع" ويكون الخبر "ما أنتم" كقول الشاعر. قال الميداني. كدابغة وقد حلم الأديم. يضرب للأمر الذي قد انتهى فساده، وذلك أن الجلد إذا حلك فليس بعده إصلاح. ويروى عن الوليد بن عقبة أنه كتب إلى معاوية البيت. وقال المفضل: إن المثل لخالد بن معاوية أحد بني عبد شمس بن سعيد حيث قال: قد علمت أحسابنا تميم .... في الحرب حين حلم الأديم

وقرأ الحسن: (صال الجحيم) بضم اللام، وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون جمعًا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف. فإن قلت: كيف استقام الجمع مع قوله: {مَنْ هُوَ}؟ قلت: {مَنْ} موحد اللفظ مجموع المعنى، فحمل هو على لفظه، والصالون على معناه، كما حمل في مواضع من التنزيل على لفظ "من" ومعناه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: الحلم بالتحريك: أن يفسد الإهاب في العمل وبقع فيه دود فيثقب. تقول منه: حلم الأديم؛ بالكسر. يقول: حالك مع كتابك إلى علي، يعني إصلاح شأنك معه بالكتابة إليه بعدما فسد ما بينكما كحال من ترك الأديم حتى فسد ثم أخذ في دباغتها لا يفيده شيء ويبطل سعيه، كذلك أنتم أيها الكفرة مع عبادتكم قرناءكم لا يتسهل لكم أن تفتنوا الناس إلا من هو ضال مثلكم. وفي بعض النسخ: "ويكون في أسلوب قوله: وإنك والكتاب على علي" بالواو وبدل "أو" في "الكشاف" وبـ"على" بدل "إلى" في البيت، وكتب في الحاشية أن الواو في الآية وفي البيت عاطفة، والاستشهاد في "علي"، كأن هذا القائل أراد أن قوله: "بفاتنين" متضمن معنى: باعثين وحاملين فعدي بـ"على" كما عدي الكتاب بـ"على" لتضمنه معنى البعث، فلا يخفى على من له أدنى مسكة بعد هذا التقرير وظهور الأول. قوله: (وقرأ الحسن: "صال الجحيم") قال ابن جني: "صال الجحيم" كان شيخنا أبو علي يحمله على حذف ياء "صال" تخفيفًا، وتعرب اللام بالضم، كما حذفت ياء البالة من قولهم: ما باليت به بالةً، وهي البالية كالعافية والعاقبة. وذهب قطرب إلى أنه جمع "صال" أي: صالون، فحذف النون للإضافة وبقي الواو فحذفت لالتقاء الساكنين، وحمل على معنى "من" لأنه جمع معنى، وهذا حسن. وقول أبي علي وجه مأخوذ به.

في آية واحدة. والثاني: أن يكون أصله: صائل على القلب، ثم يقال: صال في صائل، كقولهم: شاك في شائك. والثالث: أن يحذف لام صال تخفيفًا، ويجرى الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالةً، وأصلها بالية من بالى، كعافية من عافى. ونظيره قراءة من قرأ: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54]، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ} [الرحمن: 24] بإجراء الإعراب على العين. [{ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وإنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} 164 - 166] [{ومَا مِنَّا} أحد {إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون أصله: صائل على القلب) يريد أن أصل "صال" "صائل" و"صائل" مقلوب "صالي" فصار صائلًا ثم حذف الياء، كما أن "شاك" أصله "شائك" مقلوب "شاكي" على أنه أصل لا مقلوب، فإن صاحب "الصحاح" عد شاكي السلاح في باب "شكا" ثم قال: وقال الأخفش: هو مقلوب شاك، فكأنه لا اتفاق على كون "شاك" مقلوبًا، قال صاحب "التقريب"، وقال أبو البقاء: قرئ "صال" بضم اللام في الشاذ، من "صالي" قلب فصار "صائلًا" ثم حذف الياء فبقي "صال". وذكر الجوهري في باب "شوك": شاك الرجل يشاك شوكًا، أي: ظهرت شوكته وشدته، فهو شائك السلاح، وشاكي السلاح أيضًا مقلوب منه. قوله: (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا)، تمامه: متى أضع العمامة تعرفوني

بكفي كان من أرمى البشر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أنا ابن رجل جلا الأمور وكشفها، متى أضع العمامة على رأسي تعرفوني أني من أهل العمامة، والدليل على حذف الموصوف منع التنوين من الابن وامتناع أن يضاف الابن إلى "جلا"؛ لأنه ليس باسم أبيه فيضاف إليه، وإذا جعلناه صفة فلا بد أن يكون فعلًا، ولا يضاف إلى الفعل إلا اسم الزمان والمكان وليس الابن بواحد منهما، فثبت أن المضاف إليه محذوف وهو الموصوف. فإن قلت: فلعل عدم دخول التنوين على "جلا" على مذهب عيسى بن عمر، فمذهبه أن الفعل إذا سمي به كان كونه على صيغة الفعل سببًا والعملية سبب آخر فيمتنع من الصرف، وإن لم يمنع صرف مثله الخليل وسيبوية والجمهور. قلت: ذلك مذهب باطل بدليل ما نقله الثقات من صرف "كعسب"، وهو في الأصل فعل، يقال: كعسب الرجل إذا مشى بإسراع مع تقارب الخطو. ولا تنوين في "جلا" في البيت فيحمل على أنه فعل ماض وقع صفة لموصوف محذوف، وفيه تأويل آخر، وهو أن "جلا" من باب حكاية الجمل كأن "جلا" فيه ضمير فيجب حكايته كما حكى "يزيد" في قوله: نبئت أخوالي بني يزيد قال الميداني: يضرب للمشهور المتعالم، وهو من قول سحيم بن وثيل الرياحي، تقديره: أنا ابن الذي يقال له: جلا الأمور وكشفها. قوله: (بكفي كان من أرمى البشر)، أوله: مالك عندي غير سهم وحجر .... وغير كبداء شديدة الوتر جادت بكفي (أي بكفي شخص) كان من أرمى البشر.

{مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}: مقام في العبادة، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روي: "فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه". {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}: نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، منتظرين ما نؤمر. وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل: إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين. {الْمُسَبِّحُونَ}: المنزهون، أو المصلون. والوجه: أن يكون هذا وما قبله من قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكبداء: القوس الذي يملأ مقبضها الكف، والدليل على حذف الموصوف حذف النون. قوله: (والوجه أن يكون هذا وما قبله) إلى آخره، عطف على قوله: {سُبْحَانَ اللهِ} اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه من حيث المعنى، يعني: يجعل من قوله: {ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} إلى قوله: {وإنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} قصة واحدة؛ ليكون مفرغًا إفراغًا واحدًا، وتقريره: ولما علمت الملائكة أن الكفرة محضرون ومعذبون تبرؤوا منهم ونزهوا الله سبحانه وتعالى بقولهم: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: يصفه هؤلاء ولكن المخلصون برآء مما يصفونه به، ثم التفتوا إلى الكفرة وجاؤوا بالفاء الجزائية، أي إذا صح أنكم تفترون- والله تعالى منزه عما تقولون- وأن المخلصين من عباد الله برآء مما تصفونه، فاعلموا أنكم وآلهتكم لا تقدرون على أن تفتنوا. على الله تعالى من عباده المخلصين الذين اصطفاهم لنفسه، بل الذي تقدرون أن تفتنوه من هو مثلكم ممن قدر الله أنه من أصحاب النار، ولما فرغوا من الاحتجاج رجعوا إلى إظهار العبودية والخضوع لربهم والاعتذار عما نسب إليهم بقوله: {ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} إلى آخره. هذا تقرير حسن، لكن قوله: "ممن علم الله بكفرهم أنهم من أهل النار لا لتقديره وإرادته" تعريج من المحجة، وفسر بمجرد الرأي، حيث فرق بين علم الله وتقديره وإرادته. قال محيي السنة: إلا من قدر الله أنه سيدخل النار أي: سبق له في علم الله الشقاوة.

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] من كلام الملائكة، حتى يتصل بذكرهم في قوله: {ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} [الصافات: 158]، كأنه قيل: ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة، وقالوا: {سُبْحَانَ اللهِ}، فنزهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين، وبرؤوهم منه، وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدًا من خلقه وتضلوه، إلا من كان مثلكم ممن علم الله- لكفرهم، لا لتقديره وإرادته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا- أنهم من أهل النار، وكيف نكون مناسبين لرب العزة وتجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرًا؛ خشوعًا لعظمته وتواضعًا لجلاله، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين، وكما يجب على العباد لربهم. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره. وذلك تصريح بأن المقتضي لوقع هذه الحوادث حكم الله، وكان عمر بن عبد العزبز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب، أي: أن حكم الله بالسعادة والشقاوة هو الذي يؤثر في حصولها. وقلت: ويساعد عليه النظم الذي لخصناه. قوله: (أنهم من أهل النار) متعلق بقوله: "علم الله"، أي: علم الله بسبب كفرهم أنهم من أهل النار، وقوله: "ويجمعنا وإياه" داخل في حيز الإنكار، أي: كيف تجمعنا والله سبحانه وتعالى جنسية؟ ! قوله: (أن يزل عنه ظفرًا)، أي: مقدار ظفر، كقوله: وقد جعلتني من خزيمة أصبعًا قوله: (وكما يجب على العباد) تقديره: ونحن- كما ذكرنا- خاضعين مسبحين، وكما يجب على العباد لربهم من الطاعة.

هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثُكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه. [{وإن كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 167 - 170] هم مشركو قريش كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا} أي: كتابًا {مِنَ} كتب {الْأَوَّلِينَ} الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ولا خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب، فكفروا به، ونحوه {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42]، فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. و {إِن} هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة؛ وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه، فكم بين أول أمرهم وآخره! [{ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} 171 - 173] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعلى هذا يكون قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} اعترضًا، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم استطرادًا؛ لأنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستفتاء عن وجه تلك القسمة الضيزى التي قسموها بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ ولَهُمُ البَنُونَ} وبالإنكار البليغ واستجهال النفوس واستركاك العقول سخطًا عليهم وغضبًا على تلك المقالة الشنيعة أتى بما دل على ضد ذلك من معنى الرضا عن المؤمنين لأجل أعمالهم الصالحة من الصلاة في الجماعات، وتسبيح الله وتنزيهه عما أضاف إليه الكفرة.

الكلمة: قوله: {إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}، وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدة؛ لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت حكم كلمة مفردة. وقرئ: (كلماتنا). والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال تعالى: {والَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} [البقرة: 212]، ولا يلزم انهزامهم في بعض المشاهد، وما جرى عليهم من القتل؛ فإن الغلبة كانت لهم يحتذى عليها وعبرًا يعتبر بها. وعن الحسن رحمه الله: ما غلب نبي في حرب ولا قيل فيها. ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه: الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة، والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وفي قراءة ابن مسعود: (على عبادنا)، على تضمين {سبقت} معنى حقت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكلمة: قوله {إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وإنَّ جُندَنَا})، الراغب: يقال للعسكر: الجند اعتبارًا بالغلظة من الجند أي: الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع: جند، نحو"الأرواح جنود مجندة" والجمع: أجناد وجنود. قال الله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9]. قوله: (كانت في حكم كلمة مفردة) عن بعضهم: نظير "الكلمة"، "الثمرة" يقال: باع فلان ثمرة بستانه، وإن كانت ثمرات، ويقال للقرية: مدرة؛ لأنها لما اجتمعت وتضامت صارت في حكم شيء واحد.

[{فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 174 - 175] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}: فأعرض عنهم وأغض على أذاهم {حَتَّى حِينٍ}: إلى مدة يسيرة؛ وهي مدة الكف عن القتال. وعن السدي: إلى يوم بدر. وقيل: الموت. وقيل: إلى يوم القيامة. {وَأَبْصِرْهُمْ} وما يقتضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك، وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإربصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك. وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للوعيد كما سلف، لا للتبعيد. [{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ (177) وتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} 176 - 179] مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض بصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرًا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة، فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الدلالة على أنها كائنة) يعني: إنما أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {وَأَبْصِرْهُمْ} والمبصر منتظر بعد، للدلالة على أن وعد الله الآتي بمنزلة الكائن استحضارًا لتلك الحالة الآتية، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12]. قوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للوعيد كما سلف)، يعني: قوله: " {وَأَبْصِرْهُمْ} وما يقضى عليهم من الأسر" إلى قوله: "وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة" لا للتعبيد، كما تقول: سوف أنتقم منك، وأنت متهيئ للانتقام. قوله: (فشن عليهم الغارة) شن الماء على الشراب: فرقه عليه، ومنه قيل: شن عليهم الغارة وأشن، إذا فرقها عليهم من كل وجه.

مغاويرهم أن يغيروا صباحًا، فسميت الغارة "صباحًا"، وإن وقعت في آخر. وما فصحت هذه الآية، ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك تواردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. وقرأ ابن مسعود: (فبئس صباح). وقرئ: (نزل بساحتهم) على إسناده إلى الجار والمجرور، كقولك: ذهب بزيد، و (نزل) على: ونزل العذاب. والمعنى: فساء صباح المنذرين صباحهم. واللام في {الْمُنذِرِينَ} مبهم في جنس من أنذروا؛ لأن "ساء" و"بئس" يقتضيان ذلك. وقيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وعن أنس رضي الله عنه: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي، قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه السلام: "الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وإنما ثني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مغاويرهم) جمع مغوار، وهو كثير الغارة. الجوهري: رجل مغوار ومغاور، أي: مقاتل، وقوم مغاوير، وخيل مغيرة. قوله: (واللام في {الْمُنذِرِينَ} مبهم في جنس من أنذروا) ولا يجوز أن يكون للعهد؛ لأن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع للإبهام والتفصيل. لا يجوز أن تقول: بئس الرجل هذا، ونعم الرجل هذا، إذا أردت رجلًا بعينه. قوله: (وعن أنس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عنه مع زيادات، وهذه الرواية مختصر منه. النهاية: الخميس: الجيش، سمي به لأنه مقسوم خمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم. و"محمد" خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا محمد صلوات الله عليه.

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ}؛ ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدًا لوقع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة؛ وهي إطلاق الفعلين معًا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة. [{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 180 - 182] أضيف الرب إلى العزة؛ لا ختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق؛ لا ختصاصة بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي إطلاق الفعلين) وهما في قوله {وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}، أي: انتظر حتى ترى ويرون. قوله: (كما تقول: "صاحب صدق" لا ختصاصه بالصدق) قال في قوله تعالى: {عَذَابَ الْهُونِ} [الانعام: 93]: "أضاف العذاب إليه، كقوله: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه"، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وهي مصدر نحو، رجل عدل، فإذا تجسم من الصدق فلا يكون شيئًا غيره، فيلزم أن يكون مختصًا به، وإليه الإشارة بقوله: "لاختصاصه به"، ويجوز أن تكون الإضافه بمعنى اللام، كقوله تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله: {رَبِّ الْعَرْشِ} [الزخرف: 82] والتعريف في "العزة" للجنس، فإذا كان مالك جنس العزة هو الله فلا يكون أحد معتزًا إلا به، وإليه الإشارة بقوله: "ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا هو ربها ومالكها".

وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم؛ فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين، {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} على ما قيض لهم من حسن العواقب، والغرض تعليم المؤمنين أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما عاناه)، الجوهري: المعاناة: المقاساة، يقال: عاناه وتعناه وتعنى. قوله: (قيض لهم)، الجوهري: قيض الله فلانا لفلان، أي: جاءه به وأباحه له. قوله: (والغرض تعليم المؤمنين) يريد أن هذه الآية لما كانت خاتمة لما تضمنته السورة من تخاليط المشركين وتكاذبهم ونسبتهم إلى جلاله الأقدس ما لا يليق بجنابه، ومن فرطاتهم مع أنبيائه والصالحين من عباده وتجرعهم الغصص، ومن وخامة حالة المكذبين وحسن عاقبة المرسلين، وفذلكة لذلك التفصيل كانت أيضًا تعليمًا للمؤمنين؛ لأنه لا يخلو كل مقام يجلس فيه الإنسان من فلتات وهفوات ومن كلمات فيها رضي الله وسخطه، فالواجب على المؤمن إذا قام من مجلسه أن يتلو هذه الآية لتكون مكفرة لتلك السقطات ومحمدةً لما وفق من الطيبات، ومن ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: "كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو. وأخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم بكلمات، فسألت عائشة عن الكلمات، فقال: إن تكلم بخير كان طابعًا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بشر كانت كفارةً له: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

يقولوا ذلك، ولا يخلوا به، ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم، ومودعات قرآنه المجيد. وعن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} إلى آخر السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {وَالصَّافَّاتِ} أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم)، يعني: كما وقفتم على هذه الخاتمة وتضمنها لهذا المطلب الشريف كذلك سائر كتابه الكريم مودع تحت كل كلمة منه أسرار دقيقة وإشارات وتلويحات، فلا تغفلوا عنها. رزقنا الله بفضله العميم التوفيق للعمل بما فيه كما يرضيه، ووفقنا بكرمه الجسيم للاطلاع على تلك الأسرار، إنه هو البر الرحيم. تمت السورة حامدًا ومصليًا على رسوله. * * *

سورة ص

سورة ص مكية، وهي ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} 1 - 2] (صاد) على الوقف، وهي أكثر القراءة، وقرئ بالكسر والفتح؛ لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: الله لأفعلن، بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجر، كقولهم: الله لأفعلن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة ص مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل: ثمان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وقرئ بالكسر والفتح)، قال الإمام: قرأ الحسن: بكسر الدال لالتقاء الساكنين، وعيسى بن عمر: بنصبها وبحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: "الله لأفعلن"، وأكثر القراء على الةقف؛ لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر. قوله: (أو بإضمار حرف القسم)، عطف على قوله: "بحذف حرف القسم"، والفرق

بالجر، وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث؛ لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ: (صاد) بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل. وقيل فيمن كسر: هو من المصاداة؛ وهي المعارضة والمعادلة، ومنها الصدى؛ وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت: قوله: {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين الحذف والإضمار: أن المحذوف متروك أصلًا فلا يكون فيما يقوم مقامه أثر منه، والمضمر بخلافه. روي عن المصنف: "أقسمت" يعمل في اسم "الله" بواسطة الباء إذا كسرت، وإذا فتحت فقد حذفت وصار " أقسمت" عاملًا في الاسم من غير واسطة. فإن قلت: هذا يخالف ما سبق في "البقرة" أن انتصابها بفعل مضمر نحو: "اذكر"، لا أنه مقسم بها، وانتصب قولهم: "الله لأفعلن" على حذف حرف الجر، إلى آخر السؤال، ويمكن أن يقال: إن المصنف قفا ها هنا أثر الزجاج، فإنه قال: وقيل: إنها قسم، و {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} عطف عليها، المعنى: أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر. تم كلامه. ولأنه لم يمنع الجواز هناك ولكن ذكر ما لزم منه الاستكراه، بل ذكر ما يدل على أن هذا أيضًا وجه حيث قال: والأوجه أن يقال: ذاك نصب. قوله: (وقيل فيمن كسر: هو من المصاداة)، قال ابن جني: المأثور عن الحسن: بكسر الدال من المصاداة، أي: عارض عملك بالقرآن. قال أبو علي: هو فاعل من الصدى، وليس فيه أكثر من جعل "الواو" بمعنى الباء في غير القسم. وقال الزجاج: المعنى: صاد القرآن بعملك، من قولك: صادى يصادي؛ إذا قابل وعادل، يقال: صاديته؛ بمعنى: قابلته.

عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} كلام ظاهره متنافر غير منتظم، فما وجه انتظامه؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، كما مر في أول الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب؛ لدلالة التحدي عليه، كأنه قال: {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون {ص} خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه صاد، يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إنه لمعجز، ثم قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق، و {شِقَاقٍ} لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسمًا بها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ظاهره متنافر غير متنظم)، يعني: لم يذكر المقسم عليه ملم يبين المضرب عنه. وفي كلامه سوء أدب، ولذلك قال الإمام: وفيه إشكالان: أحدهما: أن هنا مقسما به وليس له مقسم عليه، وثانيهما: {بَلِ يقتضي رفع حكم ثبت وإثبات ما يناقضه، فأين ذلك هنا؟ قوله: (وكذلك إذا أقسم بها)، أي: كذلك يكون"صاد" اسما للسورة. وحاصل الجواب: أن"صاد" إذا كان تعدادًا للحروف: إما للإيقاظ وقرع العصا، أو تقدمة لدلائل الإعجاز كان {وَالْقُرْآنِ} إنشاء قسم والجواب محذوف. وإذا كان اسمًا للسورة: إما أن يكون خبر مبتدأ محذوف أو مقسم بها، و {بَلِ} اسمًا للحروف أو خبر مبتدأ محذوف، وكان {وَالْقُرْآنِ} اسمًا للسورة لما يلزم من جعلها اسمًا للسورة وجعل القرآن اسمًا لها عطف الشيء على نفسه فنذهب إما: إلى عطف العام على الخاص أو: إلى الأسلوب التجريدي، والواو متعينة للعطف؛ لئلا يجتمع قسمان على مقسم به واحد كما سبق. قوله: (ثم قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاقٍ} واستكبار عن الإذعان)، عن بعضهم: هو كما يقال: فلان عفيف جواد، بل قومه استخفوا به.

وعطفت عليها {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}؛ جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها، ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر: الشرف والشهرة، من قولك: فلان مذكور، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]؛ أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: فائدة {بَلِ} ها هنا تصحيح ما قبله وإبطال ما بعده. فإنه دل بقوله: {والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أن القرآن مقر للتذكير وأن امتناع الكفار من الإصغاء إليه أن ليس موضعًا للذكر بل لتعززهم ومشاقتهم. قوله: (ولا تريد بالنسمة غير الرجل)، فيكون من عطف الشيء على نفسه لكن هو من باب التجريد؛ جرد من الرجل آخر مثله متصف بصفة البركة، وعطفه عليه كأنه غيره وهو هو، قال في قوله تعال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: 48]، أي آتيناهما الفرقان وهو التوراة وأتينا به ضياء وذكرًا حيث أتى بالباء التجريدية في التفسير نحو: رأيت بك أسدًا. قوله (أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين)، الراغب: الذكر تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها يتمكن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإجرازه، والذكر اعتبارًا باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشيء: القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكل منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان؛ بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر. فمن الذكر باللسان قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله: {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، وقوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا} [الطلاق: 10 - 11]، فقد قيل: الذكر هاهنا وصف للنبي صلى الله عليه وسلم كما أن "كلمة" وصف لعيسى عليه السلام من حيث إنه صلى الله عليه وسلم بشر به في الكتب المتقدمة فيكون قوله: "رسولًا" بدلًا منه.

الأنبياء والوعد والوعيد. والتنكير في {عِزَّةٍ وشِقَاقٍ}؛ للدلالة على شدتهما وتفاقمهما. وقرئ: (في غرة) أي: في غفلة عما يجب عليهم من النظر وأتباع الحق. [{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا ولاتَ حِينَ مَنَاصٍ} 3] {كَمْ أَهْلَكْنَا}: وعيد لذوي العزة والشقاق، {فَنَادَوْا}: فدعوا واستغاثوا، عن الحسن: (فنادوا بالتوبة). و"لات": هي"لا" المشبهة بـ"ليس"، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على"رب"، و"ثم" للتوكيد، وتغير بذلك حكمها؛ حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد مقتضييها: إما الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن الذكر عن النسيان: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]، ومن الذكر بالقلب واللسان معا: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، و {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. قوله: (و"لات": هي لا المشبهة بـ"ليس")، قيل: مذهب البصريين أن "لات" بمعنى: "ليس" والكوفيين أنها لنفي الجنس، وهذا أولى لكثرتها في الاستعمال، وبمعنى: "ليس" إنما يكون في الشعر، فوجب أن يكون يحمل ما في القرآن على الشائع لا على القليل. وحجة البصريين أن تاء التأنيث من خواص الفعل فوجب أن تكن المشبهة بالفعل، وإلحاق التاء في التي لنفي الجنس بعيد. قوله: (لم تدخل إلا على الأحيان)، قيل: إنما اختصت بها لما في دخولها على غيرها من إلباس؛ لأن "لا" ليست لنفي الحال صريحًا فيختص دخولها على الأحيان، بخلاف "ليس" لأنها أينما وقعت؛ وقعت لنفي الحال فلا يختص بالأحيان. قوله: (إلا أحد مقتضييها: إما الاسم وإما الخبر)، على حسب اختلاف القراءتين في {حِينَ}: النصب والرفع، فمن نصب فتقديره: "ولات الحين حين مناص"، ومن رفع فتقديره: "ولات حين مناص حاصلًا لهم".

جيمعًا، وهذا مذهب الخليل وسيبوية. وعند الأخفش: أنها "لا" النافية للجنس، زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. و {حِينَ مَنَاصٍ} منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم. وعنه: أن ما ينتصب بعده بفعل مضمر، أي: ولا أرى حين مناص ويرتفع بالابتداء، أي: ولا حين مناص كائن لهم، وعندهما أن النصب على: ولات الحين حين مناص، أي: وليس الحين حين مناص؛ والرفع على: ولات حين مناص؛ حاصلًا لهم. وقرئ: (حين مناص) بالكسر، ومثله قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا ولات أوان .... فأجبنا أن لات حين بقاء فإن قلت: ما وجه الكسر في "أوان"؟ قلت: شبه بـ"إذ" في قوله: وأنت إذ صحيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعندهما)، أي: عند الخليل وسيبويه. قال الزجاج: أما من نصب فعلى أنها عملت عمل"ليس". المعنى: وليس الوقت حين مناص. ومن رفع بها جعل {حِينَ} اسم "ليس" وأضمر الخبر، على معنى: ليس حين منجى لنا، ومن خفض جعلها مبنية مكسورة لالتقاء الساكنين، والمعنى: ليس حين مناصنا، فلما قال: "ولات أوان" جعله على معنى: "ليس أواننا"، فلما حذف المضاف إليه بنى على الوقف ثم كسر لالتقاء الساكنين، والكسر شبيه بالخطأ عند البصريين. قوله: (أن لات حين بقاء) أي: "إبقاء"، وضع "البقاء" موضع "الإبقاء"، كالعطاء يوضع موضع الإعطاء. قوله: (شبه بـ"إذ" في قوله: وأنت إذ صحيح)، أوله في "المطلع": نهيتك عن طلابك أم عمرو .... بعاقبة قبله:

في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين؛ لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في {حِينَ مَنَاصٍ} والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص- لأن أصله: حين مناصهم- منزلة قطعه من حين؛ لاتخاذ المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضًا من الضمير المحذوف، ثم بني الحين لكونه مضافًا إلى غير متمكن. وقرئ: (ولات) بكسر التاء على البناء، كجير. فإن قلت: كيف يوقف عليها بالتاء، كما تقف على الفعل الذي تتصل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جمالك أيها القلب الجريح .... ستلقى من تحب فتستريح أي: نهيتك عن طلابك إياها بذكر سوء عاقبة الهوى وأنت إذ ذاك، أي: زمان النهي، صحيح القلب فلم تقبل نصحي، ولم تنته بنهي، فلا حيلة بعده، فحذف ذلك ووضع التنوين موضعه، فكسر المفتوح تشبيها بـ"إذ"؛ لأنه زمان مثله فحذف منه المضاف إليه. قوله: (لكونه مضافًا إلى غير متمكن) قيل: الضمير في"لكونه" راجع إلى "المناص"، لا إلى {حِينَ} ضرورة كون المناص في "مناصهم" مضافًا إلى الضمير وهو غير متمكن، ولك أن تجعل الضمير للحين؛ لأن قطع المضاف إليه كقطع المضاف، وإضافته إلى المبني كإضافته. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن الإضافة إلى المضمر لا توجب بناءه كغلامك، وأما "إذ" فبناؤه لإضافته إلى الجملة فيستبقى بناؤه بعد حذفها. قوله: (كجير) معناه: حقًا، كذا جاءت في كلامهم مكسورًا. قوله: (يوقف عليها بالتاء) قال أبو علي في "الإغفال": ينبغي أن يكون الوقف بالتاء؛ لأنه لا خلاف في أن الوقف على الفعل بالتاء، والحرف أشبه بالفعل منه بالاسم من حيث إن الفعل كان ثانيًا والاسم أولًا، فالحرف أشبه منه بالأول، وأيضًا إذا كانت هذه

به تاء التأنيث. وأما الكسائي فيقف عليها بالهاء، كما يقف على الأسماء المؤنثة. وأما قول أبي عبيد: إن التاء داخلة على حين: فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بـ"حين" في الإمام: لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص: المنجا والفوت، يقال: ناصه ينوصه؛ إذا فاته. واستناص: طلب المناص. قال حارثة بن بدر: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التاء في بعض اللغات تترك تاء في الأسماء كما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب وكما أنشده أبو الحسن: بل جوز تيهاء كظهر الحجفت فأن تترك في الحرف ولا تقلب أجدر. قوله: (واستشهاده بأن التاء ملتزقة بـ {حِينَ} في الإمام: لا متشبث به)، وأنشد صاحب "المطلع": العاطفون تحين ما من عاطف .... والمطعمون تحين ما من مطعم قال المصنف: وإنما لم تغير لأنه لو أطلق لأدى إلى أمر عظيم، فربما غيروا ما لا يجوز تغييره.

غمر الجراء إذا قصرت عنانه .... بيدي استناص ورام جري المسحل [{وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4 - 5] {مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ}: رسول من أنفسهم، {وقَالَ الكَافِرُونَ} ولم يقل: وقالوا؛ إظهارًا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر، المنهمكون في الغي، الذين قال فيهم: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151]، وهل ترى كفرًا أعظم وجهلًا أبلغ من أن يسموا من صدقه الله بوحيه كاذبًا، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الذي لا يصح غيره، ولا يتعجبوا من الشرك، وهو الباطل الذي لا وجه لصحته؟ ! روي: أن إسلام عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون فرحًا شديدًا، وشق على قريش، وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسًا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غمر الجراء) البيت، أي: كثير المجاراة، واستناص: طلب النوص، أي: الفوت، و"المسحل" حمار الوحش. يصف فرسًا. الراغب: ناص إلى كذا: التجأ إليه، وناص عنه: ارتد، ينوص نوصًا، والمناص: الملجأ. قوله: (ومشوا إلى أبي طالب)، الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن ابن عباس، قال: مرض أبو طالب، فجاءت قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه من الجلوس فيه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: "أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية" قال: كلمة واحدة؟ ! فقال: "يا عم قولوا: لا إله إلا الله" فقالوا: إلهًا واحدًا؟ ! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، فنزل فيهم القرآن.

ما فعل هؤلاء السفهاء- يريدون: الذين دخلوا في الإسلام- وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا يسألونني؟ " قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال عليه السلام: "أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ " فقالوا: نعم وعشرًا، أي: نعطيكها وعشر كلمات معها، فقال: "قولوا: لا إله إلا الله"، فقاموا، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}؟ ! أي: بليغ في العجب. وقرئ: (عجاب) بالتشديد، كقوله تعالى: {مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] وهو أبلغ من المخفف، ونظيره: كريم وكرام وكرام. وقوله: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا} مثل قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم، كأنه قال: أجعل الجماعة واحدًا في قوله؛ لأن ذلك في الفعل محال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أجعل الجماعة واحدًا في قوله)، أي: سمى الآلهة إلها واحدًا، فالجعل بمعنى: التصيير في القول، وبمعنى: التسمية؛ لأن هذا المعنى في الفعل محال لا يقدر أحد أن يجعل الجماعة إنسانًا واحدًا. قال الإمام بعدما نقل كلام المصنف، أقول: إن منشأ التعجب من وجهين: أحدهما: أن القوم ما كانوا أصحاب نظر واستدلال، بل كانت أوهامهم تابعةً للمحسوسات، فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا يفي قدرته وعلمه بحفظ الخلائق، قاسوا الغائب على الشاهد، فكذلك المجسمة فإنهم يقولون: لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسمًا متحيزًا يجب في الغائب، وكذا قول المعتزلة فإنهم يقولون: إن الأمر الفلاني قبيح منا فيجب أن يكون قبيحًا من الله تعالى. والثاني. أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا مطبقين في الشرك، توهموا أن كونهم

[{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ * ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 6 - 7] {الْمَلَأُ}: أشرف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا} فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد، {إِنَّ هَذَا} الأمر {لَشَيْءٌ يُرادُ} أي: يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا، فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد، أي: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. و {أَنْ} بمعنى أي: لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على هذه الحال محال أن يكونوا مبطلين ويكون الإنسان الواحد محقا، فلعمري لو كان التقليد حقا لكانت هذه الشبهة لازمة. قوله: (أو إن دينكم لشيء يراد)، تبعه الإمام في الوجود الثلاثة. فإن قيل: مقتضى النظم أن يكون المشار إليه المشي والصبر على آلهتهم، أي: هذا هو المطلوب الآن، ومن ثم عقبوه بقوله: {ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} إذا لو قيل: إن هذا لشيء يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه لم يستقم {إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ}؟ أجيب: أن هذا القول صدر عنهم من الحسد، كما نص عليه المصنف، ألا يرى كيف أردفوه بقوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} أي: القرآن؛ لأن القوم معاندة. قوله: (وتغلبوا عليه)، الأساس: غلبته على الشيء: أخذته منه، وهو مغلوب عليه. ويقال: أيغلب أحدكم أن يصاحب الناس معروفًا؟ أي: أيعجز؟ قوله: (لأن المنطلقين عن مجلس التقاول) يعني: الواجب أن يجعل {أَنْ} مفسرة؛ لأن {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} متضمن لمعنى القول على العادة المألوفة، وإنما قلنا: المألوفة؛

القول. يجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أي: اكثروا واجتمعوا، من: مشت المرأة؛ إذا كثرت ولادتها، ومنه: الماشية؛ للتفؤل، كما قيل لها: الفاشية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضموا فواشيكم". ومعنى {وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ}: واصبروا على عبادتها والتمسك بها؛ حتى لا تزالوا عنها. وقرئ: (وانطلق الملأ منهم امشوا) بغير {أَنِ} على إضمار القول. وعن ابن مسعود: (وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا). {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}: في ملة عيسى التي هي آخر الملل؛ لأن النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو: في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو: ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} حالًا من {هَذَا}، ولا يعلقه بـ {مَا سَمِعْنَا} كما في الوجهين. والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. ما {هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} أي: افتعال وكذب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليعلم أن ليس المراد أن"انطلق" متضمن معنى القول، نحو "إني أحمد إليك فلانًا"، ولا يجوز أيضًا أن يقدر القول بأن يقال: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} قائلين: أن امشوا؛ لأن {أَن} المفسرة دافعة لذلك. قال المصنف في قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 117]: أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير، لا نقول: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله. وقلت: لأن المفسرة تقتضي سبق المبهم لتوضحه وتبين أن المعني به القول، والقول لا يفتقر إلى البيان. قوله: (كما في الوجهين)، يعني: الظرف كان معلقًا بقوله: {سَمِعْنَا} على أن يراد بالملة الآخرة ملة عيسى، أو قريش على أن يراد بها الملة المتجددة، وهي: ما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون حالًا من اسم الإشارة أي: ما سمعنا أن يتجدد مثل هذه في الملة الآخرة؛ لأن الظرف حينئذ مستقر وبيان لاسم الإشارة وعلى الأولين كان لغوًا.

[{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ * جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} 8 - 11] أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم: {إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ} كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد. {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ، يعني: أنهم لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد)، يريد أن الاضراب الثاني متعلق بالكلامين بمعنى: لما وبخهم أولًا على ما بهم من الحسد وما تغلي به صدورهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختص بشرف النبوة من بينهم، ثم على الشك فيما لا شك فيه ولا يحوم حوله، جاء بتوبيخ أغلط منهما أي: بل لم يذوقوا عذابي بعد، وإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك. والظاهر أن قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} متصل بفاتحة السورة، أي: بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}؛ لأنهما حديثان في الذكر. ومن قوله: {وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ} إلى ههنا حديث في النبوة، فيكون {بَلِ} إضرابًا عما أثبت في الإضراب السابق كأنه لما قيل: أقسمت بـ {ص والْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، أن صدقه ظاهر وحقيقته مكشوف {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ}: في عناد واستكبار عن الإذعان لذلك، وفي شقاق لله ولرسوله، ثم عقب بقوله: {وعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} مستطردًا، وبين تعجبهم بقوله: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا} بناء على التقليد، ثم بقوله: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} بناء على الحسد، فهم من ذلك: أنهم مترددون في أنفسهم في أن القرآن: إما حق وإما باطل كما قال: يقولون في أنفسهم: إما وإما، فحين نظروا إلى نظمه وإعجازه قالوا: حق، وحين نظروا إلى التقليد إلى أنهم أحق به منه قالوا: هو باطل، فأضرب الله تعالى عن إثبات العزة والشقاق بقوله:

يصدقون به إلا يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يعني: ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا، ويتخيروا للنبوة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه السلام. وإنما الذي يملك الرحمة وخزانها العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي}، وحين كان بناء الشك على شبهة ركيكة ومقدمة واهية لا تقاوم ذلك اليقين، أضرب عنه بقوله: {بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.ثم جيء بإضراب آخر على أسلوب غير الأول وهو قوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}. وقال الزجاج: وجه اتصال {أَمْ} عندهم بقوله: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} هو: أنهم لما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من فضل النبوة أعلم الله تعالى أن الملك له، والرسالة إليه يصطفي من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزل الرحمة على من يشاء. وقلت: إلى معنى هذا الترقي ينظر قول من قال: ألا قل لمن ظل لي حاسدًا .... أتدري على من أسات الأدب؟ أسأءت على الله في حكمه .... لأنك لم ترض لي ما وهب قوله: (ويترفعوا بها عن محمد صلوات الله عليه)، الجوهري: الرفع: خلاف الوضع، رفعته فارتفع، ورفع رفعة، أي: ارتفع قدره. قوله: (العزيز القاهر على خلقه)، المتصرف في ملكه كيف يشاء، ليس لأحد أن يمنعه من ذلك يهب لمن يشاء ما يشاء، ولذلك أردف بقوله: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ}. وأما معنى المبالغة في {الْوَهَّابِ}: فراجع إلى خطر الموهبة وعظمها، وهي: النبوة. هذا أنسب مما قال: " {الْوَهَّابِ}: الكثير المواهب" إلى آخره. وفيه: أن النبوة ليست بمكتسبة، بل هي موهبة ربانية يختص بها من يشاء من عباده، وأن يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدالته اعتزال خفي.

بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: 32]، ثم رشح هذا المعنى فقال: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء؟ ! ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا تحق له {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ}: فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خسأة عن ذلك بقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ} يريد: ما هم إلا جند من الكفار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم رشح)، أي: ربي، الجوهري: فلان يرشح للوزارة، أي: يربي ويؤهل لها، ومنه الترشيح في الاستعارة. وخلاصته: أنه ترقى من لإضراب الأول وتمم ما أفاده من المبالغة، فإن قوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ} أفاد تقريرًا بأن الله العزيز الوهاب وضع عندهم خزائنه وأمرهم أن يقسموها على من أرادوا، فإن قوله: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} دل على: اتصافهم بصفة الربوبية واستقلالهم بالمالكية تهكمًا، انظر إلى هذا التغليظ في شأن الحاسد وحسده. قوله: (فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه)، الانتصاف: الاستواء المنسوب إلى الله ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج، فليس استواؤه اسقرارًا، بل لما خلق الله الخلق فعل فيه فعلًا سماه استواء، وعبارة الزمخشري ها هنا ليست بجتدة. وقلت: ما أحسن عبارته لو تأمل فيه! قوله: (ما هم إلا جند من الكفار)، هذا يشعر بأن {مَا} مزيدة، والتنكير للتفخيم، وفيها معنى الاستعظام، لكن حاصل الكلام ودلالة المقام مؤذنان بالتحقير، وإليه الإشارة

المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون. و {مَّا} مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس: وحديث ما على قصره إلا أنه على سبيل الهزء. و {هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: "إلا أنه على سبيل الهزء" قال أبو البقاء: قوله تعالى: {جُندٌ} مبتدأ، و {مَّا} مزيدة، و {هُنَالِكَ} نعت، و {مَهْزُومٌ} الخبر. ويجوز أن يكون {هُنَالِكَ} ظرفًا لـ {مَهْزُومٌ}، و {مِنَ الْأَحْزَابِ} يجوز أن يكون نعتًا لـ {جُندٌ} وأن يتعلق بـ {مَهْزُومٌ}، وأن يكون نعتًا لـ {مَهْزُومٌ}. قوله: (وحديث ما على قصره)، أي: حديث عظيم على قصره، وهو مستشهد للاستعظام، وفي بعض الحواشي عن المنصف: أوله: وحديث الركب يوم هنا يريد اليوم الأول. قال الأصمعي: يوم معروف وما حسبوا، أي: هو لنا سار على قصره، كأنه قال: وحديث، أي: حديث يعمني بالحسن، ولو حذف {مَّا} اختل هذا المعنى، والتنكير وإن أفاد تعظيمًا لكن الشياع المستفاد من { ... } كالنص على هذا المعنى. قوله: (من الانتداب)، الأساس: تكلم فانتدب له فلان؛ إذا عارضه، وندب لكذا، أو إلى كذا، فانتدب له. قوله: (لست هنالك)، أي: ليس هذا مما يليق بأمثالك؛ لأنك أحط منزلة من أن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تباشره. ومنه حديث الشفاعة في الصحيحين وقول الأنبياء: "لست هناكم" ومنه حديث النبيذ: "تعدي طوره"، أي: جاوز حده وحاله الذي يخصه. ذكره صاحب"النهاية" فظهر أن {هُنَالِكَ} هنا كناية عن تحقير شأنهم، ولهذا قال: {هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانيداب لمثل ذلك القول العظيم، يعني: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، والذي يستدعي هذا التفسير مراعاة النظم؛ لأن قولهم ذلك اقتضى أن يقال فيهم: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وأن يرفع من قدرهم إلى أوج أعلى عليين تهكما ثم يحط إلى حضيض أسفل السافلين استخفافًا، وعلى الأول الإشارة بقوله: "يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه" وإلى الثاني بقوله: "ثم خسأهم خسأةً"، أي: زجرهم زجر الكلب. فإن قلت: قوله: ({هُنَالِكَ} إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم" كيف يلتئم مع قوله: "ما هم إلا جند من الكفار المتجرئين على رسول الله مهزوم مكسور عما قريب"، وكان الهزم والكسر يوم بدر، وذلك يقتضي أن يكون المشار إليه يوم بدر، على أن المفسرين صرحوا به؟ قال الواحدي: المشار إليه بقوله {هُنَالِكَ}: يوم بدر ومصارعهم. وقال الإمام: قيل: يوم بدر، وقيل: يوم الخندق. والأصوب عندي: يوم فتح مكة؛ لأنهم حينئذ انهزموا في موضع تكلموا فيه بهذه الكلمات. قلت: إلالتئام على تأويله سهل؛ لأنه قال: هؤلاء الحمقى الذين وضعوا أنفسهم فيما هم ليسوا من أهله تراهم مهزومين مكسورين عن قريب، فمن أين لهم التدابير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية؟ ! ولا تكترث بقولهم ولا تبال بهم، فجعل الانتداب لمثل ذلك القول علة للهزم لا ينافي إرادة الهزم يوم بدر مثلًا.

[{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إن كُلٌّ إلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * ومَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} 12 - 15] {ذُو الأَوْتَادِ} أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال: والبيت لا يبتنى إلا على عمد .... ولا عمادً إذا لم ترس أوتاد فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود: في ظل ملك ثابت الأوتاد وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار: طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والبيت لا يبتنى)، البيت، "لم ترس": لم تثبت، وكل ثابت فهو راس. قوله: (في ظل ملك ثابت الأوتاد)، قبله: ماذا أؤمل بعد آل محرق .... تركوا منازلهم وآل إياد؟ جرت الرياح على مقر ديارهم .... فكأنهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة .... في ظل ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به .... يومًا يصير إلى بلًى ونفاد "غنوا" أي: أقاموا. قوله: (يشبح المعذب)، الأساس: شبح الإهاب: مده بين الأوتاد، وشبحه بين العقابين.

بها بين يديه. {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ}: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب. ولقد ذكر تكذيبهم أولًا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها: بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل؛ لأنهم إذا كذبوا واحدًا منهم فقد كذبوهم جميعًا. وفي تكرير التكذيب، وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولًا وبالاستثنائية ثانيًا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم هم)، يعني: أن المشار إليه بقوله: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} السابق وهو جنس الأحزاب، يدلك عليه وجوه: أحدها: قوله: "من الكفار المتحزبين على رسل الله"، و"من" للتبعيض. وثانيها: قوله: "ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بها"، بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل. وثالثها: قوله: "ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب"، أي: الأحزاب المذكورة في قوله تعالى: {قَوْمُ نُوحٍ وعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} ولما أن أسماء الإشارة تقتضي أن يكون المشار إليه محسوسًا أو في حكم المحسوس، قال لاستحضارهم بالذكر أو لأنهم كالحضور عند الله. قال صاحب"الانتصاف": كرر لفظ الأحزاب في الموضعين؛ تنبيهًا على أن الأولين والآخرين من واد واحد في التحزب على الأنبياء. قوله: (في الجملة الخبرية)، وهي: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} لم يرد بها الخبرية التي في مقابلة الطلبية؛ لأن الجملة الاستثنائية أيضًا خبرية، بل يراد بها مطلق الإخبار عن المعنى الواقع، فإنه في مقابلة الاستثنائي.

العقاب وأبلغه. ثم قال: {فَحَقَّ عِقَابِ} أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. {هَؤُلاَءِ}: أهل مكة، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب؛ لاستحضارهم بالذكر، أو لأنهم كالحضور عند الله. والصيحة: النفخة، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} - وقرئ بالضم- ما لها من توقف مقدار فواق؛ وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع. يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً} [النحل: 61] وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد، من: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم)، يريد أن الفاء في قوله: {إن كُلٌّ إلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} جزاء شرط محذوف، وتقديره: أن هؤلاء الجند المهزوم من أهل مكة هم من جملة الأحزاب، وحكمهم حكمهم في أنهم لما كذبوا الرسل استوجبوا العقاب. قوله: (لاستحضارهم بالذكر)، كما الفرزدق في قوله: أولئك آبائي فجئني بمثلهم .... إذا جمعتنا يا جرير المجامع أحضرهم في مشاهدة جرير، ثم أشار إليهم كما يشار إلى المحسوسين. قوله: (وقرئ بالضم)، حمزة والكسائي: "فواق" بضم الفاء، والباقون: بفتحها. قال محيي السنة: فرق بعضهم بين الفتح والضم، قال الفراء وأبو عبيدة: الفتح بمعنى الراحة والإفاقة، كالجواب من الإجابة، من إفاقة المريض. والضم ما بين الحلبتين، وهو أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن ثم تحلب. وقيل أيضًا: هما مستعاران من الرجوع؛ لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين، وإفاقة المريض رجوعه إلى الصحة، وعليه قول ابن عباس.

أفاق المريض؛ إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة: ساعة يرجع الدر إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد. [{وقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ} 16] القط: القسط من الشيء؛ لأنه قطعة منه. من قطة؛ إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي: نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47]، وقيل: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين الجنة؛ فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها. أو: عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها. [{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ * إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ} 17 - 20] فإن قلت: كيف تطابق قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} وقوله: {واذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه السلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود؛ وهو أنه نبي من أبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوة والملك؛ لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها، على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه، فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب، ونقش جنايته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (القط: القسط من الشيء)، واشتقاق القط من: قططت، أي: قطعت، وكذلك النصيب إنما هو القطعة من الشيء، والقطع والقطعة بمعنى: المقطوع، غير أن القطع غلب في الليل.

في بطن كفه حتى لا يزال مجددًا للندم عليها، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي. {ذَا الأَيْدِ}: ذا القوة في الذين المضطلع بمشاقه وتكاليفه؛ كان على نهوضه بأعباء النبوة والملك يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهو أشد الصوم، ويقوم نصف الليل. يقال: فلان أيد، وذو آد. وإياد كل شيء: ما يتقوى به. {أَوَّابٌ}: تواب رجاع إلى مرضاة الله. فإن قلت: ما دلك على أن الأيد القوة في الدين؟ قلت: قوله تعالى: {إنَّهُ أَوَّابٌ}؛ لأنه تعليل لذي الأيد، {وَالْإِشْرَاقِ}: ووقت الإشراق؛ وهو حين تشرق الشمس، أي: تضيء ويصفو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو قال له صلى الله عليه وسلم: {اصْبِرْ})، جواب آخر، فعلى الأول"واذكر" محمول على الذكر اللساني، وعلى هذا على القلبي. الجوهري: وذكرت الشيء بعد النسيان: ذكرته بلساني وبقلبي. قوله: (المضطلع)، الجوهري: فلان مضطلع بهذا الأمر، أي: قوي عليه، مفتعل، من الضلاعة. قوله: (قوله تعالى {إنَّهُ أَوَّابٌ}؛ لأنه تعليل لذي الأيد)، لأن {ذَا الأَيْدِ} يحتمل أن يكون في الجسم لقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. وأن يكون في الدين، فلما جيء بقوله: {إنَّهُ أَوَّابٌ} أعلم أن المراد: القوة في الدين. قال صاحب"التقريب": وفيه نظر؛ إذ الأواب مطلق أيضًا كالأيد. قلت: مطلق من حيث نفسه، لكن مقيد بالنسبة إلى الموصوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصف به دل على أنه رجاع إلى الله تعالى.

شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق. وعن أم هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بوضوء، فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى، فال: "يا أم هانئ، هذه صلاة الإشراق". وعن طاووس، عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا: لا، فقرأ: {إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ}، وقال: كانت صلاةً يصليها داود عليه السلام. وعنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية: وعنه لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها في هذه الآية: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ}. وكان لا يصلي صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب: أنه قال لابن عباس: إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى. يعني هذه الآية. ويحتمل أن يكون من: أشرق القوم؛ إذا دخلوا في الشرق- ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، وقول أهل الجاهلية: أشرق ثبير- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن أم هانئ)، عن البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات. قوله: (ويحتمل أن يكون من: أشرق القوم؛ إذا دخلوا في الشرق)، وهو الشمس. الانتصاف: {بِالْعَشِيِّ} ظرف بلا إشكال، فلو حمل"الإشراق" على الدخول في الشروق لكان مصدرًا لا ظرفًا؛ لأنه فعل المظروف، وعلى الأول وإن كان مصدرًا إلًا أنه ظرف؛ لأنه فعل الشمس، وهو يستعمل ظرفًا كالطلوع والغروب. وقوله: (أشرق ثبير)، الجوهري، أشرق ثبي، كيما نغير، أي: نسرع للنحر، وثبير: جبل بمكة، وقال: أغار؛ أي: شد العدو وأسرع.

ويراد وقت صلاة الفجر؛ لانتهائه بالشرق. و {يُسَبِّحْنَ}: في معنى مسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت: نعم، وما اختير {يُسَبِّحْنَ} على مسبحات إلا لذلك؛ وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء وحالًا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لانتهائه بالشروق)، أي: إنما سمي صلاة الفجر باعتبار ما يؤول إليه. وقوله: "ويراد وقت صلاة الفجر"، متصل بقوله: "إذا دخلوا في الشرق"، وما بينهما اعتراض. قوله: (وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء)، قال صاحب" الانتصاف": قال سحنون: إذا قال: "أنا محرم يوم كذا" بصيغة اسم الفاعل يكون محرمًا عند وجود التعليق، ولا كذلك بصيغة المضارع، إذا قال: "أنا أحرم يوم كذا" لا يكون محرمًا حتى يجدد الإحرام. واختلف المتأخرون من أصحابنا في معنى قول سحنون في اسم الفاعل: يكون محرمًا يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد القول فينشئ إحرامًا، ومنهم من قال: يكون محرمًا بالعليق الأول. ومالك سوى بين اسم الفاعل والفعل. ولما كان حشر الطير دفعة واحدةً أدل على القدرة لم يكن لاستعمال الفعل وجه. قال صاحب" الإنصاف": تأمل ما قاله صاحب الانتصاف فليس فيه إلا نقل فرع على مذهب مالك لا يمس بالآية، ثم اختار أن مذهب مالك يخالف ما جاء من بديع الآية، فليت شعري أراد الرد على فصاحة الآية أو رد على إمامه الذي يقلده فيما يفتي به؟ ! وقلت- والله أعلم-: فرق بين مسألة الإحرام وبين ما في التنزيل؛ لأن ما في التنزيل معدول عن الظاهر؛ لأن قوله: {إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ}. إخبار عما مضى، فالمطابق مسبحات و {مَحْشُورَةً}، ولهذا قال: {يُسَبِّحْنَ} في معنى: "مسبحات" وإنما عدل في

إلى ضوء نار في يفاع تحرق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول لحكاية الحال الماضية واستحضار في نظر السامع فيشاهد حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء ويتعجب من تلك القدرة الربانية على ما سبق في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9]. أتي بالمضارع بين الماضيين للاستحضار وللاستعجاب؛ إذ لو قيل: "فأثارت" و"مسبحات" لم يكن من هذا المعنى في شيء. و {مَحْشُورَةً} على ما هي عليه أدل على القدرة، ولو عدل إلى خلاف المقتضى لكان خلفًا وغير سديد، وليت شعري من تكلم فيما لا دربة له فيه وتقدم على التأمل فلا يتأمل كلامه، وظهر أن كلام إمام المسلمين جاء مستطردًا وهو أجدر بالقبول؛ لأن العامي لم يقصد هذا المعنى، ورميه على عمياء- والله أعلم-. قوله: (إلى ضوء نار في يفاع تحرق)، أوله: لعمري لقد لاحت عيون كثرة وبعده: تشب لمقرورين يصطليانها .... وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي أم تقاسما .... بأسحم داج عوض لا نتفرق اللبان- بكسر اللام-: لبن المرأة خاصة. تقاسما: تحالفا. بأسحم داج: ظرف، أي: في ليل داج أقسما أن لا يتفرقا. رضيعي لبان: حال، وقيل: خبر ثان ونصب على المدح، وهذا أوجه، و"عوض"- بسكون الواو-: الأبد، يضم وبفتح بغير تنوين، وهو للمستقبل من الزمان، كما أن"قط" للماضي؛ لأنك تقول: عوض لا أفارقك، ولا تقول: عوض ما فارقتك. اليفاع: الجبل المرتفع. تحرق، أي: الحطب؛ لأن الجواد منهم كان يوقد النار على الموضع المرتفع لتجتمع إليه كل من رآها من بعيد.

ولو قال: "محرقة": لم يكن شيئًا. وقوله: {مَحْشُورَةً} في مقابلة {يُسَبِّحْنَ}؛ إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئًا بعد شيء، به اسمًا لا فعلًا؛ وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن، على أن الحشر يوجد من حاشرها شيئًا بعد شيء والحاشر هو الله عز وجل؛ لكان خلفًا، لأن حشرها جملة واحدة أدل على القدرة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: (والطير محشورة) بالرفع. {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}: كل واحد من الجبال والطير لأجل داود- أي: لأجل تسبيحه- مسبح؛ لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع" الأواب" موضع المسبح: إما لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع؛ وإما لأن الأواب- وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته- من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولو قال: "محرقة"لم يكن شيئًا)، معناه: لم يكن عدولًا من الظاهر فلا يكون فيه لطف؛ لأن قوله: "لقد لاحت" يقتضي محرقة، فلم يفد حدوث التحريق والإيقاد شيئًا بعد شيء ولا استحضار تلك الحالة في مشاهدة السامع. قوله: (خلفًا)، أي: من حيث اختلال حسن المعنى، الجوهري: الخلف: الرديء من القول، يقال: سكت ألفًا ونطق خلفًا، أي: سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بالخطأ. قوله: (أدل على القدرة)، قال: كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14]، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، قيام رجل واحد. قوله: (ووضع"الأواب" موضع المسبح)، يعني: أصل الكلام: كل من الجبال والطير لأجل تسبيح داوود مسبح، فقيل: {أَوَّابٌ}؛ لأن كل مرجع للتسبيح راجع إليه، كما أن كل مكذب للحق كاذب، وإنما عدل منه إلى الأواب لنكته وهي: إما أن يكون كناية

عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أي: كل من داود والجبال والطير لله أواب، أي: مسبح مرجع للتسبيح. {وشَدَدْنَا مُلْكَهُ}: قويناه، قال تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص: 35]، وقرئ: (شددنا) على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه. وقيل: الذي شد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أن رجلًا ادعى عنده على آخر بقرةً، وعجز عن إقامة البينة، فأوحي إليه في المنام: أن اقتل المدعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحي في اليقظة، فأعلم الرجل، فقال: إن الله عز وجل لم يأخذني بهذا الذنب، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلةً، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبًا أظهره الله عليه فقتله؛ فهابوه. {الْحِكْمَةَ}: الزبور وعلم الشرائع. وقيل: كل كلام وافق الحق فهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الترجيع في التسبيح من"الأوب": الرجوع، أو عن كثرة التسبيح؛ لأن الأواب أي: التواب من عادته أن يكثر التسبيح، ولو ترك على ظاهره لم يعلم ذلك، ولو قيل: كل له كالأواب أي: التواب على التشبيه لم يفهم منه المقصود صريحًا. قوله: (مستلئم): أي: دارع، و"اللأم": جمع"لأمة"، وهس: الدرع، واستلأم: إذا لبس لأمته. قوله: (أن رجلًا ادعى عنده)، خبر"الذي شدد الله به ملكه". وقوله: "أظهره الله عليه"، جواب للشرط، و"فقتله" من تتمة الجواب، والفاء في"فهابوه" نتيجة الكلام، أي: الذي شدد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة هذه القضية، فلذلك هابوه، وإليه ينظر قول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم قوله: (غيلة)، الغيلة: الاسم من الاغتيال. الجوهري: الغلية هو: أن يخدع صاحبه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله

حكمه. الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل، بمعنى المفصول، كضرب الأمير؛ لأنهم قالوا: كلام ملتبس، وفي كلامه لبس. والملتبس: المختلط، فقيل في نقيضه: فصل، أي: مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه. ومن فصل الخطاب وملخصه: أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] إلا موصولًا بما بعده، ولا {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ} حتى يصله بقوله: {لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]، ونحو ذلك، وكذلك مظان العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وأردت بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات، وتدابير الملك والمشورات. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو قوله: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله: "أما بعد"؛ لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل، ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل؛ لا نزر ولا هذر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل، لا نزر ولا هذر)، وروينا عن الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس إليه". وعنها: " كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام فصل، يعيه كل من سمعه". أخرجه أبو داود. الحديثان يوفقان التفسير الأول، وقيل: الكلام البين فصل.

[{وهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنَا إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} 21 - 22] كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب"النهاية": في صفة كلامه صلوات الله عليه: "فصل؛ لا نزر ولا هذر"، أي: بين ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. وقال في حديث أم معبد: "لا نزر ولا هذر"، أي: لا قليل ولا كثير، وقد هذر يهذر هذرًا- بالسكون- فهو هذر وهذار ومهذار، أي: كثير الكلام، والاسم: الهذر بالتحريك. وقال الجوهري: النزر: القليل التافه، وعطاء منزور، أي: قليل. قوله: (يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته)، روى محيي السنة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان ذنب داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته. قال أهل التفسير: كان مباحًا، غير أن الله تعالى لم يرض له ذلك؛ لأنه كان رغبة في الدنيا وازديادًا للنساء، وقد أغناه الله تعالى بما أعطاه من غيرها. وروى أيضًا حديث الطير الذهب عن السدي والكلبي ومقاتل والحسن، والله أعلم بحقيقة الحال، وما في"الكشاف" أولى بأن يقال. قال صاحب"المطلع" بعدما حكى القولين: والذي يؤيد هذا القول قوله تعالى: {وعَزَّنِي فِي الخِطَابِ} أي: غلبني في مخاطبتنا إياها. وقال الإمام: قد دل أول الكلام وآخره على مدح داوود عليه السلام، فلو دل وسطه على مقابحه ومعايبه لخرج عن النظام.

فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها، وقد روينا: أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل، فتزوجها وهي أم سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلًا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن حطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأما ما يذكر، أن داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: يا رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحي إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلي إبراهيم بنمروذ، وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء، فأوحي إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا، فاحترس. فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمد يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتد إليها، فطارت فوقعت في كوة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا، وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد روينا: أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك)، روينا في"صحيح البخاري" عن ابن عوف قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالًا فأقاسمك مالي شطرين، ولي امرأتان فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها فإذا حلت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلوني على السوق" الحديث. قوله: (البلقاء)، هو موضع، قال رحمه الله: سمعت أعرابيًا يقول: أرضها بلد الزعفران

وهو صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد، ففتح الله على يديه وسلم، فأمر برده مرة أخرى، وثالثةً، حتى قتل، وأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلًا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مئة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء. وروي: أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترًا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنًا من قلبه، وأعظم أثرًا فيه، وأجلب لاحتشامه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من أرض الشام قال: هي مدينة الكنعانيين، وكان اسم ملكهم: بالق، فقلب اسمه على بلده. قوله: (وأجلب لاحتشامه)، الجوهري: أبو زيد: حشمت الرجل وأحشمته بمعنًى، وهو أن يجلس إليك فتؤذيه وتغضبه. ابن الأعرابي: حشمته: أخجلته. وأحشمته، أغضبته. واحتشمته واحتشمت منه بمعنى.

وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحًا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح، وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه، ذلك أزجر له؛ لأنه ينصب ذلك مثالًا لحاله ومقياسًا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت: ليحكم بما حكم به من قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] حتى يكون محجوجًا بحكمه ومعترفًا على نفسه بظلمه. {وَهَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره صريحًا)، وقلت: وهو نوع من باب الاستدراج وإرخاء العنان. قال صاحب "الانتصاف": نبه الزمخشري على مجيء الإنكار على طريق التمثيل، فإن التعريض داع إلى التأمل، وفيه أن اجتناب المهاجرة بالإنكار أبقى للحشمة. قوله: (ليحكم بما حكم به) إلى قوله: (حتى يكون محجوجًا بحكمه)، الانتصاف: أي: جاء على وجه المحاكمة ليحكم بقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} فتقوم عليه الحجة. قوله: {أَخِي} فإن الأخوة بصداقة أو دين أو شركة تمنع الاعتداء. وقوله: ({فِي الْخِطَابِ})، أي: في المخاطبة، أي: أتاني بما لا أقدر على رده من الجدال، أو من الخطبة، أي: خطب فأوثر عليً، وهو مصدر المفاعلة؛ لأن الخطبة صدرت من كل واحد منهما، ولم يكن في المثل المضروب خطبة من مالكها إلا تقديرًا، "أو" أما في قصة داوود فهو ممكن، وجواب الزمخشري الذي يأتي ليس بجيد على ما ستراه.

أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ} ظاهره الاستفهام، ومعناه: الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع؛ كالضيف، قال الله تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24]؛ لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصمًا، كما تقول: ضافه ضيفًا. فإن قلت: هذا جمع، وقوله: {خَصْمَانِ} تثنية، فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى {خَصْمَانِ}: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: (خصمان بغى بعضهم على بعض)، ونحوه قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. فإن قلت: فما تصنع بقوله: {إنَّ هَذَا أَخِي} [ص: 23]، وهو دليل على اثنين؟ قلت: هذا قول البعض المراد بقوله: {بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}. فإن قلت: فقد جاء في الرواية: أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه: أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سهاهم جميعًا خصمًا في قوله: {نَبَأُ الخَصْمِ} و {خَصْمَانِ}؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب {إَذْ}؟ قلت: لا يخلو: إما أن ينتصب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ظاهره الاستفهام، معناه: الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة)، وذلك أن هذه القصة إن كانت معلومة للسامع فيكون في الاستفهام بعث له وتحريض على إشاعتها وإعلام الناس بها، أي: كأنك ما علمتها حيث تخفيها ولا يؤدي حقها من الإذاعة، وإن لم تكن معلومة كان تأنيبًا على التقاعد عن استعلامها وتشويقًا إلى استماعها. قوله: (والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع)، قال الزجاج: الخصم: مصدر، تقول: خصمته أخصمه خصمًا، فما كان من المصادر وقد وصفت به الأسماء: فتذكيره وتأنيثه وتوحيده وجمعه جائز.

بـ {أَتَاكَ}، أو بـ {نَبَاُ}، أو بمحذوف؛ فلا يسوغ انتصابه بـ {أَتَاكَ}؛ لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها: لم يكن ناصبًا؛ فبقي أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بـ {الْخَصْمِ}؛ لما فيه من معنى الفعل. وأما {إِذْ} الثانية فبدل من الأولى. {تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ}: تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره في الأبنية: تسنمه؛ إذا علا سنامه، وتذراه: علا ذروته. روي: أن الله تعالى بعث إلى ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس، فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان {فَفَزِعَ مِنْهُمْ}. قال ابن عباس: إن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء، ويومًا للاشتغال بخواص أموره، ويومًا يجمع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم؛ فجاؤوه في غير يوم القضاء، ففزع منهم؛ ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه. {خَصْمَانِ}: خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن خصمان. {وَلاَ تُشْطِطْ}: ولا تجر. وقرئ: (ولا تشطط)، أي: ولا تبعد عن الحق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال القاضي: ويجوز أن يتعلق {إِذْ} بالنبأ، على أن المراد به: الواقع في عهد داود عليه السلام، وأن إسناد "أتى: إليه على حذف مضاف، أي: أتى قصة نبأ الخصم، و {إِذْ} الثانية: يدل من الأولى أو: ظرف لـ {تَسَوَّرُوا}. قوله: (وقرئ: "ولا تشطط")، قال ابن جني: هي قراءة أبي رجاء وقتادة؛ بفتح التاء وضم الطاء، يقال: شط يشط ويشط، إذا بعدـ، وأشط: إذا بعد، وعليه قراءة العامة: {وَلاَ تُشْطِطْ}، أي: ولا تبعد، وهو من: الشط: الجانب، ومعناه: أخذ جانبي الشيء وترك

وقرئ: (ولا تشطط)، (ولا تشاطط)، وكلها من معنى الشطط؛ وهو مجاوزة الحد وتخطي الحق. و {سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: وسطه ومحجته، ضربه مثلًا لعين الحق ومحضه. [{إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وعَزَّنِي فِي الخِطَابِ} 23] {أَخِي} بدل من {هَذَا} أو خبر لـ {إِنَّ}. والمراد أخوة الدين، أو أخوة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة؛ لقوله تعالى: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، وكل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ: (تسع وتسعون) بفتح التاء، و (نعجة) بكسر النون، وهذا اختلاف اللغات، نحو: نطع ونطع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسطه، كما قيل: تجاوز، وهو من الجيزة، وهي جانب الوادي، كما قيل: تعدى، وهو من: عدوة الوادي، أي: جانبه. وأنشدوا: لئن غبت عن عيني وشطت بك لنوى .... فأنت الذي في القلب حطت رواحله قوله: (تدلي بحق مانع)، المغرب: أدليت الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه: أدلى بالحجة، أحضرها. وفلان يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل. قوله: (وقرئ: "تسع وتسعون" بفتح التاء): قال ابن جني: قرأها الحسن، وقد كثر عنهم مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد، نحو: الشكر والشكر، ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد تجاوز العشر. وقرأ الحسن والأعرج: "نعجة" بكسر النون.

ولقوة ولقوة. {أَكْفِلْنِيهَا} ملكنيها. وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي. {وَعَزَّنِي}: وغلبني. يقال: عزه يعزه. قال: قطاة عزها شرك فباتت ..... تجاذبه وقد علق الجناح يريد: جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل. أو أراد: خطبت المراة وخطبها هو فخاطبني خطابًا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني؛ حيث زوجها دوني. وقرئ: (وعازني) من المعازة؛ وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: (وعزني) بتخفيف الزاني؛ طلبًا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كان تحاكمهم في نفسه تمثيلًا وكلامهم تمثيلًا؛ لأن التمثيل أبلغ في التوبيخ؛ لما ذكرنا، وللتنبيه على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولقوة)، الجوهري: اللقوة: داء في الوجه. واللقوة: الناقة السريعة اللقاح. واللقوة: العقاب. واللقوة- بالكسر-: مثله. قوله: (قطاة عزها)، البيت. قبله. كأن القلب ليلة قيل يغدى .... بليلى العامرية أو يراح قوله: ("وعزني" بتخفيف الزاي)، روى صاحب "الكشف" عن عاصم وقال: حمله الرازي على أنه مثل: رب ورب، وما أشبهه من تخفيف المضاعف. قوله: (كان تحاكمهم في نفسه تمثيلًا وكلامهم تمثيلًا)، سئل: ما معنى ذكر النعاج؟ أي: ما موقعه في التمثيل؟ أجاب: بأنه تتميم لمعنى التمثيل؛ لأن تحاكمهم كان في نفسه تمثيلًا

أنه أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما ستسمج الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام، والاحتفاظ بحرمته. ووجه التمثيل فيه: أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المئة فطمع في نعجة خليطه، وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، والدليل عليه قوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، وإنما خص هذه القصة؛ فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة. فإن قلت: إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة: لم تستقم. قلت: الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: تعريضًا وتورية، وكلامهم أيضًا تعريض وتورية، فجيء بقوله: {نَعْجَةً} تتميمًا لتلك التورية؛ لأن التعريض أبلغ في التوبيخ، وإنما قلنا: إن المراد بالتمثيل التعريض؛ لأنه فسر التمثيل به فيما سبق من قوله: "لم جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح"، فعطف التعريض عليه على سبيل البيان، ولأن المعنى عليه. قوله: "لما ذكرنا"، أي: في قوله: " إن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه" إلى قوله: "وأدعى إلى التنبيه على الخطإ فيه". وقوله: "وللتنبيه على أنه أمر يستحيا منه" عطف على قوله: "لأن التمثيل أبلغ". قوله: (وأراده على الخروج)، الأساس: أراده على الأمر، حمله عليه. والإضافة في"ملكها" إلى المفعول. قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن الممثل به قصة رجل له نعجة واحدة، ولخليطه تسع وتسعون التصريح بذكر الخلطاء في قوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ}؛ لأن ظاهر قوله: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً} الآية، ليس فيه معنى الخلطة.

يا شاة ما قنص لمن حلت له فرميت غفلة عينه عن شاته وشبهها بالنعجة من قال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا شاة ما قنص لمن حلت له)، آخره: حرمت علي وليتها لم تحرم الشعر لعنترة، قال الزوزني: "ما" صلة زائدة، والشاة كناية عن المرأة، يقول: يا هؤلاء اشهدوا شاة قنص لمن حلت له، فتعجبوا من حسنها وجمالها فإنها قد حازت أتم الجمال، والمعنى: هي حسناء جميلة مقنعة لمن كلف وشغف بحبها، ولكنها حرمت علي وليتها حلت. قال الأنباري: القنص: الصيد. والشاة منصوب على النداء، أي: شاة من اقتنصها فقد غنم، واللام صلة"قنص"، لمن حلت له: لمن قدر عليها، وحرمت علي: لم أقدر؛ لأنها من قوم أعداء. قوله: (فرميت غفلة عينه عن شاته)، تمامه الأعشى: فأصبت حبة قلبها وطحالها أي: قصدت غفلته عن امرأته. طحالها، أي: أصبت طحالها، ولا يجوز خفضه؛ لأن الطحال لا حبة له. والبيت بتمامه أنشده الزجاج.

كنعاج الملا تعسفن رملًا لولا أن {الْخُلَطَاءِ} يأباه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كنعاج الملا تعسفن رملا)، أوله: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى بعده: قد تنقبن بالحرير وأبديـ .... ــــن عيونًا حور المداعج نجلا التهادي: أن يمشي بين الاثنين معتمدًا عليها لضعفه. والملا: الصحراء الواسعة. أي: هؤلاء النسوة يمشين مشي نعاج الوحش إذا وقعت في الرمل. قوله: (لولا أن {الْخُلَطَاءِ} يأباه)، يعني إن فسر الخطاب بالمفاعلة من الخطبة، وأجريت النعاج على حقيقتها لم يستقم؛ لأن الخطبة إنما تكون في التزوج والتزويج، فهي غير مناسبة للنعجة الحقيقية، وإن حملت النعاج على النساء استعارة أباه ذكر الخلطاء؛ لأن الخلطة غير مناسبة في النساء الحلائل، فالوجه أن يقطع ذكر الخلطاء عن التمثيل؛ ليكون تمثيلًا آخر مستقلًا فيصح. وقلت: وكذا يأباه إذا جعل التسبيه تمثيليًا، ويجرى الخطاب على مخاطبة المحاج المجادل وتترك النعاج على حقيقتها؛ لأن الوجه حينئذ أمر توهمي منتزع من أمور جمة، وقد لمحت الخلطة في الممثل به، ومن ثم قال الواحدي: ظن داود أنهما شريكان فلذلك قال: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]. وإذا لمح في المشبه به يجب أن يلمح في المشبه أيضًا. وقال صاحب"المفتاح": والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظور فيه إلى التأمل الصادق من ذوي بصيرة

إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداءً مثلًا لهم ولقصتهم. فإن قلت: الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ناقدة ورؤية ثاقبة لالتباسه في كثير من المواضع بالعقلي الحقيقي لاسيما المعاني التي ينتزع منها، فربما انتزع من ثلاثة فأورث الخطأ لوجوب انتزعه من أكثر، ولعل الظاهر أن يجعل التشبيه من المركب العقلي؛ لأن الوجه حينئذ هو الزبدة والخلاصة من المجموع، وهو إظهار البغي والظلم وتقبيح أمر الباعي والظالم، فلا يدخل في المعنى الخلط، وإن شئت فجرب هذا من قول المصنف في تفسير قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265]، الآية. فإنه حين جعل الوجه عقليا قال: ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله كمثل جنة، وحين جعل الوجه وهميًا قال: أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضاعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية عند الله زائدة في زلفاهم، وعلى هذا قوله بعد هذا: "وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما، إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرًا" إلى آخره. الانتصاف: إذا جعل تمثيلًا كان الذي سبق إلى فهم داود منه ظاهره في النعاج والشاة، ثم انتقل عنه إلى فهم تمثيله بحاله، وعلى الاستعارة يكون قد فهم التحاكم في النساء ثم استشعر أنه المراد. قوله: (إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداءً ومثلًا لهم)، يعني: يصح جعلها مستعارًا إذا جعل قوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} [ص: 24]، تذييلًا للكلام على سبيل التمثيل، كقول الحطيئة:

لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصورها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد. وتقول أيضًا في تصويرها: لي أربعون شاةً ولك أربعون فخلطناها، وما لكما من الأربعين أربعة ولا ربعها. للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسيرها وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال، وقوله: فتور القيام قطيع الكلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولست بمستبق أخًا لا تلمه .... على شعت أي الرجال المهذب؟ وإليه الإشارة بقوله: "قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء". قوله: (وأنت تشير إليهما)، أي: تقول: هذا، وتشير إلى زيد زعمرو. قوله: (وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد)، قال الجوهري: أي: لا قليل ولا كثير. عن الأصمعي: السبد من الشعر، واللبد من الصوف. كناية عن المعز، واللبد عن الضأن. قوله: (بالكسول والمكسال)، الجوهري: الكسل، التثاقل عن الأمر. وامرأة مكسال: لا تكاد تبرح مجلسها، وه مدح له، مثل: "نؤوم الضحى". قوله: (فتور القيام قطيع الكلام)، تمامه: لعوب العشاء إذا لم تنم بعده: تبز النساء بحسن الحديث .... ودل رخيم وخلق عمم

وقوله: تمشي رويدًا تكاد تنغرف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قطيع الكلام: أي: لينه وضعفه. تبز؛ أي: تغلب وتسبق. والدلال: الغنج والشكل. وخلق عمم؛ أي: تام. قوله: (تمشي رويدًا تكاد تنعرف)، أوله: ما أنس سلمى غداة تنصرف ويروى: "تنغرف" بالغين المعجمة، الغرف: غرفك الماء باليد، فرس غراف: كثير الأخذ بقوائمه. وصفها بالأناة والتؤدة وأنها تكاد تنغرف من الأرض بوطئها إياها، يقال: عرفت الشيء فانعرف- بالعين المهملة- أي: قطعته فانقطع. قال قيس بن الخطيم في معناه: تنام عن كبر شأنها فإذا .... قامت رويدًا تكاد تنعرف قال صاحب" الانتصاف": قوله: {وَلِيَ نَعْجَةٌ}، أورده لتقليل ما عنده وحقارته، فكيف وصف ما عنده بالحسن الذي يوجب عذر خصمه في طلبه؟ ولذلك جاءت القراءة المشهورة بحذف ذلك، أي: "أنثى".

[{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وقَلِيلٌ مَّا هُمْ وظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وإنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وحُسْنَ مَآبٍ} 24 - 25] {لَقَدْ ظَلَمَكَ} جواب قسم محذوف. وفي ذلك استنكار لفعل خليطه، وتهجين لطعمه. والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله تعالى: {مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، وقد ضمن معنى لإضافة فعدي تعديتها، كأنه قيل بإضافة {نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} على وجه السؤال والطلب. فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، لكنه لم تحك في القرآن؛ لأنه معلوم. ويروى: أنه قال: وهذا، أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مئةً، فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة، فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدًا، فعرف ما وقع فيه. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد: خليط، وهي الخلطة، وقد غلبت في الماشية؛ والشافعي رحمه الله يعتبرها، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة، أو لكل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: قد مر أن مثل هذه الزيارة قرينة لبيان إرادة المقصود من اللفظ، فذكره ها هنا لمزيد تحقير ما عنده فيكون تتميمًا للمعنى الذي في جانب المشبه والمبالغة في الظلم كما سبق، ويؤيده قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، حيث صرح بذكر النعجة والنعاج. قوله: (على وجه السؤال والطلب)، أي: السؤال سؤال مطالبة ومغالبة، لا سؤال خضوع وتفضل؛ إذ لو كان كذا لم يكن معارة.

واحد منهما ماشية على حدة إلا أن مراحهما ومسقاهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة: فهما يزكيان زكاة الواحد؛ فإن كان لهما أربعون شاةً فعليهما شاة، وإن كانوا ثلاثةً ولهم مئة وعشرون لكل واحد أربعون؛ فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد. وعند أبي حنيفة: لا تعتبر الخلطة، والخليط والمنفرد عنده واحد، ففي أربعين بين خليطين: لا شيء عنده، وفي مئة وعشرين بين ثلاثة: ثلاث شياه. فإن قلت: فهذه الخلطة ما تقول فيها؟ قلت: عليهما شاة واحدة، فيجب على ذي النعجة أداء جزء من مئة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله، وعند أبي حنيفة لا شيء عليه. فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أن مراحهما)، المغرب: أراح الإبل: ردها إلى المرح، وهو موضع إراحة الإبل والبقر والغنم، وفتح الميم خطأ. قوله: (ماذا أريد بذكر حال الخلطاء)، أي: ما فائدة التذييل بقوله: {وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ} إلى قوله: {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ}؟ فأجاب: أن فيها فوائد: إحداها: أن يكون موعظة للسامع بأن يرغب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لقوله: {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ} كقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وثانيتها: أن يكون لطفًا للخلطاء المعتدين فينزجروا عن الاعتداء. وثالثتها: أن يكون تسلية للمظلوم. قوله: (مع التأسف على حالهم)، من شأن الخلطاء وعادتهم أن يعتدوا إلا من عصمه الله.

يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ: (ليبغي) بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة، وحذفها، كقوله: اضرب عنك الهموم طارقها وهو جواب قسم محذوف؛ و: (ليبغ) بحذف الياء، اكتفاءً منها بالكسرة. و {مَّا} في {وقَلِيلٌ مَّا هُمْ} للإبهام. وفيه تعجب من قلتهم. وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها، من قول امرئ القيس: وحديث ما على قصره وانظر هل بقي له معنى قط. لما كان الظن الغالب يداني العلم، استعير له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اضرب عنك الهموم طارقها)، تمامه: ضربك بالسيف قونس الفرس أي: "اضربن" فحذفت النون الخفيفة، و"طارقها": بدل من" الهموم" بدل البعض، و"قونس" موضع ناصية الفرس، أي: ادفع طوارق الهموم عن نفسك عند غشيانها، كما يضرب قونس الفرس عند الإقبال. قوله: (للإبهام)، قال أبو البقاء: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [ص: 24]، استثناء من الجنس، والمستثنى منه بعضهم، و {مَا} زائدة، {هُمْ} مبتدأ، و"قليل" خبره. وقيل: التقدير وهم قليل منهم. قوله: (استعير له)، أي: استعير الظن موضع العلم لتلك العلاقة، والاستعارة يجوز أن تكون لفظيةً ومعنوية، وإنما كان بمعنى العلم؛ لإيقاعه على"إنما" المشتملة على مضاعفة التأكيد، وتعقيب ظنه بعد ذلك بالاستغفار من غير مهلة، وتسميته بالظن لسبقه بالأمارات

ومعناه: وعلم داود وأيقن {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}: أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا: هل يثبت أم يزل؟ وقرئ: (فتناه) بالتشديد للمبالغة، و: (أفتناه)، من قوله: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت و(فتناه) و (فتناه)، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظاهرة على وقوعه في الفتنة من تسور الخصماء المحراب وفزعه منهم ثم تمثيلهم حالته بحالة الخلطاء وحكمه على أحد الخصمين بالظلم، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "فتناه" بالتشديد)، قال ابن جني: هي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما "فتناه" فهي قراءة قتادة وأبي عمرو في رواية عبد الوهاب، وعن بعضهم "فتناه" على وزن ضرباه و "فتناه" على وزن: فرقاه. وأنكر الأصمعي أفتنت- بالألف- يقال: فتنته المرأة وأفتنت: إذا دلهته وأحبها. قوله: (لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت)، تمامه: سعيدًا فأمسى قد قلى كل مسلم بعده: وألقى مصابيح القراءة واشترى .... وصال الغواني بالكتاب المنمنم وأراد به سعيد جبير: نمنم الشيء نمنمة، أي: رقشه وزخرفه، وثوب منمنم، أي: موشى. قوله: (وعبر بالراكع عن الساجد)، أي: كنى بالراكع عن الساجد لما بين الركوع

لأنه ينحني ويخضع كالساجد، وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أن الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن: لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى: وخر للسجود راكعًا، أي: مصليًا؛ لأن الركوع يجعل عبارة عن الصلاة. {وَأَنَابَ}: ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل. وروي: أنه بقي ساجدًا أربعين يومًا وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبًا إلى الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والسجود من الانحناء والخضوع، ولما بينهما من المناسبة. استشهد أبو حنيفة في سجدة التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود، قال صاحب التقريب: وفيه نظر؛ لأنه بعد تعبيره به عن الساجد لا يبقى الاستشهاد، لعله استشهد بإطلاق الآية. وقلت: لا إطلاق؛ لأن الركوع مقيد بالخرور الذي هو السقوط، فلا يحمل على مجرد الركوع. وفي "الروضة"، قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في {ص} خارج الصلاة، ولو سجد في الصلاة جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته، وإن كان عامدًا بطلت على الأصح. قوله: (حرم)، أي: دخل في التحريمة، يقال: أحرم بالصلاة وحرم، ومنه: تكبيرة التحريم. قوله: (والتنصل)، هو: الاعتذار والتبرؤ من الذنب، ويروى: بالتنقل، يقال: انتقل من الشيء، انتفى منه. قوله: (ولا يرقأ دمعه)، أي: لا يسكن. الجوهري: يقال: رقأ الدمع يرقأ رقأ ورقورًا؛ سكن، وكذلك الدم.

تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. وروي: أنه نقش خطيئته في كفه؛ حتى لا ينساها. وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرًا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني: معسرًا ما له إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته. [{يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 26] {خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أي: استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه. و{جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير. {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته)، الانتصاف: قصد الزمخشري في كلامه كله: تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأجرى هذه الآية على ظاهرها، وجعل الذنب عجلته في الحكم؛ لأن الباعث عليها التهاب الغضب للحق، وهو أخف من الأول، ويؤيده وصيته داود عليه السلام بعد ذلك بقوله: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى} [ص: 26]، فما جرت الوصية بذلك إلا والذي صدر منه من هذا النوع. والمختار: أن الأنبياء منزهون عن الصغائر، والتماس المخلص لمثل هذه القضية هو الحق الأبلج والسبيل الأنهج.

أي: بحكم الله تعالى؛ إذا كنت خليفته {وَلَا تَتَّبِعِ} هوى النفس في قضائك وغيره، مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا {فَيُضِلَّكَ} الهوى فيكون سببًا لضلالك {عَن سَبِيلِ اللهِ}: عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها. و {يَوْمَ الْحِسَابِ} متعلق بـ {نَسُوا}، أي: بنسيانهم يوم الحساب، أو بقوله: {لَهُمْ}، أي: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم؛ وهو ضلالهم عن سبيل الله. وعن بعض خلفاء بني مروان: أنه قال لعمر بن عبد العزيز، أو للزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية. [{ومَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 27] {بَاطِلًا}: خلقًا باطلًا، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو: مبطلين عابثين، كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، وتقديره: ذوي باطل، أو عبثًا، فوضع باطلًا موضعه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: بحكم الله إذ كنت خليفته)، يريد: أن الأمر بالحكم بالعدل بعد ذكر {إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} مشعر بأن وصف الخلافة يقتضي الحكم بالعدل، ولذلك رتب الحكم في التنزيل بالفاء على جعله خليفة. قوله: ({فَيُضِلَّكَ} الهوى)، عن بعضهم: {فَيُضِلَّكَ} منصوب على الجواب، وقيل: مجزوم عطفًا على النهي، وفتحت اللام لالتقاء الساكنين. قوله: (خلقًا باطلًا، لا لغرض صحيح)، قال القاضي: أي: خلقًا باطلًا لا حكمة فيه.

كما وضعوا {هَنِيئًا} [النساء: 4] موضع المصدر، وهو صفة، أي: ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين؛ وهو أن خلقنا نفوسًا أودعناها العقل والتمييز، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالهم. و {ذّلِكَ} إشارة إلى خلقها باطلًا. والظن: بمعنى المظنون، أي: خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت: إذا كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة؟ قلت: لما كان إنكارهم للعبث والحساب والثواب والعقاب، مؤديًا إلى أن خلقها عبث وباطل، وجعلوا كأنهم يظنون ذلك، ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما وضعوا {هَنِيئًا} موضع المصدر وهو: صفة) لقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وهما صفتان أقيمتا مقام المصدر. قوله: (أن خلقنا نفوسًا)، إلى قوله: (ثم عرضناها للمنافع العظيمة) إلى آخره. قال الإمام: الآية تدل على صحة القول بالحشر والنشر؛ لأنه تعالى خلق الخلق إما للإضرار، أو للانتفاع، أو لا لهذا ولا لهذا، والأول: لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضًا: باطل؛ للعبث، فلم يبق إلا الثاني، فالانتفاع إما دنيوي أو أخروي، والأول باطل، والدليل المشاهدة {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64]، ولما بطل هذا ثبت القول بوجود حياة أخروية، فكل من أنكر الحشر والنشر كان شاكًا في حكم الله في خلق السماوات والأرض، وهو المراد من قوله: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، والدليل عليه قوله: {أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، فإنها كالتفصيل لذلك المجمل، وإلى هذا المعنى ينظر قول المصنف: لأنه الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها، إلى آخره.

من أصلها، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، وكان إقراره بكونه خالقًا كلا إقرار. [{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 28] {أَمْ} منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء - كما يقول الكافرون- لا ستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، واتقى وفجر، ومن سوى بينهم كان سفيهًا ولم يكن حكيمًا. [{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 29] وقرئ: (مباركًا)، و (ليتدبروا) على الأصل، و (لتدبروا) على الخطاب. وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحتلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد- والله- أسقطه كله؛ ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يحل)، من: حلوته بكذا فحلي به، أي: أعطيته فتناول، ومنه " حلوان الكاهن" لعطائه. قوله: (لقحة درور)، الجوهري: اللقوح واللقاح- بالكسر-: الإبل بأعيانها، الواحدة: لقوح، وهي: الحلوب، والمهر: ولد الفرس، والأنثى: مهرة. والنثور: الكثيرة الولد.

حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين. [{ووَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ * إذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأَعْنَاقِ} 30 - 33] وقرئ: (نعم العبد) على الأصل، والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحًا بكونه أوابًا رجاعًا إليه بالتوبة، أو مسبحًا مؤوبًا للتسبيح مرجعًا له؛ لأن كل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا الوزعة)، أي: المانعين عن النواهي. الأساس: أوزعته: مانعته، والشيب وازع، ولابد للناس من وزعة؛ من كففة عن الشر والبغي، ووزع نفسه عن الجهل والهوى. قال: إذا لم أزع نفسي من الجهل والصبا .... لينفعها علمي فقد ضرها جهلي قوله: (من القراء المتكبرين)، أي: الذين ليسوا بحكماء، أي: فقهاء، ولا يمنعون الناس عن الشر عملًا بالقرآن. روي أن الحسن تعلم القرآن وهو ابن ثنتي عشرة سنة، لا حروفه فحسب، ولكن ما تعلم آية إلا وقد عرف تأويلها وجميع ما فيها من كل دقيق وجليل بقدر وسعه، فهو القراء الحقيقي. قوله: (أوابًا رجاعًا إليه بالتوبة)، هو الوجه الأول، وقوله: "أو مسبحًا مؤويًا للتسبيح"، هو الوجه الثاني في قوله تعالى: {والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]. قال: وضع {أَوَّابٌ} موضع المسبح؛ لأن الأواب- وهو: التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى- من عبادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه، والفرق بين هذه الآية والسابقة أن

مؤوب أواب. والصافن: الذي في قوله: ألف الصفون فما يزال كأنه .... مما يقوم على الثلاث كسيرا وقيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل: هو المتخيم، وأما الصافن فالذي يجمع بين يديه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقوم الناس له صفونًا فليتبوا مقعده من النار"، أي: واقفين كما خدم الجبابرة. فإن قلت: ما معنى وصفها بالصفون؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {أَوَّابٌ} في تلك الآية لا يجوز أن يجري على ظاهره؛ لإسناده إلى غير العقلاء، فلا بد من التأويل، بخلافه هاهنا، فإن الوجه الأول جار على حقيقته. قوله: (ألف الصفون)، البيت. يقال: ألف هذا الفرس القيام على ثلاث قوائم وسنبك الرابعة. "كسيرًا": منصوب بـ"ما يزال"، وقيل: حال من الضمير في "مما يقوم"، أي: كأنه من جنس ما يقوم على ثلاث قوائم في حال كونه كسير القائمة الأخرى. قوله: (هو المتخيم)، كأنه القائم على أربع قوائم سواء، روى صاحب " االمغرب" عن ابن الأعرابي: أن الخيمة عن العرب لا تكون إلا من أربعة أعواد، ثم تسقف. الأساس: ومن المجاز: خيمت البقر، أقامت في مواضعها لا تبرح، تخيمت الريح في الثوب. فقوله: "هو المتخيم" خبر "الذي يقوم"، وخبر " الصافن" المتقدم في قوله: "وأما الصافن فالذي يجمع يديه". الراغب: الصفن: الجمع بين الشيئين ضامًا بعضهما إلى بعض، يقال: صفن الفرس قوائمه، قال تعالى: {الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ} [ص: 31] والصفن: الوعاء الذي يجمع الخصية. والصفن: دلو مجموع بحلقة. قوله: (من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار)، "صفونًا" بالنون،

قلت: الصفون لا يكاد يكون في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص. وقيل: وصفها بالصفون والجودة؛ ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنةً في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها. وروي: أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يومًا بعدما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي، وتهيبوه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته، فاستردها وعقرها مقر بالله، وبقي مئة، فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرًا منها؛ وهي الريح تجري بأمره. فإن قلت: ما معنى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي}؟ قلت: {أَحْبَبْتُ}: مضمن معنى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث، من رواية أبي داود عن أبي مجلز، قال: خرج معاوية على ابن عامر وعلى ابن الزبير، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب أن يمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". وعند الترمذي، قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال: اجلسا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار". قوله: (في الهجن)، الجوهري: الهجنة في الناس من قبل الأم، فإذا كان الأب عتيقًا والأم ليست كذلك، كان الولد هجينًا. قوله: (والجودة)، في"المطلع": الجياد: جمع جواد، وهو: الشديد الحضر من الخيل، ومصدره: الجودة- بالضم-، وفي العمل: الجودة- بالفتح-، ويقال: جاد الفرس يجود جودة، وجاد الرجل جوادًا. والجودة: مصدر الجيد من كل شيء.

فعل يتعدى ب"عم"، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربي. أو: جعلت حب الخير مجزئًا أو مغنيًا عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب"التبيان": أن {أَحْبَبْتُ} بمعنى: لزمت، من قوله: مثل بعير السوء إذ أحبا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنبت)، أي: جعلته نائبا، قال الزجاج: معنى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} آثرت حب الخير على ذكر الله عز وجل. الأساس: "استحبوا الكفر على الإيمان" آثروه عليه. وقال صاحب"الفرائد": ذهب جماعة من العلماء إلى أن {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "آثرت"، وأن {عَنْ} بمعنى: "على" وجعلوا {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "استحببت"، وقد جاء بمعنى الإيثار فو قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} [إبراهيم: 3]، أي: يؤثرونها؛ الإيثار من لوازم الإحباب فيجوز أن يضمن الإحباب معناه ويعدى تعديته، ولكن {عَنْ} بمعنى: "على" فيه بعد. وقال أبو البقاء: {حُبَّ الخَيْرِ} هو مفعول به {أَحْبَبْتُ}؛ لأن مصدر {أَحْبَبْتُ} الإحباب، ويجوز أن يكون مصدرًا محذوف الزيادة. وقال صاحب"الفرائد": التقدير: أحببت الخير، أي: إحبابًا، ثم أضيف إلى المفعول. قوله: (مثل بعير السوء إذ أحبا)، أوله: تبًا لمن بالهون قد ألبا قبله: كيف قريت شيخك الأزبا .... لما أتاك بائسًا قرشبا؟ "تبًا" من التباب، وهو الهلاك، أي: أقام ولزم. "أحبا"، من: أحب البعير؛ بالحاء

وليس بذاك. والخير: المال، كقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وقوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. والمال: الخيل التي شغلته. أو: سمي الخيل خيرًا كأنها نفس الخير؛ لتعلق الخير بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: "ما وصف لي رجل فرأيته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المهملة: إذا وضع ركبتيه على الأرض بحيث لا يرفع بالضرب، ومنه اشتاق المحبة، قوله: "قرشبًا": أي: يابسًا فحلًا. قال صاحب"المطلع": أحب، إذا لزم المكان، مردود؛ لأنها لغة غريبة لا تليق بفصاحة القرآن، مع ما فيه من إخلاء الكلمة عن الفائدة، أي: عن هذا الذي عناه المصنف بقوله: "ليس بذاك"، ولهذا لم يذكره في"الأساس" أصلًا، وإن ذكره الجوهري في"الصحاح" وأنشد المصراع، وقال: الإحباب، البروك. أبو زيد، يقال: بعير محب، وقد أحب إحبابًا، وهو: يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. وقال أبو البقاء: قال أبو علي: أحببت بمعنى: جلست، من إحباب البعير، وهو بروكه، و {حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] مفعول له مضاف إلى المفعول. وقال صاحب"الفرائد": لا يبعد أن يفسر {أَحْبَبْتُ} بمعنى: "لزمت" لاستلزم الإحباب اللزوم؛ لأن من أحب شيئًا لزمه، وقال: و {ذِكْرِ رَبِّي} على هذا نصب على الحال، أي: لزمت الأرض لحب الخير معرضًا عن ذكر ربي. قوله: (الخيل معقود بنواصيها الخير)، الحديث من رواية مسلم عن جرير، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرس بأصبعه وهو يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والغنيمة". قوله: (وقال في زيد الخيل حين وفد عليه)، روى صاحب"الاستيعاب": هو زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، قد مر على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد طيء سنة تسع، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلا كان دون ما بلغني، إلا زيد الخيل" وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالًا رضي الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيد الخير، وقال: "ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون صفته، غيرك". وكان شاعرًا محسنًا خطيبًا لسنا شجاعًا كريمًا، وكذا في" جامع الأصول". وروى الأنباري في" النزهة": أن الزمخشري لما قدم بغداد للحج جاءه الشيخ الشريف ابن الشجري مهنئًا بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف: كانت مساءلة الركبان تخبرني .... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت .... أذني بأحسن مما قد رأى بصري وقال: وأستكبر الأخبار قبل لقائه .... فلما التقينا صغر الخبر الخبر ولم ينطق الزمخشري، فلما فرغ الشريف قال: إن زيد الخيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فحين بصر بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا زيد الخيل، كل رجل وصف لي وجدته دون الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما وصفت لي وكذلك أنت، ودعا له وأثنى عليه". قوله: (وسماه زيد الخير)، وضع موضع"الخيل": {الْخَيْرِ}، فحصل منه ما قصده وكل فضل؛ لأنه أجمع منه لاشتماله عليه وعلى كل فضيلة، وعليه جواب بلال عن قول الرجل: "أردت الخيل، وأنا أردت الخير" فإن الرجل سأل: من السابق في الطراد؟ أجاب عنه بالسابق في الخيرات تمليحًا من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، وتنبيها على أن السبق الذي يعتنى بشأنه وينبغي أن يسأل عنه هذا لا ذاك كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتِ} [البقرة: 189].

عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك. أو المخبأة بحجابها. والذي دل على أن الضمير للشمس: مرور ذكر العشي، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر. وقيل: الضمير للصافنات، أي: حتى توارت بحجاب الليل، يعني الظلام. ومن بدع التفاسير: أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه. {فَطَفِقَ مَسْحًا}: فجعل يمسح مسحًا، أي: يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني: يقطعها. تقول: مسح علاوته؛ إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب؛ إذا قطع أطرافه بسيفه. وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها. أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة: فمصحف. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المخبأة بحجابها)، الأساس: خبأت الجارية، وجارية مخبأة، والنساء مخبآت، وامرأة خبأة تخنس بعد الاطلاع. قوله: (وقيل: الضمير للصافنات)، قال الإمام: هذا أولى؛ لأن بقاءه عليه السلام مشتغلًا بالخيل حتى تغرب الشمس وتفوت صلاته ذنب عظيم، فالواجب عليه التضرع بالابتهال لا التهور والتحير بقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأَعْنَاقِ} [ص: 23]، وإذا قلنا: إن الضمير يعود إلى {الصَّافِنَاتُ} لا يلزم منه فوت الصلاة، وغايته أن الأولى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بأمر الدنيا، فترك الأولى وتحسر لذلك، وأمر بالقطع على أن رجوع الضمير حينئذ إلى المذكور القريب وعلى الأول إلى المقدر البعيد. قوله: (تقول: مسح علاوته)، الجوهري: العلاوة رأس الإنسان ما دام في عنقه، يقال: ضرب علاوته، أي: رأسه. قوله: (المسفر)، أي: المجلد والوراق. الجوهري: السفر- بالكسر-: الكتاب، والجمع: الأسفار.

مسحها بيده استحسانًا لها وإعجابًا بها. فإن قلت: بم اتصل قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ}؟ قلت: بمحذوف، تقديره: قال: ردوها علي، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلًا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءً ظاهرًا؛ وهو اشتغال نبي من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقرئ: (بالسؤوق) بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغؤور، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ: (بالسؤق) فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى. ونظير ساق وسوق: أسد وأسد. وقرئ: (بالساق) اكتفاءً بالواحد عن الجميع؛ لأمن الإلباس. [{ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} 34] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مسحها بيده استحسانًا)، وفي "المعالم": هو قول ضعيف. وقال الزجاج: مسح أعناقها وسوقها بالماء بيده، وإنما قال ذلك قوم؛ لأن قتلها كان عندهم منكرًا، وليس ما يبيحه الله تعالى منكرًا. قوله: (بمحذوف تقديره "قال")، يعني: متعلقة لفظة "قال"، وهي مع المقول جواب عن سؤال مقدر يقتضيه المقام؛ لأن اشتغال مثله من أنبياء الله بأمر الدنيا بعيد، فكأنه عليه السلام لما قال: {إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} اتجه لسائل أن يقول: فماذا قال سليمان بعد هذا؟ فأجيب: قال {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فأضمر القول وأضمر سؤال السائل. فقوله: "وأضمر ما هو جواب له"، معناه: أضمر في الكلام ما المحذوف جواب له. قوله: (وأما من قرأ: "بالسؤق")، المطلع: وقرئ: "بالسؤوق" على "فعول"، بهمز الواو وبضمها، كما في: "أجوه" في: "وجوه"، ومنهم من يقرأ: "بالسؤق" مهموز، كما في: "مؤسى" بالهمز.

قيل: فتن سليمان بعدما ملك عشرين سنه، وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته: أنه ولد له ابن، فقالت: الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغذوه في السحابة، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"، فلذلك قوله تعالى: {ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}. وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان، فالله أعلم بصحته؛ حكوا: أن سليمان بلغه خبر صيدون، وهي مدينة في بعض الجزائر، وأن بها ملكًا عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح، حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها وأصاب بنتًا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهًا، فاصطفاها لنفسه، وأسلمت، وأحبها، وكانت لا يرقأ دمعها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما راعه)، أي: ما دخل في روعه، أي: قلبه، أي: ما شعر به، ومنه الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي". قوله: (قال سليمان: لأطوفن الليلة)، الحديث بتمامه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة. قوله: (فلم يحمل إلا امرأة)، صح " يحمل" بالياء التحتانية، أي: فلم يحمل شيء، كقوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11].

حزنًا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته، كانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد، فجلس عليه تائبًا إلى الله متضرعًا، وكانت له أم ولد يقال لها: أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يومًا، وأتاها الشيطان صاحب البحر، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس، واسمه صخر؛ على صورة سليمان، فقال: يا أمينة خاتمي! فتختم به وجلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وغير سليمان عن هيئته، فأتى أمينة لطلب الخاتم، فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال: أنا سليمان، حثوا عليه التراب وسبوه، ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحًا عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان، وسأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة. وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن. ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، وابتلعته سمكة، ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو الخاتم، فتختم به ووقع ساجدًا، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرةً لصخر فجعله فيها، وسد عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر. وقيل: لما افتنن كان يسقط الخاتم في يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقر في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان ملكه في خاتمه)، أي: ما دام الخاتم في يده كان ملكًا مطاعًا. قوله: (الماس)، عن بعضهم: الألف واللام فيه للتعريف؛ من ماس الحديد؛ الذي يقطع به ويثقب الحديد به. قوله: (ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله)، أي: قبول ما يروى، وقالوا: هذا من أباطيل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اليهود، هكذا في "المطلع" أيضًا، وقال محيي السنة: هذه القصة عن آخرها ذكرها محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه، ولعمري إنها قريبة مما رويناه عن الأئمة البخاري ومسلم والترمذي، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: "إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر، فقال: كذب عدو الله" الحديث. وروى محيي السنة: أن وزيره آصف أقام في ملكه يسير بسيرته أربعة عشر يومًا، وسليمان هارب إلى ربه يستغفر لذنبه إلى أن رد الله ملكه، وقال: وهو الجسد الذي قال الله تعالى: {ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34]، وروي أيضًا أن سليمان قال يومًا: "لأطوفن الليلة". وساق الحديث إلى قوله: "فما خرج منهن إلا شق مولود، فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه فذلك قوله: {وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}. ثم قال: وأشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو الصخر الجني. قال الإمام: هذا باطل من وجوه: أحدها: أن الشيطان لو قدر أن يتشبه بصورة الأنبياء لزم عدم الوثوق بشيء من الشرائع. وثانيها: أنه لو قدر أن يعامل النبي بهذه المعاملة فغيره أولى، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. وثالثها: كيف يليق بحكمة الله أن يسلط الشيطان على غشيان نسائه؟ ! العياذ بالله هذه فرية ليس فيها مرية. ورابعها: كيف يأذن نبي الله على عبادة الصنم؟ وخامسها: أن تفسير ألقاء الجسد على الكرسي بالولد لنفسه لمرض شديد ألقاه الله

وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل، وتسليط الله إياهم على عباه حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل: فيجوز أن تختلف فيه الشرائع، ألا ترى إلى قوله: {مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]؟ وأما السجود للصورة: فلا يظن بنبي الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه: فلا عليه. وقوله: {وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} ناب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوًا ظاهرًا. [{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} 35] قدم الاستغفار على استيهاب الملك؛ جريًا على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور ديناهم. {لَا يَنبَغِي}: لا يتسهل ولا يكون. ومعنى {مِن بَعْدِ]}: دوني. فإن قلت: أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئًا في بيت الملك والنبوة ووارثًا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزةً، فطلب على حسب إلفه ملكًا زائدًا على المماليك زيادةً خارقة للعادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه أو ابتلاه بتسليط خوف أو توقع بلاء، فصار لذلك كالجسد الضعيف الملقى على الكرسي أولى من تفسيره بتسليط عفريت مارد؛ لأن العرب تقول في الضعيف الزمن: إنه لحم على وضم، وجسد بلا روح. هذا هو المراد من قول المصنف: "وألقينا على كرسيه جسدًا ناب عن إنابة الشيطان منابه نبوًا ظاهرًا"، وفي الوجوه التي نسبت إلى الإمام تصرف واختصار، وأشبه الأقاويل في إلقاء الجسد، هو شق الولد؛ لأنه مؤيد بما رويناه عن الأئمة المتقين. قوله: (فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب إلفه ملكًا زائدًا على الممالك زيادة خارقة للعادة)، قالوا: إنما طلب الملك من بين سائر المعجزات؛ لما أن الغالب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في زمنه عليه السلام الملك، فطلب مثل ذلك ليكون حجة؛ لأن معجزة كل نبي كانت من جنس الغالب في زمانه، كالسحر في زمن موسى عليه السلام، فتحداهم بالعصا واليد البيضاء. والطب في زمن عيسى عليه السلام، فتحداهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. والفصاحة في زمن نبينا صلوات الله عليه، فتحداهم بأقصر سورة من كلام ذي العزة والكبرياء. وأما الزيادة الخارقة للعادة من حيث تسخير ما لم يسخر للإنس، فقد روى محيي السنة عن مقاتل بن حيان: كان سليمان ملكًا، ولكنه أراد بقوله: {لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35]، تسخير الرياح والطير والشياطين، بدليل ما بعده. وروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35] فرددته خاسئًا. وأما من حيث تسخير الملوك، فهو ما ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في"تاريخه": أن سليمان عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسر وبن شباوش وسار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره كيخسرو، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث قليلًا حتى هلك، ثم سار سليمان إلى مرو، ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها، وجاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلاد الفرس فنزلها أيامًا، ثم عاد إلى السام فوافى تدمر وكانت مطنه، ثم أمر ببناء المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وتفقد الطير، وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء ما ذكره الله تعالى، وغزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وإفرنجة ونواحيها. والله أعلم بحقيقة الحال،

بالغة حد الإعجاز؛ ليكون ذلك دليلًا على نبوته قاهرًا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزةً حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: {لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}. وقيل: كان ملكًا عظيمًا، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]. وقيل: ملكًا لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي، كما سلبته مرة وأقيم مقامي غيري. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول: ملكًا عظيمًا، فقال: {لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. وعن الحجاج: أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد مني من قال: {هَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}. وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكي عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله؛ لأنه شرط في طاعته فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وأطلق طاعتنا فقال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. [{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * والشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغَوَّاصٍ * وآخَرِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأطلق طاعتنا فقال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وروي عن المصنف: نسي الحجاج شرطًا آخر، وهو أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فشرط أن يكون من المؤمنين، وه لم يكن من المؤمنين، يريد أن"من" في {مِنْكُمْ} للاتصال، كقوله: "من غشنا فليس منا". وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، كالطوق في عنقه؛ لأنه قيد للمطلق، أي: فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين فارجعوا إلى الكتاب والسنة.

مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وإنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وحُسْنَ مَآبٍ} 36 - 40] قرئ: {الرِّيحَ}، و (الرياح)، {رُخَاءً}: لينة طيبة لا تزعزع. وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه، {حَيْثُ أَصَابَ}: حيث قصد وأراد. حكى الأصمعي عن العرب: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن رؤبة: أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا، ورجعا. ويقال: أصاب الله بك خيرًا. {وَالشَّيَاطِنَ} عطف على {الرِّيحَ}، و {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من {وَالشَّيَاطِنَ}، {وَآخَرينَ}: عطف على {كُلِّ} داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل: كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وهو أول من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدي: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع. والصفد القيد، وسمي به العطاء؛ لأنه ارتباط للمنعم عليه، ومنه قول علي رضي الله عنه: من برك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك. وقول القائل: غل يدًا مطلقها، وأرق رقبة معتقها. وقال حبيب: إن العطاء إسار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قريء: {الرِّيحَ}، وهي المشهورة، و"الرياح": شاذة. قوله: (في الجوامع)، الجوهري: الجامعة: الغل؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق. قوله: (والصفد: القيد، وسمي به العطاء)، قال الزجاج: الأصفاد، هي: السلاسل من الحديد، وكل ما شددت به شدًا وثيقًا بالحديد وغيره فقد صفدته، وكل ما أعطيته عطاء جزيلًا فقد أصفدته، كأنك أعطيته ما ترتبطه به. قوله: (إن العطاء إسار)، أوله لأبي تمام حبيب بن أوس:

وتبعه من قال: ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا وفرقوا بين الفعلين؛ فقالوا: صفده: قيده، وأصفده: أعطاه، كوعده وأوعده، أي: {هَذَا} الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة {عَطَاؤُنَا}، {بَغَيْرِ حِسَابٍ}، يعني: جمًا كثيرًا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره، {فَامْنُنْ} من المنة؛ وهي العطاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هممي معلقة عليك رقابها .... مغلولة إن العطاء إسار الإسار: القيد، وهو مصدر أيضًا، يقال: أسرت الرجل أسرًا وإسارًا، والرواية في ديوانه: "إن الوفاء إسار" يقول: أحسنت إلي فصيرني إحسانك أسيرًا لك. قبله: أيامنا مصقولة أطرفها .... بك والليالي كلها أسحار ومودتي لك لا تعار بلى إذا .... ما كان تامور الفؤاد يعار التامور: القلب، يقول: لا أعير مدتك سواك، كما أني لا أعير قلبي ودمي. قوله: (وتبعه)، أي: المتنبي أخذ من هذا قوله: وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا الذرة- بالفتح- كل ما استترت به، يقال: أنا في ظل فلان وفي ذراه، أي: في كنفه. قوله: ({عَطَاؤُنَا}، {بَغَيْرِ حِسَابٍ})، قدم {بَغَيْرِ حِسَابٍ} على {فَامْنُنْ} ليشير إلى أن {بَغَيْرِ حِسَابٍ} متعلق بـ {عَطَاؤُنَا}، والفاء في {فَامْنُنْ} للتفصيل أو جزاء شرط محذوف، و {أَوْ} للإباحة والتخيير، ولذلك قال: "مفوضًا إليك التصرف فيه". وعن بعضهم: {بَغَيْرِ حِسَابٍ} حال من {عَطَاؤُنَا} أي: هذا عطاؤنا واسعًا؛ لأن الحساب بمعنى: الكافي.

أي: فأعط منه ما شئت {أَوْ أَمْسِكْ} مفوضًا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود: (هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب)؛ أو: هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أي: لا حساب عليك في ذلك. [{واذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ * ووَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ * وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ ولا تَحْنَثْ إنَّا وجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} 41 - 44] {أَيُّوبَ} عطف بيان، و {إِذْ} بدل اشتمال منه، {أَنِّي مَسَّنِيَ}: بأني مسني؛ حكايةً لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه؛ لأنه غائب. وقرئ: {بِنُصْبٍ} بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب: كالرشد والرشد، والنصب: على أصل المصدر والنصب: تثقيل نصب، والمعنى واحد؛ وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. وقيل: الضر في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال. فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحًا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو هذا التسخير عطاؤنا)، وعلى هذا {بَغَيْرِ حِسَابٍ} حال من الضمير في {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} والمعنى: غير محاسب عليك، و {أَوْ} للتنويع، ومن ثم أتى بالواو بدله، ويجوز الإباحة. قوله: (وقرئ: {بِنُصْبٍ} بضم النون وفتحها)، المشهورة: بضم النون وسكون الصاد، والبواقي: شواذ. قوله: (وقد نكبه)، الجوهري: النكبة: واحدة نكبات الدهر، تقول: أصابته نكبة،

أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببًا فيما مسه الله به من النصب والعذاب؛ نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك؛ حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه: من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروي: أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين. وذكر في سبب بلائه: أن رجلًا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يعزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}: حكاية ما أجيب به أيوب، أي: اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة: هي أرض الجابية، فضربها، فنبعت عين فقيل: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ} أي: هذا ماء تغتسل به وتشرب منه، فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب ما بك قلبة. وقيل: نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله. وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها. {رَحْمَةً مِّنَّا وذِكْرَى} مفعول لهما. والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونكب فلان فهو منكوب. والجابية: مدينة الشام، وقيل: فيها جباب كثيرة كانت في إقطاع إلى تمام. قوله: (أي: هذا ماء تغتسل به)، الراغب: غسلت الشيء: أسلت عليه الماء فأزلت درنه، والغسل: الاسم، والغسل: ما يغسل به، والاغتسال: غسل البدن، والمغتسل: موضع يغتسل فيه. قوله: (ما بك قلبة)، الأساس: قلبة: داء يتقلب منه على فراشه.

ولتذكير أولي الألباب؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين، وما يفعل الله بهم. {خُذْ} معطوف على {ارْكُضْ}. والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس: قبضة من الشجر، كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مئةً إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها؛ لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وهذه الرخصة باقية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بمخدج، قد خبث بأمة، فقال: "خذوا عثكالًا فيه مئة شمراخ فاضربوه بها ضربة". ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المئة، إما أطرافها قائمةً، وإما أعراضها مبسوطةً مع وجود صورة الضرب. وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبةً في حاجة فخرج صدره. وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام. وقيل: قال لها الشيطان: اسجدي لي سجدةً فأرد عليكم مالكم وأولادكم، فهمت بذلك فأدركتها العصمة، فذكرت ذلك له، فحلف. وقيل: أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ، فعرضت له بذلك. وقيل: سألته أن يقرب للشيطان بعناق. {وَجَدْنَاهُ صّابِرًا}: علمناه صابرًا. فإن قلت: كيف وجده صابرًا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعًا، ولقد قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب؛ وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمخدج)، أي: ضعيف ناقص البدن. النهاية: الخداج، النقصان، يقال: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق. "العثكال": العذق، وكل غصن من أغصانه شمراخ، وهو الذي عليه البسر. قوله: (ويجب أن يصيب) إلى آخره، وقيل: الصواب لا يجب، بل إن أصابه ثقل الجميع بأن ينكس عليه الشمراخ كفى.

وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابرًا مع تمني العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرًا مع اللجأ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به، ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبيًا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به؛ وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى: أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يهبني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيًا ومعي جائع أو عريان؛ فكشف الله عنه. [{واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ * إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} 45 - 47] {إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ}: عطف بيان لـ {عِبَادَنَا}، ومن قرأ: (عبدنا) جعل {إبْرَاهِيمَ} وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على (عبدنا)؛ وهي: إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس: {وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي؛ غلبت، فقيل في كل عمل: هذا مما عملت أيديهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يهبني)، من الهبة والروع وهو كناية عن التعظيم والإعجاب، قال الشاعر: بدا فراع فؤادي حسن منظره قوله: (ومن قرأ: "عبدنا")، وهو ابن كثير. قوله: (جعل {إبْرَاهِيمَ} وحده عطف بيان)، قال مكي: فيكون إبراهيم داخلًا في العبودية والذكر، {وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ} داخلان في الذكر لا غير، وهما داخلان في العبودية بغير هذه الآية.

وإن كان عملًا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذمًا لا أيدي لهم وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا: {أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ} يريد: أولي الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات، ولا يستبصرون؛ في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ: (أولي الأيادي) على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: (أولي الأيد) على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد- قلق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتفسيره بالأيد- من التأييد- قلق)، يريد قول الزجاج: ومن قرأ: "أولي الأيد" بغير ياء، فمعناه: من التأييد والتقوية على الشيء، وإنما كان قلقًا؛ لأنه لا يلائم الأبصار. قال: الأبصار: جمع البصر، وهي الجارحة، والمراد ها هنا البصيرة، فإذا لم يجعل {الْأَيْدِي} جمع اليد المراد بها العمل لم يتطابقا لفظًا ولا معنى، ولأن التأييد من أفعال الله تعالى وهو لفظه وتوفيقه. وقال ابن جني: وهي قراءة الحسن والثقفي والأعمش، ويحتمل أن يراد بها {الْأَيْدِي} على قراءة العامة، فحذف الياء تخفيفًا، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، فيراد القوة في إطاعة الله، والعمل بما يرضيه، لقراءته بالأبصار، أي: البصر بما يحظى عند الله، فـ {الْأَيْدِي} على هذا جمع اليد التي هي القوة، كقولك: له يد في الطاعة وقدم في المتابعة، فالمعنيان واحد، وهو: البصيرة والنهضة في طاعة الله تعالى. وقال الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين فلما جعلوا اليد عبارة هن القوة، أغرق فيه وجعل اليمين عبارة عنها؛ لأنها أقوى من الشمال، ويحتمل أن يراد بها النعمة والتأييد، هذا خلاصة كلام ابن جني.

غير متمكن {أَخْلَصْنَاهُم}: جعلناهم لنا خالصين {بِخَالِصَةٍ}: بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بـ {ذِكْرَى الدَّارِ} شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتقاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ثم فسرها {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46]، أو شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء، هذا كقوله في إبدال {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ} [الفاتحة: 7]، الإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين؛ ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، إلى آخره. وقال الزجاج وأبو البقاء: يجوز أن يكون {ذِكْرَى الدَّارِ} بدلًا من"خالصة". وقال القاضي: المعنى أن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار الله والفوز بلقائه، وذلك في الآخرة، وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقية، والدنيا معبر. وأضاف نافع"خالصة" إلى {ذِكْرَى} للبيان. وقال أبو البقاء: والإضافة من باب إضافة الشيء إلى ما يبينه لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى، والخالصة مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: بإخلاصهم ذكرى الدار، وقيل: بمعنى خلوص، فالإضافة إلى الفاعل، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وعن بعضهم: "خالصة" اسم فاعل، تقديره: بخالص ذكرى الدار، أي: خالص أن يشاب بغيره، وقرئ بتنوين"خالصة"، فيجوز أن يكون {ذِكْرَى} في موضع نصب مفعول"خالصة"، أو على إضمار: أعني، وأن يكون في موضع رفع فاعل"خالصة"، أو على تقدير: في {ذِكْرَى}. والمصنف اختار أن يكون مضافًا إلى المفعول له، لقوله: "إنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر".

على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى {ذِكْرَى الدَّارِ}: ذكراهم الآخرة دائبًا، ونسيانهم إليها ذكر الدنيا. أو: تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل: {ذِكْرَى الدَّارِ}: الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى {أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ}؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو: أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأول قراءة من قرأ: (بخالصتهم). {المُصْطَفَيْنَ}: المختارين من بين أبناء جنسهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونسيانهم إليها)، ضمن النسيان معنى: الضم، يعني: معنى {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ذكراهم الآخرة منضمًا إليها نسيان ذكر الدنيا، أي: هم مستغرقون في ذكر الآخرة مشتغلون بها عن ذكر الدنيا. قوله: (وقيل: {ذِكْرَى الدَّارِ} الثناء الجميل في الدنيا)، قال أبو البقاء: إضافة "الذكرى" إلى" الدار" في المعنى ظرف، أي: ذكرهم في الدار الدنيا، وهو: إما مفعول به على السعة نحو: "يا سارق الليلة"، أو على حذف حرف الجر نحو: "ذهبت الشام". وقال الجوهري: الذكر والذكرى نقيض النسيان، وذكرت الشيء بعد النسيان وذكرته بلساني وبقلبي، والذكر: الصيت والثناء. فقول المصنف: "ومعنى: {ذِكْرَى الدَّارِ} ذكراهم الآخرة دائبًا" مبني على أن الذكرى نقيض النسيان، لقوله: "ونسيانهم إليها ذكرى الدنيا". وقوله: "أو تذكيرهم الآخرة" على أنها من الذكر اللساني، لقوله: "هو شأن الأنبياء وديدنهم". وقوله: " الثناء الجميل في الدنيا" على أن"الذكرى": الصيت والثناء. قوله: (وتعضد الأول)، أي: على تكون التاء للسببية، والمعنى: أنهم من أهلها، أي: هذه الخصلة لهم وحقهم، وتضاف إليهم كما أضيفت في هذه القراءة لا أن تكون

و {الْأَخْيَارِ} جمع خير، أو: خير على التخفيف؛ كالأموات في جمع ميت أو ميت. [{واذْكُرْ إسْمَاعِيلَ والْيَسَعَ وذَا الكِفْلِ وكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ} 48] {والْيَسَعَ} كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: (والليسع)، كأن حرف التعريف دخل على ليسع، فيعل من اللسع. والتنوين في {وكُلٌّ} عوض من المضاف إليه، معناه: وكلهم من الأخيار. [{هَذَا ذِكْرٌ وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وشَرَابٍ * وعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} 49 - 52] {هَذَا ذِكْرٌ} أي: هذا نوع من الذكر؛ وهو القرآن. لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل، ونوع من أنوعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابًا آخر؛ وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بتوفيقهم، أي: أخلصناهم بتوفيقنا إياهم لها، ويعضد الوجه الثاني قوله: {أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ} لما وصفوا بأنهم أولو الأعمال والفكر، علل بأن ذلك من توفيق الله وتسديده، ولو قيل: إنهم أولو الأعمال والفكر وأصحاب البصائر والنظر؛ لأنًا اخلصناهم لنا بسبب هذا الذكر والفكر، لم يحسن ذلك الحسن. قوله: (وقرئ: "والليسع")، قرأها حمزة والكسائي، ودخول حرف التعريف عليه نحو قولهم: رأيت الوليد بن اليزيد في "الموضح".

ذكر الجنة وأهلها؛ قال: {هَذَا ذِكْرٌ}، ثم قال: {وإنَّ لِلْمُتَّقِينَ} كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وقد كان كيت وكيت؛ والدليل عليه: أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار؛ قال: {هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِينَ} [ص: 55]. وقيل: معناه: هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدًا. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هذا ذكر من مضى من الأنبياء. {جَنَّاتِ عَدْنٍ} معرفة لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وانتصابها على أنها عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَآبٍ}. {مُّفَتَّحَةً} حال، والعامل فيها ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل. وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: هذا شرف)، {هَذَا} مبتدأ و {ذِكْرٌ} خبر، فالمناسب أن الذكر إذا أريد به القرآن يكون بمعنى التذكير والشرف، وإذا أريد به ذكر من مضى من الأنبياء يكون بمعنى الذكر المتعارف على ما مضى في قوله: {ذِكْرَى الدَّارِ}. قوله: (لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ})، يعني: أن "عدنًا" علم، بدليل وصفه بالموصوف. قوله: (وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير)، قال أبو البقاء: أما ارتفاع {الأَبْوَابُ} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو فاعل {مُّفَتَّحَةً}، والعائد محذوف، أي: مفتحة لهم الأبواب منها. والثاني: هي بدل من الضمير في {مُّفَتَّحَةً}، وهو ضمير "الجنات" و {الأَبْوَابُ} غير أجنبي منها؛ لأنها من الجنة وقد يقال: "فتحت الجنة" يراد أبوابها {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]، وقيل: إن من شرط إعمال الصفة أن يكون في السبب دون الأجنبي. والثالث: كالأول إلا أن الألف واللام بدل من الهاء العائدة، وفيه بعد، وهو قول الكوفيين.

ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. وقرئ: (جنات عدن مفتحة) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} منها، أجود من أن تجعل الألف واللام بدلًا من الضمير لأن معنى اللام ليس من الضمير في شيء، ولأن الحرف لا يبدل من الاسم. وقال أبو علي في "الإغفال": لا يخلو الألف واللام من أن يكون للتعريف أو بدلًا من الضمير، كما في قوله: حسن الوجه، فلو كان الثاني لوجب أن يكون في {مُّفَتَّحَةً} ضمير {جَنَّاتٍ} كما في قولنا: مررت برجل حسن الوجه، ضمير الرجل، بدليل قولنا: مررت بامرأة حسنة الوجه، ولو كان في {مُّفَتَّحَةً} ضمير " الجنات" لوجب أن تنتصب {الأَبْوَابُ}، كقوله: الشعرى رقابًا والعقور كلبًا، ولا يرتفع؛ لا متناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد على وجه الاشتراك، فما لم ينتصب دل على خلو الضمير، فإذا لم يكن مثل "حسن الوجه"، فلا تكون اللام إلا للتعريف فيحتاج حينئذ ألى ضمير يرجع إلى الموصوف لنحو "منها" و {فِيهَا}، هكذا ينبغي أن يرد قولهم، لا كما قال الزجاج: إن معنى اللام ليس من الضمير في شيء، فإنه يجبيء في معناه، كما في "حسن الوجه" لقولهم: الحسن الوجه، والحسن وجهه، فأدخلوا اللام في المعنيين كما أدخلوا فيه الضمير، ألا تراهم: إن التنوين بدل من المضاف إليه ويقولون: الضارب زيد. وقال أبو علي أيضًا: يجوز أن يكون {الأَبْوَابُ} بدلًا من الضمير الذي في {مُّفَتَّحَةً}، كقولك: جاءني القوم بعضهم؛ لأن الأبواب من الجنة؟ قوله: (ضرب زيد اليد والرجل)، روي عن المصنف أنه قال: الجار مع المجرور في حكم الظرف، كأنه قيل: جنات عدن استقرت للمتقين حال كونها مفتحة لهم الأبواب، {الأَبْوَابُ}: بدل الاشتمال، واليد والرجل: بدل البعض من الكل، فإنما يستشهد به من حيث إنه ليس فيه ضمير راجع إلى زيد، كما أنه ليس في {الأَبْوَابُ} ضمير راجع إلى "الجنات"، قال أبو علي: من قدر: "مفتحة أبوابها"، إن أراد إفهامها المعنى فإنه لا بد من تقدير شيء ليرجع إلى الموصوف فيستقيم، وإن أراد أن الألف واللام في {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير؛ فغير مستقيم.

بالرفع، على أن (جنات عدن) مبتدأ، و (مفتحة) خبره، أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي: هو جنات عدن هي مفتحة لهم. كأن اللدات سمين أترابًا؛ لأن التراب مسهن في وقت واحد، وإنما جعلن على سن واحدة؛ لأن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن أتراب لأزواجهن، أسنانهن كأسنانهم. [{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسَابِ * إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} 53 - 54] قرئ: {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء {لِيَوْمِ الحِسَابِ}: لأجل يوم الحساب، كما تقول: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أي: ليوم تجزى كل نفس ما عملت. [{هَذَا وإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن الحاجب: وفي {مُّفَتَّحَةً} ضمير "الجنات"، و {الأَبْوَابُ} بدل من الضمير؛ بدل الاشتمال كما تقول: فتحت الجنة أبوابها، والأبواب منها فحذف الضمير للعلم به، كما تقول: ضرب زيد الرأس والظهر. وقال أبو البقاء: {مُتَّكِئِينَ} حال من المجرور في {لَهُمْ}، والعامل {مُّفَتَّحَةً}، ويجوز أن يكون حالًا من "المتقين"، لأنه قد أخبر عنهم قبل الحال، وقيل: هو حال من الضمير في {يَدْعُونَ} وقد تقدم على العامل. قوله: (كأن اللدات سمين أترابًا)، الجوهري: لدة الرجل: تربه، والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة، وهما لدان والجمع: لدات ولدون، وقولهم: هذه، أي: لدتها. وهن أتراب. قوله: (قرئ: {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء)، بالياء التحتانية: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بالتاء.

وغَسَّاقٌ * وآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} 55 - 61] {هَذَا} أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر. {فَبِئْسَ المِهَادُ}، كقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم، أي: هذا حميم فليذوقوه. أو: العذاب هذا فليذوقوه، ثم ابتدأ فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({هَذَا}، أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر)، أي: {هَذَا} إما خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، والأول من فصل الخطاب دون الثاني، وقوله تعالى: {جَهَنَّمَ} بدل من "شر"، و {يَصْلَوْنَهَا} حال، والعامل فيه الاستقرار في قوله: {لِلطَّاغِينَ} وقيل: التقدير: يصلونها جهنم، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه. قوله: (أي: هذا حميم فليذوقوه)، ذكر فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: {هَذَا} مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بفعل مضمر على شريطة التفسير. قال مكي: قيل: {فَلْيَذُوقُوهُ} خبر {هَذَا} ودخلت الفاء للتنبيه الذي في {هَذَا}، ويجوز أن يكون {هَذَا} في موضع نصب بـ"يذوقوا" والفاء زائدة، كقولك: هذا زيد فاضربه، ولولا الفاء لكان الاختيار النصب؛ لأنه أمر فهو بالفعل أولى. وقال صاحب "الكشف": جوز أبو علي أن يكون {هَذَا} مبتدأ، والخبر {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} صفة لـ {حَمِيمٌ} وليس بنوع آخر، فيكون قوله: {فَلْيَذُوقُوهُ} عنده اعتراضًا، كما تقول: زيد- فافهم- رجل صالح. قال أبو علي: هو مثل قول الشاعر:

هو {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}. أو: هذا فليذوقوه، بمنزلة {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أي: ليذوقوا هذا فليذوقوه. والغساق: بالتخفيف والتشديد: ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين؛ إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده. وقيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضي الله عنه: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا الله طاعةً فأخفى لهم ثوابًا في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وأخفوا معصيةً فأخفى لهم عقوبة. (وأخر): ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة. {أَزْوَاجٌ}: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خولان فانكح فتاتهم حمله سيبويه على أن "خولان" حملة، وكأنه قال: هؤلاء خولان، فالمعنى على هذا: أنبه- أو أشير- إلى الذي توعدوه من قبل وعرفوه حق معرفته {فَلْيَذُوقُوهُ}. قوله: (والغساق: بالتخفيف والتشديد)، بالتشديد: حفص وحمزة والكسائي. الراغب: الغساق: ما يقطر من جلود أهل النار. قوله: ("وأخر": ومذوقات أخر)، قال مكي: و {مِنْ شَكْلِهِ} صفة لـ {آخَرُ} و {أَزْوَاجٌ} الخبر، والهاء في {شَكْلِهِ} يعود على المعنى، أي: وآخر من شكله ما ذكرنا،

أجناس. وقرئ: {وَآخَرُ}: أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر. و {أَزْوَاجٌ}: صفة لـ {وَآخَرُ}؛ لأنه يجوز أن يكون ضروبًا، أو صفة للثلاثة، وهي: حميم، وغساق، وآخر. {مِنْ شَكْلِهِ} وقرئ: (من شكله) بالكسر، وهي لغة، وأما الغنج فبالكسر لا غير. {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ}: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل النار في صحبتكم وقرانكم. والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة: الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض، أي: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب {لا مَرْحَبًا بِهِمْ}: دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبًا، أي: أتيت رحبًا من البلاد لا ضيقًا، أو: رحبت بلادك رحبًا، ثم تدخل عليه "لا" في دعاء السوء. و {بِهِمْ} بيان للمدعو عليهم، {إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم، ونحوه قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]. وقيل: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ}: كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، و {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} كلام الرؤساء. وقيل: هذا كله كلام الخزنة. {قَالُوا} أي: الأتباع: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: يعود على الحميم، ويجوز أن يكون الخبر محذوفًا، أي: ولهم آخر، ومن {شَكْلِهِ} و {أَزْوَاجٌ} صفتان، ومن قرأ: {آخَرَ} بالتوحيد رفعه بالابتداء أيضًا، و {أَزْوَاجٌ} مبتدأ ثان، و {مِنْ شَكْلِهِ} خبر الأزواج، والجملة خبر "آخر". ويجوز أن يكون "آخر" معطوفًا على {حَمِيمٌ}، و {مِنْ شَكْلِهِ} نعت له، و {أَزْوَاجٌ} يرتفع بالجار، ولا يحسن أن يكون {أَزْوَاجٌ} خبرًا عن " آخر"؛ لأن الجمع لا يكون خبرًا عن الواحد. قوله: (وأما الغنج فبالكسر لا غير)، يعني: "الشكل" بالفتح، والكسر: المثل، وأما الذي بمعنى الغنج فبالكسر لا غير. الجوهري: الشكل؛ بالفتح: المثل، وبالكسر: الدل، يقال: امرأة ذات شكل. قوله: ({بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ})، {مِرْحَبًا بِهِمْ} دعاء منهم. وقال أبو البقاء: {لا مَرْحَبًا}

{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}، والضمير للعذاب أو لصليهم. فإن قلت: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت: المقدم هو عمل السوء، قال الله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 50 - 51]، ولكن الرؤساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم، وكان العذاب جزاءهم عليه؛ قيل: {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}، فجعل الرؤساء هم المقدمين، وجعل الجزاء هو المقدم، فجمع بين مجازين؛ لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لارؤساؤهم، والعمل هو المقدم لا جزاؤه. فإن قلت: فالذي جعل قوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} من كلام الخزنة ما يصنع بقوله: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجوز أن يكون مستأنفًا وأن يكون حالًا، أي: هذا مقولًا له: {لا مَرْحَبًا}، و {مَرْحَبًا} منصوب على المصدر، أو على المفعول، أي: لا تسمعون مرحبًا. وقوله تعالى: {مَّعَكُمْ} يجوز أن يكون حالًا من الضمير في {مُقْتَحِمٌ} أو من {فَوْجٌ}؛ لأنه قد وصف، ولا يجوز أن يكون ظرفًا لفساد المعنى، ولا يجوز أن يكون نعتًا ثانيًا. قوله: (فجمع بين مجازين)، المجاز الأول في الإسناد: (هم)؛ لأن المقدمين هم الأتباع، فجعل الرؤساء هم المقدمين، ولما كانوا السبب في الإغراء أسند الفعل إليهم. والثاني: العمل هو المقدم، فجعل المقدم الجزاء، وهو من إطلاق اسم المسبب على السبب. قوله: (فالذي جعل قوله: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} من كلام الخزنة ما يصنع بقوله: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ}؟ ) يعني: قد سبق أن الرؤساءإذا قالوا لأجل الأتباع: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} دعاء عليهم، صح أن يجيبهم الأتباع بقوله: {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} وإذا كان {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} كلامًا للخزنة فكيف يكون هذا جوابًا لهم؟ وأجاب: أن الأتباع إذا سمعوا من الخزنة هذا الدعاء أقبلوا على رؤسائهم قائلين: يا رؤساء السوء أنتم أحق به منا لإغوائكم إيانا.

والمخاطبون - أعني رؤساءهم- لم يتكلموا بما يكون هذا جوابًا لهم؟ قلت: كأنه قيل: هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا؛ لإغوائكم إيانًا وتسببكم فيما نحن فيه من العذاب، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوئ فارتكبوه، فقيل: للمزينين: أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم! فقال المزين لهم للمزينين: بل أنتم أولى بالخزي منا؛ فلولا أنتم لم نرتكب ذلك. {قَالُوا} هم الأتباع أيضًا: {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} أي: مضاعفًا، ومعناه: ذا ضعف، ونحوه قوله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} [الأعراف: 38]، وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، كقوله عز وجل: {رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68]، وجاء في التفسير: {عَذَابًا ضِعْفًا} [ص: 61]: حيات وأفاعي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقيل للمزينين)، يروى بكسر الياء وفتحها، فتقدير الفتح: المزين لهم، أي: الذين زين الفعل لهم، و"لهم" صلته بنزع الخافض، وهذا أوفق للمستشهد له؛ لأن الذين قيل في حقهم: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} وهم الأتباع كالمزينين، أي: المزين لهم، وهم الذين قالوا للرؤساء: {لا مَرْحَبًا بِكُمْ}، والمتبوعون كالمزينين؛ بالكسر. قوله: {قَالُوا} هم الأتباع أيضًا)، أي: القائلون لقوله: {مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} هم الأتباع أيضًا. قال أبو البقاء: {مَن قَدَّمَ} هي بمعنى: "الذي"، و {فَزِدْهُ} الخبر، ويجوز أن يكون {مَنْ} نصبًا، أي: فزد من قدم. وقلت: فعلى هذا يكون منصوبًا على شريطة التفسير، والأتباع لما كافحوا الرؤساء بقولهم: {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} وصلوا به متضرعين: ربنا فزد من قدم لنا هذا، ثم عطفوا عليه {فَزِدْهُ} أي: زيادة غب زيادة من غير انقطاع. قوله: (كقوله: {رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68])، يعني: وصف العذاب بالضعف في الآيتين على معنى: مضاعفًا، وذا ضعف، وفي الآية الثالثة بين ضعفين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} ليدل على أن المراد بالضعف: أن يزاد على عذابه مثله؛ لأن القصة واحدة، وأنه من كلام الأتباع للرؤساء. وقيل: بل الصواب أن تقول: إذا زيد عليه ضعفه يصير أضعافًا لا ضعفيه، فإن ضعف الشيء مثلاه، وضعفيه ثلاثة أمثاله، وهو الموافق لقوله تعالى: {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} وإذا زاد على عذابهم ضعفًا فيكون قد أتاهم ضعفين فتطابق قوله في موضع آخر: {رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68]، ونحمد الله على التوفيق لاستخراج المعاني الدقيق. وقلت: نظير هذا البحث ذكره صاحب" المغرب"، وقد ذكرناه ولا باس أن نعيده ها هنا، قال: روى أبو عمرو عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] قال: معناه: جعل الواحد ثلاثة أي: تعذب ثلاثًا أعذبة. وأنكره الأزهري وقال: هذا هو الذي يستعمله الناس في كلامهم ومتعارفهم، وإنما الذي قال الحذاق: إنما تعذب مثلي عذاب غيرها؛ لأن الضعف في كلام العرب: المثل إلى ما زاد، وليست تلك الزيادة بمقصورة على مثلين فيكون ما قال أبو عبيدة صوابًا، وبهذا علم أن ما قاله الفقهاء غير مرضي، ألا ترى كيف صرح بقوله يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، أي: مثلين؟ الراغب: الضعف: من الألفاظ المتضايفة كالنصف والزوج، وهو تركب زوجين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعدًا. والضعف: مصدر، والضعف: اسم، كالمثنى والثني، فضعف المثنى هو الذي يثنيه، ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ومثله نحو أن يقال: ضعف العشرة فذلك عشرون بلا خلاف، وإذا قيل: أعطه ضعفي واحد، فإن ذلك يقتضي الواحد ومثليه وذلك ثلاثة؛ لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافًا، فإذا لم يكن مضافًا فقلت: الضعفين، قيل: ذلك يجري مجرى الزوجين في أن كلا منهما يزاوج الآخر

[{وقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} 62 - 63] {وقَالُوا} الضمير للطاغين، {رِجَالًا} يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم، {مِّنَ الأَشْرَارِ}: من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى؛ ولأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارًا. {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لـ {رِجَالًا} مثل قوله: {كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ}؛ وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} له وجهان من الاتصال؛ أحدهما: أن يتصل بقوله: {مَا لَنَا} أي: ما لنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها؟ قسموا أمرهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيقتضي ذلك اثنين لأن كلا منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان عن الاثنين، بخلاف إذا أضيف الضعفان إلى واحد فيثلثهما، نحو: ضعفين الواحد. قوله: (لا يؤبه لهم)، أي: لا يبالى بهم. الأساس: لا يؤبه به، وما أبهمت له. قوله: ({أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} قرئ بلفظ الإخبار)، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {مِّنَ الأَشْرَارِ * اتَّخَذْنَاهُمْ} بوصل الألف، وإذا ابتدؤوا كسروها. والباقون: بقطعها في الحالين مستفهمين. قوله: (وتأنيب لها، الجوهري: أنبه تأنيبًا، عنفه ولامه. وقال: التأنيب، التوبيخ، حقيقته أنه مأخوذ من الإناب وهو: المسك، مكأنه بالتوبيخ بزيل عنه الطيب والإناب، فإنه يقدح فيه ويعد عليه العيوب والجنايات. قوله: (قسموا أمرهم) أي: قسم الطاغون أمر الرجال بين أن يكونوا من أهل الجنة

بين أن يكونوا من أهل الجنة، وبين أن يكونوا من أهل النار، إلا أنه خفي عليهم مكانهم. والوجه الثاني: أن يتصل بـ {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا}، إما أن تكون {أَمْ} متصلة على معنى: أي: الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم، أم ازدراءهم وتحقيرهم، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم؟ على معنى أنكار الأمرين جميعًا على أنفسهم. وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخريًا، فزاغت عنهم أبصارهم محقرةً لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضي {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} على الخبر أو الاستفهام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبين أن يكونوا من أهل النار، فعلى هذا: المناسب أن يكون {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا} إخبارًا صفة لـ {رِجَالًا}. قوله: (تعلو عنهم)، أي: تحقرهم. الأساس: اعل عني: تنح عني، وعال عن الوسادة واعل عنها، قال: فيا حب ليلى اعل عني قتلتني .... وأعقب بإنسان صحيح مكانيا قوله: (على الخبر أو الاستفهام)، التعريف في"الخبر" للعهد، و"الاستفهام" للعهد والمعهود قوله: " {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًا}، قرئ بلفظ الإخبار"، إلى قوله: "وبهمزة الاستفهام"، أما المعنى على الخبر فإنهم أخبروا عن أنفسهم وسوء صنيعهم بالمسلمين من الاستهزاء والسخرية على سبيل الندم والتحسر، ثم أضربوا عن الإخبار بالأخذ في الإنكار وتأنيب أنفسهم، يعني: لم يكن موضع الإخبار؛ بل هو موضع الإنكار، أزاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حيث ازدرينا بهم واستسخرنا منهم؟ فهو كقولك: إنها لإبل أم شاء، وأما على الاستفهام: فإنهم أنكروا أولًا على أنفسهم الاستسخار منهم ثم أضربوا عنه وأنكروا على أنفسهم أبلغ من ذلك، أي: دع ذلك، أزاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حيث خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين ونحن على الباطل وما تبعناهم؟ فهو كقولك: أزيد عندك؟ أم عندك عمرو؟ فالمثالان في الكتاب نشر لقوله: "على الخبر أو الاستفهام".

كقولك: إنها لإبل أم شاء؟ و: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ ولك أن تقدر همزة الاستفهام محذوفةً فيمن قرأ بغير همزته؛ لأن {أَمْ} تدل عليها، فلا تفترق القراءتان: إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل: الضمير في {وَقَالُوا} لصناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما، والرجال: عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ: {سِخْرِيًّا} بالضم والكسر. [{إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} 64] {إنَّ ذَلِكَ} أي: الذي حكينا عنهم {لَحَقٌّ} لا بد أن يتكلما به، ثم بين ما هو فقال: هو {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}. وقرئ بالنصب على أنه صفة لـ {ذَلِكَ}؛ لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصمًا؟ قلت: شبه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الضمير في {وَقَالُوا} لصناديد قريش)، عطف على قوله: " {وَقَالُوا} الضمير للطاغين"، فعلى هذا يلزم الإضمار قبل الذكر وحذم النظم، ولا يجوز أن يختص قوله: {لِلطَّاغِينَ} بصناديد قريش؛ لأنه في مقابل قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} وهو عام. قوله: (وقرئ: {سِخْرِيًّا} بالضم والكسر)، بالضم: نافع وحمزة والكسائي، والباقون: بالكسر. قوله: (لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس)، هذا مناقض لقوله في"المفضل": اسم الإشارة لا يوصف إلا بما فيه الألف واللام. قال صاحب" التقريب": {تَخَاصُمُ} بدل من {ذَلِكَ}، لا صفة لاسم الإشارة؛ إنما يوصف بما فيه الألف واللام. وقال ابن الحاجب: إنما التزم وصف باب {هَذَا} بذي اللام للإبهام، يعني: أن المبهم يدل على الحضور والتعيين، ولم يدل على حقيقة الذات التي أشير به إليها، فلا بد أن يذكر بعده ما يدل على حقيقة الذات، ولا طريق له إلا وصفه به،

تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك؛ ولأن قول الرؤساء: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ}، وقول أتباعهم: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ}، من باب الخصومة، فسمي التقاول كله تخاصمًا؛ لأجل اشتماله على ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوصفه بما يدل على خصوصية الذات، قبل وصفه بما يدل على معنى الذات، هو القياس، والأسماء الدالة على حقيقة الذوات هي أسماء الأجناس لا العلم ونحوه، وتعريفها باعتبار معناها في نفسها إنما هو باللام. قال بعض المغاربة: وذلك أن اللام معرفة لحقيقة الذات بخلاف الإضافة، فإن تأثيرها في اختصاص حقيقة الذات بالمضاف إليه وذلك بعد تعرف حقيقة الذات. وقلت: هاهنا سيء آخر، وهو الفصل بين اسم الإشارة وصفته بالخبر، وهو غير جائز. وقال صاحب"المقتبس": ومن المسائل في هذا النحو لا يجوز أن تقول: مررت بهذا يوم الجمعة الرجل، ويجوز: مررت بزيد يوم الجمعة العاقل، والفرق: أن اتصال الصفة بالمبهم أشد من اتصالها بسائر الموصوفات؛ لأن اسم الإشارة واسم الجنس كالشيء الواحد من جهة أن المقصود بهما جميعًا ما يقصد من الأسماء، ومنه امتنع: مررت بهذين العاقل والطويل، وجاز: مررت بالزيدين العاقل والطويل؛ لأن صفة غير اسم المبهم ليست في الامتزاج كالمبهم، قالوا: ولذلك لم يجز أيضًا نحو قولك: مررت بهذا ذي المال؛ لأن ذلك يؤدي إلى جعل ثلاثة أشياء شيئًا واحدًا، وإنه مرفوض. ومما مثلوا أيضًا لا تقول: لقيت هذا والخطوب كثيرة الرجل، وقريب من الفصل الأول في شرح الركني. قوله: (ولأن قول الرؤساء: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} وقول أتباعهم: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} من باب الخصومة)، الانتصاف: هذا يوافق التخاصم؛ لأن الخصومة من الجبهتين، خلافًا لمن قال: إن الكلام الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني من كلام الأتباع؛ لأن الخصومة حينئذ من أحد الفريقين. والجواب ما سيجيء في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ}.

[{قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ ومَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ} 65 - 66] {قُلْ} يا محمد لمشركي مكة: ما {أَنَا} إلا رسول {مُنذِرٌ}: أنذركم عذاب الله للمشركين، وأقول لكم: إن دين الحق توحيد الله، وأن يعتقد أن لا إله إلا الله {الوَاحِدُ} بلا ند ولا شريك {القَهَّارُ} لكل شيء، وأن الملك والربوبية له في العالم كله، وهو {العَزِيزُ} الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة، وهو مع ذلك {الغَفَّارُ} لذنوب من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({قُلْ} يا محمد لمشركي مكة: {أَنَا} إلا رسول {مُنذِرٌ})، يعني: هذه الآية متعلقة بأول السورة، فإنه تعالى لما أقسم بقوله: ص، إن القرآن حق، وإن محمدًا صلوات الله عليه لصادق، ثم أنكر على مشركي مكة عزتهم وشقاقهم وقولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]، وتعجبهم من كونه منذرًا وأن الإله واحد، وعد قبائحهم وعنادهم وحسدهم، ثم استهزأ بهم بقوله: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} ثم خسأهم وأنهم جند ما هنالك مهزوم من جنس الأحزاب الخالية الذين كذبوا رسلهم فأهلكهم الله، وفصل ذكر الأنبياء مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه ومستصبرًا له، كل ذلك تمهيدًا للأمر بالإنذار والبشارة والدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وتوطئة له، فقال: {قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} ويدل عليه قوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} وإنما قرن مع"المنذر" الرسول في الوجه الأول دون الثاني؛ لأن المنذر إذن كناية عن كونه رسولًا، فلا يكون رسولًا إلا أن يكون منذرًا ومبشرًا، ولهذا عطف قوله: "وأقول لكم: إن دين الحق توحيد الله" على"أنذركم"، وفسره بقوله: "وأن يعتقد أن لا إله إلا الله" إلى قوله: "وهو مع ذلك الغفار لذنوب من التجأ إليه"، وعلى الوجه الثاني: "المنذر" مجرى على حقيقته. وقوله: "ما أعلم" إشارة إلى إطلاق لفظ {مُنذِرٌ} وإبهامه لتفخيم أمر ما ينذر به، وقوله: "أنا أنذر عقوبة من هذه صفته" عطف تفسيري وتقييد للمطلق، والحاصل أن قوله: {ومَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ} في التنزيل على الوجهين عطف على مضمر يقدر بحسب تفسير قوله: {مُنذِرٌ} وينصر الوجه الأول قوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} وإليه الإشارة بقوله: "من كوني رسولًا منذرًا وأن الله واحد".

التجأ إليه. أو: قل لهم: ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه، كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه. [{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ * إن يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 67 - 70] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي أنبأتكم به- من كوني رسولًا منذرًا، وأن الله واحد لا شريك له- نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوته بأن ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أن ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله. {إن يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ} أي: لأنما نذير. ومعناه: ما يوحى إلى إلا للإنذار، فحذف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: لأنما أنا نذير)، هذا إذا قرئ: {أَنَّمَا} بالفتح، وهي المشهورة، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على نزع الخافض وإفضاء الفعل، والقائم مقام الفاعل في: {يُوحَى} الظرف، والمعنى: ما يوحى من أمر من الأمور إلا لأنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك. وثانيهما: أن يكون {أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ} هو القائم مقام الفاعل و {إلَيَّ} ظرف، والوحي على هذا بمعنى: الأمر، ولهذا قال: "ما أومر إلا بهذا الأمر"، فقوله: "وحده وليس إلى غير ذلك" معنى: {أَنَّمَا}؛ لأن في الكلام حصرين كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6]. فإن قلت: فما هذا الحصر؟ كأنه صلوات الله عليه لم يوح إليه إلا لاختصاص النذارة أولم يؤمر إلا باختصاص الإنذار، كما قال: "وليس إلى غير ذلك"؟ قلت: المخاطبون مشركون، وكان الذي ينكرون عليه صلوات الله عليه الإنذار والدعوة إلى التوحيد، كما مضى من مفتتح السورة إلى أن بلغ إلى قوله: {إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} فما أوثر اختصاص

اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى: ما يوحى إلى إلا هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أي: ما أومر إلا بهذا الأمر وحده، وليس غير ذلك. وقرئ: (إنما) بالكسر على الحكاية، أي: إلا هذا القول؛ وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدعي شيئًا آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. فإن قلت: بم يتعلق {إذْ يَخْتَصِمُونَ}؟ قلت: بمحذوف؛ لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم. و {إِذْ قَالَ} بدل من {إذْ يَخْتَصِمُونَ}. فإن قلت: ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت: أصحاب القصة: الملائكة وآدم وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، وكان التقاول بينهم. فإن قلت: ما كان التقاول بينهم، إنما كان بين الله تعالى وبينهم؛ لأن الله سبحانه هو الذي قال لهم وقالوا له، فأنت بين أمرين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنذار إلا لاختصاص من المنذرين وبذا أمرهم، وكان الواجب قلع الشرك وإزالة ما ينبغي إزالته، فإذا أزيل ذلك وبدل بالإيمان والأعمال الصالحة جاز أن يبشروا، كما قال تعالى: {لِيُنْذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2]، كأنه قال صلوات الله عليه: ما يوحى الآن في شأنكم إلا لأن أنذركم. قوله: (فأنت بين أمرين)، أي: أمرين ممتنعين؛ لأنك إذا قلت: الملأ الأعلى: الملائكة، والخصومة: هي المقاولة التي جرت بينهم وبين الله في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، إلى آخره، يدل عليه قوله ها هنا: {إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} فلا يصح معنى {إذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، لأن الاختصام ليس بين الملائكة، بل بينهم وبين الله تعالى، وإن جعلت {اللهُ} من قبيل الملأ الأعلى التغليب فقد أبعدت المرمى. وأجاب بما يلزم إسناد {يَخْتَصِمُونَ} أن يكون حقيقة ومجازًا معًا، وهو ضعيف كما علم، والأولى أن لا يجعل {إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} بدلًا من {إذْ يَخْتَصِمُونَ}، بل يكون منصوبًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإضمار "اذكر" ويفسر المخاصمة بما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي عن معاذ ابن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فتعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت لبيك يا ربي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثًا، قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق، فادرسوها ثم تعلموها". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا صحيح. وبه فسر محيي السنة الآية وصاحب"المطلع" أيضًا. وقال التوربشتي: ومعنى اختصام الملائكة: تفاوضهم في فضل كل واحد من الجنسين، أعني الدرجات والكفارات، ويحتمل أن يكون المراد منه: اغتباط الملائكة بني آدم بهذه الفضائل لاختصاصهم بها وتقاولهم في فضل البشر، والسبب الموجب لذلك مع تهافتهم في الشهوات، ثم قال: والاختصام الذي في الآية والذي في الحديث يحتمل أنما في قضية واحدة، ويحتمل أن كل واحد في قضية، أما الأول فقد ذهب إليه بعض أهل العلم من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفسرين والمحدثين، وقد ذكروا الحديث في تفسير الآية، غير أنهم لم يبينوا وجه التناسب، وهو يسير على من يسره الله، وهو أن الملائكة لما استقروا الأوضاع البشرية فلم يهتدوا إلى وجه الحكمة في تكريم آدم بسجودهم، نبأهم الله عما أيدوا به من الدرجات والكفارات، ثم قال: والأظهر أن نقول: الاختصاص في الآية غير ما في الحديث، وذلك أن ما في الآية هو تقاول الملائكة في أمر السجود، وقد أمر الله نبيه بأن يحتج على منكري نبوته بما أوحى إليه من قصة الملائكة وآدم؛ ليكون دليلًا على نبوته، أما الحديث فإنه إخبار عما كوشف به في المنام، ومما يدل على التغاير أن في الآية نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم باختصام الملائكة، وفي الحديث لم ينف هو عن نفسه علم الاختصام، وإنما نفى عنه علم ما كان الملائكة يختصمون فيه، مما يدل عليه أيضًا كشف الآية عن اختصام قد مضى، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن اختصام لم يمض، إذ قال له ربه: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ تنبيها على أن حال الاختصام باقيه. وأيضًا إن السورة مكية، والحديث يدل على أن الرؤيا أريها صلوات الله عليه بالمدينة. أما الجواب عن قوله: "إن تقاول الملائكة في أمر السجود"، وقوله: "وأما الحديث فإنه إخبار عما كوشف بها في المنام"، فإن هذا مبني على أن قوله: {إذْ قَالَ رَبُّكَ} بدل من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} وقد بينا ضعفه، على أن البدل فيه ما ينافي الخصومة وهو الفاء في {فَسَجَدَ} فإنها فصيحة، كأنه قيل: فسواه الله ونفخ فيه فسجد الملائكة، فآذنت بسرعة الامتثال وأنه عليه السلام كما وجد لم يتوقف سجودهم عن الوجود مدحًا لهم عليه بالإذعان لأمر الله، فلو توهم التوقف كان ذمًا لهم، كما ذم إبليس بقوله: {إلاَّ إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} فضلًا عن المقاولة في المأمور به، وأيضًا لو كان قوله: {إذْ قَالَ} بدلًا من {إذْ يَخْتَصِمُونَ} لكان الظاهر أن يقال: إذ قال ربي للملائكة؛ لقوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى}، وليس المقام مما يقتضي الالتفات. وعن قوله: "إن النفي في الآية غير النفي في الحديث؛ لأن نفي الاختصام غير، ونفي ما

إما أن تقول: الملأ الأعلى هؤلاء، وكان التقاول بينهم، فلم يكن التقاول بينهم؛ وإما أن تقول: التقاول كان بين الله وبينهم؛ فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فصح أن التقاول كان بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام: التقاول، على ما سبق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه الاختصام غير"، فإن غايته أن ما في الآية مبهم وما في الحديث مؤقت، فيكون الحديث مفسرًا للآية، على أن لابد من التفسير، ولذلك جعل المصنف {إِذْ قَالَ} بدلًا منه. وعن قوله: "كشف الآية عن اختصام قد مضى، والخبر عن اختصام لم يمض"، فإن {يَخْتَصِمُونَ} في الآية وارد على حكاية الحال الماضية، فيدل على استمرار الخصومة واستحضارها في مشاهدة السامع فيما مضى وقتًا فوقتًا، وفيما سيجيء حالًا فحالًا. وعن قوله: "السورة مكية، والحديث مدني"، فإن هذا النقل موقوف على بيان الرواية وصحتها على أنه يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نبهه صلوات الله عليه في مكة على اختصام الملائكة واغتباطهم لبني آدم وما فيهم من الفضائل مجملًا، ثم نبهه ثانيًا في المدينة مفصلًا، والله أعلم بحقيقة الحال. وأما بيان النظم فإنه تعالى لما أمر نبيه صلوات الله عليه بأن يقول: {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولًا منذرًا وأن الله واحد لا شريك له وقهار ومالك للعالمين وعزيز غفار، وأدمج فيه معنى العبادة، وأنه تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبد ويعرف، وأراد أن يعظم ذلك أمر نبيه صلوات الله عليه بأن يعظمه ثانيًا ويقول: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى} أي: بفضل هذا واختصاصه ببني آدم واختصام الملائكة فيه واغتباطهم للبشر، وما أمروا بالسجود لآدم إلا لتلك الكرامات والفضائل، إلا أن الله تعالى أعلمني بالوحي وأمرني بالدعوة فيه والإنذار لمن امتنع منه، فيكون قوله: {إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} مستطردًا لحديث الخصومة في فضائل البشر؛ لما فيه من التكرمة لآدم من كونه مسجودًا للملائكة، والله أعلم.

[{إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إلاَّ إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} 71 - 74] فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم: {إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه: أن يكون قد قال لهم: إني خالق خلقًا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. {فَإذَا سَوَّيْتُهُ}: فإذا أتممت خلقه وعدلته، {ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}: وأحييته وجعلته حساسًا متنفسًا {فَقَعُوا}: فخروا. "كل": للإحاطة. و {أَجْمَعُونَ}: للاجتماع، فأفادا معًا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعًا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات. فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي يسوغ هو السجود لغير الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأفادا معًا أنهم سجدوا عن آخرهم ... وأنهم سجدوا جميعًا في وقت واحد)، قال صاحب"الفرائد": يشكل ما ذكر بقوله حكايةً عن إبليس: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، ورأيت في بعض الحواشي عن الشيخ عبد القاهر: أن زعم من زعم أن {أَجْمَعِينَ} للاجتماع خطأ؛ لأنه صح أن يقال: ناظرت علماء الشرق أجمعين، ولم تكن المناظرة بالاجتماع في وقت واحد، ويمكن أن يقال: إذا كان {أَجْمَعُونَ} بدون الكل أفاد التأكيد المجرد، وهو أن لا يخرج أحد من الفعل، فلم يكن الاجتماع في وقت واحد، بل الاجتماع في الفعل، وإذا كان مع الكل، فالكل للإحاطة، والأجمعون للاجتماع في وقت واحد. وبيانه: أن اللام في الملائكة للاستغراق دخلت على صيغة الجمع فتفيد الشمول، ثم أكد بقوله: {كُلُّهُمْ} لدفع توهم غير الشمول والإحاطة، فأردف بقوله: {أَجْمَعُونَ} ولا بد له من فائدة زائدة، وحاصله أن سبيل {أَجْمَعُونَ} سبيل المظهر إذا وضع موضع المضمر، لاسيما دلالة الفاء الفصيحة في قوله: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ} على ما سبق، على أن مطلق الأمر في هذا المقام لا يفيد إلا الفور.

على وجه العبادة، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل، إلا أن يعرف الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت: كيف استثني إبليس من الملائكة وهو من الجن؟ قلت: قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ}، ثم استثني كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلًا. {وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} أريد: وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرًا؛ لأن"كان" مطلق في جنس الأوقات الماضية في، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد: وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله. [{قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} 75 - 76] فإن قلت: ما وجه قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ قلت: قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن"كان" مطلق في جنس الأوقات الماضية)، روى الزجاج عن أبي العباس أن"كان" لقوته على معنى المضي عبارة عن كل فعل ماض، ثم قال الزجاج: إن"كان" هو على باب سائر الأفعال؛ إلا أن فيه إخبارًا عن الحال قيما مضى، إذا قلت: كان زيد عالمًا، فقد أنبأت أن حاله فيما مضى من الدهر هذا، وإذا قلت: سيكون عالمًا، فقد أنبأت أن حاله سيقع فيما يستقبل، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال. قوله: (فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال)، الراغب: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان- وهي أعظم جارحة- نفعًا، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء والحوك والصوغ والكتابة، صارت مستعارة في القوى جميعا والمنافع كلها، حتى قيل: فلان يد فلان، إذا قواه. وقيل

قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له: "يداك أو كتا وفوك نفخ"، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك. ومنه قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِنَا} [يس: 71] و: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. فإن قلت: فما معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للنعمة: يد؛ لما صارت معينةً للمعطي إعانة يده، وحتى صارت مستعارةً في الله تعالى. قوله: (يداك أو كتا وفوك نفخ)، قال الميداني: قال المفضل: أصله أن رجلًا كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعبر على زق قد نفخ فيه، فلم يحسن إحكامه، حتى إذا توسط البحر خرجت منه الريح فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل، فقال له: يداك أو كتا. يضرب لمن يجني على نفسه الحين. وقال المصنف في " المستقصى": أصله أن شابًا انتهى إلى جوار يستقين بالقرب، فكان يلاعبهن وينفخ في بعض القرب ثم يوكيه، فقتله بعض إخوانهن غيرة، فأخبر أخ المقتول بملاعنتهن، فقال ذلك، فضرب للجاني على نفسه. قوله: (فما معنى قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، الفاء للتسبيب، يعني إذا كان معنى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} العمل وكونه مخلوقًا لله، فما وجه اختصاصه في هذا المقام؟ وخلاصة الجواب: أن ذلك الأمر كان ابتلاءً محضًا للملائكة وإبليس في أنهم هل يؤثرون النص على القياس أو يرجحون القياس؟ بدليل التمثيل بالوزير والملك، فالملائكة مع جلالتهم آثروا النص فامتثلوا لأمر الله تعظيمًا له وإجلالًا لخطابه، وإبليس مع ضعته آثر القياس، حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فقيل له على سبيل القول بالموجب: هب أنه كان مخلوقًا من تراب فهلا نظرت إلى أمري فسجدت ولم تنظر إلى تلك العلة فلم تمتنع؟ وإليه الإشارة بقوله: "لم تركته مع وجود هذه العلة"، فقوله: "من السجود" بيان"ما

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تركته"، يعني: ذكر لإبليس السجود مع تلك العلة ووبخه عليها في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} هذا تطويل وإخفاء للشمس بالطين لحب المذهب، فإنه تعالى علل إنكاره عليه بعدم السجود بهذه العلة التي تدل عل تكرمة المسجود له، بدليل قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ} ثم إيراد اللعين ذلك القياس الفاسد حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فكيف يجعل قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} متضمنا لهذا، وقد جعل جوابًا للإنكار. قال صاحب" الانتصاف": أطال الزمخشري فارًا من معتقدين: أحدهما: أن اليدين من صفات الذات أثبتها السمع، هذا مذهب الشيخ أبي الحسن والقاضي، وأبطلا حمل اليدين على القدرة، بأن اليدين تثنية، وقدرة الله واحدة، وأبطلا الحمل على النعمة، فإن نعم الله لا تحصى. وأما غيرهما من أهل السنة كإمام الحرمين وغيه فاختار الحمل على النعمة والقدرة، أجاب عما ذكراه بنعمة الدنيا والآخرة، وبهذا يتحقق فضله على إبليس إذ لم يخلق لنعمة الآخرة، وقد يراد بالتثنية التعظيم. والمعتقد الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك، والزمخشري شديد التعصب فيه، فلا جرم مثل قصة آدم في انحطاط رتبته ببعض سقاط الحشم مثالًا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء، وأقام لإبليس عذره وصحح اعتقاده في أنه أفضل من آدم، وإنما غلطه من جهة أنه لم يجعل نفسه أسوة الملائكة مع علمهم بأن آدم عليه السلام ساقط المنزلة، والمراد ضد ما ذكره الزمخشري وهو: تعظيم معصية إبليس إذ لم يعظم من كرمه الله عليه وخلقه بيديه؛ وذلك تعظيم لا تحقير، وفي حديث الشفاعة يقولون: "أنت آدم خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته" وذلك كله تعظيم آدم وخصائصه، وقلت: كذلك في محاجة موسى وآدم.

قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم، واستنكف منه: أنه سجود لمخلوق، فذهب بنفسه، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أن آدم مخلوق من طين، وهو مخلوق من نار، ورأى للنار فضلًا على الطين؛ فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعز عباده عليه وأقربهم منه زلفى، وهم الملائكة، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم، ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدام أعينهم، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له؛ تعظيمًا لأمر ربهم وإجلالًا لخطابه- كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم يقتضي أثرهم، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله، أوغل في عبادته منهم في السجود له؛ لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح، فقيل له: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، أي: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي- لا شك في كونه مخلوقًا- امتثالًا لأمري وإعظامًا لخطابي كما فعلت الملائكة؟ فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة، وقد أمرك الله به؟ يعني: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم، فيمتنع اعتبارًا لسقوطه، فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علي سقوطه؟ يريد: هلا اعتبرت أمري وخطابي وتركت اعتبار سقوطه! وفيه: أني خلقته بيدي، فأنا أعلم بحاله، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه: من إنعام عليه بالتكرمة السنية، وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له؟ ! . وقيل: معنى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: لما خلقت بغير واسطة. وقرئ: (بيدي)، كما قرئ: {بِمُصْرِخِيِّ} [إبراهيم: 22]، و: (بيدي) على التوحيد. {مِنَ الْعَالِينَ}: ممن علوت وفقت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ممن علوت وفقت)، "من" في "ممن علوت" موصلة، وصلته "علوت"، فسر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} به؛ لأن أصله"أستكبرت أم علوت؟ " فأريد مزيد الإنكار عليه، فقيل: أستكبرت أم كنت الذي علوت؟ كما نقل عن سيبويه: أنت الذي يفعل، على الخطاب، ثم لمزيد التوبيخ جمعه وأدخله في زمرة العالين وقال: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} فوضع {مِنَ الْعَالِينَ} موضع"الذي علوت"، كقوله تعالى {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]، أي: قال، وقولك: فلان من العلماء، أي: عالم، إيذانًا بأن له مساهمة معهم في العلم وأن الوصف كاللقب المشهود له، وإنما قلنا: إن الأصل ذلك؛ لأنه قال في قوله تعالى: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 61]، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَلَاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62]، أبلغكم صفة {رَسُولٌ} وجاز وإن كان الرسول لفظه لفظ الغائب؛ لأن الرسول واقع خبرًا عن ضمير المتكلم فكان في معناه، فعلم أن أصله: لكني أبلغكم رسالات ربي، فأدخل: {رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} توطئةً وتمهيدًا المزيد الإيهام والتعظيم. ومن الأسلوب ما روينا في حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". أخرجه مسلم والبخاري. أنا الذي سمتني أمي حيدره .... كليث غابات كريه المنظره لأنه رضي الله عنه بيدي به بسالته، وأنه ممن لا يخفى حالة على أحد في شجاعته، ولو قيل: أنا الذي سمته أمه حيدرة؛ لكان أخبر عن شخص ما بينه وبين المخاطب عهد، وأنه مسمى بهذا الاسم، فقال: أنا ذلك المسمى فاعرفه، لكن عدل إلى قوله: "سمتني" لتلك النكتة، وإن شئت أن تعرف أن الموصولات مقحمة للتفخيم جرب ذوقك في الحديث الذي رويناه: "وقل: أنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي":

فأجاب بأنه من العالين حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}. وقيل: أستكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة: التقرير. وقرئ: (استكبرت) بحذف حرف الاستفهام؛ لأن {أَمْ} تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى، أي: لو كان مخلوقًا من نار لما سجدت له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؛ لأنه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى- وهي: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} - مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح. [{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ} 77 - 78] {مِنْهَا}: من الجنة. وقيل: من السماوات. وقيل: من الخلقة التي أنت فيها؛ لأنه كان يفتخر بخلقته، فغير الله خلقته فاسود بعدما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسنًا، وأظلم بعدما كان نورانيًا. والرجيم: المرجوم، ومعناه: المطرود، كما قيل له: المدحور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقل: أنا سمتني أمي حيدرة، وفي استشهاد سيبويه: أنت تفعل. لتجد صحة التركيب مع فقدان الذوق عند الحذف. قوله: (هذا على سبيل الأولى)، {هَذَا} إشارة إلى قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} في قوله: "فأجاب بأنه من العالين"، حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، يعني: هذا المذكور أولى من الجواب المطابق وهو قوله: {مِنَ الْعَالِينَ}؛ لأنه جواب مع العلة، ولهذا قال: لو كان مخلوقًا من نار سجدت له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؟ ولو أجاب على مقتضى الظاهر وقال: أنا من العالين، لم يفد هذه الفائدة، ويقرب أن يسمى جواب إبليس من الأسلوب الأحمق، ولهذا عقبه بقوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ}. قوله: (وأظلم بعدما كان نورانيا)، قال: هذا يدل على أنه لم يكن كافرًا حين كان من الملائكة، ولأن الله سبحانه وتعالى لم يحك عنه إلا الاستكبار بأنه لم يسجد، وهذا دليل على أنه صار كافرًا حين لم يسجد.

والملعون؛ لأن من طرد رمي بالحجارة على أثره. والرجم: الرمي بالحجارة. أو لأن الشياطين يرجمون بالشهب. فإن قلت: قوله: {لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ} كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت: كيف تنقطع وقد قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]. ولكن المعنى: أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة، فكأنها انقطعت. [{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ} 79 - 81] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة)، يريد: أن اللعنة في الدنيا هي الطرد والبعد، فهي مطلقة من العذاب، فينتهي هذا المطلق ذلك اليوم ثم يصير المطلق مقيدًا بالعذاب، ونحوه حديث عائشة رضي الله عنها: "إذا حاضت حرم الحجران"، ومعناه أن حرمه الدبر قبل الحيض منفردة، وإذا حاضت انضمت إلى حرمة الدبر حرمة القبل وانقطع انفراد حرمة الدبر. قال صاحب"الفرائد": سألني بعض الأكابر عن هذا فقلت: اللعنة: التبعيد عن رحمة الله تعالى، وتبعيد إبليس في كل زمان إلى يوم القيامة؛ لأن تبعيده بقدر إغوائه عباد الله وذلك إلى يوم القيامة؛ لأنه جاء يوم القيامة لم يكن له إغواء فبعده من رحمة الله في التزايد إلى يوم القيامة، فقبلوا هذا الجواب واستحسنوه. وقلت: هاهنا ثلاث عبارات: {يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20]، وهو: يوم الجزاء، و {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87]، وهو يوم الحشر، و {يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ} [ص: 81]، وهو الوقت الذي فيه النفخة الأولى، ولا ارتياب أن إغواءه إنما ينتهي إلى آخر أيام التكليف وهو الوقت المعلوم، ولهذا لما طلب الإغواء إلى يوم البعث أجيب إلى يوم الوقت المعلوم، واختصاص يوم الدين؛ لأجل أن الجزاء والعذاب إنما يبتدأ منه، فصح قول المصنف.

فإن قلت: ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت: الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى {الْمَعْلُومِ}: أنه معلوم عند الله معين، لا يستقدم ولا يستأخر. [{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} 82 - 83] {فَبِعِزَّتِكَ}: إقسام بعزة الله تعالى؛ وهي سلطانه وقهره [{قَالَ فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 84 - 85] قرئ: (فالحق والحق) منصوبين؛ على أن الأول مقسم به، ك"الله" في: إن عليك الله أن تبايعا وجوابه: {لأَمْلأَنَّ}، {والْحَقَّ أَقُولُ}: اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، ومعناه: ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق: إما اسمه عز وعلا الذي في قوله: {أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، أو: الحق الذي هو نقيض الباطل؛ عظمه الله بإقسامه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: "فالحق")، كلهم إلا حمزة وعاصمًا. قوله: (إن عليك الله أن تبايعا)، تمامه في"المطلع" من بيت الكتاب: تؤخذ كرها أو ترد طائعا كان شخص أخذ قهرًا بأن يبايع والياء، وقيل: إن عليك أن تبايع، أي: الواجب أو القسم عليك وحق الله أن تبايع فلانًا أخذت كرهًا لأجل ذلك، ثم بعد المبايعة ترد طوعًا، و"تؤخذ" بدل من"تبايع"، أي: بدل الفعل من الفعل كبدل الاسم من الاسم.

به؛ ومرفوعين على أن الأول مبتدأ محذوف الخبر، كقوله: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، أي: فالحق قسمي لأملأن، والحق أقول، أي: أقول، كقوله: كله لم أصنع ومجرورين: على أن الأول مقسم به قد أضمر حرف قسمه، كقولك: الله لأفعلن، و"الحق" أقول، أي: ولا أقول إلا "الحق" على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه: التوكيد والتشديد. وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضًا، وهو وجه دقيق حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقوله: كله لم أصنع)، يعني: أن الضمير المنصوب محذوف للتخفيف، تقديره: لم أصنعه. أوله لأبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي .... علي ذنبًا كله لم أصنع "كله" لم ينصبه؛ ولأنه لو نصبه لكان ذلك إقرارًا منه بأنه قد صنع بعضه، ورفعه ليؤذن بأنه لم يصنع منه شيئًا قط، ففي أحدهما: سلب العموم، وفي الآخر: عموم السلب. قوله: (وهو وجه حسن دقيق)، أي: جعل الثاني حكاية عن الأول ومعربًا بإعرابه، فتقول على المجرور: فالله لأملأن جهنم. والحق أن القسم حق، وعلى المنصوب: فالله لأملان، والحق أن هذا القول حق، وعلى المرفوع: فالحق قسمي لأملأن. {والْحَقَّ أَقُولُ}، أي: هو سنتي وعادتي، فعلى هذا لا يكون اعتراضًا بل يكون لمجرد التوحيد كالتكرير. فإن قلت: فسر على تقدير النصب معنى قوله: "الحق أقول" على الحصر بقوله: "ولا أقول إلا الحق" وهو جائز؛ لأنه مفعول قدم على عامله؟ وما وجهه على الجر؟

وقرئ: برفع الأول وجره مع نصب الثاني، وتخريجه على ما ذكرنا. {مِنْكَ}: من جنسك؛ وهم الشياطين، {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من ذرية آدم. فإن قلت: {أَجْمَعِينَ} تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في {مِنْهُمْ}، أو الكاف في {مِنْكَ} مع (من تبعك). ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحدًا. أو: لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم. [{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ * إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 86 - 88] {عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الضمير للقرآن، أو للوحي، {ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ}: من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعًا ولا مدعيًا ما ليس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: إنه على القسم، والقسم في المعنى يفيد معنى الحصر والجزم في القول. قوله: (وتخريجه على ما ذكرنا)، فرفع الأول للابتداء، وجره للقسم، ونصب الثاني على أنه مفعول مقدم، والجملة معترضة. قوله: (ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين {أَجْمَعِينَ})، هذا على أن يكون {أَجْمَعِينَ} تأكيدًا للكاف مع {مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42]، فيرجع معنى التأكيد إلى التابع والمتبوع معًا، ولذلك قال: "لا أترك منهم أحدًا"، وقوله: "أو لأملأنها من الشياطين وممن يتبعهم من جميع الناس"، وعلى هذا يرجع معنى التأكيد إلى التابعين دون المتبوعين، ولذلك قال: "من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس"؛ وإنما ترك توكيد الشياطين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الإنسان، فما بال المتبوعين؟ قوله: (وما عرفتموني قط متصنعًا)، يعنى: أن قوله: {ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} ليس

عندي، حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن، {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ} من الله {لِّلْعَالَمِينَ}: للثقلين أوحي إلي فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم". {ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي: ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة {ص} كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات، وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإعلام لهم، بل يستشهدهم ويذكرهم علمهم فيه بأن كما رأوه وعلموه ليس بمتكلف فيه. تمت السورة حامدًا الله ومصليًا على رسول الله * * *

سورة الزمر

سورة الزمر مكية، إلا قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} الآية وتسمى سورة الغرف وهي خمس وسبعون آية، وقيل: ثنتان وسبعون بسم الله الرحمن الرحيم [{تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إنَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ ولَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} 1 - 4] {تَنزِيلُ الكِتَابِ} قرئ: بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف، أو خبر مبتدأ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الزمر مكية إلا قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الاية وهي خمس وسبعون، وقيل: ثنتان وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (قرئ بالرفع)، وهي المشهورة.

محذوف، والجار صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله، أو غير صلة، كقولك: هذا الكتاب من فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر؛ أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله، أوحال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة؛ بالنصب على إضمار فعل، نحو: اقرأ، والزم. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول: أنه القرآن، وعلى الثاني: أنه السورة. {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}: ممحضًا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ: (الدين) بالرفع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة)، هذا مما منعه بعضهم واختاره الزجاج، وقد استقصينا القول فيه في فاتحة"البقرة". قوله: (الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن)، والوجه الأول: هو أن يكون {تَنزِيلُ الكِتَابِ} مبتدأ أخبر عنه بالظرف؛ لأن المعنى: تنزيل القرآن من عند الله العزيز الحكيم. والوجه الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه السورة قول من عند الله أو هذا تنزيل السورة كائنًا من عند الله، يدل عليه ما جاء في فواتح السور التي حليت بأسماء الإشارة نحو {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} فإن الكتاب مفسر فيها باسم السورة غالبا، كما استقرأنا من كلامه، وأما القراءة بالنصب على تقدير" الزم" أو اقرأ" فالظاهر أنه القرآن. قوله: (من الشرك والرياء)، لف لقوله: "بالتوحيد وتصفية السر"، وفي"المطلع": قصد العبد بعمله ونيته رضا الله لا يشوبه بشيء من عرض الدنيا. الراغب: الخالص كالصافي؛ إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه يقال: خلصته فخلص، ولذلك قال الشاعر:

وحق من رفعه أن يقرأ (مخلصًا) بفتح اللام، كقوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خلاص الخمر من نسج الفدام والفدام: ما يوضع في فم الإبريق ليصفى به ما فيه. وقال الله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] وإخلاص المؤمنين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه، والنصارى من التثليث. قال تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] وحقيقة الإخلاص: التعري عن كل ما دون الله، وقال الشيخ العارف الأنصاري: الإخلاص إخراج رؤية العمل من العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنزول عن الرضا بالعمل. قوله: (وحق من رفعه أن يقرأ" مخلصًا بفتح اللام)، إلى آخره، معرفة هذا الكلام موقوفة على معرفة كلام الزجاج؛ لأنه بناه عليه، قال الزجاج: قوله {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} منصوب بوقع الفعل عليه، و {مُخْلِصًا} منصوب على الحال، أي: فاعبد الله موحدًا له لا تشرك به شيئًا. وزعم بعض النحويين أنه يجوز" مخلصًا له الدين" برفع {الدِّينَ}؛ على أن قولك" مخلصًا" تمام الكلام، ويكون {لَهُ الدِّينَ} مبتدأ وخبرًا، وهذا لا يجوز من وجهين: أحدهما أنه لم يقرأ به، والآخر أنه يفسده {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ}، فيصير {لَهُ الدِّينَ} مكررًا في الكلام لا يحتاج إليه. وهو المراد من قول المصنف: "رجع الكلام إلى قولك: لله الدين، ألا لله الدين الخالص"، ولهذا الإشكال قال: "وحق من رفعه أن يقرأ" مخلصًا" بفتح اللام"، فيكون حالًا من" الله" تعالى لا من"العابد"، فيتصل قوله: {لَهُ الدِّينَ} بالحال اتصال قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قال عربيًا حال موطئة كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فيقع الاستئناف في موقعه، أي:

[النساء: 146] حتى يطابق قوله: {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، والخالص والمخلص واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر، وأما من جعل {مُخْلِصًا} حالًا من العابد، و {لَهُ الدِّينَ} مبتدًا وخبرًا، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر؛ لاطلاعه على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند قوله: {ألَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} اللهم إلا أن يجعل من رفع"الدين" و {مُخْلِصًا} بالكسر " الدين" فاعل {مُخْلِصًا} على الإسناد المجازي، أي: فاعبد الله مخلصًا دينك لله، وأصله مخلصًا الدين لله؛ بالنصب، فيتصل به ويقع الاستئناف في موقعه، وقوله: "إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه" مستثنى من قوله: "وحق من رفعه أن يقرأ مخلصًا بفتح اللام". قال صاحب"التقريب" في قوله: "رجع الكلام إلى قولك: لله الدين ألا لله الدين الخالص" نظر، لأن تغاير دلالتي الجملتين على الإجمال والتفصيل ظاهر، وهو توكيد. وقلت: بين الجملتين بون؛ وغاية معنى الجملة الأولى بسبب تقديم الخبر تأكيد الاختصاص؛ لأن اللام أيضًا الاختصاص، وأما الجملة الثانية فهي منقطعة عنها؛ لتصدرها بكلمة التنبيه، قال: {ألَا} مركب من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقًا، وموقع الجملة في هذا المقام موقع التذييل للكلام السابق، وحسنه أن يكون مؤكدًا لمضمون جملة قوله: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لاتفاقهما وتطابقهما، وإليه الإشارة بقوله: "الخالص والمخلص"، أي: بفتح اللام "واحد" لأن الدين إذا كان مخلصًا كان خالصا، ولو جعل تذييلًا لقوله: له الدين وحده، جاء الكلام مبتورًا ونباه الطبع السليم، فإن معنى {للهِ الدِّينُ} أن الدين مختص به لا بغيره، وهو معنى {أَلَا للهِ الدِّينُ} فيبقى وصف الدين بالخالص خارجًا وتطويلًا، ومن ثم أحاله إلى الذوق في قوله: "رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين ألا الله الدين الخالص". قوله: (أي: هو الذي وجب اختصاصه)، تفسير للتذييل، قال القاضي: ألا هو الذي

الغيوب والأسرار؛ ولأنه الحقيق بذلك؛ لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة: {الدِّينُ الْخَالِصُ}: شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} يحتمل المتخذين؛ وهم الكفرة، والمتخذين؛ وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى. عن ابن عباس رضي الله عنهما. فالضمير في {اتَّخَذُوا} على الأول: راجع إلى {وَالَّذِينَ}، وعلى الثاني: إلى المشركين، ولم يجر ذكرهم؛ لكونه مفهومًا، والراجع إلى {وَالَّذِينَ} محذوف، والمعنى: والذين اتخذهم المشركون أولياء، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} في موضوع الرفع على الابتداء. فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت: هو على الأول: إما {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، وأما ما أضمر من القول قبل قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ}. وعلى الثاني: {إِنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجب اختصاصه بأن يخلص له العبادة والطاعة، فإنه المنفرد بصفات الإلهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. وقلت: في إبراز اسم الجامع شأن عظيم وخطب جليل في هذا الباب، والمصنف خصه بحسب اقتضاء المقام، وهو إيجاب اختصاصه بأن تخلص له العبادة بأمرين مناسبين: أحدهما: أنه مطلع على الغيوب والأسرار، فيطلع على سر من أخلص ومن راءى. وثانيهما: أنه منعم على الإطلاق لا يستجر بما أنعم به نفعًا، فلا ينبغي أن يشوب عبادته بما يكدره، ولما أمر عباده المخلصين بما أمر عقبه على سبيل الاستطراد، وذكر من يكدر العبادة بالشرك ويتعلل بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى}. قوله: (وعلى الثاني: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، فإن قلت: لم خص الثاني بوجه واحد؟ قلت: المعنى على الأول- أي: على تقدير المتخذين؛ بكسر الخاء- الكفرة الذين اتخذوا من دون الله أولياء {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أو يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى}، وعلى الثاني- أي: على تقدير فتح الخاء- الذين اتخذهم المشركون أولياء {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، ولا يصح: يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللهِ}.

اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. فإن قلت: فإذا كان {إِنَّ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الخبر، فما موضع القول المضمر؟ قلت: يجوز أن يكون في موضع الحال، أي: قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلًا من الصلة، فلا يكون له محل، كما أن المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول: (قالوا ما نعبدهم)، وفي قراءة أبي: (ما نعبدكم إلا لتقربونا) على الخطاب، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ: (نعبدهم) بضم النون إتباعًا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر والتنوين في {وَعَذَابٍ * ارْكُضْ} [ص: 41 - 42]، والضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم ولأوليائهم. والمعنى: أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها؛ حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وألئك يعادونهم ويلعنونهم، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى. وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض، أقروا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا مِنَ اللهِ زُلْفَى}؛ فالضمير في {بَيْنَهُمْ} عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين. والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلًا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون بدلًا من الصلة)، والتقدير: والكفرة الذين يقولون: لا نعبد الأصنام إلا ليقربونا، إن الله يحكم بينهم. قوله: (وقيل: كان المسلمون)، عطف على قوله: "الضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم ولأوليائهم"، وعلى هذا: الضمير في {بَيْنَهُمْ} لهم وللمسلمين، كما صرح بذلك. قوله: (والمراد بمنع الهداية منع اللطف)، الانتصاف: يجب حمل الآية على ظاهرها وأن الله خالق الإيمان والضلال؛ لقوله: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفًّارُ}. وقلت: قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الظاهر أنه اعترض للتأكيد ودفع ذلك التأويل.

وقرئ: (كذاب)، (كذوب)، وكذبهم: قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء: بنات الله؛ ولذلك عقبه محتجًا عليهم بقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ ولَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يعني: أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح؛ لكونه محالًا، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذبهم: قولهم في بعض ما تخذوا)، يعني: وضع {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} موضع ضمير المتخذين -بكسر الخاء-، والمتخذ -بالفتح- بعض ما اتخذوه، وهو الملائكة والمسيح واللات والعزى، كما سبق. قوله: (فافتتنتم به)، افتتن الرجل وفتن فهو مفتون: إذا أصابه فتنة فذهب ماله وعقله. وتقرير المسألة على ما قال صاحب "التقريب": لو أراد اتخاذ الولد لم يصح إلا أن يصطفي بعض خلقه، وقد اصطفى الملائكة وشرفهم، فغركم اختصاصه فزعمتم أنهم أولاده بل بناته فكنتم كذابين. وفي تحقيق معنى التلازم ونفي اللازم أو إثبات الملزوم على ما قرر نظر، فالأولى ما قيل: لو أراد يتخذ ولدًا كما زعمتم لاختار الأفضل لا الأنقص وهن الإناث. وقلت: مراد المصنف: أن مؤدى {لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} في هذا المقام مؤدى قولنا: لامتنع، ولم يصح، إلى آخره. والاستثناء في قوله: "ولم يتأت إلا أن يصطفي" على أسلوب قول لبيد: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب أراد: ليس فيهم عيب البتة، فوضع "غير أن سيوفهم بهن فلول" موضعه، أي: لو كان هذا عيبًا فهم موصوفون به، فإذن لا عيب فيهم، وكذلك المعنى: لو أراد الله أن يتخذ ولدًا

أولاده، جهلًا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه؛ وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادًا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته، غالين في الكفر، ثم قال: {سُبْحَانَهُ} فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، ولا خفاء أن هذا الاصطفاء ليس من اتخاذ الولد في شيء، فإذا محال أن يتخذ ولدًا. تلخيصه: أنه لو أراد أن يتخذ ولدًا لكان الطريق إلى ذلك ما يمتنع أن يكون طريقًا وهو اصطفاء الملائكة، وإليه أشار بقوله: "لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل"، ونظيره من حيث المبالغة قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} قال: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] موضع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل. وقال الإمام: المعنى لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لما رضى إلا بالأكمل وهو الابن، فكيف نسبتم إليه البنت؟ كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40] تم كلامه. فإن قيل: الكلام غير وارد في اتخاذ الإناث حتى يرد إلى الذكور، بل في نفي الولد مطلقًا. قلت: إذن لا ينبغي أن يكون المفروض في قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} الملائكة، بل غيرهم ممن هو أعلى مرتبة منهم وأقرب نسبة إلى الله وإلى الألوهية؛ ليصح الترقي من اتخاذ الملائكة والمسيح ولدًا إليهم، ولهذا جيء بالتنزيه والتوحيد الصرف، وتم المعنى بوصف القهارية وكلمه بدليلي الآفاق والأنفس، يعني: قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} وقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية. ثم بين غناه عن الخلق بقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ}.

من الأولاد والأولياء. ودل على ذلك بما ينافيه؛ وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبه؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه، ولا جنس له؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة؛ لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهث صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. وقهار: غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟ [{خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ويُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ} 5] ثم دل بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام، على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه، وكورها. وفيه أوجه؛ منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشي مكانه فكأنهما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس، ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب: تلوي الثنايا بأحقيها حواشيه .... لي الملاء بأبواب التفاريج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تلوي الثنايا بأحقيها)، البيت. الثنية: العقبة، والثنايا: جمع، والحقو: الخصر مشد الإزار. حواشيه: جوانب السراب، والملاء جمع ملاءة، وهي: الجلباب، والتفراج -بالجيم- الباب الصغير، وجمعه التفاريج. يقول: تلوي الهضاب بأوساطها حواشي السراب مثل لي المرط بأبواب الدار، وليها بالدار هو أن لا يطرد اطرادًا. والحاصل أن الآية تحتمل ثلاثة أوجه من التشبيه: أحدها: أن يكون من تشبيه المحسوس بالمحسوس، والوجه أمور، ولكن في حكم واحد وهو تشبيه الهيئة الحاصلة من اختلاط الليل بالنهار عند طلوع الفجرين وظهور

ومنها: أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورًا متتابعًا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على عقاب المصرين {الْغَفَّارُ} لذنوب التائبين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخيطين، في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] بالهيئة الحاصلة من لف اللباس على اللابس بحيث لا يطرد اللباس في التستر كما يرى من لي الهضبات حواشي السراب، ولي الملاء بأبواب التفاريج في بيت ذي الرمة. وثانيها: تشبيه محسوس بمحسوس والوجه واحد حقيقة. شبه غشيان كل واحد من الليل والنهار الآخر في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ} [يس: 37] بشيء ظاهر لف ما غيبه عم مطامح الأبصار. وثالثها: يحتمل أن يكون تمثيلًا بأن يشبه حالة كرور الليل والنهار ومجيء أحدهما في أثر بعض وما يتصل بها من المنافع كقوله: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] بحالة تتابع أكوار العمامة بعضها عقيب بعض وما يتصل بها من الحسن، فإنها كالتيجان للعرب وما يحصل من التغيير وتبديل الأحوال، كما قال الحماسي: أشاب الصغير وأفنى الكبيـ .... ــــر كر الغداة ومر العشي فإن قلت: هل يعد ما في الآية تشبيهًا كما صرح به المصنف؟ قلت: لا، بل استعارة، فإن قوله: {يُكَوِّرُ} إما مستعار للاختلاط على الأول، وإما للغشيان في الثاني، وإما للتتابع في الثالث، والمستعار له غير مذكور، وذكره التشبيه توطئة وبيان لطريق الاستعارة؛ لأن الاستعارة متفرعة على التشبيه. قوله: ({الْغَفَّارُ} لذنوب التائبين)، الانتصاف: ولمن شاء من المصرين دون الشرك على ما سبق.

أو: الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم مغفرةً. [{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 6] فإن قلت: ما وجه قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالًا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه؛ إلا أن أحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والآخرى لم يجر بها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قيصرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بـ {ثُمَّ} على الآية الأولى؛ للدلالة على مباينتها لها فضلًا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم)، إلى قوله: (فسمى الحلم عنهم مغفرة)، وقلت: هذا أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله: {ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} مقابل لقوله: {ألَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} لأنه تعالى ذكر أولًا ما يدل على الدين من ذكر الكتاب، وأنه منزل من لدن عزيز حكيم، وأنه إنما نزل ملتبسًا بالحق ليترتب عليه العبادة والإخلاص وكان قوله: {ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} تذييلًا له، وذكر بعده ما يدل على عظم شأن ما نسبوا إليه من الشرك والأولاد وما دل على تنزيهه عن ذلك، وأنه منفرد بالإلهية قهار خالق للأشياء كلها، ثم ذيله بقوله: {ألَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} توكيدًا لتفظيع معنى ما نسبوا إليه، فلابد من تفسيره بما قال: "الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم وهو يحلم عنهم". قوله: (وخلق حواء)، عطف على "تشعيب"، وهما بدلان من قوله: "آيتان"، و"هما" ضمير مبهم مفسر بـ"آيتان". قوله: (قصيراه)، وهو الضلع الأسفل، وهو أقصر الضلوع.

زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل: {ثُمَّ} متعلق بمعنى {وَاحِدَةٌ}، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ}: وقضى لكم وقسم؛ لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة، ثم أنزلها. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}: ذكرًا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر، قال الله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]. {خَلْقًا مِن بَعْدِخَلْقٍ}: حيوانًا سويًا، من بعد عظام مكسوة لحمًا، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاثة: البطن والرحم والمشيمة. وقيل: الصلب والرحم والبطن. {ذَلِكُمُ} الذي هذه أفعاله هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود)، قال صاحب "الفرائد": أي مانع يمنع من أن يكون التراخي في الوجود، لعل خلق حواء من آدم بعد مدة. قلت: المانع جعل قوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوفًا على قوله: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ} عطف الجملة على الجملة، ولا شك أن تشعيب الخلق الفائت للحصر من آدم لم يكن مقدمًا على خلق حواء من ضلع آدم، ولهذا لما أراد ذلك المعنى عدل من الظاهر وأوله على وجهين: أحدهما: قال: "وقيل: {ثُمَّ} متعلق بمعنى {وَاحِدَةٍ} "، أي: أنها صفة لـ {نَفْسٍ} معطوفة على {وَاحِدَةٍ} على تأويل "وحدت"، إذ لو قيل: "وحدت" بدلها لصح على منوال "فأصدق وأكن"، وثانيهما: وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعدها حواء، فالمراد من قوله: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ} أخرج الذرية من ظهره، فيكون من عطف الجملة على الجملة على هذا التأويل، و {ثُمَّ} على حقيقتها، ولا يخفى على ذي دربة بالأساليب أن التأويل الأول أولى وأبعد من التعسف.

إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟ [{إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 7] {فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ}: عن إيمانكم، وإنكم المحتاجون إليه؛ لاستضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان، {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} رحمةً لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة. {وإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يرض الشكر لكم؛ لأنه سبب فوزكم وفلا حكم؛ فإذًا ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلا لكم ولصلاحكم؛ لا لأن منفعة ترجع إليه؛ لأنه الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا رضي شكركم إلا لكم ولصلاحكم، لا لأن منفعة ترجع إليه)، هذا من التراكيب التي منعها صاحب "المفتاح"، قال: لا يجوز ما جاء إلا زيد لا عمرو، وقد أجبنا عنه مرارًا. قوله: (ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر)، قال الإمام: احتج الجبائي بهذه الآية من وجهين: أحدهما أن المجبرة يقولون: الله تعالى خلق كفر العباد، وإنه من جهة أنه من خلقه حق وصواب. فقال: لو كان الأمر كذلك لكان قد رضي الكفر من الوجه الذي خلقه، وذلك ضد الآية. والثاني: لو كان الكفر بقضاء الله لوجب علينا أن نرضى به؛ لأن الرضا بقضاء الله واجب، والرضا بالكفر كفر. وأجاب الأصحاب من وجوه: أحدها: أن عادة الله جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وقال: {عَيْنًا يَّشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6] وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطّانٌ} [الحجر: 42]. قلت: ويؤيده ما روى محيي السنة عن ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطّانٌ} فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى. وثانيها: أن الكفر بإرادة الله لا برضاه؛ لأن الرضا من الله عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله. وثالثها: أن الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض لا عن الإرادة. قال ابن دريد: رضيت قسرًا وعلى القسر رضا .... من كان ذا سخط على صرف القضا وأقول- وبالله التوفيق-: اعلم أن قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا} متصل بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وهم قوم مخصوصون، قال الواحدي: إن تكفروا يا أهل مكة، وقد تقرر أن قوله: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} مقابل لقوله: {أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وهو متضمن لتهديد عظيم، والمشار إليه بقوله: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ} جميع ما سبق من إجراء الأوصاف على من وصفوه بما لا ينبغي ونسبوه إلى ما هو منزه عنه من اتخاذ الأولياء والأولاد، يدل عليه قوله: {لَا إِلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، فيكون قوله: {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} جملةً مستطردةً كالتتميم للشرط الأول، تعريضًا بهم وبكفرهم، وهو مع الشرط كالمقابل للشرط الثاني. المعنى: أنهم ليسوا من جملة عباده المرتضين بل هم من الذين سخط الله عليهم، فوزانه وزان قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، أي:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غني عنكم وعن شكركم، حميد ومستوجب للحمد لكثرة نعمة فإن لم تحمدوه أنتم بحمده غيركم ممن هو خير منكم، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] فإن المرا بـ {قَوْمًا}: الأنبياء والصحابة. وكقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] كأنه قيل: وإن تكفروا فإني غني عنكم وعن شكركم؛ لأن لي عبادًا مكرمين ما أرضى أن ينزل الكفر بساحتهم ويحل قريبًا من دارهم، يشكرون نعمتي ولا يكفرونها، ومع ذلك إن تشكروا وترجعوا عما أنتم فيه أرض الشكر لكم وأدخلكم في زمرة المرتضين من عبادي، فإني غفور شكور. وستقف إن شاء الله في سورة "الشورى" عند قوله تعالى: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} على كلام في تخصيص لفظ عباده بالمصطفين. انظر أيها المتأمل الناقد البصير بين التأويلين، واعجب بحصى عقول أهل السنة والجماعة، واقطع بأنهم هم المحدثون الملهمون، ومن مشكاة النبوة مقتبسون، وعلى آثار السلف الصالح مقتفون، ولأمثالهم هداة، وإلى دين الله دعاة، أيقال: غواة، اللهم غفرًا. وقال صاحب "الانتصاف": إن المصر على قلبه رين، وفي ميزان نظره غين، ولا يخفى أن وجود المشروط قبل الشرط ممتنع عقلًا ونقلًا، فإرادة الله الشكر مقدمة لوجوده منهم، فكيف يسوغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية شرطًا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطًا والرضا جزاء؟ فيلزم تقدم الشكر على الإرادة. والزمخشري أحد من يقول: إذا كان الجزاء ماضيًا مخصًا لزمته الفاء، نحو: إن تكرمني فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرف المذكور على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية، فإذا بطل حمل الرضا على الإرادة، وجب حمله على المجازاة على الشكر بالكرامة، أي: وإن تشكروا يجزكم عليه الجزاء المرضي عنه، والمجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر، ومثله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لا يجازي عليه جزاء الراضي للمرضي عليه، بل جزاء المغضوب عليه.

هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عبادة الذين عناهم في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]، يريد: المعصومين، كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6]، تعالى الله عما يقول الظالمون. وقرئ: {يَرْضَهُ} بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا من العام الذي أريد به الخاص)، الراغب: البعد على ضربين: عبد للإيجاد والتسخير، وذلك يطلق على كل أحد، وإياه عنى بقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وعبد على طريق التخصيص، وذلك قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] فعلى هذا يصح إن قال: فلان ليس عبدًا لله، وإنه عبد الهوى وعبد الشهوة، ومنه الحديث: "تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة". وقال: تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع تنبيه على مدحه في كونه مطيعًا له منصرفًا عن أمره، وأنه غير معرج على غيره، ثم أضافه بنون الملوكية مبالغةً في الاختصاص، وكل إضافة إلى الله تعالى بهذا الوجه فللمبالغة. قوله: (وقرئ {يَرْضَهُ لَكُمْ} بضم الهاء بوصل)، قال القاضي: قرأه ابن كثير ونافع في رواية، وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها. وقال الواحدي: منهم من أشبع الهاء حتى ألحق بها واوا؛ لأن ما قبلها متحركة فصار بمنزلة ضربه وله، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق بالواو؛ لأن أصله:

[{وإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِن قَبْلُ وجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 8] {خَوَّلَهُ}: أعطاه. قال أبو النجم: أعطى فلم يبخل ولم يبخل .... كوم الذرى من خول المخول وفي حقيقته وجهان؛ أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يرضاه، والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو. قوله: (أعطى فلم يبخل)، البيت. قبله في "المطلع": الحمد لله الوهوب المجزل ناقة كوماء: عظيمة السنام. والمخول: هو الله، يقال: خوله الله الشيء، أي: ملكه إياه. وقوله: "ولم يبخل" تأكيد، يقال: أبخلته، إذا وجدته بخيلا، وبخلته، نسبته إلى البخل، و "من خول" أي: من مال، وقيل: ما أعطى الله الإنسان من العبيد والنعم. قوله: (خائل) قال الجوهري: قد خلت المال أخوله، إذا أحسنت القيام عليه. يقال: هو خال مال وخائل وخولي مال، أي: حسن القيام عليه. والتخول: التعهد. وفي الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة". النهاية: قال أبو عمرو: الصواب أنه كان يتخولنا بالحال، أي: يطلب الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعطيهم فيها ولا يكثر عليهم فيملوا. وقال في "الفائق": وروي "يتخونهم"، أي: يتعهدهم. وقيل: يتخولهم، أي: يتأمل حالاتهم التي ينشطون فيها للموعظة.

مال: إذا كان متعهدًا له حسن القيام به، ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة. والثاني: جعله يخول من خال يخول؛ إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب: إن الغني طويل الذيل مياس {مَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ} أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، {مَا} بمعنى "من"، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]. وقرئ: {لِيُضِلَّ} بفتح الياء وضمها، بمعنى: أن نتيجة جعله لله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن البخاري ومسلم والترميذي، عن عبد الله "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا"، في اختلاف، ولم يختلفوا في أنه "يتخولنا"، بالخاء المعجمة. قوله: (مياس)، الجوهري: الميس: التبختر. وقد ماس يميس ميسًا وميسانًا فهو مياس. وتميس مثله. قوله: و {مَا} بمعنى "من" كقوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3])، وعن بعضهم: في هذا الوجه تكلف؛ لأنه لا يقال: دعا إليه بمعنى دعاه، كذلك "ما" بمعنى "من" لا حاجة إليه. قلت: لا يقول هذا من ذاق حسن موقع "ما" في موقع "من" لإرادة الوصيفة باقتضاء المقام، ولطف محل تضمين {دَعَا} معنى "تصرع وابتهل"، كأنه نسي الكاشف لضر المضطرين، والسميع لدعاء المضطهدين، والعليم بأحوال الملهوفين، الذي كان يتضرع إليه هذا الفخور المختال، ويبتهل إليه هذا المتكبر المياس، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] أي: القادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى. قوله: (وقرئ: {لِيُضِلَّ}) ابن كثير وأبو عمرو: بفتح الياء، والباقون: بضمها.

أندادًا ضلاله عن سبيل الله، أو إضلاله. والنتيجة قد تكون غرضًا في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقول: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه؛ مبالغةً في خذلانه وتخليته وشأنه؛ لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمر به، ونظيره في المعنى قوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمَ} [آل عمران: 197]. [{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 9] قرئ: (أمن هو قانت) بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على "من"، وبالتشديد على إدخال "أم" عليه. و "من" مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف؛ لدلالة الكلام عليه؛ وهو جري ذكر الكافر قبله، وقوله بعده: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والنتيجة قد تكون غرضًا في الفعل وقد تكون غير غرض)، أي: اللام في {لِيُضِلَّ} كاللام في قوله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. قوله: (قرئ: "أمن هو قانت" بالتخفبف)، نافع وحمزة، والباقون: بالتشديد. قوله: (و "من" مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره)، هذا على التقديرين، أما على التخفيف فيقال: أمن هو قانت كغيره، وعلى التشديد "أم" منقطعة، والتقدير: بل أم من هو قانت كغيره، فعلى التقديرين لا بد من الخبر، وهذا مأخوذ من قول الزجاج: أم من هو قانت كهذا الذي ذكرناه ممن جعل له ندًا. وقيل: أمن هو قانت كغيره، أي: أمن هو مطيع كمن هو عاص.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}. وقيل: معناه: أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر؟ و: أهذا أفضل أم من هو قانت؟ على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله عليه السلام: "أفضل الصلاة طول القنوت"؛ وهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: مراد الزجاج بالعاصي هو الذي ذكره قبل في تقدير المتصلة: من جعل له ندًا، إشارة إلى أن المضرب عنه بـ"بل" الكلام المذكور فيه {وجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} وهو الآية السابقة، أي: دع ذلك الذم وسلهم: أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ وهو من باب إرخاء العنان. قوله: (وقيل: معناه: أمن هو قانت)، هذا على أن تكون الهمزة و "أم" معادلتين، ولا بد من تقدير إحدى المعادلتين، فعلى التخفيف الاستفهام مذكور فيقدر "أم" مذكورة فيقدر. ونظيره، أي: نظير قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فتقدر الهمزة، وإليه الإشارة بقوله: "أهذا أفضل أم من هو قانت؟ ". هذا مأخوذ من قول أبي علي: ومن قرأ "أمن" فإن الجملة التي عادلتها "أم" قد حذفت، المعنى: الجاحد الكافر بربه خير أمن هو قانت؟ و "من" موصولة، ودل على الجملة المحذوفة المعادلة لـ"أم" ما جاء بعده من قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لأن التسوية لا تكون إلا بين اثنين، ومثل هذا الحذف قوله تعالى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] فجمع بين قول أبي علي والزجاج. قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت)، الحديث من رواية مسلم عن جابر: "أفضل الصلاة طول القنوت". ومن رواية الترمذي عنه أيضًا: "قيل: يا رسول الله أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت".

القيام فيها، ومنه: القنوت في الوتر؛ لأنه دعاء المصلي قائمًا. {سَاجِدًا}: حال. وقرئ: (ساجد وقائم) على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. وقرئ: (ويحذر عذاب الآخرة). وأراد بـ {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة؛ حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العاملون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: القنوت يرد لمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام والسكوت، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه. قوله: (وأراد بـ {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}: العاملين)، متصل بقوله: "وقيل: معناه أمن هو قانت"، أي: قال القائل: معناه كذا، وأراد بالذين يعلمون العاملين، فيكون {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} وصفًا للمظهر موضع الضمير للإشعار بالعلية، ويفهم منه أن غير العالمين الجاهلون، وإليه أومأ بقوله: "فهم عند الله جهلة"، حيث جعل القانتين هم العلماء، كأنه قيل: أمن هو قانت أفضل أمن هو قانت؟ وهل يستويان، أي: بينهما بون بعيد، فالجملة الثانية بيان للفرق، ولهذا قال: "فيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقتنون"، وأما قوله: "ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه" فهو عطف على قوله: "وأراد بالذين يعلمون: العاملين"، أي: دل على المحذوف جري ذكر الكافر قبله وجري قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}: بعده وأراد بالذين يعلمون العالمين؛ لأنه كالتقدير لقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} لأن العالم الحقيقي هو العامل. ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه فيكون القانت غيرًا والعالم غيرًا.

وعن الحسن: أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو، فقال: هذا تمن، وإنما الرجاء قوله، فتلا هذه الآية. وقرئ: (إنما يذكر) بالإدغام. [{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} 10] {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {أَحْسَنُوا} لا بـ {حَسَنَةٌ}، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة؛ وهي دخول الجنة، أي: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدي بـ {حَسَنَةٌ}، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت: إذا علق الظرف بـ {أَحْسَنُوا} فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بـ {حَسَنَةٌ}، ولا يصح أن يقع صفة لها؛ لتقدمه؟ قلت: هو صفة لها إذا تأخر، فإذا تقدم كان بيانًا لمكانها، فلم يخل التقدم بالتعليق، وإن لم يكن التعلق وصفًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن: أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو، فقال: هذا تمن، وإنما الرجاء هذه الآية)، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} الآية. الانتصاف: كلام الحسن صحيح أراد به الزمخشري باطلًا، فمراد الحسن أن حق المصر أن يغلب خوفه رجاءه، ولم يرد إقناطه من رحمة الله، ويظهر من حال الزمخشري واعتقاده أن هذا العاصي لا يدخل الجنة فلا وجه لرجائه، فأورد قول الحسن رمزًا لهذه العقيدة، فلا ينفع القانت قنوته إذا أودى به قنوطه، يريد: {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. قوله: (فلم يخل التقدم بالتعليق)، يعني: {حَسَنَةٌ} مبتدأ، والخبر {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {حَسَنَةٌ} ولو كان متأخرًا عنها لكان وصفا، وحين تقدم كان بيانًا لمكانها؛ لأن التقدم لم يخل بالتعلق، كما أن الجملة إذا كانت صفة لنكره- وهي إما فاعل أو مفعول- فإذا تقدمت صارت حالًا، وهذه وإن لم تكن وصفًا لتقدمها، ولا حالًا

ومعنى "أرض الله واسعة": أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة؛ حتى إن اعتلوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لفقدان العامل، لم يخل التقدم بتعلقها بالحسنة فيكون بيانًا لمكانها أي: مكان الحسنة على نحو {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] كأن قائلًا لما سمع {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} سأل: أين هي؟ قيل: في هذه الدنيا. قوله: (ومعنى "أرض الله واسعة")، المبتدأ، والخبر: "أن لا عذر"، و "حتى" غاية "أن لا عذر"، وهي التي تدخل على الجملة، والجملة هي الشرطية، أعني: "إن اعتلوا" مع جزائه، وهو "قيل لهم: فإن أرض الله واسعة" إلى آخره. فإن قلت: من أين أفاد {أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} هذه المعاني المتكاثرة؟ قلت: من حيث اتصاله بالكلام السابق، وذلك أن جملة قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} مع ما اتصل به من قوله: {أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} مستأنفة تعليل للأمر بالتقوى، إنما قيد الفعل بالظرف وهو {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} للإشعار بأن الدنيا مكان الإحسان ومزرعة لحرث الآخرة، فأريد تتميم ذلك المعنى فقيل: {أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ} لئلا يعتذر العامل لتفريطه في الأعمال بالاعتلال بالأوطان، وأنه لم يكن متمكنًا من التوفر على الإحسان في أرضه كأنه قيل لهم: اتقوا ربكم فيما تأتون به وتذرون، وتيقنوا بحصول أمرين: جزاء الإحسان وفسحة المكان فتهاجروا وتحولوا إن لم تتمكنوا من التقوى في أرضكم، ثم اتجه لهم أن يسألوا ويقولوا: فماذا يكون بعد تلك الحسنة لنا من الأجر حينئذ؟ فأجيبوا {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: أن الله تعالى وفي أجر من سبق عليكم من الأنبياء والصالحين بصبرهم على مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعةً إلى طاعتهم، فلكم الأجر وتوفيته إذا اقتفيتم أثرهم واقتديتم بهداهم، هذا التأويل إنما يحسن إذا علق الظرف بـ {أَحْسَنُوا} لا بـ {حَسَنَةٌ} ومن ثم كان الوجه الثاني مرجوحًا لا لما قاله مكي، والأول أحسن؛ لأن الدنيا ليست بدار جزاء؛ لأن المعنى حينئذ: لهم في هذه الدنيا الصحة والعافية، وفي الآخرة يوفون أجورهم كاملة. وعلى الأول المعنى: أن لهم وراء دخول الجنة مالا عين رأت

بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجثموا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم؛ ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعةً إلى طاعتهم. وقيل: هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]. وقيل: هي أرض الجنة. و {الصَّابِرُونَ}: الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها؛ من تجرع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفًا، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ينصب الله الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا أذن سمعت، فوضع {الصَّابِرُونَ} موضع الضمير للغلبة، وهاهنا أيضًا نكتة سرية وهي أن اسم الإشارة في قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} كما هو في قوله: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه لا كما في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} للإشعار بأن الدار الدنيا نعم الدار إن جعلت مكانًا للعمل وحرثًا للآخرة. قوله: (لا يهتدي إليه حساب الحساب)، مثال لقوله: "لا يحاسبون عليه"، أي: لا حساب ولا اهتداء إليه. وقوله: "وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ينصب الله الموازين" الحديث: مثال لقوله: "بغير مكيال وغير ميزان"، فإنه لما قال أولًا: "يغرف لهم غرفًا" جاء بقوله: "ويصب عليهم الأجر صبًا"، فتطابقا. وحاصل معنى الآية: ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب؛ لأن الحصر في {إِنَّمَا} هو في القيد الأخير؛ لأنه فرغ {مَا} و {إِلَّا} وفيه معنيان: أحدهما: أنوفيه معنيان: أحدهما: أن

ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبًا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل". [{قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ * قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} 11 - 15] {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ} بإخلاص الدين {وأُمِرْتُ} بذلك {لِـ} أجل أن {أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ} أي: مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، ولمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقًا. فإن قلت: كيف عطف {أُمِرْتُ} على {أُمِرْتُ} وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد؛ لاختلاف جهتيهما؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حكم الغير بخلافه، وعليه ظاهر الحديث الذي أورده. المعنى: من جمع بين الصبر والصلاة والصدقة والحج لا يكون أجره كأجر من أفرد تلك الطاعات؛ لأن ذلك الصبر لا يعتد به إذا أتى به مفردًا. والثاني: أن لا يكون أجر صبر هؤلاء كأجر صلاتهم وصدقتهم وحجهم، فالمراد بأجرهم على الأول ما ينسب إليهم، وعلى الثاني أجر صبرهم، ودلالة الآية عل معنى الحديث من حيث تخصيص وصف الصابرين وترتب الثواب عليه نحو: "في سائمة الغنم زكاة" ودلالتها على المعنى الثاني من أداة الحصر، والله أعلم. قوله: (وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء)، يعنى: إذا كرر المعنى ليناط به معنى زائد كان المجموع غير المفرد، فالتقدير: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك؛ لأن أكون

وجها الشيء وصفتاه تنزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدةً مثلها في: أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع"أن" خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضًا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في"أسطاع" عوضًا من ترك الأصل الذي مو"أطوع"، والدليل على هذا الوجه: مجيئه بغير لام في قوله: {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]، {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]. {وَاُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من السابقين. وفائدته التنبيه على أن السبق المعتبر ليس بتقدم الزمان بل بالتقدم بالقدم، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] قال القاضي: والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والأشعار بأن العبادة المقرونه بالإخلاص وإن اقتضت لذاتها أن تؤمر بها فهي أيضًا تقتضيه لما يلزم من السبقة في الدين. وقوله: "ولك أن تجعل اللام مزيدة" عطف على قوله: "وأمرت بذلك لأجل أن أكون"، يعني: أن اللام إما للتعليل أو مزيدة، وكان يلزم على الأول تقدير المأمور به المستلزم للتكرير، وأن يقال: وأمرت بذلك، فسأل عنه وأجاب، ثم شرع في بيان أن اللام مزيدة؛ لأن {أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ} هو المأمور به، واستشهد بأمثاله من قوله: {أَنْ َكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِين} وغيره. قوله: (من ترك الأصل الذي هو أطوع)، إلى"أطاع"، روي عن المصنف أنه قال: إن"أطاع" أضله"أطوع"، فحين غيروا الأصل عوضوا من تغييره زيادة السين، ونحوه زيادة الهاء في"أهراق" وأصله"أراق". وقيل: الأصل في الآية أن يكون المفعول به اسمًا صريحًا، فإذا أتى بدله أن مع الفعل فقد عدل عن الأصل إلى غيره. قال صاحب" الإنصاف": قوله: إنها لا تزاد إلا مع"أن"، ليس بصحيح، فمن مسائلها: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، و {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، و {وَاُمِرْتُ لِأُسْلِمَ}، فلو اقتصر على أنها لا تزاد مع الاسم الصريح لكان أصح.

وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي؛ لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره؛ لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعًا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين؛ دلالة على السبب بالمسبب، يعني: أن الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي معناه أوجه)، أي: في معنى الأولية وجوه أربعة، ومدار الوجوه على وجهين: أحدهما: السبق بحسب الزمان. وثانيهما: بحسب المعنى. والوجه الأول على وجوه: أحدها: أن يراد بالأولية أول المخالفين لغير دين الإسلام الدافعين لما يضاد الإيمان، قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] فإن دفع نقيض الشيء إثبات له، كقول المنافقين: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وهو من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]. وثانيها: أن يراد بالأولية أول الموافقين والمدعوين إلى الإسلام وإليه الإشارة بقوله: "أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا"، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحليًا به. وثالثها: أن يراد بالسبق السبق بحسب الدعوة، فإن الأفضل أن من يدعو الغير إلى خلق كريم أن يدعو نفسه إليه أولًا، ويتخلق به حتى يؤثر في الغير سنة الأنبياء والصالحين لا الملوك والمتجبرين، والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق أن الأول مطلق وهذا مقيد. الانتصاف: هذا الوجه أحسن الوجوه. والوجه الثاني: أن يراد بالسبق السبق بالقدم والأعمال الصالحة، وهو المراد من قوله: "وأن أفعل ما أستحق به الأولية" كقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]، وهذا الوجه أوفق للتأليف على ما سبق. فقوله: "إسلامًا" الظاهر أنه تمييز وبيان لما أبهم في الأولية. قوله: (دلالة على السبب بالمسبب)، يعني: أطلق التقدم في الإسلام وأراد الأعمال

أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب، بدليل العقل والوحي، فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه، فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} قلت: ليس بتكرير؛ لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصًا له دينه؛ ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولًا واقع في الفعل نفسه، وإيجاده، وثانيًا فيمن يفعل الفعل لأجله؛ ولذلك رتب عليه قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}، والمراد بهذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصالحة؛ لأن الأعمال سبب في السبق، على أن من لم يأت من المؤمنين بالأعمال حاصل في منزلة بين المنزلتين عندهم، وعند المحدثين والسلف الصالح هو من إطلاق الكل على البعض؛ لأن الأعمال ركن من ركني الإسلام. قوله: (فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين)، هذا بيان اتصال هذه الآية بما سبق، يعني: ما ذكرت من الأمر بالإخلاص في الدين والتبري من الشرك والرياء هو ما عرفته بالدليلين، أي: العقل والوحي. قوله: (ليس بتكرير)، وتلخيص الجواب: أن الأول: إخبار عن كونه كان مأمورًا بإيجاد الإخلاص. والثاني: إخبار عن أنه امتثل لذلك الأمر وأوجد المأمور به، ولذلك قدم المفعول على الفعل، وقد تقرر عند أصحاب المعاني أنهم إذا قدموا على الفعل معموله آذنوا بتقرير الفعل والترديد في المعمول، كأنهم قالوا له: اعبد ما نعبد لنعبد ما تعبد، كما قال في {الْكَافِرُونَ} يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد إلهنا سنةً ونعبد إلهك سنة، فأجاب هاهنا بما أجاب هناك بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ}، {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم}، فهو بين القصر الإفرادي، وبهذا سقط قول ابن الحاجب والتمسك بمثل {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} ضعيف؛ لأنه جاء {فَاعْبُدِ اللهَ} و {اعْبُدُوا اللهَ}.

الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. {قُلْ إِنَّ} الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها، {وَ} خسروا {أَهْلِيهِمْ}؛ لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابًا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعني: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله: {أّلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}؛ حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر، وعرف الخسران، ونعته بالمبين. [{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 16] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على ما حققت فيه القول مرتين)، أحدهما: في هذه السورة في قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا}، وثانيهما في قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. قوله: ({قُلْ إِنَّ} الكاملين في الخسران)، هذا من إفادة تعريف الجنس، نحو {ذّلِكَ الْكِتَابُ} بالبقرة: 2]، وحاتم الجواد. وقوله: "الجامعين لوجوهه" بيان له. قال في قوله: هو الرجل، أي: الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، يعني: إنما يطلق اسم الجنس على فرد من أفراده إذا اجتمع فيه الخصائل المعتبرة في ذلك، فكأنه لذلك الجنس كله. وقوله: "هم الذين خسروا" إشارة إلى ما يعطيه التركيب من معنى الاختصاص، وفي إعادة {الَّذِينَ خَسِرُوا} في الخبر بعد ذكر {الْخَاسِرِينَ} مبالغة أخرى. قوله: (وقيل: وخسروهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين)، وعلى هذا المراد بالأهل: ما يعد الأهل في الجنة من الحور والغلمان وغيرهم، وفيه تتميم، كأنه قيل: خسروا رأس المال والربح. وقوله: {أَلَا ذّلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} تذييل، ولهذا قال: "ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة".

{وَمِنْ تَحْتِهِمْ} أطباق من النار هي {ظُلَلٌ} لآخرين، {ذّلِكَ} العذاب هو الذي يتوعد {اللهُ بِهِ عِبَادَهُ} ويخوفهم؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ: (يا عبادي). [{والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وأَنَابُوا إلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 17 - 18] {الطَّاغُوتَ}: فعلوت؛ من الطغيان، كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبًا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين؛ لكونها مصدرًا وفيها مبالغات؛ وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان ظغيان، وأن البناء بناء مبالغة؛ فإن الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط؛ والقلب وهو للاختصاص؛ إذ لا تطلق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هي {ظُلَلٌ} لآخرين)، يريد أن ظللًا إنما يكون من فوق، فلما خصت بقوله: {مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} نبه على الإدماج. وأن طبقة هؤلاء المشركين ظلة لآخرين وهم المنافقون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] و {مِنْ تَحْتِهِمْ} إما عطف جملة على {مِنْ فَوْقِهِمْ} و {ظُلَلٌ} على {ظُلَلٌ} أو يقدر {لَهُمْ} فيكون عطف جملة على جملة؛ لأن {لَهثمْ} خبر و {ظُلَلٌ} مبتدأ و {مِنَ النَّارِ} صفة و {مِنْ فَوْقِهِمْ} يجوز أن يكون حالًا من {ظُلَلٌ} أو متعلقًا بالخبر {وَأَهْلِيهِمْ} ظلل كائنة من فوقهم. قوله: {ذَلِكَ} العذاب هو الذي يتوعد {اللهُ بِهِ عِبَادَهُ})، هذا تصحيح لمعنى {يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ} وأنه خبر لذلك، والمشار إليه ما سبق. قوله: (والقلب)، أي: ومن المبالغات القلب، وحكمه حكم أسماء الأجناس إذا غلب على إحدى مسمياتها بأن تجعل مع الألف واللام علمًا له، فإن المصدر كما قال "فعلوت" من "الطغيان" يطلق على من طغى وتجاوز فيه الحد، ثم قلب وغلب على الشيطان، وإليه

على غير الشيطان، والمراد بما ها هنا الجمع. وقرئ: (الطواغيت). {أَنْ يَعْبُدُوهَا}: بدل من {الطَّاغُوتِ} بدل الاشتمال. {لَهُمُ الْبُشْرَى}: هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى: {لَهُمث الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، الله عز وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد: 12]. وأراد بعباده {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}: الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا نقادًا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاصل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإشارة بقوله: "وهو للاختصاص". قوله: (وقرئ: "الطواغيت")، قال ابن جني: قرأها الحسن: {الطَّاغُوتِ} مقلوب، ووزنه "فلعوت" من: طغيت، وقالوا أيضًا: طغوت. وقولهم: "طغيان" دليل على أن اللام ياء فاصلة، إذن "طغيوت" مصدر كالرغبوت والرهبوت، ثم قدم اللام على العين فصارت "طيغوت" ثم قلبت الياء لتحركها وانفتاح ما قلبها الفاء فصار "طاغوت"، وكان القياس إذا كسر أن يقال: "طياغيت" إلا أنه قيل: "طواغيت" على لغة من قال: "طغوت". قوله: (وأراد بعباده {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}: الذين اجتنبوا لا غيرهم)، يعني: لا يجوز أن يراد غيرهم؛ لأن قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} مترتب على جملة قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا} إلى قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} على معنى إذا كان لهم البشرى فبشرهم، فأقيم المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق لتكرير استحقاق البشارة، أحدهما: الترتيب، والآخر: تخصيص الذكر، ولو ترك إقامة المظهر موضع المضمر وقيل: {فَبَشِّرْهُمْ} لم ينبه على كونهم نقادًا مميزين مع الاجتناب والإنابة.

اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حراصًا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابًا ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلًا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل: ولا تكن مثل غير قيد فانقادا يريد المقلد. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على: (فبشر عبادي)، ويبتدئ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ}، ويرفعه على الابتداء، وخبره {أُولَئِكَ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا تكن مثل عير قيد فانقادا)، أوله: شمر وكن في أمور الدين مجتهدًا أي: لا تكن في مذهبك مقلدًا واختر أقوى المذاهب. الانتصاف: ملأ كتابه من الاعتزال، وهو يظن أه قد أجاد فلا مطمع في رجوعه عن تقليده ونسأل الله العصمة. قوله: (ومن الوقفة من يقف)، وفي "التيسير": قرأ أبو شعيب: "فبشر عبادي الذين" بياء مفتوحة في الوصل، ساكنة في الوقف. وقال أبو حمدون وغيره عن اليزيدي: مفتوحة في الوصل، محذوفة في الوقف. وهو عند قياس قول أبي عمرو، وفي اتباع المرسوم عند الوقف. والباقون يحذفونها في الحالين. وفي "المرشد": إن جعلت {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} صفةً لـ {عِبَادِي} لم تفصل بينهما ووقفت على قوله: {أَحْسَنَهُ} ثم تبتدئ {أُولَئِكَ} مبتدأ،

[{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} 19] أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار، والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره: أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقيذه؟ والهمزة الثانية هي الأولى، كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع {مَن فِي النَّارِ} موضع الضمير، فالآية- على هذا- جملة واحدة. ووجه آخر؛ وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه؛ لأن {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} يدل عليه. نزل استحقاقهم العذاب- وهم في الدنيا- منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكده نفسه في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار. وقوله: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخبره: {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ}. وإن جعلته مبتدأ كان الوقف على {عِبَادِ} تامًا، وتبتدئ {الَّذِينَ} على أنه مبتدأ، وخبره: {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ}، وعلى الوجهين: الوقف عند {هَدَاهُمُ اللهُ} جائز. وقلت: من وقف على {عِبَادِي} جعل موقع السؤال عنده، فيكون الاستئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، وقد مضى الفرق في أول البقرة. قوله: (والهمزة الثانية هي الأولى، كررت للتوكيد)، قال الزجاج: {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} فيه معنى الجزاء، والهمزة في {أَفَأَنتَ} جاءت مؤكدةً معادةً لما طال الكلام؛ لأنه لا يصلح أن تأتي بهمزة الاستفهام في الاسم والأخرى في الخبر، والمعنى: أفمن حق عليه العذاب أفأنت تنقذه؟ قوله: (نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار)، تلخيصه: أن أصل الكلام:

يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه. [{َكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعَادَ} 20] {غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ}: علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله: {مَّبْنِيَّةٌ}؟ قلت: معناه، والله أعلم: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوت تسويتها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} كما تجري تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلو والسفل. {وعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد؛ لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى: وعدهم الله ذلك. [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال؟ فوضع النار موضع الضلال وضعًا للمسبب موضع السبب لقوة أمره، ثم عقب المجاز بما يناسبه من قوله: {تُنْقِذُ} بدل {تَهْدِي} كما يعقب الاستعارة بالترشيح؛ لأن الإنقاذ أنسب لمن هو في النار من الهداية، وذلك لشدة حرصه صلوات الله عليه على إيمانهم والمبالغة في اجتهاده. قوله: (يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ)، إلى آخره. أراد أن تقديم الفاعل المعنوي على الفعل وإيلاءه همزة الإنكار يدل على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل، أي: لست أنت الفاعل لهذا الفعل بل فاعله غيرك وهو الله وحده. قوله: (ما معنى قوله: {مَّبْنِيَّةٌ}؟ )، يعني: وصف الغرف بالمبنية، والمتعارف أنها من أوصاف التحتانية لا العلالي، وخلاصة الجواب: أن غرف الجنة على خلاف ما في الدنيا، فيكون بناؤها بناء المنازل التي على الأرض وسويت بتسويتها، تجري من تحتها الأنهار كما تجري من تحت المنازل.

مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 21] {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه الله، {فَسَلَكَهُ}: فأدخله ونظمه {يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ}: عيونًا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}: هيئاته؛ من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، أو أصنافه؛ من بر وشعير وسمسم وغيرها. {يَهِيجُ}: يتم جفافه، عن الأصمعي؛ لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب، { ..... }: فتاتًا ودرينًا. {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى}: لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلًا للدنيا، كقوله: {إِنَّمَا مَثْلُ الْحِيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45]. وقرئ: (مصفارًا). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى الصخرة)، وهي التي في بيت المقدس. قوله: (عيونًا ومسالك)، نصب على التفسير لقوله: {يَنَابِيعَ}، قال القاضي: أي: عيونًا ومجاري كامنةً فيها، أو قنوات نابعات فيها؛ إذ الينبوع جاء للمنع وللنابع فنصبها على المصدر أو على الحال. المغرب: نبع الماء ينبع، خرج من الأرض نبوعًا ونبعًا ونبعانًا. قوله: (أو أصنافه من بر)، عطف على "هيئاته". الجوهري: اللون هيئته كالسواد والحمرة، واللون: النوع. قوله: (فتاتًا ودرينًا)، الجوهري: الدرين حطام المرعى إذا قدم، وهو ما بلي من الحشيش، وقلما تنتفع به الإبل. قول: (ويجوز أن يكون مثلًا للدنيا)، عطف على قوله: "هو المطر"، أي: الآية إما واردة

[{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 22] {أَفَمَنْ} عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقلبه كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور الله: هو لطفه. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقيل: يا رسول الله، كيف انشراح الصدر؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح"، فقيل: يا رسول الله، فما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للمت قبل نزول الموت"، وهو نظير قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] في حذف الخبر. {مِنْ ذِكْرِ اللهِ}: من أجل ذكره، أي: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوةً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ظاهرها حاثة على التفكر في آيات الله الباهرة، أو المراد بها: التمثيل باعثةً على التذكير والإيقاظ، زاجرةً عن الركون إلى اللذات العاجلة. منبهةً أنها في وشك الزوال وسرعة الانفصال، يدل على الثاني سوابقها ولواحقها، فإنها مسبوقة للتذكير والوعظ لاسيما قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أي: لمن لا يلين قلبه لمواعظ الله وزواجره، ولذلك استشهد بقوله: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت". الزجاج: هـ له: (هو نظير قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} في حذف الخبر)، أي: في أحد وجهيه، قال فلم يهتد لقسوذه الفاء للمجازاة، المعنى: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع الله على قلبه} ..... ؟ لأن في الكلام دليلًا على هذا المقدر، وهو قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم}

كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. وقرئ: (عن ذكر الله). فإن قلت: ما الفرق بين"من"و"عن" في هذا؟ قلت: إذا قلت: قسا قلبه من ذر الله، فالمعنى ما ذكرت؛ من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أي: من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة: إذا أرواه حتى أبعده عن العطش. [{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 23] عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له حدثنا؛ فنزلت. وإيقاع اسم"الله" مبتدًا، وبناء {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله، وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث. و {كِتَابًا} بدل من {أَحْسَنَ الحَدِيثِ}، ويحتمل أن يكون حالًا منه. {مُّتَشَابِهًا}: مطلق في مشابهة بعضه بعضًا، فكان متناولًا معانيه في الصحة والإحكام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ملوا ملة)، الجوهري: مللت الشيء بالكسر أمله، ومللت منه أيضًا، مللًا وملةً وملالةً؛ إذا سئمته. قوله: (وإيقاع"اسم الله" مبتدأ)، يعني: التركيب من باب تقوي الحكم، لكن في تخصيص اسم الله الجامع بالذكر وإيقاع الفعل على أحسن الحديث وإبدال {كِتَابًا} عنه ووصفه بـ {مُّتَشَابِهًا} الإشعار بترتب الحكم على الوصف والدلالة على الاختصاص، وأن مثل هذا الكلام في حسن نظمه وغرابته وكونه جامعًا للمعارف الحقة وحائزًا لمحاسن الأخلاق ومكارم الشيم لا ينبغي أن يصدر إلا عمن استجمع فيه الأسماء الحسنى والصفات العليا، وفي قوله: "وأن مثله" إشارة إلى الكناية التي ذكرناها؛ لأنها على منوال مثلك يجود.

والبناء على الحق والصدق، ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون {مَثَانِيَ} بيانًا لكونه متشابهًا؛ لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني: جمع مثنى بمعنى: مردد ومكرر، لما ثني من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه: لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتناصفها في التخير والإصابة)، الجوهري: أنصف، أي: عدل، يقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وتناصفوا، أي: أنصف بعضهم بعضًا من نفسه، ومنه قول الشاعر: إني غرضت إلى تناصف وجهها .... غرض المحب إلى الحبيب الغائب يعني: اشتقت إلى استواء المحاسن، كأن بعض أعضاء الوجه أنصف بعضًا في أخذ القسط من الجمال. قوله: (ويجوز أن يكون {مَثَانِيَ} بيانًا)، عطف على قوله: "مطلق في مشابهة بعضه بعضًا"، أي يقيد {مثتَشَابِهًا} تارة بـ {مَثَانِيَ}، ويطلق أخرى ليبقى على إطلاقه دالًا على ما هو شائع في جنسه، ومن ثم قدر ما قدر. قوله: (لا يتفه ولا يتشان)، النهاية: في حديث ابن مسعود يصف القرآن: "لا يتفه ولا يتشان". هو من الشيء التافه الحقير، يقال: تفه يتفه فهو تافه، ولا يتشان، أي: لا يخلق عن كثرة الرد، مأخوذ من الشن وهو السقاء الخلق. قال في"الفائق": أي: القرآن حلو طيب لا تذهب طلاوته ولا يبلى رونقه وطراوته بترديد القراءة كالشعر وغيره. وتفه، أي: من: تفه الطعام؛ إذا سنخ، أو من: تفه الثوب؛

بمعنى التكرير والإعادة، كما كان قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 3] بمعنى: كرة بعد كرة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك؛ لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب؟ إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة؛ وأصله: كتابًا متشابهًا فصولًا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون {مَثَانِيَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا بلي، "ولا يتشان" تأكيد له، أو من: تفه الشيء؛ إذا قل وحقر، أي: هو معظم في القلوب أبدًا، وقيل: معنى"التشان": الامتزاج بالباطل من الشنانة وهي: اللبن المذيق. وقلت: روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم". أخرجه الترمذي والدارمي. قوله: (برمة أعشار)، الجوهري: البرمة: القدر. وبرمة أعشار: إذا انكسرت قطعًا. وقلت: أعشار: جاء على بناء الجمع، كما قالوا: رمح أقصاد، وثوب أخلاق، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قالوا: أرض سباسب، وبرمة أعشار. وعن بعضهم: وهي التي تسع

صفةً، ويكون منتصبًا على التمييز من {مُتَشَابِهًا}، كما تقول: رأيت رجلًا حسنًا شمائل، والمعنى: متشابهةً مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودًا عن بدء، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعًا، ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضًا شديدًا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس، مضمومًا إليها حرف رابع وهو الراء؛ ليكون رباعيًا ودالًا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف، وقف شعره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيها أعشار الجزور وهي أنصباؤها جمع عشر، والأقصاد: جمع قصد، وهو ما يكسر به الرمح. أخلق الثوب: إذا بلي، يتعدى ولا يتعدى. قوله: (حسنًا شمائل)، أي: شمائله، و"شمائل" نصب على التمييز. قوله: (عودًا عن بدء)، هو حال من الذي أقيم مقام الفاعل في"يكرره"، ونحوه: رجع عوده على بدء، أي: راجع في الطريق الذي جاء منه، ويجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا، نحو قعدت جلوسًا. قوله: (ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم)، روى الترمذي عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلمة ثلاثًا لتعقل عنه". وروى أبو داود عن رجل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثًا أعاده ثلاث مرات. قوله: (وتركيبه من حروف القشع)، إلى قوله: (وقف شعره)، عن بعضهم: هذا بيان الحكمة لفعل الواضع، لا أنه اشتقاق، كما "اقمطر" فإن "القمط" هو الأصل، ثم

وهو مثل في شدة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل؛ تصويرًا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق، والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت: ما وجه تعدية "لان" ب"إلى"؟ قلت: ضمن معنى فعل متعد ب"إلى"، كأنه قيل: سكنت، أو: اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأن أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفًا رحيمًا. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولًا، ثم قرنت بها القلوب ثانيًا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيدت فيها الراء، فيكون رباعيا دالا على معنى زائد، ونظيره قوله النحويين: إن الضاد اسم للحرف الأول من: ضرب. قوله: (وهو مثل في شدة الخوف)، أي: استعمل القشعريرة في تغير يحصل في جلد الإنسان عند الوجل، فينتصب شعره، وكثر فيه حتى صار مثلًا لمجرد شدة الخوف. قوله: (لم اقتصر على ذكر الله من غير الرحمة)، يعني: ذكرت أن المعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وآيات وعيده أصابتهم خشية، ثم إذا ذكروا رحمته لانت جلودهم، فلم حذفت الرحمة وليس في الكلام ما يدل على المحذوف؟ وأيضًا فلم اقتصر على المضاف إليه؟ وخلاصة الجواب: أن اسم الله وإن كان جامعًا لسائر الأسماء الحسنى، وتقييده بشيء من تلك الأسامي إنما يعلم بحسب القرائن، لكن عند فقدان القرينة يغلب جانب الرحمة على الغضب؛ لأن رحمته سبقت غضبه، وإليه الإشارة بقوله: " فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال إلا كونه رؤوفًا رحيمًا". قوله: (إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب فقد ذكرت القلوب)، يعني: إن لم تذكر "القلوب" في الأول صريحًا فقد ذكرت" الخشية" التي من عوارضها، فكأنها قد ذكرت،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتحرير المعنى: أنهم إذا فوجئوا بالقرآن وما فيه من القوارع والزواجر مجملًا تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم، فإذا ورد عليهم من ذكر اسم الذات وارد رحماني استبدلوا بالخشية رجاء، وبالقشعريرة لينًا، فلمًا جعل اقشعرار الجلود أصلًا في الاعتبار أولًا أتبع بذكر نا يناسب الاقشعرار من اللبن ثانيًا تغليبًا، وإلا كان مناسب الخشية الرجاء كما صرح به، وروى في تفسير قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 2] عن أم الدرداء: "الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجدله قشعريرة"، يعني: فزعت لذكره استعظاما له وتهيبًا من جلاله وعزة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُدُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وروى الإمام عن لسان أهل العرفان: العارفون السائرون في بيداء جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. وقلت- والله أعلم-: إن الله تعالى لما وصف القرآن المجيد وبالغ في مدحه حتى بلغ غايته من الكمال على ما سبق في قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} وأراد أن يبين كيفية هدايته للخلق، فإن جل الغرض من الكتب السماوية الهداية، قال: {مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}، يعني: من أراد الله أن يهديه به أوقع في قلبه الخشية، كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم يتأثر منه ظاهره بأن يأخذه في بدء الحال قشعريرة في الجلد لضعف الحال أو قوة سطوة الوارد، فإذا أدمن سماعه وألف أنواره تلين جلوده فيتأثر منه القلب فيطمئن إليه فتنقلب النفس الأمارة مطمئنة، {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فكما يتأثر الظاهر من القلب في بدء الحال ينعكس في ثاني الحال، ويتأثر القلب من الظاهر، ولذلك جعل اقشعرار الجلد تابعًا لخشية الله أولًا، ولين القلب تابعًا للين الجلد ثانيًا، فيستمد الظاهر من الباطن أنواره، والباطن من الظاهر آثاره، فلا يزالان يتناوبان حتى يصعد السالك بذلك إلى مدارج القدس ومعارج الكمال، فيتوطن في مخدع

فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم {ذلِكَ} إشارة إلى الكتاب، وهو {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ}: يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2). {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}: ومن يخذله من الفساق والفجرة {فَما لَهُ مِنْ هادٍ}، أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أي: أثر هداه، وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى، {يَهْدِي بِهِ} بهذا الأثر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، يعنى: من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبًا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، {فَما لَهُ مِنْ هادٍ} من مؤثر فيه بشيء قط. [{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} 24 - 26]. يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القرب ثم يفيض نوره المستفيض على الغير، كما قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يِشَاءُ}، وكشف عن القناع حيث أشار من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبًا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسوك طريقتهم، رزقنا الله الاقتداء بهم بفضله وجوده. قوله: (أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء)، عطف على قوله: "ذلك إشارة إلى الكتاب"، وعلى الأول: المراد بذكر الله القرآن في نفسه، قد أقيم مقام المضمر من غير لفظه السابق؛ تعظيمًا للحال وتحقيقًا لما قال. قوله: (بدرقته)، أي: بترسه، يقال: اتقى بدرقته، أي: استقبل زيدًا بدرقته فوقى

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ} كمن أمن العذاب، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: و {سُوءَ الْعَذَابِ}: شدّته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقي مخوفًا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه؛ فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبي جهل. وقال لهم خزنة النار: {ذُوقُوا} وبال {مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}. {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}: من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال الله. [{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 27 - 28] {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة، كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا وإنسانًا عاقلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدرقته نفسه زيدًا. الأساس: هذا وقاء ووقاية له لما يوقى به الشيء. ووقاه الله كل سوء ومن السوء وقاية. فعلى هذا: اتقاه بدرقته؛ استقبله بدرقته فوقى بها نفسه إياه، أي: منه. قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة)، قال الزجاج: {عَرَبِيًّا} منصوب على الحال، أي: ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه، وذكر {قُرْآنًا} توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، فتذكر رجلًا توكيدًا. وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {قُرْآنًا} حال، و {عَرَبِيًّا} صفة؛ لأن القرآن مصدر، فيمكن أن يقع حالًا، أي: مقروءًا عربيًا. وقال أبو البقاء: {قُرْآنًا} هو حال من {الْقُرْآن} موطئة، والحال في المعنى قوله: {عَرَبِيًّا}. وقيل: انتصب بـ {يَتَذَكَّرُونَ}.

ويجوز أن ينتصب على المدح، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}: مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف. فإن قلت: فهلا قيل: مستقيمًا، أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان؛ إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قط، كما قال: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس. وأنشد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نفي أن يكون فيه عوج قط)، وذلك من طريق الكتابة، فإنه إذا لم يكن صاحب عوج، فأن لا يكون معوجًا فبالطريق الأولى، كقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، أي: عوجًا وما يقال له عوج. قوله: (والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان)، معناه: أن المطلوب أن يقال: إن معانيه صحيحة مستقيمة لا ترى فيها اختلافًا، كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فلو قيل: غير معوج، لفهم أن ألفاظه مستقيمة وكان تكريرًا؛ لأن قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} دل على ذلك، أو لأن العوج إذا استعمل في الأعيان دل على بلوغه في الاستقامة إلى حد لا يدرك العقل فيه خللًا كما ذكره في "طه". قوله: (والثاني: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان)، قال الزجاج: العوج -بكسر العين- فيما لا يرى له شخص، وما كان شخصًا قلت فيه: عوج -بالفتح- تقول: في دينه عوج، وفي العصا عوج، فإذن لا بد من "ذي"، أي: غير ذي معانٍ مائلٍ عن الاستقامة. الانتصاف: تقدم له في "طه" الاعتذار عن استعمال العوج المكسورة في الأشخاص في قوله: {لَا عِوَجَ لَهُ} بأن الأشياء التي تستوي في العادة لا تخلو عن عوج، وإن دق عن البصر ينفرد بإدراكه العقل، وبين أن الأرض بلغت من الاستواء إلى الحد الحقيقي الذي لا يدرك العقل فيه خللًا، فعبر عنه بالمكسور العين؛ لكونه مشبهًا بالمعاني، وحاصله يجوز غير ذي عوج، والمراد: ألفاظ القرآن.

وقد أتاك يقين غير ذي عوج .... من الإله وقول غير مكذوب [{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 29] اضرب لقومك مثلًا، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهنٍ شتى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واضرب لقومك مثلًا وقل لهم ما تقولون)، إنما دعاه إلى جعل الإخباري، أي: قوله {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} طلبيًا، وأتى بواو العطف ليتصل بما جاء في هذه السورة الكريمة من الأمر كقوله: {قُلْ} أو دعاه قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاَ} فإنه سؤال تقرير وتبكيت للمشركين، فلا بد من السائل، والسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} ماضٍ، فيجب التأويل وأن يقال: واضرب لقومك مثلًا وقل لهم كذا، ثم سل: هل يستويان مثلًا؟ أي: قل لهم: ما تقولون في هذا التمثيل؟ ثم بعد الفراغ سلهم: هل يستويان مثلًا؟ ثم إذا ألزمتهم الحجة قل: الحمد لله شكرًا على ما أولاك من النصرة وقهر الأعداء بالحجج الساطعة. قال صاحب "الكشف": {رَجُلًا} بدل من قوله: {مَثَلًا}، و {شُرَكَاءُ} ترتفع بالظرف. قوله: (ويتعاورونه)، أي: يتداولونه. الجوهري: يقال: هم يعورون العواري بينهم. وقد قيل: مستعار بمعنى: متعاور، أي: متداول. قوله: (في مهن شتى)، الجوهري: المهنة -بالفتح- الخدمة. وحكى أبو زيد والكسائي: المهنة؛ بالكسر، وأنكره الأصمعي. والماهن: الخادم.

ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته؛ وفي آخر قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أي هذين العبدين أحسن حالًا وأجمل شأنًا؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، ويبقى هو متحيرًا ضائعًا لا يدرى أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع؛ وحال من لم يثبت إلا إلهًا واحدًا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله. و {فِيهِ} صلة {شُرَكَاءَ}، كما تقول: اشتركوا فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومشاده)، الأساس: وهو مشدوه؛ مشغول مدهوش، وهو في مشاده: في مشاغل. قوله: (سادر)، الجوهري: السادر: المتحير. قوله: (فهمه شعاع)، الجوهري: رأي شعاع، متفرق. ونفس شعاع، تفرقت هممها. قوله: (وقلبه أوزاع)، الأساس: وزع المال والخراج توزيعًا: قسمه، وبها أوزاع من الناس: ضروب متفرقون. تقول: ذهبت نفسه شعاعًا ولحمه أوزاعًا. أوزاع: جمع صورة لا واحد له. قوله: (و {فِيهِ} صلة {شُرَكَاءُ}، هذا يدل على أن الظرف مع اعتماده يجوز أن يكون غير عامل فيما بعده بل متعلقًا به، ويجوز أن يكون خبرًا له، كما ذهب إليه صاحب "المفتاح" في قوله: كأنه علمٌ في رأسه نار

والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه. (سَالِمًا لِرَجُلٍ) خالصًا له. وقرئ: {سَلَمًا}، بفتح الفاء والعين، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين، وهي مصادر "سلم"، والمعنى: ذا سلامة لرجل، أي: ذا خلوص له من الشركة، من قولهم: سلمت له الضيعة. وقرئ بالرفع على الابتداء، أي: وهناك رجل سالم لرجل، وإنما جعله رجلًا، ليكون أفطن لما شقي به أو سعد، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا}: هل يستويان صفة؟ على التمييز. والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. وقرئ: (مثلين)، كقوله تعالى: {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} مع قوله: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر: 44]، ويجوز فيمن قرأ: (مثلين)، أن يكون الضمير في {يَسْتَوِيانِ} للمثلين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتشاخست أسنانه)، الأساس: تشاخس فوه، إذا اختلفت أسنانه. شاخس الحمار، إذا فتح فاه رافعًا رأسه بعد شم الروثة. قوله: (وقرئ: {سَلَمًا})، بفتح السين، قرأ ابن كثير وأبو عمرو: "سالمًا" بألف بعد السين وكسر اللام، والباقون: بفتح اللام من غير ألف. قوله: (وإنما جعله رجلًا)، في "المطلع": إنما خص المالك بالرجل دون الصبي والمرأة؛ ليكون أفطن بحال العبد من الدعة والكد، والمرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. قوله: (كقوله: {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا})، عن بعضهم: كونه نظيرًا له في أن التمييز ليس بمفرد مع أنه سبق تمييز بمفرد. وقلت: شبه القراءتين- أعني: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} و "يستويان مثلين" بالآية لمجيء المثالين فيها، أي: وقرئ "مثلين" مع قراءة {مَثَلًا} كقوله: {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} [التوبة: 69] مع قوله: {أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فاطر: 44] لكن الآية في "البراءة": {أَشَدَّ مِنْكُمْ} [التوبة: 69] بالخطاب، نعم جاء {أَشَدُّ مِنْهُمْ} بدون {وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا}.

لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل. والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، كما تقول: كفى بهما رجلين. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أي: يجب أن يكون الحمد متوجهًا إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلا هو. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره. [{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} 30 - 32} كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم: وقرئ: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل)، يعني: أجمل ثم فصل، نحو: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: أبدل {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من أو {وَأَسَرُّوا} إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به. قوله: (فيما يرجع إلى الوصفية)، إشارة إلى أن {مَثَلًا} في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} بمعنى: صفة، مستعار لها، وهو تمييز كما سبق. {هَلْ يَسْتَوِيانِ} صفة على التمييز. قوله: (كما تقول: كفى بهما رجلين)، أي: فيما يرجع إلى الرجولية، إذا اعتبرت رجلين رجلين. الجوهري: هذا رجل كافيك من رجل، وهما رجلان كافيك من رجلين. قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الواحد] الذي لا شريك له دون [كل] معبود سواه)، وصف الله بنفي الشريك ليؤذن بأن الاسم الجامع في مقام ضرب المثل لنفي الأضداد والأنداد متجل بصفة الوحدانية والفردانية، و"دون" متعلق بالظرف المستقل وهو {للهِ}، يدل عليه قوله: "أي: يجب أن يكون الحمد لله متوجهًا إليه وحده" والاختصاص مستفاد من اللام. ترتب الحمد على ضرب المثل ولزوم التوحيد منه، ومن ثم أتى بالفاء في قوله: "فقد ثبت أنه لا إله إلا هو"، أي: من ضرب المثل.

مائت ومائتون. والفرق بين الميت والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد، وأما المائت، فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدًا، كما تقول: سائد غدًا، أي: سيموت وسيسود. وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حي في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} إنك وإياهم وإن كنتم أحياء، فأنتم في عداد الموتى؛ لأن ما هو كائن فكأن قد كان. {ثُمَّ إِنَّكُمْ}: ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب، {تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: {أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا}، وتقول السادات: أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون؛ وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضًا، حتى يقال لهم: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28]؛ ، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما المائت فصفة حادثة)، الانتصاف: فاستعمال {مَيِّتٌ} مجاز؛ إذ الخطاب مع الأحياء، و"مائت" حقيقة؛ إذ لا يعطى اسم الفاعل حال الخطاب خلاف معناه. الإنصاف: هذا وهم؛ لأن "المائت" أيضًا مجاز، فإن اسم الفاعل حقيقة عند بقاء ما اشتق منه اسم الفاعل، والمختار أن استعماله فيما مضى مجاز، وأما استعماله في المستقبل عند الأصوليين فمجازٌ بلا خلاف. وقلت: لا بد من الفرق بين {عَالِمَ} و {يَعْلَمُ} قال صاحب "المفتاح": وليتعين -أي: المسند- كونه اسمًا كنحو: زيد عالم، فيستفاد الثبوت صريحًا، فأصل الاسم صفة وغير صفة للدلالة على الثبوت، نعم دلالة الصفة المشبهة عليه أظهر وألزم. قوله: (والمؤمنون الكافرين)، و"المؤمنون" عطف على محل "أن" واسمها. روى هذا

نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها أنزلت فينا. وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا. وعن إبراهيم النخعي: قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا. وعن أبى العالية: نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت أولًا، ألا ترى إلى قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجه محيي السنة عن ابن عباس قال: {عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} يعني: المحق والمبطل والظالم والمظلوم. قوله: (والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت)، وهو قوله: "ثم إنك وإياهم تختصمون فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا"، أي: يدل عليه الكلام السابق واللاحق، أما السابق فهو الاحتجاج من لدن مفتتح السورة إلى انتهاء ضرب المثل، وذلك أنه لما ختم الحجج بضرب المثل وتوهين أمر شركائهم وتسفيه رأيهم، وأمر حبيبه بعد ذلك كله بأن يذكر ربه بالمحامد والفضائل ويشكره على إثبات الفردانية والوحدانية، وأضرب عن ذلك كله بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونِ} تسجيلًا عليهم بالجهل المفرط، وأنهم ممن طبع على قلوبهم، فلا يلتفتون إلى هذه البيانات الظاهرة والحجج المتظاهرة اتجه لحبيبه صلوات الله عليه من حرصه على إيمان القوم وتهالكه عليهم أن يسأل: فإلى ماذا يرجع حالي وحالهم؟ فأجيب بقوله: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ} تأييسًا لهم وإقناطًا كليًا من إيمانهم، يعني: لم يبق إلا الموت والاختصام عند مالك يوم الدين. قال: إلى ديان يوم الدين نمضي .... وعند الله تجتمع الخصوم

وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة. {كَذَبَ عَلَى اللَّهِ}: افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ}: بالأمر الذي هو الصدق بعينه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِذْ جاءَهُ}: فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون. {مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}: أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في {لِلْكافِرِينَ} إشارة إليهم. [{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} 33 - 35] {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه الإشارة بقوله: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ} و {يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فتحتج عليهم أنت بأنك بلغت فكذبوا، واجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، وأما اللاحق فقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ}، وإليه الإشارة بقوله: " وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة"، وقوله بعده: " {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بالذي جاء به محمد صلوات الله عليه" فاجأه بالتكذيب، والذي جاء بالصدق: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق به. قوله: (وأراد به إياه ومن تبعه)، يعني: جيء بقوله: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} على الإفراد، ثم حمل عليه: {أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وحكم بقوله: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ}، ولا بد من التأويل وأن يقال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم، وأن مجيئه بالصدق وتصديقه كمجيئهم به وتصديقهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا، ونجوه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة: 87] أي: موسى وقومه، بدليل قوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.

يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49]، فلذلك قال: {أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. وفي قراءة ابن مسعود: (والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به). وقرئ: (وصدق به) بالتخفيف، أي: صدق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن هذا في الصفة وذاك في الاسم)، لأن هناك ذكر الاسم وهو موسى، وها هنا ذكر الصفة وهي: المجيء بالصدق. وقال محيي السنة: قال ابن عباس: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله، {وَصَدَّقَ بِهِ}: الرسول أيضًا بلغه إلى الخلق. قوله: (ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق)، روى محيي السنة هذا الوجه عن مقاتل وقتادة، قال أبو البقاء: الذي هنا وفي "البقرة" مفرد في اللفظ، والمعنى على الجمع، وفيه وجهان: أحدهما: هو جنس مثل {مَنْ}. والثاني: أريد {الَّذِينَ} فحذف النون لطول الكلام بالصلة. وقال الزجاج: و {الَّذِينَ} و {الَّذِي} في معنى واحد؛ لأنه غير موقف، والذي ها هنا للجنس المعني والقبيل الذي جاء بالصدق. وقلت: يعني الفريق الذي وقع فيه مجيء الصدق من بعض والتصديق من بعض، وهو المراد بقوله: "وهم الرسول" إلى آخره. قوله: (وقرئ: "وصدق به" بالتخفيف)، قال ابن جني: وهي قراءة أبي صالح وعكرمة بن سليمان، وفيه ضرب من الثناء على المؤمنين، فهو كقولك: الذي يأمر بالمعروف ويتبع سبيل الخير فيه مثاب عند الله، فكذا قوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} أي: استحق اسم الصدق بمجيئه.

به الناس ولم بكذبهم به، يعنى: أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار صادقًا به، أي: بسببه، لأنّ القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقًا بالمعجزة. وقرئ: (وصدّق به). فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بني مروان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: يستعمل الصدق في فعل الجوارح، نحو صدق في القتال، إذا وفى حقه وفعل ما يجب. وكذب في القتال، إذا كع وجبن. وعليه قوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي: حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا. قوله: (فيصير لذلك صادقًا بالمعجزة)، إشارة إلى توجيه قول من قال: إن معنى: {وَصَدَّقَ بِهِ} صار صادقًا به. أي قوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} كناية عن كونه صلوات الله عليه صار صادقًا بسبب القرآن، وذلك أنه صلوات الله عليه جاء بالصدق الذي هو القرآن، وسمي بالصدق مبالغة، كما أشار إليه بقوله: " {بِالصِّدْقِ} بالأمر الذي هو الصدق بعينه"، أي: جاء بالقرآن الذي هو محض الصدق، والحال أنه هو السبب في صيرورته صادقًا؛ لأنه معجزة، والمعجزة تصديق من الله الذي لا يصدق إلا الصادق. قوله: (الأشج أعدل بني مروان)، روي أن عمر بن عبد العزيز سمي بالأشج، بشجة أصابت رأسه. وروى الشيخ إسماعيل صاحب "سير السلف": أن عمر بن عبد العزيز كان ربعة، رقيق الوجه، نحيف الجسم، بجبهته أثر نفخة الدابة. وروى الشيخ أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن نافع، قال: كنت أسمع عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلًا.

وأما التفضيل فإيذان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الجامع": هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، أنه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وكان على صفة من العبادة والزهد والتقى والعفة وحسن السيرة، لا سيما أيام ولايته، ومناقبه كثيرة ظاهرة. قوله: (وأما التفضيل فإيذان)، إلى آخره. تلخيصه: أن إيراد صيغة التفضيل ها هنا لإرادة المبالغة، ذكر في "المفصل": "أفعل" يضاف إلى نحو ما يضاف إليه، أي: وله معنيان: أحدهما: أن يراد أنه زائد على المضاف إليهم في الخصلة التي هو وهم فيها شركاء. والثاني: أن يؤخذ مطلقًا له الزيادة فيها إطلاقًا، ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليهم، لكن لمجرد التخصيص، كما لا يضاف ما لا تفضيل فيه، وذلك قولك: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، كأنك قلت: عادلا بني مروان. قوله: "أن يؤخذ مطلقًا له الزيادة فيها إطلاقًا"، يحتمل معنيين، أحدهما- وهو الظاهر-: أن "أفعل" قطع عن متعلقه قصدًا إلى نفس الزيادة إيهامًا للمبالغة، نحو: فلان يعطي ويمنع، أي: يوجد حقيقتهما، وإفادته المبالغة من حيث إن الموصوف تفرد بهذا الوصف وانتهى أمره فيه إلى أن لا يتصور له من يشاركه فيه. وقال المالكي: وقد يستعمل العاري الذي ليس له {مِن} مجردًا عن التفضيل مؤولًا باسم الفاعل كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 32] ومؤولًا بصفة المشبهة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فـ"أعلم" ها هنا بمعنى: {عَالِمُ} إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، و {أَهْوَنُ} بمعنى: {هَيِّن} إذ لا تفاوت في نسب المقدورات إلى قدرته تعالى. ومنه قول الشنفري: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن .... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أراد: لم أكن عجلًا، ولم يرد: أكثرهم عجلة؛ لأن قصد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة، وليس غرضه إلا التمدح بنفي العجلة قليلها وكثيرها. الجشع أشد الحرص. وقال أبو الطيب: وما أنا إلا عاشق كل عاشق .... أعق خليليه الصفيين لائمه قال الواحدي: ومعنى "الأعق" ها هنا: العاق، كما قال حسان بن قرط: خالي بنو أنس وخال سراتهم .... أوس فأيهما أدق وألأم؟ أي: فأيهما الدقيق واللئيم، وليس يريد أن الدقة واللؤم اشتملا عليهما معًا ثم زاد أحدهما على صاحبه. وقد يطلق هذا اللفظ وليس يراد به الاشتراك كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًا وأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ولا خير في مستقر أهل النار ولا حسن، كذلك جاز أن تقول: "أعق خليله" وإن لم يكن للممسك عن اللؤم صفة عقوق. وقلت: وعلى هذا ينزل قول المصنف في هذه الآية: "إن السيء يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ"، يعني: أنهم يعدون صغائرهم كبائر؛ لرفعة منزلته وعلو مرتبتهم، كما جاء: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وكذلك حسناتهم الأدنى عند الله كالحسنات الفضلى. قال تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]. نحوه في إرادة المبالغة من قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] في أحد وجهيه. قال: كان القياس على هذا أن يقال: ادفع بالتي حسنة، لكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة؛ ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والاحتمال الثاني: أن يراد بالزيادة الزيادة على الغير لكن على العموم، وامتناع أن يقصره السامع على ما ذكر معه دون غيره. وجاء في بعض الحواشي: إن قوله: "الأشج أعدل بني مروان" ليس المراد منه التفضيل؛ لأن المروانية كلهم جورة، لكن المراد: تعريف أنه من بني مروان، كأنه قال: أشج أعدل الناس، وهذا الأعدل من بني مروان، لعل هذا القائل أخذه من شارح "اللباب"، فإذا قلت: زيد أحسن قريش، فمعناه: زيد أحسن الناس مطلقًا، وهو من جملة قريش، هذا إن أريد به أن مآل ذلك المعنى راجع إلى هذا فهو صحيح، وإن أريد أن المتعلق منوي؛ فإن قوله: "يؤخذ مطلقًا" وتوكيده بقوله: "إطلاقًا" لا يساعده؛ لأن المنوي كالملفوظ، ولا قوله: كأنك قلت: عادلًا بني مروان؛ لأن "أعدلا" إذا أريد به "عادلًا" كان بالنسبة إلى بني مروان مجازًا، وهو حينئذ حقيقة في إيراده الغير، فتجتمع الحقيقة والمجاز على لفظ واحد في حالة واحدة، وأيضًا يلزم أن تكون الإضافة محضة وغير محضة، فثبت أن الاحتمال الأولى أولى. ثم الأنسب أن يكون هذا التأويل مبنيًا على الوجه الأول، هو أن يراد بقوله: "الذي جاء بالصدق وصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة، والمخلصون من الصحابة تبعًا" لأنه إذا لم يقل: إن المراد بقوله: {ويَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، يلزم أن تكون صغار حسناتهم غير مجزي بها، وكذلك الصغائر من الذنوب تكون غير مكفرة، ويمكن أن ينبني على الوجه الثاني، وهو أن يراد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ويصدق به صحابته كلهم، وتجري الإضافة على ظاهرها، ويكون قوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} إلى آخره تعليلًا لقوله: {وَصَدَّقَ بِهِ} أي: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صدقوا به وآمنوا بما جاء من الحق به؛ ليكفر الله عنهم، وكان جل همهم مصروفًا في تكفير ذنوبهم العظام في الجاهلية من عبادة الأوثان وقتل النفس التي حرم الله ونهب مال الغير وفي أن يشكر لهم مكارم أفعالهم من صلة الرحم وقري الضيفان وإغاثة الملهوف وكسب المعدوم، وقد ذكر في سورة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]

بأن السيئ الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن؛ لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن. وقرئ: (أسواء الذي عملوا) جمع سوء. [{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الأصم: أن {مِنْ} للتبعيض، والمعنى إذ اتبتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر، وأما الصغائر فلا كلام في غفرانها. وعن المصنف: أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله يغفر له، فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان؟ فنزلت: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وقصة وحشي تذكر بعد هذا، ولعل افتقار ما في الآية إلى البيان ليس كافتقار المثال إليه؛ لأن قوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} مناد بأن لهم ما يفتقر إلى التكفير لا سيما وقد أردف بقوله: {أَسْوَأَ}، فأي فائدة في قوله: {الَّذِينَ عَمِلُوا} غلا ما ذهبنا إليه. وإلى معنى الآية ينظر ما رويناه عن النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم العبد وحسن إسلامه كتب الله له حسنة كان يزلفها، وحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، وكان بعد ذلك القصاص كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه". النهاية: أزلفها: أي: قدمها وأسلفها، والأصل فيه: القرب والتقدم، وسيجيء في سورة "حم السجدة" في قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27] ما يشد بعضد هذا التقريب.

لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} 36 - 37] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عِبَادَهُ} أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها. وقرئ: {بِكَاٍف عَبْدَهُ}؛ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (بكاف عباده)؛ وهم الأنبياء؛ وذلك: أن قريشًا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرّتها لعيبك إياها. ويروى: أنه بعث خالدًا إلى العزى ليكسرها، فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها لشدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف؟ وفي هذا تهكم بهم؛ لأنهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرر. أو: أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم الله؛ وذلك قول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ} [هود: 54]. ويجوز أن يريد: العبد والعباد على الإطلاق، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم. وقرئ: (بكافي عباده) على الإضافة، و (يكافي عباده)، و (يكافي): يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازي في يجزي، وهو أبلغ من كفى؛ لبنائه على لفظ المبالغة والمباراة؛ أن يكون مهموزًا، من المكافأة وهي المجازاة؛ لما تقدم من قوله: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} [الزمر: 35]. {بِالَّذِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({بِكَاٍف عَبْدَهُ})، قرأ حمزة والكسائي: "عباده"، والباقون: {عَبْدَهُ}. قوله: (من المكافأة)، وهي المجازاة، لما تقدم من قوله: {ولَنَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم}، يعني: لما قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، قرره بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبدَهُ} أي: أليس من صفة الكريم القادر العادل أن يجزي عبده بما عملوا، كقوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] لكن لا يلتئم قوله: {ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} بما قبله وبما بعده إلا إذا حمل على الكفاية، فيتصل بقوله: {ضَرَبَ اللهُ

مِنْ دُونِهِ} أراد: الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه. {بِعَزِيزٍ} بغالب منيع {ذِي انْتِقامٍ} ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش، ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم. [{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 38] قرئ: (كاشفات ضرّه) و (ممسكات رحمته) بالتنوين على الأصل، وبالإضافة؛ للتخفيف. فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوّفوه معرّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ} الآية. لأنه لما أذن بتوهين أمر الأصنام وتسفيه رأيهم والتسجيل على جهلهم شجع رسوله صلوات الله عليه وأمره أن لا يكترث بهم وبأصنامهم، فكأنهم لما عجزوا عن الجواب وظهر تبكيتهم خوفوه بمعبودهم. وما أحسن هذا النظم، وما ألطف موقع معنى الكفاية، وتخصيص لفظ "العبد"، ووصف الأصنام بالذين من دونه في هذا المقام، وما أدق هذا التعريض بحال عبد يثبت معبودات شتى، ويدعي كل واحد عبوديته، ويبقى هو متحيرًا ضائعًا، وحال عبد لم يثبت إلا معبودًا واحدًا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما يرضاه. ويتصل بما بعده من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. قوله: (قرئ: "كاشفات ضره" و"ممسكات رحمته") أبو عمرو: بالتنوين وفتح الراء والتاء، والباقون: بالإضافة. قوله: (م فرض المسألة في نفسه دونهم) أي: لم قال: {أَرَادَنِيَ}، ولم يقل: أرادكم، أو

الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقرّرهم أوّلًا بأنّ خالق العالم هو الله وحده. ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل، أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللاتي خوّفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفة قال: {حَسْبِيَ اللَّهُ} كافيًا لمعرّة أوثانكم {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وفيه تهكم. ويروى: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا، فنزل: {قُلْ حَسْبِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن أرادنا الله بضر، أو إن أرادنا الله برحمته، والحال أن الكلام بعد تقرير أن خالق العالم الله؟ وأجاب: ان التقرير لم يكن إلا لأمر نفسه؛ لأنهم خوفوه معرة الأوثان، بدليل قوله: {ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} فأوجب ذلك أن تقدم لهم مسألة التقرير، ثم ينبني عليها الجواب ليكون أثبت للحجة وألزم لها. قوله: (لا يحيروا ببنت شفة)، الجوهري: المحاورة: المجاوبة والتجاوب، ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابًا، وما كلمته ببنت شفة؛ أي: بكلمة. قوله: (وفيه تهكم)، لأنه لا معرة للأوثان، فكيف يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ} كافيًا لمعرة أوثانكم، ثم يردفه بقوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. قوله: (ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا)، يجوز أن يكون بيانًا لما سبق، وأن يكون وجهًا آخر. وعلى الثاني: "قل" مستقل، والمعنى عام، وليس فيه تهكم، وهو أنبل وأفحم؛ لأنه صلوات الله عليه لما بكتهم أولًا بقوله: {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}، بدليل قوله: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وألقمهم الحجر ثانيًا بقوله: {هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ} {هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ}، ولم يحيروا ببنت شفة، أي: لنهم عند أنفسهم إذا كان حزبهم أمر دعوا الله مخلصين له الدين دون أصنامهم، كما قال صاحب "المفتاح": كانت حالهم المستمرة أن يكونوا عن دعوتهم صامتين ابتدأ بقوله: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، أي: إذا كان لا خالق للعالم إلا الله، ولا ضار ولا نافع إلا هو، قل: هو حسبي وعليه توكلي.

اللَّهُ}. فإن قلت. لم قيل: {كَاشِفَاتُ}، و {مُمْسِكَاتُ}، على التأنيث بعد قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}؟ قلت: أنثهن وكن إناثًا وهن اللات والعزى ومناة، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 21]؛ ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز. وفيه تهكم أيضًا. [{قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} 39 - 40] {عَلى مَكانَتِكُمْ} على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها. والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا. و"حيث" للزمان، وهما للمكان. فإن قلت: حق الكلام: فإني عامل على مكانتي، فلم حذف؟ قلت: للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد، والإيذان بأنّ حاله لا تقف، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة؛ لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاستعيرت عن العين للمعنى) ضمن "استعار" معنى "نقل"، وعدي بـ"عن"، أي: المكانة تستعمل حقيقة فيما يدرك بالعين، فنقل عنه إلى المعنى، وهو الحالة والجهة، كما تستعار لفظة "هنا" و"حيث"، وهما للزمان والمكان. قوله: (للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد)، يعني: أضمر متعلق {عَامِلٌ}، وجعل مطلقًا لئلا يكون على وزان عملهم وتعلقه بالمكانة؛ لأن حالته وجهته لا تقف على أمر يتمكن الواصف من وصفه، بل إنها لا تزال في الترقي ساعة فساعة إلى أن تنتهي في القوة إلى أقصى غايات الكمال، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو ذكر لاقتصر على المذكور، وأن يقال: إني عامل على مكانتي؛ أي: حالتي التي أنا عليها.

ألا ترى إلى قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ} كيف توعدهم بكونه منصورًا عليهم غالبًا عليهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه، وبذل ذليل من أعدائه. {يُخْزِيهِ} مثل {مُقِيمٌ} في وقوعه صفة للعذاب، أي: عذاب مخز له، وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. وقرئ: (مكاناتكم). [{إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 41] {لِلنَّاسِ}: لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغنى، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها. وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنى على الاختيار دون الإجبار. [{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ})، أي: الدليل على أن في ترك ذكر مكانتي زيادة في الوعيد والإنذار، وأن حاله لم تزل في التزايد إلى الأبد ترتب قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ} بالفاعلية، وكان من حق الظاهر: فسوف تعلمون مكانتي وأني غالب عليكم في الدنيا والآخرة، فوضع موضع "عذاب الدنيا" قوله: {مَنْ يَاتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ}، و"عذاب الآخرة" قوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ}، وإنما سمي نكالهم في الدنيا والعقبى بالعز والغلبة في قوله: "فذلك عزه وغلبته"؛ لأن الغلبة والعز قسمان: نصر الأولياء، وذل الأعداء. وهذه الغلبة والعز من القسم الأخير. قوله: (مكاناتكم)، أبو بكر عن عاصم.

قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 42] {الْأَنْفُسَ}: الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها؛ وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة درّاكة من صحة أجزائها وسلامتها، لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الْأَنْفُسَ}: الجمل كما هي)، وعن بعض العدلية: أراد بالجمل الأرواح والأبدان جميعًا، فيكون على هذا التقدير البنية المخصوصة شرطًا للحياة، خلافًا للأشعرية. قوله: (لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت)، تعليل لمحذوف على طريقة الجواب عن سؤال مقدر، يعني: إذا كانت الإماتة عبارة عن سلب ما به النفس دراكة، لا سلب ذات النفس، فكيف قال الله تعالى: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}؟ والنفس كما تقرر: الجمل كما هي. وأجاب: أن النفس عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت مبالغة. واعلم أنه فسر التوفي بوجهين: أحدهما: أنه في معنى الإماتة، نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] على بناء اسم المفعول، فالأنفس حينئذ بمعنى: الأرواح والأبدان جميعًا، فلهذا قال: الأنفس الجمل كما هي، والتوفي لما كان بمعنى سلب الصحة لا النفس، حمل على المجاز، كما قرره. وثانيهما: أن يكون التوفي بمعنى الاستيفاء والقبض، كقراءة من قرأ: "الذين يتوفون" على بناء اسم الفاعل، والأنفس حينئذ: إما ما به التميز، وإما نفس الحياة، فيصح حمله على حقيقته؛ لأنه سلب ما به النفس دراكة، لكن يلزم من هذا الوجه أن تكون نفس الحياة متصفًا بالموت، لا الجملة الحساسة، ويكون ما به التميز متصفًا بالموت والنوم. فرد هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجه بقوله: "والصحيح ما ذكرت لك أولًا"، أي: المراد بالنفس الجملة، وبالتوفي سلب ما هي به حية حساسة دراكة. وقلت: الوجه الأول من باب الجمع والتفريق، جمع النفسين الميتة والنائمة في حكم التوفي أولًا، ثم فرق بين جهتي التوفي، فحكم على النفس الميتة بالإمساك، وعلى النائمة بالإرسال والتقدير. و {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} النفس التي تقبض والنفس التي لم تقبض، فيمسك الأولى ويرسل الأخرى. ويؤيده قول صاحب "الكشف": التقدير: ويتوفى التي لم تمت، فاستغنى عن ذكر "يتوفى" ثانيًا؛ لجريه أولًا. وتحريره: الله يميت الشخص بأن يسلب منه ما به تصح حياته وينيم الآخر نومة تشبه الموت في عدم التصرف والتميز، ثم لا يرد الحياة إلى النفس التي أماتها موتة حقيقية، يورد التميز إلى التي أماتها موتة مجازية إلى أجل مسمى. فإن قلت: يلزم على ما ذكرت أن يكون التوفي مستعملًا في مفهومي حقيقته ومجازه. قلت: يجعل مجازًا عن قطع تعلق النفس عن البدن مطلقًا. قال الإمام: النفس الإنسانية: عبارة عن جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء، وهي الحياة، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن دون باطنه، وفي وقت الموت ينقطع التعلق عن ظاهره وباطنه. فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار، لكن الموت انقطاع تام كامل، والنوم انقطاع ناقص، فظهر أن القادر الحكيم دبر تعلق النفس بالبدن على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه دبر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن ظاهرة وباطنة، وذلك هو اليقظة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: بحيث يقطع الضوء عن الظاهر والباطن، وهو الموت. وثالثها: بحيث يقطع عن الظاهر دون الباطن، وهو النوم. فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفي الأنفس، ويمتاز أحدهما بخواص معينة، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وفي ألفاظ النبوي ما روينا في "صحيح البخاري" عن أبي قتادة قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله، قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة"، قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، فغلبت عينا بلال فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلت؟ " قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء" الحديث. وروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء النوم: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". وروي عن لقمان أنه قال لابنه: "يا بني، كما أنك تنام ثم تستيقظ، كذلك تموت ثم تحيا". قاس الموت بالنوم فكانا موتتين. الراغب: توفية الشيء: بذله وافيًا، واستيفاؤه: تناوله وافيًا. قال عز وجل: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران: 25]، قد عبر عن الموت والنوم بالتوفي، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها}، وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] فقد قيل: توفي رفعة واختصاص، لا توفي موت.

{وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} يريد: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي: يتوفاها حين تنام، تشبيهًا للنائمين بالموتى. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 6] حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك، {فَيُمْسِكُ} الأنفس {الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الحقيقي، أي: لا يردّها في وقتها حية، {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} النائمة {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} " إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها؛ وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة؛ لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والصحيح ما ذكرت أوّلًا؛ لأنّ الله عز وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعًا بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام. {إِنَّ فِي ذَلِكَ}: إن في توفى الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإرسالها إلى أجل {لَآيَاتٍ} على قدرة الله وعلمه، {لِقَوْمٍ} يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: قضى عليها الموت، على البناء للمفعول. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوافي: الذي بلغ التمام، يقال: درهم واف، وكيل واف. ووفى بعهده، وأوفى: إذا تمم العهد. قوله: (أي: لا يردها في وقتها حية)، "حية": حال من "ها" "يردها"، و"في وقتها" أي: وقت إماتتها وأجلها. قوله: (وقرئ: "قضي عليها الموت" على البناء للمفعول)، وهي قراءة حمزة والكسائي.

[{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 43 - 44] {أَمِ اتَّخَذُوا}: بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: من دون إذنه {شُفَعاءَ} حين قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا}؟ أي: هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعةً إلا بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونًا له. وهاهنا الشرطان مفقودان جميعًا. {أَوَلَوْ كانُوا} معناه: أيشفعون ولو كانوا {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} أي: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئًا قط، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم. {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} تقرير لقوله: {لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا}؛ لأنه إذا كان له الملك كله، والشفاعة من الملك؛ كان مالكًا لها. فإن قلت: بم يتصل قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؟ قلت: بما يليه، ومعناه: {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} اليوم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة. [{وإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 45] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والباقون: على البناء للفاعل. قوله: (أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونًا له)، لكن الذي هو مشروط في الآية شيئان: الملك المطلق والعقل، والشرطان مفقودان، أي: الأصنام لا يملكون شيئًا، ولا لهم مرتبة العقلاء، يدل عليه قوله: {أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ}، ولذلك أتبعه بما اشتمل على الاسم الجامع والملك على الإطلاق دنيا وأخرى من غير منازع فيه حيث قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الآية.

مدار المعنى على قوله: {وَحْدَهُ}، أي: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أي: نفروا وانقبضوا، {وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}؛ وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكروا: استبشروا؛ لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها. وقيل: إذا قيل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له: نفروا؛ لأن فيه نفيًا لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ (والنجم) عند ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مدار المعنى على قوله: {وَحْدَهُ})، عن بعضهم: من قال: المراد بقوله: {وَحْدَهُ} الثناء على الله تعالى، ويصير بمنزله قوله: الله تعالى، أو سبحانه، أو شبه ذلك، فقد أخطأ. قلت: يريد: أن لفظة {وَحْدَهُ} في كلام المصنف ليست بمعترضة، كما يقع في سائر المواضع، مثل: سبحانه وتعالى، بل المعنى: أن مدار معنى هذه الآية وما سبق له الكلام معنى {وَحْدَهُ}، إذا لو قيل: وإذا ذكر الله اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون، لكان عن المعنى بمعزل؛ لأنهم ما كانوا يشمئزون إذا شفع ذكر الله بذكر آلهتهم، وإذا ذكرت آلهتهم وحدها كانوا يستبشرون، وإنما كان اشمئزازهم من ذكر الله وحده، ونبه الله سبحانه وتعالى بوضع قوله: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} موضع الضمير على أنهم إنما اشمأزوا؛ لأنهم ركنوا إلى اللذات العاجلة، وانغمسوا في الشهوات النفسانية، فإذا سمعوا بأن لا إله إلا هو وحده، واستلزم ذلك العبادة والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، ظهرت آثار الكآبة على وجوههم، وانقبضت قلوبهم، وضاقت صدروهم، وإذا ذكرت الأصنام مالت قلوبهم إلى اللذات العاجلة، واستبشروا وفرحوا. قوله: (ما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: قرأ سورة "النجم"، وألقى الشيطان في أمنيته: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى"، ففرح به الكفار. وقلت: قد أبطل هذا القول الإمام، واستقصينا القول في إبطاله في "الأنبياء".

باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأن الاستبشار: أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غمًا وغيظًا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. فإن قلت: ما العامل في {وإذَا ذُكِرَ}؟ قلت: العامل في "إذا" المفاجأة، تقريره: وقت ذكر الذين من دونه، فاجأوا وقت الاستبشار. [{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 46] بعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له: ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف حالهم، وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، ووعيد لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العامل في "إذا" المفاجأة)، أي: العامل في "إذا ذكر" هو العامل في "إذا" المفاجأة، وهو "فاجؤؤا"، الأول ظرف، والثاني مفعول به، أي: فاجؤوا في وقت الذكر وقت الاستبشار، ومنه الحديث: "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل"، أي: فاجأنا في زمان جلوسنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت طلوع الرجل. قوله: (بعل)، الأساس: بعل بالأمر: إذا عي به. قوله: (وفيه وصف لحالهم) إلى آخره، يعني: سيق الكلام في الأمر بالدعاء في الأسماء الحسنى، والأمر بالتفويض في الحكم بينهم إلى الله تعالى، وأدمج فيه معان أربعة: أحدها: قوله: {أَنتَ تَحْكُمُ} دل على الاختصاص؛ لأنه من قبيل: أنت عرفت، وأفاد أنه تعالى هو وحده يحكم بينهم، فدل ذلك على شدة شكيمتهم في الكفر والعناد، وهو كناية. وثانيها: اعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب

وعن الربيع بن خثيم، وكان قليل الكلام: أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وسخط على قاتله، وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أو قد فعلوا؟ ! وقرأ هذه الآية. وروي: أنه قال على أثره: قتل من كان صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه. [{ولَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 47 - 48] {وبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله في الوعد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه، أي: أبلغت وأديت ما عليك، بقي الآن على من هو أحكم لحاكمين هو وحده يحكم بينهم. وثالثها: تسلية له صلوات الله عليه؛ لأنه كان حريصًا على إيمان القوم، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} [الكهف: 6]، وهذه الآية كالمتاركة والموادعة واليأس من إيمانهم، واليأس إحدى الراحتين. ورابعها: وعيد لهم، ولا وعيد بعده، وقوله: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} دل على القدرة التامة، وقوله: {عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ} على العلم الشامل، وأنه عالم بما ظهر منهم وما بطن، فيجازيهم عليها، وقوله: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} على القضاء الحق والحكم العدل، والله أعلم. قوله: (كما قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا})، لم يرد أنه مثله في المشاكلة، بل أنه مثله في إطلاق السبب على المسبب. قوله: (وعن الربيع بن خثيم)، وفي "سير السلف": هو: الربيع بن خثيم الكوفي، وهو من العباد السبعة، مات سنة ثلاث وستين.

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17]، والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالًا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات. وعن سفيان الثوري: أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها؛ فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه. {وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا} أي: سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله: {أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. وأراد بالسيئات: أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. {وَحاقَ بِهِمْ}: ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم. [{فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 49] التخويل: مختص بالتفضل. يقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء. {عَلى عِلْمٍ} أي: على علم منى أني سأعطاه، لما في من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بي وباستحقاقي. أو على علم منى بوجوه الكسب، كما قال قارون: {عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. فإن قلت: لم ذكر الضمير في {أُوتِيتُهُ} وهو للنعمة؟ قلت: ذهابًا به إلى المعنى؛ لأنّ قوله: {نِعْمَةً مِنَّا} شيئًا من النعمة وقسمًا منها. ويحتمل أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: على علم منى أني سأعطاه)، هو حال من الضمير المرفوع، ولهذا ما أبرز الضمير المنصوب. الانتصاف: ولذلك تقول القدرية: إن الإثابة على الله واجبة، يؤتاها على علم من الله باستحقاقه، وغنما سلم منها أهل السنة الذين جعلوا الثواب فضلًا لا استحقاقًا.

تكون "ما" في {إِنَّمَا} موصولة لا كافة؛ فيرجع إليها الضمير، على معنى: إن الذي أوتيته على علم. {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} إنكار لقوله، كأنه لقوله، كأنه قال: ما خولناك من النعمة لما تقول، بل هي فتنة، أي: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر. فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملًا على المعنى أولًا، وعلى الفظ آخرًا؛ ولأن الخبر لما كان مؤنثًا- أعني: {فِتْنَةٌ} - ساغ تأنيث المبتدأ لأجله؛ لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: (بل هو فتنة) على وفق {إِنَّما أُوتِيتُهُ}. فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ قلت: السبب في ذلك: أن هذه وقعت مسببةً عن قوله: {وإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} [الزمر: 45] على معنى: أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الآي اعتراض. فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولأن الخبر لما كان مؤنثًا- أعني: {فِتْنَةٌ} - ساغ تأنيث المبتدأ)، هذا الوجه أولى من الأول؛ لأن ابن جني ذكر أنه إذا حمل على المعنى أولًا لا يحسن بعده الحمل على اللفظ في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146]، وتبعه المصنف. قوله: (ما جاءت)، عن بعضهم: "جاء" بمعنى: كان هاهنا، أي: أي شيء كانت حاجتك؟ ومنه ما روي: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فجاء قريش له سابقًا. أي: كان قريش له سابقًا. قوله: (أن يؤكد المعترض بينه وبينه)، قيل: الضميران راجعان إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: "وما بينهما من الآي"، أي: الاعتراض يؤكد معنى ما يلحقه وما يسبقه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونحوه قولك: قعدت بينك وبين زيد، والبين واحد بالنسبة إليك، والنسبة إليها متعذر، وعن بعضهم: التقدير: بينه؛ أي: بين السبب، وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ}، وبينه؛ أي: بين المسبب، وهو قوله: {فَإِذَا مَسَّ}، وقوله: "بينه" متعلق بقوله: "اعتراض" فالهاء في بينه وبينه راجع إلى السبب والمسبب. وقلت: أما تلخيص التسبب، وكأنهم لشدة عنادهم وإبائهم عن الحق المحض جعلوا اشمئزازهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر الغير غرضًا في أن إذا مسهم ضر دعوا الله دون الغير، على منوال {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، فحكى الله تعالى عنهم ذلك إنكارًا وتعجيبًا. ثم أمر حبيبه صلوات الله عليه بقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} أن يشنع عليهم ذلك على سبيل التضرع، ويظهر بأنه لا يجدي فيهم إنذاره واجتهاده، ويقول: لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك هذه الجرأة إلا أنت، وجعل هذا الدعاء معترضًا بين الكلامين؛ اهتمامًا به وتوكيدًا للوعيد، ثم إن جعل {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} عامًا كانت الآية اعتراضًا بعد اعتراض، وإذا جعل من إقامة المظهر موضع المظهر موضع المضمر إشعارًا بالعلية كان استطرادًا بعد اعتراض. وأما تلخيص العطف فإنه تعالى أخبر عن وعيده للمشركين، وأنه غني عنهم بسبب كفرانهم، ثم أخبر عن حال مطلق الإنسان، وأن جبلته على أنه إذا مسه الضر رجع إلى الله، وإذا مسه الخير أظهر البطر والأشر، وعطفه عليه لجامع الكفران وقلة الثبات. وإليه الإشارة بقوله: "وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها"، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة تذييلية، وتخصيص ذكر الإنسان في الآية الأخيرة من إقامة المظهر موضع المضمر للتلويح إلى قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]. ما ألطف هذا التقرير، ولهذا قال تعريضًا بنفسه: "وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم- أي: العالم بالنظم- وإلا بقيت محتجبة في أكمامها"، لله دره. قال صاحب "الانتصاف": هذا كلام فافهمه فإنه عزيز، وقيل: يمكن أن يقال: المعنى المفهوم من المجموع، وهما الدعاء عند الضر، وترك الدعاء عند تحويل النعمة، هو المسبب،

قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله: أنت تحكم بينهم، ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزمر: 47] متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقًا، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به حين أحكم عليهم بسوء العذاب. وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة، وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو. فإن قلت: من أي وجه وقعت مسببة، والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم عنه؟ قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه: أن تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سببًا في الالتجاء، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجيب من فعله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكان اشمئزازه عن ذكر الله وحده واستبشاره عند ذكر الذين من دونه سبب أن لا يذكره إلا عند الاضطرار، ويتركه عند النعمة. وقلت: يؤيد هذا التأويل إقامة المظهر موضع المضمر في {قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}، أي: المشتغلون بلذات الدنيا وشهواتها. قوله: (لصدوفهم)، أي: إعراضهم.

[{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ومَا هُم بُمُعْجِزِينَ (51) أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ويَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 50 - 52] الضمير في {قَالَهَا} راجع إلى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص: 78]، [الزمر: 49]؛ لأنها كلمة أو جملة من القول. وقرئ: (قد قاله) على معنى القول والكلام، وذلك و {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}: هم قارون وقومه، حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا ويجمعون منه. {مِنْ هَؤُلاءِ}: من مشركي قومك {سَيُصِيبُهُمْ} مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم: {أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا} أنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل؟ [{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 53] {أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}: جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها {لا تَقْنَطُوا} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على معنى القول والكلام، وذلك)، هذه ألفاظ تستعمل في تأويل المؤنث الراجع إليه ضمير المذكر، قال ابن جني في قول الشاعر: مثل الفراخ نتفت حواصله أي: حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا.

قرئ: بفتح النون وكسرها وضمها. {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يعني بشرط التوبة، وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرًا له فيما لم يذكر فيه؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقص. وفي قراءة ابن عباس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض)، يعني: يحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ليتفقا. قال صاحب "الفرائد": ما ذكر من التناقض غير لازم؛ لأن من ذكر المغفرة بعد التوبة لا يلزم عدم حصول المغفرة بدونها، وما ذكر من الدلالة على أنها شرط فيها لازم لا يحصل بدونه ممنوع؛ لأن غاية ما يفهم من قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} وجوب الإنابة، وقوله: "وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة"؛ لأن الآخر يشعر بأن ذكر الشيء بعد الشيء يوجب توقف الأول على الثاني، وهو ظاهر البطلان. وقلت: مراد المصنف من قوله: "قد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن": أنه كل موضع ذكر فيه نحو قوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} قيده بقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ}، وهو قيد للتوبة، يدل عليه استشهاده بقراءة ابن عباس: "يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء"، ومن ذلك في "آل عمران" قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] تفسير بين لـ"من يشاء"، وأنهم المتوب عليهم أو الظالمون، وقوله في النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قال: كأنه قيل: "إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك"، على أن المراد بالأول: من لم يتب، وبالثاني: من تاب، ونحوهما. وقد بينا وجه ضعف كل ما ذكر. وأما الذي يقول هاهنا في قوله: "وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة للدلالة على أنه شرط فيها"، فإنه حزم للنظم المعجز؛ لأنه تعالى لما وبخ المشركين وأطنب الكلام فيه وأرعد وأبرق، عقبه بخطاب العام بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} استعطافًا وترغيبًا غب ترهيب، والمراد بالإسراف: جمع ما ينطوي تحت هذا الاسم من التفريط الصادر من الكافرين والمؤمنين، والمقصود الأولي: الكافرون وما كانوا عليه من أمور الجاهلية. يؤيده قوله: "وقيل: قال أهل مكة" إلى آخره، وكان قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا} عطفًا على قوله: {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}، واعترض بين المعطوف والمعطوف

وابن مسعود: (يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء)، والمراد بمن يشاء: من تاب؛ لأن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها: (يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي)، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه قوله: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} على سبيل العموم للتعليل اهتمامًا واعتناءً بشأن الترغيب إلى الإنابة، وإخلاص العمل لله تعالى. ونظير موقع هذا الاعتراض قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وسبق تقريره ومناسبته للآية. قال القاضي: تقييد {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، والتعليل بقوله: {إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} على المبالغة وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة بما في (عبادي) من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم، والنهي عن القنوط عن الرحمة مطلقًا فضلًا عن المغفرة وإطلاقها، وتعليله بـ {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، ووضع اسم "الله" موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق، والتأكيد بـ"الجميع". وما روي من أسباب النزول لا ينفي عمومها، وكذا قوله: {وَأَنِيبُوا} فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد بالتوبة. قوله: (يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي)، جاء في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" و "سنن الترمذي" عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: " {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ولا يبالي". وقلت: معناه: لا يبالي بما تقول المعتزلة: إن التوبة شرط، لأنه تحجر للواسع، وإن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته، لأن عدم المبالاة من الجبروت.

ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15]. وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أن عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله؟ ! فنزلت. وروي: أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفًا ولا عدلًا أبدًا؛ فنزلت، فكتب بها عمر رضي الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا. وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية"، فقال رجل: يا رسول الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونظير نفي المبالاة) عن بعضهم: الظاهر أن نظير نفي مقول "قيل"، والواو فيه حكاية ما في لفظ القائلين، مثل قوله: {وَلاَ يَخَافُ} [الشمس: 20]، والواو فيه. قوله: (وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة)، روى محيي السنة عن ابن عباس: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: كيف تدعوني إلى دينك، وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثامًا يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله؟ فأنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فقال وحشي: أراني بعد في شبهة، فلا أدري يغفر لا أم لا؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} الآية: فقال وحشي: نعم، هذا، فجاء وأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة". قوله: (ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية) الحديث، مثله رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ثوبان رضي الله عنه، والباء في "بهذه" بدلية، والواو في "ومن أشرك" عاطفة، والمعطوف عليه: ما دل عليه كلام الرسول المعني: "ما أحب أن أملك الدنيا وما فيها بدل

ومن أشرك؟ فسكت ساعةً، ثم قال: "ألا ومن أشرك" ثلاث مرات. [{وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وإن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واسْتَكْبَرْتَ وكُنتَ مِنَ الكَافِرِينَ} 54 - 59] {وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ}: وتوبوا إليه {وأَسْلِمُوا لَهُ}: وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة؛ لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذه الآية"؛ لأنه تعالى من على من أسرف من عباده، ووعدهم أنه يغفر لهم ذنوبهم جميعًا، ونهاهم أن يقنطوا من رحمته الواسعة، فقال الرجل: ومن أشرك، وهو يحتمل أن يكون مرفوعًا، أي: ومن أشرك أيضًا موعود ومنهي، أو منصوبًا، أي: أوعد الله عباده وأوعد من أشرك، أو مجرورًا، أي: إن الله يغفر ذنوب من آمن من عباده وحده، أو من ذنوب من آمن ومن أشرك. وهذه الوجوه تترتب أيضًا على قوله: "ألا ومن أشرك". ولعل الصحابي لما نظر إلى معنى قوله: {يَا عِبَادِيَ}، وأن له مزيد اختصاص بالمؤمنين خص الغفران بهم، ولما تفكر في عموم قوله: {الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عنه فتردد فسأل، ولذلك توقف صلوات الله عليه حتى أوحي إليه أو اجتهد. قوله: (وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة)، الراغب: النوب: الرجوع للشيء بعد أخرى قال: ناب نوبًا ونوبة، وسمي النحل نوبًا لرجوعها إلى محلها، ونابته نائبة، أي: حادثة من شأنها أن تنوب دائبًا. والإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل. قال تعالى: {وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا}، وفلان ينتاب فلانًا، أي: يقصده مرةً بعد أخرى.

شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم} مثل قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي: يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئًا لفرط غفلتكم وسهوكم، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ}: كراهة أن تقول. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في لكفر شديد، أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير، كما قال الأعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه .... أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد التكثير)، ذكر في تنكير {نَفْسٌ} وجوهًا: أحدها: قوله: "بعض الأنفس"، أي: بعض من الجنس، ونوع منه، وهو نفس الكافر، بدليل قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ}، لأن هذا لا تقوله نفس المؤمن. وثانيها: أن يكون التنكير للأفراد شخصًا، وهو الكافر الذي علم منه اللجاج في الكفر في الدنيا، أو الكافر الذي شوهد تعذيبه في الآخرة. وثالثها: أن يكون التنكير للتكثير، لكن على الاستعارة، لأن وضع التنكير ليس للتكثير حقيقة، مثله "كريم" في قوله: "رب بقيع" البيت، يريد: إكثار من يجيب إلى نصرته؛ لأنه في مقام مدح نفسه وكثرة ناصريه، لا أن كريمًا واحدًا أجابه، وكذا "رب" في قوله: "رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت" يصف نفسه بأنه جواب للفيافي، ودأبه وعادته مقارعة الأبطال، كقوله: قد أترك القرن مصفرًا أنامله فعلى هذا المراد بالنفس: جميع الأنفس المؤمنة والكافرة، ولفظ "أو" في قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ} لتنويع النفس القائلة، لا لتنويع القول. وأما تنظيره التنكير في {نَفْسٌ} بـ"رب" فلأنهما موضوعان للتقليل، وقد استعملا في التكثير مجازًا. قوله: (ورب بقيع) البيت، قبله:

وهو يريد: أفواجًا من الكرام ينصرونه، لا كريمًا واحدًا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد أختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: {يَا حَسْرَتَى}، على الأصل، و (يا حسرتاي) على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دعا قومه حولي فجاؤوا لنصره .... وناديت قومًا بالمسناة غيبا المسناة: العرم، والبقيع: موقع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، ومنه سمي بقيع الغرقد، وهو مقبرة المدينة، والغرقد: شجر كريم، أي: كرام كثيرون، والتنكير ينفض الرأس، أي يحركه غضبًا، يشكو من قومه ويلهيهم حين قعدوا عن نصره. قوله: (وقد أختلس الطعنة)، تمامه: لا تدمي لها نصلي والبيت لامرئ القيس بن عابس، قال المرزوقي: أما في قوله: "بضربة لم تكن مني مخالسة" فهو على خلاف قول الآخر: "وقد أختلس الضربة لا تدمى لها نصلي"، لأنه قصد الشاعر هنا إلى أنه تناول من خصمه ما تناول من تثبيت وقوة قلب، لا كما يفعله الجبان، ثم ذكر تمكنه من خصمه على شدة احتراز منه حتى تناول ما تناوله خلسًا، وقد وصف الشجاع بالمخالس والخليس، ومن مدح خصمه ثم ذكر غلبته عليه، كان أبلغ في الافتخار به. قوله: (وقرئ: {يَا حَسْرَتَى}، على الأصل)، وهي المشهورة، قال ابن جني: قرأ أبو جعفر: "يا حسرتاي" وفيها إشكال؛ لأن الألف فيه بدل من ياء "يا حسرتي" هربًا من ثقل الياء إلى خفة الألف، نحو: يا غلامي، وكان ينبغي أن لا يؤتى بياء المتكلم بعد الألف؛ لئلا يجتمع العوض والمعوض عنه، ومثله: ما أنشده أبو زيد: إني إذا ما حدث ألما .... دعوت يا اللهم يا اللهما فجمع بين "يا" النداء والميم، وإنما الميم عوض من "يا" النداء، ويمكن أن يقال: إن

الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون: في حقه. قال سابق البربري: أما تتّقين الله في جنب وامق .... له كبد حرّى عليك تقطّع؟ وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه، ألا ترى إلى قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفرط لما شاهد نتيجة كمال تفريطه فيما ينجيه من ذلك الهول، ونهاية خيبته من الفوز والفلاح، تضجر وتفجع ومد صوته، كما يفعل الملهوف، فنزل الألف منزلة نفس الكلمة، وألحق الياء المعوض به، أو أنه من هول ذلك اليوم ذهل فلم يدر ما يقول. نحوه ذكر المصنف في قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لًا عِلْمَ لَنَا}. قوله: (أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته)، الراغب: أصل "الجنب": الجارحة، ثم يستعار للناحية التي تليها، كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك، نحو: اليمين والشمال. قال الشاعر: مِن عن يميني مرة وأمامي وقيل: جنب الحائط وجانبه، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، أي: القريب، وقوله تعالى: {فِي جَنْبِ اللهِ} أي: أمره الذي حده لنا، وبني من الجنب الفعل، نحو: جنبته وأجنبته واجتنبته، ومنه: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، وجنب فلان خيرًا وجنب شرًا، وإذا أطلق فقيل: جنب فلان، فمعناه: أبعد عن الخير، وذلك يقال في الدعاء وفي الخير، وسميت الجنابة بذلك، لكونها سببًا لتجنب الصلاة في حكم الشرع، والجنوب: يصح أن يعتبر فيها معنى المجيء من جنب الكعبة، ويعتبر معنى الذهاب عنه؛ لأن المعنيين موجودان. قوله: (لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل [وحيزه]، فقد أثبته فيه)، على الطريق

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى .... في قبّة ضربت على ابن الحشرج ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: "من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل"، وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل: {فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، على معنى: فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطي من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في الله؛ فما معنى فرّطت في الله؟ قلت: لا بدّ من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة الله وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: (في ذكر الله). و"ما" في {مَا فَرَّطْتُ} مصدرية مثلها في: {بِما رَحُبَتْ} [التوبة: 25]. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها. ومحل {وَإِنْ كُنْتُ} النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أي: فرّطت في حال سخريتي. وروي: أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق، وأتاه إبليس، وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي. فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن. {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} لا يخلو: إما أن يريد الهداية بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي: فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الإلطاف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البرهاني، كما أن زيادًا الأعجم جعل السماحة والمروءة والندى المعرفة بتعريف الجنس في مكان ابن الحشرج، أي: في قبة مضروبة عليه في قوله: إن السماحة والمروءة والندى .... في قبة ضربت على ابن الحشرج فأفاد اختصاصها به بأبلغ وجه، يعني: إذا رمتها لم تجد حصة منها خارجة عن هذا المكان. وعن بعضهم: إنما سمي الشاعر بالأعجم للثغة؛ كان يبدل السين شينًا، والطاء تاء.

فيلطف به. وأما الوحي فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدي، وإنما يقول هذا تحيرًا في أمره وتعلالًا بما لا يجدي عليه، كما حكي عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك، ونحوه: {لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} [إبراهيم: 21]، وقوله: {بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي} ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى. وقرئ بكسر التاء على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن)، وفي أكثر النسخ: "أخرى القرائن"، وهي أبين وأكشف، ومعنى "إحدى" وإن كانت عامة إلا أنه يريد بها غير الأولى؛ لأن الجواب لا يتقدم. قال صاحب "التقريب": إنما لم يقرن "بلى" بما هو جواب له، وهو: {أَنَّ اللهَ هَدَانِي}، لأنه لو أخر {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} انتقض الترتيب بين التحسر، ثم التعلل، ثم تمني الرجعة، ولو وسط "بلى" ليقترنا تبتر النظم بالفصل بين القرائن. وقال القاضي: فصل الجواب عن السؤال، لأن تقديمه يفرق القرائن، وتأخير المردود يخل بالنظم المطابق للوجود؛ لأنه يتحسر بالتفريط، ثم يعلل بفقد الهداية، ثم يتمنى الرجعة، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله تعالى في فعل العبد، ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه. وقلت: مراد المصنف أنه لم يقرن قوله: {بَلَى قَدْ جِاءَتْكَ آياتِي} مع قوله: {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي} وهو جوابه؛ لأنه لو قرن به لا يخلو: إما أن يقدم الجواب على أخرى القرائن الثلاث، يعني: قوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ}، لأن أولى القرائن: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى}، وثانيتها: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي}، وآخرها: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ}، وإنما كانت قرائن؛ لأن كلاَ منها مصدرة بالقول، ومرتبة على ترتيب أنيق، أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تؤخر الوسطى، أي: قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي}، عن الأخرى، وهي: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ}، فلا يحسن الأول؛ لما يلزم منه الافتراق بين الأقوال الثلاثة المنتظمة، واختلاط كلام الغير بها، ولا الثاني وإن انتظمت الأقوال، واتصل الجواب بالسؤال؛ لما يلزم منه تفكيك الترتيب من حيث المعنى، وهو أولى بالمراعاة من اللفظ؛ لأن التحسر مقدم على التعلل، وهو على التمني؛ لأن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة ترى الناس مجزئين بأعمالهم تتحسر على تفوتها عليها، ثم قد يتعلل بأن لم يكن التقصير مني، فلو هداني الله لكنت من المتقين، فإذا تفكر وعلم أن التقصير كان منه يتمنى الرجوع لتلافي ما فوته {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}، فلو قدم شيء من ذلك لا ينقض الالتئام. وقلت -والله أعلم-: قد مر أن الخطاب بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} عام شامل للمسرفين كلهم، وأن المقصود الأولي منهم المشركون، وكذلك قوله: {وَأَسْلِمُوا} هو المطلوب الأولي، وان التنكير في {نَفْسٌ} يجوز أن يكون للتكثير، فكأنه قيل: قل: يا عبادي الذين فرطت منهم سقطات لا تقنطوا من رحمتي، وأنيبوا وأسلموا، واتبعوا ما أنزلت إليكم، أي: أجمعوا كلكم على الرجوع إلى الله بالتوبة، وأحدثوا الإسلام، واقرنوا بها الأعمال الصالحة من قبل أن يفجأكم ما يفوت عليكم، فتفترق كل نفس بما يلزمها من طائرها في عنقها، فتقول النفس المفرطة: يا حسرتى على ما فرطت في طاعة الله، وقصرت عن متابعة ما أنزل الله تعالى، والحال أني سخرت. وتقول النفس الكارفة المكذبة: لو أن الله هداني، أي: دعاني إلى الإسلام، لكنت من الذين اجتنبوا عن الشرك، وتقول النفس الأبية المعرضة: لو أن لي كرة فأكون من الذين أحسنوا في الرجوع إلى الله والإنابة، فيقال لكل واحد منهما: أيتها المكذبة، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها، أي: دعوناك إلى الإسلام، فاستكبرت واستمررت على كفرك، حيث كنت من مرة الكاملين في الكفر. ولهذا ذكر الضمير في: {جَاءَتْكَ}، ولم يؤنثها باعتبار النفس، فظهر أن "أو" العاطفة لتنويع الأنفس، أو بمعنى "بل". أنشد الجوهري:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى .... وصورتها أو أنت في العين أملح والكلام مرتبط بقوله: {يَا عِبَادِيَ}، وهذا كله عند إنزال البأس، وحين لم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، لقوله تعالى: {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ} الآية، وأما يوم القيامة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فترى من بين الأنفس الذين كذبوا على الله الكاملين في الكفر وجوههم مسودة، وإنما خصها بالذكر لما سبق أن الكلام وارد فيه، فينطبق على هذا قوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}، وقوله من قبل: {وَاسْتَكْبَرْتَ}، ثم ينجي الله الذين اتقوا من الشرك بفلاحهم من الإيمان، وبالتصديق في العاقبة على حسب مراتبهم وأعمالهم بفضله وكرمه من تسويد الوجوه ومن الثوي في جهنم؛ لأنهم ما كذبوا بآيات الله وما استكبروا وما كانوا من زمرة الكافرين. وظهر أيضًا بهذا النظم السري أن قوله: "لا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق خلقًا لا لغرض، ويؤلم لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيًا معاينًا" إلى آخره، بعيد عن المرام، وينبو عنه المقام. وقال صاحب "الانتصاف": الزمخشري عدا طوره، فنقيم عليه حد الرد، أما نسبة أهل السنة إلى أنهم ينسبون القبائح إلى الله تعالى، فلم ينسبوا إليه قبيحًا، فإن التصرفات في الملك لا توصف بالقبح. وأما المعتزلة فيقولون: ليس خالق كل شيء، ويكذبون؛ لأن الأفعال شيء، لقوله بعيد هذا: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءِ}، ويقولون: الله يخلق لا لغرض، لأنه الفعال لما يشاء، وعندهم أنه تعالى ليس فعالًا لما يشاء، لأن الفعل إما منطو على مصلحة فيجب عليه فعله، أو مفسدة فيجب عليه تركه، فأين أثر المشيئة له؟ ! وأما اعتقاد تكليف ما لا يطاق تظليمًا؛ فباطل، لأنه من لازم خلق الله، ولازم الحق حق، وإنما الظلم التصرف في ملك الغير بغير إذنه.

الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل، لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني: فلما فيه من نقص الترتيب؛ وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمني الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه؛ وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع {بَلَى} جوابًا لغير منفي؟ قلت: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي} فيه معنى: ما هديت. [{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} 60] {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18]، وقالوا: {لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} [الزخرف: 20]، وقالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها} [الأعراف: 28]، ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح، وتجويز أن يخلق خلقًا لا لغرض، ويؤلم لا لعوض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: "ويجوزون الألم لا لعوض"؛ فما يقول في إيلام البهائم والأطفال، وليس بسبب سابق، ولا في البهائم لثواب لاحق. وأما الرؤية التي دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته"؛ فنص لا يقبل التأويل بالتهاويل، والتستر بالبكلفة ستر لا تستر، وليس كالتهتك بالباطل الذي اعتمده، وتعريضه بأنهم أثبتوا قدمًا لكونهم أثبتوا لله صفات الكمال، كلا والله ما جعل له أندادًا إلا القدرية الذين جعلوا نفوسهم يخلقون ما يريدون على خلاف مراد ربهم، حتى شاء الله ما لم يكن، وكان ما لم يشأ، فمن أثبت من صفات الله ما شهد به كتابه وسنة رسوله، فلا طعن عليه، ولو كره المبطلون. وأما إثبات القدم واليد والجنب ففرية، ولم يقل بهذا أحد من أهل السنة، وإنما أثبت

ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيًا معاينًا مدركًا بالحاسة، ويثبتون له يدًا وقدمًا وجنبًا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادًا بإثباتهم معه قدماء. {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: جملة في موضع الحال إن كان {تَرَى} من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. [{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 61] قرئ: (ينجي) و {يُنَجِّي}، {بِمَفازَتِهِمْ}: بفلاحهم، يقال: فاز بكذا؛ إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة: قوله: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}، أي: ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القاضي صفات سمعية وردت في القرآن، ولم يتجاوزوا في إثباتها على ما وردت به السنة، وغيره حمل اليد على النعمة والقدرة، والوجه على الذات، فلا وجه لإساءة أدبه. قوله: ({وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: جملة في موضع الحال)، قال صاحب "الكشف": واستغنى عن الواو لمكان الضمير. وقال الزجاج: يجوز {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} على البدل من {الَّذِينَ كَذَبُوا}، أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. قوله: (أو بسبب منجاتهم)، عطف على قوله: "بفلاحهم". الأساس: نجوت منه نجاة، ونجاني الله، وأنجاني، وهو منجاة من السيل. قال الباهلي: فهل تأوي إلى المنجاة أني .... أخاف عليك معتلج السيول

الْعَذابِ} [آل عمران: 188] أي: بمنجاة منه، لأنّ النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح؛ ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة. ويجوز: بسبب فلاحهم؛ لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح؛ وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة؛ لأنه سببها. وقرئ: (بمفازاتهم)، على أن لكل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن "مفازتهم" قد فسر أولًا بفلاحهم حقيقة، يدل عليه قوله: "يقال: فاز بكذا؛ إذا ظفر بمراده". وقال في "الأساس": طوبى لمن فاز بالثواب، وفاز من العقاب، أي: ظفر ونجا. وثانيًا: بالمنجاة مجازًا، ولذلك علله بقوله: "لأن النجاة من أعظم الفلاح"، وقال في "الأساس": ومن المجاز: المفازة، سميت باسم المنجاة على سبيل التفاؤل، وفوز المسافر: ركب المفازة ومضى فيها. ولما لم يستتب معنى السببية بهذا التفسير قال: "وسبب منجاتهم العمل الصالح"، ورجع المعنى إلى قوله: "ينجي الله الذين اتقوا بسبب منجاتهم"، المسبب عن العمل، فهو مجاز في المرتبة الثانية. وثالثًا: بالفلاح المفسر بدخول الجنة المسبب عن العمل، وهو قريب من الوجه السابق، فالفلاح على الأول هو النجاة من العذاب، وعلى هذا: الظفر بالمراد. ورابعًا: بالعمل الصالح، لكن في المرتبة الأولى؛ لأن الفوز والفلاح مترادفان. ويمكن أن يقال: إن "مفازتهم" على الوجه الثاني كناية تلويحية؛ لأن "المفازة" التي هي الفلاح دلت على النجاة، والنجاة على العمل الصالح، وعلى الثالث: كناية رمزية؛ لأنه استدل بفلاحهم المفسر بدخول الجنة على وجود العمل، وعلى الرابع: مجاز مرسل من إطلاق المسبب على السبب. وقيل: قوله: (ويجوز أن يسمى) إلى آخره، تأكيد لإرادة العمل بالمفازة، لأنها سببها، وليس بشيء. قوله: (وقرئ "بمفازاتهم")، أبو بكر وحمزة، والباقون" {بِمَفَازَتِهِمْ} بغير ألف. قال أبو علي: الإفراد للمصدر والجمع؛ لأن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها.

متق مفازة. فإن قلت: {لَا يَمَسُّهُمُ} ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول: فلا محل له؛ لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني: فمحله النصب على الحال. [{اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} 62 - 63] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على التفسيرين)، أحدهما: أن تكون الباء في {بِمَفَازَتِهِمْ} حالًا أو صلة؛ نحو: كتبت بالقلم، والمراد بالمفازة: الفلاح والفوز بالمطلوب وإدراك السعادة الأزلية. وقوله تعالى: {إِنَّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] إشارة إلى هذا المعنى. نقل الواحدي عن المبرد أنه قال: المفازة: مفعلة من الفرز، وهو السعادة، وإن جمع فحسن، كقولك: السعادة والسعادات. والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم- أي: بنجاتهم- من النار، وفوزهم بالجنة. تم كلامه. ولما كان اهتمام شأن المتقين حينئذ التفادي عما لحق المكذبين على الله من سواد الوجوه والثوي في جهنم؛ لقوله تعالى: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أو قوله: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بيانًا له، فظهر أن المتقين هم المصدقون الذين تواضعوا وأخبتوا لله، والمراد بـ"السوء": سواد الوجوه، وبـ"الحزن": الثواء في جهنم. والثاني: أن يراد بـ"المفازة": العمل على الوجوه المذكورة، والباء: للتسبب، و {لَا يَمَسُّهُمُ} حال، والمعنى: وينجي الله الذين اتقوا بسبب أعمالهم غير ملتبسين بالسوء والحزن، فقوله: "لا محل له؛ لأنه كلام مستأنف" إشارة إلى قوله: "كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء".

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية؛ لأن حافظ الخرائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك؛ وهي المفاتيح، ولا واحد لها من لفظها، وقيل: مقليد، ويقال: إقليد، و: أقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت: ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملًا. فإن قلت: بم اتصل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}؟ قلت: بقوله: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: 61]، أي ينجي الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون. واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلًا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: هو مالك أمرها وحافظها)، قال القاضي: أي: لا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها، وفيها مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها. وفي قوله: " مزيد دلالة على الاختصاص" إشارة إلى أن التقديم للاختصاص أيضًا. قوله: (بقوله: {وَيُنَجِّي اللهُ})، أي: قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} متصل بقوله: {وَيُنَجَّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} على سبيل التقابل لتضاد بين مفردات الجملتين من حيث المعنى. قال القاضي: وتغير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله، وفي هلاك الكافرين بأن خسروا أنفسهم، والتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية الكرم. قوله: (وقد جعل متصلًا بما يليه)، عطف على قوله: "فقوله"، أي: اتصل بقوله: {وَيُنَجَّي اللهُ}، وقد جعل متصلًا بقوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا أن يكون الأمر كذلك {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقيل: سأل عثمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فقال: "يا عثمان، ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير"، وتأويله على هذا: أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون. [{قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 64] {أَفَغَيْرَ اللهِ} منصوب بـ {أَعْبُدُ}. و {تَامُرُونِّي} اعتراض. ومعناه: أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: {تَامُرُونِّي أَعْبُدُ}؛ لأنه في معنى: تعبدونني وتقولون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا الثاني أوفق لتأليف النظم؛ لأن قوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} من جنس قوله تعالى فيما سبق: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، وفاصلة تلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، ليكون كالتخلص إلى قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا}، كما أن فاصلة هذا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كالتخلص إلى ما بدئ به السورة، وشحنت منه؛ من حديث الأمر بالعبادة بالإخلاص ونفي الشرك، وهو قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ}. وأما معنى الاعتراض فإن قوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وقوله: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيه معنى إثبات القدرة والعلم، وهما المصححان للبعث والحشر، وعند ذلك يوفى جزاء المحسن والمسيء؛ فهو لذلك مؤكد لمعنى الكلام السابق واللاحق. قوله: (لأنه في معنى: تعبدونني)، أي: الجملتان في تأويل: " تعبدونني"، بمعنى: تقولون

لي: اعبد، والأصل: تأمرونني أن أعبد، فحذف "أن" ورفع الفعل، كما في قوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ألا تراك تقول: أفغير الله تقولون لي: اعبده، و: أفغير الله تقولون لي: أعبد؟ فكذلك: أفغير الله تأمرونني أن أعبده، و: أفغير الله تأمرونني أن أعبد، والدليل على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لي: اعبد؛ ليرجع المعنى إلى قولك: أفغير الله تقولون لي: اعبده؛ على الإضمار على شريطة التفسير، أفغير الله تقولون لي: اعبد؛ بلا ضمير على التقديم، وأصله: أفتقولون: اعبد غير الله. يجوز أن يقال: أفغير الله تأمرونني أن أعبده، وأفغير الله تأمرونني أن أعبد. ففيه التفادي عما حظره أبو البقاء، بأنه يفضي إلى تقديم الصلة على الموصول، أو يلزم حذف الموصول وبقاء صلته. وحاصل الوجهين: أن "غير الله" منصوب ب {أَعْبُدُ}، ويحجره ظاهر {تَامُرُونِّي} لما يستدعي تقدير: "أن"، فيلزم المحذور السابق، فيجعل {تَامُرُونِّي}: إما اعتراضًا؛ لئلا تقدر "أن"، أو أن تجعل الجملة بمعنى: تقولون لي: اعبد؛ لينتصب بـ {أَعْبُدُ} ها هنا، لأن القول لا يستدعي "أن"، كما يستدعيه الأمر. أما قوله: "ألا تراك تقول" إلى آخره؛ فتعليل لتصحيح {تَامُرُونِّي أَعْبُدُ} بقوله: تقولون لي: اعبد. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون منصوبًا بـ {تَامُرُونِّي}، و {أَعْبُدُ} بدلًا منه، والتقدير: قل: أفتأمرونني بعبادة غير الله، وهو بدل الاشتمال، ومن باب: أمرتك الخير. ورواه صاحب "الكشف" عن أبي علي، وقال: هو الصواب، وليس "غيره" الخبر، وقيل: إن "غير" منصوب بفعل محذوف، أي: فتلزمونني غير الله، وفسره ما بعده. قوله: (والأصل: تأمرونني أن أعبد)، قال أبو البقاء: وقد ضعف هذا الوجه حيث كان التقدير: أن أعبد، فعند ذلك يفضي إلى تقديم الصلة على الموصول. وليس بشيء؛ لأن

صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ (أعبد) بالنصب. وقرئ: (تأمرونني) على الأصل؛ و {تَامُرُونِّي}، على إدغام النون أو حذفها. [{ولَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} 65 - 66] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أن" ليست في اللفظ، ولا نفي عملها، فلو قدرنا بقاء حكمها؛ لأفضى إلى حذف الموصول وبقاء صلته؛ وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. وروى صاحب"الكشف" عن أبي سعيد: "أن" ها هنا لما حذفت بطل حكمها، ولو كان حكم "أن" باقيًا لوجب نصب "أعبد"، ولم يقرأ به أحد. قوله: (وقرئ: "تأمرونني" على الأصل)، ابن عامر ونافع: بنون واحدة مخففة، والباقون: بواحدة مشددة. قال صاحب "الكشف": من قرأ بالتخفيف حذف إحدى النونين، كقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، وقوله: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ} [الأنعام: 80]، وقول عمرو: يسوء الفاليات إذا فليني أي: فلينني. وأنكر هذه القراءة بعضهم، ومن أنكر مثل هذا حرم عليه الشروع في كتاب الله، والنظر في كلام الأئمة، وشهد ببلادته.

قرئ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، و (ليحبطن) على البناء للمفعول، و (ليحبطن) بالنون والياء، أي: ليحبطن الله، أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} على التوحيد؟ قلت: معناه: أوحي إليك: لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو: أوحي إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت، كما تقول: كسانا حلة، أي: كل واحد منا. فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية: لام الجواب، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين، أعني: جوابي القسم والشرط. فإن قلت: كيف صح هذا الكلام مع علم الله أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال؟ ألا ترى إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمء جَمِيعًا} [يونس: 99]؟ يعني على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله: {ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ}؟ قلت: يحتمل: ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ {لَيَحْبَطَنَّ})، بفتح الياء والباء: المشهورة، والبواقي: شواذ. قوله: (هو على سبيل الفرض)، والمراد به: تهييج الرسل وإقناط الكفرة، وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم؛ لأن شركهم أقبح، أو يكون على التقييد بالموت، كما صرح في قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، وعطف: {ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} من عطف المسبب على السبب. قوله: (ولن يكون ذلك)، أي: مشيئة الإيمان على القسر والإلجاء، لا متناع الداعي إلى القسر والإلجاء؛ لأن بناء التكليف على الاختيار ووجود الصارف، وهو الحكمة، لأن المشيئة عنده تابعة للحكمة؛ لأن الحكيم لا يقسر على الكفر، ثم يعذب عليه. قوله: (ما معنى قوله: {ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ}؟ )، أي: لم أطلقه؟ ولذلك قيد في الجواب تارة بقوله: {مِنَ الخَاسِرِينَ} بسبب حبوط العمل، فعطف {ولَتَكُونَنَّ} على

ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشد، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله: {إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75]؟ {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}: رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه. {وَكُنْ مِنَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {لَيَحْبَطَنَّ} من باب عطف المسبب على السبب، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتِيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلهِ} [النمل: 15]، على رأي صاحب "المفتاح"، وأخرى بقوله: {فِي الْآخِرَةِ} من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم. وقوله: "ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشد"، فعلى هذا يترك على إطلاقه مبالغة، أي ليحبطن عملك وليقهرنك بلا مهلة. قوله: (بل إن كنت عاقلًا فاعبد الله)، هذا مذهب الزجاج. قال مكي: نصب "الله" بـ"اعبد"، وقال الفراء والكسائي: هو نصب بإضمار فعل، تقديره: بل اعبد الله فاعبد، والفاء للمجازاة عند أبي إسحاق، وزائدة عند الأخفش. الانتصاف: مقتضى كلام سيبويه: أن الأصل: تنبه فاعبد الله، فحذفوا الفعل الأول اختصارًا، واستنكروا الابتداء بـ"الفاء"، ومن شأنها التوسط، فقدموا المفعول، وصارت "الفاء" متوسطة لفظًا، ودالة على المحذوف، وانضاف إليها فائدة الحصر؛ لإشعار التقدم بالاختصاص. فإن قلت: هب أن الفاء في قوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} دلت على إضمار الشرط، فما الدال على تخصيص "إن كنت عاقلًا" على رأي المصنف، أو "تنبه" كما فهم صاحب "الانتصاف" من كلام سيبويه؟

الشَّاكِرِينَ} على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد. [{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 67] لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره؛ عظمه حق تعظيمه قيل: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. وقرئ بالتشديد على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: دل عليه {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، أي: السفهاء الخفاف الأحلام، كأنه تعالى حين سمع أن رهطا من قريش قالوا على نحو ما ورد في سورة الكافرون: يا محمد، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، وحين سمعهم أيضًا يقولون: استلم بعض آلهتنا، كما نص عليه المصنف هنا، رده بقوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ}، يعني: لما سفهتهم في ذلك الرد خص ربك بالعبادة إن كنت عاقلا، واشكره حيث لم يجعلك من جنس ما هو أضل من الأنعام، وجعلك من أفضل الخلق وأشرفهم، بل رفع منزلتك عليهم، وجعلك سيد ولد آدم. فافهم هذه الرموز والتلويحات، وترحم على المصنف في إبرازه لتلك المحاسن. قوله: (وجوز الفراء نصبه بفعل مضمر، والتقدير: بل الله أعبد فاعبد)، قال صاحب" التقريب": غرضه أن لا يتقدم على الفاء ما في حيزه. قوله: (عظمه حق تعظيمه)، جواب "إذا"، وقوله: "قيل: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} " جواب "لما"، يعني: لما تعورف واشتهر بين الناس أن العظيم إذا عرف حق معرفته عظم حق تعظيمه، ولما لم يوجد ذلك في حق الملك العظيم ذي الملك والملكوت والجلال

معنى: وما عظموه كنه تعظيمه ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل، فقال: {والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجبروت، قيل: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. والأسلوب من باب الكناية؛ لأن تعظيمك الشيء واحترامك إياه وقيامك بواجبه مستلزم لتقديرك إياه في نفسك حق تقديره، وهو مستلزم لأن تكون قد عرفته حق معرفته، فذكر اللازم الوسط، وأريد الملزوم، كما يقال: فلان نحار؛ أي: مضياف، بدل مهزول الفصيل، ظاهر كلام المصنف على أنه من إطلاق السبب المركب على المسبب، وأن قوله: "وقدره حق تقديره" عطف تفسيري. قوله: (على طريقة التخييل)، وعن بعضهم: التخييل: تصوير حقيقة الشيء، والتمثيل: تشبيه قصة بقصة، والاستعارة: تشبيه مفرد بمفرد أو مركب بمركب، وفيه بحث. وقال القاضي: في الآية تنبيه على عظمته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازًا، كقولهم: شابت لمة الليل. الانتصاف: لفظ "التخييل" عبارة موهمة. وقلت: المراد بـ"التخييل": التصوير؛ بأن تخيل عند ذكرك هذه الأشياء في ذهنك معنى عظمة الله، ليمتلئ قلبك رعبًا ومهابة، ويحصل لك من ذلك روعة وهزة لم تحصل من مجرد قولك: عظمة الله، كما إذا أردت أن تقول بدل "فلان جواد": "فلان كثير الرماد"، فأنت عند ذكرك " كثير الرماد" متصور كثرة إحراق الحطب، ثم كثرة الطبخ، ثم كثرة تردد الضيفان، فتجد من الروعة ما لا تجده إذا قلت: فلان جواد، والأسلوب من الكناية الإيمائية، نحوه قول البحتري: أو ما رأيت المجد ألقى رحله .... في آل طلحة ثم لم يتحول؟ واعلم أن الإمام أورد في هذا المقام إشكالًا في سورة "طه"، وأجبنا عنه.

والغرض من هذا الكلام- إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه_ تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال، ثم قرأ تصديقًا له: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب؛ لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخر على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيما الأفهام والأذهان ولا يكتنهها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تصوير عظمته)، خبر "الغرض"، و"إذا" متعلق بـ"الغرض". قوله: (ما يروي: أن جبريل عليه السلام جاءه)، وعن بعضهم: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وإنما صح: "جاء حبر" و"جاء يهودي"، و"جاء رجل من أهل الكتاب". وقلت: الحديث بتمامه رواه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، مع تغيير يسير، وفيه: "جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (وأن الأفعال العظام)، عطف تفسيري على "القدرة"، و"هينة" خبر "إن"، و"لا يوصل السامع" صفة "هوانًا"، و"حتى أن يعلموا" غاية عنايتهم بالمبحث، أي: ما اعتنوا بالبحث حتى يعلموا.

الأوهام هينة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديمًا، وما أتي الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه؛ إذ لا يحل عقدها الموربة، ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة؛ لأن من تأول ليس من هذا العلم في عبر ولا نفير، ولا يعرف قبيلًا منه من دبير. والمراد بالأرض: الأرضون السبع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يحل عقدها الموربة)، الأساس: تأربت العقدة: توثقت، وأربتها: وثقتها، ومن المجاز: تأرب علينا فلان: تعسر. وعقد مكرب ومكروب: موثق، وكربه الأمر: غمه وأخذ بنفسه. الجوهري: الكرب: الحبل الذي يشد في وسط العراقي، ثم يثنى، ثم يثلث، ليكون هو الذي يلي الماء، فلا يعفن الحبل الكبير، تقول منه: أكربت الدلو فهي مكربة. قوله: (في عبر ولا نفير)، المثل: "في العبر ولا في النفير"، يريدون ب"العبر": عير أبي سفيان، وبـ"النفير": الذين نفروا إلى قتاله صلى الله عليه وسلم، فكل من تخلف عنهما قالوا فيه ذلك. يضرب لمن لا يصلح لمهمة. وسبق في "الأنفال" بيانه مستوفى. قوله: (ولا يعرف قبيلًا من دبير)، قال الميداني: القبيل: ما أقبل به من الفتل على الصدر، والدبير: ما أدبر عنه. الجوهري: القبيل: ما أقبلت به المرأة من غزلها حين تفتله. وقال الأصمعي: هو مأخوذ من الشاة المقابلة والمدابرة؛ فالمقابلة: التي شق أذنها [إلى] قدام،

يشهد لذلك شاهدان: قوله: {جَمِيعًا}، وقوله: {وَالسَّمَوَاتُ}؛ ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع" الجميع" مؤكدة قبل مجيء الخبر؛ ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمدابرة: هي التي شقت أذنها إلى خلف. وقال في "الأساس": ومن المجاز: ما يعرف قبيلًا من دبير. وأصله في الحبل إذا مسح اليمين على اليسار علوا فهو قبيل، وإذا مسحها عليها سفلًا فهو دبير. قوله: (يشهد لذلك {جَمِيعًا}، وقوله: {وَالسَّمَوَاتُ})، يعني: دل عطف {وَالسَّمَوَاتُ} على سبيل التقابل_ وهي: جمع محلى باللام الاستغراقي، وأنها سبع_ على أن المراد ب"الأرض": الأرضون السبع. قال القاضي: "السموات" معطوفة على"الأرض" منطوية في حكمها. قوله: (ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم)، وذلك أنهم نسبوا إليه ما لا يليق بجلاله وما هو منزه عنه، ولذلك أتبعه بقوله: {سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قال القفال: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} كقول القائل: ما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي: لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، فوجب أن لا تحط عن قدري ومنزلتي. ونظيره قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، فالمعنى: ما قدروا الله حق قدره، إذ زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى، مع أن جميع الأرضين والسماوات كلها تحت قهره وسلطانه. قوله: (أتبع"الجميع" مؤكدة)، أي: من حيث المعنى، وكان من حقه أن يجاء به بعد مضي

يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضي كلهن. والقبضة: المرة من القبض، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96]، والقبضة بالضم: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضًا: أعطني قبضة من كذا؛ تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روي: أنه نهى عن خطفة السبع. وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخبر؛ لأنه معموله، فقدم لهذا الاهتمام. قال أبو البقاء: "الأرض" مبتدأ، و {قَبْضَتُهُ} الخبر، {جَمِيعًا} حال من "الأرض"، أي: إذا كانت مجتمعة قبضته، أي: مقبوضة، فالعامل في "إذا" المصدر، لأنه بمعنى المفعول. وقال أبو علي: التقدير: ذات قبضته. ورد عليه بأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله. وأجيب أنه الآن غير مضاف إليه؛ لأن بعد حذف المضاف لا يبقى حكمه. وقال صاحب "الكشف": قدر أبو علي في "الحجة": والأرض ذات قبضته، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، وعلى ما في "الحلبيات" يتأتى إعمال {قَبْضَتُهُ} في "إذا"، لأنه بمعنى المفعول. وقال أبو البقاء: ويقرأ "قبضته" بالنصب؛ على معنى: في قبضته، وهو ضعيف؛ لأن هذا الظرف محدود، فهو كقولك: زيد في الدار. ولهذا جاء المصنف بالعذر في قوله: "جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم". قوله: (أنه نهى عن خطفة السبع)، النهاية: "أنه نهى عن المجثمة والخطفة"، يريد: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة، وهي حية؛ لأن ما أبين من حي فهو ميت، والخطفة: المرة الواحدة، فسمي بها العضو المختطف.

قبضته، أي: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى: أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أي: ذات أكلته وذات جرعته؛ تريد: أنهما لا تفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته. وإذا أريد معنى القبضة فظاهر؛ لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: (قبضته) بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم. {مَطْوِيَّاتٌ} من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} [الأنبياء: 104]، وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: {قَبْضَتُهُ}: ملكه بلا مدافع ولا منازع، و {بِيَمِنِهِ}: بقدرته. وقيل: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِنِهِ}: مفنيات بقسمه؛ لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكي حمية لكلام الله المعجز بفصاحته، وما مني به من أمثاله؛ وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ: (مطويات) على نظم السماوات في حكم الأرض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الجزور أكلة لقمان)، وهو لقمان بن عاد، وكان أكولًا، وأفرطوا في الإفراط في أكله، حتى رووا أنه كان يتغدى بجزور ويتعشى بجزور ويتعلل بفصيل، فأفضى إلى امرأته فلم يصل إليها، فقال: كيف أصل إليك وبيني وبينك جزوران، وكان شجاعًا. قوله: (وقيل: {قَبْضَتُهُ}: ملكه) إلى آخره، شروع فيما قيل في تفسير الآية، وقوله (ومن اشتم رائحة من علمنا) تحكم في الفرق بين التفسيرين؛ تفسيره وتفسيرهم. قوله: (على نظم السماوات في حكم الأرض)، يعني: كما أن الأرض أخبر عنها بقبضته، فدخلت تحت القبضة، أخبر عن السماوات بيمينه، فدخلن تحت اليمين، وكما أن {جَمِيعًا} حال مقدم، كذا {مَطْوِيَّاتٌ}، وافتراق هذه القراءة من الأولى افتراق قولك: الكتاب مطوي بيمينه، وبيمينه مطويًا، والأولى أولى؛ لما يتصور منه السامع طي النشر

ودخولها تحت القبضة، ونصب (مطويات) على الحال. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى}: ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء. [{ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} 68] فإن قلت: {أُخْرَى} ما محلها من الإعراب؟ يحتمل الرفع والنصب: أما الرفع فعلى قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، وأما النصب فعلى قراءة من قرأ: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]، والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذف لدلالة {أُخْرَى} عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ: (قيامًا ينظرون): يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود في مكان لتحيرهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في مشاهدته، ومن ثم جاء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وأما حكم الأرض فبالقبض أنسب، فاختلف لذلك التركيب؛ ولأن تقديم الحال على العامل المعنوي ضعيف. قال ابن الحاجب: وقد اختلف في مثل: " زيد كائنا في الدار"، فجوزه بعضهم؛ لأن التقدير: استقر أو مستقر، وبعضهم يجعلون المقدر نسيًا منسيًا، والظرف هو العامل في المعنى، وهذا أرجح؛ لأنه لم يثبت ملثه في فصيح الكلام؛ ولأنه في حكم العدم، وصارت العاملة مع النائب عنه. قوله: (فعلى قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}) يعني: جاء في ذلك الموضع كذا، فيحمل هذا عليه. وقال القاضي: دل قوله تعالى: {أُخْرَى} على أن المراد من قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} نفخة واحدة.

[{وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ووُضِعَ الكِتَابُ وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَدَاءِ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ * ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} 69 - 70] قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد استعار الله النور للحق والقرآن والبرهان)، يعني: لا يحمل "النور" الذي في الآية على حقيقته للصارف، وقد ورد في التنزيل بمعنى الحق والقرآن والبرهان على المجاز من ذلك، فعلى هذا: قوله تعالى: {وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} مستعار لقولنا: وتزينت أرض القيامة بما يقام فيها من الحق وبسط العدل من القسط في الحساب. وينادي على أنه مستعار الإضافتان؛ أي: إضافة "النور" إلى "الرب"، وإضافة "الرب" إلى "الأرض". عن بعضهم: دل على أنه مستعار إضافة" النور" إلى"الرب"؛ لأن الله هو الحق العدل، فناسب أن يراد بـ"النور": الحقية والعدالة، فالحق والعدل صفة الله وما أضيف إليه المراد به المصدر لا الوصف؛ ليتغايرا. وقلت: شبه إقامة الله الحق والعدل في أرض القيامة للاستنفاع بهما، وتزيينهما بهما، بإشراق النيرين وجه الأرض، وتبيين ما فيها، ثم حذف المشبه، وأقيم المشبه به مقامة، وجعلت القرينة الإضافتين، وفي الممثل به ثلاثة أشياء: وجود النيرين، وإشراقها الأرض، وإبانة الأشياء بنورهما؛ ففي المشبه تحقبق وجود الحق والعدل، وبسطهما في أرض القيامة، وإقامتهما بحسب اقتضاء صالح الأعمال وسيئها، لا على أن هذه الأشياء كل واحد مشبه ومشبه به، بل على جعل الوجه منتزعا من المجموع، إما على التوهم؛ ليكون تمثيلية، أو على التحقيق والزبدة؛ لتكون عقلية. إذن قوله أولًا: "استعار النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع" تصحيح هذه الاستعارة بحسب العرف التنزيلي. وثابيًا: "وينادي عليه بأنه مستعار" بإقامة الصارف الموجب للتأويل، وثالثا: "وإضافة اسمه إلى الأرض" بتخصيص المستعار له وأنه العدل لكن بطريق اللوزم، وكأن الرتبة في هذا المقام ملزوم العدل. ورابعا: "ثم ما عطف على إشراق الأرض"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأن النظم أيضًا يقتضي ذلك التخصيص. وخامسا: "ترى الناس يقولون للملك العادل" بتصحيحها بحسب العرف العام. وسادسًا: "الظلم ظلمات يوم القيامة" بإنشائها بحسب استعمال الضد في الألفاظ النبوية. وسابعًا: "وكما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم"، بأن مراعاة رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس داعية إلى تفسير النور بالعدل. كأنه قصد بذلك كله مخالفة أقوال بعض المفسرين وترجيح أحد الأقوال فيها، فوجب لذلك أن يوردها في الذكر، ثم ينظر إلى وجه الترجيح نظر إنصاف. قال الواحدي رحمة الله: إن الله يخلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به من غير شمس ولا قمر. هذا أحد قولي الزجاج. وقال محيي السنة: أشرقت الأرض بنور خالقها، وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا تضارون في الشمس في اليوم الصحو. وهذا قول آخر للزجاج. وقال الحسن والسدي: بعدل ربها، وأراد بالأرض: عرصات القيامة. وهذا القول هو المختار عند المصنف، وتبعه القاضي. وقال السجاوندي: {بِنُورِ رَبِّهَا} عدله الصافي عن ملكة الغير. واختار الإمام قول الواحدي وقال: الآية تدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم أن يكون ذلك النور من خلق الله تعالى؛ لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله شرفه الله تعالى بأن أضافه إلى نفسه كبيت الله وناقة الله، هذا أقوى من حمله على العدل؛ لأنا نفتقر إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز. وقلت: القول ما اختار محيي السنة. وقد روى الإمام مسلم بن الحجاج في"صحيحه" عن أبي هريرة: " قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة"؟ قالوا: لا. قال: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ " قالوا: لا، قال: فو الذي نفسي بيده لا تضارون في ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، فيلقى العبد ربه فيقول_ أي له_: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك؟ " الحديث، قال الزجاج: روي "لا تضارون" بتشديد الراء، ولا "تضامون" بتشديد الميم، ومعنى "لا تضارون" لا يضار بعضكم بعضًا، أي: لا يخالف بعضكم بعضًا في ذلك، يقال: ضاررت الرجل أضار مضارة وضرارًا، إذا خالفه. ومعنى "لا تضامون": لا يضم بعضكم بعضًا فيقول واحد للآخر: أرنيه. كما يفعلون عند النظر إلى الهلال. وما اختار محيي السنة ما اختاره إلا لهذا النص الصريح، وما تعسف المصنف تلك التعسفات إلا فرارا منه، وقد جاء وصف الباري بالنور، ومن أسمائه الحسنى النور، روينا عن الإمام أحمد بن حنيل ومسلم والترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه؟ ". وزاد أحمد: "نور أني أراه". على طريق الإيجاب. وقال حجة الإسلام في "مشكاة الأنوار" بأن النور الحق هو الله تعالى، ثم قال: بل أقول ولا أبالي: إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا، وإن من مذهب السلف الصالح أن يجري الكلام فيه وفي أمثاله على ظاهره بعد أن نقر أن هذا النور ليس من نوع هذه الكيفية الفائضة على الأجسام، ونحيل كنه معرفته إلى قصور أفهام البشر. ووجدت في تضاعيف كلام الإمام ما معناه: أن طريق المحققين من الموحدين القول بأنا نعلم أنه ليس مراد الله في أمثال هذه الصفات هذه المشاهدات، وأما تعيين المراد فهو مفرض إلى الله تعالى، وأما قول محيي السنة: ذلك حين يتحلى الله الرب لفصل القضاء بين خلقه، فهو الذي يقتضيه المقام من التأويل وعليه التعويل؛ لأن المقام مقام تجلي الذات بصفات الجلال والعظمة؛ لما يلوح من صفحات معنى الآية تباشير معنى قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ولمجيء الأفعال المتناسقة على البناء للمفعول على نحو قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] الآية. قال المصنف: ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل قادر قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله، ولا يذهب الوهم إلى أن غيره الفاعل. بل الكلام من مبدئه وارد على سنن أحوال الملوك ومرون عادتهم، فإن الملك العظيم إذا ضرب سرداق جلاله وعظمته ليوم يشهد لقضاء شؤون العامة يأمر بإحضار خواص حضرته وأساطين مملكته، ثم يبرز من الحجب بحيث يشاهده الظالم والمظلوم، ويتصدى لفصل القضاء بنفسه، والحاكم العادل إذا جلس للقضاء في مسنده يضع بين يديه فرقان حكم الله ويأمر بإحضار العدول وإقامة الشهود، ولا مانع من إجراء هذه الألفاظ على هذه المعاني، على أن كنه معرفته موكول إلى علم الله. وفي جعل النور مجازًا عن العدل تحجير للواسع، وتقصير للكلام الجامع، على أن العدل من لوازم هذا البيان. وأما قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فهو متصل بقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} وتذييل لمعناه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وكان الوالد المغفور له_ تغمده الله بغفرانه_ كثيرًا ما يجري على لسانه أن جماعة من

في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك. والمعنى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه؛ لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض؛ لأنه يزينها؛ حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربا وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق، وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرفت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة". وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. وقرئ: (وأشرقت) على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلًا وطبقها عدلًا. و {الْكِتَابِ}: صحائف الأعمال، ولكنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فضلاء الشرق كانوا يتحسرون على الظفر بالتفسير الكبير الموسوم بـ"مفاتيح الغيب"؛ ليقفوا على تفسير تحقيق هذه الآية فيها، والله ولي الإفضال. وأنشد صاحب "المطلع" لعباس بن عبد المطلب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت الـ .... أرض وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي النـ .... ــــنور وسبل الرشاد نخترق قوله: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر. قوله: (واغتصت)، الجوهري: المنزل غاص بالقوم، أي: ممتلئ بهم.

اكتفي باسم الجنس. وقيل: اللوح المحفوظ. {وَالشُّهَدَاءِ}: الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخبار. وقيل: المستشهدون في سبيل الله. [{وسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ ويُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى ولَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} 71 - 72] الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقد تزمروا، قال: حتى احزألت زمر بعد زمر وقيل في زمر الذين اتقوا: هي الطبقات المختلفة: الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقراء، وغيرهم. وقرئ: (نذر منكم). فإن قلت: لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى احزألت زمر بعد زمر)، قيل أوله: إن العفاة بالسيوب قد غمر الأساس: احزأل السراب بالظعن: زهاها. واحزألت الإبل في السير: ارتفعت. وأنشد المصراع. الراغب: الزمرة: الجماعة القليلة، ومنه قيل: شاة زمرة، قليلة الشعر. ورجل زمر، قليل المروءة، ومنه اشتق الزمر والزمارة كناية عن الفاجرة.

أرادوا لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضًا في أوقات الشدة. {قَالُوا بَلَى} أتونا وتلوا علينا، ولكن وجبت علينا كلمة الله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18]؛ لسوء أعمالنا، كما قالوا: {غضلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قِوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106]، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب؛ وهو الكفر والضلال. واللام في {المُتَكَبِّرِينَ} للجنس؛ لأن {مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} فاعل "بئس"، و"بئس" فاعلها: اسم معرف بلام الجنس، أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: فبئس مثوى المتكبرين جهنم. [{وسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} 73 - 74] {حَتَّى} هي التي تحكى بعدها الجمل، والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} لسوء أعمالنا) إلى قوله: (فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب) هذا موافق لمذهبه، قال القاضي: كلمة العذاب هو الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على اختصاص ذلك بالفكر. وقيل: كلمة العذاب: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مشنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. قال أيضًا في قوله: {فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ}: "اللام في {المُتَكَبِّرِينَ} للجنس"، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأجل أن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن كلمة العذاب.

إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف؛ لأنه في صفة ثواب أهل الجنة؛ فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد {خَالِدِينَ}. وقيل: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} جاؤوها (وفتحت أبوابها)، أي: مع فتح أبوابها. وقيل: أبواب جهنم لا تتفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها، بدليل قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]؛ فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعًا بلفظ السوق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحق موقعه)، أي: الجزاء المقدر بعد قوله: {خَالِدِينَ}. وعن بعضهم: أي: فادخلوها خالدين كان ما كان ووقعوا فيما وقعوا. وقوله: كان ما كان ووقعوا فيما وقعوا؛ جزاء {إِذَا جَاؤُوهَا}، قال الزجاج: اختلف الناس في جواب "إذا" قيل: الواو مسقطة، أي: حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها. وسمعت محمد بن يزيد_ يعني المبرد_ يذكر أن الجواب محذوف، التقدير: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} إلى آخر الآية سعدوا، أي: حتى إذا جاؤوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها حتى يجتمع المجيء مع الفتح في حال واحدة. قال الزجاج: والذي عندي: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا} إلى قوله: {خَالِدِينَ} دخلوها. وقول المبرد موافق للقول الأول للمصنف. قوله: (أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها)، قال الراغب: إن جهنم لما كانت أشد المحابس، ومن عادة الناس إذا شددوا أمرها ألا يفتحوا أبوابها إلا لداخل أو خارج، ولما كانت جهنم أهولها أمرًا وأبلغها عقابًا أخبر عنها بما شوهد من أحوال الحبوس، وأما الجنة فلأن من فيها يتشوقون للقاء أهلها، ومن رسم المنازل إذ بشر من فيها بإياب أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارًا لهم وتطلعا إليهم، ويكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن ذلك على ما جرت به العادة، فيكون حذف الجزاء وإدخال الواو على المعطوف عليه لذلك فاعرفه.

قلت: المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهون والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى جبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكين، وحثها إسراعًا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهوان ... وبسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا"، الحديث. وعن الترمذي، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تحشرون رجالًا وركبانا وتجرون على وجوهكم". وعن الترمذي، ع أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانا، وصنفًا على وجوههم". الحديث. قال القاضي: المشاة المؤمنون الذين خلطوا صالح أعمالهم بسيئها ويكونون مترددين بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة الله لإيمانهم، ويخافون عذابة بسوء أعمالهم، فلعلهم أصحاب اليمين. والصنف الركبان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات واجتنبوا عن السيئات، يسرعون إلى ما أعدلهم في الجنان إسراع الركبان، ولعلهم السابقون؛ لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11] واثنان على بعير، وثلاثة على بعير،

كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. {طِبْتُمْ} من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطابا {فَادْخُلُوهَا} جعل دخول الجنة مسببًا عن الطيب والطهارة، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفصيل لمراتبهم ومنازلهم في السبق وعلو الدرجة، أو على سبيل التمثيل؛ لأن تفاوتهم في المراكب بحسب تفاوت نفوسهم واختلاف أقدامهم في العلم والعمل. قوله: (جعل دخول الجنة مسببًا عن الطيب والطهارة)، يعني: رتب الأمر بالدخول بالفاء على {طِبْتُمْ}. قال الإمام: قالت المعتزلة: هذا يدل على أن أحدًا لا يدخلها إلا إذا كان طاهرًا عن كل المعاصي. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: "فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة" إلى قوله: "إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحًا" تعريضًا. وقلت: ويحصل ذلك أيضًا بأن يبدل الله سيئاتهم حسنات فيدخلون طاهرين طيبين بفضل الله، على أن أحدًا لا يدخلها إلا بفضله. روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله"، قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته". وفي رواية أخرى لأبي هريرة: "لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة". وبالشفاعة أيضًا، والأحاديث فيها بلغت مبلغ التواتر، وبعد التعذيب أيضًا على ما روينا عن مسلم، عن جابر في حديث طويل: "أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس". يؤيده ما رواه الواحدي عن قتادة: إنهم طيبوا قبل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دخول الجنة بالمغفرة واقتص بعضهم من بعض، فلما هذبوا وطيبوا قال لهم الخونة: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوها}. اعلم أن خاصية التركيب ومقتضى التأليف لا يساعد تفسير المصنف "السوق" بقوله: "والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين"، ولا تأويله {الَّذِينَ اتَّقَوْا} بقوله: "وقيل: في زمر الذين اتقوا؛ هي الطبقات المختلفة: الشهداء والزهاد والعلماء والقراء"؛ لأن الآيات من باب الجمع مع التقسيم، فإن قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} جمع الأنفس كلها في حكم توفي أجور الأعمال صالحها وسيئها. وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} إلى آخر الآيات تقسيم لذلك الجمع وتفصيل لذلك المجمل، وقد أوثر فيهما الذين كفروا والذين اتقوا على الكافرين والمتقين ليدل على العموم قال في قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. وتأمل قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] أي: الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. وأوقع {زُمَرًا} في الموضعين حالًا من ضمير الفريقين؛ ليدل على أنهم على طرائق شتى أفواجا متفرقة على تفاوت منازلهم مراتبهم، كما ورد في حديث أبي هريرة: "صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، ورأبعة على بعير"، وحققه القاضي، وقوبل كل من المفضلين بالآخر فوجب أن يفسر {الَّذِينَ اتَّقَوْا} بما يكون مقابلا لقوله: " الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ورسله واليوم الآخر وغلبت عليهم شقوتهم وحقت عليهم كلمة العذاب"، بأن يقال: وسيق الذين اتقوا الشرك وآمنوا بآيات الله ورسله وباليوم الآخر إلى الجنة زمرًا، فرقة طيبين، وفرقة طابوا بالشفاعة، وفرقة هذبوا بالاقتصاص، وأخرى نجوا بالمغفرة وأدركتهم كلمة ربهم الحسنى، كما قال: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} كما حقت كلمة العذاب على أولئك الأشقياء.

فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين؛ لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة! ما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة! إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحًا، تقي أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب. {خَالِدِينَ}: مقدرين الخلود. {الْأَرْضَ}: عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرًا ومتبوا وقد ورثوها، أي: ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون، تشبها بحال الوراث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولًا وعرضًا. فإن قلت: ما معنى قوله: {حَيْثُ نَشَاءُ}؟ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت: يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما اختيار لفظ" السوق" وبناء الفعل للمفعول فلللدلالة على عظمة الكبرياء والجلال، ولتوافق ما ختم به الكلام بما بدئ به، ألا ترى كيف قيل: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وض الشُّهَدَاءِ}؟ فكما أن ذلك المجيء لا يدل على فضلهم وكرامتهم بل على الكبرياء والجلال، وكذلك هذا السرق. وأيضا: لا يليق بهذا المقام أن يقال: وحثها إسراعًا بهم إلى دار الكرامة كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك؛ لأنه صدور من جناب ملك الملوك بعد قضاء الحق وتوفي الأجور، ويمكن أن يجرى على المشاكلة، فإن لما نسب السوق إلى الكفار وانضم معه مقام الجبروت والكبرياء، قيل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي عكسه قوبل في الكهف: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] بقوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}: [الكهف: 31]. قال: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} متكأ، من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}. قوله: (يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة)، ينصره ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلًا لمن ينظر إلى جناية وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة،

ولا يحتاج إلى جنة غيره. [{وتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 75] {حَافِّينَ}: محدقين من حوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}: يقولون: سبحان الله والحمد لله، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {بَيْنَهُم}؟ قلت: يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل، وأن يرجع إلى الملائكة، على أن ثوابهم_ وإن كانوا معصومين جميعًا_ لا يكون على سنن واحد، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت: قوله: {وقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ} من القائل ذلك؟ قلت: المقضي بينهم، إما جميع العباد، وإما الملائكة، كأنه قيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]. قوله: ({حَافِّينَ}: محدقين)، قال مكي: هو نصب على الحال؛ لأن"ترى" رؤية العين، وواحدة: حاف. وقال الفراء: لا واحد له. قوله: (لا متعبدين)، يقال: تعبد الله: أي: عبده. وتعبده الله أي: استعبده. وفلان يتعبد، كما تقول: يتزهد. الأساس: فلان قد استعبده الطمع، وتعبدني فلان واعتبدني، صيرني كالعبد له. قوله: (المقضي بينهم إما جميع العباد أو الملائكة)، وعلى الأول: تكرير الحمد لإناطة معنى زائد به؛ لأن الأول: للتفضلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط

وقضى بينهم بالحق، وقالوا: الحمد لله على قضائه بيننا بالحق، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة، وأعطاه الله ثواب الخائفين الذين خافوا". وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان: فريق في الجنة وفريق في السعير، فتكون الآية كالتتميم بالنسبة إلى الأولى في إتمام القضاء، وعلى الثاني كالتكميل؛ لأن ذلك القضاء في حق بني آدم، وهذا في حق الملائكة، ويؤيد التأويل الثاني: تكرير التحميد في الآيتين. فإن قلت: إنما يستقيم هذا في حق المؤمنين الذين قضي لهم بالجنة، وأما الكافرون الذين قضي لهم بالنار فكيف يحمدون عليه؟ قلت: بحمل الجميع على المجاز، بأن يراد بالعباد المؤمنين، أو أن يقصد بالحمد المدح على قضائه بالحق والقسط، كما يرى الظالم المنصف إذا استوفى الحاكم العادل منه حق جنايته، فإنه قد يأخذ في مدحه، وإليه الإشارة بقوله: "وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه". قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها)، الحديث من رواية الترمذي عنها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل". تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم * * *

سورة المؤمن (غافر)

سورة المؤمن مكية. قال الحسن: إلا قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}؛ لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وقد قيل في الحواميم كلها: إنها مكيات، عن ابن عباس وابن الحنفية وهي خمس وثمانون آية، وقيل: ثنتان وثمانون بسم الله الرحمن الرحيم [{حم (1) تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ إلَيْهِ المَصِيرُ} 1 - 3] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المؤمن مكية، وهي خمس وثمانون آية، وقيل: ثنتان وثمانون آية بس الله الرحمن الرحيم ربما يوجد في بعض النسخ هذه الزيادة، وهي أن" سورة المؤمن مكية، قال الحسن: إلا قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر: 55]؛ لأن الصلاة نزلت بالمدينة. وقد قيل في الحواميم كلها: إنها مكيات عن ابن عباس وابن الحنفية"، وكأن الرواية غير صحيحة؛ لأن الصلاة إنما فرضت بمكة بلا خلاف سنة إحدى عشرة من النبوة، وأما حديث المعراج والإسراء من المسجد الحرام من الحجر، وإيجاب فرض الصلاة خمسين كل يوم، والترجيع فيها إلى أن بلغ

قرئ بإمالة ألف (حا) وتفخيمها، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو أين وكيف، أو: النصب بإضمار"اقرأ"، ومنع الصرف للتأنيت والتعريف، أو للتعريف، وأنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل. التوب والنوب والأوب اخوات في معنى الرجوع. والطول: الفضل والزيادة، يقال: لفلان على فلان طول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خمس صلوات فقد رواه الأئمة مثل البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وروي عن ابن مسعود: الحواميم ديباج القرآن. وقال أيضًا: إذا وقعت في آل حم_ أي: الحواميم_ كأني وقعت في روضات دمثات، أي: لينات الترب. قوله: (بإمالة ألف "حا" وتفخيمها)، ابن كثير وقالون وحفص وهشام بفتح الحاء في جميع الحواميم، وورش وأبو عمرو بين بين، والباقون بالإمالة وبتسكين الميم السبعة، قال الزجاج: فأما الميم فساكنة في قراءة القراء كلهم إلا عيسى بن عمر فإنه فتحها، وهو على وجهين: أحدهما أن يجعل اسمًا للسورة، وعدم صرفها؛ لأنها على لفظ الأسماء الأعجمية، نحو هابيل وقابيل، والمعنى على "اتل حم يا هذا" والأجود أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين، حيث جعله اسمًا للسورة حكاية عن حروف الهجاء. قوله: (أو النصب)، عطف على قوله: "ووجه الفتح" أي: قرئ "حم" بفتحها أو نصبها. وجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، ووجه النصب بإضمار"اقرأ" ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يعطف على التحريك، وفيه حزازة.

والإفضال، يقال: طال عليه وتطويل؛ إذا تفضل. فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفًا وتنكيرًا، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟ قلت: أما {غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ} فمعرفتان؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غدًا حتى يكونا في تقدير الانفضال، فيكون إضافتهما غير حقيقيه؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما {شَدِيدِ العِقَابِ} فأمره مشكل؛ لأنه في تقدير: شديد عقابه، لا ينفك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والإفضال)، وهو عطف على "الفضل". الراغب: الطول من الأسماء المتضايفة، يقال: طويل وطوال كعريض وعراض، والجمع: طوال. وقيل: طيال، وتطاول: أظهر الطول أو الطول، قال تعالى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 45] والطول خص به الفضل والمن، قال تعالى: {ذِي الطَّوْلِ}. قوله: (فأمره مشكيل)، قال ابن الحاجب في" الأمالي": لأن إضافته غير محضة على كل حال؛ لأنه صفة مشبهة فلا يفرق بين ماضيه وغيره، بخلاف اسم الفاعل. وقال أيضًا: في هذه الصفات إشكال آخر وهو قوله: {ذِي الطَّوْلِ} فإنه معرفة فلا يحسن أن يكون صفة لقوله: {مِنَ اللهِ} لأنك فصلت بينه بالبدل، ولا يحسن أن يكون صفة للبدل؛ لأنه نكرة و {ذِي الطَّوْلِ} معرفة، فالأولى أن يقال: هو بدل ثان من البدل الأول، فكأنه قال: من الله العزيز العليم، من الله غافر الذنب، من الله ذي الطول. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون {شَدِيدُ} بمعنى "مشدد"، كما جاء "أذين" بمعنى "مؤذن"، فتكون الإضافة محضة.

من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلًا، وفي كونه بدلًا وحده بين الصفات نبو ظاهر، والوجه: أن يقال: لما صودف بين هؤلاء والمعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك: قصيدة جاءت تفاعيها كلها على "مستفعلن"، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على "متفاعلين" كانت من الكامل. ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من {شَدِيدِ العِقَابِ}، ليزاوج ما قبله وما بعده لفظًا، فقد غيرا وا كثيرا من كلامهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لما كان القابل بالنظر إلى أنه شيء له القبول، لا بالنظر إلى أنه عامل، صلح أن يكون صفة له بالإضافة إلى التوبة، وكان معرفة فصلح أن يكون "الشديد" من حيث إنه شيء له الشدة لا بالنظر إلى أنه عامل صفة له لإضافة إلى التوبة، وكان "العقاب" معرفة، فعلى هذا يكون "شديد العقاب" معرفة كما أنهما معرفتان، فليتأمل. ويؤيده قول الإمام: لا نزاع في أن {غَافِرِ الذَّنبِ وقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] صفتان، ومصححهما كونهما مفيدين معنى الدوام والاستمرار، فكذلك قوله: {شَدِيدِ العِقَابِ} لأن صفات الله منزهة عن الحدوث والتجدد، فكونه شديد العقاب معناه كونه بحيث يشد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبدًا وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن. وقلت: نحو من هذا مر في {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وقوله: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96]. قوله: (نبو ظاهر)، عن بعضهم: توسيط البدل بين الصفات جائز في النحو، لكنه قبيح بين علماء البيان؛ لأن الصفات تدل على أنه مقصود، والبدل يدل على أنه غير مقصود، فيلزم التناقض.

عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع؛ على أن الخليل قال_في قولهم: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل_: إنه على نية الألف واللام كما كان "الجماء الغفير" على نية طرح الألف واللام، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة، وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما يعرف سحادليه من عنادليه)، ما وجدت في الأصول له وجها سوى في الحاشية، السحادل: الذكر. والعنادلان: الخصيتان. وذكر بعضهم أنه مذكور في كتاب "الشامل في اللغة". قوله: (بالرجل خير منك ... على نية الألف واللام)؛ لأنه صفة للمعرفة، يعن: إن منع لفظة من إدخال الألف واللام فهو منوي؛ لأن"أفعل من كذا" معهود بين المتكلم والمخاطب، ولذلك جاز أن يدخل ضمير الفصل بينه وبين المبتدأ. قوله: (الجماء الغفير)، عن بعضهم: إنما نصب"الجماء الغفير" على الحكاية، كما يقال: جاء القوم الجماء الغفير، أي: جما غفيرًا. وقال الميداني: قال سيبويه: هو اسم جعل مصدرًا فانتصب كانتصاب قوله: فأرسلها العراك ولم يذدها قوله: (قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة)، كأنه قيل: من الله غافر الذنب وقابل التوب ولا شيء أذنى من عقابه، ونظيره قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}

إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت: ما بال الواو في قوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ}؟ قلت: فيها نكتة جليلة؛ وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [القمر: 55] أي: عند مليك لا يوصف ملكه، ومقتدر لا يكتنه اقتداره، ولكن لما كانت السورة متضمنة للإنذار البليغ والدعوة إلى الإنابة والتوبة استدعى ذلك لبراعة الاستهلال أن يسلك بالأوصاف كلها طريقة الإبدال المستلزمة لتكرير العوامل؛ ليكون أنبل وأفخم. وقوله: (وهي غفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين)، قال القاضي: ويجوز أن يستدل بالواو على تغاير الوصفين؛ إذ ربما يتوهم الاتحاد وتغاير موقع الفعلين؛ لأن الغفر هو الستر فيكون الذنب باقيًا، وهو لمن لم يتب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و"التوب" مصدر كالتوبة، وقيل: جمعها. وقلت: كأنه أراد بقوله: "تغاير موقع الفعلين رد قول المصنف، يعني: إنما جيء بالواو ليفرق بين الوصفين ويؤذن بتغاير موقع الستر والقبول، فيكون الغفران بالنسبة إلى من لم يتب، والقبول بالنسبة إلى من تاب. روى السلمي عن سهل رحمهما الله: {غَافِرِ الذَّنبِ} أي: ساتره على من يشاء، {وقَابِلِ التَّوْبِ} أي: ممن تاب إليه وأخلص العمل، وعليه النظم؛ لأن تأخير القبول عن الغفران_ على أن رتبته التقديم بحسب الموجود في شخص واحد_ دل على نفي توهم الجمع فيه. الراغب: الغفر: إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء، واصبغ ثوبك، فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله تعالى: هو أن يصون

للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول. وروي: أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلًا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتايع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب: من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، {بسم الله الرحمن الرحيم * حم] إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيًا. ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه! فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن الزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زل فسددوه ووقفوه، وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشياطين عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العبد من أن يمسه العذاب. والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال. وقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَغَفَّارًا} [نوح: 10] لم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان دون الفعل، فقد قيل: الاستغفار باللسان دون الفعال فعل الكاذبين. قوله: (تتابع في هذا الشراب)، الأساس: فلان يتتايع في الأمور: يرمي بنفسه فيها من غير تثبيت. وتتايع الناس في الشر: تهافتوا. قوله: (فسددوه ووقفوه)، قيل: وقفه على الترتيب: أطلعه عليه. ويروى: " وفقوه" عن بعضهم؛ أي: ادعو الله بالسداد وبالتوفيق.

[{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلادِ} 4] سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر_ والمراد: الجدال بالباطل_ من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله، وقد دل على ذلك في قوله: {وجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ} [غافر: 5]، أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن جدالًا في القرآن كفر" وإيراده منكرًا، وأن لم يقل: إن الجدال، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت: من أين تسبب لقوله: {فَلا يَغْرُرْكَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن جدالًا في القرآن كفر)، هذا الحديث مذكور في "شرح السنة"، أوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر". رواه أبو جهيم، وفيه أيضًا: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المراء في القرآن كفر". قوله: (وإيراده منكرًا، وأن لم يقل: إن الجدال تمييز بين جدال وجدال)، قال الإمام: استعمال الجدال_ أي: تعديه_ بـ"في" مشعر بالجدال الباطل، واستعماله بـ"عن" مشعر بدلجدال لأجل تقريره والذب عنه، فإن الجدال نوعان: حق وباطل، أما الحق فهو حرفة الأنبياء، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، {قَالُوا يًا نُوحُ قَدْ جِادِلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]. والجدال في آيات الله هو أن يقول مرة: إنه سحر، ومرة: إنه شعر، ومرة: إنه أساطير الأولين.

ما قبله؟ قلت: من حيث إنهم لما كانوا مشهودًا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جدلت الحبل أحكمت فتله. وجدلت البناء: أحكمته. قوله: (من حيث إنهم [لما] كانوا مشهودًا عليهم من قبل الله بالكفر)، أي: مسجلًا عليهم بالكفر في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بأداة الحصر، يعني لما بالغ في الحكم بالكفر عليهم صار سببًا لأن يقال: {فَلا يَغْرُرْكَ}؛ لأن الكافر شقي مطلقًا منغمس في لذات هذا العاجل غافل عن الآجل، وعاقبته الدمار، والعاقل لا ينظر إلى ظاهر الحال والتمتع بزهرة الحياة الدنيوية، فالفاء جواب شرط محذوف، وإليه الإشارة بقوله: "لما كانوا مشهودًا عليهم بالكفر"، والكافر لا أحد أشقى منه، وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه، ويكون قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} كالتذييل على سبيل التمثيل لجملة أحوال المجادلين الكافرين. وقلت: الظاهر أن اتصال {فَلا يَغْرُرْكَ} بما قبله من حيث الإنظار والإمهال للتمتع باللذات العاجلة للاستدراج، وإلا كان حقهم أن يصب عليهم العذاب صبًا بسبب عنادهم وجدالهم الباطل ليدحضوا به الحق، أي: لا يجادل في آيات الله الظاهرة إلا المعاند المكابر، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلادِ} وتمتعهم أيامًا قلائل، فإنا نأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ألا ترى إلى سوء عاقبة أولئك المكذبة المجادلة من قوم نوح والأحزاب من بعدهم، فأمهلتهم ثم أخذتهم فكيف كان عقاب؟ وكذلك حقت كلمة ربك على هؤلاء الذين كفروا وجادلوا بالباطل، وأما اتصال {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} بالكلام السابق، فهو أنه تعالى لما قال: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} وفخم السورة أو الكتاب بكونه تنزيلًا من الإله المعبود الموصوف.

لا أحد أشقى منه عند الله؛ وجب على من تحقق ذلك أن لا ترجح أحوالهم في عينه. ولا يغره إقباله في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة، وكانت قريس كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون، فإن مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادخر لهم من سوء العاقبة مثلًا: ما كان من نحو ذلك من الأمم، وما أخذهم به من عقابه، وأحله بساحتهم من انتقامه. وقرئ: (لا يغرك). [{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَاخُذُوهُ وجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} 5] {والأَحْزَابُ} الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم؛ وهم: عاد وثمود وفرعون وغيرهم، {وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بصفات العلم الكلي والعز الغالب، والجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة، المتفرد بالعقاب الذي لا يكتنه كنهه، وبالإفضال الذي لا يقادر قدره قال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} أي: ما يجادل في مثل هذا الكتاب الذي اشتمل على الآيات البينات إبانة وإعجازًا المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغروري، فلا يغرن مثلك في منصب الرسالة تقلب أولئك الأنعام المنغمسين في هذا الحطام. فقوله: {آيَاتِ اللَّهِ} مظهر أقيم مقام المضمر للتعظيم والتفخيم. قوله: (ما كان من نحو ذلك)، قيل: هو مفعول ثان ل"ضرب"، وقيل: بدل من"مثلًا". والأحسن أن يكون مفعولًا أول؛ لأن المعنى: ضرب ما وجد من نحو ذلك من لأمم "وأحله بساحتهم" عطف على"أخذهم" والضمير راجع إلى "ما"، ومن انتقامه " XXXX

{بِرَسُولِهِمْ}، وقرئ: (برسولها)، {لِيَاخُذُوهُ}: ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير: أخيذ. {فَأَخَذْتُهُمْ} يعني أنهم قصدوا أخذه، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب. [{وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} 6] {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في محل الرفع بدل من {كَلِمَةُ رَبِّكَ}، أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه: كما وجب إهلاكهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لِيَاخُذُوهُ}: ليتمكنوا منه)، يريد أن يقوله: {لِيَاخُذُوهُ} كناية عن عن القتل والتعذيب؛ لأنهم ما اهتموا بالأخذ المتعارف، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] ولا قتضاء مقام التسلي. وقوله: "ليتمكنوا منه" بيان لا ستلزم الأخذ القتل. قوله: (فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه)، "على" صلة"جزائهم"، أي: جازيتهم على إرادة أخذهم الرسول. فإن قلت: الظاهر أن قوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} جزاء لتكذبيهم واهتمامهم بأخذ الرسول والجدال بالبناطل، لا سيما وأصل الكلام في الجدال لقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فكيف جعله جزاء لقوله: {وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَاخُذُوهُ}؟ قلت: السؤال ظاهر، والجواب مشكل، ويمكن أن يقال: إن تكذيبهم وجدالهم كان للحسد، وأن مثل ذلك الرسول لا ينبغي أن يكون موطًا العقب، فلن يتخلصوا منه إلا بالقتل، فجعل ذلك أخذًا في الاعتبار تغليبًا أو مشاكلة، وإنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة مزيدًا للتسلي.

في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة؛ أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. و {الَّذِينَ كَفَرُوا}: قريش، ومعناه: كما وجب إهلاك أولئك الأمم، كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو في محل النصب)، عطف على قوله: " في محل الرفع"، وعلى الأول: المراد الأمم المذكورة في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} يدل عليه قوله: " كما وجب إهلاكهم في الدنيا إلى الآخره"، والتشبيه واقع في حالتهم، والوجه الجامع للطرفين إيجاب العذاب، يعني: كما وجب عليهم عذاب الاستئصال في الدنيا؛ لأجل الكفر، كذلك وجب عليهم عذاب النار في الآخرة؛ لأجل قولنا: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]. وعلى الثاني: التشبيه واقع بين حالتي أولئك الكفرة وهؤلاء الحاضرين، والوجه الجامع قوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. فإن قلت: ما وجه اختصاص كل من الوجهين بما خصه؟ قلت: على الأول: الذين كفروا مظهر وضع موضع المضمر للعلية فلم يحتج إلى تعليل آخر، فأبدل {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} تقريرًا وتوكيدًا. وعلى الثاني: ليس بذلك، فاستدعى أن يكون تعليلًا على وجه يبين وجه تشبيه حالة هؤلاء بأولئك، ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} عامًا متناولًا للمذكورين وغيرهم، و"أنهم" تعليل أو بدل، فيدخل في العموم المذكورون دخولًا أوليًا، فعلى الأول: "أنهم" بدل لا غير، وعلى الثاني: تعليل. وعلى الثالث: يحتملهما. والنظم أوفق للثاني لقوله: "ثم ضرب لتكذيبهم مثلًا ما كان من نحو من الأمم". ولما فرغ من ضرب المثل وإدخال المجادلين في آيات الله المعرضين عن الإنابة إلى غافر الذنب وقابل التوب في زمرة الذين ظهرت عليهم آثار وصف شديد العقاب تذييلًا، وأراد أن يشرع في ذكر مخالفيهم من المؤمنين المخبتين المنيبين إلى قابل التوب ذي الطول، أجل قدرهم وعظم شأنهم، فاستأنف بذكر الكروبيين المقربين عنده، وجعل التخلص

وقرئ: (كلمات). [{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدتَّهُمْ ومَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 7 - 9] روي: أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتفكروا في عظم ربكم، ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقًا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والرابطة بينهم وبينهم الإيمان، فأدخلهم في زمرتهم لهذا الوصف، كما أدخل أولئك في زمرة الأمم السالفة لجامع الكفر، وذكر ثناءهم لهم واستغفارهم إياهم، وصرح بذكر ما به امتازوا من الفرقة السابقة بقولهم: {لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}. قوله: (وقرئ"كلمات")، نافع وابن عامر: على الجمع، والباقون: بالتوحيد. قوله: (وقد مرق رأسه)، أي: جاوز وخرق وتعدى. الأساس: مرق السهم مروقا، ومن المجاز: مرق من الذين مروقًا. قوله: (ليتضاءل)، النهاية: يتضاءل: يتصاغر تواضعًا له. وتضاءل الشيء: إذا انقبض وانضم بعضه إلى بعض.

من عظمة الله حتى يصير كأنه "الوصع". وفي الحديث: "إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغذوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيالً لهم على سائر الملائكة". وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة، يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مئة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: (العرش) بضم العين. فإن قلت: ما فائدة قوله: {ويُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى؛ وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان؛ لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب، فلما وصفوا به على سبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الوصع)، يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها، طائر أصغر من العصفور، والجمع: وصعان. قوله: (لو كان كما تقول المجسمة، لكان حملة العرش ومن حوله معاينين مشاهدين ولما وصفوا بالإيمان)، قال الإمام: إنهم مدحوا بوصف الإيمان، والإقرار بوجود شيء معين لا يوجب المدح، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس بكونها مضيئة لا يوجب المدح؟ ورحم الله صاحب "الكشاف"، فلو لم يحصل في الكتابه إلا هذه النكتة لكفاه شرفًا وفخرًا.

الثناء عليهم، علم أن إيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وهو منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله: {ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضي قط، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض، قال الله تعالى: {ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَنء فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]. أي: يقولون: {رَبَّنَا}، وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانًا ل {ويَسْتَغْفِرُونَ} مرفوع المحل مثله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "التقريب": وفي لزوم المشاهدة من الحمل واختصاص الإيمان بالغيب ولزوم استواء الإيمانين من كل وجه نظر. الانتصاف: استدلالة على أنهم لا يشاهدون؛ بقوله: "يؤمنون"؛ لا يصح؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولا يشترط فيه غيبة المصدق به بدليل الإيمان بالآيات المشاهدة من انشقاق القمر وقلب العصا. الإنصاف: الإيمان بالآيات المشاهدة ليس إيمانًا بوجودها بل إيمان بأنها دالة على صدق النبي المتحدي بها. الانتصاف: غرض الزمخشري من هذا التقرير وقصده نفي صحة الرؤية، وقوله: "لو كانت الرؤية صحيحة لرأته حملة العرش"، لا يلزم؛ فإن الرؤية عبارة عن إدراك يخلقه الله، ويجوز أن لا يخلق لهم هذه الرؤية أو لا يرفع المانع والحجاب.

وأن يكون حالًا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صح أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء)، أصلة نحو قول صاحب "المفتاح" في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4]: إسناد الاشتعال إلى الرأس. وعليه ما روينا عن مسلم عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبمها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". وإلى هذا المعنى ينظر ما جاء في سورة "الشورى": {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] فإن الاستغفار فيها محمول على عموم المجاز، وهو طلب مطلق الغفران، فيراد بالاستغفار في حق المؤمنين خاصة: غفران الذنوب وإزالة العقاب في الآخر وإيصال الثواب، كما قال ها هنا: {وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} ثم قال: {رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ}، وفي حق الكافرين: ترك معاجلة العقاب في الدنيا بشؤم كفرهم، كما ذكر في "الفرقان" في قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]. وفي حقهما جميعًا بإدرار الرزق والارتفاق بما خلق لهم من المنافع الجمة، وبالترجم فيما بينهم. ويعضده تذييل تلك الآية بقوله: {أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5] حيث صدره بكلمة التنبيه المؤذنة بالتحقيق، وأردفها بـ"إن" المؤكدة، وأتى بالاسم الجامع، ووسط ضمير الفصل بين المعرفتين، فإذن هذه الآية التي في سورة "المؤمن" مختصة بمن وجد منهم الإيمان بدليل العدول من المؤمنين إلى الذين آمنوا، وأما قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ

فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فكالمقدمة للاستغفار والوسيلة إلى طلب الحاجة، فيجب أن يقصد العموم فيها؛ ليكون أنجح إلى المطلوب، ويعني شأنك هذا فافعل بهؤلاء خاصة في الآخرة ما هم مفتقرون إليه حينئذ، فإذن الفاء في {فَاغْفِرْ} مرتبة للدعاء على الوصفين. فإن قلت: جعل الرحمة علة للمغفرة ظاهر، فما بال العلم؟ قلت: معناه حققنا أن رحمتك وسعت كل شيء فاغفر للذين تابوا، وعرفنا أن علمك أحاط بكل شيء فأنجح مقاصدهم ما علموا وما لم يعلموا فإنك أعلم بأحوالهم ومصالحهم، وعليه قول الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 38 - 39]، فإنه عليه السلام جعل العلم وحده وسيلة إلى الطلب. قال المصنف في "تفسيره": إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا ويفسدنا، وأنت أرحم بنا منا، وأنصح لنا منا بأنفسنا. تم كلامه. وهاهنا نكتة في نهاية من اللطف ولا بد من إظهارها، وهي أن الخليل عليه السلام حين وصف الله تعالى بسعة العلم واستلزم ذلك سعة الرحمة واستغرق في بحار رحمته ورأى أن رحمته وسعت كل شيء، طمع في غفران والديه وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] فأدخل الكافر في الرحمة والغفران ان تناسيًا عن جواز ذلك، فضلًا عن المؤمنين. ذكر المصنف نحو هذا في سورة" التوبة" عند قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وما نحن بصدده أولى وأخرى بالرجاء، وكيف لا وقد نص الله تعالى على ذكر الرحمة والعلم، وقدم الرحمة، وأغرق في وصف ذاته تعالى بهما كما مر. قوله: (قد ذكر الرحمة والعلم)، خلاصة السؤال: أن الفاء في "فاغفر" مما يعقب بالتفصيل

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المفصل، والمفصل مشتمل على شئين، وليس في التفصيل إلا شيء واحد. وأجاب أن العلم مندرج في قوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} ومراد فيه؛ إذ ليس المراد أنهم يستغفرون لمن آمن مطلقا كما يقتضيه مطلق قوله: {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: الذين وجد منهم الإيمان، بل لمن آمن وعلم منه التوبة عن المعاصي والكفر جميعًا، كما هو قضية مذهبه، يؤيد هذا التأويل قوله في سورة "الشورى": ألا ترى إلى قوله في سورة "المؤمن": {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}، وحكايته عنهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب الاستغفار؟ فما تركوا للذين آمنوا من المصدقين طمعًا في استغفارهم، فكيف بالكفرة؟ وقوله ها هنا: "ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم"، أي: في الطهارة عن أرجاس الشرك وأوضار الذنوب، والعاصي غير التائب ليس بطاهر. وقال صاحب "الانتصاف": أخطأ الزمخشري في هذا المقام من وجوه: مراعاة المصلحة، واعتقاد امتناع غفران الكبائر بلا توبة، واعتقاد وجوب التوبة على الله، وجحد الشفاعة، وأقبح ما فيه المراد بالاستغفار زيادة الكرامة، مع أن صريح المسؤول إنما هو المغفرة، ووقاية عذاب الجحيم. فأقول: إذا جعل العلم قيدًا للمذكور ولا يجعل مستقلا في الدلالة كما مر فلا طائل إذن تحت وصفه بتلك السعة والمبالغة فيها، ولا فائدة في ذكر الرحمة والإغراق فيها، وأن المغفور له إذا كان في مثل الملائكة من الطهارة فأي حاجة إلى الاستغفار؟ فضلًا عن تلك المبالغات، هذا تحجر للواسع. كما روينا عن البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي: اللهم ارحمني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تحجرت واسعًا"، يريد: رحمة الله. تحجرت واسعًا، أي: ضيقت، من قولهم: حجر فلان إذا اتخذ له على الأرض حجارة محدقة بها. أما قوله: "أن السيئات هي الصغائر أو الكبار المتوب عنها، والوقاية منها: التكفير"، فقد أجاب عنه الإمام: لا يجوز ذلك؛ لأن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة عندكم واجب، وما كان فعله واجبًا كان طلبه بالدعاء عيبًا قبيحًا عندكم، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة واجب، فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون ذلك لطلب زيادة منفعة على الثواب؛ لأن ذلك لا يسمى مغفرة. انتهى. فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك، كما قال الواحدي: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من الشرك {واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: دينك الإسلام. فإن قلت: لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادًا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق؟ قلت_ والله أعلم_: هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق، وبيانه أن قوله: {رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية، جاء مفصولًا عن قوله: {ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: الذين وجد منهم الإيمان، بيانًا لكيفية استغفارهم، كأن قيل: كيف يستغفرون للذين وجد منهم الإيمان؟ وما تلك الكلمات؟ فقيل: يقولون: {رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}، فالآية بيان لكيفية الاستغفار لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق.

فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملًا على حديثهما جميعًا، وما ذكر إلا الغفران وحده! قلت: معناه: فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك. وسبيل الله: سبيل الحق التي نهجها لعبادة ودعا إليها. {إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} أي: الملك الذي لا يغلب، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئًا إلا بداعي الحكمة، وموجب حكمتك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما فائدة العدول عن المضمر وأن لم يقل: فاغفر لهم، بل قيل: {لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} فهي أن الملائكة كما عللوا الغفوان في حق مفيض الخيرات بالعلم الشامل والرحمة الواسعة، عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات بالعلم الشامل والرحمة الواسعة، عللوا قابل الفيض أيضًا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام. روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن معاذ بن جبل قال: "كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال: يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا". وفي رواية أنس: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يشهد أن لا إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته". فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركة على إسلامه، ومن ولد مسلمًا ودام عليه كيف يدخل فيه؟ قلت: الآية نازلة في زمن الصحابة، وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام. ولو قيل: اغفر لمن لم يشرك لخرجوا. فغلب الصحابة على سنن جميع الأحكام، والله أعلم.

أن تفي بوعدك. {وقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي: العقوبات. أو: جزاء السيئات، فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها: التفكير، أو قبول التوبة. فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة، والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدته: زيادة الكرامة والثواب. وقوئ: (جنة عدن)، و: (صلح) بضم اللام، والفتح أفصح، يقال: صلح فهو صالح، وصلح فهو صليح؛ و: (ذريتهم). [{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} 10 - 12] أي: ينادون يوم القيامة، فيقال لهم: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغني بذكرها مرة. و {إذْ تُدْعَوْنَ} منصوب بالمقت الأول. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كأن الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {إذْ تُدْعَوْنَ} منصوب بالمقت الأول)، قال أبو البقاء ومكي وصاحب "الكشف": {لَمَقْتُ اللَّهِ} لا يعمل في {إذْ تُدْعَوْنَ}؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يعلق به شيء يكون في صلته؛ لأنه الإخبار عنه يؤذن بتمامه، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه. وقال ابن الحاجب في"الأمالي": والمعنى إذا انتصب {إذْ تُدْعَوْنَ} بالمقت الأول: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم في الآخرة،

الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذ أوقعنكم فيها باتباعكم هواهن." وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا: {لَمَقْتُ اللَّهِ}. وقيل: معناه: لمقت الله إياكم الأن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]. و {إذْ تُدْعَوْنَ}: تعليل. والمقت: أشد البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشده. {اثْنَتَيْنِ}: إماتتين وإحياءتين. أو: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وليس فيه من الاعتراض سوى الرق بين المصدر ومعموله بالأجنبي، وهو "أكبر" الذي هو الخبر، وهو جائز؛ لأن الظروف يتسع فيها. قوله: (و {إذْ تُدْعَوْنَ} تعليل)، وإنما جعله تعليلًا لا ظرفًا في هذا الوجه؛ لأنهم لم يمقتوا أنفسهم حين دعوا إلى الإيمان، وإنما مقتوها في النار، وعند ذلك لا يدعون إلى الإيمان، قاله أبو البقاء صاحب "الكشف"، وقالا: إذا بطل هذان الوجهان علمت أنه متعلق بمضمر دل عليه قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ} أي: مقتكم الله حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم. وقلت: ولا ارتياب في تعسفه، والأحسن ما قدره مكي، حيث قال: والعامل فيه"اذكروا" أي: اذكروا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، ونحوه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]. قال المنصف: (وهو تحسير لهم وتنديم على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالمو الأصلاب ممكنون مزاحو العلل).

موتتين وحياتين. وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتًا أولًا، وإماتتهم عند انفضاء آجالهم، وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى، وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرًا لذلك قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وناهيك تفسيرًا لذلك قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] الآية)، قال الإمام: احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر، وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين: موته في الدنيا، ولا بد من إثبات حياة في القبر لتحصل الموتتان، ثم قال: والسؤال عليه أنه لو كان الأمر كذلك لقد حصلت الحياة ثلاث مرات، وهذا الذي عناه المصنف بقوله: "لزمه ثلاث إحياءات" وزيفه بل تهكم بقوله: "إلا أن يتحمل فيجعل إحدى الحياتين غير معتدبها"، قال الإمام: أهملوا ذكر الحياة في القبر؛ لقلة وجودها وقصر مدتها. ثم قال المصنف: "أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور" إلى آخره. يعني: لا عذرلهم في الدفع عن إثبات ثلاث إحياءات إلا أن يزعموا هذا، وهو باطل بالاتفاق، فالا ستثناء في قوله: "إلا أن يتحمل" نحو الاستثناء في قول الأعشى: وقفت فيها أصيلًا لا أسائلها .... أعيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا أواري أي: إن كان الآري يعد أحدًا فلا أحد فيه إلا إياه، أي ليس لهم جواب البتة. وفي قوله: "خلاف ما في القرآن" معنى النفي، كما في قوله: {وَيَابَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه} [التوبة: 32]، أي: ليس كما قال إلا أن يتمحل. وقلت: لهم أن يحبيبوا: إنما يلزما ثلاث إحياءات في الآية إذا حملت الإماتة الأولى على المجاز، وأما إذا أجريت على الحقيقة على ما اقتضاه المقام فلا؛ لأن مراد الكفار من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر، لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} كأنهم أجابوا أن الأنبياء دعونا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وكنا نعتقد ما تعتقده الدهرية أن لا حياة بعد الممات، فلم نلتفت إلى دعوتهم ودمنا على ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فالآن نعترف بالموتتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأهوالهما، ولهذا الفائدة استعقب قوله {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قوله: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} كما في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فيكون الذنب تكذيب البعث. نظيره قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9] إلى قوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11]. قال المصنف: " بذنبهم: بكفرهم في تكذيبهم الرسل". قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لا يلزم ثلاث إحياءات؛ لأن مرادهم من قولهم: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أنا الآن تيقنا أنك أحييتنا بعد الإماته فاعترفنا. فقولهم: {أَمَتَّنَا} إلى الآخر سبب لاعترافهم؛ فلذلك جاؤوا بالفاء، وذلك أنهم كانوا منكرين للبعث، وبسبب ذلك كانوا كثيري الذنوب، فاعترفوا بما علموا أن الله تعالى كما كان قادرًا على الإنشاء كان قادرًا على الإعادة، وهذا موافق لقول المصنف في بيان وجه التسبب في {فَاعْتَرَفْنَا} أنهم أنكروا البعث، فلما تكرر عليهم الإماته والإحياء علموا قدرته على الإعادة، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها بسبب إنكار البعث. هكذا لخصه صاحب "التقريب". فظهر من هذا البيان أن مقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] فإن هذه لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في

وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتًا إماته؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته: أن الصغر والكبر جائزان معًا على المصنوع الواحد، من غير ترجع لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر: لزمه ثلاث إحياءات، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتحمل فيجعل إحداها غير معتدبها، أو يزعم أن الله يحييهم في القبور، وتستمر بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، وبعدهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [النمل: 87]. فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا}؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى؛ لأن من لم يخش العاقبة تحرق في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم. {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} أي: إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء {مِنْ سَبِيلٍ} قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدنيا، وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم، أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر كما صرحه المصنف، ولا يلزم أيضًا على هذا ما أورده في السؤال: "كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتًا إماته؟ " فيحتاج إلى ذلك الجواب المتعسف. قوله: (أي: إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء {مِنْ سَبِيلٍ} قط، أم اليأس واقع؟ ). الانتصاف: وعلى هذا بنى من قال:

والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللًا وتحيرًا؛ ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله: {ذَلِكُمْ} أي: ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به {فَالْحُكْمُ لِلهِ} حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد. وقوله: {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا الله، من هذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هل إلى نجد وصول .... أو على الخيف نزول؟ أي: إن هذا الأمر غلب فيه اليأس على الطمع. الإنصاف: ليس المثال مطابقًا لما في الآية؛ لأن "خروج" و"سبيل" نكرتان، أي: ليس طريق من الطرق إلى نوع من الخروج، وفي الشعر: "الخيف" و"نجد" معرفتان، لكن حصل اليأس من أحد الأمرين. وقلت: يكفي في التشبيه أن يقابل: "وصول" و"نزول" وهما نكرتان بقوله: "سبيل" في إرادة الإبهام والشيوع، وأما اليأس فحاصل من المفهوم بحسب المقام، على أن الآية خلت مما يدل على أحد الأمرين، نعم الآية أبلغ؛ لأن الشيوع فيها في "خروج" و"سبيل" معًا. وله أن يقول: إن الشاعر لم يرد بـ"نجد" و"الخيف" الموضعين بعينهما، بل إنه قصد به اليأس من حصول الوصول إلى المحبوب في أي مكان كان، دل عليه ذكر المكانين، كما دل ذكر الزمانين على عموم الأزمتة في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]. قوله: (على حسب ذلك)، أي: ذلك الكلام الذي صدر عن اليأس والقنوط. قوله: (ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج)، جعل المشار إليه ما دل عليه قوله: {فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} مع ما يتصل به من كلامه السابق، وهو قوله: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ}. قوله: (كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا الله من هذا)، الجوهري: حرورا: اسم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرية، يمد ويقصر، نسبت إليها الحرورية من الخوارج، وكان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. وعن بعضهم: ومعنى تحكيمهم قولهم: لا حكم إلا الله، وكان القياس حراوراوي، لكنه استطيل فحذف الزوائد، كما تقول براكي في النسبة إلى براكا. وقال الفقيه أحمد بن داود الدينوري في "تاريخه": لما بايع الخوارج رئيسهم عبد الله ابن وهب الراسبي قام فيهم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد، فإن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق والجهاد في سبيله {إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26]، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وأشهد على أهل دعوتنا من أهل ديننا أن قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في الحكم، وإن جهادهم لحق. يعني: عليًا ومعاوية رضي الله عنهما. وكتب في جواب كتاب إلى علي رضي الله عنه: أما بعد، إنك لم تغضب لربك، ولكن غضبت لنفسك، فإنك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين_ يعني: أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص_، وشهدت على نفسك أنك كفرت فيه، فإن استأنفت التوبة رجعنا إليك، وإن تكن الأخرى فإنا ننابذك على سواء، وإن الله لا يهدي كيدًا الخائنين. فقاتلهم علي رضي الله عنه. ولعل تمسكهم بالآية من حيث إنه تعالى أثبت الحكم لله ووصف نفسه بالعلي الكبير، فآذن بأن الوصفين علتان لذلك الإثبات، وعلي رضي الله عنه لما رضي بحكم الحكمين خالف النص، وليس كذلك؛ لأنه ليس في عبارة النص، ولا إشارته دلالة على ذلك؛ لأن

[{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} 13 - 16] {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق: المطر؛ لأنه سببه. {ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ}: وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه. ثم قال للمنيبين: {فَادْعُوا اللَّهَ} أي: اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك، وإن غاظ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما دل عليه قوله {فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} من اليأس التام والإقناط الكلي والحكم بالخلود في النار، وقوله: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} تعليل لذلك الحكم، وقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} إشارة إلى قطع ذلك الحكم وبت القضاء، أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم آثرتم الشرك على التوحيد، والله تعالى حكم في الأزل أنه لا يغفر لمن يشرك به شيئًا، فلا راد الحكمه ولا دافع لقضائه؛ لعلو شأنه وعظمة كبريائه. هذا تأويل ظاهر مكشوف، وينصره ما ذكره الواحدي: فالحكم لله، أي: أنه حكم بعذاب من أشرك به ولا يرد حكمه، والعلي الكبير الذي لا أعلى منه ولا أكبر. وفيه أن قول المصنف: " على أن عذاب مثله لا يكون إلا كذلك"، غير مطابق. قوله: (ثم قال للمنيبين: {فَادْعُوا اللَّهَ} أي: اعبدوه)، بيان لربط الفاء بما قبلها، يعني: ختم الآيات البينات، والبيانات الشافية الكافية من مفتتح السورة إلى هنا بقوله: {ومَا يَتَذَكَّرُ إلاَّ مَن يُنِيبُ} تعريضًا بمن تمرد وعصى، وأشرك بالله وعتا، ثم قال للمنيبين: وإذا كان كذلك فأنتم منيبون {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، فقوله: {ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} عطف على قوله: {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، والآيات ما سبق، وذلك أنه تعالى لما حكى

ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ} ثلاثة أخبار لقوله: {هُوَ} مترتبة على قوله: {الَّذِي يُرِيكُمْ}، أو أخبار مبتدإ محذوف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحوال المشركين في هذه السورة، وأراد أن يشرع في أحوال المخلصين المنيبين على قضية التضاد كما قال: "وإن غاظ ذلك أعداءكم"، جعل قوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} وما يتصل به تخلصًا إلى ذكرهم، يعني: هو الذي يريكم آياته جميعًا من الآفاق والأنفس ويفصلها، ويدبر أمور معاشكم بإنزال الرزق من السماء، ولمعادكم بالدعوة إلى الدين الخالص؛ لأنه رفيع الدرجات، ولأنه ذو العرش، ولأنه يلقي الوحي الذي هو الحياة الأبدية، وهو الأمر بالخير والدعوة إلى الدين الخالص. ويدل على المناسبة بين هذه الصفات وتلك الصفات اختلافها تعريفًا وتنكيرًا، أما {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} فهو مثل قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} يحتمل التعريف والتنكير، وأما فائدة التنكير فالدلالة على التجدد والإيذان باستمرار صعود الملائكة وقتا بعد وقت، وإليه الإشارة بقوله: (وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش) وأما التعريف فيه، فقد قال الواحدي: الرفيع بمعنىى الرافع. وأما قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ} ففي إفادته استمرار الوحي من لدن آدم إلى انتهاء زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتصاله إلى قيام يوم التناد بإقامة من يقوم بالدعوة_ على ما روى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يبعث لهذا الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"_ ظاهر مكشوف، ومعنى التجديد إحياء ما اندرس من العلم بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وهو مناسب لقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} يريد الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث إليه.

وهي مختلفة تعريفًا وتنكيرًا. وقرئ: (رفيع الدرجات) بالنصب على المدح، و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}، كقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]؛ وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير: سماء فوق سماء، والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه، كما أن ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة. {الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} الذي هو سبب الحياة من أمره، يريد: الوحي الذي هو أمر بالخير وبعث عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما أن ذا العرش عبارة)، يعني: أن "ذا العرش" هنا مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كناية عن الملك من غير إرادة الحقيقة. قال المصنف فيه: يقال: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، كذلك" رفيع الدرجات" كناية عن رفعة شأنه وعلو سلطانه من غير إرادة الدرجات الحقيقة، وعلى الوجه الأول أيضًا كناية، لكن مع إرادة الحقيقة؛ لقوله: "وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش" وهو دليل على عزته وملكوته، وهو أنسب لقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} والمراد الوحي؛ ليكون على وزان قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل: 1 - 2] وأما قول من قال: هي درجات ثوابة التي ينزلها أولياءه في الجنة، فمناسب لقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فتكون قرينة دالة على أن الدرجات مستعارة لمراتب الثواب استعارة محسوس لمعقول. الأساس: ومن المجاز: لفلان درجة رفيعة. قوله: ({مِنْ أَمْرِهِ} ... يريد الوحي)، يعني: المراد بالأمر ها هنا: الوحي، وصح ذلك؛ لأن الوحي أمر بالخير، وإنما ذهب إليه؛ لأن {مِنْ أَمْرِهِ} بيان لـ"الروح" فلذلك استعير للوحي الروح، وقد حققنا وجه الاستعارة في مفتتح سورة "النحل"، فـ {مِنْ} على هذا

فاستعار له الروح، كما قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. {لِيُنْذِرَ} الله، أو الملقى عليه؛ وهو الرسول، أو الروح. وقئ: (لتنذر) أي: لتنذر الروح؛ لأنها تؤنث، أو على خطاب الرسول. وقرئ: (لينذر يوم التلاق) على البناء للمفعول. و {يَوْمَ التَّلاقِ}: يوم القيامة؛ لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل: يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: المعبود والعابد. {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ}: ظاهرون لا يسترهم شيء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيانية، والذي يفهم من ظاهر كلام الواحدي: " {مِنْ أَمْرِهِ} من قضائه أو بأمره" أنها ابتدائية؛ أي: من جهته وبأمره. قال أبو البقاء: "من" يجوز أن يكون حالًا من {الرُّوحَ}، وأن يكون متعلقًا بـ {يُلْقِي}. وقال القاضي: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} خبر رابع، تمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد، وفيه دليل على أن النبوة من عطاء الله يختار لها من يشاء من عباده. قوله: ({لِيُنْذِرَ} الله أو الملقى عليه ... أو الروح)، فالإسناد إلى الرسول حقيقي، وإلى الله نحو: كسا الخليفة الكعبة؛ لاحتمال الحقيقة والمجاز. وإلى نحو: أنبت الربيع البقل، في أنه لا يحتمل إلا المجاز. والوجه الثاني أقرب من جهة اللفظ والمعنى؛ لقرب المرجع إليه وقوة الإسناد. قوله: (وقيل: المعبود والعابد)، هذا أولى الوجوه؛ لأن هذا المطلق محمول على ما ورد في كثير من المواضع، نحو: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7]، ولإبدال قوله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} من {يَوْمَ التَّلاقِ}، وبيان {هُم بَارِزُونَ} بقوله: {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}. قال مكي: {هُم بَارِزُونَ} مبتدأ وخبر في وخبر في موضع خفض بإضافة {يَوْمَ} إليها، وظروف

من جبل أو أكمة أو بناء؛ لأن الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث: " يحشرون عراة حفاة غرلًا". {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي: من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت: قوله: {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت: معناه: أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22]، وقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 108]؛ وذلك لعلمهم أن الناس يبصرونهم، وظنهم أن الله لا يبصرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزمان إذا كانت بمعنى "إذ" أضيفت إلى الجمل؛ الفعلي والاسمي، وإن كانت بمعنى "إذا" لم تضف إلا إلى الفعل، فإذا وقع بعدها اسم مرفوع أضمر فعل يرتفع به؛ لأن "إذا" حينئذ بمعنى الشرط، وهي لا تستقبل في اللفظ وفي المعنى، وليست "إذا" كذلك؛ لأنه لا معنى للشرط فيها؛ لأن"إذ" لما مضى، والشرط لا يكون لما مضى، فافهم ذلك. قوله: (كما جاء في الحديث)، والحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا". في "الجامع": الغرل: القلفة التي تقطع من جلد الذكر.

وهو معنى قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]. {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه: أنه ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار. وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ}، الآية فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو معنى قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48])، يعني: معنى قوله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}، ومعنى {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} واحد؛ لأنهم إذا برزوا لله الواحد القهار في ذلك اليوم لا يخفى على الله منهم شيء في زعمهم، كما قال: " فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى الحال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه". قوله: (بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة)، الحديث من رواية البخاري ومسلم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد". قوله: (فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب)، يعني: دل الاستئناف من قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} على التعليل، فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عز وجل، فإنه لما سأل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وأجاب هو بنفسه: {للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، وكان المقام موقع السؤال وطلب التعليل، فأوقع {الْيَوْمَ تُجْزَى} جوابًا عنه، يعني: إنما اختص الملك به؛ لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس ما كسبت، وله العدل التام فلا يظلم أحدًا، وله التصرف التام فلا يشغله شأن عن شأن، فيسرع الحساب. ولو أوقع: {للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} جوابًا عن أهل المحشر، لم يحسن هذا الاستئناف.

[{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ} 17] لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك؛ وهي أن كل نفس تجزى ما كسبت، وأن الظلم مأمون؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ؛ لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد، وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها، ولا أهل النار إلا فيها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب الكواشي: بعد فناء الخلق يقول تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلم يجب، فيقول تعالى {للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} والوقف على "اليوم" كاف، وعلى "القهار" تام، "اليوم" الثاي: معمول "تجزى". وكذا عن أبي البقاء. قوله: (لم يقل) من القيلولة، وهو من قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] وقد فسر هناك المقيل بالمكان الذي يأوون إليه للاسترواح. وروينا في "شرح السنة": "لا ينتصف النهار من يوم الجمعة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء". وروى الواحدي عن ابن مسعود وابن عباس: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار". وفيه: أن حكم الكل في تلك الساعة كذلك، لكن ليس فيه بقاء ذلك الحكم، فكيف وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة البالغة مبلغ التواتر خروج العصاة من أمة محمد صلوات الله عليه من النار، إما بمحض الغفران أو بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ منها ما روينا عن البخاري ومسلم: "يخرج من النار قوم كأنهم الثعارير". الثعارير: صغار القثاء.

[{وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 18] الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أي: لقربها. ويجوز أن يريد بـ {يَوْمَ الآزِفَةِ}: وقت الخطة الآزفة؛ وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]. فإن قلت: {كَاظِمِينَ} بما انتصب؟ ؟ قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى؛ لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالًا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة؛ لأن وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وقال: {فَظَلَّتْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معترضة كالشجا)، الجوهري: أشجاه يشجيه إشجاء: إذا أغصه. يقال: شجي _ بالكسر _ يشجى شجى. قوله: (كما قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]، مثال لقوله: (وهي مشارفتهم دخول النار)، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها. قوله: (وأن القلوب كاظمة على غم وكرب)، أي: تبقى القلوب كالساكت الممتلئ قلبه غمًا وغيظًا. قال صاحب "الكشف": نسبة الكظم إلى القلب كنسبة الكتابة إلى اليد. وقال: معنى "كاظمين" متوقفين عن كل شيء إلا عما دفعت إليه من فكرها فيه، كذلك قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] المتوقفين عما يدعو إليه الغضب.

أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، ويعضده قراءة من قرأ: (كاظمون)، ويجوز أن يكون حالًا عن قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ}، أي: وأنذرهم مقدرين أو مشارفين الكظم، كقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع؛ لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ}؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معًا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفي البيع وحده، وأن عندك كتابًا إلا أنك لا تبيعه؛ ونفيهما جميعًا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعًا. ونحوه: ولا ترى الضب بها ينجحر يريد: نفي الضب وانجحاره. فإن قلت: فعلى أي الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفي الأمرين جميعًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعضده قراءة من قرأ "كاظمون")، لأن "كاظمون" على هذا محمول على "القلوب" خبر لها، و {لَدَى الحَنَاجِرِ} ظرف "كاظمون" قدم عليه، أو هو خبر بعد خبر. وعلى التقدير الأول وهو قوله: "إذ قلوبهم لدى حناجرهم" كان {كَاظِمِينَ} حالًا من الضمير المجرور في الخبر، ولا يجوز إجراء "كاظمون" عليه حالًا، ولا على المبتدأ خبرًا؛ إلا على التأويل. وقدر صاحب الكواشي: "هم كاظمون" فعلى هذا يقوى إرادة أصحاب القلوب. قوله: (وأن عندك كتابًا إلا أنك لا تبيعه)، عطف تفسيري على قوله: "نفي البيع وحده"، وكذا قوله: "وأن لا كتاب عندك ولا كونه مبيعًا" تفسير لقوله: "ونفيهما جميعًا".

من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبونهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم، قال الله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]؛ ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173]، وعن الحسن: والله ما يكون لهم شفيع البتة. فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة؛ وهي أنها ضمت إليه؛ ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله)، يعني: الواجب أن ينفي الشافع والطاعة، لا أن هناك شافعًا غير مطاع؛ إذ ليس للظالمين شافع البتة؛ لأن الشفعاء أولياء الله، والأولياء لا يشفعون للظالمين، والتعريف في "الظالمين" عنده للجنس، وعندنا للعهد؛ لأن "الظالمين" من وضع المظهر موضع المضمر والمراد بهم "المنذرين" في قوله: {وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ}. قوله: (ليقام انتفاء الموصوف في مقام الشاهد على انتفاء الصفة)؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها قال صاحب "التقريب". وإنما لم يقتصر على نفي الشفيع؛ لأن المقصود نفي كونه مشفعًا، لا نفي ذات الشفيع، وإن كان الثاني دليلًا على الأول ومستلزمًا له، فأراد ذكر المقصود مع الاستشهاد عليه، كقول من عوتب على العقود عن الغزو: ما لي فرس أركبه. أي: لا يمكنني الركوب لعدم الفرس، فكذا لا يمكن التشفيع لعدم الشفيع، فذكر المقصود والدليل عليه - وهو التقرير - أظهر مما في الأصل. وقال والده صاحب "التهذيب": حاصل كلام الزمخشري أنه استدل بعدم الموصوف

الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معي سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على عدم الصفة؛ لأن وجود الصفة بلا موصوف محال. وقوله: "فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف"، كأنه استدلال بعدم الصفة على عدم الموصوف، وهو يناقض ذلك التقرير. وقلت: مقصود المصنف من قوله: "في ذكرها فائدة جليلة" أن مجيء الصفة ونفيها ليس إلا للمبالغة في نفي الموصوف، فمعنى قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} في هذا المقام: كيف يتأتى الشفيع ولا الشفيع؟ كمعنى قول القائل لمن يعاتبه على القعود عن الغزو: ما لي فرس أركبه. أي: كيف يتأتى مني الركوب ولا فرس لي؟ فكان ذكر الركوب والاستدلال على عدم تأتيه بعد الفرس دليلًا على أن انتفاء الفرس أمر لا نزاع فيه، وأن المخاطب لا يناقشه فيه، وكذلك ذكر التشفيع والاستدلال على عدم تأتيه بعدم الشفيع دليل على فقدان الشفيع، أمر محقق مشهور لا نزاع فيه، وإليه الإشارة بقوله: " الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه"، والأسلوب من باب نفي الشيء بنفي لازمه، فجيء بالصفة ليجعل نفي الموصوف دليلًا على انتفائها، فيلزم منه نفي توهم الموصوف، يعني: بلغ الموصوف في الانتفاء مبلغًا متناهيًا حتى صار دليلًا على انتفاء الصفة؛ لما يلزم من انتفاء الموصوف انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون المجموع دليلًا على المطلوب وهو انتفاء الموصوف بالكلية. وقد استقصينا في البقرة عند قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] القول فيه. قال صاحب " الانتصاف": نفي المجموع يصح بنفي جزئه وبنفي كله، فإن كان المراد نفي الأمرين فذكر الصفة كالعلة لنفي الذات، أي لا طاعة فلا شفاعة، أو لا ذات فلا صفة، فيكون النفي مرتين من وجهين مختلفين، فظهر أن الفاء في "فيكون ذلك" نتيجة من قوله: ""ليقام انتفاء الموصوف"، لا من قوله: "لأن الصفة لا تتأتى"، فلا يلزم التناقض كما ظن.

والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي؟ ! فكذلك قوله: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ} معناه: كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع؟ فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعًا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه. [{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 19] الخائنة: صفة للنظرة، أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين؛ لأن قوله: {ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يساعد عليه. فإن قلت: بم اتصل قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ}؟ قلت: هو خبر من أخبار {هُوَ} في قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ}، مثل {يُلْقِي الرُّوحَ}، ولكن {يُلْقِي الرُّوحَ} قد علل بقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاق.}، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأمر المعروف)، أي: المشهور الثابت القائم، فكأنه قد علم من غير شبهة أن لا شفيع، فيستدل به على عدم الشفيع. قوله: (لأن قوله: {ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يساعد عليه)، لأن مراعاة النسبة بين القريتين في فصيح الكلام واجب، فإذن لا يجوز أن يكون "الخائنة" صفة للعين، أي: العين الخائنة، ثم أضيف الصفة إلى موصوفها؛ لأن قوله: {ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} لا يناسبه؛ لأنه نسب الإخفاء إلى الصدور فأوجب ذلك أن ينسب الخائنة إلى الأعين. ويقال: يعلم نظرة الأعين ويعلم ما تخفي الصدور. وفيه بحث؛ لأن المقصود من الإسناد المبالغة، وأن الله تعالى يعلم استراق العين لا العين الخائنة، سواء ضم إليه قرينتها أو لم يضم. وقال القاضي: النظرة الخائنة النظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه، أو خيانة الأعين. والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفى إلا وهو متعلق للعلم والجزاء. قوله: (هو خبر من أخبار {هُوَ}، أي: لفظة {هُوَ} في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، يعني: {يَعْلَمُ} خبر لـ {هُوَ}، مثل {يُلْقِي}.

استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: {ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ}؛ فبعد لذلك عن أخواته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فبعد لذلك عن أخواته)، فإن قلت: فهلا لم يقدم على {يُلْقِي الرُّوحَ} أو على إخوانه؛ لئلا يحصل هذا البعد؟ قلت: لا يخلو إما أن يؤتى به قبل قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أو بعده، ولا يجوز الأول؛ لأن هذا متضمن للتهديد كما قال: "والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل". وقال الواحدي: يعلم مسارقة النظر إلى ما لا يحل، وما تسر القلوب في السر من المعصية، ، {واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} فيجزي بالحسنة والسيئة، وذلك وارد في الامتنان على ما يوجب الشكر من نعمة الحياتين، وقد سبق اتصاله بما قبله. ولا الثاني؛ لأنه إما أن يقدم على "رفيع الدرجات" أو يؤخر عنه. رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ولا يجوز الأول؛ لأن {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} في الوجه المختار مفسر بمصاعد الملائكة ومهابطها للسفارة بين المرسل والمرسل إليه، وهو كالمقدمة لقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وورودهما عقيب {ويُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} للإيذان بأن الماء كما هو حياة الأرض الميتة، كذلك الوحي حياة للقلوب الميتة. ولا الثاني؛ لأنه إذا لم يجز ذلك فالبطريق الأولى هذا؛ لئلا يتخلل بين المقدمة ولاحقتها أجنبي، وإنما عقب به قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} وما يتصل به من الاستطراد لمناسبة بينهما لفظًا ومعنى، كما قال: هو مثل {يُلْقِي الرُّوحَ}، أما اللفظ فكلاهما مضارعان، وأما المعنى فلدلالة كل منهما على الوعيد والتهديد، أما العلم فكما سبق، وأما الوحي فلتصريح تعليله بقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} إلى آخره. فإن قلت: لم لا تجعل العلم علة لنفي شفاعة الشفيع، كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي

[{واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 20] {واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} يعني: والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضي إلا بالحق والعدل؛ لاستغنائه عن الظلم، وآلهتكم لا يقضون بشيء. وهذا تهكم بهم؛ لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضي، أو: لا يقضي. {إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تقرير لقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ووعيد لهم بأنه يسمع ما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] فكأنه قيل: ما للظالمين من شفيع؛ لما يعلم الله منهم الخيانة سرًا وعلانية ظاهرًا وباطنًا، فتخلص من تلك الورطة؟ قلت: إذا جعل من الأخبار المستقلة بالدلالة لإثبات وصف العلم ويتصل به حديث العدل والقضاء الحق، ، ويكون تخلصًا إلى ذم آلهتهم، ولا يفوت تعليل نفي الشفاعة أيضًا على سبيل الإدماج لاقترانه به، كان أحسن من تعليقه بنفي الشفاعة وحده. لله در المصنف ولطيف اعتباراته ودقيق إشاراته، ورحم الله من كان سببًا لمثار هذه النكات. قوله: (والذي هذه صفاته وأحواله لا يقتضي إلا بالحق)، يعني: عومل بالاسم الجامع معاملة اسم الإشارة، مثل "أولئك" و "ذلك" إذا وقع بعده حكم؛ ليؤذن بأن ما بعده جدير بما قبله لإجراء تلك الصفات عليه، وإنما عدل من اسم الإشارة إلى اسم الذات؛ ليكون أجمع وأفخم. قوله: (وهذا تهكم بهم)، فإن قلت: لم لم يجعله من المشاكلة؟ قلت: جعله استعارة تهكمية أبلغ، والاختيار أولى، والمقام له أذعى، وهو تحقير شأن آلهتهم وتسفيه رأيهم. قوله: ({إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تقرير لقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ})، أي: يعلم خائنة الأعين؛ لأنه بصير لا يحجبه شيء من المبصرات التي تخفى على كل ذي بصر، ويعلم ما تخفي الصدور من الهواجس التي ربما تخفى على صاحبها؛ لأنه سميع حقيقي، وإنما فضل هذه الفقرة بهذه الفاصلة يكون ظاهرًا في التعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تقدر على القضاء؛ لأنها لا تسمع ولا تبصر.

يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ: {يَدْعُونَ} بالياء والتاء. [{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ومَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن واقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ} 21 - 22] {هُمْ} في {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعًا بين معرفة وغير معرفة؛ وهو {أَشَدَّ مِنْهُمْ}؟ قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام؛ فأجري مجراه. وقرئ: (منكم) وهي في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه إشارة إلى أن الحاكم والقاضي ينبغي ألا يكون فاقد السمع والبصر، فيكون قوله: {واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} إلى آخره معترضة بين المقرر والمقرر. قوله: (وقرئ {يَدْعُونَ} بالياء والتاء)، الفوقانية: نافع وابن ذكوان، والباقون: بالياء. قوله: (قد ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام)، قال ابن الحاجب: ولا يجوز أن تقول: زيد هو غلام رجل، وإن كان ممتنعًا دخول حرف التعريف عليه؛ لأن هذا مخصوص بـ"أفعل من كذا"، والفرق بينهما أن "أفعل من كذا" يشبه المعرفة شبها قويًا من حيث المعنى، حتى إن معنى قولك: أفضل من كذا، الأفضل باعتبار فضلية معهودة، ولذلك قام مقامه، ، وليس غلام رجل كذلك، فإنه إنما امتنع دخول حرف التعريف عليه من جهة أن الإضافة قد تكون للتعريف، واللام للتعريف، فكره الجمع بينهما، بخلاف "أفضل منك". قوله: (وقرئ: "منكم")، ابن عامر.

مصاحف أهل الشام. {وآثَارًا}: يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أراد: وأكثر آثارًا كقوله: متقلدًا سيفًا ورمحا [{ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إلَى فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ومَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلال} 23 - 25] {وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}: وحجة ظاهرة؛ وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرًا وكذابًا، {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ}: بالنبوة. فإن قلت: أما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما يوصف بالشدة من آثارهم)، الراغب: أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده. يقال: أثر وإثر، والجمع: الآثار. ويقال للطريق المستدل به على تقديم أشخاص: آثار. وأثرت العلم: رويته، آثره أثرًا وأثارة وأثرة. وأصله: تتبعت أثره، قال تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، وقرئ: "أثرة"، وهو ما يروى ويكتب فيبقى له أثر. والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان. ويستعار الأثر للفضل، والإيثار للتفضل، ومنه قولهم: آثرته، وقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] والاستئثار: التفرد بالشيء من دون غيره. وفي الحديث: "سكتون بعدي أثرة"أي: يستأثر بعضكم على بعض. قوله: (أو أراد: وأكثر آثارًا)، فعلى الأول {وآثَارًا} عطف على {قُوَّةً}، فتختص الآثار بما فيه قوة وشدة، وعلى الثاني عطف على {أَشَدَّ} على تقدير أكثر مطلقًا، سواء كانت الآثار قوية أو لا.

كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {قَالُوا اقْتُلُوا}: أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولًا. يريد: أن هذا قتل غير القتل الأول. {فِي ضَلال}: في ضياع وذهاب، باطلًا لم يجد عليهم، يعني: أنهم باشروا قتلهم أولًا فما أعنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الوالدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيًا وحنقًا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعًا. [{وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} 26] {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غيظًا وحنقًا وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام)، وقال في موضع آخر: "إلباسًا عليهم وتعمية وأن ذلك المولود منتظر بعد، وليس موسى بذلك"، وينصره قوله: {ومَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلال}، وقوله تعالى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}، وقوله: (كان هذا تمويهًا على قومه وإيهامًا أنهم هم الذين يكفونه)، وقال في "الأعراف"- في قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]-: "سعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء؛ ليلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة وأنهم مقهورون تحت أيدينا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بزوال ملكنا على يده".

وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرًا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة. والظاهر أن فرعون -لعنه الله - كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه؟ ! ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وقوله: {ولْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [قوله: (وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة)، الانتصاف: هو مثل قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يوهم قلة الاحتفال بهم، وأن قتالهم إنما هو لأجل أنهم لنا غائظون، ومن عادتنا الحذر على دولتنا بحسن الحفظ وحماية حوزة المملكة، ولقد كذب وكان فؤاده مملوءًا رعبًا. قوله: ({ولْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق)، يعني صدر منه هذا الكلام على سبيل الإيهام والتورية، والتورية -كما علمت- هو أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، فيراد البعيد منهما، واللعين أوهم قومه المعنى القريب وهو التهكم، وفي ضميره البعيد، أظهر أن ليس له رب والذي يدعوه ليس برب، أي: لا يجدي دعاؤه شيئًا؛ لأنه يدعو ما لا حقيقة له، وهو كما تقول لمن ظفرت به وليس له ناصر: أنا أنتقم منك فادع ناصرك؛ تهكما به، والمراد: ما في ضميره أنه إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، لأنه كان قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النمل: 14]. قال محيي السنة: أيك وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا. وفي "اللباب": أي: ليدع ربه فإنه لا يجاب، وليستعن بربه فإنه لا يعان. وقيل: ليدع ربه فإنه لا يجيء من دعائه شيء؛ لأنه يدعو ما لا حقيقة له.

تمويهًا على قومه، وإيهامًا أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. {أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}: أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام/ بدليل قوله: {وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلًا وضياعًا، كأنه قال: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز: (وأن يظهر) بالواو، ومعناه: إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معًا. وقرئ: {يُظْهِرَ} من: أظهر. و {الْفَسَادَ} منصوب، أي: يظهر موسى الفساد. وقرئ: 0 يظهر) بتشديد الظاء والهاء، من تظهر، بمعنى تظاهر، أي: تتابع وتعاون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام)، قال المصنف: كان فرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] فكيف عبد الصنم وذلك قوله: {وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] فأجاب بأنه أمر بنحت الأصنام وبأن تجعل شفعاء لهم عنده، كما كانوا يقولون: {شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فأضافوا الآلهة إليه بهذا المعنى. قوله: (وضياعًا)، الجوهري: ضاع الشيء يضيع ضيعةً وضياعًا -بالفتح- أي: هلك. قوله: (وفي مصاحف أهل الحجاز: "وأن يظهر" بالواو)، قال صاحب "التيسير": وقرأ بها عاصم وحمزة والكسائي. وقال الزجاج: وفي مصحف أهل العراق: "أو أن" على معنى: إني أخاف أن يبطل دينكم البتة، وإن لم يبطله أوقع فيه الفساد. وعلى الواو: أخاف إبطال دينكم والفساد معه. قوله: (وقرئ: {يُظْهِرَ})، نافع وأبو عمرو وحفص، والباقون: بفتح الياء والهاء.

[{وقَالَ مُوسَى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ} 27] لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله قال لقومه: {إنِّي عُذْتُ} بالله الذي هو ربي وربكم. وقوله: {ورَبِّكُم} فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال: {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}؛ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة؛ وليكون على طريقة التعريض؛ فيكون أبلغ. وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، ، وقال: {لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ}؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها. وعذت ولذت أخوان. وقرئ: (عت) بالإدغام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ورَبِّكُم} فيه بعث لهم على أن يقتدوا به)، يريد أن موسى عليه السلام لما سمع قولهم: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} شجع قومه وقال: تعوذوا بالله عياذة واعتصموا بالتوكل عليه، كما تعوذت واعتصمت؛ ليخلصكم من شر هذا المتكبر الذي لا عقل له ليردعه، ولا دين ليزجره. ودل على هذا كله عطف {ورَبِّكُم}. قوله: (وليكون على طريقة التعريض)، عطف على "ليشمل"، كرر اللام على"ربي" للاستقلال. يعني: في التعميم فائدتان: إحداهما: دخول الغير في المستعاذ منه. وثانيتهما: ترك المواجهة بقوله: أنت متكبر مكذب مع إرادة ذلك بأبلغ وجه. قوله: (لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب)، إلى قوله: (استكمل أسباب القسوة)، وفي الخاتمية: الظلم من طبع النفس، وإنما يصدها عن ذاك أحد علتين: إما علة دينية كخوف معاد، أو علة سياسية كخوف السيف. قال أبو الطيب:

[{وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 28] {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} وقرئ: (رجل) بسكون الجيم، كما يقال: عضد، في عضد، وكان قبطيًا ابن عم فرعون، آمن بموسى سرًا. وقيل: كان إسرائيليًا. و {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ}، أو صلة لـ {يَكْتُمُ}، أي: يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه سمعان أو حبيب، وقيل: خربيل أو خزبيل، والظاهر أنه كان من آل فرعون؛ فإن المؤمنين من بني إسرائيل لم يقلوا ولم يعزلوا، والدليل عليه قول فرعون: {أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25]. وقول المؤمن: {فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29] دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه. {أَن يَقُولَ}: لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والظلم من شيم النفوس وإن تجد .... ذا عفة فلعلة لا يظلم قوله: (و {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ}، أو صلة لـ {يَكْتُمُ})، لأن الرجل إذا كان قبطيًا كان {آلِ فِرْعَوْنَ} صفة لـ {رَجُلٌ}، وإذا كان إسرائيليًا كان صلة لـ {يَكْتُمُ}، وعلى هذا الوقف على قوله: {وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} له وجه، ثم يبتدأ {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}، والظاهر الأول؛ لأن تقديم الصلة على الفعل لا معنى له في هذا المقام، ولأنه موجب للإلباس، وعليه قوله: "والظاهر أنه كان من آل فرعون"، لأن تخصيص الفردية وكتمان الإيمان لا يحسن إذا قيل: إن الرجل كان إسرائيليا؛ لأن بني إسرائيل كانوا كثيرين وأنهم لم يكتموا إيمانهم عن آل فرعون، يدل عليه قول اللعين: {أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}؛ لأن التصريح بلفظ "آمنوا" دليل على أنه كان عارفًا بإيمان قوم موسى، فكيف يحمل الكاتم على رجل من بني إسرائيل؟ قوله: (دليل ظاهر على أنه يتنصح لقومه)، حيث قال: {يَنصُرُنَا} و {جَاءَنَا}؛

وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشعناء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها؛ وهي قوله: {رَبِّيَ اللَّهُ} مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ ! وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم. ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا، أي: وقت أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه دل على أنه منهم في القرابة، وأنه يعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو ما هم لهم منه. قوله: (وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم)، اعلم أنه قد أشار في كلامه إلى ثلاث عبارات كلها دالة على الاختصاص بمعونة التركيب والمقام الاستدراجي: أحدهما: قوله: "ما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق"، وذلك من قوله: : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} حيث نكر الرجل وأوقع قوله: {رَبِّيَ اللَّهُ} علة للقتل على سبيل التوبيخ، كأنه لم يعلم من موسى عليه السلام إلا أنه رجل ما، ولم يسمع منه قول إلا {رَبِّيَ اللَّهُ}، وهو عندهم أظهر من الشمس، وأقواله لا تحصى، نحوه قوله تعالى: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] قال: "فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول". وثانيها: قوله: "لم يحضر لتصحيح قوله بينه واحدة، ولكن بينات عدة"، وهو من جمع البينات، وتحليتها باللام. وثالثها: قوله: "وهو ربكم لا ره وحده"، وهو من تخصيص ذكر الرب وإضافته إليهم، أي: الذي يدعو إليه موسى هذا المعلوم المتميز الذي لو قيل لكل مميز عاقل: من رب السماوات والأرض؟ ليقولن: الله. كما قال في "الشعراء" بعدما سأل اللعين: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23 - 24]. وإليه الإشارة بقوله: "من عند من نسب إليه الربوبية"، ولهذا لما قال اللعين: {ولْيَدْعُ رَبَّهُ}، أجاب عليه السلام بقوله: {إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم}. قوله: (ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا)، عطف على قوله: "لأن يقول، وهذا إنكار منه

تقول. والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ ! وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} يريد: بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبًا أو صادقًا، ، {وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، {وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ} ما يعدكم إن تعرضتم له. فإن قلت: لم قال: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وهو نبي صادق، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال: {وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}، وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه؛ ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقًا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}؛ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيًا، فضلًا أن يتعصب له، أو يرمي بالحصى من ورائه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى قوله: "ما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق"، أي: قوله: {أَن يَقُولَ} إما توبيخ على جعل قول الحق علة القتل، وهو موجب للتسليم والتقليد بإضمار اللام، أو إنكار على عدم التفكر، على "أن" مصدرية والوقت مقدر. قوله: (أن يلاوصهم)، الجوهري: فلان يلاوص الشجر، أي: ينظر كيف يأتيها ليقلعها، وعن بعضهم: يقال: لاوص القرن، إذا نظر من أي وجه يضربه. قوله: (غير المشتط فيه))، اشتط في كذا: جازف فيه. والمشتط: هو الغالي. قوله: (أو يرمي بالحصى من ورائه)، قيل: هو كناية عن الذب عنه، أي: فضلًا عن أن يذب عن موسى. والوراء بمعنى قدام.

وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل، وكذلك قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. فإن قلت: فعن أبي عبيدة: أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها .... أو يرتبط بعض النفوس حمامها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل)، الانتصاف: نظيره: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] قدم ما تصدق به المرأة؛ لدفع التهمة وإبعاد الظن، ولم يضره تأخر المقصد لهذه الفائدة، وقريب منه: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} [يوسف: 76]. قوله: (تراك أمكنة)، البيت، أي: أترك أمكنة إذا لم أرضها إلى أن يرتبط الحمام بعض النفوس، أي: كلا، وهو يوم القيامة، وهذا خطأ؛ لأنه أراد ببعض النفوس نفسه، أي: إلى أن يموت من هو مشهور معروف ولا يخفى على كل أحد. وعليه قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. وقال الزجاج: قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من لطيف المسائل؛ لأن النبي عليه السلام إذا أوعد وعدًا وقع بأسره لا بعضه، وحق اللفظ: "كل الذي يعدكم"، لكن هذا من باب النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل. ومثله قول الشاعر: قد يدرك المتأني بعض حاجته .... وقد يكون مع المستعجل الزلل إنما ذكر البعض؛ ليوجب له الكل، لا أن البعض هو الكل، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد بان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. وذكر الزجاج في "آل عمران": وأنشد أبو عبيدة بيتًا غلط في معناه، يعني هذا البيت، وقال: المعنى: أو يعتلق كل النفوس حمامها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما المعنى: أو تعتلق نفسي حمامها. وفي كلام الناس: بعض يعرفك، أي: أنا أعرفك. وقال ابن الأنباري في "النزهة": هو أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. وقال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالمًا بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وصنف كتابًا في القرآن وسماه "المجاز". وفي حاشية "الكشاف": قال أبو عثمان المازني للمبرد: سمعت أبا عبيدة يقول: ما أكذب النحويين على العرب حيث يزعمون أن الألف في "العلقى" للتأنيث، وسمعناهم يقولون: علقاة للواحد. فقال له المبرد: هلا قاولته؟ قال: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له. والجوب على قول أبي عبيدة: أن من جعل الألف للتأنيث لم يقل في الواحد: علقاة، ومن نون جعل الألف للإلحاق وصح له أن يقول: علقاة. روى الجوهري عن سيبويه: علقى: نبت، تكون واحدةً وجمعًا، وألفه للتأنيث فلا ينون. قال العجاج يصف ثورًا: فحط في علقى وفي مكور "فحط": بالفاء والحاء المهملة. "المكور": ضرب من الشجر، بضم الميم والكاف، والواحد: مكر. ويروى: استن في علقى وفي مكور استن الفرس وغيره، أي: قمص، وهي أن يرفع يديه ويدفعهما معًا ويعجن برجليه. وفي "التقريب": قال أبو عبيدة للمازني: ما رأيت ككذب النحويين، يقولون تاء التأنيث لا تدخل على ألفه، وسمعت رؤبة يقول: واحد علقى: علقاة. فقيل للمازني: فما

قلت: إن صحت الرواية عنه، فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} يحتمل أنه إن كان مسرفًا كذابًا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه، وأنه لو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من ذلك: طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه، فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: "أنا ذاك"، فقام أبو بكر رضي الله عنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت لأبي عبيدة؟ فقال: ذاك - أي: التاء- إنما تدخل على لغة من يقول: إن ألفها للإلحاق لا للتأنيث. قوله: (يحتمل أنه إن كان مسرفًا)، إلى آخره، يريد أن قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} الآية، تعليل للشرطين وارد على ذلك النمط ذا وجهين، أي: إن يك كاذبًا فعليه كذبه، أي: وبال كذبه وضرره؛ لأن الله لا يهدي {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. {وإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} إن تعرضتم له؛ لأن الله هداه للحق، ولو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله للنبوة ولما عضده بالبينات. قوله: (ما تولى أبو بكر رضي الله عنه)، عن الإمام أحمد بن حنبل، عن عروة بن الزبير: "قلت لعبد الله بن عمر"، وعن البخاري: "سألت عمر: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلف ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ".

فالتزمه من ورائه، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}؟ ! رافعًا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرًا، وأبو بكر قاله ظاهرًا. [{يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 29] {ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ}: في أرض مصر عالين فيها على بني إسرائيل، يعني: أن لكم ملك مصر، وقد علوتم الناس، وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال: {يَنصُرُنَا} و: {جَاءَنَا}؛ لأنه منهم في القرابة؛ ؛ وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه. {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب، {ومَا أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} يريد: سبيل الصواب والصلاح. أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدخر منه شيئًا، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني: أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب؛ فقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدًا ولم يقف الأمر على الإشارة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإنه لا قبل لكم به)، الراغب: قبل فلان: أي عند فلان. قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9]، ويستعار للقوة والقدرة على المقابلة، أي: المجازاة، فيقال: لا قبل لي بكذا، أي: لا يمكنني أن أقابله.

وقرئ: (الرشاد)؛ فعال من: رشد؛ بالكسر، كعلام، أو من: رشد بالفتح كعباد، وقيل: هو من أرشد كجبار من أجبر. وليس بذاك؛ لأن فعالًا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف، نحو: دراك وسار وقصار وجبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعواج وبتات، غير منظور فيه إلى فعل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ "الرشاد")، قال ابن جني: قرأه معاذ بن جبل على المنبر، وهو إما من: رشد يرشد، كعلام؛ من: علم يعلم، أو من: رشد يرشد، كعباد؛ من: عبد يعبد. ولا يحمل على: أرشد يرشد؛ لأن فعالًا لم يأت من أفعل إلا [في أحرف] محفوظة، نحو: أجبر فهو جبار، وأسأر فهو سار، وأقصر فهو قصار، وأدرك فهو دراك، على أنهم قالوا: جبره على الأمر، وقصر عن الأمر. وينبغي أن يكون جبار وقصار من فعل، فكذا ينبغي أن يعتقد في سار ودراك على أنهما خرجا بحرف الزيادة فصارا إلى سار ودراك تقديرًا، وإن لم يخرجا إلى اللفظ استعمالًا، كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل، وأورس الرمث فهو وارس، وقالوا: ألقحت الريح السحاب وهي لاقح. وهذا على حذف همزة "أفعل"، وإنما قياسه "ملقح"، فعلى هذا خرج الرشاد، أي: رشد بمعنى: أرشد، تقديرًا لا استعمالًا. فإن قيل: فإن المعنى إنما هو على أرشد، فكيف أجزت لأن يكون مجيئه من: رشد أو رشد، في معنى: أرشد، وأنه ليس من لفظ: أرشد؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد؛ لأنه إذا رشد أرشد؛ لأن الإرشاد من: الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب، وعليه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، أنها من لقحت هي، وإذا لقحت ألقحت غيرها. قوله: (كعواج وبتات)، أي: بياع العاج وبياع البت وهو الطيلسان من خز أو صوف.

[{وقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَابِ قَوْمِ نُوحٍ وعَادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} 30 - 31] {مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ}: مثل أيامهم؛ لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار؛ اقتصر على الواحد من الجمع؛ لأن المضاف إليه أغنى عن ذلك، كقوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب. ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبًا دائمًا منهم لا يفترون عنه. ولابد من حذف مضاف، ويريد: مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب {مِّثْلَ} الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لـ {مِّثْلَ} الأول؛ لأن آخر ما تناولته الإضافة "قوم نوح"، ولو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه أضافه إلى الأحزاب)، يعني: لابد من تقدير جمع اليوم؛ لأن الأحزاب لم يهلكوا مرة واحدة في يوم واحد، وإنما هلك كل حزب في يوم مختص به، لكن لما جاء بالتفصيل بعد الإفراد -وهو قوم نوح وعاد وثمود- قيل: {يَوْمِ} لأنه لم يلبس. قوله: (يوم حزب حزب)، عن بعضهم: أفرد الحزب كما جمع اليوم في الأول، كما هو عادته من رد الأول إلى الثاني، أو العكس. قوله: (وكون ذلك دائبًا دائمًا)، عطف تفسيري على قوله: "دؤوبهم"، و"ذلك" إشارة إلى الكفر والتكذيب وسائر المعاصي. قوله: (ولابد من حذف مضاف) لأن {مِّثْلَ} الثاني عطف بيان للمثل الأول، وقد ذكر فيه اليوم وهو دال على الهلاك لجزاء أعمالهم، وغليه أشار بقوله: "إن كل حزب منهم كان له يوم دمار". قوله (لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح)، أضاف {مِّثْلَ} إلى {دَابِ} ثم إلى {قَوْمِ نُوحٍ} وهو آخر ما تناولته الإضافة.

قلت: أهلك الله الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود؛ لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة. {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} يعني: أن تدميرهم كان عدلًا وقسطًا؛ لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم؛ لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدًا، كان عن الظلم أبعد؛ وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلمًا ما لعباده. ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله: {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7] أي: لا يريد أن يظلموا؛ يعني: أنه دمرهم؛ لأنهم كانوا ظالمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نكر الظلم، كأنه نفى أن يكون ظلمًا ما)، وليس التنكير في "ظلام" مثله؛ لأن "ظلامًا" بناء مبالغة، والتنكير يتبعه في التفخيم والتكثير. قوله: (كمعنى قوله: {ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7])، ومعناه على ما قال: لا يرضى لعباده الكفر رحمةً لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة، وفيه: أنهم بأنفسهم يكفرون ويوقعونها في الهلكة، وكذلك قوله: "وما الله يريد ظلمًا للعباد" معناه: لا يريد لهم أن يظلموا فيوقعوا أنفسهم بسببه في الدمار، ولكنهم هم الذين ظلموا فتعرضوا للدمار فلذلك دمرناهم، وإليه الإشارة بقوله: "يعني: أنه دمرهم لأنهم كانوا ظالمين"، والمعنى على الأول: جازيناهم بالهلاك فعدلنا فيهم. وعلى الثاني: : أهلكناهم؛ لأنهم كانوا ظالمين. الانتصاف: هذا من الطراز الأول، وقد سبق من إبطاله ما يغني عن إعادته. وقلت: إن مؤمن آل فرعون لما نصح القوم بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ} وأثبت أنه نبي صادق ثابتة نبوته، واجب اتباعه، وما قصر في النصح وإرشاد طريق الإيمان إلى أن انتهى إلى قوله: {فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا}، وما زاد اللعين على ما بدأ أولًا: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلا بما أرى من

[{ويَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} غافر: 32 - 33] (التنادي) ما حكى الله في سورة الأعراف من قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، و {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد، وهو أن يند بعضهم من بعض؛ كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34]. وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هربًا، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفًا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض، إذ سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب. {تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} عن قتادة: منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارين عن النار غير معجزين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القتل، فحينئذ أيس المؤمن واستشعر الخوف وأيقن أن حجة الله لزمتهم، قال: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ}، لأنه تعالى بعث إليهم الرسل مصحوبًا بالبينات كرسولكم فلم يؤمنوا، فدمرهم الله، {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ}. وينصره ما ذكره محيي السنة: {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} أي: لا يهلكهم قبل اتخذ الحجة عليهم. يعني: عبر عن سنة الله الجارية -وهي إرادة بعثة الرسل إلى الأمم حتى إن أهلكهم لا يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] فنحن مظلومون- بقوله: {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} أي: الله لا يريد الإهلاك قبل اتخاذ الحجة، وقد بعث إليهم وإليكم الحجة. وظهر أن قول المصنف: "لا يريد لهم أن يظلموا" مما ينبو عنه المقام، وقضية مذهبه جره إليه. قوله: (وقرئ بالتشديد)، قال ابن جني: وهي قراءة ابن عباس والضحاك والكلبي، وهو "تفاعل" مصدر "تناد القوم"، أي: تفرقوا، من قولهم: ند يند، كنفر ينفر، وتنادوا كتنافروا. والتناد كالتنافر، وأصله: التنادد، فأدغم.

[{ولَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 34 - 35] هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. أقام فيهم نبيًا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه. وقيل: فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها، ولم تزالوا شاكين كافرين، {حَتَّى إذَا} قبض {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} حكمًا من عند أنفسكم من غير برهان، وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم: {لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها! وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ: (ألن يبعث الله) على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضًا بنفي البعث. ثم قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} أي: مثل هذا الخذلان المبين يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه، {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} بدل من {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتقدمه عزم)، عطف على قوله: "حكمًا"، ومفعول له أو مفعول مطلق. قوله: (وإنما هو تكذيب)، يعني: قولهم: {لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34] ليس فيه أنهم أثبتوا رسالة يوسف، بل فيه أنهم شكوا فيه وضجوا منه، حتى إذا هلك قالوا: خلصنا من هذا المدعي الزاعم أنه رسول ولن يجيء بعده مثله. قوله: (كأن بعضهم يقرر بعضًا)، يعني: دخلت همزة التقرير على حرف النفي لدلالة أن كل واحد من المكذبين كان يقرر صاحبه بنفي البعث.

لأنه لا يريد مسرفًا واحدًا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل {كَبُرَ}؟ قلت: ضمير {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. فإن قلت: أما قلت: هو جمع؛ ولهذا أبدلت منه {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ}؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى، وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ، ويجوز أن يرفع {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} على الابتداء، ولابد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في {كَبُرَ}، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتًا، ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} مبتدأ، و {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} خبرًا، وفاعل {كَذَلِكَ} قوله: { ........ } أي: كبر مقتًا مثل ذلك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى)، الانتصاف: فيما ذكره عود إلى معاملة اللفظ من بعد معاملة معناه وأهل العربية يجتنبونه، والأولى ألا يعتمد في إعراب القرآن عليه، والصواب أن فاعل {كَبُرَ} ضمير مصدر {يُجَادِلُونَ}، أي: كبر جدالهم مقتًا، أو يجعل {الَّذِينَ} مبتدأ بتقدير حذف المضاف، أي: جدال الذين يجادلون، والضمير في "كبر" يعود إلى الجدال المحذوف، والجملة مبتدأ وخبر. ومثله في حذف المضاف وعود الضمير إليه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [التوبة: 19] في أحد تأويليه، وهو: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. ومثله كثير. وفيه ما يوجب السلامة عما ذكره، فالأولى العدول عنه. وقلت: ولعل في قوله: "وليس ببدع أن يحمل" إشارة إلى هذا المعنى. قوله: (وفاعل {كَبُرَ} قوله: {كَذَلِكَ})، قيل: فعلى هذا قد تقدم التمييز على الفاعل، ومثله جائز. قال المرزوقي في قوله: أرى كل أرض دمنتها وإن مضت .... لها حجج يزداد طيبًا ترابها

الجدال، و {يَطْبَعُ اللَّهُ} كلام مستأنف، ومن قال: كبر مقتًا عند الله جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي {كَبُرَ مَقْتًا} ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد أشكاله من الكبائر. وقرئ: (سلطان) بضم اللام. وقرئ: (قلب) بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن، ونحوه قوله عز وجل: {فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنه يجوز تقديم التمييز على الفاعل، وليس في جوازه خلاف. قوله: (فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه)، قيل: فيه نظر. قال أبو البقاء: يجوز أن يكون الخبر {كَبُرَ مَقْتًا}، أي: كبر قولهم مقتًا. وقلت: وإذا جاز في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26] ذلك، وقد قال: الضمير في {بَلَغَتِ} للنفس، وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها. وتقول العرب: أرسلت، أي: السماء، يريدون: جاء المطر، فلأن يجوز هذا لدلالة {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} على جدالهم أحرى. وقوله: "كلام مستأنف" كأنه لما قيل: {كَبُرَ مَقْتًا} مثال جدال الذين يجادلون في آيات الله، قيل: فما يفعل الله بهم إذن؟ قيل: يطبع الله على قلوبهم، فوضع {كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} موضع الضمير إشعارًا بأن المجادل في آيات الله بغير علم متكبر جبار. قوله: (وقرئ: "قلب")، بالتنوين: أبو عمرو وابن ذكوان، والباقون: بغير تنوين. قوله: (ونحوه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283])، أي: كما أسند الإثم إلى

يكون على حذف المضاف، أي: على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب. [{وقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ومَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاَّ فِي تَبَابٍ} 36 - 37] قيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء؛ إذا ظهر، وأسباب السماوات: طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، كالرشاء ونحوه. فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلى أبلغ أسباب السماوات! قلت: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيمًا لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها؛ ولأنه لما كان بلوغها أمرًا عجيبًا أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه؛ ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه. وقرئ: {فَأَطَّلِعَ} بالنصب على جواب الترجي، تشبيهًا للترجي بالتمني. ومثل ذلك التزيين وذلك الصد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القلب وهو للجملة من الروح والبدن والقلب للتأكيد، كذلك التكبر مسند إلى القلب، وهو للجملة؛ لأن القلب رئيس الأعضاء، وكتمان الشهادة ومنشأ الكبر منه. قوله: (على نفس متشوقة)، يروى بالفاء والقاف. عن بعضهم: شاف الشيء: صقله. ويقال: شفت الشيء: جلوته. التشوف: التطلع. وتشوفت المرأة: تزينت. اطلع إليه، أي: صعد. وطلع الجبل كذلك. قوله: ({فَأَطَّلِعَ} بالنصب)، حفص، والباقون: برفعها. قوله: (تشبيهًا للترجي بالتمني)، لأن الترجي: طلب ما يتوقع حصوله، والتمني:

{زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ}، والمزين: إما الشيطان بوسوسته، كقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]، أو الله تعالى على وجه التسبيب؛ لأنه مكن الشيطان وأمهله، ومثله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4]. وقرئ: (وزين) له (سوء عمله) على البناء للفاعل، والفعل لله عز وجل، دل عليه قوله: {إلَى إلَهِ مُوسَى}؛ و (صد) بفتح الصاد، وضمها، وكسرها، على نقل حركة العين إلى الفاء، كما قيل: قيل. والتباب: الخسران والهلاك. وصد: مصدر معطوف على {سُوءُ عَمَلِهِ}، وصدوا هو وقومه. [{وقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} 38 - 39] قال: {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأن الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طلب ما لا يمكن حصوله، نحو: : ليت الشباب يعود. قال الزجاج: المعنى: لعلي أبلغ الذي يؤديني إلى إله موسى، وإنما قلت هذا على دعوى موسى، لا أني على يقين من ذلك. قوله: (على نقل حركة العين إلى الفاء)، أي: أصله: صدد؛ مجهولًا، نقل كسرة الدال إلى الصد، وصد يجوز أن يكون لازمًا أو متعديًا. والفعل لفرعون، أي: صد الناس عن الإيمان، ويجوز أن يكون الفاعل الله تعالى، أي: صده الله عن إبطال أمر موسى، وقيل: عن نبأ الصرح. قوله: (والتباب: الخسران والهلاك)، الراغب: التب والتباب: الاستمرار في الخسران. يقال: تبًا له وتب له وتببته، إذا قلت له ذلك، ولتضمن الاستمرار قيل: استتب لفلان كذا، أي: استمر. و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] أي: استمرت في الخسران.

سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما؛ ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين، وهو قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} [غافر: 45]. وفي هذا أيضًا دليل بين على أن الرجل كان من آل فرعون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن الله استثناه من آل فرعون)، أي: اختاره منهم وجعله داعيًا إلى الله ونجاه مما حل بهم من سوء العذاب، وذلك قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} المغرب: يقال: ثنى العود، إذا حناه وعطفه؛ لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر، ثم قيل: ثناه عن وجهه، إذا كفه وصرفه؛ لأنه مسبب عنه. ومنه: استثنيت الشيء، زويته لنفسي. والاسم: الثنيا بوزن الدنيا، ومنه الحديث: "من استثنى فله ثنياه"، أي: ما استثناه. والاستثناء في الاصطلاح: إخراج الشيء مما دخل فيه غيره؛ لأنه فيه كفًا وردا عن الدخول، والاستثناء في اليمين أن يقول الحالف: إن شاء الله؛ لأن فيه رد ما قاله بمشيئة الله تعالىً. قوله: (في هذا أيضًا دليل بين على أن الرجل كان من آل فرعون)، إشارة إلى ما سبق له في تفسير قوله تعالى: {وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وهو قوله: "وقول المؤمن: {فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} دليل ظاهر على أنه يتنصح قومه"، يعني: كما كان في تلك الآية دلالة ظاهرة على أن المؤمن من آل فرعون، كذلك في هذه الآية؛ لإضافة القوم إلى نفسه مرتين. وقوله: "اتبعوني" ولم يقل: اتبعوا موسى، وسلوك طريقة الإجمال والتفصيل، والمبالغة في التحذير والإنذار؛ لأن مثل هذه النصيحة وإمحاضها قلما يصدر من الأجانب، كما

والرشاد: نقيض الغي. وفيه تعريض سبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي. [{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا ومَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} 40] {فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا}؛ لأن الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة؛ لأنها ظلم، وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة؛ لأنها فضل. قرئ: {يَدْخُلُونَ}، و (يدخلون). {بِغَيْرِ حِسَابٍ} واقع في مقابلة {إلاَّ مِثْلَهَا}، يعني: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير؛ لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "وإنهم قومه وعشيرته، ونصيحتهم عليه واجبة، وسرورهم سروره، وغمهم غمه"، ثم إدخال الفاء الفصيحة بعد الفراغ من النصيحة تتميم للمقصود، يعني: لما فرغ من النصيحة قصدوا إهلاكه ومكروا وهموا بتعذيبه، فوقاه الله مما هموا به، ورجع كيدهم إلى نحورهم. قوله: (والرشاد: نقيض الغي)، الراغب: الرشد والرشد: خلاف الغي، يستعمل استعمال الهداية، قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] وقال بعضهم: الرشد -بالفتح- أخص؛ فإن الرشد -بالضم- يقال في الأمور الدنيوية، وبالفتح في الدنيوية والأخروية، والراشد والرشيد يقال فيهما. قوله: ({يَدْخُلُونَ} و"يدخلون")، ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر: "يدخلون"؛ بضم الياء وفتح الخاء، والباقون: بفتح الياء وضم الخاء. قوله: (فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير)، قال القاضي: ولعل تقسيم العمال، وجعل الجزاء اسمية مصدرة باسم الإشارة، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة والإيمان حالًا؛ للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل، وأن ثوابه أعلى من ذلك.

وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة. [{ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ} 41 - 42] فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء: ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته، وهم فيما يوبقهم، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، ، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك أن لا يتهموه، فإن سرورهم سروره، وغمهم غمه؛ وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم -صلى الله عليه- في نصيحة أبيه: {يَا أَبَتِ} [مريم: 42 - 45]. وأما المجيء بالواو العاطفة: فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث: فداخل على كلام ليس بتلك المثابة: يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهم فيما يوبقهم)، أي: فيما يهلك أنفسهم، "هم" مبتدأ، و"فيما يوبقهم" خبر. قوله: (وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة)، يعني: قوله: {ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ} ليس من جنس الكلام المفسر، وهو {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فجيء بالعاطف ليكون عطفًا على قوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ}، أتاهم بنوعين من الكلام: أحدهما: في الترغيب عن الدنيا وتصغير شأنها، والتحريض على الاطلاع على حقيقة الآخرة وتعظيم شأنها، وعلى ما يقربهم إليها من الأعمال الصالحة، وما يبعدهم عنها من الأعمال السيئة .. وثانيهما: في بيان مجادلة جرت بينهم وبينه، وأنه محق وأنهم مبطلون، وختمها بما ينبئ عن المتاركة بالكلية، وتحقق اعتزاله عنهم وتدميرهم، وهو قوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. وقال القاضي: كرر نداءهم إيقاظًا لهم عن سنة الغفلة، واهتمامًا بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه،

تقول: هداه إلى الطريق وهداه له. {بِهِ عِلْمٌ} أي: بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفي المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس بإله، وليس بإله كيف يصح أن يعلم إلهًا؟ [{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ وأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 43 - 44] {لا جَرَمَ} سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل {لَا} ردًا لما دعاه إليه قومه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعطف {مَا لِي أَدْعُوكُمْ} على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله لا على الأول، فإن ما بعده أيضًا تفسير لما أجمل فيه تصريحًا وتعريضًا. وقلت: يأبي أن يكون الثاني داخلًا في البيان لما فيه من الغلظة والوعيد إلى حلول الدمار وتصريح المتاركة، وقد مر غيره مرة أن دأب الأنبياء والداعين إلى الله سلوك طريق الملاطفة، وسبيل إرخاء العنان في الدعوة، ثم إذا أيقنوا أن ذلك النوع لا يجدي فيهم أتوا بالتوبيخ والتغليظ، ثم بعده بما يؤذن بالمتاركة والإقناط، وبتحقق الفصل بالهلاك والدمار. كذلك سلك هاهنا، ولهذا قال: "وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة"، وبينا مغزاه. قوله: (والمراد بنفي العلم نفي المعلوم)، أي: هو من باب نفي الشيء بنفي لازمه على سبيل الكناية. وعن بعضهم: نفي العلم عن الخاص-بناءً على الدليل الواضح الشامل للكل- يكون نفيًا للعلم عن الكل. قوله: (أن يجعل {لَا} ردًا لما دعاه إليه قومه)، قال الزجاج في سورة "هود": قال المفسرون: المعنى: حقًا إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وزعم سيبويه أن "جرم" بمعنى "حق"، قال الشاعر:

و {جَرَمَ}: فعل بمعنى حق، و"أن" مع ما في حيزه فاعله، أي: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى: أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته. ويجوز أن يقال: إن "لا جرم" نظير "لابد"، فعل من الجرم؛ وهو القطع، كما أن بدا فعل من التبديد؛ وهو التفريق؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة .... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي: حقت فزارة بالغضب. ومعنى "لا" نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك، جرم في الآخرة هم الأخسرون، أي: كتب ذلك الفعل لهم الخسران. وعن بعضهم: "لا" هاهنا كـ"لا"؛ في "لا أقسم" في أنه رد لكلام سابق .. قوله: (و"أن" مع ما في حيزه فاعله)، أي: "ما" في {أَنَّمَا} بمعنى: الذي، أي: حق وثبت أن الذي تدعونني إليه ليس له دعوة، ولما كان معنى قوله: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} قريبًا من معنى: بطل دعوته، رجع تلخيص المعنى إلى أنه حق وثبت بطلان دعوته؛ لما سيجيء بعيد هذا أن معناه: إن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، إلى قوله: "ولو كان حيوانًا ناطقًا لضج من دعائكم". قوله: (أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته)، "ذلك الدعاء": فاعل "كسب"، وهو معنى قوله: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ} وقوله: "بطلان دعوته" معنى قوله: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ}، والضمير راجع إلى المدعو الذي في قوله: {لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وأُشْرِكَ بِهِ}. قوله: (نظير "لابد")، فعلى هذا {جَرَمَ} اسم "لا"، و {جَرَمَ} مرفوع المحل مبتدأ، والخبر {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ}.

فكما أن معنى: لابد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بد لك من فعله، فكذلك {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62]، أي: لا قطع لذلك، بمعنى: أنهم أبدًا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي: لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقًا. وروي عن العرب: لا جرم أنه يفعل، بضم الجيم وسكون الراء، بزنة "بد"، وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد، وعدم وعدم. {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أي: من حق المعبود بالحق أن يدعو إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارًا لدعوة ربهم، وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية، ولو كان حيوانًا ناطقًا لضج من دعائكم. وقوله: {فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ} يعني: أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئًا من دعاء غيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه الله حيوانًا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل: معناه: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو: دعوة مستجابة. جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة. أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمي الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]. {الْمُسْرِفِينَ} عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم يدعو العباد إليها)، يعني: دل التنكير في {دَعْوَةٌ}، وهي نكرة في سياق النفي، على نفي الدعوة عن الأصنام بالكلية، وذلك أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين مثل الملائكة والرسل والعلماء الوارث إلى طاعته، ثم أولئك العباد يدعون غيرهم إلى عبادته إظهارًا لدعوة ربهم، وليس كذلك الأصنام. قوله: (سميت الاستجابة باسم الدعوة)، يعني: أنه من باب المشاكلة، وأصله: إن الذي تدعونني ليس له استجابة، أي: لا يجيب دعوتي، كما في قولك: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تجازى، وأصله: كما تفعل تجازى، لكن قيل: كما تجازى؛ لوقوعه في صحبة "تجازى" الثاني.

السفاكين للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: (فستذكرون) أيك فسيذكر بعضكم بعضًا. {وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ}؛ لأنهم توعدوه. [{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} 45 - 46] {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}: شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى، {وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} ما هموا به من تعذيب المسلمين، ورجع عليهم كيدهم. {النَّارُ} بدل من {سُوءُ العَذَابِ}، أو خبر مبتدأ محذوف، كأن قائلًا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار؛ أو مبتدأ خبره {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}. وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها. وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف؛ إذا قتلهم به وقرئ: (النار) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (السفاكين للدماء بغير حلها) يريد أنه عود إلى بدء، افتتح بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} جوابًا عن قول اللعين: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} فاختتم به تعريضًا. قوله: (وفي هذا الوجه تعظيم للنار)، قال صاحب "التقريب": من حيث الاستئناف. وقلت: الاستئناف غير مختص به؛ لأن السابق أيضًا وارد عليه، بل التعظيم من أن التركيب حينئذ من باب تقوي الحكم وجعل "النار" مبتدأ معتمدًا عليه، وبناء"يعرضون" عليها، فالجواب عن السؤال المقدر جملة الكلام إلى آخر الآية. قيل: سوء العذاب النار المحكوم عليها بكيت وكيت. قوله: (وعرضهم عليها إحراقهم بها)، ونحوه: عرضت الناقة على الحوض، وقول أبي العلاء: إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت .... عن الماء فاشتاقت إليه المناهل

بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير، وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها، ويجوز أن ينتصب على الاختصاص. {غُدُوًا وعَشِيًا} في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم. ويجوز أن يكون {غُدُوًا وعَشِيًا} عبارة عن الدوام، هذا مادامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قبل لهم: (ادخلوا) يا {آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} عذاب جهنم. وقرئ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} أي: يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله: {وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا، وقع فيه منكبا، فإذا فسر {سُوءُ العَذَابِ} بنار جهنم؛ لم يكن مكرهم راجعًا عليهم؛ لأنهم لا يعذبون بجهنم؟ قلت: يجوز أن يهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا؛ لأنه هم بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن يهم فرعون لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن: {وأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي تعضد الوجه الأخير)، أي: جعل "النار" مفعولًا دل على اتصال {النَّارُ} بـ {يُعْرَضُونَ}، فينبغي في ذلك الوجه أيضًا أن يجعل خبرًا لها لتتصل بها، لا استئنافًا كما يقتضيه الوجهان السابقان. قوله: (هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم: ادخلوا)، اقتضى هذا التقدير الواو العاطفة في قوله: {ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}، ووجه اتصاله بالكلام السابق، وإنما أتى في التفسير بالفاء؛ ليؤذن باتصال العذابين في مثل هذا المقام. قوله: (وقرئ: {أَدْخِلُوا}، ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر: " الساعة ادخلوا" بوصل الألف وضم الخاء، ويبتدئونها بالضم. والباقون: بقطعها في الحالين وكسر الخاء.

فيفعل نحو ما فعل نمرود ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهم بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر. [{وإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} 47] واذكر وقت يتحاجون. {تَبَعًا}: تباعًا، كخدم في جمع خادم. أو: ذوي تبع، أي: اتباع، أو وصفًا بالمصدر. [{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ} 48] وقرئ: (كلا) على التأكيد لاسم "إن"، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه يريد: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيفعل) عطف على "أن يهم"، أي: يجوز أن يهم فرعون حينما سمع، فيكون سببًا لأن يقتدي بنمرود ويعذبهم بالنار. قوله: (ويستدل بهذا الآية على إثبات عذاب القبر)، قال الإمام: احتج أصحابنا بها على إثبات عذاب القبر، قالوا: الآية تقضي عرض النار عليهم غدوا وعشيًا، وليس المراد يوم القيامة لقوله تعالى {ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46]، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم. ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض ليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.

إنا كلنا- أو: كلنا- فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون (كلا) حالًا قد عمل فيها {فِيهَا}؟ قلت: لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدمًا، تقول: كل يوم لك ثوب، ولا تقول: قائمًا في الدار زيد. {قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ}: قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. [{وقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ العَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} 49 - 50] {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ}: للقوام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها! قلت: لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنا كلنا- أو: كلنا- فيها)، والرفع أبلغ؛ لأن "كلنا" مبتدأ و"فيها" الخبر، والجملة خبر"إن"، فيكون "كل" مقصودًا بالذكر بخلاف النصب؛ لأنه فضلة في الكلام. قال ابن جني: زيد ضربته، أقوى من قولنا: زيدًا ضربت؛ لأن" زيدًا" في الأول رب الجملة، وفي الثاني فضلة. قوله: (لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدمًا)، قال صاحب"التقريب": وفيه نظر؛ لأنه ذكر في "الواقعة" بخلافه، قال: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} وهو العامل فيها، أي: استقروا عليها متكئين. وقلت: ليس بخلاف ما ذكر في "الواقعة" لأنه قال: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} أي: في قوله: {عَلَى سُرُرٍ} [الطور: 20] لا في قوله: {عَلَيْهَا}، وذلك أن {عَلَى سُرُرٍ} إما خبر لـ {ثُلَّةٌ}، والعامل الاستقرار، أو حال من الضمير في {مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] إذا جعل {ثُلَّةٌ} خبر مبتدأ محذوف، فالمعنى: هم مستقرون على سرر متكئين، {عَلَيْهَا} صلة {مُتَّكِئِينَ}. قوله: (لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا)، الانتصاف: هذا الوجه أظهر من الثاني،

قعرًا، من قولهم: بئر جهنام: بعيدة القعر، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها؛ لزعمهم أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر: قليذم من العياليم الخسف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتفخيم فيه من وضع الظاهر موضع المضمر. والثاني أن جهنم أفظع من النار، إذ النار مطلقة، وجهنم أفظعها. قوله: (في النابغة) بالنون والغين المعجمة، ويروى: "في التابعة"، بالتاء والعين المهملة. عن بعضهم: التابعة: الذي يكون مع الجني وهو الذي يلقي على الكهنة والشعراء أشياء على زعمهم، وربما يجعلونه غولًا وجنية أيضًا. قوله: (أنه يلقي الشعر على لسان المنتسب إليه)، قيل: يروى: "يلقي" بفتح اللام وتشديد القاف، كأنه اقتبس من قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] و"على لسان" متعلق بمحذوف، أي: جاريًا على لسان المنسب إليه، والمراد بالمنتسب إليه العالم به علمًا كاملًا بحيث إذا ذكر إنما ذكر بطريق النسبة إليه لشهرته بحذاقته، كما يقال للفائق في النحو: النحوي. وإذا روي بسكون اللام وكسر القاف الخفيفة، ف"على" متعلق به، و"المنتسب إليه" التابعة، يعني: إذا قال شعرًا ألقاه على لسانه، فإنه يلقيه على لسان من ينسب إليه الشعر. وقيل: المراد بالمنتسب إليه الجني، أي: أنه لقي الشعر على الناس كائنًا على لسان الجني الذي انتسب إليه كما يلقي الجن على الكهنة والشعراء أشياء. قوله: (قليذم من العياليم الخسف)، أوله: أودى جميع العلم مذ أودى خلف .... من لا يعد العلم إلا ما عرف رواية لا يجتني من الصحف

وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة؛ لزيادة قربهم من الله؛ فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم. {أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ} إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعلطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات، {قَالُوا فَادْعُوا} أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القليذم: صح بفتح القاف والذال؛ البحر الكثير الماء. والعيلم: الركية الكثيرة الماء. والخسف: البئر التي تخفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها، والجمع: خسف. رواية: كثير الرواية. قوله: لايجتني العلم من الصحف، بل هو محفوظ في صدره. خلف هذا قيل: هو خلف بن أحمد بن الأحمر، وهو الذي قيل فيه: خلف بن أحمر أحمر الأخلاف .... أربى بسؤدده على الأسلاف قوله: (أجوب دعوة)، أي: أشد إجابة من جهة الدعوة، أي: دعاؤهم أقرب إلى الإجابة. قوله: (كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها)، قلت: الشرط الأول مدفوع بما روينا عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". أخرجه الترمذي وأبو داود. وفي أخرى للترمذي قال جابر: "من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة". والقيد في الشرط الثاني مردود بقوله صلوات الله عليه: "ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة". أخرجه

{فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، وإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه، كيف يسمع دعاء الكافر! [{إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 51 - 52] {فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} أي: في الدنيا والآخرة، يعني: أنه يغلبهم في الدارين جميعًا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانًا من الله، فالعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين. والأشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. واليوم الثاني بدل من الأول، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع؛ لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسلم عن أبي الزبير. ولذلك قال الإمام: تقول الملائكة للكفار: لا يشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له مؤمنا. والثاني: حصول الإذن في الشفاعة. وينصر هذا التأويل قوله: {أَوَ لَمْ تَكُ تَاتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ}، ووضع الظاهر موضع المضمر للإشعار بالعلية وأن المانع هو صفة الكفر. قوله: (ويتيح الله)، الجوهري: تاح له الشيء وأتيح له الشيء: قدر له. قوله: (يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع؛ لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة)، الانتصاف: هما الاحتمالان في قوله: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، لكن هاهنا يصير المعنى عكس الآخر على تقدير: ألا يكون لهم عذر ينفي صفة المعذرة وهي

لقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. {ولَهُمُ اللَّعْنَةُ}: البعد من رحمة الله، {ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي: سوء دار الآخرة؛ وهو عذابها. وقرئ: {يَقُومُ} و {لا يَنفَعُ} بالتاء والياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المنفعة، أي: إذا لم تحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع ما لا ثمرة فيه؟ وفي تلك الآية جعل نفي الموصوف تبعًا لنفي الصفة، فهاهنا الأولى بالنفي الصفة، وفي هناك الأولى بالنفي الذات. وقلت: الكلام يفتقر إلى فضل بسط، وهو أن ما في تلك الآية وأمثالها من باب نفي الشيء بنفي لازمه، يعني: لما أريد نفي الشفيع مثلًا شفع بالتشفيع، فجعل انتفاء الشفيع دليلًا على انتفاء التشفيع بالطريق النهائي. وتلخيصه: أنه إذا لم يحصل الشفع فكيف يحصل التشفيع وهاهنا بالعكس؛ لأن الأصل ليس لهم معذرة نافعة، فعدل إلى "لا ينفع الظالمين معذرتهم" للمبالغة، وجعل انتفاء النفع دليلًا على انتفاء العذر، وعليه كلام صاحب "الانتصاف": وإذا لم يحصل ثمرة العذر فكيف يقع ما لا ثمرة له؟ فحينئذ ينتفي النفع بالطريق المذكور؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها؛ ألا ترى إلى المصنف كيف قال في تلك الآية: ضمت الصفة إلى الموصوف؛ ليقام انتفاء الموصوف في مقامه الشاهد على انتفاء الصفة؛ لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. قوله: (لقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]، قال: {فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {وَلَا يُؤْذَنُ} منخرط في سلك المنفي، والمعنى: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، وقد روعي في الآيتين المناسبة بين الفقرتين. ولما قال هناك: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} شفعه بنفي الشفيع والتشفيع، ولما أوقع الكلام هاهنا على نفي المنفعة قرنه بإثبات المضرة، حيث قال: {ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. قوله: (وقرئ: {يَقُومُ} و {لا يَنفَعُ} بالتاء والياء)، والكوفيون ونافع: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.

[{ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ * هُدًى وذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 53 - 54] يريد بالهدى: جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع. {وأَوْرَثْنَا}: وتركنا على بني إسرائيل من بعده {الكِتَابَ} أي: التوراة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتركنا على بني إسرائيل من بعده الكتاب)، يعني: استعير {وأَوْرَثْنَا} لـ: تركنا. النهاية: في أسماء الله تعالى "الوارث"، وهو الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، ومنه: "اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني"، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وفيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي الناطق بالحكمة والموعظة، ألا ترى كيف أطلق الهدى في قوله: " ولقد آتينا موسى الهدى" ليكون شائعًا في جميع جنسه، فيتناول جميع ما آتاه الله في باب الدين، ثم جعل نصيب أمته الكتاب وحده؟ وكيف أومأ إليه سيدنا صلوات الله عليه في قوله: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طريق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". أخرجه أبو داود والترمذي، عن قيس بن كثير، عن أبي الدرداء. قال صاحب "الجامع": معنى وضع أجنحة الملائكة التواضع والخشوع تعظيمًا للطالب وتوقيرًا للعلم، قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]. وقيل: معناه الكف عن الطيران، أي: لا يزول عنده، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة".

{هُدًى وذِكْرَى}: إرشادًا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له، أو على الحال. وأولوا الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه. [{فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ والإبْكَارِ} 55] {فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني أن نصرة الرسل في ضمان الله، وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى، واستدراك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومبلغ ملك أمتك مشارق الأرض ومغاربها)، إشارة إلى ما روينا عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها". أخرجه مسلم وأبو داود والترميذي، وأخرجه الإمام أحمد ابن حنبل عن شداد بن أوس. وقلت: هذا الذي ذكره وإن كان غرضًا يصار إليه، لكن النظم يقتضي أبلغ من ذلك، وهو أن يقال: {فَاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [غافر: 55]، يعني: أنه ينصرك على أعدائك كما نصر موسى على أعدائه، ويظهرك على الدين كله، ويورث هذا الكتاب الكريم الذين اصطفينا من عبادنا ليعتصموا به، فيكون لهم هدى ينالون به رضا الله وزلفاه في العقبى وذكرًا أي: شرقًا وغربًا، كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، فيملكون به مشارق الأرض ومغاربها.

عليه {بِالْعَشِيِّ والإبْكَارِ}. وقيل: هما صلاتا العصر والفجر. [{إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 56] {إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ}: إلا تكبر وتعظم؛ وهو إرادة التقدم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم؛ ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك؛ لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة؛ أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسدًا وبغيًا، ويدل عليه قوله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]؛ أو إرادة دفع الآيات بالجدال. {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أي: ببالغي موجب الكبر ومقتضيه؛ وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو النبوة أو دفع الآيات. وقيل: المجادلون: هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود- يريدون الدجال- ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرًا، ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فالتجئ إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لما تقول ويقولون، {البَصِيرُ} بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويدل عليه {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ})، [الأحقاف: 11] أي: يدل على أن المراد من الكبر إرادة أن تكون لهم النبوة، وأن المجادلين في قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الذين جادلوا في أمر النبوة، وأنه لم اختص بك دونهم، وأن تلك المجادلة لم تكن إلا من الكبر والحسد. قوله: (ويدل عليه قوله: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ})، لأن مثل هذه المجادلة لا تصدر إلا من الحاسد والباغي؛ لأن الله يختص بنبوته من يشاء، وليس تناولها والاختصاص بها من المسابقة، وما نشأ ذلك الحسد إلا من الكبر. قوله: (وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو من النبوة أو دفع الآيات)، نشر للوجوه الثلاثة.

[{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 57] فإن قلت: كيف اتصل قوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض؛ لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلق الإنسان_ مع مهانته_ أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله، {لا يَعْلَمُونَ}؛ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إتكار البعث)، هذا مناسب للوجه الثالث من تفسير الكبر، وهو قوله: " أو إرادة دفع الآيات بالجدال". المعنى: إن الذين يجادلون في الآيات الدالة على إثبات الحشر والنشر والبعث لم تكن تلك المجادلة منهم من حجة وبرهان، لكن مما في قلوبهم من الكبر واستبعاد قدرة الله، فقل لهم: من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظمتهما كان على خلق أمثالكم في المهانة أقدر، وهو كقولهم تكبراُ وعنادًا واستكبارًا: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا} [يس: 79] إلى قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] أي: مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض، وينصر هذا التأويل قوله: {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون ما في البعث من الحكمة؛ لأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، ولا يتم ذلك إلا بمجيء الساعة {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا}. وقال القاضي: {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}: لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم، وما يستوي العاقل والمتبصر، وينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، وهي فيما بعد البعث.

[{ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا المُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} 58] ضرب الأعمى والبصير مثلًا للمحسن والمسيء. وقرئ: {تَتَذَكَّرُونَ} بالياء والتاء، والتاء أعم. [{إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} 59] {لاَّ رَيْبَ فِيهَا}: لا بد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها؛ لأنه لا بد من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَتّذَكَّرُونَ} بالياء والتاء)، عاصم وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. قوله: (والتاء أعم)، قال صاحب "التقريب": إنما أتم لتغليب الخطاب على الغيبة. وقال القاضي: لدلالة التاء على تغليب المخاطب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة. قلت: التغليب وإن كان أعم؛ لأنه أشمل في التناول، ولكن غير مناسب للمقام، وأما الالتفات فإنه أتم فائدة وهو أنسب للمقام. وهذه الآية متصلة بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وهو كلام مع المجادلين، كما قال: فحجوا بخلق السماوات والأرض. والعدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العن الشديد والإنكار البليغ. وقال القاضي: وزيادة "لا" في {المُسِيءُ} لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة. قوله: (وليس بمرتاب فيها)، عطف تفسيري على قوله: "لا بد من مجيئها" وليس من شأنها أن يرتاب فيها المرتاب، وإن إرتاب فيها المبطلون فليس من روية وتفكر.

جزاء. {لا يُؤْمِنُونَ}: لا يصدقون بها. [{وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 60] {ادْعُونِي}: اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، ويدل عليه قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}. والاستجابة: الإثابة، وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن وقد سئل عنها: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري: أنه قيل له: ادع الله، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث: "إذا شغل عبدي طاعتي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا)، عن الإمام مالك، عن نافع: أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول: " اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وإنك لا تخلف المعياد، فإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم". قوله: (إن ترك الذنوب هو الدعاء)، يعني: أن المذنب متجرئ على الله مستكبر عن عبادته لا يعرف جلاله وعظمته، والمجتنب عن الذنب مطيع لربه خاضع مستكين مستحي لجلاله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا". فإذن قوله: "إن ترك الذنوب هو الدعاء" من الجوامع. قوله: (إذا شغل عبدي طاعتي)، الحديث من رواية أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". أخرجه الترمذي والدارمي.

عن الدعاء، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". وروى النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهر هما ويريد ب {عِبَادَتِي}: دعائي؛ لأن الدعاء باب من العبادة، ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيًا مرسلا: كان يقول لكل نبي: أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروى النعمان بن بشير)، الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عنه. قوله: (ويجوز أن يريد الدعاء)، فيكون قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} تعليلًا للأمر بالدعاء لمعنى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} لأن من لا يدعو فهو مستكبر، فأنا أعذبه، فوضع الدعاء العبادة ليؤذن بأن الدعاء مخ العبادة، عن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة". وأوقع الصلة {يَسْتَكْبِرُونَ} ليشعر بأن الدعاء هو الخضوع للباري، وفيه إظهار الافتقار والاستكانة. روينا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه"، وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل". وهذه الآية معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} لجامع وجود المجادلة في الآيات، وإما بحسب ترك الدعاء والعبادة، وما بينهما استطراد لحديث المجادلة في البعث.

وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم. وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد. {دَاخِرِينَ}: صاغرين. [{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِرًا إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 61] {مُبْصِرًا} من الإسناد المجازي؛ لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولًا لها فيراعى الآخر؛ لأنه لو قيل: لتبصروا فيه: فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباس)، عطف على قوله: " {ادْعُونِي}: اعبدوني"، يعني: معنى {ادْعُونِي}: وحدوني. ومعنى {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: أغفر لكم. فدل {ادْعُونِي} على: اعبدوني، ودل "اعبدوني " على: وحدوني، فهو كناية تلويحية لوجود لوازم ليتصل إلى المقصود، هذا معنى قوله: "وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد"، وينصره قوله: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} الآيات. قوله: (فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي)، وذلك أن الملابس إذا وصف بصفة الملابس به كان ذلك إيذانًا بكمال ذلك الوصف في الأصل، وأنه سرى منه إليه لكثرة صدوره منه، فإذا قيل: " نهاره صائم" بدل "هو في النهار صائم" أفاد أنه بلغ فيه إلى أن اتصف نهاره بصفته. وكذلك المراد في الآية المبالغة في رصف تهيؤ أسباب المعاش وسهولة تأتيها؛ لأن زمان التعيش هو النهار لنورانيته واستزادة قوة المبصر فيه، فجعل كأنه هو المبصر، ولو قيل: "لتبصروا" لم يعلم ذلك.

ولو قيل: ساكنًا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولو قيل: ساكنًا ... لم يتميز الحقيقة من المجاز)، وذلك أن "ساكنًا" يجوز حمله على الحقيقة كما قال، ويجوز حمله على المجاز. ولو قيل: " ساكنًا" لبقي اللفظ دائرًا بين المعنيين أحدهما المقصود- وهو إرادة المجاز- إذ المراد أن يكون الناس في الليل ساكنين، والآخر غير مقصود- وهو إرادة الحقيقة_ فوجب التصريح بقوله: "لتسكنوا" لئلا يلتبس الغرض. قال صاحب "الفرائد": قوله: {اللَّيْلَ} يجوز أن يوصف على الحقيقة بالسكون منظور فيه لأن إضافة السكون إلى الليل باعتبار أنه لا ريح فيه، فالسكون للريح في الحقيقة لا لليل، ولا يلزم من قولهم: "ليل ساج وساكن" أن يكون السكون لليل حقيقة، فليتأمل. والجواب: أن من المجاز ما يسبق منه إلى الفهم بحسب كثرة الاستعمال معنى المنقول إليه لا المنقول منه، فإذا قلت: "جعل الليل ساكنًا" لم يتبادر منه سكون الريح، بل يفهم منه هدوؤه، وعلى تقدير جواز المجاز لا يتم المقصود؛ لأن القصد أن ينتقل الإسناد من الإنسان إليه، كما في {والنَّهَارَ مُبْصِرًا} لا من الريح. هذا وإن كلام المصنف مدخول فيه من جهة أخرى؛ لأنه كان ينبغي له أن يبين فائدة الاختلاف، لأنه لو قيل: " ساكنًا" لم تتبين الحقيقة من المجاز، على أنه لو أريد ب"ساكنًا" الإسناد المجازي لم يلتبس لقرينة التقابل، وهو كثيرًا يسلك هذا المسلك، والفائدة فيه أن الكلام وارد على الامتنان، والامتنان بجعل النهار مبصرًا أدخل من جعل الليل لتسكنوا؛ لأن رغبة الناس في ابتغاء الفضل والتهيؤ للمعاش في النهار أكثر من النوم في الليل، فعدل في إحدى القرينتين من الظاهر، وقال: {مُبْصِرًا} بدل "لتبصروا فيه" للمبالغة، وترك الأخرى على الظاهر لهذه الدقيقة، ومن ثم جاء في موضع آخر: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، والسبات: الموت. روي عن أبي الهيثم أنه قال: المناسب أن ينسب السكون إلى الليل؛ لأن الحركة إما حركة طبع أو اختيار، وحركة الطبع من الحرارة، وحركة الاختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس، فخلق الليل باردًا مظلمًا.

ليل ساج، وساكن لا ريح فيه - لم يتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو: لمتفضل! قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلًا لا يوازنه فضل، وذاك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل: ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: لتستريحوا فيه بأن خلقه باردًا مظلمًا؛ ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس. قوله: (وذاك إنما يستوي بالإضافة)، أي: إذا جعل "فضل" مضافًا إليه يرجع معنى التنكير إليه، أي: فضل، ولو قيل: متفضل لم يكن هذا المعنى. قوله: (في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم)، قال صاحب "الفرائد": وضع الظاهر موضع المضمر؛ للإيذان بأنهم لا يشكرون لكونهم ناسًا؛ لأن الشر معجون في طينة الناس، وهو الغالب عليهم. قال الراغب في "غرة التنزيل": فإن قيل: لم اختلف أواخر هذه الآي، أعني {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بعده: {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} وبعده: {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}، ثم بعده: {إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}؟ الجواب: إن من أقر بخلق السماوات والأرض ثم أنكر الإعادة، فالمناسب أن ينبه على ذلك بأن يقال له: إن من قدر على الأكبر فهو أقدر على الأصغر، فلذلك اختص بنفي العلم؛ لأن العلم هو المحتاج إليه والمبعوث عليه، وإن من أنكر البعث فهو محتاج إلى الإيمان به بعد علمه بأن القادر على خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وأما قوله: {إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} فمعناه: ومن كان الله عليه فضل فهو محتاج إلى أن يؤدي حقه بالشكر وبما يستديمها له ويربطها لديه.

فضل الله ولا يشكرونه، ، كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [الزخرف: 15]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. [{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 62 - 63] {ذَلِكُمُ} المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ} أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية، وخلق كل شيء، وإنشائه، لا يمتنع عليه شيء؛ والوحدانية: لا ثاني له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: فكيف ومن أي وجه يصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن ل من جحد بآيات الله، ولم يتأملها، ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: (خالق كل شيء) نصبًا على الاختصاص، و {تُؤْفَكُونَ} بالتاء والياء. [{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ * هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 64 - 65] هذه أيضًا دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة؛ وهي أنه جعل الأرض مستقرًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أفك كما أفكوا)، قال محيي السنة: كما أفكتم عن الحق مع قيام الدليل، {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. قوله: (هذه أيضًا دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة)، يريد أن قوله تعالى: {اللهُ

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي: قبة، ومنه: أبنية العرب؛ لمضاربهم؛ لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض. {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وقرئ بكسر الصاد، والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانًا أحسن صورة من الإنسان. وقيل: لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله: {في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. {فَادْعُوهُ}: فاعبدوه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى آخره قد بني فيه الخبر وهو الموصولة المشتملة على صلات هي أفعال يختص بها الباري على الاسم الجامع ليتم بها عن الغير، كذلك قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا}، وكما أن قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أتى ليشير به إلى أن الموصوف بتلك الصفات المذكورة مستحق لأن يكون ربا خالقًا لا إله إلا هو، كذلك قوله: {هُوَ الحَيُّ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ}، وإن جيء بالضمير بدل اسم الإشارة. وأما قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنء تُرَابٍ} فإن المبتدأ وإن بني على الموصولة المشتملة على الصلوات المختلفة، لكن استغلاله في الدلالة على التميز ليس كاستغلالهما؛ لأنه من تتمة قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، ولذلك اكتفي بالضمير دون الاسم الجامع، ولم يؤت باسم الإشارة أو بما يقوم مقامه من الضمير لانبناء التوحيد عليه، لكن فيه اعتناء بدليل الأنفس لذكره أولًا مجملًا ثم مفصلًا ثانيًا، والله أعلم. قوله: ({بِنَاءً})، عن بعضهم: ومنه يقال للنطع: البناء والمبنأة؛ لأنهم يتخذون منه أبنية. وفي الحديث: "طرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء في يوم مطير"، أي: نطع. قوله: (لم يخلق حيوانًا أحسن صورة من الإنسان)، قال القاضي: أحسن صوركم بأن خلقكم منتصب القامة، بادي البشرة، متناسب الأعضاء والتخطيطات، متهيئًا لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. قوله: ({فَادْعُوهُ}: فاعبدوه)، وإنما فسر الدعاء بالعبادة؛ لأنه أمر يترتب على

{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الطاعة من الشرك والرياء، قائلين: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}. وعن ابن عباس رضي الله عنه: من قال: لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين. [{قُلْ إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} 66] فإن قلت: أما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى، ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأوصاف السابقة، وهي تقتضي غاية الخضوع والتذلل وليست إلا العبادة، وعدل منها إلى الدعاء؛ لأنها محض الافتقار وفيها نهاية الانكسار، ولما كان المطلوب غاية الخضوع والإخلاص جيء بمفعول {مُخْلِصِين}، وقد الصلة على المفعول به؛ ليؤذن بأن الإخلاص في العبادة مطلوب لذاته. والإخلاص في الإخلاص هو أن يخلص الإخلاص؛ لتكون له الطاعة لا لشيء آخر. قوله: (من قال: لا إله إلا الله، فليقل في أثرها: الحمد لله)، وذلك أن قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أمر بالإخلاص عقب بالتحميد ورتب على التهليل، يعني: إذا تكلمت بكلمة التوحيد فاعمل بالإخلاص، فإنه من مقتضاه، ثم احمد الله على التوفيق، كما قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". قوله: (بلى، ولكن البينات لما كانت مقوية) إلى آخره، الانتصاف: معرفة الله ووحدانيته معلومتان بالعقل، ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية، أما وجوب عبادة الله وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعي، فقوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} أي: حرم علي، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة خلافًا للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع للتحسين والتقبيح. ثم قوله: " إنما تقوي أدلة

ومضمنة ذكرها -نحو قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96] وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكرًا الأدلة العقل والسمع جميعًا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعًا؛ لأن ذكر تناصر الأدلة، أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية. [{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 67] {لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك {لِتَكُونُوا}. وأما {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} معناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلًا مسمًى، وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة. ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العقل" باطل؛ لأن القطعي لا يقبل القوة. وقلت -والله أعلم-: إن مغزى الكلام على التعريض وإرخاء العنان وجريان البيان على الألف والاستمرار على المألوف، يعني: قضية التقليد توجب ما أنتم عليه، ولكني خصصت بأمر دونكم فتأملوا فيه واستعملوا عقولكم فيه، وأنتم مراجيح العقول، كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَاتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 43 - 44] ولما كان المقصود قطع المألوف كان الجواب العتيد: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46]. قوله: (وهو وقت الموت. وقيل: يوم القيامة)، هذا هو الوجه؛ لأن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا موقف الجزاء، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [يونس: 4] الآية.

وقرئ: (شِيوخًا)، بكسر الشين. و (شيخًا)، على التوحيد، كقوله: {طِفْلًا} [الحج: 5]، والمعنى: كل واحد منكم. واقتصر على الواحد؛ لأنّ الغرض بيان الجنس. {مِنْ قَبْلُ}: من قبل الشيخوخة، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطًا، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما في ذلك من العبر والحجج. [{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 68] {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّما} يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدورًا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرًا كان أهون شيء وأسرعه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ "شيوخًا")، ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي. قوله: (فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرًا كان أهون شيء وأسرعه)، والمعنى: اعلموا وتنبهوا على أن من كان قادرًا على تلك المقدورات العظيمة كما شاء كيف شاء ومتى شاء بلا مانع ولا مدافع، كان أمره إذا قضى أمر الإعادة وجد كأهون شيء وأسرعه، وإنما قيدناه بذكر الإعادة؛ لأن جميع ما ذكر من الآيات عقيب قوله: {إنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}، وقد عطف على هذا المجموع مجموع قوله: {وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} على طريق الحصول والوجود، وتفويض الترتيب بينها إلى الذهن، يعني: لما اقتضت الحكمة إيجاد الخلق للعبادة ثم ترتب الجزاء عليها وذلك عند قيام الساعة، فلا بد من حصولهما، {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} يستكبرون عن العبادة وينكرون الإعادة، "أفلا يتفكرون" في تلك الدلائل الدالة على كمال القدرة ونفاذ الإرادة؛ ليعلموا أن من كان قادرًا على ذلك كان أمر الإعادة أهون شيء وأسرعه عليه، والله أعلم.

[{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ * ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 69 - 76] {بِالْكِتابِ}: بالقرآن {وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا} من الكتب. فإن قلت: وهل قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت: المعنى على إذا، إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في إخبار الله تعالى متيقنة مقطوعًا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: فإذا أراد شيئًا كان، فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة من حيث إنه تعالى يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد. وقلت: في هذا التنبيه تقريع عظيم للمجادلين في الآيات الشاهدة على إثبات البعث واستبعادهم الإعادة، ولذلك جعل هذه النتيجة تخلصًا وكرًا إلى إعادة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ} على سبيل التعجب والتعجيب، وسجل على جهالتهم وصرفهم عن الطريق الحق مع قيام تلك الحجج القاطعة والبراهين الساطعة بقوله: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}، كما قال في تلك الآية: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]. قوله: (والمعنى على "إذا")، ويروى على "إذ"، أي: فسوف يعلمون حين الأغلال في أعناقهم. قال أبو البقاء: "إذ" ظرف زمان ماض، والمراد بها الاستقبال ها هنا؛ لقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.

وعن ابن عباس: (والسلاسل يسحبون) بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه: (والسلاسل يسحبون) بجر "السلاسل"، ووجهه: أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال، مكان قوله: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} لكان صحيحًا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن ابن عباس: "والسلاسل يسحبون"؛ بالنصب)، قال ابن جني: وقرأها ابن مسعود، والتقدير: إذ الأغلال في أعناقهم ويسحبون السلاسل، بفتح الياء واللام بعطف الجملة الفعلية على الاسمية، ونحوه قول الشاعر: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد .... أموف بأدراع ابن طيبة أم تذم أي: أنت موف بها أم تذم؟ فقابل بالمبتدأ الخبر الذي من الفعل والمفعول الجاري مجرى الفاعل، على أن {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} يشبه في اللفظ الجملة الفعلية لتقدم الظرف على المبتدأ كتقدم الفعل على الفاعل مع قوة شبه الظرف بالفعل، على أن أبا الحسن يرفع "زيدًا"- من قولك: في الدار زيد- بالظرف، كما يرفعه بالفعل. ومن غريب شبه الظرف بالفعل أنهم لم يجيزوا في قولهم: "فيك يرغب"، أن يكون "فيك" مرفوعًا بالابتداء، وفي "يرغب" ضمير، كقولك: زيد يضرب، لن الفعل لا يرفع بالابتداء، فكذلك الظرف، ومن ذلك أيضًا قوله: زمان علي غراب غداف .... فطيره الشيب عني فطارا فعطف الفعل على الظرف، وفي الأمثلة كثرة. نم كلام ابن جني. قوله: (بجر "السلاسل")، قال مكي: هذا على العطف على الأعناق غلط؛ لأنه يصير الأعناق في السلاسل، ولا معنى للغل في السلسة، ومن ثم قال المصنف: "ووجهه أنه لو قيل" إلى آخره، تصحيحًا له.

مستقيمًا، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله" (وَالسَّلاسِلِ) على العبارة الأخرى، ونظيره: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة .... ولا ناعب كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: (وبالسلاسل يسحبون). {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}: من سجر التنور؛ إذا ملأه بالوقود. ومنه: السجير، كأنه سجر بالحب، أي: ملئ. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى: {نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6 - 7]. اللهم أجرنا من نارك، فإنا عائذون بجوارك. {ضَلُّوا عَنَّا}: غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]: أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت: يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم؟ وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم. {بَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنه السجير)، كأنه سجر بالحب، الجوهري: سجير الرجل: خليله وصفيه، والجمع: السجراء. قوله: ({ضَلُّوا عَنَّا}: غابوا عن عيوننا)، الجوهري: ضللت الدار والمسجد، إذا لم تعرف موضعهما، وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى له. وفي الحديث: "لعلي أضل الله"، يريد: أضل عنه، أي: أخفى عليه، من قوله تعالى: {أئِذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْضِ} [السجدة: 10] أي: خفينا. قوله: (مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم)، هذا إنما يستقيم إذا فسر {ضَلُّوا

لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئًا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئًا، كما تقول: حسبت أنّ فلانًا شيء فإذا هو ليس بشيء؛ إذا خبرته فلم تر عنده خيرًا. {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا، {ذلِكُمْ} الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الشرك وعبادة الأوثان، {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم، قال الله تعالى: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]، {خالِدِينَ}: مقدّرين الخلود {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن الحق المستخفين به مثواكم، أو جهنم: فإن قلت: أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَنَّا} غابوا عنا، لا على أن يكونوا معهم في سائر الأوقات؛ إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضلوا على طريق المشاكلة، وإليه الإشارة بقوله: "حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا"، وإنما ركب هذا المتعسف؛ لأن إسناد الإضلال إلى الله غير جائز عنده؛ وإلا فالمعنى على التذييل. وقال محيي السنة: كما أضل هؤلاء يضل الله الكافرين. والقاضي: مثل هذا الإضلال يضل الله الكافرين حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة. وذهب هذا عن صاحب "التقريب" حتى تبع المصنف فيه. قوله: (مثواكم أو جهنم)، إشارة إلى أن المخصوص بالذم هذا أو ذاك؛ لأن {الْمُتَكَبِّرِينَ} إذا كان من وضع المظهر موضع المضمر للعلية بدليل قوله: {ادْخُلُوا}، كان التقدير: فبئس المثوى مثواكم، وإذا كان عامًا ليدخلوا فيه دخولًا أوليًا كان التقدير: فبئس المثوى جهنم. قوله: (أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل)، حين صدر الكلام بلفظ {ادْخُلُوا} ناسب أن يجاء في العجز بـ"مدخل" ليتجاوبا؟ وأجاب: إنما لم يناسبه إذا اكتفى بقوله:

المتكبرين، كما تقول: زر بيت الله فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. [{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} 77] {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله: فإن نرك، و"ما" مزيدة لتأكيد معنى الشرط؛ ولذلك ألحقت النون بالفعل، ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت: لا يخلو: إما أن تعطف {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} على {نُرِيَنَّكَ} وتشركهما في جزاء واحد؛ وهو قوله: {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} فقولك: فإمّا نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن جعلت {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} مختصًا بالمعطوف الذي هو {نَتَوَفَّيَنَّكَ}، بقي المعطوف عليه بغير جزاء. قلت: {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} متعلق بـ {نَتَوَفَّيَنَّكَ}، وجزاء {نُرِيَنَّكَ} محذوف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {ادْخُلُوا} ولم يقيد بالخلود، ولما قيد به كان معناه مع التقييد معنى {مَثْوَى} فصح التجاوب. قوله: (و"ما" مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون)، الانتصاف: أي: المصحح لدخول نون التوكيد دخول "ما" على الشرط، ولولاه لم يجز؛ لأن النون المؤكدة مخصوصة بغير الواجب، والشرط من قسم الواجب؛ إلا أنه إذا أكد قوي بها، فساغ دخول النون. قوله: ({فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} متعلق بـ {نَتَوَفَّيَنَّكَ}، وجزاء {نُرِيَنَّكَ} محذوف)، الانتصاف: أما حذف الأول دون الثاني؛ لأن الأول إذا وقع فهو غاية الأمل في إنكائهم، وإن لم يقع دفع الثاني وهو الذي يحتاج إليه في التسلية. وقال القاضي: ويجوز أن يكون {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} جوابًا لهما، بمعنى: إن تعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، ويدل على شدته الاقتصار بذكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرجوع في هذا المعرض. وقلت: تفسير المصنف آذن بالعذاب الواقع في الدنيا مهتم بشأنه معقود به الهمة؛ لأن المعنى: فذاك مناك ومطلوبك، وأما الأخروي فلا بد من كينونته. وتفسير القاضي دل على أن الاهتمام ببيان الأخروي والدنيوي إن وقع أو لم يقع سواء، والمصنف فسر ما في "الرعد" بما يوافق تفسير القاضي، حيث قال: " {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما أوعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو توفيناك قبل ذلك فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم"، حيث جعل "أريناك" و"توفيناك" بيانًا لأحوال الدائرة، وأوقع قوله: "فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب" المعبر عن قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [الرعد: 40] جزاءً للشرط. فإن قلت: ما الفرق؟ قلت: بين المقامين بون بعيد؛ لأن الجزاء في "الرعد" مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ودال على الردع عن توقع الحساب والعقاب، وأن عليه تبليغ الرسالة فحسب، والجزاء ها هنا مختص بالكفار، ولذلك ما جوز أن يكون جوابًا لقوله: {نُرِيَنَّكَ} ولا له ولقوله: {نَتَوَفَّيَنَّكَ} معًا؛ لأن هذا المقام مقام التسلية والتصبير على أذى القوم، والتشفي عنهم مطلوب، ولا سيما قد فازوا بمباغيهم يوم بدر، وقضية النظم يساعد هذا التقرير، وذلك أن قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} متصل بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ} وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهم على مجادلتهم وتكذيبهم، و {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} ظرف {يَعْلَمُونَ} أي: لم تتعجب من حال هؤلاء المعاندين ومجادلتهم وكفرهم مع ما يفعل بهم من النكال إليه؟ فسوف يعلمون هم سوء عاقبة

تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب؛ وهو القتل [والأسر] يوم بدر، فذاك، أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام، ونحوه قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41 - 42]. [{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} 78] {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} قيل: بعث الله ثمانية آلاف نبىّ: أربعة آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن علىّ رضي الله عنه: أنّ الله تعالى بعث نبيًا أسود، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنادًا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرًا من الرسل وما كان لواحد منهم أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنادهم وكفرهم إذ الغلال في أعناقهم، فاصبر على أذاهم، فإن الله وعد المؤمنين أن يشفي صدورهم بالانتقام منهم في الدنيا، فإما نرينك بعض ذاك فذاك مناك، أو نتوفينك فألينا يرجعون، فيصلون إلى ما أوعدناهم وأعددنا لهم من الخزي والنكال وجر السلاسل والأغلال والسحب إلى جهنم والسجر في النار، فبئس المآل. قوله: قيل (بعث الله ثمانية آلاف نبي)، والصحيح ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم وفى عدة الأنبياء؟ قال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر، جمًا غفيرًا".

فمن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها. {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وعيد وردّ عقيب اقتراح الآيات. وأمر الله: القيامة. {الْمُبْطِلُونَ}: هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات، وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرًا. [{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} 79 - 81] الأنعام: الإبل خاصة. فإن قلت: لم قال: {لِتَرْكَبُوا مِنْها} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمن لي بأن آتي بآية)، أي: فمن يضمن لي الخلاص من عذاب الله بأن آتي بآية مقترحة؟ قوله: (لم قال: {لِتَرْكَبُوا مِنْها})، وجه السؤال: أنه تعالى ذكر أمورًا ولم يجعلها على وتيرة واحدة، إما بأن تسلب لام الغرض منها جميعًا، وإما أن تدخل فيها جميعًا، وخلاصة الجواب: أن الغالب في الأكل وسائر المنافع استيفاء مجرد الشهوة، ولا يناط به أمر ديني إلا في الندرة، فالناس والبهائم فيهما سواء، وان الغالب في الركوب وبلوغ الحاجة عليها قضاء حق العبادة، فلا يكون الاهتمام فيها سواء ففرق باللام. ونظيره قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] قال صاحب "الفرائد": كيف يكون الأكل وإصابة المنافع بدون تعلق إرادته؟ هذا خارج عن حد الاستقامة، والوجه أن يقال: إنما قال: {وَمِنْها تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ} كاللبن والوبر، ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع؛ لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع، وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران، فجيء بما يدل على الاستقبال. وقال صاحب "الانتصاف": بنى الزمخشري على أن الأمر راجع إلى الإرادة، والحق أنه لا ربط بين الأمر والإرادة، والصحيح أن المهم في الأنعام الركوب وبلوغ الحوائج في السفر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنقلة فقرنا ياللام، وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والألبان فهي تابعة بالنسبة إلى الركوب والحمل، فلذلك جردت عن اللام. وقال القاضي: وتغير النظم في الأكل؛ لأنه في حيز الضرورة. وقال صاحب "التقريب": فيما ذكر المصنف نظر؛ إذ قد يكون الأولان لمباح والباقيان لأمر ديني. وقلت: نظير الآية قوله تعالى في "النحل": {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8]، قال المصنف هناك: إنما قدم الظرف في قوله: {وَمِنْهَا تَاكُلُونَ}؛ لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وإنما اختلف في {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}؛ لأن الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن. انتهى كلامه. ولا ارتياب أن أصل الكلام ها هنا: جعل لكم الأنعام لتركبوا منها وتأكلوا منها وتنتفعوا بأصوافها وأوبارها وألبانها ونسلها. ولما كانت هذه العبارة من الجوامع احتمل ما قال المصنف. وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وما ذكره محيي السنة ورواه الواحدي عن مجاهد ومقاتل: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد. وما يعطيه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] من معنى التجمل، قال في تفسيره: من الله بالتجمل بها من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معاظمها، إلى قوله: ويسلبهم الجاه والحرمة عند الناس. وأما معنى التكرير في قوله: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} على رأي مجاهد: فلإناطة معنيين:

{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا}، ولم يقل: لتأكلوا منها، ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون، ومنها تأكلون وتبلغون عليها حاجة في صدوركم! قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم؛ وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به إرادته، ومعنى قوله: {وَعَلَيْها وَعَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: تشبيه الجمال بالسفن، قال في سورة "المؤمنين": وقرنها بالفلك التي هي السفائن؛ لأنها سفائن البر. وثانيهما: إدخال منة أخرى في هذه المنن على سبيل الاستطراد، وإنما خولف بين العبارات للتفنن ولاختلاف أغراض الناس، فإن الناس في الحضر لا يهتمون بشأن الركوب اهتمامهم في السفر، فأجرى الركوب على الظاهر، وغير في قوله: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] وإنما غير النظم في الأكل؛ لأنه في حيز الضرورة-كما قال القاضي- أو لرعاية الفواصل وهو الوجه؛ إذ لو جيء على ظاهره لاختلت، وكذلك جرى في الفاصلة الآتية. وأما قوله: {وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ} فكالتابع للأكل، فأجري مجراه، كما قال صاحب "الانتصاف"، ولما اشتمل {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} على تلك الفوائد المتكاثرة جعله مستقلًا في الغرض بإعادة اللام ونكر الحاجة وقرنها بقوله: {فِي صُدُورِكُمْ}، تأكيدًا كما في قوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وقوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وفي تخصيصه الأنعام ها هنا بالإبل وتفسيره قوله: {وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5] في "النحل" بان تقديم الظرف للاختصاص، وأن الأكل منها هو الأصل إلى آخره، وليس له العذر إلا مراعاة الفواصل. والله أعلم بمراده من كلامه.

الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}: وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}؟ [هود: 40]! قلت: معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم؛ لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضًا فليطابق قوله: {وَعَلَيْها} ويزاوجه. {فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله: قليل؛ لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو "حمار" و"حمارة": غريب، وهي في "أي" أغرب؛ لإبهامه. [{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 82 - 83] {وَآثارًا}: قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ} "ما" نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية: موصولة، أو مصدرية، ومحلها الرفع، يعنى: أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم، أو كسبهم. {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} فيه وجوه؛ منها: أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [النمل: 66]، وعلمهم في الآخرة: أنهم كانوا يقولون: لا نبعث ولا نعذب، {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [فصلت: 50]، {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو "حمار" و"حمارة": غريب)، ليس بمطلق، بل إذا لم يرد التمييز بأمر خارجي لئلا يخالف قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18]، واستشهاد أبي حنيفة رضي الله عنه في أنها أنثى بدليل {قَالَتْ} ولهذا قال: "وهي في "أي" أغرب لأن التمييز فيها غير مطلوب أصلًا". ويؤيده قول صاحب "التقريب": وفي "أي" أغرب لمطلوبية الإبهام فيه ومنافاته التمييز.

وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، وكانوا يفرحون بذلك، ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل: {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]. ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه، وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله: {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} -ولا علم عندهم البتة- موضع قوله: لم يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. ومنها: أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين. ويدل عليه قوله: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}. ومنها: أن يجعل الفرح للرسل، ومعناه: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يونان)، في نسخة صحيحة: صح بفتح الياء. قوله: (أن يوضع قوله: {فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ})، يعني: حق الظاهر أن يقال: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بها لجهلهم، فوضع موضعه {فرحوا بما عندهم من العلم} على سبيل التهكم تعريضًا، كما تقول لمن لا يدري ولا يدري أنه لا يدري: قد جاءك فلان العلامة، فرحت بما عندك من العلم، أي: لم تنتهز تلك الفرصة واغتررت بجهلك المركب. قوله: (ويدل عليه قوله: {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ})، أي: يدل على أن {فَرِحُوا} في قوله: {بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} مضمن معنى الاستهزاء على سبيل الكناية؛ لاقتضاء المقام، وأن المعنى: استهزؤوا بما جاء به الرسل من الوحي فرحين، من رد العجز على الصدر من حيث المعنى، كأنه قيل: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات استهزؤوا بما عندهم من العلم، فوضع {فَرِحُوا} موضع "استهزؤوا" كناية؛ لأن المستهزئ فرح مرح، ودل عليه قوله: {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.

أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي، واستهزائهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم، وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم؛ فرحوا بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [الروم: 7]، {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30]، فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم؛ لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات؛ لم يلتفتوا إليها، وصغروها، واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم؛ ففرحوا به. [{فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} 84 - 85]. البأس: شدّة العذاب، ومنه قوله تعالى: {بِعَذابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]. فإن قلت: أي فرق بين قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من "كان" في نحو قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، والمعنى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والظلف عن الملاذ)، الجوهري: ظلف نفسه عن الشيء يظلفها، أي: منعها من أن تفعله أو تأتيه. قوله: (هو من "كان" في نحو قوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35])، الانتصاف: فائدة دخول "كان" المبالغة في نفي الفعل الداخلة هي عليه بتعديد جهة نفيه عمومًا باعتبار الكون، وخصوصًا باعتبار النفع مثلًا، فهو نفي مرتين. وقلت: تفسيره لا يصح ولا يستقيم، وارد من جهة تسليط النفي على الكون المتضمن

فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قلت: كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}: فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ}، وأما قوله: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ}: فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}، كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله: {لَمَّا رَأَوْا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للفعل المنفي، كأنه قيل: هذا الفعل من الشؤون التي عدمها راجح على الوجود، وإنها من قبيل المحال. قوله: (أما قوله: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ}: فهو نتيجة قوله: {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ})، لكن على القلب، يعني: اجتمعوا وتحشدوا مع قوة أجسادهم وحصلوا ما زاد في قوتهم من المال والمنال وما يلجئون إليه من الحصون والمصانع لتغنيهم إذا حزبهم أمر الإغناء التام، فانقلب التدبير عليهم وما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما أحسن ما قال: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم .... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل واستنزلوا من أعالي عن معاقلهم .... فأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا .... أين الأسرة والتيجان والحلل؟ أين الوجوه التي كانت منعمة .... من دونها تضرب الأستار والكلل؟ فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم .... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طال ما أكلوا يومًا وما شربوا .... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا قوله: (فجار مجرى التفسير والبيان، لقوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ})، نحو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] إذ لا بد لنفي الاغتناء من سبق معالجة منهم وتصور دفعهم من ينازعهم بمكسوبهم، يعني: جمعوا وفعلوا كيت وكيت، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات لبعثهم على رفض ما جمعوا، والظلف عن ملاذ الدنيا والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واعتقدوا أنه لا علم أنفع للفوائد من علمهم، وما قصروا في الدفع،

بَاسَنا} تابع لقوله: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ}، كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ} تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله. {سُنَّتَ اللَّهِ} بمنزلة {وَعَدَ اللَّهُ} [النساء: 122] وما أشبهه من المصادر المؤكدة. و {هُنالِكَ} مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله: {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ} بعد قوله: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي: وخسروا وقت مجيء أمر الله، أو وقت القضاء بالحق. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فانقلب الأمر عليهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، أي: يستخفون، ولا يبعد أن تسمى مثل هذه الفاء فاء تفسيرية. قوله: (كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا)، فالتقدير: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم فكفروا، أي: استهزؤوا وصغروا شأنها، وحاق بهم جزاء استهزائهم، فلما رأوا بأسنا، أي: جزاء استهزائهم، آمنوا. تمت السورة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. * * *

سورة السجدة (فاطر)

سورة السجدة مكية، وهي أربع وخمسون، وقيل: ثلاث وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [{حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} 1 - 4] إن جعلت {حم} اسمًا للسورة كانت في موضع المبتدأ، و {تَنْزِيلٌ} خبره. وإن جعلتها تعديدًا للحروف كان {تَنْزِيلٌ} خبرًا لمبتدأ محذوف، و {كِتابٌ} بدل من {تَنْزِيلٌ}، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون {تَنْزِيلٌ} مبتدأ، و {كِتابٌ} خبره. ووجهه: أن تنزيلًا تخصص بالصفة؛ فساغ وقوعه مبتدأ. {فُصِّلَتْ آياتُهُ}: ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة؛ من أحكام، وأمثال، ومواعظ، ووعد، ووعيد، وغير ذلك. وقرئ: (فصلت)، أي: فرقت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة السجدة مكية، وهي أربع وخمسون آية، وقيل: ثلاث وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: (وقرئ "فَصلت")، قال أبو علي: كلهم بضم الفاء وكسر الصاد والتشديد.

بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصب على الاختصاص والمدح، أي: أريد بهذا الكتاب المفصل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن بعضهم: لم ينقل في "المنتقى" و"الموضح" بالتخفيف. وقلت: ولا في "المحتسب". قوله: (أو فصل بعضها من بعض) أي تباعد، عطف على "فرقت" يدل عليه قوله: فصل من البلد. ومعنى هذه القراءة على هذا التقدير يرجع إلى المشهورة فصلت ميزت وجعلت تفاصيل، لكن الأول يحتاج إلى سبق مجمل وتقدم مبهم مختلط بحق وباطل. قال القاضي: ولعل افتتاح هذه السور السبع بـ {حم} وتسميتها به؛ لكونها مصدرة ببيان مشاكله في النظم والمعنى. وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنياوية. وقلت: ولذلك اشتركت في أن اقترن كل منهما بذكر الكتاب وجعل {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصبًا على الاختصاص والمدح أو حالًا، وعلل بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يعلمون ما نول عليهم من الآيات المفصلة المبينة لا يلتبس عليهم شيء منه. قال أبو البقاء: {كِتَابٌ} أي هو كتاب، ويجوز أن يكون مرفوعًا بـ {تَنْزِيلٌ} أي: نزل كتابًا، {قُرْآنًا} حال موطئة من {آيَاتِهِ} ويجوز أن يكون حالًا من {كِتَابٌ} لأنه قد وصف. قوله: (فصل من البلد) روي عن المصنف أنه قال: أصله: فصل نفسه، فطرحت العرب نفسه وتناسته، كقولهم: نزع عن الأمر نزوعًا، وأصله: نزع نفسه. ولهذا قال أبو نواس: وإذا نزعت عن الغواية فليكن .... لله ذاك النزع لا للناس لامحًا الأصل المتروك.

قرآنًا من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أي: فصلت آياته في حال كونه قرآنًا عربيًا. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؟ قلت: يجوز أن يتعلق بـ {تَنْزِيلٌ} أو بـ {فُصِّلَتْ}، أي: تنزيل من الله لأجلهم، أو فصلت آياته لهم، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآنًا عربيًا كائنًا لقوم عرب؛ لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ: (بشير ونذير)، صفة للكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف. {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}: لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه. [{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} 5] والأكنة: جمع كنان؛ وهو الغطاء. الوقر، بالفتح: الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لئلا يفرق بين الصلات والصفات) يعني: إن علق {لِقَوْمٍ} بـ {تَنْزِيلٌ} تقع التفرقة بين المفعول له وبين متعلقه بقوله: {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وبين الصفات أيضًا؛ لأن {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} صفة {قُرْآنًا}. وإن علق بـ {فُصِّلَتْ} فالتفرقة بين الصفات -وهي {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} و {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} حاصلة، وإنما جمع الصلات وهي واحدة لتوافق قرينتها نحو: إني لآتيه بالغدايا والعشايا. وعن بعضهم: إنما جمعها وهي واحدة وهي اللام لتعدد ما اتصل بها من قوله: {تَنْزِيلٌ} و {فُصِّلَتْ} وأراد بالصلات العلاقات بالمعاني. قوله: (وقرئ: "بشيرٌ ونذير")، قال القاضي: قراءة نافع. قوله: (والوقر، بالفتح: الثقل)، الراغب: الوقر بالفتح الثقل في الأذن، يقال: وقرت

تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله: {وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} [البقرة: 88]؛ ومج أسماعهم له كأن بها صممًا عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجابًا ساترًا وحاجزًا منيعًا من جبل أو نحوه، فلا تلاقي ولا ترائي. {فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنا عامِلُونَ} على ديننا، أو: فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ: (إنا عاملون). فإن قلت: هل لزيادة {مِنْ} في قوله: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فائدة؟ قلت: نعم؛ لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابًا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة {مِنْ} فالمعنى: أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أذنه تقر وتوقر، والوقر بالكسر -الحمل للحمار والبغل. وقد أوقرته، ونخلة موقر وموقرة، والوقار السكون. وفلان ذو قرة. قوله: (ومج أسماعهم) عطف على قوله: "نبو قلوبهم" وأما قوله: "حاجزًا منيعًا من جبل أو نحوه، فلا تلاقي ولا ترائي" فلدلالة التنكير في "حجاب"، ونحوه قال الشاعر: له حاجب في كل أمر يشينه وزيادة من قوله: "كأن بينهم وما هم عليه" قيل: الوجه أن يجعل الواو بمعنى "مع" لئلا يلزم العطف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، ويحمل الواو "في" وبين رسول الله وما هو عليه "مع" أيضًا وإن كان العطف صحيحًا؛ لئلا يفرق الحكم بين القرينتين، ويجوز العكس لتوافق قوله هل لزيادة "من" فائدة؟ ليست هذه الزيادة مثل قولك: ما جاءني من أحد؛ لأنها في الإثبات، بل المراد أن المعنى كان يحصل بدونها كما قدره. قوله: (أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك)، الانتصاف: مقتضى كلامه أن يكون

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "من" مقدرة على "بين" الثانية؛ لأنه جعلها مقيدة للابتداء، فكأنه قيل: ومن بيننا ومن بينك حجاب، وهو غلط، فإن لا يصح معها إعادة عامل؛ لأنه يجعل "بين" داخلة على المفرد، ومن شأنها الدخول على متعدد، وقد زاد على هذا بأن جعل الأولى الحجاب من جهتهم، والثانية من جهته، وليس كذلك، والأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف عليه مضمر مخفوض يوجب تكرار خافضه، ولا تفاوت بين قولك: حلت بين زيد وعمرو، وحلت بين زيد وبين عمرو. وأما ذكرها مع الظاهر فجائز ومع المضمر واجب، فالصحيح أنها ها هنا مثل {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس: 9] للإشعار بأن الجهة المتوسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مبدأ الحجاب، ووجود "من" قريب من عدمها لقوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] بغير "من". وفي هذه الآية مبالغات بثلاثة حجب: أحدها: الحجاب الخارج، ثم حجاب الصمم، ثم حجاب أكنة قلوبهم، نعوذ بالله من ذلك. وقلت: حاصل المعنى أن "بين"تقتضي متعددًا، وليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم حجاب واحد، وهو متعدد معنى ولم يفتقر إلى تقدير حجاب آخرـ، ثم زيف قوله: "فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة" وهو عمله لقولهم بعد ذلك: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} مرتبًا بالفاء، أي: اعمل أنت فيما يتعلق بك وبجهتك من إثبات نبوتك بأي طريق كان، ومن الدعوة إلى التوحيد والمنع من تقليد الآباء وغير ذلك على قدر جهدك وطاقتك، ونعمل نحن بقدر وسعنا فيما يتعلق بنا وبجهتنا من الدفع لرسالتك والثبات على الشرك وتقليد الآباء، فظهر أن "بين" ها هنا معبر عن المسافة والجهة بواسطة "من" الابتدائية، والبين المذكور في الكتاب لازم المعنى، وسنبين إن شاء الله أن مغزى قولهم هو أنك تزعم أن لك دليلًا على إثبات نبوتك بإقامة المعجزة، ونحن ندعي أن لنا دليلًا على نفيها عنك؛ لأنك بشر، وأنى يقع الاتفاق بيننا وبينك؟ وإن شئت فذق هذا مع قول الشاعر:

فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}، ليكون الكلام على نمط واحد! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ راحت مشرقة ورحت مغربًا .... وأنى التقاء مشرق ومغرب؟ ومن حرم مراعاة حسن النظم خبط خبط عشواء، وجعل في كلام الملك العلام فضلات. وقد استحسن الإمام كلام المصنف كل الاستحسان. وقال صاحب "التقريب": وفي تقريره نظر؛ لأن البين إذا فسر بالوسط و"من" للابتداء فيكون الابتداء من الوسط لا من الطرف، فلا يلزم استيعاب الوسط، ولعله لم يرد بالوسط حاق الوسط بل المسافة المتوسطة بينهما، فصح ما ذكره. تم كلامه. قوله: (هلا قيل: على قلوبنا أكنة) يعني أن المطابقة بين القرائن فلم قدم الجار في الثانية وأخره في الأولى؟ وأجاب: أن المطابقة حاصلة من حيث المعنى؛ لأن المظروف كما هو مستقر في الظرف، الظرف أيضًا مشتمل عليه، فإذن معنى قوله: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] وقوله: "على قلوبنا أكنة" واحد، فجاء التطابق. قال صاحب "الفرائد": الفرق بين الصورتين بين؛ لأن الأولى تفيد استيعاب الأكنة القلوب؛ لأن الأكنة لا بد من تجاوز أطرافها على المظروف فكأنهم قالوا: الأكنة محتوية على القلوب ساترة من جميع جوانبها. ولا كذلك الثاني؛ لأن الأكنة حينئذ ساتر سطحها فلا يلزم من هذه الاحتواء من كل جانب. وقلت: إنما يتفاوت هذا بتفاوت الظرف، فإن الظرف إذا كان كنًا لا بد من ستر المظروف من كل جانب على أن "على" أبلغ لمعنى الاستعلاء ومغلوبية المظروف والإيذان بأن ليس للوصول إليه سبيل، على أن للقول فيه مجالًا، وهو أنه لو قيل: "على قلوبنا أكنة" كما في تلك الآية: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} لم يحصل التطابق في معنى الاستقراء وجعل أحدهما ظرفًا والآخر مظروفًا. ولو قيل: "على آذاننا وقر" لم يكن بتلك المبالغة؛ لأن المراد

قلت: هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة، وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف: 57]، ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة: لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني. [{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} 6 - 7] فإن قلت: من أين كان قوله: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} جوابًا لقولهم: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ}؟ قلت: من حيث أنه قال لهم: إني لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن الأصمخة قد سدت فلا يدخل فيها الهواء فضلًا عن الكلام. وأما معنى "على" في تلك الآية فلإرادة معنى الاستعلاء والقهر من الله تعالى، والله أعلم. قوله: (ترى المطابيع)، الأساس: وهو مطبوع على الكرم، وقد طبع على الخلاق المحمودة، وهذا كلام عليه طابع الفصاحة، وعن بعضهم: المطابيع، جمع مطبوع، وهو الذي طبع على العربية. وقيل: هو الذي طبع على الكيوسة. قوله: (من حيث أنه قال لهم: إني لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم)، قال صاحب الفرائد": لم لزم أن يكون هذا جوابًا لقولهم؟ إذ قولهم لا يقتضي أن يكون له جواب، وإنما يشعر هذا بأن قيل له صلى الله عليه وسلم: لا تتركهم بما ذكروا إنا لا نسمع ما تذكر، ومرادهم مما قالوا أن نتركهم وما يدينون وما يفعلون، سلمنا أنه جواب، لكن المراد منه: إني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين، والوقر من الآذان، ولكن أوحي إلي وأمرت بتبليغ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذا ينظر إلى قول الإمام كأنه قال: إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرًا وقهرًا، فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا أني مخبر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن الله تعالى أوحى إلي، فإني أبلغ هذا الوحي إليكم، إن شرفكم الله بالتوفيق قبلتموه، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي. وفسر صاحب "الانتصاف" كلام المصنف بأن قال: إنما كان قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جوابًا لما سبق؛ لأنهم لما أبوا القبول منه كل الإباء قال: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} لا قدرة لي على إظهار المعجزات، بل تختص القدرة عليها بالله تعالى تصديقًا لي، ثم عقبه بما يتم المقصود وهو التوحيد، وأدرج تحت الاستقامة جميع تفاصيل الشرع، وتممه بإنذارهم على ترك القبول بالويل. وقدر بعضهم كأنهم قالوا: لا نصغي إلى قولك ولا نرعوي إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا صحت نبوتي وجب عليكم الارعواء والإصغاء إلى قولي". وقلت: كيفما كان الجواب من الأسلوب الحكيم، والمطابقة بين الجواب والسؤال إنما تظهر إذا نظر إلى الجانبين والمعنى والتركيب وما يقتضيه من المعنى بحسب المقام فنقول: : لفظة "إنما" من أدوات الحصر، ومعنى التركيب ها هنا ما أنا إلا بشر موحى له، وإنما يستقيم هذا إذا قيل له: أنت فيما تدعيه من الوحي والرسالة كمدعي ما يوجب الخروج من البشرية والدخول في الملكية؛ لأن الرسالة منافية للبشرية، وإنها من مناصب الملائكة، وكتاب الله مملوء من هذا الرد، وهذا المعنى إنما يعطيه معنى قولهم: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا}، على إرادة إنك فيما تدعيه من الرسالة وإثبات التوحيد، ونحن فيما نعتقد من أن البشرية منافية للرسالة في حاجز منيع وحجاب ساتر كما مر. وتمام التقرير أنه صلوات الله عليه حين تحداهم بقوله: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ} كأنه قال: إني رسول الله إليكم، ومعجزتي هذا الكتاب الفارق بين الحق والباطل والكاذب والصادق، وإنه نازل بلسانكم وأنتم زعماء الحوار وأرباب البيان تعلمون أنه كذلك لما عجزتم عن الإتيان بمثله، وهو المراد من قوله: يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المنبئة بلسانهم العربي المبين، وعند ذلك أعرضوا وعاندوا

وقد أوحي إلي دونكم فصحت بالوحي إلىّ وأنا بشر نبوّتي، وإذا صحت نبوّتي: وجب عليكم اتباعي، وفيما يوحى إلي: أن إلهكم إله واحد {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}: فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينًا ولا شمالًا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وردوا الشبهة الركيكة معارضين، وإلى الإعراض الإشارة بقوله: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4]، وإلى الاعتراض لمح بقوله: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ} الآية، فكأنهم قالوا: سلمنا دعواك، لكن عندنا ما ينافيه وهو أن الرسالة منحصرة في الملائكة، وما أنت إلا بشر مثلنا، وما أنزل الرحمن من شيء، وليس عندك ما تدفع به هذا الدليل وإن اجتهدت كل الاجتهاد. هذا معنى قوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} على أحد وجهيه، وهو: فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. فأجابهم بقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} على سبيل القول بالموجب، يعني لا شك أني بشر ولست بملك، وذلك كيف يقدح في دعواي؟ لأن الرسالة إنما تثبت بالدعوى وتصديقها بالمعجزة، وقد حصل ذلك، وهو دليل قاطع، ولا أترك القاطع وأشتغل بجواب شبهتكم إلا هذا القدر؛ لأن الذي علي الآن الدعوة إلى التوحيد وبيان سبيل الرشاد والأمر بالتوبة مما سبق لكم من الشرك، والتحريض على مكارم الأخلاق من أداء الزكاة والإيمان بالآخرة إلى غير ذلك، هكذا ينبغي أن يفسر تأويل المصنف، وهو أقرب الأقوال السابقة؛ لأن مقتضى "إنما" وموجب {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} لا يساعد عليع تأويلهم. فإن قيل: هذا التأويل مبني على معنى {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ} في إبطال الأمر، فما معنى الآية على الوجه الآخر، وهو "إننا عاملون على ديننا؟ قلت: تأويله ما رواه الواحدي عن مقاتل: أن أبا جهل رفع ثوبه بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أنت من ذلك الجانب ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك إننا عاملون على ديننا ومذهبنا، قال الله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم. والنظم مع الأول، والله أعلم.

الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك {وَاسْتَغْفِرُوهُ}. وقرئ: (قال إنما أنا بشر). فإن قلت: لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة؟ قلت: لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265]؟ أي: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرّت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وأهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا)، الانتصاف: كلام الزمخشري حسن بعد تبديل "خدع المؤلفة"فالتأليف على الإيمان ليس خداعًا، إنما التأليف ملاطفة لا خديعة. وقلت: ما أحسن موقع الخداع وقرانه مع لمظة من الدنيا، ثم أردفه بقوله: " فقرّت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم". روينا عن البخاري ومسلم والترمذي، عن أنس: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين غنائم، فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئًا، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: "يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني عنكم"؟ فسكتوا، فقال: "يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه في بيوتكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله رضينا. فقال: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لأخذت شعب الأنصار". وفي رواية: قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون". الحديث.

الحرب، وجوهدوا. وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها؛ حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا في "صحيح البخاري"، عن عمرو بن ثعلب قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: إني أعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم، وأكل قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى". ظلعهم، أي: ميلهم عن الحق وضعف إيمانهم، وأصله داء في قوائم الدابة تغمز منها. قوله: (بلمظة) الجوهري: لمظ يلمظ بالضم لمظًا، إذا تتبع بلسانه بقية طعامه، أو أرخج لسانه فمسح به شفتيه. قوله: (لا يفعلون ما يكونون به أزكياء)، الراغب: أصل الزكاة: النمو الحاصل من بركة الله، ويعتبر ذلك بالمور الدنيوية والأخروية، وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره. وقلت: في هذا المقام هو الإيمان كما قال المصنف. روى محيي السنة عن ابن عباس: يعني الذين يقولون: لا إله إلا الله، وهي زكاة الأنفس. المعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم. وقلت: المعنى على هذا فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله، فوضع موضعه مع إيتاء الزكاة؛ ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله

[{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 8] الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمنّ عليهم؛ لأنه إنما يمنّ التفضل، فأما الأجر فحق أداؤه. وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون. [{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 9 - 12] {أَإِنَّكُمْ} بهمزتين، الثانية بين بين، و (آئنكم) بألف بين همزتين. {ذلِكَ} الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو {رَبُّ الْعالَمِينَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم، ثم جيء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الآية، مستطردًا تعريضًا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع، حيث لم يزكوا أنفسهم كما زكوا، ويدل على أنه مستطرد قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ}. قوله: (كأصح ما كانوا يعملون)، قيل: كما عملوا في حال كونهم أصح الأصحاء. قوله: {ذَلِكَ} الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين هو {رَبُّ الْعالَمِينَ} إشارة إلى اتصال قوله: {رَبُّ الْعالَمِينَ} بما قبله بتوسط اسم الإشارة، وان المذكور قبله مستحق لأن يقال له رب العالمين؛ لأجل ما اتصف بالقدرة التامة الكاملة وهو خلق الأرض في يومين، أما بيان كيفية اتصال اللفظ فإن صاحب "الكشف" قال: ظاهر الآية مشكل؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن قوله: "وجعل" عطف على "خلق" وداخل في حيز صلة "الذي" وقد فصل بقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ} وإن قلت: هو في الحال من الضمير في "حلق" أي قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين مجعولًا له أندادًا، فهو وجه؛ لأنه حال من الضمير الذي في "خلق" لا من نفس الموصول. وقال أبو البقاء: "وجعل فيها" مستأنف غير معطوف على "خلق" لما يلزم الفصل، وليس من الصلة في شيء. وقلت: الكلام مفرغ في قالب محكم رصين لا يجوز التفكيك لا بالحال ولا بالاستئناف، فإن قوله: {وَجَعَلَ} عطف على {خَلَقَ}، وكذلك {وَتَجْعَلُونَ} عطف على "تكفرون" وكأن أصل الكلام: أئنكم لتكفرون بالذي حلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها، بدليل قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً} لأنه فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كما قال المصنف، وفيه تصريح بأن "جعل" معطوف على "خلق"، ثم لمزيد الإنكار جيء بقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا} أبين من "تكفرون" و {رَبُّ الْعالَمِينَ} أجمع من "الذي خلق الأرض" ومن ثم قال المصنف: "ذلك الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين هو رب العالمين" نظيره قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على {سَبِيلِ اللَّهِ}. قال المصنف: "فإن قلت: كيف ساغ العطف قبل الفراغ من المعطوف عليه؟ قلت: إنما ساغ لأن {وَكُفْرٌ بِهِ} في معنى الصد عن سبيل الله، واتحادهما جوز ذلك، كأنه قيل: صد عن سبيل الله والمسجد الحرام، كذلك ها هنا التقدير: أئنكم لتجعلون أندادًا لمن خلق

{رَواسِيَ} جبالًا ثوابت. فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِها}؟ وهلا اختصر على قوله: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ}، كقوله: {وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} [المرسلات: 27]، {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ} [الأنبياء: 31]، {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} [النلم: 61]! قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض؛ لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأرض في يومين وجعل فيها كذا وكذا؟ ". وقال الراغب: لا بد من أحد أمرين، إما أن ينوي بقوله: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} التقديم حتى يعطف على {خَلَقَ}، وينوي قبله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا} التأخير، وهذا مما يجوز في ضرورات الشعر، وإما أن يعطف على فعل مثل ما وقع في الصلة بدلالة الأول عليه، فيضمر "خلق الأرض" ثم يعطف عليه {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} كأنه قيل: أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام؟ فيضم اليومان اللذان يقتضيهما خلق الأرض إلى اليومين اللذين هما لخلق ما فيها، والوجه ما قررناه. قوله: (ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِها}؟ )، أي ما فائدة الزيادة في هذه الآية؛ لأن تلك الآيات التي وردت بدون هذه الزيادة معطية معنى الفوقية من غير ذكره؟ وأجاب: فائدتها التنبيه على الحكمة التي اقتضت جعلها كذلك؛ لأنها لو كانت تحتها كالأساطين جعل للأرض الاستقرار على الأساطين، لكن فإن منافع الجبال كما لو كانت الجبال مركوزة فيها، حاصله أن القصد من خلق الجبال المنع من ميدان الأرض كما قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وكان ذلك إما بجعلها كالأساطين أو بجعلها مركوزة فيها أو بجعلها رواسي شامخات، فاختير الثالث لإفادة المنافع المذكورة مع حصول ما قصد منها. قوله: (الميدان)، الجوهري: ماد الشيء يميد ميدًا: تحرك. قوله: (معرضة) هو من قولهم: أعرض لك الخير، إذا أمكنك. يقال: أعرض لك

لمحصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته. {وَبارَكَ فِيهَا}: وأكثر خيرها وأنماه، {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها}: أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود: (وقسم فيها أقواتها)، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) فذلكة لمدة خلق الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ}: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الظبي، إذا أمكنك من عرضه، إذا ولاك عرضه، وأعرضت الشيء فأعرض، أي: أبرزته فبرز. قوله: (وليبصر أن الأرض)، بيانه ما قال الإمام: أنه تعالى لو جعلها على غير هذه الصورة لأفهم أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض عن النزول، ولكنه تعالى خلق هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان أن الأرض والجبال أثقال على أثقال وكلها مفتقرة إلى حافظ وممسك، وما ذاك إلا الله تعالى. قوله: (فذلكة) الفذلكة في الحساب: هي أن تذكر أولًا أشياء مفصلًا، ثم تجمع تلك التفاصيل، وتكتب في معرض الحساب: فذلك كذا وكذا. قوله: (قيل: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين) روينا عن مسلم عن أبي هريرة، قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة فيها فيما بين العصر إلى الليل". قوله: (وقال الزجاج) وكلامه: {وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها

في تتمة أربعة أيام. يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: {سَوَاءً} بالحركات الثلاث؛ الجر على الوصف، والنصب على: استوت سواءً، أي: استواءً، والرفع على: هي سواءٌ. فإن قلت: بم تعلق قوله: {لِلسَّائِلِينَ}؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو بـ {وَقَدَّرَ}: أي: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين. وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ}، أي: في تتمة أربعة أيام، {سَواءً لِلسَّائِلِينَ} معلق بقوله: {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها} لكل محتاج إلى القوت. وإنما قيل: {لِلسَّائِلِينَ} لن كلًا يطلب القوت ويسأله، ويجوز أن يكون المعنى لمن سأل: في كم خلقت السماوات والأرضون؟ فقيل: خلقت وما فيها في أربعة أيام سواء جوابًا لمن سأل. وقال الإمام: نحوه قول القائل: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يومًا، معناه أن المسافتين خمسة عشر. ويقال: أعطيتك ألفًا في شهر وألوفًا في شهرين، فيدخل الألف في الألوف، والشهر في الشهرين. قوله: (وقرئ: {سَوَاءً} بالحركات الثلاث). قال محيي السنة: أبو جعفر: بالرفع على الابتداء، ويعقوب: بالجر على نعت {أَرْبَعَةِ}، والباقون: بالنصب على المصدر، أي: استوت سواءً واستواءً. قوله: (وهذا الوجه الأخير لا يستقيم)، الانتصاف: وجه امتناعه على الأول أن قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامِ} فذلكة ومن شانها الوقوع في طرف الكلام، فلو جعل {لِلسَّائِلِينَ} متعلقًا بـ"قدر" على تأويل حذف التتمة تعلق الظرف بالمظروف ولا يتم الكلام. وقال: وتفسير الزجاج أرجح؛ إذ هو مشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل الغريب الذي قدره،

تفسير الزجاج. فإن قلت: هلا قيل: في يومين! وأي فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام، وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين؛ علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن يقول: في يومين، وأن يقول: في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين؛ وهي الدلالة على أنها كانت أيامًا كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين، وقد يطلق اليومان على أكثرهما: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومضمن ما يقوم مقام الفذلكة؛ إذ قد ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها، وعلى اختيار الزمخشري تكون الفذلكة مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها، فلم يذكر سوى يومين، والفذلكة بتقدم فيها النص على جميع أعدادها، كقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. وقلت: أي حاجة إلى النص وقد دل التنصيص في قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} على أن التقدير: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين، ثم يقال: كل ذلك في أربعة أيام؟ على أن في تفسير الزجاج الاختلاف الذي بين الإمامين. قال الشافعي: المتعقب للجمل يعود إليها جميعًا، وأبو حنيفة خص بالأخيرة، ولنا الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات. قوله: (وقد يطلق اليومان على أكثرهما)، قال صاحب "الفرائد": لا شك أنه صح أن يقال: فعلته في يومين، وكان الفعل في أقل منهما. ويصح أن يقال: فعلته في يومين، وكان الفعل في أكثر منهما. فإذا عرفت هذا تقول: يمكن أن يكون خلق الأرض في أقل من يومين، وجعل رواسي من فوقها، وتقدير الأقوات وغيرهما في يومين وبقية اليومين المذكورين، وكان خلق الأرض وجعل رواسي فيها وغيره في أربعة أيام من غير زيادة ولا نقصان، فعلى هذا لم يجز إلا أن يقال: في أربعة أيام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: قوله: "قد يطلق اليومان على أكثرهما" غير مختص بل على أقل منهما أيضًا، وقد يراد باليومين يوم ونصف مثلًا، فإن بعض الشيء قد يسمى باسمه كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والمراد شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر، وفيه بحث؛ لأن أبا علي قال في "الحجة": "سمي الشهرين وبعض الثالث أشهرًا، لأن الاثنين قد يوقع عليه لفظ الجمع، كما في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين فعلى هذا لا يجوز أن يوقع على الاثنين وبعض الثالث "قروء" في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، لأن هذا محصور بالعدد فلا يكون اثنان وبعض الثالث ثلاثة"، وهذا يدفع قول المصنف: "وقد يطلق اليومان على أكثرهما". وقلت: لا يدفع؛ لأن إطلاق الجمع على الاثنين وعلى أكثر منه بطريق الاشتراك واختلاف اللغتين سائغ وإطلاق العدد المخصوص على أكثر منه وأقل بطريق التغليب والمجاز شائع، ومن ثم قال في قوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وقد فسر بأنه تعالى خلق السماوات في يومين وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم، في هذا دليل على ما ذكرته من أنه لو قيل: "في يومين" في موضع "أربعة أيام سواءً" لم يعلم أنهما يومان كاملان أم ناقصان؛ لأنه تعالى لم يخلق السماوات في يومين كاملين على هذا؛ لأنه خلق آدم في آخر ساعة من باقي اليوم، وكما دل عليه الحديث الذي رويناه عن مسلم. فإن قلت: ما الداعي إلى صرف الآية عن حقيقتها، وانه تعالى حلق الأرض في يومين وخلق ما فيهما في أربعة أيام؟ قلت: لزوم ما قاله الإمام أن قوله: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} إذا جمع مع العدد يصير ثمانية، وقد ذكر في سائر الآيات أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما. {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ}: من قولك: استوى إلى مكان كذا؛ إذا توجه إليه توجهًا لا يلوى على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت: 6]، والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج)، الراغب: المساواة: المعادلة المعتمدة بالذرع والوزن والكيل، وقد يعتبر بالكيفية، ونحو: هذا السواد مساوٍ لذلك السواد، وإن كان تحقيقه راجعًا إلى اعتبار مكانه دون ذاته، واستوى على الوجهين؛ بمعنى: تساوى، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ} [التوبة: 19]، وبمعنى اعتدال الشيء في ذاته، نحو قوله تعالى: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] واستوى أمر فلان، ومتى عدي بـ"على" فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى: {الرَّحِمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقيل: معناه: استوى له ما في السماوات وما في الأرض، أي استقام الكل على مراده بتسويته تعالى إياه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29 [وإذا عدي بـ"إلى" فبمعنى الانتهاء إليه، إما بالذات أو بالتدبر، وعلى الثني قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} والمساواة متعارفة في المثمنات، يقال: هذا الثوب يساوي كذا. وأصله من ساواه في القدر، قال تعالى: [حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96]. قوله: (ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها) سوء أدب، ومعناه مشكل مع قوله بعد هذا: "خلق جرم الأرض أولًا غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء" وقوله في البقرة: "جرم الأرض تقدم خلقه السماء، وأما دحوها فمتأخر"، وبيانه ما ذكر الإمام أن الله سبحانه وتعالى بين أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه تعالى في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال.

خلق السماوات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء، فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يستقيم دخولها في الوجود إلا بعد الدحو، وأيضًا إنه لا نزاع أن قوله تعالى: {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله: {ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يقتضي إيجاد الموجود. ونقل الواحدي في "البسيط" عن مقاتل أنه قال: خلق السماء قيل: قبل الأرض، وتأويل الآية: ثم استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يخلق الأرض، على الإضمار، ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، والخلق ها هنا ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل عن التقدير كما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ىل عمران: 59] لئلا يلزم أنه تعالى قال للشيء الذي وجد: كن، والتقدير في حق الله سبحانه وتعالى حكمه بأنه سيوجد ويقضى بذلك، وعليه معنى الآية. وقال القاضي: والظاهر أن "ثم" لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في المدة؛ لقوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] مقدم على خلق الجبال من فوقها. وقال صاحب "الكشف": قال قوم: إن "ثم" لترتيب الخبر على الخبر، أخبر أولًا بخلق الأرض ثم اخبر بخلق السماء، وقد تقدم مثل هذه الآية، آي جمة. قوله: (وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه) قال القاضي: معنى {ائْتِيا} ائتيا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعت فيكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو ائتيا في الموجود، على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب في المرتبة، أو للإخبار، ومعنى {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع والكره لهما. ومعنى {أَتَيْنا طائِعِينَ} الأظهر أنه تصوير تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع الطائع، كقوله: {كُنْ فَيَكُونَ} [البقرة: 117]. وقلت: يرد على تأويل الإمام إشكالان: أحدهما: ترتب الفاء في قوله: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فإنه يوجب أنه تعالى بعدما خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام استوى إلى خلق السماوات فقضاهن في يومين تكملة للعدد المذكور في قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة: 4]. وثانيهما: تأويله "خلق الأرض في يومين" بـ"قدر" لا يساعد عليه عطف "وجعل فيها" "وقدر فيها" |لأن كلًا من ذلك فعل خاص. والظاهر - والعلم عند الله-: أن "ثم" للتراخي في المرتبة، كما سبق في "البقرة" عن المصنف في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الكلام مع المعاندين المتمردين، كما ترقى الخليل عليه السلام مع قومه في الأخذ من الكواكب إلى القمر ثم الشمس، وختم الكلام بقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] ألا ترى إلى أنه تعالى لما ختم الكلام قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} والمعنى: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وفعل كذا وكذا، وأعظم من ذلك أنه استوى- أي: قصد إلى خلق السماء- وهي شيء حقير ظلماني كالدخان- {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ}، وكان الأصل: فقضاهن سبع سماوات في يومين، وخلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها الآية {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فقدم وأخر

ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلًا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض، وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي. فإن قلت، لم ذكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لتلك النكتة، ثم قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي: فإن أعرضتم بعدما تتلى عليكم هذه الحجج على الوحدانية والقدرة التامة فكنتم محجوبين، فيترتب العذاب عليكم كما فعل بأشياعكم من قبل، وفيه التفات. وهذا التأويل موافق لما نقل الواحدي عن مقاتل، ولما قال القاضي، أو الترتيب في المرتبة أو الإخبار، والله أعلم. قوله: (ويجوز أن يكون تخييلًا) يعني إثبات المقاولة مع السماء والأرض يمكن أن يكون من الاستعارة التمثيلية كما سبق، ويجوز أن يكون من الاستعارة التخييلية بعد أن تكون الاستعارة في ذاتها مكنية كما تقول: نطقت الحال، بدل "دلت" فتجعل الحال كالإنسان الذي يتكلم في الدلالة والبرهان، ثم تتخيل له النطق الذي هو من لازم المشبه به وينسب إليه. وأما بيان الاستعارة التمثيلية فهو انه لما شبه فيه حالة السماء والأرض والمقاولة بينهما وبين فاطرهما في إرادة تكوينهما أو إيجادهما بحالة آمر ذي جبروت له نفاذ في سلطانه وإطاعة من تحت ملكه من غير ريب. والأوجه أن يراد بقوله: "تخييلًا" تصويرًا لقدرته وعظمة سلطانه، وأن القصد في التركيب إلى أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع على سبيل الكناية الإيمائية من غير نظر إلى مفرداته كما سبق في قوله: {والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ويعضده قوله: من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. قوله: (فلم يتركني، ورائي) الواو في "ورائي" الأول بمعنى "مع"، "ورائي" الأول:

الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولًا غير مدحوّة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} [النازعات: 30]، فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحوّة قرارًا ومهادًا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفًا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول: أتى عمله مرضيًا، وجاء مقبولًا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة والتدبير؛ من كون الأرض قرارًا للسماء، وكون السماء سقفًا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ: (آتيا)، و (آتينا) من المواتاة؛ وهي الموافقة، أي: لتؤات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا: وافقنا وساعدنا. ويحتمل: وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت: ما معنى: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن تحت يده: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى النظر والرأي، والواو في "ورائي" الثاني عاطفة، و"ورائي" بمعنى خلفي. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى) عطف على قوله: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف وعليه كلام القاضي: ائتيا لما خلقت فيكما من التأثير والتأثر. قوله: (قراءة من قرأ: (آتيا)، و (آتينا) من المواتاة) قال ابن جني: قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: "آتينا طائعين" بالمد من "فاعلنا" نحو سارعنا وسابقنا، ولا يكون أفعلنا؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين، و"فاعلنا" متعد إلى واحد، وحذف الواحد أسهل، ولما في "سارعنا" من معنى "أسرعنا". قوله: (من المواتاة؛ وهي الموافقة)، الجوهري: يقال: أتيته على ذلك الأمر مواتاة؛ إذا وافقته وطاوعته.

لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعًا أو كرهًا. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل: طائعتين، على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى. لأنها سماوات وأرضون! قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره؛ قيل: طائعين، في موضع: طائعات، نحو قوله: {سَّاجِدِينَ} [يوسف: 4]. {فَقَضاهُنَّ}: يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى، كما قال: {طائِعِينَ}، ونحوه: {أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، ويجوز أن يكون ضميرًا مبهمًا مفسرًا بـ {سَبْعِ سَموَاتٍ}، والفرق بين النصبين: أن أحدهما على الحال، والثاني على التمييز. قيل: خلق الله السماوات وما فيها في يومين، في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت، من أنه لو قيل: في يومين في موضع (أربعة أيام سواء)، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان. فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين! أو قيل بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء! قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن، طباقًا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك الركب؛ ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب. {أَمْرَها}: ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها. {وَحِفْظًا}: وحفظناها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والفرق بين النصين)، أي: في قوله: "سبع سماوات" وذلك أن الضمير في "فقضاهن" إذا رجع إلى السماء على المعنى كائنة سبع سماوات أو متعددة سبع سماوات، وإذا كان الضمير مبهمًا كان "سبع سماوات" نصبًا على التمييز والتفسير، نحو: ربه رجلًا. قوله: (من مغاصات القرائح)، مغاصات: جمع الغوص على غير قياس؛ أو جمع المغاص من المصدر الميمي لاختلاف أنواعه، وكذا المصاك جمع مصك. قوله: (أو شأنها) عطف على قوله: "ما أمر به" والأمر على الأول: مصدر؛ بمعنى

حفظًا، يعني: من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولًا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظًا. [{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} 13 - 14] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واحد الأوامر. وقوله: "من خلق الملائكة" بيان، أي: قيل فيها للملائكة والنيرات: "كن"، وفي "شرح التأويلات": أي: أمر أهل كل سماء أمرها وامتحنهم بمحنة. وعلى الثاني: اسم بمعنى واحد الأمور. قوله: (حفظًا) يعني: من المسترقة بالثواقب، وعن بعضهم: ومن الزوال؛ ليكون الإطلاق مفيدًا فائدة جديدة سوى ما فهم من المفيد في قوله: {وحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 7]. قوله: (كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظًا)، هذا على أن يكون من عطف المفرد على المفرد. وقوله: "وحفظناها حفظًا" على أن يكون من عطف الجملة على الجملة، وهذا أحسن وأغرب وأوكد وللإيجازات التنزيلية أنسب وللفائدة أملأ بكونه أن التقدير: وزينا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظناها، فدل بالفعل في الأول علة إضمار فعل في الثاني مناسب للمصدر المذكور، ودل بالمصدر في الثاني على إضمار مصدر مناسب للفعل المذكور، مثله قول القائل: يرمون بالخطب الطوال وتارة .... وحي الملاحظ خيفة الرقباء أي: يرمون رميًا، ويوحون وحيًا. ومنه قوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]، أي: أصلها ثابت في الأرض، وفرعها متصاعد في السماء.

{فَإِنْ أَعْرَضُوا} بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة، أي: عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ: (صعقة مِثْلَ صعقة عاد وثمود)؛ وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال: صعقته الصاعقة صعقًا فصعق صعقًا، وهو من باب: فعلته ففعل. {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله عن الشيطان: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17]، يعني: لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة. وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة؛ لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. وقيل: معناه: إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم. فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم؟ وكيف يخاطبونهم بقولهم: {فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم- أي: من قبلهم- وممن يجيء من خلفهم- أي: من بعدهم- فكأن الرسل جميعًا قد جاءوهم. وقولهم: {فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}: خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. "أن" في {أَلَّا تَعْبُدُوا} بمعنى "أي"، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول {شَاءَ} محذوف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه صاعقة) قال: الصاعقة: قصفة رعد ينقض معها شقة من نار. قوله: (صعقته) أي: أهلكته، (فصعق صعقًا)، أي: مات، إما بشدة الضرب أو بالإحراق.

أي: {لَوْ شاءَ رَبُّنا} إرسال الرسل {لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} معناه: فإذ أنتم بشر ولستم بملائكة؛ فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به. وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} بِهِ ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. روي: أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلًا عالمًا بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى علي. فأتاه، فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ ! فإن كنت تريد الرياسة: عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة: زوّجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال: جمعنا لك ما تستغني به. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {حم} إلى قوله: " {مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13] "، فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه، وقالوا: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت. فغضب، وأقسم لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عقدنا لك اللواء)، النهاية: وفي حديث عمر: "هلك أهل العقد"، يعني: أصحاب الولايات على الأمصار، هو من عقد الألوية للأمراء. قوله: (الباءة)، الباءة فيها ثلاث لغات: الباء، والباه، بالهاء عراقي وهو أرذلها، والباءة. وفي الحديث: "يا معشر الشباب من خاف منكم الباءة فعليه بالصوم، فإنه لو وجاء".

يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. [{فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} 15 - 16] {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم؛ وهو القوّة وعظم الأجرام. أو: استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية. {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}: كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده. فإن قلت: القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية، وهي نقيضة الضعف، وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل)، الانتصاف: فسر الزمخشري القدرة بخلاف ما قاله المتكلمون، ثم عاد إلى تفسيرها بالقدرة، وجعل الفرق بينهما أن قدرة الله لذاته، وقدرة المخلوق بقدرته، فهو كما قال: زيد أفضل من عمرو، بمعنى سلب القدرة عن زيد الأفضل، والحق أن قدرة العبد مقارنة لفعله، لا قبله ولا بعده، غير مؤثرة في إيجاده، وقدرة الله -جلت قدرته- مؤثرة في جميع المقدورات أزلًا وأبدًا عامة التعلق. قال الإمام في "شرح أسماء الله الحسنى": اتفق الخائضون في تفسير أسمائه الحسنى على أن القوة ها هنا عبارة عن كمال القدرة، وعندي أن كمال حال الشيء في أن يؤثر يسمى قوة، وكمال حال الشيء ألا يقبل الأثر من الغير يسمى أيضًا قوة، فإن حملنا القوة في حق الله تعالى

من تميز بذات أو بصحة بنية، وهي نقيضة العجز، والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلا على معنى القدرة، فكيف صحّ قوله: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، وإنما يصح إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية، وحقيقتها: زيادة القدرة، فكما صحّ أن يقال: الله أقدر منهم، جاز أن يقال: أقوى منهم، على معنى: أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم. {يَجْحَدُونَ}: كانوا يعرفون أنها حق، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف على: {فَاسْتَكْبَرُوا}، أي: كانوا كفرة فسقة. الصرصر: العاصفة التي تصرصر، أي: تصوّت في هبوبها. وقيل: الباردة التي تحرق بشدّة بردها، تكرير لبناء الصر؛ وهو البرد الذي يصر؛ أي: يجمع ويقبض. {نَحِساتٍ} قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحسًا: نقيض سعد سعدًا، وهو نحس. وأما نحس: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على كونه كاملًا في التأثير في قوته هو كونه ثابتًا وحقًا لذاته؛ لأن كل ما كان بالذات لا يقبل الأثر. قوله: (من تميز بذات)، عن بعضهم: أي: تخصص بذات الله، و"من" بيان "ما". قوله: (جحدوها كما يجحد المودع الوديعة)، الراغب: الجحود: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. يقال: جحد جحودًا وجحدًا، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وتجحد تخصص بفعل ذلك، يقال: رجل جحد شحيح، قليل الخير يظهر الفقر. وأرض جحد، قليل النبت. قوله: (أي: كانوا كفرة فسقة)، والظاهر: كانوا فسقة كفرة؛ لأن قوله: {وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} دل على كفرهم، وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} دل على فسقهم؛ لأن الاستكبار طلب العلو وهو موجب فساد الأرض، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] فيكون ترقيًا من الأدنى إلى الأغلظ. قوله: ({نَحِسَاتٍ} قرئ بكسر الحاء): الكوفيون وابن عامر، والباقون: بسكونها.

فإمّا مخفف نحس، أو صفة على فعل، كالضخم وشبهه، أو وصف بمصدر. وقرئ: (لنذيقهم)، على أنّ الإذاقة للريح، أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي -وهو الذل والاستكانة- على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزٍ، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيئ، والدليل عليه قوله: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى}، وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به، ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر. [{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} 17 - 18] وقرئ: {ثَمُودُ} بالرفع والنصب منونًا وغير منون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عذاب خز) الأصل: خزي، أعل إعلال "قاض"، أي: عذاب ذليل؛ لأن الخزي هو الذل والاستكانة، وإنما المعذب ذليل مهان، فهو على الإسناد المجازي. الجوهري: خزي بالكسر يخزى خزيًا: ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية وأخزاه الله، والدليل على أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة، قوله تعالى: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصف الكفار به؛ لما يلزم منه انه بلغت ذلتهم إلى أن سرت إلى ما يلابسهم من العذاب نحو قولك: شعر شاعر، أي: بلغ الرجل في الشاعرية إلى أن شعره أيضًا شاعر. قال المتنبي: وما انا وحدي قلت ذا الشعر كله .... ولكن شعري فيك من نفسه شعر قوله: (قرئ: {ثَمُودُ} بالرفع والنصب)، الرفع: هو المضهور، والنصب: شاذ.

وقرئ بضم الثاء. {فَهَدَيْناهُمْ}: فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، كقوله تعالى: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدى}: فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم، وأزاح عللهم، ولم يبق له عذرًا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. {صاعِقَةُ الْعَذابِ}: داهية العذاب، وقارعة العذاب. والْهُونِ: الهوان، وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية -الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم، وكفى به شاهدًا- إلا هذه؛ لكفى بها حجة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ بضم الثاء) وعن بعضهم: الثمد، قلة الماء، يقال: ركية ثمود، قليلة الماء. والثمود جمع ثمد، فكأنهم سموا بذلك؛ لأنهم كانوا قليلي الماء. قوله: (ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية -الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم، وكفى به شاهدًا- إلا هذه؛ لكفى بها حجة) أنطقه الله الذي أنطق كل شيء. نبه أهل السنة على الأدلة التي تلزمهم والحجة التي تبهرهم، وها هنا أبحاث لا بد منها، وهي أن القدر ما هو لغة وعرفًا؟ ثم بعد تحققه من أولى بهذه التسمية؟ ثم ما وجه مناسبة القدري بالمجوس؟ ثم تلفيق الآية بعد تحقق معناها. فنقول -وبالله التوفيق-: أما تحقيق القدر لغة فقد ذكر في "الأساس": هو قادر مقتدر وقدرة ومقدرة، وأقدره الله عليه وقادرته، قاويته. والأمور تجري بقدر الله ومقداره وتقديره وأقداره ومقاديره. الجوهري: القدر ما يقدر الله تعالى من القضاء. وقال أبو سليمان الخطابي: معنى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القدر والقضاء الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق له خيرها وشرها. والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، كالهدم والقبض اسم لما صدر عن فعل الهادم والقابض. يقال: قدرت الشيء بالتخفيف والتثقيل. وأما النقل فقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {[القمر: 49] وسيجيء تقريره. وروينا عن الترمذي وأبي داود: قال عبد الرحمن بن سليم: قدمت مكة فلقيت عطاء بن رباح فقلت: يا أبا محمد، إن بالبصرة قومًا يقولون: لا قدر. قال: يا بني، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ "الزخرف| فقرأت: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1 - 2] إلى قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] قال: أتدري ما الكتاب؟ فقلت: لا. قال: فغنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيه ان فرعون من أهل النار، وفيه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وعن البخاري ومسلم، عن عمر وأبي هريرة: "ان تؤمن بالقدر خيره وشره"، الحديث المستفيض. وعن مسلم ومالك وأحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". والحاديث المروية في القدر لا تحصى كثرة، فثبت بما أوردناه أن اسم القدر يطلق على ما يقدره الله من الخير والشر، وبناء النسبة منه قدري، وهو يحتمل في نفسه ان يكون صفة مدح وصفة ذم، ويحتمل ان يطلق على من يقول: إن المقدورات كلها بخلق الله تعالى، وعلى من يثبت للغير قدرة مستقلة، رجحنا الثاني لكونها صفة ذمه، وأن القول بإثبات القدرة للغير على خلاف قول الله تعالى وقول رسوله صلوات الله عليه، فثبت ان هذا الوصف بالمعتزلة أولى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن أبي داود عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل امة مجوس، ومجوس هذه المة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيع الدجال". وعنه عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القدرية مجوس هذه المة". الحديث. واما وجه المشابهة فإن القدرية يثبتون قادرًا مستقلًا غير الله، كما أن المجوس يثبتون قادرين فاعلين: فاعل خير محض وفاعل شر محض، ويسمون الأول بيزدان والثاني باهرمن. واما تفسير الهداية بالدلالة الموصلة إلى البغية حقيقة، وبمجرد الدلالة مجازًا عن إزاحة العلة وتمكينهم على الإيمان، فقول مجرد عن تقليد المذهب وقد استقصينا القول فيها في "البقرة". قال صاحب "الانتصاف": الهدى من الله خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال خلق الضلال في قلوب الكافرين، وقد استعملا مجازًا في غير ذلك، ففي هذه الآية المراد البيان، وقد اتفق الفريقان على ان الهدى ها هنا مجاز غير أن اهل السنة يحملونه في كثير من المواضع على الحقيقة، والمعتزلة يجعلونه مجازًا في جميع موارده، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي دليل في هذه الآية لأهل البدعة؟ قال الإمام: قالت المعتزلة: الآية دالة على انه تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل؛ إلا أن الإيمان يحصل من العبد؛ لأن قوله: {وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} يدل على نصب الأدلة وإزاحة العلة. وقوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} يدل على أنهم من عند أنفسهم اتوا بذلك العمى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه صدر عنهم ذلك العمى؛ لأنهم استحبوا تحصيله فلم وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة ضده؟ فإن حصل لا لمرجح فهو باطل، وإن كان من العبد عاد الطلب، وإن كان من الله فهو المطلوب. وثانيهما: أنه تعالى قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى}، ومن المعلوم أن احدًا لا يحب العمى والجهل؛ لكونه عمىَ وجهلاَ، بل ما لم يطلق فيهما كونهما بصيرة وعلمًا لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد ان يكون مسبوقًا بجهل آخر لا عن اختيار منه. ثم قال الإمام: شرع صاحب "الكشاف" ها هنا في سفاهة عظيمة والأولى ألا يلتفت إليه؛ لأنه وغن كان يعى سعيًا حسنًا فيما يتعلق بالألفاظ؛ إلا أنه كان بعيدًا من هذه المعاني. وقلت: هذا يشعر بأن الإمام أقر أن ظاهر الألفاظ التنزيلية مع المصنف، لكن دلائل العقل لا تساعد عليه، وليس كذلك؛ لأن الألفاظ أيضًا تنبو عن تفسيره، وبيانه: أنا نوافقه ان الهدى ها هنا مستعمل في مجرد الدلالة إما مجازًا على ما قال او حقيقة إذا قلنا بالاشتراك، لكن الخلاف في آية البيان والدلالة، أو لإزاحة العلة والتمكين على الهدى بمثابة تحصيل البغية فيم بتحصيل ما يوجبها فلينظر إلى مقتضى المفام ليظهر الحق، فإنه كثيرًا ما يصرف اللفظ المستقيم من جهة النحو واللغة عن موضعه للتناسب المعنوي كما فعل في قوله: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة آية: 5 - 6] قال: "قيل: الطاغية مصدر كالعافية، أي: بطغيانهم، وليس بذاك؛ لعدم الطباق بينها وبين قوله: {رِيحًا صَرْصَرًا} "، وفسرها بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة لتوافق قوله: بالعاتية. وفي هذا المقام أغمض عن ذلك عصبيته، وذلك ان قوله: {وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} معطوف على قوله: {وَأَمَّا عَادٌ} وهما تفصيل لما أجمل، ونشر لما لف في قوله: {أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} ألا ترى كيف جمعهما وعم فيه قوله:

[{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 19 - 21] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}؟ قال: يحشر الله عز وجل أعداء الله الكفار من الأولين والآخرين، فإن قوله: "فهديناهم" في مقابل {إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} وأن قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} في مقابل {قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} الآية، وكذا في قوله: {فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا} فصيحة تفصح عن محذوف، أي فهديناهم فاستكبروا، بدلالة قرينتها، فظهر أن المراد من قوله: "فهديناهم" دللناهم إلى الإيمان وبينا لهم سبيل الرشاد، يعني: أرسلنا إليهم صالحًا يدعوهم إلى التوحيد والعبادة فاستحبوا العمى على الهدى فأحبوا التقليد والإقامة على ما كانوا عليه من الكفر والضلالة. ويؤيد هذا التفسير إجماع المفسرين قاطبة. قال محيي السنة: {وًامَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ} دعوناهم. قال مجاهد وقال ابن عباس: بينا لهم سبيل الهدى. وقيل: دللناهم على الخير والشر، كقوله: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} فاختاروا الكفر على الإيمان. وروى الزجاج عن قتادة: بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلالة. وروى الواحدي عن الفراء: دللناهم مذهب الخير بإرسال الرسل فاختاروا الكفر على الإيمان، وعليه أول كلامه. وهذا القدر لا يمنع من تقدير الله فيهم الكفر؛ لأن القول بالكسب حق، وإذا وافق أقوال المفسرين ذلك النظم السري كيف يتوهم أن الألفاظ تساعد قوله، والحمد لله على ذلك.

قرئ: {يُحْشَرُ} على البناء للمفعول، و (نحشر) بالنون وضم الشين وكسرها، و: (يحشر): على البناء للفاعل، أي: يحشر الله عز وجل، {أَعْداءُ اللَّهِ}: الكفار من الأوّلين والآخرين. {يُوزَعُونَ} أي: يحبس أوّلهم على آخرهم، أي: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته. فإن قلت: {مَا} في قوله: {حَتَّى إِذا ما جاؤُها} ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها. ومثله قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] أي: لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. شهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلامًا. وقيل: المراد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {يُحْشَرُ} على البناء للمفعول) نافع: "ويوم نحشر" بالنون مفتوحة وضم الشين، و"أعداء الله" بالنصب. والباقون: بالياء مضمومة وفتح الشين، {أَعْداءُ اللَّهِ} بالرفع. قوله: (وهي عبارة عن كثرة أهل النار)، أي: كناية. قال في قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] أي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك الكثرة العظيمة. قال صاحب "الكشف": عالم الظرف -يعني "يوم"- ما دل عليه {يُوزَعُونَ}. قوله: (الله تعالى ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلامًا)، قال الإمام: فعلى هذا يلزم ان يكون المتكلم هو الله تعالى؛ لأنه هو الذي فعل الكلام لا ما كان موصوفًا به كما قلتم في الشجرة، كما أنه تعالى متكلم هناك لا الشجرة، كذلك ها هنا الشاهد هو الله تعالى

بالجلود: الجوارح. وقيل: هي كناية عن الفروج، أراد بـ {كُلِّ شَيْءٍ}: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله: {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بالبقرة: 284] كل شيء من المقدورات، والمعنى: أنّ نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه. وإنما قالوا لهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا}؛ لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. [{وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} 22 - 23] والمعنى: أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم؛ لأنكم كنتم غير عالمين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا الأعضاء، وظاهر القرآن بخلافه؛ لأنهم قالوا لها: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. واما على مذهبنا فسها؛ لأن البنية ليست شرطًا للحياة والعلم والقدرة، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق كل في كل جزء من اجزاء هذه العضاء. قوله: (ما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم) جعل "أن تشهد" مفعولًا له بإضمار المضاف؛ لأن "يستتر" لا يتعدى بنفسه فلا يكون مفعولًا به. وقال صاحب "الكشف": التقدير من أن يشهد، فحذف، ثم كلامه المستدرك لقوله: {وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ} هذا المفعول له، ولهذا قال: "ولكنكم إنما استترتم لظنكم"، المعنى: لم يكن استتاركم لخوف الحساب في

بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلًا، ولكنكم إنما استترتم لظنكم {أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا} كنتم {تَعْمَلُونَ}؛ وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك الظنّ هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله عينًا كالئة ورقيبًا مهيمنًا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشامًا وأوفر تحفظًا وتصونًا منه مع الملأ، ولا يتبسط في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوم التناد؛ لأنكم قم دهرية، ولكن الخوف لأهل الفضيحة في الدنيا من أبناء جنسكم؛ فاستترتم منهم لا من العالم بالسر والخفيات؛ لأنكم كنتم تعتقدون اعتقاد القلاسفة- خذلهم الله- أن الله غير عالم بما تفعلون في الحجب من ارتكاب الفواحش. قوله: (وذلك الظنّ هو الذي أهلككم) إنما أدخل ضمير الفعل ليؤذن أن الكلام فيه تخصيص، وذلك من تعريف الظن الموصوف بالموصولة، وإيقاعه خبرًا لاسم الإشارة الدال على ما بعده. جدير من قبله لأجل اتصافه بذلك الظن الفاسد ثم تكرير الظن؛ لأن الأصل: ذلكم أرداكم، وعلى هذا أيضًا إذا جعل {ظَنُّكُمُ} بدلًا من "ذلكم"، لأنه حينئذ توضيح للواضح؛ وتوكيد للنسبة مظيدًا للتقدير، وجعل المشار إليه كالمشخص المعين الذي لا نزاع فيه كما سبق في الفاتحة، "ذلكم" مبتدأ، و {ظَنُّكُمُ} الخبر، و {الَّذِي} نعت للخبر أو خبر بعد خبر، و {أَرْداكُمْ} خبر آخر، ويجوز أن يكون الجميع صفة أو بدلًا، و {أَرْداكُمْ} الخبر، ويجوز أن يكون {أَرْداكُمْ} حالًا. قال صاحب "الكشف": تقديره: ذلكم ظنكم مرديًا إياكم. قوله: (أن عليه من الله عينًا كالئة ورقيبًا مهيمنًا)، فيه تجريد. قوله: (من ربه أهيب)، "من ربه: متعلق بـ"أهيب"، يقال: هاب منه. وقوله: "احتشامًا" يقدر له مثل ذلك، أي؛ احتشامًا من ربه؛ لأن المصدر لا يتقدمه معموله، ولا معمول التمييز يتقدم على عامل التمييز، وكذا لا يتقدم معمول تنازع فيه العاملان على

سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ: (ولكن زعمتم). {وَذلِكُمْ}: رفع بالابتداء، و {ظَنُّكُمُ} و {أَرْداكُمْ} خبران، ويجوز أن يكون {ظَنُّكُمُ} بدلًا من {ذلِكُمْ}، و {أَرْداكُمْ} الخبر. [{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} 24 - 25] {فَإِنْ يَصْبِرُوا} لم ينفعهم الصبر، ولم ينفكوا به من الثواء في النار، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}: وإن يسألوا العتبى -وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعًا مما هم فيه- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العاملين، ولكن قوله: "منه" مما تنازع فيه أسماء التفضيل، وضميره يعود إلى المؤمن. وقوله: "ما الملأ" مقابل لقوله: "في أوقات خلواته" قهو مثل قولك: زيد قائم أحسن منه قاعدًا في تفضيل إحدى حالتي الشيء على الأخرى، تلخيصه يكون في الخلوة أحسن احتشامًا من ربه من نفسه مع الملأ. قوله: (وإن يسألوا العتبى، وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون)، الجوهري: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرتي راجعًا عن الإساءة، والاسم منه: العتبى. واستعتب، طلب أن يعتب، يقال: استعتبته فأعتبني، أي؛ استرضيته فأرضاني. الراغب: العتب كل مكان ناب بنازله، ومنه قيل للمرقاة ولأسكفة الباب عتبة. واستعير العتب والمعتبة لغلظة يجدها الإنسان في نفسه على غيره، وأصله من العتب وبحسبه قيل: خشنت بصدر فلان ووجد في صدره غلظة، وقولهم: عتبت فلانًا، أي: أبرزت له الغلظة التي وجدت له في الصدر، واعتبت فلانًا: حملته على العتب، ويقال: أعتبته: أزلت عتبه. والاستعتاب: أن يذكر عتبه ليعتب، يقال: استعتبت فلانًا. ويقال: لك العتبى، وهو إزالة ما لأجله يعتب، وبينهم أعتوبة، أي: ما يتعاتبون به.

لم يعتبوا: لم يعطوا العتبى، ولم يجابوا إليها، ونحوه قوله عز وعلا: {أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]. وقرئ: وإن يستعتبوا {فَمَا هُمْ مِنَ المُعْتَبِينَ} أي: إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، أي: لا سبيل لهم إلى ذلك. {وَقَيَّضْنا لَهُمْ}: وقدّرنا لهم، يعنى لمشركي مكة. يقال: هذان ثوبان قيضان: إذا كانا متكافئين. والمقايضة: المعاوضة. {قُرَناءَ}: أخدانًا من الشياطين، جمع قرين، كقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَقَيَّضْنا لَهُمْ}: وقدّرنا لهم) روي عن المصنف: ومنه: قيض البيضة: قشرها؛ لأنه لباسها، واللباس بقدر اللابس، قال معاوية رضي الله عنه: ولو أن يزيد قياض غوطة دمش رجالًا ما رضيت. الراغب: في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا} [الزخرف: 36]، أي: نتح ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض. قوله: (المقايضة: المعاوضة)، الجوهري: قايضت الرجل مقايضة، أي: عاوضته بمتاع؛ وهما قيضان، كما تقول: بيعان. قوله: (كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ )، الإنتصاف: الآية على ظاهرها، فالله تعالى ينهى عما يريد وقوعه، وبذلك صرحت هذه الآية، فتقول لمن يخرجها عن موضعها: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه المة بشهادة نبيها صلوات الله عليه سوى هذه الآية لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه الله بها.

والدليل عليه: {وَمَنْ يَعْشُ} {نُقَيِّضْ}. {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ}: ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها. أو {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا واتباع الشهوات، {وَمَا خَلْفَهُمْ}: من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا حساب. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني: كلمة العذاب، {فِي أُمَمٍ}: في جملة أمم. ومثل "في" هذه ما في قوله: إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ .... فوكًا ففي آخرين قد أفكوا يريد: فأنت في جملة آخرين، وأنت في عداد آخرين، لست في ذلك بأوحد. فإن قلت: {فِي أُمَمٍ} ما محله؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمْ} أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. {إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ}: تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم. [{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} 26 - 28] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَمَنْ يَعْشُ} {نُقَيِّضْ})، أي: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، فأوقع {نُقَيِّضْ} -وهو فعل الله- جزاءً للشرط ومسببًا عن فعل العبد خلقًا، وعند أهل السنة: من فعله كسبًا. وقلت: ويؤيد قول صاحب الانتصاف" قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي: حق عليهم قولنا: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. قوله: (مأفوكًا)، أي: مصروفًا، والإفك: الصرف، وأفكته: صرفته بالكذب والباطل، والأفاك: الذي يصد الناس عن الحق بالكذب.

قرئ: ({وَالْغَوْا فِيهِ})، بفتح الغين وضمها. يقال: لغى يلغى، ولغا يلغو. واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. قال: من اللغا ورفث التكلم والمعنى: لا تسمعوا له إذا قرئ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: قريء ({وَالْغَوْا فِيهِ}، بفتح الغين وضمها) الفتح مشهورة، والضم شاذ، قال صاحب "المطلع": هي قراءة عيسى بن عمر، وهو على الفتح من حد: صنع، وعلى الضم من حد: دخل، قاله الأخفش، وفي "ديوان الأدب" من حد علم يقال: لغا يلغو لغوًا ولغى يلغى، او لغي يلغي لغى. قوله: (من اللغا ورفث التكلم) أوله: ورب أسرى بالحجيج الكظم وفي الشرح: أستغفر الرحمن ذا التعظم قوله: (بالخرافات)، النهاية: خرافة، اسم رجل من عذرة استهوته الجن، وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا: حديث خرافة، وأجروه على كل من كذبوه من الحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه، وفي الحديث: "أنه قال خرافة الحق". الجوهري: الراء فيه مخففة ولا يدخله الألف؛ لأنه معرفة؛ إلا ان يريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل. روي عن المصنف انه قال: المسموع من العرب الخرافات بالتشديد.

والهذيان والرمل وما أشبه ذلك، حتى تخلطوا على القارئ وتشوّشوا عليه وتغلبوه على قراءته. كانت قريش توصي بذلك بعضهم بعضًا. {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}: هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم. قد ذكرنا إضافة {أَسْوَأَ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والرمل)، الأساس: من المجاز كلام مرمل، أي مزيف، وعن بعضهم: الرمل الرجز يقال أراجيز العرب؛ وهو ما يقوله الصبيان من العرب وما يقوله المقاتلة في الحرب فيما بينهم. الجوهري: الرمل جنس من العروض. قوله: (ويجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا}) يروى بالواو وبغير الواو، ويروى وأن يذكر الذين كفروا، ولكن ذكر الأول أصح دراية؛ لن التقدير يجوز ان يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين وضعًا للمظهر موضع المضمر، ويجوز ان يذكر الذين كفروا عامة، فيدخل فيه هؤلاء اللاغين دخولًا أوليًا. قوله: (قد ذكرنا إضافة {أَسْوَأَ}) أي: في سورة "الزمر" عند قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] وذكر فيه ان إضافة "أسوأ" ليس من إضافة أفعل إلى ما أضيف إليه لقصد الزيادة عليه، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بني مروان. لأن التقدير: ليجزيهم أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون، وهذا غير مستقيم على التفضيل؛ لن الكفرة مجزيون بالعذاب الشديد، وليس المراد أن بالعذاب سوءًا وأسوأ، وانهم مجزيون بالأسوأ دون السوء، ويمكن أن تجري الإضافة على ظاهرها، ويكون عطف قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي} الآية على قوله: {فَلَنُذِيقَنَّ} الآية، على نحو عطف "جبريل" على "ملائكته"، كأنه قيل: فلنذيقن أولئك اللاغين بما فعلوا من الشرك والإفساد والعصيان عذابًا شديدًا، وخصوصًا لنجزينهم أسوأ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جزاء أعمالهم من الاستهزاء بىيات الله وتحقير القرآن المجيد، وقولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}. والنظم يساعد هذا التأويل؛ لأنه لما رتب ر على ما سبق وعطف عليه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} بعد إثبات الكفر لهم والاستخفاف بكتاب الله المجيد علل استحقاق العذاب الشديد بوضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع الضمير تقريرًا، وعلل استحقاق الأسوأ بوضع {أَعْداءِ اللَّهِ} موضع {هُمْ} تلويحًا، وأشير إلى الأسوأ وهو قريب باسم الإشارة الدال على البعد؛ ليؤذن بالفرق بين الجزاءين والبون بين الكفرتين ثم بين بان هذا الجزاء الخاص موجبه ذلك الاستخفاف تصريحًا بأن ختم الكلام بقوله: {جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} واعاد بذكر الجزاء، ووضع الآيات موضع القرآن، واوثر صيغة التعظيم تربية لتلك الفوائد وترشيحًا لها، وعبر عن اللغو بالجحد ردًا للعجز على الصدر كما قال المصنف: "أي: جزاء بما كانوا يلغون فيها" فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو، وهذا نوع من انواع رد العجز على الصدر؛ لما بين قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} الآية، وبين قوله: {بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} من التوافق المعنوي؛ لأن من يستهزئ بالقرآن لا بد أن يكون جاحدًا له، فظهر أن الإضافة في الآية مما قصد بها الزيادة على ما أضيف إليه، ولما ألحق المصنف هذا الأسوأ بذلك، نحن نلحق ذلك بهذا النشر بعضد هذا التقرير. وفي هذه الاعتبارات تعريض بمن لا يكون عند كلام الله المجيد خاضعًا خاشعًا متفكرًا متدبرًا، وتهديد ووعيد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ ويخلط عليه القراءة، وإرعاد وإبراق لمن يدرك منه قلة مبالاة به؛ فضلًا عمن ينبذه وراءه ظهريًا؛ واشتغل بما ينافيه من العلوم المذمومة، فانظر إلى عظمة القرىن المجيد، وتأمل في هذا التغليظ والتشديد، واشهد لمن عظمه وأجل قدره وألقى إليه السمع وهو شهيد بالفوز العظيم والدرجات المقيم، رزقنا الله وإياكم معاشر الإخوان توقير كلام الله وتوقير حرمته، واستنباط دقيق معانيه، وتحقيق مبانيه، ووفقنا بفضله وجوده للعمل بما فيه، إنه خير مامول ونعم مسؤول.

بما أغنى عن إعادته. وعن ابن عباس" {عَذابًا شَدِيدًا} يوم بدر. و {أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرة، {ذلِكَ} إشارة إلى الأسوأ، ويجب أن يكون التقدير: أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون؛ حتى تستقيم هذه الإشارة. و {النَّارُ}: عطف بيان للجزاء، أو خبر مبتدأ محذوف. فإن قلت: ما معنى قوله: {لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ}؟ قلت: معناه أن النار في نفسها دار الخلد، كقوله: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وتقول: لك في هذه الدار دار السرور، وأنت تعنى الدار بعينها. {جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} أي: جزاء بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو. [{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} 29] {الَّذَيْنِ أَضَلَّانا} أي: الشيطانين اللذين أضلانا {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}؛ لأنّ الشيطان على ضربين: جني وإنسي، قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [النعام: 112]، وقال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 5 - 6]. وقيل: هما إبليس وقابيل؛ لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق. وقرئ: (أرنا)، بسكون الراء لثقل الكسرة، كما قالوا في فخذ: فخذ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن النار في نفسها دار الخلد) قال ابن جني: {لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ} وهي نفسها دار الخلد، فكانه جرد من الدار دارًا، وعليه قول الأخطل: بنزوة لص بعدما مر مصعب .... بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل ومصعب بنفسه هو الأشعث، كانه استخلص منه أشعث. قوله: (وقرئ: (أرنا)، بسكون الراء) ابن كثير وابن عامر وأبو بكر وأبو شعيب، وقرأ أبو عمرو عن اليزيدي: باختلاس كسرتها، والباقون: بإشباعها.

وقيل: معناه أعطنا اللذين أضلانا. وحكوا عن الخليل: أنك إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه. وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء، معناه: أعطني ثوبك. ونظيره: اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار. [{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 30 - 32] {ثُمَّ} لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه؛ لأنّ الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا} [الحجرات: 15]، والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن أبي بكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار)، الجوهري: آتاه إيتاء، أي؛ أعطاه، وآتاه أيضًا، أي؛ أت به، ومنه قوله تعالى: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أي؛ ائتنا به. قوله: (ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته) يعني لم يرد بالقول مجرد النطق فحسب؛ بل هو وما يستبعه، وذلك أن هذا القول ادعاء من القائل بأنه رضي بالله ربًا، والرضا بذلك إقرار بأن المعبود الخالق المنعم على الإطلاق مالكه ومدبر أمره، وذلك يوجب القيام بمقتضياته من الشكر باللسان وتحقيق مراضيه بالقلب والجوارح، وعلى هذا النهج ورد عن عبد الله بن مغفل قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحبك. قال: انظر ما تقول. فقال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات، قال: إن كنت صادقًا فأعد للفق تجفافًا، الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه". أخرجه الترمذي، وأنشد في معناه:

الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلًا كما استقاموا قولًا. وعنه: أنه تلاها، ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: حملتم الأمر على أشدّه. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: استقاموا على الطريقة، لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل. وعن علي رضي الله عنه: أدّوا الفرائض. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تهون علينا في المعالي نفوسنا .... ومن طلب الحسناء لم يغله المهر النهاية: التجفاف شيء من سلاح يترك على الفرس يقيه الردى، وقد يلبسه الإنسان، ولما كان هذا الكلام من الجوامع، وسأل الصحابي عن أمر يعتصم به، أجابه صلوات الله عليه بقوله: "قل ربي الله ثم استقم". قوله: (قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان) هو من قوله صلوات الله عليه حين قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال: "قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام"، أخرجه الترمذي عن أنس. قوله: (لم يروغوا روغان الثعالب)، ويروى "الثعلب"، الأثر مذكور في "شرح السنة"، النهاية: روغان الثعلب مثل لمن لا يثبت على حال، وفي حديث قيس: "خرجت أريغ بعيرًا شرد مني"، أي؛ أطلبه بكل طريق.

أخبرني بأمر أعتصم به، قال: "قل ربي الله، ثم استقم"، قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال: "هذا". {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت بالبشرى. وقيل: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم. {أَلَّا تَخافُوا} "أن" بمعنى "أي"، أو مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تخافوا)، أي: يقولون: لا تخافوا، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غم، فلن تذوقوه أبدًا. وقيل: لا تخافوا ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم. كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين. {تَدَّعُونَ}: تتمنون: والنزل: رزق النزيل؛ وهو الضيف، وانتصابه على الحال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أخبرني بأمر أعتصم به) الحديث، أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه والدارمي. قوله: (وانتصابه على الحال) قال صاحب "الكشف": إن جعلت "نزلًا" جمع نازل، كشارف وشرف، وصابر وصبر، كان حالًا من الكاف والميم، أي لكم فيها نازلين، ويكون قوله: {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} في موضع نصب صفة "لنزلًا" أي نازلين من أمر غفور رحيم، قال أبو علي: ولا يكون من غفور رحيم متعلقًا بـ {تَدْعُونَ}، لأن الحال التي هي من المجرور قد فصل بينهما، ولكن إن جعلت {نُزُلًا} حالًا من الضمير المرفوع في {تَدْعُونَ} على تقدير: تدعون أنتم نزلًا، جاز أن يتعلق {مِنْ} بـ {تَدْعُونَ} لأن الحال والظرف جميعًا في الصلة، وهذا يدل على أن الحال مما في الصلة ليس كالحال عن الموصول؛ لأن الحال عن الموصول يؤذن بتمامه فيصير فاصلًا بين الموصول وما بعد الحال من الصلة، ويجوز أن يكون

[{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 33] {مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ} عن ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام {وَعَمِلَ صالِحًا} فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة له. وعنه: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين. وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحدًا معتقدًا لدين الإسلام، عاملًا بالخير، داعيًا إليه؛ وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد، الدعاة إلى دين الله. وقوله: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده، كما تقول: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {نُزُلًا} حالًا من الموصول، أي لكم الذي تدعونه معدًا. ولا يكون جمع "نازل" بل هو من النزل الذي يجعل للضيفان، وهذا إنما يكون على قول من رفع بالظرف كقولهم: في الدار زيد قائمًا، وأما من رفع بالابتداء فلا يكون حالًا من "ما" ولكن من الضمير في الظرف، أو من الضمير المنصوب المحذوف، أي ما تدعونه نزلًا. قوله: (نجلة (أي؛ ملة ومذهبًا له. الجوهري: فلان ينتحل مذهب كذا وقبيلة كذا؛ إذا انتسب إليه. قوله: (ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده)، نحوه قال في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، قال: ومعنى "قال له أسلم" قال: أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام "فقال أسلمت"، أي: فنظر وعرف. قال الإمام: إن السعادة لها مرتبتان: التام، وفوق التام، أما التام فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملًا في ذاته، فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

هذا قول أبي حنيفة، تريد مذهبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اسْتَقامُوا} إشارة إلى هذه المرتبة، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بتكميل الناقصين، وهو فوق التام، فقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا} إشارة إلى هذه المرتبة، واعلم أن من آتاه الله عز وجل قريحة وقادة ونصابًا وافيًا من العلوم الإلهية الكثيفة عرف أن لا ترتيب أحسن وأكمل من ترتيب آي القرآن. وقلت: فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} جامعًا للمعاني السابقة، ولا يكون محصورًا في القول المجرد لمجيئه على طريقة التذييل، وعلى أسلوب قولك: زيد من العلماء، أي: له مساهمة معهم في هذا الوصف، والعلم له كاللقب المشهور، فكأنه قال: إنني لمن الذين لهم القدح المعلى في التسليم والتفويض. الراغب: الإسلام في الشريعة ضربان: أحدهما: دون الإيمان، وإياه عنى بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الأحزاب: 14]؛ والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]. قوله: (هذا قول أبي حنيفة) يريد: مذهبه. النهاية: منه الحديث: "لما أراد أن يعتكف ورأى الأخبية في المسجد فقال: آلبر تقوقون بهن؟ "، أي: أتظنون وترون أنهن أردن البر؟ ومنه: "سبحان الذي تعطف بالعز وقال به"، أي: أحبه واختصه لنفسه، كما يقال: فلان يقول بفلان، أي: بمحبته واختصاص، وقيل: معناه: حكم به، فإن القول يستعمل في معنى الحكم. وقال الأزهري: معناه: غلب به، وأصله من قبل الملك؛ لأنه ينفذ قوله.

[{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 34 - 35] يعني: أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ الحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدى ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة أو السجية -التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان- إلا أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت: فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل: ادفع بالتي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عدوك المشاق)، أي: المخالف الذي أخ في شق وأنت في شق. الجوهري: المشاقة والشقاق؛ الخلاف والعداوة. قوله: (فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ ) السؤال وارد على تفسيره السابق، وقوله: " إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك" يعني: حين أعلمناك بتفاوت الحسنتين إذا وردت عليك سيئة من بعض أعدائك فادفعها بإحدى الحسنتين، وهي التي أحسن، لأنك من أولي العزم وصاحب الخلق العظيم، فالفاء لازمة الترتب، فلم تركها؟ وأجاب بأن الترتيب موكول إلى الذهن الذي هو أقوى الدليلين، وترك الوصل إلى الفصل للاستئناف، وتقدير سؤال السائل، فـ {أَحْسَنُ} على هذا على حقيقته، وقوله: "وقيل "لا" مزيدة" عطف على قوله: "إن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما"، والمعنى: أن بين الحسنة والسيئة بونًا بعيدًا، ولا يكن اختيارك إلا الحسنة، فعدل إلى الحسن للمبالغة؛ لأنه على الوجه الأول وقعت الموازنة بين الحسنتين وبين السيئتين. وفي الثاني بين الحسنة والسيئة. فإن قلت: قد علم بما تقرر الموازنة بين الحسنتين، فما معنى الموازنة بين السيئتين؟ قلت:

هي أحسن. وقيل: {وَلَا} مزيدة، والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة. فإن قلت: فكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة! قلت: أجل، ولكن وضع "التي هي أحسن" موضع الحسنة؛ ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة؛ لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. وعن ابن عباس: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة. وفسر الحظ بالثواب. وعن الحسن: والله ما عظم حظ دون الجنة. وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوًا مؤذيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار وليًا مصافيًا. [{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 36] النزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغًا، كما قيل: جد جدّه. أو أريد: وإما ينزغنك نازغ؛ وصفًا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شرّه، وامض على شأنك ولا تطعه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن المسيء إذا أساء إليك فإنك جازيته بمثل تلك السيئة فحسنتك سيئة بالنسبة إليك؛ لما كان عليك أن تعفو عنه؛ بل تحسن إليه، لكن لا تستوي سيئتك وسيئته. وسيجيء إن شاء الله تعالى في سورة "الشورى" الكلام فيه عند قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} بالشورى: 40]. قوله: (أو أريد: وإما ينزغنك نازغ) وعلى هذا "من" بيانية، جرد من الشيطان؛ إما شيطان آخر وسمي نازغًا، أو جرد منه وصفه الذي هو تسويله وجعل نازغًا، فهو هو أيضًا، وعلى الأول كانت ابتدائية، المعنى: إما ينزغنك من جهة الشيطان نزغ فأسند الفعل إلى فعله مجازًا. قوله: (وامض على شانك) أي خلصت من نزغاته. الأساس: مضى على أمره، تم عليه. ومضى السيف في الصريبة. ومضى في حاجته.

[{وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 37 - 38] الضمير في {خَلَقَهُنَّ} لليل والنهار والشمس والقمر؛ لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها وبريتهنّ، أو لما قال: {وَمِنْ آياتِهِ} كن في معنى الآيات، فقيل: {خلقهنّ}. فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت: عند الشافعي رحمه الله: {تَعْبُدُونَ}، وهي رواية مسروق عن عبد الله؛ لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبي حنيفة رحمه الله: {يَسْأَمُونَ}؛ لأنها تمام المعنى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لما قال: {وَمِنْ آياتِهِ} كن في معنى الآيات) ويروى: في معنى الآيات، وهو الأصح، فقيل: {خَلَقَهُنَّ} جواب عما قيل، لا يصح أن يعود إلى الشمس والقمر والليل والنهار؛ لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للتذطير دون التأنيث. وأجاب المصنف بأنها في معنى الآيات، قال الزجاج: قد قيل: الليل والنهار والقمر، وهي مذكرة، وقد قال: "خلقهن" والهاء والنون تدل على التأنيث، وفي الجواب وجهان: أحدهما: أن ضمير ما لا يعقل على لفظ المؤنث، تقول: هذه لناشق فسقها، وغن شئت "فسقهن". وثانيهما: أن يرجع إلى معنى الآيات؛ لنه تعالى ومن آياته هذه الأشياء، فاسجدوا لله الذي خلقهن. قوله: (عند الشافعي رضي الله عنه: {تَعْبُدُونَ}) أي؛ الشافعي يسجد عند {تَعْبُدُونَ}، وأبو حنيفة عند {يَسْأَمُونَ}. وقلت: الأصح الثاني. قال صاحب "الروضة": الأصح أنه عقيب {يَسْأَمُونَ}، والثاني عقيب {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. قوله: (لأنها تمام المعنى) ويمكن أن يقال: تمام المعنى عند قوله: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي

وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب. لعل ناسًا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصًا، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم، فإنّ الله عز سلطانه لا يعدم عابدًا ولا ساجدًا بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد. وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ: (لا يسأمون)، بكسر الياء. [{وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 39] الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً} [الحج: 5]؛ وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو؛ وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خَلَقَهُنَّ} لأنه حكم قد عقب الوصف المناسب، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تتميم للمعنى وتقريع للغافلين، وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} تتميم غب تتميم، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال: فدعهم وشأنهم، لكنه متضمن للذم على ترك السجود، فإن قوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} وضع موضع: فإن لم يسجدوا، إقامة للسبب موضع المسبب للعلية، وأنت قد عرفت أن شرعية إيجاب السجدة إما للأمر بها، أو المدح لمن أتى بها، أو الذم لمن تركها، وكان الظاهر إيجاب سجدتين؛ فجعل الثاني كالتوكيد للأول، فشرع سجدة واحدة. وعن بعضهم: إنما كانت السجدة عند {لا يَسْأَمُونَ} لأنه أقرب إلى الاحتياط، فإنها إن كانت عند الآية الأولى جاز تاخيرها، وإن كانت عند الثانية لم يجز تعجيلها.

في زيه، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة. وقرئ: (وربأت) أي: ارتفعت؛ لأن النبت إذا همّ أن يظهر ارتفعت له الأرض. [{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَاتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 40] يقال: ألحد الحافر ولحد؛ إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ: {يُلْحِدُونَ} و (يَلحَدون)، على اللغتين. وقوله: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} وعيد لهم على التحريف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكاسف البال)، الجوهري: رجل كاسف البال، سيء الحال. والطمر، الثوب الخلق، والجمع: الأطمار. يريد أن الكلام فيه استعارة تمثيلية، شبه حال جدوبة الأرض وإعدام الخير فيها؛ ثم غحياء الله بالماء النازل من السماء، وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب، وإنبات كل زوج بهيج بعد القحل، بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه له، ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها؛ تكلف بأنواع الزين والزخارف، فيختال في مشيه زهوًا، فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرًا، ثم بولغ في التشبيه فحذف المشبه واستعمل الخشوع. والاهتزاز دلالة على مكانه. قوله: (وقرئ "ورأت") قال الزجاج: ويقرأ "ربأت" بالهمز، فمعنى: ربت: عظمت. وربأت: ارتفعت. قال ابن جني: قرأ أبو جعفر "وربأت"، ومعناها راجعة إلى معنى قراءة الجماعة، وذلك ان الأرض إذا ربت ارتفعت، ومنه الربيئة، وهي الطليعة؛ لشخوصه على الموضع المرتفع. قوله: (وقرئ: {يُلْحِدُونَ} و (يَلحَدون)) الثانية: حمزة، والباقون: الأولى.

[{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 41 - 42] فإن قلت: بم اتصل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ}؟ قلت: هو بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا}. والذكر: القرآن؛ لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله، {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} أي: منيع محمى بحماية الله {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} مثل، كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلًا من جهة من الجهات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا}) وفي هذا الإبدال الإشعار بتغليظ من تأول القرآن بالرأي الباطل والهوى الزائغ، وتعظيم لشأن القرآن المجيد، ونعي على المتقاعدين عنه، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مطاعن القوم فيه، وذلك انه تعالى لما افتتح السورة بذكر القرآن المجيد، وانه آية عظيمة قاهرة، وعقبه بما بين عجزهم عن المعارضة بتلك الشبهة الركيكة، وهي ان الرسالة منحصرة على الملائكة لا تتعدى إلى البشر، وذكر طعنهم فيه وقولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وذيل المعنى بوجوه من الاستطرادات المناسبة، أتى بنوع من مطاعنهم، وهو الإلحاد فيه تقريرًا للعجز والانخذال، وبيانًا لتبكيتهم عن الحجة القاهرة، وما يدل على أن الإبدال للتعظيم وضع قوله: {بِالذِّكْرِ} موضع {فِي آياتِنا} وضعًا للمظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، وجعله علة لابتناء أوصاف الكمال عليه {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} إلى آخره. قوله: (كأن الباطل لا يتطرق إليه) بيان للمثل، يعني: قوله: {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} استعارة تمثيلية، والوجه منتزع من عدة امور، وهي مسبوقة بالتشبيه، ومن ثم أتى في البيان بأداته، شبه الكتاب وعدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من إحاطة العدو به من كل جانب، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، بأن ترك المشبه إلى ذكر المشبه به قائلًا: {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فقوله: {لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ} صفة أخرى لـ"كتاب"، وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} تعليل لاتصاف الكتاب بالوصفين، فكونه حكيمًا موجب؛ لأن يكون منزله محكمًا متقنًا رصينًا يغلب ولا يغلب؛ فيكون عزيزًا، وكونه حميدًا يستدعي أن يكون كلامه حقًا

حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت: أما طعن فيه الطاعنون، وتأوّله المبطلون؟ قلت: ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قومًا عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقًا، ولا قول مبطل إلا مضمحلًا. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا باطلًا عبثًا، يهدي الناس إلى النعمة العظمى، {وَاللهُ يَدْعَوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] فليشكر لذلك قائله وليحمد المتكلم به. ثم إن المشركين حين لم يعرفوا هذه النعمة، وراموا نسبة الباطل إليه، وطلبوا توهين أحكامه، كما نبه عليه قوله: {وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} الآية سلى حبيبه أولًا بقوله: {ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} وثانيًا بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ}. قوله: ({وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9]) أي: بحراس التنزيل وسواس التاويل، ذبوا عن حريم القرآن، ودفعوا عن مطاعن الخصوم، هكذا يجب أن يقدر ليصح استشهاده بالآية لقوله: " ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قومًا" "الأساس": ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، ضمن "تقدم" معنى "تكفل" أي: تكفل في حمايته سابقًا بأن اتاح وقدر علماء ذابين عن حريمه. وقلت: يجوز خلافه؛ لأنه تعالى أنزل التوراة واستحفظها الحبار والربانيين كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} إلى قوله: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] فغيروا وحرفوا، وتكفل عز وجل هو بنفسه حفظ القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9] فأكد الجملة انواعًا من التأكيد؛ لئلا يظن الخلاف. قال الإمام: إن الله حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة والنقصان فيه؛ لأنهم لو راموا ذلك لتغير نظمه؛ وظهر للخلق أنه من كلام البشر وليس

[{ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} 43] {مَا يُقَالُ لَكَ} أي: ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة. {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} ورحمة لأنبيائه، {وَذُو عِقابٍ} لأعدائهم. ويجوز أن يكون: ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: هو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ}، فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، والغرض: تخويف العصاة. [{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} 44] كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم! فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا: {لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ} أي: بينت ولخصت بلسان نفقهه {ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الهمزة همزة الإنكار، يعني: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ ! أو: مرسل إليه عربي؟ ! وقرئ: (أعجمي)، والأعجمي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من كلام خالق القوى والقدر، ولقائل أن يقول: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مطلق يحمل على إنا لحافظون ألفاظه من التغيير والتبديل، وحافظون معانيه من تاويل المبطلين، بأن يقيض قومًا يعارضونهم، فاستشهد به للمعنى الثاني. قوله: (وقرئ " أعجمي") قرا هشام: "أعجمي" بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، والباقون: على الاستفهام.

الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان، والعجمي: منسوب إلى أمّة العجم. وفي قراءة الحسن: (أعجمي) بغير همزة الاستفهام، على الإخبار بأن القرآن أعجمي، والمرسل أو المرسل إليه عربي. والمعنى: أنّ آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا؛ لأنّ القوم غير طالبين للحق، وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن: هلا فصلت آياته تفصيلًا، فجعل بعضها بيانًا للعجم، وبعضها بيانًا للعرب. فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابًا أعجميًا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي؟ ! وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الإخبار بأن القرآن أعجمي، والمرسل أو المرسل إليه عربي) فعلى هذا الإنكار ناشئ من كلمة التحضيض، أي: هلا فصلت آياته، ثم بين عدم التفصيل والبيان على سبيل الإخبار بأن القرآن أعجمي والرسول عربي والأمة المرسل إليها عربية، وأنها وكدت معنى التمني، أي: ليتها فصلت تفصيلًا بأن يكون بعضها أعجميًا وبعضها عربيًا؛ ليعلم كل أناس مشربهم الذي يشربون، وإليه الإشارة بقوله: "هلا فصلت آياته"، ويجوز ان يكون مجرى على ظاهره. قوله: (على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا)، أي: مكانًا للتعنت، ويروى: "متعنتًا" باسم الفاعل، فيكون تجريدًا، أي وجدوا فيها من أنفسهم متعنتًا، الجوهري: جاءني فلان متعنتًا، إذا جاء يطلب زلتك. قوله: (كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ ) أي: إطلاق العربي على الجماعة غير مطابق، وكان ينبغي أن يقال: "عربية" نظرًا إلى الأمة، أو "عربيون" نظرًا إلى المعنى؟ واجاب: إن القصد في الكلام إنكار تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا المطابقة بين اللفظ والمعنى، كما في مسألة المرأة القصيرة، فإن المنكر الجمع بين هذين المعنيين، ولا مدخل لخصوصية اللابس والملبس.

أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخيل غرضًا آخر، ألا تراك تقول وقد رأيت لباسًا طويلًا على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير! ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول؛ لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما. {هُوَ} أي القرآن {هُدىً وَشِفاءٌ}: إرشاد إلى الحق وشفاء لِما فِي الصُّدُورِ من الظن والشك. فإن قلت: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} منقطع عن ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في موضع الجر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يخلو: إما أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في موضع الجر) قال ابن الحاجب في "الأمالي": {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مخفوض عطف على {لِلَّذِينَ آمَنُوا} و {وَقْرٌ} مرفوع عطف على {هُدًى} و {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} عطف على قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} فلا بد ان يكون موافقًا له في الإعراب، فيجب أن يكون المعطوف على {لِلَّذينَ} مخفوضًا، والمعطوف على {هُدًى} مرفوعًا بالابتداء، ولا يستقيم ان يقال: أجعل في آذانهم وقرًا، جملة في موضع رفع معطوفة على {هُدًى}؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون المبتدأ جملة، ويلزم من هذا التقدير أن يكون عطفًا على عاملين، كقوله: في الدار زيد والحجرة عمرو، وما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة. ومثل هذا من العطف على عاملين جائز عند المحققين المتأخرين. ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، تقديره: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر، على أن يكون المبتدأ الثاني محذوفًا، وخبره {وَقْرٌ} و {فِي آذانِهِمْ} بيان لمحل الوقر، ولا يكون الوقر "وفي آذانهم" مبتدأ وخبرًا، ولا يقدر هو؛ إذ لا عائد في الجملة على المبتدأ، فلا يكون ما يربط الجملة الثانية بالأولى؛ لأن قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} إخبار عن القرآن بأنه للمؤمنين هدى وشفاء، فإذا لم يكن في الثانية ذكر القرآن كانت أجنبية. ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} مبتدأ، خبره {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} من غير تقدير هو، والرابط محذوف "به" هذا قريب من الوجه الثالث في "الكشاف".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أيضًا: ويجوز أن يكون قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} مرتبطًا بقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} والتقدير: هو للذين أمنوا هدى وهو على الذين لا يؤمنون عمى. وقوله: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} جملة معترضة على الدعاء. وقلت: هذا وغن جاز من جهة الإعراب، لكن من جهة المعاني مردود؛ لفك النظم، وأولى الوجوه ما يصح منه عطف قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} على قوله: {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} ليكون على وزان قوله: {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} لأن الطريق الواضح والمنهج المستقيم إنما يعمى على من لا بصر له ولا بصيرة، وهذا لا يحسن إلا على الوجه الثاني في "الكشاف"، وعليه يلتئم الكلام؛ لأن قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} الآية، جواب عن قوله: {لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} على الأسلوب الحكيم، والمعنى ما قال: إن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتًا، لأن القوم غير طالبين للحق، فيكون ذكر المؤمنين مستطردًا لبيان أن الكتاب في نفسه سبب إزالة الشك والريب لوضوح آياته وسطوع براهينه، وإنما نشأ الريب منكم لتعنتكم، وأنكم من اهل الختم والطبع، ولكونه مستطردًا أخرج التركيب مخرجًا أفاد التعريض، بأن قدم الخبر على المبتدأ ليفيد التخصيص، وبنى الجملة على الضمير المرفوع لإفادى تقوي الحكم برتبة لفائدة التعريص، أي: هو للطالبين للحق خاصة هدىً وشفاء لما في صدوررهم من مرض الشك والريب، وللذين لا يؤمنون ضلال ومرض على مرض، {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] ثم ابتدأ {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} لأن الضلالة ومرض الشك والصمم عن الحق والعمى عن الآيات إذا اجتمع في شخص، فداعيهم إلى الهدى كانه يناديهم من مكان بعيد، كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] أي: مثل داعي الذين كفروا، هذا هو التحقيق، ومن ثم قال: "وغن كان الأخفش تخيره"، أي: هذا الوجه ضعيف؛ لأن الدليل على ضعفه والمقام ينبو عنه، وقد منعه سيبويه، والمختار قوله، فإن القول ما قالت حذام.

معطوفًا على قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدًى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر؛ إلا أنّ فيه عطفًا على عاملين، وإن كان الأخفش يجيزه؛ وإمّا أن يكون مرفوعًا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر، على حذف المبتدأ، أو: في آذانهم منه وقر. وقرئ: (وهو عليهم عم)، و (عمي)، كقوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28]. {يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} يعني: أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء. [{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 45] {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فقال بعضهم: هو حق، وقال بعضهم: هو باطل. والكلمة السابقة: هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم، ولولا ذلك لقضي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ "وهو عليهم عم" و"عمي")، قال الزجاج: ويقرأ: "وهو عليهم عم" بكسر الميم؛ ويجوز "وهو عليهم عمي" بإثبات الياء وفتحها، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين. قوله: (لا يرعونه أسماعهم)، الجوهري: أرعيته سمعي، أي أصغيت إليه. ومنه قوله تعالى: {رَاعِنَا} [البقرة: 104]. قوله: (شاطة) شطت الدار شطوطًا، قال: لئن غبت عن عيني وشطت بك النوى .... فأنت الذي في القلب حطت رواحله قوله: (والكلمة السابقة: هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم) إشارة إلى ان هذا القول وارد على سبيل التخلص إلى ذكر القيامة، وهو قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ

بينهم في الدنيا. قال الله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} [النحل: 61]. [{مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 46] {فَلِنَفْسِهِ}: فنفسه نفع، {فَعَلَيْها}: فنفسه ضرّ، {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} فيعذب غير المسيء. [{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 47 - 48] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي: إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو: لا يعلمها إلا الله. وقرئ: {مِنْ ثَمَرَاتٍ}، "من أكمامهن، والكم، بكسر الكاف: وعاء الثمرة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عِلْمُ السَّاعَةِ} والتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من اختلاف قومه في القرآن وطعن الطاعنين المتعنتين فيه، ولذلك اتى بذكر موسى عليه السلام واختلاف قومه في كتابه. قوله: (أي: إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو: لا يعلمها إلا الله) يريد أن التقديم في قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} يجوز أن يكون إشارة إلى جواب منكر يزعم ان علم الساعة غير مختص بالله، فيجاب بالحصر، أي لا يعلمها غلا الله، وان يكون جوابًا عن متردد يتردد في ذلك ويشك فيه، فيزال شكه بقوله: الله يعلم؛ لإادته تقوي الحكم المستلزم للتخصيص لاختصاص ذكر الاسم الجامع، وانه تعالى يعلمه حقًا البتة، فلا يعلم غيره. قوله: (وقرئ: {مِنْ ثَمَرَاتٍ}) نافع وابن عامر وحفص: بالجمع، والباقون: على التوحيد.

كجف الطلعة، أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به. يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله: من الخداج والتمام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كجف الطلعة)؛ أي: وعاؤها. النهاية: في حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جعل في جف الطلعة"، الجف: وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون فوقه. قوله: (أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل) جعل "ما"- في "ما يخرج"- نافية، و"من" بيانية، والمبين مضمرًا، ثم أخذ القدر المشترك بين الفعال الثلاثة- أعني: "تخرج" و"تحمل" و"تضع" وجعله أصلًا في الاعتبار- وعبر عنه بـ"يحدث شيء"، ثم عمد إلى مصادر الأفعال وجعلها تفصيلًا لذلك المجنل وعطف بعضها على بعض ليتسبب له الاستثناء بقوله: "إلا بعلمه" عن المذكورات كلها، فلا يختص بواحد لاستقامة المعنى، كما جاء في "الأصول": الاستثناء المعقب للجمل يعود إليها؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في التعلقات كالحال والشرط وغيرهما، إلا إذا منع منه مانع، والطريق الذي يسلكه ضابط حسن في الباب. قال أبو البقاء: "وما تحمل" "ما" نافية؛ لأنه عطف عليها "ولا تضع"ثم نقض النفي بـ"إلا" ولو كانت بمعنى "الذي" معطوفة على الساعة لم يستقم ذلك، واما قوله: "وما تخرج من ثمرة" فيجوز أن يكون بمعنى "الذي" والأقوى أن تكون نافية. وقال القاضي: "ما" في "ما تخرج" نافية، و"من" الأولى مزيدة، ويحتمل ان تكون موصولة معطوفة على "الساعة" و"من" مبينة، بخلاف قوله: {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} لمكان {بِعِلْمِهِ} حال، أي مقرونًا بعلمه واقعًا حسب تعلقه. قوله: (من الخداج) خدجت الناقة تخدج خداجًا فهي خادج والولد خديج، إذا ألقته قبل تمام الأيام وإن كان تام الخلق.

والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك. {أَيْنَ شُرَكائِي} أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله: {أَيْنَ شُرَكائِيَ} الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وفيه تهكم وتقريع. {آذَنَّاكَ}: أعلمناك {ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي: ما منا أحد اليوم وقد أبصرنا وسمعنا يشهد بأنهم شركاؤك، أي: ما منا إلا من هو موحد لك: أو: ما منا من أحد يشاهدهم؛ لأنهم ضلوا عنهم، وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ. وقيل: هو كلام الشركاء، أي: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير: أنهم لا ينفعونهم، فكأنهم ضلوا عنهم. {وَظَنُّوا} وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت: {آذَنَّاكَ} إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم: {أَيْنَ شُرَكائِي}؟ إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية: دليل على إعادة المحكي. ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى ضلالهم [عنهم] على هذا التفسير) يعني: إذا كان قوله: {آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} من كلام العبد، يكون معنى {وَضَلَّ عَنْهًمْ} غابن وإذا كان من كلام المعدوم فضلالهم بمعنى عدم نفعهم، لا بمعنى غيبتهم× لأنهم حينئذ المجيبون والمسؤول عنهم العبدة، والجملة على الوجهين حال، و"قد" معه مقدرة، ويجوز أن يكون عطفًا على {قَالُوا}. قوله: ({آذَنَّاكَ} إخبار بإيذان كان منهم) يعني: هذا يقتضي أنه تعالى قد سأل عنهم بمثل هذا السؤال قبل ذلك، وانهم أجابوه بمثل هذا الجواب ثم أعاده، فما فائدة الإعادة؟ وأجاب بوجوه: أحدها أنه من عادة الموبخ أن يعيد كلمة التوبيخ تشديدًا على الجاني وتقبيحًا لجنايته، وثانيها: أن قولهم ليس أنه قد سبق منهم الإيذان بمثله، لكن هو إيذان بلسان الحال من مضمرات البال، وثالثها: أنه توطئة لفخبار وتمهيد لقوله: {ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}، كقول القائل: أعلم الملك، ثم قوله: إنه قد كان من الأمر كيت وكيت.

الباطلة؛ لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاءً للإيذان، ولا يكون إخبارًا بإيذان قد كان، كما تقول: أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت. [{لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} 49 - 50} {مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ}: من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود: (من دعاء بالخير). {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} أي: الضيقة والفقر. {فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء "فعول"، ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 87]. وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق قال: {هَذَا لِي} أي: هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ. أو: هذا لي لا يزول عني، ونحوه قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ} [العراف: 131]، ونحوه قوله: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً}، {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] يريد: وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم {إِنَّ لِي} عند الله الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة، قائسًا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، ويقول في الآخرة: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 4]. وقيل: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء "فعول"، ومن طريق التكرير) قال الإمام: اليأس من صفة القلب، والقنوط آثاره في الأحوال الظاهرة.

نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب؛ ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله، {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]؛ وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبًا للافتخار والاستكبار لا غير، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة، وأنهم محقوقون بذلك. [{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} 51] هذا أيضًا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وكأنه لم يلق بؤسًا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره، {وَنَأى بِجانِبِهِ} أي: ذهب بنفسه وتكبر وتعظم. وإن مسه الضرّ والفقر: أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نزلت في الوليد بن المغيرة) فهو بمعنى قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] عن الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال المصنف: والمشهور أنها في العاص بن وائل؛ وقصته مع خباب مذكورة في سورة "مريم". قوله: (وأنهم محقوقون) حق هذا الأمر، وهو محقوق به، أي: تيقن بخلافته، من الخليق، يعني أنهم احقاء بذلك. قوله: (هذا أيضًا ضرب آخر من طغيان الإنسان)، والضرب الأول بيان لشدة حرصه، وأنه إن أعطي لم يشبع، وإن منع لم يقنع. والثاني لبيان طيشه؛ فلا يثبت على السراء، بل طار من منزلته وتكبر وطغى، ولا يصبر على الضراء، بل خضع واستكان في ذل.

الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، ويستعار له الطويل -أيضًا- كما استعير الغلظ لشدّة العذاب. وقرئ: (ونأِى بجانبه)، بإمالة الألف وكسر النون للإتباع، و (ناء) على القلب، كما قالوا: راء، في: رأى. فإن قلت: حقق لي معنى قوله: {وَنَأى بِجانِبِهِ}. قلت: فيه وجهان: أن يوضع "جانبه" موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى: {عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]: أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله: ...... ونفيت عنه .... مقام الذئب ...... .. يريد: ونفيت عنه الذئب. ومنه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 6]، ومنه قول الكتاب: حضرة فلان ومجلسه، وكتبت إلى جهته، وإلى جانبه العزيز، يريدون نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء؛ وأن يراد بجانبه: عطفه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: (ونأِى بجانبه)) ابن ذكوان: "وناءى بجانبه" جعل الهمزة بعد الألف، والباقون: بفتحهما، ورش على أصله. قوله: (ونفيت عنه الذئب) قبله: وماء قد وردت لوصل أروى .... عليه الطير كالورق اللجين ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين واللجين: ما سقط من الورق عند الخبط، وذعرت: أي أفزعته، والضمير في "به" يعود إلى الماء، خص الذئب والقطا؛ لأن القطا أهدى الطير، والذئب أهدى السباع، وهما السابقان إلى الماء، والرجل اللعين؛ شيء منتصب وسط الزرع يستطرد به الوحوش. يقول: رب ماء قد وردته لأجل أن أرى عليه محبوبتي، جاءت إليه لغسل رأسها ورحض ثيابها، وصفة الماء ذلك.

ويكون عبارة عن الانحراف والازورار؛ كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه. [{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} 52] {أَرَأَيْتُمْ}: أخبروني {إِنْ كانَ} القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني: أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويكون عبارة عن الانحراف) هذا هو الجواب الثاني عن السؤال، وكلا الجوابين لا يتجاوزان عن الكناية، لكن الأول من باب التعريض بالتعظيم، فإنهم يعبرون عن المجلس والمقام والمكان عن ذات من يقصدون تعظيمه، ويحتشمون عن التصريح بالاسم، قال زهير: فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى .... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا سيكفيك من ذاك المسمى إشارة .... فدعه مصونًا بالجلال محجبا وها هنا وارد على التهكم. والثاني من باب الرمز، كما عبروا عن عدم الالتفات بالتولي والنبذ وراء الظهور، ومرجعه أيضًا إلى التكبر والخيلاء؛ لن المتكبر لا يخلو من تلك الحركات. قوله: (يعني: أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن) إلى آخره، في كلامه قيود مستفادة من التركيب التنزيلي، فإن قوله تعالى: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} وارد على العرض والتقدير، ويوجب أن يكون مسبوقًا بمقدمات تنتهي إليه، وهو أن يقال: إن ما أنتم عليه من إنكار القرىن ليس بصادر عن حجة قاطعة عندكم، وإنما هو أمر محتمل؛ لأنكم ما اتبعتم الدليل، فيجوز أن يكون من عند الله وألا يكون من عنده؛ والعاقل إذا تورط في مثل هذه الورطة يتوقف حتى يحصل على اليقين؛ ثم يشرع في قطع الحكم، فأنتم قطعتم في التكذيب والإنكار قبل الفحص والنظر، أخبروني إن كان صادقًا ومن عند الله؛ فمن أضل منكم؟ وقوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ} وارد على العموم وعدم التصريح والمكافحة، وهو يقتضي أن يقال: ولعله حق فأهلكتم أنفسكم، ومن اظلم منكم؟ فوضع موضع الضمير {مِمَّنْ هُوَ

اليقين وثلج الصدور، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقًا وقد كفرتم به، فأخبرونى من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته، ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع: منكم، بيانًا لحالهم وصفتهم. [{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 53 - 54] {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يعنى ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عمومًا وفي باحة العرب خصوصًا- من: الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} وهو معنى قوله: {ثم كفرتم به} لما فيه معنى البعد البعيد، والكلام وارد على إرخاء العنان والكلام المنصف. قوله: (أبعدتم الشوط)، الجوهري: عدا شوطًا، أي: طلقًا. الأساس: فلان شوطه شوط باطل. قوله: (في مشاقته) أي: بالغتم في مخاصمته، قال: المشاقة؛ مشتقة من الشق؛ لأن كلاَ من المتعاديين في شق خلاف صاحبه. قوله: (وفي باحة العرب)، الأساس: نشأ فلان في ساحتك وباحتك وهي العرصة، هذا تفسير لقوله: {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وهذا أيضًا وارد على خلاف مقتضى الظاهر، على عكس ما سبق آنفًا في قوله: {وَنَأى بِجانِبِهِ} أي: بنفسه، وقول الشاعر: "مقام الذئب" جعلت أنفسهم بإدخال "في" كالعرصة والمكان المفتوح، إعلامًا بان تلك الفتوح أثرت في أنفسهم أثرًا بليغًا كانها هي مكانها.

ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورًا خارجة من المعهود خارقة للعادات، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علمًا من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه، مغالط نفسه، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور، وأن للباطل ريحًا تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل. {بِرَبِّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. و {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه، تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد؟ ) إلى آخره، فإن قلت: من أين دل هذا اللفظ الموجز على هذه المعاني المبسوطة؟ قلت: من مقتضى المقام والعدول من الظاهر، فإن أصل المعنى سنريهم هذه الآيات إظهارًا للحق، وكفى دليلًا على ذلك، والواو في {أَوَ لَمْ يَكْفِ} للحال، وإنما أدخل همزة التقرير على الجملة الحالية لمزيد تقرير حصول الموعود، وأن هذه الآيات كافية في المطلوب لا مزيد عليها، ووضع المظهر وقوله: {بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} موضع ضمير الآيات في قولنا: وكفى بها دليلًا؛ للإشعار بالعلية، وأن هذه الآيات إنما صلحت للدليل على حقية المطلوب؛ لأن منشئها من هو على كل شيء مهيمن مطلع، وإليه الإشارة بقوله: "فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب" وأبدل {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} من {بِرَبِّكَ} بيانًا وتفسيرًا وإيذانًا بأن هذا الوصف متعين له وشاهد بأن الرب هو الذي يكون على كل شيء شهيدًا، وإليه الإشارة بقوله: "مطكلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته"، وأما اختصاص الضمير في أنه الحق بالقرآن، فمن حيث المقام؛ لما سبق أن هذه السورة الكريمة نازلة في بيان عظمة القرآن المجيد والرد على منكريه ومعانديه، فكل ما جعل ذكره مشروعًا لمعنى أتى بما يناسبه من المعاني، فكان قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كلامًا على سبيل إرخاء العنان كالخاتمة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لهذه المعاني، فجيء بقوله: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ} الآية مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه، ووعدًا لإظهار كلمته وقهر أعهدائه، وسلك فيه مسلك الدليل والبرهان؛ ليظهر للموافق والمخالف حقيته، وإليه الإشارة بقوله: "ولو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة"، وأدمج في الكلام معنى الإخبار بالغيب بذكر {عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وإليه الإشارة بقوله: "يستوي عنده غيبه وشهادته"؛ ليكون كالشاهد على أنها بنفسها آية مستقلة من حيث إنها مخبرة عن الغيب. روى الواحدي عن الزجاج أنه قال: ومعنى الكفاية ها هنا أن الله تعالى قد بين لهم ما فيه كفاية من الدلالة. فإن قلت: هل لقول عطاء على ما رواه محيي السنة {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ} يعني أقطار السماوات والأرض؛ من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} من لطيف الصنعة وبديع الحكمة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وجه مناسبة بالنظم؟ قلت: أجل، ونعمت المناسبة والعلم عند الله، وذلك أنه تعالى لما أمر حبيبه صلوات الله عليه بمتاركة القوم في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} إلى قوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} دخل في خلده اليأس من إيمان القوم، وذهبت نفسه عليهم حسرات، فأعلمه الله تعالى بقوله: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا} أنه ما عليك إلا البلاغ ومنا الهداية، فأنت قد أديت ما عليك من البلاغ وليس الهداية، ونحن سنهدي منهم من نريد هدايته بأن نفتح قلوبًا غلفًا وآذانًا صمًا وعيونًا عميًا، فيرون آياتنا في الآفاق وفي الأنفس، ثم قرر ذلك بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إنجازًا للموعد، مسليًا له صلوات الله عليه مما اعتراه من اليأس، كان هذا الوجه أحسن، وفي معنى الخاتمة أدخل، وللتناول أعم وأسهل.

ومعناه: أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، أي: مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلًا على أنه حق، وأنه من عنده، ولو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوة، ولما نصر حاملوه هذه النصرة. وقرئ: (في مرية)، بالضم؛ وهي الشك. {مُحِيطٌ}: عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والقول الذي اختاره المصنف رواه محيي السنة عن مجاهد والحسن والسدي. قال الإمام: فإن قيل: هذا الوجه ضعيف؛ لأن سين الاستقبال يدل على أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات، وسيطلعهم عليها، وليس كذلك. قلنا: إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء؛ إلا أن العجائب التي أودعها فيها مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم عليها زمانًا قريبًا حالًا فحالًا، فإن كل أحد يشاهد بينة إلا الإنسان؛ إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في تركيبها لا تحصى واكثر الناس غافلون عنها، فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية، كلما ازداد تفكرًا ازداد وقوفًا، فصح معنى الاستقبال والله أعلم. تمت السورة حامدًا ومصليًا على رسول الله * * *

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب وهو حاشية الطيبي على الكشاف للإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي المتوفى سنة 743 هـ رحمه الله تعالى الجزء الرابع عشر تفسير السور من الشورى إلى نهاية ق

سورة {حم * عسق} (الشورى)

سورة {حم * عسق} مكية، وهي ثلاث وخمسون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [{حم * عسق * كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1 - 5] قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: حم سق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {حم * عسق} مكية، وهي ثلاث وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (قرأ ابن عباس وابن مسعود: "حم سق"): قال الزجاج: "المصاحف فيها العين ثابتة"، وقال ابن جني: "روى محبوب، عن إسماعيل، عن الأعمش، عن ابن مسعود: "حم سق"، وهذا مما يؤكد أن يكون الغرض من هذه الفواتح كونها فواصل بين السور، ولو

{كَذلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ} أي: مثل ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل، {مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} يعني: أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين، ولم يقل: "أوحي إليك"، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. وقرئ: "يوحى إليك"، على البناء للمفعول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانت أسماء الله تعالى لما جاز تغيير شيء منها، وأما نحو: جبرائيل وميكائيل، فإنها أسماء أعجمية، فبعدت عن كلامهم، فاجترأت عليها، وتلعبت بها، وكان ابن عباس أيضًا يقرؤها كذلك". قوله: (أي: مثل ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب): والأول على أن يكون مفعولًا مطلقًا، أي: يوحي إليك مثل ذلك الوحي، والثاني على أن يكون مفعولًا به، والمشار إليه: {حم * عسق}، لأنه اسم للسورة، ولذلك قال: "إن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور". قال أبو البقاء: "وفيه وجهان: أحدهما: أن {كَذَلِكَ} مبتدأ، و {يُوحِي} الخبر. والثاني: أن يكون {كَذَلِكَ} نعتًا لمصدر محذوف، أي: وحيًا مثل ذلك". قوله: (على لفظ المضارع؛ ليدل على أن إيحاء مثله عادته): أشار إلى أن دلالته للاستمرار، فهو على منوال قوله: "فلان يقري ويحمي الحريم"؛ في مقام المدح، أراد: أن ذلك دأبه وعادته، لا الإخبار. قوله: (وقرئ: "يوحي إليك" على البناء للمفعول): قرأها ابن كثير، والباقون: على البناء للفاعل. ?

فإن قلت: فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت: ما دلّ عليه {يوحي}، كأن قائلًا قال: من الموحي؟ فقيل: الله، كقراءة السلمي: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادِهم شركاؤهم" على البناء للمفعول ورفع شركائهم، على معنى: زينه لهم شركاؤهم. فإن قلت: فما رافعه فيمن قرأ "نوحي" بالنون؟ قلت: يرتفع بالابتداء. و{العَزِيزُ} وما بعده: أخبار، أو {الْعَزِيزُ الحَكِيمُ}: صفتان، والظرف خبر. قرئ: {تَكَادُ} بالتاء والياء. و"ينفطرن"، و {يَتَفَطَّرْنَ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأن قائلًا قال: من الموحي؟ فقيل: الله): فإن قلت: في أمثال هذا السؤال: إنما يعيدون الفاعل مع الفعل ليقع المرفوع فاعلًا لفعل محذوف، كما فعل أبو البقاء وقال: "و {اللهُ} فاعل لفعل محذوف، كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله"، وقدروا في قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ} [النور: 36 - 37]: من يسبح؟ فأجيب: رجال، أي: يسبح رجال. وكذا في قوله: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ} [الأنعام: 137]: من زينه؟ فأجيب: زينه لهم شركاؤهم، فما له أوقع السؤال: من الموحي؛ ليجاب: الله، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الموحي الله؟ وأجيب: أن هذا التقدير إنما نشأ من الفعل المضارع ودلالته على الاستمرار كما مر، فأوجب ذلك أن يجاء في السؤال بما يجاب عنه بالدوام، ويمكن أن يقال: أن تلك الأمثلة السؤال فيها عن فاعل مجهول، بخلافه في هذا المقام، فإنه لما قيل: {كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ} لم يخف على أحد أن الموحي من هو؟ فلا يكون السؤال عن تعيين الموحي، بل ليجاب بما ينبئ عن المدح والتعظيم، ومن ثم قرن اسم الذات بذكر صفات تتضمن معنى الجلال والكبرياء، ثم عقب بالتنزيه البليغ. لله در المصنف ولطيف عباراته، ولو قال: "من يوحي؟ " لفات كل هذه الفوائد. قوله: (وقرئ: {تَكَادُ} بالتاء والياء): بالياء التحتانية: نافع والكسائي، والباقون: بالتاء. و"ينفطرن" بالنون: أبو بكر وأبو عمرو، والباقون: بالتاء الفوقانية. ?

وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة: "تتفطرن" بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روي في "نوادر" ابن الأعرابي: "الإبل تشممن". ومعناه: يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}. وقيل: من دعائهم له ولدًا، كقوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]. فإن قلت: لم قال: {مِنْ فَوْقِهِنَّ}؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهي: العرش، والكرسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قراءة غريبة): لأن جمع المؤنث الغائب إنما يكون بالياء التحتانية لا بالتاء، قال: "الوجه في مثل هذا تأكيد التأنيث، كتأكيد الخطاب في قولك: أرأيتك؟ وقال: الشاذ على وجوه: شاذ عن القياس، وشاذ عن الاستعمال مع موافقة القياس، وشاذ عنهما جميعًا، وهذا من قبيله". قوله: (يدل عليه مجيئه بعد {العَلِيُّ العَظِيمُ}): يعني: قوله: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن معناه: أن السماوات يتفطرن من علو شأن الله وعظمته، يدل عليه أن الآية بجملتها مبنية لمعنى العظمة والعلو في قوله: {وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}، ولذلك ترك العاطف. وثانيهما: أن المعنى: تكاد السماوات يتفطرن من دعائهم له ولدًا وشريكًا، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 77 - 91]، يؤيده مجيء قوله: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} بعده. وأما إيراد قوله: {وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فلأنهم استوجبوا بمقالتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبًا، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل، كقوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]، وعلى هذا: الآية واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية التامة والعظمة والكبرياء. ?

وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، أي: يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن، دع الجهة التي تحتهنّ. ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ} [الحج: 19 - 20]، فجعل الحميم مؤثرًا في أجزائهم الباطنة. وقيل: {مِنْ فَوْقِهِنَّ}: من فوق الأرضين. فإن قلت: كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة: 161]، فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت: قوله: {لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصفوف الملائكة المرتجة): قال في "الفائق": "رج الشيء فارتج: حركه فتحرك"، الجوهري: "ارتج البحر وغيره: اضطرب"، و"بالتسبيح" متعلق بقوله: "المرتجة"، وهي صفة للصفوف: قوله: (أو لأن كلمة الكفر جاءت): هذا الجواب مبني على الوجه الثاني من تفسير سبب الانفطار. قوله: (ونظيره في المبالغة قوله عز وعلا: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}: ذكر فيه تأثير الصب في الأجزاء الباطنة، وترك بيان تأثيره في موضع الصب، وهو "رؤوسهم"؛ ليؤذن به أن الموضع الذي ليس موقعًا للصب كذلك، فما بال الموضع الذي وقع فيه الصب؟

فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله، وهم المؤمنون، فما أراد الله إلا إياهم، ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، وحكايته عنهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]، كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار، فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعًا في استغفارهم، فكيف للكفرة؟ ! ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} إلى أن قال: {إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]، والمراد: الحلم عنهم، وأن لا يعاجلهم بالانتقام، فيكون عامًّا. فإن قلت: قد فسرت قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ} بتفسيرين، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت: أما على أحدهما: فكأنه قيل: تكاد السماوات ينفطرن هيبة من جلاله، واحتشامًا من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى قوله سورة المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [غافر: 7]؟ ): يريد: أن هذا المطلق مجمول على ذلك المقيد، انظر كم ركب معاسف؟ ! خص هذا العام بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا}، وقد خص ذلك بقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}، فرجع المعنى إلى قوله: ويستغفرون لمن تاب عن المعاصي. والوجه: أن يحمل هذا الاستغفار على عموم المجاز، كما سبق في سورة المؤمن. قوله: (بتفسيرين): وهو أن السماوات يتفطرن من علو شأن الله، وقيل: من دعائهم له ولدًا.

وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون -خضوعًا لعظمته- على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرون لمن في الأرض خوفًا عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصًا على نجاة الخلق، وطمعًا في توبة الكفار والفساق منهم. [{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 6] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} جعلوا له شركاء وأندادًا، {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده، {وَما أَنْتَ} يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم، ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب. [{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} 7] ومثل ذلك {أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}، وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يستعصمون مختارين): قيل: الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنهم في عصمة، ويجتهدون في الاستزادة. قوله: (وذلك): إشارة إلى المعنى الآية قبلها، وهي قوله: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ومَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، كأنه صلوات الله عليه -على ما هو دأبه وعادته- يحرص على إيمان المشركين،

من أنّ الله هو الرقيب عليهم، وما أنت برقيب عليهم، ولكن نذير لهم، لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لـ {أَوْحَيْنَا}، و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال من المفعول به، أي: أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حدّ الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر {أَوْحَيْنَا}، أي: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنًا عربيًا بلسانك. {لِتُنْذِرَ} يقال: أنذرته كذا، وأنذرته بكذا، وقد عدي الأوّل، أعني: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} - إلى المفعول الأوّل، والثاني -وهو قوله: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ} - إلى المفعول الثاني، {أُمَّ الْقُرى} أهل أمّ القرى، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، {وَمَنْ حَوْلَها} من العرب، وقرئ: لينذر بالياء والفعل للقرآن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فجيء بقوله: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} إنكارًا عليه، وبنى عليه هذا النفي والإثبات للتشديد فيه، يعني: أمثال هؤلاء المصرين ليس في وسعك وقدرتك أن تهديهم، والله وحده هو القادر على ذلك، والذي عليك هو الإنذار فقط. أما قوله: (وهو قرآن عربي لا لبس عليك فيه): فمعناه: أن القرآن مملوء من هذا النوع من الإنكار، وبين فيه بيانًا شافيًا لا يخفى عليك معناه؛ لأنه بلسانك عربي، وأنت تسلك فيه مسلك التورية والإيهام، ولا تترك الحرص البتة، وعلى مثل هذه التورية والمبالغة قد نص المصنف في قوله تعالى: {أن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقوله صلوات الله عليه: "سأزيد على السبعين". قوله: (وقد عدي الأول -أعني: {لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى} - إلى المفعول الأول، والثاني -وهو قوله: {وتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ} - إلى المفعول الثاني): فكأن التقدير: لتنذر أم القرى بما يجب أن تنذر به، ولتنذر أم القرى بيوم الجمع. ?

{يَوْمَ الْجَمْعِ} يوم القيامة، لأنّ الخلائق تجمع فيه. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9]، وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. و {لَا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له. قرئ: {فَرِيقٌ} {وَفَرِيقٌ} بالرفع والنصب؛ فالرفع على: منهم فريق، ومنهم فريق، والضمير للمجموعين، لأن المعنى: يوم جمع الخلائق، والنصب على الحال منهم، أي: متفرّقين، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]. فإن قلت: كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت: هم مجموعون في ذلك اليوم مع افتراقهم في داري البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين، وإن أريد بالجمع: جمعهم في الموقف، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق. [{وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 8] {لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي: مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله: {وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روي عن المصنف أنه قال: " {لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا} عام في الإنذار بأحوال الدنيا والآخرة، ثم خص بقوله: {وتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ}، أي: يوم القيامة، زيادة في الإنذار وبيانًا لعظم أهوال يوم القيامة؛ لأن الإفراد بالذكر يدل على هذا". وقلت: ولهذا أعاد ذكر الإنذار، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ ...... وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]. قوله: (قرئ: {فَرِيقٌ} و {فَرِيقٌ} بالرفع والنصب): أي: فريق في الجنة وفريق في السعير، أو: فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير، فالرفع مشهور، والنصب شاذ. ?

وقوله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ} -بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله- دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}): وقلت: الدليل عليه لا له؛ لأنه تقرر عند علماء المعاني أن مثل هذا التركيب يفيد حصول الفعل قطعًا، لكن الكلام في الفاعل: أنه هل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الله عز وجل؟ فدلت همزة الإنكار على نفي أن يكون الفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختص بالله، فيكون الإكراه موجودًا. أما قضية النظم: فإن الكلام في قوله: {والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ومَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} سيق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شدة الحرص على إيمان قوم اتخذوا من دون الله أولياء، ونزل لذلك منزلة مدع أنه وليهم ونصيرهم، وهو الوكيل على غرس الإيمان في قلوبهم، حتى رد بقوله: {ومَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، وعلل ذلك بقوله: {ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً} الآية، يعني: أن ذلك لأجل أن المشيئة ما تعلقت بإيمانهم، ولم يرد الله أن يدخلهم في رحمته، فوضع "الظالمون" موضع ضمير المتخذين من دون الله أوليا؛ ليؤذن بأن الشرك ظلم عظيم، وذلك الذي منع عن النصرة والتوكيل عليهم، وذلك الذي أبعدهم من رحمته الواسعة، وكان أصل الكلام: ولكن يدخل من يشاء في غضبه. فوضع موضعه {والظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ}؛ غضبًا على أولئك المتخذين من دونه أولياء، وسخطًا على سوء صنيعهم؛ فاللام في {والظَّالِمُونَ} للعهد. ويجوز أن يكون للجنس، فيدخلوا فيه دخولًا أوليًا. وما يدل على التقابل: قول المصنف: "ألا ترى وضعهم في مقابلة "الظالمين"؟ "، يعني: دل وضع {مَن يَشَاءُ} في مقابلة "الظالمين" على أن ذلك المطلق مقيد بما يقابل هذا المعين، وما ?

والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعًا على الإيمان، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته -وهم المرادون بـ {مَن يَشَاءُ}، ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة "الظالمين"؟ -، ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه. [{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 9] معنى الهمزة في {أَمِ} الإنكار، {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنه المولى والسيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدل على الحمل على أولئك المتخذين: قول القاضي: "ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد؛ إذ الكلام في الإنذار"، ومما يكشف أن الكلام فيهم كشفًا تامًا: قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ}، ألا ترى كيف أضرب عن الكلام السابق، وأنكر اللاحق، على سبيل التقرير بـ"أم" المنقطعة المتضمنة لـ"بل" والهمزة، وأعاد ذكر {اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، يعني: دع الاهتمام بشأنهم وطمع الإيمان منهم، أليسوا الذين اتخذوا من دون الله أولياء، وهو الولي الحقيقي القادر على كل شيء، وعدلوا إلى الجماد الذي هو غير قادر على شيء؟ ! وأما قوله تعالى: {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} الآية: فمعترضة لتوكيد مضمون الآيتين، يدل عليه قول المصنف: "وهو قرآن عربي بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حد الإنذار"، فظهر من تقدير النظم أن الأصل: يدخل من يشاء في رحمته، ويدخل من يشاء في غضبه، وأن الله تعالى شاء إيمان بعض وكفر بعض، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. قوله: (ويترك الظالمين): منصوب؛ عطف على "ليدخل"، ويروى: "أي: ويترك"؛ مرفوعًا على أنه تفسير لقوله: "وضعهم في مقابلة الظالمين". ?

والفاء في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} جواب شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا وليًا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه، {وَهُوَ يُحْيِ} أي: ومن شأن هذا الولي أنه يحيى {الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو الحقيق بأن يتخذ وليًا دون من لا يقدر على شيء. [{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 10] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين: فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والفاء في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ} جواب شرط مقدر): قلت: قضية الإضراب عن الكلام السابق -كما مر- تقتضي التعقيب، فيدخل مدخولها في حيز الإنكار، كأنه قيل: بل اتخذوا من دون الله أولياء، عقيب العلم بأن ليس الولي إلا الله، بدليل تعريف الخبر بالجنس الحقيقي، وتوسيط ضمير الفصل المؤذن بالتخصيص، وعطف {وهُوَ يُحْيِي المَوْتَى} عليه، وعليه النظم الفائق كما مر. قوله: (ومن شأن هذا الولي الذي يحيي): إشارة إلى معنى الاستمرار في {يُحْيِي}، على نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، أي: من شأنه الضيافة والحماية. قوله: (فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء): أتى بالفاء ليؤذن بالترتيب، يعني: كما رتب على إنكار الاتخاذ قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ} بالفاء، رتب إثبات اختصاص الولاية بالله على الوصف المناسب، وهو القدرة الكاملة بإحياء الموتى، والشاملة بأنه على كل شيء قدير، تعريضًا بأن أولياءهم ليسوا من معنى الولاية في شيء. ?

وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين، {ذلِكُمُ} الحاكم بينكم هو {اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ردّ كيد أعداء الدين، {وَإِلَيْهِ} أرجع في كفاية شرهم. وقيل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ} فيه وتنازعتم {مِن شَيْءٍ} من الخصومات، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره، كقوله: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية، واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح، قال الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. فإن قلت: هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت: لا، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم): قيل: فيه بحث؛ لأن المختار جوازه، كما اجتهد أبو بكر رضي الله عنه بحضوره صلى الله عليه وسلم، وقال: "لا ها الله إذن، لا يعمد إلى أسد من أسد الله". وكما اجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، ومنه قول معاذ: "أجتهد رأيي". قال الإمام: "كما منع الله رسوله صلوات الله عليه أن يحمل الكفار على الإيمان، كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات، واحتج نفاة القياس به، فقالوا: إما أن ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون المراد منه: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله عليه أو من القياس على ما نص عليه، والثاني باطل؛ لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس، فتعين الأول. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد: فحكمه معروف من بيان الله، سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس؟ وأجيب عنه: بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف؛ لقوله: {ومَا اخْتَلَفْتُمْ}، والرجوع إلى القياس مما يقوي الاختلاف، فوجب الرجوع إلى النصوص". وقلت: أما حديث أبي بكر رضي الله عنه: فإن قوله: "لا ها الله إذن، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه"، مسبوق بقوله صلوات الله عليه: "من قتل قتيلًا فله سلبه"؛ على ما روى الشيخان ومالك وأبو داود، وأن أبا قتادة لما سمع هذا النص قام وطلب الشهود وأقر الخصم، ثم قال رضي الله عنه ما قال. وأما حكم سعد بن معاذ: فإنه إنما قتل لما أمره صلوات الله عليه أن يحكم، ووافق حكمه حكم الله، أما أولًا: فما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "فنزلوا -أي: بنو قريظة- على حكمه صلوات الله عليه، فرد الحكم إلى سعد"، وأما ثانيًا: فما روى الشيخان أيضًا وأبو داود عن أبي سعيد: "فقال صلى الله عليه وسلم -بعدما قال سعد: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم-: قضيت بحكم الله"، وربما قال: "بحكم الملك". وأما قول معاذ: "أجتهد رأيي": فمعناه: إذا غبت عن حضرتك إلى اليمن. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحق القول بالتفصيل؛ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أن فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، ولما روى البخاري ومسلم عن أنس وابن عمر: أن عمر قال: "وافقت ربي في ثلاث؛ قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وقلت: يا رسول الله، يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت: "عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن"، فنزلت كذلك". وفي رواية ابن عمر: "وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر". وروينا عن البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ابن عمر: "لما توفي عبد الله ابن أبي، جاء ابنه عبد الله، وساق الحديث إلى قوله: "سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ " إلى قوله: "فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] الآية". وأما قضية تأليف النظم: فإنه تعالى لما نهى رسوله صلوات الله عليه عن الحرص على إيمان القوم، وأضرب عن ذلك الكلام، وقرر أن الولاية مختصة بالله تعالى دون غيره، أمره بأن يقرر لهم هذا المعنى، وتعقبه بقوله: {ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ}، أي: في أمر من الأمور، سواء كان هذا الاختلاف أم غيره، فحكمه راجع إلى الله، وهو يجازيكم عليه، وعليه توكلي وإنابتي. فجيء باسم الإشارة الدال على أن ما يرد عقيبه حقيق بمن قبله لاتصافه بتلك الصفات الثابتة، وهي كونه هو الولي دون غيره، وكونه هو يحيي ويميت، وكونه على كل شيء قدير، وكونه ?

[{فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 11] {فاطِرُ السَّماواتِ} قرئ بالرفع والجر؛ فالرفع على أنه أحد أخبار {ذَلِكُمْ}، أو خبر مبتدأ محذوف، والجرّ على: فحكمه إلى الله فاطر السماوات، و {ذلِكُمُ} إلى {أُنِيبُ}: اعتراض بين الصفة والموصوف. {جَعَلَ لَكُمْ} خلق لكم {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسكم من الناس {أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا} أي: خلق من الأنعام أزواجًا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضًا من أنفسها أزواجًا، {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إليه، ثم عقب هذا الحكم بالصفات الكاملة؛ من قوله: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} إلى آخر ما يتصل به. قوله: ({فَاطِرُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} قرئ بالرفع والجر): الرفع هي المشهورة، والجر شاذة. قوله: ({يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم): النهاية: "ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا: إذا خلقهم. وكأن الذرء مختص بخلق الذرية". الراغب: "الذرية: أصلها الصغار من الأولاد، وإن كانت تقع على الصغار والكبار معًا في المتعارف، ويستعمل في الواحد والجماعة، وأصلها الجمع، قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34]، وقال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]، وفيها ثلاثة أقوال: قيل: هو من: ذرأ الله الخلق، فترك همزه، كروية وبرية. وقيل: أصله: ذروية. وقيل: هو فعلية، من الذر، نحو: قمرية". ?

والذر، والذرو، والذرء: أخوات، {فِيهِ} في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجًا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين. فإن قلت: ما معنى {يَذْرَؤُكُمْ} في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول: للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} [البقرة: 179]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مغلبًا فيه المخاطبون العقلاء على االغيب مما لا يعقل): أوقع "العقلاء" وصفًا للمخاطبين، وجعل "مما لا يعقل" بيانًا "للغيب" حالًا منه، والمعنى: غلب الخطاب مع العقلاء في قوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} على الغيب مما لا يعقل في قوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ومِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}، وقال: {يَذْرَؤُكُمْ}. قوله: (من الأحكام ذات العلتين): عن بعضهم: العلتان هنا: العقل والخطاب، الانتصاف: "الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين، أحدهما: مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبًا أو غائبًا. والثاني: مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب، فالأول لتغليب العقل، والثاني لتغليب الخطاب". وقال صاحب "التقريب": {فِيهِ} في هذا التدبير، وهو جعلهم أزواجًا للتوالد، و"كم" للمخاطبين والأنعام، فغلب العقلاء المخاطبين للعقل والمخاطبة. ويمكن أن يقال: أن الضمير المؤنث في قوله: "وهي من أحكام ذات العلتين" راجع إلى التذرية في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ} أو للصنعة، أي: هذه الصنعة من باب الأحكام ذات العلتين، إحدى العلتين: جعل الناس أزواجًا، والثانية: جعل الأنعام أزواجًا، ولهذا ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صرح بقوله: "وخلق للأنعام أيضًا من أنفسها أزواجًا"، والمعلول {يَذْرَؤُكُمْ}؛ لأنه جملة مستأنفة واردة على بيان الموجب، فلما توجه العلتان عليها أوجب تغليب المخاطبين من العقلاء على الغيب مما لا يعقل؛ ليستقيم المعنى، المعنى: دبر ذلك التدبير العجيب ليتكاثر توالد الحيوان وتناسله. وفي جعل "حتى" -في قوله: "حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل"- غاية لقوله: "أن جعل للناس والأنعام أزواجًا"، وكذا في سؤاله: "هلا قيل: يذرؤكم به؟ " -أي: بسببه-: إشعار بأن الجعلين المعبرين بالتدبير هما السبب في الذرء، وقريب منه قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. فإن قلت: فما قولك في كلام صاحب "المفتاح": {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} خطابًا شاملًا للعقلاء والأنعام؛ مغلبًا فيه المخاطبون على الغيب، والعقلاء على ما لا يعقل"، فإنه على خلاف ما عليه كلام المصنف؟ قلت: يمكن حمله على تغليب مركب، وعلى تغليبين، والثاني يأباه المقام؛ إذ القول بالتغليبين يؤدي إلى أن الأصل أن يقال: يذرؤكم ويذرؤهم ويذرؤها ويذرؤكن، لكن الأصل: يذرؤكم ويذرؤها، لا غير؛ لأن "كم" في {يَذْرَؤُكُمْ}: هو "كم" الذي في {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} بعينه، لكن غلب ها هنا على الغيب في {ومِنَ الأَنْعَامِ}، فإذن ليس في {يَذْرَؤُكُمْ} إلا تغليب واحد، ولهذا قال: "الضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام"، ووصف "المخاطبون" بـ"العقلاء"، ثم علق به قوله: "على الغيب مما لا يعقل". ?

قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك، فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه، وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: "ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته"، والقصد إلى طهارته وطيبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا تخفر الذمم): قال: "خفره: أجاره، وأخفره: أزال الخفرة، وهي الذمة". قوله: (قد أيفعت لداته): الأساس: "يفعت الجبل: صعدته، وأيفع الغلام، وغلام يافع، وغلمان يفعة وأيفاع". الجوهري: "لدة الرجل: تربه، والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة". قوله: (وفي حديث رقيقة): ذكر ابن الجوزي في كتاب "الوفا": أن رقيقة بنت صيفي ابن هاشم كانت لدة عبد المطلب، قالت: "تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع، وأدق ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العظم، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف: يا معشر قريش، أن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه، فحيهلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلًا منكم وسيطًا عظامًا جسامًا أبيض، أوطف الأهداب، سهل الخدين، أشم العرانين، فليتخلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليستنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، ثم ليرتقوا أبا قبيس، فليستسق الرجل، وليؤمن، فغثتم ما شئتم. فقصصت رؤياي، فما بقي أبطحي إلا قالوا: هذا شيبة الحمد، وتنامت إليه الرجال من قريش، فاستووا بذروة الجبل، فقام عبد المطلب، ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع، فقال: اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت معلم غير معلم، ومسؤول غير مبخل، هذه عبداؤك وإماؤك يشكون إليك سنيهم، أذهبت الخف والظلف، اللهم فأمطر غيثًا مغدقًا، فما زالوا حتى تفجرت السماء بمائها، واكتظ الوادي بثجيجه". هذا مختصر من كلامه. ?

فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: "ليس كالله شيء"، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفي المماثلة عن ذاته. ونحوه قوله عز وجل: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: 64]، فإنّ معناه: بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئًا آخر، حتى أنهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له. ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يقع فرق بين قوله: "ليس كالله شيء"، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها): يعني: أصل المعنى الواحد، لكن في الكناية فضل مبالغة ليس في التصريح، وذلك أنهم إنما يسلكون هذه الطريقة عند وجود صفات كمال يشاهدونها في تلك الذات، فيقدرون لها من يشاركها في تلك الفضائل، ويجعلونها عامًا، ويثبتون لهذا المقدر ما يريدون إثباته لهذا الذات، ليلزم إثباته لهذا الذات بالطريق البرهاني، نحو: مثلك لا يبخل، فظهر من هذا أن ليس من شرط هذه الطريقة وجود ذلك المثل في الخارج، نحوه قول القبعثرى للحجاج: "مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب"، إذ لو قصد به إثبات النظير والشبيه، لكان بالذم أشبه من المدح، وإليه الإشارة بقوله: "استعمل هذا فيمن له مثل، ومن لا مثل له". وها هنا الضمير في "مثله" راجع إلى الله في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ}، بعد إجراء تلك الصفات عليه، فكأنه قيل: ليس مثل هذه الذات المستجمعة لتلك الصفات الكاملة شيء. قوله: (ولك أن تزعم كلمة التشبيه كررت للتأكيد): هذا قول الزجاج، قال أبو البقاء: "الكاف زائدة، و"مثله" خبر {لَيْسَ}، أي: ليس مثله شيء، ولو لم تكن زائدة لأفضى ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى المحال؛ إذ المعنى أن له مثلًا، وليس لمثله مثل، فإذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو هو، مع أن إثبات المثل لله محال. وقيل: "المثل" زائدة، أي: ليس كهو شيء، كما في قوله: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]، وهو قول بعيد". الانتصاف: "القول بأن الكاف زائدة مردود؛ لما فيه من الإخلاص بالمعنى؛ لأن التأكيد يصلح أن يكون في النفي، وها هنا التأكيد وقع في حصول التشبيه، فإذن إهمال تأكيد المماثلة أقوى في هذا المعنى من تأكيدها، ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة، إذ لا يلزم من نفي مماثلة محققة نفي أصل المماثلة، بخلاف عكسه، والكاف حيث وردت إنما تؤكد المماثلة لا النفي، فليس تنظير الآية بشطري البيتين مستقيمًا، والوجه الأول أصح، ولذلك قال: (ولك أن تزعم) ". وقلت: الجواب عن قول أبي البقاء: "فإذا كان له مثل، فلمثله مثل، وهو هو": لا يلزم أن يكون هو هو؛ لأن أرباب البيان ربما يجعلون الغرض في التشبيه إلحاق الناقص بالكامل، فيفرض له مثل بهذا الطريق، ثم يفرض لهذا المفروض مثل آخر كذلك، فيسلط عليه النفي ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لينتفي المثل عن الله سبحانه وتعالى بالطريق الأولى، ولعل مراد صاحب "الانتصاف" بقوله: "نفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة" هذا. الراغب: "المثل: أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن "الند" يقال لما يشارك في الجوهر، و"الشبه" يقال فيما يشاركه في الكيفية فقط، و"المساوي" يقال فيما يشاركه في الكمية فقط، و"الشكل" يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، و"المثل" عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصه بالذكر، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وأما الجمع بين الكاف والمثل: فقد قيل: ذلك لتأكيد النفي، تنبيهًا على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف، فنفى بـ"ليس" الأمرين جميعًا، وقيل: "المثل" هاهنا بمعنى الصفة، ومعناه: ليس كصفته صفة، تنبيهًا على أنه وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليست تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر. ?

كما كرّرها من قال: وصاليات ككما يؤثفين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، أي: لهم الصفات الذميمة، وله الصفات العلى، وقد منع الله تعالى عن ضرب الأمثال، بقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ثم نبه أنه قد يضرب لنفسه المثل، ولا يجوز لنا أن نقتدي به، فقال: {أن اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، ثم ضرب لنفسه مثلًا فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] الاية، وفي هذا تنبيه على أنه لا يجوز أن نصفه بصفة مما يوصف به البشر إلا بما وصف به نفسه". قوله: (وصاليات ككما يؤثفين): بعده: لا يشتكين عملًا ما أبقين قبله: لم يبق من آي بها يحلين .... غير حطام ورماد كنفين وغير ود جاذل أو ودين الكنف: القدر الصغير، أثفيت القدر: إذا وضعتها على الأثافي، وأثفيتها: إذا جعلت له أثافي. قوله: (يؤثفين): أراد: يثفين، فأخرج على الأصل، مثله قوله: فإنه أهل لأن يؤكرما

ومن قال: فأصبحت مثل كعصف [{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 12] وقرئ: "ويقدّره". {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، وإلا أفقره. [{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 13] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجاذل: المنتصب مكانه لا يبرح. أي: رب نساء صاليات بالنار، كالأثفية، وشبههن بالأثفية -وهي الحجر المنصوب للقدر- لدوامهن على الكانون، واسوداد ثيابهن من الدخان، والكاف الأولى حرف الجر، والثانية اسم، كررت كلمة التشبيه للتأكيد. قوله: (فأصبحت مثل كعصف مأكول): أوله: بالأمس كانوا في رخاء مأمول ?

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلمًا، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} [المائدة: 48]. ومحل {أَنْ أَقِيمُوا} إما نصب؛ بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} [الأنبياء: 92]، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} عظم عليهم وشق عليهم، {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من إقامة دين الله والتوحيد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العصف: ما على الحب من التبن، وما على ساق الزرع من الورق اليابس. قوله: ({شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} دين نوح ومحمد ومن بينهما): يعني: رتب الكلام بالابتداء والاختتام والتوسط وجيء بأول من مهد به الشريعة، ثم بمن ختم به الشريعة، ووسط المتوسطين، وعدل من "أوصينا" إلى {أَوْحَيْنَا}، وأتى بكاف الخطاب ليؤذن بالفرق بين توصيتهم وتوصيته. قوله: (ونحوه قوله تعالى: {أن هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}): أي: نحو قوله: {أن أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، قال محيي السنة: "بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة". وقلت: مثله قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية. ?

{يَجْتَبِي إِلَيْهِ} يجتلب إليه ويجمع، والضمير للدين؛ بالتوفيق والتسديد، {مَنْ يَشاءُ} من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفه. [{وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 14] {وَما تَفَرَّقُوا} يعني: أهل الكتاب بعد أنبيائهم {إِلَّا مِنْ بَعْدِ} أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} حين افترقوا؛ لعظم ما اقترفوا، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، {لَفِي شَكٍّ} من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الاباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين، وجاءهم العلم، وإنما اختلفوا للبغي بينهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَجْتَبِي إلَيْهِ} يجتلب [إليه] ويجمع): أي: إلى الدين، أخذه من الجباية، وهو جلب الخراج، لا من الاجتباء، كما قال محيي السنة: "يصطفي الله من عباده من يشاء"؛ لأنه جعله من باب الجمع، فإن قوله: {أن أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا}، معناه: الإقامة على الجماعة، وترك الفرقة، وقوله: {كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ}، وقوله: {يَجْتَبِي إلَيْهِ} بيان لمن دخل فيها ومن خرج منها، فتأويل {يَجْتَبِي إلَيْهِ}: بـ"يجمع إلى الدين": أظهر معنى، و"يصطفي": أدق مغزى؛ لأن اصطفاء الله أولياءه يدل على اجتماعهم على التوحيد، وعدم الاختلاف في أصول الدين، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، كما أن إشراك أعداء الله يدل على التعدد والتفرقة، لاسيما وقد ضم معه {كَبُرَ}، ولهذا لما دعوا إلى التوحيد ?

وقيل: وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، {وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} هم المشركون؛ أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرئ: "ورّثوا"، و"ورثوا". [{فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 15] {فَلِذلِكَ} فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبًا، {فَادْعُ} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة، {وَاسْتَقِمْ} عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} المختلفة الباطنة، {بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ} بأي كتاب صحّ أنّ الله أنزله، يعني: الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]، إلى قوله: {أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا متعجبين: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا أن هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وقال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]. وفي إسناد "الاجتباء" إلى ذاته عز وجل، وإسناد {كَبُرَ} إلى "ما تدعو": إشارة إلى معنى قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}، وفيه: أن أهل السنة والجماعة ممن اجتباه الله إلى دينه، وهداه إليه. قوله: (وقيل: وما تفرق أهل الكتاب): جعل الضمير في قوله: {ومَا تَفَرَّقُوا} أولًا وآخرًا لأهل الكتاب، وفي الوجه الثاني: للناس بعد الطوفان، والظاهر الثني؛ لأن هذا الضمير ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما في قوله: {ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}: واحد، يعني: أمرت الأمم القديمة والحديثة على اتفاق الكلمة وإقامة دين الله والتوحيد وعد الاختلاف والتفرق، وما تفرق الناس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم. ثم استطرد بذكر أهل الكتاب واختلافهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، ولذلك غيرت العبارة وجيء بـ"إن" الدالة على التوكيد. وهذا التفسير موافق لقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ}؛ لأن المعنى: ولأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبًا، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الدين الحنيفية القديمة، واستقم عليها. هذا ما دل عليه تأويل المصنف، لكن الظاهر أن "ذلك" إشارة إلى قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} وما يتصل به من قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، أي: ولأجل ذلك التوصية التي شوركت مع وإبراهيم وموسى وعيسى، ولأجل ذلك الأمر بالإقامة، والنهي عن التفرق، فادع إلى التوحيد وإقامة الدين والثبات عليه، واستقم أنت عليه أيضًا، يدل عليه قوله: {كَمَا أُمِرْتَ}، فالمدعو غليه عام في أهل الكتاب والمشركين وفي المذكورات. وفي قوله: {آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} تعريض باليهود وبقولهم: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]، وجاء مستطردًا، كما جاءت الآية السابقة مستطردة فيهم، وعليه كلام الواحدي حيث قال: "ذلك: إشارة إلى ما وصي به الأنبياء عليهم السلام من التوحيد"، وقال: " {ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي: أهل الكتاب". ?

{لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، {لَا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة؛ لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به، فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأنّ المتحاجين يورد هذا حجته وهذا حجته، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا} يوم القيامة، فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل؛ من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة، لا المقاتلة. [{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} 16] {يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} يخاصمون في دينه، {مِنْ بَعْدِ} ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109]، كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام داحِضَةٌ باطلة زائلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة، لا المقاتلة): الجوهري: "المحاجزة: الممانعة، وقد تحاجز الفريقان"، يعني: يمكن الجمع بين الدليلين، قال القاضي: "ليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسًا، حتى يكون منسوخًا بآية القتال"، وقال محيي السنة: " {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ}: بمعنى: لا خصومة بيننا وبينكم، نسختها آية القتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة". ?

[{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 17 - 18] {أَنْزَلَ الْكِتابَ} أي: جنس الكتاب وَالْمِيزانَ والعدل والتسوية، ومعنى إنزال العدل: أنه أنزله في كتبه المنزلة، وقيل: الذي يوزن به، {بِالْحَقِّ}: ملتبسًا بالحق مقترنًا به بعيدًا من الباطل، أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة، أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يقال: أن الدليل على أن الكلام في إيراد المقاولة دون المقاتلة ترتب قوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ واسْتَقِمْ} على قوله: {ومَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ} إلى قوله: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}، ثم التعقيب بقوله: {والَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}، وقال محيي السنة: " {الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} يخاصمون في دين الله نبيه. وقال قتادة: هم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم، فهذه خصومتكم من بعد". قوله: (وقيل: الذي يوزن به): أي: يجوز أن يكون إنزاله الميزان يأمر به، ويجوز أن يراد إنزاله حقيقة. عن بعضهم: روي أن آدم عليه السلام أنزل بالباسنة، وهي اسم جامع لآلات الصنائع. ?

{السَّاعَةَ} في تأويل البعث، فلذلك قيل: {قَرِيبٌ}، أو: لعل مجيء الساعة قريب. فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه، ويزن أعمالكم، ويوفي لمن أوفى، ويطفف لمن طفف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({السَّاعَةَ} في تأويل البعث): قال أبو البقاء: "يجوز أن يكون تذكير {قَرِيبٌ} على معنى الزمان، أو على معنى البعث، أو على النسب، أي: ذات قرب". قوله: (فكأنه قيل: أمركم [الله] بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه): يعني: دل توسيط "الميزان" بين "إنزال الكتاب" و"مجيء الساعة" على أن الحكمة في إنزال الكتاب العدل والتسوية، كما أن الحكمة في إتيان الساعة القضاء بالحق، إذ ليس الدين والشريعة سوى الاستقامة بين طرفي الإفراط والتفريط، كما قال: {فَادْعُ واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، وليس وضع القيامة إلا {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4]، وإليه الإشارة في الآية التي نحن بصددها {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وإلَيْهِ المَصِيرُ}. وأما قضية النظم: فإنه تعالى لما أمر حبيبه صلوات الله عليه وسلامه بأن يدعو الزائغين المائلين عن الحق الذين اختلفوا وتفرقوا إلى الاجتماع والاستقامة، وأدمج فيه معنى أن ?

المماراة: الملاجة؛ لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه، {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} من الحق، لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء. [{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} 19] {لَطِيفٌ بِعِبادِهِ} برّ بليغ البرّ بهم، قد توصل برّه إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الداعي إلى الحق والاستقامة إنما يتم أمره في الدعوة إذا كان مستقيمًا في نفسه قال: {واسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، وفصل الدعوة بقوله: {وقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} إلى آخره، ثم أتى بقوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ} الآية، على الاستئناف بيانًا لحكمه المأمور به، وجعلها كالتخلص غلى ذكر عنادهم، وهو استعجالهم الساعة، والله أعلم. قوله: (لأن كل واحد منهما بمري ما عند صاحبه): الأساس: "ماريته مماراة: جادلته ولاججته، وتماروا، ومعناه: المحالبة، كأن كل واحد يحلب ما عند صاحبه". الراغب: "المرية: التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، قال عز وجل: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} [الحج: 55]، {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23]، والامتراء والممارة: المحاجة فيما فيه مرية، قال تعالى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]، {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]، وأصل ذلك من: مريت الناقة؛ إذا مسحت ضرعها للحلب". قوله: (بر بليغ البر بهم، قد توصل بره إلى جميعهم) إلى آخره: وفي كل من القيود فائدة: أما "بر": فمستفاد من معنى "اللطف"؛ الأساس: "لطفت بفلان: رفقت به، وأنا ألطف به: إذا

فإن قلت: فما معنى قوله {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون، لا يخلو أحد من برّه، إلا أنّ البرّ أصناف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أريته مودة ورفقًا"، وقوله: "بليغ البر": فمن بناء "فعيل"، وقوله: "توصل بره إلى جميعهم": فمن إضافة "العباد" -وهو جمع- إلى ضمير "الله"، فيفيد الشمول والاستغراق، وقوله: "وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه وهم أحد": فمأخوذ من معنى الدقة في اللطف، الأساس: "شيء لطيف، وكلام لطيف، وفلان لطيف لاستنباط المعاني، وتلطف بفلان: احتلت له حتى اطلعت على أسراره". والقول الجامع فيه: ما ذكره حجة الإسلام في "شرح أسماء الله الحسنى": "إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح على سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل، واللطف في الإدراك، تم معنى "اللطيف"، ولا يتصور كمال ذلك إلا في عز وجل". وقال الإمام: "الله لطيف البر، يظهر آثار بره في عباده من حيث لا يعلمون، ويمضي مصالحهم بإحسانه من حيث لا يحتسبون". فمعنى قول المصنف: "توصل من كل واحد": توصل بره مبتدئًا من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه وهم أحد، وقوله: "من كلياته وجزئياته": حال من المستتر في "توصل". الجوهري: "توصل إليه: أي: تلطف في الوصول إليه". قوله: (ما معنى قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}؟ ): يعني: دل قوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أن بره توصل إلى جميع العباد، وقوله: {يَرْزُقُ} حكم ترتب على ذلك الوصف، فينبغي الشمول أيضًا، وقوله: {مَنْ يَشَاءُ} ينافيه. ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب بما لخصه صاحب "التقريب": "إنما خص الرزق، والكل مرزوقون؛ لأنه قد يختص أحد بنعمة، وغيره بأخرى، فالعموم لجنس البر، والخصوص لنوعه". وقال الإمام: "أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد بحسب الحياة والعقل والفهم والمال والولد والجاه، وإعطاء ما لابد منه من الرزق، ودفع أكثر الآفات والبليات، وأما مراتب العطية فمتفاوتة مختلفة". وقال الواحدي: "الله لطيف حفي بار رفيق بأوليائه وأهل طاعته. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، لا يهلكهم جوعًا، يدل على هذا قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ}، فكل من يرزقه الله من مؤمن وكافر وذي روح، فهو ممن يشاء الله أن يرزقه". وقلت: كأن الظاهر مع الواحدي، وعليه ينتظم {مَنْ يَشَاءُ} ويلتئم ما قبله 0 وهو حديث القيامة- بما بعده من قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} الآية، وتقرير ذلك: أن حمل "عباده" على من خصهم الله بالكرامة، وجعلهم من أوليائه من المؤمنين، لقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} الآية: هو الظاهر؛ لأن الإضافة إضافة تشريف، وعليه أكثر استعمال التنزيل، منها قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، ومنها: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، ومنها قوله في هذه السورة الكريمة: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الشورى: 23]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 26]، وقوله: {وَلَكِنْ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، فيحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة، وعلى الكمالات الأخروية، والكرامات السنية، واستعمال الرزق في ذلك كاستعماله في قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38]. ويعضده ما رواه السلمي عن سيد الطائفة قدس الله روحه: اللطيف: "من نور قلبك بالهدى، وربي جسمك بالغذا، وأخرجك من الدنيا بالإيمان، ويحرسك من نار اللظى، ويمكنك حتى تنظر وترى، هذا لطف اللطيف، بالعبد الضعيف"، تم كلامه. فينطبق على هذا ترتب الحكم على الوصف، أي: إنه لما يلطف في حق عباده المؤمنين دون الذين غضب عليهم بمحض مشيئته؛ لأنه قوي على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده، عزيز غالب لا يمنعه عما يريده أحد، كما قال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، فيكون وزان الآية مع قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ومَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}، وزان قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] مع قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10]. وحينئذ لا يرد هذا السؤال الذي ذكره، ولا ما أورده على قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وهو: "قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض، ومنهم مبسوط لهم، ومنهم مقبوض عنهم، فإن كان المبسوط لهم يبغون، فلم بسط لهم؟ وإن كان المقبوض عنهم يبغون، فقد يكون البغي بدون البسط ... "، لأن هذا -كما مر- في حق المؤمنين المصطفين من عباده، وينصره التذييل بقوله: {إِنَّهُ ?

وله أوصاف، والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ}، كما يرزق أحد الأخوين ولدًا دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد. {وَهُوَ الْقَوِيُّ} الباهر القدرة الغالب على كل شيء، {الْعَزِيزُ} المنيع الذي لا يغلب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، ووضع المظهر -وهو {بِعِبَادِهِ} - موضع القمر، أي: إنه خبير بأحوال عباده المكرمين، بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء"، أخرجه الترمذي عن قتادة. وعن البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها". قوله: (فيطير لبعض العباد): استعار للنصيب وإصابته لمن قدر له: الطيران سانحًا وبارحًا، فسلك بهم مسلكهم، كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. ?

[{مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} 20] سمى ما يعمله العامل مما يبغي به الفائدة والزكاء حرثًا على المجاز، وفرق بين عملي العاملين؛ بأن من عمل للآخرة وفق في عمله، وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئًا منها، لا ما بريده ويبتغيه، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه، وماله نصيب قط في الآخرة. ولم يذكر في معنى عامل الآخرة: وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة؛ للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله، وفوزه في المآب. [{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} 21] معنى الهمزة في {أَمْ} التقرير والتقريع، وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما له نصيب قط): هذه المبالغة نشأت من أن "نصيبًا" نكرة، وقد نفيت على سبيل الاستغراق. قوله: (معنى الهمزة في {أَمْ}: التقرير والتقريع): يريد: أن {أَمْ} في قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} منقطعة، فيها معنى: "بل" والهمزة، ولابد من سبق كلام إخبار أو إنشاء يضرب عنه، حتى يقرر ما بعده، وما سبق هو قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، يدل عليه قوله: "وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين"، سماه دينًا مشاكلة أو تهكمًا، أي: اتل عليهم ما شرع لهم من الدين الذي شرعه الله، ووصى به الأنبياء المتقدمة، وآذن بالتمسك به، وقررهم -على سبيل التقريع- ما هم عليه من الدين الذي شرعت لهم الشياطين. ?

لأنهم لا يعلمون غيرها، وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به، وقيل شركاؤهم: أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة، وتارة إلى الله، ولما كانت سببٍا لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36]. {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الكافرين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب: "وأنّ الظالمين" بالفتح عطفًا له على {كَلِمَةُ الْفَصْلِ}، يعني: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا. [{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} 22 - 23] {تَرَى الظَّالِمِينَ} في الآخرة، {مُشْفِقِينَ} خائفين خوفًا شديدًا أرق قلوبهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عطفًا له على {كَلِمَةُ الفَصْلِ}): و"الكلمة": فسر أولًا بالقضاء السابق، فالمعنى: لولا القضاء والقدر لقضي بينهم، والفرق بين القضاء والقدر قد مضى بيانه، وفسر ثانيًا بالعدة بأن الفصل يكون يوم القيامة، فالمعنى: لولا العدة وتقرير التعذيب، فالعطف قريب من العطف البياني بالواو. قوله: ({تَرَى الظَّالِمِينَ} في الآخرة {مُشْفِقِينَ} خائفين خوفًا شديدًا): فإن ?

{مِمَّا كَسَبُوا} من السيئات، {وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} يريد: ووباله واقع بهم، وواصل إليهم لا بدّ لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها، وأنزهها. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} منصوب بالظرف، لا بـ {يَشَاءُونَ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: إذا كان معنى الخوف: غم يلحق الإنسان لتوقع مكروه، فكيف الجمع بينه وبين قوله: {وهُوَ واقِعٌ بِهِمْ}؟ قلت: قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} استحضار لصورة حال الظالمين في مشاهدة السامع؛ لينظر إلى تلك الحالة العجيبة الشأن، وهو أنهم خائفون مشفقون يحاولون الحذر حين لا ينفهم الحذر، لأن الخائف إذا استشعر بما يتوقع منه المكروه، وأخذ في الدفع؛ ربما تخلص منه، ومن ترك الحذر حتى إذا ألم به المحذور زاول الدفع؛ كان مظنة للتعجب منه والتعجيب، وإليه ينظر قول الشاعر: أتت وحياض الموت بيني وبينها .... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل وهو المراد بقوله: "لابد لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا". قوله: (كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها): لأن الإضافة تنبئ عن امتياز الروضة عن الجنة، ثم تعقيبها بقوله: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}، وإردافها بقوله: {ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} يشعر بمزيد ذلك الامتياز. قوله: ({عِندَ رَبِّهِمْ} منصوب بالظرف لا بـ {يَشَاءُونَ}): عن بعضهم؛ لأن المعنى: على أن ما يزيدونه على سبيل العموم مطلقًا كائنًا ما كان حاصل لهم عند ربهم، أي: حاصل لهم من الله، ولو نصب بـ {يَشَاءُونَ} تصير مشيئتهم مقيدة بـ {عِندَ رَبِّهِمْ}، فلا يبقى العموم فيما يريدون، ويحتمل حصول ذلك عند غير ربهم، وهو عكس المعنى. وقلت: لا ريب أن أهل السعادة صنفان: المقربون وأصحاب اليمين، فإذا أريد بأولئك أصحاب اليمين كان على ما قيل، وأما إذا أريد به المقربون فلا، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]. ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم، كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما"، أخرجه أبو داود والترمذي. وفي "الجامع": "أنعم فلان النظر في الأمر: إذا بالغ في تدبره والفكر فيه وزاد فيه، وأحسن فلان إلى فلان وأنعم؛ أي: أفضل وزاد في الإحسان، وكذا هذا، أي: هما منهم، وزادا في هذا الأمر، وتناهيا فيه إلى غايته". وقلت: لعله مأخوذ من النعومة، قال في "الأساس": "دقه دقًا نعما، وأنعم دقه، فإذا عملت عملًا فأنعمه: فأجده، وأحسن فلان وأنعم: وأجاد وزاد على الإحسان"، فمعنى: أنعم النظر: أدق، فلا يذهب إذن إلى العمل بالمفهوم، كقوله تعالى: {لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. وفي تخصيص {رَوْضَاتِ} -كما قال: "كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها"-: إيماء إلى هذا المعنى. وقال في "فاطر": "وقرئ "جنة عدن" على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين"، ولذلك عقب بقوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ}، أي: أولياءه -كما مر مرارًا-، ويحصل من هذا التقدير قرب المعمول من عامله، ومعنى القرب والزلفى عند الله لعباده العاملين، والجملة خبر ثان لقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا}. وفي "الكواشي": الوقف الكافي على {الجَنَّاتِ}. {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ} جملة من مبتدأ وخبر، فعلى هذا تكون الجملة مستأنفة. ?

قرئ: {يبشر}، من: بشره، و"يبشر" من: أبشره، و"يبشر"، من: بشره، والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 41]، ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روي: أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدًا يسأل على ما يتعاطاه أجرًا؟ فنزلت الآية. {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} يجوز أن يكون استثناء متصلًا، أي: لا أسألكم أجرًا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرًا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعًا، أي: لا أسألكم أجرًا قط، ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى، أو: إلا المودة للقربى؟ وما معنى قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}؟ قلت: جعلوا مكانًا للمودة ومقرًا لها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {يُبَشِّرُ}): نافع وعاصم وابن عامر: {يُبَشِّرُ} بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة، والباقون: بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففة. روى أنه قال: المتعدي ثلاثة، وهو الذي في المتن، والمطاوع خمسة: بشر وأبشر وتبشر واستبشر. قوله: (ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده): المشار إليه {رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ} الآية. قوله: (أو: ذلك التبشير): فالمشار إليه: "الذي يبشره"، نحو: هذا أخوك، والعائد إلى الموصول أيضًا محذوف، ولكن لا يقدر الجار. ?

كقولك: لي في آل فلان مودّة؛ ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله، وليست {فِي} بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما» ويدل عليه ما روى عن علي رضي الله عنه: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي، فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة؟ أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب، ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه عليها غدًا إذا لقيني يوم القيامة». وروي: أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس -أو ابن عباس-: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليست {فِي} بصلة): أي: {فِي القُرْبَى} ليس بظرف لغو، بل هو ظرف مستقر حال من {المَوَدَّةَ}، و {فِيهَا} مبالغة. قوله: (أن تكون رابع أربعة): عن بعضهم: رابع أربعة، أي: واحد أربعة، قال: رابع الثلاثة: غيرها، وهو الذي ربعهم، أي: كملهم أربعة. ورابع أربعة: أحدهم، كقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40]. ?

فقال: يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ألم تكونوا ضلالًا فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " «أفلا تجيبونني. قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟ قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله، فنزلت الآية". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله) الحديث: من رواية البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح حنينًا قسم الغنائم، فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا مثل ما أصاب الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ ويقولون: الله ورسوله أمن، فقال: ألا تجيبونني؟ فقالوا: الله ورسوله أمن، قال: أما إنكم لو شئتم أن تقولوا: جئتنا طريدًا فآويناك، وشريدًا فنصرناك، وكان من الأمر كذا وكذا"، الحديث. وأما شكاية العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ما روى الترمذي عن علي رضي الله عنه: "أن العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أغضبك؟ فقال: يا رسول الله، أرى قومًا من قريش يتلاقون بينهم بوجوه مسفرة، فإذا لقونا لقونا بغير ذلك، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وقال: والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل إيمان حتى يحبكم لله ورسوله، ثم قال: أيها الناس، من آذى عمي فقد آذانيـ فإنما عم الرجل صنو أبيه". ?

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيدًا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورًا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبًا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنًا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرًا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة». وقيل: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه، نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يزف إلى الجنة)، النهاية: "زففت العروس أزفها؛ إذا أهديتها إلى زوجها". قوله: (مكتوب بين عينيه): عن بعضهم: "بين عينيه": خبر مقدم على المبتدأ، و"مكتوب" مبتدأ، كأنه قال: مكتوب "آيس من رحمة الله" بين عينيه. والظاهر أنه سهو، بل "بين عينيه" ظرف "مكتوب"، و"مكتوب": خبر مقدم، والجملة حال من ضمير "جاء". قوله: (وقيل: لم يكن بطن من [بطون] قريش) إلى آخره: يوافقه ما روينا عن البخاري عن ابن عباس: "سئل عن قوله تعالى: {إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم". ?

أي: في حق القربى أومن أجلها، كما تقول: الحب في الله والبغض في الله، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعني: أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى، ولا تؤذوني ولا تهيجوا عليّ. وقيل: أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا، وتعروك نوائب وحقوق، ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه. وقيل: {الْقُرْبى}: التقرب إلى الله تعالى، أي: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: "إلا مودّة في القربى". {مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً}: عن السدّي: أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودّته فيهم، والظاهر: العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى؛ دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولًا أوّليًّا، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأنت ابن أختنا): لأن آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من الأنصار من بني زهرة. قوله: (والظاهر العموم في أي حسنة كانت): فعلى هذا {ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} إلى آخره: تذييل، وعلى الأول: تتميم. ?

وقرئ: يزد، أي: يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله: مضاعفتها، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، وقرئ: "حسنى"، وهي مصدر كالبشرى. الشكور في صفة الله: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفية ثوابها، والتفضل على المثاب. [{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} 24] {أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيه: التوبيخ، كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها، {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيه: التوبيخ): أقول: لابد من تقديم كلام يصح أن يضرب عنه، وهو قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وبيانه: أنه تعالى لما أمره صلوات الله عليه بأن يتلو عليهم قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ} [الشورى: 13]، وساق الكلام إلى أن انتهى إلى الإضراب الأول، فأضرب عن الأمر بالتلاوة إلى السؤال على سبيل التقرير والتهكم، وأجرى عنان الكلام حتى بلغ إلى مقام الإضراب الثاني، فوبخهم على أمر آخر أعظم من الأول، وهو نسبة الافتراء إلى أكرم خلق الله، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ}، أي: يتفوهون بهذه العظيمة؛ أن محمدًا شرع من تلقاء نفسه هذا الذي تلا عليكم وسماه دينًا، وذكر أن الله آذن به الأنبياء أن يتمسكوا به ويوصوا أممهم به، وهذا معنى قوله: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. ?

وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخوّن بغض الأمناء، فيقول: لعل الله خذلني، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم. ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق {بِكَلِماتِهِ} بوحيه أو بقضائه، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18]، يعني: لو كان مفتريًا كما تزعمون لكشف الله افتراءه، ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا الأسلوب مؤداه استعباد الافتراء من مثله): وهو أنه تعالى وبخهم على الافتراء -المؤدي إلى إيجاب الختم والطبع الذي هو من صفة أبعد خلق الله وألعنهم- على مثل أكرم خلق الله وأحبهم إليه، هيهات، وآدم ومن دونه تحت لوائه. هذا هو معنى الاستبعاد الذي صرح به، ومعنى المثلين في قوله: "في مثل حالهم" و"الافتراء من مثله". وعن بعضهم: "وفي هذا تذكير لنعم الله بذكر إحسانه إليه وفضله له بما أكرمه بأنواع الكرامات التي أكرمه بها؛ ليشكر ربه على ذلك، ويرحم على أولئك بما ختم على قلوبهم"، انتهى كلامه. ثم جيء بقوله: {ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ} إلى آخره؛ تذيلًا للكلام وتتميمًا لمعنى الاستعباد، أي: ليس من شأنه صلوات الله عليه ذلك، ولا من عادة الله، إلا محو الباطل وإثبات الحق، ولا من صفات هذا الكتاب الكريم أن يحوم الافتراء حوله، وأنه من كلمات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه تعريض بافترائهم، وأنهم المختوم على قلوبهم، وأنهم أخس خلق الله وأنذلهم وأبعدهم من رحمة الله، أولئك كالأنعام بل هم أضل. لله رده! ما ألطف بيانه، وما أدق نظره! ولو لم يكن في كتابه إلا هذا التلويح لكفاه مزية وفضلًا. ?

ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة: {يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ}: ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي، يعني: لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك، وقيل: {يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ}: يربط عليه بالصبر، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت: إن كان قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} كلامًا مبتدأ غير معطوف على {يختم}، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ} [الإسراء: 11]، وقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} [العلق: 18]، على أنها مثبتة في بعض المصاحف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه): فإن قلت: لم خالف بين العبارتين، فجاء في الوجه الأول بـ"أو" حيث قال: "بوحيه أو بقضائه"، وفي الثاني بالواو حيث قال: "بالقرآن وبقضائه"؟ قلت: على الأول: الكلام تذييل وبيان لعادة الله الجارية في إثبات الحق ومحق الباطل فيما غبر من الزمان وفيما يترقب منه، وكان لا يخلو ذلك من أحد هذين الأمرين، وعلى هذا الوجه: عدة لحبيب الله صلوات الله عليه، والجملة حال مقررة لمزيد التوبيخ، والمقام اقتضى الجمع بينهما، لاسيما وقد تحقق في الواقع ذلك. قوله: (إن كان قوله: {ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ} كلامًا مبتدأ): يعني: و {يَخْتِمْ} مجزوم جواب للشرط، {ويَمْحُ} أيضًا قد سقط منه الواو علامة الجزم، فيكون معطوفًا عليه، وأنت جعلته كلامًا مبتدأ؟ وأجاب: أن الواو ساقطة خطأ لا معنى، قال أبو البقاء: " {يَخْتِمْ} جواب للشرط، {ويَمْحُ} مرفوع مستأنف وليس من الجواب؛ لأنه يمحو الباطل من غير شرط، وسقطت الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف حملًا على اللفظ". ?

[{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} 25] يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه؛ فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي ومنشأه، ومعنى "قبلته عنه": عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب؛ بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب، وإن كان فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى محيي السنة عن الكسائي نحو ما ذكره المصنف، ومما يقوي أنه مرفوع: عطف قوله: {ويُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} عليه، وهو مرفوع. قوله: (والعزم على أن لا يعاود، لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب): أي: يجعلهما غرضًا في عدم المعاودة. قوله: (وإن كان فيه): أي: في المرجوع عنه أو الواجب (لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه): قيل: في قوله: "لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب"ن وقوله: "أن يرجع عن القبيح": إشارة إلى مذهبه؛ لأن أكثرهم قالوا: التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض غير صحيحة، قال أبو هاشم: لو تاب عن ذلك القبيح لكونه قبيحًا وجب أن يتوب عن كل القبائح، وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه، بل لغرض آخر لم تصح توبته. وعند أهل السنة: التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض صحيحة. وقال الشيخ أبو عبد الله الأنصاري: "التوبة ثلاثة أشياء: الندم والاعتذار والإقلاع". وقلت: الندم: إنما يكون على ما فات في الزمان الماضي، فيرجع عنه بالقلب، لأن التوبة سعي من مساعي القلب، وهو تنزيهه عن القبائح، وإليه الإشارة بقوله: "أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما". ?

لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه. وروى جابر: أن أعرابيًا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه: يا هذا، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب: الندامة، ولتضييع الفرائض: الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} عن الكبائر إذا تيب عنها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والاعتذار: هو التلافي لما فات في الحال بقضاء الواجب؛ أن كان من حق الله بأداء الفرائض، ورد المظالم أن كان من حق العباد، فلابد من التقصي على طريقه، أي: يجتهد على طريقة التخلص منه بأي وجه أمكن؛ أن كان المظلوم في قيد الحياة: فالتفصي عنه بأن يرد عليه أو يستحل منه، وإن مات يردها على ورثته، وإن لم يقدر فيتصدق عنه، وإلا فيدعو له ويستغفر. والإقلاع: هو أن يعزم على ألا يعاود إلى الذنب، وهو يتعلق بالمستقبل، ويمكن أن يحمل قوله: "أن لا يعاود؛ لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب" على أنه لا تصح التوبة إذا رجع عن القبيح محاباة أو خوفًا من الناس أو ضعفًا حصل في بدنه، فلا يكون توبة، ولو قال: "تعظيمًا لله وحذارًا من سخطه" لكان أولى؛ لأنه دخل في كلامه: ما إذا رجع عنها طالبًا للثناء والمدحة والرياء والسمعة. قوله: (من التفصي على طريقه): الأساس: "وقع فيما لا يقدر على التفصي منه، وليتني أتفصى من فلان؛ أي: أتخلص منه وأباينه". وقدر صاحب "المطلع": "لم يكن بد من التفصي عنه بطريقة". قوله: ({ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} عن الكبائر إذا تيب عنها): وقلت: إذن لا فرق بين "يقبل ?

وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، {وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} قرئ بالتاء والياء، أي: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته. [{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} 26] {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: {وَإِذا كالُوهُمْ} [المطففين: 3]، أي: يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلًا، أو: إذا دعوه استجاب دعاءهم، وأعطاهم ما طلبوا، وزادهم على مطلوبهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التوبة" وبين "يعفو عن السيئات"؛ لأن قبول التوبة ليس إلا العفو عن السيئات، بل المعنى: من شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا، والعفو عن سيئاتهم محض رحمته أو بشفاعة شافع، قال الإمام: "إنه تعالى تارة يعفو بواسطة التوبة، وأخرى يعفو ابتداء من غير توبة". قوله: (قرئ بالتاء والياء): حفص وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. قوله: (أي: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته): يعني: {ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} جاء تذييلًا للسابق، فإن قوله: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} دل على أن العفو تعلق بالسيئات المتوب عنها، فلابد من وجود سيئات غير متوب وغير معفو عنها، فاتصل قوله: {ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} بهما بحسب الثواب والعقاب، وفيه تعسف. وقال القاضي: " {ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فيجازي ويجاوز عن إتقان وحكمة"، أي: يجازي التائب ويجاوز عن غير التائب، وصدورهما عنه عز وجل عن إتقان منه وحكمة، وإن لم ندرك ذلك بعقولنا، فلا اعتراض لأحد عليه. ?

وقيل: الاستجابة فعلهم، أي: يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها، {وَيَزِيدُهُمْ} هو {مِنْ فَضْلِهِ} على ثوابهم، وعن سعيد بن جبير: هذا من فعلهم: يجيبونه إذا دعاهم، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ} [يونس: 25]، {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا}. [{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} 27] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الاستجابة فعلهم): قال أبو البقاء: "على هذا: {الَّذِينَ} في موضع رفع، أي: ينقادون له". وقلت على الوجه الأول: {ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} عطف على {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، فتشتمل الآيتان على أصناف المكلفين؛ الموافقين منهم والمخالفين، فإن المؤمن: إما عاص أو غير عاص، والأول: تائب أو غير تائب، والكافر من صنف المخالفين، وقد بين في الآيتين ما لكل من الأصناف، ومعاملة الله مع كل فريق من قبول التوبة والعفو والاستجابة والعذاب. وعلى الوجه الثاني: {ويَسْتَجِيبُ} عطف على مجموع قوله: {وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ}، وقوله: {ويَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} عطف على مقدر هو مسبب عن قوله: {ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا}، على منوال قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15]، أي: عملًا به وعرفًا حق النعمة وقالا: الحمد لله، فالمعنى: ويستجيبون لله بالطاعة حين دعاهم، فيستجيب لذلك دعاءهم، ويوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِه} [فاطر: 29 - 30]. ?

{لَبَغَوْا} من البغي؛ وهو الظلم، أي: لبغى هذا على ذاك، وذاك على هذا، لأنّ الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا وكثرتها»، ولبعض العرب: وقد جعل الوسمي ينبت بيننا .... وبين بني رومان نبعًا وشوحطا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن هذا المقام أجاب السيد الجليل إبراهيم بن أدهم عن قول السائل: ما بالنا فلا نجاب؟ بقوله: "لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، {ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} ". وإلا فالاستجابة في هذا الوجه استجابة المؤمن لله تعالى بالطاعة إذا دعاه إليها. قوله: (أخوف ما أخاف على أمتي) الحديث: من رواية البخاري ومسلم والنسائي عن أبي سعيد قال: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، فقال: أن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها. فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ " الحديث بطوله ذكرناه. قوله: (وقد جعل الوسمي) البيت: سمي المطر وسيمًا؛ لأنه يسم الأرض بالنبات، و"النبع": شجر يتخذ منه القسي، و"الشوحط": يتخذ منه السهام، يعني: أنهم إذا أمطروا وأخصبوا، فتذكروا الذحول، وطلبوا الأوتار. وفي هذا البيت من حسن التعليل ما بلغ غايته، فكأن المطر أنبت لهم آلة الحرب من القسي والسهام. ?

يعني: أنهم أحيوا فحدّثوا أنفسهم بالبغي والتفانن. أو من البغي؛ وهو البذخ والكبر، أي: لتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يتبع الكبر من الغلو فيها والفساد. وقيل: نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها. {بِقَدَرٍ} بتقدير، يقال قدره قدرًا وقدرًا، {خَبِيرٌ بَصِيرٌ} يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، كما توجبه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعًا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا. فإن قلت: قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض، ومنهم مبسوط لهم، ومنهم مقبوض عنهم، فإن كان المبسوط لهم يبغون، فلم بسط لهم؟ وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط، فلم شرطه؟ قلت: لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أحيوا)، الجوهري: "أحيا القوم؛ إذا صاروا في الحيا والخصب". قوله: (التفاتن): وهو التقاتل والتهارج. قوله: (وهو البذخ)، الجوهري: "البذخ: الكبر، وقد بذخ -بالكسر- وتبذخ: إذا تكبر وعلا". قوله: (لا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل): هذا الجواب متكلف، والسؤال قوي. وعلى ما فسرنا الآية عند قوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]: السؤال غير وارد، والذي يشد من عضده هاهنا قول المصنف: "قيل: نزلت في قوم من أهل الصفة"، وعليه تفسير محيي السنة، وذكر أيضًا حديثًا طويلًا، وفي آخره: "وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك". ?

ومع البسط أكثر وأغلب، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. [{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} 28] قرئ: {قَنَطُوا} بفتح النون وكسرها، {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي: بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب. وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: اشتدّ القحط وقنط الناس، فقال: مطروا إذن. أراد هذه الآية. ويجوز أن يريد: رحمته في كل شيء، كأنه قال: ينزل الرحمة التي هي الغيث، وينشر غيرها من رحمته الواسعة. {الْوَلِيُّ} الذي يتولى عباده بإحسانه {الْحَمِيدُ} المحمود على ذلك، يحمده أهل طاعته. [{وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ} 29] {وَما بَثَّ} يجوز أن يكون مرفوعًا ومجرورًا يحمل على المضاف إليه أو المضاف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والإحجام عنه): النهاية: "أحجم القوم: نكصوا وتأخروا"، وهو مطابق لقوله: "للإقدام على البغي". قوله: ({قَنَطُوا} بفتح النون وكسرها): بالفتح: السبعة، والكسر: شاذ. قوله: (ويجوز أن يريد: رحمته في كل شيء): فعلى هذا: هو من عطف العام على الخاص، فيكون قوله: {وهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} تذييلًا للقرينتين على طريقة الجمع، أي: هو المتولي للغيث ونشر سائر الرحمة، وله الحمد على هذا الإحسان، وله الثناء والمحمدة على كل الأفضال. قوله: (على المضاف إليه أو المضاف): أي: ومن آياته خلق السماوات وخلق ما بث فيهما، ومن آياته ما بث فيهما، ويمكن أن يقال: ومن آياته بث ما فيهما، على أن "ما" مصدرية، والمضاف إليه محذوف. ?

فإن قلت: لم جاز {فِيهِما مِنْ دابَّةٍ} والدواب في الأرض وحدها؟ قلت: يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور، وإن كان ملتبسًا ببعضه، كما يقال: بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل، وإنما هو في فخذ من أفخاذهم، أو فصيلة من فصائلهم، وبنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله نويس منهم. ومنه قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من الملح. ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشي مع الطيران، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي. ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانًا يمشى فيها مشى الأناسي على الأرض، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في فخذ من أفخاذهم): النهاية: "أول العشيرة: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ". قوله: (ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران): الانتصاف: "إطلاق الدابة على الأناسي بعيد من عرف اللغة، فكيف بالملائكة؟ والأول أصح، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، فدل هذا على اختصاص الدواب بالأرض". وقال صاحب "الإنصاف": ذكر الزمخشري في قوله: {بَثَّ} قولين: أحدهما: أنه معطوف على {فَأَحْيَا}، أي: فأحيا وبث فيها من كل دابة، لأن الماء سبب حياة الحيوان، إذ به ينبت العشب الذي به حياتهم، فعلى هذا لا حجة لصاحب "الانتصاف" في الآية، إذ المراد ذكر الماء وما حصل منه من النبات وحياة الحيوان. والثاني: أن يعطف على {أَنْزَلَ}، فيكون ?

{إِذَا} تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، ومنه {إِذَا يَشاءُ}، وقال الشاعر: وإذا ما أشاء أبعث منها .... آخر اللّيل ناشطًا مذعورًا [{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ * وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 30 - 31] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه بعض التمسك، وإن كان تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفيه عما عداهن لاسيما إذا كان ضميرًا يعود على اسم جامد، فقوله: {فِيهَا} يعود على {الْأَرْضِ}، ولم يخالف في مفهوم الاسم الجامد إلا أبو بكر الدقاق، فلا تبنى الحجة على مثل هذا الجرف الهاوي". وقلت: لابد من اعتبار بث الملائكة في السماوات؛ لأن مقام العظمة والكبرياء والقدرة التامة ونفاذ المشيئة يوجب التهاون والتحقير، كأنه قيل: وما بث فيهما من كل متحرك ذي روح، وكثيرًا ما تستعمل لفظة "ما" -التي لغير ذوي العقول- فيهم تحقيرًا، ولتتميم هذا المعنى عبر عن إتيان الأمر الواقع الجازم وقوعه، بل الواجب لوعده، وهو القيامة، بقوله: {وهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}، قال محيي السنة: "المراد بجمعهم: الجمع يوم القيامة". قوله: ({إِذَا} تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي): يعني: إذا كان بمعنى الوقت {إذَا يَشَاءُ} أي: في أي وقت يشاء. وأما: "إذا ما أشاء أبعث منها" البيت: "الناشط": الثور الوحشي الذي يخرج من بلد إلى بلد لشيء خافه، وهو يعدو أشد العدو، والضمير في "منها" للناقة، و"المذعور": المخوف، ?

في مصاحف أهل العراق: {فَبِما كَسَبَتْ} بإثبات الفاء على تضمين «ما» معنى الشرط، وفي مصاحف أهل المدينة: «بما كسبت» بغير فاء، على أنّ «ما» مبتدأة، و"بما كسبت" خبرها من غير تضمين معنى الشرط، والآية مخصوصة بالمجرمين، ولا يمتنع أن يستوفي الله بعض عقاب المجرم ويعفو عن بعض، فأمّا من لا جرم له؛ كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره، فللعوض الموفى والمصلحة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"من" -في "منها"-: تجريدية، نحو: هيجت من فلان أسدًا، جرد الشاعر من الناقة شيئًا يسمى ناشطًا مذعورًا. والبيت لكعب بن زهير. قوله: (في مصاحف أهل العراق: {فَبِمَا كَسَبَتْ}): قال صاحب "التيسير": "قرأ نافع وابن عامر: "بما كسبت أيديكم" بغير فاء، والباقون: {فَبِمَا} "، قال الزجاج: "بالفاء أجود للمجازاة"، قال أبو البقاء: "من حذف الفاء حمله على قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] "، ثم قال: "حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي"، ويجوز أ، تجعل "ما" بمعنى "الذي" في هذا المذهب، وفيه ضعف. قوله: (فأما من لا جزم له كالأنبياء) إلى آخره: على تقدير سؤال، أي: إذا كانت الآية مخصوصة بالمجرمين، وأن ما أصابهم من مصيبة فبما كسبت أيديهم، فما لنا نرى الأنبياء والأطفال تصيبهم مصائب ولا جرم لهم؟ فأجاب: أن ذلك لأجل الأعواض، أي: يعوضهم في الآخرة العوض التام، أو يكون بناء لمصالح دينية، على ما عرف من مذهبه. ?

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عرق، ولا خدش عود، ولا نكبة حجر، إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "عند هذه يبلس القدرية، فإنهم حملوا {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و 116] على التائب، وذلك لا يمكن هاهنا، وذلك لا يمكن هاهنا؛ لأنه قد بعض العفو، أي قال: {عَن كَثِيرٍ}، فإن كان تائبًا وجب العفو عن جميع ذنوبه، وغلا وجب الأخذ بالجميع بزعمه، فدل على أن العفو راجع غلى المشيئة، وقول الزمخشري: "إن الآلام لها أعواض"، فهو يريد وجوبها على الله، وقد أخطأ فرعًا وأصلًا؛ لأن المعتزلة وإن أخطأت في إيجاب العوض، لم يقولوه في الأطفال والمجانين، فإن القاضي أبا بكر ألزمهم قبح إيلام الأطفال والبهائم، وقال: لا أعواض لها، وليس مرتبًا على استحقاق سابق، وهذا الإلزام إنما يتم بموافقتهم له". قوله: (ما من اختلاج عرق) إلى قوله: (ولما يعفو الله عنه أكثر): روى الترمذي عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ: {ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} الآية". وروى نحوه أحمد بن حنبل عن علي رضي الله عنه. ?

وعن بعضهم: من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وعن آخر: العبد ملازم للجنايات في كل أوان، وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأنّ جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب، ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة. وعن علي رضي الله عنه وقد رفعه: «من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة، ومن عوقب في الدنيا لم تثن عليه العقوبة في الآخرة»، وعنه رضي الله عنه: «هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن». {بِمُعْجِزِينَ} بفائتين ما قضي عليكم من المصائب، {مِنْ وَلِيٍّ} من متول بالرحمة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجناية الطاعة من وجوه): منها: لا تخلو قط من نوع خلل فيها، ومنها: حصول الثواني، والتقصير في الأداء، ومنها: إعواز حضور القلب المطلوب منها، ومنها: شوائب الرياء التي هي أطعمها، ومنها: ما يلحقها من استعظام النفس والترفع. قوله: (وعن علي رضي الله عنه، وقد رفعه) الحديث: من رواية الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن علي رضي الله عنه: "ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله؟ حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ {ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، وسأفسرها لك يا على: ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، والله أعظم أن يعود بعد عفوه". قوله: (من متول بالرحمة): قيد {وَلِيٍّ} بـ"الرحمة" لما قيد {بِمُعْجِزِينَ} بـ"المصائب"؛ ?

[{وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * إِنْ يَشَا يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} 32 - 34] (الْجَوارِي): السفن. وقرئ: {الجَوَارِ}، {كَالْأَعْلامِ} كالجبال، قالت الخنساء: كأنّه علم في رأسه نار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن قوله: {ومَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} الآية: كالتقرير لإثبات معنى العفو لله تعالى في قوله تعالى: {ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، أي: أن الله لشمول رحمته وعميم لطفه يعفو لكم عن كثير من المصائب، لأنكم لا قدرة لكم أن تفوتوا ما قضي عليكم من المصائب، ولا لكم أيضًا من دونه متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابكم مصيبة، ولا ناصر غيره ينصركم منه، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه: "هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن". قوله: (وقرئ: {الْجَوَارِ}): بغير ياء؛ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. قوله: (كأنه علم في رأسه نار): قبله: وإن صخرًا لمولانا وسيدنا .... وإن صخرًا إذا نشتو لنحار أغر أبلج تأتم الهداة به .... كأنه علم في رأسه نار تمدح أخاها تقول: إذا دخل الشتاء والشدة ينحر الإبل للأضياف. "الأبلج": الطليق الوجه في المعروف، قولها: "في رأسه نار": تتميم لقولها: "كأنه علم". ?

وقرئ: "الرياح"، {فَيَظْلَلْنَ} بفتح اللام وكسرها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "الرياح"): نافع، والباقون: بالتوحيد. الانتصاف: "يقولون: أن "الريح" لم ترد في القرآن إلا عذابًا، بخلاف "الرياح"، وهذه الآية تحرم الإطلاق، لأنها هاهنا نعمة ورحمة، وسكونها شدة على أصحاب السفن، ولا ينكر أن الغالب في ورودها مفردة ما ذكروا، وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا": بناء على الأغلب". قال صاحب "الإنصاف": "وكذلك جاء في القراءات السبعة: (الله الذي أرسل الريح)، (وهو الذي يرسل الريح)، والمراد بها: التي تثير السحاب". قوله: ({فَيَظْلَلْنَ} بفتح اللام وكسرها): بالفتح: السبعة، والكسر: شاذ. قال ابن جني: "الكسر قراءة قتادة، وهي على: ظللت أظل؛ كفررت أفر، والمشهور فيها: فعلت أفعل؛ ظللت أظل، وأما ظللت أظل: فلم يمرر بنا، لكن قد مر نحو هذا: ضللت أضل، وضللت أضل، ولم يقرأ قتادة إلا بما روي، وأقل ما في هذا أن يكون قد سمع لغة". ?

من: ظل يظل ويظل، نحو: ضل يضل ويضل، {رَواكِدَ} ثوابت لا تجري، {عَلى ظَهْرِهِ} على ظهر البحر، {لِكُلِّ صَبَّارٍ} على بلاء الله، {شَكُورٍ} لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله، فهو يستملي منها العبر. {يُوبِقْهُنَّ} يهلكهن، والمعنى: أنه إن يشأ يبتلي المسافرين في البحر بإحدى بليتين؛ إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر، ويمنعهن من الجري، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقًا بسبب ما كسبوا من الذنوب، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} منها. فإن قلت: علام عطف {يُوبِقْهُنَّ}؟ قلت: على {يُسْكِنِ}، لأنّ المعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهما صفتا المؤمن): قال الإمام: "المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء، فإن كان في الضراء: كان من الصابرين، وإن كان في السراء: كان من الشاكرين"، روى محيي السنة في "المصابيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". قوله: (فجعلهما كناية عنه): ونحوها قولك: الإنسان حي مستوي القامة عريض الأظفار. وأقول: حسن موقع هذه الكناية في هذا المقام: أن مواجب الصبر والشكر لم تتبين في سائر الحالات ظهوره في حالتي الركوب في البحر والخروج منه، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] الآيات. قوله: (يستملي منها العبر)، الجوهري: "استمليت الكتاب: سألته أن يمليه علي". ?

فإن قلت: فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه؟ قلت: معناه: أو إن يشأ يهلك ناسًا وينج ناسًا على طريق العفو عنهم. فإن قلت: فمن قرأ "وَيَعْفُو"؟ قلت: قد استأنف الكلام. [{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 35] فإن قلت: فما وجوه القراءات الثلاث في {وَيَعْلَمَ}؟ قلت: أما الجزم فعلى ظاهر العطف، وأما الرفع فعلى الاستئناف، وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما وجوه القراءات الثلاث في {وَيَعْلَمَ}؟ ): الرفع: قراءة نافع وابن عامر، والنصب: الباقون، والجزم: شاذ. أما الجزم: فعلى ظاهر العطف، فيكون التشريك بينهما في المسببية، وأما الرفع: فهو ما ذكره ابن الحاجب: إما أن يقصد إلى عطف الجملة على موضع الجزم المتقدم، باعتبار كونها جملة، لا باعتبار عطف مجرد الفعل، فعلى هذا يكونان أيضًا مشتركين في المسببية، أو يكون إخبارًا بوقوع ذلك، لا على تشريك بينه وبين ما قبله. وهو المراد من قول المصنف: "فعلى الاستئناف". وقلت: مرجع الاستئناف أيضًا إلى التعليل، وتفويض استفادته إلى الذهن، وهذا البحث قريب مما في "المفصل": " {أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]: بالنصب غلى إضمار "أن"، والرفع على الاشتراك بين {يُسْلِمُونَ} و {تُقَاتِلُونَهُمْ}، أو على الابتداء"، في "الإقليد": أن أردت الابتداء قدرت: "أو هم يسلمون"، فالمعنى: أن المؤمنين هم المتولون للقتال، وسيجيء الكلام فيه مستقصى. ?

تقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن، منه قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ {[مريم: 21]، وقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]. وأما قول الزجاج: النصب على إضمار "أن"، لأنّ قبلها جزاء؛ تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك، وإن شئت: وأكرمك؛ على: وأنا أكرمك، وإن شئت: وأكرمك؛ جزمًا، ففيه نظر؛ لما أورده سيبويه في "كتابه"، قال: "واعلم أنّ النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك، ضعيف، وهو نحو من قوله: وألحق بالحجاز فأستريحا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ}): يعني: في "مريم"، وتقديره: لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. قوله: ({وَلِتُجْزَى}): أي: في "الجاثية"، تقديره: وخلق السماوات والأرض ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس. قوله: (وألحق بالحجاز فأستريحا): أوله: سأترك منزلي لبني تميم نصب "ألحق" وهو ضعيف؛ لأنه ليس في جواب الأشياء الستة. ?

فهذا يجوز، وليس بحدّ الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلًا، لأنه ليس بواجب أنه يفعل، إلا أن يكون من الأوّل فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه، كالاستفهام ونحوه، أجازوا فيه هذا على ضعفه"، انتهى. ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحدّ الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها "كتابه"، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليس بحد الكلام ولا وجهه): قيل: أراد بالحد: الجواز، وبالوجه: الحسن، ويمكن أن يراد بالحد: الثابت المقرر والمؤصل، وبالوجه: ما يحمل عليه شيء لمشابهته له. قوله: (لأنه ليس بواجب أنه يفعل، إلا أن يكون في الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه، أجازوا): يعني: أن فعل الجزاء يشبه الإنشائيات في أنه غير ثابت إلا أن يثبت الشرط، فجاز لهذا أن يجاب بما تجاب به الأشياء الستة، لأنها ليست بثباته، لكن على ضعفه. وأما البيت: فهو خبر محض، فلا يجوز، اللهم إلا أن يقال: أن قوله: "سأترك" فعل مضارع، والمضارع أيضًا غير ثابت كالتمني والترجي، فلذلك جاز أن ينتصب "ألحق"، وقيل: التقدير: "وشأني أن ألحق"، فحذف المبتدأ، وقيل في قوله سيبويه: "إن النصب بالفاء والواو" إلى آخره: بحث؛ لأن المراد بالضعيف في مثل هذا الموضع قلة وروده في كلام الفصحاء، ونحن نقول: إذا ورد مثله في كلام الله المجيد فالوجه أن يتمسك به، ويجعل قويًا، فإنه المعيار والمهيمن على جميع الكتب. ?

فإن قلت: فكيف يصح المعنى على جزم "وَيَعْلَمَ" قلت: كأنه قال: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور؛ هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين. {مِنْ مَحِيصٍ} من محيد عن عقابه. [{فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 36] "ما" الأولى ضمنت معنى الشرط، فجاءت الفاء في جوابها، بخلاف الثانية، عن علي رضي الله عنه: اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال، فتصدق به كله في سبيل الله والخير، فلامه المسلمون، وخطأه الكافرون، فنزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف يصح المعنى على جزم "ويعلم"؟ ): يعني: يرجع معنى الجزم إلى قوله: "ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، أن يشأ يعلم الذين يجادلون في آياتنا"، فما معناه؟ وأجاب: بأن معناه التحذير، وتقريره أن يقال: ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، أن يشأ يهلك المؤمن العاصي بسبب عصيانه، ويعف عن كثير، لشمول رحمته وعميم لطفه، وإن يشأ ينتقم من الكافر بكفره، ويجازيه على صرف آيات الله المنبثة في الآفاق على اختلاف أنواعها وحيًا ونظرًا عن مواقعها، ولكن أمهل لصبره وحمله، فكما عبر عن المؤمن بقوله: {صَبَّارٍ شَكُورٍ}، عبر عن الكافر بقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا}، نعم جاء ذكر الكافر مستطردًا لذكر العاصي وعصيانه، لأن "يعفو عن كثير" في الآيتين: وارد في حق المؤمنين، -كما مر- والله أعلم. قوله: ("ما" الأولى ضمنت معنى الشرط): من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع في الحياة الدنيا، فجاءت الفاء في جوابها، وأما "ما" الثانية: فموصولة مبتدأ، والخبر {خَيْرٌ}، المعنى: وما استقر عند الله من الثواب في العقبى خير للمؤمنين المتوكلين المجتنبين كبائر الإثم ?

[{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 37] {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} عطف على {الَّذِينَ آمَنُوا}، وكذلك ما بعده. ومعنى {كَبائِرَ الْإِثْمِ} الكبائر من هذا الجنس، وقرئ: "كبير الإثم"، وعن ابن عباس: كبير الإثم هو الشرك. {هُمْ يَغْفِرُونَ} أي: هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس، والمجيء ب {هُمْ}، وإيقاعه مبتدأ، وإسناد {يَغْفِرُونَ} إليه: لهذه الفائدة، ومثله: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]. [{وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} 38] {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ} نزلت في الأنصار، دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه، {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} وأتموا الصلوات الخمس، وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا، فأثنى الله عليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكاظمين الغيظ المستجيبين لربهم. هذا هو الذي عناه بقوله: " {والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ} عطف على {لِلَّذِينَ آمَنُوا}، وكذلك ما بعده". قوله: (لا يغول الغضب أحلامهم)، الجوهري: "كل ما اغتال الإنسان فأهلكه: فهو غول، و"الغضب غول الحلم"؛ لأنه يغتاله ويذهب به". قوله: (وكانوا قبل الإسلام إذا كان بينهم أمر اجتمعوا وتشاوروا): يريد: أن قوله: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} جملة اسمية عطفت على الفعلية، وعطفت عليها الفعلية، فآذن بأن مضمونها مستمر منهم، وهو دأبهم وعادتهم قبل استجابتهم لربهم، وقبل إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله؛ لاستحداثهم إياها بعد المشورة. وفيها أيضًا حمل المصدر على الأمر والشأن للمبالغة، أي: أمرهم وشأنهم ذو مشورة، أو ذات مشورة، أو عينها، وفيها أن أمورهم مبينة على الرشد والصلاح لما تقرر أنه ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. ?

أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم، والشورى: مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. ومعنى قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} أي: ذو شورى، وكذلك قولهم: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى. [{وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 39] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والشورى: مصدر، كالفتيا): الجوهري: "استفتيت الفقيه فأفتاني، والاسم: الفتيا والفتوى". الراغب: "المشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من: شرت العسل وأشرته: استخرجته. والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه". قوله: (ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه): وكان من حديثه على ما جاء في "التاريخ الكامل": "أن عمر رضي الله عنه لما طعن، قيل له: استخلف، فقال: لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخلفته وقلت لربي أن سألني: سمعت نبيك يقول: "إنه أمين هذه الأمة"، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته وقلت لربي أن سألني: سمعت نبيك يقول: "إن سالمًا شديد الحب لله"، فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، ما أردت بهذا، ويحك؟ كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟ ولا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها لأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، أن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًا فقد صرف عنا، حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافًا، لا وزر ولا أجر إني لسعيد، ?

هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنظر؛ فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر رضي الله عنه-، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني- يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم -، ولن يضيع الله دينه. فخرجوا، ثم راحوا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدًا، فقال: لقد كنت أجمعت بعد مقالتي أن أولي رجلًا هو أجرؤكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي رضي الله عنه، فرهقتني غشية، فرأيت رجلًا دخل جنة، فجعل يقطف كل غضة ويانعة، فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب [على] أمره، فما أردت أن أتحملها حيًا ميتًا، عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم من أهل الجنة"؛ علي وعثمان وسعد والزبير وطلحة وعبد الرحمن، فليختاروا منهم رجلًا، فإذا ولوا رجلًا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه"؛ إلى آخر القصة. فإن قلت: أي الأمرين أولى؟ قلت: الذي اختاره رضي الله عنه، ولعل نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الأمر شورى إلى أن الأمر نبوة لا ملك، وأن أمته أخيار إنما يختارون ما هو الدين ورضا الله، دون هوى الأنفس، ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بم قابل الشورى في قوله: "إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"، وفي الآية إيماء إلى هذا المعنى، والله أعلم. قوله: (هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم، ولا يعتدوا): يعني: دل التركيب على مزيد اختصاصهم بالانتصار، وذلك لمجيء الضمير وإيقاعه مبتدأ، وإسناد ?

وعن النخعي: أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. فإن قلت: أهم محمودون على الانتصار؟ قلت: نعم، لأنّ من أخذ حقه غير متعد حدّ الله وما أمر به، فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم، أو رد على سفيه، محاماة على عرضه وردعًا له، فهو مطيع، وكل مطيع محمود. [{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 40] كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة، لأنها تسوء من تنزل به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {يَنتَصِرُونَ} عليه، ومثله {وإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، وعليه قول الشاعر: جلوس في مجالسهم رزان .... وإن ضيف ألم فهم خفوف ويبعد أن يجعل من باب تقوى الحكم، لأنه إذا قيل: هم يغفرون البتة، فهم أنهم لا يتجاوزون إلى الانتصار، وإذا قيل: هم ينتصرون قطعًا، فهم: أنهم لا يغفرون البتة. وقال القاضي: " {هُمْ يَنتَصِرُونَ} على ما جعله الله لهم كراهة التذلل، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفصائل، وهو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإن الاقتصار على الغفران ينبئ عن العجز، والحلم عن العاجز محمود، وعن المتغلب مذموم". وقلت: مثله قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، فهو من باب التكميل. قوله: (كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به): وقلت: بل تسوء المجازي؛ لأن القصد هو تحريض العفو والتجاوز، فسمي الجزاء بالسيئة تهجينًا، فهو من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، لا من باب المشاكلة، وذلك أنه تعالى لما أثبت للذين آمنوا ?

قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]، يريد: ما يسوءهم من المصائب والبلايا، والمعنى: أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال: أخزاك الله، قال: أخزاك الله. {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ} بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء، كما قال: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}. عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم، وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصًا في حال الحرد والتهاب الحمية، فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى ربهم يتوكلون صفتين، وأن حالهم تارة إذا ما غضبوا هم يغفرون، وأخرى إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، أرشدهم إلى خير الفضيلتين وأولى الحسنتين، فقال: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، ولهذا ختم الآيات بقوله: {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، أي: لمن معزومات الأمور، ومن شيم أولي العزم من الرسل. النهاية: "العزم يجيء لمعنيين؛ بمعنى الجد والصبر، وبمعنى الفرائض". قوله: (فربما كان المجازي من الظالمين وهو لا يشعر): وقلت: فعلى هذا يكون قوله: {فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} اعتراضًا، والفاء مانعة منه، ويمكن أن يقال: أن المجازي لما نسب إلى المساءة في قوله: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} -كما تقرر-، والمسيء في هذا المقام مفسد لما في البين، بدليل قوله: {فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، علل مفهوم ذلك بقوله: {إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد: كان مقسطًا-أي: سالبًا عن نفسه القسط، أي: الجور-، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. فوضع موضعه: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وهو كما قال: "عدة مبهمة". ومن اشتغل بالمجازاة، وانتسب إلى السيئة، وأفسد ما في البين، وحرم على نفسه ذلك الأجر الجزيل: كان ظالمًا على نفسه {إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 44 - 45]، قال رحمه الله: "وتكرير {الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وترك الضمير إلى الصريح؛ لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح، وقوله: {لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس". ويمكن أن يحمل كلام المصنف على هذا المعنى، وذلك أنه استشهد بقوله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، وهو قد عقب قوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وقد ذكر أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها، ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك. فإن قلت: فعلى هذا كيف يلتئم قوله: {ولَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} بما قبله، فإنه تعالى رفع عنهم كل جرح وضيق بتنكير {سَبِيلٍ}؛ لشيوعه، فضلًا عن الظلم؟ قلت: تلك الآية واردة في شأن المظلوم، وإرشاد له إلى مكارم الأخلاق، وإيثار طريق المرسلين كما سبق، وهذه خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله، بدليل قوله: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ... أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، حيث أعاد "السبيل" المنكر بالتعريف، وعلق به {يَظْلِمُونَ النَّاسَ}، وفسره بقوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ويعضده تفسير الإمام: "أي: ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة؛ لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار، وفائدته: ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه: أن سراية القود مهدرة؛ لأن الشرع أذن للمنتصر بالقطع، سواء سرى أو لم يسر". ?

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله". [{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} 41 - 42] {بَعْدَ ظُلْمِهِ} من إضافة المصدر إلى المفعول، وتفسره قراءة من قرأ: "بعد ما ظلم"، {فَأُولئِكَ} إشارة إلى معنى "مِنْ" دون لفظه، {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} للمعاقب ولا للعاتب والعائب. {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} يبتدئونهم بالظلم، {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون. [{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 43] {وَلَمَنْ صَبَرَ} على الظلم والأذى، {وَغَفَرَ} ولم ينتصر وفوّض أمره إلى الله، {إِنَّ ذلِكَ} منه {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وحذف الراجع لأنه مفهوم، كما حذف من قولهم: "السمن منوان بدرهم". ويحكى: أن رجلًا سب رجلًا في مجلس الحسن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}: فتعليم للولاة طريق الحكم، يعني: أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى، وانتصر من الظالم، فلا سبيل لكم عليه؛ لما قد رخص له ذلك، وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم؛ لأن عفو المظلوم من عزم الأمور، فتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. قوله: (ويحكي: أن رجلًا سب رجلًا مثله): أورد الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" ?

فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها -والله- وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وقالوا: العفو مندوب إليه. ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وهو أن زينب أسمعت عائشة بحضرته، وكان ينهاها فلا تنتهي، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي هريرة: "أن رجلًا شتم أبا بكر رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويبتسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال: إنه كان معك ملك يرد عليه، فلما رددت عليه وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان". قوله: (عقلها والله) أي: عمل بها. الأساس: "عقل فلان بعد الصبا، أي: عرف الخطأ الذي كان عليه". قوله: (وهو أن زينت أسمعت عائشة) رضي الله عنهما: روينا عن أبي داود عن ابن عون قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندنا زينب بنت جحش، فجعل يصنع بيده شيئًا، فقلت بيدي حتى فطنته لها، فأمسك، وأقبلت زينب تقحم لعائشة، فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لعائشة: سبيها. فسبتها، فغلبتها"، الحديث. "أسمعت": أي: سبت، يقال: أسمع فلان فلانًا؛ إذا سبه، قال تعالى: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46]؛ أي: غير مسبوب. ?

فقال لعائشة: «دونك فانتصرى». [{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} 44] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} ومن يخذل الله، {فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه. [{وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ * وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} 45 - 46] {خاشِعِينَ} متضائلين متقاصرين مما يلحقهم {مِنَ الذُّلِّ}، وقد يعلق {مِنَ الذُّلِّ} بـ {يَنْظُرُونَ}، ويوقف على {خَاشِعِينَ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: "للخصومة قحم، أي: تقحم بصاحبها على ما يريده". قوله: (دونك): أي: خذي، الجوهري: "يقال في الإغراء بالشيء: دونكه، وقال تميم للحجاج: أقبرنا صالحًا -وكان قد صلبه-، فقال: دونكموه". ويوقف على {خَاشِعِينَ}، وفي "الكواشي": يعرضون على النار خاشعين ذليلين، لا وقف هاهنا أن علقت {مِنَ الذُّلِّ} بـ {خَاشِعِينَ}، وتقف على {الذُّلِّ}، ويكون حسنًا أن استأنف ما بعد، وإن نصبته حالًا فلا أحبه، وتقف على {خَاشِعِينَ} أن علقت {مِنَ الذُّلِّ} بـ {يَنْظُرُونَ}. نحوه في "المرشد". ?

{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي: يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحاب. وقيل: يحشرون عميًا فلا ينظرون إلا بقلوبهم، وذلك نظر من طرف خفي، وفيه تعسف. {يَوْمَ الْقِيامَةِ} إما أن يتعلق بـ {خَسِرُوا}، ويكون قوله المؤمنين واقعًا في الدنيا، وإما أن يتعلق بـ"قال"، أي: يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة. [{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} 47] {مِنَ اللَّهِ} من صلة {لَا مَرَدَّ}، أي: لا يرده الله بعد ما حكم به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما ترى المصبور)، المغرب: "يقال للرجل إذا شدتيداه ورجلاه وأمسكه رجل آخر حتى يضرب عنقه: قتل صبرأ، ومنه: "نهى عن المصبورة"، وهي البهيمة المحبوسة على الموت". قوله: (وإما أن يتعلق بـ"قال"): والمعنى على الأول: أيها الناظر تراهم يعرضون على النار خاشعين من الذل، وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا: أن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وهاهنا وجه ثالث، وهو أن يتعلق بـ {خَسِرُوا}، والقول واقع في القيامة، واختصاص ذكر القيامة للتهويل، وأن هذا الخسار لا خسار بعده، خسار ضربة لازب، يؤيده قوله: {أَلا إنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، لأنه تذييل. قوله: ({مِنَ اللهِ}: من صلة {لَا مَرَدَّ}): يجوز بالكسر وبالضم، والكسر أظهر من الضم في الموضعين. ?

أو من صلة {يأتِي}، أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه، والنكير: الإنكار، أي: ما لكم من مخلص من العذاب، ولا تقدرون أن تنكروا شيئًا مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم. [{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} 48] أراد بـ"الإنسان": الجمع لا الواحد؛ لقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، ولم يرد إلا المجرمين، لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم، والرحمة: النعمة من الصحة والغنى والأمن، والسيئة: البلاء من المرض والفقر والمخاوف، والكفور: البليغ الكفران، ولم يقل: فإنه كفور؛ ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما قال: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، والمعنى: أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يقل: فإنه كفور؛ ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم): فالتعريف في "الإنسان" الأول: للعهد، وفي الثاني: للجنس، والقرنية الدالة على العهد قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، والمغيبون: الكفار المخاطبون؛ لترتب قوله: {فَإنْ أَعْرَضُوا} على قوله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم}، فهو من إقامة المظهر موضع المضمر؛ للإشعار بتصميمهم على الكفران، والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه. وأفرد الضمير في {فَرَحٍ}، وجمع في {وإن تُصِبْهُمْ}، وعم في {َإنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ}، لمفهوم واحد على الترقي في معنى: ليس ببدع من هذا الإنسان المعهود: الإصرار؛ لأن هذا ?

[{لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرانًا وَإِناثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} 49 - 50] لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها، أنبع ذلك أنّ له الملك، وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضًا بالإناث، وبعضًا بالذكور، وبعضًا بالصنفين جميعًا، ويعقم آخرين، فلا يهب لهم ولدًا قط. فإن قلت: لم قدّم "الإناث" أوّلًا على "الذكور" مع تقدّمهم عليهنّ، ثم رجع فقدّمهم، ولم عرف "الذكور" بعد ما نكر "الإناث"؟ قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجنس موسوم بكفران النعم، فجعل ذم "الإنسان" الثاني المطلق دليلًا على ذم هذا المقيد، ولذلك قال: "ليسجل". قوله: (لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها، أتبع ذلك أن له الملك): شرع في بيان النظم، ولم يبين، وإنما المراد أن ليس موجب إذاقة النعمة من الله الفرح والبطر والأشر، بل هي موجبة للحمد والشكر لموليها، كما ليس إصابة السيئة منه تعالى سببًا للكفران، بل للإنابة والرجوع إلى منيلها، لأن له الملك والملكوت، وله التصرف في ملكه ما يشاء كيف يشاء، وليس على الإنسان إلا الشكر عند الآلاء، والصبر عند البلاء، وإليه الإشارة بقوله: "لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه، لا ما يشاؤه الإنسان". قوله: _لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى) إلى آخره: قال صاحب "التقريب": وفيه بحث، إذ يمكن معارضته بأن الآية السابقة ذكر فيها الرحمة مقدمة على البلاء، فناسب هذا تقديم الذكور على الإناث، لا يقال: سياق الكلام أنه فاعل ما لا يشاؤه الإنسان، فكان ذكر ما لا يشاؤه الإنسان -وهو الإناث- أهم، فيكون أحق بالتقديم؛ لأنا نقول: السياق أنه لا يفعل ما يشاؤه الإنسان، لا أنه يفعل ما لا يشاؤه الإنسان. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: إنه فاعل ما يشاؤه، وقد شاء تقديم الإناث. قلت: شاء لحكمة أولا لحكمة؟ فإن كان الثاني سقط أصل سؤال حكمة تقديم الإناث، وإن كان الأول كفت تلك الحكمة لتقديم الإناث، بدون هذا التطويل والتحمل. والأولى أن يقال: قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن، لاسيما وقد كانوا قريبي العهد بالوأد. وقال الزجاج: "ويجعل ما يهبه من الولد ذكرانًا وإناثًا، أي: يقرنهم، وكل شيئين يقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان"، فالتقدير: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إنَاثًا} يعني: البنات ليس معهن ذكر، {ويَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} يعني: البنين ليس معهم أنثى، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإنَاثًا} أي: يولد لرجل ذكور وإناث، {ويَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا} لا ولد له. وقال القاضي: " {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ} بدل من {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} بدل البعض من الكل، والمعنى: يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة، يهب لبعض إما صنفًا واحدًا ذكرًا أو أنثى، أو الصنفين معًا، ويعقم آخرين، ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، أو المحافظة على الفواصل، ولذلك عرف الذكور"، وذكر الوجهين اللذين في "الكشاف" أيضًا. وقلت: أما قضية النظم: فإن قوله: {ِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْض} وارد على نمط الآيات السابقة، وهي: {وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، {وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ} [الشورى: 28]، {ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} [الشورى: 30]، ولما ذكر بث الحيوان، وأراد أن يبين كيفية البث قدم استبداده بالملك، واستقلاله بالملكوت، ثم ثنى بأنه خالق لما يشاء، فاعل لما يريد، له التصرف في ملكه ما يشاء كيف ?

وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء، وأخر الذكور، فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم -وهم أحقاء بالتقديم- بتعريفهم، لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ، ولكن لمقتض آخر، فقال: {ذُكْرانًا وَإِناثًا}، كما قال: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} [الحجرات: 13]، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [القيامة: 39]. وقيل: نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، حيث وهب لشعيب ولوط إناثًا، ولإبراهيم ذكورًا، ولمحمد ذكورًا وإناثًا، وجعل يحيى وعيسى عقيمين. {إِنَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح العباد، {قَدِيرٌ} على تكوين ما يصلحهم. [{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 51] {وَما كانَ لِبَشَرٍ} وما صح لأحد من البشر، {أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا} على ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يشاء، ثم ثلث بقوله: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ}، فترقى من ذلك العام إلى ذكر الإناث، ثم إلى إفراد الذكور، ثم إلى جمعهما، فلا يدخل في الكلام إرادة الإنسان وكراهته. وأما قوله: {ويَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا}: كالاستدراك وتتميم معنى الاستبداد، ولذلك غير العبارة إلى {ويَجْعَلُ مَن يَشَاءُ}، ثم ذيل الكل وعلله بقوله: {إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}؛ ليكون ذريعة إلى ذكر فضل من فضائل هذا النوع من المخلوق، ومنتهى كماله وغاية درجاته؛ {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْيًا} ليؤذن بأن المقصود من الخلق: البث والدعوة إلى الله والتوجه إليه والعبادة له، وختم السورة بذكر أفضلهم وأكملهم وأشرفهم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. قوله: (إما على طريق الوحي، وهو الإلهام): الراغب: "أصل الوحي: الإشارة السريعة، ?

كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره، قال عبيد بن الأبرص: وأوحى إلي الله أن قد تأمّروا .... بإبل أبي أوفى فقمت على رجل أي: ألهمني وقذف في قلبي. وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إما بالكلام رمزًا وتعريضًا، وإما بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح والكتابة، ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه: وحي، وذلك أضرب حسب ما دل عليه قوله تعالى: {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} الآية، وذلك إما برسول مشاهد يرى ذاته ويسمع كلامه؛ كتبليغ جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة معينة، وإما بسماع كلام من غير معاينة؛ كسماع موسى عليه السلام كلام الله، وإما بإلقاء في الروع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي"، وإما بإلهام نحو: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وإما بتسخير؛ كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، أو بمنام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (انقطع الوحي وبقيت المبشرات: رؤيا المؤمن) ". و"أوحى" في البيت: يقول: ألهمني الله تعالى أن قومًا استولوا وغصبوا إبل أبي أوفى، وصاروا أمراء عليها، فقمت بجد واجتهاد في مددهم لأردها عليهم، ويروى: "تأجروا". قوله: (وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام)، الانتصاف: "الحق أن ?

من غير أن يبصر السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئي، وقوله: {مِنْ وَراءِ حِجابٍ}: مثل، أي: كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه، وهو من وراء الحجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وإما على أن يرسل إليه رسولًا من الملائكة، فيوحي الملك إليه، كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل: وحيًا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي: نبيًا، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم. و{وَحْيًا} و"أن يرسل": مصدران واقعان موقع الحال، لأنّ "أن يرسل" في معنى: إرسالًا. و {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}: ظرف واقع موقع الحال أيضًا -كقوله: {وَعَلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] والتقدير: وما صح أن يكلم أحدًا إلا موحيًا، أو مسمعًا من وراء حجاب، أو مرسلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلام الله قديم، سمعه موسى، وسمعه نبينا صلوات الله عليهما، والحجاب المذكور باعتبار المخلوق لا باعتبار الخالق، ويستنبط من هذه الآية أن من حلف ألا يكلم فلانًا، فراسله حنث؛ لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام". وقال القاضي: "معنى: {إلاَّ وحْيًا}: كلامًا خفيفًا يدرك بسرعة، ليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة، وهو أعم من المشافهة، كما روى في حديث المعراج، وكما اتفق لموسى عليه السلام في الطور، وقي قوله: {أَوْ مِن ورَاءِ حِجَابٍ} دليل على جواز الرؤية، لا على امتناعها". قوله: (والتقدير: وما صح أن يكلم أحدًا إلا موحيًا، أو مسمعًا من وراء حجاب، أو مرسلًا): ها هنا سؤالان: أحدهما: أن قضية الترقي من الأدنى إلى الأعلى أن يكون قوله: {أَوْ ?

ويجوز أن يكون {وَحْيًا}، موضوعًا موضع: كلامًا، لأنّ الوحي كلام خفي في سرعة، كما تقول: لا أكلمه إلا جهرًا وإلا خفاتًا، لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام، وكذلك "إرسالًا"، جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة، تقول: قلت لفلان كذا، وإنما قاله وكيلك أو رسولك. وقوله: {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} معناه: أو إسماعًا من وراء حجاب. ومن جعل {وَحْيًا} في معنى: أن يوحي، وعطف {يُرْسِلَ} عليه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِن ورَاءِ حِجَابٍ} مؤخرًا عن قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}، لأن المكالمة والرؤيا حصلت من وراء حجاب، وإنه أرفع منزلة من المراسلة، ولذلك مدح موسى عليه السلام بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وسماه "كليمًا". وثانيهما: ما فائدة تغيير العبارات؟ وقلت -والعلم عند الله-: يمكن أن يقال: إنه لو حمل الوحي على ما قاله القاضي: " {إلاَّ وحْيًا}: كلامًا خفيًا ليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة، كما روي في حديث المعراج، وهو المشافهة"، المعني بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9]، لحصل منه التنزل، ولظهر منه الرمز في تقليل العبارات وخفي التلويحات، مرتبة غب مرتبة، بحسب قلة الوسائط وكثرتها، وما اجتمعت تلك المراتب الثلاث إلا لسيدنا صلوات الله عليه، حيث قال: {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} الآية. والله أعلم بأسرار كلامه. قوله: (ومن جعل {وَحْيًا} في معنى: أن يوحي): قال الزجاج: "قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} بالنصب؟ فقال: هو محمول على أن سوى في هذه التي في قوله: {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ}، لما يلزم منه أن يقال: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولًا، وذلك غير جائز، والمعنى: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحي أو أن يرسل، ويجوز الرفع في ?

على معنى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} أي: إلا بأن يوحي أو بأن يرسل، فعليه أن يقدر قوله: {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} تقديرًا يطابقهما عليه، نحو: أو أن يسمع من وراء حجاب. وقرئ: "أو يرسل رسولًا فيوحي" بالرفع؛ على: أو هو يرسل، أو بمعنى: مرسلًا، عطفًا على {وَحْيًا} في معنى: موحيًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "يرسل" على معنى الحال أي: موحيًا أو مرسلًا، وذلك كلامه، ومثل "أن يرسل" بالنصب: قول الحصين بن حمام المري: ولولا رجال من رزام أعزة .... وآل سبيع أو أسوءك علقما" وقال صاحب "الكشف": "من" -في {مِن ورَاءِ حِجَابٍ} -: تتعلق بمضمر، والتقدير: إلا موحيًا أو مكلمًا من وراء حجاب، فهو معطوف على {وَحْيًا}، و"وحي": مصدر في موضع الحال، ولا تتعلق "من" بقوله: {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ}، لأنه قبل حرف الاستثناء، فلا يعمل فيما بعده، مع أنه جوز تعلقه به؛ لأنه ظرف، والظرف يعمل فيه الوهم، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} في تقدير: أو أن يرسل، وهو عطف على "وحي"، أي: إلا وحيًا أو إرسال رسول، ولا يكون عطفًا على {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ}، لأنه فاسد. قال مكي: "لأنه يلزمه نفي الرسل أو نفي المرسل إليهم". قوله: (وقرئ: "أو يرسل رسولًا فيوحي" بالرفع): قرأها نافع. ?

وروي: أنّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيًا، كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال: لم ينظر موسى إلى الله، فنزلت". وعن عائشة رضي الله عنها: "من زعم أنّ محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية"، ثم قالت: "أو لم تسمعوا ربكم يقول" فتلت هذه الآية. {إِنَّهُ عَلِيٌّ} عن صفات المخلوقين، {حَكِيمٌ} يجري أفعاله على موجب الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بغير واسطة؛ إما إلهامًا، وإما خطابًا. [{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 52 - 53] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها): روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن محمدًا رأى فقد كذب"، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْيًا أَوْ مِن ورَاءِ حِجَابٍ}، وسيجيء الكلام فيه في "النجم" أن شاء الله تعالى. قوله: ({إنَّهُ عَلِيٌّ} عن صفات المخلوقين، {حَكِيمٌ} تجري أفعاله على موجب الحكمة): يعني: هذه الفاصلة تعليل لما سبق، أي: ما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على هذه الأوجه، والمعنى: كما أنه عز شأنه على عن أن يكون جنابه مشرع كل أحد، كذلك حكيم لا يصل إلى بيداء حكمته في إرسال الرسل وهم كل متوهم، ومن ثم نودي أفضل خلق الله وأكرمهم عليه بقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا}، قال القاضي: " {حَكِيمٌ} يفعل ما تقتضيه حكمته، يكلم تارة بوسط، وتارة بغير وسط، إما عيانًا أو من وراء حجاب". ?

{رُوحًا مِنْ أَمْرِنا} يريد: ما أوحي إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم، كما يحيى الجسد بالروح. فإن قلت: قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يدري ما القرآن قبل نزوله عليه، فما معنى قوله: {وَلَا الْإِيمانُ}، والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر، ومن الصغائر التي فيها تنفير، قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت: الإيمان اسم يتناول أشياء، بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي، ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} [البقرة: 143] بالصلاة، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان. {مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} من له لطف، ومن لا لطف له، فلا هداية تجدي عليه. {صِراطِ اللَّهِ} بدل، وقرئ: "لتهدى"، أي: يهديك الله. وقرئ: "لتدعو". عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {حم * عسق} كان ممن تصلي عليه الملائكة، ويستغفرون لهـ ويسترحمون له». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإيمان اسم يتناول أشياء): قال محيي السنة: " {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ}: يعني: شرائع الإيمان ومعالمه، وأهل الأصول على أن الأنبياء مؤمنون قبل الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي على دين إبراهيم، ولم تتبين له شرائع دينه". وقال ابن الجوزي: "لم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله؛ لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له مع شركهم. وقال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل، من ذلك الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحارم بالقرابة والصهر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم تلك". الانتصاف: "معتقد الزمخشري: أن فعل الطاعات من الإيمان، حتى يخرج تاركها ومرتكب الكبيرة من الإيمان، فظن أن هذه الآية حجة له، إذ لو كان لمجرد التوحيد والتصديق لما انتفى عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، لكونه مصدقًا قبل المبعث، فوجب حمل الإيمان المنفي على التصديق وفعل الطاعات التي لم تتحقق قبل النبوة. وجوابه: أن التصديق إنما يعنى به الإيمان عنه قبل الوحي". قال مكي: " {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ}: "ما" الأولى: نفي، والثانية: استفهام، رفع بالابتداء، و {الكِتَابُ} الخبر، والجملة في موضع نصب بـ {تَدْرِي} ". تمت السورة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه حامدًا ومصليًا على رسول الله. * * * ?

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية، وهي تسع وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 1 - 4] أقسم بالكتاب المبين، وهو القرآن، وجعل قوله: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} جوابًا للقسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة؛ لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد، ونظيره قول أبي تمام: وثناياك إنّها إغريض ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الزخرف مكية، وهي تسع وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وثناياك إنها إغريض): تمامه لأبي تمام: .... ولآل توم وبرق وميض ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأقاح منور في بطاح هزه ... في الصباح روض أريض "الإغريض" والغريض: الطلع والبرد وكل أبيض طري، "توم": واحده: تومة، وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، وأرض أريضة: زكية، وأرضت الأرض -بالضم-: زكت. قال صاحب "التقريب": المقسم به: ذات القرآن المصحح بالمعجز، والمقسم عليه: وصفه، وهو جعله عربيًا، فتغايرا، وفي قوله: "المقسم به ذات القرآن" نظر، لأنه وصف الكتاب بـ"المبين"، فأقسم تعالى بالكتاب المبين على إثبات كونه مبينًا؛ أي: عربيًا غير عجمي لكي تعقله العرب، فظهر أن المقسم به والمقسم عليه ليسا متغايرين، قال محيي السنة: "أقسم بالكتاب الذي أبان طريق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا} "، وقال الإمام: "التقدير: هذه {حم}، ثم ابتدأ وقال: {والْكِتَابِ المُبِينِ}، والمراد به: الكتابة والخط، أقسم بالكتابة لكثرة ما فيها من المنافع، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط، فإن المتقدم إذا استنبط علمًا أثبته في كتاب، وجاء المتأخر وزاد عليه، فتتكاثر بها الفوائد". والمصنف سلك مسلك أهل الذوق، فإن المحب المستهتر لا يرى الدنيا إلا بعين محبوبه، ولا يؤثر عليه شيئًا، قال: إن المحبة أمرها عجب ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما أن الشاعر لما أراد المبالغة في وصف ثغر المحبوبة جعله مقسمًا به، ولما لم يكن عنده شيء أعز منه أقسم به عليه، ولعمري أن آل "حم" جدير بذلك، روينا عن الدرامي عن سعد بن إبراهيم قال: "كن الحواميم يسمين العرائس"، وروى الزجاج مرفوعًا: "مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب". وقال الحريري في "درة الغواص": "ووجه الكلام في "حواميم": ألا يقال: قرأت "حم"، بل: آل "حم"، وعن ابن مسعود: "آل (حم) ديباج القرآن"، وكما روى عنه أنه قال: "إذا وقعت في آل (حم) وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن"، قال الكميت في "الهاشيمات": وجدنا لكم في آل حم آية .... نأولها منا تقي ومعرب ?

{الْمُبِينِ} البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم وأساليبهم، وقيل: الواضح للمتدبرين، وقيل: {الْمُبِينِ} الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة. {جَعَلْناهُ} بمعنى: صيرناه؛ معدّى إلى مفعولين، أو بمعنى: خلقناه؛ معدّى إلى واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ {[الأنعام: 1]، و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال، و"لعلّ" مستعار لمعنى الإرادة؛ لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، أي: خلقناه عربيًا غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا: لولا فصلت آياته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} [الشورى: 23] ". قوله: (أو بمعنى: خلقناه): هذا التفسير يأباه ما ذهب إليه من تعظيم الكتاب، وقوله: "مقسمًا به وعليه"؛ لأنه من سمات النقص، ومن وصفه بقوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، روى محيي السنة: "قد مضى سلف هذه الأمة وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله ووحيه ليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة وبدعة لم يتكلم به أحد في عهد الصحابة والتابعين، وعن جعفر الصادق: أنه سئل عن القرآن فقال: أقول فيه ما يقول أبي وجدي: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله تعالى". قوله: (و"لعل" مستعار بمعنى الإرادة): الانتصاف: "الصحيح أن معناه: لتكونوا بحيث يرجى منكم التعقل، وهو تأويل مطرد، قال سيبويه". ?

وقرئ: "إمّ الكتاب" بالكسر، وهو اللوح، كقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22]، سمي بأم الكتاب؛ لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، منه تنقل وتستنسخ، "علي" رفيع الشأن في الكتب؛ لكونه معجزًا من بينها، {حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة، أي: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا. [{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} 5] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("علي"رفيع الشأن) يؤذن بأن قوله: {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} خبران لـ"إن"، وقوله: "منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه": يشعر بأنهما صفتان لكتاب آخر، وقوله: "وهو مثبت في أم الكتاب" على أن {فِي أُمِّ الكِتَابِ} أيضًا خبر، فكيف التأليف؟ قلت: تأليفه: أن هذا الكتاب -الذي لديكم أبان طريق الهدى، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الدنيا- بمنزلة عظيمة عندنا، بمنزلة كتاب موصوف بهذين الوصفين، وهو كونه رفيع الشأن ذا حكمة بالغة، وهو على هذا الوصف والبيان ومثبت في اللوح، والمراد بـ"كتاب هما صفتاه" هو هو، ففيه لمحة من التجريد. قال صاحب "الكشف": " {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} خبران لـ"إن"، وقوله: {فِي أُمِّ الكِتَابِ} من صلة "علي"، أي: إنه لعلي في هذا المحل، وإنما كان ذلك لمكان اللام، نحوه قولك: أن زيدًا في الدار لقائم. وقال أبو البقاء: " {فِي أُمِّ الكِتَابِ} متعلق بـ {لَعَلِيٌّ}، واللام لا تمنع ذلك". وال القاضي: " {فِي أُمِّ الكِتَابِ} متعلق بـ"علي" أو حال منه، و {لَدَيْنَا} بدل منه أو حال من {أُمِّ الكِتَابِ} ". ?

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} بمعنى: أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم، على سبيل المجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، ومنه قول الحجاج: ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، وقال طرفة: أضرب عنك الهموم طارقها .... ضربك بالسّيف قونس الفرس والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونذوده عنكم، على سبيل المجاز): أي: الاستعارة التمثيلية، أستعار للتنحية "الضرب" الذي بمعنى الذياد، بعد أن شبه حالة هذه التنحية بحالة ذود غرائب الإبل عن الحوض، وبولغ فيه، ثم استعمل هنا ما كان مستعملًا هناك. قال الميداني: "ضربه ضرب غرائب الإبل، ويروى: أضربه ضرب غريبة الإبل، وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند الورد، وصاحب الحياض يطردها ويضربها بسبب إبله، ومنه قول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق: "والله لأضربنكم ضرب غرائب الإبل"، قال الأعشى: كطوف الغريبة وسط الحياض .... تخاف الردى وتريد الجفار! يضرب في دفع الظالم عن ظلمه بأشد ما يمكن". قوله: (اضرب عنك الهموم) البيت: أي: "اضربن"، فحذفت النون الخفيفة، وحركت الباء بالفتح، و"طارقها": ما يطرق بالليل، وهو بدل اشتمال من "الهموم". و"القونس": منبت شعر الناصية، وهو عظم ناتئ بين أذني الفرس، والبيت يحتمل المشاكلة أيضًا. ?

إنكارًا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم؛ من إنزاله الكتاب، وخلقه قرآنًا عربيًا، ليعقلوه ويعملوا بمواجبه. و{صَفْحًا} على وجهين؛ إما مصدر؛ من: صفح عنه: إذا أعرض، منتصب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضًا عنكم، وإمّا بمعنى الجانب؛ من قولهم: نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبًا، فينتصب على الظرف، كما تقول: ضعه جانبًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخلقه قرآنًا عربيًا): يريد: أن "جعل" في قوله: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا} بمعنى: خلق، وربما تعذر له حين فسره في مقامه بمعنى الخلق، لكن إعادته هنا بمجرد التعصب والتبجح لمذهبه، هذا عند أهل الأصول سهل؛ لأنهم يوافقونهم في الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة، ونحن -معاشر السنة- نقتفي آثار السلف الصالح في الإمساك عن أمثال هذه الجرأة، وبذل الجهد في تعظيم جانب كلام الله المجيد، لاسيما وقد وضع {الذِّكْرَ} موضع الضمير، والمقام يقتضي التفخيم لقوله: {وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. ?

وامش جانبًا. وتعضده قراءة من قرأ: "صفحًا" بالضم، وفي هذه القراءة وجه آخر، وهو أن يكون تخفيف "صفح"؛ جمع "صفوح"، وينتصب على الحال، أي: صافحين معرضين. {أَنْ كُنْتُمْ} أي: لأن كنتم، وقرئ: "إن كنتم"، و"إذ كنتم". فإن قلت: كيف استقام معنى إن الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتعضده قراءة من قرأ "صفحًا"): لأنه -على هذا- ليس بمصدر، فلا يصلح أن يكون منصوبًا مفعولًا له. الجوهري: "نظر إليه بصفح وجهه، أي: بعرضه. قال أبو عبيدة: ضربه بصفح السيف، والعامة تقول مفتوحة، أي: بعرضه". قوله: (تخفيف "صفح"، جمع "صفوح"): النهاية: "في حديث عائشة رضي الله عنها تصف أباها رضي الله عنه: "صفوح عن الجاهلين"، أي: كثير الصفح والعفو، وأصله من الإعراض بصفحة الوجه، كأنه أعرض بوجهه عن ذنبه، وهي من أبنية المبالغة". الراغب: "صفح الشيء: عرضه وجانبه، كصفحة الوجه، وصفحة السيف. والصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، وصفحت عنه: أوليته مني صفحة جميلة معرضًا عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافيًا عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها، من قولك: تصفحت الكتاب". قوله: ({أَنْ كُنْتُمْ}) نافع وحمزة والكسائي: بكسر الهمزة، والباقون: بفتحها. ?

يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه؛ استجهالًا له. [{وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَما يَاتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ * فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} 6 - 8] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن المدل بصحة الأمر): أي: المتوثق. الأساس: "أدل على قرنه، وهو مدل بفضله وشجاعته، ومنه أسد مدل". المغرب: "التدلل: تفعل من الدلال والدالة، وهما الجرأة". قوله: (استجهالًا له): وكذلك قوله: {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} استجهالًا لهم في أنهم مع معرفتهم أن القرآن عربي مبين، وقد أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة، فرطوا فيه مثل تفريط من لم يعرف ذلك وشك فيه، فالتعريف في {الذِّكْرَ} للعهد الخارجي التقديري، لأن قوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًا} في معنى الذكر، قال في سورة (ص): "أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها"، بل نضرب عن هذا التقدير صفحًا، ونقول: أن الذكر مظهر وضع مقام المضمر من غير لفظه السابق إشعارًا بالعلية، والمراد به الشرف والصيت، وأن هذا الشرط ليس من المثال المذكور في المتن في شيء، بل هو من قبيل قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] بالكسر على قراءة نافع من طريق الزبيدي، أي: لا تطع كل حلاف شارطًا يساره، وقوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51]، فهو كالتعليل، فيوافق قراءة الفتح في {أَن كُنتُمْ}، وإذ كنتم وأن المراد بالمسرفين: المستهزؤون بآيات الله وكتابه، لقوله بعده: {ومَا يَاتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، فإنه تهديد مرتب عليه، وهذا ما ?

{وَما يَأتِيهِمْ} حكاية حال ماضية مستمرة، أي: كانوا على ذلك، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه. الضمير في {أَشَدَّ مِنْهُمْ} للقوم المسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عنهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقتضيه النظم الأنيق، وبيانه: أنهم لما استهزؤوا بكتاب الله واستخفوا به ليدفعوه عن أنفسهم عنادًا، فوصف الكتاب أولًا بقوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا}، وثانيًا بقوله: {وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، عقب ذلك كله منكرًا عليهم بقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ} الآية، يعني: أنه في عالم الشهادة عربي فصيح بليغ، عجز عن الإتيان بمثله الجن والإنس، محتو على أسرار ومعان إذا تفكر فيها أولو الألباب حصلوا على البحر الخضم وكنوز الحكم، وأنه في عالم الغيب لدى الملك ذي الجبروت على المرتبة رفيع الشأن، فإذا كان كذلك وجب أن يشرف قدره، ويعظم شأنه ويتغلغل صيته في كل مدر ووبر، فبسببكم نتركه مهملًا ونضرب عنكم ذكره صفحًا؟ ! كلا. فالهمزة أقمحت بين السبب والمسبب لمزيد الإنكار، لأن {حم * والْكِتَابِ المُبِينِ} إلى آخرها، قسمية واردة لرد المنكرين كما ترى، وهو من الأيمان الحسنة؛ حيث أن المقسم به والمقسم عليه شيء واحد. وما سلك هذا المسلك إلا ليؤذن بأن كتابًا هذا شأنه حقيق بأن يعزر ويكرم ولا يتجاوز عن الإقسام به. قوله: (لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم): يعني: خاطبهم بقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ}، يعني: أنهملكم فتضرب عنكم الذكر صفحًا بسبب استهزائكم، وفي إنزال هذا الكتاب العظيم سبب لحياة الخلائق أجمعين، بل لا نترككم، ونلزم به الحجة عليكم، فنهلككم كما أهلكنا من هو أشد منكم بطشًا، ولتسلية ?

{وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي: سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لهم. [{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} 9 - 11] فإن قلت: قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}، وما سرد من الأوصاف عقيبه، إن كان من قولهم، فما تصنع بقوله: {فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ}، وإن كان من قول الله، فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله لا من قولهم، ومعنى قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. الذي من صفته كيت وكيت، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. {بِقَدَرٍ} بمقدار يسلم معه البلاد والعباد، ولم يكن طوفانًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرسول صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم فيهم، أعرض عنهم والتفت إليه صلوات الله عليه قائلًا: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم}، وأتى بقوله: {وكَمْ أَرْسَلْنَا} الآيتين معترضًا بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدًا لمعنى التسلية. قوله: (لينسبن خلقها إلى الذي هذه أو صافه): ونظيره قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 44 - 45]، فوصفهم وهم في النار بما عرف منهم في الدنيا، وكانوا منسوبين إليه. وإذا كان من كلام القوم فالمعنى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله. وقولهم: "الله" متضمن لهذه الأوصاف ومستلزم لها، فكأنهم ذكروا عند ذكرهم هذا هذه الأوصاف كلها ضمنًا، والله تعالى يفسر قولهم: "الله" بهذه الأوصاف. ?

[{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} 12 - 14] و{الْأَزْواجَ} الأصناف، {مَا تَرْكَبُونَ} أي: تركبونه. فإن قلت: يقال: ركبوا الأنعام، وركبوا في الفلك، وقد ذكر الجنسين، فكيف قال: "ما تركبونه"؟ قلت: غلب المتعدّي بغير واسطة لقوّته، على المتعدّي بواسطة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى الأزهري عن أبي الهيثم أنه قال: لا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا، وحتى يكون لعابده خالقًا ورازقًا ومدبرًا وعليه مقتدرًا، فمن لم يكن كذلك فليس بإله وإن عبد. وقال المالكي: أن "الله" علم للإله بالحق، جامع لمعاني الأسماء الحسنى، ما علم وما لم يعلم، ونظير تضمن اسم "الله" هذه المعاني في هذا المقام تضمن اسم "حاتم" الجود. روي عنه أنه قال: وهذا حسن، وله نظير عرفًا، وهو أن واحدًا لو أخبر مثلًا أن الشيخ قال كذا، وعنى بالشيخ زيدًا ثم لقيت زيدًا وقلت له: أن فلانًا أخبرني أن زيدًا قال كذا، مع أن فلانًا لم يجر على لسانه: زيدًا، وإنما قال: الشيخ، ولكنك ذكرت ألقابه وأوصافه، كذا هنا، الكفار يقولون: "خلقهن الله"، لا ينكرون ذلك، ثم أن الله ذكر صفاته، أي: أن الله الذي يحيلون عليه خلق السماوات: من صفته كيت وكيت. الانتصاف: "بل بعضه من قولهم، وهو قوله: {خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ}، كقوله تعالى: {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ}، ثم وصف الله نفسه بذلك، وسيق سياقًا واحدًا، فلذلك حذف الموصوف من كلامه، كما لو قلت لرجل: من أكرمك؟ فقال: أكرمني زيد. قلت لزيد وهو حاضر: أنت الجواد الكريم. ثم جاء أوله على الغيبة، وآخره على الانتقال إلى التكلم في قوله: "أنشرنا" افتنانًا في البلاغة، ومثله قول موسى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ} إلى أن قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} [طه: 52 - 53] على الغيبة والتكلم، وهي مطابقة لهذه". قوله: (غلب المتعدي بغير واسطة لقوته، على المتعدي بواسطة)، الانتصاف: "قوله: "غلب ?

فقيل: تركبونه. {عَلى ظُهُورِهِ} على ظهور ما تركبونه، وهو الفلك والأنعام. ومعنى ذكر نعمة الله عليهم: أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المتعدي" ليس محررًا، فإن الفعل المتعدي إلى "الفلك" هو المتعدي إلى "الأنعام"، غير أن العرب خصته في بعض مفاعيله بواسطة، والاختلاف في آلات التعدي أو في عدد المفاعيل لا يوجب اختلاف المعنى، فالفعل الواحد يعدونه تارةً ويقصرونه أخرى، نحو "شكرت" وأخواتها، ويجعلون الأفعال مترادفة وإن اختلفت متعلقاتها، ويجعلون "علم" وإن تعدى إلى مفعولين مرادفًا لـ "عرف" المتعدي إلى واحد، فالأولى أن يقال: تقديره: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون فيه، أو يقال: غلب أحد اعتباري الفعل على الآخر، وهو أسهل من التغليب". قلت: ليس غرض المصنف من التغليب هاهنا إلا هذا المعنى. قوله: (ثم يحمدوا عليها بألسنتهم): فإن قلت: كيف دل قوله: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} على قول الحمد؟ قلت: من حيث أن استحضار النعمة موجب للشكر، وفي العدول من "تحمدوا" إلى {تَذْكُرُوا} تصوير حالة كون المركوب مذللًا منقادًا، وأنه لولا تمكين الله لم يتمكن منه، وكذلك قرن به كلمة التعجب وهو قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا}، وفي لفظ {هَذَا} مزيد تقرير لمعنى التعجب. ?

وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا وضع رجله. في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} إلى قوله: {لَمُنقَلِبُونَ}، وكبر ثلاثًا، وهلل ثلاثًا"، وقالوا: إذا ركب في السفينة قال: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أنه رأى رجلًا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا. فقال: أبهذا أمرتم؟ فقال: وبم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة ربكم. كان قد أغفل التحميد، فنبهه عليه، وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله، ومحافظتهم على دقيقها وجليلها، جعلنا الله من المقتدين بهم، والسائرين بسيرتهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روينا عن أحمد والترمذي وأبي داود عن علي رضي الله عنه: أنه أتي بدابة، فلما وضع رجله في الركاب، قال: بسم الله، فلما استوى على ظهره، قال: الحمد الله، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} الآية، ثم حمد الله وكبر ثلاثًا، ثم قال: لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل له، فقال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ثم ضحك"، فقيل: من أي شيء ضحكت؟ فقال: "إن ربك ليعجب من عبده، قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أن الذنب لا يغفرها غيري". قوله" (عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا وضع رجله) الحديث: من رواية مسلم والترمذي وأبي داود والدارمي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر، حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثًا، ثم قال: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا ومَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}، اللهم إنا نسألك البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى"، الحديث. ?

فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟ {مُقْرِنِينَ} مطيقين، يقال: أقرن الشيء، إذا أطاقه، قال ابن هرمة: وأقرنت ما حمّلتنى ولقلّما .... يطاق احتمال الصّد يا دعد والهجر وحقيقة «أقرنه»: وجده قرينته وما يقرن به؛ لأنّ الصعب لا يكون قرينة للضعيف، ألا ترى إلى قولهم في الضعيف: لا تقرن به الصعبة. وقرئ: "مقرنين"، والمعنى واحد. فإن قلت: كيف اتصل بذلك قوله: {وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ}؟ قلت: كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما أحسن بالعاقل النظر): الباء متعلق بـ"أحسن"، وجاز تقديمه على "النظر"، يعني: كما نظرت إلى صنعة من الصناعات المتقنة المؤنقة وتعجبت منها، فانظر إلى كل لطيفة من لطائف الديانة ومحاسن الشريعة، وتعجب منها، فإن كل نطق وسكوت، بل كل حركة وسكون، فيه من الأسرار والحكم ما يقضى منه العجب كل العجب، وإياك أن تغفل عن شيء منها إهمالًا، فتحرم على نفسك كمالات لا غاية لها. قوله: (وأقرنت ما حملتني) البيت: "الهجر": ترك ما يلزمك تعاهده، يقول: قلما يطاق احتمال الإعراض والهجر، وقد أطقت ذلك. قال الزجاج: " {مُقْرِنِينَ}: مطيقين، واشتقاقه من قولك: أنا لفلان مقرن، أي: مطيق، أي: قد صرت قرنًا له". قوله" (وقرئ: "مقرنين") بالتشديد، يروى بكسر الراء وفتحها. المطلع: المقرن: الذي يجعل مقرنًا للشيء، أي: مطيقا له، يقال: قرنه فاقترن له. قوله: (أو تقحمت)، الجوهري: "قحم الفرس فارسه تقحيمًا على وجهه؛ إذا رماه". ?

وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا، فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر، واتصالًا بسبب من أسباب التلف، كان من حق الراكب -وقد اتصل بسبب من أسباب التلف-: أن لا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة، فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه، حتى يكون مستعدًا للقاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله، وهو غافل عنه، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل، أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يسقون، حتى تميل طلاهم وهم على ظهور الدواب، أو في بطون السفن، وهي تجرى بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. وقد بلغني أنّ بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمره الله به في هذه الآية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (انكسرت بهم): حال، نحوه قال أبي الطيب: تدوس بنا الجماجم والتريبا قوله: (أن لا ينسى عند اتصاله به يومه): مفعول "ينسى": أي" هلاكه، فيكون قوله: "وأنه هالك لا محالة" عطفًا تفسيريًا. قوله: (والمعازف): الجوهري: "المعازف: الملاهي، والعازف: اللاعب بها والمغني". قوله: (اطمأنت به الدار)، الأساس: "اطمأن إليه: سكن إليه، ووثق به، واطمأن عما ?

وقيل: يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة. [{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 15 - 18] {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا} متصل بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [الزخرف: 9]، أي: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءًا، فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى: {مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا} أن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءًا له وبعضًا منه، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءًا له. ومن بدع التفاسير: تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أنّ "الجزء" في لغة العرب: اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتًا وبيتًا: إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان يفعله: تركه، واطمأن به القرار"، أسند الاطمئنان إلى "الدار"، وهو لصاحبها، على المجاز، والجار والمجرور: حال. قوله: (بيتًا وبيتًا): أي: بيتًا بعد بيت، البيت الأول أنشده الزجاج: إن أجزأت حرة يومًا فلا عجب .... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا "أجزأت": وضعت أنثى. وقال الزجاج: "ولا أدري: البيت قديم أم مصنوع؟ ". ?

وقرئ: "جزءًا"، بضمتين. {لَكَفُورٌ مُبِينٌ} لجحود للنعمة ظاهر جحوده، لأنّ نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله. {أَمِ اتَّخَذَ} بل اتخذ، والهمزة للإنكار، تجهيلًا لهم وتعجيبًا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءًا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين، وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهنّ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهنّ، كأنه قيل: هبوا أنّ إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضًا وتمثيلًا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما، وترك له شرهما وأدناهما؟ ! وتنكير {بَناتٍ} وتعريف {الْبَنِينَ} وتقديمهنّ في الذكر عليهم؛ لما ذكرت في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيت الثاني: زوجتها من بنات الأوس مجزئةً .... للعوسج اللدن في أبياتها زجل "المجزئة": المرأة التي تلد البنات، وعنى بـ"العوسج": المغازل؛ للين عوده ومتانته لغزل الصوف، و "زجل": صوت دور المغزل، وكان هذا الشاعر تزوج امرأةً لها بنات يجتمعن عندها ويغزلن. قوله: (وقرئ: "جزءًا" بضمتين): أبو بكر عن عاصم. قوله: (وتعريف {الْبَنِينَ} وتقديمهن في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله: {يَهَبُ لِمَنْ ?

{بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا} بالجنس الذي جعله له مثلًا، أي: شبهًا؛ لأنه إذا جعل الملائكة جزءًا لله وبعضًا منه، فقد جعله من جنسه ومماثلًا له، لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، يعني: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت، اغتم واربدّ وجهه غيظًا وتأسفًا، وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب: أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا .... يظل في البيت الّذى يلينا غضبان أن لا نلد البنينا .... ليس لنا من أمرنا ماشينا وإنّما نأخذ ما أعطينا والظلول: بمعنى الصيرورة، كما تستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها، وقرئ: "مسودّ" و"مسوادّ"، على أن في {ظَلَّ} ضمير المبشر، و {وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} جملة واقعة موقع الخبر. ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَشَاءُ إنَاثًا ويَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ}): التقديم في تلك الآية للرد على المعرضين المستوجبين لكل إهانة، وأن يفعل بهم ما لا يشاؤونه، وفي هذه: الرد وارد على نسبة البنات إلى الله عز وجل، فكان ذكر "البنات" هو الذي سيق له الكلام أصالةً، وذكر "البنين" مستطردًا لمزيد الإنكار والتتميم فيه، ويحتمل التقديم والتعريف أيضًا أن يكون لمراعاة الفواصل، لكن الوجه هو الأول. قوله: (واربد وجهه): الجوهري: "تربد وجه فلان: تغير من الغضب، وتربد الرجل: أي: تعبس". قوله: (ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته): آذن بأن الواو في {أَوَ مَنْ} تستدعي المعطوف والمعطوف عليه، والمعطوف عليه جملة قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}، فيقدر المعطوف أيضًا فعلًا يناسبه، ويكون عاملًا في الموصول، ?

وهو أنه {يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ}، أي: يتربى في الزبنة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال، كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتى ببرهان يحتج به من يخاصمه؛ وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال، يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. وفيه: أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفة ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك، ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه: "اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأقحمت الهمزة بين المعطوفين لمزيد الإنكار الذي يعطيه معنى الهمزة في {أَمِ} المنقطعة، والجملة الشرطية معترضة لتأكيد المنكر. قوله: (ويربأ بنفسه عنه): أي: يرفع، الأساس: "إني لأربأ بك عن الأمر، أي أرفعك عنه، ولا أرضاه لك". قوله: (اخشوشنوا): النهاية: "اخشوشن الشيء: مبالغة في خشونته، واخشوشن: إذا لبس الخشن- واخشوشب الرجل: إذا كان صلبًا خشنًا في دينه وملبسه ومطعمه وجميع أحواله-، ومنه حديث عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا". قوله: (وتمعددوا): النهاية: "يقال: تمعدد الغلام: إذا شب وغلظ، وقيل: أراد تشبهوا بعيش معد بن عدنان، وكانوا أهل غلظ وقشف، أي: كونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم، ومنه حديثه الآخر: "عليكم باللبسة المعدية"، أي: خشونة اللباس". ?

وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى. وقرئ: "ينشأ"، و {يُنَشَّأُ}، و"يناشأ". ونظير المناشأة؛ بمعنى الإنشاء: المغالاة بمعنى الإغلاء. [{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} 19] قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات، وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد، ونسبوا إليه أخس النوعين، وجعلوه من الملائكة الذين هم أكرم عباد الله على الله، فاستخفوا بهم واحتقروهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأساس: "رجل ممعود: دوي المعدة، وقد معد. ومن المجاز: تمعدد الصبي: غلظ وصلب وذهب عنه رطوبة الصبا، قال: ربيته حتى إذا تمعددا .... كان جزائي بالعصا أن أجلدا". قوله: (وإن أراد أن يزين نفسه): عطف على قوله: "أن يجتنب ذلك"، والحاصل أن في ظاهر قوله: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ} إنكار نسبة البنات إلى الله عز وجل، وفي العدول إلى هذه الألفاظ من التصريح بذكر "البنات": إدماج لمعنى ذم التشبه بالنساء، وفي مفهوم المدمج رمز إلى الترغيب في التزين بلباس التقوى، والاهتمام بعمارة الباطن، ورفض الالتفات إلى الظاهر. قول: (وقرئ: "ينشأ" و {يُنَشَّأُ} و "يناشأ"): الثانية: حفص وحمزة والكسائي، والأولى: الباقون، والثالثة: شاذة. ويروي: "ينشأ" بضم الياء والتخفيف. عن بعضهم: أنشأ. ونشأ وناشأ، نحو: أعلى وعلا وعالى، يقال: أعلاه الله فعلا، وعالاه: أي: أعلاه، وعلاه وأعلاه وعالاه: بمعنى. ?

وقرئ: {عباد الرحمن}، و"عبيد الرحمن"، و"عند الرحمن" -وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم- و {إِنَاثَا}، و"أنثَا"؛ جمع الجمع. ومعنى "جعلوا": سموا وقالوا: إنهم إناث، وقرئ: {أَشَهِدُوا}، و"أاشهدوا"؛ بهمزتين مفتوحة ومضمومة، و"آأشهدوا"؛ بألف بينهما، وهذا تهكم بهم، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك، ولا تطرّقوا إليه باستدلال، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم، فأخبروا عن هذه المشاهدة. {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ} التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم، {وَيُسْئَلُونَ} وهذا وعيد، وقرئ: "سيكتب"، و"سنكتب"؛ بالياء والنون، و {شَهَادَتُهُم}، و"شهاداتهم"، و"يساءلون"؛ على: يفاعلون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ}): الحرميان وابن عامر: "عند الرحمن"، بالنون ساكنةً وفتح الدال، والباقون: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ}. قوله: (ومعنى "جعلوا": سموا وقالوا: إنهم إناث): قال الزجاج: "الجعل هنا في معنى القول والحكم على الشيء، تقول: جعلت زيدًا أعلم الناس، أي: قد وصفته بذلك وحكمت به". قوله: (وقري: {أَشَهِدُوا} و"أاشهدوا"): قالون: بهمزتين؛ الثانية مضمومة مسهلة بين الهمزة والواو، وقالون- من رواية أبي نشيط بخلاف عنه- يدخل قبلها ألفًا، والشين ساكنة، والباقون: بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين. قوله: (وهذا تهكم بهم): يعني: قوله: {أَشَهِدُوا} من باب التقسيم الحاضر، كما سبق مرارًا. ?

[{وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 20] {وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} هما كفرتان أيضًا مضمومتان إلى الكفرات الثلاث، وهما: عبادتهم الملائكة من دون الله، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله، كما يقول إخوانهم المجبرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هما كفرتان أيضًا): الجوهري: "الكفر- بالفتح-: التغطية، وقد كفرت الشيء أكفره- بالكسر- كفرًا؛ أي: سترته. والكفر أيضًا: ظلمة الليل وسواده، وكل شيء غطى شيئًا فقد كفره، قال ابن السكيت: ومنه سمي الكافر، لأنه يستر نعم الله سبحانه وتعالى". قوله: (مضمومتان إلى الكفرات الثلاث): وهي ما عدها في قوله: إنهم جعلوا له من عباده جزاءًا، وإنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين، وإنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثًا، وإنهم عبدوهم وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم. وأعلم أنه ذهب إلى قوله تعالى: {وقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ} معطوف على قوله: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، وعلى قوله: {وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا}، ولا ارتياب في كون قولهم فيهما واعتقادهم كفرًا، فكذلك ينبغي حكم المعطوف، وإذا كان لقول بمشيئة الله كفرًا كان قول أهل السنة: "إن كفر الكافر بمشيئة الله" مثل قولهم، فيجب أن يكونوا أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله: "كما يقول إخوانهم المجبرة". واتجه عليه سؤال، وهو أنهم ذكروا ذلك استهزاء وسخرية، فذموا لذلك، نقل هذا القول الإمام عن بعض المفسرين. وفي "التيسير": قالوا ذلك استهزاء بقول أهل الحق: أن الكائنات كلها بمشيئة الله، لا اعتقادًا منهم، فلذلك كذبهم وجهلهم. وأجاب عنه: بأن صرف الكلام من الحقيقة من غير صارف غير جائز، على أنا بينا أن الآيات كلها مسوقة على وتيرة واحدة، فإما أن تجرى كلها مجرى الاستهزاء، أو تؤول بأسرها على ما هي عليه، وإما أن يجعل بعضها استهزاء. ولا سبيل إلا الأول؛ لأن القول به يفضي إلى أن الكفار استهزؤوا بجعل الملائكة جزءًا لله، وبجعلها بنات لله وإناثًا، وهذا عين الإيمان، ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والقول به مستلزم للمدح- ألا ترى إلى قوله في حكاية المنافقين: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]: "المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدًا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته"-، ولا إلى الثالث؛ لأن الذهاب إليه مما يخرم النظم، ويأباه أيضًا قوله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، لأن المستهزئ لا يكذب، ولكن يوبخ على استهزائه، فلا يقال: {إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} إذا استهزؤوا بذلك القول. ثم أن الزجاج ذكر ما يصح أن يقع جوابًا عن هذا، وهو أن قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} عائد إلى قولهم: "الملائكة بنات الله"، لا إلى قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم}، فأورده المصنف على نفسه سؤالًا، وأجاب: أنه "تمحل مبطل وتحريف مكابر". وصحح الإمام رد المصنف، وقال: "إن ذلك يؤدي إلى أنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بطلانهما، ثم حكى بعدهما مذهبًا ثالثًا في مسألة أجنبية، ثم حكم ببطلانها أيضًا، فصرف هذا الإبطال عن المذكور عقيبه، إلى كلام متقدم عليه: غاية البعد"، وقرر أيضًا رد المصنف القول بالاستهزاء، ثم قال: "والحق عندي: هو أن القوم لما ذكروا هذا الكلام استدلوا بمشيئة الله للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان، واعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين، وهذا عندنا باطل، والقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم: أن الله يريد الكفر من الكافر، بل لأجل أنهم قالوا: لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان". ويقرب منه ما روى الواحدي عن صاحب النظم: "أن هذا القول حق، وإن كان من الكفار، وهذا كقوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وإن جعلت قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} ردًا لقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم}، كان المعنى: أنهم قالوا: أن شاء الله قدرنا على عبادتها، فلم يعاقبنا؟ لأنه رضي بذلك هنا. وهذا كذب منهم، لأن الله ?

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى وإن أراد كفر الكافر فإنه لا يرضاه، وتقديره الكافر على الكفر لا يكون عن رضًا منه". ومآل هذين القولين يرجع إلى أن التكذيب في قوله: {إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} راجع إلى مؤدى قوله: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ}، لا إلى معناه الظاهر. وقال صاحب "الفرائد": "لأهل السنة فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم ادعوا أن الله أمره بعبادة الملائكة، وقالوا: لو شاء أن لا نعبد لنهانا، فإذا لم ينهنا عنها فقد أمرنا. وثانيها: لو شاء الله أن لا نعبدهم لمنعنا عن عبادتهم منع قهر واضطرار، وإذا لم يفعل ذلك فقد أباح لنا. وثالثها: أنهم قالوا هذا القول استهزاءً بقول أهل الحق: أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى، وحين لم يعتقدوا بما قالوا، فأكذبهم الله فيه وجهلهم، كما أخبر عنهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، هذا حق في الأصل، ولكن قالوا ذلك استهزاء، فأكذبهم بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]، وكذلك قوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، ثم قال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، فقولهم: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ}: معناه: ليس لهم عليه حجة، وهو جهل منهم وكذب. أما قوله: "لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين": قفي غاية البعد، لأنه قد دل الدلائل عليه، منها قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وأمثال هذا من المنقول وغيره كثير". وقال صاحب "التقريب": "قالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} على الاستهزاء، ولو قالوه جادين كانوا مؤمنين؛ لما ثبت في الأصول من توقف الأمور على مشيئة الله، وحمله على الاستهزاء لهذا الدليل دون ما قبله ليس فيه تعويج". ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: "معناه: لو شاء عدم عبادة الملائكة {مَا عَبَدْنَاهُم}، فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي عنها، أو على حسنها، وذلك باطل، لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأمورًا كان أو منهيًا، حسنًا كان أو غيره، ولذلك جهلهم. ويجوز أن تكون الإشارة إلى أصل الدعوى، كأنه لما أبدى وجوه فسادها، وحكى شبههم المزيفة، نفى أن يكون لهم بها علم على طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون له سند من جهة النقل، فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} ". وقال صاحب "الانتصاف": هذه الآية تزيد معتقدنا تمهيدًا، وقول الكافر: "لو شاء الله ما فعلت": كلمة حق يريد بها باطلًا، وأما إنها كلمة حق: فلقوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] وأمثالها، ولأدلة العقل. وأما إرادته بها الباطل: فزعمه أنها حجة له على الله في أن لا يعاقبه، كما توهم القدرية ذلك، فأشركوا بربهم، بل اعتقدوا أن مشيئتهم تغلب مشيئة ربهم، فالذين أشركوا بالملائكة أرفع درجةً منهم، فإنما رد الله في هذه الآية احتجاجهم، فإن مقالتهم صدرت عن ظن كاذب وتخرص، فلذلك قال: {إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} و {إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقال في أختها في الأنعام: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، فشبه حالهم في الخرص واتباع الظن بحال أوائلهم، وبين أن مقالتهم ناشئة عن خيال وتوهم، فلا حجة فيها على الله، بل لله الحجة البالغة عليهم، وبين أن التكذيب راجع إلى اعتقادهم، لا إلى نفس ما قالوه بتصحيح قولهم، بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، فإن "لو" معناها الامتناع للامتناع، فلم يشأ هدايتهم، ولو شاءها لما ضلوا. ولكسب العبد وتهيئه صارت الأفعال مناطًا للتكليف، للفرق الضروري بين الاختياري ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والقسري، ولما دق هذا على الأفهام غلت القدرية فاعتقدوا أن العبد فعال لما يريد، وحارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد ولا اختيار". قوله: "بل اعتقدوا أن مشيئتهم تغلب مشيئة ربهم": يدل عليه قول المصنف بعد في تفسير قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخزف: 48]: "إرادة الله تعالى غيره: ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد، وإلا دار بين أن يوجد وأن لا يوجد على حسب اختيار المكلف". قلت- وبالله التوفيق-: المقصود من إيراد أقوال الأئمة- شكر الله سعيهم- إظهار ما ينطبق عليه المقام من المعنى، فإن التلفيق بين هذه الآيات من المعضلات، فالواجب علينا أن نبين أولًا مواقع التراكيب في الآيات الست؛ من قوله: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} إلى قوله: {إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}: أما مواقع التراكيب بحسب الحل: فإن قوله: {وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا} عطف على قوله: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} وهما الكفرتان، والاستفهام الأول- وهو قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ} - توبيخ متوجه إلى الكفرة الأولى، وهي {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، {وإذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنْثَى} اعتراض- كما مر- أو حال مفعول {اتَّخَذَ} أو فاعل {جَعَلُوا} المقدم: مقررة لجهة الإشكال، وينصره قوله: "إنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومن حالهم: أن أحدهم إذا قيل له: "قد ولدت لك بنت" اغتم"، والاستفهام في قوله: {أَشَهِدُوا} توبيخ متوجه إلى الكفرة الثانية، وهي قوله: {وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا}. وقوله: {وقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} كفرة أخرى؛ لكن على منوال آخر غير الأوليين، ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا معنى قول الإمام: "حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بطلانهما، ثم حكى بعدهما مذهبًا ثالثًا". أما تقرير الكفرة الثالثة: فإنه تعالى لما حكى عنهم الكفرتين، وأنكر عليهم ذلك أبلغ الإنكار، جاء بكفرة أخرى لهم أطم من الأوليين مستطردًا، وهي عبادتهم الملائكة، ووزان هذه وزان قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، والمعنى: إذا فعلوا أمرًا منكرًا بالغًا في القبح غايته، ووبخوا عليه، وبين لهم قبحه، قالوا معتذرين: إنا وجدنا آباءنا عليها، والله أمرنا بها. فإذن لا استقلال لهذه الكفرة استقلال أختيهاـ، ولا بد من إنكار سابق، وهو اعتذار ومنه، فإذن لا استقلال، كما في قوله: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فحينئذ يمكن أن يحمل قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} على الاستهزاء، ويكون قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} تجهيلًا لهم؛ لأن المستهزئ جاهل، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]، أو يحمل على ما قالوا من أنه لا يجوز مخالفة الأمر للمشيئة، كما ذهب إليه الإمام وصاحب "الفرائد"، وهو الوجه؛ لتنصيص الله الأمر في قوله: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وتصريح الرد بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. و{أَمْ} -في قوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ} - منقطعة، و"بل" فيها إضراب عن قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} تكذيبًا لهم، ونفيًا للعلم عنهم إلى ما هو أبلغ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه في نفي العلم، وعلى هذا الإضراب الثاني. فظهر من هذا البيان أن قول المصنف: "فإن قالوا: نجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء، دون ما قبله، فما بهم إلا تعويج كتاب الله": غير مستقيم، وأن قوله: "هما كفرتان أيضًا مضمومتان إلى الكفرات الثلاث" -على معنى أن قوله: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ} متصل بقوله: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، وهما منضمان إلى الكفرات الثلاث، وهي: اتخاذ البنات، واصطفاء البنين، وجعل الملائكة إناثًا-تعويج، لأن الآيات غير واردة على نسق واحد، ولا على وتيرة الترتيب، فبعضها إنشائية، أي: قوله: {أَمِ اتَّخَذَ}، وقوله: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ}، وبعضها حال، أي: قوله: {وأَصْفَاكُم}، {وإذَا بُشِّرَ}، وبعضها عطف، فدل الاختلاف على التباين من هذه الجهة، وقد مر تقرير مواقعها، وأن الكفرات ثلاث لا غير. ويمكن تصحيح قول الزجاج، وهو أن قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} عائد إلى قولهم: "الملائكة بنات الله"، لا إلى قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم}، وذلك بأن يجعل {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} جوابًا لما تضمنت تلك الآيات من معنى الإنكار والاحتجاج عليهم بعبادة الملائكة، فيكون قولهم هذا أمارة انجزالهم وانقطاعهم، ودلالة على أن الحجة قد بهرتهم، ولم يبق لهم متشبت إلا هذا لقول، كما هو ديدن المحجوج، وقد مر في "الأنعام" من هذا النوع نبذ. وقريب منه قول القاضي: "كأنه لما أبدى وجوه فساد أقوالهم، وحكى شبههم المزيفة، نفى أن يكون لهم بها علم"، والله أعلم. ?

فإن قلت: ما أنكرت على من يقول: قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين؟ قلت: لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر: أنهم جعلوا له من عباده جزءًا، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثًا، وأنهم عبدوهم وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم. فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء، لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي -الذي هو إيمان عنده لو جدّوا في النطق به- مدحًا لهم، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء، فبقى أن يكونوا جادين، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر. فإن قالوا: نجعل هذا الأخير وحده مقولًا على وجه الهزء، دون ما قبله، فما بهم إلا تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لتسوية مذهبهم الباطل، ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزءًا لم يكن لقوله تعالى: {ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} معنى؛ لأنّ من قال: "لا إله إلا الله" على طريق الهزء، كان الواجب أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، لأنه لا يجوز تكذيب الناطق بالحق جادًّا كان أو هازئًا. فإن قلت: ما قولك فيمن يفسر {مَا لَهُم} بقولهم: إن الملائكة بنات الله، {مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} في ذلك القول، لا في تعليق عبادتهم بمشيئة الله؟ قلت: تمحل مبطل وتحريف مكابر، ونحوه قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}): يعني: في أن التكذيب متعلق به، لا بشيء آخر. وقلت: من علقه بالأول، لم يفصله من الثاني فصلًا كليًا، ?

[{أَمْ آتَيْناهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 21 - 22] الضمير في {مِنْ قَبْلِهِ} للقرآن أو الرسول، والمعنى: أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله، قولًا قالوه غير مستند إلى علم، ثم قال: أم آتيناهم كتابًا قبل هذا الكتاب، نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحي، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به؟ ! بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} على دين، وقرئ: "على إمة"، بالكسر، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد، فالأمة: الطريقة التي تؤم، أي: تقصد، كالرحلة للمرحول إليها، والأمة: الخالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد. وقيل: على نعمة وحالة حسنة. {عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} خبر "إن"، أو الظرف صلة لـ {مُهْتَدُونَ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا يكون تمحلًا وتحريفًا؛ لأن قوله: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} دليل على انقطاعهم من الحجة، وعلى بطلان مذهبهم، وظهور افترائهم، ونفي العلم عنهم آخرًا كالتتميم والتسجيل على السابق. قوله: (قولًا قالوه): قيل: هو حال من واو "ألصقوا"، والظاهر أنه مفعول مطلق من معنى "ألصقوا" إلى آخره؛ لأنه تفسير لقوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم}، فيكون "قالوه" صفة لـ"قولًا". قوله: (وقيل: على نعمة وحالة حسنة): قال القاضي: "قوله: {وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} الآية: تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقدميهم أيضًا لم يكن لهم سند منظور إليه، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطالة، وصرفهم عن النظر إلى التقليد". ?

[{وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 23] {مُتْرَفُوها} الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه. [{قالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ * فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 24 - 25] قرئ: "قل"، و {قَالَ}، و {جِئْتُكُمْ}، و"جئناكم"، يعني: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ ! قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى. [{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 26 - 28] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعافون): أي: يكرهون. قوله: (قرئ: "قل"): ابن عامر وحفص: {قَالَ} بالألف، والباقون: "قل" بغير ألف. قوله: (إنا ثابتون على دين آبائنا، لا ننفك عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى): دل على هذه المبالغة الجملة الاسمية وتضمنها معنى الكناية، انظر كم بين دعوة الأنبياء وبين مقابلة الكفرة من التباين؟ الأنبياء تفادوا عن لفظ الأمر، وعدلوا إلى الاستفهام، ومع ذلك ما استوفوا تمام الحق، حيث أتوا بحرف التقرير، وضموا إليه "أفعل" التفضيل، وكان الجواب المطابق: نتبع دين آبائنا دينكم، فعدلوا إلى ما دل على نفي دين الحق وإثبات الباطل بالطريق البرهاني. ?

قرئ: {بَرَاءٌ}، بفتح الباء وضمها، و"بريء"، فبريء وبراء، نحو: كريم وكرام، وبراء: مصدر كظماء، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث، يقال: نحن البراء منك، والخلاء منك. {الَّذِي فَطَرَنِي} فيه غير وجه: أن يكون منصوبًا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين، وأن يكون مجرورًا بدلًا من المجرور بـ"من"، كأنه قال: إنني براءٌ مما تعبدون إلا من الذي فطرني. فإن قلت: كيف تجعله بدلًا وليس من جنس ما يعبدون من وجهين؛ أحدهما: أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون. والثاني: أن الله تعالى غير معبود بينهم، والأوثان معبودة؟ قلت: قالوا: كانوا يعبدون الله مع أوثانهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {بَرَاءٌ} بفتح الباء): وهي المشهورة، وبالضم: شاذة. قال الزجاج: " {بَرَاءٌ}: بمعنى: برئ، والعرب تقول للواحد والاثنين والجماعة والأنثى: البراء، والمعنى: أنا ذو البراء، ونحن ذوو البراء، نحو: رجل عدل، وامرأة عدل". قوله: (والخلاء منك)، الجوهري: "تقول: أنا منك خلاء، أي: براء. إذا جعلته مصدرًا: لم تثن ولم تجمع، وإذا جعلته اسمًا على "فعيل": ثنيت وجمعت وأنثت، تقول: أنا خلي منك، أي: برئ". وعن بعضهم: في المثل: "أنا منه فالج بن خلاوة"، أي: براء منه. فلج: أي: قطع نصفه، والفالج: البعير ذو السنامين. قوله: (كانوا يعبدون الله مع أوثانهم): قال صاحب "الفرائد": لما كانوا يعبدون الله مع الآلهة، فبالنظر إلى كونه معبودًا، يصح أن يكون بدلًا، يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى. ?

وأن تكون {إِلَّا} صفة بمعنى: غير، على أن «ما» في "ما تعبدون" موصوفة، تقديره: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} [الأنبياء: 22]. فإن قلت: ما معنى قوله: {سَيَهْدِينِ} على التسويف؟ قلت: قال مرة: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، ومرّة: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، فاجمع بينهما وقدّر، كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال. {وَجَعَلَها} وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها -وهي قوله: {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} - {كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ} في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، ونحوه: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاجمع بينهما وقدر): كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، يعني: لما عبر عن العبارة الواحدة في الموضعين بلفظين مخالفين حالًا واستقبالًا، لا ينبغي أن يحمل كلا على ظاهره، بل أن يجمع بينهما، ويعتبر استمرار الحال والاستقبال، أي: أنه تعالى يهديني فيما أنا فيه من الزمان حالًا فحالًا، كما سيهديني فيما يجيء زمانًا غب زمان، فإذا كل واحد من {يَهْدِينِ} و {سَيَهْدِينِ} في مكانه مفيدًا لمعنى الاستمرار. قوله: (لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم): إشارة إلى أن {لَعَلَّهُمْ} تعليل لجعل الكلمة باقية في عقب إبراهيم؛ ليدعو الموحد المشرك نسلًا بعد نسل إلى الملة الحنيفة. قوله: (ونحوه: {ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ}): أي: في أن الضمير في "وصى بها" يرجع إلى معنى "الكلمة" في ?

وقيل: وجعلها الله. وقرئ: "كلمة" على التخفيف. و {فِي عَقِبِهِ} كذلك، و"في عاقبه"، أي: فيمن عقبه، أي: خلفه. [{بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} 29] {بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ} يعني: أهل مكة، وهم من عقب إبراهيم -بالمدّ في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد، {حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ} وهو القرآن، {وَرَسُولٌ} مُبِينٌ الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة، فكذبوا به وسموه ساحرًا وما جاء به سحرًا، ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم. وقرئ: "بل متعنا". فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: "مَتَّعْتُ" بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله: {وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ} [البقرة: 131]، كما أن الضمير في "جعلها" عائد على قوله: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} على تأويل "الكلمة". قوله: (يعني: أهل مكة، وهم من عقب إبراهيم): إشارة إلى معنى الإضراب في قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ} عن قوله: {وجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: جعلت كلمة التوحيد باقية في عقبه زمانًا بعد زمان، لا يزال يدعو من وحد منهم من أشرك إلى التوحيد من أمة موسى وعيسى وغيرهما، ودع قصة أولئك وانظر إلى هؤلاء المشركين؛ كيف متعناهم بالعمر والنعمة، وبعثنا فيهم من يدعوهم إلى التوحيد، بدعاء أبيهم إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} [البقرة: 129]، فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات عن داعيهم وما يدعو إليه من كلمة التوحيد؟ وإليه الإشارة بقوله: "ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم"، وهذه الشكاية نحو قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]. قوله: (كأن الله تعالى اعترض على ذاته): يعني: هذا الأسلوب من باب التجريد في ?

فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد، وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببًا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادًا، فمثاله: أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول: أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله. [{وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ * وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 30 - 31] فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخطاب، على منوال قول امرئ القيس: تطاول ليلك بالأثمد .... ونام الخلي ولم ترقد وفائدته مذكورة في "البيان". قوله: (قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع): يريد: أن الواجب في الغاية أن يكون بين الغاية والمغيا نوع مناسبة، ولا مناسبة بين التمتيع وبين مجيء القرآن والرسول؟ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأيضًا إنما يستقيم: {ولَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ} أن لو عرفوا أنه الحق، ولو عرفوا أنه الحق ما قالوا: هذا سحر؟ وأجاب عن الأول بأنه من إطلاق السبب وإرادة المسبب، وعن الثاني بما ينبئ أنه من باب الرجوع غب الإطماع، قال الشاعر: وإخوان حسبتهم دروعًا .... وكانوها، ولكن للأعادي وقالوا: قد صفت منا قلوب .... لقد صدقوا، ولكن عن ودادي فإن الشاعر لما أوهم بقوله: "وكانوها" تحقيق المولاة، رجع إلى عكسه من إثبات المعاداة، ولما قال: "لقد صدقوا" خيل إلى المصافاة، فرجع إلى ما دل على المناوأة، وكذلك هاهنا؛ لما قال: {مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} فاشتغلوا عن التوحيد بالاستمتاع بالملاذ، وعقبه بقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ} خيل أنهم تنبهوا عن تلك الغفلة، ثم ابتدأ فقال: {ولَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ}، رجع إلى ما هو شر من حالهم الأولى. وفيه: أن من كان ذهوله عن التوحيد بسبب الانهماك في التمتع بهذه العاجلة، لا يغنيه مجيء الحق ومحق الباطل؛ لأن العزوف عن ملاذ الدنيا صعب شديد. ?

ثم أردفه قوله: {وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ}، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته، فقال عز وجل: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه. ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: ولما جاءهم الحق جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه، بقولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. قرئ: "على رجل"، بسكون الجيم، {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ}: من إحدى القريتين، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} [الرحمن: 22]، أي من أحدهما. والقريتان: مكة والطائف. وقيل: من رجلي القريتين، وهما: الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، عن ابن عباس. وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد يقول: لو كان حقًا ما يقول محمد لنزل هذا القرآن علي أو على أبي مسعود الثقفي، وأبو مسعود: كنية عروة بن مسعود. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والاحتكام): يقال: حكمته في مالي: إذا ما جعلت إليه الحكم فيه، فاحتكم علي في ذلك. قوله: (وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم): أي هذه الأمور المذكورة؛ من معاندة الحق مع الشرك، ومكابرة الرسول، والمعادة، والاستخفاف، والإصرار، والاحتكام. قوله: (من رجلي القريتين): قال أبو البقاء: "قيل: التقدير: على رجل من رجلين من القريتين. وقيل: كان الرجل يسكن مكة والطائف، ويتردد إليهما، فصار كأنه من أهلهما". ?

ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشرًا رسولًا، فلما علموا بتكرير الله الحجج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشرًا رسولًا): أي: كانوا يصرون على أن الرسالة مختصة بالملك، وينكرون أن البشر يبعث رسولًا، أشار إلى أن الكلام فيه تنزل، وهو كذلك، لكن على تخصيص هذا المعنى- وهو إنكار رسالة البشر- لا دليل فيه، ولا التنزل يقتضي أن يكون ذكر القرآن فيه للتعظيم لا الاستهانة، والظاهر أن ذلك التقدير غير مفتقر إليه؛ لأن في عطف {وقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ} على {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} استغناء عنه، وذلك أنه تعالى لما وصف القرآن بالحق، وأسند إليه المجيء، ونعت الرسول بالمبين، دل على إظهار حقيتها بالدلائل الظاهرة والمعجزات القاهرة، فعند ذلك عجزوا وانخزلوا، وقالوا مكابرين معاندين: {هَذَا سِحْرٌ}، أي: باطل، سموا الحق باطلًا، وزادوا شرارةً فضموا إليه: {وإنَّا بِهِ كَافِرُونَ}، نحو قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} إلى قوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2]، قال: "والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون من أفناء رجالهم، دون عظيم من عظمائهم، وكانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولًا يرسله إلا يتيم أبي طالب"، وقال في قوله: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}: "وهو دليل عجزهم واعترافهم به، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرًا". ثم قالوا على سبيل التنزل: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، يعني: هبوا أنه حق وصدق، فهلا نزل على أحد هذين الرجلين لتقدمهما ورئاستهما، فهما بذلك أحق به من محمد، لأنه يتيم فقير، وما يدل على أن كلامهم كان مبنيًا على الحسد لا على استهانة القرآن: قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ}، ونحوه عن أبي جهل: والله ?

أن الرسل لم يكونوا إلا رجالًا من أهل القرى، جاءوا بالإنكار من وجه آخر، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين، وقولهم: {هَذَا الْقُرْآنُ} ذكر له على وجه الاستهانة به، وأرادوا بعظم الرجل: رئاسته وتقدّمه في الدنيا، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيمًا. [{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 32] {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن محمدًا لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ وقال القاضي: "زعموا أن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم، ولم يعملوا أنها رتبة روحانية، تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية". قوله: (وقولهم: {هَذَا القُرْآنُ} ذكر له على وجه الاستهانة): "قولهم": مبتدأ، و "ذكر له": خبره، والاستهانة تفهم من لفظه "هذا"، ومن تسميته بـ "القرآن"، كقوله فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ} [الشعراء: 27]، قال الزجاج: " {هَذَا} في موضع رفع، و {القُرْآنُ} مبين عنه، ويسميه سيبويه: عطف البيان، لأن لفظه لفظ الصفة، ويدل على أنه عطف بيان قولك: مررت بهذا الرجل، وهذه الدار". قوله: (للإنكار المستقبل بالتجهيل): النهاية: "الاستقلال: بمعنى الارتفاع والاستبداد، يقال: تقلل الشيء واستقله". ?

وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته. ثم ضرب لهم مثلًا، فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عزّ وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها، ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوّ بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وضعفاء، وأغنياء ومحاويج، وموالي وخدمًا، ليصرف بعضهم بعضًا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم، ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا، وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى، ورأفته العظمى، وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة، والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} يريد: وهذه الرحمة -وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب- خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم ضرب له مثلًا): أي: جيء بقوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} عامًا بعد قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}، أي: أمر النبوة، وسماه "مثلًا"؛ لأن القصد منه إظهار عجزهم في تدبير أمر المعيشة الدنيوية، فكيف في تدبير أمور الدين. قوله: (خويصة أمرهم): النهاية: "خويصة أحدكم: حادثة الموت التي تخص كل إنسان، وهي تصغير "خاصة"، وصغرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك". قوله: (ويترافدوا): الجوهري: "الترافد: التعاون، والمرافدة: المعاونة". قوله: (ويحصلوا على مرافقهم): أي: منافعهم، الأساس: "أرفقني بكذا: نفعني، وارتفقت به: انتفعت، وما لي فيه مرفق". ?

فإن قلت: معيشتهم: ما يعيشون به من المنافع، ومنهم من يعيش بالحلال، ومنهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال؟ قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته -وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع- وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالًا، وسماها: رزق الله، وإذا لم يسلكها تناولها حرامًا، وليس له أن يسميها رزق الله، فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعه. [{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} 33 - 35] {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ}، ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك: وهبت له ثوبًا لقميصه. وقرئ: "سقفًا"، بفتح السين وسكون القاف، وبضمها وسكون القاف، وبضمها -جمع سقف، كرهن ورهن ورهن. وعن الفراء: جمع سقيفة-، وسقفًا بفتحتين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الله تعالى قسم لكل عبد معيشته): أجاب بما يؤدي أن يكون النزاع لفظيًا، الانتصاف: "الرزق عند أهل السنة: ما تقوم به البينة، حرامًا كان أو حلالًا". قوله: (ثوبًا لقميصه): أي: لأجل قميصه، والمعنى: سقفًا لأجل بيوتهم، وقال الزجاج: اللام بمعنى: على، أي: سقفًا على بيوتهم. قوله: (وقرئ: "سقفًا"): ابن كثير وأبو عمرو: بفتح السين وإسكان القاف على التوحيد، والباقون: بضمهما على الجمع. ?

كأنه لغة في سقف، و"سقوفًا"، و"معارج" و"معاريج". والمعارج: جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج، وهي المصاعد إلى العلالي. {عَلَيْها يَظْهَرُونَ} أي: على المعارج، يظهرون السطوح يعلونها، {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ}. و"سُرُرَا"، بفتح الراء؛ لاستثقال الضمتين مع حرفي التضعيف. {لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيَا} اللام هي الفارقة بين "إن" المخففة والنافية، وقرئ بكسر اللام، أي: للذي هو متاع الحياة، كقوله تعالى: {مَثَلًا ما بَعُوضَةً} [البقرة: 26]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معرج) بالكسر والفتح، قال الأخفش: أن شئت جعلت الواحد معرجًا، أو معرجًا، كمرقاة ومرقاة. قوله: (وقرئ بكسر اللام): قال ابن جني: "وهي قراءة أبي رجاء، و"ما" موصوله، والعائد محذوف، أي: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، والمعنى: وإن كل ذلك لما يتمتع به من أحوال الدنيا، وهذا الحذف على انفصال الضمير، وليس بمستحسن، ومثله قراءة من قرأ: "مثلا ما بعوضة" بالرفع، أي: ما هو بعوضة، و"كل" منصوب؛ لأن "إن" هذه مخففة من الثقيلة، ومتى خففت لزمتها اللام للفرق بينها وبين "إن" النافية، ولا يجوز أن يكون مرفوعًا، لأنه لابد معها من اللام الفارقة بين المخففة والنافية، ولا لام معك، لأن هذه اللام هي الجارة، ولو قدر معها الفارقة لقيل: "وإن كل ذلك للما متاع الحياة الدنيا"، كقولك: أن زيدًا لمن الكرام. فإن قلت: يجوز أن تكون اللام هي الفاصلة، لكنها خففت وحذفت وصارت هذه الجارة كالعوض منها، والحق أن هذا باطل، و"كل": نصب على لغة من نصب مع التخفيف، فقال: أن زيدًا قائم، لأنه إذا نصب زال الشك في أنها ليست بالنافية، لأنها غير ناصبة". ?

و {لَمَّا} بالتشديد بمعنى إلا، و"إن" نافية. وقرئ: "إلا"، وقرئ: "وما كل ذلك إلا". لما قال: {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، فقلل أمر الدنيا وصغرها، أردفه ما يقرّر قلة الدنيا عنده من قوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً}، أي: ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا عندنا للكفار سقوفًا ومصاعد وأبوابًا وسررًا كلها من فضة، وجعلنا لهم زخرفًا، أي: زينة من كل شيء، والزخرف: الذهب والزينة. ويجوز أن يكون الأصل: سقفًا من فضة وزخرف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {لَمَّا} بالتشديد): عاصم وحمزة وهشام، والباقون: بتخفيفها، قال الزجاج: "من قرأ بالتخفيف كانت "ما" لغوًا، المعنى: لمتاع الحياة الدنيا، ومن قرأها مثقلًا فمعناه: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا". قوله: (أي: ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر): الانتصاف: "هي مثل: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} [القصص: 47]، إما أن يصححها بتقدير: كراهة، وإما أن لا يقدر محذوفًا، ومعناها: اجتماعهم على الكفر مانع من بسط الدنيا، وهو معنى "لولا" المطرد، لكن المانع قد يكون موجودًا تحقيقًا، فيمتنع الجواب، كقوله تعالى: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقد يكون تقديرًا فيمتنع الجواب، لأنه لو وجد مانعه مقدرًا معه، وعليه الآية، أي: لو وجد بسط الرزق للكافر مقدرًا لوجد مانعه وهو الاجتماع على الكفر معه، وما أدى وجوده إلى وجود مانعه: إذن لم يوجد". ?

يعني: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب عطفًا على محل {مِنْ فِضَّةٍ}، وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء». فإن قلت: فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدّى إليها التوسعة عليهم، من إطباق الناس على الكفر؛ لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين؛ ليطبق الناس على الإسلام؟ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو وزنت [الدنيا] عند الله جناح بعوضة) الحديث: من رواية الترمذي وابن ماجة عن سهل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة". ولما كان معنى الآية: لولا كراهة اجتماع الناس على الكفر لمعتنا الجميع تمتيعًا بليغًا، فيشتغلوا بالدنيا وزخرفها عن الإيمان وذكر المولى، لكن أردنا إيمان بعض وكفر بعض، فلم نمتع كلهم، فرجع بعضهم مؤمنين زاهدين، وبعضهم كافرين متمتعين، فعلم منه أن الدنيا لا تصلح لأهل الله، وليس من شيمتهم التمتع بها، ولكن من شيمة من بعد من الله ومن المقامات الزلفى، مثل الكافر، ومن ثم قال: "وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولهذا ختم الآية بقوله: {والآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. قال القاضي: "فيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين وهو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة، وإخلال في الأغلب؛ لما فيه من الآفات، قل من يتخلص عنها، كما أشار إليه بقوله: {ومَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} ". ?

قلت: التوسعة عليهم مفسدة أيضًا لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبر: حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى. [{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} 36 - 39] قرئ: {وَمَن يَعْشُ}، بضم الشين وفتحها. والفرق بينهما: أنه إذا حصلت الآفة في بصره، قيل: عشي، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به، قيل: عشا، ونظيره: عرج، لمن به الآفة، وعرج، لمن مشى مشية العرجان من غير عرجن قال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (التوسعة عليهم مفسدة أيضًا؛ لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا): الانتصاف: "قاعاتان فاسدتان: مراعاة المصلحة، ويبطلها: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، وأنه أراد الإيمان من الخلق، ويبطلها: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ". قوله: (قرئ: {ومَن يَعْشُ} بضم الشين): وهي السبعة، والفتح: شاذ. قوله: (متى تأته تعشو إلى ضوء ناره): تمامه: تجد خير نار عندها خير موقد ?

أي: تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء، وهو بين في قول حاتم: أعشو إذا ما جارتي برزت .... حتّى يواري جارتي الخدر وقرئ: يعشو، على أنّ "من" موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وحق هذا القارئ أن يرفع "نقيض". ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم، {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ} وهو القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "تعشو" في موضع الحال، أي: عاشيًا، روي أنه لما أنشد عمر رضي الله عنه قال: كذب، تلك نار موسى عليه السلام. قوله: (أعشو إذا ما جازتي) البيت: أي: أنظر نظر العشي، و"ما" زائدة، يصف نزاهة نفسه وعفته، أوله: ما ضرني جار أجاوره أن لا يكون لبابه ستر أخبر عن نفسه بحسن المجاورة، وأن جاره آمن في كل أسبابه؛ في نفسه وماله وأهله، كما جاء في الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه". قوله: (وقرئ: "يعشو"): في "الكواشي": "يعشو" بواو، قالوا: فـ"من" موصولة، وجزم {نُقَيِّضْ} على لغة من يجزم المرفوع تخفيفًا، ويرفع المجزوم والمنصوب من الفعل اتساعًا ونظرًا إلى الأصل، كما سمع من العرب: الوقف على آخر الاسم الصحيح والمعتل في حالة النصب بلا ألف. قوله: (ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم): وفي "الكواشي": فالضم من: عشا يعشو؛ نظر نظر العشي بلا آفة بعينه، والفتح من: عشى يعشى، كعمى يعمى وزنًا، وقريبه معنى. ?

كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18 و 171]. وأما القراءة بالضم فمعناها: ومن يتعام عن ذكره، أي: يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى، كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا} نخذله ونخل بينه وبين الشياطين، كقوله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} [فصلت: 25]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ} [مريم: 83]. وقرئ: "يقيض"؛ أي: يقيض له الرحمن، و"يقيض له الشيطان". فإن قلت: لم جمع ضمير "من" وضمير "الشيطان" في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ}؟ قلت: لأنّ "مَنْ" مبهم في جنس العاشي، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا -لإبهامهما- غير واحدين، جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعًا. {حَتَّى إِذا جاءَنا} العاشي، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} نخذله ونخل بينه): مجاز عن قوله: نتيح ونقدر؛ بناء على مذهبه، قال ابن عباس: يسلط عليه، فهو معه في الدنيا والآخرة. قوله: (لأن "من" مبهم في جنس العاشي): قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: لا مقال في أن "من" يصح أن يرجع إليه ضمير الجمع، فما اعتبر جمعًا، وكل واحد منهم عاش، فمع كل واحد شيطان، فلزم الجمع أيضًا، فرجع ضمير الجمع إلى المدلول، وهي الشياطين. الانتصاف: "في هذه الآية نكتتان: إحداهما: أن النكرة في سياق الشرط تعم، وفيها اضطراب للأصوليين، وإمام الحرمين يختار العموم، واستدرك على الأئمة قولهم: أن النكرة في سياق الإثبات تخص، بأن الشرط يعم فيه، وهو إثبات، ورد عليه الأبياري شارح كتابه ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ردًا عنيفًا، وهذه الآية حجة للإمام من وجهين: لأنه وحد "الشيطان"، ولم يرد إلا الكل، لأن كل إنسان له شيطان، فكيف بالعاشي عن ذكر الله، والثاني: أنه أعاد عليه الضمير مجموعًا في قوله: {وَإِنَّهُمْ}، ولولا عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع على واحد، فهذه نكتة توجب للمخالفين سكتة. الثانية: أن فيها حجة على من يزعم أن العود على معنى "من" يمنع من العود على لفظها، محتجًا بأن إجمال بعد البيان، وقد نقض الكندي هذا بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11]، ونقض أيضًا بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ} [لقمان: 6 - 7]. واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك، لأنه أعاد على اللفظ في قوله: {يَعْشُ} و {لَهُ} مرتين، ثم على المعنى {لَيَصُدُّونَهُمْ}، ثم على اللفظ في قوله: {حَتَّى إذَا جَاءَنَا}، وقدمت أن الذي منع ذلك قد يكون قد اقتصر بمنعه إذا جاء في جملة واحدة، أما إذا استقلت ?

وقرئ: "جاءانا"، على أنّ الفعل له ولشيطانه، {قالَ} لشيطانه: {يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} يريد: المشرق والمغرب، فغلب، كما قيل: العمران والقمران. فإن قلت: فما {بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ}؟ قلت: تباعدهما، والأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية، أضاف البعد إليهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كل واحدة بنفسها، فلا يمنع، ورددت على الزمخشري، في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]، [فإن] الجملة واحدة، فانظره في موضعه". قوله: (وقرئ: "جاءانا"): الحرميان وابن عامر وأبو بكر: "جاءانا"؛ على التثنية، والباقون: على التوحيد. قوله: (تباعدهما، والأصل: بعد المشرق من المغرب)، الانتصاف: ألجاه إلى تقدير البعد بالتباعد: إضافته إلى {الْمَشْرِقَيْنِ} جميعًا، فلو بقي على ظاهره لأفاد بعد المشرقين من غيرهما، والظاهر أنه من اللف، وأصله: بعد المشرق من المغرب، وبعد المغرب من المشرق، ثم لفه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]. وقلت: معنى سؤاله: "فما {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}؟ ": الإنكار على ما سبق، بدلالة الفاء، أي: هب أن معنى "المشرقين" على التغليب، فما معنى تمنيهم بعد المشرق والمغرب؟ وأجاب: أن معنى "البعد" من: التباعد، ولذلك فإن الأصل: بعد المشرق عن المغرب، والمغرب عن المشرق، فإن التباعد يقتضي المزاولة طبعًا، فإذن لا يجتمعان أبدًا، بخلاف مطلق البعد، أي: يا ليت بيننا بعدًا مثل بعد المشرقين في أنهما لا يجتمعان أبدًا لما بينهما من التباعد، ومن ثم رتب عليه: {فَبِئْسَ القَرِينُ}. ?

{أَنَّكُمْ} في محل الرفع على الفاعلية، يعني: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب، كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه، لتعاونهم في تحمل أعبائه، وتقسمهم لشدّته وعنائه، وذلك أنّ كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته. ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله: {يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}، على معنى: ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين، وقوله: {أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} تعليل، أي: لن ينفعكم تمنيكم، لأنّ حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر. وتقوّيه قراءة من قرأ: "إنكم" بالكسر. وقيل: إذا رأى الممنوّ بشدّة من مني بمثلها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب منه ما قال صاحب "التيسير": كأنه قال: يا ليتني لم أكن صحبتك ولا عرفتك، ولا كانت بيني وبينك وصلة ولا تقارب، حتى كنا في التباعد كأن أحدنا بالمشرق والآخر بالمغرب، لا يلتقيان ولا يتقاربان، فجعلهما "مشرقين": كالقمرين والعمرين، وأنشد الزجاج: لنا قمراها والنجوم الطوالع وأما قول صاحب "الانتصاف": "إنه من اللف": فضعيف؛ لأن معنى اللف: هو أن يلف بين الشيئين في الذكر، ثم يتبعهما كلامًا مشتملًا على متعلق بواحد وبآخر من غير تعيين، كما في قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]، فقوله: {وَقَالُوا} لف من حيث المعنى، لأنه ضمير الفريقين بدلالة النشر عليه، وأين هاهنا ذاك؟ ! قوله: (الممنو): الأساس: "مني بكذا: بلي به، وهو ممنو به"، روى الزجاج عن المبرد: ?

روّحه ذلك ونفس بعض كربه، وهو التأسي الذي ذكرته الخنساء: أعزى النّفس عنه بالتّأسى فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروّحهم؛ ، لعظم ما هم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {إِذْ ظَلَمْتُمْ}؟ قلت: معناه: إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "أنهم منعوا روح التأسي، لأن التأسي يسهل المصيبة، فأعملوا أنه لن ينفعكم الاشتراك في العذاب، وأن الله تعالى لا يجعل لهم فيها أسوة، وأنشد للخنساء: يذكرني طلوع الشمس صخرًا .... وأذكره بكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي .... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن .... أعزي النفس عنه بالتأسي" وقلت: فعلى هذا القول: فاعل {لَن يَنفَعَكُمُ}: {أَنَّكُمْ}، كما في الوجه الأول، والمعنى: اليوم لا ينفعكم هذا المعنى، وهو أنكم في العذاب مشتركون، وقد علم عرفًا أنه ليس في اشتراك العذاب النفع البتة إلا التأسي، وهؤلاء حرموا التأسي أيضًا، لعظم ما هم فيه. قوله: (ما معنى قوله: {إذ ظَّلَمْتُمْ}؟ ): قال أبو البقاء: "أما "إذ" فمشكلة الأمر؛ لأنها ظرف زمان ماض، و "لن ينفعكم"، وفاعله، واليوم المذكور: ليس بماض، قال ابن جني في مساءلته أبا علي: راجعته فيها مرارًا، فآخر ما حصل منه: أن الدنيا والأخرى متصلتان، ?

وذلك يوم القيامة. و {إِذْ}: بدل من اليوم. ونظيره: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي: تبين أني ولد كريمة. [{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 40] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فتكون "إذ" بدلًا من "اليوم"، حتى كأنها مستقبلة، أو كأن اليوم ماض. وقال غيره: الكلام محمول على المعنى، والمعنى: أن ثبوت ظلمهم عندهم يكون يوم القيامة، فكأنه قال: ، لن ينفعكم اليوم إذ صح ظلمكم عندكم، فهو بدل أيضًا". هذا هو الذي عناه المصنف: "إذ صح ظلمكم وتبين، و {إِذْ} بدل من {الْيَوْمَ} ". وقال أبو البقاء: "وقال آخرون: التقدير: بعد إذا ظلمتم، فحذف المضاف للعلم به، وقيل: "إذا" بمعنى "أن"، أي: لأن ظلمتم". قوله: (إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة): بعده: ولم تجدي من أن تقري به بدا عن بعضهم: استشهد أن "إذا" بدل من "اليوم"، كما في قوله تعالى: {إذ ظَّلَمْتُمْ}، و"ما" زائدة، وهو سيهو؛ لأن "لم تلدني" جواب "إذا"، وهو ليس للاستقبال، لأن الولادة كانت قبل، والمعنى على التبين، فالاشتراك بين المستشهد والمستشهد هو التبين، يقول: إذا انتسبنا تبين لك أني ولد كريمة، وتقرين بذلك لا محالة. ?

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد ويجتهد ويكدّ روحه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميمًا على الكفر وتماديًا في الغيّ، فأنكر عليه بقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد: أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]. [{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} 41 - 43] «ما» في قوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} بمنزلة لام القسم؛ في أنها إذا دخلت دخلت معها النون المؤكدة، والمعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} أشد الانتقام في الآخرة، كقوله تعالى: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]، وإن أردنا أن ننجز في حياتك ما وعدناهم من العذاب النازل بهم -وهو يوم بدر- فهم تحت ملكتنا وقدرتنا لا يفوتوننا. وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال، ثم أتبعه شدة الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة. وقرئ: "نرينك" بالنون الخفيفة. وقرئ: "بالذي أوحى إليك" على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، والمعنى: وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر، فكن متمسكًا بماأوحينا إليك وبالعمل به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده): هذا الحصر مستفاد من إيلاء الضمير حرف الإنكار. ?

فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضال شقي، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك، ولكن كما يفعل الثابت الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره. [{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ * وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 44 - 45] {وَإِنَّهُ} وإنّ الذي أوحى إليك {لَذِكْرٌ} لشرف، {لَكَ وَلِقَوْمِكَ}، {وَ} لـ {سَوْفَ تُسْئَلُونَ} عنه يوم القيامة، وعن قيامكم بحقه، وعن تعظيمكم له، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يحيد عنه): الجوهري: "حاد عن الشيء يحيد حيودًا وحيدة وحيدودة: مال عنه". قوله: (وزد كل يوم صلابة في المحاماة) قيل: الزيادة مستفادة من "السين" في "استمسك"، قلت: بل هي مستفادة من الأمر بالاستمساك بالوحي لمن هو مستمسك به، ويعضده تعليله بقوله: {إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، فهو كقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، قال المصنف: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ". قوله: (ولكن كما يفعل الثابت): عطف على قوله: "يخرجك" من حيث المعنى، أي: كن متمسكًا بما أوحينا إليك، ولا تفعل كما يفعل الضال الشقي، فإنه يميل عن الحق، ولا يثبت عليه، فإن عادة المتزلزل أن لا يصبر على شيء، ينشطه تعجيل ظفر، ويثبطه تأخيره، ولكن افعل كما يفعل الثابت الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره، وكل هذه المعاني مستنبطة من ارتباط {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ} بقوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}، وذلك لأنه تعالى لما نبهه -صلوات الله عليه- أن جده واجتهاده في دعاء قومه غير نافع، وأنهم صم عمي في ضلال مبين، لا يرجعون ولا يرعون، وبين أنه لابد من الهلاك وقطع دابرهم، فقسم الأمر بين أن ?

ليس المراد بسؤال الرسل: حقيقة السؤال؛ لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم، والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظرًا وفحصًا: نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها. والسؤال الواقع مجازًا عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة: كثير، منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال، وقول من قال: سل الأرض: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينصره عليهم في الدنيا ويشفي صدور المؤمنين، وبين أن ينتقم منهم في الآخرة أشد الانتقام، أرشده إلى المتاركة والمواعدة والاشتغال بما يهمه من التمسك بالعروة الوثقى، وهو هذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلل ذلك بقوله: {إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. ويعضد معنى المتاركة والتسلية: قوله: {واسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا}، والشروع في قصة موسى عليه السلام، فتأمل وتعجب من إدراكه اللمحات التنزيلية التي لطف شأنها، وخفي مكانها، واشكر سعينا في استنباطها من مظانها، بطلب الزلفى عند الله الكريم. قوله: (وهذه الآية في نفسها كافية): ترقى في تأويل السؤال بالنظر والفحص، يعني: أمر صلوات الله عليه بقوله: {واسْأَلْ} بأن يتفكر في أديان الأمم السالفة، دينًا بعد دين، وأمة بعد أمة، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة، ثم ترقى منه غلى النظر في هذا الكتاب الكريم، فإنه كاف في التفحص، ثم ترقى منه إلى التفكر في هذه الآية الفاذة الكافية في المقصود. قوله: (كثير): خبر، و"السؤال الواقع" مبتدأ، و"منه" خبر أيضًا، و"مساءلة الشعراء" مبتدأ. ?

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم، وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسلنا، وهم أهل الكتابين؛ التوراة والإنجيل. وعن الفراء: هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء. [{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} 46 - 47] ما أجابوه به عند قوله: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} محذوف، دل عليه قوله: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا} وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية، {إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} أي: يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحرًا، و"إذا" للمفاجأة. فإن قلت: كيف جاز أن يجاب "لما" بـ"إذا" المفاجأة؟ قلت: لأنّ فعل المفاجأة معها مقدّر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم. [{وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 48] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلم يشكك ولم تسأل): أي: ظاهر الأمر الوجوب، فإما أن يحمل السؤال على النظر مجازًا، والكلام مبني على الشرط، كأنه قيل: أن شككت فاسأل، كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]، فلم يشكك ولم يسأل. قوله: (وقيل: معناه: سل أمم من أرسلنا): وهم أهل الكتابين. الانتصاف: "يشهد له قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ". ?

فإن قلت: إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت: أختها التي هي آية مثلها، وهذه صفة كل واحدة منها، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة، كما تقول: هو أفضل رجل رأيته؛ تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قروتهم رجلًا رجلًا. فإن قلت: هو كلام متناقض، لأنّ معناه: ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة؟ قلت: الغرض بهذا الكلام أنهنّ موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل، وتتقارت منازلها فيه التقارت اليسير: أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا، وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالًا بعضهم أفضل من بعض، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تريد تفضيله على أمه الرجال): يعني: من حق "أفعل" التفصيل هنا، أن يكون المفصل عليه أعم منه، لأن الآيات تسع، فينبغي أن يقال: وما من آية إلا وهي أكبر من بقية الآيات، وفي الآية: {أُخْتَهَا}: مثل، وكذا في المثال، فيحمل على استغراق الجنس ليتناول فردًا فردًا منه. قوله: (إذا قروتهم رجلًا رجلًا): الجوهري: "قروت البلاد قروًا، وقريتها، واقتريتها، واستقريتها: إذا تتبعتها؛ تخرج من أرض إلى أرض". قوله: (الفرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه): يعني: "أفعل" محمول على الزيادة مطلقًا رومًا للمبالغة، كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 33]، فـ {أَعْلَمُ} يعني: عالم؛ إذا لا مشاركة لله تعالى في علمه بذلك، وسبق بيان ذلك في سورة "الزمر" مستقصى. ?

وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك. ومنه بيت "الحماسة": من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم .... مثل النجوم الّتى يسري بها السّاري وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها، ثم قالت لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرّغة لا يدرى أين طرفاها. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان. فإن قلت لو أراد رجوعهم لكان؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "الظاهر أن الذي سوغ هذا الإطلاق أن كل آية إذا أفردت استغرقت عظمتها الفكر، وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأن كل آية دونها، فإذا نقل الكفر إلى الأخرى كانت كذلك، وحاصلها أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين لتتميز الفاضلة من المفضولة". وقال صاحب "الفرائد": "نحوه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، فإن الناظر إذا نظر إلى آية ظهرت بعد أخرى، يقول: هي أكبر من أختها، لكون كل واحدة في غاية من الكمال والقوة". قوله: (وقد فاضلت الأنمارية): قيل: هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، كانت في الجاهلية، وبنوها يلقبون "الكلمة"، تصف أبناءها حين سئلت: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان، لا بل فلان، ثم قالت: ثكلتهم أن كنت أعلم أيهم أفضل، كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. ?

قلت: إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد، وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على حسب اختيار المكلف، وإنما لم يكن الرجوع لأنّ الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه. والمراد بالعذاب: السنون والطوفان والجراد وغير ذلك. [{وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} 49 - 50] وقرئ: "يا أيه الساحر"؛ بضم الهاء، وقد سبق وجهه. فإن قلت: كيف سموه بالساحر مع قولهم: {إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إرادته فعل غيره) إلى آخره): جعل الأمر والإرادة سيان، وآل حاصل كلامه أنه حصل مراد العبد دون مراد الله، وقد مر غير مرة أن "لعل" في أمثال هذه المقامات مستعارة تمثيلًا، أي: عاملهم الله عز وجل معاملة من يرجو ويتوقع. قوله: (قرئ: "يا أيه الساحر"؛ بضم الهاء): ابن عامر، والباقون: بفتحها. ووجهها: أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين، أتبعت حركتها حركة ما قبلها، هكذا قاله في سورة "النور"، وقالوا: وجهه: أنه لما لزم هاء التنبيه "أي" المنادى صار معه كالشيء الواحد، فحذف ألفها، ثم جعل الهاء كجزء منه، فبنى "أيه" في النداء على الضم، كما قالوا: يا زيد. قوله: (كيف سموه بالساحر): أي: تسميتهم بـ"الساحر" مؤذن بأنه ضال مضل، ووعدهم ?

قلت: قولهم: {إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ} وعد منوي إخلافه، وعهد معزوم على نكثه، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}، فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: {إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ}. وقيل: كانوا يقولون للعالم الماهر: ساحر؛ لاستعظامهم علم السحر. {بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: {إنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} إعلام بأنه هاد مهتد، وأجاب: بأن قولهم: {إنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} تعليق مخالف لما في الضمائر، وقال القاضي: "نادوه بالساحر في تلك الحال لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم"، ويمكن أن يقال: أن هذا المقام تضرع وابتهال، بدليل قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ}، فينبغي أن يقولوا: يا موسى، كما في نظيرتها، لكنهم من إفراط حيرتهم ودهشتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوه وألفوا به من تسميتهم بالساحر، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 134 - 135]. قوله: ({بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي: بعهده عندك): أي: ادع الله بسبب أنك مستجاب الدعوة، لأن الله تعالى عهد لك أن يجيب دعوتك، أو بحق ما عندك من عهد الله وكرامتك بالنبوة، أو بحق الإيمان والطاعة، أو بسبب ما عهده الله من كشف العذاب لمن آمن، قال الزجاج: " {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، يدل عليه قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ". ?

أو بعهده عندك وهو النبوّة، أو بما عهد عندك فوفيت به، وهو الإيمان والطاعة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى. [{وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} 51 - 53] {وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} جعلهم محلا لندائه وموقعًا له، والمعنى: أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأما كنهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص؛ إذا أمر بقطعه. ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثم ينشر عنه في جموع القبط، فكأنه نودي به بينهم، فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ} يعني أنهار النيل، ومعظمهما أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. قيل: كانت تجري تحت قصره، وقيل: تحت سريره لارتفاعه، وقيل: بين يدي في جناني وبساتيني. ويجوز أن تكون الواو عاطفة "للأنهار" على {مُلْكُ مِصْرَ}، و {تَجْرِي}: نصب على الحال منها، وأن تكون الواو للحال، واسم الإشارة مبتدأ، و {الْأَنْهَارُ} صفة لاسم الإشارة، و {تَجْرِي} خبر للمبتدأ. وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوة الربوبية همة من تعظم بملك مصر، وعجب الناس من مدى عظمته، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها؛ لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير، وحتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته، وعن الرشيد: أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يتربع): أي: يتمكن في قلوب الجماعة فضل تمكن تمثيلًا، وعن بعضهم: "مقدار" بالنصب؛ من قولهم: تربع المكان: أتخذه ربعًا، أي: منزلًا، وقيل: الإقامة في المكان، وبمعنى: ?

فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر: أنه وليها، فخرج إليها، فلما شارفها ووقع عليها بصره، قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}؟ ! والله لهي أقل عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأخذ للمكان، و"مقدار" بالرفع في بعض النسخ؛ على أنه فاعل "يتربع"، من قولهم تربع في جلوسه. قوله: (فولاها الخصيب): وهو خصيب بن حميد، كذا في "ديوان أبي نواس)، ومدحه بقصيدة، منها: أما دون مصر للغنى متطلب .... بلى أن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر .... جرت فجرى في جريهن عبير ذريني أكثر حاسديك برحلة .... إلى بلد فيه الخصيب أمير إذا لم تزر أرض الخصيب ركابها .... فأي فتى غير الخصيب تزور؟ ! فتى يشتري حسن الثناء بماله .... ويعلم أن الدائرات تدور فما حازه جود ولا حل دونه .... ولكن يصير الجود حيث يصير وذكر ابن الأثير في "التاريخ الكامل": "أن الرشيد لما أراد عزل موسى بن عيسى عن مصر، قال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي، فأحضر عمر بن مهران، وكان أحول مشوه الخلق رث الثياب، فولاه، فسار فوافى دار موسى، وجلس في أخريات الناس، فلما تفرقوا دفع الكتاب إلى موسى، فقال: تقدم أبا حفص أبقاك الله، لعن الله فرعون حيث قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}، ثم سلم له العمل، ورحل". ?

{أَمْ} هذه متصلة؛ لأنّ المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون، إلا أنه وضع قوله: {أَنَا خَيْرٌ} موضع "تبصرون"، لأنهم إذا قالوا له: أنت خير، فهم عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. ويجوز أن تكون منقطعة؛ على: بل أأنا خير، والهمزة للتقرير، وذلك أنه قسم تعديد أسباب الفضل والتقدّم عليهم؛ من ملك مصر وجري الأنهار تحته، ونادى بذلك، وملأ به مسامعهم، ثم قال: أنا خير، كأنه يقول: أثبت عندكم واستقر إني أنا خير وهذه حالي. {مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي: ضعيف حقير. وقرئ: "أما أنا خير" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَمْ} هذه متصلة؛ لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون): قال أبو البقاء: " {أَمْ} هذه منقطعة في اللفظ؛ لوقوع الجملة بعدها، وهي في المعنى متصلة معادلة، إذ المعنى: أنا خير منه أم لا"، ومراد المصنف: أن قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بعث لهم على الاستبصار والتفكر في أحواله؛ من بسطة الملك واستعداد الرئاسة ومن الجريان في النطق، وأحوال موسى؛ من الفقر والقلة وعدم استعداده الرئاسة من الرتة في النطق، ثم على أن يقولوا له: أنت خير. وينصره قوله تعالى: {هُوَ مَهِينٌ ولا يَكَادُ يُبِينُ}. ولما كان هذا التركيب حاملًا على الاستبصار، وعلى القول، قال: "وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب"، عن بعضهم: لأن كونه خيرًا عندهم مسبب كونهم بصراء، لأن الإبصار سبب لقولهم: أنت خير. ?

{وَلا يَكادُ يُبِينُ} الكلام لما به من الرتة، يريد: أنه ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به، وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن والفصاحة، وكانت الأنبياء كلهم أبيناء بلغاء. وأراد بإلقاء الأسورة عليه: إلقاء مقاليد الملك إليه، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار، وطوّقوه بطوق من ذهب، {مُقْتَرِنِينَ} إما مقترنين به؛ من قولك: قرنته فاقترن به، وإما من: اقترنوا؛ بمعنى: تقارنوا. لما وصف نفسه بالملك والعزة، ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد، اعترض فقال: هلا إن كان صادقًا ملكه ربه وسوّده وسوّره، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره. وقرئ: "أساور"؛ جمع أسورة، و"أساوير"؛ جمع إسوار، وهو السوار، و"أساورة"؛ على تعويض التاء من ياء "أساوير". وقرئ: "ألقى عليه أسورة" و"أساور"، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل. [{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ} 54] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبيناء): قيل: جمع بين، وهو ذو البيان. قوله: (مقاليد الملك): الجوهري: "الإقليد: المفتاح، والمقلد: مفتاح". قوله: (وإما من: اقترنوا): بمعنى: تقارنوا، قال محيي السنة: "أي: متتابعين، يقارن بعضهم بعضًا؛ يشهدون له بصدقه، ويعينونه على أمره". قوله: (وقرئ: "أساور"): حفص: {أَسْوِرَةٌ} بإسكان السين من غير ألف، والباقون: بفتحها وألف بعدها. ?

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} فاستفزهم، وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم، وكذلك: استفز، من قولهم للخفيف: فز. [{فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} 55 - 56] {آسَفُونَا} منقول من: أسف أسفًا: إذا اشتد غضبه، ومنه الحديث في موت الفجأة: "رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر". ومعناه: أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا، وأن لا نحلم عنهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حملهم على أن يخفوا له): يعني: السين للطلب، وما طلب منهم في الحقيقة أن يخفوا له، بل احتال في تنكب آرائهم حتى يطيعوه فيما أراد منهم، مما يأباه أرباب العقول وأولو البصائر، قال محيي السنة: "يقال: استخفه على رأيه؛ إذا حمله على الجهل"، وعن بعضهم: أي: حملهم بتمويهه على أن خفوا لأمره غير مستثقلين له، فأطاعوه في تكذيب موسى ومخالفته، وجمع الجموع لمحاربته. قوله: (وكذلك: استفز): أي: كما جاء "استخف" من الخفة لهذا المعنى، كذلك جاء "استفز" من فز؛ له. قوله: (ومنه الحديث في موت الفجأة): روي عن رجل من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "موت الفجأة أخذة أسف ورحمة للمؤمن"، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موت الفجأة أخذة أسف"، أخرج الثانية أبو داود، والأولى رواها رزين، وذكرهما صاحب "جامع الأصول". ?

وقرئ: {سَلَفًا} جمع سالف، كخادم وخدم، و"سُلُفًا" بضمتين؛ جمع سليف، أي: فريق قد سلف، و"سلفًا": جمع سلفة، أي: ثلة قد سلفت. ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم، لإتيانهم بمثل أفعالهم، وحديثًا عجيب الشأن سائرًا مسير المثل، يحدثون به ويقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون. [{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ} 57 - 59] لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، امتعضوا من ذلك امتعاضًا شديدًا، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: "هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم"، فقال: خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبيّ، وتثني عليه خيرًا وعلى أمه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {سَلَفًا}): حمزة والكسائي: "سلفًا"؛ بضم السين واللام، والباقون: بفتحهما. قوله: (أي: ثلة): الجوهري: "الثلة- بالضم-: الجماعة من الناس". قوله: (امتعضوا من ذلك): الجوهري: "معضت من ذلك الأمر أمعض معضًا، وامتعضت منه: إذا غضبت وشق عليك". قوله: (خصمتك): خاصمت فلانًا فخصمته، أي: غلبته في الخصومة. ?

وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} [النبياء: 101]، ونزلت هذه الآية. والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلًا، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه، {إِذَا قَوْمُكَ} قريش، {مِنْهُ} من هذا المثل، {يَصِدُّونَ} ترتفع لهم جلبة وضجيج فرحًا وجزلًا وضحكًا بما سمعوا منه من إسكات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأمّا من قرأ: "يصدّون" بالضم: فمن الصدود، أي: من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجلبة، وأنهما لغتان نحو: يعكف ويعكف، ونظائر لهما. {وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون: أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، وإذا كان عيسى من حصب النار، كان أمر آلهتنا هينًا. {ما ضَرَبُوهُ} أي: ما ضربوا هذا المثل، {لَكَ إِلَّا جَدَلًا} إلا لأجل الجدل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم فتحت عليهم): النهاية: " وفي الحديث: "لا يفتح على الإمام"؛ إذا أرتج عليه في القراءة وهو في الصلاة، لا يفتح له المأموم ما أرتج عليه، أي: لا يلقنه". قوله: (وأما من قرأ"يصدون" بالضم): نافع وابن عامر والكسائي، والباقون: بكسرها. قال الزجاج: "الكسر أكثر، ومعناهما جمعيًا: يضجون. ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون"، روى محيي السنة عن الكسائي: "هما لغتان، مثل يعرشون ويعرشون، وشد يشد ويشدً، ونم ينم وينم". ?

والغلبة في القول، لا لطلب الميز بين الحق والباطل، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج، كقوله تعالى: {قَوْمًا لُدًّا}] مريم: 97]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا لطلب الميز): تأكيد لما نفي في المستثنى منه في قوله: "ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلًا"، أي: ليس قولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، إلا جدلًا صرفًا، ليس فيه سوى طلب الباطل والغلبة في القول، لأن"ما" في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] عام يحتمل التخصيص بحسب المخاطبين واقتضاء المقام، فللمحق والمبطل مجال التأويل، فإن المحق حين سمع النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى، وأن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} خطاب مشافهة مع المشركين: لا يتصور دخولهم في هذا العام، والمعاند المكابر لا يلتفت إلى المقام، وحين رأى للجدال مجالًا انتهز الفرصة. أما المقام: فإن الخطاب في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في المشركين، ومن ثم قدر محيي السنة " {إِنَّكُمْ} أيها المشركون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام، {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ". وأما توجيه كلامهم: {وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، فإنك تزعم أن آلهتنا ليس فيها خير، وأن عيسى نبي مكرم، فقولك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} يوجب المساواة، فإن كان الذي تقول بفضله ونبوته حصب جهنم، كان أمر آلهتنا هينًا. وأما قوله: " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم": فليس بثبت. ?

وذلك أنّ قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]: ما أريد به إلا الأصنام، وكذلك قوله عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»، إنما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة، إلا أن ابن الزبعرى بخبه وخداعه وخبث دخلته، لما رأى كلام الله ورسوله محتملًا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغًا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة، وتوقح في ذلك، فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى} [الأنبياء: 101]، فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام، على أنّ ظاهر قوله: {وَما تَعْبُدُونَ} لغير العقلاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى محيي السنة في"المعالم": أن ابن الزبعرى قال: "أنت قلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}؟ قال: نعم، قال: أليست اليهود تعبد عزيزًا، والنصارى تعبد المسيح، وبنو مليح يعبدون الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشيطان، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] ". قوله: (بخبه): النهاية: "الخب- بالفتح-: الخداع، وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد، وأما المصدر فبالكسر لا غير". قوله: (وخبث دخلته): الجوهري: "داخلة الرجل: باطن أمره، وكذلك الدخلة بالضم"، الأساس: "إنه لخبيث الدخلة، وعفيف الدخلة، وهي باطن أمره". قوله: (على طريقة المحك): الأساس: "رجل محك: لجوج عسر، وماحك ومحكان، وقد محك محكًا، وماحك صاحبه". ?

وقيل: لما سمعوا قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، قالوا: نحن أهدى من النصارى؛ لأنهم عبدوا آدميًا، ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله: {أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} على هذا القول: تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة، و {مَا ضَرَبُوهُ لُكُ إِلَّا جَدَلًا}: معناه: وما قالوا هذا القول- يعني: {ءَآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} - إلا للجدال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: لما سمعوا [قوله]: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ}): معطوف على قوله: "لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] "، في تفسير قوله: {ولَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} الآية. يعني: يجوز أن يراد بضارب ابن مريم مثلًا: عبد الله بن الزبعرى، كما في الوجه الأول، بدليل قوله: "ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلًا"، وأن يراد الله سبحانه وتعالى، كما في هذا الوجه، والمثل-على قول ابن الزبعرى- قوله: فلو كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، وإنما سمي مثلًا لما فيه من الغرابة من بعض الوجوه، ولذلك فرح به المشركون، وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ} [آل عمران: 59]. وفي قول المصنف: "هو- على هذا القول- تفضيل لآلهتهم على عيسى؛ لأن المراد بهم الملائكة": إدماج لمذهبه في غاية من الدقة في القول بتفضيل الملك على الأنبياء، وذلك لزعمه أنه ثبت بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]: أن عيسى عليه السلام مخلوق من تراب، واتفقنا على أن الملائكة روحانيون، فلا شك بتفضيلهم، وجواب الفريقين: قوله تعالى: {إنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} الآية، يعني: ليس التفضيل بالقياس، بل باصطفائنا واختيارنا لمن نشاء، فإن عيسى إنما كان نبيًا مختارًا لأننا أنعمنا عليه بالكرامة والنبوة، وإن الملائكة إنما كانوا مقربين باختيارنا ومشيئتنا سبحانه وتعالى، ولو نشاء لجعلنا منكم- وأنتم شر الدواب عند الله- ?

وقرئ: {أآلهتُنَا خَيْرٌ} بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها؛ لدلالة "أم" العديلة عليها، وفي حرف ابن مسعود: "خير أم هذا"، ويجوز أن يكون {جَدَلَا} حالَا، أي: جدلين. وقيل: لما نزلت: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59]، قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده، وأنه يستأهل أن يعبد، وإن كان بشرًا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى: {يَصِدُّونَ} يضجون ويضجرون، والضمير في: {أَمْ هُوَ} لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم: السخرية به والاستهزاء. ويجوز أن يقولوا - لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، وعبدوهم -: ما قلنا بدعًا من القول، ولا فعلنا نكرًا من الفعل، فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيضًا ملائكة، وهذا من باب رد القياس بالنص، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. قوله: (وقرئ: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} بإثبات همزة الاستفهام): بالإثبات: السبعة، وبإسقاطها: شاذة. قوله: (ويجوز أن يقولوا لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، وعبدوهم): قوله"وعبدوهم" حال من الضمير المضاف إليه في"قولهم"، ومقول"يقولوا": "ما قلنا بدعًا"، وعلى هذا فاعل {ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا}: ابن الزبعري، كما في الوجه الأول. والحامل على ضرب المثل الرد على الكفرات الثلاث في قوله: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] الآيات، وهو قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، وقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]، وقوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20]، والآيات المتخللة في البين متصلات بعضها مع بعض بالأفانين المتنوعة. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الوجه وارد على القياس المبني على أصل فاسد، وذلك أن النصارى ما عبدوا عيسى عليه السلام عن علم ودليل، بل عبدوه لأنه وجد من غير أب، ولو نشاء أيتها الكفرة ولدنا منكم، كما ولد عيسى من غير أب، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة، يعني: أن حال عيسى وإن كانت عجيبة، فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة منكم، من حيث إنها مخلوقة، فيحتمل أن يخلقوا توليدًا، كما جاز خلقها إبداعًا، فمن أين لهم استحقاق الألوهية، والانتساب إلى الله تعالى؟ ! وإنما فسر {لَجَعَلْنَا مِنكُم} بقوله: "لولدنا"؛ لوقوعه مقابلًا لقوله: {وجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إسْرَائِيلَ}، ومعناه: وخلقناه من غير سبب، وصيرناه عجيبةً كالمثل السائر. فإن قلت: ذكر في "المعالم": "أن المعنى: لو نشاء لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم ملائكةً خلفًا منكم، يعمرون الأرض ويعبدونني، وقيل: يخلف بعضهم بعضًا"، وقال أبو البقاء: "لحولنا بعضكم ملائكة"، فلم عدل المصنف عن البدلية إلى ما ذكر؟ قلت: لأن المقام له أدعى، وأن التبديل دل على التوعد بالهلاك والاستئصال، وهو لا يدخل في المعنى، إذ المعنى: أن هو إلا عبد أنعمنا عليه، وجعلناه عبرةً عجيبة، ولو شئنا لجعلنا منكم أيضًا عبرةً عجيبة، دلالةً على قدرتنا على عجائب الأمور، وبدائع الفطر، والله أعلم. فإن قلت: قد علم في الوجهين الآخرين تنزيل الجواب، وهو قوله: {إنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} الآية، على قولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، فما وجه التنزيل على الوجه الأول، وهو أن يكون الحامل على هذا القول قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]؟ ?

وعبدوه، ونحن أشف منهم قولًا وفعلًا، فإنا نسبنا إليه الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي، فقيل لهم: مذهب النصارى شرك بالله، ومذهبكم شرك مثله، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل، وما عيسى {إِلَّا عَبْدٌ} كسائر العبيد، {أَنْعَمْنا عَلَيْهِ} حيث جعلناه آية؛ بأن خلقناه من غير سبب، كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوّة، وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: وجهه وجه قوله تعالى في تلك السورة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وإليه أشار المصنف بقوله: "فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ}، ونزلت هذه الآية". وتقريره: أن جدلكم هذا باطل، لأنه عليه السلام ما دخل في هذا النص الصريح، لأن الكلام معكم أيها المشركون، وأنتم المخاطبون به، وإنما المراد بـ "ما تعبدون": الأصنام التي تنحتونها بأيديكم، وأما عيسى ما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر، مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر، فمن أين يدخل في قولنا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قومًا أهلًا للنار، وآخرين أهلًا للجنة، إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم- أيها الكفرة- ملائكة، أي: عبيد مكرمون مهتدون إلى الجنة صابرون كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]، وكما لوح في تلك الآية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، والله أعلم. قوله: (أشف منهم قولًا): الجوهري: "الشف- بالكسر-: الفضل والربح، تقول منه: شف يشف شفًا". قوله: (وما تنصلكم): و "التنصل": الخروج من الذنب بالاعتذار. ?

[{وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 60] {وَلَوْ نَشاءُ} لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر، {لَجَعَلْنا مِنْكُمْ} لولدنا منكم يا رجال {مَلائِكَةً} يخلفونكم في الأرض، كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك. [{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} 61] {وَإِنَّهُ} وإن عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي: شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط علمًا لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس: "لعلم"، وهو العلامة. وقرئ: "للعلم"، وقرأ أُبيّ: "لذكر"؛ على تسمية ما يذكر به: ذكرًا، كما سمى ما يعلم به: علمًا. وفي الحديث: "أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فسمى الشرط علمًا لحصول العلم به): النهاية: "أشراط الساعة: علاماتها، واحدها: شرط- بالتحريك-، ومنه سميت شرط السلطان، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها، قاله أبو عبيدة، وحكى الخطابي عن بعضهم: أنه أنكر هذا التفسير، وقال: أشراط الساعة: ما ينكره الناس من صغار أمورها قبل أن تقوم، وشرط السلطان: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده". قوله: (على تسمية ما يذكر به): المطلع: قال: الذكر، لأنه تذكر به الساعة. قوله: (أن عيسى ينزل) الحديث: من رواية البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينزلن ابن مريم حكمًا عدلًا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص، فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد". ?

ثنية بالأرض المقدّسة، يقال لها: أفيق، وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة الصبح، والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى، ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به". وعن الحسن: أن الضمير للقرآن، وأن القرآن به تعلم الساعة، لأن فيه الإعلان بها. {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها} من المرية، وهي الشك، {وَاتَّبِعُونِ} واتبعوا هداي وشرعي، أو رسولي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية: "فإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأنه رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فليقاتل الناس على الإسلام"، وفيه: "ويهلك المسيح الدجال". وفي رواية أخرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم"، وفي رواية: "فأمكم منكم"، قال ابن أبي ذئب: تدري ما "أمكم منكم"؟ قال: تخبرني، قال: "فأمكم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ". قوله: (ممصرتان): أي: حلتان ممغرتان من مصر، والمغرة: الطين الأحمر. والنهاية: "الممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة". ?

وقيل: هذا أمر لرسول الله أن يقوله. {هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أدعوكم إليه، أو هذا القرآن، إن جعل الضمير في {وَإِنَّهُ} للقرآن. [{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 62] {عَدُوٌّ مُبِينٌ} قد أبانت عداوته لكم، إذ أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور. [{وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 63 - 65] {بِالْبَيِّناتِ} المعجزات، أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات، {بِالْحِكْمَةِ} يعني: الإنجيل والشرائع. فإن قلت: هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه، ولكن بعضه؟ قلت: كانوا يختلفون في الديانات، وما يتعلق بالتكليف، وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم): عطف على قوله: "واتبعوا هداي"، فالضمير المنصوب على الأول: لله تعالى؛ على تقدير حذف المضاف، ولهذا قال: "هداي وشرعي أو رسولي". قوله: (أو هذا القرآن، أن جعل الضمير في "إنه" للقرآن)، المعنى: أن القرآن فيه الإعلام بالساعة، وإذا كان كذلك فلا تمترن بها، لأن إعلامه صدق، واتبعوني أيضًا لأنجيكم من أهوالها، لأني متبع لهذا الصادق المصدق الهدي إلى صراط مستقيم، فنكر ليدل على استقامة لا يكتنه كنهها. قوله: (كانوا يختلفون في الديانات، وما يتعلق بالتكليف، وفيما سوى ذلك): قال القاضي: " {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلق بأمر الدنيا، فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ". ?

وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم. {الْأَحْزابُ} الفرق المتحزبة بعد عيسى عليه السلام، وقيل: اليهود والنصارى، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وعيد للأحزاب. فإن قلت: {مِنْ بَيْنِهِمْ}: إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت: إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ}، وهم قومه المبعوث إليهم. [{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَاتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَاكُلُونَ} 66 - 73] {أَنْ تَاتِيَهُمْ} بدل من {السَّاعَةَ}، والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قلت: أما أدى قوله: {بَغْتَةً} مؤدّى قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فيستغنى عنه؟ قلت: لا، لأنّ معنى قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم، كقوله تعالى: {تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49]، ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفرق المتحزبة بعد عيسى عليه السلام): الملكانية واليعقوبية والنسطورية. قوله: (معنى قوله: {وهُمْ لا يَشْعُرُونَ}: وهم غافلون): يعني: مجيء الشيء فجأة: ربما يكون مع الشعور به، وربما يجيء والشخص غافل، ويجوز أن يراد بـ {لا يَشْعُرُونَ}: الإثبات، لأن الكلام وارد على الإنكار، كأنه قيل: هل تزعمون أنها تأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون، أي: لا يكون ذلك، بل تأتيهم وهم فطنون. ?

{يَوْمَئِذٍ} منصوب بـ {عَدُوٌّ}، أي: تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتًا، إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله، والتباغض في الله. وقيل: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} إلا المجتنبين أخلاء السوء، وقيل: نزلت في أبي بن خلف وعقبة ابن أبي معيط. (يا عِبادِي) حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (منصوب بـ {عَدُوٌّ}): أي: يعادي بعضهم بعضًا، من العدوة من الجانبين. قوله: (وقيل: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ}: إلا المجتنبين أخلاء السوء): فالتعريف في {الْأَخِلَّاءُ} على هذا: للجنس، والاستثناء متصل، وعلى الأول: المراد بالأخلاء: المتخالين في غير ذات الله، لقوله: "كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله"، والاستثناء منقطع، ولذلك قال: "إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية". وفي "الحقائق" عن ابن عطاء: كل وصلة وأخوة منقطعة إلا ما كان في الله ولله، فإنه كل وقت في زيادة، لأن الله تعالى يقول: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، أي: في انقطاع وبغضة، {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فإنهم في راحة آخرتهم يرون فضل الله وثوابه. قوله: (يا عبادي): حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ، يوافقه ما روى أبو داود عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله أن وجوههم كنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] ". ?

و {الَّذِينَ آمَنُوا} منصوب المحل صفة لـ"عباد"، لأنه منادى مضاف، أي: الذين صدّقوا {بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ} مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل: إذا بعث الله الناس فزع كل أحد، فينادي مناد: يا عبادي، فيرجوها الناس كلهم، ثم يتبعها: الذين آمنوا، فييأس الناس منها غير المسلمين. وقرئ: {يَا عِبَادِ}. {تُحْبَرُونَ} تسرون سرورًا يظهر حباره -أي: أثره- على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]، وقال الزجاج: تكرمون إكرامًا يبالغ فيه. والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب: الكوز لا عروة له، {وَفِيها} الضمير للجنة، وقرئ: "تشتهي" و {تَشْتَهِيهِ}، وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا بعث الله الناس) إلى قوله: (ثم يتبعها: الذين آمنوا): يريد: أن قوله: "يا عبادي" عام أن يخصص بالآية السابقة فالمراد المتحابون في الله، أو باللاحقة فالمراد الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، على إرادة المدح أو الاختصاص، أي: اذكر من لا يخفى شأنهم، وهم الذين آمنوا وأسلموا. قوله: (فير جوها): قيل: أي: الإضافة. قوله: (وقرئ: {يَا عِبَادِ}): حفص وحمزة والكسائي. قوله: (وهذا حصر لأنواع النعم): قال الواحدي: "يقال: لذذت الشيء ألذة، مثل: استلذذته، والمعنى: ما من شيء تشتهيه نفس، أو تستلذ به عين، إلا وهو في الجنة، وقد ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبر الله تعالى بهذين اللفظين عن جميع نعم أهل الجنة، فإنه ما من نعمة إلا وهي تصيب النفس أو العين". وقد أجاد صاحب "التيسير" حيث قال: قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ}: دل على الأطعمة، وقوله: {وأَكْوَابٍ} على الأشربة، وقوله: {وفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وتَلَذُّ الأَعْيُنُ} على أن في الجنة وراءهما من أصناف النعم شيئًا آخر. وقلت: وعلى هذا: لا يبعد أن يحمل قوله: {وفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} على المنكح والملبس وما يتصل بهما؛ لتتكامل جميع المشتهيات النفسانية، فبقيت اللذة الكبرى، وهي النظر إلى وجه الله الكريم، فيكنى عنه بقوله: {وتَلَذُّ الأَعْيُنُ}، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبب إلى الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، رواه النسائي عن أنس. وقال قيس بن الملوح: ولقد هممت بقتلها من حبها .... كي ما تكون خصيمتي في المحشر حتى يطول على الصراط وقوفنا .... وتلذ عيني من لذيذ المنظر ثم وافق هذا التأويل كلام جعفر الصادق رضي الله عنه: "شتان بين ما تشتهي الأنفس، وبين ما تلذ الأعين"، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين: كإصبع يغمس في البحر، لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية، لأنها مخلوقة، ولا تلذ الأعين في الدار الباقية، إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز، ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية في الحقائق. وقال القاضي في قوله: {وأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ما معناه: "أن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ لخوف الزوال، ومستعقب للتحسر في ثاني الحال، وقد أمن ذلك نعيم الجنة".

{وَتِلْكَ} إشارة إلى الجنة المذكورة، وهي مبتدأ، و {الْجَنَّةُ} خبر، و {الَّتِي أُورِثْتُمُوها} صفة الجنة، أو: {الجَنَّةُ} صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة، و {التِي أُورِثْتُمُوهَا} خبر المبتدأ، أو: {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}: صفة، و {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الخبر، والباء تتعلق بمحذوف، كما في الظروف التي تقع أخبارًا، وفي الوجه الأول تتعلق بـ {أُورِثْتُمُوهَا}، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ: "ورّثتموها". {مِنْها تَاكُلُونَ}: "من" للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبدًا موقرة بها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف، في قوله: {وأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لتقف على ما لا يكتنهه الوصف، قال النصر آبادي" أن كان خلودهم لشهوة النفوس ولذة الأعين، فالفناء خير من ذلك، وإن كان لفناء الأوصاف، والاتصاف بصفة الحق، والمقام فيها سرور الرضا والمشاهدة، فأنتم إذن أنتم. قوله: (وشبهت في بقائها): يعني: استعير لاستحقاقهم الجنة بسبب أعمالهم "الميراث" على رأيه، أو لإفضال الله إياها بواسطة أعمالهم: "الميراث"، ويجوز أن يقال: أورثتموها بواسطة الأعمال التي فنيت، فإن الجزاء كالميراث من الأعمال. قوله: (موقرة): أوقرت النخلة؛ أي: كثر حملها، يقال: نخلة موقرة، وموقر، وموقرة، وحكي: موقر، وهو غير القياس.

لا ترى شجرة عريانة من ثمرها، كما في الدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها». [{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ * لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} 74 - 78] {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى: إذا سكنت عنه قليلًا ونقص حرّها، والمبلس: اليائس الساكت سكوت يأس من فرج. وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يردم عليه، فيبقى فيه خالدًا، لا يرى ولا يرى. و{هُمْ} فصل عند البصريين، عماد عند الكوفيين. وقرئ: "وهم فيها"، أي: في النار. وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما: "يا مال"، بحذف الكاف للترخيم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم يردم): الجوهري: "ردمت الثلمة أردمها- بالكسر- ردمًا: إذا سددتها". قوله: ({هُمْ} فصل عند البصريين): قال الزجاج: "وهي عند البصريين تأتي دليلًا على أن ما بعدها ليس بصفة لما قبلها، بل هو خبر، ولا موضع لها من الإعراب، ويزعمون أنها بمنزلة "ما" في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] ". قوله: (وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما: "يا مال" بحذف الكاف للترخيم): روى البخاري ومسلم الترمذي وأبو داود عن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {ونَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إنَّكُم مَّاكِثُونَ}، قال سفيان: وفي قراءة عبد الله: "ونادوا يا مال".

كقول القائل: والحق يا مال غير ما تصف وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: "ونادوا يا مال"، فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم. وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه. وقرأ أبو السرار الغنوي: "يا مال"، بالرفع، كما يقال: يا حار. {لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} من: قضى عليه: إذا أماته، {فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جني: "وللترخيم في هذا الموضع سر، وذلك أنهم- لعظم ما هم عليه- خفيت قواهم، وذلت أنفسهم، وصغر كلامهم، فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة". وقلت: هذا اعتذار منه لقراءة ابن مسعود حيث ردها ابن عباس بقوله: "ما أشغل أهل النار عن الترخيم"، فإن "ما" للتعجب، وفيه معنى الصد، مثاله قولك لمن كان في شدة واشتغل عنها بما لا يلائمه: ما أشغلك عن هذا وصدك ما أنت فيها. وخلاصة اعتذار ابن جني أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم من التكليف، بل عن العجز وضيق المجال. قوله: (والحق- يا مال- غير ما تصف): أوله: [خالفت في الرأي كل ذي فجر]

فإن قلت: كيف قال: {وَنادَوْا يا مالِكُ} بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت: تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتًا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج لهم، ويغوّثون أوقاتًا لشدّة ما بهم. {ماكِثُونَ} لابثون، وفيه استهزاء، والمراد: خالدون. عن ابن عباس: إنما يجيبهم بعد ألف سنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكًا، فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربك». {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ} كلام الله عز وجل، بدليل قراءة من قرأ: "لقد جئتكم"، ويجب أن يكون في {قَالَ} ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكًا أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم، أجابهم الله بذلك. {كارِهُونَ} لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه، لأنّ مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب. [{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 79 - 80] {أَمْ} أبرم مشركو مكة {أَمْرًا} من كيدهم، ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويغوثون): أي: يقولون: واغوثاه. قوله: (وفيه استهزاء): أي: في قول مالك: {مَاكِثُونَ}، لأن حقه: "خالدون"، لأن المكث من الانتظار، ولا انتظارهم، يعلم من "الصحاح". قوله: ({أَمْ} أبرم مشركو مكة {أَمْرًا})، الراغب: "الإبرام: إحكام الأمر، وأصله من إبرام الحبل، وهو ترديد فتله، والبريم: المبرم، أي: المفتول فتلًا محكمًا، والمبرم: الملح؛ تشبيها له بمبرم الحبل، ومن هذا قيل للبخيل الذي لا يدخل في الميسر: برم، كما يقال للبخيل: مغلول اليد".

{فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنا كما أبرموا كيدهم، كقوله: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42]؟ وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت: السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم. {بَلى} نسمعهما ونطلع عليهما، {وَرُسُلُنا} يريد الحفظة عندهم {يَكْتُبُونَ} ذلك. وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق. [{قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ * سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 81 - 82] {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ} وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها، {فَأَنَا أَوَّلُ} من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالًا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيهما، على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره: أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقًا للكفر في القلوب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكانوا يتنادون): الجوهري: "تنادوا؛ أي: تجالسوا في النادي، والندي: فعيل؛ مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى". قوله: (أن يقول العدلي للمجبر: أن كان الله خالقًا للكفر) إلى آخره: الانتصاف: "لقد اقتحم عظيمًا في تمثيله، فيقال له: وقد ثبت عقلًا وشرعًا أنه خالق لذلك في القلوب، وفاء بأنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا خالق إلا هو، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16، الزمر: 62]، فيلزمه لفرط أدبه أن يلحد في الله إلحادًا لم يسبق إليه أحد". وقيل: قوله هذا يضاهي قول الكفرة: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، فهلا قال- عفا الله عنه-: أن كان الله عز وجل خالقًا للكفر في القلوب، ومعذبًا عليه، فهو الحاكم، له الملك، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وقلت: بل نقول: أن كان الله خالقًا للكفر فأنا أول من أستجير به منه، وأتبع سنة نبينا صلوات الله عليها، على ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك". وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وأسلوب الآية قريب من المشاكلة وإطباق الجواب على السؤال؛ فإنهم لما قالوا: اتخذ الرحمن ولدًا، حسن منه صلوات الله عليه أن يقول: {إن كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ}،

ومعذبًا عليه عذابًا سرمدًا، فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله. فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه: نفي أن يكون الله تعالى خالقًا للكفر، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب، وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته، والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج -حين قال له-: أما والله لأبدلنك بالدنيا نارًا تلظى-: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهًا غيرك. وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك قول سعيد جبير للحجاج، قال القاضي: " {إن كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} أي: منكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله، وبما يصح له، وما لا يصح له، وأولى بتعظيم ما يجب تعظيمه، ومن تعظيم الوالد تعظيم الولد، ولا يلزم صحة ثبوت الولد؛ إذ المحال يستلزم المحال، والمراد نفيه على أبلغ الوجوه، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، غير أن "لو" ثم تشعر بانتفاء الطرفين، و "إن" هاهنا لا تشعر بانتفاء الطرفين ولا بنقيضه، فإنها لمجرد الشرطية، وفيه: أن إنكاره للولد ليس لعناد، بل لنظر واستدلال". قوله: (وقيل: أن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد): المثال أقرب إلى المثال الذي ذكره، وبنى قاعدة الاعتزال عليه من الوجه الأول، فصح. المثال اللائق هو ما قدرناه: أن كان الله خالقًا للكفر، فأنا أول من أستجير به.

من عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم: "العبدين". وقيل: هي "إن" النافية، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد، وروي: أنّ النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله، فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني، فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول الموحدين من أهل مكة؛ أن لا ولد له. وقرئ: "ولد" بضم الواو. ثم نزه ذاته -موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش- عن اتخاذ الولد، ليدل على أنه من صفة الأجسام، ولو كان جسمًا لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره. [{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} 83] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم، {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ} وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، وإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول، وخذلان لهم، وتخلية بينهم وبين الشيطان، كقوله: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وإيعاد بالشقاء في العاقبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وقرأ بعضهم: "العبدين"): قال ابن جني: "وهي قراءة عبد الرحمن اليماني، معناه: أول الأنفين، يقال: عبدت من الأمر أعبد عبدًا: أنفت منه، وهذا يشهد لقوله من قال: معنى: {أَوَّلُ العَابِدِينَ}: الأنفين". قوله: (وقرئ: "ولد" بضم الواو): حمزة والكسائي. قوله: (ولو كان جسمًا لم يقدر على خلق هذا العالم): مضى بيانه في "الأنعام" عند قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إني يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101].

[{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 84 - 85] ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله: {فِي السَّماءِ} {وَفِي الْأَرْضِ} كما تقول: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت: هو جواد في طيء جواد في تغلب. وقرئ: "وهو الذي في السماء الله، وفي الأرض الله"، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك، والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا، وزاده طولًا أنّ المعطوف داخل في حيز الصلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ضمن اسمه تعالى معنى وصف، ولذلك علق به الظرف): قال أبو البقاء: "صلة "الذي"لا يكون إلا جملة، والتقدير: "وهو الذي هو إله في السماء، و {فِي} متعلقة بـ {إِلَهٌ}، أي: هو معبود في السماء ومعبود في الأرض، ولا يصح أن يجعل {إِلَهٌ} مبتدأ، و {فِي السَّمَاءِ} خبره؛ لأنه لا يبقى في الصلة عائد، وهو كقولك: هو الذي قي الدار زيد، وكذلك أن رفعت {إِلَهٌ} بالظرف". قوله: (والراجع إلى الموصول محذوف)، الانتصاف: "ومما سهل حذف الراجع: وقوع الموصول خبرًا عن مضمر، لو ظهر الراجع لكان كالتكرار المستكره، إذ التقدير: وهو الذي هو إله في السماء، ولا ينكر أن الراجع إذا حذف كان الكلام أخف، وإنما حذف على قلة حذف مثله لأمر متأكد، فإنه لم يرد في الكتاب العزيز إلا في {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]، وفي "أي" في موضعين.

ويحتمل أن يكون {فِي السَّماءِ} صلة {الَّذِي}، و {إِلَهٌ} خبر مبتدأ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة، وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفي الآلهة التي كانت تعبد في الأرض. {تُرْجَعُونَ} قرئ بضم التاء وفتحها، و"يرجعون" بياء مضمومة، وقرئ: "تحشرون"، بالتاء. [{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 86 - 87] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويحتمل أن يكون {فِي السَّمَاءِ} صلة {الَّذِي}، {إِلَهٌ} خبر مبتدأ محذوف، على أن الجملة بيان للصلة): قال أبو البقاء: "إن جعلت في الظرف ضميرًا يرجع على {الَّذِي}، وأبدلت {إِلَهٌ} منه، جاز على ضعف، لأن الغرض الكلي إثبات الإلهية، لا كونه في السماوات والأرض، وكان يفسد أيضًا من وجه آخر، وهو قوله: {وفِي الأَرْضِ إلَهٌ}، لأنه معطوف على ما قبله، وإذا لم تقدر ما ذكرنا صار منقطعًا عنه، وكان المعنى: أن في الأرض إلهًا". ورد هذا الوجه صاحب "الكشف" فقال: "إن جعلته بدلًا منه، أو من {الَّذِي}، فذلك يوجب البدل قبل تمام الموصول بالصلة، ألا ترى إلى: أن "في الأرض إله" معطوف على {فِي السَّمَاءِ}، فهو في الصلة". قوله: (قرئ بضم التاء وفتحها): ابن كثير وحمزة والكسائي: "يرجعون" بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء، مضمومتين.

{وَلَا يَمْلِكُ} آلهتهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ} من دون الله الشفاعة، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، ولكن {مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} - وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص-: هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلًا، لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله: الملائكة. وقرئ: "تدعون" بالتاء، و"تدّعون" بالتاء وتشديد الدال. [{وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 88 - 89] {وَقِيلِهِ} قرئ بالحركات الثلاث، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وقيله: وعنه- أي: عن الأخفش- وقال قيله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وقِيلِهِ} [قرئ] بالحركات الثلاث): حمزة وعاصم: بخفض اللام وكسر الهاء، والباقون: بنصب اللام وضم الهاء، وضم اللام: شاذ. قوله: (وعنه -أي: عن الأخفش- وقال قيله): أي: هو مصدر لفعل محذوف، أيك وقال الرسول صلى الله عليه وسلم قيلًا، وفي "الكواشي": "والقيل والقول والقال: واحد". وقلت: يمكن أن يقال: إنه تعالى يحكي عن حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: إنه آيس عن إيمانهم عند سماع قولنا له: {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقال قولًا، وهو: {يَا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ}، وينصر هذا التأويل ترتب قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ}، لأنه أمر بالمتاركة والإعراض الكلي، وقوله أيضًا: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، فإنه وعيد لهم، ووعد له صلوات الله عليه في أنه تعالى ينتقم لك منهم، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وإليه الإشارة بقوله: "فأعرض عن دعوتهم يائسًا عن إيمانهم، وودعهم، وتاركهم" إلى قوله: " {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد للكفار، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ".

وعطفه الزجاج على محل {السَّاعَةِ} [الزخرف: 85]، كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرًا، وحمل الجرّ على لفظ {السَّاعَةِ}، والرفع على الابتداء، والخبر ما بعده، وجوّز عطفه على {عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف: 85]، على تقدير حذف المضاف، معناه: عنده علم الساعة وعلم قيله. والذي قالوه ليس بقوي في المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضًا، ومع تنافر النظم، وأقوى من ذلك وأوجه: أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي هذا التقريب التفات في غاية من اللطف، لأن أصل المعنى: وقلنا لك: {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} الآية، وقلت: {يَا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ}، وقلنا لك: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} فإنا ننتقم منهم. فعدل إلى الغيبة، فقال: وقال قيلًا؛ ليؤذن بأن ذلك القول إنما صدر عنه من اليأس التام، فكأنه كان غائبًا عن نفسه متحسرًا عليهم وإيمانهم وفوات سعيه فيهم. وقريب من هذا التقرير: توجيهه على القسم؛ لأن إتيان المصدر لتعظيم المقول، أي: قال قوله الذي فيه فخامة وشأن، ثم فسره بقوله: {يَا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} المؤذن بالإقناط الكلي المستلزم لاستئصال القوم، وتطهير الأرض من أنجاس إفسادهم، ولإصلاح المؤمنين، وإظهار دين الحق، كقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]، فحقيق بأن يقسم بهذا الدعاء وأن يكون مظنة للتفخيم والتعظيم، وإليه الإشارة بقوله: "وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه". قوله: (وعطفه الزجاج على محل {السَّاعَةَ}): كما تقول: عجبت من ضرب زيد عمرًا، عطفًا على المحل، تقديره: عجبت من ضرب زيدًا وعمرًا، قال الزجاج: "والذي أختاره أنا أن يكون نصبًا على معنى: {وعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ويعلم قيله، لن معنى: {وعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}: يعلم الساعة ويعلم قيله، ومعنى "الساعة" في القرآن: الوقت الذي تقوم فيه القيامة".

ولعمرك، ويكون قوله: {إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم، كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب، أو: وقيله -يا رب- قسمي، إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} فأعرض عن دعوتهم يائسًا من إيمانهم، وودعهم وتاركهم، {وَقُلْ} لهم {سَلامٌ} أي: تسلم منكم ومتاركة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. والضمير في {وَقِيلِهِ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، ادخلوا الجنة بغير حساب». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَقُلْ} لهم {سَلَامٌ} أي: تسلم منكم ومتاركة): قال مكي: "تقديره: قل: أمري مسالمة منكم، ولم يؤمر بالسلام عليهم، وإنما أمر بالتبري منهم ومن دينهم". تمت السورة بحمد الله وعونه مصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الدخان

سورة الدخان مكية، إلا قوله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} الآية وهي سبع وخمسون آية، وقيل: تسع وخمسون بسم الله الرحمن الرحيم [{حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} 1 - 8] الواو في {وَالْكِتابِ} واو القسم، إن جعلت {حم} تعديدًا للحروف، أو اسمًا للسورة مرفوعًا على خبر الابتداء المحذوف، وواو العطف؛ إن كانت {حم} مقسمًا بها. وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} جواب القسم، والكتاب المبين: القرآن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الدخان مكية، وهي سبع وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ({إنَّا أَنزَلْنَاهُ} جواب القسم): قال صاحب "الكشف": جواب القسم {إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، دون قوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ}، لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه، لأن القسم تأكيد

والليلة المباركة: ليلة القدر، وقيل: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة، وقيل في تسميتها: ليلة البراءة والصكّ: أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خبر بخبر آخر، فقوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ} اعتراض بين القسم وجوابه. وقال أبو البقاء: "الجواب {إنَّا أَنزَلْنَاهُ}، و {إنَّا كُنَّا} مستأنف، وقيل: هو جواب آخر من غير عاطف". والجواب عن قول صاحب "الكشف": "لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه": أنه من باب قول الشاعر: وثناياك إنها إغريض كما سبق في "الزخرف". قوله: (البندار): معرب، وما وجدت له ذكرًا سوى في الحاشية: "البندار: من في يده القانون، وهو أصل الخراج"، ثم وجدت في "كتاب ابن الصلاح" في معرفة الحديث: "البندار: من يكون مكثرًا من شيء يشتريه منه من هو دونه، ثم يبيعه، قاله السمعاني- ووجدته بخطه-، وبندار: لقب به محمد بن بشار البصري، روى عنه البخاري ومسلم، قال ابن الفلكي: إنما لقب بهذا لأنه كان بندار الحديث".

وقيل: هي مختصة بخمس خصال: تفريق كل أمر حكيم، وفضيلة العبادة فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك؛ ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنون من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في هذه الليلة") إلى أخره: ما ورد فيما يعتمد عليه من هذا المعنى في الأصول سوى ما رواه ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتلى فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر". ?

ونزول الرحمة، قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بنى كلب». وحصول المغفرة، قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن، أو ساحر، أو مشاحن، أو مدمن خمر، أو عاق للوالدين، أو مصرّ على الزنى». وما أعطي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة) الحديث: من رواية الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب". قوله: (إن الله يغفر لجميع المسلمين): روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلا اثنين؛ مشاحن وقاتل نفس". قوله: (مشاحن): النهاية: "المشاحن: المعادي، والشحناء: العداوة، وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن هاهنا: صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة". قوله: (وما أعطي فيها من تمام الشفاعة): عطف على قوله: "تفريق كل أمر حكيم"، وهي خامسة الخصال التي اختصت هذه الليلة بها. ?

الثالث عشر من شعبان في أمّته، فأعطي الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع، إلا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة: أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة. والقول الأكثر: أنّ المراد بالليلة المباركة: ليلة القدر، لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، ولمطابقة قوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} لقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 - 5]، وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. فإن قلت: ما معى إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت: قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى سماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر، وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجومًا نجومًا. فإن قلت: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قالوا: أنزل جملةً واحدة): روى محيي السنة عن قتادة وابن زيد: "هي ليلة القدر، أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجومًا في عشرين سنة". قوله: (ملفوفتان): وهو نوع غريب من اللف والنشر، لف أولًا في قوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} معنيين: إنزال القرآن، واختصاصه بليلة مباركة، ثم علل المعنى الأول بقوله: {إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، والمعنى الثاني بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، ولما كان المعنى الثاني ?

الذي هو قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ}، كأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصًا؛ لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. والمباركة: الكثيرة الخير؛ لما يتيح الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. ومعنى {يُفْرَقُ} يفصل ويكتب، {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، منها إلى الأخرى القابلة. وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخه الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معتنقًا بالأول غير مستقل بنفسه- كما عليه النشر المتعارف، لأنه لا يتم إلا بأن يقال: إنما خصص إنزاله بهذه الليلة لأنه من الأمور المحكمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم، فناسب إنزاله فيها- قال: "جملتان مستأنفتان ملفوفتان"، وأعجب بنشر فيه لف. قوله: {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} من أرزاق العباد): روى محيي السنة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى أن الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرج اسمه في الموتى". ?

فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ: "يُفْرَقُ" بالتشديد، "ويُفْرَقُ كل" على بنائه للفاعل ونصب "كل"، والفارق: الله عزّ وجلّ، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه: "نفرق" بالنون. كل أمر حكيم: كل شأن ذي حكمة، أي: مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي؛ لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز. {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا} نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلًا فخمًا بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا، كائنًا من لدنا، وكما اقتضاء علمنا وتدبيرنا. ويجوز أن يراد به: الأمر الذي هو ضد النهي، ثم إما أن يوضع موضع "فرقانًا" الذي هو مصدر {يُفْرَقُ}، لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيلقى على السنة الخلق مدحه): وهو من قوله صلوات الله عليه: "إذا أحب الله العبد، نادى جبريل: أن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. قوله: (وهو من الإسناد المجازي): قال الإمام: "الحكيم: ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل والسعادة والشقاوة في هذه الليلة: يدل على حكمة بالغة"، فأسند إلى الليلة، كقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]. ?

من حيث إنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه، أو يكون حالًا من أحد الضميرين في {أَنْزَلْنَاهُ}؛ إما من ضمير الفاعل، أي: أنزلناه آمرين أمرًا، أو من ضمير المفعول، أي: أنزلناه في حال كونه أمرًا من عندنا بما يجب أن يفعل. فإن قلت: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون بدلًا من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}، {ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مفعولًا له، على معنى: إنا أنزلنا القرآن؛ لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، وأن يكون تعليلًا لـ {يُفْرَقُ}، أو لقوله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا}، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من حيث إنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به): يعني: أن معنى {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: يفصل ويكتب كل أمر مفعول على مقتضى الحكمة، كما هو معنى "الأمر" الذي هو ضد "النهي"، لأنه تعالى إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أوجبه، فكان معنى قوله: {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} معنى قوله: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}، وكان من حق الظاهر- لقوله: "أن يوضع موضع فرقانًا"- أن يقال: أن قوله: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا} بمعنى: يفرق ويفصل ويكتب، لأن أمره النازل من عنده سبحانه وتعالى لا يكون إلا فصلًا وفرقانًا، لكن لما قال: "معنى الأمر والفرقان واحد"، جعل الأول بمعنى الثاني؛ لاتحادهما في المعنى. وإنما سلك هذا المسلك ليجمع بين قولي الزجاج حيث قال: "ويجوز أن يكون منصوبًا بـ {يُفْرَقُ}، أي: يفرق فرقانًا، لأن {أَمْرًا} بمعنى "فرقانًا"، أو المعنى: يؤتمر فيها أمر قال أبو البقاء: "أمرنا أمرًا، دل على هذا ما اشتمل عليه الكتاب من الأوامر، و {مِّنْ عِندِنَا}: إما صفة لـ"أمر" أو أن يتعلق بـ {يُفْرَقُ} ". قوله: (تعليلًا لـ {يُفْرَقُ} أو لقوله: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}): هذا جمع، وقوله: "أي: يفصل ?

و {رَحْمَةً} مفعولًا به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في هذه الليلة كل أمر"، وقوله: "أو تصدر الأوامر من عندنا": تقسيم، وقوله: "لأن من عادتنا" إلى آخره، وقوله: "وكذلك الأوامر الصادرة": تفريق. قوله: (و {رَحْمَةً} مفعولًا به): أي إذا كان {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} تعليلًا لـ {يُفْرَقُ}، أو لقوله: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}، يكون {رَحْمَةً} مفعولًا به لـ {مُرْسِلِينَ}، قال أبو البقاء: " {رَحْمَةً} مفعول {مُرْسِلِينَ}، ويراد بها النبي صلى الله عليه وسلم ". فإن قلت: هل الاختصاص كونه مفعولًا له في الأول، ومفعولًا به في الثاني، من عائده؟ قلت: أجل، لأن المبدل مطلق، فالمناسب أن يكون البدل كذلك، أعني: {مُنذِرِينَ} و {مُرْسِلِينَ}، وهو من بدل الكل؛ لأن الإنذار والإرسال يقتضيان المنذر والمرسل، وهو عبارة عن المختار المبعوث إلى الخلق للإرشاد، ولا يستقيم أن يقال: إنا كنا منذرين رحمة، إلا أن يكون مفعولًا له. وأما التعليل: فإنه إما أن يكون لـ {يُفْرَقُ}، ولا شك أن تفريق كل أمر حكيم أمر عظيم يحتاج إلى أن يعلل بإرسال رحمة للعالمين، وإما أن يكون تعليلًا لـ {أَمْرًا}، فهو أولى منه، إذ ?

وقد وصف الرحمة بالإرسال، كما وصفها به في قوله: {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، أي: يفصل في هذه الليلة كل أمر، أو تصدر الأوامر من عندنا؛ لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقدير حينئذ: أعني بهذا الأمر أمرًا كائنًا من لدنا، ويليق بجلالنا وكبريائنا، ولا يحسن أن يقال: أن {أَمْرًا} على هذا مفعول مطلق، بل منصوبًا على الاختصاص معللًا بقوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}؛ ليستقل بالتعليل. قوله: (وصف الرحمة بالإرسال): أي: أوقع الإرسال على الرحمة، وجعلت مفعولًا به، كما أوقع الإمساك عليه في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، فعلم من هذه الدقيقة: أن الفعل وصف للفاعل وللمفعول به، وكذلك يقال في قولنا: "ضرب زيد عمرًا": أن زيدًا ضارب، وعمرًا مضروب. فإن قلت: ذكر أن قوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}: إما بدل من قوله: {إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أو تعليل لـ {يُفْرَقُ}، أو لقوله: {أَمْرًا}، فأي الوجهين هو المختار؟ قلت- والمعلم عند الله-: الثاني؛ لأن الجمل كلها حينئذ واردة على التعليل المتداخل، كما يفهم من كلامه، فكأنه لما قيل: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فقيل: لم؟ فأجيب: لأنه من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لم خصص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المحكمة، ومن شأن هذه الليلة أن يفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لم كان من الأمور المحكمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال رحمة للعالمين، ومن حق المنزل عليه أن يكون حكيمًا؛ لكونه للعالمين نذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فقيل: لماذا رحمهم الرب عز وجل بذلك؟ فأجيب: لأنه سبحانه وتعالى هو وحده سميع عليم، يعلم جزئيات أحوال عباده وكلياتها، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وآخرة، وهو وحده رب السماوات والأرض، يربيهم ويرزقهم ويمنحهم مرافقهم، وهو وحده يحييهم ويميتهم، ويثيبهم ويعاقبهم، وإليه الإشارة بقوله: {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وما بعده تحقيق لروبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه. ?

وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها: من باب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا، لأنّ الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع، والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع الضمير؛ إيذانًا بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين. وفي قراءة زيد بن على: "أمر من عندنا"، على: هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن: "رحمة من ربك"، على: تلك رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وما بعده: تحقيق لربوبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه، وقرئ: "رب السماوات" "ربكم ورب آبائكم" بالجر، بدلًا من {ربك}. فإن قلت: ما معنى الشرط الذي هو قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}؟ قلت: كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربًا وخالقًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على: تلك رحمة من ربك): وهي تنصر انتصابها مفعولًا له، وقال صاحب "التقريب": إذ لو كانت مفعولًا به لدل اللفظ على أن المرسل رحمة، لا الإرسال، وفيه نظر. وقلت: كلام المصنف لا يشعر بذلك، بل فيه: أن {رَحْمَةً} إذا قطعت وجعلت جملة مستأنفةً تعينت لبيان الموجب للإرسال. قوله: (كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربًا): هذا الفصل إلى آخره فيه بيان للإشارات والتلويحات التي تضمنت الآيات؛ بدأ الله سبحانه وتعالى بتعظيم الألوهية، وتعظيم كتابه الحكيم، ورسوله الكريم، حيث أتى بالصيغة المنبهة على الجلال والكبرياء، وهي: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ} إلى قوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، ثم خص الخطاب برسوله صلوات الله عليه، والمراد ?

فقيل لهم: إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به، ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، إن كان إقراركم عن علم وإيقان، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العموم، وأن الأصل: {مِنء رَبِّكُمْ}، وإليه الإشارة بقوله: "فقيل لهم: أن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب"، فوضع "الرب" موضع "منا"؛ ليؤذن بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربين، وليكون تمهيدًا ينبني عليه التعليل المتضمن للتعريض؛ بتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، للإشعار بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئًا، وإلى التعليل والتعريض أشار بقوله: {إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وما بعده تحقيق لربوبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه، وفي تخصيص {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إدماج لمعنى التهديد والوعيد للكفار، والوعد للمؤمنين الذين تلقوا هذه النعمة بأنواع الشكر. ثم نبه الكفار عن سنة الغفلة والتقاعد عن موجبات الشكر، فرجع إليهم من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، موبخًا بما اشتهر عندهم من الوصف الذي لا بد لهم أن يقروا به، فأبدل من {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، يعني: هذا المذكور من إنزال الكتب وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة وإنعام ممن تقرون به، وتقولون: إنه خالق السماوات والأرض وما بينهما، فما هذا التهاون، فاقبلوها واغتنموا الفرصة أن كنتم تدعون الإيقان. وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله: "إن بلغك حديثه"؛ لأن ذلك مشهور عنده، ولم يكن الإعلام إلا للتنبيه على التهاون؛ ليقام الشكر على إنعامه، والشرط يقتضي ذلك، لأنه من باب قول العامل: أن كنت عملت فأعطني حقي. ?

واشتهروا سخاؤه، إن بلغك حديثه وحدثت بقصته. [{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 9 - 12] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم ألزمهم بعد هذا التقرير البليغ كلمة التقوى، وهي {لا إلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ}، ثم خص التربية بهم وبأسلافهم جاريًا على سنن الخطاب {رَبُّكُمْ ورَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}، ومقررًا لمزيد توخي شكر تلك الرحمة السنية، وهذه النعمة الجليلة. ثم لفرط عنادهم وعدم إيقانهم التفت من الخطاب في قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}، فبعدهم وطردهم؛ إيذانًا بأنهم مع إيقانهم ذلك منزلون منزلة الشاكين، حيث لم يعملوا بموجبه، وخلطوا مع اليقين الهزء واللعب، كما قال: " قول مخلوط بهزء ولعب". ثم التفت إلى حبيبه صلوات الله عليه مسليًا له وإقناطًا من إيمانهم، بقوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}، فقابل إنزال الكتاب بإنزال العقاب من السماء، يعني: إنزال الكتاب رحمة لهم، وحين أعرضوا عنه انتظر إنزال العذاب، وأسند"العذاب" إلى "السماء"، وإن كان هو الفاعل حقيقة؛ ليكون على وزان قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، والله أعلم بأسرار كلامه. قوله: (إن بلغك حديثه): عن بعضهم: فائدة قوله: "إن بلغك حديثه": التنبيه للمخاطب أن من حقك أن تكون عالمًا به، ولا تكون غافلًا عن مثله، فتغتر به، فإنه من أمر عظيم، فكذلك الشرط في الآية، ويراد تعيير المخاطب على الغفلة عنه. ويروى: "واشتهروا سخاءه" بالنصب؛ لأن"اشتهر" يستعمل لازمًا ومتعديًا. ?

ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}، وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن، ولا عن جدّ وحقيقة، بل قول مخلوط بهزء ولعب. {يَوْمَ تَاتِي السَّماءُ} مفعول به مرتقب، يقال: رقبته وارتقبته، نحو: نظرته وانتظرته. واختلف في الدخان: فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبه أخذ الحسن: أنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، يدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أو قد فيه، ليس فيه خصاص. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل الآيات: الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر»، قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمّة، وأما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». وعن ابن مسعود رضي الله عنه: خمس قد مضت: الروم، والدخان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس فيه خصاص): النهاية: "الخصاص: الفرج والأنقاب". قوله: (أبين): بكسر الهمزة وفتحها، وهو اسم رجل بنى هذه المدينة، والمشهور الفتح، و "عدن": غير منصرف. قوله: (خمس قد مضت)، وقوله: (إن قاصًا عند أبواب كندة): الحديث مع تغيير في الألفاظ والمعاني أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن مسروق، وعنه قال: "كنا جلوسًا عند عبد الله بن مسعود، وهو مضطجع، فأتاه رجل"، الحديث. ?

والقمر، والبطشة، واللزام. ويروى أنه قيل لابن مسعود: إن قاصًا عند أبواب كندة يقول: إنه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأنفاس الخلق، فقال: من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: الله أعلم، ثم قال: ألا وسأحدّثكم، أنّ قريشًا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، فأصابهم الجهد، حتى أكلوا الجيف والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل، فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم. {بِدُخانٍ مُبِينٍ} ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان. {يَغْشَى النَّاسَ} يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة لـ"دخان". و {هَذَا عَذابٌ} إلى قوله: {مُؤْمِنُونَ} منصوب المحل بفعل مضمر، وهو: يقولون، و"يقولون" منصوب على الحال، أي: قائلين ذلك، {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واللزام): اللزام: فسر بأنه يوم بدر، وهو في اللغة: الملازمة للشيء والمداومة عليه. و"اشدد وطأتك على مضر": أي: خذهم أخذًا شديدًا. والوطء في الأصل: الدوس بالقدم، فسمي به في الغزو والقتل، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وإهانته. و"العلهز": شيء يتخذونه في المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل، ثم يشوونه بالنار ويأكلونه، وقيل: كانوا يخلطون فيه القردان، والعلهز: القراد الضخم، وقيل: العلهز: شيء ينبت له أصل كأصل البردي. كله في"النهاية". ?

[{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} 13 - 16] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، {وَقَدْ جاءَهُمْ} ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات؛ من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا، وتولوا عنه، وبهتوه بأن عداسًا -غلامًا أعجميًا لبعض ثقيف- هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون. ثم قال: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} أي: ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم، لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال. فإن قلت: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فسرت اللزام بيوم بدر، وكذا فسره المصنف في آخر الفرقان، ثم لا يخلو أن يراد ب"البطشة الكبرى": يوم القيامة أو يوم بدر، فيلزم من الأول أن البطشة الكبرى مترقبة، ولقد روي في الحديث أنها قد مضت، ومن الثاني أن لا يكون المعدود خمسًا؟ قلت: إذا وصف يوم بدر بأمرين: بأن العذاب كان شديدًا كثيرًا، وأن ذلك العذاب كان ملازمًا للقتلى كما ذكر في القرآن؛ يستقيم المعدود، وأما تفسير "البطشة الكبرى" بيوم القيامة فهو مشكل، اللهم إلا أن يذهب إلى التغليب، أو أن ما هو كائن بمنزلة الكائن، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]. قوله: (فإن قلت: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان): تحرير السؤال والجواب ما ذكر في" التفسير الكبير": "أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ}، ?

قلت: إذا أتت السماء بالدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين، وقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} منيبون، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يومًا، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون. ثم قال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى} يريد: يوم القيامة، كقوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى} [النازعات: 34]، {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. فإن قلت: بم انتصب {يَوْمَ نَبْطِشُ}؟ قلت: بما دل عليه {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام، فإنه نقل: أنه لما اشتد القحط فيها مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم، وواعده- أن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية- أن يؤمنوا، فلما أزاله الله تعالى رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة القيامة لم يصح ذلك، لأن عند ظهور أشراط الساعة لا يمكنهم أن يقولوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ}، ولم يصح أيضًا أن يقال لهم: {إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلًا إنَّكُمْ عَائِدُونَ}. والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريًا مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة، ثم أن الناس يخافون فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملًا استقام قوله: {إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ} مع القول بأن الدخان قبل يوم القيامة، أي: هو من أشراط الساعة". قوله: (تضور المعذبون): الجوهري: "التضور: الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع"، وعن بعضهم: تضور: أي غلب عليهم الضعف، من قولهم: رجل ضورة، أي: ضعيف. قوله: (لا يتمهلون): تمهل في أمر: أي: اتأد، وتمهل: أي: تقدم. ?

وهو "ننتقم"، ولا يصح أن ينتصب بـ {مُنتَقِمُونَ}، لأن «إن» تحجب عن ذلك. وقرئ: "نبطش" بضم الطاء، وقرأ الحسن: "نبطش" بضم النون، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى، أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم. وقيل: {الْبَطْشَةَ الْكُبْرى}: يوم بدر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن "إن" تحجب عن ذلك): قال الزجاج: " {يَوْمَ} لا يجوز أن يكون منصوبًا بقوله: {مُنتَقِمُونَ}؛ لأن ما بعد {إِنَّا} لا يجوز أن يعمل فيما قبله". قال: وصاحب "الكشف" نصبه بقوله: {إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ}. وقلت: لا يساعد عليه قوله: {إنَّكُمْ عَائِدُونَ}، لأن البطشة الكبرى: إما أن تكون يوم القيامة أو يوم بدر، وقد عقب بقوله: {إنَّا مُنتَقِمُونَ}. قوله: (كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا): قال أبو البقاء: "يقال: أبطشته: إذا أمكنته من البطش، أي: نبطش الملائكة"، فعلى هذا: المفعول به محذوف، ويجوز أن تجعل {البَطْشَةَ الكُبْرَى} مفعولًا به على الإسناد المجازي، نحو: جد جده، و {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99]. وقال ابن جني: "وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وطلحة بخلاف، وهذا من: بطش هو، وأبطشته أنا، كقدر وأقدرته، وأما انتصاب {البَطْشَةَ} فبفعل مضمر يدل عليه الظاهر، أي: يوم نبطش من نبطشه، فيبطش البطشة الكبرى، ولك أن تنصب {البَطْشَةَ الكُبْرَى} على أنه مفعول به، كأنه قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم، ونمكنها منهم، كقولك: يوم نسلط القتل عليهم، ونوسع الأخذ منهم". الراغب: "البطش: تناول الشيء بصولة، قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] ". ?

[{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} 17 - 21] وقرئ: "ولقد فتنا"، بالتشديد؛ للتأكيد أو لوقوعه على القوم. ومعنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق، فكان ذلك سببًا في ارتكابهم المعاصي واقترافهم الآثام، أو: ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان، أو: سلبهم ملكهم وأغرقهم. {كَرِيمٌ} على الله وعلى عباده المؤمنين، أو كريم في نفسه، لأنّ الله لم يبعث نبيًا إلا من سراة قومه وكرامهم. {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} هي "أن" المفسرة، لأن مجيء الرسول من بُعِثَ إليهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("فتنا" بالتشديد؛ للتأكيد أو لوقوعه على القوم): يريد: أنه على منوال المبالغة في قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]، أي: "فعل" للتكثير، وهو إما بحسب ذنوبهم العظيمة، يعذبهم عذابًا شديدًا، أو بحسب كثرتهم، لوقوعه على كثيرين، فيوزع فيهم. الراغب: نحوه: قتل الرجل وقتل القوم. قوله: (أو كريم في نفسه): الأساس: "كرم فلان علينا كرامة، وله علينا كرامة، وأكرم نفسه بالتقوى، وأكرمها عن المعاصي، وهو يتكرم عن الشوائن، قال أبو حية: ألم تعلمي أني إذا النفس أشرفت على طمع لم أنس أن أتكرما" وقلت: وعليه قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قوله: (من بعث إليهم): نصب بنزع الخافض، أي: إلى من بعث إليهم. ?

متضمن لمعنى القول، لأنه لا يجيئهم إلا مبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله. أو المخففة من الثقيلة، ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث: أدّوا إلي. {وَعِبادُ الرَّحْمنِ} مفعول به، وهم بنو إسرائيل، يقول: أدوهم إليّ وأرسلوهم معي، كقوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47]، ويجوز أن يكون نداء لهم؛ على: أدوا إليّ -يا عباد الله- ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه {رَسُولٌ أَمِينٌ} غير ظنين، قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته. {وَأَنْ لا تَعْلُوا}: "أن" هذه مثل الأولى في وجهيها، أي: لا تستكبروا، {عَلَى اللَّهِ} بالاستهانة برسوله ووحيه، أو لا تستكبروا على نبيّ الله، {بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} بحجة واضحة. {أَنْ تَرْجُمُونِ} أن تقتلون، وقرئ: "عذت" بالإدغام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو المخففة من الثقيلة): وعن بعضهم: إذا كانت مخففةً من الثقيلة يجب أن تعوض بأحد الحروف الأربعة: النفي، وقد، وسوف، والسين؛ بدلًا مما ذهب منها، وهاهنا ما عوض، ويجب أن تكون" أن" التي معها الفعل في تأويل المصدر؛ لأن جميع الأفعال سواء في هذا الحكم، أمرًا كان أو مضارعًا أو غيرهما. قوله: ({أَمِينٌ} غير ظنين): النهاية: "وفي الحديث: "لا يجوز شهادة ظنين"، أي: متهم في دينه، فعيل بمعنى: مفعول؛ من الظنة: التهمة"، يريد: أن التعليل بقوله: {رَسُولٌ أَمِينٌ} ترشيح لاستعارة {أَدُّوا إلَيَّ} لقبول الدعوة، ومن ثم قال: "أدوا إلى ما هو واجب عليكم". قوله: ("أن" هذه مثل الأولى في وجهيها): أي: في أن تكون مفسرةً أو مخففةً من الثقيلة. قوله: ("عذت" بالإدغام): وهي المشهورة. ?

ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل. {فَاعْتَزِلُونِ} يريد: إن لم تؤمنوا لي، فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن، فتنحوا عني، واقطعوا أسباب الوصلة عني، أو فخلوني كفافًا لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك. [{فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} 22 - 24] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن): يريد: أن قوله: {فَاعْتَزِلُونِ} مسبب عن جواب الشرط، وأقيم مقامه، وإنما عم ولم يقل: فلا موالاة بيني وبينكم؛ ليؤذن بأن هذا دأبه وعادته، وليس مختصًا بهم. الراغب: "الاعتزال: تجنب الشيء؛ عمالةً كانت أو براءةً أو غيرهما، بالبدن كان أو بالقلب، يقال: عزلته وتعزلته فاعتزل، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}: أي: ممنوعون بعد أن كانوا يمكنون، والأعزل: الذي لا رمح معه". قوله: (أو فخلوني كفافًا): عطف على: "فتنحوا عني"، وعلى هذا الوجه: {فَاعْتَزِلُونِ}: كناية عن تركه، وإن لم يوجد الاعتزال بالأبدان. النهاية: "وفي حديث عمر رضي الله عنه: " وددت أني سلمت من الخلافة كفافًا، لا علي ولا لي"؛ الكفاف: هو الذي لا يفضل عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة إليه، وهو نصب على الحال، وقيل: أراد به: مكفوفًا عني شرها، وقيل: معناها: أن لا تنال مني ولا أنال منها، أي: تكف عني وأكف عنها". ?

{أَنَّ هؤُلاءِ} بأن هؤلاء، أي: دعا ربه بذلك. قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك، وهو كونهم مجرمين. وقرئ: "إنّ هؤلاء"، بالكسر؛ على إضمار القول، أي: فدعا ربه فقال: إن هؤلاء. {فَأَسْرِ} قرئ بقطع الهمزة؛ من أسرى، ووصلها؛ من سرى، وفيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء؛ فقال: أسر بعبادي، وأن يكون جواب شرط محذوف، كأنه قيل: قال: إن كان الأمر كما تقول فأسر، {بِعِبادِي} يعني: فأسر ببني إسرائيل، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده، فينجي المتقدمين، ويغرق التابعين. الرهو: فيه وجهان: أحدهما: أنه الساكن، قال الأعشى: يمشين رهوًا فلا الأعجاز خاذلة .... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل): يعني: يجوز أن يكون دعاؤه هذا المذكور، وهو قوله: {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} على تقدير الباء، أي: دعا ربه بأن -يا رب- هؤلاء المشخصون المشاهدون تناهى أمرهم في الكفر غايته، فافعل بهم ما هم أهله، لأن الكافر إذا وصف بالإجرام كان متناهيًا في الكفر. أو يكون الدعاء محذوفًا، والمذكور تعليلًا له، أي: عجل لهم ما يستحقونه؛ لأنهم قوم مجرمون، أو: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، أي: محنةً وبلاءً للقوم الظالمين؛ لأن هؤلاء قوم مجرمون، وإليه أشار بقوله: "وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك"، أي: اكتفى بالسبب عن المسبب لظهوره، فأجاب الله دعاءه، وعزم على إهلاكهم، وقال له عليه السلام: "أسر بعبادي ليلًا". قوله: ({فَأَسْرِ} قرئ بقطع الهمزة): بالوصل: نافع وابن كثير، والباقون: بقطعها. قوله: (يمشين رهوًا) البيت: والضمير في "يمشين" للإبل، "خاذلة": أي: تاركة، خذل ?

أي: مشيًا ساكنًا على هينة، أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه فانفلق، فأمر بأن يتركه ساكنًا على هيئته، قارًّا على حاله؛ من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسًا لا يضربه بعصاه، ولا يغير منه شيئًا، ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. والثاني: أن الرهو الفجوة الواسعة، وعن بعض العرب: أنه رأى جملًا فالجًا، فقال: سبحان الله، رهو بين سنامين. أي: اتركه مفتوحًا على حاله منفرجًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يخذل خذلانًا، وهو تركك نصرة أخيك، يصف نوقًا سالكات أرض الفلاة، أي: يمشين مشيًا على هينة، فلا الأعجاز تخذل قوائمها، ولا الصدور تتكل على أعجازها، أي: لسن بكثيرات اللحم. وبعده: فهن معترضات والحصى رمض .... والريح ساكنة والظل معتدل الراغب: "رهوًا: أي: ساكنًا؛ وقيل: سعة، وهو الصحيح، ومنه: الرهاء: المفازة المستوية، ويقال: لكل جوية مستوية يجتمع فيها الماء: رهو، ومنه قيل: لا شفعة في رهو". قوله: (الفجوة الواسعة): الجوهري: "الفجوة: الفرجة، والمتسع بين الشيئين". قوله: (جملًا فالجًا): الجوهري: "الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين، يحمل من السند للفحلة". ?

{إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} وقرئ بالفتح؛ بمعنى: لأنهم. [{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ} 25 - 27] والمقام الكريم: ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة، وقيل: المنابر. والنعمة: بالفتح: من التنعم، وبالكسر: من الإنعام. وقرئ: {فَاكِهِينَ} و"فكهين". [{كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ * فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ} 28 - 29] {كَذلِكَ} الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها {وَأَوْرَثْناها}، أو في موضع الرفع؛ على الأمر كذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمقام الكريم: ما كان لهم من المجالس): الراغب: "كل شيء يشرف في بابه يوصف بالكرم، قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10]، وقال: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]، إذا وصف الله بالكرم: فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر، كقوله: {إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وإذا وصف به الإنسان: فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه". قوله: (وقرئ: {فَاكِهِينَ}): وهي المشهورة. قوله: (مثل ذلك الإخراج أخر جناهم): المشار إليه: الإخراج، ولم يسبق في اللفظ مصرحًا به، لكن في الكلام ما دل عليه، وهو قوله: {إنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}، وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وعُيُونٍ}، لأنه إنما تكون المتابعة إذا حصل الإخراج، قال أبو البقاء: "و {كَذَلِكَ} الأمر، أي: الأمر كذلك، وقيل: التقدير: تركًا كذلك". ?

قَوْمًا آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله على أيديهم، وأورثهم ملكهم وديارهم. إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه، إلا بكت عليه السماء والأرض»، وقال جرير: تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في تعظيم مهلكه): أي: هلاكه، الجوهري: "هلك الشيء هلاكًا وهلوكًا ومهلكًا وتهلكة، والاسم: الهلك؛ بالضم". قوله: (وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم): روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، وذلك قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ} ". قوله: (تبكي عليك نجوم الليل والقمرا): أوله- في "المطلع"-: الشمس طالعة ليست بكاسفة وقال: رثى جرير عمر بن عبد العزيز، ويروى برفع "النجوم" ونصبها، يعاتب الشمس في طلوعها، وكان من حقها أن يكون كاسفةً باكيةً لفقده، والمعنى على النصب: تبكي عليك بكاء النجوم، فحذف المضاف، والواو بمعنى "مع"، وقيل: أي: ليست بكاسفة نجوم الليل، وقدم "تبكي عليك" بين فعل الشمس ومفعولها، والمعنى: تبكي عليك الشمس، كأنه ?

وقالت الخارجية: أيا شجر الخابور مالك مورقًا .... كأنّك لم تجزع على ابن طريف وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه؛ من بكاء مصلى المؤمن، وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتعجب من الطلوع، وقيل: كان يتهجد فتبكيه النجوم والقمر، ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس، والشمس غالبة في البكاء، لأن العدل أفضل، وهو من قولهم: باكيته فبكيته؛ أي: كنت أبكى منه، أي: طلعت الشمس ولكن مع طلوعها تبكي وتغلب النجوم والقمر في البكاء عليك. وروي ما قبله: نعى النعاة أمير المؤمنين لنا .... يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له .... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا قوله: (أيا شجر الخابور) البيت: وبعده: فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى .... ولا المال إلا من قنًا وسيوف فلا تجزعا يا ابني طريف فإنني .... أرى الموت نزالًا بكل شريف ?

ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ}، فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، يعني: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض. {وَما كانُوا مُنْظَرِينَ} لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة، بل عجل لهم في الدنيا. [{وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} 30 - 31] {مِنْ فِرْعَوْنَ} بدل من {العَذَابِ المُهِينِ}، كأنه في نفسه كان عذابًا مهينًا، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، ويجوز أن يكون المعنى: من العذاب المهين واقعًا من جهة فرعون. وقرئ: "من عذاب المهين"، ووجهه: أن يكون تقدير قوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ}: من عذاب فرعون، حتى يكون المهين هو فرعون. وفي قراءة ابن عباس: "من فرعون؟ "، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة، قال: "مَن فرعون"؛ على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوّه وشيطنته، ثم عرف حاله في ذلك بقوله: {إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي: كبيرًا رفيع الطبقة من بينهم فائقًا لهم، بليغًا في إسرافه، أو عاليًا متكبرًا، كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]، {ومِنَ الْمُسْرِفِينَ} خبر ثان، كأنه قيل: إنه كان متكبرًا مسرفًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واقعًا من جهة فرعون): قال القاضي: "هو على هذا الحال من {العَذَابِ المُهِينِ} ". قوله: (و {مِّنَ المُسْرِفِينَ} خبر ثان): يؤذن أنه إذا فسر {عّالِيًا} بـ"متكبر" يكون {مِّنَ المُسْرِفِينَ} خبرًا ثانيًا، وإذا فسر بـ"كبير" لا يكون خبرًا، قال القاضي: "هو حينئذ حال من ?

[{وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ * وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلاؤٌ مُبِينٌ * إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} 32 - 34] الضمير في {اخْتَرْناهُمْ} لبني إسرائيل، و {عَلى عِلْمٍ} في موضع الحال، أي: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا، ويجوز أن يكون المعنى: مع علم منا بأنهم يزيغون وتفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال، {عَلَى الْعالَمِينَ} على عالمي زمانهم، وقيل: على الناس جميعًا لكثرة الأنبياء منهم. {مِنَ الْآياتِ} من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها، {بَلاؤٌ مُبِينٌ} نعمة ظاهرة، لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة، أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون، كقوله: {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضمير {عَالِيًا} "، وعليه كلام أبي البقاء. وقوله: "رفيع الطبقة من بينهم" إشارة إلى أن التركيب من باب قولهم: فلان من العلماء، أي: له مساهمة فيهم. قوله: (وقيل: على الناس جميعًا لكثرة الأنبياء): فعلى هذا يعم سائر الأزمنة، المعنى: قوم بني إسرائيل مختارون من بين سائر الأقوام بأن تكثر الأنبياء منهم، فهم بهذا المعنى مختارون. وليس هذا بوجه جيد. قوله: (أو اختبار ظاهر): يؤذن بأن "البلاء" أن فسر بالنعمة لم يكن اختبارًا ظاهرًا، وقد عللها بقوله: "لأن الله تعالى يبلو بالمصيبة"، وإن فسر بالمحنة كان ظاهرًا، كما في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155] الآية، قال في تفسيره: "ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه ?

[{إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَاتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} 35 - 36] {هؤُلاءِ} إشارة إلى كفار قريش. فإن قلت: كان الكلام واقعًا في الحياة الثانية، لا في الموت، فهلا قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين، كما قيل: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29]؟ وما معنى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى}؟ وما معنى ذكر "الأولى"؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى، حتى نفوها وجحدوها، وأثبتوا الأولى؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الطاعة، وتسلمون لأمر الله أم لا؟ "، والمعنى على الأول: لنبلونكم بالنعم المتوالية المتظاهرة، فهل تشكرون الله وتزيدون في طاعاتكم، أم تتجبرون وترومون علوًا في الأرض وفسادًا. قوله: ({هَؤُلَاءِ} إشارة إلى كفار قريش): وفيه تحقير لشأنهم وازدراء بهم، ولهذا قال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37]. اعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنهم فيه، بقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} [الدخان: 13 - 14]، وهددهم بقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16]، وضرب لهم مثل قوم فرعون ومجيء رسول الله كريم إليهم، وقصدهم إياه، وتدمير الله وقطع دابرهم؛ اعتبارًا واتعاظًا، أتى: بما هو أطم من الأول، وهو تكذيب الله بأن لا بعث ولا حشر، وأن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض بالحق، بل خلقهما باطلًا، لأنه سبق مرارًا وأطوارًا أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض إلا ليوحد ويعبد، ثم لا بد أن يجزي المطيع والعاصي، وليست هذه دار الجزاء. ?

قلت: معناه -والله الموفق للصواب-: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عزّ وجل: {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، .. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه- والله الموفق للصواب-: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتةً تتعقبها حياة): قال صاحب "الانتصاف": "أظهر من ذلك أنهم وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين: موت ثم بعث، وآمنوا بأولاهما، وهي الموت، ونفوا الثانية وسموها الأولى، وإن لم يعتقدوا شيئا بعدها، لأنهم نزلوا جهدهم على الإثبات، وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا، لأنهم يعتقدون الحصر في هذه الموتة، لأنهم اعتقدوا الموتة التي تعقب الحياة الدنيا، وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر: عدول عن الظاهر بلا حاجة، لأن الموت السابق على الدنيا لا يعبر عنه الموتة؛ لأن فيها إشعارًا بالتجدد، والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة. هذا مع أنه في الآية الأخرى وافق على أن ما الموت إلا الموتة الأولى، وإنما عنى بالموتة الأولى ما بعد الحياة الدنيا". الإنصاف: "إنما يعين ذلك في هذه الآية القرينة: {لا يَذُوقُونَ} [الدخان: 56]، فالموتة الأولى لا يذوقونها، ويبطل قول صاحب "الانتصاف" أن الأولى ولأخرى لا تستعملان إلا فيما يشترك فيه مع ما قرنت به في الشيء المذكور، فلا يصح أن يقال: جاءني رجل وامرأة أخرى، والموتة مغايرة للحياة، فلا يصح أن يقال فيها: "أولى" بالنسبة إلى الحياة". وقلت: وقوله: "وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر: عدول عن الظاهر": منظور فيه أيضًا؛ لأن التعريف في {المَوْتَةَ الأُولَى} للعهد، وهو قرنية دالة على أن المراد بـ"الموتة الأولى" الموتة المعهودة، ولذلك استشهد بقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، ولأن في إثباتهم أداة الحصر- لأن "إن" ?

فقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى}، يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} [الأنعام: 28] في المعنى. يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم: إذا بعثهم. {فَاتُوا بِآبائِنا} خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور؛ من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي: إن صدقتم فيما تقولون، فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك، حتى يكون دليلًا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق، وقيل: كانوا يطلبون اليهم أن يدعوا الله وينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشئون. [{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} 37] هو تبع الحميري، كان مؤمنًا وقومه كافرين، ولذلك ذمّ الله قومه ولم يذمّه، وهو الذي سار بالجيوش، وحير الحيرة، وبنى سمرقند، وقيل: هدمها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النافية قرنت بـ "إلا"- وإيقاعهم الضمير مبهمان ثم فسره بالخبر، على نحو قولهم: هي العرب تقول ما شاءت: الدلالة على أن هذا الكلام وارد على ما لا يوافق آراءهم من إثبات موتتين، فهم يحاولون إبطاله ورده إلى موتة واحدة ويهتمون بشأنه، ولا يصلح لذلك إلا ما اشتمل على هذه الموتة الموصوفة. قوله: (كانوا يطلبون إليهم): أي: كانوا ينهون إليهم طالبين أن يدعوا الله. وقوله: (وحير الحيرة): أي: ألفها ورتبها واتخذها مدينة تسمى: حيرة، كما يقال: مدن المدن، أي: بنى المدائن. ?

وكان إذا كتب قال: باسم الله الذي ملك برًّا وبحرًا. وعنى النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبعًا، فإنه كان قد أسلم»، وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما أدري أكان تبع نبيًا أو غير نبي»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان نبيًا، وقيل: نظر إلى قبرين بناحية حمير، قال: هذا قبر رضوى وقبر حبى بنتي تبع، لا تشركان بالله شيئًا. وقيل: هو الذي كسا البيت، وقيل لملوك اليمن: التبابعة، لأنهم يتبعون، كما قيل: الأقيال؛ لأنهم يتقيلون، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا تسبوا تبعًا): قال صاحب "النهاية": "في الحديث: "لا تسبوا تبعًا، فإنه أول من كسا الكعبة": تبع: ملك في الزمان الأول، اسمه: سعد أبو كرب، والتبابعة: ملوك اليمن، كان لا يسمى تبعًا حتى يملك حضرموت وسبأ وحمير. ويقال للرجل إذا أتقن الشيء وأحكمه: قد تابع عمله". قوله: (كما قيل: الأقيال؛ لأنهم يتقيلون): النهاية: "الأقوال: جمع "قيل"، وهو الملك النافذ القول والأمر، وأصله: قيول: فيعل؛ من القول، فحذفت عينه، ومثله: أموات جمع ميت، تخفيف ميت، وأما "أقيال" فمحمول على لفظ "قيل"، كما قيل: أرياح جمع ريح، والقياس: أرواح". وفي حاشية "الكشاف": معنى "يتقيلون": يتتبعون، من: تقيل أباه: إذا اتبعه، وقيل: أشبهه. الراغب: "سمي به ملك حمير لكونه معتمدًا على قوله، ومقتدىً به، ولكونه متقيلًا لأبيه، يقال: تقيل أباه". ?

وسمي الظل «تبعًا» لأنه يتبع الشمس. فإن قلت: ما معنى قوله: {أَهُمْ خَيْرٌ}، ولا خير في الفريقين؟ قلت: معناه: أهم خير في القوّة والمنعة، كقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ} [القمر: 43]، بعد ذكر آل فرعون. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه: أهم أشدّ أم قوم تبع؟ [{وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 38 - 42] {وَما بَيْنَهُما} وما بين الجنسين، وقرأ عبيد بن عمير: "وما بينهن". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسمي الظل "تبعًا"): قالت سلمى الجهنية ترثي أخاها أسعد: يرد المياه حضيرةً ونفيضة .... ورد القطاة إذا اسمأل التبع أي: الظل، ويسمى الدبران: التبع؛ لأنه يدبره، الخضيرة: الأربعة والخمسة يغزون، والجمع: الحضائر، والنفيضة والنفض: الجماعة يبعثون في الأرض لينظروا هل فيها عدو أو خوف، واسمأل: أي: ضمر. قوله: ({وَمَا بَيْنَهُمَا} وما بين الجنسين"): قال القاضي: "وهو دليل على صحة الحشر، كما مر في "الأنبياء" وغيرهم، وقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان والطاعة". ?

وقرأ: "ميقاتهم" بالنصب؛ على أنه اسم "إن"، و"يوم الفصل" خبرها، أي: إنّ ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل. {لا يُغْنِي مَوْلًى} أي مولى كان من قرابة أو غيرها، {عَنْ مَوْلًى} عن أي مولى كان، {شَيْئًا} من إغناء، أي: قليلًا منه، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} الضمير للموالي، لأنهم في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هاهنا المشركون لما أنكروا الحشر بقولهم: {إنْ هِيَ إلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى ومَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}، وبخهم بقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}؛ إيذانًا بأن هذا الإنكار ليس عن حجة قاطعة ودليل ظاهر، بل عن مجرد حب العاجلة، والتمتع بملاذ الدنيا، والاغترار بالمال والمنال، ثم قرر أن الحشر لا بد منه؛ لأنا ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما للعبث، جل جنات الجلال عن ذلك، بل بالحق، وهو أن اعبدوا ووحدوا، ولا بد لمن عبد ووحد، ولمن أعرض وأشرك، من الثواب والعقاب، فكيف يقال: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}؟ ! وقوله: {ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تذييل وتجهيل عظيم لمنكري الحشر وتوكيد، لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، ولهذا قالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]. قوله: ({شَيْئًا} من إغناء): أي: "شيئًا" نصب على المصدر، وعن بعضهم: يجوز أن يكون مفعولًا به، من قولهم: أغن عني وجهك، والمعنى: أنه لا يبعد عنه شيئًا، وفي الكلام تتميم ومبالغة، أي: {لا يُغْنِي مَوْلًى} أي مولى كان، إغناءً أي إغناء كان. قوله: (لتناول اللفظ على الإبهام والشياع): يعني: جاز عود الضمير وهو مجموع، إلى {مَوْلًى} وهو مفرد؛ لأنه لفظ مطلق شائع في جنسه متناول للكل وللبعض على سبيل البدل، فكان عود ضمير الجمع فرينةً على إرادة الكل. ?

{مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} في محل الرفع على البدل من الواو في {يُنْصَرُونَ}، أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله، ويجوز أن ينتصب على الاستثناء، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} لا ينصر منه من عصاه، {الرَّحِيمُ} لمن أطاعه. [{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَاسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} 43 - 50] قرئ: "إنّ شجرت الزقوم" بكسر الشين، وفيها ثلاث لغات: شجرة، بفتح الشين وكسرها، وشيرة بالياء. وروي: أنه لما نزل: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} قال ابن الزبعرى: إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر: التزقم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد، فقال: تزقموا، فإنّ هذا هو الذي يخوّفكم به محمد، فنزل {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الْأَثِيمِ}، وهو الفاجر الكثير الآثام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن ينصب على الاستثناء): قال أبو البقاء: " {إلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ} استثناء متصل، أي: من رحمه الله بقبول الشفاعة فيه". وفي "التيسير": {إلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ} أي: المؤمنين رحمهم الله، فإنهم يشفعون للمذنبين، وقيل: لكن من رحمه الله، فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه، ولا إلى ناصر ينصره. وقال مكي: " {إلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ}: "من" في موضع رفع على البدل من المضمر في {يُنْصَرُونَ}، أي: لا ينصر إلا من رحم الله، وقيل: هي بدل من {مَوْلًى} الأولى، أي: يوم لا يغني إلا من رحم الله، أي: لا يشفع إلا من رحم الله، وهذا دليل على جواز الشفاعة من المؤمنين للمؤمنين أهل الذنوب". ?

وعن أبي الدرداء أنه كان يقرئ رجلًا، فكان يقول طعام اليثيم، فقال: قل طعام الفاجر يا هذا. وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي: أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها، من غير أن يخرم منها شيئًا، قالوا: وهذه الشربطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة، لأنّ في كلام العرب -خصوصًا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه- من لطائف المعاني والأغراض، ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر، وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية. {كَالْمُهْلِ} قرئ بضم الميم وفتحها، وهو دردي الزيت، ويدل عليه قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، مع قوله: {فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ} [الرحمن: 37]، وقيل: هو ذائب الفضة والنحاس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه كان يقرئ رجلًا، فكان يقول: طعام اليثيم): الانتصاف: "يعني: كان يقرئه، فلم يستطع أن يقول: الأثيم، فكان يقول: اليثيم، فأعاد عليه، فلما عجز قال: قل: طعام الفاجر، وفيه دليل على قراءة القرآن بالمعنى"، وقال: "لا حجة فيه، وقول أبي الدرداء محمول على إيضاح المغنى، عونًا على أن يأتي بالقراءة كما أنزلت، هكذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب (الانتصار) ". قوله ({كَالْمُهْلِ} قرئ بضم الميم): وهي المشهورة، والفتح شاذ. قوله: (ويدل عليه- أي: على أن المراد بـ "المهل" دردي الزيت- قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}، مع قوله: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}): لأن الأول دل على أن السماء تصير ?

والكاف رفع؛ خبر بعد خبر، وكذلك {يَغْلِي}، وقرئ بالتاء للشجرة، وبالياء للطعام. والْحَمِيمِ الماء الحار الذي انتهى غليانه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كالمهل، والثاني على أنها تصير كالدهان، وهو: إما جمع دهن أو اسم ما يدهن به، ويجب التوافق بينهما، فيصح تفسير "المهل" بدردي الزيت. هذا الاستدلال في الأصول من باب دلالة النص باستعانة نص آخر، نحو دلالة قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]: على أن مدة الحمل ستة أشهر. قوله: (وكذلك {يَغْلِي}): أي: مرفوع المحل؛ خبر بعد خبر. قوله: (وقرئ بالتاء): ابن كثير وحفص: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. روى الواحدي عن أبي عبيد: أنه اختار الياء، وقال: لأن المهل مذكر، وهو الذي يلي المهل، فصار أولى به للذكر والقرب. وقال أبو علي: لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل، لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب، ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون، وإنما يغلي ما شبه به، وهو كقوله: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}، يعني: الماء الحار إذا اشتد غليانه. أراد أن هاهنا المشبه واحد، والمشبه به متعدد، شبهت عصارة الشجرة تارة بالمهل في غلظها وكدورتها ونتنها، وأخرى بالماء في انفعالها بالغليان، ومن ثم لم يذهب المصنف إلى إسناد {يَغْلِي} إلى "المهل"، وقال: "تغلي: بالتاء للشجرة، وبالياء للطعام"، وروي في ?

يقال للزبانية: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} فقودوه بعنف وغلظة، وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل، فيجر إلى حبس أو قتل، ومنه: العتلّ؛ وهو الغليظ الجافي، وقرئ بكسر التاء وضمها، {إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ} إلى وسطها ومعظمها. فإن قلت: هلا قيل: صبوا فوق رأسه من الحميم، كقوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19]، لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت: إذا صب عليه الحميم، فقد صب عليه عذابه وشدّته، إلا أن صب العذاب طريقه الاستعارة، كقوله: صبّت عليه صروف الدّهر من صبب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحاشية: " أنه قيل له: هل يجوز بالياء صفةً للمهل؟ قال: لا، لأنه لا يوصف المهل، لكن الطعام أو الشجرة". وقلت: ولناصر قول أبي عبيد أن قول: هو من تداخل التشبيهين، أي: كالمهل المشبه غليانه بغلي الحميم في البطون، شبه طعام الشجرة بدردي خارج عن المتعارف في أنه إذا قدر أن يصب في البطون يغلي- بغير نار- غليان الماء الحار في المراجل بالنار، ولا يبعد هذا التأويل، فإن هذه الشجرة على خلاف الأشجار المتعارفة، لأنها تنبت في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين. قوله: (بتلبيب الرجل): الجوهري: "لببت الرجل تلبيبًا؛ إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة وجررته". قوله: (قرئ بكسر التاء وضمها): الحرميان وابن عامر: "فاعتلوه" بالضم، والباقون: بالكسر. قوله: (صبت عليه صروف الدهر من صبب): الأساس: "مشوا في صبب، وفي أصباب: ?

وكقوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} [البقرة: 250]، فذكر العذاب معلقًا به الصب، مستعارًا له، ليكون أهول وأهيب. يقال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وروي: أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا. وقرئ: "أنك"، بمعنى: لأنك. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أنه قرأ به على المنبر. {إِنَّ هذا} العذاب، أو: إن هذا الأمر هو {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي: تشكون، أو تتمارون وتتلاجون. [{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ * كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 51 - 57] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو الحدور، وفي الحديث: "كأنما يمشي في صبب"، ومن المجاز: صب عليه البلاء من صبب، أي: من فوق". قوله: (معلقًا به الصب، مستعارًا له): الفاء في "فذكر" متعلق بقوله: "صب العذاب طريقه الاسثعارة"، وقوله: "معلقًا" و"مستعارًا": حالان متداخلتان، أي: جعل الصب للعذاب، والعذاب لا يصب، مستعارًا لإصابته، على حذف المضاف، شبه العذاب بالمائع، ثم خيل له ما يلازم المائع من الصب، كما خيل الإفراغ للصبر بعد تشبيهه بالماء. قوله: (ما بين جبليها): أي: جبلي مكة، وهما الأخشبان؛ أبو قبيس وثور. قوله: (وقرئ: "أنك") الكسائي: بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها. ?

قرئ: {فِي مَقَامٍ}، بالفتح، وهو موضع القيام، والمراد: المكان، وهو من الخاص الذي وقع مستعملًا في معنى العموم، وبالضم، وهو موضع الإقامة، و"الأَمِينٍ": من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. قيل: السندس: ما رق من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، وهو تعريب "استبر". فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي؟ قلت: إذا عرب خرج من أن يكون عجميًا، لأن معنى التعريب: أن يجعل عربيًا بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب. {كَذلِكَ} الكاف مرفوع على: الأمر كذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فِي مَقَامٍ} بالفتح): نافع وابن عامر: بالضم، والباقون: بالفتح. قوله: (وهو من الخاص الذي وقع مستعملًا في معنى العموم): نحوه: تعال، وأصله: موضع القيام، ثم عم واستعمل في جميع الأمكنة، حتى قيل لموضع القعود: مقام، وإن لم يقم فيه أصلًا، ويقال: كنا في مقام فلان، أي: في مجلسه. قوله: (فوصف به المكان استعارة): أي: الاستعارة المكنية. الراغب: "أصل الأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل: مصادر، ويجعل الأمان تارةً اسمًا للحالة التي عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسمًا لما يؤمن عليه الإنسان، كقوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]، أي: ما ائتمنتم عليه". قوله: (على: الأمر كذلك): روي عن المصنف أنه قال: والمعنى فيه: أنه لم يستوف الوصف، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف، فكأنه قال: الأمر نحو ذلك، وما أشبهه، وليس يعين الوصف ويحققه. ?

أو منصوب على: مثل ذلك أثبناهم {وَزَوَّجْناهُمْ}، وقرأ عكرمة: "بحور عين" على الإضافة، والمعنى: بالحور من العين، لأن العين إما أن تكون حوراء أو غير حوراء، فهؤلاء من الحور العين، لا من شهلهن مثلًا، وفي قراءة عبد الله: "بعيس عين"، والعيساء: البيضاء تعلوها حمرة. وقرأ عبيد بن عمير: "لا يذاقون فيها الموت"، وقرأ عبد الله: "لا يذوقون فيها طعم الموت". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("بحور عين" على الإضافة): قال ابن جني: "الصفة أوفى من الإضافة، لأن المضاف والمضاف إليه جاريين مجرى المفرد، والصفة تأتي مع الاختصاص المستفاد منها [مأتى] الزيادة، وهي مع ذلك أشد إصراحًا بالمعنى من المضاف، ألا ترى أنك إذا قلت: "مررت بظريف كرام" جاز الظريف أن يكون كريمًا، وجاز أن يكون منسوبًا إليهم، وإن لم يكن كريمًا، وإذا قلت: "مررت بظريف كريم" فقد أثبت له مذهب الكرم البتة"، ولهذا جعل الإضافة من باب: خاتم فضة، وباب ساج. قوله: (لأن العين إما تكون حوراء أو غير حوراء): أنشد الجوهري للعجاج: بأعين محورات حور يعني: الأعين النقيات البياض، الشديدات سواد الحدقة. و"الشهلة" في العين: أن يشوب سوادها زرقة، وعين شهلاء، ورجل أشهل العين. ?

فإن قلت: كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة، من الموت المنفي ذوقه فيها؟ قلت: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى} موضع ذلك، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها. وقرئ: "ووقاهم" بالتشديد. {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} عطاء من ربك وثوابًا، يعني: كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار. وقرئ: فضل، أي: ذلك فضل. [{فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} 58 - 89] {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ} فذلكة للسورة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة): الانتصاف: هذا مبني على أن {الْمَوْتَةَ} بدل؛ على طريقة بني تميم الذين يجوزون البدل من غير الجنس، والحجازيون ينصبونه بالاستثناء المنقطع، وسر اللغة التميمية في قولهم: ما في الدار أحد إلا حمار، أي: أن كان الحمار من الأحد، ففيها أحد، وبه فسر الزمخشري قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] ". قوله: (فهو من باب التعليق بالمحال): نظيره: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، نظيره: أن يستسقي أحد، فتقول: لا أسقيك إلا الجمر، والجمر لا يسقى. فمعناه: أن كان الجمر شيئًا يسقى فإنما أسقيكه. قوله: ({فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} فذلكة للسورة)، إلى آخره، يعني: هو إجمال بعد تفصيل. ?

ومعناها: ذكرهم بالكتاب المبين {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ} أي: سهلناه، حيث أنزلناه عربيًا {بِلِسَانِكَ} بلغتك؛ إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا. {فَارْتَقِبْ} فانتظر ما يحل بهم، {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} ما يحل بك متربصون الدوائر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "حم الدخان" في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»، وعنه عليه السلام: «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورًا له». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: بل خاتمة عزيزة، ورد للعجز على الصدر، وبها ظهر دقة نظر من قال: إن {رَحْمَةً} -في قوله: {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 5 - 6]-: مفعول به، والمراد بها سيد المرسلين وخاتم النبيين ورحمة العالمين، وأن قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] مقابل لقوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، ولذلك ضم مع التبشير قوله: {فَارْتَقِبْ}. قوله: (من قرأ"حم الدخان"): روينا عن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ"حم الدخان" في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك"، وفي رواية: "في ليلة الجمعة غفر له". تمت السورة. * * * ?

سورة الجاثية

سورة الجاثية مكية، وهي سبع وثلاثون آية، وقيل: ست بسم الله الرحمن الرحيم [{حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ} 1 - 6] {حم} إن جعلتها اسمًا مبتدأ مخبرًا عنه بـ {تَنْزِيلُ الْكِتابِ}، لم يكن بدّ من حذف مضاف، تقديره: تنزيل حم تنزيل الكتاب، و {مِنَ اللَّهِ} صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديدًا للحروف، كان {تَنْزِيلُ الْكِتابِ} مبتدأ، والظرف خبرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الجاثية مكية، وهي سبع وثلاثون آية، وقيل: ست وثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (تنزيل حم تنزيل الكتاب): يعني: تنزيل هذه السورة كتنزيل سائر القرآن، فيكون في قوله: {مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} دلالة على وجه الشبه، فكونه من الله دل على أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دل على أنه معجز يغلب ولا يغلب، وكونه من الحكيم دل على أنه مشتمل على الحكم البالغة، وعلى أنه محكم في نفسه، ينسخ ولا ينسخ. ?

{إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يجوز أن يكون على ظاهره، وأن يكون المعنى: إنّ في خلق السماوات والأرض؛ لقوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ}. فإن قلت: علام عطف {وَما يَبُثُّ}، أعلى الخلق المضاف، أم على الضمير المضاف إليه؟ قلت: بل على المضاف، لأنّ المضاف إليه ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه، استقبحوا أن يقال: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو، وكذلك إن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يجوز أن يكون على ظاهره): أي: لا يقدر مضاف، قال الإمام: "وذلك أنه حصل في ذوات السماوات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى، مثل مقاديرها وكيفياتها وحركتها، وأيضًا الشمس والقمر والنجوم والجبال موجودة فيهما، وهي آيات". وقلت: يجوز -على هذا- أن يكون قوله {وفِي خَلْقِكُمْ} إلى آخر الآيتين من عطف الخاص على العام، لأن المذكور بعض ما في السماوات والأرض. قوله: (وأن يكون المعنى: أن في خلق السماوات والأرض): روى الواحدي عن الزجاج هذا القول. قوله: (ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه): يعني: العطف على المضمر المجرور قبيح، كان مجرورًا بحرف الجر أو بالإضافة، لا فرق بين أن يؤكد أم لا، قال في "النساء": "الضمير المتصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فوجب تكرير العامل، كقولك: مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد". ?

قرئ: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالنصب والرفع، على قولك: إنّ زيدًا في الدار وعمرًا في السوق، أو عمرو في السوق. وأمّا قوله: {آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطف على عاملين، سواء نصبت أو رفعت؛ فالعاملان إذا نصبت هما: "إن"، و"في"، أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في {اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}، والنصب في {آياتٍ}، وإذا رفعت فالعاملان: الابتداء و"في"، عملت الرفع في {آياتٌ}، والجر في {وَاخْتِلافِ}. وقرأ ابن مسعود: "وفي اختلاف الليل والنهار". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن بعضهم: لأن اتصال الضمير له اتحاد لفظًا، والجار مع المجرور متحد معنىً، فلما كان فيه اتحاد من وجهين، يصير في التقدير كأنه عطف على الحرف الجار، والعطف على الحرف لا يجوز، وكأنه عطف على بعض الكلمة، وذلك لا يجوز، لأنه ليس للمجرور ضمير منفصل. وذكر ابن الحاجب في" شرح المفصل" في باب الوقف منه: "أن بعض النحويين يجوزونه في المجرور بالإضافة دون المجرور بحرف الجر، لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار، لاستقلال كل واحد منهما، فلم يشتد اتصاله فيه اشتداده مع الحرف، ولذلك زعم بعض النحويين أن قوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] معطوف على الكاف والميم في قوله: {كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] " ولذا جوزه المصنف. قوله: (قرئ: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالنصب والرفع): بالنصب: حمزة والكسائي، والباقون: بالرفع. قوله: (وأما قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطف على عاملين): يعني: لم يكن قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} من العطف على عاملين لتكرير"في" في قوله: {وفِي خَلْقِكُمْ}، ولكن ?

فإن قلت: العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقام فيه، وقد أباه سيبويه، فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون على إضمار "في"، والذي حسنه تقدّم ذكره في الآيتين قبلها، ويعضده قراءة ابن مسعود. والثاني: أن ينتصب "آيات" على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفًا على ما قبله أو على التكرير، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لابد من العطف على عاملين، قال ابن الحاجب: "اختلف الناس في مسألة العطف على عاملين: فمنهم من يمنعه، وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجوزه، وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: أما مثل قولك: "في الدار زيد والحجرة عمرو" فجائز، وأما مثل قولك: " زيد في الدار وعمرو الحجرة" فلا يجوز؛ لأن إحدى المسألتين: المجرور فيها يلي العاطف، فقام العاطف فيها مقام الجار، والأخرى: ليس المجرور فيها يلي العاطف، فكان فيها إضمار الجار من غير عوض. وأما من يمنع العطف على عاملين فيقول في الآيات: إن {آيَاتٌ} فيها تأكيد لـ {آيَاتٌ} الأولى، ولو كانت موضع "الآيات" الأخيرة لفظة أخرى لم يجز". قوله: (بعد انقضاء المجرور): وهو قوله: "اختلاف" و"ما أنزل" و"تصريف الرياح". قوله: (أو على التكرير): قال أبو البقاء: "كرر (آيات) للتوكيد؛ لأنها من لفظ (آيات) الأولى، وإعرابها كإعرابها، كقولك: أن بثوبك دمًا وبثوب زيد دمًا، فـ "دم" الثاني مكرر؛ لأنك مستغن عن ذكره". قال مكي: "و (آيات) نصب على التكرير لما طال الكلام، كما تقول: ما زيد قائمًا ولا جالسًا زيد، فتنصب "جالسًا" على أن زيدًا الآخر هو الأول، جيء به مؤكدًا، ولو كان غير الأول لم يجز نصب "جالسًا"؛ لأن خبر "ما" لا يتقدم على اسمها، بخلاف (ليس) ". ?

ورفعها بإضمار "هي". وقرئ: "واختلاف الليل والنهار" بالرفع، وقرئ: "آية"، وكذلك: "وما يبث من دابة آية". وقرئ: "وتصريف الريح"، والمعنى: إنّ المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح: علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بدّ لها من صانع، فآمنوا بالله وأقرّوا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال، وهيئة إلى هيئة، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان: ازدادوا إيمانًا وأيقنوا، وانتفى عنهم اللبس، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت -كاختلاف الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بها بعد موتها، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ جنوبًا وشمالًا، وقبولًا ودبورًا-: عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم. وسمي المطر رزقًا، لأنه سبب الرزق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ورفعها): عطف على قوله: "أن ينتصب"، فكان انتصابها على الاختصاص، ورفعها بإضمار "هي"، وهو أيضًا مدح، قال أبو البقاء: "ويقرأ بالرفع على التوكيد أيضًا". وقوله: (والمعنى: أن المنصفين): أراد به المعنى البياني، يعني بالبيان: ترتيب ما قدمت وما وسطت وما أخرت. قوله: (إذا نظروا في السماوات): أعلم أنه جعل نتيجة النظر في السماوات والأرض: الإيمان، ونتيجة النظر في الأنفس وأحوالها: الازدياد في الإيمان، ونتيجة النظر في سائر الحوادث: الإخلاص في اليقين الذي هو الزيادة في الإيمان، هذه طريقة السلوك والترقي. وقال الراغب في "درة التنزيل": "ما تقدم من الآيات يدل على قادر لا يشبهه قادر، فمن وفى النظر في ذلك أداه إلى الإيمان بالله تعالى، [فلذلك قال: {لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ}، فخصهم لانتفاعهم بها]، وإن كانت الآيات منصوبةً لهم ولغيرهم، فحين لم ينتفع الغير كأنها لم تكن ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لهم آيات، وأما قوله: {وفِي خَلْقِكُمْ} الآية: فإن عجائب الله في خلق الحيوان من الأعضاء والخواص التي يدرك بها المدركات، وما في باطنه من جواذب المواد التي بها قوام الحياة، ثم الروح التي بها ثبات الأجساد، أكثر من أن تحصى وتعد، فإن عرضت شبهة الملحد بأن كون الولد من الوالدين ومن نطفهما يأخذ شبههما، فإنه يطرح ذلك، ويزاح بالآيات التي ليس إلى الوالد فعلها، ولا جارحة من جوارحه تحيط علمًا بتلفيقها، وحكمةً في تركيبها، فثبت أن يكون فاعلها من صنعها وزينها بالعقل الذي هو أكبر نعمة الله تبارك وتعالى، فهذا الفكر ينتقل من ظن إلى علم، ومن شك إلى يقين، ولذلك لا يوصف الله تعالى، بأنه موقن، بل عالم. وخصت الآية الأخيرة بقوله: {يَعْقِلُونَ}؛ لأنهم يعقلون من إحياء الأرض بالمطر حتى تكتسبي بالنبات والشجر أنه يحيي العظام وهي رميم، هذا موضع يقال فيه: عقل من كذا كذا، أي: استدركه بالعقل بعد أن لم يكن مستدركًا له، كما أن أصل الوصف بالعاقل موضوع لحالة ثابتة ومعرفة طارئة". وقال الإمام: "ذكر هنا ثلاثة مقاطع: {يُؤْمِنُونَ} و {يُوقِنُونَ} و {يَعْقِلُونَ}، فكأنه قيل لهم: أن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين، بل أنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا تلك الدلائل، وإن كنتم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة الدلائل". وقلت: وعلى هذا هو من باب التنزل، وبيان ذلك: أن الناس ثلاث طبقات: منهم من سلمت فطرته الأصلية من الشكوك، ومنهم من اجتالتهم شياطين الإنس والجن، وأبطلت استعداداتهم كالفلاسفة، ومنهم من بقي بين المنزلتين، ووقع في ورطة الشكوك والشبهات. ?

{تِلْكَ} إشارة إلى الآيات المتقدّمة، أي: تلك الآيات {آياتُ اللَّهِ}، و {نَتْلُوها} في محل الحال، أي: متلوة {عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}، والعامل ما دل عليه {تِلْكَ} من معنى الإشارة، ونحوه: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}. وقرئ: "يتلوها"، بالياء. [{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} 7 - 10] {بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ} أي: بعد آيات الله، كقولهم: أعجبنى زيد وكرمه، يريدون: أعجبنى كرم زيد. ويجوز أن يراد: بعد حديث الله، وهو كتابه وقرآنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالأولون: تكفيهم أدنى إشارة، قال: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى .... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا فهم المؤمنون، فقيل لهم: {إنَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ}. والفرق الثاني: أن ساعدهم التوفيق لا يضطرهم إلى المعرفة إلا دليل الأنفس، قال حجة الإسلام: الطبيعيون أكثروا البحث عن عالم الطبيعة، وعن عجائب الحيوان، وأكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوان، فرأوا فيها من عجائب صنع الله وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمر ومقاصدها، فهؤلاء نودوا بقوله: {وفِي خَلْقِكُمْ ومَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. والمترددون بين النفي والإثبات: لا يحتاجون إلى التعمق، ولا يكفيهم أيضًا أدنى تأمل، فنبهوا بقوله: {واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ} إلى قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. والله أعلم بحقيقة كلامه. قوله: (ويجوز أن يراد: بعد حديث الله، وهو كتابه وقرآنه): كذا عن الواحدي، وفي ?

كقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]. وقرئ: {يُؤْمِنُونَ} بالياء والتاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الأعراف" وفي آخر "المرسلات": {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185، والمرسلات: 50]، وقال في تفسيره: " {بَعْدَهُ}: بعد القرآن"، يعني: أن القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون. ويعضد هذا التأويل عطف {وآيَاتِهِ} على {اللهِ}، أي: بعد كتاب الله وآياته الباهرة وبراهينه الساطعة، وهو من عطف الخاص على العام، وكذا ترتب الفاء في {فَبِأَيِّ} على ما قبله. فعلى هذا: المناسب في الوجه الأول- وهو أن يراد بقوله: {بَعْدَ اللَّهِ}: بعد آيات الله- أن يكون المشار إليه بقوله: {تِلْكَ}: الآيات المتقدمة، وفي الوجه الثاني: الآيات التالية، على نحو: هذا أخوك. وهذا أجمع، لأنه يضم الدلائل المنصوبة من الآفاقية والأنفسية مع النصوص القاهرة، وحصل منه الترقي من الأدنى إلى الأعلى في البيان والكشف، وتبين أن بيانات النصوص هي التي تزيل من ألباب أرباب العقول الشكوك وتجلي الريب. ثم في الإبهام في اسم الإشارة، وتفسيره بـ {آيَاتِ اللهِ}، وقرب المشار إليه، وهو موضوع للبعيد، وتخصيص اسم "الله" الجامع، وتكريره، وإيثار صيغة الجمع للتعظيم: خطب خطير وشأن جليل في الاستبعاد. قوله: (وقرئ: {يُؤْمِنُونَ} بالياء والتاء): بالتاء الفوقانية: ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالياء. ?

الأفاك: الكذاب، والأثيم: المتبالغ في اقتراف الآثام. {يُصِرُّ} يقبل على كفره ويقيم عليه، وأصله من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحى عليها صارّ أذنيه، {مُسْتَكْبِرًا} عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق، مزدريًا لها، معجبًا بما عنده. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وما كان يشترى من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامّة في كل ما كان مضارًّا لدين الله. فإن قلت: ما معنى "ثم" في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (العانة): الجوهري: "العانة: القطيع من حمر الوحش، والجمع: عون". قوله: (أن ينحى عليها): الأساس: "انتحاه: قصده، وانتحى لقرنه: عرض له، ومن المجاز: وأنحى عليه باللوائم؛ إذا أقبل عليه". قوله: (صار أذنيه): الجوهري: "صر إلى وجهك، أي: أقبل علي"، قال: تقول: صر الحمار أذنيه، وتقول: أصر الحمار، ولا تقول: أذنيه، ومعنى: أصر الحمار، أي: صر أذنيه. وقال مكي: " {مُسْتَكْبِرًا} حال من المرفوع في {يُصِرُّ}، وكذلك قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}، فهما حالان من ذلك الضمير، أو الثاني من الضمير في {مُسْتَكْبِرًا}، أي: ثم يصر على الكفر بآيات الله في حال تكبره، وحال تصامه". ?

قلت: كمعناه في قول القائل: يرى غمرات الموت ثمّ يزورها وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة، بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفرار عنها، وأمّا زيارتها والإقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد، فمعنى "ثم": الإيذان بأن فعل المقدّم عليها بعد ما رآها وعاينها: شيء يستبعد في العادات والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها، كان مستبعدًا في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها. {كَأَنْ} مخففة، والأصل: كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، كما في قوله: كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم ومحل الجملة: النصب على الحال، أي: يصير مثل غير السامع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرى غمرات الموت ثم يزورها): أوله: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة البيت: أي أن زيارة غمرات الموت بعد رؤيته إياها مستبعدة مستنكرة في العقل والعادة، وهو مع لك يزورها بعد استيقانه إياها، بالغ في مدحه. ونظيره في الاستبعاد قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]. قوله: (كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم): أوله: ويومًا توافينا بوجه مقسَّم ?

{وَإِذا} بلغه شيء من آياتنا، وعلم أنه منها، {اتَّخَذَها} أي: اتخذ الآيات {هُزُوًا}، ولم يقل: اتخذه؛ للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، ويحتمل: وإذا علم من آياتنا شيئًا يمكن أن يتشبث به المعاند، ويجد له محملًا يتسلق به على الطعن والغميزة: افترصه واتخذ آيات الله هزوًا، وذلك نحو افتراص ابن الزبعرى قوله عز وعلا: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "خصمتك". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توافينا: أي: تأتينا، والمقسم: المحسن، يقال: وجه مقسم؛ إذا وافى كل جزء منه حظه من الحسن، تعطو: أي: تناول وتأخذ، والناضر: الطري، والسلم: ضرب من الشجر، والواحدة: سلمة، يصف يوم الوصل. "تعطو إلى ناضر السلم"، أي: تميل إلى المعانقة والتقبيل. وقيل في "ظبية" ثلاثة أوجه: الرفع على إلغاء "كأن" المخففة، والنصب على إعمالها، والجر على "أن" زائدة بعد الكاف. قوله: (ويحتمل: وإذا علم من آياتنا شيئًا): الفرق بين هذا الوجه والسابق: أن الطاعن في الأول طاعن من غير روية، فلما سمع أنه من جملة الآيات طعن فيه، وعلى هذا: أنه متدبر مستنبط منه ما يتشبث به على الطعن. قوله: (يتسلق به): الجوهري: "تسلق الحائط؛ أي: تسوره". والأساس: "سلقه بلسانه، ولسان مسلق". قوله: (والغميزة): الأساس: "ومن المجاز: ما فيه مغمز ولا غميزة، أي: معاب، وغمز فيه: طعن". قوله: (نحو اعتراض ابن الزبعرى): في نسخة: "نحو اعتراض النضر"، قال: يحتمل أن ابن الزبعرى قال ذلك، والنضر أيضًا، لا منافاة فيه. ?

ويجوز أن يرجع الضمير إلى "شيء"، لأنه في معنى الآية، كقول أبي العتاهية: نفسي بشيء من الدنيا معلّقة .... الله والقائم المهدي يكفيها حيث أراد عتبة. وقرئ: "علم". {أُولئِكَ} إشارة إلى "كل أفاك أثيم"، لشموله الأفاكين. والوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، قال: أليس ورائي أن تراخت منيّتي .... أدب مع الولدان أزحف كالنّسر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نفسي بشيء من الدنيا معلقة): البيت: قبله: إني لأيأس منها ثم يطمعني .... فيها احتقارك للدنيا وما فيها الضمير في "يكفيها" يرجع إلى "شيء"، لأنه في المعنى مؤنث، وهي عتبة؛ جارية من جواري المهدي، أهواها أبو العتاهية، وأهدى إلى المهدي في النيروز برنية فيها ثوب، وفي حواشيها البيتان، فهم المهدي أن يدفع عتبه إليه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أتدفعني إليه؟ فانصرف المهدي عن ذلك الرأي، وأمر بالبرنية أن تمتلئ مالًا، وناقش أبو العتاهية الخزان بأن المأمور الدنانير، وقد أملأها دراهم، وتراجعا إلى المهدي، فقالت عتبة: لو كان عاشقًا كما وصف، لما فرق بين الدراهم والدنانير، وما صرف همه إليها. قوله: ({أُوْلَئِكَ} إشارة إلى "كل أفاك"): أي: إلى معنى "كل"، ولهذا جمع {مِن ورَائِهِمْ جَهَنَّمُ}، وقوله: "يسمع" إلى لفظه. قوله: (أليس ورائي) البيت: الوراء: بمعنى قدام، وتراخت: تباعدت، أدب: أمشي على ?

ومنه قوله عز وجل: {مِنْ وَرائِهِمْ} أي: من قدّامهم، {ما كَسَبُوا} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم، {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأوثان. [{هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} 11] {هَذَا} إشارة إلى القرآن، يدل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هينة، أزحف: من: أزحف الصبي: إذا مشى على استه، ويروى: "أرجف" بالجيم، أي: أرعد واضطرب، قال بعضهم: خبر "ليس" أنا، أي: أنا أدب، لأن "أدب" لا يصلح خبرًا لـ "ليس"، لأن "ليس" فعل، و "أدب" فعل، والفعل لا يصلح أن يكون خبرًا للفعل. وليس بذاك. وقيل: "أدب": اسم "ليس"، أي: ليس ورائي أن أدب، فحذف "أن"، قال شارح الأبيات: استشهاده بهذا البيت غير مناسب، لأنه لا مناسبة بين المصراعين من حيث اللفظ؛ المصراع الأول من قول لبيد بن ربيعة: أليس ورائي أن تراخت منيتي .... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي مضت .... أدب كأني كلما قمت راكع لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى .... ولا زاجرات الطير ما الله صانع ولعل اشتبه على المصنف الأمر، حتى ما فرق بين قوله: أدب كأني كلما قمت راكع وبين قول القائل: أدب مع الولدان أزحف كالنسر وأبيات القصيدة تسعة عشر بيتًا، أولها: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع .... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع وآخرها: "لعمرك" البيت، وليس فيها هذا. قوله: ({هَذَا} إشارة إلى القرآن، يدل عليه: {والَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}): وقال الواحدي: ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ " {هَذَا هُدًى}: هذا القرآن بيان الضلالة، والذين كفروا به {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}. وقلت: والآيات السابقة أيضًا- أعني قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} - تدل عليه. واعلم أنه تعالى لما عد أنواع استخفافهم وتكذيبهم بالقرآن، ووصفهم بالكذب الإفك والإثم والاستكبار، ورتب عليه البشارة بالعذاب، وحكى عن استهزائهم وانتهاز فرصتهم ليستخفوا به، ورتب عليه: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، عينه تعيينًا، وميزه تمييزًا، وجعله كالعلم المشار إليه بالحسن، ونكر خبره تنكير تهويل، فقال: {هَذَا هُدًى}، أي: هذا المتميز المشخص كامل في الهداية، ليس بخاف على كل ذي بصيرة: أنه ليس بمكان للتكذيب والاستهزاء، والذين كذبوا به، واستكبروا عن قبوله، وأعرضوا عنه بالاستهزاء: لهم عذاب بعد عذاب، أي: عذاب مضاعف، لأن الرجز والعذاب شيء واحد، والمراد: التكثير لا التحديد، ثم ثنى إلى ما أبدأ السورة به من ذكر الآيات: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ}. ويمكن أن يقال- والله أعلم-: أن المشار إليه بقوله: {هَذَا} المذكور، يعني: ما ذكر من أول السورة من الآيات الدالة على الوحدانية، كالوحي النازل من العزيز الحكيم، وكأفعاله الخاصة الآفاقية والأنفسية، {هُدًى} أي: هدى لا يقادر قدره، ولا يكتنه كنهه. يؤيده قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}، وتفسير المصنف: " {تِلْكَ} إشارة إلى الآيات المتقدمة"، فيكون المراد بقوله: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أيضًا: تلك الآيات. وفي اقتران ذكر "الرب" معه، وذكر "الله" في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}: إشعار بأن تلك لتلاوة وذلك الإرشاد لم يكن إلا لمحض الإنعام، والكافرون عكسوا القضية، فكفروا بدل الشكر، ولذلك جيء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ}، وبقوله: {وسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ}، وفصل الأولى بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، والثانية بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ لينبه ?

لأنّ "آيات ربهم" هي القرآن، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد: كامل في الرجولية، وأيما رجل. "والرجز": أشد العذاب، وقرئ بجر "أليم" ورفعه. [{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 12 - 13] {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بالتجارة، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان، واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر. فإن قلت: ما معنى {مِنْهُ} في قوله: {جَمِيعًا مِنْهُ}، وما موقعها من الإعراب؟ قلت: هي واقعة موقع الحال، والمعنى: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، وحاصلة من عنده، يعني: أنه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي جميعًا منه، وأن يكون {وَسَخَّرَ لَكُمْ} تأكيدًا لقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ}، ثم ابتدئ قوله: {ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، وأن يكون {ما فِي الْأَرْضِ} مبتدأ، و {مِنْهُ} خبره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالشكر على الإنعام، وبالتفكر على أن ذلك الإنعام أيضًا دليل من الدلائل السابقة، وأخرت من أخواتها تطرئةً للتنبيه، وعلم من ذلك أن التفكر ملاك التعقل والإيقان والإيمان، والله أعلم. قوله: (وأيما رجل): تفسير ثان لقوله: "زيد رجل". فإن قلت: ليس ما في الآية كالمثال، لأن "رجل" هو "زيد"؟ قلت: بل الكتاب هو هدىً مبالغة، قال صاحب "المفتاح": "أنت تعلم أن شأن الكتب السماوية الهداية لا غير، وبحسبها يتفاوت شأنهن في درجات الكمال". قوله: (تقديره: هي جميعًا منه): أي: المذكورات كائنة منه جميعًا. ?

وقرأ ابن عباس: " منة"، وقرأ سلمة بن محارب: "منه"، على أن يكون "منه" فاعل {سَخَّرَ} على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك -أو: هو- منه. [{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 14 - 15] حذف المقول لأنّ الجواب دال عليه، والمعنى: قل لهم: اغفروا يغفروا، {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه، من قولهم لوقائع العرب: أيام العرب. وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين، ووعدهم الفوز فيها. قيل: نزلت قبل آية القتال، ثم نسخ حكمها. وقيل: نزولها في عمر رضي الله عنه، وقد شتمه رجل من غفار، فهمّ أن يبطش به. وعن سعيد بن المسيب: كنا بين يدي عمر بن الخطاب، فقرأ قارئ هذه الآية، فقال عمر: ليجزي عمر بما صنع. {لِيَجْزِيَ} تعليل الأمر بالمغفرة، أي: إنما أمروا بأن يغفروا لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ ابن عباس: "منة"): قال ابن جني: "وقرأها أيضًا [عبد الله بن] عمرو الجحدري، فهي منصوبة على المصدر، دل عليه قوله: {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعً}، لأن ذلك من منة الله تعالى، أي: من عليه منة". قوله: (على أن يكون "منه" فاعل {سَخَّرَ} على الإسناد المجازي): ووجهه: أن الله تعالى سخر ذلك للمنة علينا، فكأن المنة هو السبب في ذلك. قوله: (لأن الجواب دال عليه): أو {يَغْفِرُوا} دال على أن المقول: اغفروا، كقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، أي: في القتال، فحذف، لأن {يُقَاتَلُونَ} دل عليه. ?

فإن قلت: قوله: {قَوْمًا} ما وجه تنكيره، وإنما أراد الذين آمنوا، وهم معارف؟ قلت: هو مدح لهم وثناء عليهم، كأنه قيل: ليجزي أيما قوم وقومًا مخصوصين؛ لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم من الكفار، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو مدح لهم وثناء عليهم): وهو من باب التجريد، وأنشد ابن جني عن أبي علي الفارسي: أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا .... وفي الله أن لم يعدلوا حكم عدل وقال: "وهو تعالى أعرف المعارف، وسماه الشاعر حكمًا عدلًا، وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف". وقلت: وإليه أشار المصنف بقوله: "أيما قوم وقومًا مخصوصين" إلى آخره، وكذا جرد عمر رضي الله عنه من نفسه شخصًا اسمه عمر، كأنه غيره، وحكم عليه بأنه ليجزى ما صنع من صبره واحتماله من الرجل الذي شتمه من غفار، وهم أن يبطش به. ?

{بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ومعنى قوله عمر: "ليجزى عمر بما صنع": ليجزي بصبره واحتماله وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية: "والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي". وقرئ: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا}؛ أي: الله عز وجل، و"ليجزى قوم"، "وليجزي قومًا"، على معنى: وليجزي الجزاء قومًا. [{وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ * وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 16 - 17] {الْكِتابَ} التوراة، {وَالْحُكْمَ} الحكمة والفقه، أو فصل الخصومات بين الناس، لأنّ الملك كان فيهم والنبوّة، {مِنَ الطَّيِّباتِ} مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق، {وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} حيث لم نؤت غيرهم مثل ما آتيناهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا}): ابن عامر وحمزة والكسائي: بالنون، والباقون: بالياء. قوله: (على معنى: وليجزى الجزاء قومًا): قال صاحب "التقريب": وفي المجهول في نصب {قَوْمًا} على: ليجزى الجزاء قومًا: نظر؛ لأنهم قالوا: إذا وجد المفعول به تعين، فالأولى أن ينتصب بـ"أعني" أو "يجزي" لدلالة المجهول على جاز، وقال أبو البقاء: "الجيد أن يكون التقدير: ليجزى الخير قومًا، على أن "الخير" مفعول بع في الأصل، كقولك: جزاك الله خيرًا، وإقامة المفعول الثاني إقامة الفاعل جائز، أو التقدير: ليجزى الجزاء، على أن القائم مقام الفاعل المصدر، وهو بعيد". وقال صاحب "الكشف": لأن المصدر لا يقوم مقام الفاعل، ومعك مفعول صحيح، ?

{بَيِّناتٍ} آيات ومعجزات، {مِنَ الْأَمْرِ} من أمر الدين، فما وقع بينهم الخلاف في الدين {إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ} ما هو موجب لزوال الخلاف، وهو {العِلْمُ}، وإنما اختلفوا لبغي حدث بينهم، أي: لعداوة وحسد. [{ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 18 - 19] {عَلى شَرِيعَةٍ} على طريقة ومنهاج، {مِنَ الْأَمْرِ} من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والحجج، {وَلَا تَتَّبِعْ} ما لا حجة عليه من أهواء الجهال. ودينهم المبنى على هوى وبدعة -وهم رؤساء قريش حين قالوا: ارجع إلى دين آبائك-، ولا توالهم؛ إنما يوالي الظالمين من هو ظالم مثلهم، وأما المتقون: فوليهم الله، وهم موالوه. وما أبين الفصل بين الولايتين. [{هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 20] {هَذَا} القرآن {بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى} جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل روحًا وحياة، (و) هو (هدًى) من الضلالة، {وَرَحْمَةٌ} من العذاب لمن آمن وأيقن. وقرئ: "هذه بصائر"، أي: هذه الآيات. [{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} 21] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذن الخبر مضمر، كما أضمر "الشمس" في قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، لأن {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 32] دليل على تواري الشمس. قوله: (بمنزلة البصائر في القلوب): البصيرة في القلب: ما يستبصر به الإنسان، كما أن البصر في العين: ما يبصر به. وقيل: أن البصيرة نور القلب، كما أن البصر نور العين. ?

{أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان، والاجتراح: الاكتساب. ومنه: الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي: كاسبهم، {أَنْ نَجْعَلَهُمْ} أي: نصيرهم، وهو من "جعل" المتعدي إلى مفعولين، فأوّلهما: الضمير، والثاني: الكاف، والجملة -التي هي (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) - بدل من الكاف؛ لأنّ الجملة تقع مفعولًا ثانيًا، فكانت في حكم المفرد، ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم، كان سديدًا، كما تقول: ظننت زبدًا أبوه منطلق. ومن قرأ: {سَواءً} بالنصب: أجرى "سواء" مجرى مستويًا، وارتفع {مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} على الفاعلية، وكان مفردًا غير جملة، ومن قرأ: "ومماتهم" بالنصب: جعل "محياهم ومماتهم": ظرفين، كمقدم الحاج وخفوق النجم، أي: سواء في محياهم وفي مماتهم. والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيًا، وأن يستووا مماتًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والجملة - التي هي "سواء محياهم ومماتهم"- بدل من الكاف): وقلت: الضميران في "محياهم" و "مماتهم" للكافرين وللمؤمنين جميعًا، قال مكي: " (سواء محياهم ومماتهم) مستو في البعد من رحمة الله، والضميران للكفار والمؤمنين، ويبعد عند سيبويه رفع {مَّحْيَاهُمْ ومَمَاتُهُمْ} بـ (سواء)، لأنه ليس باسم فاعل ولا مشبه به، وإنما هو مصدر". قوله: (ومن قرأ {سَوَاءً} بالنصب): حفص وحمزة والكسائي، والباقون: بالرفع. قال مكي: "على هذا: {سَوَاءً} حال من الضمير في {نَّجْعَلَهُمْ}، ويرفع {مَّحْيَاهُمْ ومَمَاتُهُمْ} به، لأنه بمعنى: مستو، والمفعول الثاني لـ "جعل": الكاف في {كَالَّذِينَ}، والضميران يعودان على الكفار والمؤمنين". ?

لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومماتًا، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم. وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين والمحسنين مستوٍ محياهم في الرزق والصحة، وإنما يفترقون في الممات، وقيل: (سواء محياهم ومماتهم) كلام مستأنف على معنى: أن محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم، كل يموت على حسب ما عاش عليه. وعن تميم الداري رضي الله عنه: أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردّد إلى الصباح: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. وعن الفضيل: أنه بلغها فجعل يردّدها ويبكي ويقول: يا فضيل، ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ [{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 22] {وَلِتُجْزى} معطوف على {بِالحَقِّ}، لأنّ فيه معنى التعليل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال مكي: " (ما) - في قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} - أن جعلت معرفةً كانت في موضع رفع بـ {سَاءَ} فاعلًا، وإن جعلت نكرةً كانت في موضع نصب على البيان". قوله: ("سواء محياهم ومماتهم"): كلام مستأنف، وذلك أنه حين أنكر حسبان أن يستوي الكافر والمؤمن، قيل: فإذن كيف الحال؟ فأجيب: أن المؤمن يعيش حميدًا ويموت سعيدًا، يعيش في طاعة الرحمن، ثم المرجع إلى الرضوان، والكافر يعيش في طاعة الشيطان، والمآب إلى النيران، فأنى يستويان. قوله: {ولِتُجْزَى} معطوف على {بِالْحَقِّ}، لأن فيه معنى التعليل): أي: إنما خلقها ?

أو على معلل محذوف، تقديره: خلق الله السماوات والأرض، ليدل به على قدرته ولتجزى كل نفس. [{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 23] {مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} أي: هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه. وقرئ: "آلهة هواه"، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى، يعبد كل وقت واحدًا منها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكون خلقها حقًا "أو على معلل محذوف"، ولو قال: "على علة محذوفة" كان أولى، لأن المقدر هو قوله: "ليدل بها على قدرته". ولقائل أن قوله: "ليدل بها على قدرته": معنى {بِالْحَقِّ} وبيان للوجه الأول، وأما بيان الوجه الثاني: فهو أن يقال: "ولتجزى كل نفس بما كسبت فعل ذلك"، كقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وقيل: أراد بـ"المعلل": التعليل، فيكون المعلل مصدرًا ميميًا، قال القاضي: " {وخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ} كأنه دليل على الحكم السابق، من حيث أن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المسيء والمحسن، وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات". قوله: (لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده): وفي "التيسير": كانوا في الجاهلية يعبدون ما يستحسنونه، فإذا استحسنوا غيره تركوا الأول، وعبدوا الثاني، فإنما كان أحد يعبد ما يهواه، فعلى هذا يكون "الهوى" مصدرًا بمعنى المفعول، أي: يجعل إلهه مهويه، كقولك: فلان رجائي، أي: مرجوي. ?

{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ} وتركه عن الهداية واللطف وخذله، {عَلَى عِلْمٍ} عالما بأنّ ذلك لا يجدي عليه، وأنه ممن لا لطف له، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقرّبة، {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ} إضلال {اللَّهُ}؟ ! وقرئ: {غِشَاوَةً} بالحركات الثلاث، و"غشوة" بالكسر والفتح، وقرئ: "تتذكرون". [{وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 24] {نَمُوتُ وَنَحْيا} نموت نحن ويحيا أولادنا، أو يموت بعض ويحيا بعض، أو نكون مواتًا نطفًا في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك، أو يصيبنا الأمران: الموت والحياة، يريدون: الحياة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة. وقرئ: "نحيا"، بضم النون، وقرئ: "إلا دهر يمرّ". وما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظنّ وتخمين، كانوا يزعمون أنّ مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الألطاف المحصلة والمقربة): مضى تفسيرها في أول البقرة. قوله: (وقرئ: {غِشَاوَةً} بالحركات الثلاث): حمزة والكسائي: بفتح الغين وإسكان الشين، والباقون: بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها. قوله: (كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر): هذا تفسير الدهر. قال القاضي: "الدهر: مرور الزمان، والأصل: مدة بقاء العالم". الراغب: "الدهر في الأصل: اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، واستعير للعادة الباقية مدة الحياة، فقيل: ما دهري بكذا". ?

وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه قوله عليه السلام: «لا تسبوا الدهر، فإنّ الله هو الدهر»، أي: فإنّ الله هو الآتي بالحوادث، لا الدهر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أنه تعالى لما ذكر خلق السماوات والأرض وقيده بالحق، وقد تقرر غير مرة أن المراد بالحق: المعرفة والعبادة، وتعليل الخلق ها هنا بقوله: {ولِتُجْزَى} دلالة بينة عليه، قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ}، يعني: ألا تتعجبوا من هذا الذي اتبع هواه، وأضله الله، وختم على سمعه وقلبه، كيف ضل عن سبيل المعرفة ورفض العمل، وطعن في تلك الحكمة البالغة، وادعى الحكمة لنفسه، وقال: لا عمل ولا جزاء، و {مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ}؟ ! بخلاف المؤمن الذي جعل هواه تبعًا لدينه، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، ألا ترى كيف رتب قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} على التفكر في خلق السماوات والأرض المؤدي إلى حقية خلقهما؟ فدل بعطف قوله: {وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} على {اتَّخَذَ} على أنهم إنما اتبعوا أهواءهم الباطلة، ولم يجيلوا فكرهم في تلك الآيات الباهرة الدالة على تلك الحكمة البالغة لسبق علمه الأزلي والقضاء المقدر، وذلك الذي جسرهم أن يبطلوا حكمة الله بقولهم: {مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا}. ثم نفى العلم عنهم على الاستغراق بقوله: {مَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، وذيل الآيات بقوله: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ}، ورتب فيه: {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} تقريرًا وتأكيدًا، فعلم قطعًا أن من اقتنى شيئًا من الهذيان، وسماه حكمة، واتبع الهوى، ورفض العمل، وأنكر الهدى الذي هو القول بالحشر: هو ممن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، وما له بما يقول من علم، وهو أجهل خلق الله، وإن جمع أسفارًا من الهذيانات، نعوذ بالله من سخط الله. قوله: (لا تسبوا الدهر): روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود عن أبي هريرة ?

[{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 25 - 26] وقرئ: حجتهم بالنصب والرفع؛ على تقديم خبر كان وتأخيره. فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته، وساقوه مساقها، فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة، أو لأنه في أسلوب قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد: نفى أن تكون لهم حجة البتة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قوله تعالى: {ومَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ}، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار". النهاية: "كان من شأن العرب ذم الدهر وسبه عند النوازل والحوادث، أي: لا تسبوا الدهر، فإنكم إذا سببتموه وقع السب على الله تعالى، لأنه تعالى هو الفعال لما يريد، لا الدهر". الراغب: "قيل: معناه: أن الله فاعل ما يضاف إلى الدهر، فإذا سببتم الدهر تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد سببتموه، قيل: الدهر الثاني في الخبر غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، ومعناه: أن الله هو الدهر، أي المتصرف المدبر المقيض لما يحدث، والأول أظهر". قوله: (كما يدلي المحتج بحجته): المغرب: "أدليت الدلو: أرسلتها في البئر، ومنه: أدلى بالحجة: أحضرها، وفي التنزيل: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188}، أي: تلقوا أمرها والحكومة فيها". قوله: (نفي أن تكون لهم حجة البتة): وهو على مذهب التميمي نحو قوله: ?

فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} جوابًا لقولهم: {ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}؟ قلت: لما أنكروا البعث، وكذبوا الرسل، وحسبوا أنّ ما قالوه قول مبكت: ألزموا ما هو مقرّون به من أنّ الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعى الحق، وهو جمعهم إلى يوم القيامة، ومن كان قادرًا على ذلك كان قادرُا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه. [{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} 27 - 31] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبلدة ليس بها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس يعني: ليس لهم حجة البتة، إذ لو كانت لهم حجة كانت هذه، وهذه ليست بحجة، بل هي استبعاد وعناد، فإذن ليست لهم حجة البتة. قوله: (ألزموا ما هم مقرون به): يعني: لما لم يكن لهم حجة عند إيراد الآيات البينات لإثبات الحشر إلا قولهم: "ائتوا بآبائنا" عنادًا، قيل لهم ذلك لأنهم مقرون بأنه المحيي والمميت. ?

عامل النصب في {يَوْمَ تَقُومُ}: {يَخْسَرُ}، و {يَوْمَئِذٍ} بدل من} يَوْمَ تَقُومُ}. {جاثِيَةً} باركة مستوفزة على الركب، وقرئ: "جاذية"، والجذوّ: أشد استيفازًا من الجثوّ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس: جاثية: مجتمعة، وعن قتادة: جماعات؛ من الجثوة، وهي الجماعة، وجمعها: جثا، وفي الحديث: «من جثا جهنم». وقرئ: {كُلُّ أُمَّةٍ}؛ على الابتداء، و"كل أمة" على الإبدال من {كُلَّ أُمَّةٍ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يقال: إنهم لما قالوا: "ائتوا بآبائنا أن كنتم صادقين" عنادًا وتمردًا، قيل لهم: دعوا آباءكم، فإن القاهر القادر العالم بكل شيء يفعل كيت وكيت، فضلًا عما اقترحتموه، ولكن أنتم جهلاء لا تعلمون ذلك، كما قال: {ومَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}. ونحوه في الإنكار قوله: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49 - 50] جوابًا عن قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الواقعة: 47 - 48]. قوله: (من جثا جهنم): النهاية: "في الحديث: "من دعاء الجاهلية فهو من جثا جهنم"، وفي آخر: "من دعا: يا لفلان، فإنما يدعو إلى جثا النار"، والجثا: جمع"جثوة" بالضم، وهو الشيء المجموع، ومنه حديث ابن عمر: "أن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيها"، أي: جماعة". وفي "الفائق": "والجثوة: ما جمع من تراب وغيره، فاستعيرت". ?

{إِلى كِتابِهَا} إلى صحائف أعمالها، فاكتفى باسم الجنس، كقوله: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49]، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} محمول على القول. فإن قلت: كيف أضيف "الكتاب" إليهم وإلى الله عزّ وجل؟ قلت: الإضافة تكون للملابسة، وقد لابسهم ولابسه؛ أما ملابسته إياهم: فلأن أعمالهم مثبتة فيه، وأما ملابسته إياه: فلأنه مالكه، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده. {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ} يشهد عليكم بما عملتم، {بِالْحَقِّ} من غير زيادة ولا نقصان، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} الملائكة {ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: نستكتبهم أعمالكم. {فِي رَحْمَتِهِ} في جنته، وجواب "أما" محذوف، تقديره: وأما الذين كفروا فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ}، والمعنى: ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه. [{وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 32 - 33] وقرئ: "والساعة" بالنصب؛ عطفًا على الوعد، وبالرفع عطفًا على محل "إن" واسمها، {مَا السَّاعَةُ} أي شيء الساعة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الإضافة تكون للملابسة): ويمكن أن يقال: أن الإضافة إليها تدل على معنى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، أي: تدعى إلى كتابها، وإلى ما يختص بها من الأعمال صالحها وسيئها، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ومن ثم ذيل بقوله: {اليَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. وأما الإضافة إلى الله: فللإشارة إلى أن كل ما ثبت فيه صدق وحق وعدل، وأنه تعالى يجازيها على القليل والكثير، ولذلك عقب بقوله: {يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ}، وذيل بالجمع، ثم قسم بقوله: {فَأَمَّا} {وَأَمَّا}. والله أعلم. ?

فإن قلت: ما معنى {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}؟ قلت: أصله نظن ظنًا، ومعناه: إثبات الظن فحسب، فأدخل حرفا النفي والاستثناء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصله: نظن ظنًا، ومعناه: إثبات الظن فحسب): قال صاحب"التقريب": وفيه نظر؛ لأن موردهما واحد، وهو الظن، والحصر حيث تغاير الموردان، والأولى أن يحمل المنفي على الاعتقاد المطلق؛ تعميمًا للخاص، والمثبت على موضوعه، أي: لا نعتقد إلا اعتقادًا راجحًا لا جازمًا، ولذلك أكده بقوله: {ومَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، أو يحمل المنفي على موضوعه، ويخصص المثبت بالظن الضعيف. قلت: أخذ الوجه الأول من قول الواحدي: " {إن نَّظُنُّ إلاَّ ظَنًا}: أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهمًا، وما نستيقن كونها"، ومن قول أبي البقاء: "إن الظن قد يكون بمعنى العلم والشك، فاستثنى الشك، أي: ما لنا اعتقاد إلا الشك". وقلت: معنى سؤال المصنف رحمه الله: "ما معنى {إن نَّظُنُّ إلاَّ ظَنًا}؟ ": أن"المصدر فائدته كفائدة الفعل، فلو أجري الكلام على الظاهر لقيل: أن نظن إلا نظن، وهو ناقص من الكلام، ولم يجيزوا: ما ضربت إلا ضربًا؛ لأن معناه، ما ضربت إلا ضربت، لأنه لا فائدة فيه"، هذا كلام مكي. وقال أبو البقاء: "التقدير: أن نحن إلا نظن ظنًا، و"إلا" مؤخرة، ولولا هذا التقدير لكان المعنى: ما نظن إلا نظن". ?

ليفاد إثبات الظن مع نفى ما سواه، وزيد نفي ما سوى الظن توكيدًا بقوله: {وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. {سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا} أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات، كقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 45]. [{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَاواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ * ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 34 - 35] {نَنْساكُمْ} نترككم في العذاب كما تركتم عدة لِقاءَ {يَوْمِكُمْ هذا}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما معنى جواب المصنف: فإنه جعل أصل الكلام: نظن ظنًا، ثم زيد أداة الحصر لمزيد التأكيد، وإثبات الظن ونفي ما سواه للمبالغة، لا ليرد ب"ما" و"إلا" إنكار المنكر كما هو مقتضاهما، ولذلك أكد بقوله: {ومَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}. ونحوه مجيء"إن" في قولنا: {رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا} [آل عمران: 16]، فإنها لمجرد التوكيد، ثم بسط الكلام لا لنفي الشك ورد الإنكار كما عليه موضوعها. فإذن مورد التركيبين واحد، ولم يتغاير سوى التوكيد، وأما معنى قوله: "وزيد نفي ما سوى الظن توكيدًا": فهو {إن نَّظُنُّ إلاَّ ظَنًا} لما دل بمفهومه [على] نفي سوى الظن، وهو اليقين، أكد بمنطوق قوله: {ومَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ذلك المفهوم، فيكون من باب الطرد والعكس. قوله: (أو عقوبات أعمالهم): أي: وضع"السيئات" التي هي أسباب العقوبات موضع مسبباتها، فلا يكون الاستشهاد بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 45] لجهة المشاكلة، إذ ليس في الكلام ما يذكر في صحبته: السيئات المراد بها العقوبات. ?

وهي الطاعة، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم، ولم تخطروه ببال، كالشيء الذي يطرح نسيًا منسيًا. فإن قلت: فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم؟ قلت: كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} [سبأ: 33]، أي: نسيتم لقاء الله في يومكم هذا ولقاء جزائه. وقرئ: "لا يخرجون" يفتح الياء، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي يرضوه. [{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 36 - 37] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي): فعلى هذا النسيان وإسناده إلى الله على الاستعارة التمثيلية، ولذلك جاء بكاف التشبيه في قوله: "كالشيء الذي يطرح"، وعلى الأول: محمول على الغاية والنهاية، لأن من نسي شيئًا تركه، فيكون من وضع اسم السبب على المسبب. قوله: (كمعنى إضافة المكر في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}): قال: "ومعنى {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: مكرهم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، وإضافة المكر إليه، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي". وما نحن بصدده من القبيل الأول؛ لأن "اليوم" مفعول، وهو ملقىً لا لاق، إلا أن يقال: أن اللقاء مضاف إلى الفاعل، على أن ما تستقبله أنت فهو أيضًا يستقبلك، وعليه قراءة من قرأ: "فتلقى آدم من ربه كلمات"؛ بنصب "آدم" ورفع"كلمات"، ونحوه قوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا} [مريم: 61]، قال: " {مَاتِيًّا} مفعول بمعنى فاعل"؛ لأن وعد الله يأتي، وقال أبو البقاء: " {مَاتِيًّا} على بابه، لأن ما تأتيه فهو يأتيك". ?

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} فاحمدوا الله لذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين، فان مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب، وكبروه، فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، وحق مثله أن يكبر ويعظم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته، وسكن روعته يوم الحساب». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأساس: "لقيته لقاءً ولقيانًا، ولاقيته والتقيته". ونحوه: "نهاره صائم"؛ أسند "الصوم" إلى "النهار" للزومه فيها، ولإيجاب المصير إلى الله ولقائه- كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 7]، ولا يقع ذلك إلا في ذلك اليوم- جعل "اليوم" بنفسه لاقيًا، يعني: أن الاشتغال باللذات والانهماك في الشهوات أذهلكم وألهتكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها، فيكون قوله: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} واردًا على المشاكلة، وإن تقدم على صاحبه، يعني: جازيناكم جزاء نسيانكم، والله أعلم. قوله: (فإن مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب): اعتبر فيه عموم الحمد وعموم الوصف وعموم الحامد، وذلك من ترتب قوله: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ} على قوله: {رَبِّ السَّمَوَاتِ ورَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ}، وتكرير الوصف وتعانقه بكل من المذكورات بحسب ما يقتضيه الوصف من معنى المالكية والتربية، وما يوجب على المربوبين من النداء بالثناء نطقًا وحالًا. وتحريره: أن "الحمد" مطلقًا: هو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها من الفضائل والكمالات، وهذا المقام يوجبه؛ فإن المربوب عام في العقلاء وغير العقلاء، وفيضان معنى الربوبية على قدر قابلية كل منهم ظاهر، وشهادة كل منهم على حسب استعداده معلوم مكشوف، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعل المصنف ما تعرض لمعنى الاستغراق الذي يعطيه معنى التعريف في"الحمد"، وتقديم"لله" عليه، كما تعرض في فاتحة الكتاب؛ أنه لمطلق الجنس، لا للاستغراق؛ فرارًا مما لا يطاق. واعلم أنك إذا ضممت مع معنى الزبدة والخلاصة من قوله: {رَبِّ السَّمَوَاتِ ورَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ}، وهو تصوير عظمة الله، معنى قوله: {ولَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ}، وأخذت فائدة تقديم المسند على المسند إليه فيهما، لمحت مسحةً من معنى الحديث القدسي: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار"، أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة. وإذا تأملت معنى الفاء في قوله: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ}، وترتبه على معاني السورة المحتوية على آلاء الله وأفضاله، المشتملة على الدلائل الآفاقية والأنفسية، المنطوية على البراهين الساطعة والنصوص القاهرة في المبدأ والمعاد، عثرت على أمور غربية وأسرار عجيبة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. والحمد لله رب العالمين. * * * ?

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: خمس بسم الله الرحمن الرحيم [{حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} 1 - 3] {إِلَّا بِالْحَقِّ} إلا خلقًا ملتبسًا بالحكمة والغرض الصحيح وَبتقدير أَجَلٍ مُسَمًّى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} من هول ذلك اليوم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأحقاف مكية، وهي أربع وثلاثون آية، وقيل: خمس وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وبتقدير أجل مسمى تنتهي إليه): فاعل "ينتهي" ضمير راجع إلى {خَلَقْنَا}، يريد: أن قوله: {وأَجَلٍ مُّسَمًّى} عطف على {بِالْحَقِّ} بتقدير مضاف، نحوه قوله تعالى في الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ} [الحجر: 85]، والمعنى: ما خلقنا السماوات والأرض إلا بأن نوحد ونعبد، وبأن نثيب من أقبل على ذلك، ونعاقب من أعرض عنه، ولذلك أنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل، وهؤلاء الكفار يعكسون الأمر ويعرضون، ونحو هذا الأسلوب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وقد استقصينا فيه القول في الأنعام. ?

الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به، ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم. [{قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} 4] {بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا} أي: من قبل هذا الكتاب، وهو القرآن، يعني: أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله، {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين؛ من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي: على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ: "أثرة"، أي: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ: "أثرة" بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء، فالإثرة -بالكسر- بمعنى: الأثرة، وأما الأثرة: فالمرّة من مصدر: أثر الحديث: إذا رواه، وأما الأثرة -بالضم- فاسم ما يؤثر، كالخطبة: اسم ما يخطب به. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإبطال الشرك): قال القاضي: "وتخصيص الشرك بالسماوات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية". قوله: (وقرئ: "أثرة"): وفي أكثر النسخ: "قرأ علي: أثرة، ولا وجه لها"، وفي "الكواشي" أيضًا: "وقرئ: "أثرة" بفتح الهمزة والثاء"، وفي "المحتسب": "قرأ ابن عباس- بخلاف- وعكرمة وقتادة وعمرو بن ميمون: "أو أثرة من علم" بغير ألف، وقرأ علي رضي الله عنه والسلمي: "أو أثرة" ساكنة الثاء". ?

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ} 5] {وَمَنْ أَضَلُّ} معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالًا من عبدة الأصنام، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه جمادًا لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا، وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء، وكانوا عليهم ضدًا، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل "مَنْ" و"هُمْ"؛ لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم؛ من الاستجابة والغفلة، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلًا وغباوة. ويجوز أن يريد: كلّ معبود من دون الله من الجن والإنس والأوثان، فغلب غير الأوثان عليها. وقرئ: "ما لا يستجيب"، وقرئ: "يدعو غير الله من لا يستجيب"، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء): الانتصاف: "في قوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} نكتة، وهي أنه تعالى جعله غاية عدم الاستجابة، وهي مستمرة، لكن أشعرت بأن ما بعدها أزيد منه زيادةً بينةً ملحقةً بالمباين، إذ تتجدد هناك العداوة". وقلت: نحوه: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78]، يعني: أن عليك الطرد والرجم إلى يوم الدين، فإذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى معه اللعن. ?

{وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ * وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} 6 - 7] {بَيِّناتٍ} جمع بينة، وهي الحجة والشاهد، أو واضحات مبينات، واللام في {لِلْحَقِّ} مثلها في قوله: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11]، أي: لأجل الحق، ولأجل الذين آمنوا، والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع الضميرين؛ للتسجيل عليهم بالكفر، وللمتلوّ بالحق، {لَمَّا جاءَهُمْ} أي: بادهوه بالجحود ساعة أتاهم، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر، ومن عنادهم وظلمهم: أنهم سموه سحرًا مبينًا ظاهرًا أمره في البطلان لا شبهة فيه. [{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 8] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرًا إلى ذكر قولهم: إن محمدًا افتراه. ومعنى الهمزة في {أَمْ}: الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب، .... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر): الانتصاف: "هذا الإضراب مثل الغاية التي ذكرها لكونها أزيد من الأول، فنزلت لزيادتها عليها كالمنافية لها، إذ تكذيب الآيات أبلغ من قولهم: إنها سحر، والغاية هي التي ذكرها آنفًا في قوله: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} ". قوله: (المقضي منه العجب): قيل: يقال: يقضى منه: ينهى منه، أي: يبلغ النهاية؛ من: قضى حاجته، أو يفعل؛ من: قضيت كذا: إذا فعلته، أو يحكم منه بالعجب؛ من: قضيت كذا؛ أي: حكمت به. ?

وذلك أن محمدًا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقًا من الله له، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريًا. والضمير للحق، والمراد به الآيات. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على سبيل الفرض: عاجلني الله تعالى -لا محالة- بعقوبة الافتراء عليه، فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عني، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه؟ ! يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صمم، ومثله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من الله شيئًا». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك أن محمدًا): إشارة إلى "قولهم المستنكر"؛ يعني: أن قولهم: أن محمدًا افتراه، بعد إقرارهم أنه معجز، مما يقضى منه العجب، وتقريره: أن محمدًا لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، لأن هذا مباين لكلام البشر، ولو فرض أنه قادر على هذا المفترى لكانت قدرته عليه معجزة لكونه خارقًا للعادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقًا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب، فلا يكون مفتريًا، وخلاصته: أن إقرارهم بإعجازه، ونسبتهم إياه إلى الافتراء: مما يقضى منه العجب. هذا التقرير إنما يستحسن إذا أريد بقولهم: {هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} الدلالة على اعترافهم به، وعجزهم عن الإتيان بمثله، كما قال في مفتتح سورة يونس: "قوله: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2]: دليل عجزهم واعترافهم به، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرًا". قوله: (لا يقدر عليه): الضمير المجرور راجع إلى {آيَاتِنَا} باعتبار وضع "الحق" موضعها، والإشارة بقوله: {هَذَا} في التنزيل أيضًا إليه بهذا الاعتبار. ?

ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تندفعون فيه؛ من القدح في وحي الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرًا تارة وفرية أخرى، {كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة: وعيد بجزاء إفاضتهم، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى: {فَلَا تَمْلِكُونَ لِي}؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك النصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله، فما تغنون عني -أيها المنصوحون- إن أخذني الله بعقوبة الافتراء عليه؟ ! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تندفعون فيه): اندفع الفرس؛ أي: أسرع، واندفعوا في الحديث؛ أي: خاضوا. الراغب: "فاض الماء: إذا سال منصبًا، وأفاض إناءه: ملأه حتى أساله، قال تعالى: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ}، ومنه: فاض صدره بالسر، أي: سال، ورجل فياض: سخي، ومنه استعير: أفاضوا في الحديث: إذا خاضوا فيه، وحديث مستفيض: منتشر، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، أي: ادفعوا بكثرة؛ تشبيهًا بفيض الماء". قوله: (وإشعار بحلم الله عنهم): نظيره قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} إلى قوله: {حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، أي: لا يعاجل بالعقوبة بأن لا يمسكها ويهدمها عليهم لعظم جرمهم. قوله: (فكأنه قال لهم: أن افتريته وأنا أريد بذلك النصح لكم): خلاصة الجواب: أن إسناد "لا تملكون" على الفرض، وهو من باب إرخاء العنان والكلام المنصف. ?

[{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 9] البدع: بمعنى: البديع، كالخف بمعنى الخفيف، وقرئ: "بدعًا" بفتح الدال، أي: ذا بدع، ويجوز أن يكون صفة على "فعل"، كقولهم: دين قيم، ولحم زيم. كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب، فقيل له: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم، ولقد أجاب موسى صلوات الله عليه عن قول فرعون: {فَمَا بَالُ القُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]؟ بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "الكلام جرى فرضًا وتقديرًا، ومتى فرض الافتراء امتنع كونه ناصحًا، فلا مصلحة للمكلف في العمل بالمفترى، ويتم ذلك على قاعدة المعتزلة: أن العقل يصل إلى معرفة حكم الله تعالى، فيتصور النصح مع الافتراء، إذا أمر بالتوحيد مثلًا، ولو قال: حكم الله بوجوب التوحيد، وأنا رسول به، كان محقًا عندهم، وهي قاعدة باطلة. والجواب عن الآية عندنا أن إسناد {تَمْلِكُونَ} إليهم تنبيه بالشيء على مقابله بالمفهوم، أي: أن كنت مفتريًا وأنتم المحقون، فالعقوبة واقعة لا بد منها، ولا تقدرون على دفعها عني، وإن كنت محقًا وأنتم المفترون، فالعقوبة تقع بكم، ولا أقدر على دفعها عنكم، كقوله: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] "، انتهى كلامه. قوله: (دين قيم): أي: قائم، و"البدع" على هذا التقدير بمعنى: مبدع. قوله: (ولحم زيم): روى الجوهري عن الأصمعي: "اللحم الزيم: المتفرق، ليس بمجتمع في مكان". ?

{وَما أَدْرِي} -لأنه لا علم لي بالغيب- ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقذر لي ولكم من قضاياه، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ}، وعن الحسن: وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي: قال له أصحابه -وقد ضجروا من أذى المشركين-: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها- يعني: في منامه- ذات نخيل وشجر؟ ". وعن ابن عباس: ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وقال: هي منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، ويجوز أن يكون نفيًا للدراية المفصلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها) إلى قوله: (ذات نخيل وشجر): والحديث من رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة: "إني أريت دار هجرتكم سبخةً ذات نخل بين لابتين، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر رضي الله عنه نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. الأساس: "رفعته لأمر كذا: قدمته إليه، ورفعت له غاية فسما إليها، قال بشر: إذا ما المكرمات رفعن يومًا .... وقصر مبتغوها عن مداها وضاقت أذرع المثرين عنها .... سما أوس إليها فاحتواها" وقال غيره: رفع لي شخص ونار، أي: لاح لي ورأيته. قوله: (نفيًا للدراية المفضلة): هذا ينصرف إلى تفسير ابن عباس، فلا تكون الآية منسوخة. ?

وقرئ: "ما يفعل"، بفتح الياء؛ أي: يفعل الله عز وجل. فإن قلت: {إنّ يُفْعَلُ} مثبت غير منفي، فكان وجه الكلام: ما يفعل بي وبكم؟ قلت: أجل، ولكن النفي في {وَمَا أَدْرِي} لما كان مشتملًا عليه لتناوله "ما" وما في حيزه، صح ذلك وحسن، ألا ترى إلى قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ} [الأحقاف: 33]، كيف دخلت الياء في خبر "أنّ"، وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. و"ما" -في {مَا يُفْعَلُ} - يجوز أن تكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة، وقرئ: "يوحي"، أي: الله عز وجل. [{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 10] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "أجود ما قيل فيه: حمله على الدراية المفضلة"، وإن كان يدري أن مصيره إلى النعيم، ومصيرهم إلى العذاب. قوله: (النفي في {وَمَا أَدْرِي} لما كان مشتملًا عليه لتناوله "ما" وما في حيزه، صح ذلك وحسن): الانتصاف: "بني على أن المجرور قد عطف على مثله، وأنهما جمعيًا في صلة موصول واحد، ولو قيل: المجرور الثاني من صلة موصول محذوف على مثله، أي: وما أدري ما يفعل بي ولا ما يفعل بكم، لم يفتقر إلى تأويل، وحذف الموصول وتفاصيله صحيح، قال: فمن يهجو رسول الله منكم .... ويمدحه وينصره سواء أي: أفمن يهجوه ومن ينصره سواء؟ ". ?

جواب الشرط محذوف، تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. والشاهد من بني إسرائيل: عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله، فتحقق أنه هو النبي المنتظر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والشاهد من بني إسرائيل: عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة): هذا القول بعد قوله: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض": يوهم أن إحدى الآيتين نازلة بمكة، والأخرى بالمدينة، ومن ثم قال صاحب "الكواشي": "السورة مكية، إلا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} الآية، وإلا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] الآية، {ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف: 15] ". وروى محيي السنة عن بعض المفسرين: "أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام، قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، لأن آل (حم) نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة، والآية واردة في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، ومثل القرآن: التوراة، فشهد موسى على التوراة، ومحمد صلى الله عليه وسلم على القرآن، وكل واحد يصدق الآخر". وروى محيي السنة أيضًا عن قتادة والضحاك: " أن الشاهد هو عبد الله بن سلام". وقلت: دليلهما: أن قوله {وشَهِدَ شَاهِدٌ} عطف على الشرط، فيكونان شرطين، وجواب كل منهما على البدل: فلا تكونوا ظالمين، يدل عليه قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}، والشرط لا يستدعي حصوله عند التكلم به، فتضمن الشرط الأول معنى الاستدراج والكلام المنصف، لأن كون القرآن من عند الله متيقن محقق، فلا يعلق بـ"إن" إلا لنكتة، واشتمل الشرط الثاني على معنى المعجزة والإخبار بالغيب، فلا تنافي شهادة عبد الله ابن سلام بالمدينة أن تكون الآية نازلة بمكة. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما تقريره على ما رواه محيي السنة: "أن الآية نزلت في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه": فهو أن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وكَفَرْتُم بِهِ}: أمر له صلوات الله عليه بالرد عليهم فيما طعنوا في القرآن، ولما كان قوله: {مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} قرينةً له، اقتضى أيضًا أن يكون مثل ذلك في الرد، وكذا قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. أما الأول: فهو أن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم، وذلك أن قوله: {وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، والإضراب عنه بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أوجب أن يقال لهم: أخبروني أن القرآن الذي تنسبونه إلى السحر تارة، وإلى الافتراء أخرى- مع أنكم عرفتم أنه حق وصدق محض، وأنه من عند الله، لما جربتم به قواكم، وعجزتم عن الإتيان بمثل أقصر سوره، وأنتم أرباب البلاغة وفرسان البيان، ولما تضمن الدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق- أن كان من عند الله أما تكونون ظالمين؟ يدل على هذه المعاني تصريح قوله: {لِلْحَقِّ} بعد ذكر {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}. وأخبروني أيضًا: أن يشهد بذلك أعلم علماء أهل الكتاب مما يجده في الوحي النازل: أما تكونون ظالمين وأخس الناس وأضلهم عن طريق الحق؟ ، أفلا تتفكرون وتتركون العناد والإعراض؟ فأضيف إلى دليل العقل دليل السمع. وأما الثالث: فهو أن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} رد آخر، وذلك أن قوله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] دل على أن القوم أعرضوا عن قبول القول بالحشر والإقرار بالتوحيد، وأبوا إلا الشرك والمعاندة، فقيل: قل لهم: {مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}، إلى قوله: {وإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف: 6]. وأما الثاني: فهو أن قوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} رد آخر، وبيان ذلك أن قوله: {وَالَّذِينَ ?

وقال له: "إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أوّل أشراط الساعة؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 5]، دل بالإدماج وإشارة النص على أنه تعالى ضمن فيه ما به أعرضوا عن التوحيد والبعث والطعن في الرسول المنذر، فقيل: قل لهم: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} الآية، فدل على أن ذلك الطعن هو أنهم اقترحوا عليه الآيات، وكانوا يسألونه عما لم يوح إليه من الغيوب، كما ينبئ عنه كلام المصنف، ويؤيد هذا أن فصلت الآية بقوله: {ومَا أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، لأنه مطابق لقوله: {عَمَّا أُنْذِرُوا}. قوله: (عبد الله بن سلام): بالتخفيف، قال: "ليس في الأسماء "سلام" بالتشديد إلا أبو عبيد القاسم بن سلام، وفي النساء: سلامة بالتشديد"، قال: "إسلامه شبيه بإسلام أبي بكر رضي الله عنهما، فإنه لم يتلعثم، كما أن أبا بكر رضي الله عنه كان كذلك". قوله: (إني سائلك عن ثلاث) الحديث: أخرجه البخاري عن أنس، وفي رواية المصنف اختلاف وزوائد. "أشراط الساعة": العلامات التي تتقدمها، مثل: خروج الدجال، وطلوع الشمس من المغرب. ?

وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقًا". ثم قال: "يا رسول الله"، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف -يا رسول الله- وأحذر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ينزع إلى أبيه أو إلى أمه): أي: إذا جاء يشبه أحدهما ويجذب إليه، ويقال: "العرق نزاع". قوله: (قوم بهت): بهت فلان فلانًا: إذا كذب عليه، فهو باهت، وقوم بهت. قيل: زيادة الكبد: هي شيء نابت على جانب الكبد، وهو ألذ من الكبد. كل ذلك في"جامع الأصول". وروى المظهري في شرحه عن بعض العلماء: لعل ذلك إشارة إلى إعدام ما يقبل التغير والتأثر، كما في ذبح الموت الذي يؤتى به على صورة الكبش؛ إشارةً إلى أن نعيم أهل الجنة في الجنة أبدي بلا انقطاع، وعذاب أهل النار- الذين لهم استحقاق الخلود في النار- أبديٌّ بلا انقطاع. ?

قال سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: "إنه من أهل الجنة"، إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمسي على الأرض: "إنه من أهل الجنة"، إلا لعبد الله بن سلام): يعني: كلما رآه يقول: إنه من أهل الجنة، وإلا فإنه صلوات الله عليه قال ذلك في حق كثير من أصحابه، رضوان الله عليهم. الحديث: أخرجه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفيه بدل: "لأحد يمشي": "لحي يمشي"، وتمامه: وقال: نزلت: {وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الآية أو في الحديث. وروينا عن الشيخين أيضًا عن قيس بن عباد في حديث طويل قال: "كنت جالسًا في مسجد المدينة، فجاء رجل فيه أثر من الخشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج، فاتبعته، وسألته عن ذلك، فقال: سأحدثك ما ذاك، رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه، رأيتني في روضة، ووسط الروضة عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، وفي أعلاه عروة، فقيل لي: ارقه"، إلى أن قال: "فرقيت حتى كنت في أعلى العمود، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك، فلقد استيقظت وإنها لفي يدي، ?

الضمير للقرآن، أي: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى} [الأعلى: 18]، {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3]. ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك، يعني كونه من عند الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تلك الروضة: الإسلام، وذلك العمود: عمود الإسلام، وتلك العروة: العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت". قوله: (على نحو ذلك، يعني: كونه من عند الله): يريد: أن الضمير المضاف إليه في قوله: {مِثْلِهِ} راجع إلى القرآن، والمشبه إما ما في التوارة من الألفاظ الدالة على معاني التوحيد والوعد والوعيد، دون ما دل على بيان الفروع، وإما الكتب المنزلة، ووجه الشبه: كونه من عند الله. وقال محيي السنة والواحدي: "إن "المثل" صلة، معناه: عليه، أي: على أنه من عند الله". ويجوز أن يحمل الوجه الآخر على هذا، ويمكن أن يقال: إن"المثل" نحوه في قولك: مثلك يجود، أي: أنت تجود، يعني: من هو على صفتك من الكرم والسخاوة وبسطة اليد يجود. المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي: على ما هو عليه، وعلى صفته من كونه وحيًا من الله، نازلًا من عنده، معجزًا بالغًا في فصاحته، وفي إخباره عن المغيبات، موافقًا لما في كتب الله، كما قال: "وأنه من جنس الوحي، وليس من كلام البشر". وحينئذ يحسن عطف قوله: {واسْتَكْبَرْتُمْ} على "آمن"، وترتيبهما بالفاء معًا على المذكور؛ ليكون إيمانه واستكبارهم صادرين عن أمر واحد، وه عرفانهم أن القرآن حق وصدق وصواب، وأنه معجزة من الله، وأن عبد الله أنصف فآمن، وأن المشركين عاندوا فكفروا، ?

فإن قلت: أخبرني عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة النظم. قلت: الواو الأولى عاطفة لـ"كفرتم" على فعل الشرط، كما عطفته "ثُمَّ" في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52]، وكذلك الواو الآخرة عاطفة لـ"استكبرتم" على "شهد شاهد"، وأما الواو في {وَشَهِدَ} فقد عطفت جملة قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}، على جملة قوله: {كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، ونظيره قولك: "إن أحسنت إليك وأسأت، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويقع قوله: {القَوْمَ الظَّالِمِينَ} في محزه، لأنه من وضع العام موضع المضمر؛ للإيذان بأنهم وضعوا الاستكبار موضع الإذعان للحق بعد وضوح البينات. قال الواحدي: "معنى {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}: أن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم، ويحرمهم الهداية"، والله أعلم. قوله: (الواو الأولى عاطفة لـ"كفرتم" على فعل الشرط) إلى آخره: الانتصاف: "لم يوجه المعطوفات على جهة واحدة، لأنه قد يكون العطف لمجموع مفردات على مجموع مفردات للتقابل بين المفردات، ومنه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} [فاطر: 19 - 20]، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ". وقوله: (ونظيره قولك: أن أحسنت إليك): فقوله: {إن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وكَفَرْتُم} نظير قوله: "إن أحسنت إليك وأسأت"، فآذن بأن كونه من عند الله إحسان وإنعام يوجب استقباله بالشكر التام، فعكسوا وكفروا به، وقوله: {وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ} نظير قوله: "وأقبلت عليك وأعرضت"، فإن شهادة عبد الله بن سلام الموجبة لإيمانه: إقبال ?

وأقبلت عليك وأعرضت عني، لم "نتفق" في أنك أخذت ضميمتين، فعطفتهما على مثليهما. والمعنى: قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الله تعالى عليهم وإرشاد لهم بأن أعلم أهل الكتاب إذا شهد وآمن، فحق أمثالهم التلقي بالخضوع والاستكانة، فعكسوا أيضًا بالاستكبار والإعراض. وهذا التقرير يؤذن بأن "استكبرتم" عطف على {فَآمَنَ}، وكلاهما مسببان عن {وشَهِدَ شَاهِدٌ}، وهذا أحسن من جعل المصنف عطف "استكبرتم" على {وشَهِدَ}، ويعضده قول القوم: "شرنا وابن شرنا". قوله: (ضميمتين): أي: "أقبلت" و"أعرضت" (على مثليهما): وهما "أحسنت" و"أسأت"، يقال: ضميمك في السفر، أي: رفيقك، وجواب الشرط: "لم نتفق"، و"في أنك أخذت" متعلق "نظيره". وقوله تعالى: {وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إلَيْهِ} بالواو، عطفًا على مقدرات شتى، بيان لبعض استكبارهم الذي منعهم عن الإيمان بالقرآن. قوله: (ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ ): يريد: أن جواب الشرط محذوف، وهو هذا، قال الواحدي ومحيي السنة: "جواب الشرط محذوف، على تقدير: أليس قد ظلمتم، يدل عليه قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم، كما قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ} [فصلت: 52] الآية، وقال أبو علي: تقديره: أتأمنون عقوبة الله". وقلت: تقدير إثبات مطلق الظلم أوفق لما سبق أنهم وضعوا الاستكبار موضع الإذعان والإيمان. ?

وقد جعل الإيمان في قوله: {فَآمَنَ} مسببًا عن الشهادة على مثله، لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه، وأنه من جنس الوحي، وليس من كلام البشر، وأنصف من نفسه، فشهد عليه واعترف، كان الإيمان نتيجة ذلك. [{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} 11 - 14] {لِلَّذِينَ آمَنُوا} لأجلهم، وهو كلام كفار مكة، قالوا: عامّة من يتبع محمدًا السقاط، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود، فلو كان ما جاء به خيرًا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل: إن أمة لعمر أسلمت، فكان عمر يضربها حتى يفتر، ثم يقول: لولا إني فترت لزدتك ضربًا، وكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقًا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. فإن قلت: لا بدّ من عامل في الظرف في قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ}، ومن متعلق لقوله: {فَسَيَقُولُونَ}، وغير مستقيم أن يكون {فَسَيَقُولُونَ} هو العامل في الظرف؛ لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، فما وجه هذا الكلام؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا بد من عامل في الظرف): يعني: "إذ" لازمة الإضافة، وقد أضيفت إلى قوله: {لَمْ يَهْتَدُوا} فلا يعمل فيها، وأيضًا هي للمضي، فلا يجوز أن يكون العامل: {فَسَيَقُولُونَ}، للاستقبال، والفاء في {فَسَيَقُولُونَ} للاستقبال، والفاء في {فَسَيَقُولُونَ} تقتضي سببًا، ولا بد من البيان. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب: أن عاملها مقدر، وهو السبب في {فَسَيَقُولُونَ}، والتقدير: إذ لم يهتدوا ظهر عنادهم فسيقولون، وحذف عامل الظرف جائز، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [يوسف: 15]، قال أبو البقاء: "تقديره: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عرفناه، لدلالة {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عليه"، وكذا في قول الناس: حينئذ الآن، أي: كان ذلك حينئذ، واسمع الآن منه. وقال الواحدي: "إذ: بمعنى "إن"، والمعنى: إن لم يصيبوا الهداية بالقرآن فسيقولون إنه كذب". وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "يجوز "إذ" أن تكون متضمنةً معنى الشرط؛ لدلالة الفاء بعدها، وكونها في معنى "إذا"، وحسن تعبيرها بها لدلالتها على تحقق ذلك؛ لكونها للماضي، ويجوز أن تكون معمولًا لقوله: {فَسَيَقُولُونَ} باعتبار إرادة الاستمرار". الانتصاف: "لم يمنع عمل {فَسَيَقُولُونَ} إلا الاستقبال، فلا مانع لأن الاستقبال إنما جاء للإشعار بدوام ما وقع، وأنهم حرفوا وقالوا: هذا أساطير، وإفك قديم، فمعناها: وقالوا إذ لم يهتدوا به: هذا إفك قديم، وداموا عليه؛ فعبر عن الوقع والدوام والاستقبال بالسين، كقول إبراهيم عليه السلام: {إلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27]، وهذا طريق الجمع بين قوله: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، وبين قوله: {سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27]، ولولا دخول الفاء على الفعل لتعين هذا، لكن الفاء دلت بسببيتها على محذوف هو السبب، وقطعت الفعل عن الظرف، فتعين ما ذكره الزمخشري لأجل الفاء، لا لأجل السين". ?

قلت: العامل في "إذ" محذوف، لدلالة الكلام عليه، كما حذف من قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [يوسف: 15]، وقولهم: حينئذ الآن، وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون: هذا إفك قديم. فهذا المضمر صحّ به الكلام، حيث انتصب به الظرف، وكان قوله: {فَسَيَقُولُونَ} مسببًا عنه، كما صحّ بإضمار "أنّ" قوله: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214]، لمصادفة "حَتَّى" مجرورها، والمضارع ناصبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الاستقبال إذا دل على الاستمرار فيما مضى حالًا فحالًا، نحو: لو تحسن إلى لشكرت، كان بمعنى المضي، وإذا دل على الاستمرار فيما يجيء وقتًا فوقتًا كان متوغلًا في معناه، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وربما دل على الاستمرار دائمًا، نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، وهذا من القبيل الثاني، ولذلك قرن بالسين، وذلك أن قوله: {وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} متصل بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وكَفَرْتُم بِهِ}، على معنى: أخبروني أن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم ظالمين؟ ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم عند سماعهم هذا الكلام المنصف الذي ليس بعده إرشاد أظهروا العناد، ولم ينظروا بنظر الإنصاف، وتكلموا بما هو نص على الاستكبار والتجبر، وقالوا لأجل الذين آمنوا: لو كان الإيمان خيرًا ما سبقونا إليه. ولهذا وضع المضمر. فنبه سبحانه وتعالى بقوله: {وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ} حبيبه صلوات الله عليه على تماديهم في العناد، وإقناطًا له عن إيمانهم، وتسليةً عن طعنهم، وأنهم حين لم يهتدوا بهذا الكلام المنصف ظهر عنادهم، فأعلم أنهم لا يهتدون بعد ذلك أبدًا، ويستمر منهم حينًا بعد حين الطعن في القرآن، فتارةً يقولون: أساطير الأولين، وأخرى: إنه سحر مبين، وإفك قديم، وأمثال ذلك. قوله: (كما صح بإضمار "أن"): يريد: أن "إذ" ها هنا تقتضي عاملًا، نظير {يَقُولَ} هناك تستدعي ناصبًا، والفاء هنا تقتضي سببًا، نحو {حَتَّى} هناك تستدعي مجرورًا، فيقدر هنا: "ظهر عنادهم"، ليكون عاملًا في "إذ" سببًا لقوله: {فَسَيَقُولُونَ}، وهناك "أن" ليكون عاملًا في {يَقُولَ}، ويجعل الفعل في تأويل المصدر؛ ليصح أن يقع مجرورًا بـ {حَتَّى}. ?

وقولهم: {إِفْكٌ قَدِيمٌ} كقولهم: أساطير الأوّلين. {كِتابُ مُوسى} مبتدأ، {وَمِنْ قَبْلِهِ} ظرف واقع خبرًا مقدمًا عليه، وهو ناصب {إِمَامًا} على الحال، كقولك: في الدار زيد قائمًا. وقرئ: "ومن قبله كتاب موسى"؛ على: وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى {إِمَامًا}: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام، {وَرَحْمَةً} لمن آمن به وعمل بما فيه، {وَهَذَا} القرآن {كِتابٌ مُصَدِّقٌ} لكتاب موسى، أو: لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب. وقرئ: "مصدق لما بين يديه". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({كِتَابُ مُوسَى} مبتدأ، {ومِن قَبْلِهِ} ظرف واقع خبرًا): وقلت: لو روعي التناسب بين القرينتين ويقال: {كِتَابُ مُوسَى} فاعل الظرف على مذهب الأخفش، وقد ذكره صاحب "الكشف"، كان أحسن، ولم يلزم التقديم الذي لا يفيد هنا معنى التخصيص إليه، ولا الفصل بين الحال وعاملها، ويكون المعنى: حصل ومضى من قبله كتاب موسى إمامًا، وميز وشوهد عيانًا أن كتابك هذا مصدق معجز، وأطلق {مُصَدِّقٌ}، ولم يقل: "مصدق له"، أي: لكتاب موسى؛ تعميمًا وإيذانًا بأنه مصدق للكتب السماوية كلها، لاسيما نفسه، لكونه معجزًا نازلًا بلسان عربي مبين، تحدي به العرب العرباء، فأفحموا، ومع ذلك أنه نذير للذين ظلموا بشير للمحسنين. وإنما عدل عن "العادلين" إلى "المحسنين" ليكون ذريعةً إلى البشارة بقوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} لمن قال: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، وقيل: {لِلْمُحْسِنِينَ} دون "الذين أحسنوا"، بعد قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي: لينذر الذين وجد منهم الظلم، ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الإحسان والإخلاص، إعلامًا بأن الإنسان مفتقر إلى ما يهذب به نفسه ويقوم أوده كل الافتقار؛ لأن الاستقامة على الصراط السوي لا توجد إلا في الأفراد، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. ?

{لَسَانًا عَرَبِيًّا} حال من ضمير الكتاب في "مصدق"، والعامل فيه {مُصَدِّقٌ}، ويجوز أن ينتصب حالًا عن: {كِتَابٌ} لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة، وجوّز أن يكون مفعولًا لـ {مُصَدِّقٌ}، أي: يصدق ذا لسان عربي، وهو الرسول. وقرئ: {لِيُنذِرَ} بالياء والتاء، و"لينذر": من: نذر ينذر: إذا حذر. {وَبُشْرى} في محل النصب، معطوف على محل {لِيُنذِرَ}، لأنه مفعول له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن ثم علل بشارة المحسنين بقوله: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ}، ومن هنا تقف على جلالة محل العشرة المبشرة رضوان الله عليهم. قوله: {لِّسَانًا عَرَبِيًا} حال من ضمير الكتاب): قال الزجاج: "المعنى" مصدق لما بين يديه عربيًا، وذكر {لِّسَانًا} توكيدًا، كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا، أي: جاءني زيد صالحًا، و"رجلًا" توكيد"، وسمى أبو البقاء هذه الحال حالًا موطئة، وأما قوله: "أن ينتصب [حالًا] عن كتاب، ويعمل فيه معنى الإشارة"، ففيه خلاف، ذكرناه في أول البقرة. قال القاضي: "فائدتها الإشعار بالدلالة على أن كونه مصدقًا للتوارة، كما دل على أنه حق، دل على أنه وحي وتوقيف من الله سبحانه وتعالى". قوله: (وقرئ: {لِيُنْذِرَ} بالياء والتاء): نافع وابن عامر والبزي- بخلاف عنه-: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء. ?

[{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} 15 - 16] قرئ: "حسنًا"، بضم الحاء وسكون السين، وبضمهما، وبفتحهما، و {إِحْسَانًا}، و {كُرْهًا}، بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة، كالفقر والفقر، وانتصابه على الحال، أي: ذات كره، أو على أنه صفة للمصدر، أي: حملًا ذا كره. {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ} ومدّة حمله وفصاله {ثَلاثُونَ شَهْرًا}، وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين؛ لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} [البقرة: 233]، بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ: "وفصله"، والفصل والفصال: كالفطم والفطام، بناء ومعنى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: "حسنًا" بضم الحاء وسكون السين): الكوفيون: {إحْسَانًا}، والباقون: "حسنًا"، والكوفيون وابن ذكوان: {كُرْهًا} بضم الكاف، والباقون: بفتحها. قال ابن جني: " (حسنًا) بالفتح، قراءة علي رضي الله عنه والسلمي، يحتمل أن يكون مصدرًا كالمصادر التي اعتقب فيها الفعل، نحو: الشغل والبخل، وأن يكون صفةً لا مصدرًا، لكونه رسيل القبيح، أي: وصيناه بوالديه فعلًا حسنًا، وإن شئت نصبته بـ"وصينا"، لأنه بمعنى: ألزمناه الحسن في أبويه، وإن شئت قدرت: "ألزمناه"، ونصبت به لا بـ"وصينا" المذكور". ?

فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه، لأنه ينتهي به ويتم، سمي فصالًا، كما سمى المدّة بالأمد من قال: كل حي مستكمل مدّة العمر .... ومود إذا انتهى أمده وفيه فائدة، وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما سمى المدة بالأمد): الراغب: "الأمد والأبد: يتقاربان، لكن الأبد: عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، ولا يقال: أبد كذا، والأمد: مدة لها حد مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر، نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمن كذا، والفرق بين الزمان والأمد: أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية، ولذلك قيل: المدى والأمد يتقاربان". قوله: (كل حي مستكمل) البيت: "مود": أي هالك؛ من: أوى: إذا هلك، يقول: كل حي يستكمل مدة عمره، ويهلك إذا انتهى عمره. قوله: (وفيه فائدة): أي: فيه إشارة النص وإدماج معنى الفصل والفطام التام المنتهي بالفصال، ولو قيل: "وحمله وفطامه ثلاثون شهرًا" لم يكن نصًا في الرضاع التام المنتهي بالفصال، وفي كل عدول عن الظاهر إشارةً إلى دقيقة. ?

وقرئ: "حتى إذا استوى وبلغ أشدّه"، وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة: ثلاث وثلاثون سنة، ووجهه: أن يكون ذلك أوّل الأشد، وغايته الأربعين. وقيل: لم يبعث نبيّ قط إلا بعد أربعين سنة. والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه، لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضي: هو الصلوات الخمس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أناف على الثلاثين): الجوهري: "أناف: أشرف". قوله: (وناطح الأربعين): الأساس: "الناطح: هو المستقبل مما يزجر". قوله: (استوزع الشكر): الجوهري: "استوزعت الله شكره، فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني". الراغب: "أوزعني: معناه: ألهمني، وتحقيقه: أولعني بذلك أو اجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران، يقال: وزعته عن كذا: كففته، وقيل: الوزوع: الولوع بالشيء، ورجل وزع". قوله: (وقيل في العمل المرضي: هو الصلوات الخمس): هو معطوف على مقدر، أي: يجوز أن يقال في قوله: {وأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}: أنه يراد به الأعمال الصالحات مطلقًا، ويجوز أن يراد به الصلوات الخمس، والأول أوجه، لأنه علم من قوله تعالى: {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الإسلام والتوحيد، كما نص عليه، ويعلم من هذا الأعمال الصالحات، فيعود المعنى إلى قوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الإسلام والتوحيد، {وأَنْ أَعْمَلَ} الأعمال الصالحات، ويجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، وفيه إشارة إلى معنى قوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. ?

فإن قلت: ما معنى "فِي" في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}؟ قلت: معناه: أن يجعل ذرّيته موقعًا للصلاح ومظنة له، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتي، وأوقعه فيهم. ونحوه: يجرح في عراقيبها نصلي {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} من المخلصين، وقرئ: "يتقبل"، و"يتجاوز" بفتح الياء، والضمير فيهما لله عز وجل، وقرئا بالنون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يجرح في عراقيبها نصلي): أوله: وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها .... إلى الضيف أي: يحدث الجرح في عراقيبها نصلي، المعنى: أن اعتذرت بقلة اللبن بسبب القحط إلى الضيف أعقرها؛ لتكون هي بدل اللبن، "ذي ضروعها": أي: لبنها، جعل المتعدي بمنزلة اللازم لإرادة الحقيقة، ثم عداه كما يعدى اللازم مبالغة. قال ابن الحاجب: "الآية من باب قوله: "فلان يعطي ويمنع"، مما استعمل فيه الفعل المتعدي محذوفًا مفعوله حذفًا غير مقصود، وهذا أبلغ في المدح من القصد إلى المفعول على طريقة خصوص وعموم، لما فيه من المبالغة، وجعل "الذرية" كأنها محل للصلاح". قوله: (وقرئ: "يتقبل" و"يتجاوز" بفتح الياء): شاذة، قال الزجاج: "وهي جائزة، ولا أعلم أحدًا قرأ بها"، وقرأ حفص وحمزة والكسائي: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ونَتَجَاوَزُ} بالنون فيهما مفتوحة، ونصب {أَحْسَنَ}، والباقون: بالياء مضمومةً فيهما، ورفع "أحسن". ?

فإن قلت: ما معنى قوله: {فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ}؟ قلت: هو نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمني في جملة من أكرم منهم، ونظمني في عدادهم، ومحله النصب على الحال، على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم. {وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد؛ لأن قوله: {نَتَقَبَّلُ} {وَنَتَجَاوَزُ}: وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. وقيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وفي أبيه أبي قحافة، وأمّه أم الخير، وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم. وقيل: لم يكن أحد من الصحابة، من المهاجرين منهم والأنصار، أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر. [{وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} 17 - 18] {وَالَّذِي قالَ} مبتدأ خبره: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}، والمراد بـ"الذي قال": الجنس القائل ذلك القول، ولذلك وقع الخبر مجموعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن قوله: {نَتَقَبَّلُ} {ونَتَجَاوَزُ}: وعد من الله تعالى): الراغب: "التقبل: قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابًا كالهدية ونحوها"، وقال الواحدي ومحيي السنة: "الأحسن: بمعنى: الحسن"، وقال القاضي: " {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يعني: طاعاتهم، فإن المباح حسن ولا يثاب عليه". قوله: المراد بـ"الذي قال": الجنس القائل ذلك القول، ولذلك وقع الخبر مجموعًا): الانتصاف: "وفي الآية رد على من زعم أن المفرد الجنسي لا يعامل معاملة الجمع، لا في الصفة، ولا في، فلا يقال: الدينار الصفر خير من الدرهم البيض". ?

وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وعن قتادة: هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه. وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام، فأفف بهما، وقال: ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو، وهما من أجداده، حتى أسألهما عما يقول محمد. ويشهدوا لبطلانه أن المراد بـ"الذي قال": جنس القائلين ذلك، وأنّ قوله: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}: هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم، وعن عائشة رضي الله عنها إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم، فقال مروان: يا أيها الناس، هو الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما}، فسمعت عائشة، فغضبت، وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: يمكن أن يرد بهذا قول صاحب "المفتاح" حيث قال: "امتنع لوجوه كثيرة لا تخفى على متقني أنواع الأدب، أدناها: وجوب نحو: الرجل الطوال، والفرس الدهم، أو صحته لا أقل، على الاطراد، وكل ذلك على ما ترى فاسد". قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها إنكار نزولها فيه): عن البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئًا، فقال: فخذوه، فدخل بيت عائشة رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: {والَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا}، فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلا ما أنزل في سورة النور من براءتي". ?

وقرئ: "أف": بالكسر والفتح بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال: حس، علم منه أنه متوجع. واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غيركما. وقرئ: {أَتَعِدَانِّنِي}: بنونين، و"أتعداني" بأحدهما، و"أتعداني" بالإدغام، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "قال عبد الرحمن: "أجئتم بها هرقليةً وقوقية! "، أراد: أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم والعجم، وهرقل: اسم ملك الروم"، "وقالت عائشة رضي الله عنها لمروان: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أباك، وأنت فضض من لعنة الله"، أي: قطعة وطائفة منها". قوق: اسم ملك من ملوك الروم، قال في "الفائق": "هرقل: كان من ملوك الروم، وهو أول من ضرب الدنانير، وأول من أحدث البيعة، يريد: أن البيعة للأولاد من عادتهم. الفضض: فعل بمعنى: مفعول؛ من: فض: إذا كسر، أي: أنت طائفة من اللعنة فضضت منها، وروي: فضيض وفضض، والفضض: جمع فضيض، وهو الماء العريض، افتضضت الماء: أخذته ساعة يخرج، كورد جني، وصبي وليد، أي: قريبي العهد من الجني والولادة، أي: سلت من اللعنة حديث عهد بها". قوله: (وقرئ: "أف" بالكسر والفتح): نافع وحفص: {أُفٍّ} بالتنوين وكسر الفاء، وابن كثير وابن عامر: بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون: بكسر الفاء من غير تنوين. قوله: (وقرئ: {أَتَعِدَانِنِي}): هشام: "أتعدان" بنون واحدة مشددة، والباقون: بنونين مكسورتين، قال الزجاج: "ويجوز تعداني" بالإدغام، وإن شئت أظهرت النونين، وإن شئت ?

وقد قرأ بعضهم: "أتعدانني" بفتح النون، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء، ففتح الأولى تحريًا للتخفيف، كما تحراه من أدغم، ومن أطرح أحدهما، {أَنْ أُخْرَجَ} أن أبعث وأخرج من الأرض، وقرئ: "أخرج". {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} يعني: ولم يبعث منهم أحد، {يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ} يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله، {وَيْلَكَ} دعاء عليه بالثبور، والمراد به الحث والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك. {فِي أُمَمٍ}: نحو قوله: {فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 16]. وقرئ: "أن"، بالفتح، على معنى: آمن بأن وعد الله حق. [{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 19] {وَلِكُلٍّ} من الجنسين المذكورين {دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي: منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما. فإن قلت: كيف قيل: {دَرَجَاتٌ}، وقد جاء: "الجنة درجات، والنار دركات"؟ قلت: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب؛ لاشتمال "كل" على الفريقين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسكنت الياء، وإن شئت فتحتها، ورويت عن بعضهم: "أتعدانني" بالفتح، وذلك لحن لا وجه له، فلا تقرأن به؛ لأن فتح نون الاثنين خطأ، وإن حكي في شذوذ، فلا تحمل القراءة على الشذوذ". قوله: ({وَيْلَكَ} دعاء عليه بالثبور، والمراد به الحث): قالوا: الويل: بمعنى الهلاك، ودلالته على الحث على الفعل من حيث أن فيه إشعارًا بأن ما هو مرتكب له: حقيق بأن يهلك مرتكبه، وأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك كان باعثًا على تركه. قوله: (على وجه التغليب؛ لاشتمال "كل" على الفريقين): جعل مصحح التغليب لفظ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "كل"؛ لاشتماله على فريق المؤمنين الذين لهم الدرجات، وفريق الكافرين أصحاب الدركات، والمراد بالفريقين ما ذكرهما في قوله، والظاهر أن أحد الجنسين ما دل عليه قوله: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13]، والآخر قوله: {والَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17]، إذا ليس مما يقرب ذكره ويصلح لذلك غيرهما. وأما تقرير التغليب: فهو أنه تعالى لما ذكر الفريق الأول، ووصفهم بثبات في القول، واستقامة في الفعل، ورتب عليه جزاءهم، وأوقع قوله: {ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَانًا} [الأحقاف: 15] استطرادًا في البين، وعقب ذلك بذكر فريق الكافرين، ووصفهم بعقوق الوالدين، وبإنكارهم البعث، وجعل العقوق أصلًا في الاعتبار وكرر في القسم الأول الجزاء، وهو ذكر الجنة مرارًا ثلاثًا، وأفرد جزاء الكافر، وهو ذكر النار، وأخره بعد ذكر ما يجمعهما من قوله: {ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ}، غلب "الدرجات" على "الدركات" لذلك. فيه: أن لا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه، ثم بر الوالدين والإحسان إليهما، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين وإنكار الحشر، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلًا لإثبات التوحيد؛ الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم. وهذا الترتيب الأفيق، والنظم الرصين: يوقفك على ضعف قول من قال: أن الآية في حق عبد الرحمن، روى محيي السنة عن الزجاج أنه قال: "قول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه: يبطله قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ} الآية، لأنه تعالى أعلم أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وعبد الرحمن من أفاضل المسلمين، فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب". ?

{وَلِيُوَفِّيَهُمْ} -وقرئ: بالنون- تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات، والعقاب دركات. [{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} 20] ناصب الظرف هو القول المضمر قبل {أَذْهَبْتُمْ}، وعرضهم على النار: تعذيبهم بها؛ من قولهم: عرض بنو فلان على السيف؛ إذا قتلوا به، ومنه قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها} [غافر: 46]، ويجوز أن يراد: عرض النار عليهم؛ من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها، فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ولِيُوَفِّيَهُمْ} وقرئ بالنون): ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام: بالياء، والباقون: بالنون. قوله: (ويجوز أن يراد: عرض النار عليهم؛ من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها): الانتصاف: "إن كان "عرضت الناقة على الحوض" مقلوبًا، فعرض الذين كفروا على النار ليس مقلوبًا؛ لأن الحوض جماد لا إدراك له، والناقة هي المدركة، وأما النار فقد ورد أنها مدركة إدراك أولي العلم، فهو كقولك: عرضت الأسرى على الأمير". وقلت: عرضت الناقة على الحوض: من القلب المقبول الذي نزل فيه الحوض منزلة المدرك، أنشد المصنف رحمه الله تعالى: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه .... كرعن بسبت في إناء من الورد ?

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} أي: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم، وقد ذهبتم به وأخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر رضي الله عنه: "لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو العلاء: إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت .... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل ألا ترى كيف أتبع- الأول_ عرض الماء نفسه قوله: "إناء من الورد"، والثاني: صرح بالاشتياق لما في ورودها المناهل ترتيبها بجمالها، بخلافها إذا تركت غير واردة، كذلك هؤلاء الكفار بلغ عنادهم وتصميمهم إلى أن جهنم تستعرض قربانهم، كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]. قوله: (بصلائق وصناب): ويروى: "بصلاء وصناب)، الصلاء؛ من صلاه: كالشواء؛ من شواه، النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه: "أما- والله- ما أجهل عن كراكر وأسنمة، ولو شئت لدعوت بصلاف وصناب وصلائق": الصلف: هو الغلو في الظرف، والزيادة على المقدار، مع تكبر. والصلائق: الرقاق، واحدتها: صليقة، وقيل: هي الحملان المشوية؛ والصلائق: الرقاق، واحدتها: صليقة، وقيل: هي الحملان المشوية؛ ?

ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم، فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا"، وعنه: "لو شئت لكنت أطيبكم طعامًا، وأحسنكم لباسًا، ولكني أستبقي طيباتي". وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه دخل على أهل الصفة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم، ما يجدون لها رقاعًا، فقال: أأنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة، ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير، قال: بل أنتم اليوم خير". وقرئ: "أأذهبتم" بهمزة الاستفهام، و"آأذهبتم" بألف بين همزتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من: صلقت الشاة: إذا شويتها، ويروى بالسين، وهو ما سلق من البقول وغيرهم، والصناب: الخردل المعموم بالزيت، وهو صباغ يؤتدم به، والكركرة- بالكسر- زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض، وجمعها: كراكر، يريد: إحضارهم للأكل؛ لأنها من أطايب ما يؤكل من الإبل". قوله: (بل أنتم اليوم خير): أي: حالتكم اليوم أنفع لكم في الدين، مما إذا فتح عليكم البلاد، واستغنيتم، روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن معاوية: أنه دخل على خاله أبي هاشم بن عتبة يعوده، فبكى أبو هاشم، فقال: ما يبكيك يا خال، أوجعًا يشئزك أم حرصًا على الدنيا؟ فقال: فكلا لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا وقال: "لعلك تدرك أموالًا يؤتاها أقوام، وإنما يكفيك من جميع المال خادم ومركب في سبيل الله"، وإني أراني قد جمعت. وفي "صحيح البخاري" عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: "أتي عبد الرحمن ابن عوف بطعام، وكان صائمًا"، فساق الحديث إلى قوله: "قد بسط للناس من الدنيا ما بسط، ولقد خشيت أن عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام". قوله: (وقرئ: "أأذهبتم" بهمزة الاستفهام): ابن ذكوان: "أأذهبتم" بهمزتين محققتين من غير مد، وابن كثير وهشام أطول مدًا على أصله، والباقون: بهمزة واحدة من غير مد على الخبر. ?

{الهُونِ}: الهوان، وقرئ: "عذاب الهوان"، وقرئ: {تَفْسُقُونَ} بضم السين وكسرها. [{وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 21] الأحقاف: جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، من: احقوقف الشيء: إذا اعوج، وكانت عاد أصحاب عمد، يسكنون بين رمال، مشرفين على البحر، بأرض يقال لها: الشحر، من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. و{النُّذُرُ} جمع نذير، بمعنى: المنذر أو الإنذار، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} ومن بعده. وقرئ: "من بين يديه ومن بعده"، والمعنى: أنّ هودًا عليه السلام قد أنذرهم، فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم العذاب. وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره. وعن ابن عباس رضي الله عنه: يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه. ومعنى {وَمِنْ خَلْفِهِ} على هذا التفسير: ومن بعد إنذاره. هذا إذا علقت {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} بقوله: {أَنذَرَ قَوْمَهُ}، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {تَفْسُقُونَ} بضم السين وكسرها): الضم: السبعة، والكسر: شاذ. قوله: (هذا إذا علقت {وقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} بقوله: {أَنذَرَ قَوْمَهُ}): يعني: يحتمل أن يكون {وقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} حالًا، وأن يكون معترضةً بين المفسر والمفسر، قال القاضي: "أي: لا تعبدوا، فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته، فعلى أن يكون حالًا ينبغي أن يقدر للقوم العلم بمقتضى الحال؛ ليدخل تحت الإنذار ويفيد الاعتبار، إما بتعليم هود إياهم قطعًا؛ إذا أريد ب" من خلفه": الذين سيبعثون بعده، أو أنهم شاهدوا ذلك وعلموا؛ إذا أريد بهم الذين بعثوا في زمانه وأنذروا بعده، ويجوز أن يحصل لهم العلم بذلك بالتعليم، وقريب منه قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]، أي: أتكفرون والحال أنكم عالمون بهذه القصة؟ ! ?

ولك أن تجعل قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} اعتراضًا بين {أَنذَرَ قَوْمَهُ} وبين {أَلَّا تَعْبُدُوا}، ويكون المعنى: واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم. [{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَافِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَاتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 22] الإفك: الصرف، يقال: أفكه عن رأيه، {عَنْ آلِهَتِنا} عن عبادتها، {بِما تَعِدُنا} من معاجلة العذاب على الشرك، {إِنْ كُنْتَ} صادقًا في وعدك. [{قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} 23] فإن قلت: من أين طابق قوله: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحال يجوز أن يكون من فاعل {أَنذَرَ}، أي: أنذر قومه معلمًا إنذار الرسل قبله وبعده، أو من مفعوله، أي: أنذرهم وهم عالمون بإنذار سائر الرسل؛ إما بالمشاهدة أو بتعليمه إياهم. وعلى أن تكون معترضة: المعنى: اذكر- يا محمد- إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب الأليم، واذكر أيضًا أنه قد أنذر من تقدمه من الرسل، ومن تأخر عنه مثل ذلك الإنذار، وإليه الإشارة بقوله: "فاذكرهم"، وإنما كرر "اذكر" لأن كلًا من المعترض والمعترض فيه مستقلان في القصد، بخلاف الحال. وأما قوله: "ومعنى: {ومِنْ خَلْفِهِ} على هذا التفسير": فإشارة إلى تفسير ابن عباس؛ لأن {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} إذا فسر بالذين بعثوا في زمانه: يصح أن يقع إنذار بعضهم بعد إنذاره، وقوله تعالى: {وقَدْ خَلَتِ} - على الوجه الأول- جاء بلفظ الماضي، والمراد: الذين سيبعثون، على سنن الإخبار عن المستقبل بالماضي تحقيقًا له. قوله: (من أين طابق): تحرير السؤال والجواب: كأنهم قالوا: أجئتنا لتصرفنا عن ألهتنا بما تعدنا من نزول العذاب، فمتى هذا الوعد؟ فأتنا بالموعود أن كنت صادقًا. فأجيبوا: إنما العلم عند الله لا يأتيه لوقته إلا هو، فكيف آتيكم به- كما قال-؟ ?

جوابًا لقولهم: {فَاتِنا بِما تَعِدُنا}؟ قلت: من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب، ألا ترى إلى قوله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24]، فقال لهم: لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصوابًا، إنما علم ذلك عند الله، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى: {وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ} -وقرئ بالتخفيف- أن الذي هو شأني وشرطي أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين، لا مقترحين، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه. [{فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} 24 - 25] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حكمةً وصوابًا): مفعول له، أي: ما أعلمني الله ذلك إلا لحكمة يعلمها الله، ومصالح لا أعلمها. قوله: (وقرئ بالتخفيف): أي: "أبلغكم"، بالتخفيف: أبو عمرو، والباقون: بالتشديد. قوله: (أن الذي هو شأني وشرطي): خبر، والمبتدأ هو: "معنى"، وقوله: "قرئ بالتخفيف" اعتراض، وقوله: "لا مقترحين ولا سائلين" بعد قوله: "لم يبعثوا إلا منذرين": نحو: ما زيد إلا قائم لا قاعد، وقد منعه صاحب "المفتاح"، وفيه إيذان بأن قوله: {إنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللَّهِ وأُبَلِّغُكُم} جواب عن قوله: {أَجِئْتَنَا لِتَافِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَاتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، وخلاصته: أن إتيان العذاب ليس إلي، وأن الذي علي وأنا مأمور به: تبليغ ما أرسلت به. ?

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} في الضمير وجهان: أن يرجع إلى {مَا تَعِدُنَا}، وأن يكون مبهمًا قد وضح أمره بقوله: {عَارِضًا} إما تمييزًا وإما حالًا، وهذا الوجه أعرب وأفصح، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء، ومثله: الحبي والعنان؛ من حبا وعنّ: إذا عرض. وإضافة "مستقبل" و"ممطر" مجازية غير معرفة، بدليل وقوعهما -وهما مضافان إلى معرفتين- وصفًا للنكرة. {بَلْ هُوَ} قول قبله مضمر، والقائل: هود عليه السلام، والدليل عليه قراءة من قرأ: "قال هود: بل هو"، وقرئ: "قل: بل ما استعجلتم به هي ريح"، أي: قال الله: قل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أعرب وأفصح): لما فيه من البيان بعد الإبهام، والإيضاح غب التعمية. قوله: (الحبي): الجوهري: "الحبي: السحاب الذي يعترض اعتراض الجبل قبل أن يطبق السماء". قوله: (والقائل: هود، والدليل عليه): هذا يشعر بأن في خلافًا، قال محيي السنة: "يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} ". وقلت: يؤيد هذا القول التعقيب في قوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}، لأنه ليس ثمة قول، بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريب، وكذلك ذكر " الأمر"، كما قال: "وذكر" الأمر"، وكونها مأمورةً من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه". ونحو هذا الأسلوب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243]، قال: "معناه: فأماتهم الله، وإنما جيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته". ?

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبر عن الكثرة بالكلية، وقرئ: "يدمر كل شيء"، من: دمر دمارًا: إذا هلك. {لَا تَرَى} الخطاب للرائي من كان، وقرئ: {لَا يُرَى}، على البناء للمفعول بالياء والتاء، وتأويل القراءة بالتاء -وهي عن الحسن-: لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنهم. ومنه بيت ذي الرمّة: وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى تقدير المصنف: الفاء فصيحة، أي: قال لهم هود ذلك ثم أدركتهم الريح، فأبادتهم، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. ولا ارتياب في أن ذلك القول أبلغ وأجرى على قوانين البلاغة، وأنسب للفصاحة التنزيلية. قوله: (وقرئ: {لا يُرَى} على البناء للمفعول): عاصم وحمزة: {إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} بالرفع، والباقون: بالتاء المفتوحة وبالنصب، قال: القراءة بالياء أقوى؛ لأنه لا يقال: ما جاءتني إلا امرأة، لكن: ما جاءني إلا امرأة، أي: شيء إلا امرأة، والأصل: {لا يُرَى} بالتذكير؛ لأن المعنى: شيء من الأشياء، وإنما أنث نظرًا إلى لفظ " مساكنهم". قوله: (وما بقيت): أوله- من رواية ابن جني لذي الرمة-: برى النحز والأجرال ما في غروضها .... فما بقيت إلا الصدور الجراشع ?

وليست بالقوية. وقرئ: "لا ترى إلا مسكنهم"، و"لا يرى إلا مسكنهم". وروي: أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة، فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة. وقيل: أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحًا فيها كشهب النار. وروي: أوّل ما عرفوا به أنه عذاب: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفت الريح عنهم، فاحتملتهم، فطرحتهم في البحر. وروي: أنّ هودًا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطًا إلى جنب عين تنبع. وعن ابن عباس: اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود، وتلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراكب ينحز بواسطة الرحل: أي: يدق، والجرل- بالتحريك-: الحجارة، وأرض حركة: أي: ذات جراول، والجمع: الأجرال، والغرض: غرض الدابة، وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج، والبطان للقتب، يقال: غرضت البعير: مددت عليه الغرض، والجراشع: جمع الجرشع، وهو من الإبل العظيم الصدر المنتفخ الجنبين، يصف النون يقول: هزلها الاستحثاث والأعمال فما بقيت إلا الصدور المنتفخة. قوله: (اللهم إني أسألك خيرها) الحديث: أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها مع اختلاف يسير. ?

وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة: قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فيقال له: يا رسول الله، ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: «هذا عارض ممطرنا». فإن قلت: ما فائدة إضافة "الرب" إلى الريح؟ قلت: الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده، وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقوّيه. [{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 26] {إِنْ} نافية، أي: فيما ما مكناكم فيه، إلا أنّ "إِنْ" أحسن في اللفظ؛ لما فيه مجامعة "ما" مثلها من التكرير المستبشع، ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في «مهما»: ماما، فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "المخيلة: موضع الخال، وهو الظن، كالمظنة، وهي السحابة الخليقة بالمطر، ويجوز أن تكون مسماةً بالمخيلة التي هي مصدر، كالمحبسة من الحبس". قوله: (يعضد ذلك): أي: لعظم قدرته، فإن في إضافة "الرب" إلى "الريح" في قوله " {بِأَمْرِ رَبِّهَا} دلالةً على عظم شأنها، وأنها من جنود الله، ومما يستقيم أن ينسب إلى الرب سبحانه وتعالى، ثم دل ذلك على عظمة بارئها، وأن مثل هذا الشيء العظيم مملوك له، منقاد لتصرفه، ثم أكد هذا المعنى باقتران الأمر معه، تتميمًا لتعظيم من أضيف إليها، لأن المراد بالأمر: واحد الأوامر، فيكون استعارةً مكنية، شبهت- لكونها منقادةً لتكوين الله فيها ما يشاء، وأنها غير ممتنعة على الله- بالعقلاء المميزين، فلا يتوقفون لامتثال أوامره. ?

ولقد أغث أبو الطيب في قوله: لعمرك ماما بان منك لضارب وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل، فقال: لعمرك ما إن بان منك لضارب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولقد أغث أبو الطيب): الأساس: "أغث فلان في كلامه: إذا تكلم بما لا خير فيه، وفلان لا يغث عليه شيء: لا يمتنع". قوله: "لعمرك ما ما بان): وفي رواية: يرى أن ما ما بان منه لضارب .... بأقتل مما بان منه لعائب "ما" الأولى: ناقية، والثانية: موصولة، وهي اسم "ما"، و "بأقتل" في موضع الخبر، واسم "أن": ضمير الشأن، يقول: إنه يرى العيب أشد من القتل، قال الواحدي: "معناه: أنه ما الذي بان منك لضارب بأقتل من الذي بان منك لعائب". وقال صاحب "المثل السائر": "أخذه أبو الطيب من أبي تمام حيث قال: فتىً لا يرى أن الفريضة مقتل .... ولكن يرى أن العيوب مقاتل وسرقه". ?

وقد جعلت إن صلة، مثلها فيما أنشده الأخفش: يرجّي المرء ما إن لا يراه .... وتعرض دون أدناه الخطوب وتؤوّل بـ: أنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه. والوجه هو الأوّل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لعمرك ما أن بان): وفي بعض النسخ: "إن ما بان"، ولا يجوز الوجهان؛ لأن "ما" إذا قدمت كانت موصولةً مبتدأ، ولا تستقيم الباء في خبره، وإذا أخرت تقع الباء في خبر "إن" النافية، ولا يجوز أيضًا، لأن الباء لا تستقيم إلا في خبر "ليس"، أو "ما" بمعنى "ليس"، أو "هل". قوله: (يرجي المرء ما أن لا يراه) البيت: قيل: هو مأخوذ من قوله: "تؤملون ما لا تدركون"، وقريب من معناه قول الآخر: المرء قد يرجو الرجا .... ء مؤملًا والموت دونه قوله: (والوجه هو الأول): لأن المعنى الثاني يؤدي إلى أن يقال: مكناهم في مثل ما مكناكم فيه، فيلزم تفصيل تمكين هؤلاء على أولئك، لأن المشبه به أقوى في الوجه غالبًا، وعلى الأول: معناه: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، والذي سيق له الكلام أن كفار مكة دون أولئك الكفار في التمكين في الأرض، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادًا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام، السعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا. ?

ولقد جاء عليه غير آية في القرآن؛ {هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا} [مريم: 74]، {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا} [غافر: 82]، وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار. {مِنْ شَيْءٍ} أي: من شيء من الإغناء، وهو القليل منه. فإن قلت: بم انتصب {إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ}؟ قلت: بقوله: {فَما أَغْنى}. فإن قلت: لم جرى مجرى التعليل؟ قلت: لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته، وضربته إذا أساء؛ لأنك إذا ضربته في وقت إساءته، فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، إلا أن "إذ" و"حيث"، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك. [{وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 27] {ما حَوْلَكُمْ} يا أهل مكة، {مِنَ الْقُرى} من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما. والمراد: أهل القرى. ولذلك قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. [{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ} 28] القربان: ما تقرب به إلى الله تعالى، أي: اتخذوهم شفعاء متقربًا بهم إلى الله، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأحد مفعولي "اتخذ": الراجع إلى {الَّذِينَ} المحذوف، والثاني: {آلِهَةً}. و {قُرْبَانًا}: حال، ولا يصح أن يكون {قُرْبَانًا} مفعولًا ثانيًا، و {آلِهَةً} بدلًا منه؛ لفساد المعنى. وقرئ "قربانًا" بضم الراء، والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يصح أن يكون {قُرْبَانًا} مفعولًا ثانيًا، و {آلِهَةً} بدلًا منه، لفساد المعنى): قيل: لأن الآلهة لا تتخذ قربانًا، وإنما يتقرب إليها، وقال بعضهم: لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله، لأن الآلهة لا يتقرب بها، لأنك إذا جعلت {قُرْبَانًا} مفعولًا ثانيًا لـ"اتخذ"، فكأنك قلت: اتخذوهم- أي: الأصنام- قربانًا وآلهة، والإله لا يتخذ قربانًا، فيفسد المعنى. قال الفاضل نور الدين الحكيم الأبرقوهي: يفسد المعنى؛ لأنه لا يستقيم أن يقال: كان من حق الله أن يتخذ فربانًا، وهو اتخذوا الأصنام من دونه قربانًا، كما استقام أن يقال: كان من حق الله?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يتخذ إلهًا، وهم اتخذوا الأصنام من دونه آلهة. هذا تقرير كلامه، وهو سديد، إلا أن لقائل أن يقول: أن المصنف ذكر في "البقرة" في قوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23]: " أي: بين يدي الله، على قول، وعلى ذلك يستقيم أن يقال: اتخذوا الأصنام متقربًا بها بين يدي الله، وأيضًا قد قيل: إن {قُرْبَانًا} مفعول له، وعلى ذلك فهو غير مخصوص بما يتقرب به، فيسوغ أن يجري بمعنى المتقرب إليه، وحينئذ يستد أن يقال: إنه مفعول ثان أيضًا. هذا كلامه. وقال مكي وأبو البقاء: "إنه مفعول ثان". وقال صاحب "الكشف": " {قُرْبَانًا} مفعول ثان قدم على الأول، أي: آلهةً ذات قربة". وقال صاحب "التقريب": وغاية تقريره: أن اتخاذ الله قربانًا وشفعاء جهة معتبرة في النصرة، ولو جعل مبدلًا منه لكان في حكم الطرح، وخرج عن الاعتبار، وفيه نظر. الانتصاب: "لا يصح أن يكون {قُرْبَانًا} مفعولًا ثانيًا، و {آلِهَةً} حالًا؛ لأنه يصير بمعنى الذم إلى ترك اتخاذ الله متقربًا به، لأنك إذا قلت لعبدك: اتخذت فلانًا سيدًا دوني! لمته على نسبة السيادة لغيره، والله تعالى لا يتقرب به، ولكن يتقرب إليه". وقلت: المصنف لم يرد بـ" فساد المعنى" إلا خلاف المعنى المقصود؛ إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهةً على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى، ألا ترى كيف صرح وكيف جيء بأداة الحصر في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3}، لاسيما في هذا المقام، لأن الذي سيق له الكلام، وجعل أصلًا في ?

{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرتهم، {وَذلِكَ} إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. وقرئ: "أفكهم": والإفك والأفك: كالحِذر والحَذر. وقرئ: "وذلك أفكهم"، أي: وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق. وقرئ: "أفَّكهم" على التشديد للمبالغة، و"آفكهم" جعلهم آفكين، و"آفكهم"، أي: قولهم الآفك ذو الإفك، كما تقول: قول كاذب، و"ذلك إفك مما كانوا يفترون"، أي: بعض ما كانوا يفترون من الإفك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاعتبار: هو التقريع والتوبيخ على عدم الشفاعة والنصرة التي جعلوها وسيلةً إليها وغرضًا في اتخاذهم آلهةً معبودة، حيث أولي كلمة التخضيض لفظ النصرة، ولو جعل مبدلًا لانعكس، سواء جعل في حكم الساقط أو توطئةً وتمهيدًا للبدل، لأن التوطئة غير مقصودة بالذات، وبه لوح في قوله: "أي: اتخذوهم شفعاء متقربًا بهم إلى الله، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا". ولو حمل على المفعول له صح أيضًا، وأفاد المقصود. وقول من قال: إن {قُرْبَانًا آلِهَةً} مفعولان: أشد فسادًا؛ لما يؤدي إلى صيرورة الناصر والمنصور- في قوله: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} - واحدًا، لأن الضمير في {اتَّخَذُوا} حينئذ راجع إلى الموصول. والمعنى الصحيح- كما ذهب إليه المصنف-: هلا نصر هؤلاء الكفار الذين اتخذوهم آلهة من دون الله متقربًا بهم إلى الله. قوله: (وقرئ: "وذلك أفكهم"): وقال مكي: "وهو فعل ماض، و"ما" في موضع رفع أيضًا؛ عطف على ذلك، وقيل: على المضمر المرفوع في "أفكهم"، وحسن ذلك للتفرقة بالمضمر المنصوب بينهما، فقام مقام التأكيد". قوله: (و"ذلك إفك مما كانوا يفترون"): أي: وقرئ: "إفك"، ومعنى هذه القراءة راجع إلى الأولى، لأن عطف {ومَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} على {إفْكُهُمْ} من باب عطف العام على الخاص، ?

[{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 29 - 32] {صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا} أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك. وقرئ: "صرفنا" بالتشديد، لأنهم جماعة. والنفر: دون العشرة، ويجمع: أنفارًا. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: "لو كان ها هنا أحد من أنفارنا". {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} الضمير للقرآن، أي: فلما كان بمسمع منهم، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعضده قراءة من قرأ "فَلَمَّا قضى"، أي: أتمّ قراءته وفرع منها، {قَالُوا} قال بعضهم لبعض: {أَنْصِتُوا} اسكتوا مستمعين، يقال: أنصت لكذا، واستنصت له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني: قولهم: هؤلاء شفعاؤنا، أو اتخذناهم آلهةً نتقرب بها إلى الله: إفك وبعض ما كانوا يفترون؛ قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]. قوله: (وفي حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا): وحديثه على ما ذكر في "الفائق": "قال أبو ذر: قال أخي أنيس: أن لي حاجةً بمكة، فانطلق، فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون: ساحر شاعر كاهن، وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، فقلت: اكفني حتى أنظر، قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فانطلقت، فتضعفت رجلًا من أهل مكة، فقلت: أين هذا الذي تزعمونه الصابئ؟ فأشار إلي وقال: الصابئ الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم وحجر، فخررت مغشيًا علي، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم، فغسلت عني الدم، وشربت من مائها، ثم دخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت بها ثلاثين، ما بين يوم وليلة، وما لي بها طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، قد ضرب الله على أصمختهم، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما تدعوان إسافًا ونائلًا، فقلت: أنكحوا إحداهما الأخرى، فما ثناهما ذلك، فقلت، وذكرت كلامًا فاحشًا لم يكن عنه، فانطلقتا وهما تقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بالليل، وهما هابطان من الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكما؟ قالتا: صابئ بين الكعبة وأستارها، قال: فما قال لكما: فقالتا: كلمةً تملأ الفم. ثم ذكر خروجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسليمه عليه، وأنه أول من حياه بتحيةً الإسلام، وقال: فذهبت لأقبل بين عينيه، فقدعني عنه صاحبه. قوله: الريث: الإبطاء، ورجل ريث، وعن الفراء: رجل مريث العينين: إذا كان بطيء النظر. أقراء الشعر: أنحاؤه وأنواعه، جمع قرو، ويقال للبيتين أو القصيدتين: هما على قرو واحد، وقري واحد. وشنف وشنئ: أخوان، ولكن شنف لا يتعدى إلا باللام. تجهمه: كلح في وجهه وغلظ له في القول، تضعفته: استضعفته، النصب والنصب: حجر كانوا ينصبونه فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح. يقال: وجدت سخفةً من جوع، وهي الخفة تعتري الإنسان إذا جاع، من السخف، وهي الخفة في العقل. يقال: ليلة ضحياء وإضحيان وإضحيانة، وهي المقمرة من أولها إلى آخرها، وإفعلان: مما قل في كلامهم. ?

روي: أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء، ورجموا بالشهب، قالوا: ما هذا إلا لنبإ حدث، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين- أو نينوى-، منهم زوبعة، فضربوا، حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم في جوف الليل يصلى -أو في صلاة الفجر-، فاستمعوا لقراءته، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين خرج إليهم يستنصرهم، فلم يجيبوه إلى طلبته، وأغروا به سفهاء ثقيف. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما كان يتلو في صلاته، فمروا به، فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر، فأنبأه الله باستماعهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: أن إسافًا كان رجلًا، ونائلة امرأة، فدخلا البيت، فوجدا خلوة، ففجرا، فمسخهما الله حجرين. الأنفار: جمع نفر، وهم الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العسرة، والنفرة: مثله، وهو من النفير، لأن الرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته، القدع والردع: أخوان". كلها في"الفائق". وذكر ابن عبد البر في"الاستيعاب" حديث إسلام أبي ذر بغير هذا الوجه، والله أعلم. قوله: (زوبعة): النهاية: "التزبع: التغير وسوء الخلق وقلة الاستقامة، كأنه من الزوبعة؛ الريح المعروفة". قوله: (وعن سعيد بن جبير: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [على الجن] ولا رآهم): هذا يخالف ما روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود عن علقمة، قلت لابن مسعود: هل صخب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد، قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك وطلبناك فلم نجدك، ?

وقيل: بل أمر الله رسوله أن ينذر الجنّ، ويقرأ عليهم، فصرف إليه نفرًا منهم، جمعهم له، فقال: "إني أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة، فمن يتبعني؟ " قالها ثلاثًا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لم يحضره ليلة الجنّ أحد غيري، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فبتنا بشر بات بها قوم، قال: أتاني داعي الحن، فذهبت معه، وقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم"، الحديث. وفي رواية لمسلم: أن ابن مسعود قال: "لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووددت أني كنت معه". قوله: (إلا عبد الله بن مسعود، قال: لم يحضره ليلة الجن أحد غيري) الحديث: من رواية الإمام أحمد بن حنبل عن ابن مسعود: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وأخذت إداوة، ولا أحسبها إلا ماء، حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودةً مجتمعة، قال: فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم [خطأ]، ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فرأيتهم يتثورون إليه، فسمر معهم ليلًا طويلًا، حتى جاءني مع الفجر، وقال لي: هل معك من وضوء؟ قلت: نعم، ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ، فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء، فإذا هو نبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها، ثم قام يصلي، فأدركه شخصان منهم. ?

فانطلقنا، حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون، فخط لي خطًا، وقال: "لا تخرج منه حتى أعود إليك"، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطًا شديدًا، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم انقطعوا كقطع السحاب، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل رأيت شيئا؟ ". قلت: نعمن رجالًا سودًا مستثفري ثياب بيض. فقال: "أولئك جنّ نصيبين"، وكانوا اثني عشر ألفًا، والسورة التي قرأها عليهم: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. فإن قلت: كيف قالوا: {مِنْ بَعْدِ مُوسى}؟ قلت: عن عطاء: أنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس: إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام، فلذلك قالت: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى}. فإن قلت: لم بعّض في قوله: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصفهما خلفه، ثم صلى بنا، فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: جن نصيبين". قوله: (في شعب الحجون): الحجون: موضع فيه مقابر مكة، أنشد لجرهم: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا .... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا .... صروف الليالي والجدود العواثر قوله: (أسودة): النهاية: " أسودة: جمع قلة لـ"سواد"، وهو الشخص، لأنه يرى من بعيد أسود". قوله: (مستثفري ثياب): النهاية: "وهو أن يدخل الرجل ثوبه بين رجليه، كما يفعل الكلب بذنبه". ?

قلت: لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم ونحوها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان): وقلت: قد استقصينا القول في هذا المعنى في سورة إبراهيم عليه السلام، وعند قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 - 4] في سورة نوح عليه السلام. الانتصاف: "الحربي إذا نهب الأموال، وسفك الدماء، ثم حسن إسلامه، جب الإسلام ما تقدم، ويقال: إنه لا يرد وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله إلا مبعضة، وهذا منه، فلعل سره: أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة كل الذنوب". قال صاحب "الانتصاف": مقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، وقد أمر الله موسى أن يقول لفرعون قولًا لينًا، وقد ورد: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهي غير مبعضة، و "ما" للعموم، ولا سيما وقد وقعت في الشرط، والحديث الصحيح ينصر هذا التأويل، وقد أوردناه في سورة إبراهيم عليه السلام. ?

ونحوه قوله عزّ وعلا: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 - 4]. فإن قلت: هل للجنّ ثواب كما للإنس؟ قلت: اختلف فيه: فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، لقوله: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}، وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله، والصحيح أنهم في حكم بني آدم، لأنهم مكلفون مثلهم. {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: لا ينجي منه مهرب، ولا يسبق قضاءه سابق، ونحوه قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12]. [{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 33] {بِقادِرٍ} محله الرفع؛ لأنه خبر "أن"، يدل عليه قراءة عبد الله: "قادر"، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على "أن" وما في حيزها. وقال الزجاج: "لو قلت: ما ظننت أنّ زيدًا بقائم، جاز. كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ ! ، ألا ترى إلى وقوع {بَلَى} مقرّرة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره، لا لرؤيتهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقال الزجاج): وفي "كتابه": "دخلت الباء في خبر "أن" لدخول {أَوَ لَمْ} في أول الكلام، ولو قلت: "ظننت أن زيدًا بقائم" لم يجز، ولو قلت: "ما ظننت أن زيدًا بقائم" جاز؛ لدخول "ما"، ودخول "أن" إنما هو توكيد الكلام، فكأنه في تقديره: أليس الله بقادر على أن يحيي الموتى". قوله: (وقوع {بَلَى} مقررة للقدرة، لا لرؤيتهم): يعني: "بلى" كلمة إيجاب يجاب بها النفي، وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا} فيه نفي، وهي ليست بمقررة له، لأن المعنى لا يساعد عليه، بل لقوله: {بِقَادِرٍ} من حيث المعنى، قال القاضي: " {بَلَى} تقرير للقدرة على وجه عام، ليكون كالبرهان على المقصود، كأنه تعالى لما صدر السورة بتحقيق المبدأ، أراد ختمها بإثبات المعاد". ?

وقرئ: "يقدر"، ويقال: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه. ومنه: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15]. [{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} 34] {أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ} محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو ناصب الظرف، و {هَذَا} إشارة إلى العذاب، بدليل قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذابَ}، والمعنى: التهكم بهم، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم: {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138]. [{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ} 35] {أُولُوا الْعَزْمِ} أولوا الجد والثبات والصبر، و {مِنَ} يجوز أن تكون للتبعيض، ويراد بأولي العزم: بعض الأنبياء، قيل: هم نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضرّ، وموسى قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبَّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبر، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويراد بأولي العزم: بعض الأنبياء): قال القاضي: "وهم أصحاب الشرائع، اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها". قوله: (معبرة): وفي نسخة: "معبرة"، روي عن المصنف: المعبر- بفتح الميم-: موضع العبور، كالجسر والقنطرة، وبكسره: السفينة المعبرة. ?

فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله تعالى في آدم: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، وفي يونس: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. ويجوز أن تكون للبيان، فيكون: {أُولُو الْعَزْمِ} صفة الرسل كلهم. {وَلا تَسْتَعْجِلْ} لكفار قريش بالعذاب، أي: لا تدع لهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر، وأنهم مستقصرون حينئذ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها {ساعَةً مِنْ نَهارٍ}. {بَلاغٌ} أي: هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة، أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام، {فَهَلْ يُهْلَكُ} إلا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه، ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ: "بلغ فهل يهلك"، وقرئ: "بلاغًا"، أي بلغوا بلاغًا، وقرئ: "يهلك" بفتح الياء وكسر اللام وفتحها؛ مِن: هلك وهلِك، و"نهلك" بالنون، {إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ}. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيكون {أُوْلُوا العَزْمِ} صفة الرسل): أي: من حيث المعنى، لأن {مِنَ الرُّسُلِ} على هذا: حال من "أولي العزم"، وفي الحقيقة: الحال بيان لهيئة صاحبها، كالصفة، وعلى الأول: "من" للتبعيض. قوله: (أو هذا تبليغ): قال القاضي: " {هَذَا} الذي وعظتم به، أو هذه السورة، {بَلَاغٌ} أي: كفاية، أو تبليغ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: {بَلَاغٌ} مبتدأ، والخبر: {لَهُمْ}، وما بينهما اعتراض، أي: لهم وقت يبلغون إليه، كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه، استقصروا مدة عمره". وقلت: الذي هو أقضى لحق البلاغة: أن تجعل الآية كالخاتمة للسورة، والفذلكة لما ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اشتملت عليه، ويقد: "هذا تبليغ"، ويكون اتصال ما بعد الفاء بـ {بَلَاغٌ} اتصال الحكم بالوصف، والمعنى: كن صابرًا على أذي قومك، ولا تضجر منهم، ولا تستعجل نزول العذاب، وأد ما عليك، والزم الحجة عليهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ويعضده ما رواه الواحدي عن الزجاج: "تأويله: لا يهلك- مع رحمة الله وتفضيله- إلا القوم الفاسقون. ولهذا قال قوم: وما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية". نظيره في خاتمة سورة الأنبياء: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]، قال: "الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة، والبلاغ: الكفاية، وما تبلغ به "البغية"، والله أعلم. * * * ?

سورة محمد

سورة محمد صلى الله عليه وسلم مدنية عند مجاهد، وقال الضحاك وسعيد بن جبير: مكية وهي سورة القتال وهي تسعة وثلاثون آية، وقيل: ثمان بسم الله الرحمن الرحيم [{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} 1 - 2] {وَصَدُّوا} وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام، أو صدّوا غيرهم عنه، قال ابن عباس رضي الله عنه: هم المطعمون يوم بدر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة محمد صلى الله عليه وسلم مدنية، وقال الضحاك وسعيد بن جبير: مكية وهي تسعة وثلاثون، وقيل: ثمان وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ({وَصَدُّوا} وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام، أو صدوا غيرهم): صد: يجيء متعديًا ولازمًا، الجوهري: "صد عنه يصد صدودًا: أعرض، وصده عن الأمر صدًا: منعه، وأصده عنه: لغة". والتفسير الثاني أشد التئامًا للقرينة السابقة باللاحقة، فإن قوله: {وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} إذا فسر بـ"صدوا غيرهم" يكون من باب العطف للخاص على العام، لأ، إضلال الغير ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشد توغلًا في الضلال من ضلال الشخص، كما أن قوله: {وآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} كذلك، ولذلك قال: " {وآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}: اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب الإيمان به"، فالمعنى: فالذين كفروا وما آمنوا بما نزل على محمد وصدوا غيرهم عن الإيمان به، واغتروا بما كانوا عليه من مكارم الأخلاق: أبطل الله أعمالهم. وفي قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} واعتراضه بين الكلام: إيذان بأن أعمال أولئك لسادة ثابتة غير زائلة، لأن "الحق" في مقابلة "الباطل"، قال الواحدي: " {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}: سترها عليهم بأن غفرها، فلا يحاسبون عليها يوم القيامة، وليس كما أضل أعمال الكفار". وقلت: وفيه الإشعار بأن أعمال الكفار- وإن كانت حسنات- يضلها الله تعالى في غمرات كفرهم وحزمان متابعة الحق المنزل من عند الله، وأن سيئات المؤمنين يسترها الله في كنف إيمانهم ومتابعتهم الحق، وإليه وقعت الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}. وفيه إدماج لإبطال قول من يقول باستقلال العقل، وأن الأوضاع الشرعية مكملة للناقصين، وهم كملة مهذبون لا يفتقرون إليها، ولهدم قاعدة الحسن والقبح العقلي. ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى بتعقيب قول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِلَ} الآية؛ إيضاحًا وبيانًا لما أوقع تعريضًا في قوله: {وهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} بإهدار أعمال الكافرين، وكالتعليل لتكفير سيئات المؤمنين، وإصلاح بالهم، وإليه الإشارة بقوله: "وهذا الكلام يسميه علماء البيان: التفسير"، ومن باب التفسير ما أنشده لنفسه: ?

وعن مقاتل: كانوا اثني عشر رجلًا من أهل الشرك، يصدّون الناس عن الإسلام، ويأمرونهم بالكفر. وقيل: هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدّوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقيل: هو عامّ في كل من كفر وصدّ. {أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} أبطلها وأحبطها، وحقيقته: جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا ربّ لها يحفظها ويعتنى بأمرها، أو جعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم ومغلوبة بها، كما يضل الماء في اللبن. و{أَعْمَالَهُمْ}: ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم؛ من صلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار. وقيل: أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصدّ عن سبيل الله، بأن نصره عليهم، وأظهر دينه على الدين كله. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال مقاتل: هم ناس من قريش، وقيل: من الأنصار، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: هو عام. وقوله: {وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ} اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب الإيمان به؛ تعظيمًا لشأنه وتعليمًا، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، وقيل: معناها إنّ دين محمد هو الحق، إذ لا يرد عليه النسخ، وهو ناسخ لغيره. وقرئ: {نُزِّلَ {و"أنزل"، على البناء للمفعول، و"نزّل" على البناء للفاعل، و"نزل" بالتخفيف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ به فجع الفرسان فوق خيولهم .... كما فجعت تحت الستور العواتق تساقط من أيديهم البيض حيرةً .... وزعزع عن أجيادهن المخانق قوله: (وقرئ: {نُزِّلَ} و"أنزل"): الأولى هي المشهورة، والبواقي شاذة. ?

{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي، لرجوعهم عنها وتوبتهم، {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين، وبالتسليط على الدنيا، بما أعطاهم من النصرة والتأييد. [{ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ} 3] {ذلِكَ} مبتدأ، وما بعده خبره، أي: ذلك الأمر -وهو إضلال أعمال أحد الفريقين، وتكفير سيئات الثاني- كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. ويجوز أن يكون {ذَلَكَ} خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كما ذكر بهذا السبب، فيكون محل الجار والمجرور منصوبًا على هذا، ومرفوعًا على الأوّل. و{الْباطِلَ}: ما لا ينتفع به، وعن مجاهد: الباطل: الشيطان، وهذا الكلام يسميه علماء البيان: التفسير، {كَذلِكَ} مثل ذلك الضرب {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ}، والضمير راجع إلى الناس، أو إلى المذكورين من الفريقين، على معنى: أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين، أو في أن جعل الإضلال مثلًا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلًا لفوز المؤمنين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيكون محل الجار والمجرور منصوبًا): قال صاحب "التقريب": أي: على الحال. قوله: (أين ضرب الأمثال؟ ): يعني: معنى ضرب المثل: استعمال القول السائر المشبه مضربه بمورده، وأين ذلك هاهنا؟ وأجاب: بأن "المثل" هاهنا مستعار للتمثيل وتشبيه حالتي المؤمنين والكافرين، وصفتهم العجيبة الشأن. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إن المشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ}: إما معنى الآية الثالثة، أو الأولى والثانية. فالمعنى على الثاني: حالة أولئك البعداء عن الله في أن أعمالهم الحسنة ضلت وبطلت وصارت هباءً منثورًا، وحالة هؤلاء المقربون في أن أعمالهم السيئة اضمحلت وتلاشت، وما اكتفى بذلك، بل زيد إصلاح بالهم، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]: من الصفات العجيبة الشأن التي يصح أن يكون موقعًا لضرب المثل، وتسير في الآفاق. وعلى الأول: صفة الكفار في أنهم اتبعوا الباطل مع وضوح الحق فخابوا، وصفة المؤمنين في أنهم اتبعوا الحق ففازوا: من الأمثال. والأول أبلغ وأحسن. فإن قلت: ترتب قوله: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} على القول السابق، وأن يفسر قوله: {وصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بأن صدوا غيرهم، والمراد المطعمون يوم بدر: ظاهر، فما وجهه على القول الأول، وهو أن يفسر "صدوا" بـ "امتنعوا". قلت: وجهه عليه أظهر؛ لأن المعنى: أيها المؤمنين، إذا ظهر أن تأسيس أمر الكفار على الباطل، وتأسيس أمركم على الحق، وقد اشتهر أن "الحق أبلج، والباطل لجلج"، فلا تبالوا بالكفار وباجتماعهم واستعدادهم، واعتمدوا على نصرة الله أهل الحق، وخذلانه أهل الباطل، وكونوا على بال من وعد الله أنه يصلح بال أهل الحق، ويضل أعمال أعدائهم، وإذا لقيتم الذين تحزبوا عليكم، فلتوجد منكم الغلظة والشدة بضرب الأعناق بلا توان وإمهال، ولذلك اختصر الفعل، واقتصر على المصدر المؤكد، وعبر عن القتل بـ"ضرب الرقاب"، ?

[{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} 4 - 6] {لَقِيتُمُ} من اللقاء، وهو الحرب، {فَضَرْبَ الرِّقابِ} أصله: فاضربوا الرقاب. ضربًا، فحذف الفعل وقدّم المصدر، فأنيب منابه مضافًا إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه. وضرب الرقاب: عبارة عن القتل، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، وذلك أنهم كانوا يقولون: ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته، وضرب ما فيه عيناه: إذا قتله، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل، كما ذكرنا في قوله: {بِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} [الأنفال: 12]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتمم المعنى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، ووضع {الَّذِينَ كَفَرُوا} موضع الضمير، وأعيد ذكر {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ}. قوله: (وضرب عنقه وعلاوته): المغرب: "العلاوة: ما علق على البعير بعد حمله من مثل الإداوة والسفرة، وقولهم: فضرب علاوة رأسه؛ مجاز". ?

{أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه؛ من الشيء الثخين: وهو الغليظ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض، {فَشُدُّوا الْوَثاقَ} فأسروهم، والوثاق -بالفتح والكسر- اسم ما يوثق به. {مَنًّا} و {فِداءً} منصوبان بفعليهما مضمرين، أي: فإمّا تمنون منا، وإما تفدون فداء، والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يفادوهم. فإن قلت: كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت: أمّا عند أبي حنيفة وأصحابه: فأحد أمرين: إمّا قتلهم، وإمّا استرقاقهم، أيهما رأى الإمام، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية: نزل ذلك في يوم بدر، ثم نسخ. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يراد بالمنّ: أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا، أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمّة، وبالفداء: أن يفادى بأساراهم أسارى المشركين، فقد رواه الطحاوي مذهبًا عن أبي حنيفة، والمشهور أنه لا يرى فداءهم، لا بمال ولا بغيره، خيفة أن يعودوا حربًا للمسلمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والوثاق- بالفتح والكسر-: اسم ما يوثق به): الراغب: "وثقت به أثق ثقة: سكنت إليه، واعتمدت عليه، وأوثقته: شددته، وما يشد به: وثاق، قال تعالى: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 26]، وقوله: {فَشُدُّوا الوَثَاقَ}، والميثاق: عقد مؤكد بيمين وعهد، والموثق: اسم منه، قال تعالى: {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 66]، والوثقى: قريبة من الموثق، وقالوا: رجل ثقة، وقوم ثقة، وناقة موثقة الخلق: محكمته". ?

وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين، وهو: القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمن. ويحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عروة الحجبي، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي، وفادى رجل برجلين من المشركين. وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة): قال القاضي: "هو ثابت عندنا، فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر: فالإمام مخير بين القتل والمن والفداء والاسترقاق". قوله: (الحجبي): في "الجامع": "يفتح الحاء وفتح الجيم والباء الموحدة؛ منسوبًا إلى الحجبة جمع حاجب، والمراد بهم: حجبة البيت الحرام من بني عبد الدار، وهو خارج عن القياس، نسبوا إلى الجمع لكثرة الاستعمال". قوله: (أثال الحنفي): ولعل الظاهر: ثمامة بن أثال بن النعمان، قال صاحب "الجامع": "هو سيد أهل اليمامة، كان أسر، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه". قوله: (وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي): قال الواحدي: "ذهب جماعة من المفسرين إلى نسخ المن والفداء بالقتل، لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال: 57]، وهو قول قتادة ومجاهد والحسن والسدي". ?

وقرئ: "فدًى" بالقصر مع فتح الفاء. أوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح والكراع، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها .... رماحًا طوالًا وخيلًا ذكورا وسميت: أوزارها؛ لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها، فكأنها تحملها وتستقل بها، فإذا انقضت فكأنها وضعتها. وقيل: أوزارها: آثامها، يعني: حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. فإن قلت: {حَتَّى} بم تعلقت؟ قلت: لا تخلو: إما أن تتعلق بالضرب والشد، أو بالمن والفداء، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله: أنهم لا يزالون على ذلك أبدًا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة، وقيل: إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام. وعند أبي حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد: فالمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين، وإذا علق بالمن والفداء: فالمعنى: أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا أن يتأول المن والفداء): استثناء من قوله: "فالمعنى"، يعني: إذا علقت {حَتَّى} بالمن والفداء على مذهب أبي حنيفة، فالمعنى: حتى تضع حرب بدر أوزارها، فإذا مضت لا يكون من ولا فداء، إلا أن يفسر المن بالاسترقاق وبأخذ الجزية، والفداء بأن يفادى أساراهم بأسارى المشركين، كما روى الطحاوي عن أبي حنيفة، فحينئذ لا يحتاج إلى تقدير: "حرب بدر". قال الزجاج: " {حَتَّى} موصولة بالقتل والأسر، والمعنى: فاقتلوهم وأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها، والتقدير: حتى يسلموا ويؤمنوا فلا يجب أن تحاربوهم، فما دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبدًا". ?

{ذلِكَ} أي: الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك، {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} لانتقم منهم ببعض أسباب الهلكة؛ من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت جارف، {وَلكِنْ} أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين أن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرئ: {قُتِلُوا}، بالتخفيف والتشديد، و"قتلوا"، و"قاتلوا"، وقرئ: {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، و"تضل أعمالهم" على البناء للمفعول، و"يضل أعمالهم"؛ من: ضل. وعن قتادة: أنها نزلت في يوم أحد. {عَرَّفَها لَهُمْ} أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة. قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها. وعن مقاتل: إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه، فيعرفه كل شيء أعطاه الله. أو طيبها لهم، من العرف، وهو طيب الرائحة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ذَلِكَ} أي: الأمر ذلك): قيل: هو إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هنا، وهذا بمنزلة قولهم في الكتاب: "هذا، وقد كان كيت وكيت"، والظاهر أن المشار إليه ما دل عليه قوله: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى آخره، بدليل قوله: "أو فعلوا ذلك". قوله: (أو موت جارف): الأساس: "جرف الشيء واجترفه: ذهب به كله، وجرف الطين والزبل عن وجه الأرض: سحاه بالمجرفة، وتجرفته السيول". قوله: (وقرئ: {قُتِلُوا}): بالتخفيف وضم القاف: أبو عمرو وحفص، والباقون: "قاتلوا". و {فَلَنْ يُضِلَّ} بالياء التحتانية: السبعة. ?

وفي كلام بعضهم: عزف كنوح القماري، وعرف كفوح القماري. أو: حددها لهم، فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها، من: عرف الدار وأرَّفها، والعرف والأرف: الحدود. [{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} 7] {إِنْ تَنْصُرُوا} دين (اللَّهَ) ورسوله {يَنْصُرْكُمْ} على عدوكم، ويفتح لكم، {وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} في مواطن الحرب، أو على محجة الإسلام. [{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} 8 - 9] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} يحتمل الرفع على الابتداء، والنصب بما يفسره، {فَتَعْسًا لَهُمْ}، كأنه قال: أتعس الذين كفروا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عزف كنوح القماري): العزف-بالزاي-: الصوت، الجوهري: "المعازف: الملاهي، وعزف الرياح: أصواتها". قوله: (أو: حددها): عطف على"طيبها". وقلت: ويمكن أن يكنى بالعرف عن التعريف، قال: أرادوا ليخفوا قبرها عن محبها .... فطيب تراب القبر دل على القبر أي: كل يهتدي إلى جنته بروح عمله. هذا قريب من قول مجاهد. قوله: (كأنه قال: أتعس الذين كفروا): فعلى هذا، هو عطف على قوله تعالى: {وَيُثَبِّتْ

فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}؟ قلت: على الفعل الذي نصب "تعسًا"، ولأنّ المعنى: فقال: تعسًا لهم، أو: فقضى: تعسًا لهم. و"تعسًا له": نقيض «لعاله»، قال الأعشى: فالتّعس أولى لها من أن أقول: لعا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَقْدَامَكُمْ}، أي: يثبت الله أقدام المؤمنين، ويتعس الكفار، والفاء في قوله: {فَتَعْسًا لَّهُمْ}: كما في قوله: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، أي: أراد الله أن يتعسهم، فقضى: تعسًا لهم، أو: فقال: تعسًا لهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، كما قدرهما المصنف. وعلى أن يكون ابتداء: هو عطف جملة على جملة شرطية مثلها، ولذلك أدخلت الفاء في خبر الموصول، كما قدره الزجاج، فالمراد بالذين كفروا: من يضاد الذين ينصرون دين الله، كأنه قيل: أن تنصروا الله ينصركم، ومن لم ينصره فتعسًا له، فوضع"الذين كفروا" موضع"من لم ينصره" تغليظًا. هذا القول أوفق لأسلوب السورة من التقابل المعنوي. قوله: (فالتعس أولى لها من أن أقول: لعا): تمامه في"الصحاح": بذات لوث عفرناة إذا عثرت لعوة الجوع: حدته، ويقال للعاثر: "لعًا لك" دعاء عليه بأن ينتعش، واللوث- بالفتح-: القوة، ناقة عفرناة: قوية، بالعين المهملة والفاء والنون، والألف للإلحاق، قبله: كلفت مجهولها نفسي وشايعني .... همي عليها إذا ما آلها لمعا ?

يريد: فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت. وعن ابن عباس: يريد في الدنيا: القتل، وفي الآخرة: التردي في النار. {كَرِهُوا} القرآن و {مَا أَنْزَلَ اللهُ} فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ، فشق عليهم ذلك وتعاظمهم. [{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} 10] دمره: أهلكه، ودمر عليه: أهلك عليه ما يختص به، والمعنى: دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم، {وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة، لأن التدمير يدل عليها، أو للسنة، لقوله عزّ وعلا: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} [الأحزاب: 62]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: قوي همي على قطع بلدة مجهولة الأعلام إذا ما سرابها يلمع، بناقة ذات قوة غليظة. قال الزجاج: "الذين: مبتدأ، والخبر: {فَتَعْسًا لَّهُمْ}، ويجوز أن يكون نصبًا على معنى: أتعسهم الله، والتعس: الانحطاط والعثور". وقال مكي: " (الذين كفروا): مبتدأ، وما بعده: الخبر، و (تعسًا): نصب على المصدر، وهو مشتق عن فعل مستعمل، ويجوز الرفع على الابتداء، و {لَّهُمْ}: الخبر، والجملة: خبر (الذين) ". قوله: (ودمر عليه: أهلك عليه ما يختص به): الأساس: "دمر عليهم، وهو إهلاك مستأصل، ودمرت على القوم: هجمت عليهم بغير استئذان، دمورًا". ?

[{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ} 11] {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم وناصرهم، وفي قراءة ابن مسعود: "ولي الذين آمنوا"، ويروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الشعب يوم أحد، وقد فشت فيهم الجراحات، وفيه نزلت، فنادى المشركون: اعل هبل، فنادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فنادى المشركون: يوم بيوم، والحرب سجال، إن لنا عزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتلى مختلفة: أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون». فإن قلت: قوله تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 30] مناقض لهذه الآية؟ قلت: لا تناقض بينهما، لأن الله مولى عباده جميعًا على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم، وأما على معنى الناصر: فهو مول المؤمنين خاصة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: كأن في "دمر عليهم" تضمين معنى "أطبق"، فعدي بـ"على"، فإذا أطبق عليهم دمارًا لم يلخص مما يختص به أحد. قوله: (كان في الشعب): الجوهري: "الشعب- بالكسر-: الطريق في الجبل، والجمع: الشعاب". قوله: (اعل هبل): هذا مذكور في حديث طويل قاله أبو سفيان يوم أحد، أخرجه البخاري وأبو داود عن البراء بن عازب. النهاية: "هبل- بضم الهاء-: اسم صنم لهم معروف"، "الحرب سجال: أي: مرةً لنا ومرةً علينا، وأصله: أن المستقين بالسجل يكون لكل واحد منهم سجل". ?

[{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَاكُلُونَ كَما تَاكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} 12] {يَتَمَتَّعُونَ} ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أيامًا قلائل، {وَيَاكُلُونَ} غافلين غير مفكرين في العاقبة، {كَما تَاكُلُ الْأَنْعامُ} في مسارحها ومعالفها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، {مَثْوىً لَهُمْ} منزل ومقام. [{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ} 13] وقرئ: "وكائن" بوزن "كاعن" وأراد بالقرية أهلها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غير مفكرين في العاقبة {كَمَا تَاكُلُ الأَنْعَامُ}): فإن قلت: أين موقع التقابل بين هذه الآية وبين قوله: {إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا}؟ قلت: موقعه إيقاع {يَتَمَتَّعُونَ ويَاكُلُونَ} مقابلًا لقوله: {وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وفيه إيماء إلى قوله صلوات الله عليه: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، أخرجه مسلم، يعني: أن الله عز وجل سيدخل الذين آمنوا وتفكروا، فعرفوا أن الدنيا ونعيمها في وشك الزوال، وأن الآخرة هي دار القرار، فحبسوا أنفسهم على طاعة الله وطلب مرضاته، وصبروا على مشاق التكاليف، وعزفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها، فكانت العاقبة جنات تجري من تحتها الأنهار، والذين كفروا لم يتفكروا في ذلك، فاشتغلوا بالدنيا عن الآخرة، وتمتعوا أيامًا قلائل يأكلون غافلين، والحال أن النار مثوى لهم. أسند إدخال الجنة إلى الله، وأهمل إسناد النار، وخولف بين الجملتين فعليةً واسمية؛ للإيذان بسبق الرحمة، والإعلام بتصيير المؤمنين، والوعد بأن عاقبتهم أن الله يدخلهم جنات، وأن الكافرين مثواهم النار، وهم الآن حاضرون فيها، ولا يدرون، وكالبهائم يأكلون. قوله: (وقرئ: "وكائن" بوزن "كاعن"): قرأها ابن كثير.

ولذلك قال: {أَهْلَكْناهُمْ} كأنه قال: وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم، ومعنى "أخرجوك": كانوا سبب خروجك. فإن قلت: كيف قال: {فَلا ناصِرَ لَهُمْ}؟ وإنما هو أمر قد مضى؟ قلت: مجراه مجرى الحال المحكية، كأنه قال: أهلكناهم فهم لا ينصرون. [{أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} 14] "من زين له": هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله، و"من كان على بينة من ربه"- أي: على حجة من عنده وبرهان، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات-: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: "أمَّن كان على بينة"، وقال: {سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا} للحمل على لفظ "مَنْ" ومعناه. [{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} 15] فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ ... كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}؟ قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قال: وكم من قوم هم أشد قوة): قال مكي: " {مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} مما حذف فيه المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: التي أخرجك أهلها، فحذف"الأهل"، فقام ضمير"القرية" مقامهم، فصار مرفوعًا ب"أخرج" واستتر فيه، وظهرت علامة التأنيث". قوله: (لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار): الانتصاف: "لقد أحسن، وفي الكلام حذف لتتم المعادلة وتصح المقابلة، أي: مثل ساكن الجنة، كقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْحَاجِّ ... كَمَنْ آَمَنَ} [التوبة: 19]، أي: أهل سقاية، فيكون حينئذ تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالبينة وراكب الهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار، وهو من باب تنظير الشيء بنفسه باعتبار حالين، إحداهما أوضح بيانًا من الأخرى، فالمتمسك بالبينة هو المنعم في الجنة، والمتبع الهوى هو المعذب في النار". وقلت: قد افتتحت هذه السورة الكريمة، ووسمت براعة استهلالها، بصيغة التقابل في الذين كفروا، وثني في أن الله يدخل الذين آمنوا؛ سلوك تلك الطريقة، وثلث في قوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} ذلك، وجعلت هذه الآية التي نحن بصددها متفرعةً على هذه القرنية بدلالة أداة التشبيه، وجعل المشبه والمشبه به بتمامه ممثلًا به، كما قرره صاحب "الانتصاف". وإنما فصل بين الكلامين ليقع قوله: {مَثَلُ الجَنَّةِ} استئنافًا، وذلك أن الكافر لما ألقي إليه نفي المساواة بين من هو على برهان من ربه، - وهو القرآن المعجز-، وبين من ركب متن الهوى واتبع الشهوات، كما قال: {والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الأَنْعَامُ}، وقدر أنه لعدم التفاته إلى هذا الإنكار بمنزلة من يصر على إنكاره، ويقول بالتسوية، فأوقع {مَثَلُ الجَنَّةِ} إلى ساقته جوابًا إلى هذا الإنكار المتجدد، يعني: إنكاركم هذا يستلزم التسوية بين حالتي أهل الجنة والنار. والنكتة في إيراد هذا الاستئناف: هي أن هذا من الأمور المقررة التي تثبت به الدعاوى؛ لظهور أدلته، وأدمج فيه معنى التعريض أنهم في هذا الإصرار ممن هو خالد في النار، وبأن الذي هو على بينة من ربه في جنات تجري من تحتها الأنهار. ?

ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}، فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار؟ أي كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت: فلم عرّي في حرف الإنكار، وما فائدة التعرية؟ قلت: تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجرى فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول القائل: أفرح أن أرزأ الكرام وأن .... أورث ذودًا شصائصًا نبلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن بعضهم: أن الهمزة في {أَفَمَنْ كَانَ} توقيف وتقرير، لأن الجواب معلوم، كما أنك إذا قلت: من يفعل السيئات يشق، ومن يفعل الحسنات يسعد، ثم قلت: الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ فقد علم أن الجواب: السعادة، فهذا مجرى همزة التوقيف والتقرير. الراغب: "من: عبارة عن الناطقين، ولا يعبر به عن غير الناطقين إلا إذا جمع بينهم وبين غيرهم، كقولك: رأيت من في الدار من الناس والبهائم، أو يكون تفصيلًا لجملة يدخل فيهم الناطقون، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمء مَنْ يَمْشِي} [النور: 45] الآية، ولا يعبر عن الناطقين إذا تفرد، لهذا قال بعض المحدثين في صفة أغنام نفى عنهم الإنسانية: تخطي إذا جئت في استفهامهم بـ "من" تنبيهًا على أنهم حيوان أو دون الحيوان". قوله: (أفرح أن أرزأ الكرام) البيت: شصوص: وهي الناقة القليلة اللبن، النبل- بالضم-: جمع نبلة، وبالفتح: جمع نبيل، ككرم وكرم، والنبل أيضًا: صغار الإبل، وهو ?

هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود، مع تعريه عن حرف الإنكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله، والذي طرح لأجله حرف الإنكار: إرادة أن يصوّر قبح ما أزن به، فكأنه قال له: نعم، مثلي يفرح بمرزأة الكرام، وبأن يستبدل منهم ذودًا يقل طائله، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار. و{مَثَلُ الجَنَّةِ}: صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبره: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الأضداد، والذود: ما دون العشرة، وفي الحديث: "في خمس ذود شاة" بالإضافة، والنبل: روي في الشعر بضم النون أيضًا، والمعنى: أفرح بأن أرزأ بكرام القوم، فأعطى صغار الإبل، أي: لا أفرح. قوله: (ما أزن به): الجوهري: "أزننته بشيء: اتهمته، وهو يزن بكذا". قوله: (وهو مبتدأ، وخبره: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}): قال الفراء: أراد: أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟ يدل على هذا المحذوف قوله: {وعِدَ المُتَّقُونَ}، أو حرف التشبيه الدال على المشبه والمشبه به. ذكره صاحب "المطلع". ولا بد من تقرير شيء، إما عند المشبه كما ذهب إليه الفراء، أو عند المشبه به، كما قدره المصنف، وهو: "كمثل جزاء من هو خالد في النار". ?

وقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ} داخل في حكم الصلة كالتكرير لها، ألا ترى إلى صحة قولك: التي فيها أنهار. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف: هي فيها أنهار، وكأن قائلًا قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار، وأن يكون في موضع الحال، أي: مستقرّة فيها أنهار، وفي قراءة علي رضي الله عنه: "أمثال الجنة"، أي: ما صفاتها كصفات النار. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فِيهَا أَنْهَارٌ} داخل في حكم الصلة كالتكرير لها): أي: للصلة، إحداها: {وعِدَ المُتَّقُونَ}، وثانيها: {فِيهَا أَنْهَارٌ}. قوله: (ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف): عطف على قوله: "داخل في حكم الصلة"، لا على ما قبله، بدليل عطف: "وأن يكون في موضع الحال" على "أن يكون"، وفيه بحث، لأنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ؛ لأن {فِيهَا أَنْهَارٌ} جملة برأسها، ويلزم من كونها بيانًا وقوع الاستئناف قبل مجيء خبر الجملة السابقة التي هي مورد السؤال، اللهم إلا أن يقال: يقدر للجملة الأولى خبر، وللثانية مبتدأ، كما فعل أبو البقاء، أي: فيما نقص عليك مثل الجنة، وقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ} مستأنف شارح لمعنى المثل، وقوله: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ} في موضع رفع، أي: حالهم كحال من هو خالد في النار، أو نصب، أي: يشبهون. وقدر المصنف في "الأنعام"- عند قوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]-: " {مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ}: أي: صفتها هذه، وهي قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ} ". قوله: (في موضع الحال): ذو الحال: الضمير الراجع من الصلة إلى الموصول؛ لأن الموصولة صفة للجنة، ولا بد فيها من الضمير، أي: الجنة التي وعد بها المتقون مستقرةً فيها الأنهار. قوله: (وفي قراءة علي رضي الله عنه: "أمثال الجنة"): قال ابن جني: "قرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "أمثال الجنة"، وهذه القراءة دليل على أن القراءة العامة بالتوحيد معناها ?

وقرئ: "أسن"، يقال: أسن الماء وأجن: إذا تغير طعمه وريحه، وأنشد ليزيد بن معاوية: لقد سقتني رضابًا غير ذي أسن .... كالمسك فتّ على ماء العناقيد {مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} كما تتغير ألبان الدنيا، فلا يعود قارصًا ولا حازرًا، ولا ما يكره من الطعوم، {لَذَّةٍ} تأنيث لذّ، وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر. وقرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفة الخمر، والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة، أي: لأجل لذة الشاربين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكثرة، وذلك لما فيه من معنى المصدرية، ولهذا جاز: "مررت برجل مثل رجلين"، و "برجلين مثل رجال"، و "بامرأة مثل رجل"، ألا ترى أنك تستفيد في أثناء ذلك معنى التشبيه والتمثيل". وأما "ما" في كلام المصنف في قوله: "ما صفاتها كصفات النار": فهي نافية، وذلك لما سبق له أن هذا الكلام في صورة الإثبات ومعنى النفي، وأما معنى الجمع في قوله: "كصفات النار": فلوقوع {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} الآية مشبهًا به، والمشبه متعدد، ذكر فيه أشياء ستة: الأنهار الأربعة مكررة، ثم قيل: {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ثم {ومَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ}، فيجب تقدير ما يقابلها في طرف المشبه به، وقد ذكر فيه شيئان: الخلود في النار وسقي الماء الحميم. وعلى تقدير ابن جني: لا يجب تقدير صفات على الجمع؛ لما ذكر من أنه جائز أن يقال: مررت برجلين مثل رجال، وعكسه. قوله: (وقرئ: "أسن"): قرأ ابن كثير: بالقصر، والباقون: بالمد. قوله: (فلا يعود قارصًا ولا حازرًا): الجوهري: "القارص: اللبن الذي يحذي اللسان، وفي المثل: عدا القارص فحزر، أي: جاوز إلى أن حمض"، و "الحازر- بتقديم الزاي-: اللبن الحامض". ?

والمعنى: ما هو إلا التلذذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع، ولا آفة من آفات الخمر، {مُصَفًّى} لم يخرج من بطون النحل، فيخالطه الشمع وغيره، {ماءً حَمِيمًا} قيل: إذا دنا منهم شوى وجوههم، وانمازت فروة رءوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم. [{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} 16] هم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه، ولا يعونه، ولا يلقون له بالًا تهاونًا منهم، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة: ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء. وقيل: كان يخطب، فإذا عاب المنافقين خرجوا، فقالوا ذلك للعلماء. وقيل: قالوه لعبد الله بن مسعود. وعن ابن عباس: أنا منهم، وقد سميت فيمن سئل. {آنِفًا} - وقرئ: "أنفًا" على "فَعِل"-: نصب على الظرف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: ما هو إلا التلذذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر): كل هذا المعنى يعطيه الوصف بقوله: {لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} تعريضًا بخمور الدنيا، كقوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47]، ويدل على التعريض تفسيره "المصفى" بقوله: "لم يخرج من بطون النحل، فيخالطه الشمع وغيره"، اعتبر فيهما معنى الوصف بإحدى صفتي الذات، وخصصهما، إذ لولا التعريض لم يفد فائدةً أخرى. قال القاضي: "وفي ذلك مثل لما يقوم مقام الأشربة في الجنة بأنواع ما يستلذ منها في الدنيا، بالتجريد عما ينقصها وينغصها، والتوصيف بما يوجب غزارتها واستمرارها". قوله: (وانمازت فروة رؤوسهم): الجوهري: "مزت الشيء أميزه ميزًا: عزلته وفرزته، وكذلك: ميزته تميزًا فانماز". قوله: (أنفًا): قرأها ابن كثير. ?

قال الزجاج: هو من: استأنفت الشيء: إذا ابتدأته. والمعنى:ماذا قال في أوّل وقت يقرب منا. [{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} 17] {زادَهُمْ} الله {هُدىً} بالتوفيق، {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} أعانهم عليها، أو: آتاهم جزاء تقواهم. وعن السدي: بين لهم ما يتقون. وقرئ: "وأعطاهم"، وقيل: الضمير في {زَادَهُمْ} لقول الرسول، أو لاستهزاء المنافقين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو من: استأنفت الشيء: ابتدأته): روي عن المصنف: "الآنف: اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها، مشتق من الأنف، ولتقدمه الوقت الحاضر كأنه بمعنى: المتقدم، ومنه: أنفة الصبا: لأوله، ويقال: روضة أنف: لم ترع، أي: لما أول يرعى". قوله: ({وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أعانهم عليها، أو آتاهم جزاء تقواهم): والأول أوفق لتأليف النظم؛ لما سبق أن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل، فقوبل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بقوله: {والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}، لأن الطبع يحصل من تزايد الرين، وترادف ما يزيد في الكفر، وقوله: {واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} بقوله: {وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، فيحمل على كمال التقوى، وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق، ويتبتل إليه بشر اشره، وهو التقوى الحقيقي المعنى بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه. ?

[{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَاتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ} 18] {أَنْ تَاتِيَهُمْ} بدل اشتمال من {السَّاعَةَ}، نحو: {أَن تَطَؤُهُمْ} من قوله: {رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ} [الفتح: 25]. وقرئ: "إن تأتهم"، بالوقف على {السَّاعَةَ} واستئناف الشرط، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي الترفع عن متابعة الهوى: النزوع إلى المولى، والعزوف عن شهوات هذه الأدنى. ثم في إسناد {وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} إلى الله تعالى، وإسناد متابعة الهوى إليهم: إنما إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني، وملازمة التقوى دواء إلهي، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82]. قوله: ({أَن تَاتِيَهُم} بدل اشتمال): قال الزجاج: "موضع "أن": نصب على البدل من {السَّاعَةَ}، المعنى: فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة، كقوله: {ولَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ونِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25]، والمعنى: لولا أن تطؤوا رجالًا مؤمنين ونساءً مؤمنات". قوله: (وقرئ: "إن تأتهم"، بالوقف على {السَّاعَةَ}): قال ابن جني: "قرأها أبو عمرو ابن العلاء: هذا استئناف شرط، لأنه وقف على {إِلَّا السَّاعَةَ}، ثم قال: "إن تأتهم بغتةً فقد جاء أشراطها"، فإن قلت: الشرط لا بد معه من الشك من الله تعالى، ومعناه: منهم، أي: أن شكوا في مجيئها بغتةً فقد جاء أشراطها، أي: علاماتها، فهلا توقعوها وتأهبوا لوقوعها". ?

فإن قلت: فما جزاء الشرط؟ قلت: قوله: {فَأَنَّى لَهُمْ}، ومعناه: إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم، أي: تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة، يعني: لا تنفعهم الذكرى حينئذ، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى} [الفجر: 23]. فإن قلت: بم يتصل قوله: {فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها} على القراءتين؟ قلت: بإتيان الساعة؛ اتصال العلة بالمعلول، كقولك: إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه. والأشراط: العلامات، قال أبو الأسود: فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا .... فقد جعلت أشراط أوّله تبدو وقيل: مبعث محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم منها، وانشقاق القمر، والدخان. وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة، وشهادة الزور وقطع الأرحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقرئ: "بغتة" بوزن: جربة، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: فالكلام حينئذ ذو جملتين، قال أبو البقاء: " {فَأَنَّى لَهُمْ} خبر {ذِكْرَاهُمْ}، والشرط معترض، أي: إني لهم ذكراهم إذا جاءتهم، وقيل: التقدير: إني لهم الخلاص إذا جاء تذكرتهم"، ولعل هذا أسهل مأخذًا من اختيار المصنف؛ لما يؤدي إلى جعل الكل كلامًا واحدًا، ويلزم التعاطل. قوله: (على القراءتين): أي: المشهورة، وهي {أَن تَاتِيَهُم}، والشاذة، وهي: "إن تأتهم". قوله: (كثرة المال والتجارة): يعني: للعرب، وإلا فالعجم لم تزل كذلك، وهو من قوله صلوات الله عليه: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان". قوله: (وقرئ: "بغتةً"): وهي في الشواذ، قال ابن جني: "وهي قراءة أبي عمرو- في رواية ?

وهي مروية عن أبي عمرو، وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو، وأن يكون الصواب: "بغتة"، بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن فيما تقدم. [{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ} 19] لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين، قال: إذا علمت أن الأمر كما ذكر؛ من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هارون، وفعله لم يأت في المصادر، ولا في الصفات، إنما هو مختص بالاسم، منه: الشربة: اسم موضع، ومنه: الجربة: الجماعة"، الجوهري: "الجربة- بالفتح وتشديد الباء-: العانة من الحمير، وربما سموا الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعةً متساوين". قوله: (لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال: إذا علمت) إلى آخره: يعني: لما قوبل بين ذكري المؤمن والكافر، وفصل بين وصفيهما من السعادة والشقاوة، من مفتتح السورة مرةً بعد أخرى، علم أن اسم الذات- عز شأنه وجل سلطانه- في هذا المقام متجل بتجلي الهيبة والجلال، ومعلم أن مسماه هو الذي يهدي ويضل، ويسعد ويشقي، وهو المتصرف في ملكه وملكوته ما شاء كيف يشاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فينبغي للمكلف أن يكون على حذر من سطوة كبريائه، فيتواضع لعظمة جلاله، لأنه بمرأى منه ومسمع في متقلبه ومثواه، ولم يزل يسترحم لنفسه، ويستغفر لتقصيره، ولذلك أمر أفضل خلقه بالاستغفار: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ}. ?

فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، وعلى التواضع وهضم النفس، باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله تعالى، وعلى التواضع وهضم النفس، باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك): فقدر مضافًا، قال القاضي: "وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم، وأنها جنس آخر". وقلت- والعلم عند الله-: أن المراد باستغفار القوم: دعوتهم إلى ما يزيل أوضارهم؛ من الكفر بالله تعالى والنفاق وسائر المعاصي، والنظم يقتضي هذا؛ لأن قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} مترتب بالفاء على قوله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ السَّاعَةَ}، يعني: إذا تيقنت أن الساعة آتية وقد جاء أشراطها، فخذ بالأهم فالأهم، والأولى فالأولى، فتمسك بالتوحيد، ونزه الله عما لا ينبغي، ثم طهر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك من ترك الأولى، فإذا صرت كاملًا في نفسك، فكن مكملًا لغيرك، فاستغفر للمؤمنين. فإذن: المراد باستغفار المؤمنين والمؤمنات: ما به يزول كفرهم ونفاقهم ومعاصيهم من العلم والعمل، وبالمؤمنين: العموم؛ سواء كان مؤمنًا مخلصًا أو كافرًا منافقًا؛ تغليبًا، يدل على الأول: قوله تعالى: {واللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْوَاكُمْ}، فإنه عبارة عن الوعد والوعيد على أعمال الخير والشر، وعلى الثاني: قوله تعالى: {ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} الآيات، فالاستغفار محمول على عموم المجاز. ?

والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم، أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور، أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم. وعن سفيان بن عيينة: أنه سئل عن فضل العلم، فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، فأمر بالعمل بعد العلم، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]، إلى قوله: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]، ثم قال بعد: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونظير معنى ترتب الفاء السابق: ما رويناه في "صحيحي" البخاري ومسلم عن أنس: "أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟ فكان الرحل استكان، ثم قال: ما أعددت لها كبير صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت"، وفي رواية: "قال أنس: ما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبيصلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل أعمالهم". قوله: (أنه سئل عن فضل العلم، فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به): يعني: فضل العلم إنما يظهر إذا قرن بالعمل، لأنه تعالى إنما بدأ به في هذه الآيات؛ ليؤذن أنه كالمقدمة للعمل والتتمة للواجب، ولا يحسن العلم ولا له فضل ولا مزية إذا لم يستتبع العمل، ولا يصح العمل إذا لم يصدر عن علم. وجواب ابن عيينة من الأسلوب الحكيم- من قبيل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ?

وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، ثم أمر بالعمل بعد. [{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ * طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} 20 - 21] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة: 189]-؛ سألوه عن فضل العلم، فأجاب بأن فضل العلم إنما يظهر إذا جعل وسيلةً إلى العمل، كما أن النفقة إنما تكون معتدًا بها إذا وقعت موقعها، أي: الواجب أن يسألوا عن العلم وعن العمل به، لا عنه وحده. قوله: (ثم أمر بالعمل بعد): أي: بعد العلم هاهنا. وعن بعضهم: "ثم أمر بالقسمة والصرف إلى مصارفها في موضع آخر"، وليس بذاك، لأن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، فيه بيان الصرف إلى المصارف، لأن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} دل على ذلك؛ لما فيه: أن أربعة أخماس الغنمية تصرف إلى المحاربين، والخمس الباقي إلى الله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. على أن المراد بالعمل ما يشق على المكلف، كما في الأمثلة الأخرى، بل دل على ذلك ما بعد "اعلموا"، وهو تقييد العلم بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41]، فإن فيه معنى الأمر بقطع الطمع عن ذلك الخمس، والاقتناع بما قسم لهم من الأخماس الأربعة، كما قال المصنف في موضعه: "المعنى: أن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به للهذ، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم: العلم المجرد، ولكنه العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله"، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر، ألا ترى كيف صرح بلفظ الأمر في قوله: "فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا". ?

كانوا يدعون الحرص على الجهاد، ويتمنونه بألسنتهم، ويقولون: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} في معنى الجهاد، {فَإِذا أُنْزِلَتْ} وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم، وسقطوا في أيديهم، كقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} [النساء: 77]. {مُحْكَمَةٌ} مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال. وعن قتادة: كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة، وهي أشدّ القرآن على المنافقين. وقيل لها: محكمة؛ لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وقيل: هي المحدثة، لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة. وفي قراءة عبد الله: "سورة محدثة"، وقرئ: "فإذا نزلت سورة وذكر فيها القتال" على البناء للفاعل ونصب "القتال". {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: تشخص أبصارهم جبنًا وهلعًا وغيظًا، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت، {فَأَوْلى لَهُمْ} وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل؛ من الولي، وهو القرب، ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كاعوا): أي: تأخروا وجبنوا، الأساس: "كع الرجل، وكعكعه الخوف، فتكعكع"، الجوهري: "كعت عن الشيء أكيع، وأكاع: لغة في: كععت عن الأمر أكع: إذا هبته وجبنت". قوله: (ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه): روى الواحدي عن الأصمعي: "معنى قولهم في التهديد: أولى لك: وليك مكروه، وقاربك ما تكرهه". وروي عن أبي علي: أنه علم للويل مبني على وزن "أفعل"، من لفظ "الويل" على القلب، أصله: "أويل"، وهو غير منصرف، كأحمد، للعلمية وكونه على وزن "أفعل". ?

{طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} كلام مستأنف، أي: طاعة وقول معروف خير لهم. وقيل: هي حكاية قولهم، أي: قالوا: طاعة وقول معروف، بمعنى: أمرنا طاعة وقول معروف، وتشهد له قراءة أبيّ: "يقولون: طاعة وقول معروف". {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: جدّ، والعزم والجد لأصحاب الأمر، وإنما يسندان إلى الأمر إسنادًا مجازيًا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]. {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} فيما زعموا من الحرص على الجهاد، أو: فلو صدقوا في إيمانهم، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم. [{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} 22 - 23] عسيت وعسيتم: لغة أهل الحجاز، وأما بنو تميم فيقولون: عسى أن تفعل، وعسى أن تفعلوا، ولا يلحقون الضمائر، وقرأ نافع بكسر السين، وهو غريب، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات؛ ليكون أبلغ في التوبيخ. فإن قلت: ما معنى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ ... أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؟ قلت: معناه: هل يتوقع منكم الإفساد؟ فإن قلت: فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا، وهو عالم بما كان وما يكون؟ قلت: معناه: أنكم لما عهد منكم أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم، وعرف تمريضكم، ورخاوة عقدكم في الإيمان: يا هؤلاء ما ترون؟ هل يتوقع منكم -إن توليتم أمور الناس، وتأمرتم عليهم، لما تبين منكم من الشواهد، ولاح من المخايل- {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ} تناحرًا على الملك وتهالكًا على الدنيا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الكشف": {فَأَوْلَى لَهُمْ} مبتدأ وخبر، وهو اسم التهديد والوعيد، كأنه قال: الوعيد لهم، و "أولى" غير منصرف، لأنه على وزن الفعل، وصار اسمًا للوعيد، وقول المفسرين: وليك شر فاحذر، لا يريدون به أن "أولى" فعل، وإنما ذاك تفسير على المعنى. قوله: (تناحرًا): أي: تحارصًا وتهالكًا، تهالك على الفراش: سقط. ?

وقيل: إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام، بمقاتلة بعض الأقارب بعضًا ووأد البنات؟ وقرئ: "وليتم"، وفي قراءة على بن أبي طالب رضي الله عنه: "توليتم"؛ أي: إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم، ومشيتم تحت لوائهم، وأفسدتم بإفسادهم؟ وقرئ: {وَتُقَطِّعُوا}، و"تقطعوا"؛ من التقطيع والتقطع. {أُولئِكَ} إشارة إلى المذكورين، {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} لإفسادهم وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه وخذلهم، حتى صموا عن استماع الموعظة، وعموا عن إبصار طريق الهدى. ويجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ آمَنُوا}: المؤمنين الخلص الثابتين، وأنهم يتشوفون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد، رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: أن أعرضتم وتوليتم): عطف على قوله: (إن توليتم أمور الناس"، ومرجع معنى التوقع إلى الخلق، كقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. قوله: (وقرئ: {وتُقَطِّعُوا} و "تقطعوا"): الأولى: هي المشهورة، والثانية: شاذة. قوله: (ويجوز أن يريد بـ {الَّذِينَ آمَنُو}: المؤمنين الخلص): عطف على قوله: "كانوا يدعون الحرص على الجهاد، ويتمنونه بألسنتهم"، وعلى الوجه الأول: قوله: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} من باب التجريد؛ جرد من الذين آمنوا القائلين: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ}: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، وهم هم، وعلى الثاني: غير الأولى، ولذلك قال: "رأيت المنافقين فيما بينهم ?

[{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} 24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة، حتى لا يجسروا على المعاصي، ثم قال: {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}، و"أم" بمعنى: بل، وهمزة التقرير، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر. وعن قتادة: إذن -والله- يجدوا في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تدبروه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا. فإن قلت: لم نكرت "القلوب"، وأضيفت "الأقفال" إليها؟ قلت: أما التنكير: ففيه وجهان: أن يراد: على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يضجرون منها". والجملة مستأنفة على التقديرين، والتقدير الأخير أنسب للتنافي والتقابل الواقع بين الفريقين في آيات هذه السورة- كما مر-، وقرينتها ستجيء، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد: 33] الآية، وستقف عليه. قوله: (يجدوا في القرآن زاجرًا عن معصية الله): فيه تجريد، كقوله: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. قوله: (أخذوا بالمتشابه فهلكوا): من قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، والتدبر في القرآن: تمييز المحكم من المتشابه، وجعله أصلًا يؤول إليه معنى المتشابه. قوله: (أن يراد: على قلوب قاسية مبهم): نحوه ما أنشد ابن جني: أمير المؤمنين على صراط .... إذا اعوج الموارد مستقيم ?

أو يراد: على بعض القلوب، وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة "الأقفال": فلأنه يريد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح. وقرئ: "إقفالها"؛ على المصدر. [{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} 25 - 28] {الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ} جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرًا لـ"إنّ"، كقولك: إنّ زيدًا عمرو مرّ به، {سَوَّلَ لَهُمْ}: سهل لهم ركوب العظائم، من السول، وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم، لا فرق بينهما؛ لأن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته، من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته. تم كلامه. فكأنه جعل قلوبهم جنس القلوب، ادعاء لكمال معنى القساوة فيها، ولذلك قال: "على قلوب قاسية"، وهو قريب إلى التجريد. قوله: (على بعض القلوب): روى السلمي عن ابن عطاء: قلوب أقفلت عن التدبر، وألسن منعت عن التلاوة، وأسماع صمت عن الاستماع، ومن القلوب قلوب كشف عنها الغطاء، فلا تكون لها راحةً إلا التلاوة أو الاستماع أو التدبر، فشتان ما بين الحالتين. قوله: (وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق): علم الاشتقاق باحث عن أخذ صيغة مع شروط الأخذ لا غير، وعلم التصريف باحث عن كيفية المأخوذ، ?

{وَأَمْلى لَهُمْ} ومدّ لهم في الآمال والأماني، وقرئ: "وأملي لهم"، يعني: إنّ الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم، كقوله تعالى: {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178]، وقرئ: "وأملي لهم" على البناء للمفعول، أي: أمهلوا ومدّ في عمرهم. وقرئ: "سوّل لهم"، ومعناه: كيد الشيطان زين لهم، على تقدير حذف المضاف. فإن قلت: من هؤلاء؟ قلت: اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين لهم الهدى، وهو نعته في التوراة. وقيل: هم المنافقون. {الذين قَالُوا} اليهود، والذين {كَرِهُوا مَا نّزَّلَ اللهُ} المنافقون. وقيل: عكسه، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لنخرجنّ مَعَكُمْ} [الحشر: 11]. وقيل: {بَعْضِ الْأَمْرِ}: التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بـ"لا إله إلا الله"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن الهيئات والحالات الحاصلة في المأخوذ، والقياس التصريفي يقتضي أن يقال: سأل إذ لا موجب للتليين. قال صاحب"التقريب": وليس مشتقًا من السؤل، كما توهمه بعضهم؛ إذ لا يساعده التصريف، لأنه كان حقه"سأل" بالهمز، ولا الاشتقاق؛ لأن السؤل بمعنى الحاجة، فعل بمعنى مفعول، وليس في {سَوَّلَ} معنى السؤال، وشرط الاشتقاق اتفاق المعنى. قوله: (إن الشيطان يغويهم، وأنا أنظرهم): قال الواحدي: "ويحسن الوقوف على قوله: {سَوَّلَ لَهُمْ} لأنه فعل الشيطان، والإملاء فعل الله، وعلى قول الحسن: لا يحسن الوقف؛ لأنه يقول: الشيطان مد لهم في الأمل". قوله: (أو بـ"لا إله إلا الله"): هذا التكذيب لا يستقيم إلا إذا حمل على أن المنافقين قالوا ذلك للمشركين، لأن اليهود أيضًا موحدون. ?

أو ترك القتال معه. وقيل: هو قول أحد الفريقين للمشركين: سنطيعكم في التضافر على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد معه. ومعنى: {فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} في بعض ما تأمرون به، أو في بعض الأمر الذي يهمكم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ}، وقرئ: {إِسْرَارَهُمْ} على المصدر، قالوا ذلك سرًّا فيما بينهم، فأفشاه الله عليهم، فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ؟ وقرئ: "توفاهم"، ويحتمل أن يكون ماضيًا، ومضارعًا قد حذفت إحدى تاءيه، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره. {ذلِكَ} إشارة إلى التوفي الموصوف، {ما أَسْخَطَ اللَّهَ} من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، و {رِضْوانَهُ} الإيمان برسول الله. [{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ * وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} 29 - 30] {أَضْغانَهُمْ} أحقادهم، وإخراجها: إبرازها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم، وكانت صدورهم تغلي حنقًا عليهم. {لَأَرَيْناكَهُمْ} لعرفناكهم ودللناك عليهم، حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك، {بِسِيماهُمْ} بعلامتهم، وهو أن يسمعهم الله تعالى بعلامة يعلمون بها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في التضافر): بالضاد المعجمة، الجوهري: "تضافروا على الشيء: تعاونوا عليه". قوله: ({لأَرَيْنَاكَهُمْ} لعرفناكهم): قال الزجاج: "كما تقول: قد أريتك هذا الأمر، أي: قد عرفتك إياه". قوله: (ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم): روينا في " مسند أحمد بن حنبل" عن ?

وعن أنس رضي الله عنه: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في بعض الغزوات، وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق. فإن قلت: أي فرق بين اللامين في {فَلَعَرَفْتَهُمْ} و {لَتَعْرِفَنَّهُمْ}؟ قلت: الأولى هي الداخلة في جواب «لو»، كالتي في {لَأَرَيْناكَهُمْ} كررت في المعطوف، وأما اللام في {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ} فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف. {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} في نحوه وأسلوبه. وعن ابن عباس: هو قولهم: مالنا -إن أطعنا- من الثواب؟ ولا يقولون: ما علينا -إن عصينا- من العقاب. وقيل: اللحن: أن تلحن بكلامك، أي: تميله إلى نحو من الأنحاء، ليفطن له صاحبك، كالتعريض والتورية، قال: ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا .... واللّحن يعرفه ذوو الألباب وقيل للمخطئ: لاحن؛ لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. [{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} 31] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي مسعود: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أن منكم منافقين، فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، حتى سمى ستةً وثلاثين". قال: (ولا يقولون: ما علينا أن عصينا): يعني: كان حقهم على ما هم عليه من العصيان أن يقولوا: ما لنا- أن عصينا- من العقاب، فأتوا على أسلوب ما يؤذن المدح، بقولهم: ما لنا-إن أطعنا- من الثواب. قوله: (أن تلحن بكلامك): أي: بمثله من الأنحاء، وأنشد الزجاج قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحيا نًا وخير الحديث ما كان لحنا ?

{أَخْبارَكُمْ} ما يحكى عنكم، وما يخبر به عن أعمالكم، ليعلم حسنها من قبيحها؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كل أحد، إنما يعرف أمرها في أنحاء قولها. هذا هو المراد من قول المصنف: "كالتعريض والتورية"، أي: الإيهام. الراغب: "اللحن: صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، إما بإزالة الإعراب أو التصحيف، وهو المذموم، وذلك أكثر استعمالًا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود من حيث البلاغة، وإليه قصد بقول الشاعر- عند أكثر الأدباء-: وخير الحديث ما كان لحنا وإياه قصد بقوله: {ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ}، ومنه قيل للفطن لما يقتضي فحوى الكلام: لحن، وفي الحديث: "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض"، أي: ألسن وأفصح وأبين كلامًا، وأقدر على الحجة". قوله: (وما يخبر به عن أعمالكم، ليعلم حسنها من قبيحها): أي: عبر بـ {أَخْبَارَكُمْ} عن "أعمالكم" في قوله: {ونَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} على سبيل الكناية، لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه، المعنى: يختبر أخباركم، أن كان الخبر حسنًا فالمخبر عنه- الذي هو العمل- حسن، وإن كان الخبر قبيحًا فالعمل أيضًا قبيح. وقال ابن الحاجب في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ}: " العلم يطلق باعتبار الرؤية، والشيء لا يرى حتى يقع، أو بمعنى المجازاة، المعنى: حتى نجازي المجاهدين منكم والصابرين". ?

لأن الخبر على حسب المخبر عنه؛ إن حسنًا فحسن، وإن قبيحًا فقبيح. وقرأ يعقوب: "ونبلو"، بسكون الواو؛ على معنى: ونحن نبلو أخباركم. وقرئ: "وليبلونكم" و"يعلم"، و"يبلو" بالياء. وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبلنا، فإنك إن بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا، وعذبتنا. [{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} 32] {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب؛ لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة، وهم قريظة والنضير، أو سيحبط أعمالهم التي عملوها، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول، أي: سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم، بل يستنصرون بها، ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم. وقيل: هم رؤساء قريش، والمطعمون يوم بدر. [{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} 33] {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} أي: لا تحبطوا الطاعات بالكبائر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى الابتلاء: أن الله تعالى يعاملنا بما يعامل بعضنا بعضًا، فقوله: "ليعلم حسنها" -أي: حسن الأعمال- تعليل لابتلاء الأعمال. وقوله: (لأن الخبر على حسب المخبر عنه): تعليل لإطلاق"الأخبار" على"الأعمال". قوله: (وقرئ "وليبلونكم" و"يعلم" و"يبلو" بالياء): أبو بكر، والباقون بالنون. قوله: (لا تحبطوا الطاعات بالكبائر): الانتصاف: "الكبائر لا تحبط الحسنات، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، والكبيرة عند المعتزلة: تحبط الصالحات، ولو كانت مثل زبد البحر، وما أورده الزمخشري من الآثار وجب رده على قاعدة الحق بالتأويل، فإن لم يقبل التأويل فطريقه أن يحسن الظن بالمنقول عنه، وتغليط قائله، وكلام ابن عمر: ظاهره أولى بنصرة أهل السنة، والآية محمولة عندنا على الإخلال بركن أو شرط يقتضي البطلان من أصله، لا أنه يبطل بعد استكمال شرائط الصحة والقبول". وقال القاضي: " {لا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} كما أبطل هؤلاء بالكفر والنفاق، أو لا تبطلوا بالعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر". وقلت: أما قصية النظم: فإنه تعالى لما حكى عن المؤمنين الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد: 20]، وكانوا يدعون بذلك الحرص على الجهاد، وحين أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال جبنوا وكعوا وأبوا إلا مخالفة طاعة الله ورسوله، وذمهم على ذلك ذمًا بليغًا، وأطنب فيه، حتى ختمه بقوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}، أتبع ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، أي: لا تكونوا أمثالهم فيما أمرتم به من الجهاد في سبيل الله، فتجبنوا فيه، فإن ذلك نفاق وتشبيه بالكفرة الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول، فسيحبط الله أعمالكم، كما أبطل أعمالهم. ?

كقوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى أن قال: } أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} [الحجرات: 2]، وعن أبي العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن حذيفة: فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر: كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولًا، حتى نزل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ}، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 116]، فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر، ونرجو لمن لم يصبها. وعن قتادة رحمه الله: رحم الله عبدًا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيئ. وقيل: لا تبطلوها بمعصيتهما، وعن ابن عباس: لا تبطلوها بالرياء والسمعة، وعنه: بالشك والنفاق، وقيل: بالعجب، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقيل: ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى. [{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 34] {ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} قيل: هم أصحاب القليب، والظاهر العموم. [{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} 35] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالحاصل أنه من باب التغليظ والتقابل، ويؤيده تعقيبه بقوله: {فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ} بالفاء، وفصله بقوله: {ولَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}. قوله: (قيل: هم أصحاب القليب): أي: قليب بدر، وهم قريش. ?

{فَلا تَهِنُوا} فلا تضعفوا ولا تذلوا للعدوّ، {وَ} لا {تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}، وقرئ: "السلم"، وهما المسالمة، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي: الأغلبون الأقهرون، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي: ناصركم. وعن قتادة: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة. وقرئ: "ولا تدّعوا"؛ من: ادّعى القوم وتداعوا: إذا دعوا، نحو قولك: ارتموا الصيد وترموه. و"تدعوا" مجزوم لدخوله في حكم النهي، أو منصوب لإضمار "إن"، ونحو قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}: قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} [طه: 68]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "السلم") بكسر السين: أبو بكر وحمزة، والباقون: بفتحها. قوله: (ضرعت إلى صاحبتها): الأساس: "ضرع له وإليه ضرعًا: إذا استكان وخشع، وهو يتضرع إليه، ولم يزل ضارعًا حتى فعلت كذا"، وعن بعضهم: ضرع؛ أي: مال على سبيل الخضوع، فهو ضرع، سمي بالمصدر للمبالغة، وضرعت: إذا استكانت، وفتح الراء خطأ. قوله: (بالموادعة): الجوهري: "هي المصالحة". قوله: (ونحو قوله: {وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}: قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}): يعني: نظيره في كونه تقريرًا للغلبة والقهر، وقد صدرت ب"إن" المؤكدة، وحليت بلام التعريف، وفي لفظ العلو، وصيغة التفضيل. نعم ليس فيه تكرار الضمير ولا الاستئناف، لكنه حال مقررة لمعنى النهي، مردوفة بما يزيدها تقريرًا وتبيينًا، أي: لا ينبغي أن تتضرعوا إلى الصلح، والحال أنتم قاهرون عليهم، وأن الله ناصركم عليهم في الدنيا، وخاذلهم، وهو موفي أجوركم في العقبى. ?

{وَلَنْ يَتِرَكُمْ}: من: وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلًا من ولد أو أخ أو حميم، أو حربته، وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله، من الوتر، وهو الفرد، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله»، أي: أفرد عنهما قتلًا ونهبًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال مكي: " {وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} الجملة حال من الضمير المرفوع في"تدعوا"، وكذلك {واللَّهُ مَعَكُمْ} {ولَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ". قوله: (أو حربته): الجوهري: "حرب الرجل ماله؛ أي: سلبه، فهو محروب". قوله: (وهو من فصيح الكلام): لأنه تعالى أجرى عمل العامل مجرى القريب والمال، شبه تعطيل ثواب العمل بوتر الواتر في الهلكة والخسران، ثم استعير لجانب المشبه اللفظ المستعمل في جانب المشبه به، وهو {يَتِرَكُمْ}، ونحوه في الإجراء قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]؛ جعل بالادعاء القلب السليم من أفراد جنس المال والبنين، ثم استثنى بقوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} بعض أفراد ذلك الجنس. قال مكي: " {يَتِرَكُمْ} و {تَهِنُوا}: حذفت منهما الفاء، وهي واو، وأصله: "توهنوا" و"يوتركم"، حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، وأتبع سائر أمثلة الفعل المستقبل الحذف وإن لم يكن فيه ياء، على الإتباع، لئلًا يختلف الفعل". قوله: (من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله): أخرجه النسائي عن نوفل، ورواية البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله". ?

[{إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ * إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ * ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [36 - 38] {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} ثواب إيمانكم وتقواكم، {وَلا يَسْئَلْكُمْ} أي: ولا يسألكم جميعها، إنما يقتصر منكم على ربع العشر. ثم قال: {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ} أي: يجهدكم ويطلبه كله، والإحفاء: المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، وأحفى شاربه: إذا استأصله، {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} أي: تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضيق صدوركم لذلك، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم، والضمير في {يُخْرِجْ} لله عز وجل، أي: يضغنكم بطلب أموالكم، أو للبخل، لأنه سبب الاضطغان. وقرئ: "نخرج" بالنون، و"يخرج" بالياء والتاء مع فتحهما، ورفع "أضغانكم". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم قال: {إن يَسْأَلْكُمُوهَا}): يعني: الجملة الشرطية كالتعليل لقوله: " {ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}، أي: لا يسألكم جميعها، إنما يقتصر منكم على ربع العشر"، روى الواحدي عن السدي أنه قال: "إن يسألكم جميع ما في أيديكم {تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يظهر بغضكم وعداوتكم لله ورسوله، ولكنه فرض عليكم يسيرًا، وهو ربع العشر"، فقول المصنف: "أي: يضغنكم بطلب أوالكم": معناه: يظهر بغضكم بطلب جميع أوالكم، وكذا معنى "يذهب بأموالكم"، أي: يهلكها، كقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]. قوله: (وقرئ: "نخرج" بالنون): السبعة. ?

{هؤُلاءِ} موصول بمعنى: الذين، صلته {تُدْعَوْنَ}، أي: أنتم الذين تدعون، أو: أنتم -يا مخاطبون- هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل: {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: هي النفقة في الغزو، وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم: أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به. ثم قال: {وَمَنْ يَبْخَلْ} بالصدقة وأداء الفريضة، فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما يَبْخَلُ عَلى نَفْسِهِ، يقال: بخلت عليه وعنه، وكذلك ضننت عليه وعنه، ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: أنتم- يا مخاطبون- هؤلاء الموصوفون): فعلى هذا فيه توبيخ عظيم، وتحقير من شأنهم لأجل الوصف بالبخل، قال في قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ} [البقرة: 85]: "هو استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان، بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم. والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني: أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين؛ تنزيلًا لتغير الصفة منزلة تغير الذات" فالمعنى هاهنا: إنا فرضنا عليكم ربع العشر ليسهل عليكم، إذ لو طلبنا منكم جميع أموالكم لبخلتم وأظهرتم بغض الله ورسوله، والدليل عليه: أنكم- مع ذلك التسهيل- هؤلاء المشاهدون الموصوفون بأنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به. قوله: (يقال: بخلت عليه وعنه): وعن بعضهم: بخل عن نفسه: مضمن بمعنى البعد، أي: يبعد الخير عن نفسه على طريق البخل. ويمكن أن يقال: يصدر البخل عن نفسه، لأنها مكان للبخل ومنبعه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [الحشر: 9]. ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: "البخل: يعدى ب"عن" وب"على" لتضمنه معنى الإمساك، فإنه إمساك عن مستحق"، لكن قول المصنف هذا بعد قوله السابق مشعر بعدم التفرقة في الاستعمال، كما عليه مذهب النحويين دون أهل المعاني، فإنه لما أكد معنى جزاء الشرط- وهو قوله: "فلا يتعداه ضرر بخله"- بقوله: وإنما يبخل على نفسه، وأتى ب"على" وخالف، لأنه في التنزيل: {عَنْ نَفْسِهِ}، اعتذار له بقوله: "يقال: بخل عليه وعنه"، أي: أنهما سيان في الاستعمال. قال الحريري في"درة الغواص": "الفعل اللازم يعدى تارةً بهمزة النقل، كقولك: خرج زيد وأخرجته، وأخرى بالباء كقولك: خرج زيد وخرجت به، واختلف النحويون: هل بين حرفي التعدية فرق أم لا؟ فقال الأكثرون: هما بمعنى واحد، وقال المبرد: بينهما فرق؛ وهو أنك إذا قلت: "أخرجت زيدًا" كان المعنى: حملته على الخروج، وإذا قلت: خرجت بزيد، فمعناه: خرجت واستصحبته معك، والقول الأول أصح". وقال صاحب "الضوء": "معنى التعدية في: ذهبت به وأذهبته": واحد، وفي سائر المواضع يفيد مع معنى التعدية معنى آخر، وهاهنا لم يفد شيئًا سواها". وقلت: فعلى هذا: الشرط والجزاء متقاربان في المعنى، كقولك تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، و {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، وقولهم: "من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك"، فيكون المعنى: من يبخل عن أداء ربع العشر بعد ذلك التقريع والتوبيخ فقد بالغ في البخل، وكان هو البخيل في الحقيقة. روينا

{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} معطوف على {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا}، {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يخفق قومًا سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كقوله: {وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19، فاطر: 16]، وقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنصار، وعن ابن عباس: كندة والنخع، وعن الحسن: العجم، وعن عكرمة: فارس والروم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك". ولإرادة التوكيد ذيل الكلام بقوله: {واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ}، وجعله كالاعتراض بين المتقابلين، أعني قوله: {وإن تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا} وقوله: {وإن تَتَوَلَّوْا}، وهما المعطوفان المعنيان بقوله: " {وإن تَتَوَلَّوْا} معطوف على {وإن تُؤْمِنُوا} ". والتعريف في {الغَنِيُّ} و {الفُقَرَاءُ} للجنس، فآذنا بكمال الغنى ونهاية الفقر، ثم كونهما خبرين وهما معرفتان: دلا على الحصر، نظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر: 15 - 16]، والمعنى: أنتم جنس الفقراء الكاملون فيه، والله هو الغني على الإطلاق، فهو غني عنكم وعن عبادتكم، فإن لم تحمدوه أنتم يستبدل قومًا غيركم؛ من يحمد ولا يكفر مثلكم. قوله: (يخلق قومًا سواكم): أي: "يستبدل": يحتمل استبدال الوصف واستبدال الذات، كما مر في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، والذي يقتضيه المقام: الثاني، وقوله: "يخلق قومًا سواكم": يشير إلى ذلك، ولهذه الدقيقة استشهد بقوله: {وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19، فاطر: 16].

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم، وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه، وقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطًا بالثريا لتناوله رجال من فارس». وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم كان حقًا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم، وكان سليمان) الحديث: أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. تمت السورة حامدًا لله، ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم * * *

سورة الفتح

سورة الفتح مدنية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 1 - 3] هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الفتح مدنية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وفي ذلك من الفخامة): أي: في مجيء الماضي لتنزيل الكائن منزلة الواقع المتحقق من الفخامة ما لا يكتنه كنهه، لأن هذا الأسلوب إنما يرتكب في أمر يعظم مناله، ويعز الوصول إليه، ولا يقدر على نيله إلا من له قهر وسلطان ومن يغلب ولا يغالب، ولذلك ترى أكثر أحوال

فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القيامة واردةً على هذا المنهج، لأن فتح مكة من أمهات الفتوح، وبه دخل الناس في دين الله أفواجًا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتأهب للمسير إلى دار القرار، ولو أخذ من ذلك معنى صيغة التعظيم، ليتم به معنى العظمة، بلغ الغاية. قوله: (كيف جعل فتح علةً للمغفرة): أي: الفتح فعل الله لا فعله حتى يكون علةً للمغفرة، لذلك قال القاضي: " {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار، والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك، وتكميل النفوس الناقصة قهرًا، ليصير ذلك بالتدريج اختيارًا، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة". وقلت: يمكن أن يقال: إنما جعل فتح مكة علة للمغفرة، لأنه سبب لأن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاشتغال بخاصة نفسه، بعد بذل المجهود فيما كلف به من تبليغ الرسالة ومجاهدة أعداء الدين، وبالإقبال على التقوى، واستدراك الفرطات، كما قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، إلى قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. قوله: (ولكن لاجتماع ما عدد): خلاصة الجواب: أن العلل متعدد، وهو المعطوفات الأربعة، على أن يراد بقوله: {ويَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}: الفتح، فتؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، فعبر به عن العلل، كما قال: "ليجمع لك بين عز الدارين"، وكان كذلك لأن هذا الفتح هو فتح الفتوح، وهدم به منار الجاهلية، وكمل الدين، وأتمت النعم، كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدوّ سببًا للغفران والثواب. والفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحًا، بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روى السلمي عن [ابن] عطاء: جمع للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بين النعم المختلفة؛ من الفتح والمغفرة وتمام النعمة والهداية والنصرة. وعن جعفر الصادق: تمام النعمة: أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ له شرائع الرسل أجمع، وعرج به إلى المحل الأدنى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبعثه إلى الأبيض والأسود، وأحل له الغنائم، وجعله سيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره، ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد. قوله: (لأنه منغلق ما لم يظفر به): الراغب: "الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال، وهو ضربان: أحدهما: يدرك بالبصر، كفتح الباب والغلق والقفل والمتاع، قال تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} [يوسف: 65]، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [الحجر: 14]. والثاني: ما يدرك بالبصيرة، كفتح الهم، وهو إزالة الغم، وذلك ضربان: أحدهما: في الأمور الدنيوية كغم يفرج، وفقر يزال بإعطاء المال، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]، أي: وسعنا، والثاني: فتح المنغلق من العلوم، نحو: فلان فتح من العلم بابًا مغلقًا. وقوله تعالى: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ}: قيل: عنى فتح مكة، وقيل: بل عنى ما فتح على النبي صلى الله عليه وسلم

وقيل: هو فتح الحديبية، ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة، وعن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم، وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح. فإن قلت: كيف يكون فتحًا وقد أحصروا، فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحًا مبينًا. وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعًا، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت، وصد هدينا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة التي صارت سببًا لغفران ذنوبه. وفاتحة كل شيء: مبدؤه الذي يفتح به ما بعده، وقيل: افتتح فلان كذا: إذا بتدأ به، وفتح عليه كذا: إذا أعلمه ووقفه عليه، قال تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76]، وفتح القضية فتاحًا: فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق، قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، والاستفتاح: طلب الفتح، قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89]، أي: يستنصرون ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: يطلبون من الله بذكره الظفر، وقيل: يستعلمون خبره مرة، ويستنبطونه من الكتب مرة. وباب فتح: مفتوح في عامة أحواله، وغلق: بخلافه، وروي: (من وجد بابًا غلقًا وجد إلى جانبه بابًا فتحًا) ". قوله: (بالراح): الجوهري: "الراح: جمع راحة، وهي الكف، وأراح الرجل: رجعت إليه نفسه بعد الإعياء وأراح إبله؛ أي: ردها".

ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا». وعن الشعبي: نزلت بالحديبية، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة، أصاب أن بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدي محله، وأطعموا نخل خيبر، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة، وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مجه فيها، فدرت بالماء، حتى شرب جميع من كان معه. وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد. وقيل: هو فتح خيبر، وقيل: فتح الروم، وقيل: فتح الله له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويسألوكم القضية): أي: الصلح، كما جاء في الحديث: "هذا ما قاضى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "، النهاية: "هذا ما قاضى عليه؛ قاضى: هو فاعل من القضاء للفصل والحكم، وأصله: القطع، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه". ويؤيده قوله بعيد هذا: "ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية". قوله: (أنه نزح ماؤها): عن البخاري عن البراء قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد [الفتح] بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مئة، والحديبية بئر، فنزحناها، فلم نترك منها قطرة، فبلغ ذلك النبيصلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء، فتوضأ، ثم مضمن ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا".

وقيل: معناه قضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل، لتطوفوا بالبيت؛ من الفتاحة، وهي الحكومة. وكذا عن قتادة. {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} يريد: جميع ما فرط منك، وعن مقاتل: ما تقدم في الجاهلية وما بعدها، وقيل: ما تقدم من حديث مارية، وما تأخر من امرأة زيد. {نَصْرًا عَزِيزًا} فيه عز ومنعة، أو وصف بصفة المنصور إسنادًا مجازيًا، أو عزيزًا صاحبه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما تقدم من حديث ماربة): وحديث ماربة: هو ما رواه المصنف في سورة التحريم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي علي، وقد حرمت مارية على نفسي"، إلى آخر القصة، لكن قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} يدل على أنه ترك الأولى، لا أنه صلوات الله عليه ارتكب الذنب. ويجوز أن يراد بالذنب: تعجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل البريء على ما روى ابن عبد البر في "الاستيعاب" عن أنس قال: "إن رجلًا كان يتهم بأم إبراهيم؛ أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي، فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لمجبوب"، وقال أبو عمر: "هذا الرجل المتهم كان ابن عم مارية القبطية، أهداه معها المقوقس، وأظنه الخصي الذي يقال له: مأبور". قوله: (أو عزيزًا صاحبه): فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار "عزيزًا هو"، فاستتر الضمير، فصار مرفوعًا بعد أن كان بارزًا مجرورًا.

[{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 4 - 7] {السَّكِينَةَ} للسكون، كالبهيتة للبهتان، أي: أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح والأمن، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة غب القتال، فيزدادوا يقينًا إلى يقينهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({السَّكِينَةَ} السكون): الراغب: "قيل: هو ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه، كما روي: "إن السكينة لتنطق على لسان عمر"، وقيل: والعقل، ويقال: له سكينة: إذا سكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب؛ قال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]، وقيل: السكينة والسكن: واحد، وهو زوال الرعب". وروى السلمي عن ابن عطاء: السكينة: نور يقذف في القلب يبصر به مواقع الصواب.

أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع، {لِيَزْدادُوا إِيمانًا} بالشرائع مقرونًا إلى إيمانهم، وهو التوحيد. عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أوّل ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة، ثم الحج، ثم الجهاد، فازدادوا إيمانًا إلى إيمانهم. أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانًا إلى إيمانهم. وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا، فيزداد إيمانهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يسلط بعضها على بعض، كما يقتضيه علمه وحكمته، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، ووعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه، ويشكروها، فيستحقوا الثواب، فيثيبهم، ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: أنزل فيها الرحمة): أي: في قلوبهم. فسر إنزال السكينة بوجوده: أولها: حصول الطمأنينة والأمن في قلوب المؤمنين بعد الخوف، ليتمكنوا مما يزيد به إيمانهم، فإن الخائف من العدو قلق مزعج. وثانيها: السكون إلى التوحيد، وهو مجرد التصديق، والازدياد بانضمام الأعمال الصالحة إليه، كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وثالثها: حصول الوقار في القلب ليكون سببًا لقوة اليقين، كما قال عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. ورابعها: الرحمة. والوجه المختار هو الأول، كما سيجيء. قوله: ({ولِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} [يسلط بعضها على بعض] كما يقتضيه علمه وحكمته، ومن قضيته أن سكن): إِشارة إلى أن هاتين الفقرتين- أعني: {ولِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} - وردتا معترضتين بين العلة، وهي قوله: {لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ}، وبين معللها، وهو قوله: {أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ}، ولذلك عممهما وجعل بعض قضاياهما إنزال السكينة والطمأنينة بسبب الصلح، والأمن في قلوب المؤمنين،

وقع "السوء" عبارة عن رداءة الشيء وفساده، و"الصدق" عن جودته وصلاحه، فقيل في المرضي الصالح من الأفعال: فعل صدق، وفي المسخوط الفاسد منها: فعل سوء، ومعنى {ظَنَّ السَّوْءِ}: ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرًا، {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، والسوء: الهلاك والدمار. وقرئ: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالفتح؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليكون ذلك الإنزال سببًا لعرفان المؤمنين فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، ثم يكون ذلك العرفان سببًا لأن يتلقوها بالشكر من الأعمال الصالحة، فيستأهلوا به الثواب، فيثيبهم بإدخالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويرغم أعداءهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات بالتعذيب، فظهر أنه اختار من الوجوه الأربعة سابقتها، فقوله: "ليعرف المؤمنون نعمة الله": هو المذكور في الوجه الأول: "ليعرفوا فضل الله بتيسير الأمن". روينا عن الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج عن أنس: "لما نزلت: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إلى {فَوْزًا عَظِيمًا} مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت على آية هي أحب إلى من الدنيا جميعًا"، وفي رواية الترمذي عن أنس: "فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بين الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ". قوله: (وقرئ: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالفتح): كلهم إلا أبا عمرو وابن كثير. ?

أي: الدائرة التي يذمونها ويسخطونها، فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق. فإن قلت: هل من فرق بين السُّوء والسَّوء؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق): الأساس: "ودارت به دوائر الزمان، وهي صروفه، ويتربص بكم الدوائر"، الراغب: "الدائرة: الخط المحيط، ثم عبر بها عن الحادثة، والدورة والدائرة في المكروه: كالدولة في المحبوب، قال تعالى: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، أي: يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بمن فيها، فلا سبيل إلى الانفكاك منه بوجه"، وسبق تمام تقرير"الدائرة" في آخر المائدة. قوله: (هل من فرق بين السوء والسوء): فإن قلت: هل السؤال مستدرك، لأنه قال: "والسوء_ أي: بالضم_: الهلاك والدمار، وقرئ: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالفتح، أي: الدائرة التي يذمونها"؟ قلت: لا، لأنه ذكره مجملًا بحسب الاستعمال، فسأل ليشرحه مفصلًا بحسب اللغة أيضًا. اعلم أن الدائرة مطلقة يصح استعمالها في العذاب مرة، وفي الذم تارة، وفي الصدق أخرى، ولذلك قال: "وعند المؤمنين دائرة صدق"، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، قال في سورة براءة: "السوء: بالضم، وهو العذاب، والسوء: بالفتح، وهو ذم للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأن من درات عليه ذام لها". ولما كان "السوء" بالضم ظاهرًا في معنى العذاب والهلاك، لم يحتج إلى التأويل، وبالفتح بمعنى الذم لم يكن مطلقًا، لأنها بالنسبة إلى لمؤمنين محمودة، احتيج إلى تأويل "الدائرة"، وأن يقال: إنها بالنسبة إلى الكافرين مذمومة، لأن من دارت عليه ذام لها، وهو المراد من قوله: "وكانت الدائرة محمودة، فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا"، يعني:

هما كالكُره والكَره، والضُّعف والضَّعف، مِن: ساء، إلا أنّ المفتوح غلب. في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء، وأما "السوء" بالضم: فجار مجرى الشر الذي هو إلى المفتوح لكونه مذمومًا، وكانت الدائرة محمودة، فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا، وأما دائرة السوء -بالضم-: فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة، فصح أن يقع عليه اسم السوء، كقوله عزّ وعلا: {إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]. [{إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 8 - 9] {شاهِدًا} تشهد على أمّتك، كقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: "السوء - بالفتح -: الدائرة التي يذمونها ويسخطونها، وهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين: دائرة صدق". قال صاحب "التقريب": المفتوح غلب في المذموم بالإضافة، والمضموم كالشر في نفسه لا بالإضافة، ولذلك أضيف"الظن" إلى المفتوح؛ لكونه مذمومًا بالإضافة، لا في نفس الأمر. الراغب: "السوء_ بالضم_: كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، والنفسة والبدنية، والخارجة؛ من فوات مال أو فقد حميم، وعبر بـ"السوأى" عن كل ما يقبح، ولذلك قوبل ب"الحسنى" في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، كما قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}، أي: ما يسوءهم في العاقبة". قوله: (كالكره والكره): الجوهري: "عن الفراء: الكره_ بالضم_: المشقة، يقال: قمت على كره؛ أي: على مشقة، قال: وأقامني فلان على كره_ بالفتح_: إذا أكرهك عليه، وكان لكسائي يقول: الكره والكره لغتان، وأكرهته على كذا: حملته عليه كرها".

(لِيُؤْمِنُوا) الضمير للناس، (وَيُعَزِّرُوهُ) ويقووه بالنصرة، (وَيُوَقِّرُوهُ) ويعظموه، (وَيُسَبِّحُوهُ) من التسبيح أو من السبحة، والضمائر لله عز وجلّ، والمراد بتعزير الله: تعزير دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فرق الضمائر فقد أبعد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ويعزروه" ويقووه بالنصرة): الراغب: "التعزير: النصرة مع التعظيم، قال تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]، والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول، فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصرة بقمع العدو عنه، والثاني: نصرة بقمعه عن عدوه، فإن أفعال الشر عدو للإنسان، فمتى قمعته عنها فقد نصرته، وعلى هذا في الحديث: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: تكفه عن الظلم) ". قوله: (والمراد بتعزير الله: تعزير دينه): رفع للتوهم، يعني: التعزير والتوقير غير مانع من إجراء الضمائر على سنن واحد، لجواز إطلاقهما على الله تعالى، ويؤيده قوله تعالى: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقول الحواريين: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52، الصف: 1]، وقول نوح عليه السلام: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. قوله: (ومن فرق الضمائر فقد أبعد): قال صاحب "المرشد": {وَتُوَقِّرُوهُ}: قال أبو حاتم: هو وقف؛ لأن التعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح لله تعالى، فأراد أن يفرق بين

وقرئ: {لِتُؤْمِنُوا ... وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ}، بالتاء، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما هو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبين ما هو لله تعالى. وأراد المصنف بقوله: "فقد أبعد": رد هذا؛ لأنه بعيد عن منهج النظم المعجز، وقال في قوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه: 39]: "الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت: فيه هجنة؛ لما يؤدي من تنافر النظم" الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. وقوله: (وقرئ: {لِتُؤْمِنُوا ... وتُعَزِّرُوهُ} بالتاء): ابن كثير، والباقون: بالياء التحتانية. قوله: (والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد: الخطاب في قوله: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: {وتُعَزِّرُوهُ} لأمته، وعليه كلام الواحدي، وقال: "ومن قرأ بالتاء فمعناه: قل لهم _يا محمد_: لتؤمنوا بالله، وتعزروه وتعينوه وتنصروه بالسف واللسان، وتوقروه وتعظموه وتبجلوه، وتسبحوه بكرة وأصيلًا"، فعلى هذا: أن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفًا، أي: لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال، أو للأمر على طريقة: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، على قراءة التاء الفوقانية. وهذا الوجه موافق للقراءة بالياء التحتانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أن يكون الخطاب في: {لِتُؤْمِنُوا} إلى آخره: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته، فيكون تعميمًا بعد تخصيص، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم الخطاب، وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، قال: "هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وآمن به، أراد به إياه ومن تبعه". وقوله: "مأمورًا بالإيمان برسالة نفسه كسائر المسلمين": روينا عن أبي هريرة قال: "شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت الذي تحدث أنه من أهل النار، قد قاتل في سبيل الله أشد القتال، فكان بعض الناس يرتاب، فبينما هو على ذلك، إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته، فانتزع سهمًا منها، فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدق الله حديثك، قد انتحر فلان وقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". أخرجه البخاري ومسلم. روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن معاوية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتشهد مع المؤذنين"، وفي رواية أخرى عن علقمة بن أبي وقاص قال: إني لعند معاوية إذ أذن مؤذنه، فقال

وقرئ: "وتعزروه" بضم الزاى وكسرها، و"تعزروه" بضم التاء والتخفيف، و"تعززوه" بالزايين، و"توقروه" من: أوقره، بمعنى وقره. وتسبحوا الله {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، عن ابن عباس: صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر. [{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 10] لما قال: {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} أكده تأكيدًا على طريقة التخييل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معاوية كما قال، فلما قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك. قوله: (و"تعزروه" بضم الزاي وكسرها): قال ابن جني: "بالضم: قراءة الجحدري، معناه: تمنعوه أو تمنعوا دينه ونبيه، كقوله تعالى: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7]، فهو على حذف المضاف، وأما "تعزروه" بالتشديد: فتمنعوا منه بالسيف، وعزرت فلانًا: أي: فخمت أمره. وقرأ محمد بن اليماني: بالزايين، أي: تجعلوه عزيزًا". قوله: (أكده تأكيدًا على طريقة التخييل): يعني: لما روعيت المشاكلة بين قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} وبين قوله: {إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، بني عليها قوله: {يَدُ اللَّهِ} على سبيل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستعارة التخييلة، تتميمًا لمعنى المشاكلة، وهو كالترشيح للاستعارة، أي: إذا كان الله مبايعًا، ولا بد للمبايع_ كما تعورف واشتهر_ من الصفقة باليد، فتتخيل اليد لتأكيد معنى المشاكلة، وإلا فجل جنابه الأقدس عن الجارحة. هذا هو المراد من قول صاحب "المفتاح": "وأما حسن الاستعارة التخييلية: فأن تكون تابعة للكناية، ثم إذا انضم إليها المشاكلة كانت أحسن وأحسن". روى الواحدي عن ابن كيسان: "قوة الله ونصرته فوق قوتهم وتصرتهم، أي: ثق بنصرة الله لك لا بنصرتهم وإن ييايعوك". وقال الزجاج: "المعنى: يد الله في الوفاء فوق أيديهم_ أو: في الثواب فوق أيديهم_ في الصاعة، أو يد الله في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة". وقلت: هذه الوجوه لا تنطبق على تأويل المصنف، لأن قوله: {إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}: معناه: ما يبايعون أحد إلا الله، أي: ليست تلك المبايعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مع الله، ثم لما أريد مزيد توكيد قيل: {يَدُ اللَّهِ}، أي: لا تظنن أن الأمر على خلافه، ألا تشاهد يد الله كيف حصلت فوق أيديهم، كما يفعل المتبايعان. وفي اختصاص الفوقية تتميم معنى الظهور. وقال أبو البقاء: " {إنَّمَا يُبَايِعُونَ} خبر "إن"، و {يَدُ اللَّهِ} مبتدأ، وما بعده: الخبر، والجملة خبر آخر ل"إن"، أو حال من ضمير الفاعل في {يُبَايِعُونَ}، أو مستأنف".

فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، يريد: أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين: هي يد الله، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله، من غير تفاوت بينهما، كقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، والمراد: بيعة الرضوان. {فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، وكان منافقًا، اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يسر مع القوم". وقرئ: "إنما يبايعون لله"؛ أي: لأجل الله ولوجهه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت): روينا عن الإمام أحمد بن حنبل ومسلم والترمذي والنسائي عن جابر: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت". ولمسلم: "سئل جابر: كم كنتم يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مئة، فبايعناه وعمر رضي الله عنه آخذ بيده صلوات الله عليه تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري، اختفى تحت بطن بعيره". وفي رواية: "على الموت".

وقرئ: {يّنكُثُ} بضم الكاف وكسرها، و {بِمَا عَاهَدَ} و"عهد"، {فَسَيُؤْتِيهِ} بالنون والياء، يقال: وفيت بالعهد وأوفيت به، وهي لغة تهامة، ومنها قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} [البقرة: 177]. [{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 11] هم الذين خلفوا عن الحديبية، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {يَنْكُثُ} بضم الكاف وكسرها): والضم: المشهورة، والكسر: شاذ. قوله: ({فَسَيُؤْتِيهِ} بالنون والياء): بالنون: نافع وابن كثير وابن عامر، والباقون: بالياء. قوله: (وفيت بالعهد): الراغب: "الوافي: الذي بلغ التمام، يقال: درهم واف، وكيل واف، واوفيت الكيل والوزن، ووفى بعهده: إذا تمم العهد، والقرآن جاء ب"أوفى"، وفي قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: إشارة إلى قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، وتوفية الشيء: بذله وافيًا، ووفى إبراهيم حيث بذل المجهود في جميع ما طولب به؛ من بذل ماله في الإنفاق في طاعته، وبذل ولده الذي هو أعز من نفسه، واستيفاء الشيء: تناوله وافيًا، قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران: 25] ". و"العهد: حفظ الشيء وماعاته حالًا بعد حال، وسمي الموثق الذي تلزم مراعاته: عهدًا، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وعهد فلان إلى فلان بعهد، أي: ألقى العهد إليه، وأوصاه بحفظه، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] ".

حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم، وساق معه الهدي، ليعلم أنه لا يريد حربًا، فتثاقل كثير من الأعراب، وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فيقاتلهم، وظنوا أنه يهلك، فلا ينقلب إلى المدينة، واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. وقرئ: "شغَّلتنا" بالتشديد. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله والنفاق، وطلبهم للاستغفار أيضًا ليس بصادر عن حقيقة. {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ} فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه، {إِنْ أَرادَ بِكُمْ} ما يضركم من قتل أو هزيمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في عقر داره): النهاية: "في الحديث: "عقر دار الإسلام: الشام"، أي: أصله وموضعه، كأنه أشار به إلى وقت الفتن، أي: يكون الشام يومئذ آمنًا منها، وأهل الإسلام به أسلم، وعقر الدار_ بالضم والفتح_: أصلها". الراغب: "عقر الدار والحوض وغيرهما: أصلها، يقال: له عقر، وفيل: ما غزي قوم في عقر دارهم قط إلا ذلوا". قوله: (فمن يمنعكم من مشيئة الله تعالى وقضائه {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ} ما يضركم) إلى آخره: الانتصاف: "هذه الآية من اللف، أي: من يملك لكم من الله شيئًا أن أراد بكم ضرًا، ومن يحرمكم النفع أن أراد بكم نفعًا، لأن "من يملك" يستعمل في الضر، كقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} [المائدة: 17]، {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسر اختصاص دفع المضرة: أنه تعالى أضاف الملك في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع، وليس كذلك حرمان المنفعة، فهو ضرر عائد عليه لا له، وإنما انتظمت هذه الآية كذلك، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقد من ير وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضرر لأنه المتوقع لهؤلاء، إذ الآية تهديد ووعيد. وفي نظيره قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17]، والعصمة أبدًا تكون من الشر، فهاتان الآيتان توأمتان". وقلت: ويعضد هذا التأويل ما رواه الواحدي عن ابن عباس: "من يمنعكم من عذاب الله أن أراد بكم ضرًا أو أراد بكم نفعًا". هذا ولا ارتياب أن {يَمْلِكُ} هاهنا غير مستعمل فيما وضع له، قال في "الأساس": "ملك الشيء وامتلكه وتملكه، ومن المجاز: ملك نفسه عند الفضب، وملك علبه أمره: إذا استولى عليه"، وعلى هذا: يجعل {يَمْلِكُ} مجازًا من "يمنع"_ كما عليه ظاهر كلام المصنف_ أو تضمينًا بوساطة "من"، وتكون اللام مزيدة مثلها في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، ولما عقب بقوله: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} وجب تقدير مشيئة الله مطلقًا؛ ليتناول مشيئة الضر والنفع، فتكون القرينتان_ أعني: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} _ تقسيمًا له، ثم جعل المجموع عبارة على سبيل الكناية الإيمائية عن أنه ضار ولا نافع إلا هو. والنظم يساعد عليه؛ لأن الخطاب مع قوم تثاقلوا عن الحرب حين استنفروا، قالوا: نذهب إلى قوم عزوه في عقر داره، ثم جاؤوا معتذرين: أن أموالنا وأهلينا شغلتنا عن الاستنفار معك، ولم ين ذلك خيرًا لنا، فجئنا تائبين مستغفرين، فاستغفر لنا.

{أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعًا} من ظفر وغنيمة. وقرئ: {ضّرًّا {، بالفتح والضم. الأهلون: جمع أهل. ويقال: أهلات، على تقدير تاء التأنيث، كأرض وأرضات، وقد جاء: أهلة، وأمّا أهال فاسم جمع، كليال. [{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِب َ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} 12] وقرئ: "إلى أهلهم"، "وزين" على البناء للفاعل، وهو الشيطان، أو الله عز وجل، وكلاهما جاء في القرآن؛ {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} [النمل: 24]، و {زَيَّنَّا لَهُمْ} [النمل: 4]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولما لم يكونوا مثل أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] نبه الله سبحانه وتعالى رسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ثم أمره يحبيبهم بأجوبة ثلاثة على الترقي، بقوله أولًا على سبيل الكلام المنصف تعريضًا بغيرهم من المحقين والمبطلين: {فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرَّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}، يعني: ليس مالك النفع والضر إلا هو، فلا أهلكم وأموالكم ولا القعود في بيوتكم ينفعكم أن أراد بكم ضرًا، كما في أحد، ولا الشخوص إلى الغزو ومقاتلة الأعداء تضركم أن أراد بكم نفعًا من الظفر والغنيمة، كما في بدر. ثم أضرب عن هذا الجواب إلى قوله: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، وفيه نوع تهديد، ولكن على الإيهام، ثم ترقى وصرح بمكنون ضمائرهم والكشف عن فضائحهم في قوله: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ والْمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا}، والله أعلم. قوله: (وقرئ: {ضَرَّا} بالفتح والضم): حمزة والسائي: بالضم، والباقون: بالفتح.

والبور: من بار، كالهلك: من: هلك، بناء ومعنى، ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ. والمعنى: وكنتم قومًا فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، أو: هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه. [{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا} 13] {لِلْكافِرِينَ} مقام مقام "لهم"؛ للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين -الإيمان بالله وبرسوله- فهو كافر، ونكر {سَعِيرًا} لأنها نار مخصوصة، كما نكر {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. [{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 14] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر، {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} رحمته سابقة لغضبه؛ حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كعائذ وعوذ)، الجوهري: "العوذ: الحديثات النتاج من الإبل والخيل، واحدتها عائذ". قوله: ({لِلْكَافِرِينَ} مقام مقام "لهم"): أي: أقيم الظاهر_ وهو {لِلْكَافِرِينَ} _ مقام المضمر، وهو: "لهم". قوله: (ومشيئه تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب): الانتصاف: "تقدم منه أمثال ذلك حملًا للقرآن على رأيه". وقلت: يريد: أن فيه تحريفين: أحدهما: جعل المشيئة تابعة للحكمة، والحكم بالعكس. وثانيهما: قيد الغفران باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة. واعلم أنه يمكن أن يقال_ والله أعلم_: أن قوله: {ولِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} الآية: موقعه موقع التذييل لقوله تعالى: {ومَن لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ}

[{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَاخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} 15] {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلفوا عن الحديبية: {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ} إلى غنائم خيبر. {أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} - وقرئ: "كلم الله"-: أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئًا. وقيل: هو قوله تعالى: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83]. {تَحْسُدُونَنا} أن نصيب معكم من الغنائم، قرئ بضم السين وكسرها، {لا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون إلا فهمًا {قَلِيلًا}، وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين، كقوله: {يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا} [الروم: 7]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآية، على أن يقدر له ما يقابله من قوله: ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للمؤمنين الجنان، فلا يقيد شيء منه؛ ليؤذن بالتصرف التام، والمشيئة النافذة، والغفران الكامل، والرحمة الشاملة. قوله: (أن يغيروا موعد الله): تفسير لقوله: {أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}، وقوله: "وقرئ: كلهم الله": معترض بين التفسير والمفسر، وقوله: "قيل: هو قوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} " عطف على قوله: "يغيروا موعد الله لأهل الحديبية". و"كلم الله": هي قراءة حمزة والكسائي، والباقون: {كَلامَ اللَّهِ}. وفي القول الثاني نظر؛ لأن قوله: {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]: نازل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين، وكانت تلك الغزوة في رجب سنة تسع، وغزوة الحديبية في سنة ست، كما ذكره ابن الجوزي في "الوفا". قوله: (قرئ بضم السين وكسرها): أي: {تَحْسُدُونَنَا}، بالضم: المشهورة، وبالكسر: شاذة.

فإن قلت: ما الفرق بين حرفي الإضراب؟ قلت: الأوّل: إضراب معناه: ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد، . والثاني: إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين، إلى وصفهم مما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه. [{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا} 16] {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ} هم الذين تخلفوا عن الحديبية، {إِلى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ} يعني: بني حنيفة قوم مسيلمة، وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى وصفهم بما هو أطم منه): النهاية: "طم الشيء: إذا عظم، وطم الماء: إذا كثر". الانتصاف: "الإضراب الأول هو المعروف، والثاني هو المستغرب المستعذب الذي ليس فيه مباينة بين الأول والثاني، بل زيادة تنبيه، ومبالغة متمكنة، والمنسوب إليهم ثانيًا أشد؛ فإنهم في الأول جهلوا شيئًا مخصوصًا بنسبتهم المؤمنين إلى الحسد، والثاني نسبتهم إلى الجهل المطبق". وقلت: الإضراب الأول واقع في كلام المتخلفين، والثاني في كلام الله عز وجل، وقوله تعالى: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ}: أخبر الله تعالى أنهم سيقولون للمؤمنين: إذا ذهبتم إلى الغزو لا تمنعونا من متابعتكم، ومنعكم إيانا ذلك ليس من حكم الله، بل هو من عند أنفسكم؛ حسدًا أن نصيب من الغنائم شيئًا. ثم أضرب الله عن المجموع بقوله: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ}، والحاصل أن ردهم حكم الله وإثباتهم الحسد كان من قلة التفكير وسوء الظن بالمسلمين، ودع ذلك، بل كان بجهل منهم وقلة عقل لما يلزم منه؛ إما رد حكم الله، أو نسبة التقول على الله والحسد إلى أولئك السادة، وإيثار هذه الأدنى على الحياة السرمدية. وفيه: أن الجهل غاية في الذم، وحب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل.

لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبي حنيفة، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية. وعند الشافعي: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس، دون مشركي العجم والعرب. وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته، وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]؟ ! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه): وتقريره: ما ذكره الإمام قال: الداعي في قوله: {سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الأئمة الأربعة ومن بعدهم. لا يجوز الأول لقوله تعالى: {لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} إلى قوله: {سَتُدْعَوْنَ} الآية، ولا علي رضي الله تعالى عنه، لأنه رضي الله عنه إنما قاتل البغاة والخوارج، وتلك المقاتلة للإسلام؛ ولما بطلت الأقسام تعين أن المراد بالداعي: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعتهم، وأوعد على مخالفتهم بقوله: {فَإن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وإن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

وقيل: هم فارس والروم. ومعنى {يُسْلِمُونَ}: ينقادون، لأنّ الروم نصارى، وفارس مجوس، يقبل منهم إعطاء الجزية. فإن قلت: عن قتادة: أنهم ثقيف وهوازن، وكان ذلك في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: إن صح ذلك فالمعنى: لن تخرجوا معي أبدًا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن قتادة: أنهم ثقيف): يعني: ذكرت أن ليس الداعي في قوله: {سَتُدْعَوْنَ} رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يدعوهم وقد قال: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]، وقد روي عن قتادة: أن المدعو ثقيف وهوازن، فيكون الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأجاب: أن هذا المطلق مقيد، إما بقيد: ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب، وحين دعاهم زال عنهم ذلك المرض، وإما بقيد قوله: "إلا متطوعين"، وبيأنه: أن ذلك الموعد _الذي دل عليه قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} _ هو أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. وقال محيي السنة: " {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر، {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} أي: من قبل مرجعنا إليكم؛ أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب". فاللام في" الموعد" للعهد بشهادة قوله فيما سبق: " {أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أي: يغيروا موعد الله لأهل الحديبية"، فإن ذلك الموعد_ على قول مجاهد_ هذا المذكور، فعلى هذا: "أو على قول مجاهد" عطف على قوله: "فالمعنى: لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوا ما دمتم على ما أنتم عليه"، أو: لن تخرجوا أبدًا إلا متطوعين لا نصيب لكم في المغنم، بناء على قول مجاهد.

أو على قول مجاهد: كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. {كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يريد: في غزوة الحديبية. {أَوْ يُسْلِمُونَ} معطوف على {تُقَاتِلُونَهُمْ}، أي: يكون أحد الأمرين؛ إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما. وفي قراءة أبيّ: "أو يسلموا"؛ بمعنى: إلى أن يسلموا. [{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذابًا أَلِيمًا} 17] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (متطوعين): الجوهري: "التطوع بالشيء: التبرع به، المطوعة: الذين يتطوعون بالجهاد". قوله: (معطوف على {تُقَاتِلُونَهُمْ}، أي: يكون أحد الأمرين؛ إما المقاتلة أو الإسلام، لا ثالث لهما): أي: لا تؤخذ الجزية أن أريد ب"القوم": مشركو العرب، و"الإسلام" محمول على حقيقته، ولا يترك سدى أن أريد ب"القوم": المجوس والنصارى _ذكر المجوس والنصارى، ولم يذكر اليهود؛ لأن القوم ما دعوا إلى اليهود، لأن اليهود ما اجتمع لهم رأي بعد ذلك، ولا كانت لهم شوكة وبأس شديد_ و"الإسلام" محمول على الانقياد. والعطف يحتمل أمرين_ كما قال في "المفصل"_: "الرفع على الإشراك بين {يُسْلِمُونَ} و {تُقَاتِلُونَهُمْ}، أو على الابتداء". وقال ابن الحاجب في "الشرح": "الرفع على الإشراك بين {يُسْلِمُونَ} و {تُقَاتِلُونَهُمْ} على معنى التشريك بينهما في عامل واحد، حتى كأنك عطفت خبرًا على خبر، أو على الابتداء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني بقوله: "أو على الابتداء": على الاستئناف بجملة معربة إعراب نفسها غير مشترك بينها وبين ما قبلها في عامل واحد، ومثلها بقول: "أو هم يسلمون"، ليظهر الفرق بين هذا التقدير والتقدير الأول؛ إذا الجملة الاسمية لا تكون معطوفة على جملة فعلية باعتبار التشريك، ولكن باعتبار الاستقلال". وقال في "الأمالي": "الرفع فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مشتركًا بينه وبين {تُقَاتِلُونَهُمْ} في العطف، والآخر: أن يكون جملة مستقلة معطوفة على الجملة التي قبلها باعتبار الجملة لا باعتبار الأفراد، و {تُقَاتِلُونَهُمْ} فيه معنى الأمر، وإن كان صيغته صيغة الخبر، ولا يستقيم أن يكون مجردًا عن معنى الأمر لأنه يؤدي إلى أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق الإخبار، ونحن نرى الوجود ينفك عنهما. ولا نقول: إنه يمتنع لما تؤدي إليه "أو" من الشك، وذلك في حق العالم باطل، فإنا على يقين نعلم أن "أو" تأتي لأحد الأمرين إذا كان المخبر عنه لا ينفك عن أحدهما، وليس ذلك عن شك، بل عن قطع أنه كذلك، كقولك: الجسم إما أن يكون ساكنًا أو متحركًا، وكذلك ما أشبهه مما يلزم أن يكون على أحد الأمرين في عقليته أو وجوده، وإنما يلزم الشك في الإخبار عن أمر معين في الوجود، وقع أو سيقع على أحد أمرين، فهاهنا قد يتوهم لزوم الشك من المخبر، كقولك: زيد إما مريض وإما معافى. وإذا ثبت أن {تُقَاتِلُونَهُمْ} في معنى الأمر، فـ {يُسْلِمُونَ}: إما في معنى الأمر فيصح المعنى، ويكون المعنى: الواجب عليكم إما القتال وإما الإسلام منهم، وهذا واضح، وعلم أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام لا يسقط عنهم بالقتال من المسلمين من دليل آخر، وإما أن لا يكون {يُسْلِمُونَ} في معنى الأمر، فيكون المعنى الإخبار بأن أحد الأمرين لا ينفك عن الوجود، وهو إما وجوب القتال منكم، أو حصول الإسلام منهم". قلت: أما قوله: "أن يكون جملة مستقلة معطوفة على الجملة قبلها باعتبار الجملة لا باعتبار الأفراد"، فمناه: أن قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ} مجرور المحل صفة لـ {قَوْمٍ}، فإذا عطف {أَوْ يُسْلِمُونَ} عليه باعتبار الأفراد، كان حكمهما سواء، وأما إذا عطف لا من هذه الجهة، بل بالنظر [إلى] أنها جملة كانت مستقلة. ويؤيده ما ذكره ابن جني في "المحتسب"، قال: "أما قراءة العامة بالنصب: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] فمعطوف على {يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وحدها، وهي جملة من فعل وفاعل، والعطف يقتضي التماثل في تركيب الجمل، فالتقدير: ورفع السماء، فلما أضمر" رفع"، فسره بقوله: {رَفَعَهَا}، كقولك: قام زيد وعمرًا ضربته، أي: وضربت عمرًا، لتعطف جملة من فعل وفاعل، على أخرى مثلها. وفي نصب "السماء" على القراءة العامة ردًا على أبي الحسن في امتناعه أن يقول: زيد ضربته وعمرًا كلمته، على تقدير: وكلمت عمرًا، عطفًا على: ضربته، لأن قوله: "ضربته" جملة ذات موضع من الإعراب، لكونها خبرًا للمبتدأ، و" كلمت عمرًا" لا موضع لهامن الإعراب، لأنها ليست خبرًا عن "زيد"؛ لخلوها من ضميره، فلا تعطف جملة غير ذات موضع على جملة ذات موضع؛ إذ العطف نظير التثنية، فينبغي أن يتناسب المعطوف والمعطوف عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذا ساقط عند سيبويه، وذلك أن ذلك الموضوع من الإعراب لما لم يخرج إلى اللفظ سقط حكمه، وجرت الجملة ذات الموضع كغيرها من الجملة غير ذات الموضع، كما أن الضمير في اسم الفاعل لما لم يظهر إلى اللفظ جرى مجرى ما لا ضمير فيه، فقيل في تثنيته: قائمان، كما قيل: فرسان ورجلان، بل إذا كان اسم الفاعل قد يظهر ضميره إذا جرى على غير من هوله، ثم أجري مع ذلك مجرى ما لا ضمير فيه لما لم يظهر في بعض الموضع، كان ما لا يظهر فيه الإعراب أصلًا أحرى أن يسقط الاعتداد به". تم كلام ابن جني. وأما تلخيص الكلام: فهو أن يقال: لا بد من تأويل {تُقَاتِلُونَهُمْ} بالأمر؛ ليستقيم المعنى، ولا نقول: إنه يمتنع الحمل على الإخبار لأجل كلمة"أو" لأنها موضوعة للشك، وهو في حق الله تعالى محال، وكيف نقول به ونحن نعلم يقينًا أن "أو" في الأخبار ليست منحصرة في الشك، لأن "أو" التنويعية، وهي أن تأتي لأحد الأمرين إذا كان المخبر عنه لا ينفك عن أحدهما، نحو: الجسم إما أن يكون ساكنًا أو متحركًا، بل نقول: إنما يمتنع الإخبار لأن قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ليس من هذا القبيل؛ لما نرى أن الوجود ينفك عنهما، وهو أن لا تحصل مقاتلة هؤلاء ولا إسلام أولئك، إما بالهذنة أو أن يتركوا سدى. وإذا ثبت أن {تُقَاتِلُونَهُمْ} في معنى الأمر: فلا يخلو من أن يحمل {يُسْلِمُونَ} على الأمر أيضًا أم لا. فالمعنى على الأول: الواجب عليكم إما القتال وإما الإسلام منهم. ويرجع المعنى على الثاني إلى الإخبار بأن أحد الأمرين لا ينفك عنه الوجود؛ إما وجوب القتال منكم أو حصول الإسلام منهم، وإنما يستقيم هذا على الأمر، لأن الأمر للوجوب، وليس الإخبار بحصول وجوب القتال كالإخبار بحصول وقوع القتال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فظهر بهذا معنى قول المصنف: "يكون أحد الأمرين؛ إما المقاتلة أو الإسلام، ولا ثالث لها". هذا، والذي يقتضيه المقام ما ذهب غليه صاحب "التخمير" حيث قال: "وإذا رفعت هذا الفعل فعلى أن "أو" هي العاطفة، ثم هذه الجملة المعطوفة: إما أن تكون بظاهرها فعلية أو اسمية، وعلى الاسمية تقديره: أو هم يسلمون. فإن سألت: أليس من شأن العطف المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه؟ أجبت: إذا قلت: الجملة الفعلية اسمية كانت المناسبة أكثر، لأن هذه الجملة حينئذ تخرج إلى باب الكناية، والمعنى: تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون. وقلت: يعني: وضع "هم يسلمون" موضع "لا تقلونلونهم"؛ لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، "أو" إذن للتريد، لكن على سبيل الاستعارة، والجملتان إخباريتان، وبيان ذلك أن قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ} وارد على سنن الإخبار التوبيخي في حق من تخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤوا معتذرين، يعني: أن الله سبحانه وتعالى سيعاملكم بعد هذه الغزوة بغزوة أخرى معاملة من يختبر أحوال من هو تحت قهره وملكته، فيأمره بأمر وينظر: هل يمتثل أمره أم لا، فإن أطاع يثيبه، وإلا يعاقبه، يدل عليه ترتب قوله: {فَإن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وإن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ورفع الجناح عن المضرورين في قوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ}، والتذييل بقوله: {ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} الآية.

نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو. وقرئ: "ندخله" و"نعذبه"، بالنون. [{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَاخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 18 - 19] هي بيعة الرضوان، سميت بهذه الآية، وقصتها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث جوّاس بن أمّية الخزاعي رسولًا إلى أهل مكة، فهموا به، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتحرير المعنى: ستدعون إلى قوم ذوي شوكة عظيمة وأصحاب عدد لنبلوكم؛ أهل تقاتلونهم أم لا وتتخلفون عن داعيكم كما تخلفتم الآن، والاستدعاء ليس إلا لاختباركم وامتثالكم الأمر، وإلا فالقوم يدخلون في الإسلام: إما باستبصار من عند أنفسم وتفكر، أو أن يقدر الله غيركم من يقاتلهم ليسلموا. ولهذا الدقيقة كنى بالجملة الاسمية عن الفعلية _وهي الخبر عن المبتدأ المقدر_ على تقوي الحكم. فظهر أن الكلام وارد على التمثيل، و"أو" الترديدية مستعارة هاهنا، كما استعير كلمة الترجي في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والله أعلم. قوله: (وقرئ: "ندخله" و"نعذبه" بالنون): نافع وابن عامر. قوله: (هي بيعة الرضوان، سميت بهذه الآية): أي: أنزل الله تعالى في هذه البيعة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، فسميت بها، الراغب: "الرضوان: الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله خص لفظ" الرضوان" في القرآن بما كان من الله تعالى".

فمنعه الأحابيش، فلما رجع دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه، فقال: إني أخافهم على نفسي، لما عرف من عداوتي إياهم، وما بمكة عدوىّ يمنعني، ولكنى أدلك على رجل هو أعز بها مني، وأحب إليهم؛ عثمان بن عفان، فبعثه، فخبرهم أنه لم يأت بحرب، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحرمته، فوقروه، وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبس عندهم، فأرجف بأنهم قتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة، وكانت سمرة، قال جابر بن عبد الله: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها. وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في أصل الشجرة، وعلى ظهره غصن من أغصانها، قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائمًا على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره، فبايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض». وكان عدد المبايعين ألفًا وخمس مئة وخمسة وعشرين، وقيل: ألفًا وأربع مئة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأحابيش): عن بعضهم: واحدها: أحبوش، وهو الفرج من قبائل شتى، يقال: تحبشوا من كل قبيلة، أي: تجمعوا، فصار لهم سواد لكثرتهم، فشبهوا بالحبش. قوله: (عثمان بن عفان): يروى مرفوعًا ومفتوحًا؛ فالرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والفتح على أن يكون بدلًا من "رجل". قوله: (حتى نناجز): الجوهري: المناجزة في الحرب: المبارزة والمقاتلة". قوله: (وقيل: ألفًا وأربع مئة): هذا هو الصحيح، كما رويناه في حديث مسلم في البيعة، قال: "كنا أربع عشرة مئة"، وعن البخاري في حديث نزح بئر الحديبية.

وقيل: ألفًا وثلاث مئة. {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم، {وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، وقرئ: "وآتاهم"، وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة، وعن الحسن: فتح هجر، وهو أجلّ فتح، اتسعوا بثمرها زمانًا، {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَاخُذُونَها} هي مغانم خيبر، وكانت أرضًا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن الحسن: فتح هجر): وفيه نظر؛ لأن "هجرًا" على ما ذكره صاحب "النهاية": "إما قرية قريبة من المدينة التي منها القلال، أو هجر البحرين"، ولم يذكر أحد من الأءمة أنه صلى الله عليه وسلم غزاها، وذكر محيي السنة: "أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة، ورجع بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر". قوله: (هي مغانم خيبر): "الغنم: معروف، والنغم: إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدا وغيرهم، والمغنم: ما يغنم، وجمعه مغانم".

ثم أتاه عثمان رضي الله عنه بالصلح، فصالحهم، وانصرف بعد أن نحر بالحديبية، وحلق. [{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَاخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} 20] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً} وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} المغانم، يعني: مغانم خيبر، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني: أيدي أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنكصوا. وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح، {وَلِتَكُونَ} هذه الكفة {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانًا لفتح مكة، {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا} ويزيدكم بصيرة ويقينًا، وثقة بفضل الله. [{وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} 21] {وَأُخْرى} معطوفة على {هَذِهِ}، أي: فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، وقال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} لما كان فيها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم أتاه عثمان رضي الله عنه بالصلح): عطف على قوله: "فبايعوه تحت الشجرة"، إلى قوله: "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم خير أهل الأرض"، لا على قوله: "فقسمها عليهم"، لأن فتح خيبر كان بعد مرجعه رضي الله عنه من مشركي أهل مكة بمدة مديدة.

من الجولة، {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} أي: قدر عليها واستولى، وأظهركم عليها، وغنمكموها. ويجوز في "أُخْرى": النصب بفعل مضمر، يفسره {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها}، تقديره: وقضى الله أخرى قد أحاط بها، وأما {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها} فصفة لـ"أخرى"، والرفع على الابتداء؛ لكونها موصوفة بـ {لَمْ تَقْدِرُوا}، و {قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا}: خبر المبتدأ، والجرّ بإضمار "رب". فإن قلت: قوله تعالى: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20]، كيف موقعه؟ قلت: هو كلام معترض، ومعناه: ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: وعدكم المغانم، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقًا، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية، ويزيدكم بذلك هداية وإيقانًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الجولة): النهاية: "في حديث الصديق: "أن للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة"، أي: غلبة؛ من: جال في الحرب على قرنه يجول"، وعن بعضهم: وهي عبارة عن هزيمة المسلمين، فأحسن في العبارة عنها على عادة المترسلين، وقيل: الجولة: هي الهزيمة مع الرجوع إلى القتال، ثم الهزيمة، ثم الرجوع. قوله: (والجر بإضمار): أي في "أخرى"، وعلى هذا {لَمْ تَقْدِرُوا} صفة، و {قَدْ أَحَاطَ} جواب "رب". قوله: (ولتكون الكفة آية للمؤمنين): عن بعضهم: فإن قيل: ما وجه المنة في كف أيدي المؤمنين عن الكافرين؟ قلت: وجهه ما بعده من قوله: {ولَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الآية. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: وعدكم): فعلى هذا: {ولِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} عطف على علة أخرى محذوفة، وعلى أن تكون معترضة: المعلل محذوف.

[{وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 22 - 23] {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة ولم يصالحوا، وقيل: من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا، {سُنَّةَ اللَّهِ} في موضع المصدر المؤكد، أي: سن الله غلبة أنبيائه سنة، وهو قوله: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]. [{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 24] {أَيْدِيَهُمْ} أيدي أهل مكة، أي: قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحًا، وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية؛ لما روي: أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مئة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. وقرئ: {تَعْمَلُونَ}، بالتاء والياء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه [على] أن مكة فتحت عنوة لا صلحًا): هذا يخالف تفسير المصنف لقوله: {إنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1]: "الفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحًا، بحرب أو بغير حرب". قوله: (وقرئ: {تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء): أبو عمرو: بالياء التحتانية.

[{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا} 25] وقرئ: {وَالْهَدْيَ} و"الهدي" بتخفيف الياء وتشديدها، وهو ما يهدى إلى الكعبة، بالنصب عطفًا على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ}، أي: صدّوكم وصدّوا الهدي، وبالجر عطفًا على {الْمَسْجِدِ الحَرَامِ}، بمعنى: وصدّوكم عن نحر الهدي، {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} محبوسًا عن {أَن يَبْلُغَ}، وبالرفع على: وصدّ الهدي. و{مَحِلَّهُ}: مكانه الذي يحل فيه نحره، أي يجب، وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم. فإن قلت: فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت: بعض الحديبية من الحرم، وروي: أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاه في الحرم. فإن قلت: فإذن قد نحر في الحرم، فلم قيل: {مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}؟ قلت: المراد: المحل المعهود، وهو منى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحل فيه نحره، أي: يجب): "يجب": من الوقوع، لا من الوجوب، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، روي عن المصنف: "محل الهدي: مكان حلوله، أي: وجوبه ووقوعه، ومحل الدين: وقت حلوله، أي: وجوبه ووقوعه". قوله: (فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم): هذا السؤال وراد على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وعند الشافعي رضي الله عنه: محل الهدي حيث أحصر، وقد مر تحقيقه في سورة البقرة. قوله: (مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم): المغرب: "ضرب الخيمة، وهو المضرب للقبة، بفتح الميم وكسر الراء، ومنه: كانت مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحل، ومصلاه في الحرم".

{لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة الرجال والنساء جميعًا، و {أَنْ تَطَؤُهُمْ} بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في {تَعْلَمُوهُمْ}، والمعرة: مفعلة؛ من عره: بمعنى: عراه، إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه. و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بـ {أَنْ تَطَؤُوهُمْ}، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من: عره، بمعنى: عراه؛ إذا دهاه ما يكرهه): الراغب: "المعتر: المعترض للسؤال، يقال: عره واعتره، وعررت بك حاجتي، والعر والعز: الجرب الذي يعر البدن، ومنه قيل للمضرة: معرة؛ تشبيهًا بالعر الذي هو الجرب". قوله: ({بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بـ {أَن تَطَئُوهُمْ}): فيكون حالًا من الضمير المرفوع في {تَطَئُوهُمْ}، أو المنصوب، وتقديره: أن تطؤوهم غير عالمين بهم، قال أبو البقاء: "هو حال من الضمير المجرور_ أي: في {مِّنْهُم} _، أو صفة لـ {مَّعَرَّةٌ} ". والمعنى على قول المصنف: لولا رجال مؤمنون صفتهم أنكم غير عالمين بوطئهم غير عالمين بهم، قال الإمام: "يلزم على قوله التكرير، فالأولى أن يقال: أن قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يكون في موضعه، المعنى: {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، أي: أن وطئتموهم غير عالمين لزمتكم سبة الكفار بغير علم، أي: بجهل، لا يعلمون أنكم معذورون فيه، أو فتصيبكم منهم معرة غير معلومة، وهي ما يحصل من القتل الخطأ، ومن حصول الأذى على البريء". وقلت: يمكن أن يقال: لا يلزم التكرار؛ لأن المراد أنه متعلق بما دل عليه {أَن تَطَئُوهُمْ}، والمعنى: لولا رجال مؤمنون، ومن صفتكم أنكم غير عالمين بوطئهم، فتطؤوهم وأنتم غير عالمين بهم، فيكون ذلك سببًا لأن تصيبكم منهم المعرة، وهي ما قال: "يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء قالة المشركين".

يعني: أن تطؤوهم غير عالمين بهم، والوطء والدوس: عبارة عن الإيقاع والإبادة، قال: ووطئتنا وطأ على حنق .... وطأ المقيّد نابت الهرم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج»، والمعنى: أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووطئتنا وطأ على حنق): "الحنق": الحقد الشديد، و"المقيد": البعير الذي عليه القيد، وخصه لأن وطأنه أثقل، كما خص الحنق لأن إبقاءه أقل، وخص "نابت الهرم" لأن هشمه أسهل. الأساس: "يقال: أذل من الهرمة؛ واحدة الهرم، وهو يبيس الشبرق أذل الحمض"، وأنشد البيت، يقول: أثرت فينا تأثير الحنق الغضبان، كما يؤثر البعير المقيد إذا وطئ هذا النبت. قوله: (وإن آخر وطأة وطئها الله بوج): النهاية: "المعنى: أن آخر أخذة أو وقعة أوقعها الله تعالى بالكفار كانت بوج، وكانت غزوة الطائف آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يغز بعدها إلا غزوة تبوك، ولم يكن فيها قتال". الراغب: "وطؤ الشيء فهو وطيء بين الوطاءة والطئة والطأة، ووطئته برجلي أطؤه وطأ ووطاءة، وفي الحديث: "اللهم اشدد وطأتك على مضر"، أي: ذللهم، ووطئ

ولا معروفي الأماكن، فقيل: ولولا كراهة أن تهلكوا ناسًا مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم. وحذف جواب «لولا» لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير لـ"لولا رجال مؤمنون"؛ لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون {لَعَذَّبْنَا} هو الجواب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ امرأته: كناية عن الجماع، وصار كالتصريح للعرف فيه، والمواطأة: وأصله: أن يطأ الرجل برجله موطئ صاحبه". قوله: (ويجوز أن يكون {لَوْ تَزَيَّلُوا} كالتكرير لـ"لولا رجال مؤمنون): يعني: تخيص المعنى الأول: أن هناك قومًا مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم، وهو ضد "تزيلوا"، لأن معناه: حصل التميز وتفرق المانع، و"لولا": لا متناع الشيء لوجود غيره، و"لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، فيكون مقتضى جوابهما واحدًا، فكان تكريرًا. الانتصاف: "إنما كان مرجعهما هاهنا واحدًا، وإن كانت "لولا" تدل على الامتناع لوجود غيره، و"لو" تدل على الامتناع للامتناع؛ لأن "لولا" دخلت هاهنا على وجود معناه العدم، إذ التزيل معناه المفارقة، فصار ثبوتًا، وكان جدي يختار الوجه الثاني، ويجعله تطرئة لطول الكلام". وقلت: ولعل المختار الأول؛ لأنه حينئذ يقرب من باب الطرد والعكس، لأن التقدير: لولا وجود رجال مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم لوقع ما كان جزاء لكفرهم وصدرهم، ولو حصل التميز وارتفع الاختلاط لحصل التعذيب.

فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. فإن قلت: قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} تعليل لماذا؟ قلت: لما دلت عليه الآية وسيقت له؛ من كف الأيدي عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صونًا لمن بين أظهرهم من المؤمنين، كأنه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته، أي: في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم، أو: ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم، {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض؛ من: زاله يزيله. وقرئ: "لو تزايلوا". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: "يحتمل أن يقال: جوابه ما دل عليه قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكُمْ}، يعني: استحقوا لأن لا يهملوا، ولولا رجال مؤمنون لوقع ما استحقوه، كما يقول القائل: هو سارق، ولولا فلان لقطعن يده". قوله: (لما دلت عليه الآية وسيقت له): يعني: هو تعليل للمجموع، قال الإمام: "والمعنى: فعل ما فعل ليدخل، لأن هناك أفعالًا من الألطاف والهداية وغيرهما، لا يقال إنك ذكرت أن المانع للوطء وجود رجال مؤمنين، كأنه قيل: كف أيديكم لئلا تطؤوا، فكيف يكون لشيء آخر؟ لأنا نقول: المعنى: كف أيديكم لئلا تطؤوا ليدخلوا، كما يقال: أطمعته ليشبع ليغفر الله لي". قوله: (أو: ليدخل في الإسلام): يعني: إذا قيد {مَنْ يَشَاءُ} بالمؤمنين، فالمناسب أن

[{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} 26] {إِذْ} يجوز أن يعمل فيه ما قبله، أي: لعذبناهم، أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت، وأن ينتصب بإضمار: اذكر. والمراد بـ"حمية الذين كفروا" و"سكينة المؤمنين" -والحمية: الأنفة، والسكينة: الوقار-: ما روي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية، بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتبوا بينهم كتابًا، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفسر "الرحمة" بالتوفيق، فتكون مراعاة جانب طائفة من المؤمنين والمؤمنات سببًا لمزيد التوفيق والخير والطاعة، وإذا قيد بالمشركين، فالوجه أن تفسير "الرحمة" بالإسلام، لأن المشركين إذا شاهدوا مراعاة المسلمين ورحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين بأن منع من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم، لأجل اختلاطهم بهم، رغبوا في مثل هذا الدين والانخراط في زمرة المرحومين. قوله: (أو صدوهم): عن بعضهم: الصواب: أو صدوكم، بل الأولى ذلك؛ لأن له وجهًا، أي: صد المشركون المسلمين إذ جعل. قوله: (لما نزل بالحديبية، بعثت قريش) الحديث إلى آخره: قد ذكره الأئمة في أحاديث شتى بروايات مختلفة، ومضى شيء منه في هذا الكتاب.

فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة"، فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: "اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله"، فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك، ويشمئزوا منه، فأنزل الله على رسوله السكينة، فتوقروا وحلموا. و{كَلِمَةَ التَّقْوى}: "بسم الله الرحمن الرحيم" و"محمد رسول الله"، قد اختارها الله لنبيه وللذين معه؛ أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم، وقيل: هي كلمة الشهادة، وعن الحسن: كلمة التقوى: هي الوفاء بالعهد، ومعنى إضافتها إلى التقوى: أنها سبب التقوى وأساسها، وقيل: كلمة أهل التقوى. وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله: "وكانوا أهلها وأحق بها"، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأنا أشهد): قيل: معناه: المعجزة على يدي بعد الدعوى، كما أن شهادة الله إظهار المعجزة على يد النبي، أو نقول: فإذا ثبتت نبوته بالمعجزة إذا قال: أنا نبي، كان كالتوكيد والتقرير لذلك. وقلت: المعنى: أنا نبي ثابت النبوة بالمعجزة، وثابت الرسالة بإنزال الكتاب علي، سواء شهدوا أو لم يشهدوا. قوله: (و {كَلِمَةَ التَّقْوَى}: "بسم الله الرحمن الرحيم"): روى الترمذي عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " {وأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، قال: لا إله إلا الله". قوله: (الحارث بن سويد): قال صاحب "جامع الأصول": "هو من كبار تابعي الكوفة وثقاتهم، وقد سئل أحمد بن حنبل عنه، قال: مثل هذا يسأل عنه؟ ! يعني: لجلالة قدره وعلو منزلته، وروى عن ابن مسعود، مات في آخر أيام عبد الله بن الزبير".

[{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 27] رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا، وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت. ومعنى: {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا}: صدقه في رؤياه ولم يكذبه، تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوًّا كبيرًا، فحذف الجارّ وأوصل الفعل، كقوله تعالى: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الحزاب: 23]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى: {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا}: صدقة في رؤياه ولم يكذبه): الراغب: "الصدق ولا كذب: أصلهما في القول، ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، وقد يكونان بالعرض في غير الخبر، كالاستفهام والأمر والدعاء، نحو قولك: "أزيد في الدار؟ " فإن في ضمنه إخبارًا بكونه جاهلًا بحال زيد، وقولك: "لا تؤذني" مضمن لمعنى أنه يؤذيك، وقولك: "واسني" مضمن لمعنى: أنك محتاج إلى المواساة. والصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معًا، وإلا لم يكن صدقًا تامًا، بل إما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن لا يوصف بالصدق، أو يوصف تارة بالصدق وتارة الكذب، على نظرين مختلفين، كقوله كافر غير معتقد: "محمد رسول الله"، فصدقه لكون المخبر عنه كذلك، وكذبه لمخالفة الضمير. وقد يستعملان في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو: صدق ظني وكذب، ويستعملان في فعل الجوارح، نحو: صدق في القتال_ إذا وفي حقه وفعل ما يجب_ وكذب في القتال، قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، أي: حققوا العهد. وقوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]: أي: يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله؛ تنبيها أنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه بالفعل، وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا}: هذا صدق بالفعل، وهو التحقيق، أي: حقق رؤيته، وعليه قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]: أي: حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا. ويعتبر عن كل فعل فاضل ظاهرًا باظنًا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل، كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، وعلى هذا: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، وقوله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} [الشعراء: 84]، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله صالحًا، بحيث إذا أثنى عليه من بعده، لم يكن ذلك الثناء كذبًا، كما قال: إذا نحن أثنينا عليك بصالح .... فانت كما نثني وفوق الذي نثني".

فإن قلت: بم تعلق {بِالْحَقِّ}؟ قلت: إمّا بـ {صَدَقَ}، أي: صدقه فيما رأى، وفي كونه وحصوله صدقًا ملتبسًا بالحق، أي: بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص، وبين من في قلبه مرض. ويجوز أن يتعلق بـ {الرُّؤْيَا} حالًا منها، أي: صدقه الرؤيا ملتبسًا بالحق، على معنى: أنها لم تكن من أضغاث الأحلام. ويجوز أن يكون {بِالْحَقِّ} قسمًا؛ إمّا بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسمائه، و {لَتَدْخُلُنَّ}: جوابه، وعلى الأوّل: هو جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما وجه دخول {إِنْ شاءَ اللَّهُ} في أخبار الله عز وجل؟ قلت: فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليمًا لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدّبين بأدب الله، ومقتدين بسنته، وأن يريد: لتدخلنّ جميعًا إن شاء الله ولم يمت منكم أحدًا، أو كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك: إن شاء الله، أو هي حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقصّ عليهم. وقيل: هو متعلق بـ {آمِنِينَ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيه وجوه): تلخيصها: أن قوله: {إن شَاءَ اللَّهُ}: إما من كلام الله عز وجل، أو من كلام الملك عليه السلام، أو الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى أن يكون من كلام الله تعالى فهو: إما متعلق بـ {لَتَدْخُلُنَّ} أو بـ {آمِنِينَ}، وإذا كان الأول فإيراده: إما للتعليم أو للتبرك، وإما أن المراد: لتدخلن جميعًا، وإذا تعلق بـ {آمِنِينَ} كان المعنى ما ذكره في قوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} [يوسف: 99]: "أسلموا وآمنوا في دخولكم أن شاء الله، والتقدير: ادخلوا مصر آمنين أن شاء الله دخلتم". وعلى أن يكون من كلام الملك: فإنه لما ألقى كلام الله على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى هذه الكلمةمن تلقاء نفسه تبركًا. وعلى أن يكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: فإنه صلوات الله عليه لما قص الرؤيا على أصحابه أتى بتأويلها مؤكدًا بالقسمية، لأن رؤيا الأنبياء وحي، ثم إنه تعالى لما ذكر {لَقَدْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} استأنف بقوله: {لَتَدْخُلُنَّ}، ليكون جوابًا لمن قال عند ذلك: فبم صدقه الله؟ فقيل: في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. وقد طعن صاحب "التقريب" في بعض الوجوه على الإجمال. وقلت: إذا كان من كلام الله، ولم يكن تعليمًا للعباد، ويراد: لتدخلن جميعًا أن شاء الله، ولم يمت منكم أحد، كان المراد: لتدخلن جميعًا أن شاء الله ولم يمت أحد، لكن الله تعالى أمات بعضهم. وفيه بعد. وإذا كان من كلام الملك: فظاهر الرد؛ لأن الزايدة من كلام الغير كيف تدخل في كلام الله تعالى؟ ! وأولى الوجوده: أن يكون تعليمًا للعباد، وتكون كلمة تاديب تذكر في أثناء الكلام تيمنًا وتبركًا. روى الواحدي عن أبي العباس أحمد بن حيي: "استثنى الله تعالى فيما يعلم؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وأمر بذلك في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] "، وكذا عن الإمام، وقال أيضًا: "عن ذلك لتحقيق الدخول؛ لأن المؤمنين أرادوا الدخول، وأبوا الصلح، فقيل: تدخلون، لكن لأا بجلادتكم ولا بإرادتكم، وإنما تدخلون بمشيئة الله وإرادته". وقلت: ويعضده قوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}، وتفسير المصنف: "فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل".

{فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا} من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ} أي: من دون فتح مكة، {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود. [{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 28] {بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ} بدين الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على جنس الدين كله، يريد: الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب، ولقد حقق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى دينًا قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة. وقيل: هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات. وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح، وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد، ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم، ما يستقلون إليه فتح مكة. {وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على أنّ ما وعده كائن، وعن الحسن: شهد على نفسه أنه سيظهر دينك. [{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 29] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتستروح إليه قلوب المؤمنين): الأساس: "قد روحت بهم ترويحًا، وأرحته من التعب، فاستراح، واستروحت إلى حديثه". قوله: (ويقيض لهم): المغرب: "قيض له كذا: قدره، ومنه: ملكًا مقيضًا".

{مُحَمَّدٌ} إما خبر مبتدأ، أي: هو محمد؛ لتقدّم قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}، وإما مبتدأ، و {رَسُولُ اللهِ} عطف بيان، وعن ابن عامر أنه قرأ: "رسولَ الله"؛ بالنصب على المدح. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: هو محمد؛ لتقدم قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ}): يعني: لما ذكر الله تعالى أنه بذاته اختص بإرسال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الموصوف بصفات الكمال، وهو الذي بجلالته خصه بذلك الخطب الجليل والأمر الخطير، استأنف بقوله: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}؛ ليكون موردًا للسؤال؛ وأن ذلك الموصوف من هو ثم ابتدأ: {والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}؛ تشريفًا لهم وكرامة، نحو قوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، ولا كذلك على الوجه الثاني، قال صاحب "المرشد": "الوقف على {رَّسُولُ اللَّهِ}: حسن". قوله: (و {رَّسُولُ اللَّهِ} عطف بيان): فيه إشارة إلى ما ينبغي، وأن على المسلمين أن لا يسموه باسمه، ويكون" رسول الله" عندهم في كثرة الدوران بمنزلة البيان لا سمه تعظيمًا وتبجيلًا، قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، أي: لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم يسمي بعضكم بعضًا، بل يا نبي الله، ويا رسول الله. وقال القاضي: " {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}: جملة مبينة للمشهود به_ أي: هو متعلق بقوله: {وكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} _، ويجوز أن يكون {رَّسُولُ اللَّهِ} صفة، و {مُحَمَّدٌ} خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، {والَّذِينَ مَعَهُ} معطوف عليه، وخبرهما: {أَشِدَّاءُ} ".

{وَالَّذِينَ مَعَهُ} أصحابه، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} جمع شديد ورحيم، ونحوه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} [المائدة: 54]، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وعن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة: لم تختلف فيها الفقهاء، وأما المعانقة: فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}): أي: هو من أسلوب التكميل، فإنه لو اكتفى بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لأوهم أن ذلك للعجز، فكمل بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فاقترن بما ينبئ عن التواضع، ولا يؤدي إلى التكبر، كذا قوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ}: لو اكتفى به لأوهم الفظاظة والغلظة، فكمل بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، يعني: أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء فيما بينهم أرباب وقار وترحم. قوله: (والمصافحة: لم يختلف فيها الفقهاء): عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما" أخرجه أبو داود، وفي رواية الترمذي: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا". وقال الشيخ محيي الدين النواوي في "الأذكار": "المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس بعد صلاة الصبح والعصر فلا أصل له، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم محافظين عليها في بعض الأوحوال، ومفرطين في كثير منها: لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها. وقد ذكر الشيخ الإمام أبو محمد ابن عبد السلام في كتابه "القواعد": أن البدع على خمسة أقسام: واجبة ومحرمة ومكروهة

وكذلك التقبيل، قال: لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئًا من جسده. وقد رخص أبو يوسف في المعانقة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومستحبة ومباحة، ومن البدع المباحة: المصافحة عقيب الصبح والعصر". انتهى ما في " الأذكار". قوله: (وكذلك التقبيل): عن الترمذي عن أنس قال: سمعت رجلًا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم". فزاد رزين بعد قوله: "ويقبله؟ قال: لا": "إلا أن يأتي من سفر". وفي "الأذكار": عن الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله"، قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال الشيخ محيي الدين النواوي: "التقبيل والمعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، مكروه كراهة تنزيه في غيره، وأما الامرد الحسن فيحرم بكل حال، والمذهب الصحيح عندنا: يحرم النظر إلى الأمرد الحسن ولو كان بغير شهودة، وقد أمن الفتنه فهو حرام، كالمرة، لكونه في معناها". قوله: (وقد رخص أبو يوسف في المعانقة): روى أبو داود: "سئل أبو ذر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلى ذات يوم ولم أكن في أهلي، فجئت، فأخبرت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلي، فأتيته وهو على سريره فالتزمني، فكانت تلك أجود أجود".

ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطف، فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة، وكف الأذى، والمعونة، والاحتمال، والأخلاق السجيحة. ووجه من قرأ: "أشداء" و"رحماء" بالنصب: أن ينصبهما على المدح، أو على الحال بالمقدّر في {مَعَهُ}، ويجعل {تَراهُمْ} الخبر. {سِيماهُمْ} علامتهم، وقرئ: "سيماؤهم"، وفيها ثلاث لغات؛ هاتان والسيماء، والمراد بها: السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأخلاق السجيحة): الجوهري: الإسجاح: حسن العفو، والسجيحة: الطبيعية". قوله: (ووجه قراءة من قرأ: "أشداء" و"رحماء"): قال ابن جني: "وهي قراءة الحسن، وهو نصب على الحال، أي: "محمد رسول الله والذين معه"، فـ"معه" خبر "الذين"، و"أشداء": حال، أي: هم معه على هذه الحال، فجعله حالًا من الضمير في {مَعَهُ} لأمرين: أحدهما: قربه منه، وبعده عن" الذين"، وثانيهما: ليكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، ولو جعلته حالًا من "الذين" كان العامل في الحال غير العامل في صاحبه، وإن كان ذلك جائزًا، أو شئت نصبتهما على المدح". قوله: (أو على الحال بالمقدر في {مَعَهُ}): تقديره: صاحبوه أشداء رحماء. قوله: ({سِيمَاهُمْ} علامتهم): النهاية: "الأصل فيها الواو تمد وتقصر". معنى قوله: " {مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} يفسرها": أن "السيما" العلامة مطلقًا، ويراد هنا المعنى الخاص، فسر وبين {مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وكان من حق الظاهر أن يقال: "الأثر الذي يؤثره السجود"، فوضع المصنف موضعه: "التأثير"؛ ليطابق قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم} مبالغة. الجوهري: "التأثير: بقاء الأثر على الشيء".

وقوله: {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} يفسرها، أي: من التأثير الذي يؤثره السجود، وكان كل من العليين -عليّ بن الحسين زين العابدين، وعليّ بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك- يقال له: ذو الثفنات، لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. وقرئ: {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} و"من آثار السجود"، وكذا عن سعيد بن جبير: هي السمة في الوجه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبي الأملاك): أي: أبي الخلفاء، تعريض بأنهم كانوا ملوكًا ولم يكونوا خلفاء. قوله: (ذو الثفنات): الجوهري: "ثفنات البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ".

فإن قلت: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعلبوا صوركم»، وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنه رأى رجلًا قد أثر في وجهه السجود، فقال: إن صورة وجهك أنفك، فلا تعلب وجهك، ولا تشن صورت؟ . قلت: ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة، وذلك رياء ونفاق يستعاذ بالله منه، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصًا لوجه الله، وعن بعض المتقدّمين: كنا نصلى فلا يرى بين أعيننا شيء، ونرى أحدنا الآن يصلى فيرى بين عينيه ركبة العنز، فما ندري: أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق. وقيل: هو صفرة الوجه من خشية الله. وعن الضحاك: ليس بالندب في الوجوه، ولكنه صفرة. وعن سعيد بن المسيب: ندى الطهور وتراب الأرض. وعن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل، كقوله: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا تعلب وجهك): العلب_ بفتح العين المهملة وسكون اللام_: الأثر. النهاية: "في حديث ابن عمر: "أنه رأى رجلًا بأنفه أثر السجود، فقال: لا تعلب صورتك"، يقال: علبه: إذا وسمه وأثر فيه، والعلب والعلب: الأثر، أي: لا تؤثر فيها بشدة اتكائك على أنفك في السجود". قوله: (ليس بالندب في الوجوه): النهاية: "الندب_ بالتحريك_: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد". قوله: (استنارت وجوههم من طول ما صلوا): قال الإمام: "هو ما يظهره الله في وجوه الساجدين نهارًا إذا قاموا بالليل متهجدين، هذا محقق لما يشاهد الفرق بين الساهر في اللهو واللعب، وبين الساهر في الذكر والشكر، أي: نورهم في وجوههم لتوجههم نحو الحق، ومن يحاذي الشمس يتنور وجهه، على أن نورها عارضي، والله نور السماوات

{ذلِكَ} الوصف {مَثَلُهُمْ}، أي: وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعًا، ثم ابتدأ فقال: {كَزَرْعٍ} يريد: هم كزرع. وقيل: تم الكلام عند قوله: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ}، ثم ابتدئ: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ}، ويجوز أن يكون {ذَلِكَ} إشارة مبهمة أوضحت بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}، كقوله: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66]. وقرئ: "الأنجيل" بفتح الهمزة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأرض، فمن يتوجه إليه بكليته_ كما قال: وجهت وجهي لله_ لا بد أن يظهر في وجهه نور تبهر منه الأنوار". وروى السلمي عن عبد العزيز المكي: ليس هو النحولة والصفرة، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين، يبدو من باظنهم على ظاهرهم، يتبين ذلك للمؤمنين، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي. وعن بعضهم: ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاه سيدهم، قال ابن عطاء: ترى عليهم خلع الأنوار لائحة، وقال عامر بن عبد القيس: كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله، وكذلك وجه الكافر. قوله: (وقيل: تم الكلام عند قوله) إلى آخره: وفي "المرشد": قال أبو حاتم: والتمام {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} يعني: صفتهم ونعتهم، قال: ثم يبتدئ: {ومَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ} جعل صفتهم في التوراة أنهم أشداء على الكفار، وصفتهم في الإنجيل أنهم كزرع أخرج شطأه فازره، وقد أجاز غيره أن يقول: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ومَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ} كأنهم جعلوا مثلهم وصفتهم في التوراة والإنجيل شيئًا واحدًا.

{شَطْأَهُ} فراخه، يقال: أشطأ الزرع: إذا فرخ. وقرئ: "شطأه" بفتح الطاء، و"شطاه"، بتخفيف الهمزة، و"شطاءه" بالمدّ، و"شطه"، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها، و"شطوه" بقلبها واوًا. {فَآزَرَهُ} من المؤازرة، وهي المعاونة، وعن الأخفش: أنه أفعل. وقرئ: "فأزره" بالتخفيف والتشديد، أي: فشدّ أزره وقوّاه. ومن جعل "آزر": أفعل، فهو في معنى القراءتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "شطأه" بفتح الطاء): ابن كثير وابن ذكوان: "شطأه" بتحريك الطاء، والباقون: بإسكانها. قوله: ("شطاه" بتخفيف الهمزة): قال ابن جني: "قراءة عيسى الهمداني_ بخلاف_: "شطاءه" بتحريك الطاء ممدودًا مهموزًا، وقرأ عيسى: "شطاه"، وقرأ الجحدري: "شطوه". والشطء: فراخ الزرع، وجمعه: شطوء، ويقال أيضًا: هو الورق، والشطء: السنبل أيضًا، شطأ الزرع شطأ، ومنه قولهم_ عندي_: شاطئ النهر والوادي، لأنه ما برز منه وظهر، ولهذا سموه بالسيف، لأنه من لفظ "السيف" ومعناه، ألا تراهم يصفون السيف بالصقال، وأما "شطوه" بالواو: فلا يخلو أن يكون لغة أو بدلًا من الهمزة. ولا يكون "الشطء" إلا في البر والشعير". قوله: (" فأزره"): قرأ ابن ذكوان: "فأزره" بالقصر، والباقون: بالمد. قوله: (فهو في معنى القراءتين): يعني: "آزر" إما "فاعل" من المؤازرة: المعاونة، أو "أفعل" من الأزر؛ القوة، كما قال الأخفش، وقوله: "في معنى القراءتين"، أي: "آزر" إذا جعل "أفعل" يجمع معنى التخفيف والتشديد.

{فَاسْتَغْلَظَ} فصار من الدقة إلى الغلظ، {فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ} فاستقام على قصبه، جمع ساق. وقيل: مكتوب في الإنجيل: "سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر". وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي. وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده، ثم قوّاه الله بمن آمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها، حتى يعجب الزرّاع. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "أصل الأزر: الإزار الذي هو اللباس، يقال: إزار وإزارة ومئزر، ويكنى بالإزار عن المرأة، وقوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]، أي: أتقوى به، والأزر: القوة الشديدة، وآزره: أعانه وقواه، وأصله من شد الإزار، يقال: آزرته فتأزر، أي: شددت أزره، وهو حسن الإزرة، وأزرت البناء وآزرته: قويت أسافله، وتأزر النبات: طال وقوي، وآزرته ووازرته: صرت وزيره، وأصله الواو". قوله: (أخرج شطأه بأبي بكر): روى محيي السنة في "العالم" قريبًا منه، وروى قي "شرح السنة" عن مالك، وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ}، ثم قال: "من أصبح من الناس في قلبه على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أصابته الآية".

فإن قلت: قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} تعليل لماذا؟ قلت: لما دل عليه تشبيههم بالزرع؛ من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة، ويجوز أن يعلل به {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى {مِنْهُمْ}: البيان، كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} [الحج: 30]. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمت السورة حامدًا لله، ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم * * *

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية، وهي ثمان عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1] قدّمه وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة، من قدمه إذا تقدّمه في قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود: 98]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحجرات مدنية، وهي ثمان عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (قدمه وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة): أي: منقولان من المتعدي مفعول واحد إلى مفعولين، الجوهري: "أقدمه وقدمه بمعنى، قال لبيد: فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها أي: تقدمها". الراغب: "القدم: قدم الرجل، وبه اعتبر التقدم والتأخر، ويقال: قديم وحديث؛ باعتبار الزمانين، وإما بالشرف، نحو: فلان متقدم على فلان، أي: أشرف منه، والقدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجود فيما مضى، والبقاء: وجود فيما يستقبل، وقد ورد في وصف الله تعالى: "يا قديم الإحسان"، ولم يرد في شيء من القرآن والآثار الصحيحة "القديم" في وصف الله تعالى، والمتكلمون يصفونه به، وأكثر ما يستعمل "القديم" يستعمل باعتبار الزمان، نحو: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]. ويقال: قدمت كذا، قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13]، وقدمت فلانا أقدمه: إذا تقدمته، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98]. وقال تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ}: قيل: معناه: لا تتقدموا، وتحقيقه: لا تسبقوه بالقول والحكم، بل افعلوا ما يرسمه كما يفعله العباد المكرمون، وهم الملائكة حيث قال: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27]. وقدمت إليه بكذا: إذا أمرته قبل وقت الحاجة إلى الفعل، وقبل أن يدهمه الأمر أو الناس، وقدمت به: أعلمته قبل وقت الحاجة، ومنه قوله تعالى: {وقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} [ق: 28]، وركب فلان مقاديمه: إذا مر على وجهه".

ونظيرهما معنى ونقلًا: سلفه وأسلفه، وفي قوله: {لا تُقَدِّمُوا} من غير ذكر مفعول وجهان: أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم. والثاني: أن لا يقصد قصد مفعول ولا حذفه، ويتوجه بالنهى إلى نفس التقدمة، كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل، ولا تجعلوه منكم بسبيل، كقوله: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [غافر: 68]. ويجوز أن يكون: من قدّم؛ بمعنى: تقدّم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معنى ونقلًا): أما معنى: فلأن التسليف التقديم، ومنه السلفة_ بالضم_: ما يتعجله الرجل من الطعام قبل الغذاء، تقول منه: سلف الرجل تسليفًا، وأما نقلًا فهو قوله: سلفه وأسلفه، منقولان من: سلفه. قوله: (أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم): أي يترك مفعول ليعم تناوله، فإنه إذا ذكر قصر عليه. قوله: (أن لا يقصد [قصد] مفعول ولا حذفه): أي: يقصد إلى نفس الفعل وحقيقته، نحو: "فلان يعطي ويمنع"، أي: يوجدهما ويفعل حقيقتهما إبهامًا للمبالغة، قال صاحب "التسير": أي: لا تقدموا قولًا ولا فعلًا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مما سبيله أن يؤخذ عنه من أمر الدين، بل انتظروا حكمه فيه، فإن حكمه حكم الله، لأنه لا يقضي إلا بأمر الله تعالى. قوله: (كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}): أي يوحدهما، ووجه المشابهة: أن الإحياء والإماته من شأن من اتصف بصفة الألوهية ومن مصححها، كذا من شأن من اتصف بصفة الإيمان، بل من شأن من يصدق ويقال في حقه: "الذين آمنوا": أن يجتنب التلبس بهذا الفعل. قوله: (ويجوز أن يكون من: قدم؛ بمعنى: تقدم): أي: يكون لازمًا، الجوهري: "وقدم بين يديه، أي: تقدم، قال تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ} ".

كوجه وبين، ومنه مقدّمة الجيش: خلاف ساقته، وهي الجماعة المتقدّمة منه، وتعضده قراءة من قرأ: "لا تقدموا" بحذف إحدى تاءي "تتقدموا"، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن، والعلماء له أقبل. وقرئ: "لا تقدموا"؛ من القدوم، أي: لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومهما، ولا تعجلوا عليهما. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعضده قراءة من قرأ: "لا تقدموا" بحذف إحدى تاءي "تتقدموا"): قال ابن جني: "وهي قراءة الضحاك ويعقوب، أي: لا تفعلوا ما تؤثرونه وتتركوا ما أمركم الله ورسوله، وهذا معنى قراءة العامة: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ}، أي: لا تقدموا أمرًا على ما أمركم الله، والمفعول محذوف". قوله: (إلا أن الأول أملًا بالحسن): الأساس: "نظرت إليه، فملأت منه عيني، وهو يملأ العين حسنًا، قال النمر: ألم ترها تربك غداة قامت .... بملء العين من كرم وحسن". أي: إذا قدر أنه متعد ثم حذف المفعول؛ إما للعموم أو لإرادة إجراء المتعدي مجرى اللازم، كان أحسن وأبلغ، وإن بعدت المسافة من جعله ابتداء لازمًا؛ لما عرفت من الشيوع والمبالغة غير مرة. قوله: (وقرئ: "لا تقدموا"؛ من القدوم): الجوهري: "قدم من سفره قدومًا ومقدمًا_بفتح الدال_ وقدم_ بالفتح_ يقدم قدومًا، أي: تقدم"، فعلى هذا: شبه تعجيلهم في قطع

وحقيقة قولهم: جلست بين يدي فلان: أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبًا منه، فسميت الجهتان: يدين؛ لكونهما على سمت اليدين مع للقرب منهما توسعًا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة ها هنا على سنن ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان: تمثيلِا، ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان، وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر عن سفره؛ إيذانًا بشدة رغبتهم فيه، نحوه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. قوله: (كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه): يعني: هو من المجاز الذي يسمى بتسمية الشيء باسم مجاوره، نحو: جرى الميزاب، وسال الوادي. قوله: (على سنن ضرب من المجاز): المغرب: "سنن الطريق: معظمه ووسطه، وقوله: فمر السهم في سننه، أي: في طريقه مستقيمًا كما هو لم يتغير، أي: لم يرجع عن وجهه". قوله: (وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلًا): أي: استعارة تمثيلية، شبه تعجيل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من أمر الدين بغير إذن الله ورسوله، بحال من تقدم بين يدي متبوعه إذا سارا في الطريق، وأنه في العادة مستهجن، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملًا في جانب المشبه به من الألفاظ، والغرض تصوير كمال الهجنة، وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله. ومثله قوله تعالى في حق الملائكة: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27]، أصله: لا يسبق قولهم قوله، فنسب السبق إليهم، وجعل "القول" محله؛ تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله. قوله: (دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب): هو افتعال من الحذو، وفيه معنى الاعتمال،

والمعنى: أن لا تقطعوا أمرًا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا: إما عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه يدور تفسير ابن عباس. وعن مجاهد: لا تفتاتوا على الله شيئًا حتى يقصه على لسان رسوله. ويجوز أن يجرى مجرى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كالاكتساب والكسب. الجوهري: "يقال: حذوت النعل بالنعل حذوا: إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها"، وضمن معنى "قدر"، وعدي ب"علي"، يقال: قدرت عليه الثواب فانقدر، أي: جاء على المقدار، فأفاد المبالغة بناء وتضمينًا. قوله: (لا تفتاتوا على الله شيئًا): الأساس: "افتات فلان عليكم برأية: سبقكم به، ولم يشاوركم في الحديث"، وفي مجمل اللغة": "الافتئات: افتعال من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر، وقيل: فلان لا يفتات عليه، أي: يعمل شيء دون أمره". قوله: (ويجوز أن يجرى): معطوف على قوله: "وقد جرت هذه العبارة" إلى آخره، أي: ويجوز أن يجرى قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ} مجرى هذا الأسلوب، وأن يكون ذكر الله عز وجل تمهيدًا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا لحرمته وإجلاله، وعلى الأول: كان المراد منه حكم الله ونص كتابه. وهذا الأسلوب أبلغ وللمعاني أشمل، والتمثيل له أظهر، لأنه إذ حفظ مجلسه صلوات الله عليه من الفلتات والسقطات، ووقر جانبه من رفع الأصوات، كان التقديم بين يدي حكم الله أنهى، والمحافظة عليه أولى وأخرى. ومن ثم عقب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ}، وكرر النداء، وسموا بالمؤمنين؛ إيذانًا بالتنبيه على ما غفلوا عنه، وأن الإيمان هو الذي يقتضي ذلك، وفصل ذلك

قولك: سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوّة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك. وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتلوه من رفع أصواتهم فوق صوته، لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المجمل أولًا بقوله: {لا تَرْفَعُوا} [الحجرات: 2]، وثانيًا بقوله: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} [الحجرات: 4]، وثالثًا بقوله: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6]، ورابعًا بقوله: {واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7]، وعلل كل ذلك بقوله: {لَعَنِتُّمْ ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ} [الحجرات: 7]. ثم استطرد ما فيه بيان توخي حسن المعاشرة مع الأصحاب والإخوان، وإصلاح ذات البين، والتنزه عن الفرطات من التنابز والغيبة وغير ذلك. ولما فرغ من بيان إيجاب التهيب لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحلال جانبه، وشرح الصحبة مع الإخوان، شرع في بيان ما هم عليه من محافظة تقوى الله والإيمان والإسلام، وأعاد التنبيه، وأعلم المنادى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى} [الحجرات: 13] إلى آخر السورة. قوله: (قولك: سرني زيد وحسن حاله): وعن بعضهم: الأصل أن بقول: سرني حسن حاله، وأعجبني كرمه خصوصًا، أي: له خصال محمودة كاملة، وهي معجبة لي، خصوصًا كرمه، ولكن أردت المبالغة، فذكرت اسمه اولًا. قوله: (نقم منهم): الأساس: "نقمت منه كذا: أنكرته عليه وعبته، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} [البروج: 8]. قوله: (بهذه الأثرة): الأثرة: اسم الاستئثار.

واختصه هذا الاختصاص القوي، كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت، ويخافت لديه بالكلام. وقيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلًا، وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فقتلهم بنو عامر، وعليهم عامر بن الطفيل، إلا ثلاثة نفر نجوا، فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة، فاعتزيا لهم إلى بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم، فقتلوهما وسلبوهما، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئسما صنعتم، كانا من سليم، والسلب ما كسوتهما»، فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت. أي: لا تعملوا شيئًا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مسروق: دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه، فقالت للجارية: اسقه عسلًا، فقلت: إني صائم، فقالت: قد نهى الله عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فاعتزيا لهم إلى بني عامر): يعني: أنهما انتسبا إلى بني عامر حين سئلا عن نسبهما، وظنا أن به النجاة، لأن بني عامر كانوا اعز من بني سليم. قوله: (والسلب ما كسوتهما): أي: ما سلبتم عنهما من الثبات كان لي، أنا كسوتهما، وكانت هذه الخلعة أمارة على الإسلام. قوله: (فوداهما): أي: أعطى ديتهما. قوله: (وفيه نزلت): من تمام كلام عائشة رضي الله عنهما، وفي "المعالم": "روى مسروق عن عائشة: أنه في النهي عن يوم الشك، أي: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم". ومسروق: ذكره صاحب"الجامع" في عداد التابعين، وقال: "هو مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأدرك الصدر الأول من الصحابة، وكان خصيصًا بابن مسعود، روى عنه الكثير، وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تبنت مسروقًا، ومات بالكوفة سنة اثنتين وستين".

وعن الحسن: أنّ أناسًا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحًا آخر. وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي: يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وعن الحسن أيضًا: لما استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق، فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون هو المبتدئ. وعن قتادة: ذكر لنا أنّ ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل فيه كذا لكان كذا، فكره الله ذلك منهم، وأنزلها. وقيل: هي عامة في كل قول وفعل، ويدخل فيه: أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه): ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي عن البراء قال: "ذبح أبو بردة بن نيار قبل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدلها، فقال: يا رسول الله، ليس عندي إلا جذعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك". وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنها هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء، وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح"، الحديث. قوله: (وقيل: هي عامة في كل قول وفعل): هذا هو الذي عليه النظم، كما قررناه.

وأن لا يمشى بين يديه إلا لحاجة، وأن يستأنى في الافتتاح بالطعام. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها، وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمرًا إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه، ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: أي: فرق بين هذا القول وما سبق في القول الأول: "وقد جرت هذه العبارة على سنن ضرب من المجازة"؟ قلت: ذلك مجاز باعتبار التمثيل وتشبيه معقول بمحسوس كما سبق، والمفعول مقدر، كما أشار إليه بقوله: "والمعنى: أن لا تقطعوا أمر إلا بعد ما يحكمان به، ويأذنان فيه"، فلا يقدر معنى الحقيقة فيه بنحو: "وأن لا يمشى بين يديه"، وهذا مجاز باعتبار القدر المشترك، وأن الحقيقة فرد من أفراد ذلك المجاز، وإليه أومئ في أول السورة: "ويتوجه النهي إلى نفس التقدمة"، ويسمى في الأصول بعموم المجاز، وفي الصناعة بالكناية، لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضًا. قول: (وأن يستأنى): الجوهري: "تأنى في الأمر: ترفق وتنظر، واستأنى به؛ أي: انتظر به". قوله: (لا يشافه أمرًا): الأساس: "شافهت البلد والأمر: إذا دانيته". قوله: (في أن لا تبعة عليه): متعلق ب"الشك"، أي: التقي لا يداني ولا يقارب أمرًا متجاوزًا عن حالة من الأوحوال إلا عن حالة اجتهد فيها، وكشف عنها، ورفع الشك في أنه لا تبعة عليه في مباشرة ذلك الأمر، وهو مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون

وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق بك العار. فتنهاه أوّلًا عن عين ما قارفه، ثم تعم وتشيع، وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما تقولون {عَلِيمٌ} بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب. [{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 2] إعادة النداء عليهم: استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من المتقين حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرًا مما به البأس"، أخرجه الترمذي وابن ماجه عن عطية السعدي. قوله: (لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق بك العار): يعني: قوله: {واتَّقُوا اللَّهَ} مع تعليله بقوله: {إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: كالتذييل لما سبق، والتوكيد لما يتضمنه بالطريق البرهاني، وإليه الإشارة بقوله: "وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة". قوله: (وكل ما يضرب في طريقها): الأساس: "وهم ضربائي، ومنه قولهم: هو ضربه وضريبه، أي: مثله"، أي: لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يشبهها. النهاية: "وفي حديث عمر بن عبد العزيز: "إذا ذهب هذا وضرباؤه"، وهم الأمثال". قوله: (وما أخذوا به): النهاية: "يقال: أخذ فلان بذنبه، أي: حبس وجوزي عليه"، وإنما

الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم، وذلك أنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملًا بما يحدوه عليه، وارتداعًا عما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير. والمراد بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}: أنه إذا نطق ونطقتم، فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين "ما أخذوا" بقوله: "من الأدب"؛ لأن المراد به التأدب الذي أدبهم الله في قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ}، ولذلك كان "وما أخذوا" عطفًا تفسيريًا على "تأملهم"، فأراد بالأدب: التأدب؛ إطلاقًا للمسبب على السبب، أي: لا تغفلوا عن التأمل فيما أخذوا به في قوله: {لا تُقَدِّمُوا}، لأن السابق بساط هذه الآية، ووطاء لذكرها، كما سيجيء. قوله: (تعود عليهم بعظيم الجدوى): الأساس: "عاد علينا فلان بمعروفه، وما أكثر عائدة فلان على قومه". قوله: (أن يألو عملًا): الجوهري: "ألا [الرجل] يألو، أي: قصر، وفلان لا يألوك نصحًا". قوله: (يحدوه عليه): بالحاء المهملة، وروي بالجيم وليس بشيء؛ لقوله: "وارتداعًا عما يصده عنه". النهاية: "في حديث الدعاء: "لا تحدوني عليها خلة واحدة"، أي: لا تبغثني وتسوقني عليها خصلة واحدة، وهو من حدو الإبل، فإنه من بعث الأشياء على سوقها". وتلخيصه: أنهم إذا تأدبوا بذلك الأدب وحفظوه، تكسبهم المحافظة عليه تعظيم دينهم، لأن في إعظام صاحب الشرع إعظام الدين، ومن يريد تعظيم دينه لا يخليه ذلك التعظيم أن يقصر في عمل يبعثه ويسوقه إلى الاستعظام، ولا يقصر أيضًا في ارتداع ما يمنعه عن الاستعظام، ولا يقصر أيضًا في أن ينتهي إلى كل خير لأجل ذلك الاستعظام.

وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليًا لكلامكم، وجهره باهرًا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}: أنكم إذا كلمتموه وهو صامت، فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز اسمه: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]. وقيل معنى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوّة. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه، وكان أبو بكر إذا قدم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عاليًا لكلامكم): اللام جيء بها لضعف عمل اسم الفاعل، وكذا في "باهرًا لجهركم". الجوهري: "بهرة بهرًا، أي: غلبه"، وكذا "علوت الرجل: غلبته". قوله: (وبقوله: {ولا تَجْهَرُوا}): عطف على قوله: "بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ". قوله: (قال أبو بكر رضي الله عنه: ياو رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار): روينا عن البخاري والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: "قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت".

على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد، أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر: ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأنّ ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوت هو في نفسه، والمسموع من جرسه: غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية: "كاد الخيران أن يهلكا، قال ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث [النبي صلى الله عليه وسلم] بحديث، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه". قال في "الفائق": كأخي السرار: أي: كلامًا مثل المسارة وشبهها لخفض صوته، والكاف في محل النصب؛ صفة مصدر محذوف، والضمير في "لا يسمعه" يرجع إلى الكاف، و"لا يسمعه" صفة لقوله: (كأخي السرار) ". قوله: (وليس الغرض): عطف على قوله: "والمراد بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} "، يعني: أنهم وإن نهوا عن رفع الصوت والجهر، لكن لي الغرض بذلك أنهم كانوا مباشرين ما يلزم منه الاستخفاف والاستهانة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وهم خير الناس؟ ! بل الغرض أن التصويت بحضرته بنفسه مباين لتوقيره وتعزيزه. ويدل على هذا التأويل قوله: "ولم يتناول النهي أيضًا [رفع الصوت] الذي لا يتأذى به"، يعني: وإن كان الغرض في النهي الزجر عن التصويت نفسه، لكن ما بلغ إلى حد يحرم مطلقًا، لأنه إذا تناط به مصلحة من المصالح، ويكون مأمورًا به، كان واجبًا.

ولم يتناول النهي أيضًا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ، أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث: أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس»، وكان العباس أجهر الناس صوتًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاصل: أن النهي تناول الصوت الذي يتأذى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: "والمسموع من جرسه" زيادة وبيان. الأساس: "ما سمعناه له جرسًا ولا همسًا، وهو الخفي من الصوت، وجرس الكلام: نغم به، والحروف كلها مجروسة إلا أحرف اللين". "إلى حد يميل به": "يميل به" صفة "حد"، وضمير الفاعل يعود عليه، والضمير في "به" عائد إلى "الصوت"، وفاعل "يستبين": "المأمور به"، والضمير في "فيه" عائد إلى "ما"، و"من التعزير" بيان المأمور به، أي: فيتكلف المكلف رد الصوت إلى حد يميل به إلى ما يظهر فيه التوقير المأمور به. قوله: (قال صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس: "اصرخ بالناس"): روى مسلم عن العباس قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ولزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه"، وساق الحديث إلى قوله: "ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قبل الكفار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، ناد أصحاب السمرة، فقال عباس_ وكان رجلًا صيتًا_: قفلت بأعلى صوتي: أين أحصاب السمرة، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا بصوتي عطفة البقر على أولادها" الحديث وكنية العباس في "الاستيعاب" و"الجامع": أبو الفضل.

يروى: أنّ غارة أتتهم يومًا، فصاح العباس: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته. وفيه يقول نابغة بني جعدة: زجر أبي عروة السّباع إذا .... أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه. وفي قراءة ابن مسعود: "لا ترفعوا بأصواتكم"، والباء مزيدة محذوّ بها حذو التشديد في قول الأعلم الهذلي: رفعت عيني بالحجا ... ز إلى أناس بالمناقب وليس المعنى في هذه القراءة: أنهم نهوا عن الرفع الشديد؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا صباحاه): هذه كلمة يقولها المستغيث، وأصلها إذا صاحوا للغارة، لأنهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح، فكأنه يقول: يا صباحاه، قد غشينا العدو. قوله: (رفعت عيني بالحجاز إلى أناس بالمناقب): التشديد في "رفعت" للمبالغة، والمناقب: اسم موضع، واتفق أن ابن مسعود كان هذليًا والأعلم كذا، روي عن المصنف: أن كلا الأعلمين كانا هذليين، ابن مسعود أعلم؛ من العلم، والثاني: اسمه أعلم؛ لكونه مقطوع الشفة. قوله: (وليس المعنى في هذه القراءة): يعني: في قراءة ابن مسعود، أي: أن الباء دلت على

تخيلًا أن يكون ما دون الشديد مسوغًا لهم، ولكن المعنى: نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون. وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتأذى بصوته. وعن أنس: أن هذه الآية لما نزلت فقد ثابت، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر بشأنه، فدعاه، فسأله، فقال: يا رسول الله، لقد أنزلت إليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست هناك، إنك تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المبالغة؛ لأنها مثل التشديد في "رفعت"، وهو للمبالغة، فدل دليل الخطاب على جواز رفع الصوت دون الشديد لكن الآية نازلة في شأن قوم لهم الجلبة والاستجفاء والغلظة، ونهيهم عما كانوا عليه، نحوه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. قوله: (في ثابت بن قيس): روى البخاري ومسلم عن أنس: لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فقال: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟ " قال سعد: إنه جاري، وما علمت له بشكوى، فأتاه سعد، فقال: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة". قوله: (لست هناك): كناية عن نزاهته عما ظن في نفسه.

وأمّا ما يروى عن الحسن: أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمحمله -والخطاب للمؤمنين- على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهي؛ ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم، فيقتدي بهم ضعفة المسلمين. وكاف التشبيه في محل النصب، أي: لا تجهروا له جهرًا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا: أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقًا، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني: الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب، وإن جلت عن رتبتها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فمحمله): جواب "أما"، و"على أن ينهى" متعلق ب"محمله" خبرًا، و"الخطاب للمؤمنين" جملة اعتراضية. قوله: (ليكون الأمر أغلظ): وذلك من إفادة التعريض التوبيخي، كأنهم ليسوا ممن يستحقون المخاطبة، لأنهم بعداء مطرودين تحقيرًا بشأنهم، وازدراء بحالهم، كقوله تعالى لعيس عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. قوله: (بمماثلة ما قد اعتادوه منه): الضمير في "اعتادوه" عائد إلى "ما"، و"منه" بيان، والضمير فيه للجهر، أي: الجهر المشابه لما اعتادوه فيما بينهم. قوله: (وهو الخلو من مراعاة ابهة النبوة وجلالة مقدارها): نظر إلى تخصيص ذكر "النبي" في قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}. انظر - أيها المتأمل - في استقرار هذه

{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} منصوب الموضع، على أنه مفعول له، وفي متعلقه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بمعنى النهي، فيكون المعنى: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم، أي: لخشية حبوطها، على تقدير حذف المضاف، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. والثاني: أن يتعلق بنفس الفعل، ويكون المعنى: أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط، جعل كأنه فعل لأجله، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكلمة في مقام التبجيل والتعظيم، ثم انظر إلى لفظ" رسوله" في قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ} في مقام الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة؛ لتقف على سر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا، والنبي الذي أرسلت"، فيما رويناه في "صحيح البخاري" عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به"، قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت: "آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت"، قلت: "ورسولك"، قال: "لا، ونبيك الذي أرسلت". النهاية: "إنما رد عليه ليختلف اللفظان، ويجمع له الثنائين؛ معني النبوة والرسالة، ويكون تعديدًا للنعمة في الحالتين، وتعظيمًا للمنة على الوجهين. والرسول أخص من النبي، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، وقيل: النبي: مشتق من النباوة، وهو الشيء المرتفع". وقلت: هذا المعنى أنسب فيما نحن بصدده، والله أعلم. قوله: (على سبيل التثميل): أي: تشبيه الحال بالحال، فإن فعلهم لما أدى إلى الحبوط، فكأنهم قصدوا لأجله، كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وقوله: "لأجل الحبوط" متعلق بقوله: "فعلوه"، أي: فعلوا رفع الصوت لأجل الحبوط.

فإن قلت: لخص الفرق بين الوجهين. قلت: تلخيصه: أن يقدر الفعل في الثاني مضمومًا إليه المفعول له، كأنهما شيء واحد، ثم يصب النهى عليهما جميعًا صبًا، وفي الأوّل: يقدر النهي موجهًا على الفعل على حياله، ثم يعلل له منهيًا عنه. فإن قلت: بأي النهيين تعلق المفعول له؟ قلت: بالثاني عند البصريين، مقدرا إضماره عند الأوّل، كقوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، وبالعكس عند الكوفيين، وأيهما كان: فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل. وقراءة ابن مسعود: "فتحبط أعمالكم": أظهر نصًّا بذلك، لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببًا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تلخيصه: أن يقدر الفعل في الثاني) إل آخره: تلخيصه ما قال صاحب" التقريب": "والفرق أن الفعل المهني معلل في الأول، والفعل المعلل منهي في الثاني"، وعن بعضهم: "إذا رفعتم حبطت أعمالكم، فالحبط نتيجة في الوجه الثاني، وفي الوجه الأول: {أَنْ تَحْبَطَ} تعليل للنهي لا للفعل نفسه، كأنه قيل: لم تنهانا؟ فقيل: خيفة حبط الأعمال، أو: لم لا نرفع؟ فقيل: أن تحبط". قوله: (ثم يعلل له): الفعل سند إلى الجار والمجرور، والضمير المجرور للفعل، و"منهيًا" حالي منه، أي: يعلل الفعل حال كونه منهيًا عنه. قوله: (في قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}) يعني: قرأ الكسائي: "فيحل" بضم الحاء في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}، والمعنى: لا يكن منكم طغيان، فحلول غضب مني. وكذا ها هنا: لا يكن منكم رفع الصوت، فحبوط عمل مني.

والحبوط: من: حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها، وربما هلكت، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطًا، أو يلم»، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذه الفاء عند البصريين تنصب بإضمار "أن" بشرطين: أحدهما: السببية، والثاني: أن يكون قبلها أمر أو نهي أو استفهام أو نفي أو تمن أو ترج، وهي في الحقيقة عاطفة ما بعدها بتأويل المصدر على مصدر ما قبلها، فيقدر فيه "أن" لتعذر غيرها، لا أنها ناصبة بنفسها. ثم قوله: {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} تتميم للمعنى، وإعلام بأن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يجل ويعظم غاية الإجلال والإعظام، وأنه قد يفعل الشيء مما لا يشعر به في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك مهلكًا لفاعله وقائله، ولذلك قال بعض الفقهاء: من لم يحتشم في كلامه بحضرة الرسالة، وبدر منه ما ينبئ عن أدنى نقص، وجب قتله. وهو مذهب مالك وأصحابه، رضي الله عنهم. قوله: (وإن مما ينبت الربيع): روينا عن البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد قال: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: أن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يسمح عنه الرخصاء"، وفي رواية: "أين السائل آنفًا؟ أن الخير لا يأتي إلا الخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت، حتى إذا امتد خاصر تاها استقبلت عين الشمس، فثلطت ومالت، ثم رتعت، وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل _أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة".

ومن أخواته: حبجت الإبل: إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشرح: الرحضاء: عرق يغسل الجلد لكثرته، ويستعمل في مرض الحمى، "أو يلم": أي: يقرب ويدنو من الهلاك، " الثلط": الرجيع الرقيق، يقال: حبطت الدابة حبطًا_بالتحريك_: إذا أصابت مرعى طيبًا، فأفرطت حتى تنفخت وماتت، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب، فتستكثر منه الماشية لا ستطابتها، فيؤدي إلى الهلاك أو يقاربه، و"الخضر"_ بكسر الضاد_: نوع من البقول، ليس من أحرارها وجيدها، وإنما ترعاها المواشي إذا لم تجد سواها، فلا تكثر منها، ولا تستمرئها. ضرب صلوات الله عليه في الحديث مثلين: أحدهما للمفرط في جمع الدنيا والمنع من حقها، والآخر للمقتصد في أخذها للنفع، فقوله: "أن مما ينبت الربيع": مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها، ويمنعها مستحقها، فإنه تعرض للهلاك في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس له، وحسدهم إياه، وقوله: "إلا آكلة الخضر": مثل للمقتصد في جمع المال من حقه، فإنه بنجوة من وبالها. فقوله: "وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطًا": ما" الأولى: موصولة، والثانية: موصوفة، أي: وإن الذي ينبته الربيع لشيء يقتل حبطًا؛ مصدر لا من فعله، لأنه في معنى القتل. أما قوله: "أو كما قال": فقال محيي الدين النواوي: "ينبغي لمن يروي حديثًا بالمعنى أن بقول عقبه: "أو كما قال"، "أو نحو هذا"، أو ما أشبه هذا من الألفاظ، روي هذا عن عبد الله ابن مسعود وأبي الدرداء وأنس وغيرهم". قوله: (حبجت الإبل): النهاية: "في حديث ابن الزبير: "إنا لا نموت حبجًا على

وأحبض عمله: مثل أحبطه، وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد. جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال، وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله. والثاني: أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مضاجعنا، كما يموت بنو مروان": الحبج_ بفتحتين_: أن يأكل البعير لحاء العرفج، ويسمن عليه، وربما بشم منه فقتله، عرض بهم لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا، وأنهم يموتون بالتخمة". قوله: (والحرض): بالحاء المهملة، النهاية: "أحرضه المرض: إذا أفسد بدنه وأشفى على الهلاك". قوله: (وقد دلت الآية على أمرين هائلين): الانتصاف: "الزمخسري يعتقد أن الكبائر محبطة للأعمال موجبة للخلود في النار، وأخذ من هذه الآية: أن رفع الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم معصية لا تبلغ الشرك، وقد جعلها محبطة، وخوف العباد من إحباط الأعمال. وجوابه: أن المراد النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، والحذر عما يتوقع منه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإيذاؤه كفر محبط للعمل، فنهى عن رفع الصوت محذوًا فيه عما يؤول إليه، ولو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله: {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} معنى؛ إذ الأمر منحصر في أن يكون كفرًا محبطًا لكونه مؤذيًا، أو غير مؤذ فيكون محبطًا على رأيه، والإحباط واقع على كل حال. وكلامنا هذا مرتب على مقدمتين: الأولى: أن رفع الصوت مما يحصل فيه الأذى، وهو

[{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 3] {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} من قولك: امتحن فلان لأمر كذا، وجرب له، ودرب للنهوض به، فهو مضطلع به غير وانٍ عنه. والمعنى: أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها. أو: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها، فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أي: كائن له ومختص به، قال: أنت لها -أحمد- من بين البشر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أمر مشاهد، حتى أن الشيخ يتأذى برفع صوت التلميذ، فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال ولإعظام. الثانية: أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر". وقلت: ويمكن أن يقال: أن مقام التعريض التوبيخي_ كما سبق_ اقتضى المبالغة، واستدعى أن ينزل أذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظًا؛ إجلالًا لمجلسه صلوات الله عليه، ثم يترتب عليه ما ترتب على الكفر الحقيقي من الإحباط، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إلى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، معنى: {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} على هذا: أنتم لا تشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط، وليس كسائر المعاصي. قوله: (أنت لها_ أحمد_ من بين البشر): أوله: وقصيدة رائقة ضوعتها

أعدّاء من لليعملات على الوجى؟ وهي مع معمولها منصوبة على الحال. أو: ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، أي: لتثبت وتظهر تقواها، ويعلم أنهم متقون؛ لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: معجبة، راقني الشيء: أعجبني. وعن بعضهم: "أحمد": يجوز أن يكون أفعل التفصيل، وأن يكون علمًا، أي: أنت يا أحمد كائن لها ومختص بها. قوله: (أعداء من لليعملات على الوجى): تمامه: وأضياف ليل بيتوا لنزول؟ وفي بعض النسخ من المتن: "أعداء"، الهمزة للنداء، وهو اسم رجل يرثيه، يقول تحسرًا وتوجعًا: من يؤدي الأضياف، وقد بهرهم السعي، وأتعبهم الطلب، ومن ينزل السفر، وقد أرمتهم النوق السراع إلى المهالك، حتى حفيت نعالهم، أي: من يخلص اليعملات من الوجى بأن ينزل صاحبها، ويقصي مهامه، فيتخلص من السير. قوله: (وهي مع معمولها منصوبة على الحال): التقدير: كائنة للتقوى، و"هي" أي: المحذوف، " مع معمولها" أي: التقوى، وإنما أنثه لأنه بمعنى"محصلة" أو" مختصة".

وقيل: أخلصها للتقوى؛ من قولهم: امتحن الذهب وفتنه: إذا أذابه، فخلص إبريزه من خبثه ونقاه. وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشهوات عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قولهم: امتحن الذهب): فسر {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} بوجوه: أحدها: أنه من الكناية التلويحية، عبر عن كونهم مغرقين في التقوى كاملين فيها بقوله: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}، لأن الامتحان والتجربة يوجب مزاولة الأمر ومعالجته مرة بعد أخرى، وذلك يوجب التمرن فيه، والمتمرن مضطلع فيه، وفي المثل: "أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب"، فعلى هذا: مجاز الآية راجع إلى العباد، نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وثانيها: أنه من إطلاق السبب على المسبب، فإن الامتحان سبب المعرفة، وهو المراد من قوله: "لأن تحقق الشيء باختباره"، وهو لوجهين: أحدهما: أن اللام في "التقوى" صلة محذوف، وهو حال من المفعول، وهو {قُلُوبَهُمْ}. وثانيها: أن تكون اللام للتعليل، والمعنى: وضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، وإثبات العلم هنا كإثباته في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140]، قال: "وليعلمهم علمًا يتعلق به الجزاء"، ومن ثم عقبه بقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وأَجْرٌ عَظِيمٌ}، فتكون "أو ضرب الله" عطفًا على "عرف الله".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: أن يكون تمثيلًا، شبة خلوص قلوبهم عن شوائب الكدورات النفسانية، وتصرع دواعيهم عن اللذات الشهوانية بعد طول المجاهدات ومقاساة المكابدات، بخلوص الذهب الإبريز الذي عرض على النار، ونقي من الخبث والزبد الذي يذهب جفاء. قال الواحدي: "تقدير الكلام: امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى، فحذف "الإخلاص" لدلاله" الامتحان" عليه، ولهذا قال قتادة: أخلص الله قلوبهم". وقلت: هذا الوجه أنسب؛ لأن الكلام وارد في مدح أولئك السادة الكرام، وفي التعريض ممن لسوا على وصفهم، ومن ثم قال في فاصلة الآية السابقة: {وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}، واللاحقة: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فإن قلت: ذهبت في ما مر أن اختصاص "النبي" بالذكر في الآية الثانية لتبجيل جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر"رسوله" في الأولى لأجل الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة، فلم خولف ورجع في الثالثة إلى ما بدئ به؟ قلت: ليؤذن بأفضال الله في حق أولئك الكلمة، وتأديبه إياهم، وأنهم إنما غضوا أصواتهم عند رسول الله، ولم يرفعوا بها مثل أولئك؛ لأن الله زين باطنهم باكتساء لباس التقوى، حتى سرى إلى ظاهرهم بالتأدب بين يدي المولى، ومن أرسله إليهم وأكرمهم به، ومن ثم نسب {امْتَحَنَ} إلى الله تعالى، وجيء به ماضيًا، وأسند {يَغُضُّونَ} إليهم، وأتي به مضارعه دالًا به على الاستمرار، كأنه قيل: أن الذين دأبهم وعادتهم التأدب في حضرة الرسالة إنما

والامتحان: افتعال؛ من: محنه، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد، قال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته، وأنشد: أتت رذايا باديًا كلالها .... قد محنت واضطربت آطالها قيل: أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. وهذه الآية -بنظمها الذي رتبت عليه؛ من إيقاع الغاضين أصواتهم اسمًا لـ"إنّ" المؤكدة، وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معًا؛ والمبتدأ: اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهمًا أمره -ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم، واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختصوا به؛ لأته تعالى هو الذي أدبهم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال الكتاب والحكمة، حتى هذبوا هذا التهذيب. قوله: (أتت رذايا) البيت: الرذية: الناقة المهزولة من السير، والجميع: الرذايا، والمذكر: رذي، و"الإطل": الخاصرة، والجمع: الآطال. قوله: (وهذه الآية): يعنى قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ}، فقوله: "هذه الآية" مبتدأ موصوف، والخبر قوله: "ناظرة"، و"بنظمها" متعلق بـ"ناظرة"، أي: هذه الآية دالة بواسطة نظمها على غاية الاعتداد. وفي تلك القيود التي ذكرها إشارة إلى خواص تضمنها التركيبان.

[{إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {4 - 5] والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام، و {مِن} لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما التركيب الأول_ وهو قوله: {الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} إلى قوله {لِلتَّقْوَى} _ ففيه خواص: إحداها: إيقاع "الغاضين أصواتهم" اسمًا لـ"إن" المؤكدة، وفائدته توكيد مضمون الجملة وتقريره، مع تصوير ما كان يصدر من أولئك الكلمة في حضرة الرسالة من التأديب الله. نحوه في التقرير: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف: 23]. وثانيها: تصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر، وفائدته الحصر المستفاد من تعريفها، نحو: زيد المنطلق، يعني: هم الذين شرفهم الله تعالى بإخلاص القلوب دون غيرهم، تعريضًا بأولئك الذين لم يعضوا أصواتهم. وثانيها: إيقاع المبتدأ الثاني اسم إشارة؛ ليؤذن بأن من سبق ذكره إنما امتحن الله قلوبهم لأنهم اكتسبوا تلك الفضيلة بها. وأما التركيب الثاني ففيه فائدتان: إحداهما: قطعها عن الجملة الأولى، فأخلاها عن الرابط اللفظي_ وهو الفاء_ لتحرك أريحية السامع، وتحمله على: ما جزاء أولئك السادة في العقبى، ليضم مع اختصاصهم بهذه المنقبة الأسنى؟ فيجاب: بأن لهم عند الله القربى والزلفى. وثانيتهما: تنكير" المغفرة" ليدل على ضرب عظيم في بابه، لا يكتنه كنهه، ولا يقادر قدره. لله در المصنف في إبراز هذه المحاسن، وفي إرشاده إلى جهات تلك النكات. قوله: (بطلله): الجوهري: "يقال: حيا الله طللك، وطلالتك، يعني: شخصك"، فقوله:

فإن قلت: أفرق بين الكلامين؛ بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه؟ قلت: الفرق بينهما: أنّ المنادي والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني: لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول "من" مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد، والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار، لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "يواريها عنك الشخص بطله": معناه: يخفيها ذو طلل بطلله. والجوهري: "واريت الشيء: إذا أخفيته، وتوارى هو: استتر، ووراء: بمعنى: خلف، وقد يكون بمعنى: قدام، وهي من الأضداد، قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف". قوله: (أفرق بين الكلامين): على الأمر، أي: أفرق بين كلام تثبت فيه"من" وكلام تسقط منه" من". قوله: (أن المنادى في أحدهما يجوز أن يجمعها الوراء، وفي الثاني: لا يجوز) إلى آخره: هذا الفرق ظاهر، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن المبتدأ والمنتهى: إما المنادى_ على ما هو التحقيق_ أو الجهة، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما "لوراء" في إثبات "من" وفي إسقاطه؛ لتغاير المبتدأ والمنتهى، وإن كان الثاني فالجهة: إما ذات أجزاء أو عديمة الأجزاء، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات"من" أيضًا باعتبار أجزاء الجهة، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما؛ لا في إثبات"من" ولا في إسقاطه لاتحاد المورد، والتحقيق أن الفعل يبتدئ من الفاعل، وينتهي إلى المفعول، ويقع في الظرف، وأن "من وراء الحجرة" و"وراءها" كلاهما ظرف، كصليت من خلف الإمام وخلفه، ومن قبل اليوم وقبله، ومعنى الابتداء غير محقق، والفرق تعسف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيقال: لا بد من الفرق؛ صونًا لكلام الله من العبث، لاسيما قد في تقرر في أول البقرة عند قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]: أن صاحب المعاني يعتبر حروف الصلات، وينظر إلى مواقعها، ولا ارتياب أن"وراء" من الظروف المبهمة، فبدخول "من" يتعين له ابتداء، وهو من الأمور النسبية، فلا بد له من الانتهاء، وأن يكون المنتهى مكانًا غير المكان الذي نشأ منه النداء، وهو الجهة المسماة ب"الوراء"، إذ كل جزء من أجزائه يصدق أنه منشأ النداء، فجعل تلك الجهة نفس المنتهى يلزم أن يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى. وتحرير المعنى: أنه لو قيل: "ينادونك وراء الحجرات" لكان الغرض في الإيراد إنكار أنهم كانوا ينادونه وراء الحجرات، وفهم منه أنهم لو نادوه في غير تلك الجهة لم تكن منكرًا، ولكن الغرض في الإنكار أنهم كانوا ينادونه من الخارج، وهو في الحجرة، فأريد إنكار هذه الصورة المنكرة الواقعة خصوصًا، فزيد"من" لتدل على الابتداء والانتهاء، وأنهم خارجون، وهو_ صلوات الله عليه_ داخل، وإليه الإشارة بقوله: "والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أن النداء وقع" إلى آخره. ونظيره ما سبق قبل هذا في قراءة ابن مسعود: "لا ترفعوا بأصواتكم فوق صوت النبي": أن في زيادة الباء الدلالة على النهي كما كانوا عليه من الجلبة، وسبق بيانه. ويؤيده قول القاضي: " {مِنْ} ابتدائية، فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، وفائدتها: الدلالة أن المنادي داخل الحجرة، إذ لا بد أن يخلف المبتدأ والمنتهى بالجهة".

ولكن أي قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقًا بغير تعيين واختصاص، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البرّ والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض، من غير قصد إلى جهة دون جهة. والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وحظيرة الإبل تسمى: الحجرة، وهي فعلة، بمعنى: مفعولة، كالغرفة والقبضة، وجمعها: الحجرات؛ بضمتين، والحجرات؛ بفتح الجيم، والحجرات؛ بتسكينها، وقرئ بهنّ جميعًا. والمراد: حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل واحدة منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها: يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمكان حرمته. والفعل وإن كان مسندًا إلى جميعهم، فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعًا، فقد ذكر الأصم: أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الحجرات؛ بضمتين): وهي المشهورة، قال الزجاج: "تقرأ {الْحُجُرَاتِ} بضم الجيم، ويجوز بتسكينها، ولا أعلم أحدًا قرأ به، وواحد "الحجرات": حجرة، والفتح بدل من الضمة لثقل الضمتين". قوله: (ولكنها جمعت إجلالًا): عن بعضهم: قولك: "في مجالسك" أبلغ من قولك: "في مجلسك"، كأن الجمع يبطل خصوصية حجرة دون حجرة.

والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون: يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة، ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدًا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإنّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم. وروي: أن وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه: محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج، ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: «هم جفاة بني تميم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قصد بالمحاشاة): أي: استثنى بـ {أَكْثَرُهُمْ}، فإنه يدل على أن بعضهم لم يكونوا كذلك. الأساس: "أساؤوا حاشى فلانًا، وأنا أحاشيك من كذا، وقال: وما أحاشي من الأقوام من أحد" معناه: ويحتمل أن يكون في القوم من قصد استثناؤه وإخراجه من الحكم، بقلة العقل، ف"أكثرهم" استثناء معنوي، قال صاحب" التقريب": وإنما قال: {أَكْثَرُهُمْ}؛ لأن البعض قد يعقل. قوله: (فإن القلة تقع موقع النفي): قال الحماسي: قليل التشكي للمهم يصيبه أي: عديم التشكي.

لولا أنهم من أشدّ الناس قتالًا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم». فورود الآية على النمط الذي وردت عليه: فيه مالا يخفى على الناظر؛ من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله، منها: مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه، ومنها: لفظ "الحجرات" وإيقاعها كناية عن موضع خلوته. ومقيله مع بعض نسائه، ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم، ومنها: التعريف باللام دون الإضافة، ومنها: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لولا أنهم من أشد الناس قتالًا للأعور الدجال): وفي رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهم_ يعني: بني تميم_ أشد أمتي على الدجال". قوله: (المرور على لفظها): أي: لفظ الحجرات، والأساس: "مررت به وعليه مرًا مرورًا، ومر الأمر واستمر: مضى"، يعني: قال: {الْحُجُرَاتِ} ومضى عليه، يعني: ما زاد عليه، ولم يقل: حجرات نسائك، بل اكتفى بالقدر من الكناية لئلا توحشه، لأنها تكفي لمن يقف على الرمز والإشارة الخفية في أن النداء في هذه الآية أمر منكر. قوله: (التعريف باللام دون الإضافة): أي: لم يقل: "من وراء حجراتك"؛ لأن المراد المعهود الذهني، يعني: لا يلتبس أن مثل هذا التعظيم لا يكون في حجرات سائر الناس. قوله: (أن شفع ذمهم باستجفائهم): أي: قرن ذمهم ذلك، وهو قوله: {الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاءِ الحُجُرَاتِ}، بقوله: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، فأوقع قوله: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} خبرًا لـ"إن" واسمها الموصولة المشتملة على الصلة المشعرة بأن خبرها مما يستهجن منه، ويد من صدر منه النداء من وراء الحجرات بالجافي الغليظ وقلة العقل، وإنما فعل ذلك ليسلي

تهوينًا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم، وهلم جرًّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم؛ من رفع الصوت والجهر، كأن الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره، ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم؛ دلالة على عظيم موقعه عند الله، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم؛ من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرًا؛ لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يلحقه من الوحشة من سوءاتهم، فقيل له: هون عليك، واعف عنهم، فإن أكثرهم لا يعقلون، إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة، لا سيما لمن كان بهذا المنصب. قوله: (تعجرفهم): الجوهري: "جمل فيه عجرفة: كأن فيه خرقًا وقلة مبالاة لسرعته". الأساس: "في كلامه عجرفة وتعجرف، أي: جفوة". قوله: (من غير حصر ولا تقييد): تفسير للحصر، أراد الإبقاء على الإطلاق، نحو: فلان يعطي ويمنع. وقد سبق بيانه في أول السورة. قوله: (ما أجروا إليه): أي: سبقوا إليه، قال الحماسي: هم قطعوا الأرحام بيني وبينهم وأجروا إليها واستحلوا المحارما قال المرزوقي: "الإجراء يستعمل في المنكر المذموم، ومفعوله محذوف، كأنه قيل: أجروا فعلهم إليها".

لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغًا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد -ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه. {أَنَّهُمْ صَبَرُوا} في موضع الرفع على الفاعلية، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم. والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28]، وقولهم: صبر عن كذا، محذوف منه المفعول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن أبي عبيد): عن بعضهم: هو القاسم بن سلام الكوفي، وأبو عبيدة: معمر بن المثنى التيمي، كان أستاذًا لأبي عبيد. قوله: (لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم): قال القاضي: "المعنى: لو ثبت انتظارهم حتى تخرج، فإن "أن" دلت بما في حيزها على المصدر، ودلت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل". قوله: (عن أن تنازع إلى هواها): الجوهري: "نزع إلى أهله ينزع نزاعًا، أي: اشتاق، وأنزع القوم: إذا نزعت إبلهم إلى أوطانها". قوله: (صبر عن كذا): محذوف فيه المفعول، ويروى: "على كذا"، يقال: صبر عليه، أي: نفسه.

وهو النفس، وهو حبس فيه شدّة ومشقة على المحبوس، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل: صبر. وفي كلام بعضهم: الصبر مرّ، لا يتجرّعه إلا حرّ. فإن قلت: هل من فرق بين {حَتَّى تَخْرُجَ} و"إلى أن تخرج"؟ قلت: إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة، تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و «إلى» عامّة في كل غاية، فقد أفادت «حتى» بوضعها: أنّ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرًا دون الانتهاء إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن "حتى" مختصة بالغاية المضروبة): يعني: "حتى" نص في بيان الغاية، وبت للحكم، وأن لا رخصه لهم دون هذه الغاية، بخلاف"إلى" فإنها مطلقة تحتمل أمورًا، قال في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]: "إلى: تفيد معنى الغاية مطلقًا، فأما دخولها في الحكم وخروجها: فأمر يدور مع الدليل". قال صاحب"التقريب": "حتى: تختص بالغاية المضروبة، وإلى: عامة في كل غاية، لا يقال: أكلت السمكة حتى نصفها، ويقال: إلى نصفها، فإنها قال: {حَتَّى تَخْرُجُ} ليفيد أنه غاية، ليس لهم أن يقطعوا أمرًا دون الانتهاء إليها. وبيانه: أن اختصاصها بالغاية المضروبة، أي: المعينة، معناه: أن ما بعد "حتى" داخل في حكم ما فبلها، فالرأس مأكول من قوله: "حتى رأسها"؛ إذ لو لم يكن مأكولًا، وانتهى الأكل قبله بجزء آخر سوى الرأس، لكان ذلك الجزء غاية، فلم تكن مختصة بهذه الغاية المضروبة، وهو خلاف وضعها، وأما "إلى" فلا تختص، بل قد يدخل ما بعدها، وقد لا يدخل، فقد تكون له غاية أخرى سوى ما بعد "إلى".

فإن قلت: فأي فائدة في قوله: {إِلَيْهِمْ}؟ قلت: فيه أنه لو خرج، ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم. {لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ}: في «كان»: إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد "لو"، وإما ضمير مصدر {صَبَرُوا}، كقولهم: من كذب كان شرًّا له، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: {حَتَّى تَخْرُجُ} يدل على أنه لا غاية لخيرية صبرهم قبل الخروج، فليس لهم أن يقطعوا أمرًا قبل الانتهاء إليه، وإلا لانتهت الخيرية لغاية قبل الخروج، ولا يلزم ذلك في "إلى". وكان الأولى أن يقول: إن "حتى" تفيد أنه لا تنتهي خيرية صبرهم بعد الخروج أيضًا، فكما أن حكم الأكل يشمل الرأس، فحكم خيرية الصبر يشمل زمان الخروج أيضًا، فيكون أبلغ، ولو قال: "إلى" لم يلزم، لأن ما بعد "إلى" لا يلزم دخوله في حكم ما قلبه، والله أعلم". تم كلامه. قوله: (وإما ضمير مصدر {صَبَرُوا}): قال القاضي: "المعنى: لكان الصبر خيرًا لهم من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، الموجبين للثناء والثواب والإسعاف بالمسؤول". قال الواحدي: "قدم بنو تمتم على النبي صلى الله عليه وسلم لفداء ذراريهم التي سبيت، وقال مقاتل: يعني ب"الخير": أنهم لو صبروا لخلي سبيلهم بغير فداء، فلما نادوه أعتق نصف ذراريهم وفادى نصفهم، يقول الله عز وجل: ولو صبروا لكنت تعتق كلهم".

[{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 6 - 8] بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه -وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعًا، ثم قال: هل أزيدكم، فعزله عثمان عنهم- مصدّقا إلى بني المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحنة، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له، فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مصدقًا): أي: بعثه صلوات الله عليه آخذًا للصدقة. النهاية: "قال الخطابي: إن "المصدق"_ بتخفيف الصاد_: العامل، فإنه وكيل الفقراء في القبض، فله أن يتصرف لهم بما يراه؛ مما يؤدي إليه اجتهاد". وأما قصة الوليد بن عقبة: ففيها للمفسرين اختلاف، والصحيح ما روى الإمام أحمد ابن حنبل في "مسنده" عن عيسى بن دينار عن أبيه: "أن الحارث بن ضرار الخزاعي قدم على سول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، ويجمع الزكاة، فضرب وقتًا بينه وبين رسول لله صلى الله عليه وسلم ليبعث إليه رسولًا ليقبض الزكاة، فاحتبس الرسول عن الوقت، فظن الحارث أنه قد حدثت سخطة من الله ورسوله، فانطلق مع سروات قومه يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بعث الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده، فلما أن بلغ بعض الطريق فرق ورجع، وقال: يا رسول الله، الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.

وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم فوردوا وقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم، فقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلًا هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلتكم، ويسبى ذراريكم»، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع. وفي تنكير "الفاسق" و"النبأ": شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال: أي فاسق جاءكم بأيّ نبإ، فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه: فقست البيضة: إذا كسرتها وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضًا: قفست الشيء: إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبًا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق، قال رؤبة: فواسقًا عن قصدها جوائرا وقرأ ابن مسعود: "فتثبتوا"، والتثبت والتبين: متقاربان، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة؛ قيل: {إِن جَاءَكُمْ} بحرف الشك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استقبل الحارث البعث قرب المدينة، وقال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أيضًا، قال: لا، والذي بعثك بالحق، ما رأيته، وما أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية". قوله: (قيل: {إن جَاءَكُمْ} بحرف الشك): جواب "لما"، وقوله: "وما كان يقع" إلى آخره: اعتراض.

وفيه: أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور. {أَنْ تُصِيبُوا} مفعول له، أي: كراهة إصابتكم {قَوْمًا بِجَهالَةٍ} -حال، كقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب: 25]-، يعني: جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة. والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنه كلما تذكر المتندّم عليه راجعه؛ من الندام: وهو لزام الشريب ودوام صحبته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه أن على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة): أي: أدمج في الآية أن على المؤمنين أن يكونوا على تثبت من الأمر لئلا يطمع فاسق، وذلك من حرف التنبيه، وإيقاع {آمَنُوا} صلة للموصول، وجعلها سبيًا لما بعده من الحرف الموضوع لنداء البعيد، وقد نودي به القريب المقاطن على أن الخطاب الذي يتلوه معني به جدًا. الراغب: "في قوله: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} تنبيه على أنه أن كان الخبر عظيمًا له قدر، فحقه أن يتوقف فيه_ وإن علم أو غلب صحته على الظن_ حتى يعاد النظر فيه، ويتبين فضل تبين". وقوله: (من الندام): متعلق بقوله: "والندم ضرب من الغم"، أي: مأخوذ منه. قوله: (لزام الشريب): الجوهري: "شريبك: الذي يشاربك، ويورد إبله مع إبلك، وهو فعيل بمعنى: مفاعل، مثل: نديم وأكيل"، وروي عن المصنف: أن هذه المسألة مختلف فيها، وهي أنه كلما يتذكر الإنسان ذنبًا، هل يجب عليه تجديد الندم أم يكفيه الندم مرة، ففي هذه الآية إشارة إلى أنه يجب عليه كلما تذكره أن يندم، لأن لفظ الندم ينبئ عن اللزوم، فينبغي أن يكون ملازمًا للندوم كلما تذكر.

ومن مقلوباته: أدمن الأمر: أدامه، ومدن بالمكان: أقام به، ومنه: المدينة، وقد تراهم يجعلون الهم صاحبًا، ونجيًّا، وسميرًا، وضجيعَا، وموصوفَا بأنه لا يفارق صاحبه. الجملة المصدّرة بـ"لو": لا تكون كلامًا مستأنفًا، لأدائه إلى تنافر النظم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد تراهم يجعلون الهم صاحبًا): بيان لقوله: "وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام". قوله: (لا تكون كلامًا مستأنفًا، لأدائه إلى تنافر النظم): قال أبو البقاء: " {لَوْ يُطِيعُكُمْ} مستأنف، ويجوز أن يكون حالًا، والعامل فيه الاستقرار، وإنما جاز ذلك من حيث جاز أن يقع صفة للنكرة، كقولك: مررت برجل لو كلمته لكلمني، أي: متهيئ لذلك". وقلت: إنما لم يحسن الاستئناف، لأن قوله: {واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} لو جعل موردًا للسؤال استجهالًا لهم بما كان يصدر منهم من الفلتات التي لا تليق بحضرة الرسالة، فنزلوا لذلك منزلة من لا يعلم أن فيهم رسول الله؛ بأن يقولوا: ما بالنا ورسول الله مستقر فينا، لم يقع قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ} موقعه في الجواب، ولكن إذا جعل حالًا، بمعنى: أن فيكم من حاله أنه أرسله الله تعالى، وخصه بمنصب الرسالة، ولا يقطع أمرًا إلا بالوحي النازل، فيجب عليكم أن لا تحاولوا أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب حال حسن. ويمكن أن يوجه طريق الاستئناف بأنه تعالى لما أرشدهم طريق الصواب بقوله: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، أي: استعملوا التأني فيما سنح لكم من الأمور، والتروي في كشف الأحوال، لئلا ترجعوا إلى كلام بعض الفساق فتتورطوا فيما تندمون منه، نبههم أيضًا أن فيهم رسول الله، الناطق بالنسبة العادلة، والصادع بالحكمة الساطعة، لا يرجع عن رأي كل

ولكن متصلًا بما قبله حالًا من أحد الضميرين في {فِيكُمْ}؛ المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد. والمعنى: أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها، أو: أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي واستصواب، فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه، المحتذي على أمثلته، ولو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ}، أي: لوقعتم في العنت والهلاك، يقال: فلان يتعنت فلانًا، أي: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك، وقد أعنت العظم: إذا هيض بعد الجبر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زائغ، ولا يعمل بهوى كل مبطل، فاقتدوا به في ذلك، فاتجه لهم أن يسألوا: لم كان ذلك فقيل: لو يطيع بعضًا منكم في كثير من الأمر لعنتم، ثم قال للبعض الآخر: {ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ}. ويؤيده ما قال الواحدي: " {أَن تُصِيبُوا} أي: لئلا تصيبوا {قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، ثم وعظهم فقال: {واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}، أي: اتقوا أن تكذبوه وتقولوا باطلًا، فإن الله يخبره به، فتفضحوا. ثم قال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ} مما تخبرونه فيه بالباطل، لوقعتم في الإثم والهلاك، ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون، فقال: {ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ} ". قوله: (فيما يرتئيه المحتذي): أي: يراه المقتدي لنفسه، قيل: يقال: ارتأى فلان، أي: رأى رأيا لنفسه، مثل: استوى: أخذ السواء لنفسه. الأساس: "وارتأى في الأمر، وارتأيت رأيًا في كذا، والرأي: ما ارتأى فلان، وفلان يتراءى برأي فلان: يميل إلى رأيه، ويأخذ به، واسترأيته: طلبت منه رأيه". قوله: (إذا هيض بعد الجبر): وروي عن المصنف أنه قال: هذا يكون أشد من الكسر، وقد روي أن الحجاج جنس يريد بن المهلب، وكان يعذبه بأنواع العذاب، وكان لا يسمع له

وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ}، أي: إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر "البعض" صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنين، وكان الحجاج يحب أن يسمع له أنينًا ليشفي منه، فقيل له: أن رجله كسرت في حرب كذا وجبرت، فينبغي أن يوضع على تلك الرجل، ففعلوا، فأن. قوله (من الهنات): وهي خصال في الشر، النهاية: "يقال: في فلان هنات، أي: خصال شر، ولا يقال في الخبر". الانتصاف: "من هنات المعتزلة توريكهم على عثمان رضي الله عنه، وتوقفهم في الحكم بفسق قبله، وقد عرض هاهنا بأنه ولى الوليد عوضًا عن سعد بن أبي وقاص؛ أحد العشرة المبشرة، وعرض به في قوله: "أن من الصحابة من كان تصدر منه هنات"، فافهم من تعرضنا ما عرض به في عثمان رضي الله عنه، نسأل الله العصمة". قوله: (ويزعهم): أي: يكفهم، النهاية: "في الحديث: "من يزع السلطان أكثر ممن يزع القرآن"، أي: يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفه مخافة القرآن والله تعالى، يقال: وزعه يزعه وزعًا، فهو وازع: إذا كفه ومنعه". قوله: (أغنت عن ذكر "البعض" صفتهم المفارقة لصفة غيرهم): يعني: نزل التغاير بين الوصفين منزلة التغاير بين الذاتين، وذلك أن العطف بـ"لكن" في الجملتين يوجب التغاير بينهما بالنفي الإثبات، فيقدر معنى قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} بقرينة الحال،

وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة، التي لا يفطن لها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما بعد كلمة الاستدراك، وبالاستئناف بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} المفيد للتخصيص والتعريض بواسطة ضمير الفصل: ما حبب إلى بعضكم الإيمان؛ تغليظًا، لأن من تصدى لتزيين الرسول صلى الله عليه وسلم في الإيقاع بقوم مؤمنين غافلين بريئين، وجسر على ارتكاب تلك العظيمة، لم يكن محبوبًا إليه الإيمان، ويقدر معنى قوله: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ}: حبب إلى بعضكم، لأن من تصون من مثل تلك الهنات، ويزعه جده في التقوى عن ارتكابها، كان محبًا للإيمان، فكأنه قيل: ما حبب إلى بعضكم الإيمان، ولكن حبب إلى بعض آخر منكم الإيمان. وهذا أيضًا تفسير لقوله بعد هذا: "المغايرة مفقودة من حيث للفظ، حاصلة من حيث المعنى". والذي يدل على التغليظ: التعريض بقوله: {وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والْفُسُوقَ} بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}، وإلى هذا المعنى أومأ الواحدي بقوله: " {لَوْ يُطِيعُكُمْ} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، {فِي كَثِيرٍ} مما تخبرونه فيه بالباطل، لوقعتم في عنت، ثم خاطب المؤمنين الذي لا يكذبون، فقال: {ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ} ". قوله: (وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم): فيه إشارة إلى بيان النظم، يعني: كما رزق أولئك السعداء لزوم التأدب في حضرة الرسالة من خفض الصوت، أرشدوا إلى تصديق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى امتثال ما يقدم إليه، فيلزم من هذا أن الباقين هم الذين حرموا توفيق التأدب بحضرته، فوقعوا في العنت، فيكون قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاءِ الحُجُرَاتِ} الآيتين، كالاستطراد لحديث رفع الصوت. وفيه: أن التأدب رأس الحسنات، وأساس الخيرات.

وقوله: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} -والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أولئك المستثنون هم الراشدون- يصدق ما قلته. فإن قلت: ما فائدة تقديم خبر "أنَّ" على اسمها؟ قلت: القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم؛ من استتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أولئك المستثنون هم الراشدون، يصدق ما قلته): التاء في "ما قلته" خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي أكثر النسخ: "يصدق ما قلته"، بضم التاء؛ خبر لقوله: "قوله"، وهو الوجه، يعني: دل {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} منطوقًا ومفهومًا على أن القوم فرقتان، وأن حكم التغاير في الوصف بمنزلة حكم التغاير في الذات، وأن بعد "لكن" بمنزلة المخصص لما قبله. قوله: (القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأن المقتضي للتوبيخ على استتباعهم رأيه: كونه رسولًا، لا كونه فيهم، فكان أولى بالتقديم، فلعل توجيهه: أن تقديم التوبيخ أهم، و {فِيكُمْ} من جملة كلام التوبيخ، لأن قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} مع جوابه: حال من {فِيكُمْ}، فتقديم جزء التوبيخ كتقديمه، لكن إنما يتمشى لو استقل أن {فِيكُمْ} مع الشرطية كلامًا، ولكن قوله: {رَسُولَ اللَّهِ} عمدة جملة التوبيخ معنى وإعرابًا، فلا استبداد بدونه، فليتأمل. وقلت: قد تقرر عند علماء البيان: أن في تقديم ما رتبته التأخير من جزء الجملة إيذانًا بأن الكلام فيه، لأنهم يقدمون الأهم، وهاهنا التوبيخ وإن كان واردًا على الجملة، على كونه رسولًا كما سبق، لكن في تقديم الظرف تتميم لذلك المعنى، واستبعاد له؛ لأن المعنى: أتستتبعون رأيه لرأيكم، وأنه رسول من الله، ومهبط وحيه، فكيف وهو مستقر فيكم، وأنتم بين يديه شاهدين مجلسه، ولستم غائبين كغيركم. نزلهم لذلك الفعل كأنهم اعتقدوا أنه غائب عنهم، فلو أخر {فِيكُمْ} لم يتفطن لتلك النكتة السرية، ولا يتفطن لأمثالها إلا أمثال المصنف.

فإن قلت: فلم قيل: {يُطِيعُكُمْ} دون: أطاعكم؟ قلت: للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولًا عليه، بدليل قوله: {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} كقولك: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، تريد: أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرًّا. فإن قلت: كيف موقع {لكِنْ} وشريطتها مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيًا وإثباتًا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم، فوقعت "لكنّ" في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى "تحبيب الله" و"تكريهه": اللطف والإمداد بالتوفيق، وسبيله الكناية، كما سبق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما سبق): قيل: ما سبق هو قوله: "أن بعضهم كانوا نون، ويزعهم جدهم في التقوى"، ولعل هذا القائل ظن أن الكاف متعلق بقوله: "وسبيله الكناية"، وليس به؛ لأن هذا السابق ليس بكناية عن اللطف والإمداد والتوفيق، بل هو متصل بقوله: "حاصلة من حيث المعنى"، وما توسط بينهما تفسير لمعنى تحبيب الله، واعتراض بين المتعلق والمتعلق، ذلك أنه سأل: أن مقتضى "لكن" في هذا الكلام مفقود، وأجاب: أن مقتضاها حاصل من حيث المعنى، وأن ما بعدها موصوف بما يلزم منه مغايرة ما قبلها. ومثل هذا المعنى سبق عند قوله: "ولكنه أغنت عن ذكر "البعض" صفتهم المفارقة لصفة غيرهم"، كما سبق شرحه قبيل هذا. وأما بيان الكناية: فإن قوله: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ}، {وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والْفُسُوقَ}: لازمان للطف والتوفيق، كما أن محبه الكفر وكراهية الطاعة رديفان للخذلان، ومثل هذا المعنى ما سبق في الكلام، وعندنا إسناد المحبة والكراهية إلى الله حقيقة.

وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثنى عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة): هذا استدلال على أن المراد بتحبيب الإيمان وتزيينه في القلب وتكريه الكفر: اللطف والتوفيق كناية، لأنه تعالى خلق في قلوبهم الإيمان وكراهة الفسق تحقيقًا وتصريحًا بدليل عقلي، بل وجداني ضروري. قال صاحب "التقريب": وما أثنى على المؤمنين بالتحبيب والتكريه، وهما فعل الله تعالى، ولا يمدح الرجل بفعل غيره، لأن مدحهم بوجود المحبب فيهم لا بالتحبيب، كما يصح المدح بالجمال والحسن. الانتصاف: "ترك الزمخشري الحق لخيال اعتمده في الشاهد؛ أن الإنسان لا يمدح بفعل غيره، وأبطل ما صرحت به الآية من نسبة ذلك إلى الله وحده، وكيف تترك أدلة العقل وصريح النقل في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وأمثاله، بقياس الغائب على المشاهد، فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى أعطى وأثنى، ومنح ومدح، ولا موجود إلا الله وصفاته وأفعاله بعضها محل بعض، فماذا يقول في ثناء الله على رسله باصطفائه لهم، أهو بها اكتسبوه، أو بما وهبهم فاتهبوه؟ فإن قال بالأول خرج عن الملة، وإن قال بالثاني فسلم الأمر". وقال الإمام: "المعني بقوله: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}: قربه إليكم، وأدخله في قلوبكم، ثم زينه فيها، بحيث لا تفارقونه، ولا يخرج من قلوبكم، ومن أحب شيئًا وطال لبثه فيه فقد يمل، والإيمان كل يوم يزداد فيه نشاطًا، بل كل من كانت عبادته أكثر، وتحمله لمشاق التكاليف أتم، كان ذلك عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول: {حَبَّبَ إلَيْكُمُ}، وفي الثاني: {وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}، كأنه قربه إليهم، ثم أقامه فيهم".

فإن قلت: فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل الله، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود؟ قلت: الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء، ووسامة المنظر -في الغالب- يسفر عن مخبر مرضي وأخلاق محمودة، ومن ثم قالوا: أحسن ما في الدميم وجهه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: (قوله: "وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلي أن يثنى عليهم بفعل الله" بعيد عن المقام؛ لأن {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} غير وارد على المدح، بل على سبيل الامتنان، وأنه تعالى هو_ بفضله وكرمه_ اختصهم به ليحمدوه على ذلك الإنعام، لا أنه يمدحهم، ولذلك قرره بقوله: {وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيَانَ} على سبيل الطرد والعكس، ثم فرع عليه قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} مدحًا وتعريضًا، فأثبت الخلق أولًا، وقرنه بالكسب ثانيًا، ومدحهم عليه. قوله: (في الغالب يسفر عن مخبر مرضي): قيده ب"الغالب"، لئلا يرد نحو قول أبي الطيب: وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له .... إذا لم يكن في فعله والخلائق ونظر حكيم إلى غلام حسن، فاستنطقه، فرآه بليدًا، فقال: نعم البيت لو كان فيه ساكن. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]، قال: "شبهوا بالأصنام في حسن صورهم وقلة جدواهم". وروينا عن مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم"، والحق أن تلك الأخلاق الفاضلة يحدثها الله تعالى، ويزرعها أين شاء، كقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8].

فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك، وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير، وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة، وما يتشعب منها، ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل: غلطًا ومخالفة عن المعقول. والْكُفْرَ: تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود، والْفُسُوقَ: الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر، وَالْعِصْيانَ: ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته): أي: لم يجعلوا حسن المنظر من صفات المدح أصالة؛ لما ينبغي أن يستعمل المدح في الفضائل الاختيارية، وإذا استعمل في غيرها أول ما يؤول إليها، فذهب فيه إلى الحقيقة والمجاز، وذهب القاضي إلى أنه للقدر المشترك حيث قال" المدح: هو الثناء على الجميل مطلقًا"، وقال الجوهري: "المدح: الثناء الحسن"، وقال الراغب: "كل حمد مدح، وليس كل مدح حمدًا"، وقال الإمام: "يقال: مدحت اللؤلؤة والفرس، ولا يقال: حمدتهما". قوله: (والكفر تغطية نعم الله وغمطها بالجحود): الراغب: "الكفر: عبارة عن الستر، وكفر النعمة: سترها، وحقيقة الكفر: ستر نعمة الله، وأعظم الكفر ما كان مقابلًا لأعظم النعم، وهو ما يتوصل به إلى الإيمان واستحقاق الثواب، ومن قابل تلك النعمة بالكفران، فهو الكافر المطلق، ولذلك صار الكفر في الإطلاق: جحود الوحدانية والنبوة والشرائع".

والعرق العاصي: العاند، واعتصت النواة: اشتدّت. والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه؛ من الرشادة، وهي الصخرة، قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة، وأنشد: وغير مقلّد وموشّمات .... صلين الضّوء من صمّ الرّشاد و{فَضْلًا} مفعول له، أو مصدر من غير فعله. فإن قلت: من أين جاز وقوعه مفعولًا له، والرشد فعل القوم، والفضل فعل الله، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت: لما وقع "الرشد" عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه، صار الرشد كأنه فعله، فجاز أن ينتصب عنه، أو لا ينتصب عن {الرَّاشِدُونَ}، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى، والجملة التي هي: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} اعتراض، أو عن فعل مقدر، كأنه قيل: جرى ذلك -أو كان ذلك- فضلًا من الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعرق العاصي): هو الذي لم يرقأ دمه، الأساس: "ومن المجاز: عرق عاص لا يرقأ دمه". قوله: (وغير مقلد) البيت: "المقلد": هو الوتد، و"الموشمات": حجارة الأثافي، صليت الرجل النار: أدخلته النار، أي: لم يبق من الدار سوى الأوتاد التي تقلد بها الحبال وأحجار الأثافي، وقيل: يصف يعملات غير مقلدات يسرعن في السير بالقوة، بحيث تظهر النار من الأحجار في سيرها. قوله: (لما وقع "الرشد" عبارة عن التحبيب): أي: كناية عنه، لأن "الرشد" دل على تحبيبهم، وتحبيبهم على أن الله حبب إليهم.

وأما كونه مصدرًا من غير فعله، فأن يوضع موضع "رشدًا"، لأنّ رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه. والفضل والنعمة: بمعنى الإفضال والإنعام. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل، {حَكِيمٌ} حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "قد بينا أن "الرشد" مخلوق لله تعالى، فلا سؤال من هذا الوجه، بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه باللغة المعهودة، وفيها نسبة الفعل إلى فاعل حقيقة كان أو مجازًا، فـ"زيد" في "مات زيد": فاعل، وقد نسب"الرشد" إليهم على أساس أنهم فاعلوه، وإن كان مجازًا في الاعتقاد، فيجاب عنه بجواب الزمخشري، أو بأن الرشد هاهنا يستلزم كون الله مرشدًا، إذ هو مطاوع" أرشده فرشد"، فتصح المطابقة. وهو عكس قوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]، لأنهم هناك مفعولون في معنى الفاعلين، فصح بواسطته استلزام المطاوعة، فتصحح مسألة البرق بتقدير المفعول، وتصحح هذه بتقدير الفاعل". وقلت: لعل تقدير الأول: هو الذي يريكم البرق فرأيتموه خائفين طامعين، والثاني: أولئك هم الراشدون بأن أرشدهم الله فضلًا ونعمة. قوله: (وأما كونه مصدرًا من غير فعله): ذكر أن {فَضْلًا}: إما مفعول له أو مصدر، وكما فرع من بيان الأول، شرع في بيان الثاني، وقال: أما كونه مصدرًا من غير فعله، فإن الأصل: أولئك هم الراشدون رشدًا، فوضع موضع"رشدًا": {فَضْلًا}؛ لأن رشدهم كان مسببًا عن فضل الله، ولولا فضله لما رشدوا. وقوله: (يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم): والضمير للصحابة، والأفاضل: من حبب إليه الإيمان، كما قال: "لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المقدم ذكرهم".

[{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 9] عن ابن عباس رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار، وهو على حمار، فبال الحمار، فأمسك عبد الله ابن أبي بأنفه، وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه، فقال عبد الله بن رواحة: والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك -وروى: حماره أفضل منك، وبول حماره أطيب من مسكك-، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا، وجاء قوماهما، وهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالعصي -وقيل: بالأيدي والنعال والسعف-، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، ونزلت. وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. والبغي: الاستطالة والظلم وإباء الصلح، والفيء: الرجوع، وقد سمى به الظل والغنيمة، لأنّ الظل يرجع بعد نسخ الشمس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار) الحديث: مخرج في "الصحيحين" عن أنس من غير هذه الرواية، وأوردناه في أول البقرة. قوله: (وهما الأوس والخزرج): قيل ابن رواحة: خزرجي، وابن أبي: أوسي. قوله: (وقد سمي به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجع) إلى آخره: الراغب: "الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة، قال تعالى: {فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، {فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

والغنيمة: ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين. وعن أبي عمرو: "حتى تفي" بغير همز؛ ووجهه: أنّ أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين، فلطفت على الراوي تلك الخلسة، فظنه قد طرحها. فإن قلت: ما وجه قوله: {اقْتَتَلُوا}، والقياس: "اقتتلتا" كما قرأ ابن أبي عبلة، أو "اقتتلا" كما قرأ عبيد بن عمير؛ على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت: هو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأنّ "الطائفتين" في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله: "حتى يفيئوا إلى أمر الله، فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رَّحِيمٌ} [البقرة: 226]، ومنه: فاء الظل، وقيل للغنيمة التي لا يلحق بها مشقة: فيء، قال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 7]، قال بعضهم: سمي ذلك بالفيء الذي هو الظل، تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجرى مجرى ظل زائل، والفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد". قوله: (ووجهه: أن أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين): أي: في "تفيء" وفي "إلى"، قال بعضهم: هذه الرواية خلاف المذهب، لأن أبا عمرو خفف الثانية لا الأولى. قوله: (هو مما حمل على المعنى دون اللفظ): الانتصاف: "قد أنكر النحاة الحمل على لفظ "من" بعد الحمل على معناها، وفي الآية حمل على المعنى بقوله: {اقْتَتَلُوا}، ثم على اللفظ بقوله: {بَيْنَهُمَا}، والفرق: أن "من" فيها إيهام، فيلزم الإيهام بعد التفسير، وأما "الطائفة" فلا إيهام فيها، إذ لفظها مفرد أبدًا، ومعناها جمع أبدًا".

وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها ما قاتلت -وعن ابن عمر: "ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته من أمر هذه الآية، إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله"، قاله بعد أن اعتزل-، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت، وإذا تولت عمل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ابن أم عبد، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيؤها». ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن تقتتلا على سبيل البغي منهما جميعًا، فالواجب في ذلك: أن يُمشى بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي: صير إلى مقاتلتهما. وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب: إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، واطلاعهما على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج، ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به، من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يجهز على جريحها): يقال: أجهرت على الجريح: إذا أسرعت بقتله وأتممت عليه، النهاية: "في حديث علي رضي الله عنه: "لا يجهز على جريحهم"، أي: من صرع منهم لا يقتل، لأنهم مسلمون، والقصد من قتالهم: دفع شرهم، فإذا لم يكن ذلك إلا بقتلهم قتلوا".

وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل، وفي ذلك تفاصيل: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها، ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ} على مذهب محمد: واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره: وجهه: أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد، دون ضمان الجنايات: ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت: لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية: أن تقتتلا باغيتين معًا، أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت: فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي ذلك تفاصيل): أي: في القسط والعدل. قوله: (إن كانت الباغية): شروع في التفصيل. قوله: (منطبق على لفظ التنزيل): فإن قوله: {فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا} إلى آخره، يقتضي لزوم الضمان إذا فاءت مطلقًا، قليلة كانت أو كثيرة. قوله: (أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد): أي: يحتمل حكم الآية على هذا الوجه، دون الوجه الثاني. قوله: (ليس بحسن الطباق للمأمور به): أي: المأمور به_ وهو العدل، بقوله: {وأَقْسِطُوا} _ مطلق متناول لجميع ما يطلق عليه اسم العدل، وكذا تقييد {فَأَصْلِحُوا} بقوله: {بِالْعَدْلِ}،

إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية، ونفي الشبهة، إلا إذا أصرتا، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو مستغن عنه، لأن الإصلاح مع الظلم محال، وتذييل الكلام بقوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}: يقتضي أن العدل مطلوب لذاته، فهو حسن في جميع الأمور، فاختصاصه بأمر دون أمر بعيد، وغير مطابق لهذه التوكيدات، قال في أول النساء: "أن الأمر كله يدور مع العدل، فأين ما وجدتم العدل فعليكم به". قوله: (ذات البين): قال في أول الأنفال: " {ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أحوال بينكم، يعني: ما بينكم من الأحوال حتى تكون حال ألفة ومحبة واتفاق، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين، قيل لها: ذات البين". قوله: (وتسكين الدهماء): النهاية: "الدهماء: الفتنة المظلمة، ومنه حديث حذيفة: أتتكم الدهيماء ترمي بالرضف". قوله: (متجه على الوجهين المذكورين): أحدهما: أن تكون الفئة قليلة العدد، وثانيهما: أن تكون كثيرة على رأي محمد بن الحسن.

{وَأَقْسِطُوا} أمر باستعمال القسط على طريق العموم، بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله على عقب النهى عن التقديم بين يديه. والقسط -بالفتح-: الجور؛ من القَسط، وهو اعوجاج في الرجلين، وعود قاسط: يابس، وأقسطته الرياح. وأمّا القِسط بمعنى: العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أي: أزال القسط، وهو الجور. [{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 10] هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله -من السبب القريب والنسب اللاصق- ما إن لم يفضل الأخوّة ولم يبرز عليها، لم ينقص عنها، ولم يتقاصر عن غايتها. ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والقول فيه مثله في الأمر باتقاء الله): وقال فيه: "هذا كما تقول لمن يقارب بعض الرذائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق بك العار". فعلى هذا قوله: {وأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} من عطف العام على الخاص، أو تذييل للسابق وتقرير له، وقوله: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} تعليل للأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين، ولما كان التعليل إنما يؤتى به، فيثبت المعلل ويقرره، قال: "هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح". قوله: (ما أن لم يفضل): "ما": بمعنى: شيء، و"إن": شرطية، والجواب: "لم ينقص"، والجملة مفعول "عقد". قوله: (ولم يبرز): لم يفق، الأساس: "برز على الغاية وعلى الأقران".

مشيًا بالصلح، وبثا للسفراء بينهما، إلى أن يصادف ما وهى من الوفاق من يرقعه، وما استشن من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشدّ منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما وهى): مفعول "يصادف"، والفاعل: "وقدم المفعول ليعود الضمير في "من يرقعه" إليه، و"وهى" صلة "ما"، ما راعى المناسبة بين "وهى" وبين "يرقعه"، إذ لو قال: "ما خرق ويرقعه"، أو "وهى وقوى"، كان أحسن، راعى بين "استثن" و"يبله". قوله: (استثن): النهاية: "في حديث عمر بن عبد العزيز: "إذا استثن ما بينك وبين الله فابلله بالإحسان إلى عباده"، أي: إذا أخلق"، ومنه: شنان القربة. قوله: (من يبله): من قوله صلوات الله عليه: "بلوا الأرحام ولو بالسلام"، أي: بروها بصلتها، وهم يطلقون النداوة على الصلة، كما يطلقون اليبس على القطيعة. قوله: (المسلم أخو المسلم): الحديث: من رواية البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا_ ثلاثًا_، ويشير إلى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل

ولا يخذله، ولا يعيبه، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره»، ثم قال: «احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل». فإن قلت: فلم خص الاثنان بالذكر دون الجميع؟ قلت: لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم، لأنّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين. وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرئ: "بين إخوتكم" و"إخوانكم"، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله، إلى الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". قوله: (بقتار قدره): الجوهري: "القتار: ريح الشواء، وقد قتر اللحم يقتر_ بالكسر_: إذا ارتفع قتاره". قوله: (وقرئ: "بين إخوتكم وإخوانكم"): قال ابن جني: "قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن_ بخلاف_: "إخوانكم"، وهي تدل على أن قراءة العامة التي هي: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}: لفظها لفظ التثنية، ومعناها: الجماعة، أي: كل اثنين فصاعدًا من المسلمين اقتتلا، والإضافة لمعنى الجنس، نحو قولهم: لبيك وسعديك، فليس المراد به إجابتين اثنتين، ولا إسعادين اثنين، ألا ترى إلى الخليل كيف فسره بقوله: كلما كنت في أمر فدعوتني أجبتك إليه، وساعدتك عليه. ونحوه في إفادة المضاف لمعنى الجنسية: قولهم: منعت العراق قفيزها ودرهمها، أي: قفزانها ودراهمها".

والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك -إن وقع- واحسموه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل، والائتلاف، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم، واشتمال رأفته عليكم، حقيقًا بأن تعقدوا به رجاءكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك) إلى قوله: (فبادروا قطع ما يقع من ذلك): إشارة إلى ترتيب قوله: {فَأَصْلِحُوا} على وصف الأخوة، وأن في أداة الحصر الدلالة على دفع الزاعم أن أخوة الإيمان متقاصرة عن أخوة النسب، ومفضولة عنها، وإليه الإشارة بقوله فيما سبق: "وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب، والنسب اللاصق، ما أن لم يفضل الأخوة، لم ينقص عنها"، وأن في جعل {إخْوَةٌ} خبرًا لـ {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ} التشبيه الذي في قوله: إنما زيد أسد، ووجه الشبه: هو ما يفهم من قوله: "ثم قد جرت عادة الناس على أنه أن نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه" إلى آخره، ولذلك قال: "فبادروا". ثم قوله: {واتَّقُوا اللَّهَ} تذييل للكلام، كأنه قيل: هذا الإصلاح من جملة التقوى، فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل، وإليه الإشارة بقوله: "فإنكم أن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل"، ويجوز أن يكون عطفًا على {فَأَصْلِحُوا}، أي: واصلوا بين أخويكم بالصلح، واحذروا الله من أن تتهاونوا فيه. ثم علل ذلك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، و"لعل" من الله في الله في هذا المقام: إطماع من الكريم الرحيم، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، ولهذا قال: "وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم"، إلى قوله: "حقيقًا بأن تعقدوا به رجاءكم".

[{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 11] القوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء، قال الله تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} [النساء: 34]، وقال عليه الصلاة والسلام: «النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه»، والذابون هم الرجال، وهو في الأصل: جمع قائم، كصوّم وزوّر، في جمع: صائم وزائر، أو تسمية بالمصدر، عن بعض العرب: إذا أكلت طعامًا أحببت نومًا وأبغضت قومًا، أي: قيامًا. واختصاص "القوم" بالرجال: صريح في الآية، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (النساء لحم على وضم): وفي "الفائق": روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ما بال رجال لا يزال [أحدهم] كاسرًا وسادة عند امرأة مغزية، يتحدث إليها وتتحدث إليه، عليكم بالجنبة فإنها عفاف، إنما النساء لحم على وضم، إلا ما ذب عنهن"، كسر الوسادة: أن تثنيه وتتكئ عليه، ثم تأخذ في الحديث؛ فعل الزير، المغزية: التي غزا زوجها، الجنبة: الناحية من كل شيء، الوضم: ما وقيت به اللحم من الأرض". وكذا روى الميداني قال: "لا يخلون رجل بمغيبة، أن النساء لحم على وضم". النهاية: "الوضم: الخشبة أو البارية التي يوضع عليها اللحم، تقيه من الأرض، أي: إنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع على أحد، إلا أن يذب عنه أو يدفع. شبه عمر رضي الله عنه النساء وقلة امتناعهن على طلابهن من الرجال باللحم ما دام على وضم".

وفي قول زهير: أقوم آل حصن أم نساء؟ وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ "القوم" بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور، وترك ذكر الإناث؛ لأنهن توابع لرجالهن. وتنكير "القوم" والنساء يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أقوم آل حصن أم نساء): أوله: وما أدري وسوف إخال أدري أما صراحة اختصاص "القوم" بالرجال في الآية: فمن عطف {وضلَا نِسَاءٌ} على {قَوْمٌ}، وفي الشعر: من جعل أحد المتساويين يلي الهمزة، والآخر يلي "أم". قوله: (وأن يقصد إفادة الشياع): الانتصاف: "لو عرف المؤمنين فقال: "لا يسخر المؤمنين والمؤمنات بعضهم من بعض" لعم، ومراد الزمخشري أن في التنكير يحصل أن كل جماعة منهية على التفصيل، والتعرض في النهي لكل جماعة على الخصوص، ومع التعريف نهي الكل لا على التفصيل، بل على الشمول، والنهي على التفصيل أوقع". وقلت: استغراق الجنس أيضًا مراد منه التفصيل، والمعرف_ بتعريف العهد الذهني_ يفيد التفصيل أيضًا كالنكرة، إذ المعنى: لا يسخر من هو مسمى بالقوم من قوم مثله. قال ابن جني: "مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قول الشاعر: وأعلم أن تسليمًا وتركًا .... للا متشابهان ولا سواء

وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، على التوحيد؛ إعلامًا بإقدام غير واحد من رجالهم، وغير واحدة من نسائهم، على السخرية، واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه، فيستطيبه، ويضحك به، فيؤدي ذلك -وإن أوجده واحد- إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقومًا. وقوله تعالى: {عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} كلام مستأنف، قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى: وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرًا من الساخر، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال، ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن عند الله: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهذا في المعنى كقولك: أن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء". قوله: (واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه): يعني: إنما جمع، ولم يقل: "رجل من رجل"، لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الأقوام، كقوله تعالى: {لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. قوله: (يتلهى): أي: طلب منه اللهو والضحك على قول الساخر. قوله: (ولا يأتي ما عليه): أي: لا يفعل هذا الجليس ما يجب عليه من نهي المنكر.

أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرًا، وأتقى قلبًا، ممن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهانة بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا، فضحكت منه، خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبًا. وفي قراءة عبد الله: "عسوا أن يكونوا" و"عسين أن يكن"، فـ"عسى" على هذه القراءة هي ذات الخبر، كالتي في قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22]، وعلى الأولى: التي لا خبر لها، كقوله: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة: 216]. واللمز: الطعن والضرب باللسان. وقرئ: "ولا تلمزوا" بالضم، والمعنى: وخصوا أنفسكم -أيها المؤمنون- بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم، ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه، كي يحذره الناس»، وعن الحسن في ذكر الحجاج: أخرج إلي بنانًا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو غير لبيق): الجوهري: "اللبيق: الرجل الحاذق". قوله: (قلما عرقت فيها الأعنة): وعن بعضهم: أي: يأخذ بالأعنة في الجهاد حتى يعرق ويبتل بالعرق. وقلت: هو مما روينا عن مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة_ أو فزعة_ طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه".

ثم جعل يطبطب شعيرات له، ويقول: يا أبا سعيد، يا أبا سعيد. وقال لما مات: اللهم أنت أمته، فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته، ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله، وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل، الصلاة أيها الرجل، هيهات دون ذلك السيف والسوط. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولو روي بالغين المعجمة لكان وجهًا؛ ليكون من قوله: غرق اللجام بالحلية، ولجام مغرق، منه: الإغراق في القول، وهو المبالغة، وأغرق الرامي النزع. ذكره في "الأساس". والحاصل أنه كناية عن جبنه، كما قالت الخارجية فيه: أسد علي وفي الحروب نعامة .... فتخاء تنفر من صفير الصافر وفي قوله: "بنانًا قصيرة" إدماج واستتباع لدلالته على تحقيره خلقًا وخلقًا، أي: قامة وجودًا. قوله: (يطبطب شعيرات): أي: يحرك شاربه، الجوهري: "الطبطبة: صوت الماء ونحوه، وقد تطبطب". قوله: (أخيفش): الجوهري: "الخفش: صغر في العين، وضعف في البصر خلقة، والرجل: أخفش"، و"العمش في العين: ضعف الرؤية، مع سيلان دمعها في أكثر أوقاتها، والرجل: أعمش"، ويخطر؛ أي: يتبختر. قوله: (هيهات): أي: بعد هذا القول، أي: لا يمكن أن يقال له: الصلاة أيها الرجل، لأن دون ذلك السيف، أي: بين يدي أمرهم بالمعروف القتل والضرب.

وقيل: معناه لا يعب بعضكم بعضًا، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب: التداعي بها؛ تفاعل من: نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون، ويقال: النبز والنزب: لقب السوء، والتلقيب المنهي عنه، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة؛ لكونه تقصيرًا به وذمًّا له وشينًا، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على أخيه: أن يسميه بأحب أسمائه إليه». ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: لا تفعلوا): هو مع ما عطف عليه: عطف على قوله: "وخصوا أنفسكم_ أيها المؤمنون_ بالانتهاء"، فقوله: "أنفسكم": المراد: جنسكم، ومن هو على صفتكم في الإيمان، قال في سورة النساء عند قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]: "من كان من جنسكم من المؤمنين" فإن دليل الخطاب على معنى الاختصاص، وأن من لم يتصف بصفة الإيمان خارج من هذا الحكم، ولهذا قال: "خصوا أنفسكم_ أيها المؤمنون_ بالانتهاء"، وأتى بحديث الحجاج، ويعضده قوله: {بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ}، ومعناه كما قال: "استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان". وعلى الوجه الثاني: المراد من ذكر "النفس": شدة الاتصال، والإيذان بأن المؤمنين لعلقة الاتحاد في الإيمان كأنهم نفس واحدة، فمن نبز أخاه فقد نبز نفسه. وعلى الثالث: هو من إطلاق المسبب على السبب، يعني: لا تتصفوا بما أن سمع بكم سامع عابكم بسببه. والوجه الأول فيه تعسف وترخص في غيبة الفاسق، ولذلك غلب محمد بن سيرين الحسن، والوجه الثاني أوجه لموافقته: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}، وقوله: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ}، وبقوله: {ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}. قوله: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه"):

ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكنى فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم"، وعن الترمذي عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح". قوله: (منبهة): أي: سبب للرفعة، والنباهة: الرفعة. قوله: (لقب أبو بكر بالعتيق): عن الترمذي عن عائشة قالت: "دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت عتيق الله من النار. قالت: فمن يومئذ سمي عتيقًا". قوله: (وعمر بالفاروق): قال صاحب "الجامع": يقال: به تمت الأربعون، وظهر الإسلام يوم إسلامه، وسمي الفاروق لذلك"، وعن الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فأصبح، فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم". قوله: (وحمزة بأسد الله): قال صاحب "الجامع": "وهو أسد الله، وكان إسلامه حمية، فاعتز الإسلام بإسلامه".

وخالد بسيف الله، وقلّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجرى في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. روي عن الضحاك: أن قومًا من بنى تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبي ذرّ وسالم مولى [أبي] حذيفة، فنزلت. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت قصيرة. وعن ابن عباس: أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبيبة، وسدلت طرفها خلفها، وكانت تجرّه، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها، كأنه لسان كلب. وعن أنس: عيرت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حيّى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد». روي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يومًا وهو يقول: تفسحوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخالد بسيف الله): عن الترمذي عن أبي هريرة قال: "مر خالد علينا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقلت: خالد بن الوليد، فقال: نعم عبد الله خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله". قوله: (بسبيبة): النهاية: "السبائب: جمع سبيبة، وهي شقة من الثياب، أي نوع كان، وقيل: هي من الكتان".

حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل: تنح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان، فقال: بل أنت ابن فلانة. يريد أمًّا كان يعير بها في الجاهلية، فخجل الرجل، فنزلت، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدًا. {الِاسْمُ} ها هنا بمعنى: الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: {بَعْدَ الْإِيمانِ} ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الايمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة. والثاني: أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي يا فاسق، فنهوا عنه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثناؤه وصيته): الجوهري: "الصيت: الذكر الجميل الذي ينتشر في الناس، دون القبيح". قوله: (وفي قوله: {بَعْدَ الإيمَانِ} ثلاثة أوجه): الانتصاف: "أقرب الوجوه الثلاثة: أولها؛ بعد أن يصرف الذم إلى نفس الفسق، لأن الاسم هو المسمى والزمخشري جزم، لأن الاسم عنده التسمية، والوجه الثاني: يحمل فيه الاسم على التسمية صريحًا، والثالث: أن الفاسق غير مؤمن، والأول هو الجاري على قاعدة السنة". قوله: (بعد الكبرة): عن بعضهم: على فلان كبرة: إذا كبر وأسن، ويقال: فلان كبرة ولد أبويه_ بكسر الكاف_: إذا كان أكبرهم، يستوي فيه المذكر والمؤنث.

وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهى عن التنابز. والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة. [{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 12] يقال: جنبه الشر: إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولينن قال الله عز وجل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} [إبراهيم: 35]، ثم يقال في مطاوعه: اجتنب الشر، فتنقص المطاوعة مفعولًا. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن، وذلك البعض موصوف بالكثرة، ألا ترى إلى قوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والجملة على هذا التفسير): أي: على أن تفسير {بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} بما "أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي، يا فاسق": كالتعليل لقوله: {ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}، يعني: لا تشتموهم بهذه الألفاظ، لأنه قبيح. وعلى التفسير الأول والثالث: الجملة متعلقة بقوله: {ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}، على أن معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به، كما نص عليه فيما سبق، أي: لا تتصفوا بما أن سمع بكم سامع عابكم بسببه، وهو لوجهين: أحدهما: أن لا يكون ثمة انتقال من وصف إلى وصف، بل يكون جمعًا بينهما، كما قال: "أحدهما: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق"، واستشهد له بقوله: "بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة"، وثانيهما: أن يحصل الانتقال من وصف إلى وصف، وتحويلًا منه إليه، وهو أقرب إلى مذهبه، لأن الفسق والإيمان عنده لا يجتمعان، واستشهد له بقوله: "بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة". قوله: (ألا ترى إلى قوله: {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ}): تعليل للأمر بالاجتناب، يعني: يجب

فإن قلت: بين الفصل بين "كَثِير"، حيث جاء نكرة، وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب، من غير تبيين لذلك ولا تعيين، لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطًا بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنبًا، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر: كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء»، وعن الحسن: كنا في زمان الظن بالناس حرام، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت، وظنّ بالناس ما شئت. وعنه: لا حرمة لفاجر. وعنه: إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب. وقد روي: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يحمل التنكير في {كَثِيرًا} على "البعض"؛ لأن قوله: {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} تعليل للأمر بالاجتناب، والمطابقة بين العلة والمعلول واجبة. قوله: (مع استشعار): الجوهري: "استشعر فلان الخوف: أي: أضمره". قوله: (اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت): أي: اشتغل بخاصة نفسك، ولا تختلط بالناس، وكن على حذر منهم، لما ورد: "الحزم سوء الظن".

والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، ومنه قيل لعقوبته: الأثام؛ فعال منه، كالنكال والعذاب والوبال، قال: لقد فعلت هذي النّوى بي فعلة .... أصاب النّوى قبل الممات أثامها والهمزة فيه عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي: يكسرها بإحباطه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لقد فعلت) البيت: "أصاب النوى قبل الممات": أي: ممات النوى، أراد أن يدعو على النوى بأن لا يموت حتى يلقى جزاء ما فعل، أي: فعلت النوى في فعلة سيئة، ثم قال على سبيل الدعاء: أصاب النوى جزاءها، ويجوز أن يراد: ممات نفسه، أراد أن يدعو لنفسه بأن لا يموت حتى يرى ما يلحق بالنوى من الجزاء على فعله، فيتسلى بذلك. قوله: (والهمزة فيه عوض عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي: يكسرها): قال صاحب "الفرائد": "وثم" من باب "ضرب"، و"أثم" من باب "علم"، فمن أي وجه يلزم أن تكون الهمزة من الواو، وإنما مال بهذا الكلام إلى مذهبه". الجوهري: "الإثم: الذنب، وقد أثم الرجل_ بالكسر_ إثما ومأثمًا: إذا وقع في الإثم"، و"الوثم: الدق والكسر، ووثم يثم: أي: عدًا". عن بعضهم: الإثم والأثام: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، قال الله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]؛ أي: حملته على فعل ما يؤثمه، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]؛ أي: عذابًا، فسماه "أثامًا" لما كان منه، وكذلك تسمية النبات والشحم بندى لما كانا منه.

وقرئ: "ولا تحسسوا" بالحاء، والمعنيان متقاربان، يقال: تجسس الأمر: إذا تطلبه وبحث عنه؛ تفعل من الجس، كما أن التلمس -بمعنى: التطلب- من اللمس، لما في اللمس من الطلب، وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ}، والتحسس: التعرّف؛ من الحس، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس؛ بالحاء والجيم. والمراد: النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وعن مجاهد: خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستره الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب، فرفع صوته، حتى أسمع العواتق في خدورهنّ، قال: "يا معشر من آمن بلسانه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قيل لمشاعر الإنسان: الحواس؛ بالحاء والجيم): الراغب: "أصل الجس: مس العرق بنبضه للحكم به على الصحة والسقم، وهو أخص من الحس_ بفتح الحاء_، فإن الحس: تعرف ما يدركه الحس، والجس_ بالجيم_: تعرف حال ما من ذلك، ومن لفظ الجس اشتق: الجاسوس". قوله: (حتى أسمع العواتق): قال في "الفائق": "العاتق: الشابة أول ما أدركت، قال ابن الأعرابي: إنما سميت عاتقًا لأنها عتقت من الصبا، وبلغت أن تتزوج". قوله: (يا معشر من آمن بلسانه): روى أبو داود عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه". "تتبع الله": مشاكلة، أي: جازاه، نحو: كما تدين تدان.

ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته. وعن زيد بن وهب: قلنا لا بن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة ابن أبي معيط تقطر لحيته خمرًا؟ فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. غابه واغتابه: كغاله واغتاله، والغيبة: من الاغتياب، كالغيلة: من الاغتيال، وهو: ذكر السوء في الغيبة، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن زيد بن وهب) الحديث: أخرجه أيضًا أبو داود. قوله: (كغاله واغتاله): الراغب: "الغول: إهلاك الشيء من حيث لا يحس به، يقال: غاله واغتاله". قوله: (وهو: ذكر السوء في الغيبة): الراغب: "الغيبة: أن يذكر الإنسان [غيره] بما فيه من عيب من غير أن أحوج إلى ذكره، قال تعالى: {ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} ". وقال الشيخ محيي الدين النواوي: "الغيبة: كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم عاقل، وهو حرام". قوله: "ما أفهمت به غيرك": متناول للفظ الصريح والكناية والرمز والتعريض والكناية والإشارة بالعين واليد والرأس. قوله: (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة): الحديث مع تغيير يسير: أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة.

فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته»، وعن ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى "أحدكم"، والإشعار بأن أحدًا من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها: أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخًا، ومنها: أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتًا. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي. وانتصب {مَيْتًا} على الحال من "اللحم"، ويجوز أن ينتصب عن "الأخ"، وقرئ: "ميتًا"، ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحدًا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ}، معناه: فقد كرهتموه واستقرّ ذلك، وفيه معنى الشرط، أي: إن صحّ هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة، أي: فتحققت -بوجوب الإقرار عليكم، وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره؛ لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه- كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضًا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقد بهته): النهاية: "البهت: الكذب والافتراء، يقال: بهته يبهته". قوله: (وقرئ: "ميتًا"): بتشديد الياء: نافع، والباقون: بإسكانها. قوله: (ولما قررهم تعالى بأن أحدًا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ}: يعني: لما ضرب لهم ذلك المثل على أبلغ الوجوه، وصدره بهمزة التقرير، رتب عليه قوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ}؛ إيذانًا بتبكيتهم، وأنه لا يمكنهم من أن لا يجيبوا بقولهم: لا نحبه، وهو المراد من قوله: "يوجب الإقرار عليكم، وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره، لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه". ?

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وللاهتمام بشأن هذا المعنى أوقع اعتراضًا بين الفعل؛ أعني: "فتحققت"، وبين فاعله؛ أي: "كراهتكم"، فعند ذلك يقال لهم: "فكرهتموه"، تقريرًا لجوابهم، وتثبيتًا لكراهتهم واستقذارهم ذلك، وتمهيدًا لأن يعقب بقوله: "فليحقق أيضًا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين". ويؤيد هذا ما جاء في نسخة الإمام المغفور [له] نظام الدين الطوسي: {فَكَرِهْتُمُوهُ} معناه: فقد كرهتموه، واستقر ذلك، وفيه معنى الشرط، أي: أن صح هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة، أي: "فتحققت" إلى آخره. والفاء مثلها في قول الشاعر: قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا .... ثم القفول فقد جئنا خراسانا روى السيد ابن الشجري في "الأمالي": أن أبا علي ذكر في كتاب "التذكرة" أن المعنى: فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة واتقوا الله. فقوله: {واتَّقُوا اللَّهَ} عطف على قوله: "فاكرهوا"؛ لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60]، أي: فضرب فانفجرت، وقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} كلام مستأنف، وإنما دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الجواب، فكأنهم لما قالوا_ في جواب قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} _: لا، فقال: {فَكَرِهْتُمُوهُ}، أي: فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة. فإذن: المعنى على: فكما كرهتموه، وإن لم تكن"كما" مذكورة، كما أن قولهم: "ما تأتيني فتحدثني"، المعنى: ما تأتيني فكيف تحدثني؟ ! وإن لم تكن "كيف" مذكورة، وإنما هي مقدرة". ثم قال السيد: "هذا التقدير بعيد؛ لأنه قدر المحذوف موصولًا، وهو "ما" المصدرية، وحذف الموصول وإبقاء صلته رديء ضعيف، ولو قدر المحذوف مبتدأ لكان جيدًا، لأن حذف المبتدأ كثير، أي: فهذا كرهتموه، والجملة المقدرة مبتدئية، لا أمرية كما قدرها أبو علي، وإنما قدرها أمرية ليعطف عليها قوله: {واتَّقُوا اللَّهَ}، فإنها أمرية أيضًا، ولا حاجة إليها، لأن

وقرئ: "فكرهتموه"، أي: جبلتم على كراهته. فإن قلت: هلا عدّي بـ"إلى"، كما عدّي في قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجر: 7]، وأيهما القياس؟ قلت: القياس تعدّيه بنفسه، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه، تقول: كرهت الشيء، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول، وأما تعدّيه بـ"إلى" فتأوّل وإجراء لـ"كره" مجرى "بغض"، لأنّ "بغض" منقول من: بغض إليه الشيء، فهو بغيض إليه، كقولك: حب إليه الشيء، فهو حبيب إليه. والمبالغة في "التواب" للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوًا عنده بالتوبة، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط، لسعة كرمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {واتَّقُوا اللَّهَ} عطف على الجملة النهيية، وهي: {ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}، والعطف على المذكورة أولى من المقدرة، والإشارة في المبتدأ الذي قدرته_ وهو "هذا"_ موجهة إلى الأكل الذي وصفه الله، كأنه لما قدر أنهم قالوا: "لا"، في جواب قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}، قيل: فهذا كرهتموه، والغيبة مثله. فتأمل". وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "إنه تعالى لما نهى عن الغيبة شبهها بما هو مكروه من معتادهم، وهو أكل لحم المغتاب ميتًا، وأتى به على صفة الإنكار؛ تنبيها على أنه مما لا يفعلونه، ثم كان ذلك التنبيه سبيلًا لذكر تحقق الكراهة وثبوتها مسببًا عن هذا التشبيه الذي قصد به تأكيد كراهة ما نهي عنه، إذ به يتحقق توبيخهم في وقوعهم في الغيبة المشبهة بما يأبونه ويكرهونه". قوله: (بليغ في قبول التوبة): يعني: تواب: فعال؛ تقتضي الكثرة، وهي إما بحسب تعدد التائبين أو تعدد ذنوب كثيرة لتائب واحد، أو أنه إذا تاب عن ذنب واحد أغرق في العفو.

والمعنى: واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه، والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس: أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، ويسوّي لهما طعامهما، فنام عن شأنه يومًا، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إدامًا، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي شيء، فأخبرهما سلمان، فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميجة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحمًا، فقال: إنكما قد اغتبتما، فنزلت. [{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 13] {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} من آدم وحوّاء. وقيل: خلقنا كل واحد منكم من أبٍ وأمٍّ، فما منكم أحدٌ إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواءً بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب. والشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلى بئر سميجة): بالجيم على التصغير، ويروى: "سحيمة" بالحاء المهملة، قيل: هي بئر من آبار مكة، ولم أجدلها ذكرًا في الكتب المعتبرة. قوله: (خضرة اللحم): النهاية: "في الحديث: "أن الدنيا حلوة خضرة"، أي: غضة طرية ناعمة". قوله: (وهو يدلي): المغرب: "فلان يدلي إلى الميت بذكر، أي: يتصل، ودلاه من سطح بحبل، أي: أرسله، فتدلى".

والفخذ تجمع الفصائل؛ خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب؛ لأنّ القبائل تشعبت منها. وقرئ: "لتتعارفوا" و"لتعارفوا" بالإدغام، و"لتعرفوا"، أي: لتعلموا كيف تتناسبون، و"لتتعرفوا". والمعنى: أنّ الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره، ويكتسب الشرف والكرم عند الله، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}، وقرئ: "أنّ" بالفتح، كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل: لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"لتعرفوا"): قال ابن جني: "وهي قراءة ابن عباس، والمفعول محذوف، أي: لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه، كقوله: وما علم الإنسان إلا ليعلما أي: ليعلم ما علمته، أي: ليعلم ما يدعو إلى علم ما علمه، وما أعذب هذا الحذف، وما أغربه لمن يعرف مذهبهم". قوله: (ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره): يعني: فصل قوله: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} عما قبله ليكون الكلام الأول كالمورد للسؤال، وذلك أنه تعالى لما علل الخلق بالتعارف، على معنى: ليس التشعب والقبائل للتفاضل والتفاخر، بل لأن يعرف بعض

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه طاف يوم فتح مكة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «الحمد الله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقيّ هين على الله»، ثم قرأ الآية. وعنه عليه السلام: "من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله". وعن ابن عباس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخلق بعضًا، ويتميز شخص من شخص، فقيل: بأي شيء التفاخر؟ ومن الذي يستحق المأثرة والمفخرة؟ فقيل: من هو أتقى لله وأخشى له، ومن يكون عالمًا بالله وبصفاته. قال في "المرشد": "الوقف على {لِتَعَارَفُوا} تام، وقال أبو حاتم: ولا يجوز: لتعرفوا أن أكرمكم عن الله أتقاكم، لم يجعلهم شعوبًا وقبائل ليعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، وإنما جعلهم كذلك ليعرف بعضهم نسب بعض وقرابته". قوله: (أنه طاف يوم فتح مكة) الحديث: من رواية الترمذي عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال: يا أيها الناس، أن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان؛ برتقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} ". النهاية: "عبية الجاهلية: الكبر، وتضم عينها وتكسر، وهي "فعولة" أو" فعلية"، فإن كانت "فعولة" فهي من التعبية، لأن المتكبر ذو تلكف وتعبية، وإن كانت "فعلية" فهي من عياب الماء، وهو أوله وارتفاعه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "عبأت الجيش: هيأته، وعبية الجاهلية: ما هي مدخرة في أنفسهم من حميتهم المذكورة في قوله تعالى: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] "، قيل: كبرها؛ من عب البحر: إذا زخر. وفي معناه: ما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنسابكم هذه ليست بمسة على أحد، كلكم بنو آدم، طف الصاع بالصاع لم تملؤوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو تقوى، كفى بالرجل أن يكون بذيئا ً فاحشًا بخيلًا". النهاية: "أي: قريب بعضكم من بعض، بقال: هذا طف المكيال وطفافه وطفافه، أي: ما قرب من ملئه، وقيل: هو ما علا فوق رأسه، ويقال له أيضًا: طفاف بالضم، والمعنى: كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام، وشبههم في نقصانهم بالمكيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال، ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب، ولكن بالتقوى". الراغب: "كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، قال بعض العلماء: الكرم كالحرية، إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة، والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة، وقوله تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [فإنما كان كذلك] لأن الكرم

وعن يزيد بن شجرة: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة، فرأى غلامًا أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط؛ لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه رجل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة، ففقده يومًا، فسأل عنه صاحبه، فقال: محموم، فعاده، ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام، فقال: هو لما به، فجاءه وهو في ذمائه، فتولى غسله ودفنه، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم، فنزلت. [{قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌؤ 14] الإيمان: هو التصديق بالله مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام: الدخول في السلم، والخروج من أن يكون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأفعال المحمودة، وأكرمها ما يحصل به أشرف الوجوه، وأشرف الوجوه: ما يقصد به وجه الله، فمن قصد ذلك بمحاسن فعله فهو التقي، فإذن: أكرم الناس أتقاهم". قوله: (هو لما به): روي عن المصنف أنه قال: أي: هو متهيئ للموت الذي لاصق به، لا بدله منه. وقال غيره: أي: هو مملوك لما به، وهو مرض موته، والذماء: الحشاشة، وهي بقية الروح في المذبوح. قوله: (الإيمان: هو التصديق بالله مع الثقة): قال الزجاج: "الفرق بين المؤمن والمسلم: هو أن الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يسحقن الدم، فإذا كان مع ذلك اعتقاد وتصديق بالقلب، فصاحبه مؤمن مسلم، قال الله تعالى: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، أي: أولئك إذا قالوا: "مؤمنون" فهم الصادقون. وأما من أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدق، فهو الذي

حربًا للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب: فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت: ما وجه قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا}، والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: "قل: لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا"، أو "قل: لم تؤمنوا، ولكن أسلمتم"؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: "أسلمت"، لأن الإيمان لا بد في الشريعة أن يكون صاحبه صديقًا، لأن قولك "آمنت بكذا وكذا" معناه: صدق به". الراغب: "الإسلام في الشريعة ضربان: أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه عني بقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}. والثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] ". قوله: (حربًا للمؤمنين): أي: عدوًا، الجوهري: "أنا حرب لمن حاربني؛ أي: عدو". قوله: (والذي يقتضيه نظم الكلام): يعني: قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}: رد لقول الأعراب: "آمنا"، وظاهر ما تقتضيه كلمة الاستدراك أن يجابوا بقوله: "لا تقولوا: آمنا، ولكن قولوا: أسلمنا"، فيجاء بإثبات القول مع نفيه، أو بترك القول في القرينتين ويقال: "لم تؤمنوا، ولكن أسلمتم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب أن مقتضى كلمة الاستدراك حاصل من حيث المعنى اشتمال الكلام على فوائد جمة، أما قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} فتكذيب لدعوتهم ودفع لما انتسبوا إليه، يعني: ادعيتم بقولكم: "آمنا": أننا أحدثنا الإيمان، وهو كذب محض، لأنه ما صدر منك الإيمان قط، وقوله: {قُولُوا أَسْلَمْنَا}: أمر بالاعتراف بما أحدثوا من الانقياد ظاهرًا من غير مواطأة من القلب. ثم في كل من القرينتين عدول من أصل؛ أما الأولى: فإن الأصل أن يقال: "كذبتم"، أو "لا تقولوا: آمنا"، لتوافق قرينتها، فعدل من "كذبتم" إلى {لَّمْ تُؤْمِنُوا}؛ لئلا يلبسوا لمن يكافحهم به جلد النمر، على أن المطلوب حاصل بأبلغ وجه، لأن الآية التالية مقابلة لهذه، وفيها: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} تعريضًا بأن هؤلاء هم الكاذبون، على سبيل الحصر، ويحصل من ذلك ذمهم ومدح من يضادهم على سبيل البت والقطع، وهو المراد من قوله: "ورب تعريض لا يقاومه التصريح". وعدل من "لا تقولوا: آمنا" إلى ما عليه التلاوة، لنه لو قيل: "لا تقولوا: آمنا"، لا ستهجن من الشارع، لأنه لم يبعث إلا للدعوة إلى الإيمان، لا للنهي عنه، وإلى معناه ينظر قول الفرزدق: ما قال "لا" قط إلا في تشهده .... لولا التشهد لم ينطق بذاك فم وأما القرينة الثانية: فإنها أيضًا مشتملة على نكتة، لأن مقتضى الظاهر_ على ما جاء في السؤال_ أن يقال: "أسلمتم"، ليطابق: {لَّمْ تُؤْمِنُوا}، فعدل إلى: {قُولُوا أَسْلَمْنَا}؛ ليعلمهم أن اللائق بحالهم أن يقال لهم: "قولوا: أسلمنا"؛ ليؤذن بأن تلك الدعوى باطلة، وأنها بمجرد اللسان،

قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلًا، ودفع ما انتحلوه، فقيل: {قَلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}، وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل: كذبتم، ووضع {لَمْ تُؤْمِنُوا} -الذي هو نفي ما ادعوا إثباته- موضعه، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع "كذبتم" في قوله في صفة المخلصين: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، تعريضًا بأن هؤلاء هم الكاذبون، ورب تعريض لا يقاومه التصريح، واستغنى بالجملة التي هي {لَمْ تُؤْمِنُوا} عن أن يقال: "لا تقولوا: آمنا"؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهي عن القول بالإيمان، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى، ولم يقل: "ولكن أسلمتم"؛ ليكون خارجًا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: {آمَنَّا} كذلك، ولو قيل: "ولكن أسلمتم"، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به. فإن قلت: قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} بعد قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة. قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا} هو تكذيب دعواهم، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} توقيت لما أمروا به أن يقولوه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن القول قد يستعمل في الزعم، ولو قيل: "أسلمتم"، لكان خلوًا من هذه النكتة، وإليه الإشارة بقوله: "ولو قيل: ولكن أسلمتم، لكان خروجه في معرض التسليم لهم، والاعتداد بقوله". قال صاحب "النهاية: "وفي الحديث: "لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعتكف ورأى الأخبية في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: آلبر تقولون بهن"، أي: أتظنون وترون وترون أنهن أردن البر؟ "، أي: نساءه صلى الله عليه وسلم. قوله: (توقيت لما أمروا به): أي: تعيين وتبيين، المغرب: "الوقت: من الأزمنة المهمة، ثم استعمل في كل حد، ومنه قولهم: هل في ذلك وقت، أي: حد بين القليل والكثير، وقد اشتقوا منه، فقالوا: وقت الله الصلاة ووقتها؛ أي: بين وقتها وحدده".

كأنه قيل لهم: وَلكِنْ قُولُوا: "أَسْلَمْنا" حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم. لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قُولُوا}، وما في "لَمَّا" من معنى التوقع: دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. {لَا يَلِتْكُمْ} لا ينقصكم ولا يظلمكم، يقال: ألته السلطان حقه أشدّ الألت، وهي لغة غطفان، ولغة أسد وأهل الحجاز: لاته ليتًا، وحكى الأصمعي عن أمّ هشام السلولية أنها قالت: الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات، ولا تصمه الأصوات. وقرئ باللغتين: {لَا يَلِتْكُمْ}، و"لا يألتكم"، ونحوه في المعنى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}] الأنبياء: 47]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنه كلام واقع موقع الحال): تعليل لقوله: "توقيت لما أمروا به"، يعني: أن قوله: {ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} بمنزلة الحال المقيدة للمطلق، المعينة لمعنى قوله: {قُولُوا أَسْلَمْنَا}، لأن قوله: {ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أبين منه، ولذلك أوقع موضع "لما": "حين"، وجعله كالقيد لقوله: "قولوا: "أسلمنا"_ في قوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} _حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم". قوله: (دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد): قال المصنف: "لما: في المعنى التوقع، وهي في النفي نظيرة "قد" في الإثبات"، يعني: دخول الإيمان في قلوبكم متوقع، وأنتم الآن لستم من الإيمان على شيء، فلا تقولوا: آمنا. حاصل الجواب: أنه تكرير، لكنه مستقل بفائدة زائدة، لأنه علم من الأول نفي الإيمان عنهم، ومن الثاني نفيه مع توقيع حصوله. قوله: (الحمد لله الذي لا يفات): أي: لا يسبق، الأساس: "فاتني بكذا: سبقني وذهب به عني". قوله: (ولا تصمه الأصوات): أي: لا تجده أصم، يقال: أصممته، أي: وجدته أصم. قوله: (وقرئ باللغتين): قرأ أبو عمرو: "ولا يألتكم"؛ بهمزة ساكنه بعد الياء، وإذا خفف

ومعنى طاعة الله ورسوله: أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق، ويعقدوا قلوبهم على الإيمان، ويعملوا بمقتضياته، فان فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم، ووهب لهم مغفرته، وأنعم عليهم بجزيل ثوابه. وعن ابن عباس: أنّ نفرًا من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدبة، فأظهروا الشهادة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري، يريدون الصدقة ويمنون عليه، فنزلت. [{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 15] ارتاب: مطاوع "رابه"؛ إذا أوقعه في الشك مع التهمة. والمعنى: أنهم آمنوا، ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق معه. فإن قلت: ما معنى "ثم" ها هنا، وهي للتراخي، وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنًا للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين: أحدهما: أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر، فشككه، وقذف في قلبه ما يثلم يقينه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبدلها ألفًا، والباقون بغير همز ولا ألف: {لا يَلِتْكُم}. قال الواحدي: "لا يألتكم: من ألت يألت ألتكم: من ألت يألت ألتًا: إذا نقص، ويقال أيضًا: لات يليت ليتًا، بهذا المعنى". قوله: (بعد ثلج الصدر): الأساس: "ثلجت نفسه بكذا: بردت وسرت، والحمد لله على بلج الحق وثلج اليقين".

أو نظر هو نظرًا غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمرّ على ذلك راكبًا رأسه لا يطلب له مخرجًا، فوصف. المؤمنون حقًّا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: {ثُمَّ اسْتَقامُوا} [فصلت: 30]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (راكبًا رأسه كالدابة التي يمر بها السير، ولا تشعر أين المقصد، وإليه الإشارة بقوله: "لا يطلب له مخرجًا". قوله: (ونظيره قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}): وعن بعضهم: "ذكر {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} في "حم السجدة" مثالًا لتراخي الرتبة، والوجهان في تراخي الزمان، فلا يناسبه". قلت: الوجه الأول نظيره قطعًا؛ لأن قوله هنا: "فوصف المؤمنون حقًا بالبعد عن هذه الموبقات"، أي: المذكورات من قوله: "ربما اعترضه الشيطان" إلى آخره، وقوله هناك: "ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته" متقاربان معنى، فدل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} على أنهم من الذين وجد منهم الإيمان، ومثل هذا الإيمان قد لا يؤمن فيه من اعتراض شيطان، وإضلال مضل _كقوله: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ} [فصلت: 30]_، فعقب بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، ليؤذن بأنهم في الرسوخ كالجبال، لا يزلزلهم اعتراض معترض ولا إضلال مضل، كقوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]. وأما الوجه الثاني: فمرجعه إلى الأول في أن الثاني أعلى رتبة من الأول، لأنه حينئذ من باب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، وقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، يدل عليه قوله في السؤال: "عدم الارتياب يجب أن يكون مقارنًا للإيمان، لأنه وصف فيه"، وقال هنا: "وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر"، وكان من حق الظاهر أن

والثاني: أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدّم الايمان؛ تنبيهًا على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي؛ إشعارًا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة، غضًّا جديدًا. {وَجاهَدُوا} يجوز أن يكون المجاهد منويًا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجاء بالواو - كما في المثالين -، ولكن عدل إلى كلمة التراخي للإشعار باستقراره غضًا طريًا مع طول الزمان، ما اعترضه شيطان، ولا اعتراه مضل. والفرق بين الاستمرارين هو أن الاستمرار_ على الأول_ استمرار المجموع، نحو: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، أي: استمر إيمانهم مع عدم الارتياب، وعلى الثاني: الاستمرار معتبر في الجزء الأخير، ولذلك قال: "غضًا طريًا"، وإذا كان عدم الارتياب_ كما قال في السؤال_ "مقارنًا للإيمان، لأنه وصف فيه""، كيف يتصور تراخيه عن الإيمان بحسب الزمان حقيقة؟ ! قوله: (يجوز أن يكون المجاهد منويًا): "المجاهد": بفتح الهاء. اعلم أن هاهنا ألفاظًا ثلاثة: أحدهما: {وَجَاهَدُوا}، وهو مطلق يجوز أن يقصد به العموم؛ ليتناول جميع ما يصح إطلاقه عليه، وأن يترك على إطلاقه، فلا ينوى له المجاهد؛ ليفيد أنهم يوجدون تلك الحقيقة، ويستفرغون وسعهم وجهدهم عنها. وثانيها: قوله: {وَأَنْفُسِهِمْ}، وقد علق به {فِي سَبِيلِ اللهِ}، وهو أيضًا يحتمل الغزو، وأن يقصد به العموم في العبادات، لأنها كلها في سبيله وجهته.

وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون "جاهد" مبالغة في: جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس: الغزو، وأن يتناول العبادات بأجمعها، وبالمجاهدة بالمال: نحو ما صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله. {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين صدقوا في قولهم: آمنا، ولم يكذبوا، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: قوله: {بِأَمْوَالِهِمْ}، وحكمه حكم "أنفسهم". وقد اعتبر المصنف كل ذلك في تقريره. فإن قلت: في التنزيل: {بِأَمْوَالِهِمْ} مقدم على" أنفسهم"، فلم خالف؟ قلت: ليؤذن بأن المجاهدة بالنفس أعلى رتبة من المجاهدة بالمال وحده، وأصل في الاعتبار، وإنما قدم في التنزيل تعريضًا بالإنسان وحرصه على جمع المال، فإن الحريص يبذل مهجته في تحصيل المال، وأن المال شقيق الروح، وهو العيار في الإخلاص، لأن المنافق قد يغزو للأغراض، ولكن لا يتسهل له بذل المال. قوله: (نحو ما صنع عثمان رضي الله عنه جيش العسرة): روى الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عبد الرحمن بن سمرة قال: "جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه، حين جهز جيش العسرة، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها بيده، وقال: ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارًا". قوله: (يتحامل فيها): في "النهاية": "تحاملت الشيء: تكلفته على مشقة".

كما كذب أعراب بني أسد، أو: هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات. [{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 16] يقال: ما علمت بقدومك، أي: ما شعرت به ولا أحطت به، ومنه قوله: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} وفيه تجهيل لهم. [{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} 17 - 18] يقال: منّ عليه بيد أسداها إليه، كقولك: أنعم عليه، وأفضل عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: هم الذين إيمانهم إيمان صدق): يعني: من الجائز أن يحمل الكلام على مذهب من يجعل الضمير فصلًا، ولا يرى له محلًا، فيفيد الاختصاص وأن هؤلاء لم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد، يعني: في قولهم: "آمنا"، أو على قول من يرى له محلًا، فيفيد تقوي الحكم، وأنهم آمنوا إيمان صدق وجد وثبات. والأول أوجه لما سبق أن قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} تعريض، وأنه هو المنبه على أن قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} وضع موضع "كذبتم". قوله: (وفيه تجهيل لهم): عن بعضهم: أي: أتجعلون الله محيطًا بدينكم، فيعلم ظاهره وباطنه وتفصيله، وفيه تهكم بهم، ولا يكو معناه: أتعلمون الله دينكم، لأن معنى ذلك: أتجعلون الله عالمًا بعد الجهل. يريد: أن الباء في {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ليست بزائدة، بل هي لتضمين العلم معنى الإحاطة.

والمنة: النعمة التي لا يستثيب مسديها. من يزلها إليه، واشتقاقها من "المنّ" الذي هو القطع، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة، ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعامًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مسديها): النهاية: "في الحديث: "من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه"، أسدى وأولى وأعطى: يقال: أسديت إليه معروفًا أسدي إسداء". قوله: (من يزلها إليه): النهاية: "في الحديث: "من أزلت إليه نعمة فليشكرها"، أي: أسديت إليه وأعطيها، وأصلها من الزليل، وهو انتقال الجسم من مكان إلى مكان، فاستعير لانتقال النعمة من المنعم إلى المنعم عليه، يقال: زلت منه نعمة، وأزلها إليه". قوله: (واشتقاقها من المن): الراغب: "المن: ما يوزن به، والمنة: النعمة الثقيلة، وذلك على وجهين: أحدهما: بالفعل، فيقال: من عليه؛ إذا أثقله بالنعمة، قال تعالى: {يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا الله تعالى. والثاني: بالقول: وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، قيل: وإذا كفرت النعمة حسنت المنة. وقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ}: فالمنة منهم بالقول، ومنه الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم كما ذكر. وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}: قيل: غير معدود، كما قال: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقيل: غير مقطوع ولا منقوص. ومنه: المنون؛ للمنية، لأنها تنقص العدد، وتقطع المدد، وقيل: المنة بالقول من

وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلامًا، ونفى أن يكون -كما زعموا- إيمانًا، فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام: إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديرًا بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له: "إسلام"، فقل لهم: لا تعتدوّا عليّ إسلامكم، أي: حدثكم المسمى "إسلامًا" عندي لا "إيمانًا"، ثم قال: بل الله يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان، على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له، إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة "الإسلام" إليهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا، لأنها تقطع النعمة، وتقتضي قطع الشكر. قوله: (وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة): وبيانه: أن الأعراب لما قدموا المدينة، وأظهروا الشهادة، وكانوا يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمنون عليه صلوات الله عليه بقولهم: "آمنا"، وساقوا الكلام مساق الإخبار عن إحداث الإيمان ليكون في معرض الامتنان، فأمر الله سبحانه وتعالى حبيبه صلوات الله عليه أن يجيب عن إحداث الإيمان، بقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}، ثم نبهه على مكان الامتنان بقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا}، وأمره بأن يجيب عنه بقوله: {قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ}، فوضع موضع: "ما ليس جديرًا بالاعتداد". قوله: (إسلامكم): والاستثناء في قوله: "إلا أنكم تزعمون" منقطع. قوله: (وفي إضافة "الإسلام" إليهم): يعني: معنى إضافة "الإسلام" إليهم: أنه الإسلام الذي تعورف واشتهر من أمثالهم، وما يليق أن ينسب إليهم. ومعنى إيراد "الإيمان" غير مضاف إليهم، بل محلى بلام التعريف: أنه الإيمان الكامل، وما يقال له عند الله وعند الموحدين: إنه إيمان.

وإيراد "الإيمان" غير مضاف: ما لا يخفى على المتأمل، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان، فلله المنة عليكم. وقرئ: "إن هداكم"، بكسر الهمزة، وفي قراءة ابن مسعود: "إذ هداكم". وقرئ: {تَعْمَلُونَ}، بالتاء والياء، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعني: أنه عزّ وجل يعلم كل مستتر في العالم، ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، ولا يظهر على صدقكم وكذبكم؟ ! وذلك أنّ حاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقريب من هذا البحث ما يقال في قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]، أي: الذي يطلب منكم طاعة معروفة فعلًا، أو طاعتكم طاعة معروفة قولًا. قوله: (قرئ: {تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء): ابن كثير: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. قوله: (ولا يظهر على صدقكم): أي: لا يطلع الله. قوله: (أن حاله): الضمير لله عز وجل، والأولى والأقرب إلى الأدب: أن شأنه عز وجل، لقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} [الرحمن: 29]. تمت السورة حامدًا لله تعالى، ومصليًا على رسوله. * * *

سورة ق

سورة ق مكية، وهي خمس وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} 1 - 3] الكلام في {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا} نحوه في {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 1 - 2] سواءً بسواء، لالتقائهما في أسلوب واحد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة ق مكية، وهي خمس وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (لالتقائهما في الأسلوب واحد): وذلك أن عطف" القرآن" على {ق} نحو عطف {وَالْقُرْآنِ} على {ص} [ص: 1] في أسلوب التجريد، نحو: مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة، و {المَجِيدِ} هنا نحو {ذِي الذِّكْرِ}، لأن المراد بالذكر الشرف والشهرة، وقول الكافرين: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}، وتعجبهم من مجيء منذر منهم ومن جنسهم: كان من عزتهم وشقاقهم، قال المصنف: "كأنه قال: أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز، ثم

و {المجِيدِ}: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب، ومن أحاط علمًا بمعانيه، وعمل بما فيه؛ مجد عند الله وعند الناس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق، {وَشِقَاقٍ} لله ورسوله". فكذلك المعنى: أقسمت بـ {ق والْقُرْآنِ المَجِيدِ} إنه لمعجز، ثم قال: بل عجب الكفار من أن جاءهم بهذا الكتاب المعجز واحد منهم، فتعززوا لذلك عن الإذعان للحق وشاقوا لله ورسوله. الراغب: "بل: هاهنا لتصحيح الأول وإبطال الثاني، أي: ليس امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد للقرآن، ولكن لجهلهم، ونبه بقوله: {بَلْ عَجِبُوا} على جهلهم، لأن التعجب مش الشيء يقتضي الجهل بسببه". قوله: (و {المَجِيدِ}: ذو المجد والشرف): النهاية: "في أسماء الله تعالى: المجيد والماجد، والمجد في كلامهم: الشرف الواسع، ورجل ماجد: مفضال كثير الخير شريف، والمجيد: فعيل منه للمبالغة، وقيل: هو الكريم الفعال، وقيل: إذا قارن شرف الذات حسن الفعال سمي مجدًا". الراغب: "المجد: السعة في الكرم والجلالة، يقال: مجد يمجد مجدًا ومجادة وأصل المجد من قولهم: مجدت الإبل: إذا حصلت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، والتمجيد من العبد لله تعالى: بالقول وذكر الصفات الحسنة، ومن الله للعبد: بإعطائه الفضل". وقلت: من اهتدى بهديه، واعتصم به، وعمل بما فيه، وتدبر معانيه: مجد عند الله، روينا عن مسلم وأحمد بن حنبل والدارمي عن عامر بن واثلة: أن عمر رضي الله عنه سأل نافع

أو هو بسبب من الله المجيد، فجاز اتصافه بصفته. قوله: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحًا لقومه مترفرفًا عليهم، خائفًا أن ينالهم سوء، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن الحارث، وكان استعمله على أهل مكة: من استعملت على أهل البوادي؟ قال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: أستخلفت عليهم مولى؟ ! قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، قال عمر رضي الله عنه: أما أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين". وعن الدرامي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله أهلين من خلقه، يا رسول الله، من هم؟ قال: أهل القرآن": زاد ابن ماجه: "أهل الله وخاصته". فعلى هذا: وصف القرآن بالمجيد باعتبار عامله على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم، أو سمي مجيدًا لأن المتكلم به مجيد، فوصف بصفة من هو بسببه على الإسناد المجازي، نخو قوله: {يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2]. قوله: (أو هو بسبب من الله): قيل: الباء في "بسبب" للملابسة، وكل ما يربط به شيء بشيء أو يجعل متعلقًا به منتسبًا إليه: سمي سببًا، ومن في "من الله" اتصالية. قوله: ({بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم}): الضمير في {عَجِبُوا} للكافرين، وإن لم يجر لهم ذكر، فإن قوله: {فَقَالَ الكَافِرُونَ} جار مجرى التفسير. قوله: (مترفرفًا عليهم): الأساس: "ذهب من كان يحفه ويرفه، أي: يضمه ويحبه ويشفق عليه، من: يرف ولده أو حبيبه، وبات يرف شفتيها: يرشفهما".

ويحل بهم مكروه، وإذا علم أنّ مخوفًا أظلهم، لزمه أن ينذرهم ويحذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه، وإقرارهم بالنشأة الأولى، ومع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء. ثم عوّل على أحد الإنكارين بقوله: {فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذا مِتْنا}، دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم): عطف على قوله: "إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب": أراد أن قوله: {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} دل على معنيين: على معنى المنذر به، وهو البعث والرجع، كما سيجيء في كلامه أن عامل الظرف"ما دل عليه المنذر من المنذر به"، وهو البعث، وعلى من قام به الإنذار، وهو الرسول. ولما كان أحد المنكرين_ وهو إنكار البعث_ أعظمهما، عول الكلام عليه، وقال: {فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}، فوضع {الكَافِرُونَ} موضع الضمير؛ إشعارًا بعنادهم، أي: هذا الذي تنذر به من البعث والرجع شيء عجيب، وهو المراد من قوله: "و {هَذَا} إشارة إلى الرجع"، أي: الرجع المفهوم من قوله: {مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}، كما تقرر. ويؤيده أيضًا قوله بعد هذا: "استبعادًا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث". ثم قرروا ذلك مزيدًا للكشف والبيان بقولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا}، لأن معناه: أحين نموت ونبلى نرجع. فحينئذ يحسن الوقف عند قوله: {وكُنَّا تُرَابًا} فيكون قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} هو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى؛ ردًا لقوهم ذلك. قال القاضي: "حكى تعجبهم مبهمًا، ثم فسره بما بعده"، ولأنه أدخل في الإنكار؛ إذ الأول استبعاد، والثاني استقصار لقدرة الله تعالى.

ووضع {الْكَافِرُونَ} موضع الضمير؛ للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم. و{هَذَا} إشارة إلى "الرجع"، و"إذا" منصوب بمضمر، معناه: أحين نموت ونبلى نرجع؟ {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} مستبعد مستنكر، كقولك: هذا قول بعيد، وقد أبعد فلان في قوله، ومعناه: بعيد من الوهم والعادة. ويجوز أن يكون "الرجع" بمعنى: المرجوع، وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى؛ استبعادًا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون"الرجع" بمعنى: المرجوع): أي: قال الله تعالى جوابًا لقولهم وردًا لزعمهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، بمعنى: ما يرجع إليه حاصل كلامهم وماله؛ بعيد. وعن بعضهم: قوله: "وهو الجواب"، أي: الجواب الذي جاء به الكفار جواب بعيد، والجواب هو قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا} فإنهم إنما قالوا ذلك جوابًا لقول المسلمين: إنا نبعث ونرجع بعد الموت. وفيه نظر؛ لأنه قال: "وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى"، ولا ارتياب أن قوله: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا} ليس من كلام الله تعالى، بل هو داخل في حيز قولهم: {فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا}، وهو أحد الإنكارين، كما علم من كلامه. ثم إن. قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}: أن كان تتمة لكلامهم لم يجز الوقف على {تُرَابًا}، وإن كان من كلام الله جوابًا عن قولهم جاز الوقف لاختلاف القائلين. وفي"المرشد": "الوقف الكافي: {وكُنَّا تُرَابًا}، والتمام: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ". وقال الزجاج: "جواب القسم محذوف، يدل عليه: {أَئِذَا مِتْنَا}، المعنى: ق والقرآن المجيد إنكم مبعوثون، فعجبوا، فقالوا: أإذا متنا، أي: أنبعث إذا متنا؟ ويجوز أن يكون الجواب:

وقرئ: "إذا متنا"، على لفظ الخبر، ومعناه: إذا متنا بعد أن نرجع، والدال عليه {ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}. فإن قلت: فما ناصب الظرف إذا كان "الرجع" بمعنى: المرجوع؟ قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث. [{قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ} 4] {قَدْ عَلِمْنا} ردّ لاستبعادهم الرجع، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكله من لحومهم وعظامهم، كان قادرًا على رجعهم أحياء كما كانوا. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {قَدْ عَلِمْنَا}، أي: لقد علمنا، وحذف اللام لأن ما قبلها عوض منها، كما قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 1، 9] ". قوله: (فما ناصب الظرف إذا كان "الرجع" بمعنى: المرجوع؟ ): يعني: إذا كان "الرجع" بمعنى المصدر، يصح أن يكون دالًا على عامل الظرف، لأن كليهما من كلام القوم، أي: أنبعث إذا متنا؟ كما قدر الزجاج، وإذا كان بمعنى: المرجوع، والمراد به جوابهم، وهو من كلام الله، كيف يصح أن يكون دالا على العامل؟ ! قوله: (عجب الذنب): روينا عن البخاري ومسلم وأبي دواد والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظيم واحد، وهو عجب الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة". النهاية: "العجب _بالسكون_: العظم الذي في أسفل الصلب، وهو العسيب من الدواب".

وعن السدي: {ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} ما يموت فيدفن في الأرض منهم، {كِتابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين ومن التغير، وهو اللوح المحفوظ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه. [{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} 5] {بَلْ كَذَّبُوا} إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أوّل وهلة من غير تفكر ولا تدبر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بما هو أفظع من تعجبهم): أشار إلى أن في الكلام ترقيًا من الأدنى إلى الأغلظ، وذلك أنه تعالى لما تضمن قوله: {مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} معنى المنذر به والرسول، وعول على أحدهما، وقدمه على الآخر، ورده أبلغ رد، جاء بالآخر، وأضرب عما أثبت من تعجبهم بما هو أفظع من ذلك الإضراب؛ لكونه أنكر من الأول. ويمكن أن يقال: أن المراد بـ"لحق" كما قال بعده: "الإخبار بالبعث"، فيكون المضرب عنه قوله: {فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}، أي: دع قولهم ذلك، فإن هاهنا ما هو أفظع منه، وهو تكذيبهم الحق الذي ما خلق السماوات والأرض إلا له، وهو جزاء المكلفين على أعمالهم، كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4]. ويعضده تعقيبه بقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله: {كَذَلِكَ الخُرُوجُ}. ويجوز أن يكون المراد ب"الحق": القرآن، ويكون المضرب عنه {ق والْقُرْآنِ المَجِيدِ}. قوله: (في أول وهلة): النهاية: "في أول شيء، والوهلة: المرة من الفزع، أي: لقيته أول فزعتها بلقاء إنسان"، هذه الوهلة مستفادة من كلمة {لَمَّا}.

{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مضطرب -يقال: مرج الخاتم في أصبعه وجرج-، فيقولون تارة: شاعر، وتارة: ساحر، وتارة: كاهن، لا يثبتون على شيء واحد: وقرئ: "لما جاءهم" بكسر اللام، و"ما" المصدرية، واللام هي التي في قولهم: لخمس خلون، أي: عند مجيئه إياهم، وقيل: "الْحَقِّ": القرآن، وقيل: الإخبار بالبعث. [{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ} 6] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم، {بَنَيْناها} رفعناها بغير عمد، {مِنْ فُرُوجٍ} من فتوق، يعني: أنها ملساء سليمة من العيوب، لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل، كقوله: {هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]. [{وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 7 - 8] {مَدَدْناها} دحوناها، {رَواسِيَ} جبالًا ثوابت لولا هي لتكفأت، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} من كل صنف {بَهِيجٍ} يبتهج به لحسنه. {تَبْصِرَةً وَذِكْرى} لتبصر به ونذكر كل {عَبْدٍ مُنِيبٍ} راجع إلى ربه، مفكر في بدائع خلقه. وقرئ: "تبصرة وذكرى" بالرفع، أي: خلقها تبصرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتكفأت): النهاية: "كفأت الإناء وأكفأته: إذا كببته، وإذا أملته". قوله: (أي: خلقها تبصرة): يعني: هي خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو البقاء: "النصب مفعول له أو حال من المفعول له، أي: تبصيرًا، أو مصدر، أي: بصرناهم تبصرة". وقال القاضي: " {تَبْصِرَةً وذِكْرَى} علتان للأفعال المذكورة معنى، وإن انتصبا عن الفعل الأخير".

[{وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ} 9 - 11] {ماءً مُبارَكًا} كثير المنافع، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. {باسِقاتٍ} طوالًا في السماء: وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باصقات" بإبدال السين صادًا لأجل القاف، {نَضِيدٌ} منضود بعضه فوق بعض، إما أن يراد: كثرة الطلع وتراكمه، أو كثرة ما فيه من الثمر. {رِزْقًا} على: أنبتناها رزقًا، لأنّ الإنبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له، أي: أنبتناها لنرزقهم، {كَذلِكَ الْخُرُوجُ} كما حييت هذه البلدة الميتة، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم، والكاف في محل الرفع على الابتداء. [{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ * وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} 12 - 14] أراد بفرعون: قومه، كقوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ} [ينس: 83]، لأنّ المعطوف عليه "قوم نوح"، والمعطوفات جماعات. {كُلٌّ} يجوز أن يراد به: كل واحد منهم، وأن يراد: جميعهم، إلا أنه وحد الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى، {فَحَقَّ وَعِيدِ} فوجب وحل وعيدي، وهو كلمة العذاب، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد لهم. [{أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 15] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والكاف في محل الرفع على الابتداء): روي عن المصنف رحمه الله: {كَذَلِكَ} الخبر، وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه، وهو أن يقال: "ذلك الخروج" مبتدأ وخبر على تأويل: أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف كـ"مثل" في: مثل زيد أخوك.

عيي بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله، والهمزة للإنكار. والمعنى: أنا لم نعجز -كما علموا- عن الخلق الأول، حتى نعجز عن الثاني، ثم قال: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أي: في خلط وشبهة، قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم، ومنه قول علي رضي الله عنه: يا حار، إنه لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله. ولبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك القياس الصحيح: أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. فإن قلت: لم نكر "الخلق الجديد"، وهلا عرّف كما عرّف "الخلق الأول"؟ قلت: قصد في تنكيره إلى: خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد، حق من سمع به أن يهتم به ويخاف، ويبحث عنه، ولا يقعد على لبس في مثله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قصد في تنكيره إلى: خلق جديد له شأن عظيم): الانتصاف: "كلام الزمخشري في هذا المقام لا ينتظم، ولعله ضل في النسخ، ومراده ثلاثة أسئلة: لم عرف "الخلق الأول"، ونكر "اللبس" و"الخلق الجديد"؟ واعلم أنه يؤتى مرة بالتنكير للتفخيم؛ لما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يحاط به معرفة، ومرة يقصد به تقليل المنكر، فتنكير "اللبس" للتعظيم، كأنه قال: في لبس أي لبس، وتنكير" الخلق الجديد" للتقليل والتهوين لأمره بالنسبة إلى "الخلق الأول"، أو يكون للتفخيم، كأنه قيل: هو أعظم من أيكون ملتبسًا عليه، فلعل إشارة الزمخشري إلى هذا". وقلت: قد سلك المصنف مسلكًا وعرًا، لأنه ذهب إلى أن قوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} دل على أنه لزم من إنكارهم الإعادة إنكار الأمر المقرر، وهو العلم بالخلق الأول، ثم دل الإضراب عنه أن ليس ذلك الإنكار مما يلزم منه إنكار الخلق الأول، لأنه لبس من الشيطان،

[{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 16] الوسوسة: الصوت الخفي، ومنها: وسواس الحلي، ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قولك: صوت بكذا وهمس به، ويجوز أن تكون للتعدية، والضمير للإنسان، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخلط وحيرة منهم، وكان من حق الظاهر أن يقال: إنهم لا ينكرون الخلق الأول، بل هم في لبس من الخلق الثاني، فوضع موضعه ما يقوي شبهتهم واستبعادهم من قوله: "جديد"، ونكره تنكير تعظيم لينبه على أنه خلق جديد له شأن عظيم، ولذلك قولوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7]، {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]، ولمثل هذا ينبغي أن يهتم ويخاف منه ويبحث. والحاصل: أن الخلق الجديد بالنسبة إليهم أمر عظيم، وبالنسبة إلى الله أسهل وأهون، وكان الواجب عليهم إزالة تلك الشبهة بالقياس الصحيح، فهم ما بحثوا عن ذلك، وداموا على ما كانوا عليه، فوقعوا في تلك الورطة. وأما قضية النظم: فإن الفاء في {أَفَعَيِينَا} عطف الجملة على جملة قوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ}، والهمزة دخلت بين المعطوفين لمزيد الإنكار، والدليل الأول: آفاقي، والثاني: أنفسي، كأنه قيل: أفلم ينظروا أنا لم نعجز عن خلق السماوات والأرض، فيعلموا أن خلق أمثالهم أسهل على اعتقادهم، كما تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، ثم قيل: ألم يعلموا أنا لم نعجز عن الخلق الأول، وهو الإخراج عن العدم المحض، ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}. قوله: (والباء مثلها في قولك: صوت بكذا): أي: الباء صلة، كما تقول: ينطق به، وفي الكواشي: ونعلم ما تحدثه نفسه، والباء زائدة.

أي: ما تجعله موسوسًا، و {مَا} مصدرية، لأنهم يقولون: حدّث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه، قال: وأكذب النّفس إذا حدّثتها {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} مجاز، والمراد: قرب علمه منه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ما تجعله_ يعني: ما تجعل نفسه_ موسوسًا): أي: ويعلم الله جعل النفس الإنسان موسوسًا. "ما": على الأول: موصولة، والضمير في {بِهِ} راجع إلى "ما"، أي الشيء الذي توسوس به نفسه، وعلى الثاني: مصدر، والضمير في {بِهِ} للإنسان. وفي نسخة: "موسوسًا" بفتح الواو، أي: موسوسًا به، فحذف "به". قوله: (لأنهم يقولون: حدث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه): وهو نعليل لتصحيح القول بأن الضمير للإنسان، فجعل الإنسان مع نفسه_ أي: ذاته_ شخصين تجري بينهما مكالمة ومحادثة، تارة هو يحدثها، وأخرى هي تحدثه. قال في قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]: "وأن يراد حقيقة المخادعة، أي: وهم في ذلم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدثم بالأماني"، وقال في آخر: "المراد بالأنفس: ذواتهم". قوله: (واكذب النفس إذا حدثتها): تمامه: إن صدق النفس يزري بالأمل قال الميداني: "المعنى: لا تحدث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبطك".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال غيره: مثله قول الآخر: وإذا صدقت النفس لم تترك لها .... أملًا وتأمل ما اشتهى المكذوب وبعده: غير أن لا تكذبنها في التقى .... واخزها بالبر لله الأجل وقال الأصمعي: هو مأخوذ من قول لبيد: وإذا هممت بأمر شر فاتئد .... وإذا هممت بأمر خير فافعل قال الميداني: "سئل بشار: أي بيت قالته العرب أشعر؟ قال: أن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد، لكن أحسن الشاعر في قوله: واكذب النفس إذا حدثتها". وقال الآخر: وللنفوس وإن كانت على وجل .... من المنية آمال تقويها والمرء. يبسطها والدهر يقبضها .... والنفس تنشرها والموت يطويها وقيل: الأمل رحمة من الله، ولولا ذلك لم غرس غارس شجرًا، ولا أرضعت مرضعة ولدًا.

وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقًا لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، وقد جل عن الأمكنة، و {حَبْلِ الوَرِيدِ}: مثل في فرط القرب، كقولهم: هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار، وقال ذو الرمة: والموت أدنى لي من الوريد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأنه يتعلق بمعلومه منه): الضمير في "أنه" لعلمه تعالى، وفي "معلومه" لله تعالى، وفي "منه" للإنسان. قوله: (فكأن ذاته قريبة منه): قال القاضي: "أي: ونحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه {مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} تجوز بقرب الذات لقرب العلم، لأنه موجبه". قوله: (هو مني مقعد القابلة): وذلك إذا لصق به من بين يديه، الشيء أن كان بعيدًا قالوا: هو مني مناط الثريًا، وإن كان قريبًا قالوا: هو مني مقعد القابلة ومعقد الإزار، وإن كان وسطًا قالوا: هو منك فوق اليد، وبسطة الرمح، وغلوة الرامي، وعدوة الفرس. قوله: (والموت أدنى لي من الوريد): قيل: أوله: هل أغدون في عيشة رغيد وعن بعضهم: في "ديوانه": ما دون وقت الأجل المعدود .... نقص ولا في الظمء من مزيد موعود رب صادق الموعود .... والله أدنى لي من الوريد والموت يلقى أنفس الشهود

والحبل: العرق، شبه بواحد الحبال، ألا ترى إلى قوله: كأن وريديه رشاءا خلب والوريدان: عرقان مكتنفان لصفحتى العنق في مقدمهما متصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه، وقيل: سمي "وريدًا" لأنّ الروح ترده. فإن قلت: ما وجه إضافة "الحبل" إلى "الوريد"، والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن تكون الاضافة للبيان، كقولهم: بعير سانية. والثاني: أن يراد حبل العاتق، فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق؛ لاجتماعهما في عضو واحد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشهود: الحضور، والظمء_ بالظاء والهمز_: مدة الأجل، والأصل: ما بين الشريين. قوله: (كأن وريديه رشاءا خلب): الرشاء_ بالمد_: حبل البئر، والخلب_ بالتسكين_: الليف، جعل"كأن" بعد التخفيف عاملة، كما كان قبله، ونصب "وريديه". الراغب: "الوريد: عرق يتصل بالكيد والقلب، وفيه مجاري الروح، قال تعالى: {ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} أي: روحه". قوله: (بعير سانية): وهي الناقة التي يستقى عليها، وهي الناضحة أيضًا، وقيل في المثل: "سير السواني سفر لا ينقطع"، وفي بعض النسخ: "بعير سائبة"، وهي الناقة التي تسيب في الجاهلية. قوله: (لاجتماعهما في عضو واحد): أي: اجتماع الحبل والوريد في صفحة العنق، وذلك أن هذا الحبل هو الذي امتد من العاتق إلى صفحة العنق، فيضاف إلى الوريد لاتصاله به، كما يضاف إلى العاتق.

كما لو قيل: حبل العلياء مثلًا. [{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 17 - 18] {إِذْ} منصوب بـ {أَقْرَبُ}، وساغ ذلك لأنّ المعاني تعمل في الظرف متقدّمة ومتأخرة، والمعنى: أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه، وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به؛ إيذانًا بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة اقتضت ذلك، وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله: من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك، لا تستحي من الله، ولا منهما». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حبل العلباء): النهاية: "العلباء: عصب في العنق يأخذ إلى الكاهل، وهما علبا وان يمينًا وشمالًا، وما بينهما منبت عرف الفرس" قوله: (لأن المعاني تعمل في الظرف): قيل: إن "أفعل" لا يعمل في الظاهر، لكن فيه معنى الفعل، وذلك القدر يكفي في أن يعمل في الظرف، فإن معنى قولهم: "إنه لا يعمل": لا يعمل في الفاعل والمفعول الظاهرين، والمراد من قولهم: "المعاني": ما فيه معنى الفعل، كاسم الإشارة والجار والمجرور، فألحق اسم التفضيل بهما لضعفه في العمل. قوله: (إيذانًا): مفعول له، ومعلله محذوف، أي: قال تعالى ذلك للإيذان. قوله: (ثنيتيك): وهما السنان المتقدمان.

ويجوز أن يكون تلقي الملكين بيانًا للقرب، يعني: ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه، إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به، والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة. والقعيد: المقاعد، كالجليس بمعنى: المجالس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقوله: كنت منه ووالدي .... بريئًا {رَقِيبٌ} ملك يرقب عمله، {عَتِيدٌ} حاضر، واختلف فيما يكتب الملكان: فقيل: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقيل: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به، ويدل عليه قوله عليه السلام: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون تلقي الملكين بيانًا للقرب): أي: تعليلًا له، كما قال صاحب "التقريب"، فـ"إذ" للتعليل، وقوله: "ويجوز" عطف على قوله: "وهو أقرب من الإنسان من كل قريب، حين يتلقى الحفيظان". قوله: (كنت منه ووالدي بريئًا): أوله: رماني بأمر كنت منه ووالدي .... بريئا ومن أجل الطوي رماني أي: رماني بأمر كنت منه وكان والدي منه بريئًا. قوله: (أو يؤزر به): روي عن المصنف: أجره: إذا ضربه بالأجر، ووزره: إذا ضربه بالوزر، كما يقال: ركبه: إذا ضربه بالركبة، ورأسه: إذا ضربه بالرأس.

لعله يسبح أو يستغفر»، وقيل: إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وقرئ: "ما يلفظ" على البناء للمفعول. [{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 19 - 22] لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم): بيان لنظم الآية، وأن قوله: {وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ} متصل بمفتتح السورة، و"الإنكار": هو قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، و"الوصف بالعلم": في موضعين: أحدهما: قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ}، أي: لا تخفى علينا أجزاؤهم المتفرقة المتلاشية في تخوم الأرضين، ردًا لقولهم: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وأما قوله: {وعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} فتأكيد له، أي: عندنا تفاصيل تلك الأجزاء جزءًا فجزءًا، شيئًا فشيئًا، نعلمه كما يعلم من يكون عنده كتاب ينظر إليه ويحفظه بتفاصيله، حرفًا حرفًا، بابًا بابًا؛ تقريبًا لكم. وثانيها قوله: {ونَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} إلى آخر الآيات، وإثباته على طريق يعلم منه تفاصيل أفعال المكلف وأواله، كما أن إثبات الأول لتفاصيل أجزائه وأعضائه، وإنما أخر هذا النوع من العلم ليتخلص منه إلى أحوال انتقاله من هذه الدار إلى الأخرى. وأما "إثبات القدرة": فكما سبق على نوعين: آفاقي، وإليه الإشارة بقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ}، أو أنفسي، وهو المراد من قوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ}، وقد سبق مرارًا أن إثبات الحشر والنشر إنما يتم ويتمشى إذا ثبت أنه تعالى عالم بكل المعلومات، وقادر على كل المقدورات، ويخبر عنه الصادق. ما أحسن هذا النظم.

ما أنكروه وجحدوه هم لا قوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وهو قوله: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}. و{سَكْرَةُ المَوْتِ}: شدّته الذاهبة بالعقل، والباء في {بِالحَقِّ} للتعدية، يعني: وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه، وبعث به رسله، أو: حقيقة الأمر وجلية الحال؛ من سعادة الميت وشقاوته. وقيل: الحق: الذي خلق له الإنسان؛ من أن كل نفس ذائقة الموت. ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، أي: وجاءت ملتبسة بالحق، أي: بحقيقة الأمر، أو بالحكمة والغرض الصحيح، كقوله: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73]. وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما: "سكرة الحق بالموت"؛ على إضافة "السكرة" إلى "الحق"، والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على الإنسان وأوجبت له، وأنها حكمة، والباء للتعدية؛ لأنها سبب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونبه على اقتراب ذلك [بأن عبر عنه] بلفظ الماضي): يعني: إذا كان الشيء المتوقع قريب الوقوع، أو أسباب وقوعه متأخرة: يعدل في الإخبار عنه من المستقبل إلى الماضي؛ دلالة على حصوله، نحو قولك: "اشتريت كذا" حال انعقاد الأسباب، وحصول التراضي، ومنه قوله: مت. قوله: (والدلالة): عطف على "إضافة" عطف تفسير وإعلام بأن الإضافة من إضافة البيان. قوله: (والباء للتعدية): أي: الباء في "بالموت" في قراءة "سكرة الحق بالموت" متصل بـ"جاءت"، وهي إما سببية، لأن مجيء هذه السكرة التي أوجبها الله تعالى للإنسان حكمة

زهوق الروح لشدتها، أو لأنّ الموت يعقبها، فكأنها جاءت به. ويجوز أن يكون المعنى: جاءت ومعها الموت. وقيل: سكرة الحق: سكرة الله، أضيفت إليه تفظيعًا لشأنها وتهويلًا. وقرئ: "سكرات الموت". {ذلِكَ} إشارة إلى "الموت"، والخطاب للإنسان في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} على طريق الالتفات، أو إلى "الحق" والخطاب للفاجر، {تَحِيدُ} تنفر وتهرب، وعن بعضهم: أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك، فقال: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحكاه لصالح بن كيسان، فقال: والله ما سنّ عالية، ولا لسان فصيح، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لابد أن تكون سببًا لزهوق الروح، أو لا تكون سببه، لكن هذه السكرة لما ترتب عليها الموت كانت كأنها جاءت بالموت. قوله: (أو إلى "الحق"، والخطاب للفاجر): يعني: {وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ} إن اتصل بقوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، وهم الذين قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}: فالمناسب أن يكون المشار إليه بقوله {ذَلِكَ}: "الحق"، يدل عليه قوله: "لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه هم لا قوه عن قريب" أي" جاءك_ أيها الفاجر_ الحق الذي أنكرته. وإن اتصل بقوله: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ}، ويكون الخطاب للجنس، وفيهم البر والفاجر، كما قال الحسين بن عبد الله العباسي، فالمناسب أن يكون المشار إليه: "الموت". والالتفات لا يفارق الوجهين، ولا ثاني هو الوجه؛ لمجيء قوله بعد ذلك: {وجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ}، وتفصيله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}، {وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}. قوله: (ما سن عالية): نفي للصفة على المبالغة دون الموصوف، يدل عليه قوله: "ولا لسان فصيح"، نحو قولك: ما عندي كتاب يباع، تريد نفي البيع وحده.

ولا معرفة بكلام العرب، هو للكافر. ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فقال: أخالفهما جميعًا، هو للبر والفاجر. {ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} على تقدير حذف المضاف، أي: وقت ذلك يوم الوعيد، والإشارة إلى مصدر "نفخ". {سائِقٌ وَشَهِيدٌ} ملكان، أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله، أو ملك واحد جامع بين الأمرين، كأنه قيل: معها ملك يسوقها ويشهد عليها، ومحل {مَعَها سائِقٌ}: النصب على الحال من {كُلُّ}؛ لتعرّفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة. قرئ: "لقد كنت ... عنك غطاءك فبصرك" بالكسر؛ على خطاب النفس، أي: يقال لها لقد كنت. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو غشاوة غطى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئًا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ، وزالت الغفلة عنه وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق، ورجع بصره -الكليل عن الإبصار لغفلته- حديدًا لتيقظه. [{وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ} 23] {وَقالَ قَرِينُهُ} هو الشيطان الذي قيض له في قوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتعرفه بالإضافة): قيل: أصل "كل" أن تضاف إلى الجمع، كـ"أفعل" التفضيل، وإنما كانت في حكم المعرفة لأنها بإضافتها إلى "النفس" صارت شاملة لجميع النفوس، فكأنه قيل: كل النفوس، فتعين مدلولها، فصارت معرفة.

يشهد له قوله: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27]، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم، والمعنى: أن ملكًا يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطانًا مقرونًا به، يقول: قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغوائى وإضلالي. فإن قلت: كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت: إن جعلت {مَا} موصوفة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يشهد له قوله: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}): يعني: الذي يدل على أن "القرين" هو الشيطان: هذه الآية، وفيه نظر؛ لأن القرين الأول حين قال: هذا ما أعتدته لجهنم، وهيأته لها، بإغوائي وإضلالي_ كما قال_، كيف يقول: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}؟ ولذلك قال الواحدي: "القرين الأول: الملك الذي كان يكتب عمله السيئ في الدنيا، يقول لربه: وكلتني به، وقد أحضرته، وهو قوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}، يعني: الشخص الذي أتى به، و"ما" بمعنى "من"، والقرين الثاني: الشيطان"، وله أن يقول: أن الشيطان حين رأى ملكًا يسرق الكافر، وآخر يشهد عليه، قال ذلك القول، فلما سمع خطاب الله عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}، وقوله: {فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ} تبرأ منه وكذب. قوله: (إن جعلت {مَا} موصوفة): بمعنى: شيء، و {عَتِيدٌ} صفة لها أو موصولة، و {لَدَيَّ} صلتها، و {عَتِيدٌ} بدل من الموصولة، ولإبهامها جاز إبدال النكرة منها، قال أبو البقاء: " {هَذَا} مبتدأ، وفي {مَا} وجهان: أحدهما: أنها نكرة، و {عَتِيدٌ} صفتها، و {لَدَيَّ} معمول {عَتِيدٌ}، ويجوز أن يكون {لَدَيَّ} صفة أيضًا، فيتعلق بمحذوف، وتكون {مَا لَدَيَّ} خبر {هَذَا}. والثاني: أن تكون {مَا} موصولة، و {لَدَيَّ} صلتها، و {عَتِيدٌ} خبر {مَا}، والجملة خبر {هَذَا}، ويجوز أن تكون {مَا} بدلًا من {هَذَا}، ويجوز أن يكون {عَتِيدٌ} خبر مبتدأ محذوف، ويكون {مَا لَدَيَّ} خبرًا عن {هَذَا}، أي: هو عتيد، ولو جاء ذلك في غير القرآن لجاز نصبه على الحال".

فـ {عَتِيدٌ}: صفة لها، وإن جعلتها موصولة فهو بدل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. [{أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} 24 - 26] {أَلْقِيا} خطاب من الله تعالى للملكين السابقين؛ السائق والشهيد، ويجوز أن يكون خطابًا للواحد على وجهين: أحدهما: قول المبرد: أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهم، كأنه قيل: ألق ألق، للتأكيد. والثاني: أنّ العرب أكثر ما يرافق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: لم لم يذكر إبدال {عَتِيدٌ} عن {مَا} إذا كانت موصوفة؟ قلت: الموصولة مع الصلة في تأويل المفرد، فجاز إبداله منه، ولا كذلك الموصوفة. قوله: (فهو بدل): أي: {عَتِيدٌ} بدل من الموصول، قال صاحب "التقريب": ولإبهامه جاز إبدال النكرة منه. قوله: (أو خبر بعد خبر): كقولهم: "القرآن كلام الله غير مخلوق"، فقولهم: "القرآن" مبتدأ، و"كلام الله" خبره، و"غير مخلوق" خبر آخر، لا أن يكون "كلام الله" بدلًا من قوله: "القرآن"، وفي كونهما خبرين فائدة، لأن معناه: القرآن كلام الله كما يقوله المحقون، لا مختلق كما يقوله المبلطون. قوله: (ويجوز أن يكون خطابًا للواحد): التعريف في "الواحد" للعهد، والمعهود قوله: "أو ملك واحد جامع بين الأمرين". قوله: (ألق ألق): قيل: وجهه أنه حذف الفعل الثاني، ثم أتى بفاعله وفاعل الفعل الأول على صورة ضمير الاثنين متصلًا بالفعل الأول. قوله: (أكثر): مبتدأ، خبره محذوف، وقوله: "اثنين" مفعول "يرافق"، أي: أكثر مرافقة الرجل اثنين، حاصل هذا على الكوفي، أما المذهب السديد البصري: فـ"اثنين" حال سد مسد الخبر، أي: أكثر مرافقة الرجل حاصل إذا كانا اثنين، والجملة خبر "أن".

الرجل منهم اثنين، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: خليليّ وصاحبيّ، وقفا وأسعدا، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسيَّ اضربا عنقه. وقرأ الحسن: "ألقين" بالنون الخفيفة، ويجوز أن تكون الألف في {أَلْقِيا} بدلًا من النون؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. {عَنِيدٍ} معاند مجانب للحق معاد لأهله. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} كثير المنع للمال عن حقوقه، جعل ذلك عادة له لا يبذل منه شيئًا قط، أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يمنع بني أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت، {مُعْتَدٍ} ظالم متخط للحق، {مُرِيبٍ} شاك في الله وفي دينه. {الَّذِي جَعَلَ} مبتدأ مضمن معنى الشرط، ولذلك أجيب بالفاء، ويجوز أن يكون {الَّذِي جَعَلَ} ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خاطبوا الواحد خطاب الاثنين): كما في قوله: فإن تزجراني_ يا ابن عفان_ أنزجر .... وإن تدعاني أحم عرضًا ممنعا قوله: (يا حرسي): الحرس_ بفتحتين_: حرس السلطان، وهم الحراس، الواحد: حرسي، لأنه صار اسم جنس، فنسب إليه، ولا تقول: حارس، إلا أن تذهب به إلى معنى الحراسة دون الجنس، ذكر في "الصحاح". قيل: هذا يدل على أن الحجاج أطلقه على الواحد، لأنه صار اسم جنس، ثم ثناه، فقال: يا حرسي اضربا، لى لفظ التثنية المضافة قيل: هذا يدل على أن الحجاج أطلقه على الواحد، لأنه صار اسم جنس، ثم ثناه، فقال: يا حرسي اضربا، على لفظ التثنية المضافة إلى ياء المتكلم عند النداء، وفيه بحث.

منصوبًا بدلًا من كُلَّ كَفَّارٍ ويكون فَأَلْقِياهُ تكريرًا للتوكيد. [{قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} 27] فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو، وأدخلت على الأولى؟ قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون. فإن قلت: فأين التقاول ها هنا؟ قلت: لما قال قرينه: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}، وتبعه قوله: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ}، وتلاه: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}، علم أنّ ثم مقاولة من الكافر، لكنها طرحت لما يدل عليها، كأنه قال: رب هو أطغاني، فقال قرينه: ربنا ما أطغيته. وأمّا الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني: مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قال له. {ما أَطْغَيْتُهُ}: ما جعلته طاغيًا، وما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى، كقوله: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]. [{قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 38 - 29] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويكون {فَأَلْقِيَاهُ} تكريرًا للتوكيد): نحوه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9]، قال: "أي: كذبوه تكذيبًا على عقب تكذيب". قوله: (في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون): أي: في سورة بني إسرائيل، وكذلك في الشعراء.

{قالَ لا تَخْتَصِمُوا} استئناف، مثل قوله: {قالَ قَرِينُهُ}، كأن قائلًا قال: فماذا قال الله؟ فقيل: قال: لا تختصموا. والمعنى: لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم، ولا طائل تحته، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجة عليّ، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي، فأعفيكم عما أوعدتكم به، {وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب. والباء في {بِالْوَعِيدِ} مزيدة، مثلها في {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أو معدية؛ على أن «قدّم» مطاوع بمعنى: «تقدّم»، ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله: {ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، ويكون {بِالْوَعِيدِ} حالًا، أي: قدّمت إليكم هذا ملتبسًا بالوعيد مقترنًا به، أو قدّمته إليكم موعدًا لكم به. فإن قلت: إنّ قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ} واقع موقع الحال من {لا تَخْتَصِمُوا}، والتقديم بالوعيد في الدنيا، والخصومة في الآخرة، واجتماعها في زمان واحد واجب؟ قلت: معناه: ولا تختصموا وقد صح عندكم إني قدمت إليكم بالوعيد، وصحة ذلك عندهم في الاخرة. فإن قلت: كيف قال: {بِظَلَّامٍ} على لفظ المبالغة؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون من قولك: هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. وأن يراد: لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلامًا مفرط الظلم، فنفى ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو قدمته إليكم موعدًا لكم به): فعلى هذا {بِالْوَعِيدِ} حال من الفاعل، وعلى الأول من المفعول. قوله: (فيه وجهان: أن يكون من قولك: هو ظالم): وقد مر بيانه مرارًا. الانتصاف: "أراد أن "فعالًا" ورد بمعنى: فاعل، أو المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم على حسب ملكهم؛ أن عظيما فعظيم، وإن حقيرًا فحقير، فلما كان ملك الله على كل

[{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 30] قرئ: {نَقُولُ} بالنون والياء، وعن سعيد بن جبير: "يوم يقول الله لجهنم"، وعن ابن مسعود والحسن: "يقال". وانتصاب "اليوم" بـ"ظلام" أو بمضمر، نحو: أذكر وأنذر، ويجوز أن ينتصب بـ"نفخ"، كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم، وعلى هذا يشار بذلك إلى {يَوْمَ نَقُولَ}، ولا يقدّر حذف المضاف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء، فلو نسب إليه لكان ظالمًا، والقدرية ظنوا أنه لو عاقب على ما قضى لكان ظالمًا لعبده، فيكون ظلامًا لكثرتهم، فهذه الآية ترد عليهم". قوله: (قرئ: {نَقُولُ} بالنون والياء): نافع وأبو بكر: بالياء، والباقون: بالنون. قوله: (ويجوز أن ينتصب بـ"نفخ"): قيل: إذا انتصب {يَوْمَ نَقُولُ} بـ"نفخ": يكون {ذَلِكَ} - في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ} - إشارةً إلى {يَوْمَ نَقُولُ}، فلا يحتاج إلى تقدير حذف المضاف، لأن المعنى: ذلك اليوم- أي: يوم نقول لجهنم- هو يوم الوعيد، فيصح الحمل عليه من غير التقدير، وأما إذا لم يكن منصوبًا بـ"نفخ"، ويكون قوله: {ذَلِكَ} إشارةً إلى النفخ، فلا يصح الحمل عليه من غير التقدير، ولهذا قال: "أي: وقت ذلك يوم الوعيد، والإشارة إلى مصدر (نفخ) "، ولا يقال: النفخ في الصور يوم الوعيد.

وسؤال جهنم وجوابها: من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته، وفيه معنيان: أحدهما: أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء، ولا يزاد على امتلائها، لقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]. والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها، وفيها موضع للمزيد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسؤال جهنم وجوابها: من باب التخييل): الانتصاف: " تقدم إنكار لفظ "التخييل" في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، وها هنا أولى، فإن تلك الآيات لا بد من حملها على المجاز، والمنكر لفظ التخييل الذي استعمل في الباطل، كقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، وها هنا سؤال جهنم وجوابها حقيقة، كما ورد: "تحاجت الجنة والنار"، و"اشتكت النار إلى ربها"، ولا مانع من ذلك، فقد سبح الحصى، وسلم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فتح باب المجاز فيه لاتسع الخرق، بخلاف الآيات الواردة في الصفات". وقلت: هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العرش_ وفي رواية: رب العزة_ فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقًا، فيسكنهم فضل الجنة". وعنهم عن أبي هريرة قال: "اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب، ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال للجنة:

ويجوز أن يكون {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} استكثارًا للداخلين فيها، واستبداعًا للزيادة عليهم لفرط كثرتهم، أو طلبًا للزيادة غيظًا على العصاة. و"المزيد": إما مصدر كالمحيدو المميد، وإما اسم مفعول كالمبيع. [{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} 31 - 35] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، قال أما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا، وأنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ، وينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط". وموضع التأويل "التقدم" فقط. قوله: (ويجوز أن يكون): ابتداء تفسير لقوله تعالى: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} بناء على الوجهين السابقين من السعة على النشر، فقوله: "استكثارًا للداخلين فيها" مفرع على قوله: "أنها تمتلئ مع اتساعها حتى لا يسعها شيء"، وقوله: "أو طلبًا للمزيد" مبني على قوله: "إنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها، وفيها موضع للمزيد"، والاستفهام في قوله: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ}: إذا كان بمعنى استكثار الداخلين كان في معنى النفي، وهو مشكل؛ لأنه حينئذ بمعنى الداخلين كان في معنى النفي، وهو مشكل؛ لأنه حينئذ بمعنى الإنكار، والمخاطب الله عز وجل، ولا يلائمه أيضًا معنى الحديث الذي أوردناه. قوله: (والمميد): المحيد والمميد بمعنى، الجوهري: "ماد الشيء يميد ميدًا: تحرك، وماد الرجل: تبختر". قوله: (وإما اسم مفعول): أي: يقال: هل من يزاد؟ كما يقال: هل من يباع؟

{غَيْرَ بَعِيدٍ} نصب على الظرف، أي: مكانًا غير بعيد، أو على الحال، وتذكيره لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف، أي: شيئًا غير بعيد، ومعناه التوكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. وقرئ: {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء، وهي جملة اعتراضية، و {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} بتكرير الجارّ، كقوله: {لِلَّذِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالزئير والصليل): الجوهري: "الزئير": صوت الأسد في صدره، وقد زأر يزأر زأرًا وزئيرًا"، و"صل المسمار وغيره يصل صليلًا، أي: صوت". قوله: (أي: شيئًا غير بعيد، ومعناه التوكيد): قال صاحب "الفرائد": القرب والبعد أمران نسبيان، قد يكون الشيء قريبًا إلى شيء، وبعيدًا بالنسبة إلى آخر، فقوله: {غَيْرَ بَعِيدٍ} يفيد أن الجنة قريبة لهم، ثم لم يكن لها بعد بوجه ما. وقال ابن الحاجب: "يجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف، أي: قربت في من غير بعيد، وإنما عبر عنه بالمضي لتحقيقه أو لتقريبه، والمراد بالتحقيق هاهنا كونه حقًا لا باطلًا، لا الوقوع الحاصل، وأما {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] و {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]: فهذان حاصلان". قوله: (وعزيز غير ذليل): روي عن المصنف أنه قال: لأنه يجوز أن يتناول العزيز ذل ما من بعض الوجوه، إلا أن الغالب عليه العز، فيقال: "غير ذليل" ليزال ذلك التوهم، وذلك في كل تأكيد. قوله: (قرئ {تُوعَدُونَ} بالتاء والياء): ابن كثير: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء.

اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]، و {هَذَا} إشارة إلى الثواب، أو إلى مصدر "أزلفت"، و"الأوّاب": الرجاع إلى ذكر الله تعالى، و"الحفيظ": الحافظ لحدوده. و{مَنْ خَشِيَ} بدل بعد بدل تابع لـ"كل"، ويجوز أن يكون بدلًا عن موصوف {أوّابٍ} و {حَفِيظٍ}، ولا يجوز أن يكون في حكم {أَوَّابٍ} و {حَفِيظٍ}، لأنّ "مِنْ" لا يوصف به، ولا يوصف من بين الموصولات إلا بـ"الذي" وحده، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره: يقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ}، لأنّ "مَنْ" في معنى الجمع، ويجوز أن يكون منادى؛ كقولهم: من لا يزال محسنًا أحسن إليّ، وحذف حرف النداء للتقريب. {بِالْغَيْبِ} حال من المفعول، أي: خشيه وهو غائب لم يعرفه وكونه معاقبًا إلا بطريق الاستدلال، أو صفة لمصدر {خَشِيَ}، أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه، وقيل: في الخلوة حيث لا يراه أحد. فإن قلت: كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ قلت: للثناء البليغ على الخاشي، وهو خشيته، مع علمه أنه الواسع الرحمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يجوز أن يكون في حكم {أَوَّابٍ} و {حَفِيظٍ}): يعني: لو كان في حكم {أَوَّابٍ} و {حَفِيظٍ}، وهما صفتان لموصوف محذوف، لزم أن تكون "من" صفة، و"من" لا تكون صفة. قوله: (للتقريب): أي: لأنه منادى قريب، كما قال في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. قوله: (للثناء البليغ على الخاشي): أي: وصفهم بالحزم الشديد، لأن صفة الرحمانية تقتضي تعليق الرجاء العظيم بها، وهم ما اغتروا، بل علقوا الخشية بها، كقوله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33، وفاطر: 5]، ومنه ما يحكى أن كثيرًا لما مدح عبد الملك بقوله:

كما أثني عليه بأنه خاش مع أنّ المخشي منه غائب، ونحوه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات. وصف القلب بالإنابة، وهي الرجوع إلى الله؛ لأنّ الاعتبار بما ثبت منها في القلب، يقال لهم: {ادْخُلُوها بِسَلامٍ} أي: سالمين من العذاب وزوال النعم، أو مسلمًا عليكم؛ يسلم عليكم الله وملائكته، {ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي: يوم تقدير الخلود، كقوله: {فَادْخُلُوها خالِدِينَ} [الزمر: 73]، أي: مقدرين الخلود. {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} هو ما لم يخطر ببالهم، ولم تبلغه أمانيهم، حتى يشاؤه. وقيل: إن السحاب تمرّ بأهل الجنة، فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال الله عز وجل: {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ابن أبي العاصي دلاص حصينة .... أجاد المسدي نسجها فأذالها قال: فهلا قلت في كما قال الأعشى: وإذا تكون كتيبة ملمومة .... شهباء يخشى الذائدون نزالها كنت المقدم غير لابس جنة .... بالسيف تضرب معلمًا أبطالها قال: وصفه بالخرق، ووصفتك بالحزم. قوله: (فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد): روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن

[{وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} 36] {فَنَقَّبُوا} -وقرئ بالتخفيف-: فخرقوا في البلاد ودوّخوا، والتنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب، قال الحرث بن حلزة: نقّبوا في البلاد من حذر المو .... ت وجالوا في الأرض كلّ مجال ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله: {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا}، أي: شدّة بطشهم أبطرتهم، وأقدرتهم على التنقيب، وقوّتهم عليه. ويجوز أن يراد: فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصًا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم. والدليل على صحته قراءة من قرأ: "فَنَقَّبُوا"؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يتحول، ثم تأتيه امرأة، فتضرب على منكبه، فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه، فيرد السلام، ويسألها: من أنت؟ فتقول: وأنا المزيد" الحديث. قوله: (ودوخوا): الجوهري: "داخ البلاد يدوخها: قهرها واستولى عليها، وكذلك دوخ البلاد". وقوله: (والتنقيب: التنقير في الأمر): الراغب: "النقب في الحائط: كالثقب في الخشب، ويقال: نقب القوم: ساروا، قال تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي البِلادِ}، والمنقبة: طريق منفذ في الجبال، استعيرت لفعل الكريم، إما لكونه تأثيرًا له، وإما لكونه منهجًا في رفعه". قوله: (والدليل على صحته قراءة من قرأ: "فنقبوا"): أي: قول من قال: "فنقب أهل مكة"، قال ابن جني: "هي قراءة ابن عباس وأبي العالية ويحيي بن يعمر، وهذا أمر للحاضرين ولمن بعدهم، وهو "فعلوا" من النقب، أي: ادخلوا وغوروا فإنكم لا تجدون محيصًا".

على الأمر، كقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2]، وقرئ بكسر القاف مخففة؛ من النقب، وهو أن يتنقب خف البعير، قال: ما مسّها من نقب ولا دبر والمعنى: فنقبت أخفاف إبلهم، أو: حفيت أقدامهم ونقبت، كما تنقب أخفاف الإبل، لكثرة طوفهم في البلاد، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} من الله، أو: من الموت. [{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 37] {لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: قلب واع، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع: الإصغاء، {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: حاضر بفطنته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: فالفاء على هذا للتعقيب، وفيه التفات، المعنى: كم أهلكنا قبلكم من قرن هم أشد منك بطشًا، فجربوا أنتم أنفسكم أن أتاكم عذاب من الله، أو ما كتب لكم من الأجل، فإنكم لا تجدون لكم ملجأ أو مخلصًا، أو سيروا في الأرض فهل ترون لتلك القرون محيصًا، حتى تؤملوا مثله لأنفسكم. قوله: (ما مسها من نقب ولا دبر): أوله: أقسم بالله أبو حفص عمر "نقبت الإبل: إذا صارت فيها النقبة، وهي أول الجرب، وجمعها: نقب، ونقب البعير: إذا رقت أخفافه"، قاله الجوهري. هذا المعنى أقرب إلى المقصود، شكا بعضهم إلى عمر رضي الله عنه نقب إبله وعجزه عن الغزو عليها، فلم يصدقه عمر رضي الله عنه، فأنشد.

لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه: ما شئت من زهزهة والفتى .... بمصقلاباذ لسقي الزروع أو: وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله، أو: وهو بعض الشهداء في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وعن قتادة: وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد ملح الإمام): وقيل: ملح الشاعر: إذا أتى بشيء مليح، ملح الشيء_ بالضم_ ملوحة وملاحة، أي: حسن، الأساس: "فلان يتملح ويتظرف". قوله: (لبعض من يأخذ عنه): أي: يستفيد مه، قيل: الفتى: أبو عامر الجرجاني، وفي "المطلع": يجيء في فضلة وقت له .... مجيء من شاب الهوى بالنزوع ثم ترى جلسة مستوفز .... قد شددت أحماله بالنسشوغ ما شئت من زهزهة والفتى .... بمصقلا باذ لسقس الزروع الزهزهة: التحسين، معرب، يقال عند الاستحسان: "زه"، زه"، قال: "ويجوز أن يكون قلب الهز، وكرره مبالغة في الهز"، يعني: أن قول التلميذ في حال تعليمي إياه: "زه، زه" كثير، وقلبه غائب عنه، وذاهب إلى مصقلاباذ لسقي زروعه، وهو محلة بجرجان، فـ"ما" إبهامية، و"من" بيان، وهو مقول محذوف، أي: ترى جلسة مستوفز قائلًا ما شئت من "زه زه" وقلبه غافل. قوله: (أو: وهو بعض الشهداء): اعلم أن قوله: {وهُوَ شَهِيدٌ} عطف على صلة الموصول، و"الشهيد": إما بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، والمعنى على الأول: أن فيما

وقرأ السدي وجماعة: "ألقي السمع" على البناء للمفعول، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكرنا من الآيات الظاهرة والبيانات الشافية لذكر لمن كان له قلب شرحه الله تعالى للإسلام، فهو على نور يدرك الحق أول ما يسطع نوره نور قلبه، فيؤمن من غير فكر وروية، كقلوب العارفين والصديقين، كما آمن الصديق رضوان الله عليه كذلك، أو اتعاظ بمن هو دون أولئك، فيحتاج في القبول إلى إلقاء السمع واستحضار الذهن، كأرباب النهى، فإنهم ما آمنوا إلا بعد الروية واستعمال الفكر ومشاهدة المعجزات القاهرة. وعلى أن يراد بـ"الشهيد": القائم بالشهادة، لا بد من شرط الإيمان لتقبل شهادتهم، إما في الدنيا وهو كل مؤمن؛ بر وفاجر، وإما في العقبى وهو بعض المؤمنين الذين تقبل شهادتهم على سائر الأمم، وهو المراد من استشهاده بقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وقيل: يتذكر بالقرآن أحد رجلين؛ إما رجل له قلب وعقل يعرف معجزته، فيؤمن به، وإما رجل سميع مسترشد. قوله: ("ألقي السمع" على البناء للمفعول): قال صاحب "التقريب": السمع: إما له وإما لغيره، فعلى الأول: معناه ألقي السمع منه، أو سمعه، ليرجع الضمير إلى الموصول، وعلى الثاني: معناه: لمن ألقى غيره السمع وفتحه فحسب في حال كونه شهيدًا، والمراد: لمن شهد وحضر ذهبه حال غفلة الناس وقتحهم السمع فقط بلا تفطن، وظاهره: أو غابوا حال تفطنه، فيصدق أنه تفطن حال غيبتهم، وهو المطلوب، ثم إما أن يقدر تكرير الموصول في المعطوف أو لا يقدر، فالوجه الأول: أن فيه ذكرى لمن تفطن بنفسه، أو لغير متفطن ولكنه مصغ إلى متفطن، والثاني: أن فيه ذكرى للشحص حال تفطنه، أو حال إصغائه إلى متفطن أن لم يكن حال تفطنه، فالذكرى على الأول: باعتبار شخصين، وعلى الثاني: بإعتبار شخص له حالين.

ومعناه: لمن ألقى غيره السمع، وفتح له أذنه فحسب، ولم يحضر ذهنه، وهو حاضر الذهن متفطن. وقيل: ألقي سمعه أو السمع منه. [{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} 38 - 43] اللغوب: الإعياء، وقرئ بالفتح؛ بزنة: القبول والولوع، قيل: نزلت في اليهود -لعنت- تكذيبًا لقولهم: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، أوّلها الأحد، وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش. وقالوا: إنّ الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود، ومنهم أخذ. {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أي: اليهود، ويأتون به من الكفر والتشبيه. وقيل: فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث؛ فإنّ من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: الصبر مأمور به في كل حال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: حاصل قول المصنف: أن "ألقي": إما أن يقدر له الموصول ليعطف على الموصول، فيكون المعنى: أن في ذلك لتذكرة لمن كان له قلب، أو لمن ألقى غيره من الناس أسماعهم للقرآن، ولم يحصروا أذهانهم، والحال أن هذا المتذكر وحده متفطن متيقظ حاضر الذهن، أو لا يقدر؛ فيعطف "أو ألقي" على الصلة، فيكون المعنى: ألقي سمعه أو السمع منه. وفيه تعريض بالمنافقين؛ روى الواحدي عن ابن عباس أنه قال: "كان المنافقون يجلسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يخرجون، فيقولون: ماذا قال آنفًا، وقال: ليس معهم قلوبهم".

{بِحَمْدِ رَبِّكَ} حامدًا ربك، والتسبيح محمول على ظاهره، أو على الصلاة، فالصلاة {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}: الفجر، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}: الظهر والعصر، {وَمِنَ اللَّيْلِ}: العشاءان، وقيل: التهجد. {وَأَدْبارَ السُّجُودِ}: التسبيح في آثار الصلوات -والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة-، وقيل: النوافل بعد المكتوبات، وعن علي رضي الله عنه: الركعتان بعد المغرب، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين»، وعن ابن عباس: الوتر بعد العشاء. والأدبار: جمع دبر، وقرئ: "وإدبار"؛ من: أدبرت الصلاة: إذا انقضت وتمت، ومعناه: ووقت انقضاء السجود، كقولهم: آتيك خفوق النجم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من صلى بعد المغرب): روى صاحب "الجامع" عن رزين عن مكحول يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين_ وفي رواية: أربع ركعات__ رفعت صلاته في عليين". قوله: (وقرئ: "وإدبار"): الحرميان وحمزة: "وإدبار" بكسر الهمزة، والباقون: بفتحها، قال أبو البقاء: "بالفتح: جمع دبر، وبالكسر: مصدر "أدبر"، أي: وقت إدبار السجود".

{وَاسْتَمِعْ} يعني واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: «يا معاذ، اسمع ما أقول لك»، ثم حدّثه بعد ذلك. فإن قلت: بم انتصب "اليوم"؟ قلت: بما دل عليه {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}، أي: يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. و{يَوْمَ يَسْمَعُونَ}: بدل من {يَوْمَ يُنادِ} و {الْمُنادِ} إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرّقة، إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر. {مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} من صخرة بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلًا، وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم، يسمع من كل شعرة: أيتها العظام البالية. و{الصَّيْحَةَ} النفخة الثانية، {بِالْحَقِّ} متعلق بـ {الصَّيْحَةَ}، والمراد به: البعث والحشر للجزاء. [{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعًا ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ} 44] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستمع لما أخبرك به): يعني: أطلق الأمر بقوله: {وَاسْتَمِعْ}، إذا التقدير: "لما أخبرك به"، ثم أوقع {يَوْمَ يُنَادِ} على تقدير حذف المضاف بيانًا للمقدر، كما قال: "من حال يوم القيامة"؛ لما في الإبهام والتفسير تهويل وتعظيم بشأن المخبر به، قال صاحب "الكشف": المعنى: استمع حديث يوم ينادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به، وليس بالظرف. قوله: (قال سبعة أيام): "سبعة أيام": ظرف "قال"، ومقوله: "اسمع ما أقول".

وقرئ: {تَشَقَّقُ}، و"تشقق" بإدغام التاء في الشين، و"تشقق" على البناء للمفعول، و"تنشق". {سِرَاعًا} حال من المجرور، {عَلَيْنا يَسِيرٌ} تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} [لقمان: 28]. [{نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} 45] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ} تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {بِجَبَّارٍ} -كقوله: {بِمُصَيْطِرٍ} - حتى تقسرهم على الإيمان، إنما أنت داع وباعث، وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم، ويجوز أن يكون من: جبره على الأمر؛ بمعنى: أجبره عليه، أي: ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {تَشَقَّقُ} و"تشقق" بإدغام التاء في الشين): الكوفيون وأبو عمرو: بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها، وبنا المجهول: شاذة، وكذا "تتشقق". قوله: ({وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}): أي: سهولة خلقكم وبعثكم كسهولة خلق نفس واحدة.

و"على" بمنزلته في قولك: هو عليهم، إذا كان واليهم ومالك أمرهم، {مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} كقوله: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} [النازعات: 45]، لأنه لا ينفع إلا فيه، دون المصر على الكفر. عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ سورة (ق) هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تارات الموت): الأساس: "فعل ذلك تارات، وتارة بعد أخرى"، وعن بعضهم: رات الموت: أحواله وسكراته، وسكراته، وإفاقته تارة وغشيانه أخرى. تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم * * *

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب وهو حاشية الطيبي على الكشاف للإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي المتوفى سنة 743 هـ رحمه الله تعالى الجزء الخامس عشر تفسير السور من الذاريات إلى نهاية الحاقة

سورة الذاريات

سورة الذاريات مكية، وهي ستون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} 1 - 6] {وَالذَّارِيَاتِ} الرياح، لأنها تذرو التراب وغيره. قال الله تعالى: {تَذْرُوهُ الرِّيحُ}، وقرئ بإدغام التاء في الذال، {فَالْحَامِلاتِ وقْرًا} السحاب، لأنها تحمل المطر. وقرئ: (وقرا) بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر. أو على إيقاعه موقع حملا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الذاريات مكية، وهي ستون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وقرئ بإدغام التاء في الذال) أبو عمرو وحمزة. قوله: ("وقرًا" بفتح للواو) هي شاذة. الجوهري: الوقر بالفتح: الثقل في الأذن، وبالكسر: الحمل. قوله: (أو على إيقاعه موقع حملًا) فيكون مفعولًا مطلقًا لا من لفظه، وعلى الأول مفعولًا به.

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} الفلك. ومعنى {يُسْرًا}: جريا ذا يسر، أي: ذا سهولة، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} الملائكة، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك. وعن مجاهد: تتولى تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ. وعن علي رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكواء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال: فالحاملات وقرا؟ قال: السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال: فالمقسمات أمرًا؟ قال: الملائكة. وكذا عن ابن عباس. وعن الحسن: "المقسمات": السحاب، يقسم الله بها أرزاق العباد، وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد: الرياح لا غير؛ لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه، وتجري في الجو جريا سهلا، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تفعل التقسيم مأمورة) جعل أمرًا حالًا وأضمر المفعول به؛ ليكون على وزان يمنع ويعطي، وعلى الأول أمرًا مفعولًا به على العموم، والأمر بمعنى الشأن. قوله: (وقد حملت على الكواكب السبعة)، قلت: هذا القول مردود، وقد ورد في النهي عن أمثال هذا الكلام أحاديث صحيحة عن الثقات، ولم يذكره أيضًا أحد من المفسرين مثل الواحدي ومحيي السنة وصاحب "التيسير" و"المطلع" والكواشي والقاضي. وقال الزجاج: المفسرون جميعًا يقولون بقول علي رضي الله عنه، وأما الإمام فقال بعد ما نقل

فإن قلت: ما معنى الفاء على التفسيرين؟ قلت: أما على الأول؛ فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب الذي تسوقه، فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه. وأما على الثاني: فلأنها تبتدئ بالهبوب، فتذرو التراب والحصباء، فتنقل السحاب، فتجري في الجو باسطة له، فتقسم المطر. {إنَّمَا تُوعَدُونَ} جواب القسم، وما موصولة أو مصدرية، والوعود: البعث. ووعد صادق: كعيشة راضية. والدين: الجزاء. والواقع: الحاصل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول علي رضي الله عنه: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح؛ فالذاريات: هي التي تنشئ السحاب. والحاملات: هي التي تحملها، والجاريات: هي التي تجري بها، والمقسمات: هي التي تفرق الأمطار على الأقطار، ولم يذكر هذا القول أصلًا، والعجب كيف ذهل مع ديانته عن هذا النقل؟ ! وسيجيء الكلام فيه في النازعات مستوفى. قوله: (ما معنى الفاء على التفسيرين؟ ) أحدهما: أن يراد بالمذكورات الذوات المختلفة، وثانيهما: أن يراد صفات الرياح لا غير. قال القاضي: إن حملت الذاريات فالحاملات فالجاريات فالمقسمات على ذوات مختلفة، فالفاء لترتب الإقسام بها، باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، وإلا فالفاء لترتب الأفعال، إذ الريح مثلًا تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابًا فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث يقسم المطر.

[{والسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ * إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} 7 - 9] {الحُبُكِ} الطرائق، مثل حبك الرمل والماء: إذا ضربته الريح، وكذلك حبك الشعر: آثار تثنيه وتكسره. قال زهير: مكلل بأصول النجم تنسجه .... ريح خريق لضاحي مائه حبك والدرع محبوكة: لأن حلقها مطرق طرائق. ويقال: إن خلقة السماء كذلك. وعن الحسن: حبكها: نجومها. والمعنى: أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي. وقيل: حبكها: صفاتها وإحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم؛ أي محكمها. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه، وهو جمع حباك، كمثال ومثل، أو حبيكة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قال زهير) يصف بركة مزينة لظهور النجم فيها، لصفائها وسعة أرجائها: حتى استغاثت بماء لا رشاء له .... من الأباطح في حافاتها البرك مكلل بأصول النجم ينسجه .... ريح خريق لضاحي مائه حبك مكلل: أي ملبس إكليلًا، سحاب مكلل: أي ملمع بالبرق، وقيل: هو الذي حوله قطع من الغيم، خريق: بالخاء المعجمة: باردة شديدة الهبوب، ضاحية كل شيء: ناحيته البارزة، مكان ضاح؛ أي: بارز. قوله: (لأن خلقها مطرق طرائق) قال القاضي: هي الطرائق المحسوسة، أي: بالنجوم والمجرة، أو المعقولة التي يسلكها النظار، ويتوصل بها إلى المعارف. قوله: (محبوك المعاقم) الجوهري: المعاقم من الخيل: المفاصل، واحدها معقم.

كطريقة وطرق. وقرئ: (الحبك) بوزن القفل. و (الحبك)، بوزن السلك. و (الحبك)، بوزن الجبل. و (الحبك) بوزن البرق. و (الحبك) بوزن النعم. و (الحبك) بوزن الإبل. {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسخر وأساطير الأولين. وعن الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا، إنما هو متناقض مختلف. وعن قتادة: منكم مصدق ومكذب، ومقر ومنكر. {يُؤْفَكُ عَنْهُ} الضمير للقرآن أو الرسول، أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "الحبك") القراءات، نسبها ابن جني إلى الحسن، وقال: جميعها: طرائق الغيم، وأثر حسن الصنعة فيه. قال الزجاج: الحبك في اللغة: ما أجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح، واحداها حباك مثل: مثال ومثل، أو حبيكة مثل: طريقة وطرق قوله: (قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير) قال القاضي: ولعل النكتة في هذا القسم؛ تشبيه أقوالهم في اختلافها وتباين أغراضها، بطرائق السموات في تباعدها واختلاف غاياتها. قوله: (الضمير للقرآن أو الرسول) يعني: في {عَنْهُ}، وما دل عليه قوله: {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وتفسيره قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير. قوله: (أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه)، الانتصاف:

كقوله: لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أي: علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي. ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين: أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد. ثم قال: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك. ووجه آخر: وهو أن يرجع الضمير إلى {قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}، وعن مثله في قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما دل النظم على هذا، لأن قوله: {يُصْرَفُ عَنْهُ}، دال على من صرف، كأنك قلت: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا، وكل صرف دونه كلا صرف. الراغب: رجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل، وأفك يؤفك؛ صرف عقله، ورجل مأفوك العقل، وقيل: {يُؤْفَكُ} كلام مبتدأ، وفيه تعجب، وقال صاحب "التيسير": يصرف عن الإيمان من صرف عن كل خير وسعادة. وقلت: يصرف عن القرآن من ثبت له الصرف الحقيقي، وذلك من إطلاق "صرف" وجعله بمنزلة يمنع ويعطي. قوله: (لا يهلك على الله إلا هالك) وعن بعضهم: أي: لا يحرم من رحمة الرحمن الرحيم إلا من كان هالكًا في غاية ليس وراءها وراء. المغرب: يقال: هلك الشيء في يده: إذا تغير صنعه، وهلك على يده: إذا استهلكه؛ كأنه قاسه على قولهم: قتل فلان على يد فلان، ومات في يده، ولا يقال: مات على يده. قوله: (ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين) عطف على قوله: الضمير

ينهون عن أكل وعن شرب أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب، وحقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. وقرأ سعيد بن جبير: (يؤفك عنه من أفك) على البناء للفاعل، أي: من أفك الناس عنه؛ وهم قريش، وذلك أن الحي كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله، فيقولون له: احذره، فيرجع فيخبرهم. وعن زيد بن علي: (يأفك عنه من أفك)، أي: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا: (يأفك عنه من أفك)، أي: يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرئ: (يؤفن عنه من أفن) أي: يحرمه من حرم، من أفن الضرع: إذا نهكه حلبا. [{قُتِلَ الخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} 10 - 14] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للقرآن وينصره الكلام السابق، وهو قوله: {وإنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}، واللاحق وهو قوله: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}. قوله: (ينهون عن أكب وعن شرب)، تمامه: مثل المها يرتعن في خصب جمل ناه: إذا كان غريقًا في السمن. والضمير في قوله: ينهون يعود إلى الجماعة، ومن ظن أنه يعود إلى النوق أخطأ، فإنه لو كان كذلك لقال: ينهين. قوله: (من هو أفاك كذاب) هذه المبالغة إنما يقيدها مقام مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لا يصرف الناس عن مثل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق إلا من هو مبالغ في الكذب، متناه فيه، وهو نحو قوله السابق: لا يهلك على الله إلا هالك، أي هالك، أي هالك!

{قُتِلَ الخَرَّاصُونَ} دعاء عليهم، كقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخراصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون. وقرئ: (قتل الخراصين) أي: قتل الله. {فِي غَمْرَةٍ}: في جهل يغمرهم؛ {سَاهُونَ}: غافلون عما أمروا به {يَسْأَلُونَ} فيقولون: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: متى يوم الجزاء. وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة. فإن قلت: كيف وقع أيان ظرفا لليوم، وإنما تقع الأحيان ظروفا للحدثان؟ قلت: معناه: أيان وقوع يوم الدين. فإن قلت: فبم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت: بفعل مضمر دل عليه السؤال، أي: يقع يوم هم على النار يفتنون، ويجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة. فإن قلت: فما محله مفتوحا؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واللام إشارة إليهم) أي: التعريف في الخراصون للعهد الخارجي التقديري لما يعرف من قوله: {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} جماعة كذابون خراصون. قوله: (كيف وقع أيان ظرفًا لليوم) أي: أيان يسأل بها عن الحدث، كما تقول: أيان المجيء؟ أيان القدوم؟ فيجاب: يوم الجمعة، أو شهر كذا. قوله: (لإضافته إلى غير متمكن) قال الزجاج: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ} لفظة نصب، ومعناه معنى الرفع، لأنه مضاف إلى جملة، تقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم.

قلت: يجوز أن يكون محله نصبا بالمضمر الذي هو يقع؛ ورفعا على: هو يوم هم على النار يفتنون. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، {يُفْتَنُونَ}: يحرقون ويعذبون. ومنه الفتين: وهي الحرة؛ لأن حجارتها كأنها محرقة. {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} في محل الحال، أي: مقولا لهم هذا القول {هَذَا} مبتدأ، و {الَّذي} خبره، أي: هذا العذاب هو الذي {ُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}، ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم؛ أي: ذوقوا هذا العذاب. [{إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ} 15 - 19] {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قابلين لكل ما أعطاهم راضين به، يعني أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقى بالقبول مرضي غير مسخوط، لأن جميعه حسن طيب. ومنه قوله تعالى: {وَيَاخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي: يقبلها ويرضاها، {ُحْسِنِينَ} قد أحسنوا أعمالهم، وتفسير إحسانهم ما بعده. {مَا} مزيدة. والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو يوم هم على النار يفتنون) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي: يوم هم على النار يفتنون وقت وقوع يوم الدين. قوله: (وهي الحرة) الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها احترقت بالنار. قوله: (قابلين لكل ما أعطاهم راضين به) فسر الأخذ بالقبول والرضى، لأن لفظ الأخذ فيه دلالة على أن المطلوب مرغوب فيه، وفيه تلويح إلى ما ورد عن الصادق المصدوق أن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: "يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في

إن جعلت {قَلِيلًا} ظرفًا، ولك أن تجعله صفة للمصدر، أي: كانوا يهجعون هجوعا قليلا. ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية أو موصولة؛ على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه، وارتفاعه بـ {قَلِيلًا} على الفاعلية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري. شبه حلول الرضوان على السعداء وقابليتهم إياه، وهو معقول بإعطاء ما يتناولون باليد، وهو محسوس، مبالغة في الحصول، وتصويرًا لحالة الأخذ والإعطاء، وإبرازه في صورة اسم الفاعل، للدلالة على الدوام والاستمرار، رزقنا الله حلول رضوانه بفضله وكرمه، لأنا لسنا من المحسنين، الذين كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم. قوله: (ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية أو موصولة)، الانتصاف: جعلها مصدرية يوجب أن يكون {قَلِيلًا} واقعًا على الهجوع؛ لأنه فاعله. وقوله: (من الليل)، لا يكون صفة للقليل، ولا بيانًا له، ولا من صلة المصدر لتقدمه عليه، ولا كذلك على أنها موصولة، فإن {قَلِيلًا} حينئذ واقع على الليل، كأنه قال: قليلًا المقدار الذي كانوا يهجعونه من الليل، فلا مانع أن يكون {مِنَ الَّليْلِ} بيانًا للقليل وهذا أيضًا ذكره الزجاج، ومنع الزمخشري نصب {قَلِيلًا} بـ {يَهْجَعُونَ}، لأنه لا يتقدم معمول "ما" بعد النفي عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإنصاف: ويفسده من حيث المعنى أن طلب قيام جميع الليل غير مستثنى عنه وقت الهجوع، ولم يرد به الشرع، وقال الزجاج: المعنى: كانوا يهجعون قليلًا من الليل، أي: ينامون قليلًا منه، وجائز أن تكون "ما" مؤكدة لغوًا، وجائز أن تكون مع ما بعدها مصدرًا، المعنى: قليلًا من الليل هجوعهم. وقال أبو البقاء: {كَانُوا قَلِيلًا} في خبر "كان" وجهان: أحدهما: {مَا يَهْجَعُونَ}، وفي {مَا} على هذا وجهان. أحدهما: هي زائدة، أي كانوا يهجعون قليلًا، و {قَلِيلًا}: نعت لظرف أو مصدر، أي: زمنًا قليلًا، أو هجوعهم قليلًا، والثاني: "ما" نافية، ذكره بعض النحويين، ورد لأن النفي لا يتقدم عليه ما في حيزه، والثاني: أن {قَلِيلًا} خبر "كان"، و {مَا} مصدرية، أي: كانو قليلًا هجوعهم، كما نقول: كانوا يقل هجوعهم، ويجوز على هذا أن يكون {مَا يَهْجَعُونَ} بدلًا من اسم كان بدل الاشتمال، و {مِّنَ اللَّيْلِ} لا يجوز أن يتعلق بـ {يَهْجَعُونَ} على هذا لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه، وإنما هو منصوب على التبيين ومتعلق بفعل محذوف يفسره {يَهْجَعُونَ}. وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله {قَلِيلًا}، ثم استأنف فقال: {مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}، وفيه بعد لأنك إن جعلت {مَا} نافية فسد لما ذكرنا، وإن جعلتها مصدرية لم يكن فيه مدح لأن الناس يهجعون في الليل. الانتصاف: قال الزمخشري: وفي الآية مبالغات، لفظ الهجوع وهو القليل من النوم، وقوله: {قَلِيلًا}، وقوله: {مِّنَ اللَّيْلِ}، ومنها زيادة "ما" المؤكدة في بعض الوجوه، وفي الأخير نظر، فإن "ما"

وفيه مبالغات: لفظ الهجوع، وهو الغرار من النوم. قال: قد حصت البيضة رأسي فما .... أطعم نوما غير تهجاع وقوله: {قَلِيلًا} و {مِّنَ اللَّيْلِ} لأن الليل وقت السبات والراحة، وزيادة {مَا} المؤكدة لذلك. وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقوله: {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون {مَا} نافية كما قال بعضهم، وأن يكون المعنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلا، ويحيونه كله؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تؤكد الهجوع وتحققه لا أنها تجعله معنى القلة. الإنصاف: بل تؤكد ما سبقها، وقو قوله: قليلًا، أو تحقق أن الهجوع قليل ومحقق أنه قليل. وقلت: الظاهر أنها تؤكد المضمون؛ لأن الإشارة بقوله: "لذلك" جميع ما سبق، مما يعطيه معنى الهجوع من قلة النوم، ولفظ قليل مما وضع له، وتخصيص ذكر الليل من إرادة الراحة. قوله: (وهو الغرار)، الجوهري: الغرار: النوم القليل. الراغب: الغرة: غفلة مع غفوة. قوله: (قد حصت البيضة) البيت، الحص، أي: زال شعر رأسي باعتياد لبس المغفر، البيت لأبي قيس بن الأسلت وبعده: أسعى على جل بني مالك .... كل امرئ في شأنه ساع

قلت: لا، لأن "ما" النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول: زيدا ما ضربت. السائل: الذي يستجدي، {والْمَحْرُومِ} الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا: فما هو؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقول: زيدًا لم أضرب، ولا تقول: زيدًا ما ضربت) قال شارح "الهادي": يجوز تقديم منصوب الأفعال الناقصة الواجبة على اسمها بلا خاف، لأنها أفعال متصرفة واجبة، قال تعالى: {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 177] وهو دليل جواز تقديم الخبر، وأما ما أوله "ما" النافية وهي: ما زال، وما برح، وما فتئ، فمنع البصريون تقديم خبرها عليها، لأن النفي كالاستفهام له صدر الكلام، فلا يتقدم ما في حيزه عليه، وأجاز الكوفيون وابن كيسان؛ لأن الكلام إيجاب لدخول حرف النفي على الأفعال التي معناها النفي، ويجوز ذلك مع: لم ولا ولن؛ لأن لن ولم كالجزء من الفعل لاختصاصهما به، وأما "لا" فإنها كثيرة التصرف، تدخل على المعرفة والنكرة ويتخطاها العامل، وتعمل فيما بعدها، كقولك: خرجت بلا زاد، وعوقبت بلا جرم، فتعمل فيما قبلها، وقال أيضًا: "لا أفعل" نقيض "أفعل غدًا"، فكما جاز: زيدًا أرى غدًا، أو أراه، جاز: زيدًا لا أرى، ولا أراه، و"لم أفعل" نقيض: "سوف أفعل"، فكما جاز: أخاك سوف أزور، وسوف أزوره، جاز: أخاك لن أزور، ولن أزوره. قوله: (ليس المسكين) عن البخاري ومسلم وأبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي

قال: "الذي لا يجد ولا يتصدق عليه" وقيل: الذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب. [{وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 20 - 21] {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره، حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها، كما قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53]، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة؛ فمن سهل وجبل وبر وبحر، وقطع متجاورات؛ من صلبة ورخوة، وعذاة وسبخة؛ وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يجد غنًى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس". قوله: (لا ينمى له مال) يحتمل أن يتمسك به الشافعي، أي: له مال، ولكن لا ينمى، وأبو حنيفة: ليس له مال حتى ينمة، نحوه قوله: {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. قوله: (المحارف)، الجوهري: رجل محارف بفتح الراء: أي محدود محروم، وهو خلاف قولك: مبارك، ورجل محارف: أي منقوص الحظ لا ينمو له مال. قوله: (وعذاه)، الأساس: أودية ذات عذوات، وهي الأرضون الطيبة التربة الكريمة النبات. قوله: (وهي كالطروقة)، الجوهري: الطروقة الفحل: أنثاه، ويقال: ناقة طروقة الفحل: التي بلغت أن يضربها الفحل.

{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسي والهوام، وغير ذلك. {لِّلْمُوقِنِينَ} الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم. {وفِي أَنفُسِكُمْ} في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوي في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني؛ فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين. [{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 22 - 23] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخصت به) عطف على ركز، والضمير في "به" راجع إلى "ما"، و "من أصناف المعاني" بيان ما خصت، و "بالألسن" عطف على "القلوب". قوله: (جسا) أي: يبس، لأنه إذا يبس صلب، وسيجيء إن شاء الله بيان نظم الآيات عند قوله تعالى: {وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ}.

{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} هو المطر؛ لأنه سبب الأقوات. وعن سعيد بن جبير: هو الثلج وكل عين دائمة منه. وعن الحسن: أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم. {ومَا تُوعَدُونَ} الجنة: هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، أو أراد: أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مكتوب في السماء. قرئ: (مثل ما) بالرفع صفة للحق، أي: حق مثل نطقكم، وبالنصب على: إنه لحق حقا مثل نطقكم. ويجوز أن يكون فتحا لإضافته إلى غير متمكن، و"ما" مزيدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("مثل ما" بالرفع) أبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالنصب، قال أبو البقاء: الرفع على أنه نعت لـ"حق"، أو خبر ثان، أو على أنهما خبر واحد، مثل: حلو حامض، و"ما" زائدة على الأوجه الثلاثة، والفتح فيه وجهان أحدهما: وهو مغرب، وفيه أوجه، إما هو حال الضمير في حق، أو على إضمار أغنى، أو على أنه مرفوع الموضع، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قول الأخفش، و"ما" على هذه الأوجه زائدة أيضًا، والوجه الثاني: هو مبني، وفيه وجهان، أحدهما: أنه ركب مع "ما" كخمسة عشر، و"ما" على هذا يجوز أن تكون زائدة، وأن تكون نكرة موصوفة،

بنص الخليل، وهذا كقول الناس: إن هذا لحق، كما أنك ترى وتسمع، ومثل ما أنك ها هنا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أن تكون بنيت لأنها أضيفت إلى مبهم، وفيها نفسها إبهام كقوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66]، فتكون "ما" على هذا إما زائدة، وإما بمعنى شيء. وأما "إنكم"، فيجوز أن يكون موضعها جرًا بالإضافة إذا جعلت "ما" زائدة، وأن تكون بدلًا منها إذا كانت بمعنى شيء، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإضمار: أعني، أو رفع على تقدير: هو أنكم. وقال الواحدي: ومن نصب جعل "مثل" مع "ما" بمنزلة شيء واحد، ذكر ذلك المازني وأبو علي، قال: ومثله قول حميد: وويحًا لمن لم يدر ما هن ويحها فبنى "ويح" مع "ما" ولم يلحقه التنوين. قوله: (ومثل ما أنك هاهنا) قال الواحدي: شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه بتحقق نطق الآدمي ووجوده، أي: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.

وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أو إلى ما توعدون. وعن الأصمعي: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علي، فتلوت {وَالذَّارِيَاتِ} فلما بلغت قوله تعالى: {وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا! ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ}، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ! لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين؟ ! قالها ثلاثًا وخرجت معها نفسه. [{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وجْهَهَا وقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إنَّهُ هُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ} 24 - 30] {هَلْ أَتَاكَ} تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: إنما خص النطق دون سائر الأعمال الضرورية لكونه أبين وأظهر، ومن الاحتمال أبعد، وفيه إيماء إلى استجلاب رأس الشكر، قال: إنما جعل الحمد رأس الشكر؛ لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشبع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح، لأن النطق يفصح عن كل خفي، ويجلي كل مشتبه.

لأنه في الأصل مصدر: ضافه. وكانوا اثني عشر ملكا وقيل: تسعة عاشرهم جبريل وقيل: ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وملك معهما. وجعلهم ضيفا؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف: حيث أضافهم إبراهيم. أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وإكرامهم: أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى، أو أنهم في أنفسهم مكرمون. قال الله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {إذْ دَخَلُوا} نصب بـ {المُكْرَمِينَ} إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم؛ وإلا فبما في {ضَيْفِ} من معنى الفعل. أو بإضمار: اذكر. {سَلامًا} مصدر ساد مسد الفعل مستغنى به عنه. وأصله: نسلم عليكم سلامًا، وأما {سَلامٌ} فمعدول به إلى الرفع على الابتداء. وخبره محذوف، معناه: عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذًا بأدب الله تعالى. وهذا أيضًا من إكرامه لهم. وقرئا مرفوعين، وقرئ: (سلامًا قال سلمًا)، والسلم: السلام. وقرئ: (سلامًا قال سلم). {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم، كما لو أبصر العرب قومًا من الخزر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئا مرفوعين، وقرئ: "سلامًا") المشهورة: بالنصب، والرفع: شاذة، حمزة والكسائي: "قال سلم" بكسر السين وإسكان اللام، والباقون: بفتح السين واللام وألف بعدها. قوله: (من الجرز) عن بعضهم: جيل من الناس، وهم الغز والأتراك.

أو رأى لهم حالًا وشكلًا خلاف حال الناس وشكلهم، أو كان هذا سؤالًا لهم، كأنه قال: أنتم قوم منكرون، فعرفوني من أنتم؟ {فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ} فذهب إليهم في خفية من ضيوفه؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. قال قتادة: كان عامة مال نبي الله إبراهيم: البقر {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}. والهمزة في {أَلا تَاكُلُونَ} للإنكار: أنكر عليهم ترك الأكل. أو حثهم عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو كان هذا سؤالًا لهم) عطف على قوله: "أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام"، يعني: أنه عليه السلام إما أن أنكرهم بقلبه، وقال في نفسه: هؤلاء قوم منكرون، أو كان هذا سؤالًا لهم، وقال بلسانه: أنتم قوم منكرون؟ ، وذلك أنه عليه السلام، كان بين أظهر قوم كفار، ما عهد منهم السلام الذي هو تحية للمسلمين، فلما سمع منهم أنكرهم. نحوه ما روينا في "الصحيحين" أن موسى عليه السلام لما سلم عليه الخضر عليه السلام قال: أنى بأرضك السلام! أو بأرضي السلام؟ ! أو أراد أنهم ليسوا من معارفه، أو من جنس الناس الذين عهدهم، أو رأى لهم شكلًا خلاف شكل الناس، روى الواحدي: عن ابن عباس قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم. قوله: ({فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ}: فذهب إليهم في خفية)، الراغب: الروغ: الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب يروغ روغانًا، وطريق رائغ إذا لم يكن مستقيمًا، كأنه يراوغ، وراغ فلان إلى فلان: مال نحوه لأمر يريد منه بالاحتيال، قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَاكُلُونَ} [الصافات: 91]، {فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]، أي: احتال، وحقيقته طلب بضرب من الروغان، ونبه بـ"على" على معنى الاستعلاء.

{فَأَوْجَسَ} فأضمر. وإنما خافهم لأنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءًا. وعن ابن عباس: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعن عون بن شداد: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه. {بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي يبلغ ويعلم. وعن الحسن، عليم: نبي، والمبشر به إسحاق، وهو أكثر الأقاويل وأصحها؛ لأن الصفة صفة سارة لا هاجر، وهي امرأة إبراهيم وهو بعلها. وعن مجاهد: هو إسماعيل. {فِي صَرَّةٍ} في صيحة، من: صر الجندب، وصر القلم والباب، ومحله النصب على الحال، أي: فجاءت صارة. قال الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل: فأخذت في صرة، كما تقول: أقبل يشتمني. وقيل: صرتها قولها: أوه! وقيل: يا ويلتا! وعن عكرمة: رنتها. {فَصَكَّتْ} فلطمت ببسط يديها. وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها؛ فعل المتعجب. {عَجُوزٌ} أنا عجوز، فكيف ألد؟ ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لم يتحرموا بطعامه) أي: لم يدخلوا في حرمة بأكل طعامه، الأساس: تحرم فلان بفلان، إذا عاشره ومالحه، وتأكدت الحرمة بينهما، وتحرمت بطعامك، ومجالستك، أي: حرم عليك مني بسببها ما كان لك أخذه. قوله: (فقام يدرج) الأساس درج الشيخ والصبي درجانًا، وهو مشيهما. قوله: (الجندب) الجوهري: الجندب: ضرب من الجراد. قوله: (وجدت حرارة الدم) قال صاحب "المطلع": أي دم الحيض، كما قال تعالى: {فَضَحِكَتْ}.

{كَذَلِكِ} مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به، {قَالَ رَبُّكِ} أي إنما نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين. وروي أن جبريل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة. [{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلُونَ * قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ * وتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ} 31 - 37] لما علم أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلًا في بعض الأمور {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} أي: فما شأنكم وما طلبكم؟ {إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} إلى قوم لوط. {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} يريد: السجيل، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة، {مُسَوَّمَةً} معلمة، من السومة، وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب. وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا. سماهم مسرفين، كما سماهم عادين، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم: حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم. الضمير في {فِيهَا} للقرية، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد، وأنهما صفتا مدح. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد) قال القاضي: وهو ضعيف، لأن ذلك لا يقتضي إلا صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه، وذلك لا يقضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

قيل: هم لوط وابنتاه. وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. وعن قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله. {آيَةً} علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم. قال ابن جريح: هي صخر منضود فيها. وقيل: ماء أسود منتن. [{وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ وهُوَ مُلِيمٌ} 38 - 40] {وفِي مُوسَى} عطف على {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} أو على قوله: {وتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقوله: علفتها تبنًا وماءً باردا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: قوله: "وأنهما صفتا مدح" عطف تفسيري، ومعناه: أن ذكر المؤمنين والمسلمين هاهنا لمجرد المدح، وأن الثاني عين الأول لوقوعهما مقابلين لذكر الكافرين، فقيل أولًا: إلى قوم مجرمين، ثم للمسرفين، والثاني عين الأول وضعًا للمظهر موضع الضمير، المعنى: أردنا إخراج من كان فيها من المطيعين الكاملين في الإيمان، فما وجدنا غير بيت منهم، فقيل: من المسلمين، ولو لم يكن الإسلام داخلًا في مفهوم الإيمان لما صح استثناء بيت من المسلمين من قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ}. قوله: ({وفِي مُوسَى} عطف على {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ}) إشارة إلى بيان نظم الآيات، وذلك أنه تعالى لما ذم الخراصين الأفاكين، ووصفهم لما به أوقعوا أنفسهم في تلك الورطات، وهو أنهم في غمرات الجهل، وسكرات السهو، يتورطون فيما لا يعنيهم من السؤال عن أيان

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} فازور وأعرض، كقوله تعالى: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51]، وقيل: فتولى بما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقرئ: (بركنه)، بضم الكاف. {وقَالَ سَاحِرٌ} أي هو ساحر. {مُلِيمٌ} آت بما يلام عليه من كفره وعناده، والجملة مع الواو حال من الضمير في {فَأَخَذْنَاهُ}. فإن قلت: كيف وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه، بما وصف به فرعون في قوله تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142]؟ قلت: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود: 59]، {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] لأن الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة. [{وفِي عَادٍ إذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 41 - 42] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الساعة، مع إنكار مجيئها والامتناع من الاستعداد لها، وأوعدهم على ذلك بقوله: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} وجعله مخلصًا إلى ذكر أضدادهم، وذكر ما به فازوا إلى النعيم المقيم، من أخذ التأهب للمعاد، والتهيؤ لاستعداد زاد يوم التناد، أتى بعد ذلك بدليل للآفاق والأنفس، تنبيهًا لهم، وإيقاظًا من سنة الغفلة، وعطف عليه قصة موسى وفرعون اتعاظًا وتخويفًا، وأما قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام، فمعترضتان بين المعطوف والمعطوف عليه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبهم، ووعدًا له بإهلاك أعدائه الأفاكين كما أهلك قوم لوط. قوله: ({فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} فازور وأعرض) قال بعضهم: أي حرف ركنه وهو منكبه، والباء للتعدية، وحذف المفعول لأنك تقول: تولى عنه، أي: أعرض عنه.

{العَقِيمَ} التي لا خبر فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، وهي ريح الهلاك. واختلف فيها: فعن علي رضي الله عنه: النكباء. وعن ابن عباس: الدبور. وعن ابن المسيب: الجنوب. الرميم: كل ما رم أي: بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك. [{وفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ ومَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} 43 - 45] {حَتَّى حِينٍ} تفسيره قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} فاستكبروا عن امتثاله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من إنشاء مطر أو إلقاح شجر) إيذان بأن {العَقِيمَ} هاهنا مستعار للمعنى المذكور على سبيل التبعية، شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، لما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل، ثم قيل: العقيم، وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به. الراغب: أصل العقم: اليبس المانع من قبول الأثر، تقول عقمت مفاصله، وداء عقام: لا يقبل البرء، والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل، يقال: عقمت الرحم، وريح عقيم، يصح أن يكون بمعنى الفاعل، وهي التي لا تلقح سحابًا ولا شجرًا، وأن يكون بمعنى المفعول كالعجوز العقيم، وهي التي لا تقبل أثر الخير، وإذا لم تقبل ولم تتأثر لم تعط ولم تؤثر، ويوم عقيم: لا فرح فيه. قوله: (النكباء) الجوهري: النكباء: الريح الناكبة التي تنكب عن مهاب الرياح، أي: تتجنب، من تنكبه، أي تجنبه، والدبور: الريح التي تقابل الصبا. قوله: ({حَتَّى حِينٍ} تفسيره) أي: في موضع آخر، تفسيره قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، وفي الكبير: قال بعضهم: المراد هو ما أمهلهم الله تعالى أيامًا بعد عقرهم

وقرئ: (الصعقة) وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة، والصاعقة: النازلة نفسها، {وهُمْ يَنظُرُونَ} كانت نهارا يعاينونها. وروي أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرتهم، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} كقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} بالعنكبوت: 37] وقيل: هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه. {مُنتَصِرِينَ} ممتنعين من العذاب. [{وقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 46] {وقَوْمَ} قرئ بالجر على معنى: وفي قوم نوح، وتقويه قراءة عبد الله: (وفي قوم نوح). وبالنصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح؛ لأم ما قبله يدل عليه. أو واذكر قوم نوح. [{والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإنَّا لَمُوسِعُونَ * والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ} 47 - 48] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الناقة، وكانت لهم في تلك الأيام أنواع من الآيات، كتغيير ألوانهم واسوداد وجوههم، وهو ضعيف؛ لأن ترتب قوله: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} بالفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله: {تَمَتَّعُوا}. فإذن الظاهر هو ما قدر الله تعالى للناس من الآجال، فما من أحد إلا وهم ممهل مدة الأجل، يقال له: تمتع إلى آخر أجلك، فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين، وإلا ما لك في الآخرة من نصيب. قوله: (وقرئ: "الصعقة")، الكسائي وحده. قوله: ({وقَوْمَ} قرئ بالجر) أبو عمرو وحمزة والكسائي، والباقون بالنصب.

{بِأَيْدٍ} بقوة. والأيد والآد. القوة. وقد آد يئيد وهو أيد. {وإنَّا لَمُوسِعُونَ}: لقادرون؛ من الوسع: وهو الطاقة. والموسع: القوي على الإنفاق. وعن الحسن: لموسعون الرزق بالمطر. وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة {فَنِعْمَ المَاهِدُونَ} فنعم الماهدون نحن. [{ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 49] {ومِن كُلِّ شَيْءٍ} أي من كل شيء من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ذكرًا وأنثى. وعن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وإنَّا لَمُوسِعُونَ}: لقادرون؛ من الوسع) اعتبر الوسع في القدرة والجود والمكان. الراغب: ويستعمل في الأمكنة، وفي الحال وفي الفعل، كالقدرة والجود ونحو ذلك، ففي المكان قوله تعال: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] وفي الحال قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] و {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، والوسع من القدرة ما يفضل عن قدر المكلف، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] تنبيهًا على أنه يكلف عبده دوين ما ينوء به المكلف قدرته، وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] فعبارة عن سعة علمه وقدرته. وقوله: {وإنَّا لَمُوسِعُونَ} فإشارة إلى نحو قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. وقلت: أراد أن قوله تعالى: {وإنَّا لَمُوسِعُونَ} تكميل لمعنى قوله: {والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إن فسر الأيد بالقوة، ليضم مع صفة القدرة، صفة الكرم، أو تتميم إن فسر بالإنعام، كما فرع قوله: {ثُمَّ هَدَى} على قوله: {أَعْطَى}، ألا ترى إلى قرينتها: {والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ}

والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة؛ فعدد أشياء وقال: كا اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء، وفرش الأرض، وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه. [{فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 50 - 51] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف فرع {المَاهِدُونَ} على {فَرَشْنَاهَا} مزيدًا لإرادة الامتنان، فالمناسب إذن تفسير الحسن: لموسعون الرزق بالمطر، كقوله تعالى: {وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ}. قوله: (كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد) قال أبو سعيد الخراز: أظهر معنى الربوبية والوحدانية، بأن خلق الأزواج لتخلص له الفردانية. الراغب: يقال لكل من القرينتين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينتين فيها وفي غيرها: زوج، كالخف والنعل، ولكل ما يقرن بآخر مماثلًا له أو مضادًا: زوج، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131] أي أشباهًا وأقرانًا. وقوله تعالى: {ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} تنبيه على أن كل ما في العالم، فإنه زوج من حيث أن له ضدًا ما، أو مثلًا ما، أو تركيبًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب، وإنما قال: {زَوْجَيْنِ} ليؤذن بأن الشيء وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركيب، وذلك زوجان،

{فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئا، وكرر قوله: {إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع غلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] أي: أنواعًا متشابهة. قوله: (ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل)، الانتصاف: حمل الزمخشري الآية على ما لم تحتمل، وليس في الآية إلا النهي عن التقصير والأمر بالمبادرة، وفائدة التكرار: التنبيه على أنه لا تنفع العبادة مع الإشراك، إذ حكم المشرك حكم الجاحد المعطل، أو المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الإيمان، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف دون الخلود، فيكون وعيدًا مختلفًا لا تكرارًا. وقلت: الآية من باب قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] بل دل الأول على الأمر بالاعتصام بالتوحيد، والثاني على النهي عن الإشراك، كقولنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. روى محيي السنة عن سهل بن عبد الله: ففروا مما سوى الله إلى الله، وروى السلمي عن محمد بن حامد: حقيقة الفرار إلى الله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وألجأت ظهري إليك"، وقال أيضًا: "أعوذ بك"، وهذا غاية الفرار منه إليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الواسطي: لن يصل إلى الله تعالى إلا من يفر من نفسه. وأما قضية النظم فلما قلنا: إن قوله: {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وفِي أَنفُسِكُمْ}، {وفِي مُوسَى}، تعريض بالمكذبين الخراصين، فكان في قصص الأنبياء وإهلاك المعاندين تخويف شديد. وفي قوله: {والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} تذكير لشدة سطوته وكمال قدرته، فلما فرغ من ذلك، أمر حبيبه صلوات الله عليه وسلامه بأن يقول لقومه: إذا ظهر لكم شدة قهرة وكمال سطوته، وما فعل بالأمم المكذبة، وعرفتم كل ذلك، وإنه إذا أخذ لا يبقي ولا يذر، ففروا إلى الله من الله، واتركوا العناد، وخافوا سوء مغبة تكذيبكم، يدل عليه قوله: {إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وتكريره إظهارًا للنصيحة وأنه النذير العريان، وقوله بعد ذلك: {مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ} وإن شئت علقت الفاء، في {فَفِرُّوا} بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وعليه ظاهر كلام المصنف، ولكن تقرير ذلك أنه تعالى لما أظهر القهارية بإهلاك الأمم الماضية، وبين الفردانية بقوله: {ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}، ونبه على ذلك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ورتب عليه: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ}، ووضع الاسم الجامع موضع الضمير، يعني: إذا تفكرتم واعتبرتم وتذكرتم، وتبين لكم أنه هو القهار الصمد، وإليه المرجع والملجأ فلوذوا إليه وتوكلوا عليه، ولا تشركوا به شيئًا، والعبادة من لوازم ذلك، ولذلك عقبه بقوله: {ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وحين لم يكن ينجع في المشركين تلك المواعظ والتخويف والتذكير، رجع عودًا إلى بدء، بقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} إلى آخره، مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه، وجعل التخلص إلى المقصود من الخلق قوله: {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ}.

ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمعنى: قل يا محمد: ففروا إلى الله. [{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 52 - 53] {كَذَلِكَ} الأمر، أي مثل ذلك، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرًا ومجنونًا، ثم فسر ما أجمل بقوله: {مَا أَتَى}، ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بـ {أَتَى}؛ لأن "ما" النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل: لم يأت، لكان صحيحًا، على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا ترى إلى قوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الآية، قد ذكرنا في موضعه أن الآية دالة على خلاف ما قصد به، وأن المعنى: {يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} حينئذ، أو كسبها في إيمانها خيرًا حينئذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا من قبل، فهو من حذف إحدى القرينتين من اللف لدلالة النشر عليه. قوله: (وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم) يعني: المشار إليه ما في الذهن على الإبهام، وهو الأمر، لمجيء تفسيره، وهو قوله: {مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم}. قوله: (على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت) متعلق بقوله: "لو قيل: لم يأت، لكان صحيحًا"، فإن قلت: لم أوثر في التنزيل "ما" على "لم"؟

{أَتَوَاصَوْا بِهِ} الضمير للقول، يعني: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه. [{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} 54 - 55] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت عنهم العناد واللجاج، فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} أي: تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانًا. وروي أنه لما نزلت {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله: {وذَكِّرْ}. [{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 56] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ليؤذن بانفصال ما صدر بها على ما قبله واتصاله بقوله: {وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} إلى آخر القصص، فلما وسط بينهما الحديث في بيان الآيات الدالة على التوحيد، ونفي الشرك والفرار إلى تعالى عما سواه، جيء بقوله الآمر كذلك فصلًا للخطاب، ليتخلص منه إلى ما سبق له الكلام، ولو أتى بـ"لم" لاختل النظم، وأما الكلام في بيان الفرق بين "ما" و "لم" فقد سبق. قوله: (أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا) يعني الإضراب بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، يستدعي أن يفسر {أَتَوَاصَوْا بِهِ} بما يصح الإضراب عنه به، وذك بأن يجعل الاستفهام لإنكار أنهم لو توافقوا على أن قالوا جميعًا لرسلهم: ساحر أو مجنون في زمان واحد، وإثبات أنهم إنما قالوه لطغيانهم.

أي: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها. فإن قلت: لو كان مريدا للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادًا؟ قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة، لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدًا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم. [{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} 57 - 58] يريد: أن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإما مجهز في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو كان مريدًا للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادًا)، الانتصاف: من عادته إذا رأى ظاهرًا يوافق معتقده، أورد مذهب أهل السنة سؤالًا، وأورد معتقده جوابًا، والجواب الذي ذكره لا يصح، فإن السؤال مقدماته عقلية قطعية، والظاهر إذا خالف القطع وجب رده إلى الأدلة القطعية، وظاهري الآية دليل لأهل السنة، لأنها سيقت لبيان عظمة الله، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس بغيره، فإن عبيد الخلق مطلوبون بالخدمة تكسبهم للسادة، وبواسطة كسب العبيد تدر أرزاق سادتهم، والله تعالى لا يطلب من عباده رزقًا ولا طعامًا، بل يطلب منهم العبادة لا غير، وزائد على ذلك أنه هو الذي يرزقهم، فحاصله: وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي. وقلت: أما مقتضى النظم فإن الكلام وارد على تحريض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بعث به من التذكير والتفادي عن التواني فيه، لأنه لما نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم

تجارة ليفيء ربحًا، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضًا، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب أو محتش، أو طابخ أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأما مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد ان أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي، {المَتِينُ} الشديد القوة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأنزل الله: {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} أي: لا تدع التذكير والموعظة، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وحجة على المعاندين، فإنك ما بعثت إلا للدعوة: وما خلق الجن والإنس إلا لأن يؤمروا بالعبادة لأنهم مكلفون امتحانًا وابتلًا. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن محيي السنة عن علي رضي الله عنه: أنه قال: {إلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: إلا لآمرهم أن يعبدوني. قوله: (من الأعمال والمهن)، الجوهري: المهنة _بالفتح_: الخدمة، والماهن: الخادم. قوله: (وعن مرافقكم)، الجوهري: المرفق من الأمر: ما انتفعت به. قوله: (من عندي) متعلق بمتفضل، أي: أنا متفضل عليكم من عندي، ذلك من غير سابقة منكم، كما هو دأب السادات. قوله: ({المَتِينُ} الشديد القوة)، الراغب: المتنان: مكتنفًا الصلب، وبه شبه المتن من الأرض، ومتنته: ضربت متنه، فصار متينًا، ومنه قيل: حبل متين، فإن الله تعالى: ذو القوة المتين.

قرئ بالرفع صفة لـ {ذُو}، وبالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة: انه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء، وقرئ: (الرازق) وفي قراءة النبي: (إني أنا الرازق). [{فَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} 59 - 60] الذنوب: الدلو العظيمة، وهذا تمثيل، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال: لنا ذنوب ولكم ذنوب .... فإن أبيتم فلنا القليب ولما قال عمرو بن شأس: وفي كل حي قد خبطت بنعمة .... فحق لشأس من نداك ذنوب قال الملك: نعم وأذنبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ بالرفع) أي: {المَتِينُ}، وهي المشهورة، وبالجر: شاذ. قوله: (وفي كل حي) البيت، خبطت مستعار لإفاضة النعمة. الأساس: وخبط في قومه: إذا نفعهم. الجوهري: خبطت الرجل: إذا أنعمت عليه من غير معرفة، وأنشد البيت. شأس هو أخو علقمة، مدح الحارث الغساني بقصيدة فيها البيت، وكان عنده أسيرًا فلما سمع الحارث قوله: فحق لشأس من نداك ذنوب

والمعنى: فإن الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله، مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون. وعن قتادة: سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم، {مِن يَوْمِهِمُ} من يوم القيامة. وقيل: من يوم بدر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة {وَالذَّارِيَاتِ} أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: نعم وأذنبة، وأمر بإطلاقه وإطلاق جميع أسرى بني تميم. تمت السورة حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الطور

سورة الطور مكية، وهي تسع وأربعون، وقيل: ثمان وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{وَالطُّورِ * وكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * والْبَيْتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرْفُوعِ * والْبَحْرِ المَسْجُورِ * إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا} 1 - 10] الطور: الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين. والكتاب المسطور في الرق المنشور - والرق: الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه - الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الطور مكية وهي تسع وأربعون آية، وقيل: ثمان وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال)، خبر للموصوف والصفة، وهي قوله: "والكتاب المسطور في الرق المنشور"، وما بينهما تفسير للرق، قد اعترض بينهما، وعن بعضهم: "والكتاب" مبتدأ، "والمسطور" خبر له، والأول أقرب.

قال الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] وقيل: هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]. {والْبَيْتِ المَعْمُورِ} الضراح في السماء الرابعة. وعمرانه: كثرة غاشيته من الملائكة. وقيل: الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونكر لأنه كتاب مخصوص)، يعني قيل: "كتاب" نكرة، وهو أعرف المعارف وأشهرها ليدل على اختصاصه من جنس الكتب بأمر تميز به من سائرها. قال في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] نفسًا خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قيل: وواحدة من النفوس. وقريب منه ما سيجيء بعيد هذا؛ أن المتقين في جنات ونعيم، أي: في جنات مخصوصة بهم، خلقت لهم خاصة. وأنشد ابن جني: أمير المؤمنين على صراط .... إذا اعوج الموارد مستقيم وقال هذا كقوله: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم، لا فرق بينهما، وعليه قوله تعالى: {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68] أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونظرنا لهم صراطًا مستقيمًا. قوله: (الضراح في السماء الرابعة)، النهاية: الضراح: بيت في السماء حيال الكعبة، ويروى: الضريح، وهو البيت المعمور؛ من المضارحة، وهي المقابلة والمضارعة، وبالصاد المهملة مصحف.

{والسَّقْفِ المَرْفُوعِ} السماء، {والْبَحْرِ المَسْجُورِ} المملوء. وقيل: الموقد، من قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]. وروي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نار تسجر بها نار جهنم. وعن علي رضي الله عنه أنه سأل يهوديًا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. قال علي: ما أراه إلا صادقًا، لقوله تعالى: {والْبَحْرِ المَسْجُورِ}. {لَوَاقِعٌ} لنازل. قال جبير بن مطعم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ {إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} أسلمت خوفًا من أن ينزل العذاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي الصحيحين في حديث الإسراء: أن البيت المعمور في السماء السابعة. قوله: (ما أراه إلا صادقًا)، قلت: ومصداقه أيضًا ما رويناه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تركب البحر إلا حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله، فإن تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا". أخرجه أبو داود، وفي هذا الحديث إشارة إلى أن راكبه متعرض للآفات المهلكة والفتن المغرقة، إحداها وراء الأخرى، وفيه: أن اختيار ذلك لغرض من الأغراض الفانية سفه وجهل، لأن فيه تلف النفس، وبذل النفس لا يحمد إلا فيما يقرب العبد إلى الله.

{تَمُورُ السَّمَاءُ} تضطرب وتجيء وتذهب. وقيل: المور: تحرك في تموج، وهو الشيء يتردد في عرض، كالداغصة في الركبة. [{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 11 - 16] غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] الدع: الدفع العنيف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومار الشيء: تردد في عرض)، الأساس: الدم يمور على وجه الأرض إذا انصب وتردد عرضًا. الراغب: المور: الجريان السريع: يقال: مار يمور مورًا، ومار الدم على وجهه، والمور: الترب المتردد به الريح، والناقة تمور في سيرها، وهي موارة. قوله: (كالداغصة)، الأساس: سمن حتى كأنه داغصه، وهي العظم الذي يموج في الركبة الداغصة، بالغين المعجمة والصاد المهملة. قوله: (غلب الخوض في الاندفاع في الباطل، الخوض في الأصل: الشروع في الماء والمرور فيه، ومستعار في الأمور.

وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعًا على وجوههم، وزخا في أقفيتهم. وقرأ زيد بن علي: (يدعون) من الدعاء، أي يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوا النار {دَعًا} مدعوعين، يقال لهم: هذه النار. {أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أفسحر هذا؟ يريد: أهذا المصداق أيضًا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى. {أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًا عن الخبر، وهذا تقريع وتهكم، {سَوَاءٌ} خبر محذوف، أي: سواء عليكم الأمران: الصبر وعدمه. فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روي عن المصنف أنه قال: "الخوض" في المعاني من الغالبة، فإنه يصلح للخوض في كل شيء، إلا أنه غلب في الباطل، ونظيره في الأسماء الغالبة: دابة، غلبت في ذوات الأربع، والقوم: في الرجال. قوله: (مدعوعين)، الأساس: دع اليتيم: دفعه بجفوة، ودعدع المكيال: حركه حتى يكتنز. و {دّعًّا} على هذه القراءة: حال، وعلى الأول: مفعول مطلق. قوله: (أهذا المصداق أيضًا سحر؟ ) قيل: المصداق هو الشيء الذي يعرف به الصدق، والعذاب في الآخرة، وغير ذلك من أحوال القيامة، مما يعد من مصداق قول الأنبياء عليهم السلام. قوله: (ودخلت الفاء لهذا المعنى)، عن بعضهم أي: تعقبت للمقدر، وهو: هذا سحر؟ ! وقلت: هذه الفاء تقتضي معطوفًا عليه، وهو مقدر دل عليه مضمون قوله: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} فدخلت الهمزة بين المعطوفين لمزيد من التقريع والتهكم، فإنه لما قيل:

قلت: لأن الصبر غنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. [{إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ووَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} 17 - 20] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} عقب بقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني: هذا المصداق أيضًا سحر؟ ! أي: كنتم تقولون للقرآن الذي أنذركم هذه النار: هذا سحر، فتقولون: سحر هذا أيضًا! ! فالمشار إليه بهذا: النار، وذكر لأنه في تأويل المصداق، أو الخبر مذكر وقدم الخبر لإفادة الاختصاص تتميمًا للتقريع، ثم قرر المعنى بقوله: {أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أي: هذا أيضًا لا تبصرون، كما كنتم لا تبصرون ما يدل على هذا، وقلتم: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]، و"أم" في ظاهر كلام المصنف منقطعة حيث قال: "أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًا عن الخبر"، أي: بل أنتم عمي عن المخبر عنه، وهذا تقريع وتهكم. وفي "التفسير الكبير": هل لأمرنا شك، أم هل في بصركم خلل، أي: لا واحد منهما ثابت، فجعلها معادلة. وقال صاحب "الكشف": {أَفَسِحْرٌ هَذَا}، كلام تام من مبتدأ وخبر، ثم قال: {أَمْ أَنتُمْ}، أي: بل أنتم {لا تُبْصِرُونَ}. قوله: (لأن الصبر)، أي: إنما علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ

{فِي جَنَّاتٍ ونَعِيمٍ} في أية جنات وأي نعيم! ! بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين، خلقت لهم خاصة. وقرئ: {فَاكِهِينَ} و (فكهين) و (فاكهون)؛ من نصبه حالًا جعل الظرف مستقرًا، ومن رفعه خبرًا جعل الظرف لغوًا، أي: متلذذين {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}. فإن قلت: علام عطف قوله: {ووَقَاهُمْ رَبُّهُمْ}؟ قلت: على قوله: {فِي جَنَّاتٍ}، أو على {آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} على أن تجعل (ما) مصدرية؛ والمعنى: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الواو للحال و"قد" بعدها مضمرة. يقال لهم: {كُلُوا واشْرَبُوا} أكلًا وشربًا {هَنِيئًا} أو طعامًا وشرابًا هنيئًا، وهو الذي لا تنغيص فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَعْمَلُونَ} لأن قوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} دل على تناهي العذاب، وأنه بلغ إلى أن الصبر والجزع لا ينفعان البتة. كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فإنه دل على تصميمهم على الكفر، وعدم ارعوائهم. قوله: (جعل الظرف مستقرًا)، يعني: {فِي جَنَّاتٍ} خبر لـ {إِنَّ}، و {فَاكِهِينَ} حال من ضمير الاستقرار، إذا قرئ منصوبًا، وإذا قرئ مرفوعًا كان هو الخبر، و {فِي جَنَّاتٍ} متعلق به، فالظرف لغو. قوله: (على أن تجعل "ما" مصدرية)، أي: إذا عطف {ووَقَاهُمْ} على {آتَاهُمْ} لا يجوز أن تكون ما موصولة، لفقدان العائد من الجملة المعطوفة، إذ التقدير: فاكهين بالذي آتاهم الله إياه، وبالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم، وليس في الجملة الثانية عائد إلى الموصول؛ لأن "وقاهم" أخذ كلا مفعوليه، بخلاف {آتَاهُمْ}.

ويجوز أن يكون مثله في قوله: هنيئًا مريئًا غير داء مخامر .... لعزة من أعراضنا ما استحلت أعني: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعًا به ما استحلت كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل: هنأ عزة المستحل من أعراضنا، وكذلك معنى {هَنِيئًا} هاهنا: هنأكم الأكل والشرب. أو هنأكم ما كنتم تعلمون؛ أي: جزاء ما كنتم تعلمون. والباء مزيدة كما في {كَفَى بِاللهِ} [الرعد: 43] والباء متعلقة بـ {كُلُوا واشْرَبُوا} إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وقرئ: (بعيس عين). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون مثله)، أي: لا يكون {هَنِيئًا} صفة مصدر محذوف، بل يكون من المصادر التي حذف عاملها، وأقيمت مقامه، وفاعله الأكل، أو {بِمَا كُنتُمْ}، على أن الباء زائدة كما في البيت، لأن "ما استحلت" فال "هنيئًا مريئًا"، والهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغًا لا تنغص فيه. وقال أبو البقاء في قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]: مصدر جاء على "فعيل"، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: أكلًا هنيئًا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء في {فَكُلُوهُ}، أي: مهنأ. قوله: (والباء متعلقة بـ {كُلُوا واشْرَبُوا}، أي: هناكم الأكل والشرب بسبب عملكم. قوله: (وقرئ: "بعيس عين")، قال ابن جني: وهي قراءة عبد الله وإبراهيم، المرأة العيساء: البيضاء، ومثله: جمل أعيس، وناقة عيساء.

[{والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ومَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ ولَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَاسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ولا تَاثِيمٌ * ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} 21 - 24] {والَّذِينَ آمَنُوا} معطوف على "حور العين" أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم، كقوله تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين. (وأتبعناهم ذرياتهم) قال رسول الله: "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه" ثم تلا هذه الآية. فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. ثم قال: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: بسبب إيمان عظيم رفيع المحل -وهو إيمان الآباء- ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلًا عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم، ونكمل نعيمهم. فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه: الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بسبب إيمان عظيم رفيع المحل -وهو إيمان الآباء_ ألحقنا بدرجاتهم)، روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن علي رضي الله عنه عن خديجة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية. قوله: (الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة)، تكرير لما علم من قوله: "عظيم

ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. وقرئ: (وأتبعتهم ذريتهم)، {واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم}، و (ذرياتهم)، وقرئ: (ذرياتهم) بكسر الذال. ووجه آخر، وهو أن يكون {والَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، وما بينهما اعتراض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحل" هذا المعنى، فيكون السؤال مستدركًا، لعله سأل ليجيب بما يعلم منه، هذا مع شيء آخر، وهو أن التنكير يحتمل التقليل أيضًا نحوه مر في أول البقرة: "هل لهذه الفواتح محل من الإعراب، بعد ما علم إعرابها من وجه"؟ فأجاب بمثل هذا الجواب. قوله: (بشيء من الإيمان)، والتنكير حينئذ للتقليل والتحقير، فوازن اعتبار التنكير في "إيمان" هاهنا بسبب الاحتمالين وزان الحاجبين في قول الشاعر: له حاجب في كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب قوله: ("وأتبعتهم ذريتهم"، {واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم})، "وأتبعناهم" بقطع الألف وإسكان التاء وألف بعد النون: أبو عمرو، والباقون: بالوصل وفتح التاء والعين بالتوحيد، وفتح التاء والعين وتاء ساكنة بعد العين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر: "ذرياتهم بإيمان" الجمع، وضم ابن عامر التاء، وكسرها أبو عمرو، والباقون بالتوحيد وفتح التاء. قوله: (ووجه آخر، وهو: أن يكون {والَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ})

{ومَا أَلَتْنَاهُم} وما نقصناهم. يعني: وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء. وقيل معناه: وما نقصناهم من ثوابهم شيئًا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم، إنما ألحقناهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو عطف على قوله: " {والَّذِينَ آمَنُوا}، معطوف على (حور عين"، والتقدير: والذين آمنوا ألحقنا بهم ذريتهم بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} وهو الخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير: وأكرمنا الذين. وكذا عن صاحب "الكشف"، وقال: أزيدًا مررت به؟ أجزت زيدًا؟ والباء في {بِإيمَانٍ} حال، إما من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعًا. وقلت: على أن يكون {الَّذِينَ آمَنُوا} مرفوعًا على الابتداء، تكون الآيات بأسرها معطوفة على جملة: {إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ}، ويكون هؤلاء غير المتقين من عوام المؤمنين، ومن يتصل بهم ليشمل طوائف المؤمنين أجمعين، وعلى تقدير النصب يحتمل أن يكونوا أولئك، كرر ليناط به أمر آخر وهو إلحاق ذرياتهم إلى درجاتهم، كرامة لهم لتقر به أعينهم، وتكون صلة الموصول علة للإلحاق. قوله: ({ومَا أَلَتْنَاهُم}، ابن كثير: بكسر اللام، والباقون: بفتحها، قال الزجاج: "ما ألتناهم": ما نقصناهم، يقال: ألته يألته ألتًا، ويقال: لاته يليته ليتًا: نقصه وصرفه عن الشيء.

بهم على سبيل التفضل. قرئ: {أَلَتْنَاهُم} وهو من بابين: منك ألت يألت، ومن: ألات يليت، كأمات يميت. و (آلتناهم)، من: آلت يؤلت، كآمن يؤمن. و (لتناهم)، من: لات يليت. و (ولتناهم)، من: ولت يلت. ومعناهن واحد. {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحًا فكها وخلصها، وإلا أوبقها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن جني: قرأ الأعرج: "آلتناهم" على: أفعلناهم، وقرأ عبد الله وأبي: "وما لتناهم"، وابن عباس كان يقول: و"أتناهم": نقصناهم، يقال ألته يألته ألتًا، وقالوا: ولته يلته: إذا صرفه عن شيء يريده، وقالوا: ألته يألته باليمين: إذا غلظ عليه بها، وآلته يؤلته: إذا قلده إياها. قوله: (فإن عمل صالحًا فكهًا وخلصها وإلا أوبقها)، ونظيره ما رويناه عن مسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري: "كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لكعب بن عجرة: "إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان؛ فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها". الرهن: ما يوضع وثيقة للدين، والرهان مثله، وقد يستعمل الثاني فيما فيه الإخطار، وأصلهما مصدران، يقال رهنت رهنًا، وراهنته رهانًا، فهو رهين ومرهون.

{وأَمْدَدْنَاهُم} وزدناهم في وقت بعد وقت. {يَتَنَازَعُونَ} يتعاطون ويتعاورون، وهم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم، {كَاسًا}: خمرًا، {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا}: في شربها، {ولا تَاثِيمٌ} أي: لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث، وما لا طائل تحته، كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب، في سفههم وعربدتهم، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف اتصال {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} بما قبله؟ قلت: هو متصل به على وجه التتميم، إن فسرت الآيات من قوله: {إنَّ المُتَّقِينَ} بجملتها باتصال الثواب والجزاء إليهم تفضلًا، فإنه لما قيل: "وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء"، كما قال؛ علم أنهم فكوا رقابهم عما كانت مرهونة به من الكسب، فقيل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي حالهم كيت وكيت، وغيرهم غير مفكوك بما كسبت، ونحوه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}، أو يقال: هو استئناف، فإنه لما قيل: ما نقصناهم من ثوابهم شيئًا تعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم على سبيل التفضل، قيل: لم كان الإلحاق تفضلًا؟ فقيل: لأن كل امرئ بما كسب رهين، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بهم بسببه، فألحقوا بهم تفضلًا. أو يقال: إنه لما قيل: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، يعني بسبب إيمان الآباء ألحقنا بهم الذريات كرامة للآباء لا لشيء آخر، ودل على الاختصاص تقديم {بِإيمَانٍ} على {أَلْحَقْنَا}، قيل: لم اختص الإلحاق بإيمان الآباء؟ قيل: لأن كل امرئ بما كسب رهين، وهؤلاء لم يكن لهم كسب، فلم يكن سبب الفك إلا ذلك التفضل لا يفارق الوجوه.

بذلك، لأن عقولهم ثابتة غير زائلة، وهم حكماء علماء. وقرئ: {اَّ لَغْوٌ فِيهَا ولا تَاثِيمٌ}. {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي: مملوكون لهم مخصوصون بهم، {مَّكْنُونٌ} في الصدف، لأنه رطبًا أحسن وأصفى. أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. وقيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، وعنه عليه الصلاة والسلام: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك". [{وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ووَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ} 25 - 28] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا}، كلهم سوى ابن كثير وابن عامر. قوله: (لأنه رطبًا أحسن وأصفى)، "رطبًا" حال من الضمير في "أحسن"، قال صاحب "اللباب": في قوله: هذا يسرًا أطيب منه رطبًا، الأصح أن العامل في "يسرًا": "أطيب"، وعمله في الأول عمل الفعل الصريح، ولهذا تقدمه، وفي الثاني عمل المعنى، وقال في تفسيره: "يسرًا": حال من الفاعل المستكن في "أطيب"، واسم التفضيل يعمل في الضمير المستكن فيه عمل الفعل من غير خلاف، فكذا يعمل فيما هو حال عنه، "ورطبًا" حال من الضمير المجرور المتصل بـ"من"، وإنما عمل فيه "أفعل" باعتبار أنه تضمن الزيادة، فلذا جيء بـ"من"، فليس هذا كعمل فعله، لأن فعله لا يعدى بـ"من"، وإنما هو كعمل المعنى في الظرف.

{يَتَسَاءَلُونَ} يتحادثون ويسأل بعضهم بعضًا عن أحواله وأعماله، وما استوجب به نيل ما عند الله، {مُشْفِقِينَ} أرقاء القلوب من خشية الله. وقرئ: (ووقانا) بالتشديد. {عَذَابَ السَّمُومِ}: عذاب النار ووهجها ولفحها. والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام. فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة، {مِن قَبْلُ} من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا، {نَدْعُوهُ}: نعبده ونسأله الوقاية، {إنَّهُ هُوَ البَرُّ}: المحسن، {الرَّحِيمُ}: العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: {أَنَّهُ} بالفتح، بمعنى: لأنه. [{فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ} 29] {فَذَكِّرْ} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: كاهن أو مجنون، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض؛ لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوة ورجاجة العقل أحد هذين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أنه" بالفتح)، نافع والكسائي. قوله: (وما أنت بحمد الله) أشار به إلى أن "نعمة ربك" حال متقدم على عاملها، وهو "كاهن أو مجنون"، والباء الزائدة لا تمنع من العمل، والحال معمول العامل المنفي، كذا صرح في سورة النون. المعنى: ما أنت بكاهن كاذب منعمًا عليك، بل أنت بحمد الله نبي صادق منعمًا عليك، ولا أنت بمجنون منعمًا عليك، بل أنت لحصافة العقل والشهامة بمكان. فإنك إذا قلت: الفعل المنفي بقيد مخصوص لزم منه إثبات فعل مضاد له، مقيدًا بذلك القيد، نحو قوله:

[{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَاتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 30 - 43] وقرئ: (تتربص به ريب المنون) على البناء للمفعول. وريب المنون: ما يقلق النفوس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على لا حب يهتدى بمناره على أحد وجهيه وهو أن يكون هناك منار، لكن لا يهتدى به، بل يضل لسببه لعمهه. ويمكن أن يكون {بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} قسمًا اعترضت بين اسم "ما" وخبره، ونظيره في الإقسام بالنعمة قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17]. أي: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة. قوله: (وريب المنون: ما يقلق النفوس) إلى آخره، فيه أن "المنون" بمعنى الدهر،

ويشخص بها من حوادث الدهر. قال: أمن المنون وريبه تتوجع وقيل: المنون: الموت، وهو في الأصل فعول؛ من منه: إذا قطعه؛ لأن الموت قطوع؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الواحدي: ينتظر به حدثان الموت وحوادث الدهر، المنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى المنية. قوله: (ويشخص بها). يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به. قوله: (أمن المنون) وتمامه: والدهر ليس بمعتب من يجزع بمعتب: بمرضي، الأساس: استعتبه: استرضاه، وفي معناه قول القائل: عن الدهر فاصفح إنه غير معتب .... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع قوله: (وقيل: المنون: الموت)، الراغب: رابني كذا وأرابني، فالريب أن يتوهم بالشيء أمرًا ما، فينكشف عما يتوهمه، ولهذا قال تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والإرابة أن: يتوهم فيه أمرًا فلا ينكشف عما يتوهمه، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وريب الدهر: صروفه، وإنما قيل: "ريب" لما يتوهم فيه من المنكر. وقوله: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ}، سماه ريبًا لأنه يشكك في كونه، بل من حيث تشكك في

ولذلك سميت: شعوب، قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء؛ زهير والنابغة. {مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي. {أَحْلامُهُم} عقولهم وألبابهم. ومنه قولهم: أحلام عاد. والمعنى: أتأمرون أحلامهم بهذا التناقض في القول، وهو قولهم: كاهن وشاعر، مع قولهم: مجنون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقت حصوله، فالإنسان أبدًا في ريب المنون من جهة وقته، لا من جهة كونه، ولهذا قال الشاعر: الناس قد علموا أن لا بقاء لهم .... لو أنهم عملوا مقدار ما علموا والريبة اسم من الريب، قال تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] أي: يدل على دغل وقلة يقين منهم. قوله: (ولذلك سميت: شعوب)، الضمير للموت وأنث بتأويل المنية. الجوهري: سميت المنية شعوب، لأنها تفرق، وهي معرفة لا يدخلها الألف واللام. قوله: (أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض [في القول]، وهو قولهم: كاهن وشاعر، مع قولهم: مجنون)، يريد: أن "أم" في هذه الآيات منقطعة، والهمزة فيها للتقريع والتوبيخ، وبل في {أَمْ تَامُرُهُمْ} إضراب عن جميع ما حكي عن القوم من الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أولًا، فذكر {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ}، ردًا لقولهم: هو كاهن أو مجنون تسليًا له وتثبيتًا، ثم ترقى إلى قولهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} يعني: دعوا عن القول بأنه كاهن أو مجنون، بل هو شاعر نتربص به ريب المنون، لأن الشعراء كانوا عندهم أعظم حالًا من الكاهن،

وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي. {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ننتظر به نوائب الزمان، فيهلك كما هلك امرؤ القيس وعنترة، وزهيرهم وغيرهم، فأضرب الله تعالى عن جميع ذلك بقوله: {أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلامُهُم} فنسبهم إلى السفه والجهل، والقول بالتناقض، ثم ترقى إلى قوله: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: ليسوا بجاهلين، أي أنهم أرباب النهى والأحلام، بل طغيانهم ومجاوزتهم الحد في العناد هو الذي حملهم على ذلك القول بالتناقض. وأما قوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} فهو متصل بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} أي ليس بكاهن ولا شاعر، بل هو مفتر على الله، مختلق من تلقاء نفسه، فرد بما يناسبه من قوله: {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} لأنه أجمع من نسبتهم إلى السفه والطغيان، أي أنهم ممن حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون البتة، وهم من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ثم بنى الكلام على نسبتهم الافتراء والتقول إليه، دفعًا للتهمة وإزالة للشبهة، وقال: {فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ} في أنه تقول وافتراء. ولما فرغ من ذلك النوع من الإضرابات، وهو طعنهم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقبه بنوع آخر منها، وهو ما اشتمل على الرد فيما لزم منه الطعن في جلال الله وعلو كبريائه، من إثبات الشريك واتخاذ الولد، وترك الناس سدى، والطعن في رسله وهو قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} إلى آخره، مزيدًا للتسلي والتثبيت لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: كما طعنوا فيك طعنوا في خالقهم، ألا ترى كيف ختم السورة بقوله: {واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}؟ ! قوله: (وكانت قريش يدعون أهل الأحلام)، روي عن الجاحظ أنه قال: لا يكمل عقل الإنسان إلا بالمسافرة والمخالطة وزيارة البلاد المختلفة، ومصاحبة الأخلاق المتباينة، وقريش

فإن قلت: ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت: هو مجاز لأدائها إلى ذلك، كقوله تعالى: {أَصَلَاتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [هود: 87]. وقرئ: (بل هم قوم طاغون). {تَقَوَّلَهُ}: اختلقه من تلقاء نفسه، {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذا المطاعن، مع علمهم ببطلان قولهم، وانه ليس بمتقول لعجز العرب عنه، وما محمد إلا واحد من العرب. وقرئ (بحديث مثله) على الإضافة، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب، وإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادرًا عليه، فليأتوا بحديث ذلك المثل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أماكنهم لا يفعلون شيئًا من هذا، وهم أعقل من الكل، وما كان ذلك إلا أن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم، فيحصل غرضهم بدون مشقة. قوله: (كقوله: {أَصَلَاتُكَ})، أي: كما قال قوم شعيب: {أَصَلَاتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ}، قال: جاز الصلاة أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} كذا، لما كان مؤدى عقولهم السخيفة، ذلك القول بالتناقض جعلت آمرة على الاستعارة المكنية. قوله: (وقرئ: "بل هم قوم طاغون")، قال ابن جني: قرأها مجاهد، وقراءة الجماعة: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، هذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه: إن "أم" المنقطعة بمعنى "بل" للترك والتحول، لأن بعد "بل" متيقن وبعد "أم" مشكوك فيه مسؤول عنه. قوله: (ليس بمعوز في العرب)، الأساس: هذا شيء معوز: عزيز لا يوجد.

{أَمْ خُلِقُوا} أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم، {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} من غير مقدر، {أَمْ هُمُ} الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق، {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي: إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون، لا يوقنون. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل: أخلقوا من غير أب وأم؟ {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ} الرزق حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا؟ أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ "أم هم المسيطرون": الأرباب الغالبون، حتى يدبروا أمر التربوية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرئ {المُصَيْطِرُونَ} بالصاد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("المسيطرون" الأرباب الغالبون)، الراغب: يقال: سيطر فلان على كذا، وتسيطر عليه: إذا قام عليه قيام سطر، واستعمال المسيطر هاهنا كاستعمال القائم في قوله عز وجل: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وإلى هذا المعنى أشار المصنف: "ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم". قوله: (وقرئ: {المُصَيْطِرُونَ} بالصاد) قنبل وحفص وهشام: بالسين، وحمزة بخلاف: ، وابن خلاد: بين الصاد والزاي، والباقون: باضاد خاصة. قال الزجاج: "المسيطرون": الأرباب المتسلطون، يقال: تسيطر علينا بالسين والصاد، والأصل السين. وقال أبو علي: ليس هذا البناء بناء تحقير، لكن الياء في مثل الواو في حوقل، فكما تقول: حوقل، كذلك مسيطر ومبيطر، لإلحاقهما جميعًا بمدحرج ومسرهف.

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوب إلى السماء يستمعون، صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم، وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: حوقل الشيخ حوقلة: إذا كبر وفتر عن الجماع، سرعفت الصبي: إذا أحسنت غذاءه، وكذلك سرهفته. قوله: (حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم)، قلت: هذا التأويل إن كان ينظر إلى قوله: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} لكن لا يلتئم مع قوله: {أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ}، والأوفق لتأليف النظم ما قاله الواحدي: المعنى: أم لهم مرقى ومصعد إلى السماء يستمعون أن ما هم عليه حق، فليأت مستمعهم بحجة واضحة على تلك الدعوى؟ وبيان ذلك أن الكلام من لدن قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} إلى آخر: {أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ} في الإلهيات مدمج فيها أمر النبوات، فقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} معناه ما نقل الواحدي عن الزجاج: أم خلقوا باطلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون، وعن ابن كيسان: هم خلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، ثم ترقى إلى قوله، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ} يعني: أن السماوات والأرض ليسا من خلقهم، حتى يكون خلقهما باطلًا وعبثًا، {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أنا خلقناهم بالحق، كقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] أي: خلقناهما مساكن المكلفين وأدلة على المعرفة ووجوب الطاعة، ثم أضرب عنه إلى بيان ما هو تأسيس العبادة بقوله: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} أي: مفاتيحه بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا، ثم إلى ما هو أعلى منه، بقوله: {أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} أي: الأرباب المتسلطون، فلا يكونون تحت أمر الله ونهيه وطاعة رسوله

المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، أي: لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك؟ {أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ}: أي اللوح المحفوظ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يقولوا لا نبعث، وإن بعثنا لم نعذب، {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} وهم كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يفعلون ما شاؤوا، ثم إلى قوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ومعناه ما عليه كلام الواحدي، أي: يستمعون الوحي فيعلمون أن ما هم عليه حق وصدق، وما عليه غيرهم باطل وزور، ثم أضرب عنه بقوله: {أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ} يعني: قد كشف من محضكم وتبين من صدقكم وحقكم هذه الهناة، وهي نسبتكم إلى الله عز وجل ما هو منزه عنه، وجعلتم له أدون الجنسين، وما إن نسب إلى بعضكم ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، والله أعلم. قوله: (المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه)، الراغب: المغرم: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية، يقال: غرم كذا غرمًا ومغرمًا وأغرم فلان غرامة، قال تعال: {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ}. قوله: (فدحهم) أي: أثقلهم، فدحه الدين: أثقله. الراغب: الثقل والخفة متقابلان، فكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به، يقال: هو ثقيل، وأصله في الأحسام، ثم يقال في المعاني: نحو أثقله الغرم والوزو، قال تعالى: {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ}. قوله: ({الغَيْبُ} أي: اللوح المحفوظ)، يريد: أن الغيب بمعنى الغائب.

{فَالَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إليهم، أو أريد بهم كل من كفر بالله {هُمُ المَكِيدُونَ} هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم، ويحيق بهم مكرهم. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من كايدته فكدته. [{وإن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ولا هُمْ يُنصَرُونَ * وإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 44 - 47] الكسف: القطعة، وهو جواب قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] يريد: أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَالَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إليهم) فيكون من وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل على كفرهم، والدلالة على أنه الموجب للدمار، فالتعريف فيه للعهد، وعلى أن يراد بهم كل من كفر للجنس، فقوله: "أو المغلوبون في الكيد"، عطف على قوله: "هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم" على طريقة النشر لإرادة أن التعريف إما للعهد أو الجنس. قوله: (الكسف: القطعة)، الراغب: كسوف الشمس والقمر: استتارهما بعارض، وبه شبه كسوف الوجه والحال، فقيل: هو كاسف الوجه، وكاسف الحال، والكسفة: قطعة من السحاب والقطن، ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة الحائلة، وجمعها كسف. قال تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] قال أبو زيد: كسفت الثوب أكسفه كسفًا، قطعته قطعًا. قوله: (وهو جواب قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ})، قال في ذلك المقام: "لما بين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا, أخذوا يتعللون باقتراح

لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. وقرئ: {حَتَّى يُلاقُوا} و (يلقوا)، (يصعقون): يموتون. وقرئ: {يُصْعَقُونَ}. يقال: صعقه فصعق، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق. {وإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وإن لهؤلاء الظلمة {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} دون يوم القيامة: وهو القتل ببدر، والقحط سبع سنين، وعذاب القبر. وفي مصحف عبد الله: (دون ذلك قريبا). [{واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وإدْبَارَ النُّجُومِ} 48 - 49] {لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة، {فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} مثل، أي: بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين، لأن الضمير بلفظ ضمير الجماعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآيات، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لرقيك حتى تفجر ... " إلى آخر الآيات، وجيء هاهنا بجواب بعض الاقتراحات على سبيل التلميح ليؤذن بأنهم محجوجون مبهوتون، وأن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة، ومن ثم رتب عليه قوله: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا} بالفاء. قوله: (وقرئ: {يُصْعَقُونَ})، عاصم وابن عامر، والباقون: بفتح الياء، قال أبو البقاء: الفتح ماضيه: صعق، وقرئ بالضم ماضيه: أصعق، وقيل: صعق مثل سعد. قوله: (مثل) يعني: أن قوله تعالى: {فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} استعارة تمثيلية شبهت حالة كلائه وحفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالة من يراقب الشيء بعينيه ويحفظه. قوله: (لأ الضمير بلفظ [يضمر] الجماعة)، يعني: راعى المناسبة بين الجمعين، أعني العين وضمير الجماعة، وحين أفرد الضمير أفرد العين في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]،

ألا ترى إلى قوله تعالى" {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]. وقرئ: (بأعينا) بالإدغام. {حِينَ تَقُومُ} من أي مكان قمت. وقيل: من منامك، {وإدْبَارَ النُّجُومِ}: وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل. وقرئ: (وأدبار النجوم) بالفتح، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل: التسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل: صلاة العشاءين، وأدبار النجوم: صلاة الفجر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الطور كان حقًا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: أن ذلك امتنان على الكليم في كلاءته وحفظه من العدو في بدء حالة وتربيته في حال الطفولية، كما قال: "ولتربى ويحسن إليك، وأنا راعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به"، فناسب الإفراد وهذا تعليل لتصبير الحبيب على مكائد أعداء الدين، كما قال: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ} وتثبيته على مشاق التكاليف والعبادات، ألا ترى كيف عطف {وسَبِّحْ} على {واصْبِرْ} عطف الخاص على العام فناسبه الجمعان. قوله: (سبحان الله وبحمده)، أي أسبح الله وألتبس بحمده، أي: وبحمده أسبح، الراغب: ومعنى نسبح بحمدك، أي نسبحك والحمد لك، أو نسبحك بأن نحمدك، والباء على الأول حال، وعلى الثاني صلة. تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سورة {والنجم}

سورة {وَالنَّجْمِ} مكية إحدى وستون، وقيل: ثنتان وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى * ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَاوَى * إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 1 - 18]. النجم: الثريا، وهو اسم غالب لها. قال: إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساءً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {وَالنَّجْمِ} مكية، وهي إحدى وستون آية، وقيل: ثنتان وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساء)، قال ابن قتيبة الدينوري: الثريا: انتهاء الحمل، وجاءت مصغرًا، ولم يتكلم بها إلا كذلك، نحو حميًا الكأس، وأصلها من الثروة، وهي كثرة العدد، وطلوعها ليلة عشرة تخلو من آيار، وسقوطها

أو جنس النجوم. قال: فباتت تعد النجم في مستحيرة يريد: النجوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليلة عشرة من تشرين، تظهر من أول الليل في المشرق عند ابتداء البرد، وإذا توسطت السماء مع غروب الشمس يكون غاية شدة البرد. قوله: (فباتت تعد النجم في مستحيرة)، تمامه: سريع بأيدي الآكلين جمودها أنشده الزجاج وقال: يصف قدرًا كثيرة الدسم، ومعنى تعد النجم، أي: من صفاء دسمها ترى النجوم فيه، والمستحيرة: القدر، فقال: يجمد على الأيدي الدسم من كثرته، واستشهد به الزجاج لصحة إطلاق النجم على النجوم. وقال ابن قتيبة: النجم في البيت الثريا، لأن الثريا في الشتاء تصير في كبد السماء، فترى حينئذ في الماء وفي المرآة، وفي كل شيء له صفاء، ويناسب هذا القول قوله: جمودها لأن الدسم يجمد في البرد. أوله: قريت الكلابي الذي يبتغي القرى .... وأمك إذ تحدي علينا قعودها أي: ضفت الكلابي وأمك.

{إذَا هَوَى} إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، أو: النجم: الذي يرجم به، {إذَا هَوَى}: إذا انقض. أو: النجم من نجوم القرآن، وقد نزل منجمًا في عشرين سنة، {إذَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({إذَا هَوَى}: إذا غرب وانتثر، وفي "المقتبس" قال الجنزي: فاوضت جار الله في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} ما العامل في إذًا؟ فقال: العامل فيه: ما تعلق به الواو، فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟ وهذا لأن معناه أقسم الآن، وليس معناه أقسم بعد هذا؟ فرجع فقال: والعامل فيه مصدر محذوف، تقديره: وهوي النجم إذا هوى. فعرضته على زين المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني. والوجه: أن "إذا" قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمر البسر، أي: وقت احمراره، فقد عري عن معنى الاستقبال، لأنه وقت الغنية عنه، بقوله: آتيك. قال عبد القاهر: إخبار الله بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع، إذا لا خلف فيه فحرى المستقبل مجرى المحقق الماضي. الراغب: قيل: أراد بالنجم الكوكب، وإنما خص الهوى دون الطلوع، فإن لفظ النجم دل على طلوعه، وقيل: أراد بذلك القرآن المنجم المنزل قدرًا فقدرًا، وفسر على الوجهين قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.

هَوَى}: إذا نزل. أو: النبات {إذَا هَوَى}: إذا سقط على الأرض. وعن عروة بن الزبير: أن عتبة بن أبي لهب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن بعضهم: نبه بالطلوع والهوي على أنه مخلوق، والله خالقه، كما قال إبراهيم: {لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ} [الأنعام: 76]، أي: ذلك من أمارات الحدوث. وقلت: كأنه أقسم بذلك لما فيه من الدلالة على وجود محدثه. قوله: (وعن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبي لهب) هذا الحديث موضوع، رواه بعض الشيعة، وأتى به محمد بن حماد المعروف بالدولابي في كتاب "الذرية الطاهرة"،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذلك أن ابن عبد البر وابن الأثير صاحبي "الاستيعاب" و"جامع الأصول" ذكرا أن عتبة ابن أبي لهب أسلم هو وأخوه معتب يوم فتح مكة، كانا قد هربا، فبعث العباس فأتى بهما فأسلما، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهما، وشهدا معه حنينًا والطائف. روى عن ابن عباس حديث المملوكين: "أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون".

وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدًا فلأوذينه؛ فأتاه فقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"، وكان أبو طالب حاضرًا، فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه، فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلًا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم؛ وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم، حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروي عن عتبة بن خراش، أخرجه الإمام الشافعي رضي الله عنه في "مسنده". قوله: (فوجم لها) النهاية: وجم يجم وجومًا، والواجم: الذي أسكته الهم، وعلته الكآبة، والضمير في "لها" للكلمة أو الدعوة. قوله: (ما كان أغناك) "ما" للتعجب، و"كان" زائدة. قوله: (وقال حسان) ذكر هذا صاحب "الذرية الطاهرة" في كتابه، في ضمن

من يرجع العام إلى أهله .... فما أكيل السبع بالراجع {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش، وهو جواب القسم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبيات، ونسبه إلى حسان: سائل بني الأشعر إن جئتهم .... ما كان أنباء أبي الواسع لا أوسع الله له قبره .... بل طبق الله على القاطع رحم الله نبر جده جده .... ويدعو إلى نور له ساطع أسبل بالحجر لتكذيبه .... دون قريش نهزة القادع واستوجب الدعوة منه بما .... بين للناظر والسامع أن سلط الله به كلبه .... يمشي هوينًا مشية الخادع حتى أتاه وسط أصحابه .... وقد علتهم سنة الهاجع والتقم الرأس بيافوخه .... والنحر منه فغرة الجائع استلموه وهو يدعو له .... بالسبب الأدنى وبالجامع والليث يعلوه بأنيابه .... منعفرًا وسط دم ناقع لا يرفع الرحمن مصروعكم .... ولا يوهن قوة الصارع وكان فيه لكم عبرة .... للسيد المتبوع والتابع من يرجع العام إلى رحله .... فما أكيل السبع بالراجع من عاد فالليث له عائد .... أعظم به من خبر شائع وأثر الصنعة ظاهر في هذه الأبيات.

والضلال: نقيض الهدى، والغي: نقيض الرشد، أي: هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، وإنما هو وحي من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والغي: نقيض الرشد) الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد لا صالحًا ولا فاسدًا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا الثاني يقال له: غي. قوله: (ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء قال القاضي: واحتج بها من ال يرى الاجتهاد له، وأجيب عنه بأنه: إذا أوحي إليه بأن يجتهد، كان اجتهاده وما يسند إليه وحيًا، وفيه نظر؛ لأن ذلك حينئذ بالوحي. وقلت: هاهنا بحث لا بد منه، وهو أن هذه الآية واردة في أمر التنزيل، وليس فيها لمستدل أن يستدل بشيء من أمر الاجتهاد، لا نفيًا ولا إثباتًا، لأن الضمير في {إِنْ هُوَ} للقرآن؛ بدليل من فسر النجم بنجوم القرآن، وهي من الأيمان الحسنة، نحوه قوله: وثناياك إنها إغريض. وينصره قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} وفي الآيات معنى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 20 - 27] فقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} جواب القسم، وقد تقرر أن الجملة القسمية يتلقى بها المنكر المصر، أي: ما ضل صاحبكم وما مسه الجن، ولا استهواه، وما غوى، وليس بينه وبين الغواية تعلق، أي: ليس بشاعر والشعراء يتبعهم الغاوون، وما ينطق عن الهوى كالكاهن، فقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} كالتكملة للبيان، فكأنه قيل: ما هذا القرآن إلا وحي، ليس بقول مجنون، ولا بقول شاعر، ولا بقول كاهن، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 41] فقال أولًا: ما ضل وما غوى ماضيين، ثم قفاه بقوله: {ومَا يَنطِقُ} مستقبله، إيذانًا بأنه صلوات الله عليه في صغره حين اعتزلكم وما تعبدون، ما ضل قط، وما غوى في كبيرة، حين اختلى بغار حراء، فكيف ينطق بالهوى الآن وهو رسول من عند الله أمين على خلقه رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا. وإلى هذا المعنى ينظر ما رويناه عن البخاري ومسلم عن ابن عباس عن أبي سفيان حين سأله هرقل وقال: سألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن: لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وقال جعفر بن محمد: كيف ينطق عن الهوى من هو ناطق بإظهار التوحيد، وإتمام الشريعة، وإيجاب الأمر والنهي، بل ما نطق إلا بأمر، ولا سكت إلا بأمر. فإذا تقرر أن الآية ساكنة عن حديث الاجتهاد، فلنبين ثبوته بالنصوص الواردة فيه: منها ما روينا عن الترمذي وأبي داود عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه".

{شَدِيدُ القُوَى} ملك شديد قواه، والإضافة غير حقيقية، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهو جبريل عليه السلام، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية: "وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله؛ ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه". وعن أحمد بن حنبل ومسلم وابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء"؟ قالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر مع الأنثى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لا أكذب عليه"، وفي رواية أحمد: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإلي". وفي رواية أخرى: "والظن يخطئ ويصيب"، والله أعلم قوله: ({شَدِيدُ القُوَى} ملك شديد قواه) الراغب: قال تعالى {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} يعني به جهل جبريل عليه السلام، ووصفه بالقوة عند ذي العرش، فأفرد اللفظ ونكره تنبيهًا على أنه إذا اعتبر بالملأ الأعلى فقوته إلى حد ما، وقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} فإنه وصف القوة بلفظ الجمع، وعرفها تعريف الجنس، تنبيهًا أنه إذا اعتبر بهذا العالم، وبالذين يعلمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة.

الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها؛ وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين؛ وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند. {ذُو مِرَّةٍ}: ذو حصافة في عقله ورأيه، ومتانة في دينه، {فَاسْتَوَى} فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في أوحى من رجعة الطرف) أي: أسرع. قوله: ({ذُو مِرَّةٍ}: ذو حصافة في عقله)، الراغب: المرور: المضي والاجتياز بالشيء، قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] وأمررت الحبل: إذا فتلته، والمرير والممر: المفتول، ومنه فلان ذو مرة، كأنه محكم الفتل. وروي عن ابن عباس: {ذُو مِرَّةٍ}: ذو منظر حسن، قال الطبري: هو الصواب، يعني صحة الجسم وسلامته من الآفات، وإذا كان كذلك، كان قويًا، ومنه الحديث: "ولا ذي مرة سوى". وعن سعيد بن المسيب: ذي حكمة، لأن كلام الحكماء متين. قوله: ({فَاسْتَوَى} فاستقام على صورة نفسه الحقيقية)، عن بعضهم: استوى، أي: ارتفع إلى السماء بعد أن علمه. وعن الحسن: أن الأفق أفق المغرب.

في صورة دحية، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق. وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء. {ثُمَّ دَنَا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى} فتعلق عليه في الهواء، ومنه: تدلت الثمرة، ودلى رجليه من السرير، والدوالي: الثمر المعلق. قال: تدلى عليها بين سب وخيطة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: {وَهُوَ} مبتدأ، {بِالأُفُقِ} خبره، والجملة حال من فاعل "استوى"، وقيل: هو معطوف على فاعل {فَاسْتَوَى}، وهو ضعيف، إذ لو كان كذلك لقال: استوى هو، وعلى هذا يكون المعنى: فاستويا بالأفق، يعني محمدًا وجبريل صلوات الله عليهما. قوله: (ما رآه أحد من الأنبياء) الحديث من رواية الترمذي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنهما في حديث من أخبر أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية، لكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد له ست مئة جناح قد سد الأفق. قوله: ({ثُمَّ دَنَا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى}) فتعلق في الهواء، أي: جبريل على محمد صلوات الله عليهما، يعني أرد الدنو فتدلى. قوله: (تدلى عليها بين سب وخيطة) أنشد الجوهري، تمامه لأبي ذؤيب: بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ويقال: هو مثل القرلى، إن رأى خيرًا تدلى، وإن لم يره تولى. {قَابَ قَوْسَيْنِ} مقدار قوسين عربيتين: والقاب والقيب؛ والقاد والقيد، والقيس: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والخيطة في الوتد. قال أبو عمرو: وهو حبل لطيف يتخد من السلب، وهو لحاء شجر يعمل منه الحبال، والسب: الحبل، في لغة هذيل، والوكف: النطع، والجرداء: الصخرة الملساء، يصف مشتار العسل، والضمير في عليها للعسل. قوله: (هو مثل القرلى) قرلى _بكسر القاف والراء المهملة_ ليس له ذكر في الأصول، وفي الحاشية: هو طائر يصيد السمك، وإحدى رجليه أطول. قوله: (مقدار قوسين عربيتين) وفي "التيسير": كانت عظماء العرب، إذا أرادوا تأكيد عهد وتوثيق عقد لا ينقض، أحضر المتعاقدان قوسيهما، فجمعا بينهما، وقبضا عليهما، ونزاعهما جميعًا ورميا عنهما سهمًا واحدًا، يشير بذلك إلى الاتحاد الكلي، وكان بعد ذلك رضا أحدهما رضا الآخر، وسخط أحدهما سخط الآخر، فكأنهما قالا: أكدنا المحبة وأبرمنا القربة.

المقدار. وقرأ زيد بن علي: (قاد)، وقرئ: (قيد) و (قدر). وقد جاء التقدير بالقوس والرمح، والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع، ومنه: " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين". وفي الحديث: "لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها"، والقد: السوط. ويقال: بينهما خطوات يسيرة. وقال: وقد جعلتني من حزيمة أصبعا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "معالم التنزيل": قال مجاهد: معناه: حيث الوتر من القوس. وهي إشارة إلى تأكيد العرب، وأصله أن الحليفين كانا إذا أرادا عقد الصفاء أخرجا بقوسيهما وألصقا بينهما، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما صاحبه. قوله: (الفتر) الجوهري: الفتر ما بين طرفي السبابة والإبهام إذا فتحهما, قوله: (لقاب قوس أحدكم) روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة سنة، واقرؤوا إن شئتم: {وظِلٍّ مَّمْدُودٍ}، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. قوله: (وقد جعلتني من حزيمة أصبعًا) أوله: فأدرك إبقاء العرادة ظلعها البيت لأبي الأسود، حزيمة _بالحاء المهملة وبفتحها وكسر الزاي_: اسم قبيلة،

فإن قلت: كيف تقدير قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ}؟ قلت: تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله: وقد جعلتني من حزيمة أصبعا أي: ذا مقدار مسافة أصبع. {أَوْ أَدْنَى} أي على تقديركم، كقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. {إِلَى عَبْدِهِ} إلى عبد الله، وإن لم يجر لا سمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس؛ كقوله: {عَلَى ظَهْرِهَا} [فاطر: 45]. {مَا أَوْحَى} تفخيم للوحي الذي أوحي إليه: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرادة: اسم فرس، وظلع: وجع الرجل، ومعنى أبقاها: أن من عادة عتاق الخيل أن لا يعطي ما عنده من العدو، بل يبقي شيئًا منه بعد شيء، لوقت الحاجة إليه، ومفعول إبقاء محذوف، أي: ذخيرتها. يقول: أوصلتني عرادة إلى العدو الذي هو حزيمة، وبقي بيني وبينه قدر مسافة أصبع، عرض لما ادخرت من العدو الظلع، ففات مني وهرب. قوله: (قيل: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها)، وروينا عن مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".

{مَا كَذَبَ} فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي: ما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مَا كَذَبَ} فؤاد محمد صلوات الله عليه ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام) واعلم أن السلف والخلف اختلفوا في أنه: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لا؟ روينا عن مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين، وفي رواية الترمذي قال: رأى محمد صلوات الله عليه ربه تعالى. قال عكرمة: قلت: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}؟ [الأنعام: 103] قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. وفي أخرى له: {ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى}؛ {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}. قال ابن عباس: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أخرى له: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى}، قال: رآه بقلبه. وعن مسلم والترمذي عن عبد الله بن شقيق قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ ، قال أبو ذر: قد سألته فقال: "نور، أنى أراه؟ ! " وزاد الإمام أحمد بن حنبل: "نوراني أراه"، يعني: على طريق الإيجاب. وعن الترمذي عن الشعبي قال: لقي ابن عباس كعبًا بعرفة، فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلوات الله عليهما، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: هل رأى محمد صلوات الله عليه ربه تعالى؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقالت: لقد تكلمت بشيء قف له شعري، قلت: رويدًا، ثم قرأت: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى}، فقالت: أين يذهب بك إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمدًا رأى ربه، أو كتم شيئًا مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، فقد أعظم الفرية. وعن البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ... الحديث. وفي "شرح صحيح مسلم" للإمام المتقن أفضل المتأخرين، محيي الدين النواوي رحمه الله: "قال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف: هل رأى نبينا صلوات الله عليه ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين، وروي عن ابن عباس أنه رأى بعينه، ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن، وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل. وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه، ووقف بعض مشايخنا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز. ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة، واختلفوا أن نبينا صلوات الله عليه هل كلم ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزى بعضهم إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس، وكذلك اختلفوا في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}، فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي مقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، أو من الله تعالى، والدنو والتدلي على هذا متأول، ليس على وجهه. قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود، فدنوه صلوات الله عليه وسلامه من ربه عز وجل قربه منه، وظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه واطلاعه على أسرار ملكوته وغيبه، بما لم يطلع عليه سواه، والدنو من الله تعالى إظهار ذلك واتصال عظيم بره وفضله إليه، و {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} على هذا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلوات الله عليه وسلامه، ومن الله إجابة الرغبة وإبانة المنزلة، ونحوه في قوله صلوات الله عليه حكاية عن ربه: "من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا". هذا آخر كلام عياض. وأما صاحب "التحرير" فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة، لكنا لا نتمسك إلا بالأقوى، منها: حديث ابن عباس: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله عليهم! والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة: هل رأى محمد صلوات الله عليه ربه؟ فأخبره أنه رآه, ولا يقدح في هذا حديث عائشة، لأن عائشة رضي الله عنها لم تخبر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لم أر ربي"، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الآية، ولقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، والصحابي إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه بالظن والاجتهاد. وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئًا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. في هذا كلام صاحب "التحرير".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال الشيخ محيي الدين رحمه الله: "الحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، وإثبات هذا ليس إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يشكك فيه، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات. أما احتجاجها بقوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فجوابه أن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وبقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية، فجوابه أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة. وقال ابن عباس: وعلى هذا معنى {نَزْلَةً أُخْرَى}، تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عرجات في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات، وكل عرجة: نزلة" تم كلامه. وفي "التفسير الكبير": واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله يلزمه أن ينكر رؤية جبريل، وفيه إنكار الرسالة، وهو كفر. ثم إن النصوص وردت أن محمدًا صلوات الله عليه رأى ربه بفؤاده، وجعل بصره في فؤاده، أو رآه ببصره وجعل فؤاده في بصره، وكيف لا؟ ومذهب أهل السنة: الرؤية بالإراءة، لا بقدر العبد، فإذا حصل من طريق القلب كان معرفة الله، والله تعالى قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للعلوم في البصر، كما قدر أن يحصله بخلق مدرك للعلوم في القلب. والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز، والله أعلم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما اقتضاء النظم فإن مجرى الكلام إلى قوله: {وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}، من أمر الوحي، وتلقيه من الملك، ودفع شبه الخصوم، ومن قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إلى قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، والضمير في: {أَوْحَى} لله تعالى، و {عَبْدِهِ} من إقامة المظهر موضع المضمر، لتصحيح نسبة القرب، وتحقيق معنى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام {مَا أَوْحَى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى، إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين، وما ينطوي عنده بساط الوهم، ولا يطيقه نطاق الفهم كله، وكلمة {ثُمَّ} على هذا منزلة على التراخي بين المرتبتين، والفرق بين الوحيين؛ وحي بواسطة وتعليم، وآخر بغير واسطة لجهة التكريم، فيحصل عنده الترقي من مقام {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] إلى مخدع {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}. وروى السلمي عن جعفر بن محمد: أدناه منه حتى كان منه كقاب قوسين، والدنو من الله لا حد له، والدنو من العبد بالحدود، {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه، سرًا إلى قلبه لا يعلم به أحد سواه، بلا واسطة إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته. {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي كان ما كان وجرى ما جرى. وذكر الشيخ أبو القاسم القشيري في "مفاتيح الحجج": أخبر الله تعالى بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أنه صلوات الله عليه بلغ من الرتبة والمنزلة القدر الأعلى مما لا يفهمه الخلق، ثم قال: {أَوْ أَدْنَى}، أي: فوق ذلك. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: {مَا زَاغَ البَصَرُ} إخبار عن حاله صلوات الله عليه بوصف خاص، فكان {مَا زَاغَ البَصَرُ} حاله في طرف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإعراض، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام قاب قوسين بالروح والقلب، {ومَا طَغَى} حاله من الفرار من حياء إلى مطاوي الانكسار لئلا تنبسط النفس فيطغى، وقال: فيه وجه آخر ألطف منه: أنه {مَا زَاغَ البَصَرُ} حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر، و"ما طغى" لم يسبق البصيرة فيتجاوز حده، ويتعدى مقامه، فلم يزل صلوات الله عليه مستحلس حجاله، في خفارة أدب حاله، حتى خرق حجب السماوات فانصبت إليه أقسام القرب انصبابًا، وانقشعت عنه حجب الحجب حجابًا حجابًا، حتى استقام على صراط {مَا زَاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى}، فمر كالبرق الخاطف، إلى مخدع الوصل واللطائف، وهذا غاية الأدب، ونهاية الأرب. وقال أبو العباس بن عطاء: لم يره بطغيان يميل، بل رآه على شرط اعتدال القوى. وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه، ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدًا بكليته لربه، يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل. وعن "حقائق": السلمي، قال الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب بغاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه بغاية اللطف، لأنه لا يحتمل غاية الهيبة إلا غاية اللطف، وذلك قوله: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي: كان ما كان، وجرى ما جرى، قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه، وألطف له إلطاف الحبيب لحبيبه، وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه، فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدًا. وقال جعفر: لا يعلم ما رأى إلا الذي رأى، والذي رئي صار الحبيب إلى الحبيب قريبًا وله نجيًا وبه أنيسًا، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}.

قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبًا، لأنه عرفه، يعني: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق، وقرئ: (ما كذب) أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته. {أَفَتُمَارُونَهُ} من المراء وهو الملاحاة والمجادلة، واشتقاقه من مري الناقة، كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، وقرئ: (أفتمرونه) أفتغلبونه في المراء، من ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب"على"، كما تقول: غلبته على كذا: وقيل: (أفتمرونه): أفتجحدونه. وأنشدوا: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة .... لقد مريت أخا ما كان يمريكا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال السلمي: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى}: البصر، وهو مشاهدة ربه كفاحًا ببصره وقلبه. وقال ابن عطاء: ما اعتقد القلب خلاف ما رأته العين، وليس كل من رأى شيئًا مكن فؤاده من إدراكه، إذ العيان قد يظهر فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم محمول فيها فؤاده وعقله وحسه ونظره، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به. قوله: (وقرئ: "ما كذب") قرأها هشام، والباقون: بتخفيفها. قوله: (من مري الناقة) مريت الناقة مريًا: إذا مسحت ضرعها لتدر، وأمرت الناقة، إذا: در لبنها. قوله: (وقرئ: ("أفتمرونه") حمزة والكسائي، والباقون: {أَفَتُمَارُونَهُ}. قوله: (لئن هجرت أخا صدق) البيت، يقول: لئن هجرتني، وأنا ذو صدق ومكرمة، لقد جحدت حق أخ وفي ما كان يجحد حقك.?

وقالوا: يقال: مريته حقه: إذا جحدته، وتعديته ب"على" لا تصح إلا على مذهب التضمين. {نَزْلَةً أُخْرَى} مرة أخرى من النزول، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج. قيل في سدرة المنتهى: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيول، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والمنتهى: بمعنى موضع الانتهاء، أو الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء. {جَنَّةُ المَاوَى}: الجنة التي يصير إليها المتقون، عن الحسن. وقيل: تأوي إليها أرواح الشهداء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكانت في حكمها) أي: فكانت النزلة في حكم المرء، الفاء نتيجة التعليل، لتفسير {نَزْلَةً أُخْرَى} بـ"مرة أخرى". قال أبو البقاء: المرة في الأصل: مصدر: مر يمر، ثم استعمل ظرفًا اتساعًا، وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل. قوله: (ثمرها كقلال هجر) في حديث المعراج عن البخاري ومسلم والنسائي عن أنس: "ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشاها من أمر الله ما غشى، تغيرت، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها".

وقرأ علي وابن الزبير وجماعة (جنة المأوى)، أي: ستره بظلاله ودخل فيه. وعن عائشة: أنها أنكرته وقالت: من قرأ به فأجنه الله. {مَا يَغْشَى} تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله: أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف. وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبح الله". وعنه عليه الصلاة والسلام: "يغشاها رفرف من طير خضر". وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش من ذهب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جنة المأوى"، أي: سترة بظلاله، ودخل فيه)، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، سترة المأوى ودخل هو فيه، قال أبو البقاء: ويقرأ: "جنة" على أنه فعل، وهو شاذ، والمستعمل: أجنة. وقلت: ولهذا قالت أم المؤمنين: من قرأ به فأجنه الله تعالى، أي جعله مجنونًا، أو جعله في الجنن، أي: القبر، تقول العرب: أجن الله جبلتك، وأجنه الله، فهو مجنون، من الشواذ. قوله: : (رفرف)، النهاية: الرفرف: البساط، وقيل: ما كان من الديباج وغيره رقيقًا حسن الصنعة، ثم اتسع فيه. قوله: (يغشاها فراش من ذهب) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها، قال: ويغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. قوله: (يغشاها فراش من ذهب) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها، قال: ويغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.

{مَا زَاغَ} بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومَا طَغَى} أي أثبت ما رأى إثباتًا مستيقنًا صحيحًا، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، {ومَا طَغَى}: وما جاوز ما أمر برؤيته. {لَقَدْ رَأَى} والله لقد رأى {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} الآيات التي هي كبراها وعظماها، يعني: حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت. [{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى * ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} 19 - 23]. اللات والعزى ومناة: أصنام كانت لهم، وهي مؤنثات؛ فاللات كانت لثقيف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رأى {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ}، الآيات التي كبراها)، قال أبو البقاء: {الكُبْرَى} هي مفعول {رَأَى}، وقيل: هو نعت لـ {آيَاتِ رَبِّهِ}، والمفعول محذوف، أي: شيئًا من آيات ربه الكبرى. الانتصاف: {الكُبْرَى} صفة لـ {آيَاتِ رَبِّهِ} لا مفعول به، ويكون المرئي محذوفًا تعظيمًا له، ولأن في الآيات ما لم يره، وفيها ما رآه، وعلى الأول يكون مقتضاه أنه رأى الآيات الكبرى كلها على الشمول، فإن آيات الله لا يحيط بها أحد. فإن قلت: علم أريد به الخصوص، قلت: فقد رجع إلى الأول بعد تكلف. الإنصاف: ويجوز أن تكون {الكُبْرَى} مفردًا مفعولًا وجعل الإسراء وما رأى فيه من العجائب كالشيء الواحد، فلا يرد عليه سؤال صاحب "الانتصاف"، وعلى هذا أول الزمخشري قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى} الآية الكبرى من آياتنا. قوله: (اللات والعزى ومناة: أصنام)، قال الزجاج: فلما قص هذه الأقاصيص،

بالطائف. وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فعله من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة. أو يلتوون عليها: أي يطوفون. وقرئ (اللات) بالتشديد، وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل لهم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} أي: اخبرنا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء؟ ! قلت: ونظير الآيات في هذا المعنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] إذ المعنى: أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة وطالحة بما كسبتن يعلم خيره وشره، كمن ليس كذلك! ! أو لم يوحدوه وجعلوا له شركاء! ؟ إلى قوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول، من غير أن يكون لذلك حقيقة، وهو معنى قوله: {إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} ويمكن أن يقال: إنه تعالى لما رد طعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} وفي ما أنزل إليه بقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} وقرر المعنى الثاني بقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} إلى آخرها، حتى بلغ به الغاية القصوى، أخذ يبين ضلالتهم بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} إلى آخر الآيات، ووبخهم على غوايتهم، حيث جعلوا لله شركاء إناثًا، وسموها بأسامي لا حقيقة لها، أي: هذه الضلالة والغواية التي بلغت غايتها، ولذلك التفت من المخاطبة ناعيًا عليهم إلى الغيبة على الضلالة بعد مجيء الآيات البينات بقوله: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى}. والظاهر أن الواو للحال، وقد دخلت على الجملة القسمية مقررة لجهة الإشكال، ولهذا قال الواحدي: هذا التعجب من حالهم، حيث لم يتركوا عبادتها مع وضوح البيان، والله أعلم.

و"العزى" كانت لغطفان وهي سمرة، وأصلها تأنيث الأعز. وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك .... إني رأيت الله أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: " تلك العزى ولن تعبد أبدًا". ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لثقيف. وقرئ: (ومناءة) وكأنها سميت مناة؛ لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي: تراق، ومناءة، مفعلة من النوء، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. و{الأُخْرَى} ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] أي: وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {الأُخْرَى} ذم وهي) إلى آخره، الانتصاف: "أخرى": تأنيث "آخر"؛ أفعل، ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن التأخر الوجودي، إلى استعماله حيث يذكر مغايرًا لما تقدم لا غير، وسلبت دلالتها عن المعنى الأصلي، بخلاف آخر وآخرة، فإشعارهما بالتقدم الوجودي ثابت، ومن ثم قالوا: ربيع الآخر، جمادة الآخرة، بكسر الخاء ليدل على التأخير الوجودي، وهذا البحث حرره ابن الحاجب، وهو الحق، فحينئذ يكون الإشعار يتغاير في الذكر مع مراعاة الفواصل. الإنصاف: إنما حمل الزمخشري على القول الأول قوله إنه رأى "أخرى" إذا كانت تأنيث "آخر" _بفتح الخاء_ يستدعي مشاركة "ما"، فجعلت قرينة لها في الوصف المذكور لما سبقه، وها هنا مناة ثالثة، وليست اللات والعزى موصوفين بكون كل واحد منهما ثالثة، فامتنع أن يقال الأخرى بهذا المعنى، فلذلك عدل الزمخشري.

ويجوز أن تكون الأولية والتقديم عندهم للات والعزى. كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدوهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنثَى}، ويجوز أن يراد: أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادًا لله وتسمونهن آلهه؟ ! {قِسْمَةٌ ضِيزَى} جائزة، من ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: ضوزى، ففعل بها ما فعل بـ"بيض"؛ لتسلم الياء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والظاهر أن صاحب "الانتصاف" لم يفهم عنه هذا المعنى، وقد كشف عن المعنى القاضي حيث قال: {الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}: صفتان للتوكيد، كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، أو {الأُخْرَى} من التأخر في الرتبة. وذلك أنه لما عطف عليهما، علم أنها ثالثتهما، فجيء بالثالثة توكيدًا، فالأخرى؛ إما توكيد مثلها، أو تجعل بمعنى أخرى من التأخر الوجودي، فتصير حينئذ مثل "ثم" في أن يذهب بها إلى التراخي بحسب الزمان حقيقة، أو المرتبة مجازًا، فقول المصنف: "والأخرى ذم" من القبيل الثاني، وقوله: "الأولية والتقدم عندهم للات" من القبيل الأول. قوله: (ويجوز أن يراد أن)، الفرق بين هذا الوجه وما سبق، أن الإنكار على الأول زاد عن قولهم: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، مع استنكافهم عن البنات، فأنكر عليهم قولهم حال استنكافهم، ألا ترى كيف أوقع قوله: "مع وأدهم البنات" حالًا من فاعل "يقولون"؟ ! وعلى الثاني: الإنكار وارد على فعلهم، فإنهم لما عبدوها وهي إناث جعلوها شركاء لله تعالى في العبادة، فأنكر عليهم ذلك الفعل، ولذلك قال: "جعلتموهن لله شركاء ... " إلى آخره. قوله: (والأصل: ضوزى، ففعل بها ما فعل بـ"بيض")، الجوهري: هو فعلى مثل: طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء، لأنه ليس في كلام العرب فعلى صفة، وإنما

وقرئ: (ضئزى) من: ضأزه، بالهمز. و (ضيزى) بفتح الضاد. {هِيَ} ضمير الأصنام، أي ما هي {إِلاَّ أَسْمَاءٌ} ليس تحتها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشده منافاة لها. ونحوه قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] أو ضمير الأسماء وهي قولهم: اللات والعزى ومناة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة، يعني: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو من بناء الأسماء كالشعرى والدلفى. وجمع الأبيض بيض، وأصله بيض _بضم الباء_، وإنما أبدلوا من الضمة كسرة ليصح البناء. قال الزجاج: أجمعوا أن أصل ضيزى، ضوزى، نقلت من "فعلى" إلى "فعلى"، كأبيض إلى بيض وأصله بوض، كأحمر وحمر، فنقلت الضمة إلى الكسرة وهم لا يعرفون في الكلام فعلى صفة، بل فعلى بالفتح نحو سكرى وعصبى، وبالضم؛ نحو: حبلى وفضلى، ولذلك قالوا: مشية حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها: أي يتبختر، فحيكى عندهم: فعلى بضم الفاء بضم الفاء أيضًا. قوله: (وقرئي: "ضئزى" من: ضأزة، بالهمز) ابن كثير: ضئزى بالهمز، والباقون بغير همز. قوله: (يعني: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها) وقال أبو البقاء: يجب أن يكون المعنى: ذوات أسماء، لقوله: {سَمَّيْتُمُوهَا}، لأن لفظ الاسم لا يسمى. والمصنف ذهب إلى أن هذه التسمية تسمية ليس لها مسميات يستحق أن يسمى بها، لأن الإله ينبغي أن يكون

بهواكم وشهوتكم، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به. ومعنى {سَمَّيْتُمُوهَا} سميتم بها، يقال: سميته زيدًا، وسميته بزيد. {إن يَتَّبِعُونَ} -وقرئ بالتاء- {إلاَّ الظَّنَّ} إلا توهم أن ما هم عليه حق، وأن آلهتهم شفعاؤهم، وما تشتهيه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أن دينهم باطل. [{أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} 24 - 25]. {أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى} هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ليس للإنسان ما تمنى، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة، وهو تمن على الله في غاية البعد، وقيل: هو قولهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم. {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} أي هو مالكها، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما. [{وكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَاذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ ويَرْضَى} 26]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خالقًا رازقًا عالمًا مثيبًا ومعاقبًا، وإليه الإشارة بقوله: "سميتموها بهواكم وشهوتكم". وفي "الكبير": وقيل: أي قلتم عزى ولا عزة لها، وقلتم: إنها آلهة، وليست بآلهة. قوله: (والدليل على أن دينهم باطل) عطف تفسيري على الهدى، وإنما جعله دليلًا وسلطانًا على بطلان دينهم لأنه مجلوب لقوله: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]. أي: ما لهم من دليل قط، ما يتبعون إلا شهوات الأنفس، والحال أن جاءهم دليل قاطع وسلطان قاهر على بطلان ما هو عليه، فيكون قوله: {ولَقَدْ جَاءَهُم} حالًا مقررة لجهة الإشكال.

يعني: أن أمر الشفاعة ضيق، وذلك أن الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئًا قط ولم تنفع، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلًا لأن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم؟ ! [{إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى * ومَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 27 - 30]. {لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ} أي كل واحد منهم {تَسْمِيَةَ الأُنثَى} لنهم إذا قالوا: الملائكة بنات الله، فقد سموا كل واحد منهم بنتًا، وهي تسمية الأنثى {بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي: بذلك وبما يقولون. وفي قراءة أبي: (بها)، أي: بالملائكة، أو التسمية. {لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} يعني: إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن، لا بالظن والتوهم. {فَأَعْرِضْ} عن دعوة من رأيته معرضًا عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا، ولا تتهالك على إسلامه، ثم قال: {إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} أي: إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، وأنت لا تعلم، فخفض على نفسك ولا تتعبها، فإنك لا تهدي من أحببت، وما عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} اعتراض، أو فأعرض عنه ولا تقابله، إن ربك هو أعلم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنما يدرك الحق) قال القاضي: الحق الذي هو حقيقة الشيء؛ لا يدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.

[{ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ والْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وإذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 31 - 32]. قرئ: {لِيَجْزِيَ} و (لنجزي)، بالياء والنون فيهما. ومعناه: أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم. ويجوز أن يتعلق بقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما. {بِمَا عَمِلُوا} بعقاب ما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {لِيَجْزِيَ}، و"لنجزي") والمشهورة: "يجزي" بالياء فيهما. قوله: (ويجوز أن يتعلق بقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ}): أي {لِيَجْزِيَ} إما تعليل لقوله: {ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} وإما لقوله: {هُوَ أَعْلَمُ} المعنى: أن قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} و {بِمَنِ اهْتَدَى}، ليجزي كل واحد منهما بما يستحقه، فيكون قوله: {ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} على هذا معترضة، توكيدًا لما تضمن الكلام من معنى القدرة والمنعة، يعني هو عالم كامل العلم، قادر تام القدرة، يعلم أحوال المكلفين فيجازيهم، لا يمنعه أحد مما يريده، لأن كل شيء تحت قهره وسلطانه. قال الواحدي: "لله ملك السموات والأرض": إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو معترض، أي: إذا كان أعلم بهم جازى كلًا بما يستحقه، وإنما يقدر على المجازاة إذا كان كثير الملك. تم كلامه. وكان هذا من توارد الخاطر، وعلى الأول متصل بقوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: فأعرض عن دعوة من تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة وهو

عملوا من السوء. و {بِالحُسْنَى} بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى. {كَبَائِرَ الإثْمِ} أي الكبائر من الإثم؛ لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر، والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. وقيل: التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها، {والْفَوَاحِشَ} ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة: وقرئ: (كبير الإثم) أي: النوع الكبير منه، وقيل: هو الشرك بالله. واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم: المس من الجنون، واللوثة منه. وألم بالمكان: إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله: ومنه: لقاء أخلاء الصفاء لمام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}، والحال أن الله سبحانه وتعالى إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت ليجزي المحسن والمسيء، ويكون قوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} تعريضًا بهم، وبظنهم الباطل أنهم يتركون سدى، ويزعمون أن السماوات والأرض وما بينهما خلق عبثًا، وقوله: {إنَّ رَبَّكَ} الآية، على هذا اعتراض وتوكيد للتهديد والوعيد. قوله: (لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر) إلى آخره، الانتصاف: أطال الزمخشري الكلام في هذه الآية على معتقدين فاسدين؛ أحدهما وجوب تعذيب مرتكب الكبيرة إن لم يتب، والثاني: وجوب تكفير صغائر مجتنب الكبائر مع عدم التوبة، وله أن يعذب بالصغائر مع اجتناب الكبائر وليس في الآية ما يخالف ذلك فلا حاجة إلى الإطالة. قوله: (كأنه قال: والفواحش منها خاصة) يريد أنه من أسلوب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]. قوله: (لقاء أخلاء الصفاء لمام) تمامه: وكل وصال الغانيات ذمام

والمراد الصغائر من الذنوب. ولا يخلو قوله تعالى: {إلاَّ اللَّمَمَ} من أن يكون استثناء منقطعًا أو صفة، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله. وعن أبي سعيد الخدري: اللمم هي النظرة، والغمزة، والقبلة. وعن السدي: الخطرة من الذنب، وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًا ولا عذابًا. وعن عطاء: عادة النفس، الحين بعد الحين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "ديوان الأدب": فلان يزورنا لمامًا، أي: في الأحايين. الجوهري: يقال: بئر ذمة، قليلة الماء وجمعها: ذمام. قوله: (أو صفة كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}) قيل: فيه نظر، لأن {كَبَائِرَ الإثْمِ} معرفة، و"غير اللمم" نكرة، اللهم إلا أن يحمل على الجنس نحو قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وإذا حمل الصفة يكون مثل قول الشاعر: . إلا الفرقدان لأن {كَبَائِرَ الإثْمِ} ليس جمعًا منكورًا. قوله: (عادة النفس الحين) وفي "التيسير": وقيل: اللمم أن لا يصر على ما ارتكبه، بل يبادر بالتوبة عنه، من قولهم: ما يأتينا فلان إلا لمامًا: أي زيارة لا لبث معها، يعني في الحين، أي لا يدوم عليه ولا يعتاده. وروينا عن الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن تغفر اللهم تغفر جمًا، ,أي عبد لك لا ألما".

{إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ} حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة. {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} فلا تنسبوها إلى زكاء العمل، وزيادة الخير، وعمل الطاعات، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولا وآخرا، قبل أن يخرجكم من صلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فنزلت، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده، ولم يقصد به التمدح، لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وأَعْطَى قَلِيلًا وأَكْدَى * أَعِندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وإبْرَاهِيمَ الَّذِي وفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى * وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى * وأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنتَهَى * وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى * وأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأَحْيَا * وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إذَا تُمْنَى * وأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وأَقْنَى * وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأَطْغَى * والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} 33 - 54]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأما من اعتقد أن عمله من العمل الصالح) روينا عن مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".

{وأَكْدَى} قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كدية: وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر، ونحوه: أجبل الحافر، ثم استعير فقيل: أجبل الشاعر: إذا أفحم. روي أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت. ومعنى {تَوَلَّى} ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل. {فَهُوَ يَرَى} فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أوزاره حق، {وفَّى} قرئ مخففا ومشددا، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى: وفر وأتم، كقوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية، من ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوة، والصبر على ذبح ولده، وعلى نار نمرذ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشى فرسخا يرتاد ضيفاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أجبل الحافر) الجوهري: أجبل القوم: إذا حفروا فبلغوا المكان الصلب، وأكدى الحافر: إذا بلغ الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر. قوله: ({فَهُوَ يَرَى} فهو يعلم) قال أبو البقاء: {فَهُوَ يَرَى} جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل: أعنده علم الغيب فيرى؟ ولو جاء على ذلك لكان نصبًا على جواب الاستفهام. قوله: ({وَفَّى} قرئ مخففًا ومشددًا)، المشددة: هي المشهورة.

فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفى به. وعن الهذيل بن شرحبيل: كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزواج بامرأته، والعبد بسيده؛ فأول من خالفهم إبراهيم. وعن عطاء ابن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكما فلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار، وهي صلاة الضحى". وروي: ألا أخبركم سمى الله خليله {الَّذِي وفَّى}؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى: ) {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} إلى {حِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] وقيل: وفي سهام الإسلام: وهي ثلاثون: عشرة في التوبة {التَّائِبُونَ ..... } [التوبة: 112]، وعشرة في الأحزاب: {إنَّ المُسْلِمِينَ ... } [الأحزاب: 33] وعشرة في المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ .... } [المؤمنون: 1 - 10] وقرئ: (في صحف)، بالتخفيف. {أَلاَّ تَزِرُ} "أن" مخفقة من الثقيلة. والمعنى: أنه لا تزر، والضمير ضمير الشأن، ومحل "أن" وما بعدها: الجر، بدلا من "ما في صحف موسى". أو الرفع على: هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: أن لا تزر. {إلاَّ مَا سَعَى} إلا سعيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن وافقه أكرمه) قال: يقال: وافقت فلانًا يصلي، ووفقته أي: وجدته. قوله: ({إلاَّ مَا سَعَى} إلا سعيه). الراغب، السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل في الجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة، وخص المسعاة بطلب المكرمة.

فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وله الإضعاف؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت) تلخيصه: أن التركيب، أي: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، يفيد بما فيه من أداة الحصر، وتعقيبه لقوله: {أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} اختصاص الإنسان بثواب ما عمل هو بنفسه لنفسه، وانتفائه بسعي غيره، وأنه لا يجزى من سعيه إلا مقدار ما عمله لا يزاد عليه، وهو على خلاف الأقوال الواردة في الصدقة والحج، والآيات الصادرة في مضاعفة الثواب. وأما الأخبار الواردة في الصدقة فكثيرة، منها: ما روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "تعم". "افتلتت نفسها": أي: ماتت فجأة، كأن نفسها أخذت فلتة، وأما في الحج فكذلك، منها ما روي في البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أختي نذرت لأن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان عليها دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم، قال: "حق الله أحق بالقضاء". وأما الآيات الدالة على مضاعفة الثواب فلا تخفى كثرتها، وأجاب أن سعي الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط، فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمنًا صالحًا، كان سعي الغير تابعًا لسعيه، كأنه سعي نفسه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: إن عقله الإيمان وصله قوية، روينا عن البخاري ومسلم عن النعمان ابن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وعن البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، ثم شبك بين أصابعه. فإذا سعى أحد في الإيمان والصلاح فكأنه سعى في شد عضد أخيه، وسد ثلمته، فكأن سعيه سعيه. وقلت: ما أحسن هذا المعنى لو اطرد في الصوم والصلاة وقراءة القرآن، لعل الظاهر أن الآية عامة خصصت في صور معدودة، وعن أحمد بن حنبل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدونه، وأن هشامًا ابنه نحر حصته خمسين، وأن عمر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك". وذكر صاحب "الروضة" في "الأذكار": المشهور من مذهب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: "اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان"، والله أعلم. أما بيان النظم، فإن قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} تنبيه لمن خوطب بقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وأَعْطَى قَلِيلًا وأَكْدَى} على خطئه في إمساكه عن البر، وقبول قول أخيه أنا أتحمل ذنوبك كلها، ولذلك جعل قوله: {أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} تمهيدًا لقوله: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}.

قلت: فيه جوابان؟ ؛ أحدهما: أن سعي غيره لما ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنا صالحا، وكذلك الإضعاف، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه، لكونه تابعا له وقائما بقيامه. والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه. {ثُمَّ يُجْزَاهُ} ثم يجزى العبد سعيه، يقال: جزاء الله عمله وجزاه على عمله، بحذف الجار وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: {الجَزَاءَ الأَوْفَى} أو أبدله عنه، كقوله تعالى: {وأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، {وأَنَّ إلَى رَبِّكَ} قرئ بالفتح على معنى: أن هذا كله في الصحف، وبالكسر على الابتداء، وكذلك ما بعده. والمنتهى: مصدر بمعنى الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه، كقوله تعالى {وإلَى اللَّهِ المَصِيرُ} [فاطر: 18]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثم يجزى العبد سعيه) قال السجاوندي: الجزاء مصدر، والمفعول الثاني الضمير المنصوب، والأول مرفوع مستكين، قال: إن أجز علقمة بن سيف سعيه .... لا أجزه ببلاء يوم واحد أي: ثم يجزى هو سعيه، وقال أبو البقاء: {الجَزَاءَ الأَوْفَى} هو مفعول {يُجْزَاهُ}، وليس بمصدر لأنه وصفه بالأوفى، وذلك من صفة المجزى به، لا من صفة الفعل. وقال صاحب "الكشف": جعلت الهاء في {يُجْزَاهُ} مصدرًا، لم يكن {الجَزَاءَ الأَوْفَى} مصدرًا، لأن فعلًا واحدًا لا ينصب مصدرين، بل يكون التقدير: المجزى الأوفى، كالصيد بمعنى المصيد. قوله: ({وأَنَّ إلَى رَبِّكَ}، قرئ بالفتح): الجماعة كلهم.

{أَضْحَكَ وأَبْكَى} خلق قوتي الضحك والبكاء. {إذَا تُمْنَى} إذا تدفق في الرحم، يقال: منى وأمنى. وعن الأخفش: تخلق، من منى الماني، أي قدر المقدر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خلق قوتي الضحك والبكاء) الانتصاف: وخلق أيضًا فعلي الضحك والبكاء على قواعد السنة، وعليه دلت الآية، غير متأثرة لتحريفه. وقلت: المراد من {أَضْحَكَ وأَبْكَى} خلق السرور والحزن، أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذلك قرنهما بقوله: {أَمَاتَ وأَحْيَا}. قال الواحدي: {وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى}، هذا يدل على أن ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه، حتى الضحك والبكاء. قال الكلبي: أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار. الراغب: بكى يبكي بكاء وبكى، فالممدود سيلان الدمع عن الحزن وعوامل، يقال إذا كان الصوت أغلب كالرغاء والثغاء. والمقصور، يقال إذا كان الحزن أغلب، و"بكى" يقال في الحزن وإسالة الدمع معًا ومنفردًا، وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] إشارة إلى الفرح والترح. قوله: (من منى الماني) أي: مأخوذ منه؛ بفتح الميم والنون، وفي نسخة: "من مني الماني بسكون النون. الراغب: المنى كالقفا: القدر، يقال: منى لك الماني، أي: قدر لك المقدر، ومنه المنى الذي يوزن به فيما قيل، والمني: الذي قدر منه الحيوان، قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي: تقدر بالعزة الإلهية ما لم يكن منه.

قرئ {النَّشْأَةَ} و (النشاءة) بالمد. وقال: {عَلَيْهِ} لأنها واجبة عليه في الحكمة، ليجازي على الإحسان والإساءة. {وأَقْنَى} وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته، وعزمت أن لا نخرجه من يدك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {النَّشْأَةَ} و"النشاءة" بالمد) ابن كثير وأبو عمرو والباقون بالقصر. قوله: (وقال: {عَلَيْهِ} لأنها واجبة في الحكمة)، وعند أهل السنة كالواجبة بحسب الوعد. الانتصاف: معنى {عَلَيْهِ} ههنا: أن أمر النشأة الثانية تدور على قدرته تعالى وإرادته، تقول: دارت قضية فلان على يدي، أي: أنا المشيد بها، ويقول المحدثون: هذا الحديث يدور على فلان. قوله: (تأثلته) أي: اتخذته أصلًا. الراغب: الغنى: يقال على ضربين؛ أحدهما ارتفاع الحاجات، وليس ذلك إلا لله عز وجل، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] والثاني: قلة الحاجات كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ومنه الحديث: "الغنى عنى النفس"، والثالث: كثرة القنيات بحسب ضروب الناس، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] أي: لهم غنى النفس ويحسبهم الجاهل أن لهم القنيات لما فيهم من التعفف والتلطف، وهذا المعنى هو المعني بقول الشاعر: قد يكثر المال والإنسان مفتقر

{الشِّعْرَى} مرزم الجوزاء: وهي التي تطلع وراءها، وتسمى كلب الجبار، وهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: أغنى عنه كذا، إذا كفاه، قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] والغانية: المستغنية بزوجها عن الزينة، وقيل: المستغنية بحسنها عن التزين، وغنى في مكان كذا، إذا طال مقامه فيه مستغنيًا به عن غيره، يقال: يغني وغنى أغنية وغناء وتغنى، وقيل: تغنى بمعنى استغنى، وحمل الحديث: "من لم يتغن بالقرآن" على ذلك. قوله: (مرزم الجوزاء) قال ابن قتيبة في "كتاب الأنواء": يد الجوزاء: كوكبان أزهران في أحدهما حمرة، والآخر، هو مرزم الجوزاء، وبحيال يديها كوكبان نورهما نحو نور اليدين، وقال أبو زيد: لما استتمت إلى جوزاء أكرعها يريد رجليها. وفيها الشعرى العبور، ومزرم الشعرى، وهي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه {وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، فإن قومًا عبدوها وفتنوا بها. وكان أبو كبشة الذي كان المشركون ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أول من عبدها، وقال: قطعت السماء عرضًا ولم يقطعها غيرها، وخالف قريشًا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله عز وجل، وترك أوثانهم سموه به، أي: هو شبهه، ومثله في الخلاف، وشعريان: أحدهما التي ذكرت في الجوزاء، وهي التي تسمى بالعبور، والشعرى الأخرى، هي الغميصاء من الذراع المبسوطة في نجوم الأسد، لا في الجوزاء، وزعم العرب أن سهيلًا والشعريين كانت مجتمعة، فانحدر سهيل نحو اليمين، وتبعه العبور، فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل فغمصت عينها فهي أقل نورًا من العبور، والغمص مثل الرمص، والشعرى العبور: نجم كبير يزهر.

شعريان؛ الغميصاء والعبور. وكانت خزاعة تعبدها، سن لهم ذلك أبو كشبه رجل من أشرافهم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو كبشة، تشبيها له به، لمخالفته إياهم في دينهم، يريد: أنه رب معبودهم هذا. عاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. وقيل: الأولى: القدماء؛ لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف. وقرئ: (عادًا لولى) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ذو الرمة: يذكر طلوعها أول الليل وفي الشتاء: إذا أمست الشعرى العبور كأنها .... مهاة علت من رمل يبرين رابيا انتهى كلام ابن قتيبة. وعن بعضهم: الجبار: اسم الجوزاء، والكلب: اسم الشعرى، لأنه يتبع الجوزاء كما يتبع الكلب الصائد. قوله: (وقيل: الأولى: القدماء) سلك بالأولى ما سلكه بالأخرى في قوله: {ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فسرها تارة بالتقدم الزماني حيث قال: "أول الأمم هلاكًا بعد قوم نوح"، وأخرى بالتقدم الرتبي، وإليه الإشارة بقوله: "أو المتقدمون في الدنيا الأشراف". قوله: (وقرئ: "عادًا لولى" نافع وأبو عمرو: بضم اللام بحركة الهمزة، وإدغام التنوين فيها، وأتى قالون بعد ضمه اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو، والباقون: يكسرون التنوين ويسكنون اللام، ويحققون الهمزة بعدها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الكشف": من قال في الأحمر: لحمر، بفتح اللام وإسقاط همزة الوصل، قال هاهنا: لولى بضم اللام المنقول إليها من الهمزة، وحرك اللام وحذف ألف الوصل، فيقرأ: عادًا لولى، فيدغم التنوين في اللام، ولابد من ذلك، ومن قال: في الأحمر: الحمر بفتح اللام ولا يحذف همزة الوصل، ادعاء منه بأن اللام وإن تحركت، وهي في تقدير السكون، لأن حركتها حركة الهمزة المحذوفة المقدرة، قال هاهنا: "ألولى"، فإذا وصلها بـ"عاد"، قال: عادًا لأولى، فلا يدغم التنوين في اللام لأن اللام في تقدير السكون، والساكن لا يدغم في الساكن. قال الزجاج: "الأولى" بإثبات الهمزة: أجود اللغات، وبعدها: "لولى" بضم اللام وطرح الهمزة، والقياس إذا تحركت اللام أن تسقط ألف الوصل، لأن ألف الوصل إنما اجتلبت لسكون اللام، لكنه جاز ثبوتها، لأن ألف لام المعرفة لا تسقط مع ألف الاستفهام، فخالف ألف الوصل، ومن العرب من يقول: "لولى" يريد "الولى"، فيطرح الهمزة ليجري اللام، وقرئ "عادًا لولى" على هذه اللغة وأدغم التنوين في اللام. والأكثر: {عَادًا الأُولَى}

بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى، ونقل ضمتها إلى لام التعريف. {وثمودًا}، وقرئ {وثَمُودَا}، {أَظْلَمَ وأَطْغَى} لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، وما أثر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة. {والْمُؤْتَفِكَةَ} والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت، وهم قوم لوط، يقال: أفكه فائتفك. وقرئ: (المؤتفكات). {أَهْوَى} رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض، أي: أسقطها. {مَا غَشَّى} تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب، وأمطر عليها من الصخر المنضود. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [55 - 58]. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} تتشكك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بكسر التنوين، ولأبي علي كلام على الزجااج في "الإغفال". قوله: (وقرئ: {وثَمُودَا}) عاصم وحمزة: يقفان بغير ألف، والباقون: بالتنوين ويقفون بالألف. وعن بعضهم: "ثمود": نصب نسق على {عَادًا}، ولا يجوز أن ينصب بقوله: {فَمَا أَبْقَى} لأن ما بعد الفاء لا يعمل في ما قبلها، لا تقول: زيدًا فضربت، وأكثر النحويين ينصب ما قبل الفاء بما بعدها. وقال أبو البقاء: {وثَمُودَا} منصوب بفعل مضمر، أي: وأهلك ثمود، ولا يعمل فيه ما أبقى لأجل حرف النفي، وكذلك "قوم نوح"، ويجوز أن يعطف على {عَادًا}.?

والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للإنسان على الإطلاق، وقد عدد نعما ونقما وسماها كلها آلاء، من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين. {هَذَا} القرآن {نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين، وقال {الأُولَى} على تأويل الجماعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للإنسان)، الثاني أظهر لقوله تعالى في الرحمن: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} على أن الخطاب إذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المرادون أيضًا؛ لأن الخطاب إما من باب الإلهاب والتهييج، أو لأنه هو الرئيس والقدوة، وهم المرؤوسون. قوله: (وقد عدد نعمًا ونقمًا وسمى كلها آلاء)، اعلم أنه تعالى جعل الكلام على نمطين، وكل نمط مشتمل على نعم ونقم، أما النمط الأول فمن قوله: والنجم إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} من النعم التي دونها كل نعم، ومن قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} إلى قوله: {أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى} مشتمل على النقم التي دونها كل نقم، أما النمط الثاني فابتداؤه من قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} إلى قوله: {وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} في بيان النعم الجسيمة، ومن قوله: {وأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} إلى قوله: {فَغَشَّاهَا} من النقم. قوله: ({هَذَا} القرآن {نَذِيرٌ}) إلى قوله: (أو هذا الرسول)، يعني: في بيان {نَذِيرٌ}، بقوله: {مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} بعد ذكر قوله: {مَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وإبْرَاهِيمَ الَّذِي وفَّى} إشعار بأن المشار إليه بقوله: {هَذَا} هو القرآن أو الرسول. قوله: (من المنذرين الأولين) فإن قلت: كيف أعتبر معنى التأخر في الزمان، ثم المرتبة في "مناة الثالثة الأخرى"؟ وكذا في {عَادًا الأُولَى} فيهما، وخص هذا الموضع بالتقدم الزماني؟ قلت: استدعى ذلك احتمال التحقير في الأولى والتعظيم في الثانية، وهاهنا ليس المراد سوى التقدم في الزمان لأنه على وزان {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} إلى قوله: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] فلا يدخل في المعنى إرادة التعظيم.?

{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} قربت الموصوفة بالقرب؛ من قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، {لَيْسَ لَهَا} نفس {كَاشِفَةٌ} أي مبينة متى تقوم، أي مبينة متى تقوم، كقوله تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلاَ هُوَ} [الأعراف: 187] أو ليس لها نفس كاشفة، أي: قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، غير أنه لا يكشفها. أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: الكاشفة مصدر بمعنى الكشف، كالعافية. وقرأ طلحة: (ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة، وهي على الظالمين ساءت الغاشية). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ}: قربت الموصوفة بالقرب)، الراغب: دنت القيامة، وأزف وأفد يتقاربان، لكن أزف يقال اعتبارًا بضيق وقتها، ويقال: أزف الشخوص، والأزف ضيق الوقت، وسميت به لقرب كونها، وعلى ذلك عبر عنها بالساعة، وقيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، فعبر عنها بلفظ الماضي، لقربها وضيق وقتها. قوله: (أوليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير) يعني: لو وقعت الآن لم يردها لوقتها أد إلا الله، وعلى الوجه الثاني: روى محيي السنة عن قتادة وعطاء والضحاك: معناه: إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يرد عنهم أحد. قوله: (وهي على الظالمين ساءت الغاشية) إلى هنا قراءة طلحة، قال ابن جني: هذا جار مجرى قولهم: زيد نعم الرجل، لأن ساء بمعنى بئس، والغاشية هنا جنس، والعائد منها إلى "هي" ضمير يتجرد ويمتاز من معنى الجماعة، كقولهم: زيد قام بنو محمد، إذا كان محمد أباهم، فكأنه قال: زيد قام في جملة القوم، كما أن قولك: زيد نعم الرجل، العائد عليه في المعنى ذكر يخصه من جملة الرجال.

{أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وتَضْحَكُونَ ولا تَبْكُونَ * وأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا} [59 - 62]. {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ} وهو القرآن، {تَعْجَبُونَ} إنكارا، {وتَضْحَكُونَ} استهزاء {ولا تَبْكُونَ}، والبكاء والخشوع حق عليكم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها. وقرئ: (تعجبون تضحكون)، بغير واو. {وأَنتُمْ سَامِدُونَ} شامخون مبرطمون. وقيل: لاهون لاعبون. وقال بعضهم لجاريته: اسمدي لنا، أي: غني لنا {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا}، ولا تعبدوا الآلهة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مبرطمون) الجوهري: البرطمة: الانتفاخ من الغضب، وتبرطم الرجل: تغضب من كلام. الراغب: السامد: اللاهي الرافع رأسه، من سمد البعير في سيره. سئل ابن عباس عن السمود، قال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرًا، أي: رافعون رؤوسهم تكبرًا. تمت السورة حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة القمر

سورة القمر مكية، وهي خمس وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ * وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [1 - 3]. انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة القمر مكية وهي خمس وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن البخاري ومسلم والترمذي عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. زاد الترمذي: فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ} إلى قوله: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}. وعن الترمذي عن جبير بن مطعم: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم: لئن كان سخرنا، لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر مرتين. وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، قال ابن عباس: انفلق فلقتين؛ فلقة ذهبت، وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن بعض الناس: أن معناه: ينشق يوم القيامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال رزين العبدري: فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه، فيكذبونهم. وحديث انشقاق القمر قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وروى الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر. وأما أبو إسحاق الزجاج؛ فقد أسند عشرين حديثًا إلا واحدًا في تفسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في انشقاق القمر. قوله: (وعن بعض الناس: أن معناه: ينشق يوم القيامة) قال الواحدي: هو عثمان بن عطاء عن أبيه، وقال الزجاج: وزعم قوم عندوا عن القصد، وما عليه أهل العلم، أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين اللفظ بقوله: {وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فكيف يكون هذا يوم القيامة؟ ! وقال القاضي: دل قوله: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}، أي: مطرد على أنهم رأوا قبله آيات أخرى

وقوله {وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} يرده، وكفى به رادا، وفي قراءة حذيفة (وقد انشق القمر) أي: اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، كما تقول: أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت؛ وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم. {مُّسْتَمِرٌّ}: دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله، قيل فيه: قد استمر. لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات قالوا: هذا سحر مستمر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مترادفة، ومعجزات سابقة. وفي "الكبير": قوله انشقاق القمر منتظر بعيد، لأن من منع ذلك، وهو الفلسفي المخذول، يمنعه في الماضي والمستقبل، ومن يجوز لا يحتاج إلى التأويل، وإنما ذهب الذاهب، لأن الانشقاق أمر هائل، ولو وقع لعم وجه الأرض، وبلغ مبلغ التواتر. والجواب: أن الموافق فقد نقله، وبلغ مبلغ التواتر، وأما المخالف فربما ذهل، أو حسب أنه نحو الخسوف، والقرآن أولى دليل وأقوى شاهد، وإمكانه لا شك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه، وأما امتناع الخرق والالتئام فحديث اللئام. قوله: (وفي قراءة حذيفة: "وقد انشق القمر") قال ابن جني: هذا يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر، ورفع التشكك، أي: قد كان انشقاق القمر، فتوقعوا قرب الساعة، أي: إذا كان انشقاقه من أشراطها وأحد أدلة قربها، فقد توكد الأمر في وقوعها، وذلك أن "قد" إنما هي جواب وقوع كان متوقعًا، يقول القائل: انظر أقام زيد؟ وهل قام زيد؟ وأرجو أن لا يتأخر زيد، فيقول المجيب: قد قام، أي: قد وقع ما كان متوقعًا.

وقيل: مستمر: قوي محكم، من قولهم: استمر مريره. وقيل: هو من استمر الشيء. إذا اشتدت مرارته، أي: مستبشع عندنا، مر على لهواتنا، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر. وقيل: مستمر: مارا، ذاهب يزول ولا يبقى، تمنية لأنفسهم وتعليلا. وقرئ: (وإن يروا). {واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره. {وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ}. أي: كل أمر لابد أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل، وسيظهر لهم عاقبته. أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر، أي: سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وقرئ بفتح القاف، يعني: كل أمر ذو مستقر أي: ذو استقرار. أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار. وعن أبي جعفر: (مستقرا)، بكسر القاف والجر، عطفا على الساعة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المر الممقر)، الجوهري: مقر الشيء بالكسر يمقر مقرًا أي: صار مرًا فهو مقر، والمقر أيضًا: الصبر، وأمقر الشيء أي: صار مرًا. قوله: (ولا يبقى، تمنية) الجوهري: والأمنية واحدة الأماني، تقول منه: تمنيت الشيء ومنيت غيري تمنية؛ نصبه تمييزًا من قول الكفار، أو مفعولًا له. قوله: ({مُّسْتَقِرٌّ}) بكسر القاف: السبعة. قوله: (لا بد وأن يصير) ورد في بعض النسخ بالواو، وفي بعضها بغير واو، وقد وقع في كلام المتأخرين كثيرًا بالواو، وقد قيل: إنه لا يجوز وقوعها بين الاسم والخبر، وقيل: إنها زائدة، ويمكن أن يقال: إن الخبر محذوف، و"أن يصير" معطوف عليه، تقديره: "كل أمر لا بدله من الانتهاء وأن يصير إلى غاية".

أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله. [{ولَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ يَقُولُ الكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} 4 - 8]. {مِّنَ الأَنبَاءِ} من القرآن المودع أنباء القرون الخالية، أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار. {مُزْدَجَرٌ} ازدجار أو موضع ازدجار. والمعنى: هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له، كقوله تعالى: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أي: هو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر) عن بعضهم: هو عطف قوله: {وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} بأسره على قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وهو عطف مفرد، وهو المضاف والمضاف إليه الموصوف على مفرد هو الساعة، فالعطف لتتميم المعنى، فيكون قوله: {وانشَقَّ القَمَرُ} بعضًا من هذه الأمور المستقرة ذكر لتخصيصه، وأنه من أعظم الأمور، فيجوز أن يكون من باب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، إذا قدر: واقترب كل أمر مستقر قبله، أو من باب عطف {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، إذا قدر بعده، وأما توسيط قوله: {وإن يَرَوْا آيَةً} إلى آخره، فللاستطراد لذكر انشقاق القمر توبيخًا أو تقريعًا، {وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} على أن يكون جملة برأسها، كان تذييلًا للكلام السابق، ولذلك عم الحكم بقوله: "كل أمر لابد وأن يصير إلى غاية يستقر عليها". قوله: (هو في نفسه موضع الازدجار) و"في" فيه تجريدية، نحو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. الراغب: مزدجر، أي: طرد ومنع عن ارتكاب المأثم، واستعمال الزجر فيهم لصياحهم بالمطرود، نحو أن يقال: اغرب، وتنح، ووراءك.

أسوة. وقرئ: (مزجر) بقلب تاء الافتعال زايا، وإدغام الزاي فيها. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} بدل من {مَا} أو على: هو حكمة. وقرئ بالنصب حالا من (مَا). فإن قلت: إن كانت {مَا} موصوفة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا، فكيف تعمل إن كانت موصوفة وهو الظاهر؟ قلت: تخصصها الصفة؛ فيحسن نصب الحال عنها. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفي أو إنكار. و"ما" منصوبة، أي: فأي غناء تغني النذر {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك أن الإنذار لا يعني فيهم، نصب {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} بـ {يَخْرُجُونَ}، أو بإضمار: اذكر. وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها، والداعي إسرافيل أو جبريل، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ} [ق: 41}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم) إشارة إلى ربط الآيات، وأن هذه الفاء نتيجة للكلام السابق، وفي مدخولها معنى المتاركة والمواعدة، وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المعاندين أنه بلغ إعراضهم وتمردهم، بحيث إن يروا آية يقولوا: سحر مستمر وكرر المعنى بقوله: {وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} لأن الإعراض وقولهم: سحر مستمر، تكذيب ومتابعة للهوى، ثم جاء بقوله: {ولَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ} جملة قسمية حالًا مقررة لجهة الإشكال، أي: يكذبون، والحال أنه جاءتهم حكمة بالغة، ثم سجل عنادهم بقوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}، قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}، أي بعد أن استعلمت حالهم وأنهم لا يؤمنون البتة، فتول عنهم وأعرض عن الإنذار، لأن الإنذار إنما يفيد إذا انتفع به المنذر.

{إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ}: منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وقرئ: (نكر) بالتخفيف؛ و (نكر) بالتخفيف؛ و (نكر) بمعنى: أنكر. {خُاشَّعًا} حال من الخارجين فعل للأبصار، وذكر كما نقول: يخشع أبصارهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "نكر" بالتخفيف) ابن كثير، والباقون: بضمها. قال أبو البقاء: {نُكُرٍ} بضم النون والكاف، وبإسكان الكاف، وهو صفة بمعنى: منكر. قوله: ("ونكر" بمعنى: أنكر) قال ابن جني: قرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة: "إلى شيء نكر"، جهل، يقال: قد أنكرت الشيء فهو منكر، ونكرته فهو منكور، مثله: مررت بصبي يضرب؛ وصف بالفعل. قوله: (خاشعًا) أبو عمرو وحمزة والكسائي: "خاشعًا" بفتح الخاء وألف بعدها، والباقون: بضم الخاء وفتح الشين مشددة. قوله: (حال من الخارجين) قال أبو البقاء: {خُشَّعًا} حال، وفي العامل وجهان: أحدهما: {يَدْعُ}، أي: يدعوهم الداعي، وصاحب الحال الضمير المحذوف، و {أَبْصَارُهُمْ} مرفوع بـ {خُشَّعًا}، وجاز أن يعمل الجمع لأنه مكسر، والثاني: العامل {يَخْرُجُونَ}. وقرئ: "خاشعًا"، والتقدير: فريقًا خاشعًا، ولم يؤنث، لأن تأنيث الفاعل تأنيث الجمع، وليس بحقيقي، ويجوز أن ينتصب "خاشعًا" مفعولًا به لـ {يَدْعُ}، و {يَخْرُجُونَ} على هذا: حال من أصحاب الأبصار.

وقرئ {خَاشِعَةً) على: تخشع أبصارهم. {خُشَّعًا}، على: يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلونى البراغيث وهم طيء. ويجوز أن يكون في {خُشَّعًا} ضميرهم، وتقع {أَبْصَارُهُمْ} بدلا عنه. وقرئ: (خشع أبصارهم)، على الابتداء والخبر، ومحل النصب على الحال. كقوله: وجدته حاضراه الجود والكرم وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والانخزال، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما. وقرئ: (يخرجون)، {مِنَ الأَجْدَاثِ} من القبور. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} الجراد: مثل في الكثرة والتموج. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "خاشعة") قال الزجاج: قرأها ابن مسعود، ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو خاشعًا أبصارهم، ولك التوحيد والتأنيث نحو: خاشعة أبصارهم، ولك الجمع نحو: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ}. قوله: (وهي لغة من يقول: أكلوني البراغيث) وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأنه لا حاجة إلى البناء عليه، لجواز "جاء رجل قعود غلمانه"، يريد ما قاله أبو البقاء: جاز أن يعمل الجمع لأنه مكسر. قوله: (وجدته حاضراه الجود والكرم)، أوله: جئت الذي كنت أرجو فضل نائله

جاؤوا كالجراد، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته. {مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} مسرعين مادي أعناقهم إليه. وقيل: ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال: تعبدني نمر بن سعد وقد رأى .... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع. [{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وقَالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ ودُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * ولَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 9 - 17]. {قَبْلَهُمْ} قبل أهل مكة، {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يعني نوحاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "حاضراه" مبتدأ، و"الجود والكرم" مبتدأ وخبر، ومحل الجملة نصب على الحال. قوله: (كالدبا) الدبا: الجراد الصغار، قبل أن يطير. قوله: ({مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} مسرعين)، قال أبو البقاء: {مُهْطِعِينَ} حال عند قوم من الضمير في {مُّنتَشِرٌ}، وهو بعيد لأن الضمير في المنتشر للجراد، وإنما هو حال من {يَخْرُجُونَ}. الراغب: هطع الرجل ببصره: إذا صوبه، وبعير مهطع: إذا صوب عنقه، قال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43]. قوله: (تعبدني نمر بن سعد) البيت، يقول: نمر بن سعد عبدًا، وكان قبل هذا مطيعًا لي، وناظرًا إلي.

فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا} بعد قوله: {كَذَّبَتْ}؟ قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أي: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا: كذبوا نوحا؛ لأنه من جملة الرسل. {مَجْنُونٌ} هو مجنون. {وازْدُجِرَ} وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم: {لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]، وقيل: هو من جملة قيلهم، أي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا)، والفاعل الأول تعقيب، وعلى هذا للتسبيب. الانتصاف: ومضى سؤال في قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا} إلى قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} [سبأ: 45] وأجاب الزمخشري: "إنه كقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكر"، وأقول: إن الأول مطلق والثاني مقيد، وليس بتكرار، وهو كقوله: {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} فإن تعاطيه وهو نفس "عقر"، لكنه ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصها امتهانًا. وقلت: ومثله أيضًا قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ولا شك أن ما سلكه المصنف أولًا فن بليغ يذهب إليه، نحو ما جاء في الحديث: "والأمثل فالأمثل".، وفي قولهم: وجاء القوم الأفضل فالأفضل، والأكرم فالأكرم، واستدعاه المقام لاستمرار تكذيبهم له، قومًا بعد قوم، مدة ألف سنة إلا خمسين عامًا، فوجب المصير إليه بخلاف تلك الأمثلة. قوله: (وقيل: هو من جملة قيلهم) فيكون تتميمًا للمعنى الأول، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وعلى الأول تكميل، لأن و {وازْدُجِرَ} حينئذ

قالوا: هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرئ: {أَنِّي} بمعنى: فدعا بأني مغلوب، و (إني): على إرادة القول، فدعا فقال: إني مغلوب غلبني قومي، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي. {فَانتَصِرْ}: فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الزبى، فقد روي: أن الواحد من أمته كان يلقاه فيخنقنه حتى يخر مغشيا عليه، فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقرئ {فَفَتَحْنَا} مخففا ومشددا، وكذلك {وفَجَّرْنَا}. {مُّنْهَمِرٍ} منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما. {وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تنفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ونظيره في النظم: {واشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4]. {فَالْتَقَى المَاءُ} يعنى مياه السماء والأرض. وقرئ: (الماءان)، أي: النوعان من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خارج عن حيز القول، عطف على "قالوا" ذلك القول، وما اكتفوا به، بل ضموا إليه هذا الفعل، ولهذا قال: "وانتهروه بالشتم والضرب". قوله: (وبلغ السيل الزبى) قال الميداني: وهي جمع زبيبة، وهي حفرة تحفر للأسد في الرابية إذا أرادوا صيده، لا يعلوها الماء، فإذا بلغ إليها السيل كان جارفًا مجحفًا يضرب لما جاوز الحد. قوله: (قرئ: {فَفَتَحْنَا} مخففًا ومشددًا) ابن عامر: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف. قوله: (ونظيره في النظم: {وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4])، قال صاحب "المفتاح": إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس، إذ وزان اشتعل شيب رأسي،

الماء السماوي والأرضي. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال: لنا إبلان فيهما ما علمتم وقرأ الحسن (الماوان) بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان. {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}: على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان. {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ ودُسُرٍ} أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واشتعل رأسي شيبًا، وزان اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارًا، وإليه الإشارة بقوله: "وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر". قوله: (لنا إبلان فيهما ما علمتم)، تمامه: فعن أيها ما شئتم فتنكبوا "ما علمتم" أي: من قرى الأضياف وصلة ذوي الفاقة إبلان، أي: طائفتان، أو قطعتان، فتنكبوا: اعتمدوا. الجوهري: نكب على قوله نكابة: إذا كان منكبًا لهم يعتمدون عليه، وهو رأس العرفاء. ويروى: فعلى أيهما فعلى عن تنكبوا مضمن معنى تفحصوا. قوله: (علباوان)، الجوهري: العلباء: عصب العنق، وهما علباوان بينهما منبت العرف، وإن شئت قلت: علباآن لأنها همزة ملحقة، وإن شئت شبهتها بهمزة التأنيث التي في حمراء، وبالأصيلة التي في كساء، والجمع: العلابي.

فتنوب منابها وتودي مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه: ......... ولكن .... قميصي مسرودة من حديد أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك: ولو في عيون النازيات بأكرع أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين: لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر: جمع دسار: وهو المسمار، فعال، من دسره؛ إذا دفعه؛ لأنه يدسر به منفذه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولو في عيون النازيات بأكرع) الجوهري: التنزي: التوثب والتسرع. الأكرع: أرجلهن، أي: الواثبات بسوق وأرجل دقيقة، وألحق الشارح قبله: وإني لأستوفي حقوقي جاهدًا قوله: (وهذا من فصيح الكلام وبديعه) وهو من الكنايات التي المطلوب بها نفس الموصوف، كما تقول في الكناية عن الإنسان: إنه حي مستوي القامة عريض الأظفار، وفيه حصول المطلوب مع التصوير، هاهنا صور إيحاءهم بشيء عمل من المسامير القوية، والأخشاب الرصينة. وأكثر ما يقع هذا في كلام الجبابرة تهاونًا بالمطلوب، كقوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17]. وأنشد ابن جني بيت "الكتاب" في وصف سفينة: أما النهار ففي قيد وسلسلة .... والليل في جوف منحوت من الساج أي: السفينة. قوله: (فعال، من: دسره؛ إذا دفعه)، الراغب: الدسر: الدفع الشديد بعنف، يقال:

{جَزَاءً} مفعول له، لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أي فعلنا ذلك جزاء، {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفورا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى: ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة: (كفر)، أي: جزاء للكافرين. وقرأ الحسن (جزاء) بالكسر: أي مجازاة. الضمير في {تَّرَكْنَاهَا} للسفينة. أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة- وقيل: على "الجودي"- دهرا طويلا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمذكر: المعتبر. وقرئ: (مذتكر) على الأصل، و (مذكر)، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها، وهذا نحو: (مزجر). والنذر: جمع نذير وهو الإنذار {ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعيد والوعيد {فَهَلْ مِن} متعظ؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دسره بالرمح، ورجل مدسر، كقولك: مطعن. وروي: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شيء دسره البحر. قوله: (على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل) والكفر على هذا ضد الإيمان، والأصل: لمن كان كفر به، ثم حذف الجار فبقي المفعول، ولما بني الفعل للمفعول انقلب المجرور مرفوعًا والبارز مستكنًا. قوله: (بأن شحناه) أي: ملأناه، الجوهري: شحنت السفينة: ملأتها، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] عبر عن تكرير المواعظ والوعد والوعيد بالتيسير,

وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها ويسر فرسه للغزو: إذا أسرجه وألجمه. قال: وقمت إليه باللجام ميسرا .... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن. [{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا واحِدًا نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًًا لَّفِي ضَلالٍ وسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} 18 - 25]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، كلها داعية إلى الشهوات والركون إلى السفليات، واستئصال تلك العروق الضاربة من قعر الطبيعة لا يستتب ولا يتيسر إلا بتكرير المواعظ والقوارع، ألا ترى إلى سورة الرحمن وتكرير {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ قوله: (وقمت إليه باللجام)، البيت، يجزيني، أي: يكفيني، يقول: قمت إلى فرسي متهيئًا باللجام للدفاع أو القتال، ثم قال: هنالك أي: في ذلك الوقت، يكفيني ما أعانيه، وما أعامل به من إيثار اللين والتضمير والتعليف، قيل: كان البدوي يقف على فرسه ناقة أو ناقتين، يسقيه لبنها، فهو يقول: هنالك يجزيني هذا الفرس. قوله: (كما القرآن) "ما" كافة، أي: كما هو القرآن.

{ونُذُرِ} وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم. {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} في يوم شؤم. وقرئ: (في يوم نحس) كقوله: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16]. {مُّسْتَمِرٌّ} قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. أو استمر عليهم جميعا كبيرهم وصغيرهم، حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور. ويجوز أن يريد بالمستمر: الشديد المرارة والبشاعة. {تَنزِعُ النَّاسَ} تقلعهم عن أماكنهم، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدي بعض، ويتدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها، فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} يعني: أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل، وهي: أصولها بلا فروع، {مُّنقَعِرٍ}: منقلع عن مغارسه. وقيل: شبهوا بأعجاز النخل، لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو استمر عليهم جميعًا)، يعني الاستمرار، إما بحسب الزمان، يعني دام عليهم ذلك أزمنة ممتدة حتى أهلكهم، وإما بحسب الأشخاص كما قال: استمر عليهم جميعًا، والأول أظهر وأوفق لما في حم السجدة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت: 16] ويؤيده قوله: {ولَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} قال: قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة، وكان أول تلك الأيام يوم الأربعاء، فذكر هاهنا بدايتها، ودل على البواقي بمستمر، وهناك ذكر البداية والنهاية. قوله: (في أربعاء في آخر الشهر لا تدور) أي: استمر عليهم الأربعاء لا يرجع لهم، أي: دام الشؤم عن الواحدي، قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. قوله: (منقلع عن مغارسه). الراغب: قعر الشيء: نهاية أسفله، وقوله تعال: {كَأَنَّهُمْ

أجسادا بلا رؤوس. وذكر صفة {نَخْلٍ} على اللفظ، ولو حملها على المعنى لأنث، كما قال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. {أَبَشَرًا مِّنَّا واحِدًا} نصب بفعل مضمر يفسره: {نَّتَّبِعُهُ} وقرئ: (أبشر منا واحد) على الابتداء. و {نَّتَّبِعُهُ}: خبره، والأول أوجه الاستفهام. كأن يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق، و"سعر" ونيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب. والسعر: الجنون. يقال: ناقة مسعورة. قال: كأن بها سعرا إذا العيس هزها .... ذميل وإرخاء من السير متعب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي: ذاهب في قعر الأرض، قال بعضهم: انقعرت الشجرة: انقلعت من قعرها، وقيل: معنى انقعرت: ذهبت في قعر الأرض، وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا، كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض، فلم يبق لهم رسم ولا أثر، وقصعة قعيرة: لها قعر، وقعر فلان في كلامه: إذا أخرج الكلام من قعر حلقه، وهذا كما يقال: شدق في كلامه، إذا أخرج من شدقه. قوله: (فعكسوا) أي: عكسوا في جوابه، أي: المعنى الذي أورده في الخطاب، أوردوه في الجواب، وردوه به من غير اعتقاد منهم، لأن الضلال الذي هو مقابل للهدى، والسعر من السعير، إنما يستعملها الأنبياء في إنذاراتهم مع القوم، كما جاء في آخر هذه السورة: {إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} لا يعتقدونهما، ولذلك قال: كنا إذن كما تقول، وهو قريب من القول بالموجب. قوله: (كأن بها سعرًا)، الضمير في "هزها" راجع إلى العيس، وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، وفاعل هزها: ذميل، الذميل والإرخاء: ضربان

فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا؟ قلت: قالوا: أبشرا؛ إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة، وهم الملائكة، وقالوا: {مِّنَّا} لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، وقالوا: {واحِدًا} إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا. أو أرادوا واحدا من أفنانهم ليس بأشرفهم وأفضلهم، ويدل عليه قولهم: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي: أنزل عليه الوحي من بيننا، وفينا من هو أحق منه بالاختبار للنبوة؟ {أَشِرٌ} بطر متكبر، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك. [{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ * إنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ واصْطَبِرْ * ونَبِّئْهُمْ أَنَّ المَاءَ قِسْمَةٌ بَينَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 26 - 32}. {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة {مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} أصالح أم من كذبه؟ وقرئ: (ستعلمون) بالتاء، على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم. أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من السير، يقول: إذا هز العيس هذان النوعان من السير ترى فتى حينئذ في مثل الجنون. قوله: ("ستعلمون") أي: بالتاء الفوقانية: ابن عامر وحمزة. قوله: (أو هو كلام الله على سبيل الالتفات) أي: قال سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} عند نزول العذاب بهم {مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ}، مسليًا لصالح فخاطبهم به صالح ـ_بالتاء الفوقانية_ وتحريره: أنه تعالى لما حكى المقالة التي جرت بين نوح وقومه، وهي قوله: {أَبَشَرًا مِّنَّا}، إلى قوله: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} وجوابه عليه السلام:

وقرئ: (الأشر) بضم الشين، كقولهم: حدث وحدث، وحذر وحذر، وأخوات لها. وقرئ: (الأشر) وهو الأبلغ في الشرارة. والأخير والأشر: أصل قولهم: هو خير منه وشر منه، وهو أصل مرفوض، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب: هو أخير وأشر، وما أخيره وما أشره. {مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا، {فِتْنَةً لَّهُمْ} امتحانا لهم وابتلاء {فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون {واصْطَبِرْ} على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري. {قِسْمَةٌ بَينَهُمْ} مقسوم بينهم: لها شرب يوم ولهم شرب يوم. وإنما قال: {بَينَهُمْ} تغليباً للعقلاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} كان من الظاهر أن يقال: أجابهم بما أوحينا إليه أن يجيب به، وهو {سَيَعْلَمُونَ}، بالياء التحتانية، فعدل إلى التاء نقلًا للمعنى لا اللفظ، ثم حكى الله تعالى لفظه، وفي جعله من الالتفات بعد. قوله: ({مُّحْتَضَرٌ} محضور لهم أو للناقة). قال الواحدي: أي يحضر القوم يومًا، وتحضر الناقة يومًا، وحضر واحتضر واحد. الراغب: الحضر خلاف البدو، والحضارة _بفتح الحاء وكسرها_ الكون بالخضر، كالبداوة، ثم جعل ذلك اسمًا لشهادة مكان أو إنسان أو غير ذلك، قال تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] وذلك من باب الكناية: أي يحضرني الجن، وكني عن المجنون بالمحتضر، وكذلك كني عمن حضره الموت بالمحتضر، وذلك لما نبه عليه قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وقوله: وشرب محتضر، أي: يحضره أصحابه

{مُّحْتَضَرٌ} محضور لهم أو للناقة. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها. {صَاحِبَهُمْ} قدار بن سالف أحيمر ثمود، {فَتَعَاطَى} فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف. {صَيْحَةً واحِدَةً}: صيحة جبريل، والهشيم: الشجر اليابس المتهشم المتكسر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتجارة حاضرة، أي: نقدًا. قوله: (أحيمر ثمود) عطف بيان لـ"قدار". أنشد الزجاج لزهير يصف حربًا: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد، ثم ترضع فتفطم قوله: ({فَتَعَاطَى} فاجترأ على تعاطي الأمر) فأحدث العقر بالناقة، إنما حمله على هذا التفسير اتحاد معنى {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، كما ذكره صاحب "الانتصاف" قبيل هذا.

{المُحْتَظِرِ}: الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم. وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار، أي: الحظيرة. [{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * ولَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * ولَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 33 - 40]. {حَاصِبًا} ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم، {بِسَحَرٍ} بقطع من الليل، وهو السدس الأخير منه. وقيل: هما سحران، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه، وأنشد: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به) قال الواحدي: المحتظر: الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها من برد الريح، يقال: احتظر على نعمه الشجر، وضع بعضها فوق بعض. وقال الزجاج: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة. الراغب، الحظر: جمع الشيء في حظيرة، والمحظور: الممنوع، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة، وقد جاء فلان بالحظر الرطب، أي: الكذب المستبشع. قوله: ({بِسِحْرٍ}: بقطع من الليل) الراغب: السحر والسحرة: اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، وجعل اسمًا لذلك الوقت، يقال: لقيته بأعلى السحرين، والمسحر: الخارج سحرًا، والسحور: اسم الطعام المأكول سحرًا، والتسحر: أكله.

مرت بأعلى السحرين تذال وصرف لأنه نكرة. ويقال: لقيته سحر، إذا لقيته في سحر يومه. {نِعْمَةً} إنعاما، مفعول له {مَن شَكَرَ} نعمة الله بإيمانه وطاعته. {ولَقَدْ أَنذَرَهُم} لوط عليه السلام {بَطْشَتَنَا} أخذتنا بالعذاب، {فَتَمَارَوْا} فكذبوا {بِالنُّذُرِ} متشاكين {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه، لا يرى لها شق. روي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا، قالت الملائكة: خلهم يدخلوا، {إنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إلَيْكَ} [هود: 81] فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة، فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب، حتى أخرجهم لوط، {فَذُوقُوا} فقلت لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة {بُكْرَةً} أول النهار وباكره، كقوله: {مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، و {مُصْبِحِينَ} [الحجر: 83]. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما: (بكرة) غير منصرفة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مرت بأعلى السحرين تذأل) أي: تسرع، يصف حمر الوحش، الذألان: مشي الذئب، والذؤالة: علم للذئب، كثعالة: الثعلب. الراغب: قيل: السحر سحران؛ الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه. قوله: (وصرف لأنه نكرة ويقال: لقيته في سحر يومه) أي: لا ينصرف، قال ابن الحاجب: سحر: يستعمل معرفة ونكرة، فالنكرة منصرف، والمعرفة غير منصرف، وليس فيه ما يمنعه الصرف، إلا أن تقدر العلمية مع العدل، ولو قيل: إنه مبني لتتضمنه معنى الألف واللام يبعد عن الصواب، كما أن أمس على لغة أهل الحجاز مبني لتضمنه معنى الألف واللام، ولا يكون علمًا على هذا، لأن العلم إنما يكون علمًا بالقصد لا بتقدير حرف التعريف.

تقول: أتيته بكرة وغدوة بالتنوين، إذا أردت التنكير، وبكرة وغدوة إذا عرفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته. {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقمقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبكرة وغدوة إذا عرفت)، قال ابن الحاجب: وضعوا لأوقات أعلامًا كما وضعوا للمعاني الموجودة، وإن لم تكن الأوقات شيئًا موجودًا، أجراها مجرى الأمور الموجودة، والدليل على أنه علم: سير على فرسه غدوة، فغدوة غير منصرف، وإن لم يكن علمًا لوجب صرفه إذ ليس فيه إلا التأنيث اللفظي، والتأنيث اللفظي بالتاء لا يمنع إلا مع العلمية، وقد يستعمل نكرة، فيعرف باللام كغيره. قوله: (وأن يقرع لهم العصا مرات) مضى تفسيره في أول البقرة. قوله: (ويقعقع الشن تارات) الشن: القربة الخلق، وقيل في المثل: لا يقعقع بالشنان قال النابغة: كأنك من جمال بني أقيش .... يقعقع خلف رجليه بشن أي: كأنك جمل من جمال هذه القبيلة، أي: إنك جبان في الحرب لا تقدر على الطعان، ولا تقرب إلى الحرب، بل عنها كما ينفر الجمل من صوت الشن وعن قعقعته.

الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن، وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} عند كل آية أوردها في سورة {وَالْمُرْسَلاتِ}، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان. [{ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} 41 - 42] {النُّذُرِ} موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون، أو جمع نذير {بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} بالآيات التسع {أَخْذَ عَزِيزٍ} لا يغالب {مُّقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء. [{أكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} 43 - 46]. {أكُفَّارُكُمْ} يا أهل مكة {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ} الكفار المعدودين: قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا. أو أقل كفرا وعنادا يعني: أنا كفاركم مثل أولئك بل شر منهم {أَمْ} أنزلت عليكم يا أهل مكة {بَرَاءَةٌ} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون) يعني إنما جمع النذر في قوله: {ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} والمنذر موسى وهارون، لأنهما أتيا بما يأتي به المنذرون من الآيات والمعجزات، وجميع ما يفتقر إليه المرسلون بأبلغ وجه وأتمه، كأنهما المرسلون، أو أن يكون جمع نذير باعتبار الآيات التسع، فإن كل واحد منها نذير كقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] أي: إنذار على حدة. قال الواحدي: يجوز أن يكون جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وذلك قوله: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا}. قوله: (أو أقل كفرًا وعنادًا يعني)، إن معنى الزيادة في قوله: {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ} إذا

في الكتب المتقدمة: أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله، فأمنتم بتلك البراءة؟ {نَحْنُ جَمِيعٌ} جماعة أمرنا مجتمع {مُّنتَصِرٌ} ممتنع لا نرام ولا نضام. وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ} عرف تأويلها {ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار، كما قال: كلوا في بعض بطونكم تعفوا وقرئ: (الأدبار)، {أَدْهَى} أشد وأفظع. والداهية: الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه {وَأَمَرُّ} من الهزيمة والقتل. والأسر. وقرئ: (سنهزم الجمع). [{إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 47 - 50]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتبر من جانب أولئك الكفرة، كان التقدير: أهم خير قوة وآلة؟ وإذا اعتبر من جانب كفار مكة قيل: أقل كفرًا، بل شر منهم. قوله: (قال عمر: أي جمع يهزم) في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} دل على أن المنهزمين من هم.

{فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} في هلاك ونيران، أو في ضلال عن الحق في الدنيا، ونيران في الآخرة. {مَسَّ سَقَرَ} كقولك: وجد مس الحمى، وذاق طعم الضرب، لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولفحتهم بإيلامها، فكأنها تمسهم مسا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم. و {ذُوقُوا}: على إرادة القول. و {سَقَرَ}: علم لجهنم، من سقرته النار وصقرته: إذا لوحته. قال ذو الرمة: إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها .... بأفنان مربوع الصريمة معبل وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. {كُلَّ شَيْءٍ} بالرفع. والقدر والقدر والقدر: التقدير، وقرئ بهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكأنها تمسهم مسًا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي) يريد: إن {مَسَّ سَقَرَ} استعارة مكنية، ويجوز أن يكون استعارة للإصابة مصرحة، وأشار إليه بذلك الحر واللفح. قوله: (إذا ذابت الشمس) البيت، ذابت الشمس: اشتد حرها، ويقال: ذاب لعاب الشمس، فيكون إسناد الذوبان إلى الشمس مجازًا، والمربوع: الذي أتى عليه مطر الربيع، والصريمة: الرمل المنقطعة من الرمال، المعبل: جماعة الشجر ذي العبل، والعبل: ورق الأرطى، والأفنان: الغصون، الواحد فنن، والصقرات: شدة وقع الشمس، يصف الظبي، يقول: إذا اشتد الحر عليه أتقى منه بأفنان الشجر واستظل به. قوله: (والقدر والقدر) بسكون الدال: شاذة وبالتحريك: المشهورة، و"كل شيء" بالرفع: شاذة. قال البقاء: {كُلَّ شَيْءٍ} بالنصب العامل فيه محذوف، و {بِقَدَرٍ} حال من الهاء أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من {كُلَّ}، أي: مقدرًا، ويقرأ بالرفع على الابتداء، و {خَلَقْنَاهُ} نعت لـ {كُلَّ} أو لـ {شَيْءٍ}، و {بِقَدَرٍ} خبره وإنما كان النصب أقوى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومه، بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر. وذهب ابن الحاجب إلى أن "كل شيء" مبتدأ، و {خَلَقْنَاهُ} خبره، و {بِقَدَرٍ} حال، والمجموع خبر "إن"، فيفيد المعنى المقصود من الآية، لكن لا يأمن من أن يغلط بعض فيجعل {خَلَقْنَاهُ} صفة لـ"كل شيء"، و {بِقَدَرٍ} خبرًا له، فيكون التقدير: كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيفيد غير المقصود، لأنه يوهم وجود شيء ليس بقدر، لأنه غير مخلوق له، فكان النصب أولى لما فيه النصوصية على المقصود. الانتصاف: ما مهده النحاة اختيار رفع "كل"، ولم يقرأ بها أحد من السبعة، لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة، ومع النصب جملتان، فالرفع أخصر، ولا مقتضى للنصب ها هنا من الأمور الستة؛ من الأمر والنهي إلى آخرها، وإنما وقع إجماع السبعة على النصب، لأنه لو رفع لكانت {خَلَقْنَاهُ}: صفة لـ {شَيْءٍ}، و {بِقَدَرٍ}: خبرًا عن "كل شيء"، المقيد بالصفة، ومعناة: أن كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيفهم ذلك أن مخلوقًا ما يضاف إلى غير الله ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام: إنا خلقنا كل شيء {بِقَدَرٍ}، فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، وهذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية مع ما فيها من نقص المعنى، لا جرم اجتمعت السبعة عليها. ولما كان الزمخشري يرى أن أفعال العباد مخلوقة لهم، استروح إلى قراءة الرفع وإن كانت شاذة، وإجماع المتواترة حجة عليه. وأما بيان النظم فهو ما عليه قول الزجاج: المعنى: ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والآيات من قوله: {إنَّ المُجْرِمِينَ}، إنما نزلت في القدرية،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونصب {كُلَّ شَيْءٍ} بفعل مضمر أي: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، ويدل عليه: {وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} هذا هو المعنى المقصود الذي نص عليه ابن الحاجب، ويؤيده ما روينا، عن الإمام أحمد بن حنبل ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: جاء مشرك قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. وتحريره والله الموفق للصواب: أنه تعالى افتتح هذه السور الكريمة ببيان تكذيب المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الآيات الباهرة المتوالية، مثل انشقاق القمر وغيره، يدل عليه قوله تعالى: {وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}، وأشار إلى أن تكذيبهم لم يكن إلا لمجرد متابعة الهوى، وتسويل الشيطان، ثم قص أحوال الأمم وتكذيبهم الأنبياء، ووخامة عاقبتهم وسوء خاتمة أمرهم، مهددًا أو مسليًا، ثم عاد إلى التقريع، والإجمال بعد التفصيل، قائلًا: أكفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين، يعني: أنتم أشد قوة ومكانة، أم هم؟ ثم أضرب عنه بقوله: {أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} يعني: يا أهل مكة، أنزلت براءة لكم في الزبر المتقدمة أن من كفر منكم وكذب الرسل ليس له أسوة بالأمم السالفة في الدمار والهلاك؟ أم تزعمون أنكم يد واحدة على من يخالفكم؟ فتنتصرون ممن عاداكم؟ وليس كذلك، لأن سنة الله جارية بالانتصار من المكذبين، والانتقام للمرسلين، وعن قريب سنفرغ لكم ونجعل يدكم الواحدة أيادي ونهزم جمعكم، ونستأصل شأفتكم، والموعد الأكبر الساعة، والساعة أدهى وأمر. ولما تضمنت الآيات معنى ادعاء القدرة والقوى لأنفسهم، والوعيد بالإهلاك عاجلًا وآجلًا، والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم، جيء بقوله: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، توكيدًا للوعد والوعيد، يعني: أن هذا الوعد حق، وصدق الموعد والموعود مثبت في اللوح، مقدر

أي: خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسبب ما اقتضته الحكمة. أو مقدرا مكتوبا في اللوح، معلوما قبل كونه، قد علمنا وزمانه. {ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ} إلا كلمة واحدة سريعة التكوين {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أراد قوله: كن: يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه. [{ولَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} 51 - 53]. {أَشْيَاعَكُمْ} أشباهكم في الكفر من الأمم، {فِي الزُّبُرِ} في دواوين الحفظة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الله، لا يزيد ولا ينقص، وذلك على الله يسير، {ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}، ثم عم التهديد في جميع ما صدر عن المشركين من أعمالهم بقوله: {وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} كما قال: "كل ما هو كائن مسطور في اللوح"، وبهذا ظهر أن القدر كالأساس، والقضاء كالبناء عليه، وعليه كلام الراغب قال: القضاء من الله أخص من القدر، لأ، الفصل بين التقدير والقدر: هو التقدير، والقضاء: هو التفصيل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المد للكيل. ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهًا على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد بذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]. وقد استقصينا القول في آخر سورة يونس عليه السلام، وفي فاطر. وحديث عمر وأبي عبيدة مختصر من "صحيح البخاري" عن ابن عباس. قوله: (أو مقدرًا مكتوبًا) أي: القدر بمعنى التقدير، فهو إما أن يحمل على المقدر المسوى بأمثلة الحكمة، كما قال تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [عبس: 18] أي: صوره وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة، وإما على الحكم المبرم الذي هو مقارن للقضاء.

{وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ} من الأعمال، ومن كل ما هو كائن {مُّسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح. [{المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} 54 - 55]. {ونَهَرٍ} وأنهار، اكتفى باسم الجنس. وقيل: هو السعة والضياء من النهار. وقرئ: بسكون الهاء (نهر) جمع نهر، كأسد وأسد. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكان مرضي. وقرئ (في مقاعد صدق)، {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} مقربين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عند مليك: مبهم أمره في الملك والاقتدار) يعني جيء بهما منكرين للإطلاق، وقال جعفر الصادق: مدح المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، هو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأن يتيح لهم النظر إلى وجهه الكريم. قوله: (في كل غب) أي: يقرؤه يومًا ويتركه يومًا. تمت السورة حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الرحمن

سورة الرحمن مكية وقيل: مدنية، وقيل: فيها مكي ومدني وهي ست وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * والسَّمَاءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ المِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ * وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ * والأَرْضَ وضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ والنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * والْحَبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 1 - 13]. عدد الله عز وعلا آلاءه، فأراد أن يقدم أول شيء، ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحي الله رتبه، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الرحمن مكية، وقيل: فيها مدني ومكي، وهي ست وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (والعيار عليها) عن بعضهم: العيار: مصدر: عاير المكاييل؛ إذا عدلها، والمعدل

وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه، ليعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. {الرَّحْمَنُ} مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون حفيظًا على المعدل ومهيمنًا عليه، ولهذا قالوا: هو عيار على كذا، أي: القرآن عيار على سائر الكتب كلها، ومصدقها ومهيمن عليها ليكون مستويًا. قوله: (وأخر ذكر خلق الإنسان) أي: أخر ما هو مقدم في الوجود، وقدم ما هو مؤخر عنه، ليؤذن بأن المقصود الأولي من خلق الإنسان تعليم ما به يرشد إلى ما خلق له من العبادة، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وخص القرآن بالذكر لأنه أعظم وحي الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأجمع لما يراد بالهداية من الكتب السماوية، إذ هو بإعجازه، واشتماله على مكارم الأخلاق، مصدق لنفسه ومصداق لها، ودل اختصاص ذكر الرحمن، على أنه من جلائل النعم وعظائمها، ولهذا السر صدرت السورة براعة للاستهلال، لاشتمالها على النعم الأخروية والدنيوية، وإنما أردف الإنسان ذكر البيان، لينبه على أن اختصاصه بتلك النعمة السنية من بين سائر الحيوان، لتميزه وتعبيره عما في ضميره بالنطق لإفهام الغير، فالنبي إذا تلقى الوحي يجب عليه التبليغ، ثم تعليم الشرائع وبيان ما أجمل. وأما قوله: "وما خلق الإنسان لأجله، وكان الغرض من إنشائه كان مقدمًا عليه"، فينظر إلى قولهم: إن الغايات والكمالات سابقة في التقدم، لاحقة في الوجود، نحوه ما روينا عن الترمذي عن أبي هريرة حين قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين

{بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم وتقدير سوي، يجريان في بروجهما، ومنازلهما، وفي ذلك منافع للناس عظيمة: منها علم السنين والحساب. {والنَّجْمُ} والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول، {والشَّجَرُ} الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما الله فيما خلقا له، وأنهما لا يمتنعان، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده. فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بـ {الرَّحْمَنُ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الروح والجسد"، وزاد رزين: "وآدم منجدل في طينته بين الروح والجسد. قوله: ({بِحُسْبَانٍ}: بحساب معلوم)، قال الزجاج: {الشَّمْسُ والْقَمَرُ} مرفوعان بالابتداء، و {بِحُسْبَانٍ} يدل على الخبر، أي: الشمس والقمر يجريان بحسبان، أي: دالان على عدد الشهوز والسنين وجميع الأوقات. قوله: (كيف اتصلت هاتان الجملتان بـ"الرحمن") يريد أن هاتين الجملتين مثل الجملة السابقة في كونها أخبارًا مترادفة لـ {الرَّحْمَنُ}، وكل منها مشتمل على راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع فيهما؟ كما قال القاضي: وكان حق النظم فيهما أن يقال: أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، وأجاب: بأن الوصل المعنوي أغنى عن اللفظ، والفائدة الإيذان بأن المسخر والمسجود له لا يشارك معه فيهما أحد، فلا يذهب الوهم إلى الغير.

قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له. فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؟ قلت: بكت بتلك الجمل الأول، واردة على سنن التعديد، لتكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تفريغ الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكرا أيادي المنغم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بكت بتلك الجمل الأول) يعني: أن الكفار كانوا مقرين بأنه عز وجل خالق السماوات والأرض، وأنه مولى النعم جلائلها ودقائقها، فعدل من مقتضى العطف والانتظام في سلك التأليف بحرف النسق إلى أسلوب التعديد، للإيذان بأن النعم غير متناهية، وغير داخلة تحت الضبط والإحصاء، وإنما يعد بعضها عدًا فذكر منها ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقيها اكتفاءً به، وبعد التنبيه على هذه الدقيقة، رجع إلى مقتضى الظاهر من عطف الشيء على ما يضمه المفكرة بجامع العقل، أو الوهم، أو الخيال، على منهاج الترصيع، نحو: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25 - 26]، وإليه الإشارة بقوله: "ثم رد الكلام إلى منهاجه، بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله". الانتصاف: خصت الجمل الأول بكونها تبكيتًا للإنسان لالتصاق معانيها به، لأنه مذكور فيها نطقًا وإضمارًا، ومحذوفًا مرادًا؛ نطقًا في قوله: {خَلَقَ الإنسَانَ}، مضمرًا في: {عَلَّمَهُ البَيَانَ} محذوفًا مدلولًا عليه في: {عَلَّمَ القُرْآنَ}، فإنه المفعول الثاني، وقوله: الشمس والقمر والنجم والشجر، فليس فيه ذكر للإنسان ذكر البتة.

فإن قلت: أي تناسب بين هاتين الجملتين، حتى وسط بينهما العاطف؟ قلت: إن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر. وقبل {عَلَّمَ القُرْآنَ} جعله علامة وآية. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الإنسان آدم. وعنه أيضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مجاهد: النجم: نجوم السماء. {والسَّمَاءَ رَفَعَهَا} خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومصدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({والسَّمَاءَ رَفَعَهَا}: خلقها مرفوعة)، قال ابن جني: هو عطف على قوله: {يَسْجُدَانِ} وحدها، وهي جملة من فعل وفاعل، نحو قولك: قام زيد وعمرًا ضربته، أي: وضربت عمرًا. ومضى تقريره في الفتح. وقال صاحب "الكاشف": {والسَّمَاءَ رَفَعَهَا} جاء بالنصب عن الأئمة، لأنك إذا قلت: زيد لقيته، وعمرًا كلمته، نختار نصب عمرًا، وإذا أريد الحمل على لقيته فمعك جملتان؛ صغرى وكبرى، أي لقيته، وزيدًا لقيته، هذا مذهب سيبويه، واعترض عليه أنه لو عطف على محل لقيته كان التقدير: عمرًا كلمته؟ ويؤول المعنى إلى معنى: زيد كلمت عمرًا، وهو فاسد، إذ لا عائد في الجملة إلى زيد. وأجاب أبو علي أن المعطوف على الشيء لا يعتبر فيه حال ذلك الشيء وتلا باب قولهم: متقلدًا سيفًا ورمحا وزعم أن الإعراب لم يظهر في موضغ لقيته وما لا يظهر إلى اللفظ كان كالمطرح، وفزع إلى باب التسمية بباب ودار، وأنهما مصروفان بخلاف قدم وفخذ.

قضاياه، ومتنزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه. {ووَضَعَ المِيزَانَ} وفي قراءة عبد الله: (وخفض الميزان). وأراد به كل ما توزن به الأشياء، وتعرف مقاديرها؛ من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أي خلقة موضوعا مخفوضا على الأرض: حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم، وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. {أَلاَّ تَطْغَوْا}: لئلا تطغوا. أو هي (أن) المفسرة. وقرأ عبد الله: (لا تطغوا) بغير (أن) على إرادة القول. {وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ}: وقوموا وزنكم بالعدل، {ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} ولا تنقصوه؛ أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: الظاهر أن يعطف على جملة قوله: {الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة، فدل الاختلاف في الأخبار المتوالية لـ {الرَّحْمَنُ} على معان تبهر ذا اللب. قوله: (ونبه بذلك) أي: برفع السماء المنبئ عن هذه المعاني. قوله: (حيث علق به أحكام عباده)، قال أولًا: "حيث جعلها منشأ أحكامه"، ليشير به إلى تعليل وصف السماء بالرفع، وقال ثانيًا: "حيث علق به أحكام عباده" تعليلًا لوصف الميزان بالخفض والوضع، فالمعنى: أنزل من السماء الكتاب وأمر فيه بالقسط والحكم بالعدل في كل شيء، والتجافي عن الجور، وجعل معياره في الأرض الموازين ليقوموا فيه بالقسط ظاهرًا وباطنًا، ولهذا السر وصف الميزان بالقسط في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]?

وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. وقرئ: (والسماء) بالرفع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنها عين القسط وذاته، ووضع القسط موضع الميزان في حديث أبي موسى: "يحفظ القسط ويرفعه"، بدليل حديث أبي هريرة: "وبيده الميزان، يخفض ويرفع" أي الميزان، وروى الأول مسلم، والثاني متفق عليه. وجمع بينه وبين الكتاب في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وفيه دليل على أن قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْا} حمله على التعليل أرجح من التفسير، ولأن فيه إجراء "مجرى "وصى" المؤول بالقول، لاستقامة تفسير {أَلاَّ تَطْغَوْا} لـ "وضع"، وبهذا يظهر معنى قوله: بالعدل قامت السموات والأرض. قوله: (كرر لفظ الميزان) أي: أقيم المظهران مقام المضمرين في الموضعين، فقوله: "تشديدًا للتوصية" معناه: قيل أولًا: {ووَضَعَ المِيزَانَ} امتنانًا وتوصية في شأنه، ثم عقب: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ} وكان من الظاهر أن "ألا تطغوا" فيه، أي في حقه وشأنه، فوضع موضعه الميزان، تشديدًا للتوصية بشأن الميزان. قوله: (تقوية للأمر باستعماله) معناه: أنه أمر أولًا بقوله: {وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ}، ثم عقب بالنهي عن ضده في قوله: {ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} وأقيم المظهر مقام المضمر بقوله: للأمر باستعمال القسط فيه.

(ولا تخسروا) بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها. يقال: خسر الميزان يخسره ويخسره، وأما الفتح فعلى أن الأصل: ولا تخسروا في الميزان، فحذف الجار وأوصل الفعل. و {وضَعَهَا} خفضها مدحوة على الماء. {لِلأَنَامِ} للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة. وعن الحسن: الإنس والجن، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها. {فَاكِهَةٌ}: ضروب مما يتفكه به، و {الأَكْمَامِ} كل ما يكم، أي: يغطي من ليفة وسعفة وكفراء، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه. وقيل: الأكمام أوعية الثمر، الواحد: كم، بكسر الكاف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: في قوله تعالى: {وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يتعاطاه بالوزن، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرًا، فيكون ممن قال فيهم: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، وكلا المعنيين متلازمان، وكل خسران ذكره الله في القرآن فهو على المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالمقتنيات الدنيوية والتجارات البشرية. قوله: ({وضَعَهَا}: خفضها مدحوة)، الراغب: أعم من الحط، ومنه الموضع، ويقال: ذلك في الحمل والحمل، وقوله: {والأَرْضَ وضَعَهَا لِلأَنَامِ} والوضع: عبارة عن الإيجاد والخلق، ووضعت الحمل فهو موضوع، ووضعت المرأة الحمل، ووضع البيت بناؤه، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] ووضع الكتاب إبراز أعمال العباد، والوضع في السير استعارة، والوضعية: الحطيطة من رأس المال، وقد وضع الرجل في تجارته، ورجل بين الضعة، في مقابلة رفيع بين الرفعة. قوله: (وسعفه) وهو غصن النخل، والكفر: بضم الكاف وفتح الفاء وتشديد الراء: كم

{العَصْفِ} ورق الزرع، وقيل: التين، {والرَّيْحَانُ} الرزق وهو اللب، أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه، والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل، وما يتغذى به وهو الحب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النخل، لأنه يستر ما في جوفه، والجمار: شحم لنخل، وعن بعضهم: الأصل كفراه بالتخفيف، وهو ما يغطي القنو، وهو الشمراخ، من كفره: إذا ستره. قوله: ({والرَّيْحَانُ} الرزق وهو اللب)، يعني: الريحان يطلق على الرزق، والمراد هاهنا اللب. النهاية: الريحان الرزق والراحة، وكل نبت طيب الريح من أنواع المشموم، فبالرزق سمي الولد ريحانًا. الراغب: الريحان: ما له رائحة، وروي: "الولد ريحان"، وذلك كنحو ما قال الشاعر: يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد وقيل: الريحان الرزق، ثم يقال للحب المأكول: ريحان، في قوله تعالى: {والْحَبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحَانُ}، وقيل لأعرابي: إلى أين؟ فقال: أطلب من ريحان الله، أي: من رزقه، ومنه سمي حملًا على "ذو"، كأنه قيل: والحب ذو العصف وهو التبن رزقًا للدواب، وذو الريحان، أي: اللب، رزقًا للناس كقوله تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [السجدة: 27]، فدل عطف "والنخل" على "فاكهة" بأنه أشرف أنواع الفواكه، لأنه جامع بين التلذذ والتغذي، ثم عطف عليه الحب، وبين أنه أيضًا جامع بين رزق الناس والأنعام.

وقرئ: (والريحان)، بالكسر. ومعناه: والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام، والريحان الذي هو مطعم الناس. وبالضم على: وذو الريحان، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه: وفيها الريحان الذي يشم، وفي مصاحف أهل الشام، (والحب ذا العصف والريحان)، أي: وخلق الحب والريحان، أو وأخص الحب والريحان. ويجوز أن يراد: وذا الريحان، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه. والخطاب في {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للثقلين بدلالة "الأنام" عليهما، وقوله {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}. [{خَلَقَ الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 14 - 16]. الصلصال: الطين اليابس، له صلصلة. والفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. فإن قلت: قد اختلف التنزيل في هذا، وذلك قوله عز وجل: {مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33]، {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] {مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59]. قلت: هو متفق في المعنى، ومفيد أنه خلقه من تراب: جعله طينا، ثم حمإ مسنونا، ثم صلصالا. {الجَانَّ} أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار، من مرج الشيء: إذا اضطرب واختلط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: "والريحان" بالكسر) ابن عامر: "والحب ذو العصف والريحان" بالنصب في الثلاثة، وحمزة والكسائي: "والريحان" بالكسر، وما عداه: بالرفع، والباقون: برفع الثلاثة. قوله: (أو: وأخص الحب والريحان) أي: هو منصوب بمضمر إما بفعل خاص أو على الاختصاص.

فإن قلت: فما معنى قوله: {مِّن نَّارٍ} قلت: هو بيان لمارج، كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار، أو أراد من نار مخصوصة، كقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. {رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 17 - 18]. قرئ: (رب المشرقين ورب المغربين) بالجر بدلا من {رَبِّكُمَا}، وأراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. [{مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 19 - 23]. {مَرَجَ البَحْرَيْنِ} أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من قدرة الله تعالى، {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يتجاوزان حديهما، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار) هذا الوجهان مبنيان على تفسيره المارج تارة باللهب الصافي، وأخرى بالمختلط بسواد النار، وعلى التقديرين جرد من النار، إما اللهب الصافي أو المختلط أو التنكير في نار للنوع أي: المعلوم في عرف الشرع، ولهذا استشهد بقوله: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]. قوله: ({بَرْزَخٌ}: حاجز من قدرة الله)، الراغب: البرزخ: الحاجز، والحد بين الشيئين، والبرزخ أيضًا: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل في الآخرة، وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]، وقال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وتلك العقبة، موانع من أحوال لا يصل إليها إلا الصالحون.

قرئ: (يخرج) و {يَخْرُجُ} من: أخرج وخرج. و (يخرج) أي: الله عز وجل (اللؤلؤ والمرجان) بالنصب. و (نخرج) بالنون. واللؤلؤ: الدر. والمرجان: هذا الخرز الأحمر وهو البسد. وقيل: اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره. فإن قلت: لم قال {مِنْهُمَا} وإنما يخرجان من الملح؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد: جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه. وتقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره. وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("يخرج" و {يَخْرُجُ}) نافع وأبو عمرو: "يخرج" بضم الياء وفتح الراء، والباقون: بفتحها. قوله: (لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال خرج منهما، كقوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 15 - 16] والقمر في السماء الدنيا. الانتصاف: مثله {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف: 31]، وإنما يخرج من بعضه، يقال: فلان من أهل ديار مصر، وهو من محلة واحدة منها. قوله: (وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح)، الانتصاف: هذا القول ترده المشاهدة، والأول أصح.

[{ولَهُ الجَوَارِ المُنشَآتُ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 24 - 25]. {الجَوَارِ} السفن. وقرئ: (الجوار) بحذف الياء ورفع الراء، ونحوه: بها ثنايا أربع حسان .... وأربع فكلها ثمان [المُنشَآتُ} المرفوعات الشرع وقرئ بكسر الشين: وهي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن. والأعلام: جمع علم، وهو الجبل الطويل. [{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 26 - 28]. {عَلَيْهَا} على الأرض، {وجْهُ رَبِّكَ} ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي ينقذني من الهوان؟ ! . و{ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} صفة الوجه. وقرأ عبد الله: (ذي) على: صفة ربك. ومعناه: الذي يحله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكلها ثمان) يعني: أجرى النون في "ثماني" مجرى حرف الإعراب، نحو: الجوار. قوله: (الشرع) جمع الشراع، الجوهري: الشراع شراع السفينة. قوله: (وقرئ بكسر الشين)، قال صاحب "المطلع": أسند الإنشاء إلى السفن مجازًا، وإن كان الفعل لأصحابها، لأنها مجال الشرع. قوله: (و {ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} صفة الوجه) والصفتان لله تعالى، إما باعتبار أنه يجله الموحدون، أو باعتبار أنه يجل المخلصين الموحدين، والأول إما مقول للبعض دون البعض، فهو المراد من قوله: "الذي يجله الموحدون"، أو أنه في نفسه تعالى كذلك؛ سواء يجله أحد أو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا، وهو المراد قوله: "الذي يقال له: ما أجلك"، وإلى الثاني أشار بقوله: "أو من عنده الجلال والإكرام"، فاعتبر فيه معنى المضاف، أي: ذو النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". قال الشيخ محيي الدين النواوي: سبحات وجهه بضم السين والباء: نوره وجلاله وبهاؤه، والمراد الحجاب المانع من رؤيته، سمي النور حجابًا لأنه يمنع من الإدراك لشعاعه، والمراد بالوجه الذات، "ومن" لبيان الجنس، والمعنى: أنه لو زال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورًا، وتجلى لخلقه لأحرق جلا ذاته جميع مخلوقاته، والمراد بـ"ما انتهى إليه بصره من خلقه": جميع المخلوقات، لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات. وفي "شرح المظهري": الضمير في "إليه" يعود إلى الوجه، وفي "بصره" إلى الموصول، و"من" بيان "ما" و"بصره" فاعل. انتهى. والموصول مع الصلة مفعول أحرقت، يعني: لو رفع حجابه لاحترقت خلقه، لأنه لا طاقة لهم أن ينظروا إلى ذاته في الدنيا. الراغب: ولما كان الوجه أول ما يستقبلك، وأشرف ما في ظاهر البدن، استعمل في مستقبل كل شيء، وفي أشرفه ومبدئه، فقيل: وجه كذا، ووجه النهار، ويقال للقصد: وجه،

أو الذي يقال له: ما أجلك وأكرمك! أو: من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده، وهذه الصفة من عظيم صفات الله؛ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وللمقصد جهة ووجهة، وهي حيث ما يتوجه، و"لكل وجهة هو موليها" إشارة إلى الشريعة، ووجهت الشيء: أرسلته في جهة واحدة، فتوجه، وفلان وجيه: ذو جاه، وأحمق ما يتوجه بفتح الياء وحذف يه عنه، أي: لا يستقيم في أمر من الأمور لحمقه، وأحمق ما يتوجه به: كناية عن الجهل بالتغوط. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] قيل: أريد بها الجارحة واستعير للمذهب والطريق، نحو: فعلت كذا بيدي، وقيل: أريد بالإقامة تحري الاستقامة، وبالوجه التوجه، أي: أخلصوا العبادة لله في الصلاة، وعليه قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] وربما يعبر به عن الذات، كما في قوله تعالى: {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] قيل: أريد بالوجه التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قيل: الوجه في كل هذا زيادة. وروي أنه قيل ذلك لأبي على الرضا، فقال: سبحان الله، لقد قالوا عظيمًا! إنما أعني الوجه الذي يؤتى منه، ومعناه: كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل، إلا ما أريد به الإخلاص. قوله: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أحمد بن حنبل عن ربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعنه عليه الصلاة والسلام: أنه مر برجل وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: "قد استجيب لك". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: ألظوا: الزموا واثبتوا عليه، وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، ويقال: ألظ بالشيء، يلظ إلظاظًا، إذا لزمه وثابر عليه. قال حجة الإسلام: لا جلال ولا كمال وو له، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه، فالجلال في ذاته، والمكرمة فائضة منه على خلقه، وفنون إكرامه خلعة لا تكاد تحصى وتتناهى، وعليه دل قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70]. قوله: (مر برجل وهو يصلي ويقول) روينا عن أبي داود والترمذي والنسائي عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتدرون بما دعا"؟ ، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "والذي نفسي بيده؛ لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى". الراغب: الجلالة: عظم القدر، والجلال بغير الهاء: التناهي في ذلك، وخص بوصف الله تعالى، فقيل: ذو الجلال والإكرام، ولم يستعمل في غيره، والجليل: العظيم القدر، ووصفه تعالى بذلك، إما لخلقه الأشياء العظيمة المستدل بها عليه، أو لأنه يجل عن الإحاطة، وموضوعه للجسم العظيم الغليظ، ولمراعاة معنى الغلظة فيه، قوبل بالدقيق، وقوبل العظيم بالصغير، فقيل: جليل ودقيق، وعظيم وصغير، وقيل للبعير: جليل، وللشاة: دقيق، لاعتبار أحدهما بالآخر.

فإن قلت: ما النعمة في ذلك؟ قلت: أعظم النعمة؛ وهي مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك. [{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 29 - 30]. {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم. {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} أي: كل وقت وحين يحدث أمورا، ويجدد أحوالا، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلك أنه تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: "من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين"، وعن ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة عمر الدنيا، فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع. والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقيل: ما أجلني ولا أدقني، أي: ما أعطاني بعيرًا ولا شاة، ثم صار مثلًا في كل صغير وكبير، وخص الجلالة بالناقة الجسيمة، والجلة بالمسان منها. قوله: (ما النعمة في ذلك؟ ) ذلك إشارة إلى مجموع قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} يعني: أنه تعالى رتب بالفاء قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} على تلك الآية تأنيبًا وتوبيخًا على كفرانهم هذه النعمة السنية، كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أي: ينكر رزقكم، فأي نعمة في بقاء الحق بعد إفناء الخلق، وأجاب بأن المراد من الآية ملزوم معناها، لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء، وهو من أجل النعم، كما سبق في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] ولذلك خص الوصفين بالذكر يعني: الجلال والإكرام، لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب.

وقيل نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا. وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبا يفكر فيها، فقال غلام له أسود: يا مولاي، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي، فأخبره فقال له: أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال: أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا؛ فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله! . وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت على ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة، وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ}، وقد صح أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: لم لم يقل: كل شيء فان {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ} كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]؟ قلت: قد سبق أن قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مرتب على الآية السابقة، فوجب تخصيصه بالعقلاء، ثم بالثقلين، أي: الجن والإنس، ومن ثم حسن جعل الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض، لأنهما ثقلا الأرض. فإن قلت: كيف أفرد الضمير في قوله: {وجْهُ رَبِّكَ}، وثناه في: {رَبِّكُمَا}، والمخاطب واحد؟ قلت: اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته، ويندرج فيه الثقلان أوليًا، ولا كذلك اثنان فتركه على ظاهره.

فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة. ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم، وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وأما قوله: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا، وأما قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه. [{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 31 - 32]. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما بال الأضعاف) إشارة إلى ما ورد في الحديث: "من هم بحسنه فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة"، الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس. قوله: (إلا ما سعى عدلًا)، "عدلًا": نصب ظرفًا وكذا "فضلًا"، أي: في عدل الله وفضله، كقولك: هذا سائغ شرعًا. قوله: (وسوغ خراجه) أي: سهل وعين، من: ساغ الشراب يسوغ سوغًا، أي: سهل مدخله في الحلق. قوله: (ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها) قال الزجاج: الفراغ في اللغة على

شؤون الخلق التي أرادها بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ}، فلا يبقى إلا شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل، وقرئ: (سيفرغ لكم)، أي: الله تعالى، (سأفرغ لكم) و (سنفرغ) بالنون مفتوحا ومكسورا وفتح الراء، و (سيفرغ) بالياء مفتوحا ومضموما مع فتح الراء، وفي قراءة أبي: (سنفرغ إليكم) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضربين: أحدهما: الفراغ من شغل، والآخر القصد لشيء، تقول: قدر فرغت مما كنت فيه، أي: زال شغلي به، وتقول: سأتفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي. وقلت: الوجه الأول في الكتاب محمول على مجرد القصد، فهو كناية عن التوفر على النكاية، ثم استعير هذه العبارة للخالق عز شأنه، لذلك المعنى، وإليه أشار بقوله: " {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مستعار من قول الرجل لم يتهدده: سأفرغ لك"، والوجه الثاني منزل على الفراغ من الشغل، لكن على سبيل التمثيل، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة من الاخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل شرع في آخر، وقد ألم به صاحب "المفتاح" حيث قال: الفراغ الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعارًا للأخذ في الجزاء وحده. وهو المراد من قوله: "فجعل ذلك فراغًا لهم على طريق المثل". قوله: ("سيفرغ لكم") حمزة والكسائي: بالياء، والباقون: بالنون.

بمعنى: سنقصد إليكم، والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض. [{يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ونُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 33 - 36]. {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنسِ} كالترجمة لقوله: {أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، {إنِ اسْتَطَعْتُمْ} أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي، فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على النفوذ {إلاَّ بِسُلْطَانٍ} يعني بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك؟ ونحوه: {ومَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22]. وروي: أن الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به. قرئ: {شُوَاظٌ} و"نحاس" كلاهما بالضم والكسر؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سميا بذلك لأنهما ثقلًا على الأرض) عن بعضهم: جعلت الأرض كالحمولة والجن والإنس شبهًا بثقل الدابة، وفي الحديث: "تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"، سماها بذلك لأن الدين يعمر بهما، كالأرض، تعمر بالإنس والجن. قوله: ({شُوَاظٌ} و"نحاس" كلاهما بالضم والكسر) ابن كثير: بكسر الشين، والباقون: بضمها. و"نحاس" بالخفض: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بالرفع. قال صاحب "الكشف": من رفع "نحاس" عطفه على {شُوَاظٌ}، ومن جر لم يجز له حمله،

والشواظ: اللهب الخالص. والنحاس: الدخان؛ وأنشد: تضيء كضوء سراج السليط .... لم يجعل الله فيه نحاسا. وقيل: الصقر المذاب، يصب على رؤوسهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر. وقرئ: {ونُحَاسٌ} مرفوعا، عطفا على {نَّارٍ}. وقرئ: (ونحس) جمع نحاس، وهو الدخان، نحو لحاف ولحف. وقرئ: (ونحس) أي: ونقتل العذاب. وقرئ: (نرسل عليكما شواظا من نار ونحاسا)، {فَلا تَنتَصِرَانِ} فلا تمتنعان. [{فَإذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ ورْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إنسٌ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 37 - 40}. {ورْدَةً}: حمراء {كَالدِّهَانِ} كدهن الزيت، كما قال: {كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، وهو دردي الزيت، وهو جمع دهن، أو اسم ما يدهن به، كالخزام والإدام. قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على قوله: {مِّن نَّارٍ}، لأن شواظًا لا تكون من النحاس، فيقدر: شواظ من نار وشيء من نحاس، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه. قوله: (وقرئ: "نحس") قال ابن جني: قرأ ابن أبي بكرة: "ونحس" بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين، أي: نقتل بالعذاب، يقال: حس القوم يحسهم حسًا: إذا استأصلهم، قال الله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم قتلًا ذريعًا.

كأنهما مزادتا متعجل .... فريان لما تدهنا بدهان وقيل: الدهان: الأديم الأحمر. وقرأ عمرو بن عبيد (وردة) بالرفع، بمعنى: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى بالتجريد، كقوله: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة .... تحوي الغنائم أو يموت كريم {إنسٌ} بعض من الإنس، {جَانٌّ} أربد به: ولا جن: أي: ولا بعض من الجن، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم، ويراد ولده. وإنما وحد ضمير الإنس في قوله: {عَن ذَنْبِهِ} لكونه في معنى البعض. والمعنى: لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين، وهي سواد الوجوه وزُرقة العيون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنهما مزادتا متعجل) البيت، أي: كأن عينيه في انسكاب الدموع مزادتان خرزهما متعجل فما أحكم خرزهما، فهما يكفان ماء. قوله: (وهو من الكلام الذي يسمى التجريد) وهو: أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها لكمالها فيه، جرد هاهنا من السماء شيئًا يسمى وردة، وهي هي، كما جرد الشاعر من نفسه صفة الكرم وجعلها بمنزلة شخص لكمالها فيه، وعلى المشهور تشبيه محض، أي: كانت السماء كالوردة. قوله: (وحد ضمير الإنس في قوله: {عَن ذَنبِهِ} لكونه في معنى البعض)، قيل: هذا إضمار عن غير مذكور، والذنب يدل على المذنب لا يسأل عن ذنب المذنب إنس ولا جان، أي: لا

فإن قلت: هذا خلاف قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]. وقوله: {وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]. قلت: ذلك يوم طويل وفيه مواطن، فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر: قال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، ولكن يسأل سؤال توبيخ. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد (ولا جان) فرارا من التقاء الساكنين، وإن كان على حده. [{يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي والأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} 41 - 45]. {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي والأَقْدَامِ} عن الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل تسحبهم الملائكة؛ تارة تأخذ بالنواصي، وتارة تأخذ بالأقدام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يؤخذ أحد بذنب غيره. وقال صاحب "الإيجاز": لا يسأل عن ذنبه، لا يسأل أحد عن ذنب أحد، والظاهر أن التقدير: لا يسأل إنس ولا جان عن ذنب واحد منهما، لأن المراد البعض المجرم مهم خاصة، يدل عليه الاستئناف بقوله: {يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}، فمعنى السؤال لا يسأل أحد عن أنه مذنب، أم لا، لأن سيماهم وهي سواد الوجوه وزرقة العيون دال على ذلك. قوله: (وإن كان على حده) وحده: أن يكون الأول حرف لين والآخر مدغمًا.

{حَمِيمٍ آنٍ} ماء حار قد انتهى حره ونضجه، أي: يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم. وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم. وقيل: إن واديا من أدوية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا. وقرئ: (يطوفون) من التطويف، و (يطوفون)، أي: يتطوفون، و (يطافون). وفي قراءة عبد الله: (هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان، لا تموتان فيها ولا تحييان، يطوفون بينها). ونعمة الله فيها ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه برحمته وفضله، وما في الإنذار به من اللطف. [{ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَقٍ وجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 46 - 55]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه)، قال الراغب في "غرة التأويل": أن الله تعالى منعم على عباده نعمتين: نعمة الدنيا ونعمة الدين، وأعظمهما في الأخرى، واجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه، فالترهيب زجر عن المعاصي، وبعث على الطاعات، وهو سبب النفع الدائم، فأية نعمة أكبر إذن من التخويف بالضرر المؤدي إلى أشرف النعم، فكما جاز أن يقول عند ذكر ما خوفنا فيه مما يصرفنا عن معصيته إلى

{مَقَامَ رَبِّهِ} موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ} [المطففين: 6] ونحوه: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] ويجوز أن يراد بمقام ربه: أن الله قائم عليه؛ أي: حافظ مهيمن، من قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، فهو يراقب ذلك فلا يخسر على معصيته، وقيل: هو مقحم، كما تقول: أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك. وأنشد: ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين يريد: ونفيت عنه الذئب. فإن قلت: لم قال: {جَنَّتَانِ}؟ قلت: الخطاب للثقلين؛ فكأنه قيل: لكل خائفين منكما جنتان؛ جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني. ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي؛ لأن التكليف دائر عليهما، وأن يقال: جنة يثاب بها، وأخرى تضم إليها على وجه التفصيل، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طاعته التي تكسبنا نعيم جنته، لأن هذا أشوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعد فيها من النعمة. قوله: (فهو يراقب)، متصل بقوله: "إن الله قائم عليه". قوله: (ونفيت عنه)، قبله: وماء قد وردت لوصل أروى .... عليه الطير كالورق اللجين ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين مضى شرحه في سورة السجدة.

خص الأفنان بالذكر- وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة- لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتني الثمار. وقيل: الأفنان: ألوان النعم؛ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. وقال: ومن كل أفنان اللذاذة والصبا .... لهوت به والعيش أخضر ناصر {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال: إحداهما التسنيم، والأخرى: السلسبيل. {زَوْجَانِ}: صنفان. قيل: صنف معروف، وصنف غريب. {مُتَّكِئِينَ} نصب على المدح للخائفين، أو حال منهم، لأن "من خافي" في معنى الجمع، {بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَقٍ} من ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من الاستبرق، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس. وقيل: من نور، {دَانٍ} قريب يناله القائم والقاعد والنائم. وقرئ: (وجنى) بكسر الجيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي الغصنة) بكسر الغين المعجمة وفتح الصاد المهملة؛ جمع غصن. قوله: (تجتنى الثمار)، الراغب: جنيت الثمرة واجتنيتها، والجنى والجني: المجتنى من الثمر والعسل، وأكثر ما يستعمل الجني فيها كان غضًا، قال تعالى: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 35] وأجنى الشجر: أدرك ثمره، والأرض: كثر جناها، واستعير من ذلك جنى فلان جناية، كما استعير اجترم. قوله: (إحداهما التسنيم)، الجوهري: هو اسم ماء في الجنة، سمي بذلك لأنه يجري فوق الغرف والقصور.

[{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ والْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 56 - 61]. {فِيهِنَّ} في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين، والعينين والفاكهة والفرش والجنى. أو في الجنتين، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن: لا ينظرن إلى غيرهم. لم يطمث الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن، وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس وقرئ: (لم يطمثهن) بضم الميم. قيل: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان. وصغار الدر أنصع بياضا. قيل: إن الحوراء تلبس سبعين حلة، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا دليل على أن الجن يطمثون)، الانتصاف: يشير بذلك إلى الرد على من زعم أن الجن المؤمنين لا ثواب لهم، وإنما جزاؤهم ترك العقوبة، وجعلهم ترابًا. ووجهه أن الخطاب بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للجن والإنسان للامتنان عليهم، بحور موصوفات تارة بـ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}، وأخرى بـ {مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ}، وبكونهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ}، فالواجب أن يرد كل بما يناسبه. قوله: (وقرئ: "لم يطمثهن" بضم الميم)، الكيائي، روى الواحدي عن الفراء: الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية. قوله: (وصغار الدر أنصع بياضًا)، جواب عن سؤال مقدر، تقديره: لم عدل عن

{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ} في العمل {إلاَّ الإحْسَانُ} في الثوب؟ وعن محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر. أي: مرسلة، يعني: أن كل من أحسن أحسن إليه، وكل من أساء أسئ إليه. [{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 62 - 69]. [مِن دُونِهِمَا} ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين، {جَنَّتَانِ} لمن دونهم من أصحاب اليمين. {مُدْهَامَّتَانِ} قد ادهامتا من شدة الخضرة، {نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء. والنضخ أكثر من النضح، لأن النضح -غير معجمية- مثل الرش. فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت: اختصاصا لهم وبيانا لفضلهما، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران، كقوله تعالى: {وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ} [البقرة: 98] أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللؤلؤ والدر إلى المرجان، وهو أشرف من المرجان؟ وجوابه: القصد هاهنا إلى صفاء اللون لوقوعه مقارنًا للياقوت، وهو أنصع الجواهر حمرة، فينبغي أن يكون هذا أنصع اللآلئ بياضًا. قوله: (مسجلة للبر والفاجر) أي مرسلة، يعني: مطلقة غير مقيدة، الجوهري عن الأصمعي: لم يشترط فيها بر دون فاجر، يقال: أسجلت الكلام، أي: أرسلته. قوله: (قد ادهامتا من شدة الخضرة) الراغب: الدهمة: سواد الليل، ويعبر بها عن سواد الفرس، وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون، ويعبر عن الدهمة بالخضرة إذا لم تكن كاملة اللون، وذلك لتقاربهما باللون.

ودواء فلم يخلصا للتفكه. ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا: لم يحنث، وخالفه صاحباه. [{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرَامِ} 70 - 78]. {خَيْرَاتٌ}: خيرات: فخخفت، كقوله عليه السلام: "هينون لينون"، وأما خير الذي هو بمعنى أخير، فلا يقال فيه: خيرون ولا خيرات. وقرئ: (خيرات) على الأصل. والمعنى: فاضلات الأخلاق، حسان الخلق. {مَّقْصُورَاتٌ} قصرن في خدورهن، يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة: مخدرة، وقيل: إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة. {قَبْلَهُمْ} قبل أصحاب الجنتين، دل عليهم ذكر الجنتين، {مُتَّكِئِينَ} نصب على الاختصاص والرفرف: ضرب من البسط. وقيل: البسط، وقيل: الوسائد، وقيل: كل ثوب عريض رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط: رفارف، ورفرف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("خيرات" على الأصل)، الراغب: الخير: الفاضل المختص بالخير، فإنه خيار، ويقال: ناقة خيار وجمل خيار، ويقال: رجل خير وامرأة خيرة، وهذا خير الرجال، وهذه خيرة النساء، والمراد بذلك المختارات، أي: فيهن مختارات لا رذل فيهن. قوله: (والرفرف: ضرب من البسط)، الراغب: الرفرف: ضرب من الثياب مشبه

السحاب: هيدبه، والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب. وقرئ: (رفارف خضر) بضمتين. (وعباقري)، كمدائني: نسبة إلى عباقر في اسم البلد: وروى أبو حاتم: (عباقري)، بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته. فإن قلت: كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: {وَمِن دُونِهِمَا}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالرياض، وقيل: الرفرف: طرف الفسطاط، والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد. قوله: (هيدبه)، الجوهري: هيدب السحاب، ما تهدب منه إذا أراد الودق كأنه خيوط. قوله: ("عباقري" بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته)، قال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري، لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب، فلو جمعت عبقري تجمعه عباقرة، نحو: مهلبي ومهالبة، ولا تقول: مهالبي. وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس، ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وإذا كان قد جاء عنهم عناكيب، كان عباقري أسهل منه، للتشديد على أنه في آخر الكلمة كـ"زرابي". وفي "النهاية" قيل: إن عبقر قرية يسكنها الجن فيها يزعمون، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، مما يصعب عمله ويدق، أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها، ثم اتسع فسموا به السيد الكبير. وفي الحديث: "فلم أر عبقريًا يفري فرية"، يريد عمر رضي الله عنه.

قلت: {مُدْهَامَّتَانِ} دون {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {نَضَّاخَتَانِ} دون {تَجْرِيَانِ}، {فَاكِهَةٌ} دون {كُلِّ فَاكِهَةٍ}. وكذلك صفة الحور والمتكأ. وقرئ: (ذو الجلال) صفة للاسم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مُدْهَامَّتَانِ} دون {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ})، بيان لكيفية تقاصر الجنتين الأخريين عن الأوليين، وفي "المطلع": الأوليان للمقربين، وهامتان لأصحاب اليمين. قال ابن عباس. وروينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه الدارمي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أي ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن". قوله: (وقرئ: "ذو الجلال")، ابن عامر. تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية، وهي سبع وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{إذَا وقَعَتِ الوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًا * وبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا * وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} 1 - 7]. {وقَعَتِ الوَاقِعَةُ} كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد: القيامة؛ وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله. يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أي نزل ما كنت أترقب نزوله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الواقعة مكية وهي ست وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (ووقوع الأمر: نزوله)، الراغب: الوقوع: ثبوت الشيء وسقوطه، يقال: وقع الطائر وقوعًا، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في التنزيل من لفظ وقع، جاء في العذاب والشدائد، قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 85] أي: وجب العذاب الذي وعدوا لظلمهم وقوله: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وقع هنا

فإن قلت: بم انتصب إذن؟ قلت: بـ "ليس"؛ كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل، أو بمحذوف؛ يعني: إذا وقعت كارن كيت وكيت: أو بإضمار اذكر. {كَاذِبَةٌ} نفس كاذبة، أي: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقية مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [غافر: 84]، {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء: 201]، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج: 55] واللام مثلها في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أو ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني، كما لها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تأكيدًا للوجوب والإيقاع، يقال في الإسقاط، وفي شن الحرب، ويكنى عن الحرب بالواقعة، وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك، وعنه استعير الوقيعة في الإنسان، والتوقيع: أثر الدبر بظهر البعير، وأثر الكتابة في لكتاب، ومنه استعير التوقيع في القصص. قوله: (وتكذب في تكذيب الغيب)، أي: لا يكون في القيامة نفس تنسب إلى الكذب، وتسمى كاذبة لأجل تكذيبها للغيب، كما في الدنيا، وهو المراد بقوله: "وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات"، لأن كل من يكذب الحق فهو كاذب، لأنه يقول بخلاف ما هو كائن. قوله: (واللام مثلها في قوله تعالى: {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}) أي: وقت حياتي، المعنى في الوقت الذي كنت حيًا، قال صاحب "التقريب: ": هو لام التاريخ. قوله: (أو ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني)، هذا يحتمل أن يكون صادرًا عن اللسان، وأن يكون قد فعل ما يلابس التكذيب، وإن صدق باللسان. قال في "الفائق" في قوله: "كذب، عليك الحج": "كذب" كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم، وهي في معنى الأمر, كأنه يريد أن يكذب ها هنا، تمثيل لإرادة: اترك ما سولت إليك نفسك من التواني في

اليوم نفوس كثيرة يكذبنها، يقلن لها: لن تكوني. أو هي من قولهم: كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم: إذا شجعته على مباشرته وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه، فتعرض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحج، ثم استأنف بقوله: اقصد الحج، فشبه إيجاب الحج عليه بسبب تهيؤ أسبابه ووجوب استطاعته، ثم تقاعده عنه، كأنه يقول: لم يجب عليك الحج، فقيل: كذب، عليك الحج، على سبيل التأكيد، كذلك من يباشر ما ينافي الرجوع إلى الله، ويتمادى في الغفلة والاشتغال بالدنيا مع ظهور الدلائل الساطعة على مجيء القيامة، كأنه يقول لها: لن تكوني. قوله: (أو هي من قولهم: كذبت فلانًا نفسه في الخطب العظيم: إذا شجعته) وإنما خص في الدنيا لمن لتماديهم في العناد أو في الغفلة، ولأن بانتفاء نفي غير المؤكد في الآخرة، ينتفي المؤكد بالطريق الأولى، بخلاف إثبات نفي المؤكد في الدنيا، فإنه لا ينتفي غير المؤكد. وقال في "الفائق": المراد بالكذب الترغيب والبعث، من قولهم: كذبته نفسه، إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك ما يرغب الرجل في الأمور، وبعثه على التعرض لها. ويقولون في عكس ذلك: صدقته، إذا ثبطته، وخيلت إليه المعجزة والنكد في الطلب، وهو من باب التجريد؛ جرد من نفسه شخصًا وهو يحاوره، كقول القائل: أقول لها وقد جشأت وجاشت .... مكانك تحمدي أو تستريحي وأنشد الميداني للبيد: واكذب النفس إذا حدثتها .... إن صدق النفس يزري بالأمل أي: لا تحدث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبطك.

له ولا تبال به، وعلى معنى: إنها وقعة لا تطاق شدة وفظاعة، وأن نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور، وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ} [القارعة: 4] والفراش مثل في الضعف. وقيل {كَاذِبَةٌ} مصدر؛ كالعاقبة، بمعنى التكذيب، من قولك: حمل على قرنه فما كذب، أي: فما جبن وما تثبط. وحقيقته: فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه. قال زهير: إذا .... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حمل على قرنه فما كذب، أي: فما جبن)، وقال الزجاج: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}، أي: لا يردها شيء، كما تقول: قد حمل فلان فما كذب، أي: لا يرد حملته شيء، وهو مصدر جبن ونكل، ومعناه: كذب الظن به، أو جعل حملته كاذبة غير صادقة. قوله: (إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقًا)، صدره: ليث بعثر يصطاد الرجال يمدح شجاعًا، وعثر: اسم موضع، أي: إذا جبن الشجاع عن قرنه بسل هو وأقدم غير مبال ولا مكترث، وقال أبو علي: الكذب ضرب من القول، فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو: قد قالت الأنساع للبطن الحق جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق، نحو: كذب القراطف والقروف فيكون ذلك انتفاءً لها، كما إذا أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، كان انتفاء للصدق

أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد، {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} على: هي خافضة رافعة، ترفع أقواما وتضع آخرين: إما وصفا لها بالشدة؛ لأن الواقعات العظام كذلك؛ يرتفع فيها ناس إلى مراتب، ويتضع ناس، وإما لأن الاشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يرفعون إلى الدرجات؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها، فتخفض بعضا وترفع بعضا؛ حيث تسقط السماء كسفا، وتنتثر الكواكب وتنكدر، وتسير الجبال، فتمر في الجو مر السحاب. وقرئ. (خافضة رافعة) بالنصب على الحال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه، وقيل في قول الأعرابي، وقد نظر إلى جمل نضو: كذب عليك القت وانوى، معناه: أن القت والنوى ذكرًا لأنك تسمن بهما فقد كذبا عليك، فعليك بهما، فإنك تسمن بهما، ثم اختار أنهما كلمة جرت مجرى المثل. وحاصل الوجوه: أن {كَاذِبَةٌ} إما أنها صفة موصوف محذوف، أو هي محمولة على الواقعة مجازًا، والأول على وجوه: أحدها: أن المعنى ليس هناك نفس تصير كاذبة بتكذيبها الله عز وجل أن لا بعث ولا إعادة، كما في الدنيا، وعليه ورد الحديث القدسي: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك"، إلى قوله: "ولن يعيدني كما بدأني". وثانيها: ليس هناك نفس تكذب نفس الساعة، بأن تقول لها: لن تكوني، إما قولًا أو فعلًا، كما كانت تفعل الدنيا. وثالثها: لا تكذب النفس الشخص حينئذ وتمنيه الأباطيل، وإليه أشار بقوله: "لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدث به. والثاني: وهو أن يكون الضمير في {كَاذِبَةٌ} راجعًا إلى الواقعة، ويراد بالكذب الكذب بالفعل دون القول، كما قال: "أي إذا وقعت لم يكن لها رجعة"، ويروى "راجعة"، وهو من قول الزجاج، أي: لا يردها شيء كما تقول: حمل فلان فما كذب. قوله: (وقرئ: "خافضة رافعة" بالنصب على الحال)، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن

{رُجَّتِ} حركت تحريكا شديدا، حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء، {وبُسَّتِ الجِبَالُ} وفتت حتى تعود كالسويق، أو سيقت؛ من بس الغنم: إذا ساقها. كقوله: {وسُيِّرَتِ الجِبَالُ} [النبأ: 20]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واليزيدي والثقفي، وهذا منصوب على الحال، وقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} حال أخرى قبلها، أي: إذا وقعت الواقعة صادقة الوعد خافضة رافعة، مثله: مررت بزيد جالسًا متكئًا ضاحكًا، كما لك أن تأتي للمبتدأ من الأخبار بما شئت، كذلك الأحوال، لأن الحال ضرب من الخبر. ويجوز أن يكون قوله {إذَا رُجَّتِ} خبرًا عن {إذَا} الأولى، ونظيره إذا تزورني إذا يقوم زيد، أي وقت زيارتك إياي وقت قيام زيد، وجاز لـ"إذا" أن تفارق الظرفية وترتفع بالابتداء، كما جاز لها أن تخرج بحرف الجر عن الظرفية كقول زهير: حتى إذا ألقت يدًا في كافر .... وأجن عورات الثغور ظلامها الضمير في "ألقت" للشمس، أي: بدأت في المغيب، والكافر: الليل لتغطيته الأشياء بظلمته، وعورات الثغور: المواضع التي تؤتي المخافة، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22] فـ {إذَا} مجرور عند أبي الحسن بـ {حَتَّى}، وذلك مخرج من الظرفية. قوله: (حتى تعود كالسويق) الأساس: بست الجبال: فتت كالدقيق والسويق، ومنه

{مُّنْبَثًا} متفرقا. وقرئ بالتاء أي: منقطعا. وقرئ: (رجت)، و (بست) أي: ارتجت وذهبت. وفي كلام بنت الخس: عينها هاج، وصلاها راج. وهي تمشي وتفاج. فإن قلت: بم انتصب {إذَا رُجَّتِ}؟ قلت: هو بدل من {إذا وقعت}. ويجوز أن ينتصب بـ {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}. أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض، {أَزْوَاجًا} أصنافا، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض، أو يذكر بعضها على بعض: أزواج. [{فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} 8 - 9] {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، {وأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} الذين يؤتونها بشمائلهم، أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قيل للسويق الملتوت: البسيسة، وقيل: البسيسة هي أن يلت السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو الزيت. قوله: (وفي كلام بنت الخس) بالخاء المعجمة مضمومة والسين المهملة. الأساس: تقول: أين بنت الخس من فصاحة قس، وكلاهما من إياد، وفي حاشية "الصحاح": قال أبو محمد الأسود: هي بنت الخس من العماليق الإيادية. تصف ناقة. عين هائجة، أي: غائرة، والصلا: ما عن يمين الذنب وشماله، وهما صلوان، ورج فارتج، أي. حرك فتحرك، وتفاجت الناقة: إذا فرجت بين رجليها.

قولك: فلان مني باليمين، وفلان مني بالشمال: إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة؛ وذلك لتيمنهم بالميامن، وتشاؤمهم بالشمائل، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيرهم من البارح، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن، وسموا الشمائل الشؤمى. وقيل: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة: أصحاب اليمين والشؤم؛ لأن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال. [{والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وأَبَارِيقَ وكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولاَ يُنْزِفُونَ * وفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * ولَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا تَاثِيمًا * إلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 10 - 26]. {والسَّابِقُونَ} المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه، وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل، وقيل: الناس ثلاثة؛ فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة، ثم رجع بتوبة، فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب الشمال. {مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ}؟ ! {مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ}؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. والمعنى: أي شيء هم؟ {والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، يريد: والسابقون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فرجل ابتكر) الفاء تفصيلية في قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} والمفصل: {وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً}، والواو للحال و"قد" مقدرة، والعامل الفعل السابق، ويجوز أن تكون حالًا مقدرة لقوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. قوله: (تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاء) قال القاضي: والجملتان

من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقوله: و"عبد الله عبد الله". وقول أبي النجم: وشعري شعري .... كأنه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته. وقد جعل {السَّابِقُونَ} تأكيدا. {أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} خبرا، وليس بذاك. ووقف بعضهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستفهاميتان خبران لما قبلهما، بإقامة الظاهر مقام الضمير، ومعناهما: التعجب من حال الفريقين. قوله: (وشعري شعري)، تمامه: أنا أبو النجم وشعري شعري .... لله دري ما أجن صدري تنام عيني وفؤادي يسري .... مع العفاريت بأرض قفر إنما أوقع "أبو النجم" خبرًا لتضمنه نوع وصفية الكمال واشتهاره به، كما أطلق اسمه بادرت الصفة في الذهن، وهو المراد من قوله: "من عرفت حالهم وبلغك وصفهم"، المعنى: أنا ذلك المعروف الموصوف بالكمال، وشعري هو المشهور في الفصاحة والبلاغة. وقدر صاحب "المرشد": والسابقون إلى طاعة الله هو السابقون إلى رحمته. وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل يوم القيامة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". قوله: (وليس بذاك) أي: بذاك القول الذي يعول عليه، لأنه يفوت تلك المبالغة

على: {وَالسَّابِقُونَ}، وابتدأ {السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة {مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ}، {مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ}. {المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش، وأعليت مراتبهم. وقرئ: (في جنة النعيم)، والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. قال: وجاءت إليهم ثلة خندقية .... بجيش كثير من السيل مزبد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التي سبقت في جعل الخبر نفس المبتدأ، أو تلك المقابلة التي بينه وبين أصحاب الميمنة، استئناف جملة أخرى على تقدير سؤال سائل عند {أُوْلَئِكَ}. قوله: (وهو في مقابلة {مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ}) وكان ينبغي أن يقال: السابقون، إلا أنه أريد أن يصفهم بوصف لا يكتنه كنهه، والفرق: أن الجملتين واردتان على التعجب، أي: ما عرفت حالهم؟ أي شيء هم؟ فاعرفها وتعجب منها، وأما الأخيرة فمعناها أنك عرفت حالهم وصفتهم ومزبتهم، فلا يحتاج إلى التقرير، فعلى هذا المراد بالمقابلة التضاد، فالمقابلة حينئذ باعتبار المعنى، بحسب التقدم والتأخر والأسلوب من باب استيفاء أقسام الشيء، لأن الناس من بين سابق ومقتصد وظالم، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] وهذا مانع آخر من جعل {أُوْلَئِكَ} خبرًا، و {السَّابِقُون} تأكيدًا، وأنت إذا استنشقت جل فقرات هذه السورة الكريمة، من مفتتحها إلى مختتمها شممت منها رائحة مثلثات كأنها: أذيف عليها المسك حتى كأنها .... لطيمة تفتق فارها قوله: (وجاءت إليهم ثلة) البيت، خندفية: منسوب إلى خندف؛ امرأة إلياس من

وقوله عز وجل: {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} كفى به دليلا على الكثرة، وهي من الثل وهو الكسر، كما أن الأمة من الأمم وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم. والمعنى: أن السابقين من الأولين كثير، وهم الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {مِّنَ الأَوَّلِينَ} من متقدمي هذه الأمة، و {مِّنَ الآخِرِينَ} من متأخريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلثان جميعا من أمتي". فإن قلت {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14]، ثم قال: " {وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40]؟ " قلت: هذا من السابقين، وذلك في أصحاب اليمين؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مضمر، واسمها ليلى، نسب ولد إلياس إليها وهي أمهم، والتيار: الموج، مزبد: كثير الزبد، والمراد: كثرة الجيش. قوله: (كفى به دليلًا على الكثرة) يعني: وقوع "قليل" في مقابل {ثُلَّةٌ} دليل على كثرة المقابل: يعرض بقول الزجاج: ويجوز أن تكون الثلة بمعنى: قليل، أي قليل من الأولين، وقليل من الآخرين، لأن اشتقاق الثلة من القطعة، فالثلة نحو الفرقة والفئة والقطعة. الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ}، أي: جماعة، وثللت كذا: تناولت ثلة منه، وثل عرشه أسقط ثلة منه. قوله: (كيف قال: {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ}) يعني: ذكرت أن الثلة هي الأمة الكثيرة، وتمسكت بقوله: {وقَلِيلٌ}، فكيف قال أولًا: {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ}، فوصفهم بالقلة، ثم قال: {وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ}، فوصفهم بالكثرة؟ وأجاب: أن ذلك في قوم، وهذا في قوم، ولما ورد الحديث مخالفًا لهذا التأويل رده لأن قضية هذا الخبر: "فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه"،

والآخرين جميعا. فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 39 - 40]. قلت: لا يصح لأمرين، أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فوجب أن تكون الجماعة واحدة، أي: كانت الجماعة قليلة فسأل أن يزيل عنهم القلة، ويكسوهم الكثرة. قوله: (هذا لا يصح لأمرين) وقلت: صح، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة: ولما نزلت: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ}، شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ}، فقال: "أنتم ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني"، وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضى هذا الحديث، فإنه صلوات الله عليه حين أخبر الصحابة بهذه الآية حسبوا أن الخطاب من جميع هذه الأمم، فشق ذلك عليهم، فنزلت الآية الثالثة ليعلم أن

ظاهرا، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين. ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم، على السابقين ووعدهم. والثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز، وعن الحسن رضي الله عنه: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأمم مثل تابعي هذه الأمة. وثلة: خير مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة. {مَّوْضُونَةٍ} مرمولة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع. قال الأعشى: ومن نسج داود موضونة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأولى فيهم وفي أمثالهم من المقربين والتابعين لهم بإحسان، والثانية في من يلحق بهم من أصحاب اليمين، واندفع بهذا أيضًا لزوم النسخ في الأخبار، لأن السياق في الشفاعة على طريق التدرج لمزيد السرور والتبجح. ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة في نحو من أربعين، فقال: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم: قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم، "قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة"، الحديث. قوله: (مرمولة بالذهب) الجوهري: رملت الحصير، أي: سففته، وأرملته: مثله، قال: سفيفة من خوص، نسيجة من خوص، وقد سففت الخوص أسفه بالضم سفًا، وأسففته أيضًا: نسجته. قوله: (ومن نسج دواود موضونة) أنشد الزجاج تمامه: تساق مع الحي عيرًا فعيرا

وقيل: متواصلة، أدنى بعضها من بعض. {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى}، وهو العامل فيها، أي: استقروا متكئين. {مُتَقَابِلِينَ} لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب. {مُّخَلَّدُونَ} مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عنه. وقيل: مقرطون، والخلدة: القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها، روي عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وفي الحديث: "أولاد الكفار خدام أهل الجنة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: عير القوم: سيدهم، وقولهم: "عير بعير، والزيادة عشرة". قوله: ({مُتَّكِئِينَ} حال) أبو البقاء: في {ثُلَّةٌ} وجهان؛ أحدهما: هو مبتدأ، والخبر {عَلَى سُرُرٍ}، والثاني: هو خبر، أي: هم ثلة، و {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى}، و {مُتَقَابِلِينَ} حال من الضمير في {مُتَّكِئِينَ}، ويطوف يجوز أن يكون مستأنفًا، وأن يكون حالًا. وقلت: قول المصنف وأبو البقاء: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} معناه: حال من {عَلَى} في {عَلَى سُرُرٍ} لأن قوله: {عَلَيْهَا} كما ظن، لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة، وقد مر فيه كلام في سورة المؤمن. قوله: (وحد الوصافة لا يتحولون عنه) الجوهري: الوصيف: الخادم غلامًا كان أو جارية، يقال: وصف الغلام إذا بلغ حد الخدمة، فهو وصيف بين الوصافة. قوله: (وفي الحديث: "أولاد الكفار خدام أهل الجنة")، قلت: هذا لم يصح، وورد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما يدفعه، روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي عن عائشة، قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا ولهذه أهلًا"؟ وفي رواية: "خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم". وعن أبي داود عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: "من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ ! قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال: "من آبائهم"، فقلت: بلا عمل؟ ! قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، وقلت: من قوله "من آبائهم" اتصالية، كقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ

الأكواب: أوان بلا عرى وخراطيم، والأباريق: ذوات الخراطيم. {لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولاَ يُنْزِفُونَ} أي: بسببها، وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها، أو لا يفرقون عنها. وقرأ مجاهد: (لا يصدعون)، بمعنى: لا يتصدعون لا يتفرقون، كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]، و (يصدعون)، أي: لا يصدع بعضهم بعضا، لا يفرقونهم {يَتَخَيَّرُونَ} يأخذون خيرة وأفضله، {يَشْتَهُونَ} يتمنون. وقرئ: {ولَحْمِ طَيْرٍ} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وقال الخطابي: أي إنهم كفار يلحقون في الكفر بآبائهم، لأن الله قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا، لكانوا يعملون عمل الكفار، ويدل عليه قوله صلوات الله عليه، قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، في جواب عائشة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عمل؟ ! وقال ابن المبارك: فيه أن كل مولود من البشر، إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة والشقاوة، وعلى ما سبق له من قدر الله، وتقدم من مشيئته فيه من كفر أو إيمان، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه، وخلق له، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في السعادة والشقاوة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين نصرانيين أو يهوديين، فيحملانه لشقاوته على اعتقاد دين اليهود والنصارى. أو يعلمانه اليهودية والنصرانية، أو يموت قبل أن يعقل فيصف الدين، فهو محكوم له بحكم والديه، وتبع لهما في حكم الشرع. قوله: (لا يفرقونهم) أي: لا يفرقون عنهم، فحذف الجار وأوصل.

قرئ: {وحُورٌ عِينٌ} بالرفع، على: فيها حور عين، كبيت الكتاب: إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قرئ: {وحُورٌ عِينٌ} بالرفع) حمزة والكسائي: بكسرهما، والباقون: برفعهما. قال الزجاج: الرفع أحسنهما لأن المعنى: يطوق عليهم ولدان مخلدون بهذه الأشياء، ولم حور عين، ومثله ما يدل على المعنى، قول الشاعر: بادت وغير أيهن مع البلى .... إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاله .... فبدا وغيب ساره المعزاء لأنه لما قال: "إلا رواكد" فحمل "ومشجج" على المعنى، أي: هناك مشجج، ومن قرأ بالرفع كره الخفض؛ لأنه عطف على قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ .... بِأَكْوَابٍ}، فقالوا: الحور العين ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على معنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، وكذلك ينعمون بحور عين. وقد قرئت: "وحورًا عينًا) بالنصب على الحمل على المعنى أيضًا، لأن المعنى يعطون هذه الأشياء، ويعطون حورًا عينًا، إلا أن هذه القراءة تخالف المصحف الذي هو الإمام. وأهل العلم يكرهون القراءة بما يخالف الإمام. وقال ابن جني: وهي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود.

أو للعطف على {ولْدَانٌ}، وبالجر: عطفا على جنات النعيم، كأنه قال: هم في جنات النعيم، وفاكهة ولحم وحور، أو على أكواب، لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} {بِأَكْوَابٍ} ينعمون بأكواب، وبالنصب على: ويؤتون حورا. {جَزَاءً} مفعول له، أي: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم. {سَلامًا سَلامًا} إما بدل من {قِيلًا} بدليل قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إلاَّ سَلامًا} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما معنى البيتين فقوله: بادت، أي: هلكت، آيهن: علامتهن، والرواكد: أحجار الأثفية، وهبا الرماد يهبو: إذا اختلط بالتراب، ومشجح: الوتد قد شج رأسه من الدق، وساره: بقيته، والمعز: الصلابة من الأرض، وأرض معزاء: بينة المعز، وعطف مشجج على رواكد من حيث المعنى، أي: وفيها مشجج، وكان ينبغي أي يقول: مشججًا، لأن الرواكد منصوب، يقول: لم يبق من آثار منازل الأحبة سوى أحجار الأثافي، ورماده المختلط بالتراب، ووتد الخباء المكسور الرأس المتغير بطول بقائه في الأرض. قوله: ({سَلامًا سَلامًا} إما بدل من {قِيلًا}) قال الزجاج: {سَلامًا} منصوب من جهتين: أحدهما: أنه نعت من {قِيلًا}، أي: لا يسمعون فيها إلا قيلًا قيلًا، يسلم من اللغو والإثم، وثانيهما: انه منصوب على المصدر، أي: لا يسمعون فيها إلا أن يقول بعض لبعض سلامًا، نحو قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]. وقال أبو البقاء: هو استثناء منقطع، و {سَلامًا} بدل أو صفة، وقيل: هو مفعول، وقيل: هو مصدر. وقلت: الأحسن أن يكون من باب الإبدال من غير الجنس، نحو قوله: وبلدة ليس بها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس

[مريم: 62] وإما مفعول به لـ {قِيلًا}، بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا: سلاما سلاما. والمعنى: أنهم يفشون السلام بينهم، فيسلمون سلاما بعد سلام. وقرئ: (سلام سلام) على الحكاية. [{وأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ * ومَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ * وفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ اليَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} 27 - 40]. {سِدْرٍ} السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك له، كأنما خضد شوكه. وعن مجاهد: الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن: إذا ثناه وهو رطب. والطلح: شجر الموز. وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة. وعن السدي: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ: (وطلع)، وما شأن الطلح؟ وقرأ قوله: {لَّهَا طَلْعٌ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيده قوله في موضع آخر: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62]. قوله: (فيسلمون سلامًا بعد سلام) يعني: التثنية في {سَلامًا سَلامًا} للتكرير، نحو: لبيك وسعديك. قوله: (الموقر) الجوهري: أوقرت النخلة: إذا كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقرة، وحطي موقر، وهو على غير القياس، لأن الفعل ليس للنخلة، وإنما قيل: موقر _بكسر القاف_ على قياس: امرأة حامل، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر _بالفتح_ فشاذ. قوله: (قرأ: "وطلع" وما شأن الطلح؟ ) أي: لا يليق الطلح بهذا الموضع، ثم قرأ استشهادًا لما اختاره من القراءة، قوله: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أتحوِّل القراءة

نَّضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أو تحولها؟ فقال: أي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول. وعن ابن عباس ونحوه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو الكلمة أو الآية؟ فقال: آيات القرآن لا تهاج اليوم، أي: استقر كل آية في مكانها، فلا ينبغي أن تحول. وفيه: لولا استقرارها وثبوتها في المصاحف وصدور الناس لجاز هذه الرواية، وأمثالها مما يجب أن ترد أبلغ رد، لأنه تعالى صان هذا الكتاب المجيد من مثل هذه التحريفات، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والعجب من المصنف كيف رد الحديث في قوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14]! وقبل هذا؟ قال الزجاج: جاز أن يعني به الطلح، لأن له نورًا طيب الرائحة جدًا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا، كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقلت: والله أعلم، إن النظم يقتضي أن يحمل قوله: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ} على معنى التظليل وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي، لأن ذكر الفواكه مستغنى عنه بقوله: {وفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ}، وليقابل قوله: {وأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ * وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} قوله: {وأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ * ومَاءٍ مَّسْكُوبٍ} فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به! .

والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه؛ فليست له ساق بارزة. {وظِلٍّ مَّمْدُودٍ} ممتد منبسط لا يتقلص، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. {مَّسْكُوبٍ} يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا، لا يتعنون فيه. وقيل: دائم الجرية لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود. {لا مَقْطُوعَةٍ} هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا، {ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وينصر هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتهم: {وظِلٍّ مَّمْدُودٍ}، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب". وفي رواية الترمذي: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، هي شجرة الخلد". الراغب: السدر: شجر قليل الغناء عند الأكل، ولذلك قال: {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16]، وقد يخضد ويستظل به، فجعل ذلك مثلًا لظل الجنة في قوله: {سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} لكثرة غنائه في الاستظلال به، وقوله تعالى: {إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] فأشار إلى مكان اختص النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالإفاضة الإلاهية والآلاء الربوبية. قوله: (لا يتعنون فيه) قال الزجاج: يعني بـ {مَاءٍ مَّسْكُوبٍ}: أنه ماء لا يتعبون فيه، ينسكب لهم كما يحبون.

مَمْنُوعَةٍ} لا تمنع عن متناولها بوجه، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقرئ: (فاكهة كثيرة)، بالرفع على: وهناك فاكهة، كقوله: {وحُورٌ عِينٌ}. {وفُرُشٍ} جمع فراش. وقرئ: (وفرش) بالتخفيف. {مرفوعة} نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، وقيل: هي النساء، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش. {مرفوعة} على الأرائك. قال الله تعالى {هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، ويدل عليه قوله تعالى: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً}، وعلى التفسير الأول أضمر "لهن"، لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن. {أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} [الواقعة: 35]، أي: ابتدأنا خلقهن: ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد: اللاتي ابتدئ انشاؤهن؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يحظر عليها)، الأساس: حظر عليه كذا: حيل بينه وبينه، وهذا محظور: غير مباح. قوله: (وعلى التفسير الأول أضمر "لهن") لأن المراد بالفرش: الفرش الحقيقية، وفي قوله: "أضمر لهن" إيهام، لأنه يحتمل أن يراد أضمر للنساء ضميرًا، وأضمر لفظة لهن. قال صاحب "التقريب": فالتقدير: أنشأناهن لهن، لأن ذكر الفرش دل عليهن، ويمكن أن يقال: إن إضمار لهن في القرينة الأولى أنسب، لأن الضمير في {أَنشَانَاهُنَّ} للنساء قطعًا، وهو القرينة للإضمار، ولتأويل الفرش بالنساء لأنه إذا لم يفسر الفرش بالنساء أو لم يقدر هناك ضمير النساء لم يبق بين القرينتين ارتباط العلة والمعلول، لأن قوله: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} علة لارتفاعهن على الأرائك والسرر، ولأن {أَنشَانَاهُنَّ} للأزواج لا للفرش، كأنه قيل: وأصحاب اليمين مستقرين في فرش مرفوعة لزوجاتهم كالأسرة والأرائك، لأنا أنشأناهن إنشاءً. ولهذا قال في التفسير الثاني: "وقيل: هي النساء، ويدل عليه؛ {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} ". وقال أبو البقاء: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ} الضمير للفرش، لأن المراد بها النساء، ويكون قوله:

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أم سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ} فقال: "يا أم سلمة هن اللواتي فبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا" فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: واوجعاه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هناك وجع". وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: "إن الجنة لا تدخلها العجائز"، فولت وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز" وقرأ الآية " {عُرُبًا}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "لأصحاب اليمين" مظهرًا، أقيم المضمر، إما للإشعار بالعيلة أو أعيد للطول. قوله (عجائز شمطًا) الحديث من رواية الترمذي عن انس في قوله: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً}، إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشًا رمصًا. الجوهري: الرمص بالتحريك: وسخ يجتمع في المؤق، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رمص. قوله: (واوجعاه) الهاء تظهر في الوقف ولا تحرك، وفي الوصل تحذف. قوله: (فقالت عجوز) روى صاحب "الجامع" عن رزين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقرئ: (عربا) بالتخفيف، جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل. {أَتْرَابًا} مستويات في السن؛ بنات ثلاث وثلاثين، وأزواجهن أيضا كذلك. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين". واللام في {لأَصْحَابِ اليَمِينِ} من صلة "أنشأنا" و"جعلنا" [{وأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ (42) وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ ولا كَرِيمٍ * إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ * وكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إنَّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} 41 - 56]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال لامرأة عجوز: "إنه لا يدخل الجنة عجوز"، فقالت: وما لهن؟ فقال لها: "أما تقرئين: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ". قوله: (وقرئ: "عربًا" بالتخفيف) أبو بكر وحمزة، والباقون: بضم الراء. قوله: (مستويات في السن) الراغب: تشبيهًا في التساوي والتماثل بالترائب، التي هي ضلوع الصدر، أو لوقوعهن معًا على الأرض. قوله: (يدخل أهل الجنة الجنة جردًا مردًا) عن الترمذي عن معاذ قال: "يدخل أهل الجنة جردًا مردًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين. قال صاحب "الجامع": الجرد: جمع أجرد وهو الذي لا شعر عليه.

{فِي سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام، {وحَمِيمٍ} وما حار متناه في الحرارة، {وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود بهيم، {لا بَارِدٍ ولا كَرِيمٍ} نفي لصفتي الظل عنه، يريد: أنه ظل، ولكن لا كسائر الظلال: سماه ظلا، ثم نفس عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه. والمعنى: أنه ظل حار ضار، إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات. وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون الظل الباردة الكريم، الذي هو لأضدادهم في الجنة. وقرئ: (لا بارد ولا كريم) بالرفع، أي: لا هو كذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك كرمه) أي: كرم الظل، قال في الشعراء: "والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه". الراغب: كل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم و"كرم الظل": ما ذكره، وهو برده من روحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر. قال في "الكبير": الأقوى أن يقال: إن الظل يطلب لأم يرجع إلى الحس، وهو برودته، ولأمر يرجع إلى العقل، وهو كرامته، كأنه قيل: لا برد ولا كرامة. قوله: (إلا أن للنفي في نحو هذا شأنًا ليس للإثبات) يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: وظل حار ضار، فعدل إلى قوله: {وَظِلٍّ}، ليتبادر منه إلى الذهن أولًا الظل المتعارف فيطمع السامع، فإذا نفى عنه ما هو المطلوب من الظل، وهو البرد والاسترواح، جاءت السخرية والتهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء، فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لحسرتهم. قوله: (أي: لا هو كذلك) أي: إذا قرئا بالرفع كانا خبرين لمبتدأ محذوف، فيكون عطف جملة على جملة، فيقوى الاهتمام بما قصد بهما.

و"الحنث" الذنب العظيم. ومنه قولهم الغلام الحنث، أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم. ومنه: حنث في يمينه، خلاف: بر فيها. ويقال: تحنث، إذا تأثم وتحرج. {أَوَ آبَاؤُنَا} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف. فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} في غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل [لا) المؤكدة للنفي. وقرئ: (أو آباؤنا)، وقرئ: (لمجمعون)، {إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى من، كخاتم فضة. والميقات: ما وقت به الشيء، أي: حد. ومنه مواقيت الإحرام: وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة محرما. {أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن الهدى {المُكَذِّبُونَ} بالبعث، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم. {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ}: {مِن} الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله: {مِنْهَا} و {عَلَيْهِ} ومن قرأ {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم، لأنه تفسيرها وهي في معناه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أو آباؤنا") قالون وابن عامر: بإسكان الواو، والباقون: بفتحها، فيكون عطفًا على محل اسم "إن" بعد مضي الخبر. قوله: (وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله {مِنْهَا} و {عَلَيْهِ}، الانتصاف: لو أعاده على الشجر باعتبار كونه مأكولًا؛ لكونه قاله: {لآكِلُونَ ... فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} أي: على أكلهم لكان أحسن.

{شُرْبَ الهِيمِ} قرئ: بالحركات الثلاث، فالفتح والضم مصدران. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: "أيام أكل وشرب" بفتح الشين، وأما المكسور فبمعنى المشروب، أي: ما يشربه الهيم؛ وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى: جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمة. فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد .... صداها ولا يقضي عليها هيامها. وقال: الهيم: الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء، وهو الرمل الذي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({شُرْبَ الهِيمِ}، قرئ: بالحركات الثلاث)؛ بالضم: نافع وعاصم، وبالفتح: الباقون، وبالكسر: شاذ. قال الزجاج: فالشرب بالفتح المصدر، وبالضم: الاسم، وقيل: مصدر أيضًا. قوله: (أيام أكل وشرب) روينا عن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"، وروى مختصرًا منه مسلم عن نبيشة الهذلي. قوله: (فأصبحت كالهيماء) البيت، صداها: عطشها، ولا يقضى عليها، أي: لا يقتلها العطش. قوله: (وقيل: الهيم: الرمال) فعلى هذا تقديره: فشاربون مشروب الهيم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الهيم المشروب. فإن قلت: أي مناسبة في جعل الهيم مشروبًا؟

لا يتماسك، جمع على فعل كسحاب وسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل؛ فإذا ملؤا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم. فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكارن عطفا للشيء على نفسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين، من حيث إن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء: أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين. النزل: الرزق الذي يعد للنازل تكرمه له، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران] وكقول أبي الشعر الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا .... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقرئ: (نزلهم) بالتخفيف. [{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لما اعتبر معنى السيلان فيه كالمائع، جعل مشروبًا تهكمًا، ألا ترى كيف قال: "هو الرمل الذي لا يتماسك". قوله: (ما فعل بجمع أبيض) الجوهري: جمع الأبيض: بيض، وأصله: بيض بضم الباء، نحو أحمر حمر، وإنما أبدلوا من الضم كسرة لتصح الياء. قوله: (وكنا إذا الجبار) البيت، الجبار: الذي لا يقبل موعظة، والعاتي: على ربه أيضًا. قوله: (ضافنا)، أي: نزل ضيفًا، يقول: إذا الملك الجبار ضافنا، جعلنا نزله من الرماح والسيوف، وفيه تهكم.

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ونُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 57 - 62]. {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} تخصيص على التصديق؛ إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدقين به، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذبون به. وإما بالبعث؛ لأن من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا. {مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرأ أبو السمال بفتح التاء، يقال: أمنى النطفة ومناها. قال الله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إذَا تُمْنَى} [النجم: 46]. {تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه وتصورونه. {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ} تقديرا وقسمناه عليكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإما بالبعث) يعني قوله: {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} مطلق لم يقيد بماذا يصدقون، فيحتمل أن يقيد بما يدل عليه قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أو بما قبله وهو قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا} والذي يرجح تقدير الخلف شيئان؛ أحدهما: قرب الدليل، ثم التفصيل بقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} وثانيها: أن قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} إلى آخر الآيات نوع آخر من الرد على منكري الحشر، فإن قوله: {إنَّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ} إثبات البعث بطريق إثبات النص القاطع والوعد الصادق، وقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} إثبات له بحسب البرهان الباهر، ألا ترى كيف فصل ذلك بقوله: {ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} و {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] و {أَفَرَأَيْتُم} [الواقعة: 68] و {أَفَرَأَيْتُم} [الواقعة: 71]. قوله: {مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام)، اعلم أن الإمام بين في البقرة وجه الاستدلال بهذه الأنواع المذكورة وأحسن فيها كل الحسن، وأما وجه الاستدلال بهذه الآية، فأن يقال: إن المني إنما يحصل من فضله الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، ولهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إن الله سبحانه وتعالى سلط قوة الشهوة على البنية حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلية، فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جدًا، أولًا في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرقت في أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المني، فأخرجها ماءً دافقًا إلى قرار

قسمة الرزق، على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا، فاختلف أعماركم من قصير وطويل ومتوسط. وقرئ: (قدرنا) بالتخفيف. سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، فمعنى قوله {ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}: إنا قادرون على ذلك لا تغلبونني عليه، و {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل: أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني: إنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم، وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ! . ويجوز أن تكون {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل، أي: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها؛ في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها. قرئ: {النَّشْأَةَ} و (النشاءة). وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرحم، فإذا كان قادرًا على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى لم يمتنع عليه جمعها وتكوينها مرة أخرى؟ ! هذا تقرير هذه الحجة. قوله: (ويجوز أن تكون {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل) عطف على قوله: " {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل" اعلم أنه قد سبق غير مرة أن التبديل: التغيير، فيجوز تبديل الذات وتبديل الصفات، وأن المثل بمعنى النظير وبمعنى الصفة، فالتفسير الأول مبني على تبديل الذات، والمثل: بمعنى النظير، والثاني: على تبديل الصفات، والمثل: بمعنى الوصف. قوله: (قرئ {النَّشْأَةَ} و"النشاءة") ابن كثير وأبو عمرو: "النشاءة" بفتح الشين وألف بعدها، والباقون: بإسكانها من غير ألف.

[{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} 63 - 67]. {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} من الطعام، أي: تبدون حبه وتعملون في أرضه، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبوته وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت"، قال أبو هريرة: أريتم إلى قوله {أَفَرَأَيْتُم} الآية؟ والحطام: من حطم، كالفتات والجذاذ من فت وجذ، وهو ما صار هشيما وتحطم {فَظَلْتُمْ} وقرئ بالكسر، و"فظللتم" على الأصل {تَفَكَّهُونَ} تعجبون. وعن الحسن رضي الله عنه: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي التي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرف) النهاية: قولهم: يرف رفيفًا: يقطر نداه، يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة، حتى يكاد يهتز: رف يرف. قوله: (قال أبو هريرة: أرأيتم إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُم}) يعني: أخبروني كيف أسند الحرث إلى الخلق، والزرع إلى نفسه، ثم أوعدهم بجعله حطامًا وبين تحسرهم بقوله: {إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}، ليؤذن بأن ليس بأيديهم سوى أن يبذروا الحب، ويعملوا في الأرض. الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث حرثًا، قال تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ}. وقال: إذا نسب الزرع إلى العبد فلكونه فاعلًا لأسبابه التي هي سبب الزرع، كما تقول: أنبت إذا كنت من أسباب نباته، والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع في قوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة: 27].

أصبتم بذلك من أجلها. وقرئ: (تفكنون) ومنه الحديث: "مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء، فبيناهم إذا غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون" أي: يتندمون. {إنَّا لَمُغْرَمُونَ} لملزمون غرامة ما أنفقنا. أو مهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام: وهو الهلاك، {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودودن، لاحظ لنا ولا بخت لنا؛ ولو كنا مجدودين، لما جرى علينا هذا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أصبتم بذلك من أجلها) أي: أصبتم بذلك البلاء من جعل زرعكم هشيمًا من أجل معاصيكم. قوله: (كمثل الحمة) النهاية: الحمة: عين حار يستشفى بها المرضى، ومنه حديث الدجال: "أخبروني عن حمة زغر" أي: عينها، زغر: موضع بالشام، وقال: إذا غاض ماؤها. قوله: (أو مهلكون لهلاك رزقنا) لو قال: لمهلكون لما ارتكبنا من المعاصي، لأن المعاصي من المهلكات كان أليق، ليكون قوله: "الملزمون غرامة ما أنفقنا"، متفرعًا على قوله: "على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه"، وقوله: "أو مهلكون" على قوله: "أو على ما اقترفتم من المعاصي"، لأن قوله: {إنَّا لَمُغْرَمُونَ} جملة حالية مقولًا لقولهم كالبيان لما يصدر من النادم عند خيبته من الكلمات الدالة عليها، أي: فظلتم تندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي قائلين: إنا لمغرمون، وقوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} إن جعل مطلقًا على نحو: فلان يعطي ويمنع كان المعنى ما قال: "محارمون"، فيدخل المعنيان فيه على البدل، وإن قدر متعلقة كان المعنى: محرومون رزقنا كما قدره القاضي. قوله: (محارفون) المحارف: الممنوع من البخت.

وقرئ: (أئنا). [{أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 68 - 70]. {المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} يريد: الماء العذب الصالح للشرب. و {المُزْنِ} السحاب: الواحدة مزنة. وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء. {أُجَاجًا} ملحا زعاقا لا يقدر على شربه. فإن قلت: لم أدخلت اللازم على جواب {لَوْ} في قوله {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] ونزعت منه هاهنا؟ قلت: إن {لَوْ} لما كانت داخلة على جملتين، معلقة ثانيتهما بالأولى، تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كـ"إن" و"لا" عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها، أن الثاني امتنع لامتنع الأول: افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد "ما" صارت علما مشهورا مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به: لم يبال بإسقاطه عن اللفظ، استغناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أئنا") قرأ أبو بكر: بهمزتين مخففتين، والباقون: بواحدة مكسورة. قوله: (ولم تكن مخلصة للشرط) كأن قيل: لأن الشرط في "لو" تقديري، لأن الشرط إنما هو توقيف أمر على أمر، وذلك إنما يتحقق في الاستعجال، و"لو" للمضي، فلا تكون شرطية تحقيقية. قوله: ك (فلان الشيء إذا علم) قيل: هو جواب "إذا". وقلت: نعم، إذا قدر محذوف،

بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤية أنه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه، وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس: حتى إذا الكلاب قال لها ..... كاليوم مطلوبا ولاطلبا وحذفه "لم أر" فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال: إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأن التقدير: إذا حذفت بعدما صارت علمًا فلا بأس به، لأن الشيء إذا علم وشهر موقعه لم يبال بإسقاطه. قوله: (حتى إذا الكلاب) البيت، المعنى: لم أر مطلوب أراه اليوم، قدمت الصفة وهي "مثل مطلوب" أراه اليوم على الموصوف الذي هو "مطلوبًا"، فصار حالًا، ثم وضع الكاف موضع المثل فصار كما ترى! قال: ذلك حين كان الثور الوحشي يجد في الهرب من كلاب الصيد، وهو الذي يغري الكلب على الصيد، متعجبًا، أي: ما رأى ولا شاهد مطلوبًا مثل هذا الثور من شدة الفرار، ولا طالبًا مثل هذا الكلاب من شدة العدو. وطلبًا جمع طالب، كخادم وخدم. قوله: (على أن تقدم ذكرها) أي: ذكر اللام في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}. قوله: (للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد) وقلت: ولذلك رتب على أمر المطعوم قوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}

ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى أمر المشروب قوله: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}، والأول أدل على التوبيخ والتعبير على كفران النعم، لمجيئه إخباريًا مفصلًا فيه تصوير خيبتهم وتحسرهم. روى الواحدي عن أبي عمرو والكسائي: {تَفَكَّهُونَ}: هو التلهف على ما فات، ويقولون: إننا لمغرومون، أي: إنا قد غرمنا الذي بذرنا، فذهب من غير عوض، بل نحن محرومون مما كنا نطلبه من الريع في الزرع. وأما المعنى الثاني فتقريره: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}، أي: شديد الملوحة كما البحر، فهلا تشكرون أن جعلناه عذبًا؟ وأما الراغب بعد أن فسر {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} بهذا، فقد جعله مقابلًا لقوله: {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ}، حيث قال: إنما قدم قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}، لأن الأولى هو خلق الإنسان من فائدة الحرث، وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي، وذلك الحب الذي يختبز، فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء فيعجن ثم إلى النار تعده خبزًا. فإن قيل: فقد قال في الأول: {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} وفي الثاني: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}، فما الفائدة؟ قلنا: تنبيه على البعثة والإعادة، فحمل على التذكر ليتفكر في البدء، وليثبت الإعادة، وأما {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}، فإنه بعد قوله: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي: شديد الملوحة كماء البحر، فلولا تشكرون أن جعله عذبًا. فكل مكان لاق به ما ذكر. ذكره في "غرر التأويل". وقلت: لو كان مقابلًا لقوله: {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} لكان اللائق أن يذكر بعد ذكر النار على ما رتب الكلام.

إذا سقيت ضيوف الناس محضا .... سقوا أضيافهم شما زلالا. وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة؛ ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. [{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَاتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 71 - 74]. {تُورُونَ}: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة؛ شبهوهما بالفحل والطروقة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا سقيت ضيوف الناس محضًا) البيت، محضًا، أي: خالصًا، والشبم: البارد، والزلال: الصافي، يصف قومًا بالبخل، ويقول: إذا سقيت الضيوف لبنًا محضًا خالصًا، فإنهم يسقون أضيافهم الماء الصراح. قوله: (إلا على ثميلة) الأساس: وأنا لا أشرب إلى على ثميلة، وهي بقية العلف في البطن. وفي "النهاية": أصل الثميلة: ما يبقى في بطن الدابة من العلف والماء، وما يدخره الإنسان من طعام أو غيره، وكل بقية ثميلة. قوله: ({تُورُونَ} تقدحونها) الراغب: ورى الزند يرى وريًا، إذا خرجت ناره، وأصله أن تخرج النار من وراء المقدح، كأنما تصور كمونها فيه، فقال: ككمون النار في حجره ويقال: فلان واري الزند إن كان منجحًا، وكابي الزند إذا كان مخفقًا. قوله: (بالفحل والطروقة) الجوهري: طروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل: التي بلغت أن يضربها الفحل، ووجه الشبه ما في كل من الزند والزندة من كمون قدرة الله تعالى، كأنها طالبة من صاحبتها اللقاح الذي هو الاقتداح لتوخي النتيجة.

{شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد، {تَذْكِرَةً} تذكيرا لنار جهنم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها، ويذكرون ما أوعدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم". {ومَتَاعًا} ومنفعة {لِّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء وهي الفقر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من أيام، أي لم آكل شيئاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تذكرة وأنموذجًا) {تَذْكِرَةً}: على التفسير الثاني من التذكير والموعظة، وعلى الأول من الذكر نقيض النسيان. قوله: (ناركم هذه) الحديث من رواية البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة: "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". الحديث. قوله: (أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام) هذا لا طائل تحته! قال الواحدي: المقوي: الذي ينزل بالقواء، وهي الأرض الخالية، أي: ينتفع بها أهل البوادي والأسفار، ومنفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم، لأنهم يوقدونها ليلًا لتهرب السباع، ويهتدي الضال. وقال عكرمة ومجاهد: المقوين: المستمتعين بها من الناس أجمعين؛ المسافرين والحاضرين، يستضيئون بها في الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز، وعلى هذا القول: المقوي من الأضداد، يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، والغني: مقو لقوته على ما يريد، يقال: أقوى الرجل: إذا صار إلى حال القوة، والمعنى: متاعًا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها. ولما ذكر الله تعالى ما يدل على توحيده، وما أنعم به عليهم، قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ}، أي: فنزه الله مما يقولون في وصفه.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، أو أراد ب"الاسم": الذكر، أي: بذكر ربك. و {العَظِيمِ} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح, ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأحدث) قيل: إنما أحدث لأنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلًا بالتسبيح غير معرض عنه، والمراد بالإحداث: الاستمرار. وقلت: هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، ولكن المراد: إذا أحطت بما ذكر لك من بيان القدرة الكاملة، وبما أنعم به على الخلق، فجدد التسبيح لذلك تنزيهًا لجلالة شأنه أو تعجبًا من كفران إنعامه، أو شكرًا على ما أولاه من إحسانه. وبيانه: أن لفظ التسبيح من حيث وضعه بإزاء التنزيه عن النقائض وعما يصفه الجاهلون تنزيه، ولما كان ورود هذا الكلام في الرد على منكري الحشر والنشر، ومنكره منكر لقدرته الكاملة وعلمه الشامل، ومكذب لما نص ووعد وأوعد، على ما ورد في الحديث القدسي: "كذبني ابن آدم ... " إلى "أن يعيدني كما بدأني". كان تنزيهًا عما يقول الظالمون. ومن حيث المفهوم والاستعمال وأنهم يسبحون الله عند رؤية كل عجيب من صنائعه كان كلمة تعجيب، وما يتعجب منه في هذا المقام: إما تقرير خلق الإنسان من ماء مهين، وإخراج الزرع من ماء المزن، وري النار من الزند، وإما غمطهم هذه النعم الجسيمة والأيادي الظاهرة، ومن حيث النظر إلى كونه ذكرًا لله عز وجل ووصفًا له بالجلال والعظمة والملكوت بعد عد النعم المتكاثرة، كان حمدًا له وشكرًا لأياديه. والله أعلم. قوله: (أو أراد "بالاسم": الذكر) عن بعضهم: الباء سببية لا صلة ولا زائدة، وحاصلة: إما إضمار أو مجاز. وقلت: تقديره: نزه الله إما بواسطة ذكر اسمه تعالى، أو بواسطة ذكره، ويجوز أن يجرى على ظاهره من غير إضمار ولا مجاز، قالوا في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]:

وهو أن يقول: سبحان الله، إما تنزيهًا له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجبًا من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكرًا لله على النعم التي عدها ونبه عليها. [{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} 75 - 80] {فَلا أُقْسِمُ} معناه: فأقسم. و"لا" مزيدة مؤكدة مثلها في قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} [الحديد: 29]. وقرأ الحسن: (فلأقسم)، ومعناه: فلأنا أقسم، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر، وهي: أنا أقسم، كقولك: "لزيد منطلق" ثم حذف المبتدأ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني: أن "لأفعلن" في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما يجب تنزيه ذاته وصفاته تعالى عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب، وهذا أبلغ، لما يلزم ذلك بالطريق الأولي على سبيل الكناية الرمزية. [قوله: ] {فَلا أُقْسِمُ}، "لا" زائدة، ويجوز أن يكون ردًا لما يقوله الكافر في القرآن؛ من أنه سحر وشعر وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم. تم كلام الواحدي رحمه الله تعالى. قوله: ("فلأقسم"، ومعناه: فلأنا أقسم) إنما قدر المبتدأ لأن لام الابتداء لا تدخل على الجملة الفعلية. قوله: (وفعل القسم يجب أن يكون للحال) قال ابن جني: "لأقسم" قراءة الحسن والثقفي أي: لأنا أقسم؛ فإن جميع ما في القرآن من الإقسام إنما هو على حاضر الحال، لا

{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بمساقطها ومغاربها، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالًا مخصوصةً عظيمةً، أو للملائكة عبادات موصوفةً، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين، ونزول الرحمة والرضوان عليهم؛ فلذلك أقسم بمواقعها، واستعظم ذلك بقوله: {وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على وعد الإقسام، نعم لو أريد الفعل المستقبل لزمت فيه النون، فقيل: لأقسمن، وحذفها ضعيف جدًا. قوله: (ولعل لله تعالى في آخر الليل، إذا انحطت النجوم إلى المغرب، أفعالًا مخصوصة عظيمة)، وقلت: ولذلك ورد عن الصادق المصدوق: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. وروى الترمذي عن أبي أمامة: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات". قال صاحب "الجامع": النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله تعالى يتقدس عن ذلك، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد وتخصيصه لها بالثلث الآخر من الليل، لأن ذلك وقت التهجد وقيام الليل، وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله تعالى موفرة، فهو مظنة القبول والإجابة.

تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أو أراد بمواقعها: منازلها ومسايرها، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف. وقوله: {وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعتراض به بين القسم والمقسم عليه، وهو قوله: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} واعتراض بـ {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الموصوف وصفته. وقيل: مواقع النجوم: أوقات وقوع نجوم القرآن، أي: أوقات نزولها. {كَرِيمٌ} حسن مرضي في جنسه من الكتب، أو نفاع جم المنافع، أو كريم على الله. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم، وهم المطهرون من جميع الأدناس، أدناس الذنوب وما سواها: إن جعلت الجملة صفةً لـ {كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وهو اللوح. وإن جعلته صفةً للقرآن؛ فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس، يعني مس المكتوب منه، ومن الناس من حمله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اعتراض في اعتراض) فإن قوله: {وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}، اعتراض بين القسم وجوابه مقرر للتوكيد، وتعظيم للمحلوف به، وقوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} اعتراض بين الصفة والموصوف توكيد لذلك التعظيم، أي: لو علم ذلك لوفى حقه من التعظيم. قوله: ({كَرِيمٍ} حسن مرضي في جنسه) هذا على أن الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، كقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]. وقوله: (أو نفاع جم المنافع) هذا على أن يستعار الكريم ممن يقوم به الكريم من ذوي العقول لغيرهم، وقوله: "أو كريم على الله"، هذا على أن متعلق {كَرِيمٍ} محذوف. وقوله: (وإن جعلته صفة للقرآن فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة)، وكيفية الاستدلال على هذا المطلوب: هو أنه تعالى لما أقسم على أن القرآن في نفسه كريم مرضي في جنسه، ثم وصفه بأنه بمنزلة عظيمة عنده، حيث صانه عن كل وصمة ونقيصة،

على القراءة أيضًا، وعن ابن عمر: أحب إلي أن لا يقرأ إلا وهو طاهر، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم أتبع الكل بقوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}، أي: مالك السماوات والأرضين، ووسط بينهما قوله: {لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ}، دل على أن هذه الصفات ثابتة له ذاتية، ومن شأنه أن يكون كذلك، ولا ينبغي غير ذلك، وعليه ما ورد: "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه" الحديث. فهو إخبار في معنى الأمر كما في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور: 3]، والمعنى على الوجه الأول: إن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظم شأنه بأن حكم ألا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك، بناء على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، لأن مساق الكلام لتعظيم شأن القرآن، وعلى كرمه ورد الإقسام، ومجيء ذكر الكتاب المكنون تابع لذكره، يدل عليه قوله: {أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ}، أي: بمثل هذا العظيم الشأن، الموصوف بصفات الكمال أنتم متهاونون؟ روينا عن الإمام مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر"، وقال مالك: لم يكره ذلك لأنه يدنسه الأيدي، وإنما كره ذلك إكرامًا للمصحف بأن يحمله غير طاهر، وأحسن ما سمعت في معنى هذه الآية أنها بمنزلة قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16]. وعن الدارمي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض ومن فيهن".

ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" أي: لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه. وقرئ: {المُتَطَهَّرُونَ}، و (المطهرون) بالإدغام. و (المطهرون)، من: أطهره بمعنى طهره، و (المطهرون) بمعنى: يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم. والوحي الذي ينزلونه {تَنزِيلٌ} صفة رابعة للقرآن، أي: منزل من رب العالمين، أو وصف بالمصدر؛ لأنه نزل نجومًا من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل؛ ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل على حذف المبتدأ، وقرئ: (تنزيلًا) على: نزل تنزيلًا. [{أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 81 - 82] {أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ} يعني القرآن {أَنتُم مُّدْهِنُونَ} أي: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} على حذف المضاف، يعني: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وقرأ علي رضي الله عنه: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ونحوه) أي: نحوه في الأسلوب، وأن المراد بقوله: {لَا يَمَسُّهُ}: لا ينبغي أن يمسه، والحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي هريرة، مضى تمامه في الحجرات. "لا يسلمه"، أي: لا يخذله ولا يتركه بيد العدو. الجوهري: أسلمه: أي خذله. قوله: (كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه) الراغب: الإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد، كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عن البعير، عبارة عن ذلك.

وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق: المطر، يعني: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم. وقرئ: (تكذبون) وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: هو من الأنواء، ولأن كل مكذب بالحق كاذب. [{فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ ولَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ * وأَمَّا إن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * وأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 83 - 96] ترتيب الآية: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. {فَلَوْلَا} الثانية مكررة للتوكيد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: نزلت في الأنواء) عن الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، قال: "شكركم؛ تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا"، وعن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي عن زيد ابن خالد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسول أعلم، قال: "قد أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب". وتفسير النوء قد ذكرناه فيما سبق. قوله: ({فَلَوْلَا} الثانية مكررة للتوكيد) قال أبو البقاء: {تَرْجِعُونَهَا} جواب "لولا"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأولى، وأغنى ذلك عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك، وقيل: "لولا" الثانية تكرير. وقيل: {إِن كُنتُمْ}: شرط دخل على شرط، فيكون الثاني مقدمًا في التقدير، أي: إن كنتم صادقين، إن كنتم غير مملوكين، فأرجعوا أرواحكم إلى أبدانكم ممتنعين عن الموت. والمصنف جعل الشرط الأول الأصل على ما عليه الظاهر، حيث قدر: "إن لم يكن ثم قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم"، فعطف الثاني عليه ليؤذن بأن الشرط الثاني كالبيان والتوكيد للأول، فيكون أصل الكلام على تقديره: فهلا إذا بلغت روح المحتضر حلقومه، يا أهل البيت، ترجعونها إلى مقامها إن كنتم صادقين، أنكم غير مربوبين، بل مهملون معطلون، ثم قرن بقوله: {بَلَغَتِ الحُلْقُومَ}، قوله: {وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} حالًا لتتميم معنى العجز عن القدرة على الرجع مع كونهم حاضرين ناظرين، ثم قرن به: {ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ ولَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} حالًا أخرى لتتميم معنى أن قربهم لا ينفع وأنهم غير قادرين على الرجع، وقدم أحد الشرطين على جواب "لولا" للاهتمام كما ترى. وأما الواحدي فلخص المعنى وقال: إن كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك بوجه فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله تعالى، ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت بقوله: {فَأَمَّا إن كَانَ} الذي بلغت روحه الحلقوم {مِنَ المُقَرَّبِينَ} عند الله، فله روح إلى قوله: {وأَمَّا إن كَانَ} أي: المتوفى {مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ}، {وأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ}: أي بالبعث، {فَنُزُلٌ} أي: فنزله {مِّنْ حَمِيمٍ}. وقلت: النظم يساعد هذا القول: لكن إنما يتم إذا قلنا: إن المنكرين للبعث، ما أنكروه بطريق إيراد الشبه كالدهرية والطبيعيين، بل لأنه ألهاهم التنعم في الدنيا، والترف بلذاتها

والضمير في {تَرْجِعُونَهَا} للنفس وهي الروح، وفي {أَقْرَبُ إلَيْهِ} للمحتضر {غَيْرَ مَدِينِينَ} غير مربوبين، من دان السلطان الرعية، إذا ساسهم. {ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ} يا أهل الميت، بقدرتنا وعلمنا، أو بملائكة الموت. والمعنى: إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء، إن أنزل عليكم كتابًا معجزًا قلتم: سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولًا قلتم: ساحر كذاب، وإن رزقكم مطرًا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدي إلى الإهمال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن التزود لدار الجزاء، بدليل قوله: {إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ}، أي: يحلفون ويصرون عليه أن لا بعث ولا حساب، ويقولون: نحن الآن نستوفي لذاتنا من الدنيا، كقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5] أي: ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات لا تنزع عنه. وفي كلام المصنف: "إنكم في جحودكم .... على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل" أشعار بهذا المعنى. فالفاء في قوله: {فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ} مسببة عما قبلها، وكذا الفاء في: {أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ}، وفي: {فَلا أُقْسِمُ}، وهلم جرا إلى الفاءات المصدرات بهمزة الإنكار في: {أَفَرَأَيْتُم} و {أَفَرَأَيْتُم} إلى أن يتصل بقوله: {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}، فلما وبخوا على قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، وهدم باطلهم بأنواع من البراهين القاطعة وعد قبائحهم، قيل لهم: {فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ}، يعني: إن كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، ونحن الآن طيبون، فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا {بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} إليه وإلى ما هو فيه من السكرات، هل تقدرون أن {تَرْجِعُونَهَا} إلى مقامها {إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنكم غير مدينين؟ ؟ وإليه الإشارة بقوله: "إن لم يكن ثم قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت". قوله: (إذا ساسهم) الجوهري: سست الرعية سياسة، وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله، إذا ملك أمرهم.

والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟ ! {فَأَمَّا إن كَانَ} المتوفى {مِنَ المُقَرَّبِينَ} من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة {فَرَوْحٌ} فله استراحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكنتم صادقين في تعطيلكم) فإن قلت: كيف يصح هذا الاستدلال؟ فإن من قال بالتعطيل يحيل الموت إلى طبيعة، لا إلى القادر المختار، فلا يقال لهم: {تَرْجِعُونَهَا}؟ قلت: الطبيعي يزعم أنه قادر على تغيير الطبيعة بالمعالجة، فقل لهم: فهلا ترجعون الروح من الحلقوم إن كنتم صادقين في ذلك؟ قال الإمام: الطبيعي عنده أن البقاء بالغذاء، وأن الأمراض زوالها بالدواء ممكن. قوله: (من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة) إشارة إلى أن الخاتمة ناظرة إلى الفاتحة، فينبغي أن يراعى النظم على ما قررنا. قوله: (فله استراحة) فإن قلت: دل هذا على أن قوله: {فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ}، جزاء للشرط، وقد مضى شرطان "أما" و "إن" فجواب أيهما هو؟ قال صاحب "الكشف": تقدير هذا الكلام: مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين، فحذف الشرط الذي: هو "يكن من شيء"، وأقام "أما" مقام "مهما" ولم يحسن أن يلي الفاء أما، فأوقع الفصل بين "أما" والفاء بقوله: {فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ} لتحسين اللفظ، كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول في قوله: أما اليوم فزيد خارج، وقال سيبويه: أما غدًا فلك درهم، فالفاء في {فَرَوْحٌ} وأختيها جواب "أما" دون "إن"، وقال أبو البقاء: جواب أما {فَرَوْحٌ} , وأما "إن" فاستغنى بجواب "أما" عن جوابها لأن جواب "إن" يحذف كثيرًا.

وروت عائشة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فروح)، بالضم. وقرأ به الحسن وقال: الروح: الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء، أي: فهذان له معًا، وهو الخلود مع الرزق والنعيم. والريحان: الرزق. {فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلمون عليك. كقوله تعالى: {إلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26]. {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} كقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 56] وقرئ بالتخفيف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("فروح" بالضم) عن الترمذي وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فروح وريحان". قال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح، فكأنه قيل: فله ممسك روح، وممسكها هو الروح، كما تقول: الهواء هو الحياة، وهذا السماع هو العيش. قوله: (أي: فهذان له معًا) يعني قوله: {فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ} أخبارها محذوفة وهي "له". فإن قلت: هاهنا أشياء ثلاثة لم جعلها شيئين، حيث قال: و"هو الخلود مع الرزق والنعيم"، وعبر عنها بـ"هذان"؟ قلت: كأنه لمح إلى معنى قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 63] قال: وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، فالروح المتأول بالبقاء، والريحان المفسر بالرزق، بمعنى دوام الرزق ودروره، و"جنة النعيم" مثل كلمة {فِيهَا} أي: في جنات عدن. قوله: (من إخوانك) من: للابتداء، وفي قوله: "يا صاحب اليمين" إشارة إلى الاختصاص المستفاد من الالتفات في الآية، ونظيره في الالتفات قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور: 64].

{وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} قرئت بالرفع والجر عطفًا على"نزل" و {حَمِيمٍ}، {إنَّ هَذَا} الذي أنزل في هذه السورة، {لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} أي: الحق الثابت من اليقين. عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} قرئت بالرفع والجر)، الرفع هي المشهورة، والجر شاذ. قوله: (أي: الحق الثابت مع اليقين) الراغب: اليقين: سكون مع ثبات الحكم، وهو من صفة العلم، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين. وأنشد صاحب "التيسير": لقد أقوت عليك ديار عبس .... عرفت الدار عرفان اليقين وقيل: هو كقولهم: نفس الحائط، أي: النفس التي هي الحائط، ولذلك قال: "أي: الحق الثابت من اليقين"، وقال البصريون: التقدير حق الأمر اليقين، واليقين: علم يحصل به ثلج الصدور، قيل: هو علم يحصل بالدليل، وقال صاحب "المطلع": هو اسم للعلم الذي زال عنه اللبس، و {حَقٌّ} تأكيد، كما تقول: حق يقين، ويقين حق. وقال الزجاج" إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السور حق اليقين، كما تقول: إن زيدًا لعالم حق عالم، وإنه العالم حق العالم، إذا بالغت في التوكيد. قوله: (من قرأ سورة الواقعة) الحديث رواه صاحب "الجامع" عن رزين عن ابن

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ كل ليلة سورة الواقعة لم تصبه فاقة، وفي المسبحات: آية كألف آية". تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْهَا ومَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ومَا يَعْرُجُ فِيهَا وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1 - 6] جاء في بعض الفواتح: {سَبَّحَ} على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وكل واحد منهما معناه: أن من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحديد مكية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (جاء في بعض الفواتح: {سَبَّحَ} على لفظ الماضي)، وقلت: وجاء في "بني إسرائيل": بلفظ المصدر، وفي "الحديد" والصف": بالماضي، وفي "الجمعة" و"التغابن":

وذلك هجيراه وديدنه، وقد عدى هذا الفعل باللام تارةً، وبنفسه أخرى في قوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] وأصله: التعدي بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، منقول من سبح: إذا ذهب وبعد، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في: نصحته، ونصحت له، وإما أن يراد بسبح لله: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصًا. {مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} ما يتأتى منه التسبيح ويصبح. فإن قلت: ما محل {يُحْيِي}؟ قلت: يجوز أن لا يكون له محل، ويكون جملةً برأسها؛ كقوله: {لَهُ مُلِكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} [البقرة: 107] وأن يكون مرفوعًا على: هو يحيي ويميت، ومنصوبًا حالًا من المجرور في {لَهُ} والجار عاملًا فيها. ومعناه: يحيي النطف والبيض والموتى يوم القيامة، ويميت الأحياء. {هُوَ الأَوَّلُ} هو القديم الذي كان قبل كل شيء {والآخِرُ} الذي يبقى بعد هلاك كل شيء، {والظَّاهِرُ} بالأدلة الدالة عليه، {والْبَاطِنُ} لكونه غير مدرك بالحواس. فإن قلت: فما معنى الواو؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالمضارع، وفي {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}: بالأمر، فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة، إعلامًا بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد، مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولًا وفعلًا، طوعًا وكرهًا، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وإليه الإشارة بقوله: "إن من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه"، والضمير المستتر راجع إلى {مَا} في {مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ}، وكذا في "هجيراه وديدنه". قوله: (أحدث التسبيح لأجل الله) قطع {سَبِّحِ} عن متعلقه، وأجراه على إطلاقه، وجعل اللام للتعليل، وعلى الأول اللام متعلق به، ولذلك استشهد بقوله: "نصحته ونصحت له".

قلت: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات، الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن: جامع للظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الواو الأولى) يريد أن الواوات الداخلة بين الصفات تفيد معنى الجمعية، لكن الواو المتوسطة بين "الأول" و"الآخر" جامعة بين الأولية والآخرية، فالأولية والآخرية صارتا كصفة واحدة، وكذا المتوسطة بين "الظاهر" و"الباطن"، وأما الواو الداخلة بين هاتين القرينتين، أفادت معنى امتزاج تينك الصفتين بهاتين الأخريين، فإذًا لا انقطاع لوصفيته سبحانه وتعالى من الظاهرية والباطنية، أزلًا وأبدًا، كما أنه تعالى باطن في الدنيا لا يرى، كذلك باطن في العقبى لا يرى، وإليه أشار بقوله: "هو في جميعها ظاهر وباطن" إلى قوله: "وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة". الانتصاف: لا دليل في الآية على ما قال، فيجوز أن يحمل على عدم الإدراك بالحاسة في الدنيا وفي الآخرة للكفار، ولنا في الرؤية كالمعتزلة لقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فإن قيل: التخصيص خلاف الظاهر أيضًا، فجاز تخصيص الباطن. وقال حجة الإسلام في "المقصد الأسنى": اعلم أن الأول يكون أولًا بالإضافة إلى شيء، والآخر آخرًا بالإضافة إلى شيء واحد، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء

وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء الغالب له، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه. والباطن: الذي بطن كل شيء، أي علم باطنه: وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولًا وآخرًا جميعًا، بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المترتبة، فالله تعالى بالإضافة أول، إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه، وأما فو فموجود بذاته، وما استفاد الوجود من غيره فهو متأخر عنه، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك، ولاحظت منازل السالكين السائرين إليه فهو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين، وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته، والمنزل الأقصى هو معرفة الله، فهو آخر بالإضافة إلى السلوك، أول بالإضافة إلى الوجود، فمنه المبدأ أولًا، وإليه المرجع آخرًا، وكذا القول في قوله: "الظاهر والباطن" والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس، وخزانة الخيال، ظاهر إن يطلب من خزانة العقل والاستدلال، وقال أيضًا: إنه تعالى إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره، وظهوره سبب بطونه، ونوره هو حجاب نوره، وكل ما جاوز حده انعكس ضده. وقال الأزهري: "أول": افعل، وهو تذكير "أولى": فعلى وأصله من: آل يؤول، أي: عاد ورجع، وأول كان في الأصل: أأول، فقلبت أحدى الهمزتين لما اجتمعتا واوًا، وأدغمت إحداهما في الأخرى فصار: أول، والدليل عليه قولهم: أولى، لأن الألف في الأولى فاء الفعل والهمزتان في "أأول" إحداهما ألف أفعل، والثانية فاء الفعل. وقال أبو إسحاق: هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والأول هو السابق

[{آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 7 - 8] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للأشياء كلها، وكان تعالى موجودًا لا شيء معه، ثم أوجد ما أراد، ثم يفنى الخلق كلهم، فيبقى تعالى وحده كما كان في القديم، فيكون آخرًا كما كان أولًا. وقال الأزهري: وقد يكون الظاهر الباطن بمعنى العالم لما ظهر وبطن، وذلك أن من كان ظاهرًا احتجب عنه الباطن، ومن كان باطنًا استتر عنه الظاهر، فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت: هو ظاهر باطن، مثله قوله تعالى: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، أي: لا شرقية فقط، ولا غربية فقط، ولكنها شرقية غربية، فظهر على علم كل شيء بعلمه وبطن علم كل شيء بخبره، ويقال: ظهرت على فلان: إذا غلبته، وظهرت على السطح: إذا علوته، وظهرت على سر فلان: إذا عثرت عليه. وقلت: هذا هو الوجه وإن قال: "وليس بذاك"، بعدما قال: "الظاهر: العالي على كل شيء، الغالب له"، وينصره ما روينا عن الإمام أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر". فالمعني بالظاهر في التفسير النبوي: الغالب الذي يغلب ولا يغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء، إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن أن لا ملجأ ولا منجى دونه يلتجئ إليه ملتجئ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الاسم الجامع بعد الحكم بأن الكائنات بأسرها مسبحة له طوعًا وكرهًا، وفعلًا وقولًا، دلت على عليتها، وكرر ضمير

{مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها، وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه. أو {جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} ممن كان قبلكم فيما في أيديكم: بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم؛ فلا تبخلوا به، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم. {لا تُؤْمِنُونَ} حال من معنى الفعل في"ما لكم"، كما تقول: ما لك قائمًا، بمعنى: ما تصنع قائمًا، أي: وما لكم كافرين بالله. والواو في {والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} واو الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ: (وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم). والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرفوع ليدل على استقلال كل فقرة صدرت به على سبيل استبدادها تعليلًا، وما ترك فيه العاطف جعل الرابط معنويًا، وهو الاستئناف. قوله: (ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين)، فسر {يَدْعُوكُمْ} به ليجمع بين دليلي النص القاطع، والعقل الهادي، لأن المراد بقوله: {وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} ما ركب فيهم من العقول، فقوله: "وقبل ذلك" مؤذن بأن قوله: {وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}، حال من الضمير المنصوب في {يَدْعُوكُمْ}، ويحتمل العطف على الجملة برأسها، فيكون حالًا معطوفة على مثلها لا متداخلتان، فلا يقدر "قبل ذلك"، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهذه، ويكون تقديم دليل السمع على العقل لشرفه والتعويل عليه كما سبق مرارًا.

وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان: حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما قوله: "بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم"، فمخالف لهذا لأنه مبني على مذهبه، وعلى التقدير الذي قدره، وينصر ما ذكرنا من أن التعويل على الدليل السمعي، وأنه هو الهادي المرشد، والعقلي تابع، تعقيب الآية بقوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} امتنانًا وتقريرًا للاهتمام، وأنه لولاه لما حصل الإيمان، وفي قوله: "ليخرجكم الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"، إشارة إلى هذا المعنى. قوله: (حيث ركب فيكم العقول) الانتصاف: ولا عليه أن يحمل العهد على حقيقته، وهو المأخوذ يوم الذر، وكل ما أجازه العقل وورد بها لشرع وجب الإيمان به. وقال محيي السنة: أي أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. قال مجاهد: وقيل: أخذنا ميثاقكم بإقامة الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقلت: يمكن أن يقال إن الضمير في "أخذ" إن كان لله تعالى، فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} إلى آخره [البقرة: 38]، لأن المعنى: "فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم، وكتاب أنزله عليكم" كما صرح المصنف في تفسيره، يدل على الأول قوله: {والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا} وعلى الثاني: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} إن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد بالميثاق ما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق عليه، أي: الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمراد بالإنفاق: الإنفاق في سبيل الله، يدل عليه قوله: : {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ} ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقول في الله ولا نخاف لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. وأما قضية النظم فإنه تعالى لما قال: {آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ووضع موضع: مما رزقناكم، كما في سائر المواضع قوله: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} تسهيلًا على بذلها وإيذانًا بأن الأموال عواري ودول، كما قيل: وحسبك قول الناس فيما ملكته .... لقد كان هذا مرة لفلان فصله بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وبقوله: {ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ} إلى آخره، وكان التقابل الحقيقي: والذين لم يؤمنوا ولم ينفقوا لهم عقاب أليم، ولما أن الكلام في الحث والتعريض والتوبيخ على التهاون في الإنفاق، قيل: {ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، {ومَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وأوقع للأول قوله: {والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ}، حالًا مقررة لجهة الإشكال. وقوله: {وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} حال أخرى كذلك، على سبيل التداخل، والثاني قوله: {ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وهو ينظر إلى قوله: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: مالكم لا تنفقون وإن الله سولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها بعد أن أهلك غيركم، وأعطاها إياكم، ثم في العاقبة هو مهلككم ووارثها، فأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! والله أعلم.

ومكنكم من النظر، وأزاح عللكم، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه. وقرئ: {أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل. [{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وإنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 9] {لِّيُخْرِجَكُم} الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بدعوته. (لرؤف) وقرئ: {لَرَءُوفٌ}. [{ومَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلًا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} 10 - 11] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لموجب ما) أي: موجب من دليلي النقل والعقل، قال الواحدي: إن كنتم مؤمنين بالحجة والدليل، فقد بان وظهر على يد محمد صلوات الله عليه، ببعثه وإنزال القرآن عليه. وقلت: ويمكن أن يجرى الشرط على التعليل الذي يجيء به الموثق بأمره، المتحقق بصحته، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع، يدل عليه قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ} إلى قوله: {وكُلًا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى}. قوله: (وقرئ: {لَرَؤُوفٌ})، كلهم إلا أبا عمرو وأبا بكر وحمزة والكسائي.

{أَلاَّ تُنفِقُوا} في أن لا تنفقوا {ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعني: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله، والله مهلككم فوارث أموالكم؟ ! وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة، {أُوْلَئِكَ} الذين أنفقوا قبل الفتح- وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" - {أَعْظَمُ دَرَجَةً}. وقرئ: (قبل الفتح). {وكُلًا} وكل واحد من الفريقين {وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرئ بالرفع؛ على: وكل وعده الله. وقيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله. القرض الحسن: الإنفاق في سبيل، شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز، لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا) الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. النهاية: نصيفه: هو النصف، كالعشير في العشر. قوله: (وقرئ بالرفع؛ على: وكل وعده الله) ابن عامر، والباقون: بنصب اللام.

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفًا أضعافًا من فضله، {ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقرئ: (فيضعفه)، وقرئا منصوبين على جواب الاستفهام، والرفع عطف على {يُقْرِضُ}، أو على: فهو يضاعفه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذلك الأجر المضموم إليه الأ ضعاف) يريد أن قوله: {ولَهُ أَجْرٌ}، هو الأجر السابق الذي ضمن في قوله: {فَيُضَاعِفَهُ}، وأعيد المعنى ليعلق به صفة الكريم، وفيه تعسف؛ لأن العطف يقتضي المغايرة نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وقد فسر المضاعفة بقوله: "يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده على سبيل التفضل عطاءً عظيمًا"، وسماه أجرًا لأنه تابع للأجر، وهو بناء على مذهبه، وسبق ما عليه، وذكرنا أن المناسب أن يفسر المضاعفة بمضاعفة الحسنة نفسها، والأجر بما هو المتعارف. وروينا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها"، وفي رواية: "إلا أن يتجاوز الله عنها"، والله أعلم. قوله: (كريم في نفسه) أي: وصف الأجر بالكرم بناء على أن الكريم يقال لكل ما يرضى ويحمد في بابه. قوله: (وقرئ: "فيضعفه") ابن عامر، و"يضاعفه" بالنصب: عاصم، والباقون: بالرفع.

[{يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 12]. {يَوْمَ تَرَى} ظرف لقوله: {ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، أو منصوب بإضمار "اذكر" تعظيمًا لذلك اليوم. وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِم} لأنه السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، فجعل النور في الجهتين شعارًا لهم وآيةً؛ لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا، وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة، ومروا على الصراط يسعون، سعى بسعيهم ذلك النور جنيبًا لهم ومتقدمًا، ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: {بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ}. وقرئ: (ذلك الفوز). [{يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا ورَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى ولَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ وغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَاوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وبِئْسَ المَصِيرُ} 13 - 15] {يَوْمَ يَقُولُ} بدل من {يَوْمَ تَرَى}، {انظُرُونَا} انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تدف بهم، وهؤلاء مشاة. وانظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سعى بسعيهم ذلك النور جنيبًا لهم) "سعى" جواب "إذا"، و"يسعون" حال من ضمير "مروا"، قال المصنف: عرفنا أنهم يسعون بقوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، لأنهم لو مشوا لما سعى النور بين أيديهم، لأنه إذا سعى وهم يمشون الهوينا لم يكن سعيًا بين أيديهم لأنه يخلفهم. قوله: (تدف بهم) الأساس: الدفيف: السير اللين.

إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. وقرئ: (أنظرونا) من النظرة وهي: الإمهال، جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارًا لهم. {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه؛ وذلك أن يلحقوا بهم، فيستنيروا به {قِيلَ ارْجِعُوا ورَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} طرد لهم وتهكم بهم، أي: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورًا بتحصيل سببه وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا، فالتمسوا نورًا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل: هو الأعراف، لذلك السور، {بَابٌ} لأهل الجنة يدخلون منه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "أنظرونا" من النظرة) حمزة: "أنظرونا" بقطع الهمزة وفتحها في الحالين، وكسر الظاء، والباقون بألف موصولة ويبتدئونها بالضم، وضم الظاء. قوله: (جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارًا لهم) يقال: اتأد في مشيته، افتعل من التؤدة، يعني وضع انظرونا الذي هو بمعنى الممهلة وإنظار الدائن مديونه، موضع اتئاد الرفيق، والهوينا في المشي لرفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالي، مبالغة في العجز وإظهار الافتقار. وقال المهدي: {انظُرُونَا}، وأنظرونا معناهما سواء، وهما من الانتظار، تقول العرب: نظرت كذا وانتظرت، بمعنى واحد، والمعنى: نفسونا وأمهلونا نقتبس من نوركم. قوله: (وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب)، نظيره في المعنى قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56].

{بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب، وهو الشق الذي يلي الجنة. {وظَاهِرُهُ} ما ظهر لأهل النار {مِن قِبَلِهِ} من عنده ومن جهته {العَذَابُ} وهو الظلمة والنار. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما: (فضرب بينهم) على البناء للفاعل. {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون موافقتهم في الظاهر {فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق وأهلكتموها، {وتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر، {وغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وهو الموت {وغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. وقرئ: (الغرور) بالضم. {فِدْيَةٌ} ما يفتدى به {هِيَ مَوْلاكُمْ} قيل: هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه .... مولى المخافة خلفها وأمامها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ "الغرور" بالضم) قال ابن جني: قرأها سماك بن حرب، وهو كقوله: وغركم بالله الاغترار، وتقديره على حذف المضاف، أي: وغركم بالله سلامة الاغترار، ومعناه: سلامتكم منه [مع] اغتراركم. قوله: (فغدت كلا الفرجين) البيت، يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد، ولم تقف لتنظر أن قاصدها خلفها أم أمامها، فغدت فزعة مذعورة لا تعرف منجاها من مهلكها، الفرجين: الجانبين وهو الخلف والقدام، أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف، وقيل: الفرج: الثغر وموضع المخافة، وقيل: الفرج ما بين قوائم الدواب، فما بين اليدين فرج، وما بين الرجلين: فرج، أي: تحسب كل فرج من فرجيها أولى المخافة، أي: موضع

وحقيقة {مَوْلاكُمْ}: محراكم ومقمنكم. أي: مكانكم الذي يقال فيه: هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة للكرم، أي مكان؛ لقول القائل: إنه لكريم. ويجوز أن يراد: هي ناصركم، أي لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفي الناصر على البتات. ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع. ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 16] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المخافة، ومعنى مولى: أولى، والضمير الذي هو اسم "أن" عائد إلى "كلا" لأنه مفرد اللفظ، كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]، و"مولى المخافة" خبر "إن"، و"خلفها وأمامها" خبران لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون تفسيرًا لكلا الفرجين، أو بدلًا منه، وتقديره: فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها، تحسب أنها مولى المخافة. من كلام الزوزني. قوله: (ومقمنكم) من القمين: الجدير. قوله: (كما قيل: هو مئنة الكرام) أي: "مولى" مفعل من أولى، كما أن "مئنة" مفعلة من "إن" التي للتحقيق، غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمنت حروفها دلالة على أن معناها فيها، وكما يقال: "مئنة" موضع "إن"، يقال فيه: إن التحقيقية، كذلك معنى {مَوْلَاكُمْ}: مكانكم الذي يقال فيه: هو أولى بكم، وقوله: "مئنة الكرم" كناية رمزية، نحو قولهم: الكرم بين برديه، والمجد بين ثوبيه. قوله: (فاستنصر الجزع) أي: طلب النصر، ولم يجد سوى الجزع، والجزع ليس ينصر، فإذن لا نصر لهم البتة.

{أَلَمْ يَانِ} من: أنى الأمر يأني، إذا جاء إناه، أي: وقته. وقرئ: (ألم يئن) من: آن يئين، بمعنى: أنى يأني، و (ألما يأن)، قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضي الله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و "ألما يأن") قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وقال: أصل لما: لم، ثم زيدت عليها "ما" فصارت نفيًا لقوله: قد كان كذا، و"لم" نفي فعل المؤكد، تقول: قام زيد، فيقول المجيب بالنفي: لم يقم، فإن قال: قد قام، قلت: لما يقم، لما زاد في الإثبات "قد"، زاد في النفي "ما"، إلا أنهم لما ركبوا "لم" مع "ما" حدث معها معنى ولفظ. أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفًا، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي: وقت قيامك قام زيد، وأما اللفظ فإنه جاز أن تقف عليها دون مجزومها كقولك: جئت ولما، أي ولما تجئ، ولو قلت: جئت ولم، لم يجز. قوله: (وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون) يعني: أن الله تعالى استبطأ خشوع قلوب الصحابة رضوان الله عليهم وعاتبهم على عدم تأثير القرآن فيها سريعًا، مع ما كانوا عليه من الخشوع، وكانت قراءتهم أقل من قراءتكم، فتفكروا أنتم في حالكم، وما أنتم عليه من الفسق مع كثرة القراءة! فهو شهادة بأن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدًا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ: (نزل) و (نزل) و (أنزل). {ولا يَكُونُوا} عطف على {تَخْشَعَ}، وقرئ بالتاء على الالتفات، ويجوز أن يكون نهيًا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت: ما معنى: {لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ}؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق: القرآن؛ لأنه جامع للأمرين: للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلي القرآن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هكذا كنا حتى قست القلوب) قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: معناه: تصلبت وأدمنت سماع القرآن، وألفت أنواره فما استغربته حتى تتغير كما تغير هذا السامع. قوله: (وقرئ: "نزل") نافع وحفص: {وَمَا نَزَلَ} مخففًا معروفًا، والباقون: مشددًا. قوله: (وأن يراد خشوعها) فعلى هذا ذكر الله غير القرآن، فإن كل واحد من ذكر الله وتلاوة القرآن سبب لخشوع القلب، كأنه قيل: ألم يقرب للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لهذين الموجبين فإنه لا مزيد عليهما، وعلى الأول هو من باب قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] يعني: الجامع بين كونه كتابًا منزلًا وفرقانًا يفرق بين الحق والباطل، يعني التوراة كقولك: رأيت الغيث والليث، أي: الرجل الجامع بين هذين الوصفين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: ويمكن أن يحمل الذكر على القرآن، وما نزل من الحق على نزول السكينة معه، أي الواردات الإلهية. ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشطنين، فغشيته سحابة فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: "تلك السكينة تنزل للقرآن". وروى السلمي عن أحمد بن الحواري، قال: بينما أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة، فأقبلت نحوها فرأيت رجلًا مغشيًا عليه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلًا حاضر القلب، فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيًا عليه، فقلت: ما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فأفاق الرجل عند سماع كلامنا، فأنشأ يقول: أما آن للهجران أن يتصرما .... وللغصن غصن البان أن يتبسما وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى .... ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما كتبت بماء الشوق بين جوانحي .... كتابًا حكى نقش الوشي المنمنما ثم قال: أشكال أشكال أشكال، فخر مغشيًا عليه، فحركناه فإذا هو ميت.

كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ} [الأنفال: 2]. أراد بالأمد: الأجل، كقوله: إذا انتهى أمده وقرئ: (الأمد)، أي: الوقت الأطول {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين. [{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 17] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض. [{إنَّ المُصَّدِّقِينَ والْمُصَّدِّقَاتِ وأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ ولَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} 18] {المُصَّدِّقِينَ} المتصدقين. وقرئ على الأصل، و (المتصدقين)؛ من: صدق، وهم الذين صدقوا الله ورسوله، يعني المؤمنين. فإن قلت: علام عطف قوله {وأَقْرَضُوا}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا انتهى أمده)، أوله: كل حي مستكمل مدة العمـ .... ـر ومود إذا انتهى أمده قوله: مود من أودى إذا مات، مضى شرحه في البقرة. قوله: (هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض) يعني: لما استبطأ خشوع قلوب المؤمنين عند سماع القرآن، أرشدهم إلى إزالة تلك القسوة التي منعت القلب عن تأثير الذكر فيه، وإنزال تلك السكينة عليه باللجأ إلى الله واستنزال ما يستعدون به لقبول تلك المواهب الرحمانية، فأعلمهم أنه وحده هو القادر على ذلك، كما أنه وحده يحيي الأرض بعد موتها، وفيه إشارة إلى نفي الحول والقوة من الغير.

قلت: على معنى الفعل في {المُصَّدِّقِينَ}؛ لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا. والقرض الحسن: أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ: (يضعف) و (يضاعف)، بكسر العين، أي: يضاعف الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا) فإن قيل: ما فائدة العدول؟ فهلا قيل: إن المصدقين والمقرضين؟ قلت: فائدته تصوير معنى التصدق، ومزيد تقرير التمثيل بالإقراض. قال صاحب "التقريب": وفي عطف "أقرضوا" على صلة اللام نظر، للزوم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، وهو المصدقات، فإما أن يحمل على المعنى، إذ التقدير: إن الناس المصدقين والمصدقات وأقرضوا، أو لا يجعل عطفًا، بل اعتراضًا، فيجوز الفصل به كما بين الموصول والصلة في مثل: ذاك الذي وأبيك يعرف مالكًا .... والحق يدفع ترهات الباطل وقيل: هو من باب كل رجل وصنعته، أي: إن المصدقين مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي: إن المصدقين والمصدقات يفلحون فيقع بعد تمام الجملة. وأقرضوا في الوجهين ليس عطفًا على الصلة، بل مستأنف، ويضاعف في الوجهين صفة {قَرْضًا} أو استئناف، وكأن استقامة المعنى والإعراب على حذف الموصول بتقدير: والذين أقرضوا، إن جوز كما هو مذهب الكوفيين. قلت: الوجه القوي هو الاعتراض على سبيل الاستطراد، فإن المصدقات لو لم تذكر لكانت مندرجة تحت المصدقين على سبيل التغليب، كما أن قوله: "وأقرضوا الله" عام في الرجال والنساء، فذكر المصدقات لمزيد التقرير كما في قوله تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. قوله: (وقرئ: "يضعف") ابن كثير وابن عامر، و"يضاعف" بكسر العين: شاذ

[{والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} 19] يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء؛ وهم الذي سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصديقين والشهداء، ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون {والشُّهَدَاءُ} مبتدأ، و {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء) ثم قوله: "لهم مثل أجر المصدقين"، مؤذن بأنه لا يجوز حمل الصديقين على المؤمنين، فيجب الحمل على التشبيه، نحو: زيد أسد، وذلك أن اسم الإشارة دال على أن ما بعده جدير بمن سبق ذكره، لاكتسابه الخصال التي درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، ولا يقال: درجة من مات حتف أنفه درجة من استشهد في سبيل الله في صف الكفار، إلا بالإلحاق، وأن يقال: هم مثلهم وأجرهم مثل أجرهم، لاسيما وقد وسط بين المبتدأ والخبر ضمير الفصل المفيد لحصر المسند على المسند إليه، ويجوز قطع "الشهداء" عن هذا الحكم، لاستقامته مع من اقترن به أن يكون جملة معه، وإليه أشار بقوله: ويجوز أن يكون "الشهداء" مبتدأ. وأما سؤاله: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ فليس بذاك، لأنا إذا قلنا: إن الكلام مبني على التشبيه والإلحاق للمبالغة ترغيبًا، علم عدم المساواة. قوله: (المعنى: أن الله يعطي المؤمنين أجرهم) وخلاصته: أن لكل مكلف أجر يستحقه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بسبب العمل، وبه زيادة عليه وفضل، فإذا اعتبر جزاء المؤمنين مع تلك الزيادة يساوي أجر الصديقين وحده، فينبغي لهم الفضل عليهم بما يزاد على الجزاء، بناء على قاعدة الاعتزال، هذا لعمري تكلف، وركوب على التعسف. ويمكن أن يقال: إن قوله: {والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ} مقابل لقوله: {والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، وآياتنا جمع مضاف يفيد الاستغراق، فيتناول جميع آيات الله المختلفة الأنواع، ومكذبها يكون مفرط في الكذب لكثرة ما كذب به، فينبغي أن يفسر ما يقابله من قوله: {والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ} بالشمول والاستغراق، ولذلك جمع الرسل لأن من آمن بالله، وبجميع ما يجب أن يؤمن به من صفاته وأفعاله، وبجميع ما يضاف وينسب إليهم، يكون مفرطًا في الصدق لكثرة ما صدق به، فحينئذ يصح حمل الصديقين على أولئك، ويقع ضمير الفصل موقعه تعريضًا بالمكذبين، ويكون المراد بالشهداء: القائم بالشهادة، كما في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 142]. وأما قوله: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} فقد وقع مقابلًا لقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ} فيجب أن يقدر في كل من المتقابلين ما هو مذكور في الآخر، ويؤيد هذا التأويل ما رواه الواحدي: {والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق، ثم قرأ هذه الآية. وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم ساعة, وقال مسروق: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، وهو قول مقاتل بن حيان واختيار الفراء والزجاج.

[{اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانٌ ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} 20] أراد أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور؛ وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر. وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي: العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطامًا؛ عقوبةً لهم على جحودهم، كما فعل بأصحاب الجنة، وصاحب الجنتين. وقيل: {الكُفَّارَ} الزراع. وقرئ: (مصفارًا). [{سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 21] {سَابِقُوا} سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، إلى جنة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واكتهل) وقوي. الأساس: واكتهل النبات، تم طوله وتكهل، ونبات كهل. قوله: (كما فعل بأصحاب الجنة) يعني: في سورة {ن}. "وصاحب الجنتين"، يعني: في سورة الكهف، وقيل: في سبأ. قوله: (في المضمار)، الجوهري: تضمير الفرس: أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضًا. وفي "مقدمة الأدب": المضمار والحلبة: موضع طراد الخيل.

قال السدي: كعرض سبع السموات وسبع الأرضين، وذكر العرض دون الطول؛ لأن كل ما له عرض وطول، فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة: عرف أن طوله أبسط وأمد. ويجوز أن يراد بالعرض: البسطة، كقوله تعالى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة: بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك: وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد، والفوز بدخول الجنة {ذَلِكَ} الموعود من المغفرة والجنة {فَضْلُ اللهِ}: عطاؤه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} وهم المؤمنون. [{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 22 - 24] المصيبة في الأرض: نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس: نحو الأدواء والموت {فِي كِتَابٍ} في اللوح {مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا} يعني الأنفس أو المصائب {إنَّ ذَلِكَ} إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وإن كان عسيرًا على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال: {لِكَيْلَا تَاسَوْا ... وَلا تَفْرَحُوا} يعني: أنكم إذا علمتم أن شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: أنكم إذا علمتم أن كل شي مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي) روينا عن الترمذي وابن ماجه عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها

لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله. {واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس. قرئ: {بِمَا آتَاكُمْ} و (أتاكم)، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود: (بما أوتيتم). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لو أنها بقيت لك". وروي: لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. قوله: (وافتخر به وتكبر على الناس)، الراغب: الفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه، ويقال له: الفخر، ورجل فاخر وفخور وفخير على التكثير، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. وقيل: المختال أخص من الفخور، لأنه في الفعل، والفخور في العقل وغيره. الراغب: الفخار: الجرار، وذلك لصوته إذا نقر، كأنما تصور بصورة من تكثير التفاخر، قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] فظهر من هذا أن التفاخر بالقول لا بالفعل. قوله: (قرئ: {بِمَا آتَاكُمْ} و"أتاكم") أبو عمرو: بالقصر، والباقون: بالمد.

فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه، مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس بهما. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد: الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم: يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم به، وبطرهم عند إصابته، {ومَن يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه، ولم ينته عما نهي عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي: فإن الله غني عنه. وقرئ: (بالبخل)، وقرأ نافع: {فَإنَّ اللَّهَ الغَنِيُّ}، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك. [{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} يعني الملائكة إلى الأنبياء، {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج والمعجزات {وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ} أي: الوحي، {والْمِيزَانَ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}) أي: بدل الكل، لأنهما واقعان تذييلًا لقوله: {ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} لأن من شأن الفرح أن يكون مختالًا فخورًا، ولذلك فسر {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بـ"الذين يفرحون الفرح المطغي"، وقال بعده: "وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته".

روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به، {وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وروى: ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح". وعن الحسن: {وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ}: خلقناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: 60]، وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه. {فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به {ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ} في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها؛ أو ما يعمل بالحديد {ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والميقعة)، النهاية: في حديث ابن عباس: نزل مع آدم عليه السلام والميقعة والسندان والكلبتان، والميقعة: المطرقة التي يضرب بها الحديد وغيره، والجمع المواقع، والميم زائدة، والياء بدل من الواو قلبت لكسرة الميم. وقيل: المر: البيل الذي يعتمل به، وفي البيل قال: البيل وإن جمع أبيالًا وبيلة، فإنه ليس بعربي، وعربية المر، وقيل: يراد بالمر الحبل شامل، وقيل: نزل آدم بالباسنة، وهي اسم جامع لهذه الأشياء. قوله: (وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه) هذا تعليل لصحة استعمال "أنزلنا" في المعاني الثلاثة، والمراد بالأوامر: الخطاب المشتمل عليها الكتاب، وبالقضايا والأحكام ما هي منوطة بالميزان واستعمال الحديد. قوله: ({ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ} باستعمال السيوف)، ظاهرة مشعر بأن "ليعلم" عطف على علة محذوفة متعلقة بقوله: {وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} أي: أنزلناه ليستعمله المكلف في الجهاد في سبيل الله، ونصرة دينه، وليعلم الله من ينصره، قال في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] أي: "فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الواحدي: "ليعلم" معطوف على {لِيَقُومَ}، أي: ليعاملوا بالعدل، وليعلم الله من ينصره، وذلك أن الله تعالى أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك. ويمكن أن يقال: أصل الكلام: أنزلنا الكتاب والميزان والحديد، لتجاهدوا مع الشيطان والنفس بإقامة حقوق الله من أداء عبادته، وامتثال أوامره وانتهاء نواهيه، وحقوق العباد، باستعمال العدل والنصفة معهم، وتجاهدوا مع أعداء الدين باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح، ليكون الدين كله لله، ويعلم الله من ينصر دينه ورسله، وإنما ترك ذكر عائدة "الكتاب" لاحتوائه على ما لا نهاية له، وكرر أنزلنا، وذكر إحدى خواص الحديد، ثم أجمل بقوله: منافع، ليؤذن بأن تمشية أمر الكتاب والميزان متوقفة عليه. روينا عن الترمذي عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". ولله در العتبي حيث قال: إن الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن الأحكام والحدود، حظر فيه التباغي والتظالم، ودفع التعادي والتخاصم، ومما حكم فيه من دفع التخاصم والأمر بالتعادل، وضع آلة العدل تنبيهًا به على موقع فائدة العدل، وعائدة السوية. ثم إن من المعلوم أن ذلك الكتاب الجامع للأوامر الإلهية وذلك التعامل بالعدل والسوية، إنما يحفظ الناس عن اتباعهما، ويضطر العالم إلى إلزام أحكامها السيف الذي هو حجة الله على من جحد وعند نزع من صفقة الجماعة اليد، هذا هو الحديد الذي وصفه الله تعالى بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب متدانية الجيوب.

{بِالْغَيْبِ} غائبًا عنهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه. {إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} غني- بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه- عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به، ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب. [{ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبْرَاهِيمَ وجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 26] {والْكِتَابَ} والوحي. وعن ابن عباس: الخط بالقلم، يقال: كتب كتابًا وكتابة. {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم، أي: فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق. [{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَافَةً ورَحْمَةً ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 27] قرأ الحسن: (الأنجيل) بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عنهم) صلة "غني"، والضمير راجع إلى "من ينصره"، يدل عليه قوله: "وإنما كلفهم الجهاد"، والباء في "بقدرته" نحو "الباء" في: كتبتم بالقلم. قوله: (قرأ الحسن: "الأنجيل" بفتح الهمزة) قال ابن جني: هذا لا نظير له، وهو من نجلت الشيء إذا استخرجته، لأنه يستخرج حال الحلال من الحرام، كما قيل لنظيره: "التوراة"، وهي فوعلة، من: ورى الزنديري، إذا أخرج النار، ومثله: الفرقان، من: فرق بين الشيئين. وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع، وشذوذه كما حكى بعضهم في البرطيل: البرطيل، ونحوهما ما حكاه أبو زيد من قولهم: السكينة بفتح السين وتشديد الكاف، وربما

"البرطيل" و"السكينة" فيمن رواهما بفتح الفاء، لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ: (رآفةً) على: فعالة، أي: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية، ومعناه: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف؛ فعلان من: رهب، كخشيان من: خشي. وقرئ: (ورهبانية) بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان: وهو جمع راهب كراكب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ظن الإنجيل أعجميًا فأجرى عليه تحريف مثاله. قوله: (البرطيل) البرطيل بكسر الباء: الحجر المستطيل وهو الشائع المشهور، وفتحها شاذ، وهو عربي، وإذا فتح الباء خرج عن أوزان العرب. قوله: (بعد موت عيسى) في جميع النسخ، والصحيح: بعد رفع عيسى عليه السلام. قوله: (وقرئ: "رهبانية" بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان) الانتصاف: فيه إشكال، فالنسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول، حتى يرد إلى المفرد، إلا أن يقال: لما صار الرهبان طائفة مخصوصين صار هذا الاسم وإن كان جمعًا كالعلم، فالتحق بأنصاري ومدائني وأعرابي. الراغب: الرهبة والرهب: مخافة مع تحرز واضطراب، قال عز وجل: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ} [الحشر: 14] والترهيب: التعبد، وهو استعمال الرهبة.

وركبان، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً، {ابْتَدَعُوهَا} يعني: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم {إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} يريد: أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: رهبوت خير من رحموت، والرهبانية غلو في تحمل الرهبة، والرهبان يكون واحدً وجمعًا. قوله: (لم نفرضها نحن عليهم) وعن أبي داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". وروينا عن مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". قال صاحب "جامع الأصول": محدثات الأمور: ما لم يكن معروفًا في كتاب ولا سنة ولا إجماع. الابتداع: إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وهو تكوين الأشياء بعد ما لم تكن، فليس ذلك إلا إلى الله تعالى، فأما الابتداع من المخلوقين، فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهو في حيز الذم والإنكار، وإن كان واقعًا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه أو رسوله، فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودًا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعل من الأفعال المحمودة لم يكن الفاعل

ويجوز أن تكون"الرهبانية" معطوفةً على ما قبلها، و {ابْتَدَعُوهَا}: صفةً لها في محل النصب، أي: وجعلنا في قلوبهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً مبتدعةً من عندهم، بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن، ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، {فَمَا رَعَوْهَا} جميعًا {حَقَّ رِعَايَتِهَا}؛ ولكن بعضهم، {فَآتَيْنَا} المؤمنين المراعين منهم للرهبانية {أَجْرَهُمْ}، {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين لم يرعوها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قد سبق إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابًا، فقال: "من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها"، وقال في ضده: "من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله. ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب في صلاة التراويح: نعمت البدعة، هذا لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيز المدح، سماها بدعة ومدحها. قال محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم": قال العلماء: البدعة خمسة أقسام؛ واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجب: تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين، وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباح: التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران. فعلم أن الحديث من العام المخصوص، ويؤيده ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة، والله أعلم. قوله: (ويجوز أن تكون "الرهبانية" معطوفة على ما قبلها)، عطف على قوله: "وانتصابها بفعل مضمر".

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 28] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يجوز أن يكون خطابًا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم، فإن كان خطابًا لمؤمني أهل الكتاب؛ فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد {يُؤْتِكُمْ} الله {كِفْلَيْنِ} أي: نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله {ويَجْعَل لَّكُمْ} يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ} [الحديد: 12]. {ويَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: منع أبو علي الفارسي العطف، تعليلًا بأن الرهبانية لا تكون مجعولة لله تعالى، مع قوله: {ابْتَدَعُوهَا}، فوقع في البدعة. والزمخشري أجاز العطف، لكن حرف الجعل إلى التوفيق اعتمادًا منهما أن ما يبتدعونه لا يجعله الله تعالى، وكفى بهذه الآية دليلًا عليهما مع الأدلة القطعية. وقوله: {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، تأكيد لخلق هذه الأفعال والمعاني بذكر محلها، وعلى مذهبهما لا يبقى لقوله: {فِي قُلُوبِ} فائدة، ويأبى كتاب الله أن يشتمل على ما لا موقع له. قوله: (أي: نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ})، الراغب: الكفل: الحظ الذي فيه الكفاية، كأنه

[{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 29] {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} ليعلم {أَهْلُ الكِتَابِ} الذين لم يسلموا. و"لا" مزيدة، {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} أن مخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يقدرون، يعني: : أن الشأن لا يقدرون {عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ} أي: لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله، ولم يكسبهم فضلًا قط. وإن كان خطابًا لغيرهم، فالمعنى: اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله، يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ولا ينقصكم من مثل أجرهم، لأنكم مثلهم في الإيمانين، لا تفرقون بين أحد من رسله. روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جعفرًا رضي الله عنه في سبعين راكبًا إلى النجاشي يدعوه، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم، فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا وقدموا بأموال لهم، فآسوا بها المسلمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكفل بأمره، قال تعالى: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، والكفل: الكفيل، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ}، أي: كفلين من نعمته في الدنيا والآخرة، وهما المرغوب إلى الله فيهما، بقوله: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201].

فأنزل الله {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54]، فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] فخروا على المسلمين وقالوا: أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فنزلت. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت. وقرئ: (لكي يعلم)، و (لكيلا يعلم)، و (ليعلم)، و (لأن يعلم)؛ بإدغام النون في الياء، و (لين يعلم)، بقلب الهمزة ياءً وإدغام النون في الياء. وعن الحسن: (ليلا يعلم)، بفتح اللام وسكون الياء. ورواه قطرب بكسر اللام. وقيل في وجهها: حذفت همزة (أن)، وأدغمت نونها في لام (لا)؛ فصار (للا) ثم أبدلت من اللام المدغمة ياءً، كقولهم: ديوان، وقيراط. زمن فتح اللام فعلى أن أصل لام الجر الفتح، كما أنشد: أريد لأنسى ذكرها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}) أي: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}، إلى آخر ثلاث آيات في سورة القصص. قوله: (ديوان وقيراط) أصل الديوان: دوان، فعوض من إحدى الواوين ياء لأنه يجمع على دواوين، ولو كانت الياء أصلية لقيل: دياوين، وأصل قيراط: قراط، لأن جمعه قراريط، فأبدل من إحدى حرفي تضعيفه ياء, والدينار كذلك. قوله: (أريد لأنسى ذكرها)، تمامه: أريد لأنسى ذكرها فكأنما .... تمثل لي ليلى بكل سبيل

وقرئ: (أن لا يقدروا) بيد الله في ملكه وتصرفه، واليد مثل، {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يشاء ألا إيتاء من يسخطه) مذهبه. تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * *

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية وهي ثنتان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ واللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات! لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع، وقد سمع لها. وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المجادلة مدنية وهي ثنتان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)، عن البخاري وأحمد بن حنبل والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد

وقال: قد سمع الله لها. وقرئ: (تحاورك) أي: تراجعك الكلام. و (تحاولك)، أي: تسائلك، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت راودها فأبت، فغضب وكان به خفة ولمم، فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ونثرت بطني أي: كثر ولدي، جعلني عليه كأمه. وروي أنها قالت له: إن لي صبيةً صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. فقال: ما عندي في أمرك شيء. وروي أنه قال لها: "حرمت عليه"، فقالت: يا رسول الله، ما ذكر طلاقًا وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إلي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمته من جانب البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ}. وفي رواية ابن ماجه: "قالت: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إلى الله". النهاية: وفي أسماء الله تعالى السميع، وهو: الذي لا يغيب عن إدراكه مسموع وإن خفي، فهو يسمع بغير جارحة. قلت: معنى وسع سمعه الأصوات، نحو قوله: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، وأنه أصل لقوله: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. الراغب: السمع قوة في الأذن بها تدرك الأصوات، فإذا وصف الله تعالى بالسمع فالمراد به علمه بالمسموعات وتحريه للمجازاة به، نحو: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ}. قوله: (قد سمع [الله] لها)، أي: أجابها، كقولك: سمع الله لمن حمده.

فقال: "حرمت عليه"، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، هتفت وشكت إلى الله، فنزلت. {فِي زَوْجِهَا} في شأنه ومعناه. {إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يصح أن يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر. فإن قلت: ما معنى {قَدْ} في قوله: {قَدْ سَمِعَ}؟ قلت: معناه التوقع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها. [{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2 - 4] في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصةً دون سائر الأمم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هتفت وشكت)، النهاية: قد هتف يهتف هتفًا، وهتف به هتافًا، إذا صاح به ودعاه، وفي الحديث: "فجعل يهتف بربه" أي: يدعوه ويناشده. قوله: (في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم)، يعني: الظاهر أن يقال: الذين يظاهرون من نسائهم، أقحم {مِنكُمْ} ليدمج فيه تهجين عادة العرب. الانتصاف: استدل بعضهم على أنه لا يصح ظهار الذمي بقوله: {مِنكُمْ}، وليس بالقوي، لأنه غير المقصود.

{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وقرئ بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية. وفي قراءة ابن مسعود: (بأمهاتهم) وزيادة الباء في لغة من ينصب. والمعنى أن من يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم، وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين. {إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ} يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات، وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن، فالمرضعات أمهات؛ لأنهن لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهن لسن بأمهات على الحقيقة، ولا بداخلات في حكم الأمهات، فكان قول المظاهر منكرًا من القول، تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية، وزورًا وكذابًا باطلًا منحرفًا عن الحق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على اللغتين)، قال صاحب "الكشف": {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} حجازية، وقرأ المفضل برفع التاء، وجعلها تميمية. قوله: (ملحق في كلامه)، خبر "أن"، وقوله: "وهذا تشبيه باطل"، معنى قوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، وفيه إشعار بأن خبر {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} محذوف، أي: مخطئون، وقوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} إلى آخره، بيان لخطئهم، كأنه قيل: الذين يشبهون نساءهم بأمهاتهم في قوله: أنت على كظهر أمي مخطئون، ما هن أمهاتهم، أي: هو تشبيه باطل لتباين الحالتين. وذهب صاحب "الكواشي" إلى أن الخبر: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}.

{وَإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منه إذا تيب عنه ولم يعد إليه. ثم قال: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يعني: والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرر رقبةً ثم يماس المظاهر منها، لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر)، إشارة إلى أن التعريف للعهد، والمعهود ما دل عليه "توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم"، وفي إتيان المضارع إرادة معنى الاستمرار فيما مضى وقتًا فوقتًا، وهذا معنى قوله: "عادتهم". الانتصاف: هذا الوجه يلزم الكفارة بمجرد لفظ الظهار حتى لو أردفه بالطلاق، أو ماتت المظاهر منها لزمته الكفارة، لأن العود حينئذ ليس إلا قول الظهار في الإسلام بخلافه في الوجوه، لأنه إنما تجب الكفارة حينئذ بالعود بعد الظهار، وهو قول علماء الأمصار. الراغب: العادة اسم لتكرير الفعل أو الانفعال حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية، وإعادة الشيء كالحديث وغيره: تكريره، قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21]، والعيد: كل حالة تعاود الإنسان، والعائدة: كل نفع يرجع إلى الإنسان من شيء ما، والعود: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصرافًا بالذات أو بالقول أو العزيمة. وأما قوله: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} فعند أهل الظاهر هو أن يقول ذلك للمرأة ثانيًا، فحينئذ تلزمه الكفارة، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: العود في الظهار هو أن يجامعها بعد الظهار، وعند الشافعي رضي الله عنه: هو إمساكها بعد وقوع الظهار مدة

ووجه آخر: ثم يعودون لما قالوا: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه. ومنه المثل: عاد غيث على ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح. والمعنى: أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يمكنه أن يطلق فيها فلم يفعل، وقال بعض المتأخرين: المظاهرة يمين، كقولك: امرأتي علي كظهر أمي إن فعلت كذا، فمتى فعل ذلك وحنث، يلزمه الكفارة ما بينه الله تعالى في هذا المكان. وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يحمله على فعل ما حلف له أن لا يفعل، وذلك كقولك: فلان حلف ثم عاد إذا فعل ما حلف عليه. قال الأخفش: قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. قوله: (عاد غيث على ما أفسد)، قال الميداني: قيل: إفساده: إمساكه، وعوده: إحياؤه، وإنما فسر على هذا الوجه لأن إفساده يصوبه لا يصلحه عوده، وقد قيل غير هذا، وذلك أنهم قالوا: إن الغيث يحفر ويفسد الحياض ثم يعفى بما فيه من البركة، يضرب للرجل فيه فساد ولكن الصلاح أكثر. الجوهري: عفى على ما كان، إذا أصلح بعد الفساد. قال أبو علي الفارسي في "الحجة" في تفسير قوله تعالى في البقرة: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}: فأما من ذهب من المتأخرين إلى أن الظهار لا يقع في أول مرة حتى يعيد المظاهرة

ووجه ثالث: وهو أن يراد ب (ما قالوا) ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار، تنزيلًا للقول منزلة المقول فيه؛ نحو ما ذكرنا في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] ويكون المعنى: ثم يريدون العود للتماس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مرة أخرى، فيقول: أنت علي كظهر أمي، فإن الظهار ليس في ذلك ظهارًا، وذلك لأن العود على ضربين؛ أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل، وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الأول في الظهور، وأنهم يعرفونه كما يعرفون ذلك، فمن ذلك قوله: إذ السبعون أقصدني سراها .... وسارت في المفاصل والعظام وصرت كأنني أقتاد عيرًا .... وعاد الرأس مني كالثغام أي: صار لون رأسي كلون الثغام. وهو نبت أبيض إذا يبس يصير كالشعر الأبيض، يقال: أقصد السهم: أصاب فقتل على المكان. واعلم أن حاصل معنى العود _على المختار_ راجع إلى أن يمسكها زمانًا يمكنه أن يطلقها فلا يطلقها، هذا في المطلق، وأما في المؤقت فأن يطأ في المدة، وفي الرجعية الرجعة كما ذكروه، وفي "ثم" الدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثمًا من نفس الظهار، ألا ترى أن الكفارة تتعلق بالعود لا بالظهار مطلقًا؟ قوله: (أن يراد بـ"ما قالوا" ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار)، يعني من الكف عن الاستمتاع بالمرأة من جماع أو لمس بشهورة، لأنه هو المقول فيه بلفظ الظهار، كقوله تعالى:

والمماسة: الاستمتاع بها من جماع، أو لمس بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، {ذَلِكُمْ} الحكم {تُوعَظُونَ بِهِ} لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه. فإن قلت: هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي: نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة، أي: نسمي ما يقول وهو: المال والولد. الانتصاف: هذا يقوي أن العود هو الوطء، وهو من أقولا مالك، وجعل داود العود إعادة لفظ الظهار، ومن رأى العود العزم على الوطء قال: العود إلى القول عود بالتدارك لا بالتكرار، وتداركه نقضه بنقيضه الذي هو العزم على الوطء، ومن حمله على الوطء قال: هو المقصود بالمنع، ويحمل قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي: مرة ثانية، ورأى أكثر العلماء قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} منعًا من الوطء قبل التكفير، حتى كأنه قال: لا يماس حتى يكفر. وقال الواحدي: كثر الاختلاف في معنى العود هاهنا من المفسرين والفقهاء. وقلت: القول المحصل ما ضبطه المصنف في الوجوه الثلاثة، وهو أن {يَعُودُونَ} إما مجرى على حقيقته، أو محمول على التدارك مجازًا، إطلاقًا لاسم المسبب على السبب، لأن المتدارك للأمر عائد إليه، وأن ما قالوا عبارة عن القول السابق، أو عن مسماه وهو تحريم الاستمتاع، والوجه الأول في "الكشاف" اللفظان فيه مستعملان في موضوعهما، وعلى القول الثاني وارد على الظاهر والمجاز في العود، والثالث عكس الأول، لورودهما مجازين، وهاهنا وجه رابع عكس الثاني كما يقال: ثم يعودون لما حرموه على أنفسهم من التماس والجماع.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوجه الأول: قول مجاهد والثوري، قال محيي السنة: ذهبا إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد بالعود العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار. وقال أهل الظاهر: العود هو إعادة لفظ الظهار، وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه، وهو قول أبي العالية. والوجه الثالث: قول مالك وأصحاب الرأي، قال محيي السنة: قال قوم: هو العزم على الوطء وهو قول مالك وأصحاب الرأي. قال الواحدي: قالوا: لو عزم على الوطء كان عودًا فيلزمه الكفارة. وقال الإمام: العود عند أبي حنيفة عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بشهوة لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء فعند استباحتها كان مناقضًا لقوله: أنت علي كظهر أمي. والوجه الرابع: قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري قالوا: لا كفارة عليه مال لم يطأها. وقال الإمام: هذا خطأ لأن تعقيب قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} بالفاء يوجب كون التكفير بعد العود، ويقتضي قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أن يكون الجماع بعد التكفير. ولعل المصنف إنما أهمل هذا الوجه لهذا، وإن اعتذر له صاحب "الانتصاف" ذلك العذر البعيد، والوجه الثاني عليه قول ابن عباس قال: {ثم يَعُودُونَ}: ثم يندمون فيرجعون إلى الألفة؛ لأن النادم والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة والكفارة، وأقرب الأقوال إلى هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما ذهب إليه الشافعي. قال محيي السنة: ذهب الشافعي إلى أن العود هو الإمساك عقيب الظهار زمانًا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه، لأن العود للقول هو المخالفة، وقال الفراء: يقال: عاد فلان لما قال، أي: فيما قال، وفي نقض ما قال، يعني: رجع عما قال، وذلك يبين ما قال الشافعي، وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله وتلزمه الكفارة. وقلت: تمام تقريره: أن حقيقة العود أن يصير الرجل إلى ما قد كان عليه قبل مباشرة هذا الفعل الطارئ، ولا شك أن الظهار تغيير حال كان عليه الرجل من التحليل، فإذا دام عليه ما يقتضيه الظهار من التحريم بأن يعقبه الطلاق، فقد جرى على ما ابتدأ به فلا كفارة، وأما إذا سكت فقد أذن بالرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار من إبقاء النكاح، كأنه قيل: والذين يعزمون على المفارقة والتحريم، ويتكلمون بذلك القول الشنيع، ثم يمسكون عنه زمانًا أمارةً على العود إلى ما كانوا عليه قبل الظهار، فكفارة ذلك كذا. وقال الواحدي: قال أصحابنا: العود المذكور ها هنا صالح للجماع كما قال مالك، والعزم على الجماع كما قال أهل العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فوجب تعلق الحكم به لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر. وقلت: بناء على هذه القضية ينبغي أن يكون الوجه الأول أولى الوجوه، لاسيما قول أهل الظاهر، لكن القول القوي هو ما اقتضاه المقام وساعده النظم الفائق، وهو قول حبر الأمة

قلت: نعم إذا وضع مكان (أنت) عضوًا منها يعبر به عن الجملة، كالرأس والوجه والرقبة والفرج، أو مكان الظهر عضوًا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ. أو مكان الأم ذات رحم محرم منه؛ من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع، نحو أن يقول: أنت علي كظهر أختي من الرضاع، أو عمتي من النسب، أو امرأة ابني أو أبي، أو أم امرأتي أو بنتها، فهو مظاهر، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وغيرهم رضوان الله عليهم نحوه. وقال الشافعي: لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها، وهو قول قتادة والشعبي. وعن الشعبي: لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمهات الوالدات دون المرضعات. وعن بعضهم: لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهارًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن عباس رضي الله عنهما، لأن ما قبله وهو قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} كما سبق وارد على الذم على ما كانوا عليه في الجاهلية، وعلى أن ذلك كان منكرًا من القول وزورًا، وكذلك ما بعده أي قوله: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} تخويف شديد لمن ارتكب تلك الجناية، وكما قال المصنف: "الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية"، كأنه قيل: الذين يرتكبون تلك الجناية، ويقولون ذلك القول المنكر والزور ثم يرجعون يندمون لأجل ذلك القول، فكفارته ما ذكر، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه، ثم قول الإمام الشافعي لقربه منه من حيث المعنى. قوله: (أو جماع)، يريد به قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: البنت المخلوقة من ماء الزاني يحرم وطؤها على الزاني خلافًا للشافعي رضي الله عنه، وأما قوله: "أو صهر" فيحمل على النكاح الصحيح والشبهة كما عند الشافعي. قوله: (لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها)، هذا خلاف ظاهر المذهب، وفي "الحاوي":

فإن قلت: فإذا امتنع المظاهر من الكفارة، هل للمرأة أن ترافعه؟ قلت: لها ذلك، وعلى القاضي أن يخبره على أن يكفر، وأن يحبسه؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأنه يضر بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع، فيلزم إيفاء حقها. فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر؟ قلت: عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر، لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها، فقال عليه الصلاة والسلام: "استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تشبيه المكلف غير البائنة وجزئها كالشعر بجزء محرم أنثى لم تكن حلًا، أي: كالأم والجدات والأخوات والعمات وغيرهن ظهار. قوله: (لما روي أن سلمة بن صخر البياضي)، حديثه من رواية الترمذي وابن ماجه والدارمي عن سلمه قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيبب غيري، فلما دخل

فإن قلت: أي رقبة تجزئ في كفارة الظهار؟ قلت: المسلمة والكافرة جميعًا، لأنها في الآية مطلقة. وعند الشافعي رضي الله عنه لا تجزئ إلا المؤمنة لقوله تعالى في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولا تجزئ أم الولد والمدبر والمكاتب الذي أدى شيئًا، فإن لم يؤد شيئًا جاز. وعند الشافعي: لا يجوز. فإن قلت: فإن أعتق بعض الرقبة، أو صام بعض الصيام ثم مس؟ قلت: عليه أن يستأنف، نهارًا مس أو ليلًا، ناسيًا أو عامدًا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزئه، وإن كان المس يفسد الصوم استقبل، وإلا بنى. فإن قلت: كم يعطى المسكين في الإطعام؟ قلت: نصف صاع من بر، أو صاعًا من غيره عند أبي حنيفة، وعند الشافعي مدًا من طعام بلده الذي يقتات فيه. فإن قلت: ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة بالإطعام، كما ذكره عند الكفارتين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شهر رمضان خفت فظاهرت حتى ينسلخ شهر رمضان، فينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرر رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال: "فصم شهرين متتابعين" قلت: وهل أصبت ما أصبت إلا من الصيام؟ قال: "فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينًا"، قلت: والذي بعثك بالحق نبيًا لقد بتنا وحشين ما أملك لنا طعامًا، قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها" الحديث. بنو بياضة بطن من بني زريق. النهاية: يقال: رجل وحش _بالسكون_ من قوم أوحاش؛ إذا كان جائعًا لا طعام له، وقد أوحش؛ إذا جاع.

قلت: اختلف في ذلك، فعند أبي حنيفة: أنه لا فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس، وإنما ترك ذكره عند الإطعام، دلالةً على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في خلاله، وعند غيره: لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء. فإن قلت: الضمير في {أَن يَتَمَاسَّا} إلام يرجع؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما ترك ذكره عند الإطعام، دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام يستأنف كما يستأنف الصوم)، الانتصاف: يقال له: إذا جعلت ذكر التماس في بعضها، وترك ذكره في بعضها موجبًا للفرق، فلم جعلته مؤثرًا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم، وقد نطقت الآية بالتفرقة، فلم يمكن صرفه إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه، صرفه إلى الآخر. فإن قيل: فكان تقييده بالتماس في موضع واحد، ليحمل عليه المطلقان الباقيان كافيًا، فما فائدة ذكره بعد الصوم؟ والجواب: أن ذكره مع العتق يفيد تحريم الوطء قبله، ولا يتصور الوطء في أثناء العتق، إذ لا يتبعض ولا يتفرق، وإنما احتيج إلى الصيام الواقع على التوالي ليفيد تحريم الوطء قبل الشروع وبعد الشروع إلى التمام، ولو لم يذكر لذهب الوهم إلى تحريمه قبل الشروع خاصة، واستغني عن ذكره في الطعام بذكره في الصيام، لأنه مثله في التعدد والتوالي، وإمكان الوطء في خلاله، هذا على أن العتق لا يتجزأ، وعن ابن القاسم: من أعتق شقصًا من عبد يملك جميعه ثم إن أعتق بقيته عن الكفارة جاز، وهو خلاف القواعد. فإن قيل: ارتفاع التحريم بالكفارة بعد التماس إما يشترط فيه عدم التماس أولًا، فإن كان الأول فلا يرتفع التحريم بالكفارة، وإن كان الثاني لزم ارتفاع التحريم بالكفارة التي يتخللها التماس.

قلت: إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها. {ذَلِكَ} البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا {بِاللهِ وَرَسُولِهِ} في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} التي لا يجوز تعديها {وَلِلْكَافِرِينَ} الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها {عَذَابٌ أَلِيمٌ}. [{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 5 - 6] {يُحَادُّونَ} يعادون ويشاقون {كُبِتُوا} أخزوا وأهلكوا {كَمَا كُبِتَ} من قبلهم من أعداء الرسل. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق، {وقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به، {ولِلْكَافِرِينَ} بهذه الآيات {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب بـ"لهم"، أو بـ {مُّهِينٌ}، أو بإضمار "اذكر" تعظيمًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فجوابه أن التماس مناف لصحة الكفارة واعتبارها في رفع التحريم، فإن وقع قبل الشروع في الكفارة تعذر الحكم ببطلان الكفارة، لأن محل الحكم الذي هو الكفارة لم يوجد، أما إن وقع في أثنائها، فالمحل المحكوم فيه بعدم الصحة قائم، فوجب الحكم به، فهو كالحديث إذا كان قبل الطهارة لا يبطل شيئًا لم يوجد، وإن وقع في أثنائها أبطلها، تم كلامه. قوله: (أو بإضمار "اذكر" تعظيمًا)، اعلم أن قوله: {ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} إما تتميم أو تذييل، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] قال المصنف: " {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي عليهم، وضعًا للمظهر موضع المضمر، للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم، واللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، فيدخلوا فيه دخولًا

لليوم، {جَمِيعًا} كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة، كما تقول: حي جميع {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} تخجيلًا لهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوليًا"، كذلك ها هنا إذا جعل اللام في {لِلْكَافِرِينَ} للعهد، كان {لِلْكَافِرِينَ} وضعًا للمظهر موضع المضمر، والمعنى ما قال: "للكافرين الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها"، أي: لا يكدحون منها، ويكون {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} متعلقًا بالجار والمجرور، وإليه الإشارة بقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب بـ"لهم"، فوضع المضمر موضع "الكافرين"، فيكون تتميمًا، وإذا جعل اللام للجنس ليدخل فيه أولئك المحادون دخولًا أوليًا يكون تذييلًا، وينتصب الظرف بإضمار "اذكر لتمام الكلام هناك، فتستقل دلالة الجملة المبتدأة، فيعظم شأن اليوم، ويجتمع لهم ذل الدارين؛ لأن المراد بقوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ}: الذل والصغار في الدنيا، كما قال: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم"، والكبت: ما جرى عليهم يوم الخندق. الراغب: قال: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} لأن قبله {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} فقد جعل الكبت جزاء من آثر حزبًا غير حزب الله ورسوله، وحدًا غير حدهما، والكبت: الإذلال قبل الغلب والقهر والتخييب، فلما أخبر الله تعالى بالكبت عمن حاد الله ورسوله وجانبهما وصار في حد غير حدهما، وصف العذاب الذي ينزل به بالإذلال والهوان، ويشهد لذلك ما جاء في خاتمة السورة: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}. قوله: (حي جميع)، الأساس: هو جميع الرأي، وجميع الأمر، وحي جميع ورجل مجتمع: استوت لحيته وبلغت غاية شبابه.

وتوبيخًا وتشهيرًا بحالهم، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار، لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، {أَحْصَاهُ اللَّهُ} أحاط به عددًا لم يفته منه شيء، {ونَسُوهُ} لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه، لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي، وإنما تحفظ معظمات الأمور. [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 7] {مَا يَكُونُ} من (كان) التامة، وقرئ بالياء والتاء، والياء على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي و {مِن} فاصلة؛ أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، والنجوى: التناجي، فلا تخلو إما أن تكون مضافةً إلى ثلاثة، أي: من نجوى ثلاثة نفر. أو موصوفةً بها، أي: من أهل نجوى ثلاثة، فحذف الأهل. أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغةً، كقوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] وقرأ ابن أبي علبة: (ثلاثةً وخمسةً)، بالنصب على الحال بإضمار"يتناجون"؛ لأن {نَجْوَى} تدل عليه، أو على تأويل {نَجْوَى} ب"متناجين"، ونصبها من المستكن فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما تحفظ معظمات الأمور)، بيان لتعليل {نَسَوْهُ} بقوله: "لأنهم تهاونوا به". قوله: ({مَا يَكُونُ}، من "كان" التامة، وقرئ بالياء والتاء)، قال ابن جني: بالتاء: أبو جعفر وأبو حية، والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه، لما فيه من الشياع وعموم الجنسية، كقولك: ما جاءني من امرأة، وما حضرني من جارية، وأما التأنيث فلاعتبار اللفظ، كما تقول: ما قامت امرأة ولا حضرت جارية، و {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ}. قوله: (ونصبها)، بالجر عطف على "تأويل"، أو بالرفع فهو مبتدأ، خبره "من المستكن"،

فإن قلت: ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن قومًا من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين: ثلاثةً وخمسةً، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك {ولا أَدْنَى} عدديهم {ولا أَكْثَرَ إلاَّ} والله معهم يسمع ما يقولون، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية: كانوا يومًا يتحدثون، فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضًا ولا يعلم بعضًا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضًا فهو يعلم كله، وصدق؛ لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها؛ لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني: أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى، والمتخالين للشورى، والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد، وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهى والأحلام، ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم: الاثنان فصاعدًا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب. ألا ترى إلى عمر الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعني يجوز أن يكون {نَّجْوَى} بمعنى متناجين، ويكون نصب "ثلاثة" على الحال من الضمير المستكن في النجوى. قوله: (بغير سبب)، أي: بغير سبب خارجي، يعني أن سبب العلم بذلك هو ذاته. قوله: (والمندبون لذلك)، أصله: المنتدبون، فقلبت التاء دالًا وأدغم، أي: مدعون للشورى، يقال: ندبه لأمر فانتدب له، أي: دعاه له فأجاب. الأساس: ندب لكذا أو إلى كذا، وفلان مندوب لأمر عظيم ومندب له. قوله: (كيف ترك الأمر شورى بين ستة)، قال صاحب "الكامل في التاريخ": إن عمر ابن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيًا

إلى سابع؟ فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال: {ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ} فدل على الاثنين والأربعة، وقال {ولا أَكْثَرَ} فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه. وفي مصحف عبد الله: إلا الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا. وقرئ: {ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ}، بالنصب على أن "لا" لنفي الجنس. ويجوز أن يكون: (ولا أكثر)، بالرفع معطوفًا على محل "لا" مع {أَدْنَى}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته، وقيل له: عبد الله بن عمر؟ قال: كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟ ! ثم قال: إن استخلفت فقد استخلفت من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ثم قال: اجتمعت بعد مقالتي أن أولي رجلًا هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي رضي الله عنه، فرهقتني غشية فرأيت رجلًا دخل جنة، فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب على أمره، فما أردت أن أتحملها حيًا وميتًا، عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم من أهل الجنة"، وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلًا، فلما أصبح عمر دعاهم رضوان الله عليهم وقال: أني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ... القصة بتمامها. قوله: (فدل على الاثنين والأربعة)، فيكون التقدير: ولا اثنين إلا هو ثالثهما، ولا أربعة إلا هو خامسهم. قوله: ({وَلَا أَكْثَرُ} بالنصب)، وهي المشهورة، وبالرفع شاذة. قوله: (معطوفًا على محل "لا" مع {أَدْنَى})، قال: لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يكون ارتفاعهما عطفا على محل {مِن نَّجْوَى} كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. ويجوز أن يكونا مجرورين عطفًا على {نَّجْوَى}، كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. وقرئ: (ولا أكبر) بالباء. ومعنى كونه معهم: أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة. وقرئ: (ثم ينبئهم) على التخفيف. [{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ويَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ ومَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وإذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ويَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المَصِيرُ} 8] كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين، وتواص بمعصية الرسل ومخالفته. وقرئ: (ينتجون بالإثم والعدوان) بكسر العين، و (معصيات الرسول). {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} يعني أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك يا محمد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"لا" الثانية على هذا مؤكدة غير عاملة، كقولك: ليس زيد ولا أخوه منطلقين، أي: ليس زيد وأخوه منطلقين، فـ"لا" مزيدة للتأكيد. قوله: (وقرئ: "ينتجون")، حمزة: بنون ساكنة بعد الياء، وضم الجيم، والباقون: بتاء مفتوحة بين الياء والنون وألف بعد النون وفتح الجيم. قوله: (أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك)، عن البخاري ومسلم والترمذي عن

والسام: الموت، والله تعالى يقول: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 67] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}: [الأنفال: 64]. {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} كانوا يقولون: ما له إن كان نبيًا لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول، فقال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذابًا. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ ومَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئًا إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} 9 - 10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون للمؤمنين، أي: إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر {وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوَى}. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه"، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عائشة رضي الله عنها قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: "وعليكم" الحديث. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: السام عليكم، وقالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فأنزل الله تعالى الآية. قوله: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر،

وروي: "دون الثالث". وقرئ: (فلا تناجوا)، وعن ابن مسعود: إذا انتجيتم فلا تنتجوا. {إنَّمَا النَّجْوَى} اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان، بدليل قوله تعالى: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} والمعنى: أن الشيطان يزينها لهم، فكأنها منه ليغيظ الذين آمنوا ويجزنهم {ولَيْسَ} الشيطان أو الحزن {بِضَارِّهُمْ شَيْئًا إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ}. فإن قلت: كيف لا يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه، ولا تباشر امرأة امرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها" لا تباشر، أي: لا تنظر إلى بشرتها، لقوله: فتصفها. قوله: (بدليل قوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا})، أي: التعريف منه للعهد، والمعهود شيئان أحدهما: قوله: {ويَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ}، وثانيهما قوله: {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ} فلا تتناجوا بالإثم والعدوان، والذي يدل على أن المراد الأول قوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، يعني إنما يحزن المؤمنون من تناجي اليهود والمنافقين، ويعضده جواب السؤال: "كانوا يوهمون المؤمنين". قوله: (كيف لا يضرهم الشيطان والحز إلا بإذن الله؟ )، أي بخلقه وتقديره، كذا قدر الإمام، وقال الواحدي: أي ليس الشيطان بضارهم شيئًا إلا بما أراد الله ذلك، كان المؤمنون إذا رأوهم متناجين قالوا: لعلهم يتناجون بما بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا من قتل أو موت أو هزيمة، قال الله تعالى: {ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئًا} أي: بما أراد الله.

قلت: كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا، وأن أقاربهم قتلوا، فقال: ولا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الموهم إلا بإذن الله، أي: بمشيئته، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على ألغزاة. وقرئ: {لِيَحْزُنَ} و (ليحزن). [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 11] {تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ} توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني، أي: تنح؛ ولا تتضاموا. وقرئ: (تفاسحوا)، والمراد: مجلس رسول الله، وكانوا يتضامون فيه على القرب منه، وحرصًا على كلامه، وقيل: هو المجلس من مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلقِتَالِ} [آل عمران: 121] وقرئ: {فِي المَجَالِسِ} قيل: كان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا، فيأبون لحرصهم على الشهادة. وقرئ: (في المجلس) بفتح اللام: وهو الجلوس، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {لِيَحْزُنَ} و"ليحزن")، الثانية: لنافع، والأولى: للباقين. قوله: (وقرئ: "تفاسحوا")، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وهذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل: تفسحوا لم يكن فيه صراح، بدليل: "ليفسح بعضكم عن بعض"، وإنما ظاهر معناه: ليكن هناك تفسح، وأما التفاسح فتفاعل، فهو لما فوق الواحد. قوله: ({فِي المَجَالِسِ})، عاصم، والباقون: "في المجلس" بكسر اللام، والفتح شاذ.

أي: توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه، {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك. {انشُزُوا} انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم، ولا تثبطوا ولا تفرطوا. {يَرْفَعِ اللَّهُ} المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة {دَرَجَاتٍ}، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والعالمين منهم خاصة {دَرَجَاتٍ})، الانتصاف: وقع في الجزاء رفع الدرجات مناسبة للعمل، لأن المأمور به تفسيح المجالس، لئلا يتنافسوا في القرب من المكان المرتفع بحلول الرسول فيه، فالمفسح حابس لنفسه عما يتنافس فيه من الرفعة تواضعًا فجوزي بالرفعة، كقوله: من تواضع لله رفعه الله، ثم لما علم أن أهل العلم يستوجبون رفع المجلس خصهم بالذكر ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعًا لله تعالى، يريد أنه من باب "ملائكته ... وجبريل". وقلت: وفي إدخال الذين أوتوا العلم في حكم رفع المنزلة بسبب امتثال الأوامر مع الذين آمنوا، ثم في إخراجهم عنهم والعطف عليهم مستقلة، إيذان بأن العمل الواحد تتفاوت درجة فاعله بحسب التخلي عن العلم والتحلي به إلى غايات بعيدة، وأن العمل مع علو رتبته يكتسي من العلم المقرون به من الرفعة ما لا يكتسبه إذا انفرد عنه، وقدر القاضي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}: بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة، ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا بين العلم والعمل، ويعضده ما روى الدارمي عن ابن عباس قال: يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات

{واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرئ بالتاء والياء. وعن عند الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه كان إذا قرأها قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "بين العالم والعابد مئة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنةً". وعنه عليه السلام: " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى محيي السنة عن ابن مسعود أنه قال: يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية، ولترغبكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم. وروعيت في هذا التركيب لطيفة وهي أن من يشهد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين أحد رجلين؛ عامل يسمع للعمل، وعالم عامل يسمع للعمل والاستنباط والتعليم، فأراد الله سبحانه وتعالى مدح الفريقين، وتفضيل أحدهما على الآخر من حيث لا يلزم منه نقصه، أتى بالعام وعطف عليه الخاص، وأبرزهما في معرض الجملتين، فيكون من باب عطف التقدير لا الانسحاب، فالدرجات ظرف للفعل المقدر، ويضمر للمذكور أحط منه مما ناسب المقام كما قدره القاضي، وهو على أسلوب قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قصد فيه إلى بينان فضل الذكر على الأنثى دون حط منزلة الأنثى، إذ لو قيل: للأنثى نصف حظ الذكر كان القصد إلى تنقيص الأنثى. قوله: ({بِمَا تَعْمَلُونَ}، قرئ بالتاء) وهي المشهورة، وبالياء التحتانية: شاذة. قوله: (حضر الجواد المضمر)، النهاية: الحضر بالضم: العدو، وأحضر يحضر، فهو محضر: إذا عدا، وتضمير الخيل: هو أن يظاهر بالعلف حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتًا لتخف. قوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، الحديث بطوله أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن أبي الدرداء.

وعنه عليه السلام: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء، ثم الشهداء" فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله! وعن ابن عباس: خير سليمان بين العلم والمال والملك، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه. وقال عليه السلام: "وأوحى الله إلى إبراهيم: يا إبراهيم، إني عليم أحب كل عليم". وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم! وأي شيء فات من أدرك العلم! وعن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابًا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن الدارمي عن عمرو بن كثير عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فينه وبين النبيين درجة واحدة". قوله: (كاد العلماء يكونون أربابًا)، هذا من الغلو، ويمكن أن يذهب بهذا الحكم إلى معنى الإلحاق، كما تقول: كاد زيد يكون أسدًا، أي: قرب أن يلحق بالأسد لما فيه من الجرأة، وأن يراد التحويل نحو: كاد زيد أن يكون أميرًا. والإلحاق يستدعي المساواة من كل الوجوه، والعلماء إذا تخلقوا بأخلاق الله بقدر استعدادهم لكونهم دعاة للخلق إلى دين الله هداة قادة إلى صراطه المستقيم صح أن يتخصصوا به، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها ... " الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة، هذا إذا اعتبر في الرب معنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، لأن الناس مفتقرون إليهم في أمور معاشهم ومعادهم، وهم خلفاء الله في أرضه، وأما إذا نظر إلى معنى المالكية فيحمل الحكم على التحويل، أي: كادوا يكونون ملوكًا وأمراء لما بأيديهم أزمة الحل والعقد، كما جاء في تفسير قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] عن ابن عباس:

وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير. وعن الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وأَطْهَرُ فَإن لَّمْ تَجِدُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 12 - 13] {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} استعارة ممن له يدان. والمعنى: قبل نجواكم كقول عمر: من أفضل ما أوتيت العرب الشعر، يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أولو الأمر: الفقهاء والعلماء، الذين يعلمون الناس معالم دينهم، في "المعالم". وعن الدارمي عن عطاء: أولو الأمر: أولو العلم، ويعضد هذا الوجه قوله: "وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير". قوله: (لم يوطد)، قال ابن الأثير: يقال: وطدت الأرض أطدها؛ إذا دستها لتتصلب. الجوهري: وطدت الشيء أطده وطدًا، أي: أثبته وثقلته، والتوطيد مثله. قوله: (العلم ذكر)، أي: العلم صفة كمال لا ينتجه إلا الكملة، لأنه مركوز في الجبلة كمال الذكر ونقصان الأنثى، ومن ثم يقولون: هو الرجل، وقال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}، عيب عليهن صفة النساء، من النشاء في الزينة والنعومة، وسلب عنهن صفة الرجال من البيان في المقال، ومجاراة الخصوم في القتال.

ويستنزل به اللئيم، يريد: قبل حاجته، {ذَلِكَ} التقديم خير {خِيْرٌ لَكُمْ} في دينكم {وَأَطْهَرُ} لأن الصدقة طهرة. روي أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون حتى أملوه وأبرموه، فأريد أن يكفوا عن ذلك، فأمروا بأن من أراد أن يناجيه، قدم قبل مناجاته صدقةً. قال علي رضي الله عنه: لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تقول في دينار؟ " قلت: لا يطيقونه. قال: "كم؟ " قلت: حبةً أو شعيرةً؛ قال: "إنك لزهيد"، فلما رأوا ذلك اشتد عليهم فارتدعوا وكفوا، أما الفقير فلعسرته، وأما الغني فلشحه. وقيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل: ما كان إلا ساعةً من نهار. وعن علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآيةً ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم. قال الكلبي: تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر: كان لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. قال ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها، وقيل: هي منسوخة بالزكاة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قال علي: لما نزلت)، الحديث، أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه إلى قوله: "إنك لزهيد"، قال: فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية، قال: في خفف الله عن هذه الأمة. وروى رزين عنه: ما عمل بهذه الآية غيره. لزهيد، أي: إنك قليل الرغبة في الدنيا، فلا جرم قدرت على حسب رغبتك فيها.

{أَأَشْفَقْتُمْ} أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه، وأن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء {فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به وشق عليكم، و {وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات. {بِمَا تَعْمَلُونَ} قرئ بالتاء والياء. [{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ ولا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} 14 - 19] كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا تفرطوا في الصلاة)، أشعر بأنه جعل: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} جوابًا لقوله: {فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا} قال أبو البقاء: قيل: إذ بمعنى "إن" الشرطية، وقيل: هي على بابها ماضية، والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصلاة. وقلت: إنما قال: لا تفرطوا في الصلاة، لأن معنى الإقامة توفية حدودها وإدامتها. الراغب: وفي تخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط، ولهذا لم يؤمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة، وكثير من الأفعال التي حث الله على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} [الرحمن: 9].

{مَّا هُم مِّنكُمْ} يا مسلمون {ولا مِنْهُمْ} ولا من اليهود، كقوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، {ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ} أي يقولون: والله إنا لمسلمون، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام {وهُمْ يَعْلَمُونَ} أن المحلوف عليه كذب بحت. فإن قلت: فما فائدة قوله: {وهُمْ يَعْلَمُونَ}؟ قلت: الكذب: أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه، سواء علم المخبر أو لم يعلم، فالمعنى: أنهم الذين يخبرون، وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه، وهم عالمون بذلك متعمدون له، كمن يحلف بالغموس. وقيل: كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه: " يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان"، فدخل ابن نبتل وكان أزرق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " فحلف بالله ما فعل، فقال عليه السلام: " فعلت" فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت. {عَذَابًا شَدِيدًا} نوعًا من العذاب متفاقمًا، {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه. أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة. وقرئ: (إيمانهم) بالكسر، أي: اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها، أو إيمانهم الذي أظهروه {جُنَّةً} أي: سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم {فَصَدُّوا} الناس في خلال أمنهم ولامتهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وكانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "إيمانهم"، بالكسر)، قال ابن جني: قرأها الحسن، هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة، وفيه لف ونشر.

وإنما وعدهم الله العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]. {مِّنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلًا من الإغناء. وروي أن رجلا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسها وأموالنا وأولادنا. {فَيَحْلِفُونَ} لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا على ذلك، {ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} من النفع، يعني: ليس العجب من حلفهم لكم، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر، وأن لهم نفعًا في ذلك: دفعًا عن أرواحهم، واستجرار فوائد دنيوية، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون، ولكن الغجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل، والمراد: وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة، والقرآن ناطق بثباته نطقًا مكشوفًا كما ترى هذه الآية وفي قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 23 - 24] ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم. وقيل: عند ذلك يختم على أفواههم. {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون)، يعني: أنهم في الدنيا إذا أوعدوا بشيء من العذاب لا يقفون على حقيقته ضرورة، بخلافه في الآخرة. قوله: (ومرونهم عليه)، الجوهري: مرن على الشيء يمرن مرونًا ومرانةً: تعوده واستمر عليه. قوله: (لحسبان أن الإيمان)، علة لحسبانهم أنهم على شيء.

حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ} استولى عليهم، من: حاذ الحمار العانة: إذا جمعها وساقها غالبًا لها. ومنه: كان أحوذيًا نسيج وحده، وهو أحد ما جاء على الأصل، نحو: استصوب واستنوق، أي: ملكهم {الشَّيْطَانُ} لطاعتهم له في كل ما يريده منهم، حتى جعلهم رعيته وحزبه {فَأَنسَاهُمْ} أن يذكروا الله أصلًا، ولا بقلوبهم ولا بألسنتهم. قال أبو عبيدة: حزب الشيطان: جنده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من: حاذ الحمار العانة)، الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير، أي: أدبار فخديه فيعنف في سوقه، وقوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي: استاقهم مستوليًا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان، أي: استولى على حاذيها أي: جانبي ظهرها، ويقال: استحاذ وهو القياس، واستعارة ذلك كقولهم: اقتعده الشيطان وارتكبه، والأحوذي: الخفيف الحاذق بالشيء من الحوذ أي: السوق. قوله: (ومنه: كان أحوذيًا)، الأساس: ومن المجاز: رجل أحوذي يسوق الأمور أحسن المساق لعلمه بها. قوله: (نسيج وحده)، النهاية: في حديث عمر رضي الله عنه: يدلني على نسيج وحده، يريد رجلًا لا عيب فيه، وأصله أن الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره، وهو فعيل بمعنى مفعول، ولا يقال إلا في المدح. قوله: (وهو أحد ما جاء على الأصل)، قال الزجاج: استحوذ: استولى، يقال: حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها، وهذا مما خرج على أصله، ومثله: أحوذت وأطيبت، والأكثر: أحذت وأطبت، إلا أن استحوذ، جاء على الأصل لأنه لم يقل: على حاذ، لأنه إنما بنى استفعل في أول وهلة، كما بنى افتقر على افتعل من الفقر، ولم يقل: منه فقر، ولا استعمل بغير

[{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} 20] {فِي الأَذَلِّينَ} في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحدًا أذل منهم. [{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 21] {كَتَبَ اللَّهُ} في اللوح {لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي} بالحجة والسيف، أو بأحدهما. [{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} 22] {لا تَجِدُ قَوْمًا} من باب التخييل. خيل أن من الممتنع المحال: أن تجد قومًا مؤمنين يوالون المشركين. والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيادة، ولم يقل: حاذ عليهم الشيطان، ولو جاء استحاذ لكان صوابًا، ولكن استحوذ هاهنا أجود، لأن الفعل في هذا المعنى لا يستعمل إلا بزيادة. قوله: (من باب التخييل)، أي: من تنزيل الموجود الكائن منزلة المعدوم الذي لا يمكن تصوره إلا في خزانة الخيال. قال الشاعر: وكأن محمر الشقيـ .... ـق إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر .... ن على رماح من زبرجد

وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانية أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيدًا وتشديدًا بقوله: {ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} وبقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} وبمقابلة قوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] بقوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أوليا الله ومعاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه. {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} أثبته فيها بما وفقهم فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإليه أشار بقوله: "حقه أن يمنع ولا يوجد بحال مبالغة". ويجوز أن يكون من باب الكناية، فنفى الوجدان لانتفاء الموجودين، كما نفى العلم في قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] الانتفاء المعلوم، ولأن الخطاب عام، كأنه قيل: أيها المخاطب، إنك إذا تقصيت في الدنيا قومًا قومًا، لا تجد قومًا يجمع بين الإيمان بالله، وبين موادة أعدائه. قوله: ({كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ}، أثبته فيها بما وفقهم فيه)، جعل الكتب بمعنى الإثبات بسبب توفيق الطاعات وقيامهم عليها، قال القاضي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، لأن أعمال الجوارح لا تثبت فيها. قلت: وقد نقلنا عن "شرح السنة" أن مذهب السلف الصالح أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فمعنى الآية أن يقال: إن ذكر القلب وثبوت الإيمان ها هنا، كذكره وثبوت الإثم فيه في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ} [البقرة: 283] لأنه رئيس الأعضاء، وحصول الإيمان فيه كحصوله في سائر الجسد، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ولا ارتياب أن رسوخ الإيمان في القلب إنما يكون بآداب الجوارح في الأعمال الصالحة ومواظبتها عليها، ألا ترى كيف أتى باسم الإشارة بعد أن وصف القوم

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالتصلب في دين الله ومجانبة أعداء الله، ومباعدة الأقارب وإن كانوا آباءهم والاحتراس عن معاشرتهم! فكيف يستتب ذلك بمجرد التصديق؟ ! الراغب: الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، والأصل في الكتابة النظم بالخط وفي المقال النظم باللفظ، ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب، فالإرادة مبتدأ والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبتدأ إذا أريد به توكيده بالكتابة التي هي المنتهى، قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] فيه إشارة إلى أنهم بخلاف {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، لأن معنى {أَغْفَلْنَا} من أغفلت الكتاب: إذا جعلته خاليًا من الكتابة ومن الإعجام. وقوله: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] إشارة إلى أن ذلك مثبت له ومجازى به. انتهى كلامه. فإن قلت: أي الكتبتين _أعني: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ} و {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} _ أبلغ؟ قلت: كل منهما مدل بنوع من التوكيد، وبضرب من التقرير، فالأولى: مؤكدة بلام القسم والنون وبالضمير تمهيدًا لذكر المرسلين على منوال قوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] أي: يؤذون رسوله، وإلا فالله الغالب أبدًا، ونظيره قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

وشرح له صدورهم {وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} بلطف من عنده حييت به قلوبهم. ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي رواد: انه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إلى: {لا تَجِدُ قَوْمًا} ". وروي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الثانية: فبذكر القلوب وإثبات الإيمان فيه، ثم التوفيق بتأييدهم بروح من الله، وإدخالهم دار النعيم والخلد المقيم، ثم حلول الرضوان، ورضوان من الله أكبر، وتسميتهم بحزب الله ووسمهم بسمة حقيقة الفلاح والفوز بالمباغي. اللهم اجعلنا من الفائزين وأدخلنا في عبادك الصالحين. قوله: (بلطف من عنده)، قال القاضي: وهو نور القلب أو القرآن أو النصر على أعداء الله. قال سهل رحمه الله: حياة الروح بالذكر، وحياة الذكر بالذاكر، وحياة الذاكر بالمذكور. قوله: (وعن عبد العزيز بن أبي رواد)، ويروى "وراد" ويروى "رواح"، ولعل الصحيح الأول، قال صاحب "الكاشف" في كتاب "أسماء الرجال في معرفة من له ذكر في الكتب الستة": عبد العزيز بن أبي رواد _بفتح الراء وتشديد الواو_ مولى المهلب بن أبي صفرة، روى عن عكرمة وسالم، وكان ثقة عابدًا معمرًا مات سنة ثلاثين ومئة.

وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصكه سقط منها، فقال له رسول الله: " أو فعلته؟ " قال: نعم، قال: " لا تعد" قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لقتلته. وقيل في أبي عبيدة بن الجراح: قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد. وفي أبي بكر: دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هذا لم أجده في الكتب التي يعتمد عليها، وفي "الاستيعاب" أن أبا قحافة عثمان بن عامر، والد أبي بكر رضي الله عنهما، أسلم يوم فتح مكة، وفي "الجامع" وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وأما قتل أبي عبيدة أباه فروينا عن البخاري ومسلم عن أنس قال: كان قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر ببدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، ونهاه فلم ينته.

وقال لرسول الله: دعني أكر في الرعلة الأولى: الأولى: قال: " متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري! " وفي مصعب بن عمير: قتل أخاه عبيدًا بن عمير يوم أحد. وفي عم بن الخطاب: قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة وعبيدة بن الحارث: قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الرعلة الأولى)، النهاية: يقال للقطيعة من الفرسان: رعلة، ولجماعة الخيل: رعيل. قوله: (وفي علي وحمزة وعبيدة بن الحارث)، روى أبو داود عن علي رضي الله عنه: لما كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارز؟ إلى قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة. وفي رواية رزين: قال علي: فأما أنا وحمزة فأنجزنا صاحبينا، وأما عبيدة والوليد فأثخن كل واحد منهما صاحبه. الحديث. قوله: (كتب من حزب الله)، روى السلمي عن أبي عثمان: "حزب الله: من يغصب لله ولا تأخذه في الله لومة لائم". تمت السورة حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسوله صلى الله عليه وسلم.

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية، وهي أربع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} 1 - 2] صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هر النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحشر مدنية وهي أربع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين قوله: (لا ترد له راية)، كناية عن نصرته، وعدم خذلان من عقد له راية من أمراء السرايا، ومضي أمره، ونفوذ سلطانه، وعلو مرتبته وشأنه، قال الحطيئة:

ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبًا غيلة وكان أخاه من الرضاعة، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف، فقال لهم: اخرجوا من المدنية، فقالوا: الموت أحب إلينا من ذاك، فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجزوا للخروج، فدس عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن خرجتم لنخرجن معكم، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين قوله: (فحالفوا عليه)، أي: على ضرره صلوات الله عليه، الجوهري: حالفه: عاهده وتحالفوا: أيك تعاهدوا، وضمن حالفوا معنى الاجتماع، أي: اجتمعوا عليه مخالفين. وعن بعضهم: وحالفوا عليه، أي: تألبوا عليه، واجتمعوا على خلافه. قوله: (فقتل كعبًا غيلة)، النهاية: وهي أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة: فعلة من الاغتيال، وكان من حديث قتله على الاختصار من رواية البخاري ومسلم وأبي داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب فإنه آذى الله ورسوله؟ " قال محمد بن سلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم" قال: ائذن فلأقل، قال: "قل"، فأتاه وتكلم بما شاء من الكذب، وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا ليلًا ودعوه، فقالت امرأته: إني لأسمع صوت دم، قال: إنما هو محمد رضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلًا لأجاب، فلما نزل قتلوه. قوله: (ثم صبحهم بالكتائب)، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فدس)، الدس هو إخفاء المكر والخديعة، أي: بعث إليهم خفية هذا القول.

فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله الرغب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين: طلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فأنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة. اللام في {لأَوَّلِ الحَشْرِ} تتعلق بـ {أَخْرَجَ}، وهي اللام في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] وقولك: جئته لوقت كذا. والمعنى: أخرج الذين كفورا عند أول الحشر. ومعنى أو الحشر: أن هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. أو هذا أول حشرهم؛ وآخر حشرهم: إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل: آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأن المحشر يكون بالشام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فدربوا على الأزقة)، النهاية: يقال: الدرب- بفتح الراء- للنافذ من المدخل، وبالسكون؛ لغير النافذ. قوله: (وهي اللام في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24])، أي: لوقت حياتي. الانتصاف: كأنه يشير إلى لام التاريخ، كقوله: كتبته لعام كذا أو لشهر كذا. قوله: (من جزيرة العرب)، روي الزجاج عن الخليل أنه قال: جزيرة العرب معدنها ومسكنها، وإنما سمي بها لأن بحر الحبشة وبحر فارس والفرات ودجلة قد أحاطت بها وهي أرضها ومعدنها، قد سبق في أول البقرة فيها كلام مشبع.

وعن عكرمة: من شك أن المحشر هاهنا- يعني الشام- فليقرأ هذه الآية. وقيل: معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم؛ لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} لشدة بأسهم ومنعتهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عددهم وعدتهم، وظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله {فَأَتَاهُمُ} أمر الله {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم: وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه، وذلك مما أضعف قوتهم وفل من شوكتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم. وهذا كله لم يكن في حسبانهم. ومنه أتاهم الهلاك. فإن قلت: أي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه أخرجهم)، عطف على قوله: "أخرج الذين كفروا عند أول الحشر"، على الأول منسوب إلى اليهود، وعلى الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. النهاية: في الحديث: "انقطعت الهجرة إلا من ثلاث؛ جهاد أو نية أو حشر" أي: جهاد في سبيل الله، أو نية يفارق بها الرجل الفسق والفجور إذا لم يقدر على تغييره، والحشر هو الجلاء عن الأوطان بما ينال الناس من الخطب، وقيل: أراد بالحشر الخروج في النفير إذا عم. قوله: (غرة)، الأساس: الغرة: الغفلة، يقال: اغتررت الرجل: إذا طلبت غرته، أي: غفلته.

قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم؛ وفي تصيير ضميرها اسمًا ل"أن" وإسناد الجملة إليه: دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم؛ وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم. وقرئ: (فآتاهم الله) أي: فآتاهم الهلاك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها)، قال صاحب "الفرائد": وليس بذلك، بل {حُصُونُهُم} مرتفعة بـ {مَّانِعَتُهُمْ} لأن اسم الفاعل إذا كان متعمدًا عمل، وهو خبر أن مع مرفوعها، مثله عن صاحب "الفلك الدائر" قال: إن {حُصُونُهُم} لا ترتفع بأنه مبتدأ كما ظنه إلا على وجه ضعيف، والصحيح أنه فاعل {مَّانِعَتُهُمْ}، فـ {مَّانِعَتُهُمْ} اسم فاعل معتمد على ما قبله، لأنه في الحقيقة خبر المبتدأ، فيعمل فيما بعده عمل الفعل، نحو: زيد قائم أبوه. وكذا عن صاحب "الكشف". وقلت: صاحب المعاني لا ينظر إلا إلى أصل المعنى، ثم إلى فائدة عدو له عن أصله، ولا شك أن أفعال القلوب من دواخل المبتدأ والخبر، وأن الأصل: ظنوا أن لا يخرجوا لقوله: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} بناء على قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليطابق ما قبله بإيقاع الناصبة للفعل بعدها، فخولف ليؤذن بأن ظن المؤمنين كان على الرجاء والطمع، وظنهم على العلم واليقين، فعلم من التأسيس أن بناء أمره على الجزم والثبوت، ثم في المرتبة الثانية، ظنوا أن حصونهم تمنعهم نظرًا إلى كلام أوساط الناس كما يعلم من مفهوم سؤاله، ثم لما أريد مزيد التوكيد قيل: ظنوا أن حصونهم لإفادة التخصيص، وأن ليس لحصونهم صفة سوى المنع، وأنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لابد منه، وإليه أشار بقوله: "دليل على فرط وثوقهم بحصانتها"، ثم في المرتبة الرابعة ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم ليتقوى الحكم لإفادة تكثير الإسناد، وهو المراد من قوله: "دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم"، وإن لم يرد ما ذكر فما بال الترتيب لم يترك على أصله وهو: ظنوا أن لا يخرجوا؟ ! وأما قوله: إن حصونهم لا ترتفع بأنه مبتدأ كما ظنه إلا على وجه ضعيف، فيقال: إن صاحب المعاني كم له اختيار الوجه الضعيف عند التحري لاعتبار المعنى القوي، ألا ترى إليهم كيف حملوا قوله: "رجل عرف" على التقديم بناء على اللغة الضعيفة وهو: أكلوني البراغيث، والنحوي لا يبثه! وإلى قول المرزوقي في قوله: وإن لم يكن إلا معرج ساعة .... قليلًا فإني نافع لي قليلها يجوز أن يكون "قليلها" مبتدأ و"نافع" خبر له مقدم عليه، والتقدير: فإني قليلها نافع لي. فسلك أبو مسلم في هذه الآية هذا المسلك. فإن قلت: كيف دل {أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم} على تقوى الحكم، لأن ليس مثل: "هو عرف" و"زيد عرف"، في تكرر الإسناد؟ قلت: تكرر الإسناد كما يكون من جهة تكرر المسند إليه قد يكون من جهة غيره، كما تقول: ضربت زيدًا ثم زيدًا ضربته، فالثاني تكرر فيه الإسناد وقوي الحكم فيه بخلاف الأول. قال ابن جني: قالوا: زيد ضربته، فقدموا المفعول؛ لأن الغرض هاهنا ليس ذكر الفاعل،

والرعب: الخوف الذي يرغب الصدر، أي يملؤه؛ وقذفه: إثباته وركزه، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنها قذف باللحم قذفًا لاكتنازه وتداخل أجزائه. وقرئ: (يخربون) و {يُخْرِبُونَ})، مثبقلا ومخففا. والتخريب والإخراب: الإفساد بالنقض والهدم. والخربة: الفساد، كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها: لما أراد الله من استئصال شأفتهم، وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار، والذي دعاهم إلى التخريب: حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة. وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج المليح. وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم، وأن يتسع لهم مجال الحرب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما هو ذكر المفعول، فقدم عناية بذكره، ثم لم يقنع بذلك حتى أزالوه عن لفظ الفضلة، فجعلوه رب الجملة لفظًا، فرفعوه بالابتداء، وصار قوله: "ضربته" ذيلًا له، وفضله ملحقة به. قوله: ("يخربون" و {يُخْرِبُونَ})، أبو عمرو: مثقلًا، والباقون: مخففًا. قوله: (من استئصال شأفتهم)، الجوهري: الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكون فتذهب. وفي المثل: استأصل الله شأفته، أي: أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكي. قوله: (وأما المؤمنون فداعيهم)، عطف على قوله: "والذي دعاهم إلى التخريب"، إلى آخره، و"أما" والفاء مقدران في الجملة الأولى لكونها تفصيلية، وقد سبق في أول آل عمران كلام فيه، وهما لف ونشر لما لف، في قوله: "كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها".

فإن قلت: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟ قلت: لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه، {فَاعْتَبِرُوا} بما دبر الله ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وقيل: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال، فكان كما قال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لما عرضوهم لذلك)، أي: عرض اليهود المؤمنين، فكان اليهود هم السبب، الجوهري: عرضت فلانًا كذا، فتعرض هو له. قوله: ({فَاعْتَبِرُوا} ما دبر الله)، قال القاضي: فاتعظوا بحالهم فلا تعتذروا ولا تعتمدوا على غير الله، واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه تعالى أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، وحملها عليها في الحكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له، كما تقرر في الكتب الأصولية. وقال الواحدي: معنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، والمعنى: تذكروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل اللب والعقل والبصائر. قال الراغب: العبرة: ما يعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الحس إلى العقل. وأصله من عبور النهر، ومن العبارة لأنها جعلت كالمعبر لتأدية المعنى من نفس القائل إلى نفس السامع، وخص التعبير بنفس الرؤيا. قوله: (وقيل: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، عطف على قوله: "بما دبر الله" من حيث المعنى، أي:

[{ولَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ومَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِىدُ العِقَابِ} 3 - 4] يعني: أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة. {وَلَهُمْ} سواء أجلوا أو قتلوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فانظروا إلى هذه المعجزة وصدق إنجاز الله ما وعدكم رسوله، وقيسوا عليه جميع ما وعدكم الله ورسوله. قوله: (فلولا أنه كتب عليهم الجلاء)، وضع هذه "الفاء" بدل "الواو" في التلاوة ليؤذن بارتباط هذه الآية بما قبلها، فإن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ} إلى آخره، دل على أمر عظيم، وعلى عزمة من عزمات الله، وهي إرادة تطهير أرض الحجاز من الأجناس والأرجاس، وإراحة المؤمنين البتة، فلولا الجلاء لكان القتل لازمًا، فأخبر الله تعالى عن الأمرين وفوض الترتيب إلى الذهن. قوله: (ودعاه) قيل: فاعله "أنه أشق"، والضمير المنصوب عائد إلى الله تعالى، أي: دعا الله تعالى إلى اختيار الجلاء لهم دون القتل أن الجلاء أشق عليهم. وقلت: يجوز أن يكون فاعل "دعا" ما دل عليه "اقتضته الحكمة" لأنه عطف تفسيري، وقوله: "أنه أشق" تعليل، أي: دعاه داعي الحكمة إلى اختيار حكم الجلاء لأن ذلك أشق عليهم من الموت.

{عَذَابُ النَّارِ} يعني: إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة. [{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} 5] {مِّن لِّينَةٍ} بيان لما قطعتم. ومحل {مَا} نصب بـ {قَطَعْتُم}، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وأنث الضمير الراجع إلى {مَا} في قوله: {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لأنه في معنى اللينة. واللينة: النخلة من الألوان، وهي ضروب النخل ما خلا العجوة والبرنية، وهما أجود النخيل، وياؤها عن واو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة)، يريد بعذاب الدنيا القتل والسبي. فإن قلت: هذا يؤذن أن الجلاء أدون حالًا من القتل، وأنه ليس بعذاب، وقد قال هاهنا أنه أشق عليهم من الموت وأنشد في البقرة: لقتل بحد السيف أحسن موقعًا .... على النفس من قتل بحد فراق قلت: لا شك أن جعل الجلاء أشد من القتل من باب الادعاء، وإلحاق الناقص بالكامل، وأما قوله: "ولهم سواء أجلوا أو قتلوا عذاب النار"، فبيان للفرق بين التركيبين، أعني قوله: {ولَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} وقوله: {ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار}، وأن الأول امتناعي لا ثبات له كالشرط، قال في سورة يوسف: "لولا، وجوابها في حكم الشرط"، والثاني جملة اسمية قطعية، لكنه أهمل بيان فائدة تقديم الخبر على المبتدأ من الاختصاص، وأن المعنى: أنهم مخصوصون بهذا الحكم لكونهم شاقوا الله ورسوله، فيعلم منه أن من لم يشاق الله ورسوله حكمه مباين لهذا.

قلبت لكسرة ما قبلها، كالديمة. وقيل: اللينة: النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة: كأن قتودي فوقها عش طائر .... على لينة سوقاء تهفو جنوبها وجمعها لين. وقرئ: (قومًا)، و (على أصلها). وفيه وجهان: أنه جمع أصل كرهن ورهن، أو اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ: (قائمًا على أصوله) ذهابًا إلى لفظ {مَا} {فَبِإذْنِ اللَّهِ} فقطعها بإذن الله وأمره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأن قتودي) البيت، القتد: خشب الرحل، فالجمع: أقتاد وقتود. سوقاء: طويلة الساق، تهفو: تهب، واللينة: النخلة الكريمة، شبه خفة رحل ناقته بعش طائر، وطول قامتها بنخلة طويلة الساق، وتحركه فوقها بحركة النخلة عند هبوب الريح الجنوبي. قوله: (قطعها بإذن الله وأمره)، الانتصاف: والظاهر أن الإذن عام في القطع والإبقاء، لأنه جواب الشرط المضمن لهما جميعًا، فيكون تعليل إخزاء الفاسقين بهما جميعًا، فقطعها يحسرهم على ذهابها، والترك يحسرهم لبقائها للمسلمين. وقلت: قد أحسن بما قال، وروينا عن الترمذي عن ابن عباس في قول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} الآية. قال: أمروا بقطع النخل، فحك ذلك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟

{ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في نفس المؤمنين من ذلك شيء. فنزلت. يعني: إن الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظًا، ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاؤوا. واتفق العلماء أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعًا للقتال. فإن قلت: لم خصت اللينة بالقطع؟ قلت: إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهل علينا في ما تركنا وزر؟ فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم} الآية، ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عمر. وقول المصنف: "ويتصرفون فيها ما شاؤوا"، إشارة إلى هذا المعنى. قوله: (وليذل اليهود ويغيظهم)، هذا تأويل لقوله: {ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ}، وفيه أن {الفَاسِقِينَ} مظهر وضع موضع المضمر، والمعلل محذوف بدلالة سياق الآية، والجملة معطوفة على ما قبلها. قوله: (فليستبقوا)، قيل: لام التعليل والأمر تسكن بعد الفاء والواو، وتحرك بعد "ثم".

وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق. وروي: أن رجلين كانا يقطعان: أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله، وقال هذا: قطعتها غيظًا للكفار. وقد استل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. [{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ ولَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} 6 - 7] {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} جعله له فيئا خاصة، والإيجاف من الوجيف؛ وهو السير السريع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات: " ليس البر بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل، على هينتكم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في الإفاضة من عرفات)، الحديث من رواية البخاري عن ابن عباس قال: دفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا للإبل، فأشار بالسوط إليهم، وقال: "يا أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع". وفي رواية أبي داود قال: "يا أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل". النهاية: وضع البعير يضع وضعًا، وأوضعه راكبه أيضًا؛ إذا حمله على سرعة، وكذا الإيجاف، وقد أوجف دابته يوجفها إيجافًا؛ إذا حثها. قوله: (على هينتكم)، الجوهري: يقال: امش على هينتك، أي: على رسلك، أي: اتئد فيه.

ومعنى {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ}: فما أو جفتم على تحصيله وتغنمه خيلا ولا ركابًان ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم. والمعنى: أن ما خول الله رسول من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء. يعني: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا، وذلك أنهم طلبوا القسمة، فنزلت. لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها. بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخميس من الغنائم مقسومًا على الأقسام الخمسة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهي منها غير أجنبية عنها)، و"هي منها" جملة من مبتدأ وخبر، وقوله: "غير أجنبية عنها" خبر آخر، و"من" في "منها" اتصالية، أو "غير أجنبية عنها" خبر مبتدأ محذوف، والجملة مبنية للأولى، أي: وهي متصلة بها كائنة منها، وهي غير أجنبية عنها، وإنما كانت بياننًا لأن قوله: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} جملة اسمية شرطية معطوفة على مثلها، وكلتاهما واردتان على الإخبار والإعلام، أي: اعملوا أن ذلك القطع والترك كان بإذن الله، وذلك الفيء كان بتسليط الله لا بسعيكم، لكن لم يعلم كيفية قسمته فبين بهذه الآية القسمة. قوله: (أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم)، ومذهب الشافعي بخلافه، فعنده أن يجعل الفيء خمسة أخماس، والخمس الواحد يخمس ويوضع حيث يوضع الخمس من

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغنائم، وبيان ذلك ذكره صاحب "البحر" قال: الأصل في الغنيمة قوله تعالى: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، والأصل في الفيء قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى} الآية [الحشر: 7]. واعلم أن الغنائم كانت في شرع من قبلنا لله تعالى، لا تحل لأحد، فتنزل نار من السماء فتأخذها، فحص النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم بأن أحلت له، قال صلى الله عليه وسلم: "أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي"، فكانت في صدر الإسلام له خاصة يتفرد بها، وكذا كانت غنائم بدر لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ثم نسخ ذلك بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآية [الأنفال: 41]، واستقر أمرها على أن له منها الصفي، فيصطفي من الغنيمة ما شاء من جارية وثوب وعبد وفرس ونحو ذلك، ويكون أربعة أخماسها للغانمين، وخمسها لأهل الخمس، فيقسم على خمسة أسهم، ثم يقسم خمسها على خمسة أسهم؛ منها سهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. والآن يجب أن يقسم الفيء على خمسة أسهم كما ذكر في الغنيمة، وخمسه وخمس الغنيمة الذي كان للني صلى الله عليه وسلم انتقل بموته إلى المصالح، وأما أربعة أخماسه فالأصح أنها للمقاتلين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: حاصل هذا التقرير أن ما في الحشر منسوخ بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وهو مشكل لأن ما في الأنفال سابق زمانًا على ما في الحشر، فلا ينسخ به. نقل الواحدي عن المفسرين أن بني النضير لما اجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمسها كما فعل بغنائم بدر، فأنزل هذه الآية. وفي رواية محيي السنة: كما فعل بغنائم خبير، ويبعد من حيث النظم والتأليف أن يقال: إن قوله: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} عطف على ما في الأنفال، ليكون خمسه أيضًا مخمسًا، وأدنى ما يبطله: الضمير في {مِنْهُمْ}، لأنه راجع إلى ما ترجع إليه الضمائر في الآيات وهي لبني النضير، وما في الأنفال في قضية أخرى، بل الجملة- أعني {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ} - عطف على مثلها، أي: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ}، وجملة قوله: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ} بيان للجملة السابقة كما ذهب إليه المصنف، ولهذا عزلت عن العاطف، كأنه لما قيل: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي: ما خول الله ورسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه بالقتال والغلبة، فلا يقسم قسمة الغنائم، قيل: فكيف يقسم؟ فقيل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} إلى آخره أن ذلك العطف أيضًا لا يجدي فيما ذكر، لأن حكم تلك الآية ثابت قبل هذه. وأقصى ما يقال من جانب الشافعي رحمه الله تعالى أن "ما أفاء الله" الأول إخبار من الله تعالى لا جواب عن قول الصحابة، والثاني: بيان له لكنه مطلق مبهم، وما في الأنفال مقيد بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فيحمل عليه، وما ذكره المفسرون ليس يثبت. فإن قلت: فما فائدة هذا الإخبار؟ قلت: نفي ما نسخ في خواطر المسلمين أنهم سعوا في تحصيل تلك الأموال بالقتال، كما قال في "التفسير الكبير": إن أموال بني النضير أخذت بعد القتال، لأنهم حوصروا أيامًا وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء، وفي كلام المصنف في أول السورة إشعار بذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} يعني أن سعيكم ذلك لم يكن له مزيد تأثير، بل جرت عادة الله في تسليط جميع رسله على من يشاء، وهذا من جملة ذلك، ومن ثم جيء بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، وجمع الرسل، فمعناه قريب من معنى قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وعلى هذا معنى الجملة الأولى: لأن المسلمين لما قطعوا النخيل وحرقوها خطر ببالهم أن ذلك فساد في الأرض- كما قال المصنف- وكان في أنفس المسلمين من ذلك شيء فنزلت، فقيل لهم: كان ذلك بإذن الله وأمره، وما يأذن الله ويأمر به لا يكون فسادًا في الحقيقة. فإن قلت: كيف يحمل على تقييد المطلق؟ فإن مفهوم الغنيمة أخص من مفهوم الفيء، لأنه أعم تناولًا منه. قال الجوهري: الفيء: الخراج والغنيمة، تقول منه: أفاء الله على المسلمين مال الكفار يفيء إفاءة. وفي "المغرب": قال أبو عبيد: الغنيمة: ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة، وحكمه أن يخمس، وسائر ما بعد الخمس للغانمين خاصة، والفيء: ما نيل منهم بعد ما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار الإسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. والنفل: ما نفله الغازي أيك يعطاه زائدًا على سهمه، وهو: أن يقول الإمام أو الأمير: "من قتل فله سلبه"، أو قال للسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو نصفه أو ربعه، ولا يخمس. وعن علي بن عيسى: الغنيمة أعم من النفل، والفيء أعم من الغنيمة، لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك. وقال أبو بكر الرازي: فالغنيمة فيء، والجزية فيء، ومال

والدولة والدولة؛ بالفتح والضم، وقد قرئ بهما: ما يدول للإنسان، أي يدور من الجد. يقال: دالت له الدولة، وأديل لفلان. ومعنى قوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}: كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أهل الصلح فيء، والخراج فيء، لأن ذلك كله مما أفاء الله على المسلمين من المشركين، وعند الفقهاء: كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيء. تم كلامه. ويمكن أن تنزل عبارة "الحاوي" على هذا المعنى، بأن يقال: إن قوله: "ما حصل من الكفار" عام خص منه البعض، بعطف "غلة عقارهم" بعد أن وقف على "ما حصل"، وبعض آخر بقوله: "وما حصل بإيجاف خيل فلمسلم"، من حيث عطف الجملة بقي في ذلك العام: "ما جلوا عنه خوفًا من المسلمين إذا سمعوا خبرهم، أو بذلوه كفًا عن قتالهم، وكالجزية وعشور تجاراتهم ونحوه". قلت: لما كان مفهوم الغنيمة داخلًا في مفهوم الفيء وقد قيدت الخمس في تلك الآية، فينبغي أن يقاس عليها سائرها لجامع كونها أموال الكفار صارت إلى المسلمين، إلى أن ينتهض الصارف القوي، نحو: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" هذا ما يمكن أن يقال، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله: (والدولة والدولة بالفتح والضم)، فالضم: المشهورة، وبالفتح: شاذ، وقيل: هي رواية هشام عن ابن عامر. وقال ابن جني: وهي قراءة أبي جعفر، منهم من لا يفصل بين القراءتين، ومنهم يقول: الفتح في الملك والضم في الملك، "وكان" تامة، أي: كيلا تقع دولة أو تحدث.

ومعنى الدولة الجاهلية: أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة، وكانوا يقولون: " من عزبز". والمعنى: كيلا يكون أخذخ غلبة وأثرة جاهلية. ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله دولا، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقيل: الدولة: ما يتداول، كالغرفة: اسم ما يغترف، يعني: كيلا يكون الفيء شيئًا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء. والدولة- بالفتح-: بمعنى التداول، أي: كيلا يكون ذا تداول بينهم، أو كيلا يكون إمساكه تداولا بينهم، لا يخرجونه إلى الفقراء، وقرئ: (دولة) بالرفع على (كان) التامة كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] يعني كيلا تقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها، أو كيلا يكون تداول له بينهم، أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء. {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} من قسمة غنيمة أو فيء {فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ} عن أخذه منها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: {بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} يجوز أن يكون صفة لـ {دُولَةً}، وأن تكون متعلقة: أي: تداول بين الأغنياء منكم. وقال الزجاج: الدولة بالضم: اسم الشيء الذي يتداول، وبالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال. قوله: (من عز بز)، الميداني: أي: من غلب السلب، قالت الخنساء: كأن لم يكونوا حمى يتقى .... إذ الناس إذ ذاك من عزبزا قوله: (ويتعاورونه)، بيان لقوله: "يتداوله الأغنياء".

{فَانتَهُوا} عنه ولا تتبعه أنفسكم، {واتَّقُوا اللَّهَ} أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه. {إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} لمن خالف رسوله، والأجود أن يكون عامًا في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في عمومه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه لقي رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: اقرأ علي في هذا آية من كتاب الله. قال: نعم، فقرأها عليه. [{لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانًا ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 8] {لِلْفُقَرَاءِ} بدل من قوله: {ذِي الْقُرْبَى} والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من: "لله وللرسول" والمعطوف عليهما، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأجود أن يكون عامًا في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه)، لأن الواو فيه ليست بعاطفة ولا تصح، فالجملة تذييل ولذلك عقبه بقوله: {واتَّقُوا اللَّهَ}، وأطلقه ليشمل كل ما يجب أن يتقى، ويدخل في ما سيق له الكلام دخولًا أوليًا، وينصره ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات والمفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، وكانت تقرأ القرآن - يقال لها أم يعقوب- فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك قلت: كذا وكذا؟ فقال عبد الله: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله! ! فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدت فيه ما تقول قال: إن كنت قرأتيه لوجدته، قال الله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} الآية. قوله: (والذي منه الإبدال من: "لله وللرسول" والمعطوف عليهما)، يعني من المجموع وهو جواب عن سؤال مقدر، يعني: لم خصصت الإبدال بقوله: {ولِذِي القُرْبَى}، والمعطوف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ داخل في حكم المعطوف عليه بحكم الانسحاب؟ فقال: أخرجه الدليل. وقوله: "وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم) معناه: وإن صح أن يبدل من الرسول، ويكون ذكر الله للتبرك والتمهيدـ، لكن الله تعالى رفع منزلته من ان يسميه بالفقير. قال الرغب: المشهور عند العامة أن الفقر الحاجة، وأصله كسر الفقار، من قولهم: فقرته، نحو كبدته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة. والفقر: أربعة؛ فقد الحسنات في الآخرة، وفقد القناعة في الدنيا، وفقد المقتنى. والغني بحسبه، فمن فقد القناعة والمقتنى فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ومن فقد القناعة دون القنية فهو الغني بالمجاز الفقير بالحقيقة، ومن فقد القنية دون القناعة فإنه يقال له: غني وفقير، وقد ورد: "ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب"، وقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} دليل على أن الفقر مذموم، وقال صاحب "التقريب": وفي أن يكون بدلًا من "لذي القربى" نظر، لأنه لابد من اشتراط الفقر في ذوي القربى، وليس بشرط، فليجعل بدلًا فما بعده. الانتصاف: مذهب الإمام أبي حنيفة أن استحقاق ذوي القربى للفيء مشروط بالفقر، قال إمام الحرمين: أغلط الشافعي الرد على هذا المذهب بأنه تعالى علق الاستحقاق بالقرابة، ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة مضادة ومحادة، واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت عليهم كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنائم أنه لا يمتنع صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: لا نغتر بالاعتذار بأن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفًا لهم، فمن علله بالحاجة فوت هذا المعنى، ثم عظمه عليهم بأنهم يرون اشتراط الإيمان في رقبة الكفارة زيادة على النص، وهو نسخ لا يصح بالقياس. قال الإمام: وكذا اشتراط الفقر في القرابة يكون زيادة على النص، هذا وجه كلام الإمام، وهو متوجه إن أثبتوه قياسًا، وقد أخذوا التقييد من البدل المذكور في الآية، فنقول {لِلْفُقَرَاءِ} بدل من "المساكين" لا غير، لأنه تعالى أراد وصف المساكين بما يبين استحقاقهم وبعث الأغنياء على إيثارهم، وأن لا يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا، وقد فصل عنهم قوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} إلى {شَدِيدُ العِقَابِ}، طوى ذكرهم توطئة للصفات فذكروا بصفة أخرى مناسبة لأولى، فاشتمل على وصفهم بالمسكنة والفقر جميعًا، ثم تليت صفاتهم بعد بأنهم أخرجوا من ديارهم إلى آخرها، فهذا الذي يرشد إليه السياق، وأواوا القربى ذكروا على الإطلاق، فالأولى بقاؤهم على ذلك، ويؤيد ذلك أن الحنفية يرون الاستثناء إذا تعقب جملا اختص بالأخيرة، فكذا البدل يكفي في صحة عوده إلى الأخير، ولأنه إذا جعل من "ذوي القربى" كان بدل بعض من الكل، إذ فيهم أغنياء، وإن جعل بدلًا من "المساكين" أيضًا كان بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيكون البدل محتويًا على نوعي البدل، وهو متعذر لتغايرهما، إذ كل واحد يتقاضى ما يأباه الآخر، وعلى هذا إعراب الزجاج الآية، فجعلها بدلًا من "المساكين" خاصة. وقلت: مذهب المصنف أن الجمل المتعقبة بقيد لا تختص الأخيرة منها به، بل الكل سواء، إلا أن يقوم الدليل بالاختصاص كما نحن بصدده، يدل عليه قوله في سورة النور في الاستثناء:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء للشرط"، وقوله هاهنا: "إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء، وقوله: وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله تعالى" فنقول نحن أيضًا: إن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة أخرج ذوي القربى من حكم الفقراء. روى محيي السنة في سورة الأنفال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى عطاء العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، والخلفاء بعده كانوا يعطون الأغنياء ولا يفضلون الفقير على الغني. ويمكن أن يجعل إبدالًا بان نبتدأ من قوله: {لِلْفُقَرَاءِ}. قال صاحب "المرشد" والكواشي: إن الوقف على {شَدِيدُ العِقَابِ} تام. وفي الكواشي: قالوا: وأراه حسنًا إن أضمرت فعلًا أي: اعجبوا {لِلْفُقَرَاءِ}، ولا يجوز اختيارًا إن أبدل {لِلْفُقَرَاءِ} من "لذي القربى" وذلك أن سياق الآيات في مدح المهاجرين والأنصار وبذل أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، ومدح التابعين لهم بإحسان، وكيف وقد مدح المهاجرين بأنهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا؟ وعطف {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ} على {المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ}؟ وفيه: {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وكذا عطف قول: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ كل هذا إنما يحسن إذا ابتدئ منه، وتكون الآيات متصلات بقوله: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}؛ لأنه لما أمر باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، عجب الناس باتباع هؤلاء السادة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة من أوطانهم والمفارقة عن أهاليهم وأموالهم،

وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم وجهادهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبالتبوؤ بالدار والإيمان، وبالتسوية بما اختص بهم حتى بأزواجهم، كما قال: {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وكذا عطف: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} على المهاجرين المعني بهم "التابعون لهم بإحسان" مانع من الإبدال، والذي يؤيد تقدير فعل التعجب- كما ذكره أبو البقاء وتبعه صاحب الكواشي- مجيء قوله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ} الآيات، مصدرًا بـ {أَلَمْ تَرَ} وهي كلمة التعجب لكون ذكرهم جاء مقابلًا لذكر أضدادهم. قوله: (أن الله عز وجل، أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ})، يعني لو كان داخلًا فيهم لم يصح قوله: {ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ}، لئلا يلزم أن يكون الرسول ناصرًا لنفسه. قوله: (وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمية بالفقير)، كما لا يجوز أن يوصف الله تعالى بعلامة، لأجل التأنيث لفظًا، لأن فيه سوء أدب. قوله: (وأن الإبدال على ظاهر اللفظ) يعني: وإن صح إبدال قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} من قوله: "لله" من حيث ظاهر اللفظ، لكن لا يصح من حيث المعنى؛ لما يؤدي إلى خلاف تعظيم الله.

[{والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} 9] {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا} معطوف على {المُهَاجِرِينَ}، وهم الأنصار. فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوؤا الإيمان؟ قلت: معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كقوله: علفتها تبنا وماء باردًا أو: وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنًا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدنية كذلك. أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام"لام التعريف" في {الدَّارِ} مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه، أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان، {مِنْ قَبْلِهِمْ} من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوؤ دار الهجرة والإيمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان)، وحاصل الوجوه الأربعة يعود إلى عطف الإيمان على الدار إما من باب التقدير أو الانسحاب، والإيمان إما مجرى على حقيقته أو استعارة، ففي الوجه الأول: الإيمان حقيقة والعطف من باب التقدير، لكن يقدر بحسب السابق، (الانسحاب)، والإيمان على الوجه الثاني استعارة مكنية، وعلى الثاني والرابع العطف للانسحاب، وعلى الثالث مجاز أضيف بأدنى ملابسة، وعلى الرابع استعارة مصرحة تحقيقية. فإن قلت: بين لي مخرج الاستعارتين وتصحيحهما. قلت: شبه في الوجه الأول الإيمان من حيث إن المؤمنين من الأنصار تمكنوا فيه تمكن المالك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المتسلط في مكانه ومستقره، بمدينة من المدائن الحصينة، بتوابعها ومرافقه، ثم خيل أن الإيمان بعينها تخييلًا محضًا، فأطلق على المتخيل اسم الإيمان المشبه، وجعلت القرينة نسبة التبوء اللازم للمشبه به إليه على سبيل الاستعارة التخييلية، لتكون مانعة لإرادة الحقيقة، وعلى الرابع شبهت طيبة- أي: مدينة خير الرسل صلوات الله عليه لكونها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان- بالتصديق الصادر من المخلص المحلى بالعمل الصالح، ثم أطلق اسم الإيمان على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بوساطة نسبة التبوء إليه، وهي استعارة مصرحة تحقيقية، لأن المشبه المتروك وهو المدينة حسي، والجامع النجاة من مخاوف الدارين؛ ففي الأول المبالغة والمدح يعود إلى سكان المدينة أصالة، وفي الثاني العكس، والأول أدعى لاقتضاء المقام؛ لأن الكلام وارد في مدح الأنصار الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في نصرة الله ونصرة رسوله، وهم الذين آووه ونصروه. فإن قلت: يلزمك من القول بالانسحاب استعمال الكلمة الواحدة في الحقيقة والمجاز معًا. قلت: أجعلها مجازًا في مطلق اللزوم والثبات ولا أبالي بذلك كما مر مرارًا. فإن قلت: فما تصنع بقوله: {مِن قَبْلِهِمْ} فإنه يؤدي إلى أن الأنصار سبقوا المهاجرين في الإيمان، ولذلك قال المصنف: "سبقوهم في دار الهجرة والإيمان"، أي: دار الإيمان. قلت: قال الواحدي: تقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، ويمكن أن يقال: إنا ذكرنا أن التقدير أنهم تمكنوا في الإيمان تمكن المالك في ملكه لا يزعجهم عنه منازع، ولا شك أن المهاجرين قبل الهجرة كانوا في تقية وخوف من المشركين، ولذلك هاجروا الهجرتين، ولم يوجد لهم ذلك التمكن إلا بعد الاستقرار في

وقيل: من قبل هجرتهم، {ولا يَجِدُونَ}: ولا يعلمون في أنفسهم {حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} أي: طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى جاحة؛ يقال: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته، يعني: أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه {ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: خلة، وأصلها: خصاص البيت، وهي فروجه؛ والجملة في موضع الحال، أي: مفروضة خصاصتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين: أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دار الهجرة، وإليه المصنف بقوله: "وقيل: من قبل هجرتهم"، ولذلك لم يزالوا بعد الهجرة في قلة وفقر حتى آساهم الأنصار بأموالهم، وآثرهم بأثمارهم، على ما روينا عن البخاري ومسلم عن أنس قال: قدم المهاجرين من مكة المدينة، قدموا وليس بأيديهم شيء، وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسموهم حتى أن أعطوهم أنصاف أثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة. وكافيك بحال أغنى المهاجرين وأكثرهم ثروة عبد الرحمن بن عوف حين قدم المدينة شاهدًا على ذلك، روينا في "صحيح البخاري" عن ابن عوف قال: آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقاسمك مالي شرطين، ولي امرأتان فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلوني عن السوق. الحديث، ومن ثم حسن التعجب بالفقر في صدر هذه الآية. قوله: ({خَصَاصَةٌ} أي: خلة)، النهاية: الخصاصة: الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء، والجملة في موضع الحال، يعني قوله: {ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.

وقال لهم: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة"، فقالت الأنصار: " بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها" فنزلت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: خصاص البيت: فرجه، وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة، كما عبر عنه بالخلة، والخص: بيت من قصب أو شجر، وذلك لما ترى فيه من الخصاصة، قال: وسمي انثلام الحال خصاصًا وخصاصةً على التشبيه، كما سمي انثلامًا واختلالًا وشعثًا، وخصصت فلانًا وخصني أوليته خصاصتي نحو: خللته وقولهم: وقفتهم على عجري وبجري، وخصان الرجل: خلانه، ثم جعل الخاص مقابلًا للعام في التعارف. قوله: (بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت)، والأصح: أنها نزلت في أنصاري اسمه أبو طلحة، على ما روينا عن البخاري مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق، ما عندي غلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك: وقلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضيفه يرحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل، فإذا أهوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، ففعلت، فقعدوا فأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عجب الله"_ أو "ضحك الله"_ "من فلان وفلانة".

"الشح" بالضم والكسر، وقد قرئ بهما: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، كما قال: يمارس نفسًا بين جنبيه كزة .... إذا بالمعروف قالت له: مهلا وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، ومنه قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]. {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ومن غلب ما أمرته به منه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} الظافرون بما أرادوا. وقرئ: (ومن يوق). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية نحوه، وفيها: فأنزل الله {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. قوله: ("الشح بالضم والكسر)، بالضم المشهورة، وبالكسر شاذة. قوله: (يمارس نفسًا)، البيت، يقال: رجل كز أي: قليل المواتاة، قليل العطاء. الكزازة: الانقباض واليبس، رجل كز اليدين: نحيل: مثل جعد اليدين. يقول: هذا الرجل إذا هم يومًا أن يتسمح بمعروف قال له نفسه: مهلًا، فيطعها ويمنع من الخير. قوله: (وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه)، اعلم أن الفرق بين البخل والشح عسر جدًا، وقد آذن بالفرق في هذا المقام، وأن الشح: اللؤم، وهو غريرة، وأن البخل: المنع نفسه، فهو أعم، لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة، ولا ينعكس، وعليه ما ورد في "شرح السنة": جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: ما ذاك؟ قال: أسمع الله، يقول: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وأنا رجل شحيح لا يكاد أن يخرج من يدي شيء، فقال عبد الله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل. وقال ابن جبير: الشح: إدخال الحرام، منع الزكاة. وعن مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءكم واستحلوا محارمهم"، وعن النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا". فإذن الشح راسخة يصعب معها على الرجل تأتي المعروف، وتعاطي مكارم الأخلاق، ويفتقر في التخلص منه إلى معونة الله وتوفيقه كما أومأ إليه المصنف. وروينا عن البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المنفق والبخيل، كمثل رجلين عليهما جنتان أو جبتان من حديد، من لدن ثدييهما إلى تراقيهما، فإذا أراد المنفق أن ينفق: اتسعت عليه الدرع، أو مرت حتى تجن بنانه، وتعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق: قلصت، ولزمت كل حلقة موضعها حتى أخذته بترقوته أو برقبته". وإذا صح أن الشح أم الخبائث وأس الرذائل، كان قوله: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} تذييلًا لقوله: {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ومعناه ما قال لمصنف: "ومن غلب ما أمرته به نفسه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} "أي: الذين إن تصورت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، فهم هم، لا يعدون تلك الحقيقة.

[{والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 10] {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطفٌ أيضًا على {المُهَاجِرِينَ}: وهم الذين هاجروا من بعد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد تحقق لك أن من جعل الإيمان لنفسه ومستقرًا لها، وقطع طعمه من مال الغير وآثر ما يملكه على نفسه كان من المفلحين الفائزين بمباغيهم. وفي جعل قوله: {ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} كناية عن قطع الطمع، إشارة إلى قطع ذلك الغريزي من سنخه قطعًا لو تكلف التماس أية حاجة كانت، ما وجد لها أثرًا، وفي تتميمه بقوله: {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} بلوغ إلى الدرجة العليا في الحرية والفتوة، أي: قطعوا الطمع إشارة إلى قلع ذلك عما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم بما ملكوا، وأنشد في ذلك: فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ..... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت قوله: ({والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطف أيضًا على {المُهَاجِرِينَ})، فإن قلت: كيف وصف الأولون بالمهاجرة وابتغاء الفضل والنصرة والصدق، والأنصار بالرسوخ في الإيمان ومحبة الإيواء والسخاوة البالغة حدها، والفلاح في الآجل، واقتصر في مدح هؤلاء على قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا}؟

وقيل: التابعون بإحسان. {غِلًّا} وقرئ: (غمرًا) وهما الحقد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: كفى بهم مدحًا أن يوفقهم على الدعاء لأولئك السادة الكرام، ويمنحهم محبتهم، ويدخلهم في زمرتهم بأخوة الإسلام. قال الواحدي: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}: يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، فذكر أنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا}، أي: غشًا وحسدًا وبغضًا، وكل من لم يترحم على جميع أصحاب محمد وكان في قلبه غل على أحد منهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لن الله تعالى رتب المؤمنين ثلاث منازل: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين. وسمع ابن عباس رجلًا ينال من بعض الصحابة فقال: أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا، قال: من الأنصار؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من التابعين بإحسان. قوله: ({غِلًا} وقرئ: غمرًا، وهما الحقد)، الراغب: أصل الغلل: تدرع الشيء وتوسطه، ومنه: الغلل للماء الجاري بين الأشجار، فالغل مختص بما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه، والغلالة: ما يلبس من النوعين، فالغل والغلول تدرع الخيانة والعداوة. قال تعالى: {ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا}، والغلة والغليل: ما يتدرعه الإنسان في داخله من العطش، ومن شدة الوجد والغيظ، ، يقال: فلان شفى غليله، أي: غيظه، والمغلغلة: الرسالة التي تتغلغل وسط القوم.

[{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ولا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ولَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ ولَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} 11 - 12] {لإخْوَانِهِمُ} الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر، ولأنهم كانوا يوالونهم ويؤاخونهم، وكانوا معهم على المؤمنين في السر {ولا نُطِيعُ فِيكُمْ} في قتالكم {أَحَدًا} من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة، {لَكَاذِبُونَ} أي في مواعيدهم لليهود. وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيوب. فإن قلت: كيف قيل: {ولَئِن نَّصَرُوهُمْ} بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟ قلت: معناه: ولئن نصروهم على الفرض والتقدير، كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وكما يعلم ما يكون، فهو يعلم ما لا يكون، لو كان كيف يكون. والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهود لينهز من المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لينهز من اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين. [{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعلم ما لا يكون، لو كان كيف يكون) "ما" مفعول أول، و"كيف" مفعول ثان، يعني: أن الله تعالى يعلم المعدوم إذا فرض وجوده على أي حالة يوجد.

قَرِيبًا ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 13 - 17] {رَهْبَةً} مصدر "رهب" المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية. وقوله: {فِي صُدُورِهِم} دلالة على نفاقهم، يعني: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله. فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد. قلت: معناه أن رهبتهم في السر منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم، وكانوا يظهرون لهم رهبةً شديدةً من الله، ويجوز أن يريد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله؛ لأنهم كانوا قومًا أولي بأس ونجدة، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم، {لا يَفْقَهُونَ} لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته. {لا يُقَاتِلُونَكُمْ} لا يقدرون على مقاتلتكم {جَمِيعًا} مجتمعين متساندين، يعني اليهود والمنافقين {إِلَّا} كائنين {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالخنادق والدروب، {أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ} دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({رَهْبَةً}: مصدر "رهب" المبني للمفعول)، الانتصاف: لأن المخاطبين مرهوب منهم لا راهبون. قوله: (ويجوز أن يريد أن اليهود يخافونكم)، وحاصل المعنى الأول: أنهم يظهرون لكم خوف الله تعالى، مع أنهم لا يخافونه تعالى، والمعنى الثاني: أنهم يظهرون لكم أنهم لا يخافونكم، مع أنهم يخافونكم، ويخافون الله خوفًا لا يعتد به، ولذلك قال: "حتى يخشوه حق خشيته".

لقذف الله الرعب في قلوبهم، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم. وقرئ: (جدر) بالتخفيف، و (جدار)، و (جدر)، و (جدر)، وهما: الجدار. {بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة؛ لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} مجتمعين ذوي ألفة واتحاد، {وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة لا ألفة بينها، يعني: أن بينهم إحنًا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم. {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و"جدار" ز"جدر")، ابن كثير وأبو عمرو: "جدار" بكسر الجيم وفتح الدال وألف، وأمال أبو عمرو فتحة الدال، والباقون: {جُدُرٍ} بضم الجيم والدال. وقال ابن جني: قرأ أبو رجاء وأبو حية: جدر، بضم الجيم وإسكان الدال. وقال الزجاج: فمن قرأ {جُدُرٍ} فهو جمع جدار، مثل: حمار وحمر، ومن قرأ بتسكين الدال: حذف الضمة لثقلها، كصحف وصحف، ومن قرأ "جدار" فهو الواحد. قوله: ({قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم، ويعين على أرواحهم)، أي: على توهين أرواحهم وفسادها، لأن القلب مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ثم يسري منه الفساد إلى الروح.

فإن قلت: بم انتصب {قَرِيبًا}؟ قلت: بـ"مثل"، على: كوجود مثل أهل بدر قريبًا {ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ} سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: إنما خص الأول بـ {لا يَفْقَهُونَ}، والثاني بـ {لاَّ يَعْقِلُونَ}، لأن المعنى: خوفكم منكم أشد من خوفهم من الله، لأنهم يعلمون ظاهره ولا يعرفون ما استتر عليهم منه، والفقيه يستدرك من الكلام ظاهره الجلي، وغامضه الخفي، بسرعة فطنته، وجوده قريحته، فلما رهبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يرهبوا من الله عز وجل، صاروا كمن يعرف ما يشهده، ويجهل ما يغيب عنه، وقيل: {لا يَفْقَهُونَ}: لا يستدركون عظمة الله ويشاهدون جلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمون أن ذلك لجلال الله تعالى. وأما قوله: {لاَّ يَعْقِلُونَ} جاء بعد قوله: {بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ومعناه: ليس يجمعهم الحق على طريقة واحدة، بل هم أتباع أهوائهم، وهم مختلفون باختلاف آرائهم، ولو عقلوا الرشد من الغي لاجتمعوا على الحق، فاختلافهم لأنهم لا يعقلون ما يدعو إلى طاعة الله، ويهدي إلى الصراط المستقيم، فالحق سبيل واحد مستقيم، والباطل سبل كثيرة يحمل عليها أهواء متشبعة، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. قوله: (بـ"مثل"، على: كوجود)، أي: {قَرِيبًا} متعلق بـ"مثل" في {كَمَثَلِ}، على تقدير المضاف وهو العامل، أي: مثلهم كوجود مثل أهل بدر قريبًا، وذلك المثل هو: {ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال أبو البقاء: {كَمَثَلِ} أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، و {قَرِيبًا} أي: استقروا من قبلهم زمنًا قريبًا، أو ذاقوا وبال أمرهم قريبًا، أي: عن قريب.

من قولهم: "كلأ وبيل": وخيم سيئ العاقبة، ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة عذاب النار. مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر؛ وقوله لهم: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48] وقرأ ابن مسعود: (خالدان فيها)، على أنه خبر"أن"، و {في النَّارِ} لغو، وعلى القراءة المشهورة: الظرف مستقر، و {خَالِدَيْنِ فِيهَا}: حال. وقرئ: (أنا بريء) و (عاقبتهما) بالرفع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كلأ وبيل)، أي: وخيم، الراغب: الوبل والوابل: المطر الثقيل، قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال، يقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل: يخاف وباله. قوله: (والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر)، اعلم أن التعريف في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} للعهد لا غير، إذ لا يتبادر منه إلا المتعارف شرعًا، وأما ما في "الإنسان" فيحتمل العهد، أي: قريشًا كما قال، ومعنى قوله: {اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ}: قصد إغواءهم، فدعاهم إلى قتال المسلمين فغووا، لا هذا اللفظ بعينه، وهو المراد من قوله: "المراد استغواؤه" لأن الذي قال لهم يوم بدر هو قوله: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} وقريب منه قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، ويحتمل الجنس على نحو قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] في أن لم يباشر الفعل إلا بعض الجنس، وفي معناه قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] قال: "ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة: 4] ".

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 18 - 19] كرر الأمر بالتقوى تأكيدًا، أو اتقوا الله في أداء الواجبات؛ لأنه قرن بما هو عمل، واتقوا الله في ترك المعاصي؛ لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد. والغد: يوم القيامة، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، وعن الحسن: لم يزل يقربه حتى جعله كالغد. ونحوه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] يريد: تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد. فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويعضد الوجه الأول مجموع التمثيل الثاني من غير عاطف ليكون كالإبدال من التمثيل الأول، ولا يحسن الإبدال إلا على اتحاد موقع التمثيلين، فليتدبر فإنه دقيق، ولعله لهذه الدقيقة ولا يجاب أن يكون المشبه به أعرف وأبين وأشهر من المشبه، اختار هذا الوجه على سائر الوجوه التي ذكرها المفسرون. قوله: (لأنه قرن بما هو عمل)، يعني: كرر {واتَّقُوا اللَّهَ} إما لمجرد التأكيد، أو كرر ليعلق به ثانيًا غير الأول، فعلق به أولًا: {مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما قدمت لغد، وهو عبارة عن أعمال الخير: وثانيًا: {إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وهو عبارة عن التهديد والوعيد. قوله: (أما تنكير النفس فاستقلا للأنفس النواظر)، أي: عدهم قليلًا كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، الانتصاف: قال في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]: المراد بالتنكير التكثير، لأن كل نفس حينئذ، تعلم ما أحضرت لقوله: {يَوْمَ

وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه. وعن مالك ابن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدمنا، خسرنا ما خلفنا. {نَسُوا اللَّهَ} نسوا حقه، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] حتى قيل: إنه من عكس الكلام الذي يقصد به الإفراط، كقوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] وهي بمعنى "كم" فقدر هاهنا ما يطابق الواقع في قلة الناظر في المعاد، فالفعل الذي أسند إلى {نَفْسٌ} ليس في وقوع النظر بل في طلب النظر فهو عام التعلق بكل نفس، قال صاحب "الانتصاف": إن ما ذكره الزمخشري أمكن وأحسن. وقلت: وأصل الكلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} وانظروا ما تقدموا لأنفسكم ليوم القيامة، فوضع موضع الضمير {نَفْسٌ} منكورة تقليلًا لها وتقريعًا على قلة نظرها في العاقبة، وأقيم مقام يوم القيامة "غد" منكورًا، تهويلًا كأنه قيل: فلتنظر نفس واحدة لذلك اليوم الهول، ومنه قوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]. وقلت: ويحتمل تعظيمها أي: نفس ناظرة إلى عاقبة أمرها، فيحصل الترقي من ذكر الإيمان إلى التقوى، ثم إلى النظر والتفكر، ثم رشح التقريع بقوله: {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ}. وقال الواحدي ومحيي السنة: لينظر أحدكم أيش الذي قدم لنفسه؟ أعملًا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه. قوله: (فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان)، الانتصاف: بل خلق فيهم النسيان.

[{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} 20] هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز مع أصحاب الجنة؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف. وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذا تنبيه للناس وإيذان) إلى آخره: (كأنهم لا يعرفون الفرق)، اعلم أن هذا التمثيل، أي: {لا يَسْتَوِي} كالتذييل لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إلى آخره، وذلك أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتقوى التي هي قصارى كرامة الله، كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وبالنظر والتيقظ للعاقبة، والأخذ في العمل وما يسره الغد إذا لقيته، ثم نهاهم أن يكونوا من الغافلين الذين نسوا الله وتركوا الحذر، فأهملوا العمل للغد، فامتهنهم الله بالخذلان فأنساهم أنفسهم، حتى رأوا في العاقبة من الأهوال ما نسوا فيها أنفسهم، ذيل الكلام بقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ} مزيدًا للترغيب فيما يزلفهم إلى الله، ويدخلهم دار كرامته، ويجعلهم من أصحابها، والترهيب عما يبعدهم من الله، ويدخلهم دار الإهانة ويجعلهم من أصحابها، ومن ثم دق ولطف استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر وحسن كلام القاضي حيث قال: لا يستوي الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة، والذين استمهنوا نفوسهم فاستحقوا النار.

[{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 21] هذا تمثل وتخييل، كما مر في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وقد دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43]، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره. وقرئ: (مصدعًا) على الإدغام، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. [{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 22 - 24] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كما مر في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}) أي: في أحد وجهيه، وهو: أن يراد ما كلفه الإنسان من عظمه وثقل محمله، على أنه عرض على أعظم خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله، وكذلك مثل حالة عظمة كلام الله المجيد وجلالة تنزيله، وأن شأن القرآن كذا وكذا، بالحالة المفروضة للجبال، وهي حصول صدعها من خشية الله عند نزوله. قال الواحدي: وبيانه: لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق من خشية الله، والمعنى: أن الجبل مع قساوته وصلابته يتشقق من خشية الله، حذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه، معرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها. وقلت: هذا معنى قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} أي: خاسر به.

{الغَيْبِ} المعدوم {والشَّهَادَةِ}: الموجود المدرك كأنه يشاهده. وقيل: ما غاب عن العباد وما شاهدوه. وقيل: السر والعلانية. وقيل: الدنيا والآخرة. {القُدُّوسُ} بالضم والفتح، وقد قرئ بهما: البليغ في النزاهة عما يستقبح. ونظيره: السبوح، وفي تسبيح الملائكة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. و {السَّلامُ} بمعنى السلامة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما غاب عن العباد)، يريد أن الغيب والشهادة يجوز أن ينسبا إلى الله تعالى وإلى العباد، فعلى الأول يحمل الغيب على المعدوم، ولما كان المعدوم عندهم عبارة عن الشيء الذي يصح أن يعلم ويخبر عنه، قال ذلك، وأما الموجود ففيه ما يصح أن يشاهد وما لا يصح، فجعلت كلها بمنزلة المشاهد لله تعالى، مبالغة في قوله: "كأنه يشاهده"، والوجه هو الثاني، لما يخالف الأول تفسيره قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ} [يونس: 18] في سورة يونس، وقوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [الرعد: 33] في سورة الرعد، اللهم إلا أن يراد بأحدهما المعدوم الممكن، وبالآخر المعدوم الممتنع، ويؤيده تفسير صاحب "المفتاح": {بِمَا لَا يَعْلَمُ}: أي بما لا ثبوت له، ولا علم الله معلق به، نفيًا للملزوم، وهو المنبأ به بنفي لازمه، وهو وجوب كونه معلومًا للعالم الذات، لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان. فحينئذ جاء التفصيل في قولهم: المعدوم شيء. قوله: ({القُدُّوسُ} بالضم والفتح)، بالضم: المشهورة، والفتح: شاذ، قال ابن جني: فعول في الصفة قليل، وذكر سيبويه: السبوح والقدوس، وإنما باب الفعول الاسم؛ كتنور، وسفود، وعبود.

ومنه: {دَارُ السَّلَامِ} و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] وصف به مبالغةً في وصف كونه سليمًا من النقائص، أو في إعطائه السلامة، , {المُؤْمِنُ} واهب الأمن. وقرئ بفتح الميم بمعنى المؤمن به، على حذف الجار، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]: المختارون بلفظ صفة السبعين. و {المُهَيْمِنُ}: الرقيب على كل شيء، الحافظ له، مفيعل من الأمن؛ إلا أن همزته قلبت هاءً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المؤمن به على حذف الجار، كما تقول في قوم موسى من قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]: المختارون) أي: يقول في شأن قوم موسى مستنبطًا من قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}: السبعون المختارون، فجعله صفة لـ"السبعون" ثم يطلق الصفة ويريد الموصوف، كما يطلق المؤمن ويريد المؤمن به، صفة لله تعالى. "المختارون"، هو مقول القول، أو نقول: إنك تصف قوم موسى بقولك: المختارون، وأنت تريد المختار منهم، جريًا على ظاهر قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}، قيل: إذا قلت: آمنت بالله فإنه مخرج منه الصفة مع إيجاز، فنقول: مؤمن به كما في ضرب من المثال، فإن معنى قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه، فلو كان حرف الجر مصرحًا به لقلت في صفة القوم: المختار منهم، وإذا لم يكن حرف الجر مصرحًا به لقلت في صفة القوم: المختارون منهم. قوله: (مفيعل من الأمن، إلا أن همزته قلبت هاء)، قال الزجاج: زعم بعض أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة، وأن أصله: "المؤيمن"، كما قالوا: إياك وهياك، والتفسير يشهد لهذا القول، لأنه جاء أنه الأمين وجاء أنه الشهيد، فتأويل الشهيد: الأمين في شهادته. قال حجة الإسلام: المهيمن في حق الله: أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرف على كنه الأمر مستول

و {الجَبَّارُ} القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد، أي أجبره، و {المُتَكَبِّرُ} البليغ الكبرياء والعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه، حافظ له، فهو مهيمن عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء على كمال القدرة، والحفظ إلى الفعل، والجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن، ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله تعالى. قوله: (و {المُتَكَبِّرُ}: البليغ الكبرياء)، قال الأزهري: فإن قيل: التفعل يجيء في باب الصفات لمن يتكلف النعت الذي لا يستحقه، كقوله: يتعظم وليس بعظيم، ويتكبر وليس بكبير، ويتسخى وليس بسخي، فكيف جاز في صفة الخالق؟ والجواب: أن الفعل يجيء على غير معنى التكلف، من ذلك قولهم: فلان يتظلم أي يظلم، وفلان يتظلم أي يشكو ظلامته، ويسأل أن يعان على ظالمه، فإذا جاز أن يكون متفعل في موضع فاعل، جاز أن يكون في موضع فعيل فإنه أخوان. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا الكبر الذي يذم به المخلوق، فالله استحق الكبرياء لأنه أكبر كبير وأعظم عظيم، ولا يستحقه المخلوق؛ الذي هو مدبر مخلوق من نطفة قذرة ويعود بعد موته جيفة أقذر منها، فهو متعد طوره بادعائه ما ليس له، والله عز وجل كما وصف نفسه، وفوق ما وصف، فهو متكبر بحق، وغيره مدع ما ليس له. وقال حجة الإسلام: المتكبر هو: الذي يرى الكل حقيرًا بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقًا، وكان صاحبها متكبرًا حقًا، ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا الله تبارك وتعالى.

و {الخَالِقُ} المقدر لما يوجده. و {البَارِئُ} المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. و {المُصَوِّرُ} الممثل. وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ: (البارئ المصور) بفتح الواو ونصب الراء، أي: الذي يبرأ المصور، أي: يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. وقرأ ابن مسعود: (وما في الأرض). عن أبي هريرة رضي الله عنه: سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: "عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته" فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({الخَالِقُ} المقدر لما يوجده)، روي عن المصنف: لما كانت إحداثات الله تعالى مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق. قوله: (عليك بآخر الحشر)، عن أحمد بن حنبل والترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة". تمت السورة * * *

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية، وهي ثلاث عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ ومَا أَعْلَنتُمْ ومَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} 1 - 2] روي أن مولاةً لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: "أمسلمةً جئت؟ " قالت: لا. قال: "أفمهاجرةً جئت؟ " قالت: لا. قال: "فما جاء بك؟ " قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجةً شديدةً. فحث عليها بني عند المطلب فكسوها وحملوها وزودوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردًا، واستحملها كتابًا إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أن رسول صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الممتحنة ثلاث عشرة آية، مدنية بخلاف بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وعمارًا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد)،

عليًا وعمارًا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد رضوان الله عليهم وكانوا فرسانًا وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسل سيفه، وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعةً: هي أحدهم، فاستحضر رسول الله حاطبًا وقال: "ما حملك عليه؟ " فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت امرًا ملصقًا في قريش، وروي: غريرًا فيهم، أي: غريبًا، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والصحيح ما روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى إذا أتينا الروضة ... إلى آخره، فيه اختلافات، النهاية: وأصل الظعينة: الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: الظعينة. قوله: (من عقاص شعرها)، النهاية: العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله. قوله: (منذ نصحتك)، النهاية: معنى نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه. قوله: (غريرًا)، بالغين المعجمة، أي: ملصقًا، ويروى بالعين والراء المهملتين، وهو الأصح.

من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئًا فصدقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، فنزلت. عدى"اتخذ" إلى مفعوليه، وهما {عَدُوِّي}، {أَوْلِيَاءَ}. والعدو: فعول، من عدا؛ ك"عفو" من"عفا"؛ ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. فإن قلت: {تُلْقُونَ} بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يتعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} حالا من ضميره؛ وبـ {أَوْلِيَاءَ} صف'ًله. ويجوز أن يكون استئنافًا. فإن قلت: إذا جعلته صفةً لـ {أَوْلِيَاءَ} وقد جرى على غير من هو له، فأين الضمير البارز وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجوهري: العرير: الغريب في الحديث، وبالغين المعجمة: غير المجرب، والأول أصح دراية. قوله: (لعل الله قد اطلع)، أي: علم أحوالهم في ذلك الوقت ومقادير أعمالهم وما يحصل لهم من الثواب في ذلك اليوم، بحيث يكون غافرًا معه جميع ذنوبهم التي ستوجد، لأن ذلك قطب الأمر، والمراد بقوله: "اعملوا ما شئتم": الذنوب غير المنصوص عليها. قوله: (استئنافًا)، كأنه لما قيل: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} قالوا: كيف نتخذهم أولياء؟ فقيل: {تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}.

قلت: ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال، لو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم، يقال: ألقى خراشي صدره، وأفضى إليه بشقوره. والباء في {بِالْمَوَدَّةِ} إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وإما ثابتة على أن مفعول {تُلْقُونَ} محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك قوله: {تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} أي: تفضون إليهم بمودتكم سرًا، أو {تُسِرُّونَ إلَيْهِم} أسرار رسول الله بسبب المودة. فإن قلت: {وقَدْ كَفَرُوا} حال مماذا؟ قلت: إما من {لا تَتَّخِذُوا} وإما من {تُلْقُونَ} أي: لا تتولوهم، أو توادونهم وهذه حالهم. و {يُخْرِجُونَ} استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أو حال من {كَفَرُوا}. و{أَن تُؤْمِنُوا} تعليل لـ {يُخْرِجُونَ}، أي: يخرجونكم لإيمانكم، و {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألقى إليه خراشي صدره)، الأساس: ومن المجاز: هو يلقي من صدره خراشي منكرة، وهو النخامة والبلغم، وتقول: ألقى إلى فلان خراشي صدره؛ تريد ما اضمره من الأغمار والإحن وأنواع البث. قوله: (وأفضى إليه بشقوره)، الجوهري: الشقور: الحاجة، يقال: أقبلته بشقوري، كما يقال: أفضيت إليه بعجري وبجري. قوله: (أو {تُسِرُّونَ إلَيْهِم} أسرار رسول الله)، هو كقوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3]، وعلى الأول من باب التضمين؛ ضمن {تُسِرُّونَ} معنى: تفضون، وعدي تعديته.

متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا}، بمعنى: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. و{تُسِرُّونَ} استئناف، ومعناه: أي طائل لكم في إسراركم، وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون. {ومَن يَفْعَلْهُ} ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وقرأ الجحدري: (لما جاءكم) أي: كفروا لأجل ما جاءكم، بمعى: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سببًا لكفرهم. {إن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقول النحويين في مثله: هو شرط)، إشارة إلى التفاوت بين قولهم وقوله: " {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} "يعني جوابه محذوف غير منوي، وقد جعل تتميمًا للكلام السابق ومبالغة فيه، كما قال: "لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي"، ولو قيل: إن كنتم أوليائي لا تتولوا أعدائي لم يكن بذاك، لأن الشرط في الأول كالتعليل للنهي، وهو يقتضي حصول مضمونه قبل ذلك، وفي الثاني لمجرد التعليق، يدل عليه قوله في قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51]: "وهو من الشرط الذي يجيء به المدل بأمره، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم كانوا أول المؤمنين". فإن قلت: ما محله؟ قلت: هو حال من فاعل: {لا تَتَّخِذُوا} أي: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} والحال حال خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مرضات الله، ألا ترى إلى قوله في قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 10 - 14] على قراءة: (إن) بالكسر: "أي: لا تطع كل حلاف شارطاُ يساره، لأنه إذا أطاع كافرًا لغناه، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى"، كيف صرح بالشرط وأبرزه في معرض الحال والتعليل. قوله: ({إن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم)، الراغب، الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله،

خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أوليا، كما أنتم {ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} بالقتال والشتم، وتمنوا لو ترتدون عن دينكم، فإذن موادة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم، ونحوه قوله تعالى: {لَا يَالُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]. فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعًا مثله ثم قال: {ووَدُّوا} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتةً، كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعًا: من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنه قيل: رجل ثقف لقف، أي: حاذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة، ورمح مثقف: مقوم، يقال: ثفقت كذا: إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قال: قد يتجوز فيستعمل في الإدراك، وإن لم يكن معه ثقافة، قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]. قوله: ({لَا يَالُونَكُمْ خَبَالًا}، يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحًا، ولا آلوك جهدًا على التضمين، أي: لا أمنعك نصحًا ولا أنقصكه، فالمعنى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم شيئًا إلا فسادًا وشرًا، وهذا يقوي تقرير الجزاء المقدر على ما سيأتي في قوله: {وَوَدُّوا}. قوله: (الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع)، أي: لا فرق بين قولك: إن تكرمني أكرمك، وبين قولك: إن أكرمتني أكرمتك. قوله: (كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم)، الراغب: الود: محبة الشيء مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانًا: إذا أحببته، ووددت الشيء: إذا تمنيته.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "التخليص في المعاني والبيان": في كلام صاحب "الكشاف" نظر دقيق، ولكن في جعل "ودوا" عطفًا على جواب الشرط نظر، لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة، وإن لم يظفروا بهم، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة، فالأولى أن يجعل قوله تعالى: {ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفًا على الجملة الشرطية كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]. قال المصنف: "عدل بقوله: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل: ثم أخبركم بأنهم لا ينصرون". وأجيب عنه بأن الذي ظننته جزاء وهو قوله تعالى: {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً}، أيضًا لا يصلح لذلك، لأن كونهم أعداء حاصل، سواء ظفروا أو لم يظفروا، لقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ} لكن المراد: إن يظفروا بكم يستوفوا منكم متمناهم الذي هو مقتضى أن يكونوا خالصي العداوة من بسط الأيدي والألسن، والرد إلى الكفر، فعطف "يبسطوا" و"ودوا" على قوله: {يَكُونُوا}، على طريقة: أعجبني زيد وكرمه، فيكون كل من بسط الأيدي والألسن والرد إلى الكفر متمناهم لا الارتداد فقط، لكن لما كان ردهم كفارًا كان أشد متمناهم وأهم شيء عندهم، لانحسام مادة العداوة به، صرح بتمنيهم إياه، وعدل إلى لفظ الماضي؛ لبيان الأولوية والأولية.

وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم وأولها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. [{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3] {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} أي قراباتكم {ولا أَوْلادُكُمْ} الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماةً عليهم، ثم قال: {يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبين أقاربكم وأولادكم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية [عبس: 34]، فما لكم ترفضون حق الله مراعاةً لحق من يفر منكم غدًا؟ خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتحريره: أنه تعالى لما نهى المسلمين عن اتخاذ من يعاديهم أولياء بقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وأراد أن يخبر عن مطوي سرائرهم من تمنيهم للمسلمين مضار الدنيا والدين، وانتهازهم الفرصة لتحقيق متمناهم قال: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً} كما قررناه، فظهر أن الجزاء مقدر وهذا دال عليه، وهو من إطلاق السبب على المسبب، وفي كلامه إشعار بذلك، وهو قوله: "خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء"، وعن بعضهم الواو للحال لا للعطف. قوله: (وتتقربون إليهم محاماة عليهم)، تعريض بحاطب، وقوله: "وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا"، وإليه أشار بقوله: "خطأ رأيهم في موالاة الكفار". قوله: (خطأ رأيهم) إلى قوله: (أولًا) و (ثانيًا)، إشارة إلى أن قوله: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} الآية، متصل بمجموع الشرط والجزاء، وكلاهما كالتعليل لقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ} يعني موالاة الكفار خطأ، سواء نظرتم إلى حالكم وحالهم أو نظرتم إلى حال أقربائكم

من والوه أولًا، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانيًا؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلًا. قرئ: (يفصل) و (يفصل)، على البناء للمفعول. و {يَفْصِلُ} و (يُفصِّل)، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، و (نفصل) و (نفصل) بالنون. [{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4 - 5] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأولادكم التي اقتضت تلك الموالاة، فهو من باب التقسيم الحاضر، وإليه أشار بقوله: "إن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلًا". قوله: (بما يرجع)، الباء تتعلق بـ"خطأ"، أي: أن الله سبحانه وتعالى قال أولًا: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وبين أن مرجع موالاتهم أنهم إن ظفروا بكم وتمكنوا منكم، يكونوا لكم أعداء خالصي العداوة ... إلخ، ثم أتبعه قوله: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ}، وبين أن مرجع حال قراباتهم وأولادهم الذين يوالون الكفار من أجلهم أنهم لا ينفعونهم يوم القيامة ويفرون منهم. قوله: (قرئ: "يفصل" و"يفصل")، قرأ عاصم: {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وابن عامر: بضم الياء وفتح الفاء والصاد مشددة، وحمزة والكسائي: كذلك، إلا أنهما كسرا الصاد، والباقون: بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخففة، والقراءتان اللتان بالنون شاذتان، ذكرهما الزجاج.

قرئ: {أُسْوَةٌ} و (أسوة) وهو اسم المؤتسى به، أي: كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء والمقت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو علي: يذهب أبو الحسن في هذا النحو إلى أن الظرف أقيم مقام الفاعل، وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام منصوبًا، وكذلك يجيء على قياس قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]، قال أبو علي: هو على قوله مفتوح، والموضع موضع رفع. قوله: (قرئ: {أُسْوَةٌ} و"إسوة")، بضم الهمزة: عاصم، والباقون: بكسرها. قوله: (وهو اسم المؤتسى به)، روي عن المصنف أنه قال: القدوة والأسوة لكل واحد منهما معنيان؛ أحدهما: الاقتداء والائتساء وهو الأصل، والثاني: المقتدى به والمؤتسى به، والآية تحتمل الأمرين. قوله: (أي: كان فيهم مذهب حسن مرضي)، أي: كان في إبراهيم ومن معه مذهب حسن، قال المصنف: هو كقوله: وفي الرحمن للضعفاء كاف وفي البيضة عشرة أمناء حديد. قلت: هو من باب التجريد، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] جرد من إبراهيم عليه السلام ومن معه من يؤتسى به، وهم المؤتسى به. قوله: (وقشروا لهم العصا)، قال الميداني: يضرب في خلوص الود، أي: أظهرت له ما كان في نفسي، ويقال: اقشر له العصا، أي: كاشفه وأظهر له العداوة.

وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة قائمةً، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاةً، والبغضاء محبةً، والمقت مقةً، فأصبحوا عن محض الإخلاص. ومعنى {كَفَرْنَا بِكُمْ} وبما تعبدون من دون الله: أنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء. فإن قلت: مم استثني قوله: {إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا بكفرهم بالله)، وهو نظير ما سبق من قولنا: "لما كان ردهم كفارًا أشد متمناهم، وأهم شيء عندهم لانحسام مادة العداوة به"، وفيه إيماء إلى قصة الخليل، والتحريض على الائتساء به وإنما جيء بها بيانًا للمكافأة وانتهازًا للفرصة قبل فرصة الكفار، يعني: إذا كان عداوتهم والضرب والقتل والشتم لأجل أنكم تركتم دينهم وآمنتم بالله، وأنهم إنما يعادونكم لأجل ذلك، وهم مترصدون إظهار كل ذلك، وأهم من ذلك ردكم كفارًا لانحسام مادة العداوة به، فاستبقوا أنتم واقتدوا بخليل الله، فكاشفوهم بالعداوة وأظهروا البغضاء والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتنا أيضًا ليس إلا كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة قائمة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوة موالاة. قوله: (مقة)، الجوهري: المقة: المحبة، والهاء عوض من الواو، وقد ومقه يمقه بالكسر فيهما، أي: أحبه، فهو وامق. قوله: (إنا لا نعتد بشأنكم)، يريد أنه تعالى أوقع كفرنا على الكفار وعلى معبوديهم، والثاني ظاهر، نحوه قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، والأول مجاز فينبغي أن يعبر بالكفر

قلت: من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنةً يستنون بها. فإن قلت: فإن كان قوله {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنىً من القول الذي هو أسوة حسنة، فما بال قوله: {ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} وهو غير حقيق بالاستثناء؟ ! ألا ترى إلى قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 17]؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن معنى يجمع المعنيين، ولا يلزم إرادة الحقيقة والمجاز معًا من لفظ واحد، وذلك هو الاعتداد؛ لاستلزام الكفر بالشيء عدم الاعتداد به. قوله: (من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم)، والظاهر أنه استثناء منقطع من "قوم"، لاختلاف القولين، قال في قوله: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آَلَ لُوطٍ} [الحجر: 58 - 59]: "استثناء منقطع من {قَوْمِ}؛ لأن القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان". قال أبو البقاء: {إلاَّ قَوْلَ}، هو استثناء من غير الجنس، أي: لا تأتسوا به في استغفار الكفار. قال صاحب"التيسير": الاستثناء منقطع، وتقديره: لكن {قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} الآية، كان لموعدة وعدها إياه، فظن أنه قد أنجزها، فلما تبين إصراره تبرأ منه، ولا يحل لكم ذلك مع عملكم، وتحقيق القول فيه سبق في سورة مريم. وقال محيي السنة: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره، إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فعلى هذا الاستثناء متصل. قوله: (وهو غير حقيق بالاستثناء)، لأن الاقتداء في هذا القول حسن، ألا ترى إلى

قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد: إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. فإن قلت: بم اتصل قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا: ربنا، أمرًا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليمًا منه لهم، تتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهًا على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11]. قوله: (أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد: إلى موعد الاستغفار)، يعني: أن الاستثناء مجموع الكلام، لكن بعضه مقصود بالذات، والبعض الآخر تابع له، فيكون: {ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} حالًا وتتميمًا لقوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وما عليه من بذل الوسع في الاستغفار، ومن ثم جيء بها قسمية. قوله: (بما قبل الاستثناء)، وذلك أنهم لما خاطبوا القوم بقولهم: {وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} ونبهوهم على إظهار العداوة، وقشروا لهم العصا لأجل الدين التجؤوا إلى الله تعالى من كيدهم ومكرهم، وأنابوا إليه واستعاذوا من فتنتهم، وحين بولغ في التوصية بالتأسي بهم ذكر خصلة واحدة يجب الاجتناب عنها، فأورد في خلال الكلام اهتمامًا، وبهذا ظهر وجه قول محيي السنة رحمه الله: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه، وهذا الاستثناء على حد قول السيد الحميري:

وقرئ: {بُرَآءُ} كـ (شركاء)، و (براء) كـ (ظراف)، و (براء) على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. و (براء) على الوصف بالمصدر، والبراء والبراءة كالظماء والظماءة. [{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 6] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لو خير المنبر فرسانه .... ما اختار إلا منكم فارسا قال صاحب "المفتاح": هذا التقديم والتأخير لما استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف، قل دوره في الاستعمال. وعلى أن يكون: {رَّبَنَا} أمرًا للمؤمنين، يكون متصلًا بمفتتح السورة، وذلك أنه تعالى لما حذر المؤمنين من موالاة أعدائه وأعدائهم، ونسب من يفعل مثل فعلهم إلى الضلالة، وخطأ رأيهم بموالاتهم من جميع الجهات، وهددهم بقوله: {واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وأراد أن يرشدهم إلى تحري الصواب، والتهدي إلى الطريق القويم قال أولًا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ} أي: كافحوا الكفار مكافحة خليل الله والذين معه حيث كاشفوهم بالعداوة، وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء بدل المولاة والمصافاة، وثانيًا: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}، أي: اعتذروا إلى الله بإبدال التوكل على الكفار بالتوكل على العزيز الجبار، وبالإبانة إليه في كل حال، والاستعاذة من فتنة أعداء الدين والاستغفار مما فرط منهم من الموالاة. قوله: (وقرئ: {بُرَآءُ} كـ"شركاء") وهي المشهورة، والبواقي شواذ. قال الزجاج: {بُرَآءُ}: على فعلاء، مثل ظريف وظرفاء، ومن قرأ "براء" بالمد، فهو كظريف وظراف، ومن قرأ "براء": أبدل الضمة من الكسرة، كرخل ورخال بضم الراء، وقال

ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريرًا وتأكيدًا عليهم، ولذلك جاء به مصدرًا بالقسم؛ لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل عن قوله: {لَكُمْ} قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ} وعقبه بقوله: {ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} فلم يترك نوعًا من التأكيد إلا جاء به. [{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً واللَّهُ قَدِيرٌ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 7] ولما نزلت هذه الآيات تشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلما رأى الله عز وجل منهم الجد والصبر على الوجه الشديد، وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم، فأسلم قومهم وتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضهم: رخال بضم الراء، ويجوز "براء" بفتح الباء، لأنهم يقولون: أنا البراء منك، ويقول الاثنان والثلاثة والمرأة: نحن البراء منك. قوله: (ثم كرر الحث على الائتسام بإبراهيم عليه السلام وقومه تكريرًا وتأكيدًا)، ظاهره أن إرادة التكرير لمجرد التأكيد، وذهب الراغب إلى أن التكرير لإناطة معنى زائد حيث قال: إن الإسلام بني أوله على التبرؤ من الآلهة وعبادتها، ومن الأصنام وعبدتها، ألا ترى إلى قول من يشهد بالتوحيد أنه ينفي الآلهة أولًا بقوله: "لا إله" ويثبت ثانيًا بقوله: "إلا الله" الواحد، الذي يحق له العبادة، فقال في "الأسوة" الأولى المتعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم: {إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، وأنهم يعادونهم إلى أن يؤمنوا، فهذه الأسوة تفصل المؤمن من الكافر، ليتميز عنه في الظاهر، ويتبرأ من صداقته ويتحقق بعداوته.

وقيل: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت أم حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصر وأرادها على النصرانية، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه، وساق عنه إليها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والثانية معناها: ائتسوا بهم لتنالوا من ثوابهم، وتنقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم مبشرين بالجنة غير خائفين. وقلت: إنه تعالى لما سلى المسلمين في قطع موالاة أقربائهم الكفار بالائتساء بإبراهيم والذين معه، واستثنى منه استغفاره لأبيه لما لم يظهر له أمارة أو نص من الله بالبراء الكلية منه، كما ظهر للمسلمين، بقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} كما سبق تقريره في سورة مريم، كرر الائتساء به وتركه مطلقًا ليكون صالحًا لجميع ما يجب أن يؤتسى به، يشهد له قوله: {ومَن يَتَوَلَّ} بخلافه في الأول حيث أبدل من المؤتسى فيه قوله: {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ}، ليكون تعميمًا بعد تخصيص، وهنا أبدل {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ} من {لَكُمْ}، ليكون مزيد نعت وتحريض على الائتساء به، فحصل من ذلك التأكيد والتقرير مع الشمول والعموم والله أعلم. قوله: (لانت ... عريكة أبي سفيان)، النهاية: العريكة: الطبيعة، يقال: فلان لين العريكة: إذا كان سلسًا مطواعًا قليل الخلاف، وفيه، فلان شديد الشكيمة: إذا كان عزيز النفس، أبيا قويًا، وأصله من شكيمة اللجام، فإن قوتها تدل على قوة الفرس. قوله: (وأرادها على النصرانية): الأساس: أراده على الأمر: حمله عليه. قوله: (فخطبها عليه)، هذا ليس من قوله: "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه"

مهرها أربع مئة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. و{عَسَى} وعد من الله، على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك، أو قصد به إطماع المؤمنين، {واللَّهُ قَدِيرٌ} على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة {واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أسلم من المشركين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق معلوم ويتراضيا ولم يبق إلا العقد، بل من باب التضمين، إذ المعنى: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يطلب أن يباشر عقدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبًا له إياها، يدل عليه قوله: "ساق عنه"- أي: ساق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى أم حبيبة مئة دينار. قال صاحب "الجامع": وقد اختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، إياها، وموضع العقد، وقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، وزوجها منه النجاشي وأمهرها أربع مئة دينار، وقيل: أربعة آلاف درهم من عنده، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم شرحبيل بن حسنة فجاء بها إليه، ودخل بها بالمدينة. قوله: (ذلك الفحل لا يقدع أنفه)، النهاية: يقال: فدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره ليرتدع وينكف، ويروى بالراء. ومنه حديث زواجه صلوات عليه، قال ورقة بن نوفل: محمد يخطب خديجة، هو الفحل لا يقدع أنفه.

[{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 8 - 9] {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ}، وكذلك {أَن تَوَلَّوْهُمْ} من {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ}، والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا أيضًا رحمة لهم لتشددهم وجدهم في العداوة متقدمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد: هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقيل: هم النساء والصبيان. وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول، فنزلت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها، وتكرمها وتحسن إليها، وعن قتادة: نسختها آية القتال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الميداني: القدع: الكف، يضرب للشريف الذي لا يرد عن مصاهرة ومواصلة. قوله: (متقدمة لرحمته)، إما خبر بعد خبر لقوله: "وهذا أيضًا رحمة"، أو صفة لـ"رحمة"، يعني قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ} رحمة من الله للعالمين متقدمة على ما وعدهم الله تعالى من تيسير إسلام قومهم بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} قال فيه: "فلما رأى الله منهم الجد والصبر وطول التمني للسبب الذي يتيح لهم الموالاة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه". قوله: (قدمت على أسماء بن أبي بكر)، رضي الله عنهما، عن البخاري ومسلم وأبي داود

{وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} وتفضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعلموا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم، مترجمةً عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وإن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} 10 - 11] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت على أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صلي أمك". زاد في رواية عن البخاري ومسلم: فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ} الآية. قوله: (وتفضوا إليهم بالقسط)، يريد أن "تقسطوا إليهم" متضمن معنى الإفضاء، وعدي تعديته. قوله: (مترجمة)، نصب تمييزًا، أي: ناهيك بتوصية الله مترجمة، يعني قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} إلى قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} ثم تذييله بقوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} حسبك وكافيك تنبيهًا على قبح صنيع من يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

{إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ} سماهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة الشهادة ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة: "بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج؟ بالله ما خرجت رغبةً عن أرض إلى أرض؟ بالله ما خرجت التماس دنيا؟ بالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ ". {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ} منكم لأنكم لا تكسبون فيه علمًا تطمئن معه نفوسكم، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند الله حقيقة العلم به، {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ} فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك. {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور. وذلك أن صلح الحديبية كان على: أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم، ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم؛ وكتبوا بذلك كتابًا وختموه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولم يظهر)، قيل: يجوز أن يكون حالًا من فاعل "تصديقهن"، وأن يكون عطفًا على "تصديقهن". قوله: (لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك)، الانتصاف: يستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع لأن الضمير الأول للمؤمنات، والثاني للكفار، وفر الزمخشري من ذلك لأن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يرى حملها على نفي الحل بين المؤمنة والكافر، حتى لا يتمحض نسبة الحرمة لكافر، ولا مخلص له، فإن الحل لابد أن يضاف إلى فعل أحدهما أو كليهما، فإن تعلق بكل واحد منهما حصل المقصود، وتعليقه بفعل المرأة دون فعل الرجل يخالف الآية، فإنها صرحت بنفي الحل من الجهتين فكان يكفي: {ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. والحق أن كل واحد من فعلي المؤمنة والكافر ينتفي عنه الحل، أما فعل المؤمنة فتعلق به الحرمة لأنها مخاطبة، وأما

فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمةً والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي- وقيل: صيفي بن الراهب- فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت، بيانًا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك. وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد {بَرَاءَةٌ}، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر. فإن قلت: كيف سمى الظن علمًا في قوله: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ}؟ قلت: إيذانًا بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعل الكافر- وهو الوطء مثلًا- فمنفي الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة فليس الكفار مورد الخطاب، لكن الأئمة أو من قام مقامهم مخاطبون أن يمنعوا هذا الفعل من الوقوع، لكن المخاطب في حق المؤمنة هي، وفي حق الكافر الأئمة، والكافر إذا أظهر الفساد بين المسلمين وجب منعه، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد. وقلت: تحرير ما قال: إن قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، دل بمفهومه أنه لا حل بين المؤمنة والمشرك، فأخذ المصنف به وترك دلالة منطوقة ولا ينفعه ذلك؛ لأن الذهاب إلى دلالة المنطوق أظهر، وإليه أومأ بقوله: "ولا مخلص له"، إلى آخره.

فإن قلت: فما فائدة قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ} وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت: فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك، وأن تكليفكم لا يعدوه. ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات إا آتوهن أجورهن- أي مهورهن-، لأن المهر أجر البضع، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهن، ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض، ثم تزوجن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: ما فائدة التغيير بين الجملتين من جعل المسند في الأولى صفة مشبهة، وفي الثانية مضارعًا. قلت: أسند {حِلٌّ} وهو صفة مشبهة إلى ضمير {المُؤْمِنَاتُ} إعلامًا بأن هذا الحكم ثابت فيهن، لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند {يَحِلُّونَ} وهو مضارع إلى ضمير {الكُفَّارِ} إيذانًا بأن هذا الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة، لكن قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، ونظير هذا الاستمرار ما في قوله تعالى: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فأنه فسر. بقوله: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126]، ثم في كل من الجملتين حكم إعرابي وحكم شرعي؛ ففي الأولى حكم بنفي الحل على المؤمنات وحظر على الكافرين نكاح المؤمنات كما تقول: لا تحل لزيد أكل مال الغير غصبًا، وظهر منه أن الكفار مكلفون بهذا الحكم، وتقرير الجملة الثانية بالعكس من ذلك. قوله: (ولا يخلو إما أن يراد بها)، وإنما نشأت الوجوه الثلاثة من تعليق رفع الجناح بإيتاء أجورهن، وتفسير الأجور؛ أي: لابد من تقدم إيتاء الأجور على عقد النكاح، فإذا فسرت

على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين لهم أن ما أعطي أزواجهن لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق. وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلمًا أو بذمة وبقي الآخر حربيًا وقعت الفرقة، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملًا. {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} والعصمة ما يعتصم به عقد وسبب، يعني: إياكم وإياهن، ولا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقةً زوجية. قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأجور بالمهور التي من جانب المسلمين، فيشترط سوق المهر قبل العقد ليدفعنه إلى أزواجهن الكفار، وإذا فسرت الأجور من جهة الأزواج الكفار، فهو إما أن يحمل ما أعطي أزواجهن على الفرض، ليكون بدلًا عن أجورهن بعد العقد، وإليه أشار بقوله: "ثم يتزوجن على ذلك"، وإما أن يحمل على الهبة قيلزم المسلم بعد العقد مهرها، وإليه أشار بقوله: "وأنه لابد من إصداق". قوله: (وقعت الفرقة)، قيل: عند الشافعي رضي الله عنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا، فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة، وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وليس في الآية دلالة على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنها مقيدة بالإيمان. قوله: (فلا يعتدن بها من نسائه)، قيل: عند الشافعي ذلك لأنها كافرة من غير أهل الكتاب أو مرتدة.

وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وعن مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن {واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفر {ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ: {ولا تُمْسِكُوا} بالتخفيف، و (لا تمسكوا) بالتثقيل، ولا تمسكوا، أي: ولا تتمسكوا {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} يعني جميع ما ذكر في هذه الآية {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف، أو حال من {حُكْمُ اللَّهِ} على حذف الضمير، أي: يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكمًا على المبالغة. روي أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله: {وإن فَاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم {شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} أحد منهن {إلَى الكُفَّارِ}، وهو في قراءة ابن مسعود: أحد. فإن قلت: هل لإيقاع {شَيْءٌ} في هذا الموقع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه: أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظًا في هذا الحكم وتشديدًا فيه. {فَعَاقَبْتُمْ}: من العقبة وهي النوبة. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارةً، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَلا تُمْسِكُوا} بالتخفيف)، أبو عمرو: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف. قوله: (فنزل قوله: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ})، وفي "المطلع": قال ابن زيد: خرجت امرأة من المسلمين إلى المشركين وأتت امرأة من المشركين فقال القوم: هذه عقبتكم قد أتتكم فنزلت.

ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، {فَآتُوا} من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري: يعطى من صداق من لحق بهم. وقرئ: (فأعقبتم)، (فعقبتم) بالتشديد، (فعقبتم) بالتخفيف _ بفتح القاف وكسرها-، فمعنى (أعقبتم): دخلتم في العقبة، و (عقبتم) من عقبه: إذا قفاه، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، وكذلك (عقبتم) بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه. وعقبتم نحو تبعتم. وقال الزجاج: {فَعَاقَبْتُمْ} فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من فاتته امرأته)، قيل: يعني فاتت امرأة مسلم إلى الكفار ولم يعط الكفار مهرها، فإذا فاتت امرأة كافر إلى المسلمين؛ أي: هاجرت إليهم، وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الذي فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهر زوجها الفائتة من مهر هذه المهاجرة، ليكون كالعوض لمهر زوجه الفائته إلى الكفار، ولا يجوز أن يعطى مهر هذه المهاجرة زوجها الكافر. قوله: (ولا تؤتوه زوجها الكافر)، وفي "المطلع": ليكون قصاصًا، ولهذا قال مجاهد: معنى {فَعَاقَبْتُمْ}: اقتصصتم. قوله: (وقرئ: "فأعقبتم")، قال ابن جني: "فعقبتم": قراءة الأعرج، "فعقبتم" خفيفة: قراءة النخعي والزهري، "فعقبتم" بكسر القاف: قراءة مسروق، وقراءة العامة: {فَعَاقَبْتُمْ}. قال قطرب: {فَعَاقَبْتُمْ}: أصبتم عقبًا منهن، يقال: عاقب الرجل شيئًا: إذا أخذ شيئًا، وقرأ مجاهد: "فأعقبتم"، ومعناه: صنعتم بهم مثل ما صنعوا بكم. وعن الأعمش: عقبتم: غنمتم.

وفسر غيرها من القراءات: فكانت العقبى لكم، أي: فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم. وقيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. [{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 12] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفسر غيرها)، أي: وفسر الزجاج غير القراءة المشهورة- وهي "عاقبتم"- من القراءات الشواذ بقوله: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم. وقلت: والزجاج لما عدد القراءات قال: وجاء في التفسير: فغنمتم وتأويله في اللغة: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم، يعني أن المفسرين أرادوا بتفسيرهم "فعقبتم" بقولهم: فغنمتم من عدوكم: أنه من إقامة السبب مقام المسبب، لأن الغنيمة إنما هي مسببة من غلبة المسلمين، فكأنه قيل: إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فغنمتم من عدوكم شيئًا، فأعطوا الأزواج من تلك الغنيمة ما أنفقوا عليهن، وقال أيضًا: معنى {فَعَاقَبْتُمْ}: فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. أي: إن مضت امرأة منكم إلى الكفار فأتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا في مهورهن، والذي ذهبت زوجته كان يعطى

{ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} وقرئ: (يقتلن)، بالتشديد، يريد: وأد البنات {ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ} كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك، كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبًا، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين. {ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهن عنه من المقبحات. وقيل: كل ما وافق طاعة الله فهو معروف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الغنيمة المهر، ولا ينقص من حقه شيء، قال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: {فَعَاقَبْتُمْ}: أصبتم عقبًا منهن، يقال: عاقب الرجل شيئًا: إذا أخذ شيئًا. قوله: (لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين)، ويمكن أن يقال إنما كنى عن الولد الدعي بقوله: {بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ} لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال، إنما فعلن ذلك امتنانًا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حتى يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم، فنهين عن ذلك، أي: فلا يفعلن ذلك، فإن ذلك من شعائر الجاهلية الأولى، وهو مناف لشيمة المسلمات المؤمنات تصويرًا لتينك الحالتين، وتهجينًا لما كن يفعلنه. روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه. قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن. وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى على نهيهن من أن يأتين بولد من الزنى فتنسبه إلى الأزواج، لأن الزنى نفي بقوله: {وَلَا يَزْنِينَ}.

فإن قلت: لو اقتصر على قوله: {ولا يَعْصِينَكَ} فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه، يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: " أبايعكن على أن لا تشركين بالله شيئًا" فرفعت هند رأسها وقالت: والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: {ولا يَسْرِقْنَ}، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فما أدري، أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي)، يعني: إذا قيد معصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعروف مع جلالة قدره وعلو منزلته، وأنه لا يأمر إلا بالمعروف، فما ظنك بطاعة غيره في المعصية؟ ! قال الزجاج: {ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، قيل: في النوح وتمزيق الثياب وخمس الوجوه ومحادثة الرجال، والجملة أن المعنى: لا يعصينك في جميع ما تأمرهن بالمعروف. قوله: (وإنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال)، أنكرت أمر الشرك، يعني تقول للرجال: تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون، وتقول لنا: على أن لا تشركن بالله شيئًا،

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف- يا نبي الله- عفا الله عنك، فقال: {ولا يَزْنِينَ}، فقالت: أو تزني الحرة؟ ! وفي رواية: ما زنت منهن امرأة قط، فقال عليه الصلاة والسلام: {ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} فقالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر! فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وقيل في كيفية المبايعة: دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن. وقيل: صافحهن وكان على يده ثوب قطري. وقيل: كان عمر يصافحهن عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: الرجال والنساء عبدوا الأصنام، ثم تعيرنا بالشرك، ولا تعير الرجال. قوله: (وقيل في كيفية المبايعة)، والصحيح ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها. قوله: (ثوب قطري)، النهاية: قطوى بالواو، وهو ضرب من البرود فيها حمرة، ولها أعلام فيها بعض الخشونة، وقيل: هي حلل جياد تحمل من قبل البحرين. وقال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال لها "قطر" بالراء، وأحسب الثياب القطرية نسبت إليها فكسروا القاف للنسبة وخففوا.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} 13] روي أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم، فقيل لهم: {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} مغضوبًا عليهم {قَدْ يَئِسُوا} من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة. {كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ} من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل: {مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كانوا يواصلون اليهود)، الانتصاف: يمكن أن تكون هذه الآية من باب الاستطراد، فإنه تعالى لما ذم اليهود استطرد ذمهم بذم المشركين على وجه لا يوجد أفصح ولا أمكن منه. وأقول: إن هذه الآية متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهى المؤمنين عن اتخاذهم أولياء بقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} وهي قوله: {ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: الكاملون في الظلم، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ} إلى آخره مستطرد؛ فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك، والنهي عن مبرة هؤلاء، أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى والله أعلم. قوله: (وقيل: {مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} بيان القبور)، وعلى الأول: متعلق بـ {يَئِسُوا}، وقال صاحب "الكشف": ذكرهما أبو علي.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: لعل القول الأخير أوجه، لأن وجه التشبيه فيه أشمل، فإن اليهود ما أنكروا الآخرة، بل أيسوا من خيرها لعنادكم كما قال: "قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة"، يدخل فيه تخييل حالهم بالموتى في صورة الآيسين من رحمة الله سبحانه وتعالى، وتشبيه يقينهم بيقينهم، لأن يقين الموتى بالآخرة ضروري. تمت السورة والحمد لله وحده. * * *

سورة الصف

سورة الصف مكية، وهي أربع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} 1 - 4] {لِمَ} هي لام الإضافة داخلة على (ما) الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام. وإنما حذفت الألف؛ لأن (ما) والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيرًا في كلام المستفهم؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلًا، والوقف على زيادة هاء السكت، أو الإسكان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الصف مكية، وهي أربع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (والوقف على زيادة هاء السكت)، قال الزجاج: فإذا وقفت عليها قلت: لمه، ولا يوقف عليها لئلا تخالف المصحف، وينبغي للقارئ أن يصلها.

ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف، كما سمع: ثلاثة اربعه، بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة. وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد. وروي أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله، فولوا يوم أحد، فعيرهم. وقيل: لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسمعنا، ففروا يوم أحد ولم يفوا. وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر. وقيل: قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم، فنزلت في المنتحل. وعن الحسن: نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان: تهكم بهم وبإيمانهم؛ هذا من أفصح كلام وابلغه في معناه، قصد في {كَبُرَ} التعجب من غير لفظه كقوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد)، لف، وقوله: "قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال" إلى آخره نشر للثاني، وقوله: "كان الرجل يقول قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن" نشر للأول. قوله: (ونكى فيهم)، النهاية: يقال: نكيت في العدو وأنكي نكاية فأنا ناك، إذا كثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك. قوله: (هذا من أفصح الكلام)، "هذا" إشارة إلى قوله: {كَبُرَ مَقْتًا}، وقوله: "في معناه"

.. غلت ناب كليب بواؤها ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى {أَن تَقُولُوا} ونصب {مَقْتًا} على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه؛ واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنازع فيه "أفصح" و"أبلغ"، وقوله: "قصد" إلى آخر الفصل بيان لبلاغته وفصاحته. قوله: (غلت ناب كليب بواؤها)، أوله: وجارة جساس أبانا بنابها .... كليبًا أي: ما أغلى نابًا بواؤها كليب! البواء: السواء، والناب: الناقة المسنة، ومضى شرح البيت غير مرة. ومثاله في "المطلع": عظم البطن بطنك، ومؤداه: ما أعظم البطن بطنك. قوله: (ومعنى التعجب: تعظيم الأمر)، الراغب: التعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ويقال لما لم يعهد مثله: عجب. قوله: (ونصب {مَقْتًا} على تفسيره)، أي: على تفسير {أَن تَقُولُوا} وقيل: على تفسير هذا الكلام، أعني: كبر أن تقولوا؛ لأن هذا تمييز عن النسبة، ولا يحسن أن يعود الضمير إلى {أَن تَقُولُوا}، لأن التمييز ليس عنه، والأول هو الظاهر، لأن الضمير في "أسند" عائد إلى {كَبُرَ} أي: قصد في كبر التعجب من غير لفظه، وأسند إلى {أَن تَقُولُوا} ونصب {مَقْتًا} على تفسير {أَن تَقُولُوا} ليؤذن بالإبهام، والتفسير: أن قولهم ذلك مقت خالص، وإليه

ومنه قيل: نكاح المقت، للعقد على الرابة، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرًا، حتى جعل أشده وأفحشه. و {عِندَ اللَّهِ} أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك. وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فسكت، ثم قيل له: حدثنا، فقال: تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله! في قوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} عقيب ذكر مقت المخلف: دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا. وقرأ زيد علي: (يقاتلون) _ بفتح التاء_. وقرئ: (يقتلون). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشار بقوله: "دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص"، فقدم التمييز في الآية على الفاعل، ومثله جائز، قال: أرى كل أرض دمنتها وإن مضت .... لها حجج يزداد طيبا ترابها قال المرزوقي: إن قوله: "طيبًا" تمييز قدم على الفاعل، وليس خلاف في جوازه. قوله: (للعقد على الرابة)، النهاية: في حديث مجاهد: كان يكره أن يتزوج الرجل امرأة رابه، يعني: امرأة زوج أمه، لأنه كان يربيه. قوله: (لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره)، يريد: أن العدول من البغض إلى المقت تتميم لمعنى إرادة البغض، ثم إن التقييد بقوله: {عِندَ اللهِ} تتميم للتتميم ومبالغة فيه. قوله: (دليل على أن المقت تعلق بقول الذين وعدوا الثبات)، الانتصاف: أي: هو بساط لهذا، كما يقول: لا تفعل ما يلصق بك العار، لا تشاتم زيدًا، ليقع النهي مرتين؛ عامًا وخاصًا، فهو أولى من النهي على الخصوص مرتين، فإن ذلك تكرار. وقلت: أراد أنه تخصيص بعد تعميم.

{صَفًا} صافين أنفسهم أو مصفوفين {كَأَنَّهُم} في تراصهم من غير فرجة ولا خلل {بُنْيَانٌ} رص بعضه إلى بعض ورصف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعلم أنه لما بولغ في بغض القول إبهامًا جيء بما يحب من الفعل تعريضًا، قوبل البغض بالحب، والقول بالفعل، ووصفه بالبنيان المرصوص، تعريضًا بالقول المتزلزل والوعد المخلف، وأما كيفية اتصاله به، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على أن ما يلي كلمة النداء والتنبيه من الخطاب معني به جدًا كما سبق في فاتحة البقرة. والخطاب هو قوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا}، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تمهيد وتوطئة لهذا الخطاب، وتقدمة تنبيه على أن ما يخالفه مبغوض عند الله، والتقاعد عنه بعد الوعد من أشد البغض، وأكبر المقت عنده، ومما يشد من عضد ذلك أن قطب هذه السورة الكريمة يدور على أمر الجهاد، ألا ترى كيف أعيد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلى قوله: {وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وختمت بقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}، وفيه دليل ظاهر على علو شأن الجهاد ورفعة منزلته عند الله، لأنه ذروة سنام الأمر، وكفى به شاهدًا ما رويناه عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لوددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل"، وكان أبو هريرة يقولهن ثلاثًا، أشهد بالله، أخرجه البخاري ومسلم. قوله: (رص بعضه إلى بعض ورصف)، الراغب: كأنما بني بالرصاص، ويقال: رصصته ورصصته وتراصوا في الصلاة، أي: تضايقوا فيها. والرصفة بالتحريك واحد الرصف، وهو حجارة مرصوف بعضها إلى بعض، يقال: رصفت الحجارة في البناء أرصفها بالضم: إذا ضممت بعضها إلى بعض.

وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وعن بعضهم: فيه دليل على فضل القتال راجلًا؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. وقوله: {صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حالان متداخلتان. [{وإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} 5] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات)، وعليه ورد قوله صلوات الله عليه: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" ثم شبك بين أصابعه، وأخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبي موسى، وهذا أوجه ليقيموا الظاهر مع الباطن وسائر الأحوال، ويكون تعريضاُ بما وعدوا من الثبات في قتال الكفار، ويتصل به قصة موسى عليه السلام وقومه، ويترتب عليه قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ولهذا عم الأذى بقوله: "كانوا يؤذونه بأنواع الأذى" لإطلاقه. قوله: (وقوله: {صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حالان متداخلتان)، الانتصاف: يريد أن معنى الأولى مشتمل على الثانية، فإن هيئة التراص هي هيئة الاصطفاف. قال صاحب "الإنصاف": ليس المراد بالتداخل هذا، بل إن الحال الثانية وقعت جزاء من الحال الأولى، لأن معنى {صَفًا}: مصطفين، وفيه ضميره، وقوله: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حال من الضمير المذكور، فالحال الثانية داخلة في الأولى، وهي كقوله: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2 - 3]. وقلت: فرق بين الصورتين، فإن قوله: {صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} مشبه ومشبه به، والمشبه به في الحقيقة بيان للمشبه ووصف له؟

{وإذْ} منصوب بإضمار "اذكر"، أو: وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا، {تُؤْذُونَنِي} كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه، وجحود آياته، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه، {وقَد تَّعْلَمُونَ} في موضوع الحال، أي: تؤذونني عالمين علمًا يقينا {أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ} وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله، علمًا بأن تعظيمه في تعظيم رسوله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كانوا يؤذونه بأنواع الأذى) إلى قوله: (وطلبهم رؤية الله جهرة)، أراد أن قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} إنكار لمطلق الإيذاء، فيصح حمله على الإيذاء في الدين وفي النفس، ولذلك أوقع قوله: {وقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ} حالًا مقررة لجهة الإنكار، وفسره المصنف بقوله: "وقضية عملكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي، لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله". وذكر الواحدي: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} يعني حين رموه بالأدرة. وهو المراد بقوله: "من انتقاصه وعيبه"، وأما الكلام في طلب الرؤية فانتهاز لفرصة التعصب. وبيان النظم: هو أن الله تعالى لما وبخ المؤمنين الذين ما وفوا بما عاهدوا، وأخلفوا المواعيد تمهيدًا وبساطًا، لقوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ} حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص في القتال، حذرهم مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق بسبب الأذى، ومما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات، من تكذيبه وقولهم فيه: {هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، ألا ترى كيف جمع الكل في قوله: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

ولأن من آذاه كان وعيد الله لا حقا به، {فَلَمَّا زَاغُوا} عن الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} بأن منع الطافه عنهم {واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف. فإن قلت: ما معنى {قَدْ} في قوله {وقَد تَّعْلَمُونَ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ} أي: قضية الدعوى إلى الإسلام توقير من يدعو إليه، وتوقير حرمته، وإجابة دعوته، والتفادي عن إخلاف المواعيد وعما يؤذيه من القول والفعل؟ قوله: ({واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}: لا يلطف بهم)، قال صاحب "الفرائد": لا يهدي من يريد الفسق، وهو من باب ذكر الفعل وإرادة الإرادة، نحو: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وقلت: هذا التقدير غير مفتقر إليه، لأن هذه الفاصلة تذييل للآية، وكالتعليل لقوله: {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}. والمراد بقوله: {زَاغُوا} أذى موسى عليه السلام. وبيانه: أن القوم لما آذوا موسى عليه السلام ورموه بالأدرة زاغوا وفسقوا، وأدى ذلك إلى أن خذلهم الله وطبع على قلوبهم، وهذا التقرير غير ضار لمذهب أهل السنة، لأن ذلك الأذى والفسق كان كسبًا لهم، وقد تقرر أن صغائر الذنوب مستجلبة لكبائرها، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] وأما التذييل الثاني، وهو قوله: {واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} فهو تقرير لقوله: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ} لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وغليه أشار بقوله: "وأي الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام، فيجعل إجابته افتراء الكذب على الله"، يعني كان جزاء الداعي القبول والتصديق، فوضعوا موضعه أن كذبوه وسموا ما جاء به سحرًا. وكما روعي في هذين التذييلين هذه المناسبة روعيت في قوله: {ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ}، وذلك أن الكفر في الأصل الستر والتغطية، ومن يحاول إطفاء نور الله يحاول إخفاء الحق

قلت: معناه التوكيد كأنه قال: وتعلمون علمًا يقينا لا شبهة لكم فيه. [{وإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَاتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} 6] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وستره، وكذا في قوله: {ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} لأنه مقابل لقوله: {ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، وليس دين الحق إلا التوحيد ونفي الشرك. وفي الآيات نرق من وجهين: أحدهما: من الأذى، فإن أذى موسى عليه السلام كان في جسده، وأذى عيسى عليه السلام في الدين، وأذى نبينا محمد صلوات الله عليه فيهما، فإن نور الله عبارة عنه وعن دينه، لقوله تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]، وقد سبق في التوبة تقرير وجه التشبيه. وثانيهما: في التسلية، يعني: لا تبال بأذى القوم، ولك أسوة بموسى، ولا بتكذيب الكافرين والمشركين كما لو يضر عيسى تكذيبهم، وتمكن من إمضاء ما جاء به من الدين والبشارة بقدومك تمكنك منه، ويظهرك على الدين كله ولو كره المشركون والله أعلم. قوله: (معناه التوكيد)، الانتصاف: "قد" إذا صحبت الماضي صحبها التوقع، قال الخليل: هذا خبر لقوم ينتظرونه، وإذا صحبت المضارع صحبها التكثير كربما، وهو من الكلام الذي قصد فيه الإفراط والمبالغة. قال: قد أترك القرن مصفرًا أنامله فإن قيل: حمله على التكثير في الآية متعذر، لأن العلم معلوم التعلق، لا يتكثر ولا يتقلل. قلنا: المراد تأكيد الفعل وتحققه وبلوغه الغاية في نوعه، وكذا في قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ} [الحجر: 2] ليس معناها إلا تأكد ذلك الودادة لا كثرته وتعدده.

قيل: إنما قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ} ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه. والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني {مِنَ التَّوْرَاةِ} وفي حال تبشيري {بِرَسُولٍ يَاتِي مِنْ بَعْدِي} يعني: أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن تقديم وتأخر. وقرئ: {مِنْ بَعْدِي} بسكون الياء وفتحها، والخليل وسيبويه يختار ان الفتح. وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد؛ حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنما قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ}، ولم يقل: "يا قوم" كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم)، الانتصاف: هو كقوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 176] لأنه لم يكن منهم. وقلت: يجوز أن يكون للاستعطاف، لمجيء قوله: {مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: إني أرسلت إليكم في حال تصديقي لكتاب نزل إليكم يا بني إسرائيل خاصة. قوله: (وقرئ: {مِن بَعْدِي} بسكون الياء)، بفتح الياء: نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر، والباقون: بسكونها. قوله: (أمة أحمد)، روينا عن البخاري ومسلم ومالك والدرامي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس

فإن قلت: بم انتصب {مُّصَدِّقًا} و {مُبَشِّرًا}؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت: بل بمعنى الإرسال؛ لأن {إلَيْكُم} صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئًا لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل، فمن أين تعمل؟ وقرئ: (هذا ساحر مبين). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب الذي بعدي نبي". وقد سماه الله رؤوفًا رحيمًا، رواه البخاري في تفسيير هذه الآية. وعن أحمد بن حنبل عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأسماء منها ما حفظنا قال: "أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي الرحمة" قال يزيد: ونبي التوبة، ونبي الملحمة". قال محيي السنة والواحدي: اسمه أحمد يحتمل معنيين: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، والآخر: أنه مبالغة من المفعول، أي: أنه يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن أكثر مما يحمد غيره. قوله: (وقرئ: "هذا ساحر")، حمزة والكسائي. قوله: (لأن {إِلَيْكُمْ} صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئًا)، لا يريد عملها الذي هو الجزء؛ وإنما يريد أنها لا تعمل عمل الفعل بأنفسها.

[{ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} 7] وأي الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله، بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق: هذا سحر، لأن السحر كذب وتمويه. وقرأ طلحة بن مصرف: (وهو يدعي)، بمعني: يدعى، دعاه وادعاه، نحو: لمسه والتمسه. وعنه: يدعي، بمعنى يدعو، وهو الله عز وجل. [{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} 8] أصله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا} [التوبة: 32] كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن السحر كذب وتمويه)، فيه إشعار بهذه الآية بقصة عيسى عليه السلام، وقولهم في الآيات البينات: {هَذَا سِحْرٌ مَبِينٌ} مكرًا وتمويهًا، وإخفاء للحق الجلي. وقلت: وفي إيقاع الإسلام مقابلًا لافتراء الكذب، إيذان باتصالها بقصة محمد صلوات الله عليه، وأن ذكر الإسلام كالتخلص من القصة إلى القصة، ولذلك ذيلت الآية بقوله: {واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} كأنه قيل: قد علم ظلم أولئك الكفرة بروح الله، وما أرادوا به من المكر والكيد، وعرف أن الله ما هداهم إلى ما أرادوا، بل خذلهم الله ونصر أولياءه كما قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} فما ظلم هؤلاء الكفرة لحبيب الله، وما مكرهم به، وكيف يفعل الله به وبهم، قيل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} إلى آخر الآيتين. قوله: ("وهو يدعي" بمعنى: يدعى)، قال ابن جني: قرأ طلحة بن مصرف: "وهو يدعى إلى الإسلام"، والظاهر: يدعي الإسلام، لكن لما كان معنى "يدعي الإسلام": ينتسب إليه، قال:

تأكيدًا له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك؛ تأكيدًا لمعنى الإضافة في: لا أباك. وإطفاء نور الله بأفواههم: تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه (والله متم نوره) أي: متم الحق ومبلغه غايته. وقرئ بالإضافة. [{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} 9] و"دين الحق" الملة الحنفية {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على جميع الأديان المخالفة له؛ ولعمري لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد: أذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام. وقرئ: (أرسل نبيه). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدعي إلى الإسلام، حملًا على معناه، كقوله تعالى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} والاستعمال: هل لك في كذا، لكن لما كان معناه وأدعوك إلى أن تزكى استعمل إلى هاهنا تطاولًا نحو المعنى. قوله: (كما زيدت اللام في: أبا لك، تأكيدًا)، قيل: معناه: أي: كنت على وجه لا يعرف لك أب. قوله: (وقرئ بالإضافة)، ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص: {مُتِمُّ} بغير تنوين: {نُورِهِ} بالخفض، والباقون: بالتنوين والنصب.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} 10 - 13] {تُنجِيكُم} قرئ: مخففًا ومثقلًا. و {تُؤْمِنُونَ} استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ}، وهو خبر في معنى الأمر؛ ولهذا أجيب بقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} وتدل عليه قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا. فإن قلت: لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت: للإيذان بوجوب الامتثال، وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين. ونظيره قول الداعي: غفر الله لك، ويغفر الله لك: جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت. فإن قلت: هل لقول الفراء: إنه جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ} وجه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({تُنجِيكُمْ} قرئ: مخففًا ومثقلًا)، ابن عامر: مشددًا، والباقون: مخففًا. قوله: (وهو خبر في معنى الأمر)، قال صاحب"الكشاف": هذا قول سيبويه. قوله: (هل لقول الفراء: إنه جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ} وجه؟ )، قال الزجاج: وقد غلط بعض النحويين فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ}، وذلك أنه ليس إذا دلهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينفعهم غفر الله لهم، إنما يغفر الله لهم إذا آمنوا وجاهدوا، وإنما هو جواب: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ}، لأن معناه معنى الأمر، أي: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا يغفر لكم، أي:

قلت: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد؛ فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت: فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما: (تؤمنوا) و (تجاهدوا)؟ قلت: وجهها أن يكون على إضمار لام الأمر، كقوله: محمد تفد نفسك كل نفس .... إذا ما خفت من أمر تبالا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن فعلتم ذلك يغفر لكم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود. وخلاصة جواب المصنف: أن قوله {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} إلى آخره، بيان لجملة قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} على سبيل الاستئناف، ، وعلم أن البيان والمبين واحد، فبهذا الاعتبار كان جوابًا. الانتصاف: هذا التأويل لا يحتاج إليه، فإنه يلحق بقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] وأمثاله، وقد تقدم الكلام فيه، وأن المؤمن الراسخ في الإيمان لما كان مظنةً لحصول الإقامة والامتثال صار كالمحقق منه ذلك. وقال أبو البقاء: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب شرط محذوف: أي إن تؤمنوا يغفر لكم، أو جواب لما دل عليه الاستفهام، والمعنى: هل تقبلون إن دللتكم. قوله: (محمد تفد نفسك)، البيت، أي: يا محمد لتفد نفسك، فحذفت اللام من اللفظ

وعن ابن عباس أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناها، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون: ليتنا نعلم ما هي، فدلهم عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ} وهذا دليل على أن {تُؤْمِنُونَ} كلام مستأنف، وعلى أن الأمر الوارد على النفوس بعد تشوف وتطلع منها إليه: أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به. {ذَلِكُمْ} يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أموالكم وأنفسكم. فإن قلت: ما معنى قوله: {إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ قلت: معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرًا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم، فتخلصون وتفلحون {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي: عاجل، وهو فتح مكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي مضمرة، ولهذا الفعل كان مجزومًا فحذف لكثرة الاستعمال، تبالًا: أي سوء عاقبة، والتبال: عداوة يطلب بها، يقال: تبلني فلان وتبلهم الدهر. قال كعب: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول أي: مصاب بتبل، وهو الذحل والعداوة. قوله: (معناه: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرًا لكم)، الانتصاف: أجرى الشرط على حقيقته، وليس بالظاهر؛ لأن علمهم بذلك محقق، فإنهم مؤمنون، ولعله مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] كما تقول لمن ينتصر من عدوه: إن كنت حرًا فانتصر.

وقال الحسن: فتح فارس والروم. وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجل. فإن قلت: علام عطف قوله {وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: يريد أنه من باب المبالغة والتتميم، وعليه ظاهر كلام القاضي: إن كنتم من أهل العلم، إذا الجاهل لا يعتد بفعله. وليس بذاك، لأن شرط ذلك الأسلوب أن يكون الشرط ثابتًا في نفسه أو عند المتكلم والمخاطب، لم يتعوج عن السداد، ولم يتحر سوى الصواب، كما مر في سورة الممتحنة، وهاهنا الكلام على ما سبق في فاتحة السورة مع أولئك المؤمنين الذين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، يشهد له نقله عن ابن عباس في هذا المقام قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناها فنزلت، فلما دلهم الله تعالى في يوم أحد على المجاهدة في سبيل الله تولوا، وحين لم يعلموا بموجب العلم قيل لهم: {إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وإليه الإشارة بقوله: "إذا علمتم ذلك واعتقدتموه، أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم"، وفي التعقيب بقوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} والتوبيخ إيماء إلى هذا. قوله: (شيء من التوبيخ على محبة العاجل)، وذلك أنه تعالى عطف"أخرى" من حيث المعنى على النعمة المذكورة من المغفرة والثواب، وقيدها بقوله: {تُحِبُّونَهَا}، وفيه إشارة إلى هذا المعنى، لأن الفتح والنصرة وإن كانا من الأمور الدينية، لكن فيهما حظ النفس؛ لأنهما بظاهر هما مما تشتهيه النفس، ويجوز أن يكون عطفًا على {تِجَارَةٍ}؛ أي: أبشركم بتجارة أخرى عاجلة، بعد البشارة الآجلة.

قلت: على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. فإن قلت: لم نصب من قرأ (نصرًا من الله وفتحًا قريبًا)؟ قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص أو على (تنصرون نصرًا)، و (يفتح لكم فتحًا) أو على: يغفر لكم ويدخلكم جنات، ويؤتكم أخرى نصرًا من الله وفتحًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر)، قال صاحب"المفتاح": هو عطف على {قُلْ} مرادًا: قبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. وقلت: قد سبق أن {تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} متضمن معنى الأمر لقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} ولأن سياق الكلام عليه، فإنه تعالى لما نبه عباده على ما يخلصهم مما يؤذيهم بقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} اتجه لهم أن يتضرعوا إليه: نعم يا مولانا وربنا أرشدنا إلى هذه البغية! فقيل لهم: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا، ثم أمر حبيبه بأن يبشرهم بأن الله سيجز ما وعد من الثواب العظيم في الآخرة، والنصر القريب في الدنيا، تقريرًا أو تشريفًا، ولذلك أتى بما يدل على التجدد ووضع {المُؤْمِنِينَ} موضع الضمير، للإشعار بأن صفة الإيمان هي التي تقتضي هذه البشارة، وأما اتحاد المسند إليه بين المعطوف والمعطوف عليه فليس بواجب كما مر في سورة البقرة: "أن قولك: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم"، من فصيح الكلام. ويمكن أن يقال: إنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب الناس بقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أرشده إلى ما يقتضيه من جواب أنه اتجه لسائل أن يقول: بلى دلنا؟ أي: قل: آمنوا بالله .. الآية، وبشرهم بعد ذلك بما لا يكتنه كنهه مما يصح أن تبشر به، لإطلاق

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 14] قرئ: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} و (أنصارًا لله). وقرأ ابن مسعود: (كونوا أنتم أنصار الله). وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم. فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه، وظاهره تشبيه كونهم أنصارًا بقول عيسى صلوات الله عليه: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ}؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح. والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "بشر"، فعلى هذه"بشر" معطوف على {قُلْ} مرادًا عند قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللهِ}، ويجوز أن تكون"بشر" من الخطاب العام كأنه قيل: آمنوا بالله وبشروا، أي: ليبشر كل من يتأتى منه البشارة، فإن هذا الأمر بعظمته وفخامته حقيق بأن لا يختص بأحد دون أحد. قوله: (قرئ: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ})، الكوفيون وابن عامر: {أَنصَارَ اللَّهِ} بغير تنوين ولا لام، والباقون: بالتنوين ولام مكسورة. أي: في أول اسم الله عز وجل. قوله: (وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم)، وذلك أن الضمير إذا جعل فصلًا لا محل له أفاد الاختصاص، أي: هذا الأمر لعظم مناله لا يختص به إلا أمثالكم، البذالون للأرواح الناصرون لله ولرسوله، وإن جعل مبتدأ أفاد تقوي الحكم، وأن النصرة مطلوبة البتة. وقوله: (التشبيه محمول على المعنى)، أي: على تقدير أشياء عدة لتصحيح التشبيه، و"ما" في

فإن قلت: ما معنى قوله: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ}؟ قلت: يجب أن يكون معناه نطابقًا لجواب الحواريين {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة الله، وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنصَارُ اللَّهِ} فإن معنى {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}: نحن الذين ينصرون الله ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {كَمَا قَالَ}: مصدرية، أي: كونوا أنصار الله، مثل كون الحواريين أنصار الله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله؟ قوله: (يجب أن يكون معناه مطابقًا لجواب الحواريين)، يريد أن قوله: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} ليس على ظاهره لتعديته بـ"إلى"، ولا يطابقه أيضًا جواب الحواريين: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، فالواجب أن يؤول بما يطابق الجواب بحيث يعلم منه معنى التعدية، وتضمين ما يتعلق به "إلى"، وهو: "من جندي متوجهًا إلى نصرة الله". قوله: (وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنصَارُ اللَّهِ})، قال صاحب"الانتصاف": الإضافة الأولى محضة، والثانية غير محضة. وقلت: يشهد للأول قوله: "من الأنصار الذين يختصون بي؟ "، والثاني قوله: "نحن الذين ينصرون الله". فإن قلت: هذا يخالف تقديره الأول: "من جندي متوجهًا إلى نصرة الله؟ "، لأن"جندي" خبر"من" الاستفهامية، وفيه ضمير راجع إلى المبتدأ، و {إِلَى اللهِ} حال منه. قلت: عمله حينئذ نحو قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3]. فإن قلت: ما فائدة الاختلاف؟

ومعنى {مَنْ أَنصَارِي} من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؛ ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؟ ؛ لأنه لا يطابق الجواب. والدليل عليه: قراءة من قرأ: (من أنصار الله). والحواريون أصفياؤه، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلًا؛ وحواري الرجل: صفيه وخلصانه، من الحوار وهو البياض الخالص. والحوارى: الدرمك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الإيذان بأن يطلب منهم هو النصرة المعتبرة، وهو اختصاصهم به وما أخبروا به عن أنفسهم، إنشاءً للنصرة بل ادعاءً منهم أنهم الذين ينصرون الله، ولذلك عقب بقوله: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت طَّائِفَةٌ} وقريب منه قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فإذا اعتبر المبتدأ من جانب المسلمين قدر: الذي يطلب منكم طاعة معروفة فعلًا، وإذا اعتبر من جانب المنافقين قيل: أمركم وشأنكم معروفة قولًا. قوله: (ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله) وهو قول الزجاج، لأنه لا يطابق {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، إذ المطابق: نحن أنصار الله ننصرك مع الله، على أن "إلى" بمعنى "مع" قليل. قوله: (قراءة من قرأ: "من أنصار الله")، ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي. قوله: (والحوارى: الدرمك) عن بعضهم: الدرمك: نقاوة الدقيق الذي ليس فيه نخالة، ويقال: الدرهم يكسو النرمق أي: الثوب اللين، تعريب نرمك ويطعم الدرمق، قال الزجاج: الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق الحوارى؛ لأنه ينقى من لباب البر وخالصه، وتأويله في الناس: أنه إذا رجع في اختياره مرةً بعد أخرى وجد نقيًا من العيوب، من حار يحور، وهو الرجوع والترجيع.

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي" وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب: يبيضونها. ونظير الحواري في زنته: الحوالي: الكثير الحيل. {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ} منهم بعيسى {وكَفَرَت} به {طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا} مؤمنيهم على كفارهم، فظهروا عليهم. وعن زيد بن علي: كان ظهورهم بالحجة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليًا عليه مستغفرًا له ما دام الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الراغب: قيل: إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم. قوله: (الزبير ابن عمتي وحواريي)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواريًا؛ وإن حواري الزبير". الراغب: تشبيهه بهم في النصرة حيث قال: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}. وقلت: ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا، ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال في الثالثة: "إن لكل نبي حواريًا، وإن حواري الزبير". تمت السورة.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية، وآياتها إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 1 - 4] قرئت صفات الله عز وعلا بالرفع على المدح، كأنه قيل: هو الملك القدوس، ولو قرئت منصوبة لكان وجهًا كقول العرب: الحمد لله أهل الحمد. الأمي: منسوب إلى أمة العرب؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم. وقيل: بدأت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الجمعة إحدى عشرة آية، مدنية بخلاف بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وأهل الحيرة من أهل الأنبار)، الأنبار: موضع قريب من بغداد، وجدت في بعض كتب المحاضرات: أن أول من استخرج الخط العربي ثلاثة رجال من أهل مسكين: وهي

ومعنى {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} بعث رجلًا أميًا في قوم أميين، كما جاء في حديث شعيا: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قرية من أعلى الأنبار، يقال لأحدهم: مرامر بن مرة، وللآخر: أسلم بن سدرة وللثالث: عامر بن جدرة، نظروا رملًا في شاطئ الفرات فيه آثار أرجل البط، فشبهوها بالخطوط، فقالوا هلموا نستخرج منها خطًا غير الخطوط القديمة، ثم فكروا في كلام الخلق فوجدوا سائر الكلام يدور على ثمانية وعشرين حرفًا، فعازتهم ستة أحرف؛ الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، فصورها "ثخذ ضظغ" فتم بذلك الكلام، ثم صرفوا الألفاظ وألفوا بعضها إلى بعض، واصطلحوا على ما يصلونه من الكلام أو يقطعونه بالحروف المذكورة، فكان منه هذا الخط العربي. والله أعلم بصحته. قوله: (ومعنى {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}: بعث رجلًا أميًا في قوم أميين)، وإنما قال: "رجلًا" و"قوم" على سوق المعلوم مساق غير المعلوم، ليؤن بأن قوله: {هُوَ بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} وارد على سنن كلام الجبابرة، نحو ما جاء في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] وهو الوجه. قوله: (في حديث شعيا)، قال أبو عبد الله الكسائي في كتاب"المبتدأ" ذكر وهب وكعب: إن شيعا بن أمصيا نبي من سلالة بني إسرائيل من ولد هارون وهو الذي بشر قومه بنبينا محمد صلوات الله عليه، وشعيا هو الذي أرسل يونس بن متى إلى قومه من أهل نينوى.

إني أبعث أعمى في عميان، وأميا في أميين، وقيل {مِّنْهُمْ}، كقوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعلمون نسبه وأحواله. وقرئ: (في الأمين) بحذف ياء النسب. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يقرؤها عليهم مع كونه أميا مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم، وقراءة أمي بغير تعلم آية بينة. {ويُزَكِّيهِمْ}: ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية. {ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ}: القرآن والسنة. و"إن" في {وإن كَانُوا} هي المخففة من الثقيلة، واللام دليل عليها، أي: كانوا في ضلال، لا ترى ضلالًا أعظم منه. {وآخَرِينَ} مجرور عطف على {الأُمِّيِّينَ}، يعني: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إني أبعث)، حكاية عن الله تعالى. قوله: (أعمى)، أي: غير عالم بالشرائع، "عميان": في قوم غير عالمين بها، والمراد نبينا صلوات الله عليه وأمته. قوله: (وفي آخرين من الأميين)، جعل {مِنْهُمْ} بيانًا للآخرين، قال صاحب "الكشف": "من" في {مِنْهُمْ} للنبيين، وليست "من" التي تستعمل مع أفعل، لأن "من" تلك لا يجوز معها جمع الاسم، لا يقال: الزيدون أفضلون من عمرو، لأن "أول" و"آخر" وإن كان "أفعل" لا يكاد يوجد استعمال "من" معهما.

وقيل: لما نزلت قيل: من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء"، وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، ويجوز أن ينتصب عطفًا على المنصوب في {ويُعَلِّمُهُمُ} أي: يعلمهم ويعلم آخرين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه {وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} في تمكينه رجلًا أميًا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر {ذَلِكَ} الفضل الذي أعطاه محمدًا وهو أن يكون نبي أبناء عصره، ونبي أبناء العصور الغوابر، هو {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} إعطاءه، وتقتضيه حكمته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فوضع يده على سلمان)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ: {وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأل ثلاثًا، قال: وسلمان فينا؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال: "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء". قوله: (فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى كل ما وجد من التعليم، يعني: يصح إسناد التعليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمم- الفائتة للحصر- إلى انقراض العالم، لأنه إذا تناسقت العنعنة من الثقات المتقنين الذين حموا المتون من تحريف الزائغين، والإسناد من تولى الكاذبين، صح أن يقال: هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويعلم آخرين منهم لما يلحقوا بهم، هذا يدل على جلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم، ولذلك قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ}. اللهم اجعلنا من زمرتهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعمري إن علم الرواية من أقوى أركان الدين، وأوثق عرى المتقين، لا يرغب في نشر إلا كل صادق تقي، ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي. قال أبو نصر بن سلام: ليس شيء أثقل أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده. وقال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وقال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وذكر البيهقي في كتاب"المدخل" عن الشافعي عن ابن عيبنة: حدثني الزهر بحديث فقلت: هاته بلا إسناد، قال أترقى السطح بلا سلم؟ ! . وقال محمد بن أسلم الطوسي: قرب الإسناد قرب إلى الله تعالى. وقال الحاكم النيسابوري: لولا كثرة مواظبة طائفة المحدثين على حفظ الإسناد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد.

[{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} 5] شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم أنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به؛ بالحمار حمل أسفارًا، أي: كتبًا كبارًا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل، {بِئْسَ} مثلًا {مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى: {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ}: كلفوا علمها والعمل بها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها. وقرئ: (حملوا التوراة)، أي: حملوها في الحقيقة لفقد العمل. وقرئ: (يحمل الأسفار). فإن قلت: (يحمل) ما محله؟ قلت: النصب على الحال، أو الجر على الوصف؛ لأن الحمار كاللئيم في قوله: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والإسناد واسطة بين الحق والخلق، وهو سلم السلامة، ومرقاة النجاة، ومفتاح النجاح، فمن رفع قدره ارتفع، ومن وضع شأنه اتضع. قوله: (وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة، وبين في النبوة أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأميين، واليهود لما أوردوا تلك الشبهة وهي: أنه صلوات الله عليه مبعوث إلى العرب خاصةً وهم أمة أمية، ونحن أهل كتاب، أتبعه بضرب المثل لمن تمسك بهذه الشبهة وترك الدلائل الواضحة المسطورة فيما حملوا واستحفظوه، وهي: نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبشارة به ولم يؤمنوا به، فشبههم بالحمار، حمل كتبًا وكبارًا، فهو يمشي بها ولا يدري منها ما يمر بجنبيه. قوله: (لأن الحمار كاللئيم)، تعليل لتقدير الجر على الوصف فحسب، لأن اللئيم في البيت لا يحتمل الحال، لما ذكرنا أن الشاعر يصف نفسه بالحلم والاحتمال من كل لئيم صفته

ولقد أمر على اللئيم يسبني [{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 - 8] هاد يهود: إذا تهود {أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، أي: إن كان قولكم حقًا وكنتم على ثقة {فَتَمَنَّوُا} على الله أن يميتكم وينقلكم سريعًا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذاك؛ لا أنه مر على لئيم بعينه حالة ذاك، لأن ذلك لا يثبت له وصف الحلم، وأنه دأبه وعادته كذلك، ، شبهت اليهود بهذا الجنس من الدواب إذا كان حاملًا للأسفار. وأما توجيه الحال في الآية فأن تجعل التعريف لاستغراق الجنس، وأن حكم كل فرد من أفراد هذا الجنس كذلك، والبيت لا يحتمل هذا. قوله: (إذا تهود)، الجوهري: هاد يهود هودًا: تاب ورجع إلى الحق، فهو هائد وقوم هود. قوله: (كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه)، آذن بأن الولي بمعنى الحبيب، وهو اسم فاعل اعتمد وعمل في {لِلهِ}، ومن {مِن دُونِ} حال من الضمير الراجع إلى اسم"أن"، المعنى: إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله متجاوزين عن الناس فتمنوا الموت، فإن المحب يحب لقاء محبوبه، ولا يكره قربه، نحوه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94].

ثم قال: {ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} بسبب ما قدموا من الكفر، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه"، فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى؛ وهي إحدى المعجزات. وقرئ: (فتمنوا الموت) بكسر الواو، تشبيهًا ب"لو استطعنا". ولا فرق بين"لا" و"لن" في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في"لن" تأكيدًا وتشديدًا ليس في "لا" فأتى مرةً بلفظ التأكيد: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: لم لم يضف"أولياء" لله كما أضاف في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. قلت: ليؤذن بالفرق بين من يدعي أنه من أولياء الله، وبين من يخصه الله بالولاية، ونحوه في الإضافة قوله: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} قال: "معنى {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} [الصف: 14]، أي: من الأنصار الذين يختصون بي؟ ويكونون معي في نصرة الله؟ ومعنى {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}: نحن الذين ينصرون الله"، وسبق أن الإضافة الأولى محضة، والثانية غير محضة، ، وذكرنا فائدة الاختلاف. قوله: (لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه)، روى الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار. قوله: (وقرئ: "فتمنوا الموت")، بكسر الواو، قال ابن جني: قرأها ابن يعمر وابن أبي إسحاق. قوله: ((فأتى مرةً بلفظ التأكيد)، الراغب: إن قوله: {فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} الآية لما كان مفتتحًا بشرط علقت صحته بتمني الموت ووقع

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95]، ومرةً بغير لفظه: {ولا يَتَمَنَّوْنَهُ} [الجمعة: 7]، ثم قيل لهم: {إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم؛ لا تفرتونه وهو ملاقيكم لا محالة {ثُمَّ تُرَدُّونَ} إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه: إنه ملاقيكم. وفي قراءة ابن مسعود: تفرون منه ملاقيكم، وهي ظاهرة. وأما التي بالفاء، فلتضمن الذي معنى الشرط، وقد جعل {إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} كلامًا برأسه في قراءة زيد، أي: أن الموت هو الشيء الذي تفرون منه، ثم استؤنف: إنه ملاقيكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الشرط غاية ما يطلبه المطيع، ولا مطلوب وراءه على ما ادعوه لأنفسهم، وهو أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم وجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه وأبلغه في نفي ما ينتفي شرطهم به، فكان ذلك بلفظة"لن" التي للقطع والبتات، وليس كذلك الشرط في سورة الجمعة، إذ ليس زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس مثل المطلوب الذي لا مطلوب وراءه وهو الدار الآخرة لأنهم يطلبون بعد ذلك إذا صح لهم هذا الوصف دار الثواب، فلما كان الشرط في هذا المكان قاصرًا عن الشرط في ذلك المكان ولم تكن الدعوى غاية المطلوب لم يحتج في نفيه وإبطاله إلى ما هو غاية في بابه. قلت: ويعضده تخصيص العشرة المبشرة بالجنة من الجم الغفير من بين الصحابة الكرام. قوله: (وأما التي بالفاء)، أي: القراءة التي أتى بالفاء في {فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ}، فلتضمن {الَّذي} معنى الشرط. قال أبو البقاء: دخلت في الفاء لما في"الذي من شبه الشرط، ومنع منه قوم وقالوا: إنما يجوز ذلك إذا كان"الذي" هو المبتدأ، أو اسم إن، و {الَّذي} ها هنا صفة، وضعفوه من وجه آخر وهو: أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط، وقال هؤلاء: الفاء زائدة، وأجيب

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 9 - 10] يوم الجمعة: يوم الفوج المجموع، كقولهم: ضحكة للمضحوك منه. ويوم الجمعة؛ بفتح الميم: يوم الوقت الجامع، كقولهم: ضحكة، ولعنة، ولعبة؛ ويوم الجمعة: تثقيل للجمعة، كما قيل: عسرة في عسرة. وقرئ بهن جميعًا. فإن قلت: "من" في قوله: {مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} ما هي؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه بأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، ولأن"الذي" لا تكون إلا صفة، فإذا لم يذكر الموصوف معها دخلت الفاء والموصوف مراد، فكذلك إذا صرح به، وأما ما ذكروه ثانيًا فغير صحيح، فإن خلقًا كثيرًا يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر. وقد جاء هذا المعنى مصرحًا به في قوله: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه .... ولو رام أسباب السماء بسلم أنشده صاحب"الكشف" مستشهدًا. قوله: (تثقيل للجمعة)، أبو البقاء: "الجمعة" بضمتين، وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع، وقيل في المسكن: هو بمعنى المجتمع فيه، مثل: رجل ضحكة، أي: كثير الضحك منه، و {مِنْ} بمعنى: في.

قلت: هي بيان لـ {إِذَا} وتفسير له. والنداء: الأذان. وقالوا: المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد؛ فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنًا آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه. وقيل: أول من سماها جمعةً كعب بن لؤي، وكان يقال لها: العروبة. وقيل: إن الأنصار قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك؛ فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى إذا كان عثمان رضي الله عنه)، عن البخاري والترمذي وأبي داود وابن ماجه عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان رضي الله عنهم، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء. قوله: (يقال لها: العروبة)، النهاية: هو اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي، يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام.

فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة. وعن بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]، وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارًا؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث)، إلى قوله: (فشرع الله لهم الجمعة)، فعلى هذا يكون في قوله: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} تعريضًا باليهود وأنهم ما وفقوا لما سعد به المؤمنون كما ورد في الحديث: "هذا يومهم الذي فرض عليهم"- يعني: يوم الجمعة-، "فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد"، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. ومن ثم جعلت الصلة التي هي {آمَنُوا} علة للسعي إلى ذكر الله، كما جعلت الصلة في قوله {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} لأهل الكتاب مقررًا للتمثيل في قوله: {كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وكذا الصلة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} عدل فيها من لفظ اليهود إلى

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد". وعنه عليه السلام: "أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد". وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى في كل جمعة ست مئة ألف عتيق من النار". وعن كعب: إن الله فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموصول والصلة، ليكون ذريعةً إلى التعرض بدعواهم الكاذبة، حيث سموا أنفسهم يهودًا، وهو من هاد، أي: رجع إلى الله تعالى وتاب، وإلى تقرير معنى قوله: {فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} كأنه قيل: يا أيها الذين ادعوا أنهم رجعوا إلى الله وتابوا إليه، إن زعمتم أنكم أوليا الله، لأن التائب إلى الله ولي الله، فتمنوا لقاء الله، فإن الحبيب لا يكره لقاء حبيبه، ولقاء الله: الموت، على ما ورد في الحديث، ففي كل من الأحاديث الثلاثة تعريض في غاية اللطف والدقة. قوله: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)، الحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة، وليس في آخره: وهو عند الله يوم المزيد.

وقال عليه الصلاة والسلام: "من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر"، وفي الحديث: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد؛ بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم"، وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصةً بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام: ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد! ! . ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع، لقوله عليه السلام: "لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من مات يوم الجمعة)، الحديث من رواية أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي فتنة القبر". قوله: (إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون من جاء من الناس على منازلهم؛ فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرةً، ورجل قدم شاةً، ورجل قدم دجاجةً، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضةً، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر". قوله: (لا جمعة ولا تشريق)، وفي"الهداية" التشريق: التكبير، كذا نقل عن خليل بن

والمصر الجامع: ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام، ومن شروطها: الإمام أو من يقوم مقامه، لقوله عليه السلام: "فمن تركها وله إمام عادل أو جائر" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أربع إلى الولاة: الفيء، والصدقات، والحدود، والجماعات". فإن أم رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة لم يجز؛ فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم جاز، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام، وعند الشافعي بأربعين، ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى، ولا على الأعمى عند أبي حنيفة، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد. وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم: (فامضوا). وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقرأ: {فَاسْعَوْا}، فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبي بن كعب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد، وفيها: وهو عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمطار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه. قوله: (فامضوا)، روى الإمام مالك: فقال ابن شهاب: كان عمر رضي الله عنه يقرأ: "فامضوا"، وليس فيه قول أبي بن كعب: لا يزال يقرأ، إلى آخره.

فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ! لو كانت {فَاسْعَوْا} لسعيت حتى يسقط ردائي. وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي: التصرف في كل عمل. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وعن الحسن: ليس السعي على الأقدام، ولكنه على النيات والقلوب. وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في"موطئه": أن ابن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال محمد: وهذا لا باس به ما لم يجهد نفسه. {إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إلى الخطبة والصلاة، ولتسمية الله الخطبة ذكرًا له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكرًا لله كقوله: الحمد لله، سبحان الله، جاز. وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله. وارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد. وعند صاحبيه والشافعي: لا بد من كلام يسمى خطبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن جني: هذه القراءة تفسير لقراءة العامة {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: فاقصدوا وتوجهوا، وليس فيه دليل على الإسراع. قوله: (إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكرًا لله كقوله: الحمد لله، سبحان الله، جاز)، الانتصاف: لا دليل فيه؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم بعضه، كما سميت الصلاة قرآنًا وركوعًا وسجودًا، والمسمى خطبةً عند العرب يزيد على القدر الذي اقتصر عليه الإمام أبو حنيفة. قوله: (وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله وأرتج عليه)، الانتصاف: هذا سهو

فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟ قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين، والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك، فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل. وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه: "صه" فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لا غيا؟ ! نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام. أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بلا شك، فذلك لم يكن في خطبة الجمعة، وعادة العرب الخطب في المهمات. الجوهري: أرتج على القارئ، على ما لم يسم فاعله: إذا لم يقدر على القراءة، كأنه أطبق عليه، كما يرتج الباب، أي: يغلق. قوله: (من ذكر الظلمة وألقابهم)، الانتصاف: الدعاء للسلطان الواجب الطاعة مشروع بكل حال، فقيل لبعض السلف: تدعو لسلطان ظالم؟ قال: إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يدفع بزواله، لاسيما إذا ضمن الدعاء صلاحه وسداده. الإنصاف: الذي قاله الزمخشري هو الذي قاله صاحب "الشامل" عن مذهب الشافعي، وهو الأليق والأشبه بسيرة الخلفاء الراشدين، فلا اعتبار بالعذر عما يتورط في أمثاله. قوله: (إذا قال المنصت للخطبة لصاحبه: صه، فقد لغا)، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب، ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص والأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تحر التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، {وذَرُوا البَيْعَ} الذي نفعه يسير وربحه مقارب. فإن قلت: فإذا كان البيع في هذا الوقت مأمورًا بتركه محرمًا، فهل هو فاسد؟ قلت: عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع. قالوا: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت"، ولفظ الترمذي: "من قال يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغا". قوله: (انتفخ النهار)، الأساس: ومن المجاز، انتفخ النهار: علا. قوله: (تحر التجارة)، في نسخة: "تحر" بفتح التاء والحاء المهملة، وفي أخرى: بكسر الحاء، وهو شدة إقامة السوق؛ من الحرارة، في حديث علي لفاطمة رضي الله عنها: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته خادمًا يقيك حر ما كنت فيه من العمل. يعني: التعب والمشقة من خدمة البيت، لأن الحرارة مقرونة بهما، كما أن البرودة مقرونة بالراحة والسكون. قوله: (وربحه مقارب)، الجوهري: قاربته في البيع مقاربةً، وشيء مقارب بكسر الراء، أي: وسطًا بين الجيد والرديء، وكذلك إذا كان رخيصًا.

لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح؛ مع التوصية بإكثار الذكر وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه، لأن فلاحهم فيه وفوزهم منوط به. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة)، أي: يكون البيع محرمًا، لكن غير فاسد، كما أن الصلاة في الأرض المغصوبة مسقطة للقضاء، لكن إيقاعها فيها حرام يستحق به العقاب. قال الشيخ محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين ليلةً": معنى عدم قبول الصلاة: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئةً في سقوط الفرض عنه، ولا حاجة معها إلى إعادة، ونظير هذا: الصلاة في الأرض المغصوبة، مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها، كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: صلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتي بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان؛ سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. العراف: هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقال الخطابي: العراف: هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة وغيرهما. قوله: (وعن بعض الناس: أنه فاسد)، قال محيي السنة في"المعالم": إنما يحرم البيع والشراء

إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن وسعيد بن المسيب: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوع. وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظرًا في هذه الآية. [{وإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجَارَةِ واللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 11] روي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة؛ فقاموا إليه، خشوا أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلا يسير. قيل: ثمانية، وأحد عشر، واثنا عشر، وأربعون، فقال عليه السلام: " والذي نفس محمد بيده، لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارًا"، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللهو. وعن قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير. فإن قلت: فإن اتفق تفرق الناس عن الإمام في صلاة الجمعة كيف يصنع؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الأذان. وفي "شرح السنة" عن ابن عباس: {إِذَا نُودِيَ} يحرم البيع حينئذ، وقال عطاء: يحرم الصناعات كلها. قوله: (أصابهم جوع وغلاء شديد)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن جابر: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعامًا، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا، فنزلت.

قلت: إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة، فعند أبي حنيفة: يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه: إذا كبر وهم معه مضى فيها، وعند زفر: إذا نفروا قبل التشهد بطلت. فإن قلت: كيف قال: {إلَيْهَا} وقد ذكر شيئين؟ قلت: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه؛ فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وكذلك قراءة من قرأ: (انفضوا إليه). وقراءة من قرأ: (لهوا أو تجارة انفضوا إليها) وقرئ: (إليهما). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كيف قال: {إِلَيْهَا} وقد ذكر شيئين؟ )، الراغب: أعيد الضمير إلى التجارة دون اللهو لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم، ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة من لا يشغله اللهو، وعلى ذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] لما كان حبس الفضة عن الناس أعظم ضررًا إذ كانت الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب. وعلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] خصها برد الضمير، لأنها أرفع منزلةً من الصبر، لأنها تجمع ضروبًا من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والأفكار على الطاعة، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وقلت: ويمكن أن يقال: إن"أو" في {أَوْ لَهْوًا} مثلها في قول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى .... وصورتها أو أنت في العين أملح

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الجوهري: يريد: بل أنت، فالضمير في {إِلَيْهَا} راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه: أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله عدت لهوًا، وتعد فضلًا إن لم تشغله، كما في قوله: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}. ثم أرشدهم بعد التوبيخ والتعيير إلى تحري الأصوب، وتوخي المنهج الأقوم على سبيل العموم، قائلًا: {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجَارَةِ}، وقدم ما كان مؤخرًا وكرر الجارة لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه، التخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في قصة مخصوصة كما روينا عن الأئمة. تمت السورة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. * * *

سورة المنافقون

سورة المنافقون إحدى عشرة آية، مدنية بلا خلاف بسم الله الرحمن الرحيم [{إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 1 - 3] أرادوا بقولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم. فقال الله عز وجل: قالوا ذلك {واللَّهُ يَعْلَمُ} أن الأمر كما يدل عليه قولهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المنافقون إحدى عشرة آية، مدنية بلا خلاف بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي قوله: (أرادوا بقولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}) إلى قوله: "أو إنهم لكاذبون فيه"، وقوله: "أو أراد: الله يشهد"، فسر {لَكَاذِبُونَ} لإطلاقه واستدعائه، متعلقًا على اتحاد مبناه، على مرجع الخبر كونه صادقًا أو كاذبًا إلى مطابقته الواقع، أو إلى اعتقاد المخبر، والتفسير الأول والثاني على الأول، والثالث على الثاني.

والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد؛ وادعائهم فيه المواطأة. أو إنهم لكاذبون فيه؛ لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو أراد: والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. فإن قلت: أي فائدة في قوله تعالى: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبيانه: أن هذا التكذيب إما راجع إلى دعواهم، لا إلى كون المخاطب شاكًا في كونهم كاذبين، أو منكرًا، أي: أنهم ادعوا أن قوله: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} صادر عن صميم القلب، حيث صدروا الجملة بـ"إن" وأدخلوا في الخبر اللام، كأنهم قالوا: نشهد عن صميم القلب إنك لرسول الله، فلما لم يكن ذلك مطابقًا للواقع كذبهم، يدل عليه قوله: {واللَّهُ يَعْلَمُ} أن الأمر كما يدل عليه قولهم، أي: مطابقًا للواقع وإن لم يعتقدوه. وإما إلى لفظ {يَشْهَدُ} وإبراز الدعوى وتخصيصها وتسميتها به، لأن حقيقة الشهادة: ما يصدر عن طمأنينة قلب وعلم ثابت، قال تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81]. قال القاضي: الشهادة: إخبار عن علم من الشهود، وهو الحضور والاطلاع. الراغب: الشهادة المتعارفة أصلها الحضور بالقلب والتبيين، ثم يقال ذلك إذا عبر عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من اللسان دون حضوره في القلب عد كذبًا. وإما راجع إلى مطابقة اعتقادهم؛ فإنهم اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس برسول، فاعتقدوا أن ما قالوه على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، فأخبر الله تعالى عن معتقدهم، هذا هو الكلام النفسي. قال بعض أصحابنا: وجه الاستدلال بالآية أنه تعالى شهد بكذب المنافقين، وما كذبوا فيما نطقوا به وجرى على ألسنتهم من قولهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، فدل على أنهم كذبوا فيما اشتملت عليه نفوسهم، وتكلمت به قلوبهم، وقد سماه الله تعالى كذبًا، والكذب لا يكون إلا في الكلام.

قلت: لو قال: قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم لكاذبون، لكان بوهم أن قولهم هذا كذب؛ فوسط بينهما قوله: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليميط هذا الإيهام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال القاضي: الصدق: الإخبار المطابق، وقيل: مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة، لأنه تعالى كذب المنافقين في قوله: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لما لم يعتقدوا مطابقته. ورد بصرف التكذيب إلى قولهم: {نَشْهَدُ}؛ لأن الشهادة إخبار عما علمه، وهم ما كانوا عالمين به. الراغب: الصدق يحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك ثلاثة أشياء؛ وجود المخبر عنه على ما أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن دلالة وأمارة، وحصول العبارة مطابقًا لهما، فمتى حصل ذلك وصف بالصدق المطلق، ومتى ارتفع ثلاثتها يوصف بالكذب المطلق، ومتى حصل اللفظ والمخبر عنه والاعتقاد بخلافه صح أن يوصف بالكذب، ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم، وإذا قال لك من اعتقد كون زيد في الدار: إن زيدًا في الدار، ولم يكن فيها، صح أن يقال: كذب، وإن كان قوله مطابقًا لاعتقاده. ولما كان اللسان ترجمان القلب صح أن يقال: صدق في اعتقاده أو كذب. قلت: ولعل الظاهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، لأن المقام الاجتهادي يخالف غيره، لأن المجتهد إذا اجتهد وأخبر على خلاف الواقع فلا يقال: إنه كذب، بل أخطأ، قال في قوله تعالى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} في الكهف: "هذا جواب مبني على غالب الظن، وفيه دليل جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبًا، وإن جاز أن يكون خطًا". قوله: (لكان يوهم أن قولهم هذا كذب) أي: قولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وقول الله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعده: {واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في أنك لرسول الله، يوهم أن قولهم هذا كذب، فوسط بقوله: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} صيانةً لهذا الوهم. هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، قال أبو الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب .... يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا "وحاشاك" تتميم، ومنه أخذ صاحب "المفتاح" حيث قال: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} فصل في البين، ولو لم يكن لأوهم رد التكذيب إلى نفس الشهادة. الانتصاف: مضى تنظيره بقوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] ولم يقل: لا تقولوا آمنا. وقلت: ليس منه، لأن ذلك من الألفاظ التي تبدل بما هو أولى بالذكر منه، قال تأبط شرًا: يظل بموماة ويمشي بغيرها .... جحيشًا ويعروري ظهور المهالك فإن جحيشًا: نافر، وكان له مندوحة عنه بقوله: فريدًا، وما نحن بصدده من الإطناب الذي يكتسي به الكلام حسنًا وبهجةً ويستزيد به السامع هزةً ونشاطًا، كما قال الآخر:

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يجوز أن يراد: أن قولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} يمين من أيمانهم الكاذبة؛ لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد، يقول الرجل: أشهد، وأشهد بالله، وأعزم، بالله في موضع أقسم وأولي. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن "أشهد" يمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فسقى ديارك- غير مفسدها- .... صوب السحاب وديمة تهمي قوله: "غير مفسدها"، فضله وتتميم للصيانة. قوله: (لأن الشهادة تجري مجرى الحلف) وذلك أن الشهادة بعد الدعوى تأكيد لاستحقاق المدعي لما ادعاه، واليمين كذلك، فشبهت الشهادة لذلك الجامع، فأطلق اسمها عليها: الشهادة، وفي"المطلع": يقال: أشهد لا أفعل كذا، كما يقال: أحلف لا أفعل كذا. وقوله: يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله، معناه: يقال كلاهما مقرونًا بالله ومجردًا عن قوله: "بالله". قوله: (وأولي)، الجوهري: آلى [يؤلي] إيلاء: حلف وتألى، مثله. قوله: (وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن"أشهد" يمين)، الانتصاف: لا دليل فيه، لأنه غاية ما في الآية أنه سمي يمينًا، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وكل ما يسمى يمينًا تجب به الكفارة، فلو قال: أحلف على كذا، فلا تجب عليه الكفارة، وإن كان حلفًا.

ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان. وقرأ الحسن البصري: (إيمانهم)، أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم. ويعضده قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}. {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي {سَاءَ} معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين {ذَلِكَ} إشارة إلى قوله: {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب أنهم {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان، أي: ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فجسروا على كل عظيمة. فإن قلت: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: {آمَنُوا}، أي: نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، {ثُمَّ كَفَرُوا} ثم ظهر كفرهم بعد ذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون وصفًا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان) أي: يقال: استجن بجنة أي: استتر بسترة: والسترة: ما ستر به الصائد وغيره، إظهارًا كانوا عليه من الخبث والخديعة، وما تمرنوا به واعتادوا عليه، فعلى هذا تكون هذه الآية مستطردة تعدادًا لقبائحهم، وعلى الأول: {أَيْمَانَهُمْ} موضوع موضع المضمر، أي: اتخذوا شهادتهم تلك سترة ستروا بها عما خافوا على أنفسهم، وفيه إشعار بأن وكادتهم لتلك الشهادة بلغت مبلغ الحلف والأيمان، فإذن لا يسمى كل شهادة يمينًا.

وتبين بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات! ونحوه قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74] أي: وظهر كفرهم بعد أن أسملوا. ونحوه قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66]، والثاني {آمَنُوا}: أي: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، والثالث: أن يراد أهل الردة منهم. وقرئ: (فطبع على قلوبهم)، وقرأ زيد بن علي: (فطبع الله). [{وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4] كان عبد الله بن أبي رجلا جسيما صبيحًا، ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم. فإن قلت: معنى قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولهم جهارة المناظر)، الأساس: جهرني فلان: راعني بجماله وهيئته، وفلان جهير بين الجهارة، إذا كان ذا جهر ومنظر تجتهره الأعين، قال أعرابي في الرشيد: جهير الرواء جهير الكلام .... جهير العطاس جهير النغم

قلت: شبهوا في استنادهم، وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير، بالخشب المسندة إلى الحائط؛ ولأن الخشب إذا انتفع به كان في شقف أو جدار أو غيرها من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع. ويجوز أن يراد بالخشب المسندة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان؛ شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم؛ والخطاب في {رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ} لرسول الله، أو لكل من يخاطب. وقرئ: (يسمع) على البناء للمفعول، وموضوع {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} رفع على: هم كأنهم خشب، أو هو كلام مستأنف لا محل له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في استنادهم) الإضافة مثل التعريف باللام، لأن المراد ذلك الاستناد، وهو ما قال: "كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه"، والواو في"وما هم" للحال. قوله: (شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم) هذا الوجه أحسن من الأول، لزيادة الاعتبار، فالتشبيه مركب في الاعتبارين؛ إما عقلي، أو وهمي. قوله: (أو هو كلام مستأنف لا محل له) يؤذن بأن له محلًا على الوجه الأول، قال أبو البقاء: {كَأَنَّهُمْ} الجملة حال من الضمير المجرور في"قولهم" وقيل: هي مستأنفة. وقدر القاضي: تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مستندة إلى الحائط، في كونهم أشباحًا خالية عن العلم والنظر. وظاهر كلام الزجاج على ما نقله الواحدي على الاستئناف، حيث قال: وصفهم بتمام الصور وحسن الإبانة، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب. وأراد أنها ليست بأشجار تثمر وتنمو، بل هي خشب مستندة إلى الحائط، ثم عابهم بالجبن

وقرئ: (خشب جمع خشبة، كبدنة وبدون، و {خُشُبٌ}، كثمرة وثمر، وخشب، كمدرة ومدر، وهي في قراءة ابن عباس. وعن اليزيدي أنه قال في {خُشُبٌ}: جمع خشبائ، والخشباء: الخشبة التي دعر جوفها: شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم {عَلَيْهِمْ} ثاني مفعولي {يَحْسَبُونَ}، أي: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب، إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم. وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم، ومنه أخذ الأخطل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أن تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك. وقلت: تلخيص الآية: إذا رأيت جهارة منظرهم وفصاحة منطقهم، حسبتهم أرباب لب وشجاعة، وأصحاب علم ودراية، وإذا اختبرتهم وقفت على خلاف ذلك، فلا تحتفل بذلك. هم العدو، أي: هم أولئك الذين قالوا: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {لا يَفْقَهُونَ}، ألا ترى كيف عقب الكلام بقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فإذن التعريف في {العَدُوُّ} للعهد، وإن ذهب المصنف للجنس لقوله: "هم الكاملون في العداوة". قوله: (وقرئ: "خشب") قنبل وأبو عمرو والكسائي: بإسكان الشين، والباقون: بضمها. الانتصاف: قد قرئ: بضم الشين قراءةً مستفيضةً، فتدل على أن الضم أصل، والتخفيف فرع، وذلك يبعد كونها جمع خشباء، فإنه يجمع على"فعل" ساكن العين لا غير. قوله: (دعر جوفها)، الجوهري: الدعر- بالتحريك-: الفساد، والدعر أيضًا: مصدر: دعر العود- بالكسر- يدعر دعرًا، فهو عود دعر، أي: عود رديء كثير الدخان.

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم .... خيلا تكر عليهم ورجالا يوقف على {عَلَيْهِمْ}، ويبتدأ {هُمُ العَدُوُّ}، أي: هم الكاملون في العدواة؛ لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تغترر بظاهرهم. ويجوز أن يكون {هُمُ العَدُوُّ} المفعول الثاني، كما لو طرحت الضمير. فإن قلت فحثه أن يقال: هي العدو. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما زلت تحسب كل شيء) البيت. أي: لا زلت في وجل من الإيقاع بهم، وإباحة دمائهم وأموالهم، حتى تحسب- للجبن والهلع- أن كل شيء"خيلًا ورجالةً". أبو الطيب: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم .... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا قوله: (يوقف على {عَلَيْهِمْ})، المرشد: وقف تام، كذا في" الكواشي"، وعليه كلام الواحدي. قوله: (هم الكاملون في العداوة) لتعريف الخبر بالجنس، والضمير هاهنا بمنزلة اسم الإشارة، يؤذن بأن ما بعده جدير بمن قبله لأجل تلك الأوصاف، وإليه أشار بقوله: "لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي". قوله: (العدو المداجي)، الجوهري، المداجاة: المداراة. يقال: داجيته، إذا داريته؛ كأنك ساترته بالعداوة، والمكاشر: المجاهر، يقال: كشر البعير عن نابه، أي: كشف عنها. الداء الدوي، يقال منه: دوي بالكسر منه أي: مرض، ودوي صدره أي: ضغن

قلت: منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] وأن يقدر مضاف محذوف على: يحسبون كل أهل صيحة. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يعدلون عن الحق؟ تعجبا من جهلهم وضلالتهم. [{وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} 5 - 6] {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارًا. وقرئ بالتخفيف والتشديد للتكثير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: في حديث علي رضي الله عنه: "إلى مرعى وبي، ومشرب دوي" أي: فيه داء، وهو منسوب إلى دو، من دوي بالكسر يدوي. قوله: (كما ذكر في {هَذَا رَبِّي}) وقد ذكر فيه جعل المبتدأ مثل الخبر، لكونهما عبارةً عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك. قوله: (وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم) يعني: أنه من أسلوب التجريد، كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "ومن كفر فأمتعه" على الأمر، أي: فأمتعه يا قادر، قال في قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]: "هي من أشنع دعواتهم، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها"، كذلك الطرد عن رحمة الله البعد عن جنابه الأقدس، والخزي: منتهى عذاب الله وغاية نكاله في الدنيا والآخرة، فجعل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} كناية عن ذلك، نعوذ بالله منه. قوله: (قرئ: بالتخفيف والتشديد) نافع: "لووا" بتخفيف الواو، والباقون: بتشديدها.

[{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 7 - 8] روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم، وهزمهم وقتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبي، واقتتلا، فصرخ جهجاه: ياللمهاجرين! وسنان: يا للأنصار! فأعان جهجاهًا جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنانًا؛ فقال عبد الله لجعال: وأنت هناك؟ وقال: ما صحبنا محمدًا إلا لنلطم؟ والله ما مثلهم إلا كما قال: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حين لقي بني المصطلق على المريسيع) قال ابن الجوزي في" الوفا": المريسيع: اسم بئر لبني المصطلق، وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار، جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وتراموا بالنبل ساعةً، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فقتل عشرة من العدو وأسر الباقون. ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. قوله: (وأنت هناك) أي: وأنت في ذلك المقام والمنزلة أن يلطم من يتعلق بي؟ وهو كناية. قوله: (سمن كلبك يأكلك) قال الميداني: أول من قال ذلك حازم بن المنذر الحماني، وقصته مذكورة بطولها في "مجمع الأمثال" وقال: قيل: إن رجلًا من طسم ارتبط كلبًا، فكان يسمنه ويطعمه رجاء أن يصيد به، فدخل عليه يومًا فوثب عليه فافترسه، قال عوف بن الأحوص:

عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذوبه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال عبد الله اسكت فإنما كنت العب؛ فأخبر زيد رسول الله فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال: " إذن ترعد آنف كثيرة بيثرب". قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري، فأمر به أنصاريا فقال: " فكيف إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ " وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله: " أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ " ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أراني وعوفًا كالمسن كلبه .... فخدشه أنيابه وأظافره قوله: (ترعد آنف) بالمد، قيل: هو جمع آنف، قيل: هو عبارة عن الاضطراب والخوف، أو عن الغضب والارتعاد، يقال: أرعده فارتعد، والاسم: الرعدة، وأرعد الرجل: أخذته الرعدة، وأرعدت فرائصه عند الفزع. الأساس: ومن المجاز: هو أنف من قومه، وهم آنف الناس، فعلى هذا الأنسب أن يكون كنايةً عن غضب الرؤساء، أي: يغضب علينا ويتعصب أهل يثرب وما حولها، وتقع فتنةً عظيمة، يدل على هذا قوله: "فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريًا، وأما حديث عبد الله ابن أبي وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فقده رواه البخاري ومسلم والترمذي عن زيد ابن أرقم، على غير هذا الوجه الذي رواه المصنف، وذكره يطول.

قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك، وإن زيدًا لكاذب- وهو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]_ فقال الحاضرون: يا رسول الله، شيخنا وكبيرنا، لا تصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم. وروي أن رسول الله قال له: لعلك غضبت عليه؛ قال: لا؛ قال: فلعله أخطأ سمعك؛ قال: لا؛ قال: فلعله شبه عليك؛ قال: لا. فلما نزلت لحق رسول الله زيدًا من خلفه فعرك أذنه وقال: " وفت أذنك يا غلام، إن الله قد صدقك وكذب المنافقين". ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب_ وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه، وقال: " إن حبابًا اسم شيطان". وكان مخلطًا_ وقال: وراءك، والله لا تدخلها حتى تقول: رسول الله الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيسًا في يده حتى أمره رسول الله بتخليته. وروي أنه قال له: لئن لم تقر لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك، فقال: ويحك، أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجد قال: أشهد أن العة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول الله لابنه: " جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرًا"؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمر تموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفت أذنك يا غلام)، النهاية: كأنه جعل أذنه في السماع كالضامنة بتصديق ما حل فيها، فلما نزل القرآن في تحقيق ذلك الخبر، صارت الأذن كأنها وافية بضمانها، خارجة من التهمة فيما أدته في السماع إلى اللسان. قوله: (وراءك) أي: ارجع القهقرى، قال الميداني: وفي المثل: وراءك أوسع لك، أي: تأخر تجد مكانًا أوسع لك، ويقال في ضده: أمامك، أي: تقدم.

فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فنزلت: {وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] ولم يلبث إلا أيماما قلائل حتى اشتكى ومات. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الاستغفار وعدمه؛ لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون لكفرهم، أو لأن الله لا يغفر لهم. وقرئ: (استغفرت) على حذف حرف الاستفهام؛ لأن (أم) المعادلة عليه. وقرأ أبو جعفر (آستغفرت)، إشباعًا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان، لا قلبا لهمزة الوصل ألفًا، كما في: (آلسحر) و (آلله). {يَنفَضُّوا} يتفرقوا، وقرئ: (ينفضوا من: أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم. وحقيقته: حان لهم أن ينفضوا من أودهم {ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وبيده الأرزاق والقسم، فهو رازقهم منها، وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون، {لا يَفْقَهُونَ} ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "استغفرت" على حذف حرف الاستفهام) وهي المشهورة، قال أبو البقاء: الهمزة في {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} همزة قطع، وهمزة الوصل محذوفة، وقد وصلها قوم على أنه حذف همزة الاستفهام لدلالة {أَمْ} عليه. قوله: ("آستغفرت"، إشباعًا) قال ابن جني: وهي ضعيفة لأنه أثبت همزة الوصل، وقد استغني عنها بهمزة الاستفهام، وأجاب بأنه إشباع لهمزة الاستفهام، لا قلبًا لهمزة الوصل ألفًا. قيل: إذا دخل همزة الاستفهام على الاسم المعرف باللام نحو: الحسن، قلبت همزة الوصل ألفًا، لئلا يلتبس الخبر بالاستخبار، وأما هاهنا فلا لبس، لأنه همزة الوصل هاهنا مكسورة. قوله: (جاهلون {لا يَفْقَهُونَ} ذلك فيهذون)، فإن قلت: فصلت هذه الآية بقوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} والآية الثالثة: {ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} لم قدر مفعول هذه ولم يقدر مفعول الثالثة؟ قلت: ليشير الإطلاق إلى إدارة المبالغة، وأن المنافقين عادمون المعرفة، فاقدون العلم، ولذلك خفي عنهم أن العزة لله جميعًا، بعز من يشاء، ويذل من يشاء، وبالتقييد: الإشارة إلى أن الأرزاق والقسم بيد الله تعالى، فهو يرزق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عنده، ولما كان الثاني مستلزمًا للأول لا العكس بولغ فيه دونه. فإن قلت: لم خص الأول بـ {لا يَفْقَهُونَ} والثاني بـ {لا يَعْلَمُونَ}؟ قلت: قد مر أن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له، فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه، فأوثر ما هو أبلغ لما هو أدعى له. الراغب: معنى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} يأمرونهم بالإضرار بهم، وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون، لأنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم، فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له. وقوله في الثاني: {لا يَعْلَمُونَ} بعد قوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} عندهم أن الأعز من له القوة والغلبة، على ما كانوا عليه من الجاهلية، ولا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره، إنما هي من الله، فهي لله ولمن يخصه بها من عباده، والمنافقون لا يعلمون أن الذلة لمن يقدرون فيه العزة، وأن الله معز أولياءه بطاعتهم له، ومذل أعداءه بمخالفتهم أمره، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناه.

وقرئ: (ليخرجن الأعز منها الأذل) _ بفتح الياء_ وليخرجن، على البناء للمفعول. قرأ الحسن وابن أبي عبلة: لنخرجن، بالنون ونصب الأعز والأذل، ومعناه: خروج الأذل أو إخراج الأذل أو مثل الأذل، {ولِلَّهِ العِزَّةُ} الغلبة والقوة، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليخرجن الأعز منها الأذل) هذه القراءات كلها شواذ، والمشهورة بضم الياء وسكون الخاء، وكسر الراء، والأعز فاعل، والأذل مفعول. قوله: (ومعناه: خروج الأذل، أو إخراج الأذل، أو مثل الأذل) بيان للقراءة المذكورة على النشر، وعليه ظاهر كلام صاحب "التقريب"، فالتقدير: ليخرجن الأعز منها خروج الأذل، ليخرجن الأعز منها إخراج الأذل، ليخرجن الأعز منها مثل الأذل، وقيل: "إخراج" متعلق بالقراءة الثانية والثالثة، والنصب على هذه القراءات على المصدر، و"مثل الأذل" نصبه على الحال على جميع القراءات، ولا يختص بالثالثة كما ذهب إليه صاحب "التقريب"، لئلا يلزم الترجيح بلا مرجع، فيكون "أو مثل" عطف على قوله: "معناه"، يؤيده قول القاضي: والأذل على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف، كخروج وإخراج، أو مثل. وفي الكواشي: "ليخرجن" بفتح الياء معلومًا وبضمها مجهولًا، ونصب "الأذل" مفعول حال محذوف أي: مشبهًا الأذل، أو حال مثل: أرسلها العراك، و "لنخرجن" بالنون ونصب "الأعز"، "الأذل"، أي: خروج أو إخراج الأذل. قوله: ({ولِلَّهِ العِزَّةُ} الغلبة والقوة)، الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان أن يغلب. من قولهم: أرض عزاز، أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد، وعز: كأنه حصل في عزاز يصعب

وعن بعض الصالحات- وكانت في هيئة رثة-: ألست على الإسلام؛ وهو العز الذي لا ذل معه؛ والغنى الذي لا فقر معه! وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك أن فيك تيها؛ قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا وهذه الآية. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 9] {لا تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم {أَمْوَالُكُمْ} والتصرف فيها، والسعي في تدبير أمرها، والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال، وابتغاء النتاج، والتلذذ بها؛ والاستمتاع بمنافعها، {ولا أَوْلادُكُمْ} وسروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنهم، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وإيثاره عليها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوصول إليه، والعزيز: الذي يقهر ولا يقهر، قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، وقد يستعار للحمية والأنفة المذمومة، كما في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] ويقال: عز علي كذا، أي: صعب. قوله: (ليس بتيه ولكنه عزة) قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: العزة غير الكبر، لأن العزة معرفة الإنسان لحقيقة نفسه، وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة ضد الذلة، كما أن الكبر ضد التواضع. قوله: ({عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وإيثاره عليها) أي: لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن

{ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} يريد الشغل بالدنيا عن الدين {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وقيل: ذكر الله: الصلوات الخمس. وعن الحسن: جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله. وقيل: القرآن، وعن الكلبي: الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. [{وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 10 - 11] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختيار ذكر الله على الأموال والأولاد، أي: لا تغفلوا عن هذا الإيثار، وفيه جواز الاشتغال بها مصونًا عن الإيثار. قوله: ({ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} يريد الشغل بالدنيا عن الدنيا) يعني المشار إليه بذلك، هذا هو المعنى، وهو تلخيص الآية على أوجز ما يمكن فهو كلام جامع، عبر بالأموال والأموال والأولاد عن معبر واحد وهي الدنيا، لكونهما أرغب الأشياء منها، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] وقصد بقوله: {ذِكْرِ اللَّهِ} الشمول والعموم، حيث فسره بالدين لإطلاقه وتناوله كل ما هو مسمي به، وبما يناط به من أمور الدين، قال رسول الله: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، فجمع بين الإطناب في الأول، والإيجاز في الثاني، وأذن بنسبة الشغل إلى ذوي العلم أن النهي الوارد في قوله: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} راجع في الحقيقة إلى المخاطبين، من باب إطلاق المسبب على السبب كقوله تعالى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي: لا تكونوا بحيث تلهيكم الأموال والأولاد من التهالك في جمعها، وفي التلذذ بها، والانهماك فيها، والتعزز بهم، والتكاثر بعددهم.

{مِنْ} في {مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} للتبعيض، والمراد: الإنفاق الواجب، {مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} من قبل أن يرى دلائل الموت، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق، ويتعذر عليه الإنفاق، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع، ويعض أنامله على فقد ما كان متمكنا منه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، قلا تقبل توبة، ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيرًا لما سأل الرجعة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي تخصيص ذكر {الخَاسِرُونَ} إنما إلى أن ذلك الإيثار في معنى الاستبدال، الذي هو بمنزلة البيع والشراء، ثم في التعريف الجنسي في {الخَاسِرُونَ} وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين المبتدأ إشعار بأن الكاملين في الخسارة هؤلاء، وأن خسارهم فوق كل خسران، حيث باعوا العظيم الباقي، بالحقير الفاني، وإن ربحوا في تجارتهم الظاهرة، ودخل في هذا العموم وعيد كل من ذهل عن الجهاد في سبيل الله، وشغل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن طلب العلم، وعن النصيحة للمسلمين، بسبب مراعاة شأن الأموال والأولاد. وأما بيان النظم، فإن المنافقين لما نهوا عن الإنفاق على من عند رسول الله، وأريد الحث على الإنفاق بقوله: {وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} رغمًا لأنوفهم، وتحريًا لما هو الأصوب والأصلح، وجعل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ} تمهيدًا وتوطئة للأمر بالإنفاق وعم العلة والحكم، والله أعلم. قوله: (ويضيق به الخناق)، كناية عن اللزوم وعدم الإمهال. والأساس: ومن المجاز: أخذ منه بالمخنق: إذا لزه وضيق عليه.

فقيل له: أما تتقي الله! يسأل المؤمنون الكرة؟ قال: نعم، أنا أقرأ عليكم به قرانا. يعني: أنها نزلت في المؤمنون وهم المخاطبون بها، وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة. وعن عكرمة: أنها نزلت في أهل القبلة. {لَوْلا أَخَّرْتَنِي}، وقرئ: (أخرتن)، يريد: هلا أخرت موتي {إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلى زمان قليل؟ {فَأَصَّدَّقَ} وقرأ أبي: (فأتصدق) على الأصل، وقرئ: {وأَكُن}، عطفا على محل {فَأَصَّدَّقَ} كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. ومن قرأ: (وأكون) على النصب، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير: (وأكون)، على (وأنا أكون) عدة منه بالصلاح، {ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ} نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أما تتقي الله! يسأل المؤمنون الكرة؟ ) أي: أما تخاف الله! كيف تقول: إنها نزلت في مانعي الزكاة؟ والحال أن المؤمنين لا يسألون الرجعة غلى الدنيا، بل الكافرون هم السائلون، فقال ابن عباس: أنا ما أقول من تلقاء نفسي، وإنما أقرأ بما قلت قرآنًا، لأن قوله: {أَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} عطف على {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ}، والمخاطبون هم المؤمنون، لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وفيه إشارة إلى أن من فسر القرآن وراعى النظم لا يخطئ. قوله: (وقرئ: {وَأَكُن}، عطفًا على محل {فَأَصَّدَّقَ}) أبو عمرو: "وأكون" بالنصب والواو، والباقون: بغير واو وجزم النون. قال الزجاج: من قرأ {فَأَصَّدَّقَ وأَكُن} فـ"أصدق" جواب {لَوْلا أَخَّرْتَنِي} معناه: هلا أخرتني، وجزم {وأَكُن} على موضع {فَأَصَّدَّقَ}، لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن. قال صاحب "الكشف": جزم "أكن" بالحمل على موضع {فَأَصَّدَّقَ} لأن موضع الفاء مع الفعل جزم. ومن قال: "وأكون" حمله على لفظ {فَأَصَّدَّقَ} لأن الحمل على

والمعنى: إنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره، لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله. وقرئ: {تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة المنافقين برئ من النفاق". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللفظ عندهم أحسن، إذا لم يظهر في الموضع إعراب، وما لا يظهر جرى مجرى المطرح المرفوض. قوله: (وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها؛ من منع واجب وغيره* روي عن المصنف أنه قال: ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك، فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب، فيلزمه التحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقتن وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة بقوله: {وَأَنفِقُوا} الآية، أي: غن كان لم يقدر من قبل حضور الموت على الإنفاق، فكيف يتمنى تأخير الأجل؟ ثم قال مؤيسًا له: {ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا}، وأن عمره مكتوب لا تأخير فيه، فالجواب عل كل أحد أن لا يتكل على وقت، ويكون على حذر في جميع أحواله وأوقاته، وجوابه مر مرارًا. قوله: ({تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء) بالياء التحتانية: أبو بمر وحده. تمت السورة بحمد الله وعونه. * * *

سورة التغابن

سورة التغابن مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإلَيْهِ المَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1 - 4] قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له؛ لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه والقائم به، والمهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأن أصول وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة التغابن ثماني عشرة آيةً، مكية بخلاف بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي قوله: (واسترعاء)، الجوهري: راعيته الشيء، من مراعاة الحقوق، واسترعيته الشيء فرعاه، وفي المثل: "من استرعى الذئب فقد ظلم"، والراعي: الوالي.

وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (وحمده اعتداد) عطف على قوله: "ملك غيره" أتى بإيرادين على إثبات اختصاص الملك بالله، واختصاص الحمد به، ولما حذف "أما" التفصيلية من المعطوف، حذف الفاء اللازمة لها، وقد سبق تقريره في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7]. وأجاب: أن ملك غيره إن كان ظالمًا، فهو تسليط من الله تعالى على الخلق ابتلاءً، وإن كان عادلًا فاسترعاء منه امتنانًا. وأما حمد بعض الناس لبعض فإنما كان معتدًا به لأنه جرت نعمة الله على يده، يعني لولا نعمة الله وخلقه إياها ما جرى ذلك الإعطاء على يد العبد، فإذن: في الحقيقة الله هو المحمود، لأن أصول النعم وفروعها منه، كما أن خازن الملك إذا أعطى الغير فهو إنما يحمد لأنه باشر الفعل، وفي الحقيقة الملك هو المحمود لأن النعمة منه، وذهب عنه أن فعل الإعطاء أيضًا في الحقيقة ليس من العبد، ثم نقول: هب أنه خلص من هذه الورطة بهذا العذر، فأنى له الخلاص من الحمد على الحمد على الأفعال الاختيارية؟ ! وقد قال في فاتحة الفاتحة: "الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها". ثم قال في الحجرات: "وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن، لا يغيب عنه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره، وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثنى عليهم بفضل الله وقد نعى الله هذا على الذين أنزل فيهم {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] " فإذا لم يجز أن يثنى عليهم بفعل الله، لم

يعني: فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، كقوله تعالى: : {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] والدليل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم بكفر كم وإيمانكم اللذين هما من عملكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يجز أن يثنى على الله بفعلهم، فلا يختص الحمد بالله. وهذا كما ترى كالشجى لا يسيغ، ولا يسوغ التكلم في الاختصاص إلا لمن يقول: الحمد لما كان هو الوصف بالجميل، والله خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل ما يستحق الحمد من الأفعال، فله الحمد في الحقيقة، وإن أضيف في الظاهر إلى الغير، وحينئذ تتطابق القرينتان، لا إلى أنهما اسمان، فكما حاز قوله: "له الملك"، أنواع الملك، جمع"له الحمد" أجناس الحمد، ولله الحمد على التوقيف، وله المنة على التوفيق. قوله: (فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له) نظرًا إلى اشتقاق اللفظين، لا إلى أنهما اسمان لهذين الفريقين، وجعلهما خارجين من معنى قوله: {خَلَقَكُمْ}، يعني أن الله تعالى خلق ذواتهم، وهم الذين أحدثوا الإيمان والكفر، واستدل على مذهبه بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26]، فإن كونهم فاسقين ليس الغرض في جعل الكتاب فيهم، كذلك كونهم كافرين ليس المراد في خلقهم، وبقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فإنه تهديد ووعيد على أعمالهم. فالحاصل: أنه جعل الفاء في {فَمِنكُمْ} وفي {فَمِنْهُمْ} للترتيب، والغرض على سبيل الاستعارة، كالكلام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، يدل عليه قوله: "والمعنى هو الذي تفضل عليكم .. " إلى آخره، والذي يدل على أنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخرج {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} من مفهوم قوله: {خَلَقَكُمْ}، قوله بعد ذلك: "فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته". والقاضي جعل ما بعد الفاء تفصيلًا لقوله {خَلَقَكُمْ} حيث قال: {هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ}، ثم شرع في البيان وقال: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ}، أي: مقدر كفره، {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} مقدر إيمانه. وقلت: مثله في الإجمال والتفصيل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] خلقهم وقدرهم على المشي، وما به يقدرون عليه، ثم أسند المشي إليهم، والتفصيل إنما يبين ما أجمل في المفصل في المعنى، فعلم أن كونهم كافرين ومؤمنين مراد في قوله: {خَلَقَكُمْ} وعليه السياق، فإن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه المعلومات كلها، وفي إنشائه المكونات ذواتها وأعرضها، ولأن قوله: {خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} بيان لقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ويعضد هذا التأويل الأحاديث الكثيرة منها؛ ما روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات؛ يكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أم سعيد، فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

والمعنى: هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عبادًا شاكرين، فما فعلتم مع تمكنكم، بل تشعبتم شعبًا، وتفرقتم أمما؛ {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم، وقيل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ} بالخلق، وهم الدهرية، {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها ما رواه مسلم والترمذي وأبو داود، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". قال صاحب"التيسير" و" المطلع": دلت الآية على أنه لا منزلة بين المنزلتين. وقال ابن عباس: ليس بين الجنة والنار منزل، وليس بين الطاعة والمعصية عمل، وليس بين الكفر والإيمان اسم. وقال محيي السنة: إن الله خلق الكافر وكفره فعلًا له وكسبًا، وخلق المؤمن وإيمانه فعلًا له كسبًا، والكل بتقدير الله ومشيئته. فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه، وهذا طريق أهل السنة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر. قوله: (الدهرية) قال حجة الإسلام: الدهريون طائفة من الأقدمين حجدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودًا لذلك بنفسه لا بصانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان وكذلك يكون، فهؤلاء هم الزنادقة خذلهم الله وأبادهم.

فإن قلت: نعم، إن العباد هم الفاعلون للكفر، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، ولم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفًا باترًا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرمة فقتل به مؤمنًا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه، والدق في فروته كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت: قد علمنا أن الله حكيم عالم بقبح القبيح، عالم بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنًا، وأن يكون له وجه حسن؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نعم، إن العباد هم الفاعلون) إيجاب لقوله: "فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكر آت بالإيمان وفاعل له" إلى آخره، وتقرير له بعد الدلائل، كأنه قيل: ظهر أن العباد هم الفاعلون. قوله: (والدق في فروته)، الأساس: لأسلخن فروة رأسك، وضربه على أم فروته وهي هامته، فهي عبارة عن الوقوع فيه وتمزيق عرضه. قوله: (قد علمنا أن الله حكيم عالم) إلى آخره، الانتصاف: اقتحم الزمخشري وعر المسالك، وهو فيها هالك، فتحدق وتشدق، وتفقه فتفيهق، هب أنه نسي أن الله خالق كل شيء، وغفل عن الأدلة العقلية، أليس قد اعترف أن خلق فاعل القبيح كخلق القبيح؟ ! زعمًا منه أن ما قبح شاهدًا، قبح غائبًا، كما علل بأنه يجوز أن يكون فيها حكمة استأثر الله بها، فما الذي يمنعه أن يقول: أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وفي ذلك حكمة استأثر الله بها؟ ! ولا فرق إلا التحكم واتباع الهوى.

وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها. {بِالْحَقِّ} بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} - وقرئ: (صوركم) بالكسر- لتشكروا، وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه. فإن قلت: كيف أحسن صوركم؟ قلت: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبًا غير منكب، كما قال عز وجل: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. فإن قلت: فكم من دميم مشوه والصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت: لا سماحة ثم، ولكن الحس كغيره من المعاني على طبقات ومراتب، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطًا بينًا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخفاء وجه الحسن علينا، لا يقدح في حسنه) قال صاحب"الانتصاف" في البقرة: ما ذكرتموه إن صلح جوابًا كان جوابًا عما أعرضتم، فلم لم تسلم الأمر إلى الله في أول الأمر؟ ! قوله: (على الشكر) متعلق ب"جزاؤكم"، وهو مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على جملة قوله: "وإليه مصيركم" يعني: جعلها مقار للمكلفين ليعلموا، وصوركم فأحسن لتشكروا، وإليه مصيركم فعنده جزاؤكم على الشكر والكفران، وقيل: "فجزاؤكم" عطف على "مصيركم"، فكأنه قيل: إليه مصيركم فإليه انتهى جزاؤكم. قوله: (فلانحطاط بعض الصور) اللام فيه تعليل لقوله: "لا يستملح"، والاستثناء

وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح، وإلا فهي داخلية في حيز الحسن، غير خارجة عن حده. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستلحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها؟ وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لها: الجمال، والبيان. نبه بعلمه ما في السموات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قوله: "وإلا فهي داخلة" في معنى الشرط، والفاء علة، أي: وإن لا يكن انحطاط بعض الصور ولا تكن هذه الإضافة، لما كان عدم الاستملاح، ولما اقتحمته العيون، لأن هذا البعض داخل في حيز الحسن، والمراد بالموفي عليها: هي التي أتم الله حسنها، يقال: وفى الشيء وفيًا على فعول: تم وكثر، والباء في قوله: "ولا ترى الدنيا بها" بدلية. قوله: (وكل ما ذكره بعد قوله: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}) "كل" مبتدأ، والخبر "في معنى الوعيد"، "وكما ترى" متعلق بالخبر، أي: كل ما ذكره وارد في معنى الوعيد ورودًا كما ترى، هذا تمسك بدلالة النظم على مطلوبه، وقد ذكر أن الدليل على أن قوله: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} في معنى: "فمنكم آت بالكفر، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له" قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ثم شد عضده بقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وقلت: أما تقريره النظم على أن "الفاء" في {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} تفصيلية، وأن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله في ملكه وملكوته، فهو أنه تعالى لما أثبت لذاته الأقدس التنزيه، وأن كل شيء ينزهه ويقدسه عما لا يليق بجلاله، ثم خص لها صفة المالكية على الإطلاق، وخص

كما ترى في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق، ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعم نعمة من الله على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم. [{أَلَمْ يَاتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 5 - 6] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن لها كل كمال وجمال، ومنه كل نعمة وإفضال، وهو خالق كل مهتد وضال، ونظم دليل الآفاق مع دليل الأنفس، وبين أن إليه المصير والمآل، ختمها بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات وكرره تكريرًا وأكده توكيدًا، وكان ذكر العلم في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} استطرادًا لذكر الخلق وتفصيله، ولإثبات القضاء والقدر، ولما فرغ من ذكر بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد، وقال: {أَلَمْ يَاتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، والله أعلم. قوله: (فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق) أي: يقول: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} دخلان تحت قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ومن جملته كما سبق، ونقول: هذا قول من يجهل القدر، ولا يؤمن بالنصوص القاطعة والبراهين الساطعة، والفرق بين الخلق والكسب، ولو لم يكن لمزج الكفر بالخلق مدخل واعتبار، وكان تهديدًا صرفًا كما ذكر، لم يكن لذكر {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} فائدة في المتن، لأنه- على ما قال- وعيد على تعكيس أمرهم، حيث وضعوا الكفران موضع الشكر، نحو قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وهو المعني بقوله: وكل ما ذكره في الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق، ولا يشكر نعمته، وليس كذلك؛ لأن قوله {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} يأباه.

{أَلَمْ يَاتِكُمْ} الخطاب لكفار مكة. {ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. {بِأَنَّهُ} بأن الشأن والحديث {كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا أن تكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا! ! {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أطلق ليتناول كل سيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت: قوله: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}: يوهم وجود التولي والاستغناء معا، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. [{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 7 - 8] الزعم: ادعاء العلم، ومنه قوله عليه السلام: "زعموا مطية الكذب"، وعن شريح لكل شيء كنية الكذب: " زعموا"، ويتعدى إلى المفعولين تعدي العلم. قال: .. ولم أزعمك عن ذاك معزلا و{أَن} مع ما في حيزه قائم مقامهما. و {الَّذِينَ كَفَرُوا} أهل مكة. و {بَلَى} لما بعد {لَن}، وهو البعث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (زعموا مطية الكذب)، النهاية: معناه: أن الرجل إذا أراد شيئًا من المسير إلى بلد، والظعن في حاجة ركب مطيةً وسار حتى يقضي أربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل إلى غرضه من قوله: "زعموا كذا وكذا"، بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل الإبلاغ.

{وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: لا يصرفه عنه صارف، وعنى برسوله والنور: محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن. [{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المَصِيرُ} 9 - 10] وقرئ: {يَجْمَعُكُمْ} و {يُكَفِّرْ} و {يُدْخِلْهُ}، بالياء والنون. فإن قلت: بم انتصب الظرف؟ قلت: بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو بـ {خَبِيرٌ}، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار (اذكر) {لِيَوْمِ الجَمْعِ} ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون. والتغابن: مستعار من: تغابن القوم في التجارة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقريء: {يَجْمَعُكُمْ}) المشهورة: بالياء، وبالنون: شاذة، و"نكفر" و"ندخله" بالنون: نافع وابن عامر، والباقون: بالياء. قوله: (التغابن: مستعار من: تغابن القوم في التجارة)، الراغب، الغبن: أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء، فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان؛ بضم الغين، وإن كان في رأي يقال: غبن؛ بكسر الباء. ويوم التغابن: يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] وبقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة، وفيما تعاطوه من ذلك جميعًا.

وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه تهكم بالأشقياء) يعني: صح أن يقال باعتبار السعداء: {يَوْمُ التَّغَابُنِ}؛ لأنهم يغبنون الأشقياء بنزولهم في منازلهم من الجنة لو كانوا سعداء، ولكن لا يستقيم باعتبار الأشقياء؛ ذلك لأنهم لا يغبنون السعداء بنزولهم ي منازلهم من النار، إلا بالاستعارة التهكمية، وهو المراد من قوله: "لأن نزولهم لي بغبن". وجعل الواحدي التغابن من طرف واحد للمبالغة حيث قال: {يَوْمُ التَّغَابُنِ}: يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، ولا غبن أبين من هذا، هؤلاء يدخلون الجنة وهؤلاء يدخلون النار. في أهله ومنازله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. وعليه قول الراغب: {يَوْمُ التَّغَابُنِ}: يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة ... إلى آخره، كما مر آنفًا. فالمبايعة من الشخص ونفسه، وكذا المغابنة على سبيل التجريد كما في قوله تعالى: "وما يخادعون إلا أنفسهم" في وجه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها".

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرًا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة". ومعنى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} _ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم-: استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت. {صَالِحًا}: صفة للمصدر، أي: عملًا صالحًا. [{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 11] {إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ}: إلا بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه. {يَهْدِ قَلْبَهُ} يلطف به ويشرحه الازدياد من الطاعة والخير. وقيل: هو الاسترجاع عند المصيبة. وعن الضحاك: {يَهْدِ قَلْبَهُ} حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث بتمامه رواه البخاري عن أبي هريرة في"صحيحه"، وأورده الصغاني في"مشارق الأنوار". قوله: (ومعنى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}) مبتدأ، والخبر "استعظام له"، وما توسط بينهما اعتراض، وقوله: "وأن تغابنه هو التغابن" إلى آخره، عطف على الخبر على سبيل التفسير، يعني: في إيقاع {يَوْمُ التَّغَابُنِ} خبرًا لاسم الإشارة، والتعريف فيه للجنس، والمشار إليه قريب، استعظام لذلك اليوم كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2]. قوله: (كأنه أذن للمصيبة أذن تصيبه) وهي استعارة مكنية؛ لأن الإذن إنما يستعمل في تسهيل الحجاب كما مر مرارًا.

وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظلم غفر. وقرئ: (يهد قلبه)، على البناء للمفعول، والقلب مرفوع أو منصوب، ووجه النصب أن يكون مثل: {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، أي: يهد في قلبه، ويجوز أن يكون المعنى: أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه، كقوله تعالى: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقرئ: (نهد قلبه)، بالنون، و (يهد قلبه)، بمعنى: يهتد و (يهدأ قبله): يطمئن، و (يهد) و (يهدا) على التخفيف. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم ما يؤثر اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يكون مثل {سَفِهَ نَفْسَهُ}) قال: معناه: سفه في نفسه، فحذف الجار كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني، وقيل: انتصاب النفس على التمييز، نحو: غبن رأيه، ويجوز تعريف المميز في الشذوذ. قال ابن جني: قرأ عكرمة: "يهدأ قلبه" بالهمز، أي: يطمئن قلبه، كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. قوله: (و"يهدا" على التخفيف) قال الزجاج: وقرئت: "يهد قلبه"، على تأويل: هدأ قلبه يهدأ، على طرح الهمزة، ويكون في الرفع"يهدا"؛ غير مهموز، وفي الجزم: "يهد" بطرح الألف، يعني: إذا سلم لأمر الله سكن قلبه. قوله: (فيمنحه ويمنعه) نشر لما سبق، هذا يؤذن أن في الكلام إضمارًا تقديره: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، أي: بتقديره، فمن لم يؤمن بالله يخذله، ويجعل صدره ضيقًا حرجًا، ومن يؤمن يلطف به ويشرح صدره. ويؤيده قوله في الوجه الثاني المشار إليه بقوله: ويجوز أن يكون"يهد" مسندًا إلى العبد، لا إلى الله تعالى.

[{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَإنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ * اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} 12 - 13]. {فَإن تَوَلَّيْتُمْ} فلا عليه إذا توليتم؛ لأنه لم يكتب عليه طاعتكم؛ إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: أن الكافر ضال عن قلبه، بعيد عن، والمؤمن واجد له مهتد إليه، فيكون قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تابعًا لقوله: {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} على طرح قرينتيها، وأما على تقدير أهل السنة: وأن علم الله موافق لقضائه وقدره، فهو تذييل لقوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} ولما كان معنى {بِإذْنِ اللَّهِ}: بتقديره ومشيئته، كان {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقديرًا له وتوكيدًا، ينصره ما رواه الواحدي عن ابن عباس: {بِإذْنِ اللَّهِ}: بعلم وقضائه، وعن مقاتل: {يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع. وعن محيي السنة: {يَهْدِ قَلْبَهُ}: يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيسلم لقضائه. وقلت: وينصر هذا التأويل ما رويناه عن أبي داود والترمذي عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان، حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني إنيً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني". وعليه كلام الضحاك، فحينئذ يحترز أن يقال ما قاله في سورة يونس عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]: "تلك كتابة معلوم، لا كتابة مقدر".

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوي به في أمره، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 14 - 15] إن من الأزواج أزواجًا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن قلت: هذا لا يلزمه لأنه ذكر في كتاب"المنهاج في الأصول": أن الحسنة التي هي الخصب والصحة، من الله، وأما الطاعات فمن العبد، ولكن الله تعالى قد لطف به في أدائها، وبعثه عليها، والسيئة هي القحط والمرض من الله تعالى، وهو صواب وحكمة، وأما المعصية فمن العبد، والله تعالى بريء منها. وما نحن بصدده من القبيل الأول من القسم الثاني وهو القحط والمرض، لا الكفر والمعصية، ولذلك فسر الآية {بِإذْنِ اللَّهِ} بقوله: "إلا بتقديره ومشيئته". وقلت: الذي يقتضيه النظم واستشهاد عبادة بالحديث أن تكون المصيبة عامة في جميع المصائب، أما في الحديث فبدلالة قوله: "اكتب مقادير كل شيء"، وأما في الآية فلورودها عقيب بيان جزاء المؤمن وجزاء الكافر، ، وإردافها بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وأي مصيبة أعظم من ارتكاب المعاصي والكفر؟ ! فيكون قوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} إشارةً إلى الخلق، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إيماءً إلى الكسب، وقوله: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} كالخاتمة والفذلكة للكل، وكالمخلص إلى مشرع آخر، والله أعلم. قوله: (ويجلبن عليهم) من الجلبة: الصيحة، ويروى: "ويجلبن". الجوهري: جلب على

ومن الأولاد أولادًا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى. {فَاحْذَرُوهُمْ} الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعًا، أي: لما علمتم أهؤلاء لا يخلون من عدو، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم. {وَإن تَعْفُوا} عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم. وقيل: إن ناسًا أرادوا الهجرة عن مكة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا: تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وألادهم فزين لهم العفو. وقيل قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأماالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير، فلما هاجروا منعوهم الخير فحثوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة. وقيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه، فكأنه هم بأذاهم، فنزلت. {فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة؛ لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما؛ ألا ترى إلى قوله: {وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}؟ وفي الحديث: " يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته"، وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فرسه يجلب بالضم جلبًا، إذا صاح به من خلفه واستحثه للسبق. وأجلب عليه مثله. قوله: (وقيل: إن ناسًا أرادوا الهجرة) الحديث رواه الترمذي عن ابن عباس مع اختلاف، وهو عطف على قوله: "إن من الأزواج أزواجًا"، فعلى الأول الآية عامة، وكذلك قوله: "وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة"، وعطف على قوله: " {فِتْنَةٌ} وبلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم".

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال: " صدق الله، {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما" ثم أخذ في خطبته. وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما. [{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} 16] {مَا اسْتَطَعْتُمْ} جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها استطاعتكم {وَاسْمَعُوا} ما توعظون به {وَأَطِيعُوا} فيما تؤمرون به وتهون عنه، {وَأَنفِقُوا} في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها، {خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ} نصب بمحذوف تقديره: ائتوا خيرًا لأنفسكم، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع؛ وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، وبيان لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما) الحديث رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن أبي بريدة مع اختلاف يسير. قوله: (ابذلوا فيها) أي: في التقوى. قوله: (وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر) يعني قوله: "خيرًا لكم"، إذ التقدير: ائتوا خيرًا لأنفسكم، والمعنى: وافعلوا ما هو خير لها، فيكون كالخاتمة لسائر الأوامر السابقة، وكالبيان للترجيح على ما اعتقدوا فيه الخير من الأموال والأولاد.

[{إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 17] {قَرْضًا حَسَنًا} وذكر القرض: تلطف في الاستدعاء. {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} يكتب لكم بالواحدة عشرًا، أو سبع مئة إلى ما شاء من الزيادة. وقرئ: (يضعفه). {شَكُورٌ} مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، وكذلك {حَلِيمٌ} يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: يجوز أن يكون {خَيْرًا} صفة مصر محذوف، أو خبرًا لكان مقدرًا جوابًا للأوامر. تمت السورة بحمد الله وعونه. * * *

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية، وهي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} 1 - 3] خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعم بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الطلاق مدنية، وهي إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (وعم بالخطاب)، "عم": مسند إلى الجار والمجرور.

إظهاراً لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه مدره قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادا مسد جميعهم. ومعنى {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أردتم تطليقهن وهممتم به، على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه: كقوله عليه السلام: " من قتل قتيلا فله سلبه" ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم، أي: مستقبلا لها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه)، ومن ثم أوثر لفظ النبي على الرسول، كما روينا في"صحيح البخاري" غير مرة أن البراء قال في الدعاء: ورسولك الذي أرسلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، ونبيك الذي أرسلت". النهاية: قيل: إن"النبي" مشتق من النباوة: وهو الشيء المرتفع. الراغب: النبوة: سفارة بين الله عز وجل، وبين ذوي العقول من عباده لإزاحة عللهم في أمر معادهم ومعاشهم. قوله: (مدره قومه)، الجوهري: المدره: زعيم القوم والمتكلم عنهم. قوله: (ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي)، هذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون وعليكم السكينة، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة". قوله: (فطلقوهن مستقبلات لعدتهن)، قال القاضي: {لِعِدَّتِهِنَّ} أي: وقتها، وهو الطهر، فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت، ومن عد العدة بالحيض علق اللام بمحذوف، مثل مستقبلات، وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار، وأن طلاق المعتدة بالأقراء

وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في قبل عدتهن)، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد: أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينبغي أن يكون في الطهر وأنه يحرم في الحيض من حيث أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، ولا يدل على عدم وقوعه، إذ النهي لا يستلزم الفساد، كيف وقد صح أن ابن عمر لما طلق امرأته حائضًا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجعة، وهو سبب نزوله. قوله: (وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قبل عدتهن")، يعني: هذه القراءة ترجع تقدير"مستقبلات"، وروى هذه القراءة الأئمة كلهم. وقال ابن جني: هذه القراءة تصديق لمعنى قراءة الجماعة، أي: فطلقوهن عند عدتهن، ومثله قوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] أي: عند وقتها. وقال صاحب" الانتصاف": وجه الدليل من القراءتين على أن الأقراء الأطهار، خلاف ما ظنه، أن الله تعالى جعل العدة، وإن كانت في الأصل مصدرًا، ظرفًا للطلاق المأمور به كاستعمال المصادر ظرفًا، كخفوق النجم، ومقدم الحاج، وزمان الطلاق، هو الطهر وفاقًا. فالتطهر: عدة، وتصير اللام على التحقيق مثلها في {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أي: لو علمت عملًا في حياتي، وعلى القراءة الأخرى من قبل عدتهن تحقق ذلك، فإن قبل الشيء جزء منه، فلقد أطلق القول من غير تحرير. قوله: (في الطهر المتقدم للقرء الأول)، أي: للحيض الأول بأن يطلقها في طهر يشارف الحيض.

ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة، وأبعده من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدةً، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثًا في أطهار، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدةً، وكان يكره الثلاث مجموعةً كانت أو متفرقة، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد، فأما مفرقًا في الأطهار فلا؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: "ما هكذا أمرك الله، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا، وتطلقها لكل قرء تطليقةً". وروي أنه قال لعمر: "مر ابنك فليراجعها، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وعند الشافعي رضي الله عنه: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنةً ولا بدعةً وهو مباح، فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت؛ والشافعي يراعي الوقت وحده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته) الحديث، رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ويمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله"، وفي رواية نحوه وفيه: "الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى" قال: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن". قول: (وعند الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث)، قال صاحب "التقريب": يقع عند

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي الثلاث طلاق البدعة مع الإثم، وعند ابن المسيب وجماعة من التابعين: لا يقع ما أوقعه في حيض أو ثلاثًا. وقال محيي السنة في"المعالم": ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثًا لا يكون بدعيًا، وهو قول الشافعي وأحمد، وذهب بعضهم إلى أنه بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي. وقال: الطلاق السني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فلو طلق غير المدخول بها في حال الحيض، أو طلق الصغيرة التي لم تحض، أو الآيسة بعد ما جامعها، أو طلق الحامل بعد ما جامعها، أو في حال رؤية الدم، لا يكون بدعيًا ولا سنيًا، ولو طلق في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدًا، يعصي الله، لكن يقع الطلاق. وقال الزجاج: عند مالك: إن أراد الزوج أن يطلق امرأته ثلاثًا أن يطلقها طاهرًا من غير جماع تطليقةً واحدةً ثم يتركها إن أراد المقام على فرقتها ثلاث حيض، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا يملك رجعتها، ولكن إن شاء أن يجدد نكاحها كان ذلك لهما، لأن معنى قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي: بعد الطلاق الواحد، فإذا طلقها ثلاثًا في وقت واحد فلا يبقى لقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} معنى. وقد جاء التشديد فيمن تعدى طلاق السنة فقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} وقال: {ومَن

فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت: نعم، وهو آثم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا بين يديه، فقال: "أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثًا، فقال له: "إذن عصيت وبانت منك امرأتك". وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثًا إلا أوجعه ضربًا، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين: أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أوثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف. فإن قلت: كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟ قلت: الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر، وخالفهما محمد وزفر في الحامل، فقالا: لا تطلق للسنة إلا واحدة، وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة، ولا يراعى الوقت. فإن قلت: هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ قلت: اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا، والظاهر الكراهة. فإن قلت: قوله: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني حدود طلاق السنة. قوله: (ولا يراعى الوقت) إذ لا حيض لها، فلا يتصور رعاية الوقت. قوله: (والظاهر الكراهة) قيل: هذا لا يتصور على مذهب الشافعي إلا بالخلع مع الأجنبي، لأنه إذا طلق المدخول بها طلقةً واحدةً لا تبين إن كان مجانًا، وإن خالعها لا يكون مكروهًا، وأما إن خالع مع الأجنبي والمرأة حائض، فلا يكون الطلاق بدعيًا.

والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟ قلت: لا عموم ثم ولا خصوص؛ ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك، فلما قيل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض. {وأَحْصُوا العِدَّةَ} واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، {لا تُخْرِجُوهُنَّ} حتى تنقضي عدتهن، {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج؛ وأضيفت إليهن لا ختصاصها بهن من حيث السكنى. فإن قلت: ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت: معنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن، وكراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لهم إلى المساكن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا عموم ثم ولا خصوص)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، وقيل: قوله: "لا عموم" مشكل، لأن اسم الجنس المعرف باللام من صيغ العموم، فالأولى أن يقال هو عام، ولما قيل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أن المراد به الخصوص، وقلت: السؤال والجواب مبني على أصول الحنفية وتوجيه السؤال: أن النساء جمع محل باللام، فيقيد استغراق جميع ما يصلح له. وخلاصة الجواب: أن هذا ليس من العام الذي خص بقوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} لأن المخصص عندهم دليل مستقل بنفسه كما سبق في البقرة، وها هنا {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} من تتمة الكلام لأنه جزاء للشرط، فلا يصلح للتخصيص فتعين أن يكون قيدًا للمطلق، والنساء على هذا دال على شائع في جنسه مقيد بقيد {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر بطهر لم يجامعها فيه، فيجب الحمل عليه، وإليه أشار بقوله: "علم أنه أطلق على بعضهن، وهن المدخولات بهن من المعتدات بالحيض".

وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأن غذنهم لا أثر له في رفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك، {إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قرئ بفتح الياء كسرها، قيل: هي الزنى، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن، وقيل: إلا أن يطلقن على النشوز، والنشوز يسقط حقهن في السكنى، وقيل: إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن؛ وتؤكده قراءة أبي: (إلا أن يفحشن عليكم)، ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأن لا يأذنوا لهن في الخروج)، عطف على "أن لا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن"، وكلاهما تفسير لقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} لكونه مطلقًا يحتمل الحالتين، والحاصل: أن الجمع بين الإخراج والخروج استيعاب أقسام العناية بعدم الخروج، وفي"المطلع": وإنما جمع النهي بين الإخراج والخروج إيذانًا بأن لا أثر لإذن الأزواج في إباحة خروجهن، لأنه حق الشرع فلا يسقط بإسقاط العبد. قوله: (لا يخرجن)، من اللف التقديري، أي: معنى الإخراج والخروج أن لا يخرجهن البعولة، وأن لا يخرجن بأنفسهن قوله: ({مُبَيِّنَةٍ} قرئ بفتح الياء وكسرها) بالفتح: ابن كثير وأبو بكر؛ والباقون: بالكسر. قوله: (إلا أن يفحشن عليكم)، قيل: الاستثناء عند الجمهور من الجملة الأولى، وقيل: هو منقطع، أي: إلا أن يحشن فيخرجن، أي: من خرجت أتت بفاحشة، فعلى هذا يحتمل أن يكون الاستثناء من الجملة الثانية، ويحتمل أن يكون متصلًا، روي عن المصنف أنه قال: أي: لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، وقد علمنا أنه لا يطلق لهم فيه، فيكون ذلك منعًا على أبلغ وجه من الخروج.

وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه. الأمر الذي يحدثه الله: أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى: فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون، {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وهو آخر العدة وشارفنه، فأنتم بالخيار: إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان؛ وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار، وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلًا للعدة عليها وتعذيبًا لها {وَأَشْهِدُوا} يعني عند الرجعة والفرقة جميعًا، وهكذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وعند الشافعي: هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة. وقيل: فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث. {مِنكُمْ} قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم {لِلَّهِ} لوجهه خالصًا، وذلك أن تقيمموها لا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم، كقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] أي: {ذَلِكُمْ} الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط {يُوعِظُ بِهِ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: : (وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة)، أي: لا تخرجوهن إلا أن يخرجن قبل انقضاء العدة فإنه محل إخراجهن لأنه فاحشة في نفسه. قوله: (وشار فنه)، عطف على قوله: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، على وجه البيان، أي: البلوغ يراد به المشارفة، إذ لا يمكن الرجعة بعد بلوغ الأجل، أي: انقضاء العدة. قوله: (إن شئتم فالرجعة)، أي: إن شئتم الرجعة والإمساك، وإن شئتم ترك الرجعة فلكم ذلك.

{ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقة الأحسن والأبعد من الندم، ويكون المعنى: ومن يتق الله، فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، {يَجْعَل} الله {لَّهُ مَخْرَجًا} مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص {ويَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه، إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثًا أو ألفًا، هل له من مخرج؟ فتلاها، وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: " لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجًا، بانت منك بثلاث، والزيادة إثم في عنقك". ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} يعني: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ومخلصًا من غموم الدنيا والآخرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والزيادة إثم في عنقك)، لأن التعرض للزائد انحراف عما عينه الله تعالى، وعدم مبالاة بما يجري على لسانه، نعوذ بالله من سخطه، ومن سقط القول، وعدم الوقوف على ما حده الله تعالى قوله: (ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ})، يعني: لما أمر المؤمنين بأمور تتعلق بالنساء من المجاملة معهن في الفراق والطلاق والإمساك، وأتى باسم الإشارة فذلكةً، وأن المذكور تذكير من الله وموعظة للمتقين من المؤمنين، أتى بكلام جامع منوط به أمور الدين ظاهره وباطنه، وفائدة الإشارة إلى أن أمور النساء من عظائم الشؤون في الدين، لاسيما المفارقة بعد العلقة التامة، فيجب على المتقي أن يكون على حذر من جانبهن، وأن لا يقصر في المجاملة معهن، ولما قلنا: إنه من الكلام الجامع. قال صلوات الله وسلامه عليه: "إني لأعلم آيةً لو أخذ بها الناس لكفتهم" ... الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ذر، ورواه ابن ماجه والدارمي عنه، وليس فيه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "فما زال يقرؤها ويعيدها" ولما ذكرنا أن أمور النساء من جلائل الخطب وعظائم الشؤون كرر الأمر بالتقوى في هذه السورة الكريمة في عدة مواضع وختمها بوعيد شديد، وتهديد عظيم، حيث قال: {وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ} ثم قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} مقررًا لذلك المعنى، وعقبه بقوله: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً} إلى آخره، امتنانًا لمزيد التوصية. ذكر الراغب في"غرة التنزيل": إنما اقترن بالطلاق والعدة هذا الوعظ، لأن الطلاق رفض حال متمهدة، وقطع آمال متأكدة، والعدة باستيفائها يخلص النسب ويصح للزوج الثاني الولد، ولو لم يكن هذا الح الذي حده الله تعالى لكان الفساد يتصل إلى انقضاء الدنيا، فهو أحق الأشياء بالمراعاة، وتأكيد المقال فيه والوصاية. وذكر بعد الطلاق: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي: من تمسك بتقوى الله فيما يحل ويعقد ويصدر ويورد، فإن الله يلقيه في شدته فرجًا، ويجعل له ممًا يكرهه مخرجًا، ويتيح له محبوبه من حيث لا يقدر، ويوجه له رزقه من حيث لا يحتسب، وفي ضمنه أنه إذا طلق لكراهة أحد القرينين لصاحبه، وقارن ذلك تقوى الله، فإن الله سبحانه يسبب له القرنية الصالحة، ولها القرين الصالح، ويرزق أحدهما على يد الآخر من حيث لا يبلغه تقديره ولا يدركه حسبانه، وهذا وعد منه مخافته، فيخرجهم من الغم إلى السرور، ومن الفزع إلى الأمن، ويعدلهم من كرامته ونعمته ما يكتفون به، ولا يحتاجون معه إلى غيره. ويكون قوله {ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} مرادًا به أنه يكل أمره إلى الله فيتبعه راضيًا بما يصرفه فيه، كالدابة التي تسير بسير غيرها منقادةً لحكمه وسيره، فإذا كان المتوكل على الله بهذه الصفة فالله حسبه حافظًا له ممن يحاول ظلمه، ومنتقمًا منه إن رأى ذلك أنفع له، وهو مراده في الوقت الذي قدره، وإذا كان قد جعل لكل شيء حينًا يقع عنده، لا يتعجل قلبه، ولا يتباطأ بعده.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: "مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة"، وقال عليه السلام: " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} " فما زال يقرؤها ويعيدها، وروي: أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنًا له يسمى سالمًا، فأتى رسول الله فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة؛ فقال: "ما أمسى عند آل محمد إلا مد فاتق الله واثبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله"، ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مئة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها، فنزلت هذه الآية. (بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب. وقرئ: {بَالِغُ أَمْرِهِ} بالإضافة و (بالغ أمره) بالرفع، أي: نافذ أمره، وقرأ المفضل: (بالغًا أمره) على أن قوله: {قَد جَعَلَ اللهُ} خبر {إِنَّ}، و (بالغًا) حال. {قَدْرًا} تقديرًا وتوقيتا، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله بعد ذكر عدة الحامل: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، فمعناه أن من لزم التقى سهل الله عليه الصعب من أمره، كما يجعل أمر الولادة سهلًا إذا قامت الأم عن ولدها سرحًا، ثم عقب حال الدنيا بذكر ما يفعله في الآخرة من تكفير سيئاته وإعظام أجره، فكل شرط من"من يتق الله" قرن إليه من الجزاء ما لاق به، والأخير لما كان مقدمًا على أحوال احتاجت إلى غاية الترغيب، وإلى المبالغة فيه، وعد عليه أفضل الجزاء، وهو ما يكون في الآخرة من النعماء، فتدبره تجد ما ذكرت لك. قوله: (تغفل عنها العدو)، أي: استغفل ابنه عدوه، تغفلت الرجل عن كذا: أخذته على غفلة. قوله: (وقرئ: {بَالِغُ أَمْرِهِ})، بالإضافة، الجر لحفص، والنصب للباقين. والرفع شاذ.

لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل. [{واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إلَيْكُمْ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} 4 - 5] روي أن ناسًا قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الأقراء، فما عدة اللائي لا يحضن؛ فنزلت. بمعنى {إنِ ارْتَبْتُمْ}: إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس- وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين- أهودم حيض أو استحاضة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: معنى الإضافة: أن الله يبلغ ما يريد، ومعنى الرفع: أن الأمر يرفع، أي: الله يبلغ أمره وينفذ. وقال أبو البقاء: وقيل: "أمره" مبتدأ، و"بالغ" خبره. والضمير المجرور في "أمره" لله تعالى، أي: أن الله ينفذ حكمه، وأنشد: بتقوى الإله نجا من نجا .... وفاز وصار إلى ما رجا ومن يتق الله يجعل له .... كما قال من أمره مخرجا قوله: (لم يبق إلا التسليم للقدر)، الانتصاف: أين القدري من التسليم للقدر؟ وهو يعتقد أن المقدر أكثره لا يقع، وأكثر الكائنات تتبع إرادة الخلق عندهم، وإن وافقت إرادة الله تعالى فليس لها أثر في الإيجاد، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. قوله: (أهو دم حيض)، قيل: "هو" متعلق بقوله: {ارْتَبْتُمْ} وقد علق عن العمل بسبب الهمزة.

{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وإذا كانت هذه المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك، {واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} هن الصغائر، والمعنى: فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه. اللفظ مطلق في "أولات الأحمال"، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن، وكان ابن مسعود وأبي وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون. وعن علي وابن عباس: عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين. وعن عبد الله: من شاء لاعنته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في "البقرة"، يعني: أن هذا اللفظ مطلق في الحوامل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فغير المرتاب بها)، وهن الحوامل والصغيرة. قوله: (وعن عبد الله: من شاء لاعنته)، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن محمد ابن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث إلى قوله: قال أبو عطية: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ ! لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وفي رواية النسائي عن علقمة: أن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته: ما نزلت: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها إذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت. ورواه ابن ماجه عن مسروق عنه. لاعنته: أي باهلته، والقصرى تأنيث الأقصر، وهي هذه السورة، والطولى هي البقرة. قول: (نزلت بعد التي في البقرة)، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهذه الآية ناسخة أو مخصصة لتلك، ، عن بعضهم: ما في البقرة محمول على غير الحامل، إذ لو أريد به الحامل لم تتعين عدتها بأربعة أشهر وعشر، أو هي معينة بالنص.

وروت أم مسلمة: أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد حللت فانكحي". {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات، والمعنى: ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم. [{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ واتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} 6 - 7] {أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: {أَسْكِنُوهُنَّ}. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروت أم سلمة: أن سبيعة)، روى البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلةً؟ فقال ابن عباس: آخر الأجلين، وقلت أنا: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ}؟ قال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة- فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة فسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل بن بعكك فيمن خطبها. قوله: (قد حللت)، هذا يؤيد قول ابن مسعود، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنهما. قوله: (ويحلل من عقده)، تتميم لمعنى قوله: "ييسر له من أمره"، أفاد ذلك التنكير في

فإن قلت: {مِنْ} من {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما هي؟ قلت: هي" من" التبعيضية مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكانًا من حيث سكنتم، أي بعض مكان سكناكم، كقوله تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه. فإن قلت: فقوله {مِّن وجْدِكُمْ}؟ قلت: هو عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكانًا من مسكنكم مما تطيقونه، والوجد: الوسع الطاقة، وقرئ بالحركات الثلاث. والسكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعي: ليس للمبتوتة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {يُسْرًا}، فإنه للتعظيم والتكثير، والعموم من قوله: {مِنْ أَمْرِهِ} لأنه بمعنى الشأن والحال، فقوله: {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} أبلغ من قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} ثم ليتأمل في استقرار كل واحد من مقامه، وتمكنه في مكانه. قوله: (مبعضها محذوف)، يريد: أن "من" إذا كانت تبعيضيةً، لا بد من تقدير مكان هو المبعض الموصوف، لتقع السكنى فيه، وهو"مكانًا"، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه اختصارًا. قوله: ({يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، أي: بعض أبصارهم)، يعني: في الأزمنة، لأنه ليس عليهم غض البصر أبدًا. قوله: (فقوله: {مِّن وجْدِكُمْ}؟ )، أي: إذا كان معنى {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما ذكرت، فقوله: {مِّن وجْدِكُمْ} ما موقعه؟ وما معناه؟ يعني في قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما يشعر بقوله {مِّن وجْدِكُمْ}، فقوله: {مِّن وجْدِكُمْ} كالمستدرك، فأجاب المصنف بأنه عطف بيان له. قوله: (وقرئ بالحركات الثلاث)، أي: الوجد بالضم السبعة، والبواقي شواذ.

إلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحدث فاطمة بيت قيس: أن زوجها أبت طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سكنى لك ولا نفقة". وعن عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: "لها السكنى والنفقة". {ولا تُضَارُّوهُنَّ}: ولا تستعملوا معهن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لحديث فاطمة بنت قيس)، روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، فأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملًا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما فقال: "لا نفقة لك". فاستأذنته في الانتقال فأذن لها فقالت: أين يا رسول الله؟ قال: "إلى ابن أم مكتوم". وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب فسألها عن الحديث فحدثته به، فقال مروان: لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة! ! سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة رضي الله عنها حين بلغها قول مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ . وفي رواية أبي اسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفًا من حصى فحصبه به ثم قال: ويحك تحدث بمثل هذا وقال عمر رضي الله عنه: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة! !

الضرار (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن، أو يشغل مكانهن، أو غير، ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج. وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها. وقيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدى منه. فإن قلت: فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ)؟ قلت: فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظانّ أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل، فنفى ذلك الوهم. فإن قلت: فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟ قلت: مختلف فيها، فأكثرهم على أنه لا نفقة لها، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته، فكذلك الحامل. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب (الانتصاف): لا يخفى على المتأمل أن المبتوتة غير الحامل لا نفقة لها لأن الله تعالى أوجب السكنى لكلّ معتدة وشرط في النفقة أن يكنّ أولات حمل. فالقول بوجوبها للمبتوتة غير الحامل كما فعل الزمخشري لنصرة مذهب أبي حنيفة منافر للآية. وقيل: إن الحاصل أن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ظاهر في وجوب النفقة والسكنى للمعتدة البائنة حاملة كانت أو لا , ومذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما أنّ لها السكنى بكلّ حال وأمّا النفقة فإن كانت حاملا استحقّت وإلا فلا, أما السكنى فلقوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم) وهذا مطلق وأمّا النفقة فلقوله تعالى (وإن كنّ اولات حمل فأنفقوا عليهن حتىّ يضعن حملهنّ) قوله: فأكثرهم على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على أن من أجبر الرجل) على مالم يسمّ فاعله والضمير في ((عليه)) راجع إلى ((من)) و ((من امرأة أو ولد)) بيان ((من قبل)) , قيل: حاصله أنّ

وعن علي وعبد الله وجماعة: أنهم أو جبوا نفقتها. {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} يعني: هؤلاء المطلقات، إن أرضعن لكم ولدًا من غيرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} حكمهن في ذلك حكم الأظآر، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم بين. ويجو عند الشافعي. الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم وتآمروا، إذا أمر بعضهم بعضًا. والمعنى: ليأمر بعضكم بعضًا، والخطاب للآباء والأمهات، {بِمَعْرُوفٍ} بجميل وهو المسامحة، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معًا، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه. {وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاشرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك، تريد: لن تبقى غير مقضه وأنت ملوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرجل الذي يجب عليه الإنفاق على ولده أو زوجته، فإذا مات ذلك الرجل، لا يجب إخراج النفقة من ماله لأجل الولد والزوج. قال الإمام الرافعي رحمه الله: المعتدة عن الوفاة لا نفقة لها، حائلًا كانت أو حاملًا، أما إذا كانت حائلًا فإن البائنة الحائل لا نفقة لها على الزوج في حياته، فعند الموت أولى. وأما إذا كانت حاملًا فإن النفقة للحمل والحامل، فإن كانت للحمل فنفقة الأقارب تسقط بالموت، وإن كانت حاملًا فبسبب استحقاقها الحمل، فإذا كانت نفقته في نفسه بعد الانفصال لا يجب بعد الموت، فكذلك النفقة الواجبة بسببه. قوله: (وأنت ملوم)، قال:

وقوله: {لَهُ} أي للأب، أي: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه. {لِيُنفِقْ} كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه، يريد: ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، كما قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقرئ: (لينفق) بالنصب، أي شرعنا ذلك لينفق. وقرأ ابن أبي عبلة: (قدر). {سَيَجْعَلُ اللَّهُ} موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقتصروا. [{وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا ورُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وبَالَ أَمْرِهَا وكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ومَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} 8 - 11] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن يك ذا فضل، فيبخل بفضله .... على قومه يستغن عنه ويذمم الانتصاف: وخص بالعتاب الأم، لأن المطلوب منها اللبن، والأب غير متمول، خصوصًا على الولد، ولا كذلك ما يطلب من الأب. قوله: (أو لفقراء الأزواج)، يعني: قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وعد من الله تعالى للمنفق بعد أن أمره بالإنفاق في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} فإذا قيد مطلق الأمر بما سبق، وأنه حديث من شأن المطلقات والمرضعات، يقال: أنه لفقراء الأزواج، وإذا ترك على إطلاقه ليكون استطرادًا في الكلام، على منوال {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يقال: إنه موعد لفقراء ذلك الوقت، ويدخل فيه فقراء الأزواج دخولًا أوليًا، وهذا أوفق لتأليف النظم، ليكون

{عَتَتْ عَنْ أَمْرِ ربها} أعرضت عنه على وجه العتو والعناد، {حِسَابًا شَدِيدًا} بالاستقصاء والمناقشة، {عَذَابًا نُّكْرًا} وقرئ: (نكرًا) منكرًا عظيمًا، والمراد: حساب الآخرة، وعذابها: ما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر، وجيء به على لفظ الماضي، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 44، 50]، ونحو ذلك؛ لأن المنتظر من وعد الله وعبده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد كان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تخلصًا إلى قوله: {وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} لأنها كالخاتمة للتحريض على تقوى الله وحفظ حدوده والتفادي عن التجاوز عنها، وإليه الإشارة بقوله: "فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين، لطفًا في تقوى الله وحذر عقابه". قوله: (وقرئ: "نكرًا")، نافع وابن ذكوان وأبو بكر. قوله: (فكأن قد كان)، وفي بعض النسخ: "فكأن قد" بلا"كان"، بلغ الوليد بن عبد الملك أن سليمان بن عبد الملك تمنى موته لما له من بعده العهدة، فكتب الوليد إليه يعاتبه على ما بلغه، وكتب في آخر الكتاب: تمنى رجال أن أموت وإن أمت .... فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا لو ينفع العلم عندهم .... لئن مت ما الداعي علي بمخلد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى .... فهيئ لأخرى مثلها فكأن قد

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبًا، كأنه قال: أعد الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك، {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} من المؤمنين لطفًا في تقوى الله وحذر عقابه. ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا، وإثباتها في صحائف الحفظة، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل؛ وأن يكون {عَتَتْ} وما عطف عليه صفة للقرية، , {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} جوابًا لـ {وكَأَيِّن}. {رَسُولاً} هو جبريل صلوات الله عليه: أبدل من {ذِكْرًا}؛ لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر؛ فصح إبداله منه، أو أريد بـ"الذكر": الشرف، من قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فأبدل منه، كأنه في نفسه شرف، غما لأنه شرف للمنزل عليه، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله، كقوله تعالى: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} بالتكوير: 20] أو جعل لكثرة ذكره لله وعبادته كأنه ذكر، أو أريد: ذا ذكر، أي: ملكًا مذكورًا في السماوات وفي الأمم كلها، أو دل قوله: {أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} على "أرسل" فكأنه قيل: أرسل رسولًا؛ أو أعمل {ذِكْرًا} في {رَسُولاً} إعمال المصدر في المفاعيل، أي: أنزل الله أن ذكر "رسولًا" أو ذكره "رسولًا". وقرئ: (رسول)، على: هو رسول أنزله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد)، عطف على قوله: "والمراد حساب الآخرة"، وعلى هذا مجيءلا"حاسبنا" و"عذبنا" ماضيين على ظاهرهما، وقوله: "أن يكون {عَتَت} وما عطف عليه صفة للقرية" من تتمة هذا الوجه، و {أَعَدَّ اللهُ} جواب لـ"كأين"، وعلى الأول: {عَتَت} جواب "كأين"، {أَعَدَّ اللهُ}، تكرير وبيان، والمراد بالجواب الخبر، لأن "كأين" بمعنى "كم" الخبرية. قوله: (أو دل قوله {أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} على "أرسل")، عطف على قوله: " {رَسُولاً}، أبدل من {ذِكْرًا} ". اعلم أن {رَسُولاً} في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً} إما أن يكون معمولًا لـ {أَنزَلَ} على الإبدال من الذكر، أو لا يكون معمولًا له، فعلى الأول: المراد بالرسول جبريل عليه السلام، لأنه هو الذي أنزله الله تعالى بالرسالة إلى الأنبياء.

{لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا} بعد إنزاله، أي: ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح؛ لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين؛ وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ، أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون. قرئ: {يُدْخِلْهُ} بالياء والنون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم الذكر: إما أن يراد به القرآن أو الشرف أو الذكر المتعارف، فإذا أريد به القرآن فوصفه بسبب الملابسة ونزوله به، وإذا أريد به الشرف فالوصف إما لكونه نازلًا على خير البرية، أو أنه في نفسه ذو شرف ومجد، وإذا أريد به المتعارف فوصفه به إما للمبالغة، نحو: رجل عدل، أو أنه ذو ذكر، أي: مذكور عند الخلق، وعلى الثاني الظاهر هو أن يراد بقوله {رَسُولاً}: محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو إما أن يكون معمولًا لفعل محذوف. قال الواحدي: أنزل إليكم قرآنًا، وأرسل رسولًا، وإنزال الذكر، يدل على إرسال الرسول. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ}، أي: الرسول، أو معمولًا لـ {ذِكْرًا}، أي: أنزل الله أن ذكرًا رسولًا، وذكره رسولًا، وجوز القاضي على الإبدال وإعمال "أنزل" أن يراد بـ {رَسُولاً} محمد صلوات الله وسلامه عليه، و {أَنزَلَ} بمعنى: أرسل، حيث قال: {رَسُولاً} محمد صلوات الله عليه أبدل عن {ذِكْرًا} لمواظبته على تلاوة القرآن، أو لتبليغه، وعبر عن إنزاله بالإرسال ترشيحًا. وقلت: و {يَتْلُو}، تجريد للاستعارة. قوله: (قرئ: {يُدْخِلُهُ} بالياء والنون)، نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.

{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} فيه معنى التعجب والتعظيم، لما رزق المؤمن من الثواب. [{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} مبتدأ وخبر، وقرئ: {مِثْلَهُنَّ} بالنصب عطفًا على {سَبْعَ سَمَوَاتٍ}؛ وبالرفع على الابتداء، وخبره: {مِنَ الأَرْضِ}. قيل: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. وقيل: بين كل سماءين مسيرة خمس مئة عام، وغلظ كل سماء كذلك، والأرضون مثل السماوات. {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن، وملكه ينفذ فيهن. وعن قتادة: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره. وقرئ: (ينزل الأمر)، وعن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق سأله: هل تحت الأرضين خلق؟ قال: نعم. قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن. {لِتَعْلَمُوا} قرئ بالتاء والياء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({قَدْ أَحْسَنَ اللهُ}، فيه معنى التعجب)، نحوه قول الشاعر: . غلت ناب كليب بواؤها سبق بيان دلالته عليه في الفرقان. قوله: (قيل: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه)، روينا عن الإمام أحمد

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن حنبل والترمذي عن أبو هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه، إذ قال: "هل يدرون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف"، ثم قال: "هل تدرون ما بينكم وبينها؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "بينكم وبينها خمس مئة عام"، ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "سماءين، بعدما بينهما خمس مئة سنة"، ثم قال كذلك، حتى عد سبع سموات، ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، ، قال: "إن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين"، ثم قال: "هل تدرون ما الذي تحتكم؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إنها الأرض"، ثم قال: "هل تدرون ما تحت ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إن تحتها أرضًا أخرى، بينها مسيرة خمس مئة سنة"، حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمس مئة سنة. الحديث. تمت السورة حامدًا لله ومصليًا على رسوله صلى الله عليه وسلم * * * *

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية، وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنتا عشرة أو ثلاث عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ واللَّهُ مَوْلاكُمْ وهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} 1 - 2] روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة فقال لها: "اكتمي علي، وقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي"، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة التحريم وهي ثنتا عشرة آية، مدنية بلا خلاف بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي قوله: (خلا بمارية في يوم عائشة)، الحديث من رواية النسائي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}.

وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه؛ ومكث تسعًا وعشرين ليلة في بيت مارية. وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها؛ فإنها صوامة قوامة، وغنها لمن نسائك في الجنة. وروي أنه شرب عسلًا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا: إنا نشم منك ريح المغافير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (شرب عسلًا)، الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم شرب حفصة، وأما القائلة فهي سودة وصفية، وفي رواية: شرب في بيت زينب بنت جحش كما رواه المصنف مع اختلاف، وفيه: قالت سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا" قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل" فقالت: جرست نحله العرفط. وأما الحديث الأول فما وجدته في الكتب المشهورة. الجوهري: الجرس: الصوت الخفي، يقال: سمعت جرس الطير، إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله. النهاية: مغافير واحد مغفور، بالضم، وله ريح كريهة منكرة، وهذا البناء قليل في

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل، فحرم العسل، فمعناه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من ملك اليمين أو العسل. {تَبْتَغِي} إما تفسير لـ {تُحَرِّمُ} أو حال أو استئناف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العربية. وفي "المطلع": العرفط: شبه الصمغ ذو رائحة كريهة تظهر على المغفور، وهو شوك له نور يأكل منه النحل. قوله: (التفل)، النهاية: هو الريح الكريهة، ومنه الحديث"إذا خرجن تفلات" أي: تاركات للطيب، رجل تفل، وامرأة تفلة ومتفال. قوله: ({تَبْتَغِي}؛ إما تفسير لـ {تُحَرِّمُ}، أو حال، أو استئناف)، والفرق أنه على التفسير: ابتغاء مرضاتهن عين التحريم، ويكون هو المنكر، وإنما ذكر التحريم للإيهام تفخيمًا وتهويلًا، وأن ابتغاء مرضاتهن من أعظم الشؤون. وعلى الحال: الإنكار وارد على المجموع دفعةً واحدةً، ويكون هذا التقييد مثل التقييد في قوله: {لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. وعلى الاستئناف لا يكون الثاني عين الأول، لأنه سؤال عن كيفية التحريم، فإنه لما قيل: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال: كيف أحرم؟ فأجيب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وفيه تكرير للإنكار. والتفسير الأول؛ أعني التفسير لما جمع بين التفخيم والتهويل، ولذلك أردف بقوله: {واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جبرانًا له، ولولا الإرداف لما قام بصولة ذلك الخطاب، ونظيره قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، على أنه صلوات الله عليه ما ارتكب عظيمةً، بل كان ذلك منه من باب ترك الأولى، والامتناع من المباح، وإنما شدد ذلك التشديد رفعًا لمحله، وربًا لمنزلته، ألا ترى كيف صدر الخطاب بذكر النبي وقرن بياء البعيد وهاء التنبيه، أي: تنبه لجلالة شأنك ونباوة مرتبتك فلا تبتغ مرضات أزواجك فيما أبيح لك. ويؤيده قول المصنف بعد هذا: "ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله: هو حرام علي، وإنما امتنع عن مارية ليمين تقدمت منه".

وكان هذا زلة منه؛ لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله؛ لن الله عز وجل إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة. {واللَّهُ غَفُورٌ} قد غفر لك ما زللت فيه، {رَّحِيمٌ} قد رحمك فلم يؤاخذك به. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فيه معنيان، أحدهما: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم، من قولك: حلل فلان في يمينه، إذا استثنى فيها، ومنه: حلا أبيت اللعن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان هذا زلة منه، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله)، الانتصاف: افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! فتحريم ما أحل الله باعتقاد حله لا يصدر من مؤمن، وأما مجرد الامتناع من الحلال- وقد يكون مؤكدًا باليمين- فليس من ذلك في شيء، ولو أنكر ذلك لاستحالت حقيقة المباح. وغايته أنه حلف ما يقرب مارية فنزلت كفارةً لليمين، ومعاذ الله، وحاش لله مما نسبه إليه! وهذه جرأة. وقلت: الطريق الذي سلكناه آمن- والحمد لله- من هذه المخاوف. قوله: (إذا استثنى فيها)، المغرب: استثنيت الشيء: زويته لنفسي، والاستثناء في اصطلاح النحويين: إخراج الشيء مما دخل فيه، لأن فيه كفا وردًا عن الدخول، والاستثناء في اليمين أن يقول الحالف: إن شاء الله، لأن فيه رد ما قاله بمشيئة الله. قوله: (أبيت اللعن)، الأساس: لعنه أهله: طردوه وأبعده، وهو لعين: طريد، ومن المجاز: : أبيت اللعن، وهي تحية الملوك في الجاهلية، أي: لا فعلت ما تستوجب به اللعن.

بمعنى: استثن في يمينك إذا أطلقها؛ وذلك أن يقول: (إن شاء الله) عقيبها حتى لا يحنث. والثاني: قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة. ومنه قوله عليه السلام: "لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم"، وقول ذي الرمة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا أطلقها)، أي: يقال هذا إذا أطلق اليمين. قوله: (لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه)، بالرفع، وفي نسخة بالنصب، والرواية: فيلج، وقدر المظهري: فإن يلج، روينا عن البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فليلج النار، إلا تحلة القسم". النهاية: قيل: أراد بالقسم قوله تعالى: {وَإِن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} تقول العرب: ضربته تحليلًا وضربته تعزيرًا، إذا لم يبالغ في ضربه، وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان، فلو وقع فيه وقعةً خفيفةً أجزأته، فتلك تحلة قسمه، فالمعنى: لا تمسه النار إلا مسةً يسيرةً مثل قسم الحالف، ويريد بتحلته: الورود على النار والاجتياز بها، والتاء في "تحلة" زائدة، وفي "المطلع": وأصل تحلة تحللة، كتعلة في تعللة، ومعناه: التحليل. وقال التوربشتي: التحلة: ما تنحل به عقدة اليمين، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن معنى قوله: إلا تحلة القسم: إلا مقدار ما يبر الله قسمه بالجواز على النار، ذهابًا إلى قوله:

قليلًا كتحليل الألى فإن قلت: ما حكم تحريم الحلال؟ قلت: قد اختلفت فيه؛ فأبو حنيفة يراه يمينًا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه؛ فإذا حرم طعامًا فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وفي قوله: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} معنى القسم. وقيل: معنى ترتب الفاء في "فيلج النار" كمعنى قولهم: ما تأتينا فتحدثنا، في أحد الوجهين، أحدهما: أن يكون الأول سببًا للثاني، أي: انتقى السبب فينتقي المسبب، أي: لم يوجد الإتيان فكيف الحديث! فلذلك قيل: ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ ! وثانيهما: أن الفعل الثاني لم يحصل عقيب الأول، فكأنه نفى وقوعهما بصفة كون الثاني عقيب الأول كما تقول: ما جاءني زيد وعمرو، أي: ما جاءا بصفة الاجتماع، فيجوز أن يكون أحدهما جاء، فلذلك يجوز أن يكون الإتيان وقع دون الحديث، فكأنه نفى الأول بصفة معاقبة الثاني له، فالحديث محمول على هذا الوجه دون الأول، إذ لا يقدر موت الولد سببًا للمس. وقلت: حتى ينتفي لانتقائه، ، بل الأمر بالعكس لأن موت الولد سبب عدم المس. قوله: (كتحليل الألى)، جمع ألوة وهي الحلف. الأساس: آلى وائتلى ليفعلن، وتألى على الله، إذا حلف ليغفرن الله له، وعلي أليةً في ذلك. قوله: (قد اختلف فيه؛ فأبو حنيفة رحمه الله تعالى)، الفاء تفصيلية، يعني: فأبو حنيفة قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كذا والشافعي كذا، روى البخاري ومسلم وابن ماجه، والنسائي عن ابن عباس قال: من حرم امرأته فليس بشيء، وقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وفي رواية: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي علي حرامًا. فقال: "كذبت، ليست عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة". قال محيي السنة: واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت علي حرام، فإن نوى به طلاقًا أو ظهارًا فهو كما نواه، وإن نوى تحريم ذاتها، أو أطلق، فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ، وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقها عتقت، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين، وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنهما، وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها، وإن حرم طعامًا فهو كما لو حلف أن لا يأكله، فلا كفارة عليه ما لم يأكل، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما.

أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى ثنتين، وإن نوى ثلاثًا فكما نوى، ولإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال على حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وغلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينًا، ولكن سببًا في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. وعن أب بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم أن الحرام يمين، وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي رضي الله عنه: ثلاث، وعن زيد: واحدة بائنة. وعن عثمان: ظهار، وكان مسروق لا يراه شيئًا ويقول: ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد، وكذلك عن الشعبي قال: ليس بشء، محتجًا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وما لم يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حرامًا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله: هو حرام علي، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله عليه السلام: "والله لا أقربها بعد اليوم"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذلك إن نوى ثنتين)، قال بعض الحنفية: هذا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة: لا تصح نية الاثنتين، وتقع واحدة. قوله: (وإن قال: نويت الكذب، دين فيما بينه وبين الله)، كما لو قال: حرمت علي زينب مثلًا، هذا من حيث التركيب إخبار عن إحداث التحريم في الزمان الماضي، ومن حيث الاستعمال إنشاء تحريم، كما يقال حال انعقاد أسباب البيع والشراء: بعت واشتريت، فإذا

فقيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين؟ يعني: أقدم على ما حلفت عليه، وكفر عن يمينك! ونحوه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] أي؛ منعناه منها. وظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أنه كانت منه يمين. فإن قلت: هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؟ قلت: عن الحسن: أنه لم يكفر؛ لأنه كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. {واللَّهُ مَوْلاكُمْ} سيدكم ومتولي أموركم، {وهُوَ العَلِيمُ} بما يصلحكم فيشرعه لكم، {الحَكِيمُ} فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة. وقيل: {مَوْلاكُمْ} أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم. [{وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} 3] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: نويت به الإخبار، لم يقع ذلك، فلا شك أنه كذب، دين فيما بينه بين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف. قوله: (أعتق رقبة في تحريم مارية)، روى الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حرامًا، وجعل في اليمين الكفارة.

{بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} حفصة، والحديث الذي أسر إليها: حديث مارية وإمامة الشيخين، {نَبَّأَتْ بِهِ} أفشته إلى عائشة. وقرئ: (أنبأت) به {وأَظْهَرَهُ} وأطلع النبي عليه السلام {عَلَيْهِ} على الحديث، أي: على إفشائه على لسان جبريل، وقيل: أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، من الظهور، {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أعلم ببعض الحديث تكرمًا. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقرئ: (عرف بعضه)، أي: جازى عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من الظهور)، أي: يكون"أظهر" بمعنى الظهور، ، فالجار للتعدية، أي: جعله ظاهرًا عليه، وعلى الأول بمعنى: أطلع، أي: مضمن معناه، والجار صلة. قوله: (ما زال التغافل من فعل الكرام)، قال: ليس الغبي بسيد في قومه .... لكن سيد قومه المتغابي قوله: (وقرئ: "عرف بعضه"، أي: بالتخفيف؛ الكسائي، والباقون: بالتشديد. قال الزجاج: من قرأ بالتخفيف معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد عرف كل ما كان أسره، والإعراض لا يكون إلا عما يعرف، وتأويله: جازى عليه، كما تقول لمن تتوعده: علمت ما علمت، وعرفت ما صنعت، أي: فسأجازيك عليه، ولا يقصد به المعرفة فقط. وقال صاحب"الكشف": من قال: "عرف" بالتخفيف، فإنه لا يجوز أن يكون بمعنى: علم، لأنه إذا أعلمه الله فقد أعلمه جمعيه، وإنما معناه: جازى عن بعض ولم يجاز عن بعض، نحو قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] أي: يجازه عليه.

من قولك للمسيء: لأعرفن لك ذلك، وقد عرفت ما صنعت. ومنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، وهو كثير في القرآن؛ وكان جزاؤه تطليقه إياها. وقيل: المعرف: حديث الإمامة، والمعرض عنه: حديث مارية. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "ألم أقل لك اكتمي علي؟ "، قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي؛ فرحًا بالكرامة التي خص الله بها أباها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان جزاءها تطليقه إياها)، قال الزجاج: قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقةً واحدةً فكان ذلك جزاءها عنده، فذلك تأويل {عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي: جازى على بعض الحديث، وكانت حفصة صوامةً قوامةً، فأمره الله تعالى أن يراجعها فراجعها. وقال القاضي: ليس في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ} ما يدل على أنه لم يطلق حفصة، وأن في النساء خيرًا منهن، لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة، والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه. وقلت: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس الحديث الطويل عن عمر رضي الله عنهما، وفيه: نزلت آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ} الآية، فكانت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: "لا"، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: "نعم". الحديث. قوله: (فرجًا بالكرامة)، قيل: مفعول له، لقوله: "قالت"، وهو فاسد، إذ ليس المعنى أنها

فإن قلت: هلا قيل: فلما نبأت به بعضهن، وعرفها بعضه؟ قلت: ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف، وإنما هو ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه، وهو حديث الإمامة. ألا ترى أنه لما كان المقصود في قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} ذكر المنبأ، كيف أتى بضميره؟ ! [{إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 4] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالت هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الفرج، لأن مقام العتاب الذي يترشح من قوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أي: جازى عليه، من قولك للمسيء: لأعرفن لك، يأبى ذلك، بل هو تعليل أو تمييز لقولها: "ما ملكت نفسي فرجًا"، وكان القياس أن يقال: خص الله بها أبي، ولعل الراوي نقل المعنى لا لفظها، أو التفتت. قوله: (هلا قيل: فلما نبأت به بعضهن)، يعني: كان القياس أن يقال: "نبأت به بعضهن" بدل {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} لأن حفصة نبأت بالحديث الذي أسرها النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه، يعني: عائشة، وأن يقال: عرفها بعضه، لأنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الحديث لحفصة، وهو حديث الإمامة. وأجاب أن سياق الكلام ليس في شأن المذاع إليه، أي: عائشة رضي الله عنها، وفي شأن المعروف، أي: حفصة رضي الله عنهما ليذكرهما، بل في معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم وابتغائه مرضات أزواجه، وفي شأن جناية حفصة، ثم في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضه عن بعض جنايتها، فلما دل قوله {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} على الجناية، وقوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} على الإعراض عن البعض، أتى بهما وترك ذكرهما. ويعضده إتيان ضمير المنبأ به في قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} مع الاستغناء عنه بقرينة الأحوال لأنه هو المقصود في الذكر.

{إن تَتُوبَا} خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في معاتبتهما، وعن ابن عباس: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة، فسكبت الماء على يده فتوضأ، فقلت: من هما؟ فقال: عجبًا يا ابن عباس! ! كأنه كره ما سألته عنه، ثم قال: هما حفصة وعائشة. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه. وقرأ ابن مسعود: (فقد زاغت). {وإن تَظَاهَرَا} وإن تعاونا {عَلَيْهِ} بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: فلم ترك الضمير في قوله: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ}؟ قلت: لكونه جوابًا عن قولها: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}؟ وقد اعتمد في السؤال عن المنبئ، وأوقع المنبأ به فضلةً في الكلام، ولأن في تركه إفادة الشمول والتفخيم، لذلك أردف بالعليم الخبير، أي: العليم بكليات الأحوال، والخبير بجزئياتها، ونظير هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 33] وقد سبق بيانه. قوله: (على طريقة الالتفات)، التفت من قوله: {وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} إلى الخطاب، وأما حديث ابن عباس: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر رضي الله عنه، فقد رواه البخاري ومسلم وفيه طول. قوله: (فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل القلب)، يعني: أن قوله: {فَقَدْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لا يصح أن يكون جوابًا للشرط إلا بهذا التأويل، قال بعضهم: التقدير: إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب، كقوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} [البقرة: 97]، أي: فلمعاداتكم موجب وسبب. وقال ابن الحاجب في"الأمالي": جواب الشرط: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} من حيث الإخبار، كقولهم: إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، الإكرام المذكور شرط وسبب للإخبار بالإكرام الواقع من المتكلم، لا نفس الإكرام منه، لأن ذلك غير مستقيم، لوجهين؛ أحدهما: أن الإكرام الثاني سبب للأول، فلا يستقيم أن يكون مسببًا، وثانيهما: أن ما في حيز الشرط في معنى المستقبل وهذا ماض، ، وعلى ما ذكرنا يحمل الجواب في الآية: {إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ} يكن سببًا لذكر هذا الخبر، وهو قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: وجد منكما ما يوجب التوبة. فإن قلت: الآية سيقت في التحريض على التوبة، فكيف تجعل سببًا لذكر الذنب؟ قلت: ذكر الذنب متوبًا منه لا ينافي التحريض، ولاسيما الذنب مشهور، المعنى: إن تتوبا إلى الله، يعلم براءتكما من إثم هذا الصغو، لأن الخبر بالصغو سبب لذكره، والذكر متوبًا عنه سبب للعلم ببراءتهم من إثمه، واستغنى بسبب السبب، ولو جعل الجواب محذوفًا لجاز، أي: إن تتوبا إلى الله يمح إثمكما، ثم قيل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} جوابًا لتقدير سؤال سائل عن سبب التوبة الماحية. تم كلامه. وقلت: الفاء مانعة لأن يقدر سؤال، لأن موقع الاستئناف بين الجملتين خلو العاطف. وقال أبو البقاء: جواب الشرط محذوف، أي: فذلك واجب، ودل عليه قوله: : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، لأن ميل القلب سبب للذنب.

فلن يعدم هو من يظاهره، وكيف يعدم المظاهر من الله مولاه، أي: وليه وناصره، وزيادة {هُوَ} إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه، وأنه يتولى ذلك بذاته، {وجِبْرِيلُ} رأس الكروبيين؛ وقرن ذكره بذكره، مفردا له من بين الملائكة، تعظيما له وإظهارا لمكانته عنده، {وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ} ومن صلح من المؤمنين، يعني: كل من آمن وعمل صالحا. وعن سعيد بن جبير: من برئ منهم من النفاق. وقيل: الأنبياء، وقيل الصحابة، وقيل الخلفاء منهم. فإن قلت: "صالح المؤمنين" واحدا أم جمع؟ قلت: هو واحد أريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس، كقولك: لا يفعله من صلح منهم، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عزيمة من عزائمه)، النهاية: العزيمة: ما وكدت رأيك على شيء. قوله: (رأس الكروبيين)، وعن بعضهم: في هذا اللفظ ثلاث مبالغات، أحدها: أن كرب أبلغ من قرب حين وضع موضع كاد، يقال: كربت الشمس أن تغرب، كما تقول: كادت، والثانية أنه على وزن فعول، وهو للمبالغة، والثالثة: زيادة الياء فيه، وهي تزاد للمبالغة كأحمري. قوله: (في السامر)، السامر: السمار، وهم الذين يسمرون، كما يقال للحجاج: حاج، والحاضر: القبيلة الكبيرة الذين يحضرون الماء، قال الشاعر:

ويجوز أن يكون أصله: صالحو المؤمنين بالواو، فكتب بغير واو على اللفظ؛ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضح الخط. {والْمَلائِكَةُ} على تكاثر عددهم، وامتلاء السموات من جموعهم، {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين، {ظَهِيرٌ} فوج مظاهر له، كأنهم يد واحدة على ما يعاديه، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ فإن قلت: قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لنا حاضر فعم وباد كأنه .... قطين الإله عزةً وتكرما قوله: (كما جاءت أشياء في المصحف)، من ذلك: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ} [الإسراء: 11]، و {وَيَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ} [ص: 21] كتب على لفظ الجمع نحو كفروا. قوله: (وناموسه)، النهاية: الناموس: صاحب سر الملك، وأراد به جبريل عليه السلام، لأنه تعالى خصه بالوحي والغيب، لا يطلع عليهما غيره. قوله: (كأنهم يد واحدة)، أي: أوقع "ظهيرًا" وهو خبرًا للجمع، كما أوقع "يدًا" في قوله صلى الله عليه وسلم: "وهم يد على من سواهم" للمبالغة في الموافقة. قوله: ({بَعْدَ ذّلِكَ} تعظيم للملائكة)، يعني موقع {بَعْدَ ذّلِكَ} في هذا التركيب موقع {ثُمَّ} في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] في إعطاء معنى التفاوت في المرتبة، نص عليه في قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، فيلزم من ذلك أن تكون نصرة الملائكة أعظم من نصرة الله وهو محال، وأجاب بأن وجوه نصرة الله كثيرة، وأعظمها نصرته بالملائكة.

قلت: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى، لفضلهم على جميع خلقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما تعليله بقوله: "لفضلهم على جميع خلقه" فلا وجه له، لأنه لا يخلو إما أن يكون"جبريل وصالح لمؤمنين" عطفًا على معنى الابتداء، أي: على موضع إن واسمها، أو أن يكون مبتدًا و"الملائكة" معطوفًا عليه، و {ظَهِيرٌ} خبر الجميع، وهو واحد في معنى الجمع ذكره أبو البقاء، فيلزم من الأول إما نقص معنى الحصر الذي يفيده تعريف الخبر وتوسيطه ضمير الفصل، لأنه لا يقال: زيد هو المنطلق وعمرو، بل يقال: لا غير، نص عليه صاحب"المفتاح". وأما هدم قاعدته: فإنه قال: "وجبريل رأس الكروبيين، وقرن ذكره مفردًا له من الملائكة تعظيمًا له"، لأن اعتبار التعظيم حينئذ من اقتران المعطوف بالمعطوف عليه، والتخصيص بالذكر، فيكون صالح المؤمنين دون جبريل، والملائكة دونهم، ونحوه في وجه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] قال: "من حق الخمس أن يكون متقربًا به إليه، ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلًا لها على غيرها"، وعليه مذهب مالك والأصولي والنحوي، إن قالا بعد الترتيب، لكن صاحب المعاني يراعي النظم والتقديم، ألا ترى كيف سأل المصنف في سورة يوسف: "لم أخر الشمس والقمر؟ "فظهر من هذا الترتيب مراتب المذكورين على ما عليه مذهب أهل السنة. هذا وإن الوجه هو أن يكون"جبريل" مبتدأ، والخبر {ظَهِيرٌ}، و"صالح المؤمنين والملائكة" عطف عليه، وأن يقال: إنما عدل من عطف المفرد إلى عطف الجملة ليؤذن بالفرق، وأن نصرة الله هي النصرة في الحقيقة، وأنه تعالى إنما ضم إليها المظاهرة بجبريل وبصالح المؤمنين والملائكة للتتميم، تطييبًا لقلوب المؤمنين، وتوقيرًا لجانب الرسول، وإظهارًا للآيات البينات كما في يوم بدر وحنين، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ

وقرئ: (تظاهرا)، (تتظاهرا)، و (تظهرا). [{عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وأَبْكَارًا} 5]. قرئ: {يُبْدِلَهُ}، بالتخفيف والتشديد للكثرة، {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} مقرات مخلصات، {سَائِحَاتٍ} صائمات، وقرئ: (سيحات)، وهي أبلغ. وقيل للصائم: سائح؛ لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] ونحوه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] أي: ثم إنكم بعد تقلبكم في تلك الأطوار التي تخرق العقول، تموتون ويسلب منكم ذلك الكمال الذي من حقه أن يصان من النقص، لقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وكذا قوله: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47]، نعلم أن {بَعْدِ ذَلِكَ} في هذا التركيب ليس من قبيل "ثم" في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17]، بل هو عكسه، ويؤيد هذا التأويل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت- وأحمد الله بكلام- إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت. قوله: (وقرئ: "تظاهرًا")، الكوفيون: بتخفيف الظاء، والباقون: بتشديدها. قوله: (قرئ: {يُبْدِلْهُ} بالتخفيف والتشديد)، نافع وابن كثير وأبو عمرو: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف.

ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجئ وقت إفطاره. وقيل {سَائِحَاتٍ} مهاجرات، وعن زيد بن أسلم: لم تكن في هذه الأمة سياحة إلا الهجرة. فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرا منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيرا منهن، وقد عرض بذلك في قوله {قَانِتَاتٍ}؛ لأن القنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله. فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما)، الانتصاف: ذكر أبو عمرو بن الحاجب أن القاضي عبد الرحيم البيساني كان يعتقد أن الواو [في الآية] واو الثمانية، وكان يتبجح باستخراجها زائدةً على المواضع الثلاثة؛ أحدها: في التوبة {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ}

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 - 7]. {قُوا أَنفُسَكُمْ} بترك المعاصي وفعل الطاعات، {وأَهْلِيكُمْ} بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسٍكم. وفي الحديث: "رحم الله رجلًا قال: يا أهلاه، صلاتكم، صيامكم، زكاتكم، مسكينكم، يتيمكم، جيرانكم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [التوبة: 112]، والأخرى في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] والثالث في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] قال ابن الحاجب: فذكر القاضي ذلك يومًا مستحسنًا له بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ، فبين له أنه واهم في عدها من هذا القسم، وذكر له ما ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إليها واستحالة المعنى بعدمها، وواو الثمانية لا ترد إلا حيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام عدد السبعة، فقال: أرشدتنا يا أبا الجواد. وروي عن المصنف أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، ويسمونها واو الثمانية، وهي كذلك وليس بشيء، وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا؟ أي: هو جواب حسن، وذلك خطأ محص ولا يجوز أن يؤخذ به. قوله: (صلاتكم وصيامكم)، قال الزجاج: معناه: الزموا، احفظوا صلاتكم، وهذه الأشياء المذكورة، أي: أدوا فرض الله فيها.

لعل الله يجمعهم في الجنة"، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله. وقرئ: (وأهلوكم) عطفا على واو {قُوا} وحسن العطف للفاصل. فإن قلت: أليس التقدير: قوا أنفسكم، وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت: لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، و {أَنفُسَكُمْ} واقع بعده، فكأنه قيل: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معا على لفظ المخاطب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لعل الله يجمعهم معه في الجنة)، هكذا في النسخ المعتمدة، وروي: يجمعكم معهم، وليس يثبت، ولا يساعده المعنى إلا تعسفًا. قوله: (أليس التقدير ... ) إلى آخره، قيل: المعنى: لما كان الأمر للفاعل المخاطب بالصيغة، وللغائب باللام، كان يخيل أن التقدير: قوا أنفسكم، وليق أهلوكم أنفسهم، فيكون من عطف الجملة على الجملة، وأجاب بأن ليس التقدير كذلك، لأنه لما أريد أمر المخاطب والغائب، غلب حال المخاطب، فقيل: {قُوا} ثم لما عطف الغائب على الضمير، غلب في المفعول أيضًا المخاطب على الغائب، للتطابق، وقدم المفعول. وقلت: معنى جوابه أن"أهليكم" الذي هو معطوف على واو {قُوا} في التقدير مقارن للواو، و {أَنفُسَكُمْ} الذي هو المفعول مقدر بعد"أهلوكم"، لأن أصل الكلام: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم، فلما وقع الفاصل بين الواو و"أهلوكم" بـ {أَنفُسَكُمْ}، استغنى عن"أنتم" لصحة العطف على الضمير بدون التأكيد لوجود الفصل، ولما غلب في المفعول- الذي هو {أَنفُسَكُمْ} - المخاطب على الغائب اكتفى بـ {أَنفُسَكُمْ} عن"أنفسهم". فإن قلت: لم حظر أن تقدر: "وليق"؟

{نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ}: نوعا من النار لا يتقيد إلا بالناس والحجارة، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حرا إذا أوقد عليها. وقرئ: (وقودها) بالضم، أي: ذو وقودها، {عَلَيْهَا} يلي أمرها وتعذيب أهلها، {مَلائِكَةٌ} يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لتكون الشاذة أقرب إلى معنى المشهورة، ومعناه كما قال: "قوا أنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأهليكم بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم"، وعلى تقدير"ليق" يكونون مستقلين في الأمر استقلالًا تامًا بخلاف ذلك التقدير، فإن عطف"أهلوكم"، - وهو غائب- على الضمير- وهو حاضر-، لا يصح إلا على التبعية، كما سبق في قوله تعالى: {اسْكُن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35]. قال القاضي: إنما لم يخاطبها أولًا تنبيهًا على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف تبع له. وعلى هذا معنى التغليب في أنفسكم. وفي"شرح السنة": روي عن علي رضي الله عنه قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}: علموهم وأدبوهم، وعن ابن عباس نحوه. قوله: (وعن ابن عباس: هي حجارة الكبريت)، منع هذا التفسير في سورة البقرة، وهو تخصيص بغير دليل، وأثبت هاهنا. قوله: (وقرئ: "وقودها")، بالضم، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن ومجاهد، وهو على حذف المضاف، أي: ذو وقودها، يعني: ما تطعمه النار من الوقود.

{غِلاظٌ شِدادٌ} في أجرامهم غلظة وشدة، أي: جفاء وقوة. أو في أفعالهم جفاء وخشونة، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه. {مَا أَمَرَهُمْ} في محل النصب على البدل، أي: لا يعصون ما أمر الله. أي أمره، كقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] أولا يعصونه فيما أمرهم. فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا، فإن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه. فإن قلت: قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى: {فَإن َّلَمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] وقال {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] فجعلها معدة للكافرين، فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أليست الجملتان في معنى واحد)، يعني قوله: {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه لا يتركون فعل المأمور به، ومفهومه: أنهم يفعلون ما يؤمرون به. وأجاب: بأن الأولى لبيان موافقة الأمر في الباطن واعتقاد حقيقة الأمر والاعتراف به والثانية لبيان موافقة الأمر في الظاهر، لأن الموافقة الإتيان بالمأمور به، فإن موافقة الشيء ما يوجب ثبوت مقتضاه، ويمكن أن يقال: إنه من باب الطرد والعكس، وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، مبالغةً في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له. روي عن المصنف أنه قال: نظير الآية قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ الَّليلَ والنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ} [الأنبياء: 20] نفى المعاندة عن الملائكة والاستكبار بقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] وأثبت لهم الكياسة، ونفى عنهم الكسل بقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] كقوله تعالى: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ}.

قلت: الفساق- وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار- فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: {قُوا أَنفُسَكُمْ} باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة. ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطابها للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، ويعضد ذلك قوله تعالى على إثره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار: لا تعتذروا، لأنه لا عذر لكم، أو لأنه لا ينفكم الاعتذار. [{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 8]. {تَوْبَةً نَّصُوحًا} وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي؛ والنصح: طريقة التائبين؛ وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات، وذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفساق- وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار- فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة)، الانتصاف: جوابه بناء على اعتقاده في خلود الفساق، أورد السؤال ليتنفس عن ما في نفسه من هذا الباطل الذي لا يطيق كتمانه، ولا يمتنع أن يحذر المؤمن من عذاب الكافر تثبيتًا له على الإيمان كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. قوله: (والنصح: صفة التائبين)، الراغب: النصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح، قال تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79]، وقال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، وهو من قولهم: نصحت له الود.

نادمين عليها، مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطنين أنفسهم على ذلك. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا، إن سرعة اللسان في التوبة توبة الكذابين. قال: وما التوبة؟ قال يجمعها ستة أشياء. على الماضي من الذنوب: الندامة، وللفرائض: الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله، كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذاقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أخلصت، وناصح العسل: خالصه، أو من قولهم: نصحت الجلد: خطته، والناصح: الخياط، والنصاح: الخيط، وقوله تعالى: {تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] فمن أحد هذين: إما الإخلاص، وإما الإحكام، يقال: نصوح ونصاح كذهوب وذهاب، قال: أحببت حبًا خالطته نصاحة قوله: (لا يعودون في قبيح من القبائح)، قيل: هذا مذهبه، لأن عندهم أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار غير صحيح. قوله: (أنه سمع أعرابيًا يقول)، ذكر هذا الحديث في الشورى مع تغيير يسير، قال: منن التوبة وعمودها الانتهاء، على ما قال تعالى: {إِن يَنتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ} [الأنفال: 38] وجناحاها: الندم والعزم، والندم: هو الغم الملازم للذنب. قوله: (بحسب الرجل)، مبتدأ، والباء زائدة، والخبر: "أن يتوب".

وعن شهر بن حوشب: أنه لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار. وعن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك، وتستعد لمنتظرك. وقيل: توبة لا يتاب منها. وعن السدي: لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقيل {نَّصُوحًا} من نصاحة الثوب، أي توبة ترفو خروقك في دينك، وترم خللك. وقيل: خالصة، من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع. ويجوز أن يراد: توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها. وقرأ زيد بن علي: (توبا نصوحا) وقرئ: (نَّصُوحًا) بالضم، وهو مصدر "نصح". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء)، أقللت: صفة الذنب، على منوال قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني قوله: (لمنتظرك)، أي: موتك، وقيل: عاقبتك. قوله: (من نصاحة الثوب)، في"المطلع": نصاحة الثوب: خياطته، والنصاح: الخياط، أي: توبة ترفو خروقك في دينك، فهي استعارة. قوله: (وقرئ: "نصوحًا" بالضم)، أبو بكر، والباقون: بالفتح.

والنصح والنصوح، كالشكر والشكور، والكفر والكفور، أي: ذات نصوح، أو تنصح نصوحا، أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له، {عَسَى رَبُّكُمْ} إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بـ "عسى" و"لعل" ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني: أن يجئ به تعليما للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت: قراءة ابن أبي عبلة: (ويدخلكم) بالجزم، عطفا على محل (عسى أن يكفر)، كأنه قيل: توبوا يوجب لكم تكفير سيئاتكم ويدخلكم، {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ} نصب بـ {ويُدْخِلَكُمْ}، و {لا يُخْزِي}: تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، {نُورُهُمْ يَسْعَى} على الصراط. {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ووجوب الترجح)، الأساس: ومن المجاز: رجح أحد قوليه على الآخر، وترجح في القول: تميل فيه، وقيل: الترجح: التردد، وكونهم دائراين بينهما، غير مرجحين أحدهما على الآخر. قوله: (واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم)، الأساس: واستحمد الله إلى خلقه بإحسانه إليهم وإنعامه عليهم. ضمن "استحمد" معنى الإحسان، أي: أحسن إليهم طالبًا للحمد منهم على عصمته إياهم. قوله: ({أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس)، فسر {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} بالنظر إلى قوله تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بوجوه أربعة؛ أحدها: يطلبون الدوام إشفاقًا بسبب ما ينظرون إلى نور المنافقين وانطماسه، جزاءً لما كانوا يخادعون الله والذين آمنوا، وبه فسر قوله: {ذّهّبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] في وجه. قال الواحدي: ومعنى إذهاب الله نورهم: هو أن الله تعالى يسلب المنافقين ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة.

وعن الحسن: الله متممة لهم ولكنهم يدعون تقربا إلى الله، كقوله تعالى: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] وهو مغفور له. وقيل: يقول أدناهم منزلة؛ لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطئ أقدامهم؛ لأن النور على قدر الأعمال، فيسألون إتمامه تفضلا. وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا، فأولئك الذين يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}. فإن قلت: كيف يشفقون والمؤمنون آمنون {أَم مَّن يَاتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ} [فصلت: 40]، {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62]، {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 13]؟ أو كيف يتقربون وليست الدار دار تقرب؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثانيها: يطلبون الدوام لا خوفًا بل تقربًا. وثالثها: يطلبون المزيد لنقصان نورهم من نور غيرهم. ورابعها: ذلك النور الذي يسعى بين أيديهم هو نور السابقين، وهم يطلبون ابتداءً إتمام النور، أي: هب لنا نورنا وأتممه لنا، والسؤال الآتي متوجه إلى الوجهين الأولين. قوله: (كيف يشفقون)، هذا الإيراد على قول ابن عباس: يقولون ذلك إشفاقًا، وقوله: أو كيف يتقربون؟ هذا على قول الحسن: ولكنهم يدعون تقربًا إلى الله تعالى. قوله: (وليست الدار دار تقرب)، أي: الدار الآخرة ليست دار التكليف، فمن لم يتقرب في الدنيا إلى الله تعالى، لا يتقرب إليه في الآخرة، وجاء في الحديث ما يخالفه، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وأبي داود عن عيد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". وروى ابن ماجه عن أبي سعيد نحوه.

قلت: أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن، وأما التقرب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة: سماه تقريبا. [{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ والْمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ} 9]. {جَاهِدِ الكُفَّارَ} بالسيف {والْمُنَافِقِينَ} بالاحتجاج؛ واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة. وعن قتادة: مجاهدة المنافقين لإقامة الحدود عليهم. وعن مجاهد: بالوعيد. وقيل: بإفشاء أسرارهم. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 10]. مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يقال: إن الترقي بحسب ما ثبت له في الدنيا، والترقي في الجنة بالقراءة علامة انتهاء تلك المنزلة. قوله: (معاقبة مثلهم)، والمثل هاهنا كما في قولك: مثلك لا يبخل، أي: أنت لا تبخل، يعني: من هو في صددك من الجود والسخاوة لا يبخل. أي: يعاقبون معاقبة من هو مبالغ في الكفر والنفاق، وتلك المعاقبة هي ما قال: "معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة".

ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي كان يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله {وقِيلَ} لهما عند موتهما أو يوم القيامة: [ادْخُلا النَّارَ مَعَ} سائر {الدَّاخِلِينَ} الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط. ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله، بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الناطق بالكلمة العظمى)، وهي: {أنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. قوله: (وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة)، إشارة إلى النظم، وأنه تعالى بعدما حكى عن أمي المؤمنين ما فعلتا مما حصلت منه الكراهة لحضرة الرسالة من التظاهر عليه، وعم التوبيخ بقوله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} وهما المرادتان أوليًا، وذكر أوصاف المبدلات تقريعًا، ثم وعظ المؤمنين تلويحًا، وحرضهم على التوبة ورغبهم فيها، ثم أمر رسوله بالغلظة مع المعاندين من الكافرين والمنافقين تحريضًا، أتى بهذين التمثيلين تذييلًا لذكر المؤمنين والكافرين، وتتميمًا للتعريض بأمي المؤمنين، ومن تأمل في هذه التشديدات لاح له منزلة حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول أم المؤمنين

من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه في التغليظ قوله تعالى: {ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة أرجح؛ لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله! وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره. فإن قلت: ما فائدة قوله: {مِنْ عِبَادِنَا}؟ قلت: لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائنا من كان، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال من عند الله: قال: {عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ}، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده، إظهارا وإبانة لأن عبدا من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير، وأن ما سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصديقة رضي الله عنها: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. الحديث متفق على صحته. ولله دره حيث قال: "وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدًا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره! ". قوله: (لم يكونا إلا كسائر عبادنا)، لعله قصد في تعميم {عِبَادِنَا}، تقرير معنى العموم الذي اعتبره في قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7] اعتزالًا، وقد بينا هناك أن

فإن قلت: ما كانت خيانتهما؟ قلت: نفاقهما وإبطانهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور؛ لأنه سمج في الطباع، نقيصة عند كل أحد، بخلاف الكفر؛ فإن الكفار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما بغت امرأة نبي قط. [{وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ ونَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} 11]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عادة الله جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المكرمين، ولا سيما وقد أضيف إلى ضمير التعظيم، وأما فائدته هنا فتربية معنى التعريض في التمثيل، كأنه قيل: إن امرأة نوح وامرأة لوط ما نفعهما شيء من صحبة هذين النبيين المكرمين الداخلين في زمرة العباد المخلصين. ويدل على إرادة المدح تكرير قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ} [الصافات: 81، 111، 122، 132] في الصافات عند ذكر نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس عليهم السلام في خاتمة قصصهم. الراغب: تخصيص إضافة العبد إل الله تنبيه على مدحه في كونه مطيعًا له منصرفًا عن أمره، وأنه غير معرج على غيره ثم إضافته بنون المملوكية، مبالغة في الاختصاص، وفي كل إضافة إلى الله بهذا الوجه مبالغة. قوله: (ما كانت خيانتهما؟ )، "ما" استفهاميةً، وضمير "كانت" يعود إليها، و"خيانتهما" خبره، والتأنيث باعتبار الخبر، كما في: "من كانت أمك؟ ". قوله: (بخلاف الكفر، فإن الكفار لا يستسمجونه) فيه إيماء إلى أن العقل لا يصلح أن يحكم في أمور الديانة.

وامرأة فرعون: آسية بنت مزاحم. وقيل: هي عمة موسى عليه السلام، آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك، فعذبها فرعون. عن أبي هريرة: أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وأضجعها على ظهرها، ووضع رحى على صدرها، وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقى بروحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. وعن الحسن: فنجاها الله أكرم نجاة؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وقيل: لما قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ} أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة، وقيل: كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة. فإن قلت: ما معنى الجمع بين {عِندَكَ} و {فِي الجَنَّةِ}؟ قلت: طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه، ثم بنيت مكان القرب بقولها: {فِي الجَنَّةِ} أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة، وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها: {عِندَكَ}. {مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ} من عمل فرعون ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى الجمع بين {عِندَكَ}، و {في الجَنَّةِ})، أي: المقام المعين عند الله في الآخرة الجنة فما معنى الجمع؟ وأجاب أولًا: أن {في الجَنَّةِ} غير متعلق بـ {ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} بل هو بيان، كأنها حين قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} قيل لها: أين؟ فقالت: {في الجَنَّةِ}، نحوه قوله تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] فإن {فِيهِ} بيان لما زهدوا فيه، أو أن مرادها بيان المقامات والمنازل، طلبت بقولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا في الجَنَّةِ} القرب من رحمة الله، وبقولها: {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} الآية، البعد من أعدائه، ولا ارتياب أن القرب له مراتب لا تنحصر، فأدمجت بقولها: {عِندَكَ}، تعني: أعلى المراتب وأقربها عند الله، فعلى هذا قوله: {في الجَنَّةِ} صفة بيتًا، أو ظرف لـ {ابْنِ}.

أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم، وخصوصا من عمله وهو: الكفر، وعبادة الأصنام، والظلم، والتعذيب بغير جرم، {ونَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} من القبط كلهم. وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين، {فَافْتَحْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي ومَن مَّعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118]، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكَافِرِينَ} [يونس: 86]. {ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكُتُبِهِ وكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} 12]. {فِيهِ} في الفرج. وقرأ ابن مسعود: (فيها)، كما قرئ في سورة الأنبياء، والضمير للجملة، وقد مر لي في هذا الظرف كلام. ومن بدع التفاسير أن الفرج هو جيب الدرع، ومعنى (أَحْصَنَتْه): منعته جبريل، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وخصوصًا من عمله)، يريد أن قوله: {مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} يجوز أن يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، ويجوز أن يراد: ونجني من نفس فرعون الخبيثة، ثم قيل خصوصًا: "من عمله"، وهو قريب من عطف الخاص على العام، وفيه: أن ذاته الخبيثة معدن كل شرً، وما ظهر منه من الكفر وعبادة الأصنام والظلم نعتان منه، وهذا أبلغ. قوله: (وقد مر لي في هذا الظرف كلام) أي: في سورة الأنبياء، وذلك أن قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] يدل على إحياء مريم، والمراد إحياء عيسى عليه السلام منها، والتقدير: ونفخنا الروح في عيسى منها، أي: أحييناه منها. قوله: (ومعنى "أحصنته": منعته جبريل)، عطف على "أن الفرج"، وكذا قوله: "وأنه جمع في التمثيل" عطف عليه، والمعنى بالمنع قولها: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. وعن الواحدي رحمه الله تعالى: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}: حفظت فرجها ومنعتها عما

تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن، {وصَدَّقَتْ} قرئ بالتشديد وبالتخفيف على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة، يعني: وصفتها بالصدق، وهو معنى بالتصديق بعينه. فإن قلت: فما كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته: صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، سماها "كلمات" لقصرها، {وكُتُبِهِ}؛ الكتب الأربعة، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم، وجميع مع كتبه في اللوح وغيره. وقرئ: (بكلمة الله وكتابه) أي: بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يحل، قال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها، وهذا محتمل، لأن الفرج معناه في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع. وقلت: هو كناية، نحو قولهم: هو نقي الجيب طاهر الذيل، لكن العدول عن الظاهر المكشوف إلى الخفي الذي لا قرينة له بعيد، ولذلك قال المصنف: "ومن بدع التفاسير". قوله: (قرئ بالتشديد وبالتخفيف) "صدقت" بالتشديد: المشهورة، وبالتخفيف شاذة. قوله: (جعلت الكلمات والكتب صادقةً)، إما بأن قال: إن كتب الله صادقة فيما جاءت به، أو صدقت بمعنى آمنت بكلمات ربها مصدقةً لها، وهو معنى التصديق بعينه، والباء للتعدية. قوله: (يجوز أن يراد بكلماته: صحفه)، إلى قوله: (وجميع ما كتبه في اللوح وغيره)، الانتصاف: هو يجحد الكلام القديم، فلا جرم كلامه يشعر بأن كلمات الله متناهية، لأنه

فإن قلت: لم قيل {مِنَ القَانِتِينَ} على التذكير؟ قلت: لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين، فغلب ذكوره على إناثه، و {مِنَ} للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جمعها في الأول جمع قلة لقصرها، وفي الثاني حصرها بقوله: و"جميع"، وأين هو من قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] وكلام الله صفة أزلية أبدية غير متناهية. وقلت: ومن ثم ورد عن مصدر النبوة في الدعاء: "أعوذ بكلمات الله التامات"، وأما معنى الجمع في {بِكَلِمَاتٍ} فهو ما ذكره في قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] من أن المراد والقصد بها "جماعة الثمرة التي في قولك: أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره، ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة؛ وقولهم للقرية: المدرة، وإنما هي مدر متلاحق". قوله: (فغلب ذكوره على إنائه)، قال القاضي: وفائدة التغليب الإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين، حتى عدت من جملتهم. قوله: (كمل من الرجال كثير)، الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أبي موسى، وليس فيه حديث خديجة رضي الله عنها.

وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، وأما ما روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سمى الله المسلمة (تعني مريم)، ولم يسم الكافرة؟ فقال: "بغضا لها": قالت: وما اسمها؟ قال: اسم امرأة نوح: واعلة، واسم امرأة لوط: وأهله، فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين، ولقد سمى الله تعالى جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمى آسية، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين، وأبى الله ألا يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم وأسلم من ذلك. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كفضل الثريد على سائر الطعام)، قيل: إنما مثل الثريد لأنه أفضل كعام العرب ولا يرون في الشبع أغنى غناء منه، وقيل: إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم، وروي: "سيد الطعام اللحم"، فكأنها فضلت على النساء كفضل اللحم على سائر الأطعمة، والسر فيه أن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول، وقلة المؤونة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضرب به مثلًا ليؤذن بأنها أعطيت مع حسن الخلق حسن الخلق، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل، والتحدث والاستئناس بها، والإصغاء إليها. وحسبك أنها عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، ومما يدل على أن الثريد أشهى الأطعمة عندهم وألذها قول الشاعر: إذا ما الخبز تأدمه بلحم .... فذاك- أمانة الله- الثريد تمت السورة حامدًا الله ومصليًا.

سورة الملك

سورة الملك مكية، وهي ثلاثون آية وتسمى: الواقية، والمنجية؛ لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر بسم الله الرحمن الرحيم [{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وهُوَ حَسِيرٌ} 1 - 4]. {تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين {الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} على كل موجودٍ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الملك مكية، وهي ثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي قوله: ({بِيَدِهِ المُلكُ} على كل موجود)، وجعل {بِيَدِهِ المُلكُ} بمعنى التصرف والاستيلاء، ولذلك عداه بـ"على" في قوله: "على كل موجود"، قال الراغب في قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ

{وهُوَ عَلَى كُلِّ} ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة {قَدِيرٌ}. وذكر "اليد" مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه. والحياة: ما يصنع بوجوده الإحساس، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]: "فالملك: ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، والملك كالجنس له؛ فكل ملك ملك، وليس كل ملك ملكًا". قوله: ({وهُوَ عَلَى كُلِّ} ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة {قَدِيرٌ})، يعني أن "الشيء" عام في كل ما يصح أن يخبر عنه ويعلم بناء على مذهبه، فلما اقترن بقوله {قَدِيرٌ}، علم أن المراد منه المعدوم الذي يدخل تحت القدرة دون غيره، ومقصوده رعاية الطباق بذكر الموجود والمعدوم بين القرينتين، قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر؛ لأن "الشيء" إما أن يختص بالموجود، أو يشمل الموجود والمعدوم على المذهبين، فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام {كُلِّ} إليه، اللهم إلا أن بقال: خصصه به ليغاير ما قبله، إذا خصصه بالموجود". قلنا: لو عمم الثاني: لتحقق التغاير أيضًا، على أن في تخصيص الأول بالموجود أيضًا نظرًا، لأن اليد مجاز عن القدرة، وإن تخصصت القدرة بالمعدوم كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم، وإن لم يتخصص، لم يتخصص الثاني بالمعدوم. والتحقيق أن الأول مطلق، والثاني عام لما وضع له تباين الشيء، فقصد بيان أصل القدرة أولًا، وعمومها ثانيًا. وقلت: الظاهر أن الآية من باب التكميل، فالقرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات، على مقتضى إرادته ومشيئته من غير منازع ولا مدافع، تصرف الملاك في ملكهم، لا يتصرف فيها حقيقة، ولذلك قدم الظرف للتخصيص، قال الإمام: "هذه اللفظة إنما

وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصبح منه أن يعلم ويقدر. والموت: عدم ذلك فيه، ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ذلك المصحح وإعدامه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكًا ومالكًا، كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي، والحل والعقد". والقرينة الثانية دالة على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على القرينة الأولى، لأوهم أن تصرفه مقصور على تغير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي؛ فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عز سلطانه قادر على التصرف، وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها، وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك الوصف بالوصف المتضمن للعوارض، وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] إلى آخره. وأما مسألة أن المعدوم شيء فمها لا يهمنا الآن. قوله: (وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر)، قال صاحب "التقريب": الحياة ما به الإحساس، أو ما به العلم والقدرة، ولا يفسر بما يوجب كون الشيء حيًا لئلا يلزم منه الدور. قوله: (والموت عدم ذلك)، الانتصاف: مذهب القدرية أن الموت عدم، واعتقاد أهل السنة أنه أمر وجودي يضاد الحياة، وكيف يكون عدمًا وقد وصف بكونه مخلوقًا، وعدم الحوادث أزلي؟ ولو كان المعدوم مخلوقًا للزم وقوع الحوادث أزلًا، وهو ظاهر البطلان.

والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الفرائد": "لو كان الموت عدم الحياة استحال أن يكون مخلوقًا"، وقد قال بعد ذلك: "معنى خلق الموت والحياة، وإيجاد ذلك المصحح وإعدامه"، وهذا أيضًا منظور فيه. وقال الإمام: "الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها، بحيث يصح أن يعلم ويقدر". واختلفوا في الموت، قيل: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقيل: صفة وجودية مضادة للحياة، لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ}؛ والعدم لا يكون مخلوقًا، وهذا هو التحقيق. قوله: (خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ})، الراغب: "أنواع الموت بحسب أنواع الحياة: الأول: ما [هو] بإزاء القوة النامية في الإنسان والحيوان والنبات، نحو: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11]. الثاني: زوال القوة الحاسة، قال تعالى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. والثالث: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة نحو: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. الرابع: الحزن المكدر للحياة، نحو: {وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17]. الخامس: المنام، فقد قيل: المنام موت خفيف، والموت نوم ثقيل، نحو: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، قيل: [معناه] ستموت، تنبيها على أنه لا بد لكل أحد من الموت، وقيل: فيه إشارة إلى ما يعترى الإنسان في كل حال من التحلل، وأن البشر ما دام في الدنيا يموت جزءًا. وقد عبر قوم عن هذا المعنى بـ"المائت"، ورده علي بن عبد العزيز

وسمى علم الواقع منهم باختيارهم "بلوى" وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر. ونحوه قوله تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ} [محمد: 31]. فإن قلت: من أين تعلق قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} بفعل البلوى؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: ليس في لغتنا "مائت" على حسب ما قالوا، وإنما يقال: موت مائت كقولك: شعر شاعر، وسيل سائل". قوله: (وسمى علم الواقع منهم باختيارهم"بلوى") وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، وقوله: "منهم" و"باختيارهم" متعلقان بـ"الواقع". قيل: إنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع لا أنها واقعة، لأن ذلك لا يكون علمًا، وإذا وجد تعلق العلم بوجوده. والله تعالى خلق المكلفين يعلم ما يصدر منهم باختيارهم، فسمي هذا اختيارًا؛ لأنه إذا خلقهم ليعلم واقعًا ما، يعلم أنه يصدر باختيارهم، فكأنه تعالى اختبرهم بخلقه وابتلاهم. المعنى: ليعلم هذا المعنى واقعًا بعدما علم أنه سيحصل منهم. والفلاسفة خذلهم الله، زعموا أن الله تعالى يعلم الجزئيات على وجه لا جزئي، والمسلمون يعتقدون أنه تعالى يعلم الجزئيات على وجه جزئي، أي عند وجودها يعلم أنها وجدت، وعند عدمها يعلم أنها عدمت، وقبل ذلك يعلم أنها ستوجد وستعدم، فالتغيير في المعلوم لا في العلم. قوله: (استعارة)، نصب تمييز أو مفعول له، أو حال، أو مفعول مطلق، لما في قوله: "سمى"

قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا؛ وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا. فإن قلت: أتسمي هذا تعليقا؟ قلت لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى آخره، معنى "استعار"، لأن الاستعارة تسمية الشيء باسم ما شبه أو شبه به، أي استعار لعلم الله المتعلق بأفعال المكلف، لفظ الابتلاء المعني به الخبرة، بعد سبق تشبيه حال المكلف المختار الممكن من فعل الطاعة والمعصية مع تعلق علم الله تعالى بأفعاله، بحال المختبر مع المختبر، ثم استعير لعلم الله الخاص ما استعمل في المشبه به من لفظ "يبلوكم"، فهي استعارة تبعية واقعة في طريق التمثيل. مثلها في قول صاحب "المفتاح": شبه حال المكلف الممكن من فعل الطاعة والمعصية مع الإرادة منه أن يطيع، بحال المرتجي المخير بين أن يفعل وأن لا يفعل، ثم استعير لجانب المشبه"لعل"، جاعلًا قرينة الاستعارة علم العالم"؛ ف"لعل" مستعار للإرادة على مذهبه، كما أن {لِيَبْلُوَكُمْ} مستعار للعلم الخاص فيما نحن بصدده؛ فقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ}، متعلق بـ {خَلَقَ}، أي: خلق الموت ليكون جوازًا إلى دار الجزاء، وخلق الحياة لتكون ذريعة إلى فعل ما يترتب عليه الجزاء في تلك الدار، فمن أطاع وشكر أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. قوله: (لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين)، قيل: إن قولنا: علمت أزيد منطلق، تعليق للفعل عن العمل، ومن شرط التعليق أن لا يذكر شيء من المفعولين، إذ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لو قلت: علمت القوم أيهم أفضل، لم يكن تعليقًا، وها هنا {لِيَبْلُوَكُمْ} أخذ مفعوله، فلا يعلق عليه قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. وقال صاحب"التقريب": "وفيه نظر، لأن المضمر هو العلم، فلا يلزم ذكر المفعول معه، بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم. وأيضًا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولًا ثانيًا ل"علمت"، وإنما يقع موقع المفعولين في: علمت أيهم خرج؟ لأن المعنى: علمت جواب هذا الاستفهام، ولا يقدر مثله في: علمته أيهم خرج؟ إذ لا معنى لقولك: علمته جواب هذا الاستفهام. وأيضًا ذكر في"هود" في {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، أنه تعليق". وقال الزجاج: "المتعلق بـ {أَيُّكُمْ} مضمر، أي: ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملًا. وارتفعت "أي" بالابتداء قال: "فيه وجهان: أحدهما قول الفراء والزجاج: إن المتعلق مضمر، وثانيهما قول صاحب "الكشاف": {لِيَبْلُوَكُمْ} في معنى ليعلمكم، أي: ليعلمكم أيكم أحسن عملًا". وقلت: فالمصنف ذهب في "هود" إلى مذهب الفراء والزجاج، واختار هاهنا مذهبًا آخر، وهو صحيح من حيث العربية، لأن باب التضمين باب واسع، وإليه الإشارة بقوله: "من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملًا".

ألا ترى أنه لا فضل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق، وعلمت زيدا منطلقا. {أَحْسَنُ عَمَلًا}: قيل: أخلصه وأصوبه؛ لأنه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص؛ فالخالص: أن يكون لوجه الله تعالى؛ والصواب: أن يكون على السنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: "لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولًا ثانيًا" فضعيف، لأنها إذا وقعت مفعولًا أول في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69]، أي: لننزعن الذين يقال في حقهم: أيهم أشد، كما هو مذهب الخليل، كيف يمتنع وقوعها مفعولًا ثانيًا بالتأول، أي: ليعلمكم الذين يقال في حقهم: أيهم أحسن عملًا. وقد أنصف صاحب "الانتصاف" حيث قال: "التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف، والأصح هو الذي اختاره الزمخشري، وهذا النحو عشه فيه يدرج، ويدري كيف يدخل ويخرج". قوله: (أخلصه وأصوبه)، الراغب: "الخالص كالصافي، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شربه بعد أن كان فيه، وحقيقة الإخلاص التعري عن كل ما دون الله، والتبري عما سوى الله". والصواب ضد الخطأ والعدول عن الطريق المستقيم، ولصعوبته ورد في الحديث: "استقيموا ولن تحصوا".

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها، فلما بلغ قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: "أيكم أحسن عقلا، وأروع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله"، يعني: أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه؛ والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لابد منه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: وبالنظر إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، قال المصنف: "والصواب أن يكون على السنة"، وأبى قبول العمل إلا بها وبالإخلاص. ويفهم منه: إذا راعى المكلف في أعماله الفرائض والواجب فقط ولم يكملها بالسنن، سقط عنه الفرض لكن لم يقبل منه لتخطيه الصواب؛ على ذلك ما روينا عن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر"، قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى". وفي الحديث دليل على وجوب حضور الجماعة، وأن لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر. وقال عطاء: ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا سمع النداء، في أن يدع الصلاة: أي: في الجماعة. وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات. وقال بعض أصحاب الشافعي: الجماعة فرض عل الكفاية لا على الأعيان، ولا يمتنع العبد عن الجماعة بغير علة. وقد سبق في سورة الجمعة مستوفى تحقيقه. قوله: (أيكم أتم عقلا عن الله)، أي: أتم فهما لما يصدر عن جناب الله، وأكمل ضبطًا لما يأخذ عن خطابه، يدل عليه عطف قوله: "وفهما لأغراضه" على عقلًا"، على سبيل التفسير.

وقدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل، من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم {وهُوَ العَزِيزُ}: الغالب الذي يعجزه من أساء العمل {الغَفُورُ} لمن تاب من أهل الإساءة. {طِبَاقًا}: مطابقة بعضها فوق بعض، من طابق النعل: إذا خصفها طبقا عن طبق، وهذا وصف بالمصدر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم)، "فيما يرجع" متعلق بـ"أهم". والظاهر أن قوله: "فقدم"، قد عطف على "قدم الموت على الحياة" على سبيل التعقيب، نحو: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، يعني: المراد من قوله {خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، أنه أعطاكم الحياة ... إلى آخره، وقدم الموت على الحياة، لأن الموت أقوى الدواعي إلى العمل، فقدم ليتبين أن الذي سيق له الآية، البعث على العمل، والإخلاص فيه، وتحري الصواب له. ولعمري، إن من جعل الموت نصب عينيه، زهد في الدنيا ولذاتها، ورغب في الآخرة وأناب إلى الجنة ونعيمها؛ روينا عن الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء"، قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: "ليس ذلك! ولكن الاستحياء من الله تعالى حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء". قوله: (وهذا وصف بالمصدر)، قيل: هو مشكل، لأنه لو كان صفة لكان مجرورًا صفة للمضاف إليه، أي: سبع سموات طباقًا، كما في قوله: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43]، لأن الصفة في الأعداد تكون للمضاف إليه، ولو قيل: هو حال لكان وجهًا، لأن {سَبْعَ سَمَوَاتٍ} معرفة لشمولها كلها، وهو قريب مما ذكر في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ

أو على ذات طباق، أو على: طوبقت طباقا. {مِن تَفَاوُتٍ} وقرئ "من تفوت"، ومعنى البناءين واحد، كقولهم: تظاهروا من نساءهم وتظهروا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، من أن محل {مَعَهَا سَائِقٌ} النصب على الحال من {كُلُّ} لتعرفه بالإضافة إلى ما هو حكم المعرفة، وذلك أن النفس بالإضافة صارت شامة لجميع النفوس. وقلت: ما خطر هناك أن يوصف المضاف المضاف به، بل سأل عن التفاوت بين أن يكون {سِمَانٍ} صفة للبقرات، وأن يكون صفة للسبع. ولا ارتياب أن وصف البقرات بالسمان والعجاف أولى من وصف الأعداد بها، كما أن وصف الأعداد بالطباق، أخرى من وصف السماء به، لاقتضاء كل ما يناسبه. على أن قوله: "وهذا وصف بالمصدر"، لا ينافي إرادة الحال، نحوه قوله في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]: " {هَوْنًا}: حال أو صفة للمشي، يعني: هينين، أو مشيًا هينًا. إلا أن في وضع المصدر موضع صفة مبالغة"؛ وإنما يكون مبالغة إذا وضع"هينًا" موضع"هينين"، لأنه حينئذ وصف للذات بالمصدر، بخلاف إذا جعل وصفًا للمصدر ويقال: مشيًا هونًا، والوجه هو الأول. ولأن قوله {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} يشد من عضده، كما قال: "هي صفة مشايعة لقوله: {طِبَاقًا} "، يعني احتمل {طِبَاقًا} أن يكون صفة، وأن يكون مصدرًا لمضمر، رجح الأول مجيء قوله {مَّا تَرَى} الآية. الأساس: "هذا بهذا: قواه به". النهاية: "في حديث الضحايا: نهى عن المشيعة" بفتح الياء، أي: التي تحتاج إلى من يشيعها، أي: يسوقها لتأخرها عن الغنم. قوله: (وقرئ: "من نفوت"): حمزة والسكائي، قال الزجاج: "يقال: تفاوت الشيء تفاوتًا، وتفوت تفوتًا، إذا اختلف".

وتعاهدته وتعهدته، أي: من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض؛ إنما هي مستوية مستقيمة. وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه، ومنه قولهم: خلق متفاوت، وفي نقيضه: متناصف. فإن قلت: كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت: هي صفة مشايعة لقوله: {طِبَاقًا}، وأصلها: ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله: {خَلْقِ الرَّحْمَنِ} تعظيما لخلقهن، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت؛ وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي نقيضه: متناصف)، الجوهري: "تناصفوا، أي: أنصف بعضهم بعضًا من نفسه، قال: أني غرضت إلى تناصف وجهها .... غرض المحب إلى الحبيب الغائب يقال: غرضت إليه: أي اشتقت إليه، أي: بلغ استواء محاسن وجهها حدًا، كأن بعض أعضاء الوجه أنصف بعضًا في أخذ القسط من الجمال". قوله: (وأنه بباهر قدرته)، أي: بقدرته الغالب الكامل، وذلك لأن "الرحمن" مرادف لاسم الله الأعظم في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، فيكون حكمه حكمه، فدل في مقام القدرة والخلق على كمالهما، فيكون في وضع

مثل ذلك الخلق المتناسب، والخطاب في {مَّا تَرَى} للرسول أو لكل مخاطب. وقوله تعالى: {فَارْجِعِ البَصَرَ} متعلق به على معنى التسبيب؛ أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهن، ثم قال: {فَارْجِعِ البَصَرَ} حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا تبقى معك شبهة فيه. {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} من صدوع وشقوق، جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شق وبزل، ومعناه: شق اللحم فطلع. وأمر بتكرير البصر فيهن متصفحا ومتتبعا يلتمس عيبا وخللا {يَنقَلِبْ إلَيْكَ} أي: إن رجعت البصر وكررت النظر، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب، بل يرجع ذلك بالخسوء والحسور، أي: بالبعد عن إصابة الملتمس، كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة، وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والترديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {الرَّحْمَنَ} موضع الضمير، إشعار بأن لا يكون في خلقه السموات من نقصان ولا تفاوت، ثم لا يخلو من إشارة على لفظة (الله) في هذا المقام من نكتة، وهي أن خلق هذه الأجرام العظام نعمة جليلة توجب الحمد على نظرها، لأنها مسارح أنظار المتفكرين، ومهابط أنوار رب العالمين. قوله: ({مِن فُطُورٍ}: من صدوع)، الراغب: "أصل الفطر الشق طولًا، يقال: فطر فلان كذا فطرًا، وأفطر هو فطورًا، وانفطر انفطارًا، قال تعالى: {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي: اختلال ووهي فيه، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق، وهو إيجاد وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال؛ فقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، إشارة منه إلى ما أبدع وركز في الناس من معرفته المشار إليه بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ} [الزخرف: 9]. والفطر: ترك الصوم". قوله: (إن رجعت البصر وكررت النظر، لم يرجع إليك البصر بما التمسته من رؤية الخلل

فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين؟ قلت: معنى التثنية التكرير بكثرة، كقولهم: لبيك وسعديك، تريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، وقولهم في المثل "دهدرين سعد القين" من ذلك، أي: باطلا بعد باطل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإدراك العيب)، في كلامه إشعار بأن {البَصَرَ} الثاني في موضع المضمر، لقوله: "بل يرجع إليك"، أي: بصرك بما التمسته. الانتصاف: "معنى وضع المظهر موضع المضمر، أن الأبصار التي يدرك بما كل موجود ترجع خاسئة". قوله: (دهدرين سعد القين) معنى التثنية هل يستنبط من انضمام "سعد القين" بـ"دهدرين"، أو من التثنية في "درين"؟ والوجهان محتملان، قال الميداني: قيل: "الأصل فيه أن العرب تعتقد أن العجم أهل مكر وخديعة، وكانوا يخالطونهم ويتجرون في الدر ولا يحسنون العربية، فوقع إليهم رجل معه خرزات سود وبيض وقال: دودر أي: نوعان من الدر، أو قال: عشرة منه بكذا، ففشوا عنه فوجدوه كاذبًا فيما زعم، فقالوا: ده درين، ثم ضموا إليه "سعد القين" لأنهم عرفوه بالكذب، حتى قالوا: إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح، فجعلوا اللفظين عبارة عن الكذب، وثنوا قولهم: "درين" لمزاوجة "القين"، فإذا أرادوا أن يعبروا ن الباطل تكلموا بهذا. وقال بعضهم: أصله: ده در، فثنوه، عبارة عن تضاعف معنى الباطل والمبالغة فيه، كما جمعوا أسماء الدواهي فقالوا: الأقورين والفتكرين، إشارة إلى اجتماع الشر فيه، وغيروا أوله عن الفتح إلى الضم، ليكونوا قد تصرفوا فيه بوجه ما. " وموضع المثل نصب بإضمار "أعني" أو"أبصر"، ويجوز أن يكون رفعًا على الابتداء، أي:

فإن قلت: فما معنى {ثُمَّ ارْجِعِ}؟ قلت: أمره برجع البصر، ثم أمر بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنت صاحب هذه اللفظة، التقدير: أنت سعد القين، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين". وفي بعض الحواشي: القين: الحداد، ويضرب به المثل في الكذب، ويقال: أكذب من قين، روي عن المصنف أنه قال: "الدهدر، والدهان: الباطل"، والمعنى: جئت يا سعد القين بباطل بعد باطل، وذلك مثل. يقال: أكذب من قين، وذلك لأنه سمى نفسه سعدًا كاذبًا، وكان حدادًا يطرف في القبائل، فإذا كسد سوقه كان يقول: أذهب الليلة، فيتسارعون إلى دفع أسلحتهم وآلاتهم ليصلحها، ويقبلون على التجارة معه خوفًا، فإذا فعلوا ذلك ونفقت سوقه امتنع عن الذهاب، وإنما يقول ذلك تخويفًا لهم، حتى قيل: إذا سمعت بسرى القين، فاعلم أنه مصبح. والأصل: سعد القين، بالرفع على الوصف، والقين: كل عمال بالحديد. قوله: (وبالنظرة الحمقاء)، وهي النظرة الأولى، لأن الرؤية لا تصل في بدء الأمر إلى الوصف إلا على الإجمال ثم على التفصيل، ولهذا قيل: فلان لم يمعن النظر، وكذا سائر الحواس. وإن السمع يدرك من تفاصيل الصوت في المرة الثانية، مل لم يدركها في الأولى، قال ابن المقرب: إذا ما نساء الحي رحن فإنها .... لها النظرة الأولى عليهن والعقب يقول: إنها النهاية في الجمال، لا تزداد في عين الرائي إلا حسنًا، لأن أول النظرة لا يميز بها الرائي حسن المرأة من قبحها، ومن أدام فيها النظر أمن من ذلك.

ويجم بصره، ثم يعاود ويعاود، ثم إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شيء من فطور. [{ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 5]. {الدُّنْيَا}: القربى؛ لأنها أقرب السموات إلى الناس، ومعناها: السماء الدنيا منكم. والمصابيح: السرج، سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح، فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها {بِمَصَابِيحَ}، أي: بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، وضممنا إلى ذلك منافع آخر: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجم بصره)، يقال: جم الفرس جمًا وجمامًا؛ إذا ذهب إعياؤه، ويقال: أجمم نفسك يومًا أو يومين. قوله: (بأثقاب المصابيح)، الجوهري: "ثقبت النار تثقب ثقوبًا وثقابة؛ إذا اتقدت، وشهاب ثاقب، أي: مضي". قوله: (فقيل: ولقد زينا)، عطف على قوله: "سميت بها الكواكب"، وقوله: "والناس إلى آخره: اعتراض. الراغب: أما قوله: {ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات: 6]، فإشارة إلى الزينة التي تدرك بالبصر التي يعرفها الخاصة والعامة، يدل عليه قوله تعالى: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]. وقال: الزينة الحقيقة ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة،

أنا جعلناها لأعدائكم الشياطين الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر؛ قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به. وعن محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه. وقوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] من النفسية، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، فقد حمل على الخارجية، لما روي أن قومًا كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا بها عنه، وقيل زينة الله هي الكرم المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال: وزينة المرء حسن الأدب". قوله: (قال قتادة: خلق الله النجوم)، وفي صحيح الإمام البخاري عن قتادة تعليقًا، قال: "خلق الله هذه النجوم لثلاث، إلى قوله: فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به". وفي رواية رزين: "وتكلف ما لا يعنيه، وما لا علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء

والرجوم: جمع رجم: وهو مصدر سمي به ما يرجم به. ومعنى كونها مراجم للشياطين: أن الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها؛ لأنها قارة في الفلك على حالها، وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار، والنار ثابتة كاملة لا تنقص. وقيل: من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب، ومنهم من يخبله. وقيل: معناه: وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون. {وأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا. [{ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصِيرُ * إذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ * إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وأَجْرٌ كَبِيرٌ} 6 - 12]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والملائكة. وعن الربيع مثله وزاد: والله ما جعل الله في نجم حياة أحد، ولا رزقه، ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب، ويتعللون بالنجوم"، وأورده صاحب "جامع الأصول" في كتابه، ولبعضهم: لك ألف معبود مطاع أمرهم .... دون الإله وتدعي التوحيدا قوله: (ظنونًا ورجومًا بالغيب)، الراغب: "الرجام: الحجارة، والرجم: الرمي بها، قال تعالى: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]، ويستعار للرمي بالظن والتوهم، وللشتم وللطرد نحو: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]، {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، أي: لأقولن

{ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي: ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم {عَذَابُ جَهَنَّمَ} ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك. وقرئ: "عذاب جهنم" بالنصب عطفا على {عَذَابَ السَّعِيرِ}. {إذَا أُلْقُوا فِيهَا} أي: طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة، ويرمى له، ومثله قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا}: إما لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، أو من أنفسهم، كقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشَهِيقٌ} [هود: 106]، وإنما للنار تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق {وهِيَ تَفُورُ} تعلي بهم غليان المرجل بما فيه. وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيك ما تكره. والشيطان الرجيم: المطرود، والمراجمة: المسابة الشديدة، استعارة كالمقاذفة، والترجمان: تفعلان، منه". قوله: (بالنصب، عطفًا على {عَذَابَ السَّعِيرِ})، قال الزجاج: "أي: أعتدنا لهم عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم". قال أبو البقاء: "قرئ: {عَذَابُ} بالرفع على الابتداء، والخبر "للذين"، ويقرأ بالنصب عطفًا على {عَذَابَ السَّعِيرِ} ". قوله: (وجعلت كالمغتاظة عليهم)، الراغب: "الغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قبله، قال تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل: عمران: 119]، فإذا وصف الله تعالى به، فإنها يراد به الانتقام. والتغيظ: هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع، كما قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، والغضب: ثوران دم

ويقولون: فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء، إذا وصفوه بالإفراط فيه. ويجوز أن يراد: غيظ الزبانية. {أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ} توبيخ يزدادون به عذابا إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم. وخزنتها: مالك وأعوانه من الزبانية {قَالُوا بَلَى} اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، وأنهم لم يؤتوا من قدرة كما تزعم المجبرة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القلب إرادة الانتقام"، ولذلك جاء: "اتقوا الغضب فإنه جمرة في قلب ابن آدم، ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمزة عينيه". قوله: (يتميز غيظًا ويتقصف غضبًا)، الراغب: "الميز والتمييز: الفصل بين المتشابهات، يقال: مازه يميزه ميزًا وميزه تمييزًا. والتمييز يقال تارة للفصل، وتارة للقوة التي في الدماغ، وبها تستنبط المعاني، ومنه يقال: فلان لا تمييز له، ويقال: انماز وامتاز، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]، وتميز كذا: انفصل وانقطع، قال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} ". قوله: (لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة)، يريد أن قولهم: {بَلَى} تقرير للمنفي، و {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} قول بالموجب، يعني أن الله تعالى ما أبقى من الإرشاد والهداية شيئًا إلا فعل وقولهم {فَكَذَّبْنَا وقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ}، إقرار بأن التكذيب إنما نشأ من قبل أنفسهم. تلخيصه: أنهم أتوا من قبل أنفسهم لا من قضاء الله وقدره. واعلم أن الجواب والسؤال مبني على ظاهر الحال، وإثبات الكسب للعبد. وقولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} إثبات للقدر. قال الإمام: "احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، قالوا: "لو" تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره، فدلت الآية

وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده. فإن قلت: {إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} من المخاطبون به؟ قلت: هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين، على أن النذير بمعنى الإنذار، والمعنى: ألم يأتكم أهل نذير، أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار، كأنهم ليسوا إلا إنذارا؛ وكذلك {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ}، ونظيره قوله تعالى: {إنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أي: حاملا رسالته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل، ولا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة، فالمراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية". قوله: (واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به) فيه إشارتان إلى مذهبه: إحداهما: في إيقاع"خلاف" مفعول "واختيارهم" إشارة إلى أن اختيارهم وإرادتهم غلب اختيار الله وإرادته. وثانيها: في عطف "وأمر به وأوعد" على" ما اختار الله" على سبيل البيان، إشعار بأن الإرادة والأمر متحدان. قوله: (على أن النذير بمعنى الإنذار)، يعني: إنما يستقيم هذا أن يكون من جملة قول الكفار، والمخاطبون الرسل، إذا جعل {نَذِيرٌ} في قوله تعالى: {أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ}، وقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} بمعنى الإنذار؛ إما بتقدير مضاف، أي: أهل نذير، أو مبالغة في أن الرسل عين الإنذار، لأن الخطاب بقوله: {أَنتُمْ} للجماعة. وأما إذا كان من كلام الخزنة للكفار، أو من كلام الرسل لهم، فلم نحتج إلى هذا التأويل، ويكون الوقف على قوله: {مِن شَيءٍ} حسنًا، وقوله: {إِنْ أَنتُمْ} استئناف على تقدير القول. قوله: ({إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ})، الجوهري: "ولم يقل: "رسل"، لأن فعولًا وفعيلًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع".

ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول: أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا، أو أرادوا بالضلال الهلاك، أو سموا عقاب الضلال باسمه، أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي: قالوا لنا هذا فلم نقبله. {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} الإنذار سماع طالبين للحق، أو نعقله عقل متأملين. وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. ومن بدع التفاسير: أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي. كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هاتين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة؛ وعدة المبشرين من الصحابة عشرة، لم يضم إليهم حادي عشر، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وإنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل)، الانتصاف: "إن أراد أن الأحكام التكليفية مستفادة من العقل، فهو من العقائد الفاسدة. وإن عنى أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة، والسمع يخص الأحكام الشرعية، فهو حق". قوله: (على مذهب أصحاب الحديث وأصحاب الرأي)، أي: أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم. قوله: (وعدة المبشرين)، يعني يلزم من هذا أن يتجاوزوا النص بالعشرة إلى أزيد، وفيه بحث، لأن عبد الله بن سلام وغيره من المبشرين ليسوا من العشرة.

{بِذَنْبِهِمْ} بكفرهم في تكذيبهم الرسل. {فَسُحْقًا} قرئ بالتخفيف والتثقيل، أي فبعدا لهم، اعترفوا أو جحدوا؛ فإن ذلك لا ينفعهم. [{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} 13 - 14]. ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهاد. ومعناه: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما، ثم إنه علله بـ {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به؟ ! ثم أنكر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فَسُحْقًا}: قرئ بالتخفيف والتثقيل)، الكسائي: بضم الحاء، والباقون: بإسكانها. قوله: (ظاهره الأمر بأحد الأمرين)، وهو كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقول كثير رحمه الله: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة قوله: (ثم إنه علله) إلى قوله: (ثم أنكر)، بيان النظم يعني: قوله: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لكونه عالمًا بما يسرونه ويجهرونه، وقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}، تعليل إحاطة علمه بجميع الكائنات جزئيًا وكليًا، ظاهرًا وباطنًا، على الإنكار. والجملة تذييل، وقوله: {وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} حال مقررة لجهة الإشكال، وإليه الإشارة أولًا بقوله: "ثم أنكر أن لا يحيط علمًا بالمضمر"، وثانيًا بقوله: "ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله". قال الإمام: "تدل الآية على أن العبد غير موجد لأفعاله، وذلك أنه تعالى لما قرر بأنه

أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر. {مَنْ خَلَقَ} الأشياء، وحاله أنه {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن. ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} منصوبا بمعنى: ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله؟ وروي أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء، فيظهر الله رسوله عليها، فيقولون: أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فنبه الله على جهلهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور، قال بعده: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}. وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقًا لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي القلوب وفي الصدور، فإنه لو لم يكن خالقًا لها، لم يكن قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} مقتضيًا كونه تعالى عالمًا بتلك الأشياء. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الأجسام، فيلزم منه أن يكون عالمًا بهذه الأشياء؟ قلنا: إنه لا يلزم من كونه خالقًا لغير هذه الأشياء، كونه عالمًا بها، لأن من يكون فاعلًا بشيء لا يجب أن يكون عالمًا بشيء آخر، نعم يلزم من كونه خالقًا لها كونه عالمًا بها، لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالمًا به". وقلت: إنما يلزم ذلك إن لم يقيد {خَلَقَ} بقوله: {وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}، فالمعنى: خلق الأجسام وهو عالم بأحوالها ما ظهر منها وما بطن، وإليه أشار المصنف بقوله: "المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن". والحق أن قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الآية: كما سبق، تذييل، ومن حقه أن يكون أعم من المذبل به وأشمل منه، فيدخل فيه دخولًا أوليًا، وحينئذ يجب أن يقال: ألا يعلم من خلق الأشياء كما قدره المصنف، لكن نخالف مذهبه على قرره الإمام أولًا. قوله: (ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ}) عطف على قوله: "من خلق الأشياء"، ف"من" على الأول: عبارة عن الفاعل، وعلى الثاني: عن المفعول به.

فإن قلت: قدرت في {أَلا يَعْلَمُ} مفعولا؛ على معنى: ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان {مَنْ خَلَقَ}، فعلا جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع؛ وهلا كان المعنى: ألا يكون عالما من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: {وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}، لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير، لم يكن معنى صحيحا؛ لأن {أَلا يَعْلَمُ} معتمد على الحال، والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والشيء لا يوقت بنفسه)، أي: المطلق لا يقيد بمطلق مثله، لأن الحال تقييد للفعل المطلق، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأن {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} أخص من العالم على ما فسره، فيكون التقدير: ألا يكون له أصل العلم وهو ينفذ علمه في الظاهر والباطن من خلقه، بل وجه المنع أن ليس الغرض إثبات أصل العلم لأنهم لم ينكروه، بل علمه بما أسروه، فلا بد من تقدير مفعول، ويدل عليه سبب النزول. وقلت: نظر صاحب "التقريب" أن اللطيف الخبير أخص من العالم على ما فسره بعيد، لأن قوله: "المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن" شامل للمعلومات كلها مفهومًا وازدواجًا على نحو: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فإن الخبير مثل الرحمن، واللطيف مثل الرحيم، لأن العلم المطلق شائع في جنسه، فتكون دلالته على أفراد الجنس، مثل دلالة لام الاستغراق، فيدخل فيه ما دل عليه {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}. قال صاحب "المفتاح" في الحالة المقتضية في ترك المفعول: "والقصد إلى نفس الفعل، [بـ] تنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو: فلان يعطي، إلي معنى: يفعل الإعطاء، أي:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بالطريق المذكورة في إفادة اللام للاستغراق". وقال حجة الإسلام: "إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف". والخبير: هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبرها. وهو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة، سمي خبرة، وسمي صاحبها خبيرًا. وقال الأزهري: قال الله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111]، أي عليم. ويقال "خبرت الأمر أخبره خبرًا، أي: علمته، وما لي به خبر، أي: علم". فلما تقرر اتفاق العبارتين على ذلك التقدير صح ما قاله، على أن المقام يقتضي إثبات معلوم خاص، وهو ما دل عليه: {وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}. الانتصاف: "هذه الآية رد على الزمخشري، فإن العبد لا يخلق أفعال نفسه لأنه لا يعلمها، وهو استدلال بنفي اللازم؛ استدل بثبوت الخلق له تعالى على ثبوت العلم؛ فالوجه في الآية أن {مَنْ} فاعل، ومفعول العلم محذوف وهو السر والجهر، وضمير {خَلَقَ} محذوف عائد إليه، تقديره: ألا يعلم السر والجهر من خلقهما؟ وغير هذا الوجه تكلف". وقلت: هذا نظر دقيق، يعني: في تخصيص ذكر الخالق دون سائر الأسماء في مقام إثبات

[{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وإلَيْهِ النُّشُورُ} 15]. المشي في مناكبها: مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباء عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك. وقيل: مناكبها: جبالها، قال الزجاج: معناه سهل لكم السلوك في جبالها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل. وقيل: جوانبها، والمعنى: وإليه نشوركم، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلم، إشعار بأن الخالق ينبغي أن يكون عالمًا بما يخلقه وبتفاصيله، وفيه إدماج لمعنى أن العبد غير خالق لأفعاله لأنه لا يعلمها في الأزل. قوله: (في الذل)، الذل بالكسر: اللين وهو ضد الصعوبة، يقال: دابة ذلول بينة الذل والذل بالكسر: مصدر الذلول، والذل بالضم: مصدر الذليل. قوله: (لم يترك)، أي: : لم يترك بقية من التذليل. قوله: (وقيل: مناكبها جبالها)، فعلى هذا: المجاز في المناكب وهي الجبال وحدها، الأساس: "ومن المجاز: سرنا في منكب من الأرض والجبل: في ناحية". فقوله: {ذَلُولاً} تشبيه لذكر المشبه والمشبه به، أي: الأرض والذلول. وقوله: {مَنَاكِبِهَا}: استعارة تمثيلية أو تحقيقية، لأن القصد الأرض، إما ناحيتها أو جبالها؛ فنسبة الذلول إليها ترشيح، ونسبة المشي تجريد. الراغب: "المنكب: مجتمع ما بين العضد والكتف. ومنه استعير للأرض المنكب في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، كما استعير لها الظهر في قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، ومنكب القوم: رأس العرفاء، مستعار من الجارحة استعارة الرأس للرئيس، واليد للناصر".

[{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * ولَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَوَ لَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ الرَّحْمَنُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 16 - 19]. {مَّن فِي السَّمَاءِ} فيه وجهان: أحدهما من ملكوته في السماء؛ لأنها مسكن ملائكته، وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه. والثاني: أنهم كانوا يعتقدون التشبيه، وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء، وهو متعال عن المكان، أن يعذبكم بخسف أو بحاصب؟ كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل؟ إذا رأيته يركب بعض المعاصي! {فَسَتَعْلَمُونَ} قرئ: بالتاء والياء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يعذبكم بخسف أو بحاصب)، قال الراغب في "غرة التأويل": لم قدم التوعد بالخسف على التوعد بالحاصب؟ وأجيب أنه لما كانت أنه لما كانت الأرض التي مهدها لهم لاستقرارهم، يعبدون عليها غير خالقها، فعبدوا الأصنام التي هي من شجرها أو من حجرها، خوفوا بما هو أقرب إليهم. والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلمهم الطيبة، ومعارج أعمالهم الصالحة، لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم". قوله: ({فَسَتَعْلَمُونَ})، قرئ بالتاء وهي المشهورة، وبالتاء التحتانية شاذة.

{كَيْفَ نَذِيرِ} أي: إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم. {صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطتها صففن قوادمها صفا، {ويَقْبِضْنَ} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قلت: لم قيل: {ويَقْبِضْنَ}، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح. {مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ الرَّحْمَنُ} بقدرته وبما دبر لهن من القوادم والخوافي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {فَسَتَعْلَمُونَ} الأخيرة [الملك: 29]: الكسائي بالياء التحتانية، والباقون بالتاء. قوله: (فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل)، الانتصاف: "ويلاحظه {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 18 - 19]، حيث لم يقل: مسبحات". قوله: (من القوادم والخوافي)، قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشرة في كل جناح، والخوافي: ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح.

وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو، {إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. [{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ} 20 - 21]. {أَمَّنْ} يشار إليه من الجموع ويقال {هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ} الله إن أرسل عليكم عذابه {أَمَّنْ} يشار إليه ويقال: {هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}، وهذا على التقدير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا على التقدير)، أي: هذا التأويل على تقدير جمع من الجموع في الذهن لمفهوم {جُندٌ} , وجعله مشارًا إليه، قال في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]: "قد تصور فراق بينهما، فأشار إليه، وجعله مبتدأ وأخبر عنه، ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث". وعلى هذين الوجهين ينبني كلامه هاهنا، وإلى الثاني أشار بقوله: "ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان"، والقرينة حضورها بين أيديهم يعبدونها. والفرق بين الوجهين، أن الكفرة ما كانوا يعتقدون وجود جمع غير الأصنام ينصرونهم ويرزقونهم، فوجب أن يقدر ويفرض بخلاف الأصنام، يدل عليه قوله في الوجه الثاني: "لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون". هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام ولا تتبع الأوهام، لأن التقدير: هذا التأويل الذي ذكرته مبني على أن المشار إليه جند مقدر مفروض، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان، فلا يكون حينئذ مقدرًا مفروضًا. قال أبو البقاء وصاحب "الكشف": "من" مبتدأ، و {هَذَا} خبره، و {الَّذي} وصلته

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نعت لـ {هَذَا}، و {يَنصُرُكُم} نعت لـ {جُندٌ} محمول على اللفظ، ولو جمع على المعنى لجاز". فعلى هذا "من" استفهامية، فلا يجوز أن يكون "أم" منقطعة، لئلا يلزم اجتماع استفهامين؛ فلذلك قال القاضي: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي}، عديل لقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوا}، على معنى: أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، ولم تعلموا قدرتنا على تعذيبكم بنحو خسف وإرسال حاصب، أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه؟ فهو كقوله: {أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43]، إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصركم، إشعارًا بأنهم اعتقدوا هذا القسم. وقلت: الظاهر من كلام المصنف أن "من" موصولة، و {هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} صلتها، على تأويل: "ويقال: هذا الذي يرزقكم"، لأنه عطف تفسيري للصلة، فلو كانت استفهامية لكانت داخلة في حيز القول، وكأن تقديره: يقال في حقه: من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله، فحينئذ يحتمل أن تكون"أم" متصلة، والقرينة محذوفة بشهادة سياق الكلام، كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133]. ولكن الوجه أن يكون "أم" متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ}، فالمعنى: آلله الذي له هذه الأوصاف الكاملة والقدر الباهرة، ينصركم وينجيكم من الخسف والحصب وغيرهما إذا أصابتكم، أم الذي يشار إليه ويقال في حقه: هذا الحقير؛ الذي تزعمون أنه جندلكم ينصركم من دون الله؟ آلله الرزاق ذو القوة المتين يرزقكم في السنين المجدبة، أم الذي يقال في حقه:

ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند الناصر والرازق، ونحوه قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا} [الأنبياء: 43]. {بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ} بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق لثقله عليهم فلم يتبعوه. [{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وإلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 22 - 24]. يجعل (أكب) مطاوع (كبه)، يقال: كببته فأكب، من الغرائب والشواذ. ونحوه: فشعت الريح السحاب فأقشع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا الضعيف المهين؛ الذي تدعون أنه يرزقكم؟ ثم أوقع {إنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ} اعتراضًا، وضعًا للمظهر موضع المضمر تسجيلًا على غرورهم، وتجهيلًا بعد تجهيل. ويمكن أن تجعل "أم" منقطعة ويقال: قل يا محمد، الم تنظروا في أمثال هذه الصنائع العجيبة، حتى تعرفوا أنه هو وحده قادر على الخسف، وإرسال الحاصب، وعلى إنجائكم منها؟ ثم أضرب عن ذلك، وقيل: بل أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن، أي: لا تسأل عن ذلك لأنه مفروغ عنه؛ فإنهم كانوا إذا حزبهم خطب عظيم، دعوا الله مخلصين له الدين، دون شهدائهم وأصنامهم، بل سل عن هذا تقريعًا وتوبيخًا. قوله: (ونحوه قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43]، مثل للوجه الثاني، وهو أن يكون المشار إليه الأصنام.

وما هو كذلك؛ ولا شيء من بناء (أفعل) مطاوعا، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة "كتاب سيبويه"؛ وإنما (أكب) من باب (أنفض، وألام)، ومعناه: دخل في الكب، وصار ذا كب؛ وكذلك أقشع السحاب: دخل في القشع، ومطاوع كب وقشع: أنكب وانقشع. فإن قلت: ما معنى {يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ} وكيف أقابل {يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}؟ قلت: معناه: يمشي معتسفًا في مكان متعاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكبا، فحاله نقيض حال من يمشي سويا، أي: قائما سالما من العثور والخرور، أو مستوى الجهة قليل الانحراف، خلال المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو. ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما هو كذلك)، رد لمن يجعل "أكب" مطاوع "كبه". قوله: (من باب أنفض وألام)، الجوهري: "أنفض القوم: إذا هلكت أموالهم، وأنفضوا أيضًا_ مثل أرملوا_: إذا فني زادهم، وألام الرجل: إذا أتى بما يلام عليه". قوله: (في مكان متعاد)، الجوهري: "نمت على مكان متعاد؛ إذا كان متفاوتًا ليس بمستو، يقال: هذه أرض متعادية ذات حجرة ولخاقيق. الجحرة بكسر الجيم وفتح الحاء: جمع حجر، واللخقوق: شق الأرض". قوله: (أو مستوي الجهة)، عطف على قوله: "قائمًا". قوله: (هكذا وهكذا)، بيان انحرافه، أي: يمينًا وشمالًا، وهما منصوبان على المصدر، أو على الظرف. قوله: (ويجوز أن يراد)، عطف على قوله: "معناه: يمشي معتسفًا" يعني: طريق مراعاة

فلا يزال ينكب على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدى له، وهو مثل للمؤمن والكافر. وعن قتادة: الكافر أكب على معاصي الله تعالى فحشره الله يوم القيامة على وجهه، وعن الكلبي: عني به أبو جهل بن هشام. وبالسوي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: حمزة بن عبد المطلب. [{ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللَّهِ وإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} 25 - 27]. {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للوعد، والزلفة: القرب، وانتصابها على الحال أو الظروف، أي: رأوه ذا زلفة أو مكانا ذا زلفة. {سِيئَتْ وجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة، وكلحوا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقابل بين قوله تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى}، وبين قوله: {أَمَّن يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، هو أن الماشي على الطريق إما أن يكون صحيح البصر أو فاقده. وعلى الأول: الطريق+ إما أن يكون معتسفًا غير مستو، والسالك إما أن يكون غير عارف بالطريق، فيعثر كل ساعة فيخر على وجه مكبًا، أو يكون عارفًا خريتا يمشي في هذا الطريق قائمًا سالمًا من الخرور والعثور. وإما أن يكون متعبدًا مستوي الجهة، والعارف يمشي فيها سويًا، والجاهل ينحرف فيها هكذا وهكذا. وعلى الثاني ظاهر. واعلم أن {سَوِيًا} إذا فسر بـ"قائما"، كان التقابل بينه وبين {مُكِبًا} ظاهرًا، وإذا فسر بـ"مستوي الجهة" أي: جهة مستويًا كان معنويًا، وكان {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} كالتأكيد له، كما أن {عَلَى وجْهِهِ} تأكيد لـ {مُكِبًا}. وإذا جعل {سَوِيًا} بمعنى "قائمًا"، كان تأكيدًا معنويًا. قوله: (المهتدي له)، اللام متعلق بـ"المهتدي"، والضمير يعود إلى "الطريق"، وهو في مقابلة "لا يهتدي إلى الطريق"؛ فاستعمل "الهدى" تارة بـ"إلى"، وأخرى باللام.

وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب. {وقِيلَ} القائلون: الزبانية {تَدَّعُونَ} تفتعلون؛ من الدعاء، أي تطلبون وتستعجلون به. وقيل: هو من الدعوى، أي: كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون. وقرئ: "تدعون". وعن بعض الزهاد: أنه تلاها في أول الليل في صلاته، فبقي يكررها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر، ولعمري إنها لوقادة لمن تصور تلك الحالة وتأملها. [{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 28]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: كنتم بسببه تدعون)، يريد أن {بِهِ} متعلق بـ {تَدَّعُونَ}، وهو إما بمعنى الدعاء، والباء صلته للتضمين، أو بمعنى الدعوى والباء للتسبيب. قوله: (وقرئ: "تعدعون")، قال ابن جني: "وهي قراءة أبي رجاء، والحسن، وقتادة وغيرهم. أي: هذا الذي تدعون الله أن يوقعه بكم، كقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] ". قوله: (لوقاذة)، بالذال المعجمة، الجوهري: "وقذه يقذه وقذًا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، وشاة موقوذة: قتلت بالخشبة". وقيل: الآية المتلوة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}، قال الواحدي: "معنى الآية: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟ أي: أنه لا رجاء لكم كما للمؤمنين". ولعل الزاهد التالي في صلاته ذهب إلى أن القائل بهذا إذا كان رسول الله القائل بهذا إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة الكرام مع جلالتهم، فما بالنا؟

كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين: إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار؟ لابد لكم منه، يعني: إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه. أو أن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم والآخذين بحجزكم من النار؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والإدالة للإسلام)، الجوهري: "الإدالة: الغلبة، اللهم أدلني على فلان وانصرني عليه". واعلم أن قوله تعالى: {فَمَن يُجِيرُ}، جزاء للشرط على سبيل الاستخبار مع الإنكار، وذكر فيه وجوهًا ثلاثة، جعل في الوجهين الأخيرين لكان من الإهلاك والإجارة جزاء وشرطًا على حياله، وفي الأول جعل الجزاء مشتركًا، لأنه أخذ الزبدة من المعطوف والمعطوف عليه في الجزاء، وجعلهما كالشيء الواحد، وهو تربص إحدى الحسنيين مفسر بهما أو بالموت، ولذلك أتى في الجواب بقوله: "فأنتم ما تصنعون؟ ". وأما قوله: "فمن يجيركم"، فجملة مستأنفة مبينة للجواب. وحاصل الوجوه الثلاثة راجع إلى أن هناك والرحمة في الآية إما مؤولان بالشهادة والنصرة، لأن الحسنيين في قوله تعالى: {إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] مفسر بهما، أو بالموت وما يقابله من الإمهال، أو بالعذاب وما يقابله من الرحمة. قوله: (أو إن أهلكنا)، عطف على قوله: "إما أن نهلك". قوله: (بعد موت هداتكم والآخذين بحجزكم)، الهداة: جمع الهادي، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو مقتبس مما روينا عن البخاري رحمه الله، ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة

فإن المقتول على أيدينا هالك؟ أو أن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؛ وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له؟ [{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 29]. فإن قلت: لم أخر مفعول {آمَنَّا} وقدم مفعول {تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: لوقوع {آمَنَّا} تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم، كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: {وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} خصوصا، لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلمًا أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها". الاقتحام في الشيء: إلقاء النفس فيه برغبة، والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار، وحجزة السروايل معروفة. قوله: (لوقوع {آمَنَّا} تعريضًا بالكافرين)، يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: فمن يجيركم، لأن الشرط {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ}، فعدل إلى المظهر إشعاراً بأن الكفر هو سبب الهلاك، وأن الإيمان هو الوسيلة في النجاة، ثم جيء بقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} جوابًا عن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَن مَّعِيَ} على سبيل التبكيت، أي: هو الرحمن يجيرنا لأنا آمنا به ولم نكفر كما كفرتم. ولما لم يكن المقصود في الإبراد نفي الشرك وإثبات التوحيد، لأن الكلام في الإهلاك والإنجاء، جيء بقوله: {آمَنَّا بِهِ} على ظاهره.

[{قل أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَاتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} 30]. {غَوْرًا} غائرا ذاهبًا في الأرض. وعن الكلبي: لا تناله الدلاء، وهو وصف بالمصدر كعدل ورضا. وعن بعض الشطار أنها تليت عنده فقال: تجئ به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه، نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: {وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}، فالتقديم لأن مقام الخلاص والنجاة يقتضي ناجيًا وناصرًا، وهم كانوا متكلين على الرجال والأموال، فقيل: نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمن توكلنا خصوصًا، والحمد لله رب العالمين. قوله: (وعن بعض الشطار)، جمع شاطر، وهو الخبيث الذي عجز أهله. وفي الحواشي: أنه عنى به محمد بن زكريا المتطبب، والله تعالى أعلم بصحته. تمت السورة حامدًا لله سبحانه وتعالى ومصليًا على رسوله. * * *

سورة ن

سورة ن مكية وهي اثنتان وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم [{ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ} 1]. قرئ: {ن والْقَلَمِ} بالبيان والإدغام، وبسكون النون وفتحها وكسرها، كما في {ص}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة ن اثنتان وخمسون آية، مكية إلا {إنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {يَعْلَمُونَ} [17 - 33] مدنية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي قوله: (قرئ: {ن والْقَلَمِ}، بالبيان والإدغام)، وفي "التيسير": "ورش وأبو بكر وابن عامر والكسائي، يدغمون الهجاء في الواو، ويبقون الغنة في {يس}، وكذلك في {ن والْقَلَمِ}. غير أن عامة أهل الأداء من المصريين، يأخذون في [{ن}] مذهب ورش هناك

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالبيان، والباقون بالبيان للنون في السورتين". قال الزجاج: "والمختار إدغام النون في الواو، كانت النون ساكنة أو متحركة، لأن الذي جاء في التفسير يباعدها من الإسكان والتبيين، لأن من أسكنها وبينها فإنها يجعلها حرف هجاء، والذي يدغمها فجائز أن يدغمها وهي مفتوحة. وجاء في التفسير أن "نون": الحوت الذي دحيت عليه سبع الأرضين، وجاء أيضًا أن النون: الدواة، ولم يجئ في التفسير كما فسرت حروف الهجاء"؛ فالإدغام، كانت حرف هجاء أو لم تكن جائز، والتبيين والإسكان لا يجوز أن يكون فيه غلا حرف هجاء. وقال المهدوي في "تعليل القراءات": "طس": من قرأ بإظهار النون من هجاء "سين" عند الميم، فحجته أن السكون مقدر في حروف التهجي؛ فإذا قلت: "طسم"، فالسكون مقدر على الطاء وعلى السين وعلى الميم، ولذلك لم يعرب. ونظير ذلك أسماء الأعداد في قولهم: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، فيسكنون آخر كل اسم من هذه الأسماء، وهم واصلون لما قدروا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوقوف على كل اسم منها، ولذلك جاز قطع ألف الوصل من قولهم: اثنان؛ إذ هي في حكم الابتداء. فعلى ما قلنا: تكون "النون" من هجاء "سين" في حكم الانفصال من الميم، وكذلك القول: والإدغام لا يصح مع الانفصال، وإنما يصح مع الاتصال. ومن أدغم، فإنه راعى اللفظ لما اتصلت النون الساكنة من هجاء "سين" بالميم، وكذلك القول في "يس" و"ن". وإذا علم هذا، فلم لا يجوز أن يقال: إن حكم التبيين في "نون"، وأنه اسم للدواة أو الحوت كما جاء في الأثر، حكم أسماء الأعداد في إجراء الوصل مجرى الوقف؟ وأما الإدغام فظاهر. وأما قوله: "ما أدري أهو وضع لغوي أو شرعي؟ "، فلعله يرد ما نقل عن حبر الأمة أنه قال: "هو الحوت الذي على ظهره الأرض"، وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكبلي، وقال الحسن وقتادة والضحاك: "هو الدواة"، رواه محيي السنة في "المعالم". هذا وقد مر في الفواتح أن "صاد" و"قاف" و"نون" أسماء للسور ويتأتى فيها الإعراب. وقال أيضًا: "إن مثل "نون" نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف، وانتصابها بفعل مضمر"، أي: اذكر نون وأقسم بالقلم. وقال: "الجر أيضًا جائزٌ

والمراد هذا الحرف من حروف المعجم، وأما قولهم: هو الدواة، فما أدرى أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما، فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين؟ وإن كان علما فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلابد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به، وجب إن كان جنسا أن تجره وتنونه، ويكون القسم بداوة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم. وإن كان علما أن تصرفه وتجره، أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث. وكذلك التفسير بالحوت: إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علما لليهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب، والنهر في الجنة نحو ذلك. وأقسم بالقلم: تعظيما له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإضمار باء القسمية، لا بحذفها". فعلى التبيين والإدغام، لأجراء الوصل مجرى الوقف كما مر آنفًا. قوله: (من حروف المعجم)، قيل: المعجم هاهنا: مصدر، أي: حروف الإعجام، يعني: حروف إزالة العجمة، يقال: أعجم الحرف، أي: أزال عجمته وأبان. قوله: (فأين الإعراب)، قيل: هذا تقسيم وليس بسؤال. والمعنى بقوله: "في تأليف الكلام "، أن وضع الدواة موضع {ن}، ينبغي أن يكون صحيحًا فيما يرجع إلى التأليف، وليس كذلك على ما تبين. قلت: قوله: "والمراد هذا الحرف من حروف المعجم"، يرد قولهم: هذا تقسيم. قوله: (لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة)، قال الإمام: "وفيه قولان:

ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف. {ومَا يَسْطُرُونَ} وما يكتب من كتب، وقيل: ما يسطره الحفظة، و"ما" موصولة أو مصدرية، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم، أو سطرهم، ويراد بهم كل من يسطر، أو الحفظة. [{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وإنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 2 - 3]. فإن قلت: بم يتعلق الباء في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وما محله؟ قلت: يتعلق بـ "مجنون" منفيا، كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستويا في ذلك الإثبات والنفي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحدهما: أن المقسم به هو هذا الجنس، وهو واقع عل كل قلم يكتب في السماء والأرض، قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5]، فمن بتيسير الكتابة بالقلم، كما من بالنطق فقال: {خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4]. ووجه الانتفاع به أنه ينزل الغائب منزلة المخاطب، فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب. والثاني: هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر: "أول ما خلق الله القلم"". وقلت: ويؤيد الأول قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ}، قال الراغب: "أصل القلم: القص من الشيء الصلب، كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قلم، يقال للمنقوض: نقض.

استواءهما في قولك: ضرب زيد عمرا، وما ضرب زيد عمرا: تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدة؛ ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك؛ ولم تمنع الباء أن يعمل "مجنون" فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي. والمعنى: استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخص ذلك بما يكتب به وبالقدح الذي يضرب به، وجمعه أقلام، قال تعالى: {ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ}، وقال تعالى: {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44]، أي أقداحهم. وقوله تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]، تنبيه لنعمته على الإنسان بما أفاده من الكتابة". قوله: (تعمل الفعل مثبتًا ومنفيًا)، قال الزجاج: {أَنتَ} اسم {مَا}، و {بِمَجْنُونٍ} الخبر، و {بَنِعْمَةِ رَبِّكَ} موصول بمعنى النفي. انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما تقول: أنت بنعمة الله فهم، وما أنت بنعمه بجاهل. وهذا جواب لقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] " قوله: (ما أنت بمجنون منعمًا عليك بذلك)، أي: منعمًا عليك بنفي الجنون. ولو جعل مطلقًا بأن يقال: ما أنت بمجنون منعمًا عليك بالنبوة والفهم، وكمال العقل وسائر ما أنعم عليك من الفضائل؛ لجاز، وهذا جواب القسم. وعلى هذا: {بَنِعْمَةِ رَبِّكَ} كان صفة ل"مجنون"، فقدم وصير حالًا. وقال محيي السنة: "إنك لا تكون مجنونًا، وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك. وقيل: هو كما يقال: وما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه: ما أنت بمجنون

وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزل. {وإنَّ لَكَ} على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه {لأَجْرًا} لثوابا {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير مقطوع كقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، أو غير ممنون عليك به، لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لك". ويمكن أن يقال: إن الباء قسمية، والجملة معترضة. قوله: (والشهامة)، الجوهري: "شهم الرجل بالضم شهامة، فهو شهم، أي: جلد ذكي الفؤاد". قوله: (لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء)، الانتصاف: "ما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التفسير، حيث قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله"، قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وهذا من سوء الأدب". وقلت: المراد من قوله: {غَيْرَ مَمْنُونٍ}: غير ممنون عليك لأني كريم، ومن شيمة الأكارم أن لا يمنوا على إنعامهم: قال: سأشكر عمرًا إن تراخت منيتي .... أيادي لم تمنن وإن هي جلت وأنشد المصنف رحمه الله تعالى لنفسه:

{وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4]. استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات من قومه وحسن مخالفته ومداراته لهم. وقيل: هو الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وعن عائشة رضي الله عنها: أن سعد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} "؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإن امرأ أسدى إلى صنيعة .... وذكرنيها مرة لبخيل وفي "نوابغ الكلم": "صنوان: من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن". وفيها: "طعم الآلاء أحلى من المن، وهو أمر من الآلاء من المن". وأما الحديث الذي أورده صاحب"الانتصاف"، فرويناه عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، واعملوا أنه لن ينجو منكم أحد بعمله"، قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"، أي: إلا أن يسترني الله بما؛ مأخوذ من غمد السيف. قوله: (الممضات)، الجوهري: "أمضي الجرح إمضاضًا: إذا أوجعك". قوله: (قالت: كان خلقه القرآن)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود والإمام أحمد بن حنبل والدارمي والنسائي وابن ماجه، عن سعد بم هشام: قلت لعائشة رضي الله عنهما: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست نقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن

[{فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} 5 - 6]. {المَفْتُونُ} المجنون، لأنه فتن: أي محن بالجنون. أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خلق نبي الله كان القرآن. الحديث، وليس فيه ذكر {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. قال شيخنا شيخ الإسلام قي "العوارف": "قولها رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"، فيه سر كبير غامض؛ وذلك أن النفوس مجبولة على طبائع وغرائز من البهيمية والسبعية والشيطنة، والله تعالى بعظيم عنايته، نزع نصيب الشيطان منه صلوات الله عليه، لقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، ولحديث انشرح الصدر، وبعد هذا النزع، بقيت للنفس الزكية النبوية بقايا صفات البشرية رحمة للخلق، فاستمدت البقايا من الصفات بظهورها فيه صلوات الله عليه، بتنزيل الآيات المحكمات بإزائها لقمعها، تأديبًا من الله رحمة الله رحمة له خاصة وللأمة عامة، موزعا نزول الآيات على الأيام والأوقات عند ظهور الصفات، قال الله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، فلما تحركت النفس الشريفة عند كسر رباعيته وقال: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم"، أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، فاكتسى القلب لباس الاصطبار، فلما توزعت الآيات على ظهور الصفات، صفت الأخلاق النبوية بالقرآن، ليكون خلقه القرآن؛ ولذا ورد: "إنما أنسى لأسن"، تأديبًا لنفوس الأمة وتهذيبًا ورحمة".

وهم الفتان للفتاك منهم، والباء مزيدة. أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أي بأيكم الجنون، أو بأي الفريقيين منكم المجنون، أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؟ أي: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم؟ وهو تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما، وكذلك كقوله تعالى {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر: 26]. [{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ * ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 7 - 9]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (للفتاك منهم)، متعلق بقول مضمر، أي: المفتون المجنون، لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخييل بعض الجن، وهم الفتان، يقولون: الفتان: للفتاك منهم. قوله: (والباء مزيدة)، قال الزجاج عن أبي عبيدة: "إن الباء مزيدة، أي: أيكم المفتون ومثله: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج .... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي: نرجو الفرج، وليس كذلك؛ بل معناه: نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج، أو نرجو النصر بالفرج"، ثم ذكر الوجهين الآخرين. قوله: (أي: في أيهما يوجد)، قال صاحب "التقريب": فالباء بمعنى "في".

{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا عن سبيله، {وهُوَ أَعْلَمُ} بالعقلاء وهم المهتدون، أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه أعلم بجزاء الفريقين. {فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ} تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة، وآلهتم مدة، ويكفوا عنه غوائلهم. {لَوْ تُدْهِنُ} لو تلين وتصانع {فَيُدْهِنُونَ}. فإن قلت لم رفع {فَيُدْهِنُونَ} ولم ينصب بإضمار "أن" وهو جواب التمني؟ قلت: قد عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ} [الجن: 13] على معنى: ودوا لو تدهن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يكون وعيدًا ووعدًا)، عطف على قوله: "إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة". فعلى الأول: مجرى على الاستدراج وإرخاء العنان؛ لأن قوله {فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} وارد عليه، لأن المسلمين كانوا يعلمون أن المفتونين كانوا أضدادهم، نحو قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. المعنى: لا أنتم أيها المؤمنون تدرون ولا الكفرة، من ضل عن سبيله ومن اهتدى، والله على الحقيقة هو أعلم. وعلى الثاني: إن الله يعلم أحوال المؤمنين وما هم عليه من الهدى، فيثيبهم بذلك، ويعلم كفر المعاندين وضلالهم فيعاقبهم عليه. قوله: (معاصاتهم)، وهي نقبض المطاوعة. الجوهري: "يقال: عصاه يعصيه عصيانًا ومعصية، وعاصاه أيضًا؛ مثل: عصاه". قوله: ({فَلا يَخَافُ})، أي: فهو لا يخاف، ولهذا لم يجزم.

فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون؛ لطمعهم في إدهانك؛ قال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودوا لو تدهن فيدهنوا. [{ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ * إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} 10 - 16]. {حَلاَّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: {ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]. {مَّهِينٍ}: من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز، أو أراد الكذب لأنه حقير عند الناس. {هَمَّازٍ} عياب طعان؛ وعن الحسن: يلوي شدقية في أقفية الناس. {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لمن اعتاد الحلف)، أي: كفى بكثرة الحلف سوء خلق وعيبًا، أنه قدمه على جمع العيوب، وفيه تعظيم للحلف، وبيان أنها أقبح معايبه وأعظمها. قوله: (مضرب) أي: مبالغ أو كثير الضرب بين الناس، مشتت لشملهم مفرق لجميعهم. الأساس: "ومن المجاز: ضرب في الأرض، وفي سبيل الله، وضرب الدهر بيننا: فرقنا، قال ذو الرمة: فإن تضرب الأيام يا مي بيننا .... فلا ناشر سرًا ولا متغير

والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدني بعض العرب تشببي تشبب النميمة .... تمشي بها زاهرا إلى تميمة {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} بخيل، والخير: المال. أو {مَنَّاعٍ} أهله الخير وهو الإسلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتقول: لحا الله زمانا ضرب ضربانه، حتى سلط علينا ظربانه، وجاء فلان يضرب بشر: يسرع". قوله: (تشببي تشبب النميمة)، يخاطب النار، أي: التهبي التهاب النميمة. زهرا وتميمة: جارتان. وهذا من ملح العرب، أي: توقدي توقد النميمة، وهو فعل لازم: شب النار فتشبت. الراغب: "النم: إظهار الحديث بالوشاية. واصل النميمة الهمس والحركة الخفية، ومنه: أسكت الله نامته، أي: ما ينم عليه من حركته". قوله: ({مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ}: بخيل)، الراغب: "المتع: يقال في ضد العطية، يقال: رجل مانع ومناع، أي: بخيل، قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون: 7]، وقال: {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ}. وقد يقال في الحماية، ومنه: مكان منيع وقد منع، وفلان ذو منعة، أي: عزيز ممتنع على من يرومه، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 7]، أي: ما حماك؟

فذكر الممنوع منه دون الممنوع، كأنه قال: مناع من الخير. قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، كان موسرا، وكان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم وللحمته: من أسلم منكم منعته رفدي، عن ابن عباس. وعنه: أبو جهل، وعن مجاهد: الأسود بن عبد يغوث، وعن السدي: الأخنس بن شريق، أصله في تثقيف وعداده في زهرة، ولذلك قيل زنيم. {مُعْتَدٍ} مجاوز في الظلم حده. {أَثِيمٍ} كثير الآثام. {عُتُلٍّ} غليظ جاف؛ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد ما عد له من المثالب والنقائص {زَنِيمٍ} دعي، قال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم .... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: ما الذي صدك وحملك على ترك ذلك". قوله: (فذكر الممنوع منه)، أي: الخير، (دون الممنوع) أي: الأهل؛ وذلك أن القصد ذمه، وأنه ممن يمنع الخير، وليس القصد أن الممنوع من هو. نحو: شتم الأمير، وقطع اللص. وقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [بس: 14]، وقد سبق بيانه. والفرق أن المناع في الوجه الأول يحب الخير، أي: المال، ويمنعه من الناس. وفي الثاني يبغض الخير، أي الإسلام، ويمنع الناس منه. قوله: (وأنت زنيم نيط)، أي: مؤخر في آل هاشم كما يؤخر الراكب القدح خلفه. النهاية: "وفي الحديث: "ولا يجعلوني كقدح الراكب"، أي: لا تؤخروني في الذكر، لأن الركب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من ترحاله ويجعله خلفه".

وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت الناشئ منها، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة ولد الزنى ولا ولده ولا ولد ولده". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان الوليد دعيًا في قريش)، الدعي: الذي ينسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد كانوا يفعلونه. "سنخهم": أصلهم. قوله: (لا يدخل الجنة ولد الزنى)، هذا أشد وعيدًا من لو قيل: يدخل النار؛ لأنه يرجي منها الخلاص، فهو تغليظ وتشديد على ولد الزنية، تعريضًا للزاني لئلا يورط في السفاح، فيكون سببًا لشقاوة نسمة تزنيه. ومما يؤذن أنه تغليظ وتهديد: ما روينا عن الدارمي، عن عبد الله ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا قمار، ولا منان ولا مدمن حمر". وفي رواية أخرى للدارمي: "ولا ولد زنية"، بدل "قمار"؛ حيث سلك ولد الزنية في قرن العاق والمنان، ولا ارتياب أنهما ليسا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدًا. وعن ابن ماجه، عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن ولد الزنا، فقال: "نعلان أجاهد بهما خير من أن أعتق ولد الزنا". على انه يجوز عتقه؛ روينا عن مالك، عن

و {بَعْدَ ذَلِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]. وقرأ الحسن: "عتل" رفعا على الذم، وهذه القراءة تقويه لما يدل عليه بعد ذلك. والزنيم: من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها، لأنه زيادة معلقة بغير {أهله أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {ولا تُطِعْ}، يعني: ولا تطعه مع هذه المثالب، لأن كان ذا مال، أي: ليساره وحظه من الدنيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي هريرة، أنه سئل عن الرجل يكون عليه رقبة، هل يعتق فيها ابن زنا؟ فقال: نعم، ذلك يجزئه. قوله: (و {بَعْدَ ذَلِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]). يعني: لفظة {ذَلِكَ} هاهنا للتراخي في المرتبة، كـ {ثُمَّ} هناك، ولذلك قال: "جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه". قوله: ({أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {ولا تُطِعْ})، قال صاحب "الكشف": "ولا يجوز أن يتعلق ب {عُتُلٍّ}، لأنه قد وصف بقوله: {زَنِيمٍ} "، وقد قال سيبويه: هذا ضارب ظريف زيدًا: ممتنع. فإذن، الواجب أن تكون "اللام" من صلة مضمر في القراءة بالاستفهام وتركه. والمعنى: لأن كان ذا مال وبنين يجحد وينكر ويكفر؟ !

ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى: لكونه متمولا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا، ولا يعمل فيه {قَالَ} الذي هو جواب {إِذَا}، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. وقرئ: "أن كان" على الاستفهام على: آلأن كان ذا مال وبنين كذب؟ أو تطيعه لأن كان ذا مال؟ وروى الزبيري عن نافع: إن كان بالكسر والشرط للمخاطب، أي: لا تطع كل حلاف شارطا يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا يعمل فيه)، أي: في {أَن كَانَ ذَا مَالٍ}. قوله: (وقرئ: "أأن؟ " على الاستفهام)، أبو بكر وحمزة: كذا، وابن عامر: بهمزة ومدة، والباقون سوى ابن ذكوان: بهمزة واحدة على الخبر. قوله: (ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه)، يعني: تعليق الطاعة بالمال هاهنا، كالترجي في قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} طه: 44]. ظاهر اللفظ الترجي، والتعليق للمتكلم وهو الله تعالى، وفي الحقيقة للمخاطب، وهو محمد وموسى وهارون، صلوات الله عليهم. أي: عاملاه معاملة من لا يعلم العاقبة يا موسى وهارون، ولا. تطع يا محمد كل حلاف يشترط يساره. وعن بعضهم: حاصل هذا الشرط، أنه نهي عن طاعة مشروطة لا نهي مشروط. وقلت: الظاهر أن الشرط تعليل، لأن من نهي أن يطاع، وهو الوليد، كان ذال مال

{سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا الأنف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، فكيف بها على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أباعرة في وجوهها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الوجوه" فوسمها في جواعرها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبنين، كما سبق في قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]؛ قال: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا} متعلق بـ {لَا تَتَّخِذُوا}. وقد مر أن الشرط كالتعليل، ولذلك جعله حالًا من فاعل "لا تطع" حيث قال: "شارطًا يساره"، وصرح بحرف التعليل في قوله: "لغناه"؛ فرجع معنى "إن" المكسورة إلى معنى "أن" المفتوحة. قال القاضي: قرئ: "إن كان" بالكسر، على أن شرط الغنى في [النهي عن] الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد. قوله: (وإذالة)، أي: إهانة. قوله: (في جواعرها)، الجوهري: "الجاعرتان: موضع الرقمتين من است الحمار، وهو مضرب الفرس بذنبه على فخذيه".

وفي لفظة {الخُرْطُومِ} استخفاف به واستهانة. وقيل معناه: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلك عداوة بن بها عنهم. وقيل: خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وقيل: سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعا، فلا تخفى، كما لا تخفى السمة على الخرطوم. وعن النضير بن شميل: أن الخرطوم الخمر، وأن معناه: سنحده على شربها، وهو تعسف؛ وقيل للخمر: الخرطوم، كما قيل لها: السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي لفظ {الخُرْطُومِ} استخفاف به)، لأنه لو قال: على الأنف لكان استهانة، فلما قال: على الخرطوم، كان أبلغ في الإهانة، لأن الخرطوم لا يكاد يستعمل إلا في أنف الفيل والخنزير من بين الدواب. قوله: (خطم يوم بدر بالسف)، قيل: خطم البعير: أن تضع عليه الخطام. قوله: (أن الخرطوم الخمر)، روي عن المصنف: أنهم يضعون الرطب بعضه فوق بعض زمان القطاف، فما خرج من دسته بدون العصر، واتخذ منه حمر يسمونه: سلافة؛ لخروجه أولًا، وخرطوما، كأنه خرطوم. قوله: (وأن معناه: سنحده على شربها، وهو تعسف)، الانتصاف: "صدق؛ فإن الوليد قتله النبي صلى الله عليه وسلم مباشر في بدر، فلم يدرك زمن تحريم الخمر، ووعد الله حق".

[{إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * ولا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا ويْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إنَّا إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ العَذَابُ ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 17 - 33]. إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ} وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: لم يرد بالتعسف إلا أن حمل {سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} على ذلك المعنى بتكلف بعيد عن الذوق. أما الوليد بن المغيرة، فمن الخمسة المستهزئين؛ روى ابن عباس أنهم ماتوا كلهم قبل بدر، وذكره المصنف في آخر "الحجر". وأما الوليد الذي حد على الخمر، فهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان من أمه، أسلم يوم الفتح، وولاه عثمان الكوفة في ولايته، ثم حده في شرب الخمر وعزله عنها، ذكره صاحب" جامع الأصول".

فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا ونحن أولو عيال، فحلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} في السدف خفية عن المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقيل: كانوا من بني إسرائيل. {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصبح مبكرين {ولا يَسْتَثْنُونَ} ولا يقولون: إن شاء الله. فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟ قلت: لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء، من حيث إن معنى قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد، {فَطَافَ عَلَيْهَا} بلاء أو هلاك {طَائِفٌ} كقوله تعالى: {وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42]، وقرئ: "طيف" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في السدف)، الظلمة إذا اختطت بالضياء فهو السدف. قوله: (لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء)، قال الإمام: "قال جماعة من المفسرين: هو "إن شاء الله تعالى". يقال: حلف فلان يمينًا ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ولا ثنية ولا استثناء، كله واحد. وأصلها من الثني، وهو الكف والرد؛ وذلك أن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد انعقاد ذلك اليمين". وقال القاضي: "وإنما سمي استثناء لما فيه من الإخراج، غير أن المخرج خلاف المذكور". وعن بعضهم: نظيره قولك: جاءني القوم سوى زيد، وهذا ليس باستثناء حقيقة، لكن لما كان معنى "سوى" المكان، قال تعالى: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 58]، صار المعنى: جاءني القوم مكان زيد، فلما كان معناه هذا هو معنى الاستثناء، سمي استثناء.

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كالمصرومة لهلاك ثمرها، وقيل: الصريم: الليل، أي احترقت فاسودت، وقيل: النهار أي: يبست وذهبت خضرتها، أو لم يبق فيها شيء؛ من قولهم: بيض الإناء إذا فرعه، وقيل: الصريم: الرمال. {صَارِمِينَ} حاصدين. فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم؛ وما معنى (عَلَى)؟ قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه، كان غدوا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة ويراح، أي: فأقبلوا على حرثكم باكرين {يَتَخَافَتُونَ} يتسارون فيما بينهم. وخفى، وخفت، وخفد: ثلاثتها في معنى الكتم؛ ومنه الخفدود للخفاش {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أن: مفسرة. وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول، أي: يتخافتون يقولون لا يدخلنها؛ والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، كقولك: لا أرينك هاهنا. الحرد: من حاردت السنة: إذا منعت خيرها، وحاردت الإبل: إذا منعت درَّها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من قولهم: ببض الإناء)، الأساس: "بيض الإناء: ملأه وفرغه. وعن بعض العبر: ما بقي لهم صميل إلا بيض، أي: سقاء يابس إلا ملئ". قوله: (من حاردت السنة إذا منعت خيرها)، الراغب: "الحرد: المنع عن حدة وغضب، قال تعالى: {وغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25]، أي: على امتناع من أن يتناولوه قادرين على ذلك. ونزل فلان حريدًا، أي: متمعنا عن مخالطة القوم، وهو حريد المحل. وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درها. وحرد: غضب، وحرده كذا". يغدى عليه بالجفنة ويراح: مثله قيل في حق المطلب: تغدو درته على السفهاء، وجفنته على الحكماء.

والمعنى: وغدوا قادرين على نكد لا غير عاجزين عن النفع، يعني أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرين على نفعهم، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة. أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين، بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها، أي غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع، أو لما قالوا: اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم، عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها، قلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد، و {قَادِرِينَ} من عكس الكلام للتهكم، أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: وغدوا قادرين على نكد)، اعلم أن {عَلَى} إما متعلق بـ {قَادِرِينَ} بـ"غدوا"؛ فإذا علق بـ {قَادِرِينَ} فالكلام فيه التخصيص، لتقديم المعمول على العامل، يخلو حينئذ: إما أن يراد بالحرد منع الخير والنكد أو الغضب. فعلى الأول: إما أن يترك الحرد مطلقًا، فهو المراد من قوله: "قادرين على نكد لا غير عاجزين عن النفع"، كقولهم: فلان لا يملك إلا الحرمان، ولا يقدر إلا على الخيبة، على المبالغة، قال: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض .... على الماء خانته فروج الأصابع أو يجعل الحرد مقيدًا بجنتهم، فهو المراد من قوله: "أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين" إلى آخره. و"على محاردة" متعلق بـ"قادرين"، قدم عليه. وعلى الثاني: وهو أن يراد بالحرد الحنق والغضب؛ المعنى ما قال: "لم يقدروا إلا على حنق وغضب"، وفيه الحصر.

{عَلَى حَرْدٍ} ليس بصلة {قَادِرِينَ}، وقيل: الحرد بمعنى الحرد، وقرئ: "على حرد" أي: لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض، كقوله تعالى: {يَتَلاوَمُونَ} [القلم: 30] وقيل: الحرد: القصد والسرعة؛ يقال: حردت حردك، وقال: أقبل سيل جاء من أمر الله .... يحرد حرد الجنة المغله وقطا حراد: سراع، يعني: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها وزي منفعتها عن المساكين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا علق بـ {وغَدَوْا}، فلا: يخلو: إما أن يراد به منع الخير والنكد أو لا. فعلى الأول: يقدر متعلق {قَادِرِينَ}: ما عزموا عليه من الصرام والمنع، أي: غدوا قادرين على نيل مرادهم وحصول بغيتهم، وهم إنما حصلوا على الخيبة والحرمان، كقوله: عتابه السيف، وإليه الإشارة بقوله: "من عكس الكلام للتهكم". وعلى الثاني: فالحرد إما بمعنى القصد والسرعة، ومتعلق {قَادِرِينَ}: ما عزموا عليه من الصرام والمنع، كما قدره بقوله: "وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة"، إلى قوله: "نحن نقدر على صرامها"، أو هو اسم لجنتهم، ومتعلق {قَادِرِينَ} ما سبق. وهذا المعنى عني بقوله: "غدوا على تلك الجنة، قادرين على صرامها عند أنفسهم". ويحتمل أن يراد بـ {قَادِرِينَ}: مقدرين، وإليه الإشارة بقوله: "أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم". والتقسيم يحتمل أن يراد أكثر من ذلك، لكن اقتصرنا على ما عليه الكتاب. قوله: (المغلة)، أي: الجنة التي لها الدخل والثمار. قوله: (زي منفعتها عن المساكين)، أي: منعها عنهم على التضمين، الجوهري: "قولهم: زوى فلان المال عن وارثه زيًا".

وقيل: {حَرْدٍ} علم للجنة، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان {قَالُوا} في بديهة وصولهم {إنَّا لَضَالُّونَ} أي ضللنا جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها؛ فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا {أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وخيرهم من قولهم: هو من سطة قومه، وأعطني من سطات مالك، ومنه قوله تعالى: {أُمَّةً وسَطًا} [البقرة: 143]. {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم! والدليل عليه قوله: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَوْسَطُهُمْ}: أعدلهم وخيرهم)، الراغب: "وسط الشيء، بالتحريك، ماله طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت: وسطه صلب. ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة كشيء ينفصل بين جسمين، نحو وسط القوم كذا. والوسط بالتحريك، تارة يقال فيما له طرفان مذمومان، كالجرد الذي بين البخل والسرف، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنصفة، نحو {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وعلى ذلك: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}. وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم، كالخير والشر، ويكنى به عن الرذل نحو قولهم: فلان وسط من الرجال، تنبيها على أنه خرج من حد الخير". قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن معنى {لَوْلا تُسَبِّحُونَ}، تحريض على التوبة من تلك

فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مفارقة الخطيئة، ولكن بعد خراب البصرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العزيمة الخبيثة، وحث على التصدق على المساكين، والمسارعة إلى قطع تلك العزيمة التي هي محض الظلم، تداركهم حين لا ينفعهم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. قوله: (بعد خراب البصرة)، وسبب خرابها على ذكره صاحبا "الكامل" و"التذكرة"، أنه في شوال سنة ست وخمسين ومئتين، وخرج في "البحرين" من ادعى أنه من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتبعه جماعة من أهلها، ثم انتقل إلى البادية وادعى النبوة، وزعم أن سحابة أظلته، ونودي منها: اقصد البصرة. ولما قصدها، استمال "الزنج" الذين يعلمون في السباخ وأطمعهم في مواليهم، وما زال يدعوهم ويقبلون إليه للخلاص من الرق، حتى اجتمع عنده جمع كثير، فأتاه مواليهم فأمر العبيد فضربوا مواليهم، ثم خطبهم وصلى بهم، وذكرهم ما كانوا عليه من الشقاء وسوء الحال، وأن الله تعالى أنقذهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم الأموال والعبيد، ثم استولى أمرهم حتى دخلوا "الأبلة" و"عبادان" و"الأهواز"، فقتلوا فيها ونهبوا وأحرقوا.

وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء، لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. وعن الحسن: هو الصلاة، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة؛ وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر، ولكانت لهم لطفا في أن يستثنوا ولا يحرموا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي سنة سبع وخمسين دخلوا البصرة، وقتلوا فيها مقتلة عظيمة، لا يحصى عدد من قتلوا فيها، وأحرقوا الجامع والمدينة، ثم دخلوا "واسط" وملكوها، ثم شخص إليهم الموفق من بغداد، وجرى له معهم أمور وحروب لا يمكن وصفها حتى قهرهم. يضرب في الأخذ في التدارك بعد فوات أوانه. قوله: (وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء)، يدل عليه قوله تعالى: {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * ولا يَسْتَثْنُونَ}، وكان هذا هو الأوسط حرضهم على القول بـ"إن شاء الله" حينئذ، فلم يرفعوا له رأسًا، فذهب الآن يؤنبهم عليه. وجوز التعبير عن الاستثناء بالتسبيح التقاؤهما في معنى التعظيم، لأن المفوض مثبت لذاته الأقدس الحول والقوة، وينفيهما عن غيره تعظيمًا، والمنزه ينفي عنه النقائص تبجيلًا وتكريمًا؛ قال القاضي: "سمي الاستثناء تسبيحًا، لأنه ينزهه عن أن يجري في ملكه ما لا يريده". قوله: (ولكانت لهم لطفًا)، يعني: كما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كذلك سبب لاستنزال لطف الله، والتوفيق على الطاعات، وعلى ما به الفلاح وعد الخيبة. وفيه أن الصلاة رأس كل الخيرات، وتاركها خائب خاسر في الدنيا والآخرة.

{سُبْحَانَ رَبِّنَا} سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء {يَتَلاوَمُونَ} يلوم بعضهم بعضا؛ لأن منهم من زين، ومنهم قبل، ومنهم من أمر بالكف وعذر، ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت وهو راض. {أَن يُبْدِلَنَا} قرئ بالتخفيف والتشديد {إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} طالبون منه الخير راجون لعفوه {كَذَلِكَ العَذَابُ} مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا {ولَعَذَابُ الآخِرَةِ} أشد وأعظم منه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من زين)، أي: زين المنع وحرمان المساكين، ومنهم من قبل النصيحة من أوسطهم. قوله: (وعذر)، الجوهري: "التعذير في الأمر: التقصير فيه". قوله: ({أَن يُبْدِلَنَا}: قرئ بالتخفيف والتشديد): نافع وأبو عمرو: مشددًا، والباقون: مخففًا. قوله: (مثل ذلك العذاب بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة: عذاب الدنيا)، قال الإمام: "المقصود أنه تعالى قال: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ * إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، أي: لأجل أن الله أعطاه المال والبنين كفر بالله. كلا، بل الله إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله تعالى عليه؛ لأن أصحاب الجنة لما أتوا هذا القدر اليسير من المعصية، دمر الله على جنتهم، فيكف حال من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية؟ أو أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء عنها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل مكة، لما خرجوا إلى بدر، وأرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه، وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا. ولما خوف الكفار قال مستأنفًا:

وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيرا منها. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا. [{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 34] {عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا. [{أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} 35 - 39]. كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ". وعن بعضهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} في محل النصب على الحال، أي: أثبت مجهولًا عندهم. قوله: (ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا)، فإن قلت: من أين جاء هذا التخصيص؟ قلت: جاء من جانب المقام التعريضي، من تقديم الخبر _أعني {لِلْمُتَّقِينَ} _ على المبتدأ، ومجيء الآية بعد ذكر أصحاب الجنة وأحوال قريش، وإردافه بقوله: {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}. ونظيره في المشروب_ وإن لم يبلغ هذا المبلغ_ قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47].

قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا، فقيل: أنخيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج؟ كان أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} من السماء {تَدْرُسُونَ} في ذلك الكتاب أن ما تختارونه وتشتهونه لكم، كقوله تعالى {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 156 - 157]. والأصل: تدرسون أن لكم ما تتخيرون، بفتح "أن" لأنه مدروس؛ فلما جاءت اللام كسرت. ويجوز أن تكون حكاية للمدروس، كما هو، كقوله: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ}. وتخير الشيء واختاره: أخذ خيره، ونحوه: تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله. لفلان على يمين بكذا: إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلما جاءت اللام كسرت)، قال صاحب "الكشف": فلا يوهمنك كسر "إن" الوقف على ما قبلها والبداية بها، وهذا كقولهم: علمت: إن في الدار لزيدًا". قوله: (ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو)، قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر؛ إذ لفظ {فِيهِ} لا يساعده، يعني: يصح أن يقال: إن لكم كتابًا تدرسون فيه أن لكم ما تشتهونه. يعني: مؤداه ومعناه مسطور فيه، ولا يجوز أن يراد: إن هذا اللفظ بعينه مكتوب؛ إذ لفظة {فِيهِ} زائدة". ويمكن أن يكون صورة المكتوب فيه: إن لكم ما تختارونه، وقد سطرناه لكم في هذا الكتاب. قوله: (كما هو)، قيل: يجوز أن يكون نصبًا على الحال، و"ما" موصولة، و"هو" خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: كالذي هو هو أو كافة، و"هو"في موضع الابتداء والخبر محذوف، أي: حكاه كما هو عليه، وأن يكون "كما هو" نصبًا على المصدر، أي: كحكايتها الآن.

فإن قلت: بم يتعلق {إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ}؟ قلت: بالمقدر في الظرف، أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلى يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون. ويجوز أن يتعلق بـ {بَالِغَةٌ}، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم. وقرأ الحسن "بالغة" بالنصب على الحال من الضمير في الظرف {إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم؛ لأن معنى {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا}: أم أقسمنا لكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وافرة لم تبطل منها يمين)، فإن قلت: لم قال في الوجه الأول: "لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ"، وقي الثاني: "وافرة لم تبطل منها يمين"؟ قلت: لأنه إذا علق {إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} بالمقدر في {لَكُمْ}، يدخل الأجل في حكم الوجوب المستفاد من نفس الخبر ومتعلقه، أعني "لكم"، أصالة. وإذا علق بـ {بَالِغَةٌ}، وهي صفة للأيمان، يكون الكلام أصالة في الأيمان وبلوغها إلى ذلك اليوم، بأن تكون محفوظة من النقصان، مؤداة وافية تامة. ألا ترى كيف أهمل معنى {بَالِغَةٌ} في الأول واعتبره في الثاني؟ قوله: "إذا حكمناكم" شرط، جزاؤه ما دل عليه "لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ". تلخيص المعنى: أم لكم أيمان علينا بالغة أن نحكمكم، بأن تسووا بين المسلمين والمجرمين، ولا تخرج عن عهدتها إلا إذا حكمناكم يوم القيامة. أو أيمان وافية، فلان تؤدونها إلا إذا حكمناكم يوم القيامة. قوله: (وقرأ الحسن: "بالغة" بالنصب)، قال ابن جني: "يجوز أن تكون"بالغة" حالًا من الضمير في {لَكُمْ}، لأنه خبر {أَيْمَانٌ}، ففيه ضمير. أو حالًا من نفس الضمير في {عَلَيْنَا}،

[{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَاتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إن كَانُوا صَادِقِينَ} 40 - 41]. {أَيُّهُم بِذَلِكَ} الحكم {زَعِيمٌ} أي قائم وبالاحتجاج لصحته، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أناس يشاركونهم في القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه {فَلْيَاتُوا} بهم {إن كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم، يعنى: أن أحدًا لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به. [{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ويُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وهُمْ سَالِمُونَ} 42 - 43]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا جعلته وصفًا للأيمان لا متعلقًا بنفس الأيمان، لأنه لا يكون حينئذ فيه ضمير, ويجوز أن يكون حالًا من نفس {أَيْمَانٌ} وإن كانت نكرة، كما أجاز أبو عمرو وفي قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، أن يكون {حَقًّا} حالًا من {مَتَاعٌ}. قوله: (ناس يشاركونهم في هذا القول)، وهو: "إن أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه، لم يكن حالهم وحالنا، إلا مثل ما هي في الدنيا ... " إلى آخره. قال القاضي: "وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات، على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به لدعوتهم، من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب، تنبيهًا على مراتب النظر، ودفعًا لما لا سند له".

الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك، قال حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها .... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال ابن الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيىة وتبدي .... عن خدام العقيلة العذراء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: (على هذا لا يحسن أن تجعل عامل الظرف_أي: {يَوْمَ يُكْشَفُ} _: {فَلْيَاتُوا}. بل إما: اذكر، أو كان: كيت وكيت. قوله: (أخو الحرب) البيت، إنما سمي به لمباشرته الحرب كثريًا. والتشمير: مثل لشدة الأمر وصعوبة الخطب، وتقول: هو مباشر للحرب بمثل ما يباشره في الشدة والصعوبة ولا يتركها بحال. قوله: (تذهل الشيخ) البيت، الخدام: جمع خدمة، وهي الخلخال. تذهل: أي: تشغل، والفعل للغارة في قوله: كيف نومي على الفراش ولما .... تشمل الشام غارة شعواء أي: غارة قاسية. وإنما خص "الشيخ" بالذكر، لوفور عقله وممارسته الشدائد، أو لفرط محبته للأولاد. والعقلية من النساء: التي عقلت في بيتها، أي خدرت وجست. والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر، والفعل أيضًا للغارة. وفي "شعراء"و "العذراء" الإقواء.

فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} في معنى: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل؛ وإنما هو مثل في البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، والذي غره منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه "يكشف الرحمن عن ساقه" فأما المؤمنون فيخرون سجدا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: الفعل للعقيلة، وحذف التنوين عن "خدام" لالتقاء الساكنين، كقوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا والتقدير: وتبدي نسبتها، ليرجع الضمير إلى الغارة الموصوفة بقوله: تبدي. قوله: (ولا كشف ثم ولا ساق)، يعني: هو من الكناية الإيمائية، التي تؤخذ فيها الزبدة والخلاصة من المجموع، ولا ينظر إلى مفردات التركيب حقيقة ومجازًا، كما مر في قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وعن بعضهم: الكشف عن الساق بأسره عبارة عن الشدة، أما أن يكون الساق اسمًا للشدة، فلا. وقال: ومن الناس من يفسر الساق بالشدة، ويدعيه لغة، وليس بشيء. قوله: (حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه")، الحديث من رواية البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يكشف ربنا عن ساقه،

وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأن فيها السفافيد" ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن. فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} [القمر: 6]، كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل. وعن أبي عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما شبه حتى مثل، وهو مقاتل ابن سليمان، والآخر نفى حتى عطل، وهو جهم بن صفوان؛ ومن أحس بعظم مضار فقد هذا العلم، علم مقدار عظم منافعه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب لسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا". وقلت: ويمكن أن يكون الحديث بيانًا للآية، فلا تحتاج إلى التعريف المبين، بل التنكير أولى والتأويل. روى محيي السنة في "شرح السنة"، عن ابن عباس قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}: يوم كرب وشدة. وقال مجاهد: يكشف عن الأمر الشديد. والعرب تذكر الساق إذا أخبرت عن شدة الأمر وهوله. وسئل عكرمة عنه فقال: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحرب عن ساق". قوله: (السفافيد)، الجوهري: "السفود بالتشديد: الحديدة التي يشوى بها اللحم".

وقرئ: "يوم نكشف" بالنون، و"تكشف" بالتاء على البناء الفاعل والمفعول جميعا، والفعل للساعة أو للحال، أي: تشتد الحال أو الساعة، كما تقول: كشفت الحرب عن ساقها، على المجاز. وقرئ: "تكشف" بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف: إذا دخل في الكشف، ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وناصب الظرف: فليأتوا، أو إضمار (اذكر)، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "يوم نكشف"، بالنون، و"تكشف"، بالتاء على البناء للفاعل والمفعول)، المشهور: بالياء للمفعول، والبواقي: شواذ، قال صاحب "التقريب": في قراءة التاء مع البناء للمفعول، نظر؛ لأن فاعله {عَن سَاقٍ}، فكان حقه التذكير، كصرف"عن هند"، وجعل الفعل للساعة أو للحال، كأنه على تقدير البناء للفاعل لا للمفعول؛ إذ ليس معناه: تكشف الساعة والحال عن ساق، بل الكشف عن الساق عبارة عن الشدة، فقيل: إنما أنت لأن المعنى: تكشف عن ساق، و"عن" زائدة، ولا يخلو عن حزازة. وقلت: قوله "بل الكشف عن الساق عبارة عن الشدة" تحجير للواسع. نعم، وهو وجه حسن يصار إليه كما عليه أول كلام المصنف، فلم لا يجوز أن تثبت للساعة أو للحال الساق تخييلًا، بعد الاستعارة فيها على سبيل المكنية، سواء جعلت فاعلًا أو مفعولًا؟ كما يقال: كشف الله الساعة عن ساقها، وعليه كلام مجاهد كما سبق، وكلام

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن جني في قراءة ابن عباس: "يوم تكشف عن"، بالتاء، والتاء منتصبة، وروي عنه: "يوم تكشف" بالتاء مضمومة، أي: تكشف الشدة والحال الحاضر عن ساق. وهذا مثل، أي: تأخذ في أغراضها، ثم شبهت بمن أراد أمرًا وتأهب له، كيف يكشف عن ساقه؟ قال: كشف لكم عن ساقها .... وبدا من الشر الصراح فأضمر الحال والشدة لدلالة الموضع عليه. ونظيره من إضمار الفاعل لدلالة الحال عليه، مسألة الكتاب: إذا كان غدًا فأتني، أي: إذا كان من نحن عليه من البلاد في غد فأتني. وأما "تكشف" بتاء مضمومة، فعلى ذلك أيضًا، أي: تكشف الصورة هناك عن شدة".

أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، فحذف للتهويل البليغ، وأن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه. عن ابن مسعود رضي الله عنه: تعقم أصلابهم، أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض، وفي الحديث: "وتبقى أصلابهم طبقا واحدا"، أي: فقارة واحدة. فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت: لا يدعون إليه تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيرا لهم وتنديما على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود، وهم سالموا الأصلاب والمفاصل، ممكنون مزاحوا العلل فيما تعبدوا به. [{فَذَرْنِي ومَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 44 - 45}. يقال: ذرني وإياه، يريدون: كله إلي، فإني أكفيكه، كأن يقول: حسبك إيقاعا به أن تكل أمره إلي وتخلى بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد: حسبي مجازيا لمن يكذب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علي في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تعقم أصلابهم)، النهاية: "في حديث ابن مسعود: " [إن الله] يظهر للناس يوم القيامة، فيجر المسلمون للسجود، وتعقم أصلاب المنافقين فلا يسجدون"، أي: تيبس مفاصلهم ونصير مشدودة. والمعاقم: المفاصل".

استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه، واستدراج الله العصاة: أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقا إلى ازدياد الكفر والمعاصي {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، وهو الإنعام عليهم، لأنهم يحسبونه إيثارا لهم وتفضيلا على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم {وأُمْلِي لَهُمْ} وأمهلهم، كقوله تعالى {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا} [آل عمران: 178]. والصحة والرزق والمد في العمر: إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. وقيل: "كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه". وسمى إحسانه وتمكينه كيدا كما سماه استدراجا، لكونه في صورة الكيد حيث كان سببا للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك. [{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 46 - 47]. المغرم: الغرامة، أي: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومتسلقًا)، الجوهري: "تسلق الجدار، أي: تسوره". قوله: (وكم من مغرور بالستر)، يروى بكسر السين وفتحها, وعن بعضهم: الستر: ستر الله، والستر؛ بالفتح: مصدر: المستور. قوله: (وسمى إحسانه وتمكينه كيدًا كما سماه استدراجًا)، قال الإمام: "الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات".

فيثبطهم ذلك عن الإيمان {أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ} أي: اللوح {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون به. [{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نَادَى وهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 48 - 50]. {لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم {ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ} يعني: يونس عليه السلام {إذْ نَادَى} في بطن الحوت {وهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظا، ومن كظم السقاء: إذ ملأه والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في {تَدَارَكَهُ}. وقرأ ابن عباس وابن مسعود "تداركته" وقرأ الحسن: "تداركه" أي: تتداركه على حكاية الحال الماضية، بمعنى: لولا أن كان يقال فيه "تتداركه"، كما يقال: كان زيد سيقوم فمنعه فلان، أي: كان يقال فيه سيقوم. والمعنى: كان متوقعا منه القيام. ونعمة ربه: أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ الحسن: "تداركه"، أي: تتداركه)، قال ابن جني: "قرأ ابن هرمز والحسن: "تداركه"، مشددة، رواها أبو حاتم عن الأعرج لا غير، قال: وسئل عنها أبو عمرو، فقال: لا. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، لأنه فعل ماض، وليست فيها إلا تاء واحدة، ولا يجوز: تتداركه. قال ابن جني: هذا خطأ، وذلك أنه يجوز على حكاية الحال الماضية المنقضية، أي: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه، كما تقول: كان

وقد اعتمد في جواب {لَوْلا} على الحال- أعني قوله: {وهُوَ مَذْمُومٌ} - يعني: أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ العراء، ولولا توبته لكانت حاله على الذم. روي أنها نزلت بأحد حيث حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل به، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف. وقرئ: "رحمة من ربنا". {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فجمعه إليه، وقربه بالتوبة عليه، كما قال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهَدَى} [طه: 122]، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الأنبياء. وعن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه. [{وإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ * ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} 51 - 52]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زيد سيقوم، أي: كان متوقعًا منه القيام، فكذلك هذا، أي: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه نعمة من ربه انبذ بالعراء". أي: لولا هذه الحالة المرجوة له كانت من نعمة الله تعالى، لنبذ بالعراء. قوله: (وقد اعتمد في جواب {لَوْلا} على الحال)، يعني: أوقع {لَوْلا ... لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} مقيدًا بقوله: {وَهُوَ مَذْمُومٌ}. والمقصود الأولي منه الحال، ولولاه لم يكن لقوله: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} فائدة، لأنه نبذ فيه، ولذلك قال: "ولولا توبته لكانت حاله على الذم". قال القاضي: "الحال هو الذي اعتمد عليه الجواب لأنها المنفية دون النبذ". قوله: (يعني أن حاله كانت على خلاف الذم)، وعن بعضهم: أي حاله وقت النبذ كانت

{إن} مخففة من الثقيلة، واللام علمها. وقرئ: {لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها، وزلقه وأزلقه بمعنى، ويقال: زلق الرأس وأزلقه: حلقه، وقرئ: "ليزهقونك"؛ من زهقت نفسه وأزهقها، يعني: أنهم من شدة تحديفهم ونظرهم إليه شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك، من قولهم: نظر إلى نظر يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله، قال: يتقارضون إذا التقوا في موطن .... نظرا يزل مواطئ الأقدام وقيل: كانت العين في بني أسدـ فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء، فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله! إلا عانه، فأريد بعض العيانين على أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أر كاليوم رجلا! فعصمه الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مخالفة حال الابتداء؛ فإن حال الابتداء حال الأمة، ولذلك قيل فيه: {ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ}، وفي الآخرة لم يذم، ولم يكن حال الأمة. قوله: ({لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها)، بالفتح: نافع، والباقون: بالضم. قوله: (يتقارضون إذا التقوا) البيت، يقال: القرنان يتقارضان النظر، إذا نظر كل واحد منهما إلى صاحبه شزرًا. وكل أمر يجازى به الناس فهو قرض، وهما يتقارضان الثناء، أي: كل واحد منهما يثني على صاحبه، يقول: إذا التقوا في موطن ينظر كل واحد منهم إلى الآخر نظر حسد وحنق، حتى يكاد يصرعه، وهو الإصابة بالعين. وقوله: (مواطئ الأقدام: أي: الأقدام نفسها، والمراد: الموطئ من الأقدام، أي: تزل الأخامص. وأراد بالموطن: المعركة.

وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين، أن تقرأ هذه الآية. {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي القرآن، لم يملكوا أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة، {ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ} حيرة في أمره وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم، والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن {ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ} وموعظة {لِّلْعَالَمِينَ} فكيف يجنن من جاء بمثله؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دواء الإصابة بالعين)، عن مسلم والترمذي، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين". قوله: (والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن، {ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ})، جواب عن منكر مصر أن هذا القرآن ليس بذكر للعالمين من رب العالمين، بل هو من قبيل الجن والكهانة، وصاحبه مجنون كاهن، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 25 - 27]، فهو من باب إطلاق المسبب على السبب، لأن نسيته صلوات الله عليه إلى الجنون، لكون الملقى إليه من الجن بزعمهم، وإلا فهو أعقل الناس عندهم، كما قال: "وإلا فقد علموا أنه أعقلهم". تمت السورة حامدًا لله ومصليًا على رسوله. * * *

سورة الحاقة

سورة الحاقة إحدى وخمسون آية، وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم [{الْحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ * ومَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ} 1 - 8]. {الْحَاقَّةُ} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الحاقة اثنتان وخمسون آية، مكية بلا خلاف بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (حواق الأمور) يعني: أوساطها، الجوهري: "سقط فلان على حاق رأسه، أي: وسط رأسه، وجئته في حاق الشتاء، أي: وسطه". وقيل: الحاصل أنها إما من قولهم: حق الشيء

أو التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة، من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها وهو لأهلها، وارتفاعها على الابتداء، وخبرها {مَا الحَاقَّةُ} والأصل: الحاقة ما هي؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أهول لها، {ومَا أَدْرَاكَ} وأي شيء أعلمك ما الحاقة؟ يعني: أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، على أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا همه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك {مَا} في موضع الرفع على الابتداء، و {أَدْرَاكَ} معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. "القارعة": التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير ليدل على معنى القرع في {الْحَاقَّةُ}، زيادة في وصف شدتها؛ ولما ذكرها وفخمها، اتبع ذكر ذلك من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحق، بالكسر: ثبت. أو من قولهم: حققته أحقه، أي: عرفت حقيقته. أما على الأول، فإما أن يقال: سميت حاقة، لأنها ثابتة الوقوع واجبة المجيء. أو هو على تقدير حذف المضاف، أي: ذو الحاقة، لأن فيها الأمور الحواق من الحساب والثواب والعقاب. وأما على الثاني، فالقيامة سميت حاقة، بمعنى عارفة للأمور على المجاز، لأن الخلائق فيها تعرف الأمور، فجعل الفعل للقيامة وهو لأهلها. قال الواحدي: " {الحَاقَّةُ}: القيامة، في قول جميع المفسرين. وسميت بذلك، لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع". قوله: (ووضعت موضع الضمير)، أي: "القارعة" مظهر وضع موضع المضمر من غير

{بِالطَّاغِيَةِ} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة؛ واختلف فيها، فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم. وقيل: الطاغية مصدر كالعافية، أي: بطغيانهم؛ وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ}. والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة، وقيل: الباردة من الصر، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق لشدة بردها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لفظه السابق. وأصل المعنى: كذبت ثمود وعاد بها، فعدل إلى "القارعة" ليدل على القرع مزيدًا للتهويل. قوله: ({بِالطَّاغِيَةِ} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة)، اعلم أنه لم يسلك باللفظ سبيل ما وضع له من المعنى الحقيقي، على أنه هو الظاهر؛ فإن "الطاغية" عند أهل اللغة: الطغيان، فإسناده إليهم حقيقة كما يقال: أما ثمود، فأهلكوا بطغيانهم، لكن جعلت وصفًا لموصوف محذوف وعلى المجاز، أي: بالواقعة الطاغية، فحذف لرعاية التناسب بين القرينتين، لأن قرينتها: {وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}. قال صاحب "المفتاح": "قوله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}: العتو، هاهنا، مستعار استعارة الطغيان في المثال الأول". وقال الزجاج: "معنى {بِالطَّاغِيَةِ} عند أهل اللغة: بطغيانهم، و"فاعلة" قد يأتي بمعنى المصادر نحو: عافية وعاقبة. والذي عليه الآية أنهم أهلكوا بالرجفة

{عَاتِيَةٍ} شديدة العصف، والعتو استعارة، أو عتت على عاد، فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم. وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بلا كيل ولا وزن. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال، ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح؛ فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل"، ثم قرأ {إنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، "وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل"، ثم قرأ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الطاغية، كما قال: {وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، فقيل للشيء العظيم: عات وعانية، كقوله: {إنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ} ". وهذا أصل عظيم تنبني عليه أكثر المعاني في التنزيل، في أن رعاية النظم أولى بالمصير إليه من ظاهر اللفظ، ومن ثم قال: "وليس بذاك لعدم الطباق". قوله: (أو عتت على عاد) عطف على "عاتية شديدة العطف"، فعلى الأول: {عَاتِيَةٍ} مطلقة، وعلى الثاني: متعلقها محذوف. قوله: (سفية من ربح) أي: مرة، من سفت الريح. النهاية: "السافي: الريح التي تسفي التراب، وقيل للتراب الذي تسفيه الريح أيضًا: ساف، أي: مسفي، كماء دافق".

ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها. والحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم؛ كشهود وقعود، أو مصدر، كالشكور والكفور. فإن كان جمعا، فمعنى قوله: {حُسُومًا}: نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة، أو متتابعة هبوب الريا، ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء، كرة بعد أخرى حتى ينحسم. وإن كان مصدرا: فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، أي تحسم حسوما، بمعنى تستأصل استئصالا، أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم، أو يكون مفعولا له، أي سخرها للاستئصال، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولعلها عبارة) أي: العاتية على هذا التفسير كناية عن الشدة والإفراط فيها، لا أنها عتت على الخزان حقيقة. قوله: (حسمت كل خير واستأصلت)، الراغب: "الحسم: إزالة أثر الشيء، يقال: قطعه فحسمه، أي: أزال مادته، وبه سمي السيف حسامًا. وحسم الداء: إزالة بالكي. وقيل للشؤم المزيل لأثر من ناله: حسوم، قال تعالى: {وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، وقيل: حاسمًا خبرهم، وقيل: قاطعًا لعمرهم، وكل ذلك داخل في عمومه". قوله: (أو متتابعة) عطف على قوله: "نحسات". والجمع في {حُسُومًا} على الأول باعتبار المحسوم لقوله: "كل خير"، وعلى الثاني باعتبار نفسها. وعلى الأول يمكن أن يحصل حسم الجميع من غير التتابع، وعلى الثاني بالعكس، وقد مر في سورة القمر عند قوله: {في يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [من الآية: 19]، كلام في هذا المعنى. قوله: (حتى أتت عليهم). أي: أهلكتهم.

ففرق بين بينهم زمان .... تتابع فيه أعوام حسوم وقرأ السدي: حسوما" بالفتح حالا من الريح، أي: سخرها عليهم مستأصلة، وقيل: هي أيام العجوز؛ وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء، وأسماؤها: الصن والصنبر، والوبر، والآمر، والمؤتمر، والعلل، ومطفئ الجمر، وقيل: مكفئ الظعن. ومعنى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} سطلها عليهم كما شاء {فيهَا} في مهابها، أو في الليالي والأيام. وقرئ: "أعجاز نخيل" {مِّنْ بَاقِيةٍ} من بقية، أو أو من نفس باقية، أو من بقاء كالطاغية: بمعنى الطغيان. [{وجَاءَ فِرْعَوْنُ ومَن قَبْلَهُ والْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} [9 - 10] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ففرق بين بينهم) البيت، "بين" الأول مقحم تأكيدًا. وقيل: يحتمل أن يكون "بين" الثاني بمعنى الوصل؛ فالأول غير مقحم، وإن كان مقحمًا، فالوجه فتح "بين" الثاني، وإلا فالوجه الكسر. قوله: (وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء) قال ابن قتيبة الدينوري في "الأنواء": "وأيام العجوز في نوء الصرفة، ونوؤها آخر أنواء الشتاء، وهي عندهم خمسة أيام: صن، وصنير، ووبر، ومطفئ الجمر، ومكفئ الظعن. والبرد فيها يشتد وذلك لانصرافه، وبه سميت الصوفة، ويشبه ذلك السراج يشتد ضوؤه، قبل أن يطفأ". وقال الجوهري: "صنابر الشتاء: شدة برده، كذلك الصنبر بتشديد النون وكسر الباء، وبسكونها: يوم من أيام العجوز، والوبر أيضًا". وأما قول الشاعر:

{ومَن قَبْلَهُ} يريد: ومن عنده ومن تباعه، وقرئ: {ومَن قَبْلَهُ}، أي: ومن تقدمه. وتعضد الأولى قراءة عبد الله وأبي. "ومن معه"، وقراءة أبي موسى: "ومن تلقاءه". {والْمُؤْتَفِكَاتُ} قرى قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطأ، أو بالفعلة، أو الأفعال ذات الخطأ العظيم {رَّابِيَةً} شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، {لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39]. [{لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَةٌ} 11 - 12] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبآمر وأخيه مؤتمر فهما يومان من أيام العجوز، كان الأول يأمر الناس بالحذر، والآخر يشاورهم في الظعن أو المقام. والمعلل يوم من أيام العجوز، لأنه يعلل الناس بشيء من تخفيف البرد. "والكفاء بالمد والكسر، شقة أو شقتان تنصح إحداهما بالأخرى، ثم يحمل به مؤخر الخباء"، تقول: منه أكفأت البيت إكفاء. قوله: (وقرئ: {وَمِن قَبْلِهِ})، أبو عمرو والكسائي: بكسر القاف وفتح الباء، والباقون: بفتح القاف وإسكان الياء.

{حمَلْنَاكُمْ} حملنا آباءكم {فِي الجَارِيَةِ} في سفينة نوح؛ لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم {لِنَجْعَلَهَا} الضمير للفعلة، وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة {تَذْكِرَةً} عظة وعبرة. {أُذُنٌ واعِيَةٌ} من شأنها أن تعي وتحفظ ما سمعت به ولا تضيعه بترك العمل، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته، وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته، كقولك: أوعيت الشيء في الظرف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية: "سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي" قال علي رضي الله عنه: فما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى. فإن قلت: لم قيل: {أُذُنٌ واعِيَةٌ} على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم؛ وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله، فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين. وقرئ: "وتعيها" بسكون العين للتخفيف؛ شبه "تعي" بـ"كبد". [{فَإذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ * وحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وقَعَتِ الوَاقِعَةُ * وانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ * والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} 13 - 18]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وما كان لي أن أنسى)، أي: ولا يمكنني ولا ينبغي أن أنسى وإن تكلفت ذلك. قوله: (لا يبالي بهم بالة)، الجوهري: "الأصل: بالية، مثل: عافاه عافية؛ حذفوا الياء منها بناء على قولهم: لم أبل، وليس من باب الطاعة والطاقة". وقلت: لعله يعرض بأهل السنة المسلمين بالسواد الأعظم، كما طعن فيهم عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].

أسند الفعل إلى المصدر، وحسن تذكيره للفصل، وقرأ أبو السمال: "نفخة واحدة" بالنصب، مسندا الفعل إلى الجار والمجرور. فإن قلت: هما نفختان فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثني في وقتها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (معناه: أنها لا تثنى في وقتها) أي: تقع النفخة الأخرى بعدها بزمان، روي عن المصنف رحمه الله أنه قال: "النفخة: المرة، ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة، وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها، إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة، لا من حيث إنه نفخ، فنبه على ذلك بقوله: {وَاحِدَةٌ} ". فإن قلت: هذا مضاد لقول ابن الحاجب في "شرحه": "إن {نَفْخَةٌ} لم توضع للدلالة على الوحدة على حيالها، وإنما وضعت للدلالة على النفخ، والدلالة على الوحدة ضمن "لا"، مقصود بوضع اللفظ المركب له". قلت: لا مناقضة، لأن المصنف راعى مقتضى المقام، وأن مثل {نَفْخَةٌ} حامل لمعنيين: الجنسية والعدد. لما كان المعني الذي يساق إليه الحديث، وهو حدوث الأمر العظيم، اقتضى العدد، شفع بما يؤكد، فدل به على أن العناية به أتم. ولو قيل: ونفخ في الصور نفخة ولم يؤكدها، لم يحسن، وخيل أنه أثبت معنى النفخ لا المرة. ذكر نحوه في قوله: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51]. وابن الحاجب نظر إلى ظاهر اللفظ من غير اعتبار المقام، واستقلال النفخة في معنى ما وضعت له، وأن دلالاتها على الوحدة ضمن. وقوله: شفع بما يؤكد، ليس بنص على أن "الواحدة" تأكيد لا صفة، لمجيء الصفة المؤكدة على هذا النهج.

فإن قلت: فأي النفختين هي: قلت الأولى، لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس، وقد روي عنه أنها الثانية. فإن قلت: أما قال بعد: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب، فلذلك قيل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} كما تقول: جئته عام كذا؛ وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته. {وحُمِلَتِ} ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال، أو بخلق من الملائكة، أو بقدرة الله من غير سبب. وقرئ: "وحُمِّلت" بحذف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الكشف": {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} كقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51]، وقولهم: أمس الدابر لا يعود، ولا ينافي البيان كما عليه ظاهر كلام صاحب "المفتاح" في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51]، ولا التأكيد أيضًا؛ إذ التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة والتأكيد، بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني. قوله: (وقرئ: "وحملت"، بحذف المحمل) أي: بحذف ما حملها، وهو أحد الثلاثة المذكورة، من الريح أو الملائكة أو القدرة، فعدي في القراءة الأولى إلى المفعول بواسطة

المحمل وهو أحد الثلاثة. {فَدُكَّتَا} فدكت الجملتان: جملة الأرضين وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منثورا، والدلع أبلغ من الدق. وقيل فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، من قولك: اندك السنام إذا انفرش، وبعير أدك وناقة دكاء، ومنه: الدكان. {فَيَوْمَئِذٍ وقَعَتِ الوَاقِعَةُ} فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة {واهِيَةٌ} مسترخية ساقطة القوة جدا بعد ما كانت محكمة مستمسكة، {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يريد: والخلق الذي يقال له الملك، ورد إليه الضمير مجموعا في قوله: {فَوْقَهُمْ} على المعنى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البناء، وإليه الإشارة بقوله: "ورفعت من جهاتها بريح"، وفي الثانية بالتضعيف. قال ابن جني: "روي عن ابن عامر مشددة الميم، قال ابن مجاهد: ما أدري ما هذا". وقال ابن جني: "وهو صحيح واضح، وذلك أنه أسند الفعل إلى المفعول الثاني، حتى كأنه في الأصل: وحملنا قدرتنا، أو ملكًا من ملائكتنا، أو نحو ذلك، الأرض. ولو جئت بالمفعول الأول لأسندت الفعل إليه، فقلت: وحملت قدرتنا الأرض، ونحوه قولك: أليست زيدًا الجبة، فلو أقمت المفعول الأول مقام الفاعل، قلت: ألبس زيد الجبة. وإن حذفت المفعول الأول، أقمت الثاني مقامه، فقلت: ألبست الجبة. نعم، ويجوز أيضًا مع استيفاء المفعول الأول، أن يبنى الفعل للمفعول الثاني، فتقول: ألبست الجبة زيدًا، على طريق القلب للاتساع" تم كلامه. قوله: (والدك أبلغ من الدق)، الراغب: "الدك: الأرض اللينة السهلة، وقد دكه دكا.

فإن قلت: ما الفرق بين قوله: {الْمَلَكُ}، وبين أن يقال: "والملائكة"؟ قلت: الملك أعم من الملائكة، ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة؟ {عَلَى أَرْجَائِهَا} على جوانبها، الواحد رجا مقصور، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله تعالى: {وحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً}، أي: جعلت بمنزلة الأرض اللينة، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ". قوله: (الملك أعم من الملائكة) قال صاحب "التقريب": "لأن الجنس يقع على الواحد والكثير، والجمع لا يقع إلا على الكثير، فأفراد الجنس أكثر؛ فكلما وجد الكثير وجد الجنس ولا ينعكس"، وفيه نظر. وقال صاحب "الانتصاف": كل من المفرد والجمع معرف تعريف الجنس، فالواحد والجمع سواء". وقال في "الانتصاف": "استشهاد الزمخشري بقوله: "ما من ملك"، أنه أعم، ضعيف؛ فإنه ما حصل العموم إلا من النفي، قوله: "أعم من: ما من ملائكة"، لأن الأول ينفي عن كل واحد ومثله، والثاني ينفي عن كل جماعة، لا عن كل واحد". ومثله قول صاحب "المفتاح": "استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، ويتبين ذلك بأن ليس يصدق: لا رجل في الدار، في نفي الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: لا رجال في الدار".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: لا فرق بين المنفي والمثبت لما سبق في "البقرة"، أن استغراق الجنس في الواحد، بحسب تناوله الأفراد فردًا فردًا، إلى أن ينتهي إلى الواحد. وفي الجمع، يحتمل أن يكون وحدانه المجموع جمعًا جمعًا، إلى أن ينتهي إلى الاثنين أو الثلاثة. ولهذا قال صاحب "المفتاح": "ومن هذا يعرف لطف قوله: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4]، دون: وهن العظام، من حيث يوصل باختصار اللفظ إلى الإطناب". وقال البزدوي: "قولك: والله لا أتزوج النساء ولا أشتري العبيد: إن ذلك يقع على الأقل ويحتمل الكل، لأن هذا جمع صار مجازًا عن اسم الجنس؛ لأنا إذا أبقيناه جميعًا لغي حرف العهد، وإذا جعلناه جنسًا بقي اللام لتعريف الجنس، وبقي معنى الجمع من وجه في الجنس". ثم يقال لصاحب "الانتصاف": إن صح النفي في الاستشهاد كيف يصح في قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}؟ [الحاقة: 17]. وقال الراغب: "النحويون جعلوا "الملك" من لفظ

يعني: أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافتها، {ثَمَانِيَةَ} أي: ثمانية منهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية". وروي: ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مطرقون مسبحون. وقيل: بعضهم على صورة الإنسان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الملائكة، وجعلوا الميم زائدة. وقال بعض المحققين: هو من الملك، قال: والمتولي من الملائكة شيئًا من السياسات، يقال له: ملك بالفتح، ومن البشر يقا له: ملك بالكسر. قال: فكل ملك ملائكة من غير عكس، بل الملك هو المشار إليه بقوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ} [الذاريات: 4]، {والنَّازِعَاتِ} [النازعات: 1]. ومنه ملك الموت، {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ". قوله: (فينضوون إلى أطرافها)، الجوهري: "ضويت إليه، بالفتح، أضوي ضويًا، إذا أويت إليه وانضممت". قوله: (في تخوم الأرض)، الجوهري: "التخم: منتهى كل قرية أو أرض، والجمع تخوم، مثل فليس وفلوس. وقال ابن السكيت: سمعت أبا عمرو يقول: هي تخوم الأرض، والجمع تخم، مثل: صبور وصبر".

وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر. وروي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال، ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما. وعن شهرين بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله. ويجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر، فهو القادر على كل خلق {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]. العرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله. وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات: فأمل عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله {خَافِيَةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وروي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال) عن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن العابس بن عبد المطلب في حديث: "وفوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهور هن العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء". قوله: (أن في يوم القيامة ثلاث عرضات) الحديث من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يغرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله".

[{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} 19 - 24]. {فَأَمَّا} تفصيل للعرض. "ها": صوت يصوت به فيفهم منه معنى (خذ) كاف وحس، وما أشبه ذلك. و {كِتَابِيَهْ} منصوب بـ {هَاؤُمُ} عند الكوفيين وعند البصريين بـ {اقْرَءُوا}، لأنه أقرب العاملين؛ وأصله: هاؤم كتابي اقرؤما كتابي فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، ونظيره {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، قالوا: ولو كان العامل الأول لقيل: اقرؤوه وأفرغه، لهاء للسكت في {كِتَابِيَهْ} وكذلك في {حِسَابِيَهْ} و {مَالِيه} و {سُلْطَانِيَهْ}، وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخرجه الترمذي، قال: "لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. ورواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى". قوله: ({فَأَمَّا}: تفصيل للعرض)، يعني: يومئذ تعرضون، خطاب شامل للفريقين، وقوله: ({فَأَمَّا مَن}، وقوله: {وَأَمَّا مَن}: تفصيل له. قوله: (فيفهم منه معنى: "خذ") قال الزجاج: "هاؤم: أمر للجماعة بمنزلة: هاكم. تقول الواحد: هاء يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان، وللثلاثة: هاؤم يا رجال، وللمرأة: هاء، بكسر الهمزة، والثنتين: هاؤما، ولجماعة النساء: هاؤن". قوله: (وحس)، وهي كلمة تقال عند الوجع. قوله: (ولو كان العامل الأول لقيل: اقرؤوه وأفرغه) قال اليمني: "إن الفعلين إذا تنازعا: إن أعملت الأول أضمرت الفاعل في الثاني؛ إذ لا يجوز حذفه، وأما المفعول فيجوز

وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها في المصحف، وقيل: لا بأس بالوصل والإسقاط. وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء، وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف. {ظَنَنتُ}: علمت؛ وإنما أجري الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، ويقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت. {رَّاضِيَةٍ} منسوبة إلى الرضا، كالدراع والنابل، والنسبة نسبتان: نسبة بالحرف، ونسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها {عَالِيَةٍ} مرتفعة المكان في السماء، أو رفيعة الدرجات، أو رفيعة المباني والقصور والأشجار {دَانِيَةٌ} ينالها القاعدة والنائم، يقال لهم {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا}. أو هنئتم هنيئا في المصدر {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} بما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} الماضية من أيام الدنيا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حذفه، نحو: ضربني وضربت زيدًا. والاختيار أن يقال: ضربني وضربته، لأن التقدير: ضربني زيد وضربته، فالهاء عائدة إلى "زيد"، وهو فاعل الأول، ورتبته التقدم. وأما حذفها، فالمفعول مستغنى عنه، وهذا دليل على إعمال الثاني في قوله تعالى: {آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، و {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، لأنه لو أعمل الأول، لأضمر المفعول في الثاني لأنه أولى، ولا يليق بفصاحة القرآن ترك الأولى". قوله: (وقرأ جماعة بإثبات الهاء) وفي "التيسير": "حمزة: "مالي" و"سلطاني"، بحذف الهاءين في الوصل، والباقون: بإثباتهما في الحالين"، وإسكان الياء شاذ. وقال الزجاج: "الوجه أن يوقف على هذه الهاءات ولا يوصل، لأنها أدخلت للوقف،

وعن مجاهد: أيام الصيام، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله. وروي: يقول الله عز وجل: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ}. [{وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * ولَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 25 - 29]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهذه رؤوس الآيات. وقد حذفها قوم في الوصل، ولا أحب مخالفة المصحف"، وإليه الإشارة بقوله: "وقد استحب إيثار الوقف إيثارًا لثباتها في المصحف". قال صاحب"الانتصاف": "تعليل القراءة باتباع المصحف غلط؛ وإنما القراءة ومعتمدها النقل المتواتر"، وفيه نظر، لأن الوقف والابتداء غير موقوفة على النقل. ولذلك حد الكواشي السبعة: "ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط الإمام، وما لم يوجد فيه مجموع هذه الثلاثة، أو التواتر وموافقة خط الإمام فهو شاذ". قوله: (قلصت)، أي: انضمت وانزوت.

الضمير في {يَا لَيْتَهَا} للموتة، يقول: يا ليت الموتة التي متها {كَانَتِ القَاضِيَةَ} أي: القاطعة لأمري، فم أبعث بعدها؛ ولم ألق ما ألقي، أو للحالة، أي: ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي، لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته؛ فتمناه عندها {مَا أَغْنَى} نفي أو استفهام على وجه الإنكار، أي: أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار؟ "هلك عني سلطاني" ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، وعن ابن عباس: أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد. وعن فناخسرة الملقب بالعضد، أنه لما قال: عضد الدولة وابن ركنها .... ملك الأملاك غلاب القدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عضد الدولة وابن ركنها)، أي: وابن ركن الدولة. أوله في "التاريخ الكامل": ليس شرب الكأس إلا في المطر .... وغناء من جوار في سحر غانيات سالبات للنهى .... ناغمات في تضاعيف الوتر مبرزات الكأس من مطلعها .... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها .... ملك الأملاك غلاب القدر وقد ارتكب هنا بعد الجرأة على الله في الملاهي والمناهي عظيمتين: إحداهما: التسمية ب"ملك الأملاك"، وعليه الاستشهاد. وروينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أخنع اسم عند الله، رجل تسمى ملك الأملاك"، وفي رواية: "لا مالك إلا الله".

لم يفلح بعده وجن، فكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية. وقال ابن عباس: ضلت عنى حجتي، ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا. [{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * ولا طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَاكُلُهُ إلاَّ الخَاطِئُونَ} 30 - 37] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: سفيان: مثل شاهن شاه. وعن أحمد بن حنبل: "سألت أبا عمرو عن أخنع؟ قال: أوضع". وثانيتهما: التفوه ب"غلاب القدر"؛ فإنه غلو، بل كاد أن يكون كفرًا، وعليه قول ابن دريد: ولو حمى المقدار، عنه، مهجة .... لرامها، أو يستبيح ما حمى نعوذ بالله من الخذلان. قوله: (وقال ابن عباس: ضلت عني حجتي) عطف على قوله: "هلك عني سلطاني: ملكي"، الراغب: "السلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطته فسلط، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 90]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]، ومنه سمي السلطان. والسلطان يقال في السلاطة، نحو: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، وقد يقال لذي السلاطة وهو الأكثر. وسمي الحجة سلطانًا، لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة من المؤمنين،

{ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ} ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس؛ يقال: صلي النار وصلاة النار. سلكه في السلسلة: أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أثناؤها؛ وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة؛ وجعلها سبعين ذراعا إرادة الوصف بالطول، كما قال: {إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، يريد: مرات كثيرة، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد. والمعنى في تقديم السلسلة على السلك، مثله في تقديم الجحيم على التصلية؛ أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35]، وقوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}، يحتمل السلطانين. وسلاطة النساء: القوة على المقال، وذلك في الذم أكثر استعمالًا". قوله: (ثم لا تصلوه إلا الجحيم)، هذا تفسير لتقديم {الجَحِيمَ} على عاملها. قوله: (أثناؤها)، الجوهري: "أثناء الشيء: تضاعيفه، وثني الحبل: ما ثنيت". قوله: (مرهق)، الأساس: "من المجاز: رهقه الدين، وأرهقوا الصلاة: أخروها حتى كادت تفوت". ومنه قوله: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]. قوله: (كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق) أي: كأن السلسة أفظع من سائر أدوات الإرهاق، فوضع موضعها "مواضع" مبالغة، لأنها لما التفت عليه تضاعيفها، صارت كأنها وعاء له.

ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تفاوت ما بين الفل والتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة. {إنَّهُ} تعليل على طريق الاستئناف، وهو أبلغ؛ كأنه قيل: ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك. وفي قوله: {ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} دليلان على قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين، أحدهما: عطفه على الكفر، وجعله قرينة له، والثاني: ذكر الحض دون الفعل، ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل؟ ! وما أحسن قول القائل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له) نحو قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181]، جعل {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} قرينة لقوهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، إيذانًا بأنهما في العظم أخوان، وأنه ليس بأول ما ركبوا من العظائم. كذا جعل ترك الحض على طعام المسكين من صفات الكفار، فعلى المؤمن أن يجتنب منه. قال القاضي: "وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع، ولعل تخصيص الأمرين بالذكر، لأن أقبح العقائد الكفر بالله، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب". قوله: (ذكر الحض دون الفعل)، الراغب: "الحض: التحريض كالحث، إلا أن الحث يكون بسير وسوق، والحض لا يكون بذلك. وأصله من الحث على الحضيض، وهو قرار الأرض".

إذا نزل الأضياف كان عذورا .... على الحي حتى تستقل مراجله يريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل: هو منع الكفار؛ وقولهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، والمعنى على بذل طعام المسكين. {حَمِيمٌ} قريب يدفع عنه ويحزن عليه، لأنهم يتحامونه ويفرون منه، كقوله: {ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]، والغسلين: غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم؛ فعلين من الغسل. {الخَاطِئُونَ} الآثمون أصحاب الخطايا، وخطئ الرجل: إذا تعمد الذنب، وهم المشركون. عن ابن عباس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا نزل الأضياف) البيت، العذور: السيء الخلق. تستقل: أي: تنصب على الأثافي، المراجل: القدور العظيمة. يقول: "إنه مطاع في الحي لسيادته وجلالة محله، فإذا نزل ضيف قام بنفسه في إقامة القرى، ولا يعتمد على أحد، ويعرض في خلقه عجلة، فيشدد في الأمر والنهي على أهل الحي، حتى ينصب المراجل ويهيء الطعام، فإذا تال مرامه عاد إلى خلقه الأول". قوله: ({حَمِيمٌ}: قريب) قال صاحب"الكشف": " {فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}، الجاز والمجرور خير "ليس" ليصح قوله: {وَلا طَعَامٌ}، ولا يكون الخبر {هَاهُنَا}، لأنه يصير

وقرئ: "الخاطئون" بإبدال الهمزة ياء، و"الخاطون" بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون؟ كلنا يخطو، وروى عنه أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون؛ ما الصابون؟ إنما هو الصائبون. ويجوز أن يراد: الذين يتخطون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله. [{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * ومَا لا تُبْصِرُونَ * إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * ولا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}] 38 - 42]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التقدير: ولا طعام هاهنا إلا من غسلين، وهو غير جائز؛ إذ هناك طعام غير غسلين. ولا يكون {اليَوْمَ} خبرًا، لأن حميمًا جثة، وظرف الزمان لا يكون خبرًا الجثة". قوله: (وقرئ: "الخاطيون"، بإبدال الهمزة ياء) حمزة عند الوقف، قال ابن جني: "قرأها الزهري والحسن، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: تخفيف الهمزة، لكن على مذهب أبي الحسن في قوله تعالى: {يَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام: 5]، بإخلاص الهمزة في اللفظ ياء لانكسار ما قبلها، وسيبويه يجعلها بين بين. وثانيها: أن يكون قد بقي من الهمزة شيء على مذهب سيبويه، إلا أنه يلطف على القراء، فيقرؤون بإخلاص الياء". قوله: (و"الخاطون" بطرحها) أي: بطرح الهمزة ونقل حركتها إلى الطاء. عن عكرمة: قرأناها عند ابن عباس، فقال: مه، كلنا نخطو، ثم قال: {إلا الخَاطِئُونَ}؛ ذكره الواحدي، وروى عن الكلبي أنه قال: "يعني: من يخطئ بالشرك". ولعل ابن عباس يفرق بين الهمزة

هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر. وقيل: الدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجن، والخلق والخالق، والنعم الظاهرة والباطنة، إن هذا القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، أي: يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله {ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ولا {كَاهِنٍ} كما تدعون، والقلة في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون البتة. والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم! {تَنزِيلٌ}، بيانا لأنه قول رسول نزل عليه {مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في {الخَاطِئُونَ} و {الصًّابِؤُونَ} [البقرة: 62، الحج: 17] وبين غيرها من جهة الإصلاح واللغة. قوله: (والمعنى: ما أكفركم! )، يعني: قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}، تتميم للمعنى السابق، وفيه معنى التعجب كقول الشاعر: وجار جساس أبانا بنابها .... كليبًا، غلت ناب كليب بواؤها والقلة بمعنى العدم. قوله: (هو تنزيل، بيانًا)، "بيانًا": مفعول له لمحذوف، يريد: {تَنزِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ فالجملة مفصولة عن الأولى للبيان، لأن كونه قول رسول، لا يكون إلا تنزيلًا، لأن الرسول لا يتلكم من تلقاء نفسه.

وقرأ أبو السمال: "تنزيلا" أي: نزل تنزيلا. وقيل: "الرسول الكريم" جبريل عليه السلام، وقوله: {ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} دليل على أنه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن المعنى على إثبات أنه رسول، لا شاعر ولا كاهن. [{ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وإنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وإنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وإنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكَافِرِينَ * وإنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 44 - 52]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، دليل على أنه محمد صلوات الله عليه، لأن المعنى على إثبات أنه رسول، لا شاعر ولا كاهن)، قال الإمام: "إنه تعالى ذكر في سورة "كورت" مثل هذا الكلام، والأكثرون على أن المراد منه جبريل عليه السلام، وهاهنا المراد محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: لأنه تعالى لما قال: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، قال بعده: إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن. والقوم ما كانوا يصفون جبريل بالشعر والكهانة، بل كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذين الوصفين". وأما في سورة "كورت"، فلما قال: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]، قال بعده: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]، كأن المعنى: إنه لقول ملك كريم، لا قول شيطان رجيم. وعند هذا يتوجه سؤال: وذلك أن القرآن كلام الله المجيد، فكيف أسند تارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرى إلى جبريل عليه السلام؟ فيقال: إنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب؛ فهو كلام الله المجيد، من حيث إنه تكلم به، وهو كلام جبريل، لأنه هو الذي أنزله من السماء، وهو كلام محمد، صلوات الله عليه، لأنه هو الذي أظهره للحق، ودعاهم إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.

التقول: افتعال القول، لأن فيه تكلفا من المفتعل، وسمى الأقوال المتقولة "أقاويل" تصغيرا بها وتحقيرا، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول، والمعنى: ولو ادعى علينا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول؛ وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وسمى الأقوال المتقولة "أقاويل" تصغيرًا بها)، الانتصاف: "هو معتل غريب عن قياس التصريف، ويحتمل أن يكون "الأقاويل" جمع جمع كالأناعيم، جمع أقوال وأنعام". قوله: (لقتلناه صبرًا)، النهاية: "قتل الصبر: هو أن يؤخذ شيء من الحيوان، ثم يرمى بشيء حتى يموت. ومنه الحديث في الذي أمسك رجلًا وقلته آخر، [فقال]: "اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر"، أي: احبسوا الذي جسه للموت. وكل من قتل في غير معركة، ولا حرب ولا خطأ، فهو مقتول صبرًا". قوله: (وأن يكفحه)، الجوهري: "كافحوهم: إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس ولا غيره".

ومعنى {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} لأخذنا بيمينه، كما أن قوله. {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ}: لقطعنا وتينه، وهذا بين، والوتين: نياط القلب وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه. وقرئ: "ولو تقول" على البناء للمفعول. قيل {حَاجِزِينَ} في وصف {أَحَدٍ}؛ لأنه في معنى الجماعة، وهو اسم يقع في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، والضمير في {عَنْهُ} للقتل، أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه أو لرسول الله، أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه؛ والخطاب للناس، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهذا بين) أي: لقطعنا وتينه، ظاهر في المقصود. والأول محتمل لما يوهم منه، أن {مِنْهُ} صلة {أَحَدٌ}، وليس كذلك. والذي عليه التلاوة، فيه إجمال وتفصيل على نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. قوله: (وقرئ: "ولو تقول") قال ابن جني: "وهي قراءة محمد بن ذكوان، وفيها تعريض بما صرحت به القراءة العامة؛ ذلك أن {تَقُولَ} لا تستعمل إلا مع التكذب، مثل تخرص وتزيد. وأما "يقول"، فليست مختصة بباطل دون حق".

وكذلك في قوله تعالى: {وإنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ}، وهو إيعاد على التكذيب، وقيل: الخطاب للمسلمين، والمعنى: أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن. {وإنَّهُ} الضمير للقرآن {لَحَسْرَةٌ} على الكافرين به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين له، أو للتكذيب. وإن القرآن لليقين حق اليقين، كقولك: هو العالم حق العالم، وجد العالم، والمعنى: لعين اليقين، ومحض اليقين. {فَسَبِّحْ} الله بذكر اسمه العظيم هو قوله سبحان الله؛ واعبده شكرا على ما أهلك له من إيحائه إليك. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أن منهم ناسًا سيكفرون بالقرآن) وهم المرتدون في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وبعض الخوارج في عهد علي رضي الله عنه. قوله: (وجد العالم)، قيل: إن معناه: من سواه من العلماء، فهو بالإضافة إليه هزل والإضافة فيه وفي "حق العالم"، بمعنى "من". مضى تحقيقه في آخر "الواقعة". قوله: (والمعنى: لعين اليقين)، قال الإمام: " {لَحَقُّ اليَقِينِ}، معناه: أنه حق معين لا بطلان فيه، ويقين لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى آخر للتأكيد". وقال غيره: اليقين اسم لعلم تقدمه لبس، وإذا لم يتقدمه لبس لا يكون يقينًا. من يقن الماء في الحوض، إذا استقر فيه. تمت السورة بعون الله وحسن توفيقه

سورة المعارج

سورة المعارج مكية، وهي أربع وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقِعٍ • لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ • مِنَ الله ذِي المَعَارِجِ • تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ • فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً • إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا • ونَرَاهُ قَرِيبًا • يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ • وتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ • ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا • يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ • وصَاحِبَتِهِ وأَخِيهِ • وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ • ومَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ • كَلاَّ إنَّهَا لَظَى • نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى • تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلَّى • وجَمَعَ فَأَوْعَى) 1 - 18] ضمن (سَأَلَ) معنى دعا، فعدى تعديته، كأنه قيل: دعا داع (بِعَذَابٍ واقِعٍ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المعارج أربعٌ وأربعون آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (ضمن {سَأَلَ} معنى: "دعا"). قال الواحديّ: "الباء في {بِعَذَابٍ} زيادة للتوكيد، كقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]، والمعنى: سأل سائل عذاباً واقعاً".

من قولك: دعا بكذا. إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث، قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعجل بعذاب للكافرين. وقرئ. «سال سائل» وهو على وجهين: أن يكون من السؤال وهي لغة قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان؛ وأن يكون من السيلان، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "سال سائل"). نافع وابن عامر: "سال"، بألف ساكنة بدلاً من الهمزة، وهو مسموع من العرب، والباقون: بهمزة، وحمزة يجعلها في الوقف بين بين. وقيل: سال سائل بالألف، أجوف يائي، بدليل: يتسايلان؛ فقوله: "من السؤال" يعني أنه بمعناه، وإلا فذاك مهموز وهذا أجوف. وبعضهم يقول: ألف "سال" منقلبة عن الهمزة، نحو: "مِنساة" في "مِنسأة"، ولم يذكر المصنف هذا القول هاهنا، وقد ذكره في "المفصل"، لأن هذا الإبدال راجع إلى السماع المحض، فيتبع تجويزه فيما سمع، قال سيبويه: "ليس ذا بقياس مُتْلَئِبٍّ، وإنما يحفظ عن العرب". ولما أمكن حمل "سال" على وجه قياسي، كما نقله من لغة قريش، لم يحمله على ما يكون سماعياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو علي في "الحُجَّة": "من قرأ "سال" غير مهموز، جعل الألف منقلبة من الواو، التي هي عين مثل: قال وخاف. وحكي أبو عثمان عن أبي زيد، أنه سمع من يقول: هما يتساولان". وقال ابن مالك: "ليس "سال" في القِراءات مُخففاً من "سأل"، إنما هو مثل "هاب""، وقول المصنف: "هما يتسايلان" موافق لهذا القول. وقول سيبويه: "جاء في بعض المواضع جواز جعلها بين بين، قبلها حرف حركة ما قبلها، وليس ذا بقياس مُتْلَئِبٍّ. ومن جملة ذلك قولهم: منساة بالألف، وكان منسأة بالهمزة". ومنها قولهم: "سال" في "سأل"، قُرئ قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} بالألف المحضة. ومن أبيات الكتاب، قول حسان رحمه الله: سالَتْ هُذيلٌ رسول الله فاحشة ضَلَّتْ هُذيلٌ بما جاءت ولم تُصِبِ التمس هذيل النبي? ، أن يُبيح لهم الزنا، فقال حسان ذلك. وقول آخر: سالتان الطَّلاق أن رأتاني قل مالي، قد جئتُماني بنُكْرِ وقال سيبويه بعد الإنشاد: "فهؤلاء ليس من لغتهم: سلت تسال". وقد مر أنه لغة في سالت، معتل العين كهبت تهاب.

ويؤيده قراءة ابن عباس «سالَ سَيْلٌ»، والسيل: مصدر في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم وأهلكهم. وعن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع؟ فنزلت، و «سَأَلَ» على هذا الوجه مضمن معن-ى: عن-ي واهتم. فإن قلت: بم يتصل (لِلْكَافِرِينَ)؟ قلت: هو على القول الأول متصل بعذاب صفة له، أي: بعذاب واقع كائن للكافرين، أو بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع، أو بواقع؛ أي: بعذاب نازل لأجلهم، وعلى الثاني: هو كلام، مبتدأ، جواب للسائل، أي: هو للكافرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قراءة ابن عباس: "سال سيل")، على وجه قياسي كما نقله من لغة قريش. قال ابن جني: "السَّيْلُ هاهنا: الماء السائل، وأصله المصدر من قولك: سال الماء سيلاً، إلا أنه أوقع على الفاعل كقوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30]، أي: غائراً". قوله: (انْدَفَعَ عليهم)، الجوهري: "انْدَفَعَ الفَرَسُ، أي: أَسْرَعَ في سيره، واندفعوا في الحديث". قوله: (هُو على القول الأول). أي: على أن يكون {سَأَلَ} مُضمناً معنى "دعا". قوله: (وعلى الثاني). أي قول قتادة، {سَأَلَ} مُضمَّن معنى: عُني واهتم، أي: اهتم وعني بعذاب سائلاً عنه، كأنه قيل: لما سأل سائل بعذاب، أي: اهتم سائل بعذاب واقع، اتجه لسائل أن يقول: لمن سأل بالعذاب واهتمَّ به؟ فقيل: هو للكافرين.

فإن قلت: فقوله (مِّنَ الله) بم يتصل؟ قلت: يتصل بواقع، أي: واقع من عنده، أو بدافع؛ بمعنى: ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وأوجبت الحكمة وقوعه. (ذِي المَعَارِجِ) ذي المصاعد، جمع مَعرج، ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال: (تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ) إلى عرشه وحيث تهبط منه أوامره (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) كمقدار مدة (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) مما يعد الناس. والروح: جبريل عليه السلام، أفرده لتميزه بفضله، وقيل: الروح خلق هم حفظة على الملائكة، كما أن الملائكة حفظة على الناس. فإن قلت: بم يتعلق قوله (فَاصْبِرْ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ذِي الْمَعَارِجِ} ": ذي المصاعد، جمع مَعْرَج)، روى مُحيي السُّنة عن سعيد بن جُبير: ذي الدرجات. وعن قتادة: ذي الفواضل والنعم، أو معارج الملائكة، وعن ابن عباس: هي السموات لأنها معارج الملائكة. وقال القاضي: "هي الدرجات التي يصعد فيها الكَلِم الطَّيّب والعمل الصالح، أو يرقى فيها المؤمنون في سلوكهم، أو في دار ثوابهم". قوله: (ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو)، لم يرد بالوصف المتعارف، قال القاضي: "هو استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج، وبعد مداها على التمثيل، أي: أنها بحيث لو قدر قطعها في زمان، لكان في زمان يقدر خمسين ألف سنة من سني الدنيا". وروى مُحيي السُّنة عن عكرمة وقتادة: "هو يوم القيامة، وأراد أن موقفهم للحساب، حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا".

قلت: بـ (سَأَلَ سَائِلٌ)؛ لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصبر عليه، وكذلك من سأل عن العذاب لمن هو، فإنما سأل على طريق التعنت، وكان من كفار مكة. ومن قرأ: «سال سائل» أو «سيل»، فمعناه: جاء العذاب لقرب وقوعه، فاصبر فقد شارفت الانتقام، وقد جعل (فِي يَوْمٍ) من صلة (واقِعٌ) أي: يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم، وهو يوم القيامة: إما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، وإما لأنه على الحقيقة كذلك. قيل: فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكذلك من سأل)، عطف على قوله: "لأن استعجال النصر بالعذاب"، يعني: {فَاصْبِرْ} مُتعلق بـ {سَأَلَ سَائِلٌ}، لأن {سَأَلَ}: إما مُضمن معنى "دعا" والداعي هو النضر، وهو غنما دعا على نفسه استهزاءً بمحمد، صلوات الله عليه، فاقتضى ذلك تسليته صلوات الله عليه، وأن ينصره على أعدائه، ، وأن يَتَصبَّر على أذاه. وإما مُضمن معنى "اهتم" و"عُنى" بالسؤال؛ فالسائل لما سمع معنى قوله: اهتم سائل بعذاب واقع، قال مُستهزئاً: لمن هو؟ قوله: (وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر)، روينا في "المُعْتمد" عن محيي السنة في "شرح السُّنة"، عن أبي سعيد: قيل لرسول الله? : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله? : "والذي نفسي بيده، إنه لَيُخَفَّفُ على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا".

الضمير في (فِي يَوْمٍ) للعذاب الواقع، أو ليوم القيامة فيمن علق (فِي يَوْمٍ) بواقع؛ أي: يستبعدونه على جهة الإحالة، (و) نحن (نَرَاهُ قَرِيبًا) هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر، فالمراد بالبعيد: البعيد من الإمكان، وبالقريب: القريب منه. نصب (يَوْمَ تَكُونُ) بقريبا، أي: يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم، أو بإضمار يقع، لدلالة (واقِعٌ) عليه. أو يوم تكون السماء كالمهل. كان كَيت وكيت. أو هو بدل عن (فِي يَوْمٍ) فيمن علقه بواقع. (كَالْمُهْلِ) كدردي الزيت، وعن ابن مسعود: كالفضة المذابة في تلوّنها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فيمن عَلق)، أي: في قول من علق {فِي يَوْمٍ} بـ {وَاقِعٍ}. ويُفهم منه أنَّ الضمير إذا كان للعذاب لم يُعلق به. اعلم أنه ذكر في قوله {فِي يَوْمٍ} وجهين: أحدهما: ما يدل على أنه متعلق بـ {تَعْرُجُ}، حيث قال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، أي: إلى عرشه إلى آخره. وثانيهما: تصريحه بقوله: "وقد جُعل {فِي يَوْمٍ} من صلة {وَاقِعٍ} "؛ فإذا علق بـ {تَعْرُجُ}، فالمراد من اليوم يوم من أيام الدنيا على تقديره بالمدة، كما قال: في يوم كان مقداره مدة خمسين ألف سنة مما يعد الناس. والقريب والبعيد على حقيقتهما، لأن المراد من العذاب، ما نزل بقريش يوم بدر، يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: السائل نضر بن الحارث، قال: "إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء". وقوله: "وقيل: هو رسول الله? ، استعجل بعذاب للكافرين"؛ فيكون قوله: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}، إلى قوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} استطراداً، تعظيماً لما استهزؤوا به، أي: يستهزئون عذاب من هذا شأنه وعظمته. وإذا عُلق بـ {وَاقِعٍ}، فالمراد من اليوم يوم القيامة، والمدة على حقيقتها، والقرب والبعد على المجاز، لقوله: "البعيد من الإمكان والقريب منه". وقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}

(كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو: أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح. (ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) أي: لا يسأله ب-: «كيف حالك» ولا يكلمه، لأن بكل أحد ما يشغله عن المساءلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استئناف، فإنه لما قيل: سال سائل بعذاب واقع، وكيت وكيت، أنكره الكافر، قيل: لماذا أنكره الكفار؟ قيل: لأنهم يعتقدون خُلْفَ وعد الله، أو أن لا حَشر ولا نَشر، ويستبعدون إمكانه، فعلى الأول: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} منصوب "كان كيت وكيت"، فيحصل لهم عذاب الدارين. وعلى الثاني: منصوب بـ {قَرِيبًا}، أو بإضمار "يقع"، أو هو بدل عن {فِي يَوْمٍ}. قوله: (بُسَّتْ): فُتِّتَتْ، أو سِيقت. قوله: (أي: لا يسأله بكيف حالك؟ )، روي عن المصنف أنه قال: قولي: بكيف حالك، عثرت على مثله في شعر العرب، قال يحيى بن نوفل الحميري: ولقد أتيت قُبورَهم كيما تُخبرني المقابر فهتفت عند قُبورِهم يا با سعيد ويا مهاجر وقال أبو الشعر الضبي: فسائل بنا إن كنت تجهل أمرنا غداتئذ والعلم يجلو لك الجهلا

(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي: يبصر الأحماء الأحماء، فلا يخفون عليهم، فما يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم التشاغل. وقرئ: «يُبْصِرونهم»، وقرئ: «ولا يُسأُل»، على البناء للمفعول، أي: لا يقال لحميم: أين حميمك؟ ولا يطلب منه؛ لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب. فإن قلت: ما موقع يبصرونهم؟ قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لما قال (ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)، قيل: لعله لا يبصره، فقيل: يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم. فإن قلت: لم جمع الضميران في (يُبَصَّرُونَهُمْ) وهما للحميمين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُنبَّا بكم قد أيمو من نسائكم وكم قد أذاقوا من عجائزك الثكلا قوله: (الأحماء): جمع: حميم، كأشداء جمع شديد. قوله: ("ولا يُسأل" على البناء للمفعول)، قال القاضي: "قَرَأها ابن كثير". قوله: (لأنَّهم يُبصَّرونهم)، التبصير: التعريف والإيضاح. قوله: (وهما للحَميمين)، قيل: كان القياس: يبصره، ليكون الضمير المستتر عائداً إلى أحد الحميمين، والبارز إلى الحميم الآخر. وقلت: هو من قول الواحدي: معنى: {يُبَصَّرُونَهُمْ}: يُعرفونهم، أي: يُعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، ومع ذلك لا يسأل عن شأنه لشغله بنفسه. والآية على حذف الجار، يقال: بَصَّرت زيداً بكذا إذا عرفته إياه، ثم يُحذف الجار فيقال: بصَّرته إياه".

قلت: المعنى على العموم لكل حميمين لا لحميمين اثنين. ويجوز أن يكون (يُبَصَّرُونَهُمْ) صفة، أي: حميما مبصرين معرفين إياهم. قرئ: (يَوْمِئِذٍ)، بالجر والفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن، و «من عذاب يومئذ»، بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» وانتصابه ب-- «عذاب»، لأنه في معنى: تعذيب. و «فصيلته» عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم «تؤويه» تضمه انتماء إليها، أو لياذا بها في النوائب. (يُنجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي)، أي: يود لو يفتدي، ثم لو ينجيه الافتداء، أو من في الأرض. وثم: لاستبعاد الإنجاء، يعني: يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه. (كَلاَّ) ردع للمجرم عن الودادة، وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المعنى على العموم)، الانتصاف: "فيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعم، كما التزم في قوله: والله لا أشرب ماء من إداوة، أنه يعم في المياه والأدوات، خلافاً لبعضهم في الإداوة". قوله: (ويجوز أن يكون {يُبَصَّرُونَهُمْ} صفة)، عطف على قوله: "كلامٌ مُسْتأنَف". روى محيي السنة عن السدي: "يعرفونهم: أما المؤمن فبياض وجهه، وأما الكافر فبسواد وجهه". قوله: ({كَلَّا}: ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه÷، قال الكواشي: {كَلَّا}: وقف تام، إن جعلتها ردعاً عن الودادة، وإن جعلتها بمعنى "ألا": استفتاحاً، وقفت قبلها. فإن قلت: فكيف جمع المصنف المعنيين معاً؟ قلت: التنبيه لازم ذلك الردع.

ثم قال: (إنَّهَا) والضمير للنار، ولم يجر لها ذكر؛ لأن ذكر العذاب دل عليها. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر، أو ضمير القصة. و (لَظَى) علم للنار، منقول من اللظى، بمعنى اللهب، ويجوز أن يراد اللهب. و (نزاعة): خبر بعد خبر ل- «إن»؛ أو خبر ل- (لَظَى) إن كانت الهاء ضمير القصة، أو صفة له إن أردت اللهب، والتأنيث لأنه في معنى النار، أو رفع على التهويل، أي: هي نزاعة. وقرئ: نزاعة، بالنصب على الحال المؤكدة، أو على أنها متلظية نزاعة؛ أو على الاختصاص للتهويل. والشوى: الأطراف أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس تنزعها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {لَظَى} علم للنار)، قيل: إنه منقول من اسم الجنس، وهو غير منصرف. قوله: (أو خبر لـ {لَظَى} إن كانت الهاء ضمير القصة)، لأن ضمير القصة والشأن، يستدعي جملة مفسرة. قوله: (أو رفع على التهويل)، أي: رفع على الاختصاص المفيد للتهويل. قوله: (أو على أنها مُتَلظِّية نزاعة)، فيكون حالاً منتقلة، قال أبو البقاء: "قيل: هو حال من الضمير في {تَدْعُوا} مقدمة، وقيل: حال بما دلت عليه {لَظَى}؛ أي: تتلظى نزاعة. وقيل: هو حال من الضمير في {لَظَى}، على أن تجعلها صفة غالبة، مثل الحارث والعباس. وقيل: التقدير: أعني". قوله: (والشوى: الأطراف)، الراغب: "الشوى: الأطراف، كاليد والرِّجل، يقال: رماه فأشواه: أصاب شواه، قال تعالى: {نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى}. ومنه قيل للأمر الهيِّن: شوى، من حيث إن الشَّوى ليس بِمَقتل".

نزعا فتبتكها ثم تعاد، و (تَدْعُوا) مجاز عن إحضارهم، كأنها تدعوهم فتحضرهم، ونحوه قول ذي الرمة: تدعو أنفه الربب وقوله: ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فَتَبتكها)، أي: تَقطعُها. قوله: (تدعو أنفه الريب)، يصف الثور الوحشى، أوله: أمسى بوهبين مجتازاً لمرتعه من ذي الفوارس تدعو أنفه الريب الوَهبين: اسم موضع، مجتازاً لمرتعه: طالباً لها الريب، جمع ربَّة، وهي أول ما ينبت من الأرض. وذو الفوارس: اسم موضع فيه رمل. تدعو أنفه: تجره ليأكل. وفي "المجمل" "الرِّبَّة: نبات يبقى في آخر الصيف". قوله: (ليالي اللهو يطبيني فأتبعه)، تمامه: كأنني ضارب في غَمْرة لَعِب يَطْبيني: دعاني، طباه يطبوه: دعاه. الضارب: السابح، وأصل الضَّرب الإسراع في الأرض، يقول: يدعوني ليالي اللهو فأتبعه، كأنني سابح في غمرة من الماء لعب فيه.

وقول أبى النجم: تقول للرائد أعشبت انزل وقيل: تقول لهم: إليّ إليّ يا كافر يا منافق، وقيل: تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح ثم تلتقطهم التقاط الحب، فيجوز أن يخلق الله فيها كلاما كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم، وكما خلقه في الشجرة، ويجوز أن يكون دعاء الزبانية. وقيل: تدعو: تهلك؛ من قول العرب: دعاك الله، أي: أهلكك، قال: دعاك الله من رجل بأفعى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقول للرائد: أَعْشَبْتَ انْزِلِ)، قبله: مُستأسِد ذِبانه في غَيطَل المستأسد: النبات الطويل الغليظ، يقال: استأسد الزرع إذا قوى، ويقال للأصوات المحتلطة: غيطلة. والذِّبان: جمع ذباب، والرائد: الذي يطلب الماء والكلأ، أعشبت: أي وجدت العُشب، والغبطلة: الجلبة، أي: صياح القوم، يقال للأصوات المختلطة: غيطلة، والكلأ إذا التف وكبر وأزهر كثر ذبابه، وصوتن: أي يقول: الذبان: أصبت حاجتك فاقنع ولا تتجاوز، وقيل: يقول: الأرض المنتجع، وقعت في عشب، انزل. مستأسد: خبر مبتدأ محذوف، أي: نباته مستأسد. قوله: (دعاك اللع من رجل بأفعى)، تمامه في "الأساس": إذا نام العيون سَرَت عليكا

(مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق (وتَوَلَّى) عنه (وجَمَعَ) المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيه، وتشاغل به عن الدين؛ وزهي باقتنائه وتكبر. [(إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا • إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا • وإذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا • إلاَّ المُصَلِّينَ • الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ • والَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ • لِلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ • والَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ • والَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ • إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَامُونٍ • والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ • إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ • فَمَنِ ابْتَغَى ورَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ • والَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وعَهْدِهِمْ رَاعُونَ • والَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ • والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ • أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) 19 - 35] أريد بالإنسان الناس؛ فلذلك استثنى منه: (إلاَّ المُصَلِّينَ). والهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير؛ من قولهم: ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس. والخير: المال والغنى، والشر: الفقر، أو الصحة والمرض؛ إذا صح الغني منع المعروف وشح بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "مِن رَجُل": من: تجريدية. وفي "الأساس": "دعاه الله بما يكره: أنزله به. وأصابتهم دواعي الدَّهر: صروفه". قوله: (وعن أحمد بن يحيى)، هو أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بـ "ثعلب"، إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه.

والمعنى: أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه، كأنه مجبول عليهما مطبوع، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري، كقوله تعالى: (خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]، والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع، ولأنه ذم والله لا يذم فعله، والدليل عليه: استثناء المؤمنين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن المعنى: أنه لإيثاره ذلك، جعل كأنه مجبول عليه، وليس المراد أنه مخلوق كذلك، وإلا فكان لازماً له غير مُنفك عنه كما ذكر. وأيضاً، لو كان فعل الله، لوجب أن لا يُذم عليه. أما قوله: (والدليل عليه: استثناء المؤمنين)، فهو حجة أخرى من حيث النقل والنص بعد دليل العقل. الانتصاف: "يُنزه ظاهراً، ويشرك باطناً؛ ينزه الله تعالى عن خلق الهلع، ويُشرك معه في استبداد الخلق. وأنت إذا قلت: بريت القلم رقيقاً، فقد نسبت إليك البري والرقة معاً. وقوله: "الله لا يُذَم فعله: ، المذموم: العبد بحُجَّة الله، أنه جعل فيه الاختيار، ولله الحجَّة البالغة". وقلت: أما الجواب عن قوله: "إنه كان في البطن والمهد لم يكن به هلع"، فما ذكره الراغب في "غُرة التنزيل": "فإن قيل: كيف يصح أن يقال: خُلق الإنسان هلوعاً جزوعاً منوعاً؟ هذا يوجب أن يكون الهَلَع والجَزَع والمنع، موجودة حال خَلْقِ الله له وليس كذلك، لأنه لا يشعر بذلك في حال الطفولية؟ وأجيب: بأن معناه: خُلِقَ حيواناً ضعيفاً لا يصبر على الشدائد إذا دامت عليه، وإجراؤه عليه في حال الخَلق توسع ومجاز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: الذي أذهب إليه، أن الهلع أصله التسرع والقلق نحو الشيء، والحريص يهلع، والجزوع يقلق، والحريص يتسرع إلى مُشتهاه اتباعاً لهواه وإن كان فيه رداه. والإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال، لأنه يتسرع إلى الثدي، ويحرص على الرضاع، وإن مسه ألم جزع وبكى، وإن تمسك بثدي فزوحم فيه، منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء، فلا يزال يفعل ذلك إلى آخر عمره". وروى الإمام عن القاضي عبد الجبار، أنه في قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}: "نظير قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، وليس المراد أنه مَخلوق على هذا الوصف. والدليل عليه أنه تعالى ذّمَّه عليه، والله تعالى لا يّذُم فِعله، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخَصْلة المذمومة، ولو كانت هذه الخصلة حاصلة بِخَلق الله تعالى، لما قدروا على تركها". ثم قال الإمام: "اعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين: أحدهما: الحالة النَّفسانية التي لأجلها يُقْدِم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع. والثاني: تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل، الدالة على تلك الحالة النفسانية، فلا شك أنها تحدث بِخَلق الله تعالى، لأنَّ من خُلِقَت نفسه على تلك الحالة، لا يُمكنه إزالتها عن نفسه، لأنها حالة نفسانية مخلوقة فيها على سبيل الاضطرار، بخلاف الأفعال الظاهرة من القول والفعل، فإنها يَسْهل تَرْكُها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والإقدام عليها، لأنها أمور إختيارية". أراد الإمام أن كَون الإنسان مجبولاً على شيء، ليس إليه التَّخلص منه، لكن لا يمنع من إبدال الله إياه بما يُخالفه. وقال الراغب: "فإن قيل: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوئ الأخلاق؟ قلنا: الحِكمة في خَلق الشَّهوة، أن يمانع نفسه إذا نازعته نحوها، ويُحارب شيطانه عند تزيينه المعصية، فيستحق من الله مثوبة وجنة". وقال القاضي: "هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً، أحوال مُقدَّرة أو محققة، لأنها طبائع جُبِل الإنسان عليها. و {إذَا} الأولى ظرف لـ {جَزُوعًا}، والأُخرى لـ {مَنُوعًا}، و {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة، بعد ذكر المطبوعين على الأحوال المذكورة، قيل: بنُضادة تلك الصفات لهم". وقلت: ويمكن أن يجعل الاستثناء منقطعاً، وتكون الآيات المذكورة فيها أوصاف المؤمنين المرتب عليها الثواب، مقابلة لما ذُكر من أوصاف الكافرين المستحق بها العقاب، وهو قوله: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (وَجَمَعَ فَأَوْعَى}، بدليل خَتم الآيات بقوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}، ويكون قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} إلى آخره، تعليلاً لقوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}.

الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات، حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «شرّ ما أعطي ابن آدم شحّ هالع وجبن خالع». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتحريره أنه تعالى لما وصف النار بما وصف، ثم أخبر أنها {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (وَجَمَعَ فَأَوْعَى}، وهي أم الرّذائل، وشر خصال وعلل الأخيرين بقوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ} إلى آخره، بمعنى: أن قلة الصبر، وشدة الحرص من جبلة الإنسان، وهما اللذان حملاه على جمع المال، والمنع من الإنفاق في سبيل الله، كما قال ابن عباس: "إذا أصابه الفقر لم يَصبر، وإذا أصاب المال لم يُنفق" - استطرد ذكر الذين خصصهم بالفضائل، واستخلص قلوبهم من تلك الرذائل، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]، فوصفهم بخصال ثمان مُضادة لتلك الخصال الأربع، لأنها دالة على الاستغراق في طاعة الله، والشفقة على خلق الله، وعلى الإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة، وكَسرِ الشّهوات، وإيثار الآجل على العاجل، ثم حكم لهم أنهم في جنات مُكرمون. ثم فرع عليه بالفاء قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}، تخصيصاً بعد تعميم، ورجعاً إلى بدء، لأنهم من المستهزئين الذين افْتُتِحت السورة بسؤالهم. والله أعلم. قوله: (وظَلَّفوها)، الجوهري: "ظَلَفَ نفسه عن الشيء يَظلفها ظلفاً، أي: مَنَعها من أن تَفعله أو تأتيه". وعن بعضهم: يقال: أرض ظلفة، أي: خشنة تمنع عن الشيء. قوله: (شر ما أُعطي ابن آدم)، الحديث من رواية أبي داود، عن أبي هريرة: "شَرّ ما في الرَّجل شُحٌّ هالع وجُبن خالع". قال صاحب "الجامع": الشُّحّ: أشدُّ البُخل، والهلع: أشد الجزع، والمراد أن الشحيح يجزع جزعاً شديداً، ويحزن على دِرهم يفوته ويخرج عن

فإن قلت: كيف قال: (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) ثم على صلاتهم يحافظون؟ قلت: معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل العمل أدومه وإن قل»، وقول عائشة: «كان عمله ديمة». ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات، والمحافظة إلى أحوالها. (حَقٌّ مَّعْلُومٌ) هو الزكاة، لأنها مقدرة معلومة؛ أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة. السائل: الذي يسأل (والْمَحْرُومِ) الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له، ويشفقون من عذاب ربهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يده. وهذا من باب قولهم: "ليلٌ نائمٌ ويومٌ عاصف"، أي: ينام فيه، وتَعصف فيه الريح، ويحتمل أن يكون قد قال: "هالع" لمكان "خالع" للازدواج. والخالع: الذي كأنه خُلِعَ فؤاده، لشدَّة خوفه وفزعه". قوله: (أفضل العمل أدومه)، قولها: (كان عمله ديمة)، أخرج أحمد بن حنبل معنى الحديث الأول، ولفظ الثاني في "مُسنده". قوله: (ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم)، مذهبه.

واعترض بقوله: (إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَامُونٍ) أي: لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه، وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء. قرئ: «بشهادتهم»، و «بشهاداتهم»، والشهادة من جملة الأمانات، وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي زيها: تضييعها وإبطالها. [(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ • عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ • أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ • كَلاَّ إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ • فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ والْمَغَارِبِ إنَّا لَقَادِرُونَ • عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ • فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ • يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ • خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) 36 - 44] كان المشركون يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا، يستمعون ويستهزءون بكلامه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم، فنزلت. (مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك، مادي أعناقهم إليك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("بشهادتهم" و {بِشَهَادَاتِهِمْ}، حفص: {بِشَهَادَاتِهِمْ} على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد. قوله: (في زَيِّها)، أي: مَنْعِها. قوله: ({مُهْطِعِينَ}: مُسرعين نحوك مادِّي أعناقهم)، الجوهري: "هَطَعَ الرجل: إذا أقبل ببصره على الشيء لا يُقلع منه، يهطع هطوعاً. وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه، وأهطع في عدوه إذا أسرع".

مقبلين بأبصارهم عليك (عِزِينَ) فرقا شتى جمع عزة، وأصلها عزوة، كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزي إليه الأخرى؛ فهم مفترقون، قال الكميت: ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتى عزينا وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط. (كَلاَّ): ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة، ثم علل ذلك بقوله: (إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) إلى آخر السورة، وهو كلام دال على إنكارهم البعث، فكأنه قال: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء؛ فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟ فإن قلت: من أي وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأصلها عِزوة)، قال أبو البقاء: " {عِزِينَ}: جمع عِزَة، والمحذوف الواو وقيل: الياء؛ من عَزوته إلى أبيه وعزَيته، لأن العِزَة الجماعة، وبعضهم مُنضم إلى بعض، كما أن المنسوب مضموم إلى المضموم إليه. و {عَنِ} مُتعلق بـ {عِزِينَ}، أي: مُتفرقين عنهما، ويجوز أن يكون حالاً". قوله: (ونحن وجَنْدل) البيت، أي: نحن تركنا كتائب جندل متفرقين، والحال أن جندلاً باغٍ. و"جندل" مبتدأ، و"باغ" خبره، والجملة كالاعتراض، و"تركنا" خبر "نحن".

قلت: من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله: (خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) أي: من النطف، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيراً منهم، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة. ويجوز أن يراد: إنا خلقناهم مما يعلمون، أي: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه، ولذلك أبهم وأخفى، إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم. وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وبالقدرة على أن يهلكهم)، عطف على قوله: بـ "النشأة الأولى"، فقوله "بالنشأة الأولى"، إشارة إلى أن قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}، وقوله: "بالقدرة" إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]، وهما من قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} إلى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 61 - 62]. قوله: (وقيل: معناه إنا خلقناهم من نُطفة كما خلقنا)، يعني أن المراد من قوله {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} النظفة, وذكرها إما لإثبات القدرة على أن يقال: إنا كما قدرنا على خلقهم من ماء، نقدر على إعادتهم، أو لإثبات الإهانة والحقارة، وأنّهم لا يستحقون تلك الكرامة من حيث أنفسهم، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 73]، أو انهم وسائر من خلق من الماء مستوون، وإنما التقديم بحسب العمل. قال القاضي: "المعنى أنكم مخلوقون من نُطفة مذرة، وهي غير مناسبة لعالم القُدُس، فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة، ولم يَتَخلَّق

فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل؟ وقرئ: «برب المشرق والمغرب»، و (يَخْرُجُونَ)، و «يُخرجون»، و (مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا)، بالإظهار والإدغام، و (نُصُبٍ)، و «نصب»، وهو كل ما نصب فعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «سأل سائل» أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالأخلاق الزكية، لم يستعد لدخوله. أو أنكم مخلوقون مما تعملون من أجل ما تعلمون، وهو تكميل النفس بالعلم والعمل، فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين". قوله: (بالإظهار والإدغام، و {نُصُبٍ})، بالإدغام: أبو عمرو، و {نُصُبٍ} بضمتين: ابن عامر وحفص، والباقون: بفتح النون وإسكان الصاد. قال الزجاج: "فمن قرأ "نَصْبٍ"، فمعناه: كأنهم يُدعون إلى علم منصوب لهم. ومن قرأ {نُصُبٍ}، فمعناه إلى أصنام لهم، كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. تمت السورة * ... * ... *

سورة نوح

سورة نوح عليه السلام مكية، تسعٌ أو ثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ • قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ • أَنِ اعْبُدُوا الله واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ • يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ويُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إنَّ أَجَلَ الله إذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) 1 - 4] (أَنْ أَنذِرْ) أصله: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، وهي أن الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له أنذر، أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة نوح ثمان وعشرون آية، مكية، إجماعاً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وهي "أَنْ" الناصبة للفعل)، قال في "يونس": "قد سَوغ سيبويه أن توصل أن بالأمر والنهي، وإن كان من حق الصلة أن تكون جملة، تحتمل الصدق والكذب، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر".

ويجوز أن تكون مفسرة، لأن الإرسال فيه معنى القول. وقرأ ابن مسعود: «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول. و (أَنِ اعْبُدُوا) نحو (أَنْ أَنذِرْ) في الوجهين. فإن قلت: كيف قال (ويُؤَخِّرْكُمْ) مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله - مثلا - أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسع مئة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أي: إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت، ولم تكن لكم حيلة، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. [(قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً ونَهَارًا • فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلاَّ فِرَارًا • وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا • ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا • ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا • فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قضى الله - مثلاً - أن قوم نوح عليه السلام إن آمنوا عَمَّرَهم) إلى آخره، ذكره الإمام بعينه في "تفسيره"، وقال الواحدي ومحيي السنة: "المعنى: يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يُعاقبكم، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، يقول: آمنوا قبل الموت تَسلموا من العقوبات، فإن أجل الموت إذا جاء لا يُؤخر، فلا يمكنكم الإيمان إذا جاء الأجل". وقد مر شيء صالح من هذا البحث في "الفاطر" عند قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} [فاطر: 11].

إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا • يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا • ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا • مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا • وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا • أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا • وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا • والله أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا • ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا • والله جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا • لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا) 5 - 20] (لَيْلاً ونَهَارًا) دائباً من غير فتور مستغرقا به الأوقات كلها (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي) جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فرارا، لأنه سبب الزيادة، ونحوه: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]، (فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا) [التوبة: 124]. (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح لإعراضهم عنه. سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني: كُنتم من أهل النظر والعلم، وفيه: أنهم لا نهماكهم في حب الدنيا، كأنهم شاكون في الموت". قوله: (والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فراراً)، يُريد انه من الإسناد المجازي. قوله: (فَذَكَرَ المسبب الذي هو حظهم خالصاً)، يعني: جرد المسبب عن السبب، ليكون أشنع عليهم، أي: ليس مقصودي من دعوتكم إلى الإيمان والطاعة، سوى المنفعة العائدة عليكم، فما أقبح إعراضكم عما ينفعكم! قال الإمام: "إنما دعاهم نوح عليه السلام إلى العبادة والتقوى، لأجل أن يغفر الله لهم؛ فإن المقصود الأولي هو حصول المغفرة، فالطاعة إنما تطلب للتوسل بها إليها".

(واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) وتغطوا بها، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل: لئلا يعرفهم؛ ويعضده قوله تعالى: (أَلا إنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) [هود: 5]. الإصرار: من: أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها؛ استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها (واسْتَكْبَرُوا) وأخذتهم العزة من إتباع نوح وطاعته، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم. فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السر والعلن؛ فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف. قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى () الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار؛ والجمع بين الأمرين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن تغشاهم ثيابهم، أو تُغشيهم)، أي: استغشوا، إما من الغشاء أو التغشية. قوله: (أَصَرّ الحمار على العانة)، الجوهرى: "صر الفرس أذنيه: ضمهما إلى رأسه". العانة: وهي القطيع من حُمُرِ الوَحش، والكَدْم: العض. قوله: (استعير للإقبال على المعاصي)، قال رحمه الله: لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار، لكفى به مزجرة، فكيف والتشبيه في أسوأ حال وأفحشها، وهو حالة الكَدْم، والطّرد للسِّفاد؟ ".

أغلظ من إفراد أحدهما. و (جِهَارًا) منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد ب- (دَعَوْتُهُمْ): جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، بمعنى دعاء جهاراً، أي: مجاهراً به، أو مصدراً في موضع الحال، أي: مجاهراً؛ أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي، وقدم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحب إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة، ترغيباً في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين، كما قال: (وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ الله) [الصف: 13]، (ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ) [الأعراف: 96]، (ولَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ) [المائدة: 66]، (وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم) [الجن: 16] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقَدّم إليهم الموعد)، أي: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} الآية. نحوه قوله تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} [ق: 28]، أي: أوعدتكم بعذاب على ألسنة رُسلي. قوله: (كما قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف: 13]، استشهاد لقوله: "بما هو أوقع لنفوسهم وأحب إليهم من المنافع الحاضرة"، أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة، نعمة أخرى محبوبة إليكم، وهي {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، أي فتح مكة. وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجلة. وقال القاضي: "كأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنا على حق فلا نتركه، وإن كنا على باطل، فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه؟ فأمرهم بما يَجُب معاصيهم، ويجلب إليهم المِنَح، ولذلك وعدهم عليه بما هو أوقع في قلوبهم".

وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة، حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، وروي سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه، أنه خرج يستسقى، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ. وعن الحسن، أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله؛ وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمجاديح السماء)، المجاديح: واحدها مجدح، والياء زائدة للإشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداحاً، وأما مجدح فجمعه المجاديح. والمِجْدح نَجم من النجوم، وقيل: هو الدَّبران. وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي، تشبيهاً بالمجدح الذي له ثلاث شُعب. وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مُشبهاً بالأنواء مُخاطبة بما يعرفونه، لا قولاً بالأنواء. وجاء بلفظ الجمع لإرادة الأنواء جميعها، التي يزعمون أن من شأنها المطر. وعن بعضهم: وقد أجرى الله تعالى إنزال المطر عند طلوع ذلك، ثم رأوا المطر منه لا من الله. وقيل: المِجدح كوكب كان يكثر المطر عند طلوعه، أكثر ما يكون عند طلوع سائر الكواكب.

فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية. والسماء: المظلة؛ لأن المطر منها ينزل إلى السحاب؛ ويجوز أن يراد السحاب أو المطر، من قوله: إذا نزل السّماء بأرض قوم والمدرار: الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال. (جَنَّاتٍ) بساتين. (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا) لا تأملون له توقيراً أي: تعظيما، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إذا نَزَل السماءبأرض قوم)، تمامه: رَعَيناها وإن كانوا غِضابا ويروى: "رعيناه"، على رواية: "إذا نَبَتَ السماء"، أي: العُشْب. قوله: (ما لكم لا تكونو على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب)، يعني: حَثٌّ على رجاء الوقار لله تعالى. والمراد: الحث على الإيمان والطاعة الموجبين لرجاء ثواب الله، فهو من الكناية التلويحية، لأن من أراد رجاء تعظيم الله وتوقيره إياه، آمن به وعبده وعمل صالحاً، ومن عمل الصالحات رجاء ثزاب الله وتعظيمه إياه في دار الثواب، فهو من باب مُقدمة الواجب، لأن الحث على تحصيل الرجاء مسبوق بالحث على تحصيل الإيمان، قال الإمام: "إن القوم كانوا يُبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام، فأمرهم الله بتوقيره، أي: إنكم إذا وقَرتم نوحاً وتركتم استخفافه، كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون لله وقاراً".

و (لِلَّهِ) بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار. وقوله: () في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به، لأنه خلقكم أطواراً، أي تارات: خلقكم أولاً ترابا، ثم خلقكم نطفاً، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغاً، ثم خلقكم عظاماً ولحماً، ثم أنشأكم خلقاً آخر. أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وعن ابن عباس: لا تخافون لله عاقبة، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب، من: وقر؛ إذا ثبت واستقر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بيان للموقر)، بكسر القاف، كأنه لما قيل: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}، فقيل: لمن الوقار؟ فأجيب: لله، أي: لله الوقار فيوقركم، ولو تأخر كان صلة للوقار، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه. وعن بعضهم: البيان في كلامهم قد يتقدم ويتأخر، فالتقدم كقول الله تعالى: {لِلَّهِ وَقَارًا}، والتأخر كقولك: مرحباً بك، فـ "بك" بيان. ولكن إذا تقدم هنا وجب أن يكون بياناً، أي: وقاراً. وإذا تأخر فالظاهر أنه صلة، ويجوز أن يكون بياناً، أي: وقاراً، لمن؟ أي: لله. قوله: (وهي حال موجبة للإيمان)، قال القاضي: "حال مقررة للإنكار، من حيث إنها موجبة للرجاء، لأن خلقهم أطواراً يقتضي ذلك". قوله: (وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ ). قال الفراء: "إنما يوضع الرجاء موضع الخوف، لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف من الناس، ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العلم، كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]. قوله: (من: وقر؛ إذا ثبت واستقر)، الجوهري: "وقر الرَّجل: إذا ثبت، يقر وقاراً وقرة، فهو وقور".

نبههم على النظر في أنفسهم أولا؛ لأنها أقرب منظور فيه منهم، ثم على النظر في العالم وما سوى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السماوات والأرض والشمس والقمر (فِيهِنَّ): في السموات، وهو في السماء الدنيا؛ لأن بين السموات ملابسة من حيث أنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن، كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض. (وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والْقَمَرَ نُورًا) [يونس: 5]، والضياء أقوى من النور. استعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة أدل على الحدوث، لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات، ومنه قيل للحشوية: النابتة والنوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أولية لهم فيه، ومنه قولهم: نجم فلان لبعض المارقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أقرب منظور فيه منهم)، "منهم" صلة "أقرب"، يقال: قَرُب منه. وإضافة "أقرب" إلى النكرة، نحو: زيد أفضل رجل، أي: إذا عدَّد وفصَّل كل واحد من المنظور فيه، واحداً واحداً، تكون أنفسهم أقرب إليهم من الجميع لا محالة. قوله: (لبعض المارِقة)، النهاية: "المارِقون: الخوارج، وفي الحديث: "يَمرقون من الدِّين مُروق السَّهم من الرَّمِية"، أي: يجوزونه ويتعدَّونه".

والمعنى: أنبتكم فنبتم نباتاً. أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) مقبورين، ثم «يخرجكم» يوم القيامة، وأكده بالمصدر كأنه قال: يخرجكم حقاً ولا محالة، جعلها بساطاً مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه (فِجَاجًا) واسعة منفجة. [(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ ووَلَدُهُ إلاَّ خَسَارًا • ومَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا • وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ ودًا ولا سُوَاعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا • وقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ ضَلالاً) 21 - 24] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فنبتُّم نباتاً)، في الزجاج: "معنى أَنْبتَكم: تَنبتون. والمصدر على اللفظ: أنبتكم إنباتاً، ونباتاً أبلغ في المعنى"، لما يُشعر بأن الله أراد نباتكم فنبتم. الانتصاف: "هذا من بديع القرآن، لا ترى العُدول من لفظ إلى آخر إلا لمعنى، والنحوي يقول: أُجري المصدر على غير فعله، وصاحب المعاني يقول: له فائدة في التحقيق وراء هذا، وهو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حُكمها، حتى كان إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرن أحدهما بالآخر". وقال القاضي: "تقديره: أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً، فاختصر اكتفاء بالدلالة الإلزامة". وقلت: نحو هذه الدلالة ما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ} [الأعراف: 160]، أي: فَضَربَ فانبجست؛ قال: "فجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء

(واتَّبَعُوا) رؤوسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة (خَسَارًا) في الآخرة، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقا له وتثبيتاً، وإبطالاً لما سواه. وقرئ: (ووَلَدُهُ)، «وولده» بضم الواو وكسرها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بِضَرب الحجر، للدلالة على أن الموحى إليه، لم يتوقف عن اتباع الأمر"، هذا معنى قول صاحب "الانتصاف": "هذا هو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حكمها". قوله: (وارتسموا ما رسموا لهم)، يقال: رسمت له كذا فارتسمه، أي امتثله. قوله: (زائدة {خَسَارًا}، {خَسَارًا}: مفعول "زائدة"، و"زائدة" ثاني مفعولي {جَعَلَ}. قوله: (وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم، وسمة يُعرفون بها)، يعني: كنى عن الرؤساء بقوله: {مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}، كما يُكنى عن الإنسان بقولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار، لأنه صفة لازمة، أي: كاشفة موضحة، فنفى عنهم جميع وجوه الأرباح والمنافع، وأثبت لهم الخسار، وإليه الإشارة بقوله: "تحقيقاً له وإبطالاً لما سواه". قوله: ("وَوُلْدُه" بضم الواو)، وقال الزجاج: "الوَلَد والوُلْد: بمعنى؛ مثل: العَرَب والعُرْب". قرأ نافع وعاصم وابن عامر: "وَلَدُه"، بفتح الواو واللام، والباقون: بضم الواو وإسكان اللام. وكسر الواو: شاذ.

(ومَكَرُوا) معطوف على (لَّمْ يَزِدْهُ)، وجمع الضمير وهو راجع إلى «من»؛ لأنه في معنى الجمع. والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدهم عن الميل إليه والاستماع منه، وقولهم لهم: لا تذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح. (مَكْرًا كُبَّارًا) قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار أكبر من الكبير، والكبار أكبر من الكبار، ونحوه: طوال وطوال. (ولا تَذَرُنَّ ودًا) كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ)، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان «ود» ل- «كلب»، وسواع ل- «همدان»، ويغوث ل- «مذحج»، ويعوق ل- «مراد»، ونسر ل- «حمير»؛ ولذلك سمت العرب بعبد ود وعبد يغوث، وقيل: هي أسماء رجال صالحين، وقيل: من أولاد آدم ماتوا، فقال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا؛ فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم؛ فعبدوهم. وقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. وقرئ: «ودا» بضم الواو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({كُبَّارًا} قُرئ بالتخفيف والتثقيل)، التثقيل: المشهورة، والتخفيف: شاذ. قوله: (فكان "ود" لـ "كلب") إلى آخره، مثله: رواه البخاري عن ابن عباس مع اختلاف فيه. قوله: (وقُرئ: "ودًّا"، بضم الواو): نافع، والباقون: بفتحها.

وقرأ الأعمش: «ولا يغوثا ويعوقاً» بالصرف، وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما سببا منع الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات: وداً وسواعا ونسرا، كما قرئ: (وضُحَاهَا) بالإمالة، لوقوعه مع الممالات للازدواج (وقَدْ أَضَلُّوا) الضمير للرؤساء، ومعناه: وقد أضلوا (كَثِيرًا) قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأول من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيرا، يعنى أن هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام، كقوله تعالى: (إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) [إبراهيم: 36]. فإن قلت: علام عطف قوله (ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ)؟ قلت: على قوله: (رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي)، على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد (قَالَ) وبعد الواو النائبة عنه، ومعناه: قال رب إنهم عصوني، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: وقد أضلوا)، مبتدأ وخبر، وقوله: "ليسوا بأول من أضلوهم"، بدل أو بيان للخبر. قوله: (وقد أضلوا بإضلالهم) أي: بإضلال المؤمنين (كثيراً)، وهم هم؛ فهو من التجريد، وكان من الظاهر: وقد أضل الرؤساء، إياهم، أي الموصين المخاطبين بقوله: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}، فوضع "كثيراً" موضعه على سبيل التجريد؛ فالباء في "بإضلالهم" كالباء في: رأيت بك أسداً. قوله: (بعد {قَالَ} وبعد الواو)، يريد: أن كلام نوح مذكور بعد {قَالَ} في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}، وبعد الواو في قوله تعالى: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}،

وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالاً، أي: قال هذين القولين، وهما في محل النصب، لأنهما مفعولا (قَالَ) كقولك: قال زيد: نودي للصلاة وصل في المسجد؛ تحكي قوليه معطوفاً أحدهما على صاحبه. فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال: أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك، لقوله تعالى: (ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَارًا) [نوح: 28]. [(مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ الله أَنصَارًا • وقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا • إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ولا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا) 25 - 27] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فحكى الله تعالى الكلامين وعطف أحدهما على الآخر؛ فالواو في قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} من كلام الله لا من كلام نوح، ومن ثم فُسِّر المعنى، وقدره بقوله: "أي: قال هذين القولين". ولو كان الواو من كلامه عليه السلام، لكان المقول واحداً، ألا ترى كيف جعل ما بعد {قَالَ}، وهو {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}، وما عطف عليه من قوله: {وَاتَّبَعُوا} و {وَمَكَرُوا} و {وَقَالُوا}، قولاً واحداً؟ ولعل قصده في ذلك: أن الجملة الثانية مُسببة عن الأولى، فكان حقها الفاء، أي: رَبِّ إنهم عصوني، فلا تزدهم إلا ضلالاً، فتركت لمكان الاستئناف، أي: فما تُريد بهذا القول؟ فقال: لا تزد. ويمكن أن تجعل الواو من كلامه عليه السلام، ويفوض الترتيب إلى ذهن السامع. قوله: (المراد بالضلال أن يخذلوا)، الانتصاف: "هذا من قاعدته: التي عُرف فسادها.

تقديم (مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار، إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما». وفي قراءة ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بتأخير الصلة، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن، وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعي عليهم كفرهم، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه، ويعلم أن معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ: (خَطِيئَاتِهِمْ) بالهمزة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تقديم {مِّمَّا خَطِيآتِهِمْ} لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار، إلا من أجل خطيئاتهم). قال الإمام: "من قال من المنجّمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، كان مُكذباً لصريح هذه الآية، فيجب تكفيره". قوله: (بتأخير الصلة)، أي: بتأخير "ما" الزائدة عن {خَطِيآتِهِمْ}. قوله: (وقُرئ: خطيئاتهم، بالهمزة)، أبو عمرو: مما خطاياهم، على لفظ: قضاياهم. والباقون بالياء والتاء والهمزة جمعاً، والقراءتان الأخيرتان شاذتان. والباقون بالياء والتاء والهمزة جمعاً، والقراءتان الأخيرتان شاذتان.

و «خطياتهم» بقلبها ياء وإدغامها، و «خطاياهم»، و «خطيئتهم». بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد الكفر. (فَأُدْخِلُوا نَارًا): جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم، لاقترابه، ولأنه كائن لا محالة، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر، ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير، أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ الله أَنصَارًا) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) [الأنبياء: 43]. (دَيَّارًا) من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيام وقيوم؛ وهو فيعال من الدور، أو من الدار؛ أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالاً لكان دواراً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يراد الكُفر)، يعني: خطيئتهم، على التوحيد: إما أن يُراد به الجنس، فاشتمل على الخطيئات كلها، فهي كالجمع. وإما أن يُراد له العهد، وهي الخطيئة الكبرى، وهي ما كانوا عليه من الكفر. قوله: (ومن مات في ماء أو نار، أو أكلته السباع والطير: أصابه ما يُصيب المقبور من العذاب)، قال الإمام: "اعلم أن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عُمُره مع أنه كان صغير الجُثة ثم كَبِر، وإن أجزاءه في التحلل والذوبان دائماً، فالإنسان عبارة عن ذلك الشيء، الذي هو باقٍ من أول عُمُرِه إلى آخره، ثم إنه نَقَلَ ذلك الشيء إلى النار والعذاب".

فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه، ويقول: احذر هذا، فإنه كذاب، وإن أبى حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك؛ وقد أخبره الله عز وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن؛ ومعنى (ولا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا): لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله عليه السلام: «من قتل قتيلا فله سلبه». [(رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ولِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَارًا) 28] (ولِوَالِدَيَّ) أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخا بنت أنوش، كانا مؤمنين. وقيل: هما آدم وحواء. وقرأ الحسين بن علي: «ولولدي»، يريد: ساماً وحاماً. (بَيْتِيَ) منزلي، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي؛ خص أولا من يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات. (تَبَارًا) هلاكاً. فإن قلت: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت: غرقوا معهم لا على وجه العقاب، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غَرِقوا معهم لا على وجه العقاب، ولكن كما يموتون)، الانتصاف: "لما علل أحكام الله تعالى بالمصالح، ورُدَّ عليه أن أطفال قوم نوح لم يعملوا ما يقتضي العقوبة، فاجترأ على إنكار عقوبة الأطفال. وأما أهل السنة فقائلون: لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون".

وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون. ومنه قوله عليه السلام: «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى»، وعن الحسن: أنه سئل عن ذلك، فقال: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقيل: أعقم الله أرحام نسائهم، وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويَصدُرون مصادر شتى)، يعني: يَعُمُّهم الهلاك، فيشمل الصالح والطالح، لكن يُحشرون ويَصدرون على قدر أعمالهم: فريق هالكون، وفريق ناجون كما وَرَدَ في حديث خَسْفِ البيداء. تمت السورة * ... * ... *

سورة الجن

سورة الجن مكية، وهي ثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا • يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا • وإنهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً ولا ولَدًا • وإنهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا • وإنا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) 1 - 5] قرئ: «أحى»، وأصله وحي؛ يقال: أوحى إليه ووحى إليه، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الجِنّ ثمان وعشرون آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (قُرئ: "أُحِيَ")، قال ابن جني: " وهي قراءة ابن عائذ، أُحِيَ: من وَحَيت في وزن "فُعِلَ"، يقال: أَوْحيت إليه ووَحَيت إليه. وأصله: وُحي، فلما انضمت الواو ضماً لازماً هُمِزت كقوله تعالى: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11]، أي: وُقِّتت، وقالوا في "وجوه": أُجوه".

فقلبت الواو همزة، كما يقال: أعد، وأزن، (وإذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات: 11]، وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبى عبلة: «وحي» على الأصل (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) بالفتح، لأنه فاعل (أُوحِيَ)، و (إنَّا سَمِعْنَا): بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر؛ وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين (وإن المَسَاجِدَ) [الجن: 18]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، بالفتح)، ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة من {وَأَنَّهُ}، {وَأَنَّا}، {وَأَنَّهُمْ}، من لَدُن قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} إلى قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ}، في ابتداء كل آية. والباقون: بكسرها. وقال أبو البقاء: "ما في هذه السورة من "إن"، فبعضه مفتوح وبعضه مكسور وفي بعضه اختلاف، ما كان معطوفاً على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} فهو مفتوح لا غير، لأنها مصدرية وموضعها رفع بـ {أُوحِيَ}. وما كان معطوفاً على {إِنَّا سَمِعْنَا}، فهو مكسور لأنه محكي بعد القول، وما صح أن يكون معطوفاً على الهاء في {بِهِي}، كان مفتوحاً على قول الكوفيين على تقدير: وبأن، ولا يُجيزه البصريون، لأن حرف الجر يلزم إعادته عندهم هنا. فأما قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}، فالفتح فيه على وجهين: أحدهما: أنه معطوف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، فيكون: قد أُوحي. والثاني: أن يكون مُعلقاً بـ {تَدْعُوا}، أي: لا تشركوا مع الله أحداً، لأن المساجد، أي: مواضع السجود. وقيل: هو جمع مسجد، وهو مصدر. ومن كَسَرَ استأنف، وأما {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ}، فيحتمل العطف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، وعلى {إِنَّا سَمِعْنَا} ".

(وإنهُ لَمَّا قَامَ) [الجن: 19]، ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في (فَآمَنَّا بِهِ)، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا (وإنهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)، (وإنهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا)، وكذلك البواقي. (نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ): جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجن عدداً، وعامة جنود إبليس منهم. (فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا) أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله: (فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ • قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا) [الأحقاف: 29 - 30]. (عَجَبًا) بديعاً مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب، وفيه مبالغة؛ وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره. (يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ) يدعو إلى الصواب، وقيل: إلى التوحيد والإيمان، والضمير في (بِهِ) للقرآن؛ ولما كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك، قالوا: (ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، أي: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل؛ لأن قوله: (بِرَبِّنَا) يفسره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فعطفاً على محل الجار والمجرور)، أي: فيُعطف عطفاً. وقال الزجاج: "العطف على المجرور رديء، لأنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض. والوجه أن يكون محمولاً على معنى "آمنا به"، لأن معناه: صدقنا وعلمنا، أي: وصدقنا أنه تعالى جد ربنا". قوله: (قالوا: {وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}، وهو جواب لما أرادوا أن عطف قوله: {وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}، من باب عطف المسبب على السبب، وحرف الجمع يُفوض الترتيب إلى ذهن السامع، وهو أبلغ من الفاء. ويمكن أن يقال: إن مجموع قوله: {فَ‍آمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}: مسبب عن مجموع قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}؛ فكونه قرآناً عجباً، أي: مُعجزاً بديعاً،

(جَدُّ رَبِّنَا) عظمته، من قولك: جد فلان في عيني، أي: عظم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: «كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا». وروي: «في أعيننا». أو ملكه وسلطانه أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون، والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته، أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله: (مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً ولا ولَدًا) بيان لذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يوجب الإيمان به، وكونه يهدي إلى الرشد، موجب قلع الشرك من سِنْخه، والدخول في دين الله كله. قوله: (إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أنس، "أن رجلاً كان يكتب للنبي? ، وقد كان قرأ "البقرة" و"آل عمران"، وكان الرجل إذا قرأ "البقرة" و"آل عمران"جدَّ فينا". قوله: (أو مُلكُه)، عطف على "عظمته". قوله: (استعارة من الجَدّ)، أي استعار الملك والغنى من "الجَدّ"، وهو يحتمل أن يكون استعارة لفظية أو معنوية؛ فاللفظية أن الجَدّ موضوع للبخت والدولة، وهما لا يستعملان إلا في المحلوف، فاستعير في الله تعالى استعارة المرسن للأنف، والمعنوية أن يمثل ما في الغائب، وهو عظمة الله وماكُه وغناه تعالى، بما في الشاهد من البخت والدولة للملوك، فاستعمل في المشبّه ما كان مستعملاً في المشبّه به، من لفظ الجّدّ والبخت، ونحوه سيق في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65].

وقرئ: «جدا ربنا» على التمييز، «جدا ربنا»، بالكسر، أي: صدق ربوبيته وحق إلاهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم إذا أبعد فيه، أي: يقول قولا هو في نفسه شطط؛ لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله، وكان في ظننا أن أحداً من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفترى عليه ما ليس بحق، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: جدّاً ربنا، على التمييز)، قال ابن جني: "قرأها عكرمة، أي: تعالى ربنا جداً، ثم قدم المميز، نحو قولك: حسن وجهاً زيد". قوله: ("وجِدُّ رَبِّنا" بالكسر، أي: صدق ربوبيته)، ونحوه: جد العالم، أي: ليس فيه هزل، يعني أن علمه غير مشوب بشيء من الجهل، لقوله عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، جواباً على قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}؟ [البقرة: 67]. فمعنى قوله: {جَدُّ رَبِّنَا} في هذا المقام، معنى قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [الأنبياء: 17]، إذا فُسِّرَ {لَهْوًا} بـ {وَلَدًا}، ولهذا قال: "وحَقُّ إلهيته عن اتُخاذ الصاحبة والولد". قوله: (أشط في السَّوم إذا أبعد فيه)، الجوهري: "يُقال: سامت الماشية تَسوم سوماً، إذا رَعَت، فهي سائمة". قوله: (أي: يقول قولاً هو في نفسه شطط)، أي: "شططاً" صفة لمصدر محذوف. قال القاضي: "أي: قولاً ذا شطط، أو: هو شَطَطٌ لِفَرط ما أشَطّ فيه".

فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم كذباً قولا ()، أي: مكذوبا فيه. أو نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول. ومن قرأ: «أن لن تقوّل»، وضع كذبا موضع تقولا، ولم يجعله صفة؛ لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً. [(وإنهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا • وإنهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) 6 - 7] والرهق: غشيان المحارم، والمعنى: أن الإنس باستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً؛ وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم؛ فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس؛ فذلك رهقهم، أو فزاد الجن الإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم (وإنهُمْ) وأن الإنس (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ) وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض. وقيل: الآيتان من جملة الوحي، والضمير في (وإنهُمْ ظَنُّوا) للجن، والخطاب في (ظَنَنتُمْ) لكفار قريش. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومن قرأ: "أن لن تقول")، قال ابن جني: "قرأها الحسن ويعقوب، و {كَذِبًا} على هذا منصوب على المصدر من غير حذف موصوف معه، وذلك أن "تقول" في معنى "تَكذِب"، كأنه قيل: أن لن يكذب الإنس والجن على الله كذباً. وأما من قرأ: {أَن لَّن تَقُولَ}، فإنه وصف مصدر محذوف، أي: أن لن تقول على الله قولاً كذباً، أو نصبه نصب المفعول به، أي: أن لن تقول كذباً، كقولك: قلت حقاً، وقلت شِعراً". قوله: (الآيتان من جُملة الوحي)، يعني: قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ}، وقولهم: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}، من جملة قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ}، فعلى هذا، الحق أن تُفتح {أَنَّهُ} و {وَأَنَّهُمْ} كما مرَّ آنفاً.

[(وأنا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا • وإنا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) 8 - 9] اللمس: المس، فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرف قال: مسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع يقال: لمسه والتمسه، وتلمسه، (كطلبه وأطلبه وتطلبه)، ونحوه: الجس، وقولهم: جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحراس، كالخدم في معنى الخدام؛ ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل: شداداً؛ ونحوه: أخشى رجيلاً أو ركيباً غاديا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مَسِسنا من الآباء) البيت، بعده: فلمت بَلغنا الأمّهات وَجَدتُّمُ بَني عَمِّكم كانوا كرامَ المضاجعِ أي: طلبنا عيباً، لأن الماس طالب مُتعرف، وقوله: "غير واضع" صفة "نسب"، يقول على سبيل المفاخرة مع الأقرباء: طَلَبنا من جانب الآباء، هل فينا من ضَعَةً وفساد، فوجدنا كُلًّا منا ينتمي إلى حسب شريف ونسب كريم يَرفعه ولا يَضعه، فلما بلغنا المفاخرة إلى الأمهات، وجدتم بني عمِّكم، والمراد به أنفسكم، كرام المضاجع. والمضاجع كناية عن الأزواج، وهذا من أحسن المعاريض، لأن المراد: كُنا من طرف الآباءِ سواء، وكانت أمهاتنا أشرف من أمهاتكم.

لأن الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع للراصد، على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب بمعنى الراصد، أو كقوله: ومعى جياعاً يعني: يجد شهاباً راصداً له ولأجله. فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال الله تعالى: (ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5]، فذكر فائدتين في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذوي شهاب) إلى آخره، قيل: حاصل الوجه الأول: أن المراد بقوله: {شِهَابًا} الملائكة، و {رَّصَدًا} صفته على الوجه الذي ذكره. والثاني: أن المراد بالشهاب معناه المشهور من غير حذف المضاف، والرَّصد مفرد لا اسم جمع، وهو صفة "شِهاب". والثالث: أن يكون المراج بالشهاب اسم جمع، كما في قوله: ومعي جِياعَا فإن المراد بالمعي الجمع؛ ولهذا وصفه بالجمع. وقلت: لعل الحاصلين أن {شِهَابًا رَّصَدًا}، لا يخلو: إما أن يُحْملا على الجميع، كما يقال: ذوي شهاب راصدين. أو على الإفراد، بأن يُقال: شهاباً راصداً، أي: يجد كل واحد من المُستمع شهاباً راصداً له ولأجله. أو يُحمل {شِهَابًا} على الإفراد، و {رَّصَدًا} على الجمع مُبالغة، نحو قوله: "مِعي جياعاً"، تنزيلاً للواحد وهو الموصوف منزلة الجمع؛ فإن المراد أن

قلت: قال بعضهم: حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية، قال بشر بن أبى خازم: والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كل مكان من أمكنة الأمعاء بمنزلة معي واحد، فكأنه أمعاء لشدة الجوع. كذلك، كل واحد من المستمع بمنزلة جماعة فيُرمى بالراصدين؛ فلما كان الوجهان قرينين، عقبهما بقوله: "يعني: يجد شهاباً راصداً له". الجوهري: "المعي واحد الأمعاء". وفي الحديث: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء". وقلت: الحديث رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي، عن أبي هريرة. وأما "معي جياعاً"، فتمامه: كأن قُتود رَحلي حين ضَمّت حوالب غُرزاً ومِعيً جياعاَ "حوالب"خبر "كأن"، والقتود عيدان الرَّحل، جمع قَتَد، والحالبان: العِرقان المكتنفان بالسُّرة، والحَلوبة الناقة ذات اللبن تُركت، والحوالب جمعها. وغَزَّرت إذا قل لبنها، فهي غارزة، نزل الموصوف وهو واحد منزلة الجمع، ووصف بالجمع وهو "جياعاً". قوله: (والعَيرُ يُرهقُها) البيت، "يُرْهقُها": يُكلِّفها ويُغشيها، يعني: العَير يُكلف الأتان

وقال أوس بن حجر: وانقض كالدري يتبع ... نقع يثور تخاله طنبا وقال عوف بن الخرع: يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويتبع أثرها، ويغشيها بالغبار في العدو، والجحش يعدو خلفها، كما يهوي كوكب الرَّجم. خازم، بالخاء المعجمة. قوله: (وانْقَضّ كالدُّرِّي) البيت، يصف فرسه، أي: هوى في العدو كالكوكب الدّرّي، يتبعه نقع، أي: غبار، تخاله، أي: تحسب الغبار طُنُباً من امتداده، انقض الطائر: سَقَط، وانقض الطائر: هوى في طيرانه، ومنه انقِضاض الكواكب. قوله: (يَرُد علينا العير) البيت، يصف عدو فرسه، أي: يَرُد علينا الحمار الوحشي وهو ينقض، أي: يسقط ويهوي في عدوه. من دون إلفه، أي: قُرب زوجه، مع أنه إذا كان مع إلفه، كان أشدَّ نفاراً وأحدَّ عدواً. يَتْبعه الدم؛ أي: أنه مجروح. وكالدري، وهو إما صفة للثور أو الفرس، إذا فُسِّرَ الدَّم للتقرب والحُمرة، وهي نار الحاجب. وقوله: "عوف بن الخَرِع"، صح بالخاء المعجمة والراء والعين المهملة.

ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة؛ حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلاً. وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: (وإنا كُنَّا نَقْعُدُ)؟ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن على بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم». وفي قوله (مُلِئَتْ) دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله (نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ)، أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته. [(وإنا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) 10] يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق، قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً، أي: خيراً، من عذاب أو رحمة، أو من خذلان أو توفيق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولكن الشياطين)، متعلق بقوله: "أنه كان قبل المبعث". قوله: (وهذا ذكر ما حَملهم)، أي: هذا ذكر الداعي الذي حملهم. والذكر المشار إليه ما يُفهم من مجموع: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} إلى قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}. ولهذا أوقع "يقولون" بياناً لقوله: "وهذا ذكر ما حملهم". و"لما" مع جوابه، مقول "يقولون". قوله: (ما هذا إلا لأمر أراده الله تعالى بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً)، الانتصاف: "ومن عقائدهم، أي: الجن، أن الهدى والضلال جميعاً من خلق الله، فتأدبوا

[(وأنا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) 11] (مِنَّا الصَّالِحُونَ) الأبرار المتقون، (ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ) ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، كقوله: (ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) [الصافات: 164]، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو أرادوا الطالحين. (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) بيان للقسمة المذكورة، أي: كنا ذوى مذاهب مفترقة مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة، كقوله: كما عسل الطريق الثّعلب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بنسبة الرشاد إليه تعالى، وجعلوا الشر مُضمر الفاعل، فجمعوا بين حسن الاعتقاد والأدب الحسن". وقلت: مثله قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. قوله: ({كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} بيان للقسمة المذكورة)، قال الزجاج: "قدداً: متفرقين مسلمين وغير مسلمين، وقوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}، تفسير لـ {طَرَائِقَ قِدَدًا} ". اعلم أن {طَرَائِقَ} هو خبر {كَانَ}، إما بحذف المضاف في الخبر، وهو "ذو" تارة، و {قِدَدًا} صفة، وهو المراد من قوله: كنا ذوي مذاهب متفرقة". وأخرى مثل على منوال: زيد أسد، وكذلك أتى بأداة التشبيه وبين وجه الشبه بقوله: "في اختلاف أحوالنا". وإما على أنه ظرف مُستقر يُحذف "في" في المؤقت، وإليه الإشارة بقوله: "كنا في طرائق مختلفة". ويجوز أن يُترك على ما هو عليه، ويقدر مضافاً في اسم كان، وهو المراد من قوله: "أو كانت طرائقنا طرائق قِدداً". قوله: (كما عَسَلَ الطريق الثعلب)، أوله: لَدْن بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه فيه

أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه؛ والقدة من قد، كالقطعة من قطع، ووصفت الطرائق بالقدد، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق. [(وإنا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) 12] (فِي الأَرْضِ) و (هَرَبًا): حالان، أي: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين؛ وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم: منهم أخيار، وأشرار، ومقتصدون؛ وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب. [(وإنا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا) 13] (لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى): هو سماعهم القرآن وإيمانهم به (فَلا يَخَافُ) فهو لا يخاف، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء، ولولا ذاك لقيل: لا يخف. فإن قلت: أي فائدة: في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟ قلت: الفائدة فيه: أنه إذا فعل ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رمح لدن: أي: لين، عسل: أي: أسرع، والضمير في "فيه" للهز أو "الكف"، أي: عدا في الطريق، وفيه إشكال؛ لأن حُكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف، فلا يُحذف "في"، والبيت شاذ. وقيل: منصوب بحذف الجار واتصال الفعل. قوله: (الفائدة فيه: أنه إذا فعل ذلك)، أي: الرفع والتقدير. خلاصة الجواب: أن العدول من الظاهر لفائدتين: إحداهما: دلالة الثبوت والدوام التي تُعطيها الجملة الاسمية. وثانيتهما: تقديم الفاعل المعنوي المفيد للاختصاص، وأنه هو المختص بذلك دون غيره.

فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وقرأ الأعمش: فلا يخف، على النهي. (بَخْسًا ولا رَهَقًا): أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقاً، ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزاءهما، وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم»، ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس؛ بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة، من قوله عز وجل: (وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس: 27]. [(وإنا مِنَّا المُسْلِمُونَ ومِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) 14 - 15] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَلَا رَهَقًا})، الراغب: "رَهِقَه الأمر، أي: غَشِيَه بِقَهر". الأساس: "رهقه: دنا منه، وأرهقناهم الخيل، وصبي مراهق: مدان للحلم". النهاية: "في حديث علي، رضي الله عنه، أنه وعظ رجلاً في صحبة رجل رهق، أي: فيه خِفَّة وحِدة. ويقال: رجل فيه رهق، إذا كان يَخِفُّ إلى الشر ويغشاه". قوله: (لأنه لم يبخس أحداً حقّاً)، يريد أنه من باب نفي المسبب لانتفاء السبب، وقد وضع موضع ذلك السبب الإيمان بالله؛ ليؤذن بأن الإيمان هو السبب في الاجتناب عن البَخْس والظلم؛ ولذلك استشهد بقوله: "المؤمن من أمنه الناس". والحديث من رواية الترمذي والنسائي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله? : "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم". قوله: (ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يُبْخَس)، عطف على قوله: "أي: جزاء بخس ولا رَهَق".

(القَاسِطُونَ) الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فى؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال! حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل؛ فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالما مشركاً، وتلا لهم قوله تعالى: (وأَمَّا القَاسِطُونَ)، وقوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]، وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم؛ وكفى به وعداً أن قال: (فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)، فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفرق أن القصد في نفي الخوف على الوجه الأول، كان لأجل انتفاء سببه، وعلى الثاني لإثبات منافيه، وهي الأعمال الصالحة، ليترتب عليها الجزاء الأوفى. كما دل الأول على أن من حق المؤمن أن لا يُنقص حق أخيه المسلم ولا يظلمه، دل الثاني على أن من حقه أن يعمل الأعمال الصالحة، ويفهم منه أيضاً، أن من لم يُؤمن بربه الذي أنعم عليه وأحسن إليه بالنعم الظاهرة والباطنة، تُجعل أعماله التي حسبها أعمالاً، هباءً منثوراً. قوله: ({الْقَاسِطُونَ}: الكافرون الجائرون)، الراغب: " القسط هو النصيب كالنصف والنَّصفة، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]. والقَسط بالفتح، هو أن يأخذ قسط غيره، ولذلك قيل: قَسَطَ الرجل: إذا جار، وأَقْسط: إذا عدل، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]، وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. قوله: (فذكر سبب الثواب وموجبه)، وهو قوله: {تَحَرَّوْا رَشَدًا}، قال: أي: قَصدوا

[(وألَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا • لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) 16 - 17] (وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا): «أن» مخففة من الثقيلة، وهو من جملة الموحى، والمعنى: وأوحي إلى أن الشأن والحديث: لو استقام الجن على الطريقة المثلى، أي: لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة، ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها؛ وقرئ بهما، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه. ويجوز أن يكون معناه: وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام، لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طريق الحق والرَّشد. وقيل: تحروا: توخَّوا وعمدوا. والضمير في "به" مُبهم، يفسره قوله: "أن قال". قوله: (بفتح الدال وكسرها، وقُرئ بهما)، الغدق، بالفتح: هي المشهورة، وبالكسر: شاذة. قوله: (ويجوز أن يكون معناه)، عطف من حيث المعنى على قوله: "لو استقام الجنُّ على الطريقة المثلى". واختلاف التَّفسيرين بحسب تفسير {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}؛ فعلى الأول مُؤول بالاختيار، وعلى الثاني بالفتنة والهَلَكة. وينصر الثاني التذييل بقوله: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}، لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد، أي: لنستدجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله.

لنفتنهم فيه: لتكون النعمة سبباً في إتباعهم شهواتهم، ووقوعهم في الفتنة، وازديادهم إثماً؛ أو لنعذبهم في كفران النعمة. (عَن ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه. (يَسْلُكْهُ): وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحةً، أي: ندخله (عَذَابًا)، والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر: 42] فعدي إلى مفعولين: إما بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله: (واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) [الأعراف: 155]، وإما بتضمينه معنى «ندخله»، يقال: سلكه وأسلكه، قال: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعدني شيء ما تصعدني خطبة النكاح، يريد: ما شق علي ولا غلبني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَسْلُكْهُ}، وقُرئ بالنون)، عاصم وحمزة والكسائي: بالياء مفتوحة، والباقون: بالنون. قوله: (حتى إذا أسْلكوهم في قُتائِدةٍ)، عجزه: شَلًّا كما تَطْردُ الجمّالةُ الشُّرُدَا قُتائدةٍ: ثنية معروفة، والشَّلّ: الطَّرد، أي: يشلون شلًّا؛ يصف جيشاً هزموهم، حتى أدخلوهم في هذه الثنية، كما تطرد الجمالة النوق الشُّرُد النافرة. قوله: (ما تصعّدني شيء ما تَصَعدتني خطبة النكاح)، "ما" الأولى نافية، والثانية مصدرية.

[(وأن المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) 18] (وإن المَسَاجِدَ) من جملة الموحى. وقيل معناه: ولأن المساجد (لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا)، على أن اللام متعلقة ب- «لا تدعوا»، أي: فلا تدعوا (مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) في المساجد، لأنها لله خاصة ولعبادته. وعن الحسن: يعني الأرض كلها؛ لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً. وقيل: المراد بها المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد، ومنه قوله تعالى: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة: 114]. وعن قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد. وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: "يقال: تصعده الأمر إذا شق عليه وصعب، وهو من الصعود: العقبة؛ وقيل: إنما تصعب عليه لقُرب الوجوه من الوجوه، ونظر بعضهم إلى بعض، لأنهم إذا كان جالساً معهم كانوا نظراء وأكفاء، وإذا كان على المنبر كانوا سُوقة ورَعية". وروي عن المصنف أنه قال: إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك، لأنه كان من عادتهم، أنهم كانوا يذكرون في الخطبة جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة، فكان يشق عليهم ارتجالاً، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته. قوله: (لأنها جُعِلت للنبي? )، هو من قوله صلوات الله عليه: "جُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً". الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب، وهي: الجبهة، والأنف، واليدان، والركبتان، والقدمان»، وقيل: هي جمع مسجد وهو السجود. [(وإنهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) 19] (عَبْدُ اللَّهِ): النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: هلا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره: وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبداً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أُمِرت أن أسجد على سبعة آراب)، عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع رسول الله? يقول: "إذا سجد العبد سجدة، سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه ورُكبتاه وقدماه"، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قوله: (أو لأن المعنى)، يريد أن قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}، من جملة الموحى في قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}، ومعطوف على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ}، فيكون من تتمة كلامه صلوات الله عليه، لأنه هو المأمور بقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}، فكان الأصل: قُل أوحي إلى أنه لما قمت تدعو؛ فوضع موضع الضمير عند الله تواضعاً لله تعالى، وتذللاً لجلاله تعليماً من الله وتأديباً له. أو يكون نقلاً لكلام الله تعالى الموحى إليه؛ فتخصيص ذكر العبد إدماج لمعنى أن العبادة من العبد غير مُستبعدة، فلا ينبغي أن نتعجب منه.

ومعنى «قامَ يدعوه»: قام يعبده، يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم. (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً، وإعجاباً بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولعل هذا الثاني أولى وأحرى لاضمحلال رسمه، فراراً في مطاوي الفناء، فكأنه صلوات الله عليه يقول: أنا مُبلغ كلام ربي هذا. قوله: (قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن)، روى الترمذي عن ابن عباس: "كان الجن يَصعدون إلى السماء يَستمعون الوحي، فإذا سمعوا كلمة زادوا عليه تسعاً، فأما الكملة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلاً، فلما بُعث رسول الله? مُنِعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله? قائماً يُصلي بين جبلين أُراه قال: بمكة، فلقوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حَدَثَ في الأرض". وروى الإمام أحمد ابن حنبل عن عكرمة: "كان رسول الله? ، بنخلةٍ يُصلي العِشاء، كادوا يكونون عليه لِبَداً". قوله: (وإعجاباً)، عطف على "تعجباً". يقال: تَعَجبت من الشيء، وأعجبني هذا الشيء بِحُسنه. والإعجاب يتعدى بنفسه إلى واحد، فعداه إلى اثنين بزيادة الباء، كأن البعض قال لبعض آخر: انظروا إلى حُسن هذا القرآن، وغرابة نَظْمِه، وغزارة حُكمِه.

وقيل معناه: لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين. (لِبَدًا): جمع لبدة، وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها (لبدة الأسد). وقرئ: «لبدا» واللبدة في معنى اللبدة، ولبدا: جمع لابد، كساجد وسجد. ولبدا بضمتين: جمع لبود، كصبور وصبر. وعن قتادة: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه. ومن قرأ «وإنه» بالكسر، جعله من كلام الجن، قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: معناه: لما قام رسولاً)، ويروى أن رسول الله. وهو من باب سَوق المعلوم مساق غيره، فوضع موضع "رسولاً" "عبد الله"، نعياً على المشركين سوء صنيعهم ممن يُحد الله ويعبده وحده، نظيره قوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. ويمكن أن يُحمل هذا الوجه، على قراءة من قرأ بكسر الهمزة حكاية لقول الجن. قوله: (ومنها لبدة الأسد)، الجوهري: "قيل لزُبرة الأسد: لِبدة، وهي الشعر المتراكب بين كتفيه". قوله: (وقُرئ: "لُبَداً")، هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها. قوله: (ناوأه)، أي: عاداه. الجوهري: "أصله الهمز، لأنه من النَّوء، وهو النهوض". قوله: (ومن قرأ: "وإنه"، بالكسر)، في "المعالم": "قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة،

[(قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا • قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا • قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا • إلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا • حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا • قُلْ إنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا • عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا • إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) 20 - 28] «قال» للمتظاهرين عليه: (إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)، يريد: ما أتيتكم بأمر منكر، إنما أعبد ربى وحده (ولا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)، وليس ذاك مما يوجب إطباقكم على مقتي وعداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضي الإشراك به بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكاً. أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا رَشَدًا) ولا نفعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والباقون بفتحها" وهو عطف من حيث المعنى على قوله: " {عَبْدُ اللَّهِ}: النبي? "، والكلام على ما سبق مبني على "أنه" بالفتح. وقد مر أن قراءة الفتح مبنية على أنه من جملة الموجى، والكسر على أنه من كلام الجن. قوله: ("قال" للمتظاهرين عليه)، أي: الضمير في "قال إنما أدعو"، لرسول الله? . والتعريف في "المتظاهرين"، معهود خارجي تقديري لما يفهم من قوله الاسابق: "لتظاهرهم عليه ... مُتراكمين". قوله: (أو قال الجن لقومهم)، عطف على قوله: "قال للمتظاهرين عليه"، وفي كلامه لفٌّ

أو أراد بالضر: الغي، ويدل عليه قراءة أبى: «غيا ولا رشدا»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونَشْر. وتقريره: أن قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي} الآية، من كلام رسول الله? ؛ فإذا قُرئ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} بالفتح، يُقدر أن الله تعالى يحكي كلامه صلوات الله عليه، وهو {إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي}، وهو لوجهين بناء على تفسير قوله تعالى: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}: فإذا أُريد بهم المشركون كما قال: "كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه"، فالمعنى: إنما أدعو ربي، أي: ما أتيتكم بأمر مُنكر، إنما أعبد ربي وحده، إلى آخره. وإذا أريد بهم الجن، كما قال حين أتاه الجن فاستمعوا لقراته: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، فالمعنى: ليس ما ترون من عبادتي الله، ورفضي الإشراك به، بأمر مُتعجب منه، إلى آخره. وإذا قُرئ: "إنه لما قام" بالكسر، يكون الجن قد حكوا لقومهم حين قفلوا إليهم، ما رأوا من رسول الله? من قيامه لعبادة الله وما سمعوا منه، من قوله لهم: {إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي} الآية. قوله: (ويدل عليه قراءة أُبي: "غياً")، يريد أن {رَشَدًا} وقع مقابلاً لـ {ضَرًّا}، وليس من التقابل الحقيقي؛ فإما أن يُؤول الثاني بما يُطابق الأول أو عكسه، وينصر الثاني قراءة أُبَيّ: "غيًّا". وقلت: الأسلوب والنظم يقتضيانهما معاً، لأنه صلوات الله عليه، لما ازدحم عليه الجن ازدحاماً عظيماً، وتعجبوا منه تعجباً بليغاً، قيل له: قل لهم: هَونوا على أنفسكم ولا تزدحموا عليّ، لأني عبد مبعوث مُبلغ، ليس إليّ ضَرُّكم ولا نفعكم ولا رشدكم ولا غيكم، فإن ذلك إلى الله تعالى؛ وإنما ذهب إلى هذا الأسلوب، وعَدَل من التقابل الحقيقي، ليجمع بين المعنيين،

والمعنى: لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم، إنما الضار والنافع الله. أو لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد، إنما القادر على ذلك الله عز وجل، و (إلاَّ بَلاغًا) استثناء منه، أي: لا أملك إلا بلاغاً من الله. و (قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي) جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه، على معنى أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه. والملتحد الملتجأ، وأصله المدخل، من اللحد. وقيل: محيصا ومعدلاً. وقرئ: «قال لا أملك»، أي: قال عبد الله للمشركين أو للجن. ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. وقيل: (بَلاغًا) بدل من (مُلْتَحَدًا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد مر في قوله تعالى في "يونس": {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. فإن قلت: لم ذكر المس في أحدهما والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضُّر والخير. قوله: (أو لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد)، الانتصاف: "الآية لما دلت على أن الله تعالى هو الذي يملك لعباده الرَّشد والغي، فإنه صلوات الله عليه، إنما سلبهما عن نفسه يمحض إضافتهما إلى الله تعالى، أعمل الزمخشري الحيلة، فتارة يحمل الرشد على النفع، وتارة ينظر إلى خصوصية الرشد، فيضيف إليه قيد الإكراه. ومع هذا، فالجن أشد منهم نظراً لما سبق من اعتقادهم الحق". قوله: (و {إِلَّا بَلَاغًا} استثناء منه)، أي: من قوله: {لَا أَمْلِكُ}، قال القاضي: "لأن التبليغ إرشاد"، وقال أبو البقاء: "هو استثناء من غير جنس". قوله: (وقيل: {بَلَاغًا} بدل من {مُلْتَحَدًا}، فعلى هذا لا يكون قوله: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} اعتراضاً.

أي: لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به. وقيل: (إلاَّ) هي (إن لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغاً كقولك: إن لا قياماً فقعوداً. (ورِسَالاتِهِ) عطف على (بَلاغًا)، وكأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات. والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا، ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان. فإن قلت: ألا يقال: بلغ عنه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني بلغوا عني»؟ قلت: «من» ليست بصلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة «من» في قوله: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ) [التوبة: 1]، بمعنى بلاغاً كائناً من الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إن لا قياماً)، حذف الفعل بعد "إنْ" الشرطية الداخلة على "لا" النافية، وأقام المصدر مقامه، والمعنى: إني لن يجيرني من الله، أن لا أُبلغ بلاغاً، وأن لا أبلغ رسالاته. ومعنى قوله: إن لا قياماً فقعوداً: إن لم تَقُم قياماً فاقعد قعوداً. قوله: (وأن أُبلِّغ رسالاتِه)، إنما قدَّر: أن أبلغ، لكونه معطوفاً على مصدر "أُبَلِّغ" المضمر، فيدل الأول على إيجاد التبليغ على التأكيد، ولهذا قال: "فأقول الله كذا، ناسياً القول إليه". ةالثاني على تبليغ أشياء واجبة الإرسال، ومن ثم قال: "أن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نُقصان". وهذا من باب العطف على التقدير لا الانسحاب، لما يلزم منه عطف المفعول به على المفعول المطلق.

وقرئ: «فأن له نار جهنم» على: فجزاؤة أن له نار جهنم، كقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: 41]، أي: فحكمه أن لله خمسه. وقال: (خَالِدِينَ) حملاً على معنى الجمع في «من». فإن قلت: بم تعلق (حَتَّى)، وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله: (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) [الجن: 19]، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم (حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) من يوم بدر وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ أنهم (أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا). ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال، من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه، (حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، أي: {حَتَّى} غاية قوله: {يَكُونُونَ}. هذا إنما يَستقيم، إذا فسر {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}، بالتظاهر والتعاون به. وأما إذا فُسِّر بتراكم الجن وتزاحمهم، فالواجب أن يُعلق بمحذوف كما في الوجه الآتي. ونظيره ما في "مريم": {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم: 75]، قال: تقديره: "قالوا: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ}، أي: لا يبرحون يقولون هذا القول، إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين". وها هنا لما سمع المشركون هذا الوعيد والتهديد الشديد، قالوا: متى يكون هذا الموعود؟ إنكاراً له. فقيل لرسول الله? : {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ}. وإنما أُعيد {تُوعَدُونَ}، ليؤذن بأنه كائن لا ريب فيه، فقوله: "قال المشركون" إشارة إلى تقدير سؤال يقتضيه الفصل بقوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي}.

قال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكاراً له، فقيل: (قُلْ) إنه كائن لا ريب فيه، فلا تنكروه؛ فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فما أدري متى يكون؛ لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. فإن قلت: ما معنى قوله: (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)، والأمد يكون قريباً وبيعداً، ألا ترى إلى قوله: (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30]؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية، أي: هو (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع، و (مِن رَّسُولٍ) تبيين لمن ارتضى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما معنى قوله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا})، أي أن الهمزة و"أم" المعادلة يقتضيان أن يقال: أقريب ما توعدون أم بعيد؟ والأمر مشترك بين البُعد والقُرب. وأجاب أن رسول الله? ، لما كان مُهتماً بقُرب الوعد، صرح في الجزء الأول من الكلام ما كان مُقتضياً إثباته. وفي الجزء الثاني أُطلق، على أنه غير مُلبس أن المراد: أم مؤجل ضُربت له غاية. قوله: (أي: هو {عَالِمُ الْغَيْبِ})، يريد أن {عَالِمُ الْغَيْبِ}، خبر مبتدأ محذوف، والإضافة مَحضة. وأنت تعلم أن تعريف الخبر يُنبئ عن التخصيص، والكلام وقع تعليلاً لنفي الدراية، كأنه قيل: ما أدري قُرب ذلك الموعد ولا بُعده، إلا أن يُطلعني الله عليه، لأن علم جميع الغيب مُختص به، وهو يُطلع على بعضه بعض الخَلق، على هذه الطريقة المخصوصة المذكورة في هذه الآية، و "الفاء" في {فَلَا يُظْهِرُ}، لتعقيب حُكم بَعد حُكم،

يعني: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى، وفي هذا إبطال للكرامات؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} للسبب. قال أبو البقاء: " {مَنِ ارْتَضَى} مبتدأ، والخبر: {فَإِنَّهُ}، و {رَصَدًا} مفعول {يَسْلُكُ} "، وقيل: الضمير في "فإنه" للمرتضى. قوله: (وفي هذا إبطال للكرامات)، قال الإمام: "قوله {عَلَى غَيْبِهِي} لفظ مفرد ليس فيه صفة العموم، فيكفي أن يقال: إن الله لا يُظهر على غيب واحد من غُيوبه أحداً إلا الرسل، فيُحمل على وقت وقوع يوم القيامة، فكيف وقد ذكرها عُقيب قوله {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ}؟ . وقلت: هو ضعيف، لأن الرُّسل أيضاً لم يظهروا على ذلك. أما إذا حُمل {مَّا تُوعَدُونَ} على إظهار الله له صلوات الله عليه يوم بدر، فيجوز ذلك. وقال الإمام: "ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: لا يُظهر على غَيبه المخصوص أحداً. لكن، من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه، حفظة يحفظونه من مَردة الجن والإنس، لأن هذا الكلام كان جواباً لسؤال مُستهزئٍ". وقال القاضي: "جوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط، وكرامات الأولياء على المُغيبات، إنما تكون تلقياً عن الملائكة، كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء".

لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. (فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يدي من ارتضى للرسالة. (ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين؛ يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم، حتى يبلغ ما أوحي به إليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "ادعى الزمخشري عاماً واستدل بخاص، فالدعوى امتناع الكرامات كلها، فيجوز إعطاؤه الكرامات كلها إلا الاطلاع على الغيب. ولعل شُبهة القدرية في إبطالها، ان الله تعالى لا يتخذ منهم ولياً أبداً". وقلت: الأقرب تخصيص الإطلاع بالضعف والخفاء؛ فإن إطلاع الله الأنبياء على الغيب، أمكن وأقوى من إطلاعه الأولياء، يدل على حرف الاستعلاء في {عَلَى غَيْبِهِي}، قال الله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، فضُمّن {يُظْهِرُ} معنى "يُطلع"، أي: فلا يُطلع الله على غيبه إظهاراً تاماً، وكشفاً مرضياً جلياً، إلا لمن ارتضى من رسول الله، فإن الله تعالى إذا أراد أن يُطلع النبي على الغيب، يُوحي إليه أو يُرسل إليه المَلَك، ويحفظ الموحى برصد من الملائكة، يدل عليه ترتيب الكلام في قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}، وتعليله بقوله: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}. وأما كرامات الأولياء، فهي من قبيل التَّلويحات واللَّمحات، أو من جنس إجابة دعوة وصدق فراسة؛ فإن كشف الأولياء غير تام كالأنبياء، قال الشيخ العارف أبو القاسم القُشيري

وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. (لِيَعْلَمَ) الله (أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) يعني الأنبياء؛ وحد أولاً على اللفظ في قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ)، ثم جمع على المعنى، كقوله: (فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ) [الجن: 23]، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي، محروسة من الزيادة والنقصان؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رحمه الله تعالى: "ظهور الكرامات على الأولياء جائز، لأنه لا يؤدي إلى رفع أصل من الأصول، وظهورها علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله"، كما أن ظهور المعجزة، علامة صدق من ادَّعى النُّبوة. قال الإمام أبو إسحاق: "الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعوة، وأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا". وقال الإمام أبو بكر بن فُورك: "الفرق بين المعجزات والكرامات، هو أن الأنبياء صلوات الله عليهم مأمورين بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها. والنبي يدعي ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعي ولا يقطع لجواز الاستدراج". وقلت: لا يدخل في هذا المعنى حكم المنجم المخذول، لأن ذلك تكرمة وتشريف، والمنجم مطرود مرجوم، قال الزجاج والواحدي وصاحب "المطلع" رحمهم الله: "الآية توجب على من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك، فقد كفر بما في القرآن".

وذكر العلم كذكره في قوله تعالى: (حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ) [محمد: 31]، وقرئ: «ليعلم»، على البناء للمفعول. (وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل من الحكم والشرائع، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها، (وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) من القطر والرمل وورق الأشجار، وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و «عدداً»: حال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً، أو مصدر في معنى إحصاء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الجن، كان له بعدد كل جني صدق محمداً صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وذكر العلم كذكره في قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ})، والمعنى: لنُعلمه علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً. تمت السورة * ... * ... *

سورة المزمل

سورة المزمل مكية، وهي تسع عشرة أو عشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ • قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً • نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً • أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً) 1 - 4] (المُزَّمِّلُ) المتزمّل، وهو الذي تزمل في ثيابه: أي تلفف بها، بإدغام التاء في الزاي. ونحوه: المدثر في المتدثر، وقرئ: «المتزمل» على الأصل، والمزمل، بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها. على أنه اسم فاعل أو مفعول، من زمله، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في قطيفه، فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، ألا ترى إلى قول ذي الرمة: وكائن تخطت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المُزَّمِّل عشرون آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (وكائن تَخَطّت ناقتي) البيت، "كائن"، معناها: معنى كم الخبرية، يقول: كم من

يريد: الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب، ونحوه: سهداً إذا ما نام ليل الهوجل وفي أمثالهم: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل فذمه بالاشتمال بكسائه، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مفازة تخطت ناقتي فيها، وكم من نائم، أي: غافل عن ليل تلك المفازة، مُتزمل في ثوبه غير مُهتم بشأنها. وقيل: الضمير في "ليلها" للناقة، وأراد ليل نفسه، وأضافه إلى ناقته. قوله: (سُهُداً إذا نام ليل الهَوجل)، أوله: فَأَتَت به حُوش الفؤاد مُبَطّناً حُوش الفؤاد، أي: ذكي الفؤاد حديده. مبطناً، أي: خميص البطن. الهوجل: الثقيل الأحمق الكسلان. يقول: أتت الأم بهذا الولد مُتيقظاً حذراً ذكياً ساهراً، إذا نام الكسلان. قوله: (وفي أمثالهم: أوردها سعد وسعد مشتمل)، قيل: هذا سعد بن زيد مناة، أخو مالك بن زيد مناة الذي يقول في حقه: آبل من مالك، قال الميداني: "هو سبط تميم بن مُرة وكان يتحمق، إلا أنه كان آبل أهل زمانه، ثم إته تزوج وبنى بامرته، فأورد الإبل أخوه سعد ولم يُحسن القيام عليها والرفق بها، فقال مالك: أوردها سَعد وسَعد مُشتمل ما هكذا تُورد يا سعد الإبل"

وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله، لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم، فخفف عنهم. وقيل: كان متزملا في مرط لعائشة يصلي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: أتى بها الورد، والحال أنه مشتمل ليس بمشمر، فذمه بالاشتمال، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس. وقيل: ذمه بالاشتمال بكسائه، وادعى أن الخلل كان لميله إلى الدعة، وعلامته الاشتمال. الانتصاف: "هذا القول والاستشهاد سوء أدب. وجعلت العلماء نداءه بالمزمل وغير ذلك من صفاته تشريفاً له إذ لم يُناده باسمه، واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذماً في جفاة العرب، أبرأ إلى الله وأربأ برسول الله? منه". وقلت: ومنه ما رواه عن عكرمة: أنه يا أيها الذي زُمِّل أمراً عظيماً، أي: حمله. وروى السُّلمي عن ابن عطاء: "يا أيها المخفي ما يظهره عليك من آثار الخصوصية، آن أوان كشفه فأظهره، فقد أيدناك بمن يتبعك ويوافقك، ولا يخذلك ولا يخالفك، وهو أبو بكر وعلي رضي الله عنهما". قوله: (مُتزملاً في مرط لعائشة رضي الله عنها)، الانتصاف: "هذه السورة مكية، والبناء

فهو على هذا ليس بتهجين، بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه على وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي، فسئلت: ما كان؟ قالت: والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزي ولا إبريسماً ولا صوفاً؛ كان سداه شعراً ولحمته وبراً. وقيل: دخل على خديجة، وقد جئث فرقا أول ما أتاه جبريل وبوادره ترعد، فقال: «زملوني زملوني»، وحسب أنه عرض له؛ ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على عائشة كان بالمدينة". وفي "جامع الأصول": "تَزوجها النبي? في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث ولها ست سنين، وأعرس بها في المدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة، على رأس ثمانية عشر شهراً، ولها تسع سنين". قوله: (مِرعِزى)، الجوهري: "المِرعِزى: الزَّغَبُ الذي تحت شعر العنز، وهو "مفعلى"، لأن "فعللى" لم يجئ؛ وإنما كسروا الميم إتباعاً لكسرة العين". قوله: (وقد جُئت فرقاً)، النهاية: "وفي حديث المبعث: فجئتت منه فرقاً، أي: ذُعرت وخفت؛ يقال: جُئت الرجل، وجُئف، وجُث، إذا فرع". قوله: (بوادره)، النهاية: "هي جمع بادرة، وهي لحمة بين المنكب والعُنُق". قوله: (وحسب أنه عُرض له)، الأساس: "عُرض لفلان إذا جُن". روينا عن البخاري ومُسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله? من الوحي الرؤيا

فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، كذا ثلاثاً، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}. فَرَجع بها رسول الله? ترجف بوادره، فدخل على خديجة بنت خُويلد، فقال: زَمِّلوني زَمِّلوني، فَزَمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خَشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا، أَبشر؛ فوالله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَّحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به على وَرَقَة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة، وكان امرءًا تَنَصّر في الجاهلية، فكتب الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً. فقال له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبرَه رسول الله? ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعاً، ليتني أكون حياً إذ يُخرجُك قومك" الحديث. قوله: (إذ ناداه جبريل: فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ})، روينا عن البخاري ومسلم، عن جابر، عن رسول الله? ، قال: "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هَبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً، ونظرت من خلفي فلم أرَ شيئاً، فَرفعت رأسي فرأيت شيئاً، وفي رواية: "فَرفعت

وعن عكرمة: أن المعنى: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما، أي: حمله، والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله. وقرئ: «قم الليل»، بضم الميم وفتحها. قال عثمان ابن جني: الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هربا من التقاء الساكنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رأسي فإذا هو قاعد على عرش في الهواء، يعني جبريل، فَأخذتني رَجفة شديدة"، فَأتيت خديجة فقلت: دَثِّروني، فَدَثّروني، وصَبّوا عليّ ماء، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. فظهر من هذا هُجْنة ما قاله: (ونُودي بما يَهجن إليه الحالة التي كان عليها)، وحسن ما لَهَجَ به من قال: "يا أيها المخفيّ ما يظهر عليك من آثار الخصوصية". قوله: (وقُرئ: "قُمُ الليل")، قال ابن جني: "وهي قراءة أبي السّمّال وروح. وقال: عِلّة جواز ذلك، أن الغرض في هذه الحركة، إنما هو التبليغ بها، هرباً من اجتماع الساكنين، فبأي الحركات تُحرِّك فقد وقع الغرض، ولعمري إن الكسر أكثر، فأمّا أن لا يجوز غيره فلا. حكى قُطرب عنهم: قم الليل، وقل الحق؛ من كَسَرَه فعلى الأصل، ومن ضَمَّ أو كسر أيضاً أتبع، ومن فتح فجنوحاً إلى خِفّة الفتح". وفي الحاشية: ابن جني: بكسر فسكون الياء، وليست بياء النسب، ولكنه في الأصل: كنّي، فَعُرِّبَ وبُني على السكون. قوله: (التبليغ بها)، أي: الاكتفاء بها.

فبأي الحركات تحرك فقد وقع الغرض. (نِّصْفَهُ): بدل من (اللَّيْلَ)، و (إلاَّ قَلِيلاً): استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل. والضمير في «منه» و «عليه» للنصف، والمعنى التخيير بين أمرين؛ بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. وإن شئت جعلت «نصفه» بدلاً من «قليلاً»، وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل، وإن شئت قلت: لما كان معنى (قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً • نِّصْفَهُ)، إذا أبدلت النصف من الليل: قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في «منه» و «عليه» إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، أو: قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({نِّصْفَهُ} بدل من {الَّيْلَ})، اعلم أنه جعل {نِّصْفَهُ} تارة بدلاً من {الَّيْلَ}، وأخرى من {قَلِيلًا}، وجعل كل واحد من التقديرين على وجهين. واعترض صاحب "الفرائد" على كل الوجوه، قال على الوجه الأول: "لما كان الضمير في {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} راجعاً إلى النصف، كان المعنى: قُم أقل من نصف الليل، أو انقص من نصف الليل، أو زد على نصف الليل، كأنه قال: قُم أقلّ من نصف الليل، أو قُم زد على نصف الليل، وهذا ظاهر الفساد. وقوله: "على البَتِّ" لا دلالة في الآية عليه. وقال في الوجه الثاني، وهو قوله: "وإن شئت جعلت {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا} " إلى آخره: هذه هو الوجه. وتمامه أن يقال: ذكر {قَلِيلًا} ثم أبدل {نِّصْفَهُ} منه، إشارة إلى أن ما نام فيه من الليل، وإن كان نصفاً منه، فهو بالإضافة إلى النصف القائم قليل، لأن النصف القائم يُضاعف إلى العشرة، كقوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنصف النائم لاستراحة النفس، وإن كان لا يخلو من أن يدخل في العبادة، من حيث إنه استعداد لها، ويد عليه قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. ويمكن أن يقال: القلة في الحقيقة صفة للحاصل في النصف، ثم اعتبرت صفة للنصف، كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. فعلى هذا النصف النائم قليل بالإضافة إلى النصف القائم، بالنظر إلى ما في كل واحد منهما، أي من الثواب؛ فجعل القليل مبدلاً منه، والنصف بدلاً، تنبيهاً على هذا المعنى الدقيق. وأمّا التخيير، فليعلم أن هذا ليس مما لا يزيد ولا ينقص، بل مما يحتمل الزيادة والنقصان، أعنى ذكر النصف أولاً. فلو اقتصر عليه، ظن أن الزيادة والنقصان لا يتطرفان عليه، كركعات الصلاة المفروضة، وكأوقات الصلاة، وكالحدود، ولأن في ترك التخيير تعسيراً، وفي وجوده تيسيراً. ويجوز أن يكون ما يوجد من هذه الأقسام، أعني: النصف، أو الناقص منه، أو الزائد عليه، يكون فرضاً كالقراءة في الصلاة؛ فإن ما قرأ المصلي، وإن كان تمام القراءة كان فرضاً وإن اقتصر على آية أو ثلاث آيات كما عرف، كان مؤدياً للفرض، وكانت صلاته مؤداة بما فُرض عليه من القراءة. وقال على الوجه الثالث - وهو قوله: "وإن شئت قلت: لما كان معنى {قُمِ الَّيْلَ} إلى آخره -: الاعتراض عليه من وجهين: أحدهما: أن يقال: قوله: قُم أقل من نصف الليل، أو أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد من ذلك الأقل، بمنزلة أن يقال: قُم أقل من النصف، أو قُم أقل من النصف، أو قم أقل من النصف؛ لأنه يلزم أن يكون أزيد من أقل النصف بالغاً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النصف، بل يمكن أن يكون أقل من النصف أيضاً، فيكفي في هذا أن يقال: قم أقل من النصف؛ فأي مقادر قام، وهو أقل من النصف، كان مؤدياً ما أُمر به. وثانيهما: أن يقال: الناقص من أقل من النصف، لا يلزم أن يكون ثلثاً، حتى يصحَّ قوله: "فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث". وقال على الوجه الرابع - وهو قوله: "ويجوز إذا أبدلت {نِّصْفَهُ} من {قَلِيلًا}، وفسرته به" إلى آخره - الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن "نصفه" غير مذكور في الثاني، ولو كان مذكوراً لصح أن يكون بدلاً كما في الأول؛ فعلى هذا لزم حذف البدل، وهو غير جائز بالإجماع، ولأنه هو المقصود في الكلام، فلا وجه لحذفه. وثانيها: قوله: "وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع، نصف الربع كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه"، يلزم منه حذف البدل والمبدل منه، وهو أبعد من الأول. وثالثها: قوله: "ويجوز أن تجعل الزيادة، لكونها مطلقة، تتمة الثلث" منظور فيه؛ لأن من الإطلاق كما جاز أن يكون تتمة جاز أن يكون غيرها؛ فالحمل على كونها تتمة، يلزم منه الترجيح من غير مُرجح، وهو باطل، وبالله التوفيق. فنقول: نحن لا نشتغل بتفاصيل الجواب، لأنها تؤدي إلى التطويل المُمل، بل نفسر كلام المصنف ليظهر المقصود. أما الوجه الأول، فمن كلام الزجاج، قال: "إن {نِّصْفَهُ} بدلاً من {الَّيْلَ} "، كما تقول: ضربت زيداً رأسه؛ فإنما ذكرت "زيداً" لتوكيد الكلام، فهو أوكد من قولك: ضربت رأس زيد"، تم كلامه. فالمعنى: قُم نصف الليل إلا قليلاً،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو انقص من النصف، أو زد على النصف كثيراً، أو انقص منه قليلاً؛ كُرّرَ "أو انقص منه قليلاً"، ليؤذن بأن الأول عزيمة والثاني رخصة، كما تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أن مجالسة الحسن لا بد منها، فإن لزمتك ضرورة فأنت بالخيار بين مجالسته ومجالسة ابن سيرين. هذا معنى قوله: "على البَتّ". وقريب منه قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21]، قال: "ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما"، وفُهم منه أن إتيان السلطان، لم يكن كأحد هذين العذابين. وأما بقية الوجوه الثلاثة، فمبنية على تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]، على اختلاف القراءتين، أعني: فتح "نصفه" و"ثلثه"، وكسرهما. أما بيان كيفية مُطابقة الوجه الثاني، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا}، ويقع التخيير بين الثلاث، فإنه مبني على معنى القراءة بالفتح، أي: تقوم أدنى من ثُلثي الليل وتقوم النصف وتقوم الثلث، كما صرح به في موضعه. وأما الوجه الثالث، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} من {الَّيْلَ}، ويكون الضمير في {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} للأقل من النصف، فهو مُنزل على القراءة بالكسر، وهي: تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثُلثه. فقوله: "قم أقل من نصف الليل"، هو المراد من تقدير قوله: أدنى نم نصفه. وقوله: "أو قم أو انقص من ذلك الأقل"، هو المراد من تقدير: أدنى من ثلثه. وقوله: "أو أزيد منه قليلاً"، هو المراد من معنى: أدنى من

ويجوز إذا أبدلت «نصفه» من «قليلا» وفسرته به، أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف: وهو الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلا نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع، نصف الربع كأنه قيل: أو زد عليه قليلا نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع. فإن قلت: أكان القيام فرضا أم نفلا؟ قلت: عن عائشة رضي الله عنها أنّ الله جعله تطوعاً بعد أن كان فريضة، وقيل: كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بهن إلا ما تطوّعوا به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثلثي الليل. فيكون التخيير بين الأقل من النصف وفيما وراء النصف، وهو أقل من الثلث وأزيد منه؛ فَعُلِمَ منه ان الضمير في قوله: "بينه وبين الثلث"، راجع إلى "ما وراء النصف". والظرف الثاني بدل من الأول، لا كما ظن أنه راجع إلى القليل كما فسر بالنصف. وأما الوجه الرابع، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا}، فهو منزل أيضاً على القراءة بالكسر. وتقريره أن القليل الأول كما فُسِّر بالنصف، يُفسر الثاني بنصف النصف لاحتماله. ولما كانت المطابقة بين الآيتين مطلوبة: يجعل نصف النصف الرُّبع، ويحمل المطلق، وهو قوله: {زِدْ عَلَيْهِ}، لأنه لا يعلم كمية الزيادة، على المقيد وهو نصف النصف، فيحصل الثُّمن، فيضم مع الربع، فيصير الرُّبع والثمن، وهو الثلث تقريباً، فكأنه قيل: قم الليل نصفه أو ربعه أو ثلثه: وإذا لم تحمل الزيادة المطلقة على المقيد، بل تجعل تتمة للثلث، أي: ما يتم به الربع ثلثاً تحقيقاً، فيقع التخيير أيضاً بين النصف والربع والثلث، كما صرح به أيضاً في موضعه، فلينظر هناك. وإياك أن تصحح هذه الوجوه الثلاثة بغير ما ذُكر، فتقع في المتعسف. قوله: (وقيل: كان فرضاً)، روى محيي السنة عن مقاتل وابن كيسان: "كان هذا بمكة

وعن الحسن: كان قيام ثلث الليل فريضة، وكانوا على ذلك سنة. وقيل: كان واجباً، وإنما وقع التخيير في المقدار، ثم نسخ بعد عشر سنين. وعن الكلبي: كان يقوم الرجل حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين؛ ومنهم من قال: كان نفلاً بدليل التخيير في المقدار، ولقوله تعالى: (ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79]. ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل أن تُفرض الصلاة، ثم نُسِخَ بالصلوات الخمس". ورويناه عن البخاري ومسلم في حديث جابر أيضاً. قوله: (ومنهم من قال: كان نَفلاً، بدليل التخيير في المقدار)، قال الإمام: "استدل على عدم الوجوب، بأنه تعالى قال: {نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (زِدْ عَلَيْهِ} ففوض ذلك إلى رأي المكلف. وما كان كذلك لا يكون واجباً، وهو ضعيف؛ لأنه لا يبعد أن يقال: أوجبت عليك قيام الليل. فأما تقديره بالقلة والكثرة، فهو مفوض إليك"، وإليه الإشارة بقوله: "كان واجباً، وإنما وقع التخيير في المقدار". قوله: (ولقوله: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79])، فيه نظر؛ لأنه فسرها في موضعه بقوله: "إن التَّهجد زيد لك على الصلوات المفروضة، فريضةً عليك خاصةً دون غيرك، لنه تَطوّع لهم". قوله: (وهو المُفلج)، الجوهري: "الفلج في الأسنان: تباعد ما بين الثنايا والرَّباعيات"،

وألا يهذه هذا ولا يسرده سرداً، كما قال عمر رضي الله عنه: شر السير الحقحقة، وشر القراءة الهذرمة، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا كسردكم هذا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"ثَغر رَتَلٌ: إذا كان مستوى النبات". الراغب: "الرَّتل: اتساق الشيء وانتظامه على استقامة، يقال: رجل رَتَل الأسنان. والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة". قوله: (وألا يَهُذَّه هذا)، الجوهري: "الهذ: الإسراع في القطع وفي القراءة. يقال: هو يَهُذُّ القرآن هذًّا: يَسرده". قوله: (الحَقْحَقة)، النهاية: "في حديث سلمان: شر السير الحَقْحَقة، هو المتعب من السير. وقيل: هو أن تُحمل الدابة على ما لا تُطيقه". قوله: (الهَذْرَمة): "هي السرعة في المشي والكلام، ويقال للتخليط: هَذْرَمة". قوله: (الأَلَص)، الجوهري: "هو المتقارب الأضراس، وفيه لَصَص". قوله: (وسُئلت عائشة رضي الله عنها، عن قراءة رسول الله? ؟ )، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، قالت: "ما كان رسول الله? يسرد سردكم هذا، ولكنه يتكلم بكلام يُبينه، فصل، يحفظه من جلس إليه". النهاية: "يسرد سرداً، أي: يتابعه ويستعجل فيه".

لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. و (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه ما لا بد منه للقارئ. [(إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) 5] هذه الآية اعتراض، ويعني بالقول الثقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته؛ فهي أثقل عليه وأبهظ له. وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن، لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بد لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هذه الآية اعتراض)، يعني قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، قال القاضي: "والجملة اعتراض لتسهيل التكليف عليه بالتهجد، ودال على أنه مشقة مضادة للطبع مخالف للنفس، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه، أو يثقل على المتأمل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفية السّرِّ وتجريد النَّظَر". وقيل: الاعتراض: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، لأنها اعترضت بين كلامين مُتصلين معنًى، وهو الكلام في قيام الليل، والأظهر الأول. قوله: (والهدوء)، الجوهري: "هدأ هدءاً وهدوءاً: سكن، وأتانا وقد هدأت العيون". قوله: (تربَّد)، النهاية: "في الحديث: كان إذا نزل عليه الوحي اربَدَّ وجهه صلوات الله عليه، أي: تَغيّر إلى الغُبرة". قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحي)، الحديث رواه البخاري

فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقاً. وعن الحسن: ثقيل في الميزان، وقيل: ثقيل على المنافقين، وقيل: كلام له وزن ورجحان، ليس بالسفساف. [(إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطْئًا وأَقْوَمُ قِيلاً) 6] (نَاشِئَةَ اللَّيْلِ): النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع؛ من نشأت السحابة إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشز إذا نهض، قال: نشأنا إلى خوص برى نيها السرى ... وألصق منها مشرفات القماحد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومسلم ومالك والترمذي والنسائي، عنها أنها قالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فَيُفصِم عنه، وإن جبينه ليتفصَّد عرقاً". النهاية: "فَيُفصِم: أي يُقلع. وأَفْصَمَ المطر إذا أقلع وانكشف". وارفضَّ عرقاً، أي: جرى عرقه. قوله: (ليس بالسَّفساف)، الجوهري: "السَّفساف: الرديء من كل شيء". قوله: (نشأنا إلى خُوص) البيت، أي: نهضنا وقمنا، من نشأت السحابة إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونَشَزَ إذا نهض. والخُوص جمع خوصاء، وهي الناقة المرهفة الأعلى

أو قيام الليل، على أنّ الناشئة مصدر، من: نشأ؛ إذا قام ونهض، على «فاعلة» كالعاقبة، ويدل عليه ما روي عن عبيد بن عمير: قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل، أتقولين له قام ناشئة؟ قالت: لا؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم؛ ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع، أو العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث وترتفع. وقيل: هي ساعات الليل كلها؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل: الساعات الأول منه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضخمة الأسفل، وقيل: الخوص عور العينين، والنَّيُّ: الشحم، ونوت الناقة نياً: سمنت، وألصق: أي طأطأ ونكس. القماحد: جمع القمحدوة، بزيادة الميم: ما خلف الرأس. يقول: قصدنا إلى ناقة مهزولة من السُّرى، ورحلنا. قوله: (أو قيام الليل)، عطف على قوله: "النفس الناشئة"، ويروى: "قيام" بالنصب، عطفاً على "النفس الناشئة"، إذا روي بالنصب. قوله: (عن عبيد بن عمير)، في "الجامع": "هو أبو عاصم، عُبيد بن عُمير بن قتادة بن سعد الليثي الحجازي، قاضي أهل مكة، وُلِدَ في زمن رسول الله? ؛ يقال: رآه، وهو معدود في كبار التابعين، سمع عمر وأبا ذر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة رضي الله عنهم". قوله: (رجل قام)، "رجل": مبتدأ، و"قام" صفته، و"أتقولين" خبره؛ أقحمت همزة الاستفهام بين المبتدأ والخبر للتأكيد، وإنما كان دليلاً على أن المراد بالناشئة: القيام والنهوض من النوم، لقولها: "لا، إن الناشئة القيام من الليل".

وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله تعالى: (إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ)؟ هذه ناشئة الليل. (هِيَ أَشَدُّ وطْئًا) هي خاصة دون ناشئة النهار، أشد مواطأة يواطئ قلبها لسانها؛ إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه؛ إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. وعن الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية، لانقطاع رؤية الخلائق. وقرئ: «أشدّ وطأ» بالفتح والكسر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو يُواطئ فيها قلب القائم لسانه، إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات)، الانتصاف: "إن جعلت الناشئة للنفس، فالمواطأة فيها حقيقة، وإن جعلتها للساعات أو المصدر فمجاز". قلت: ويجوز أن يكون من المجاز الحُكمي، بأن تسند الوطء إلى القيام أو العبادة أو الساعات على المجازي، وإنه لصاحبها حقيقة، وإليه الإشارة بقوله: "أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه"، وأن تجعل لكل واحد منها قلباً ولساناً، وتخيل له مواطأة به على الاستعارة المكنية. قوله: (أو "أشد موافقة")، عطف على "أشد مواطأة"؛ فعلى هذا: الإسناد في الكل حقيقة؛ فالحاصل: "الناشئة" لا يخلو: إمّا أن يراد بها النفس أو القيام مثلاً، والمواطأة إما أن يعني بها مواطأة القلب اللسان، أو موافقتها لما يراد من الخشوع. فإذا عنيت بها النفس، فإذاً المواطأة حقيقة على التقديرين. وإذا عنيت بها القيام ونحوه، فالمواطأة مجاز على التقدير الأول، حقيقة على الثاني. قوله: (وقُرئ: "أشد وطأً")، أبو عمرو وابن عامر: بكسر الواو والمد، والباقون: بالفتح وإسكان الطاء.

والمعنى: أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل. أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار، من قوله عليه السلام: «اللهم اشدد وطأتك على مضر». (وأَقْوَمُ قِيلاً) وأسد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات. وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ: «وأصوب قيلاً»، فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: وأقوم؛ فقال: إن أقوم وأصوب وأهيأ واحد. وروى أبو زيد الأنصاري عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ: فحاسوا، بحاء غير معجمة، فقيل له: إنما هو (جاسوا) بالجيم، فقال: جاسوا وحاسوا واحد. [(إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً) 7] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللهم اشدد وطأتك على مُضر)، وقد أخرجناه فيما سبق. النهاية: "أي: خُذهم أخذاً شديداً، والوطء في الأصل: الدَّوس بالقدم". قوله: (وعن أنس أنه قرأ: وأصوب)، هذا، ونحوه ما رويَ عن أبي سوار: "فحاسوا"، بالحاء المهملة، مما لا يلتفت إليه.

(سَبْحًا) تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك، ولا تفرغ إلا بالليل؛ فعليك بمناجاة الله التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل. وأما القراءة بالخاء فاستعارة من سبخ الصوف، وهو نفشه ونشر أجزائه؛ لانتشار الهم وتفرق القلب بالشواغل؛ كلفه قيام الليل، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه، وهو أن الليل أعون على المواطأة وأشد للقراءة، لهدو الرجل وخفوت الصوت، وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر الهم من النهار؛ لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد. وقيل: فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك، وقيل: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه. [(واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً • رَّبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وكِيلاً • واصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) 8 - 10] (واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك، واحرص عليه، وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح، وتهليل، وتكبير، وتمجيد، وتوحيد، وصلاة، وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره (وتَبَتَّلْ إلَيْهِ) وانقطع إليه. فإن قلت: كيف قيل (تَبْتِيلاً) مكان تبتلا؟ قلت: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل)، لأنه قيل: قليلاً، طويلاً، فقيل: تبتيلاً، مراعاةً لها، قال صاحب "الفرائد": "يمكن أن يقال: يعني لما كان معنى "تبتل إليه": انقطع إليه، أُقيم التَّبتيل مقامه، وأكد ليدل على أن ذلك الانقطاع إلى الرب، لا يحصل إلا بتكرار التَّبتُّل؛ فالتبتيل يدل على حصول الشدة، والتبتل على التكرار، لأن التفعيل لتكثير الفعل".

(رَّبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ) قرئ مرفوعاً على المدح، ومجروراً على البدل من (رَبِّكَ). وعن ابن عباس: على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: (لا إلَهَ إلاَّ هُوَ)، كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيد. وقرأ ابن عباس: «رب المشارق والمغارب». (فَاتَّخِذْهُ وكِيلاً) مسبب على التهليلة؛ لأنه هو وحده هو الذي يجب - لتوحده بالربوبية - أن توكل إليه الأمور. وقيل (وكِيلاً) كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار. الهجر الجميل: أن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء وترك المكافأة. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، قُرئ مرفوعاً)، أبو بكر وابن عامر وحمزة والكسائي: "رَبِّ" بخفض الباء، والباقون: برفعها. قوله: (وجوابه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ})، أقسم بما اتفقوا عليه على ما اختلفوا فيه؛ فإنهم اعترفوا أن الله رب المشرق والمغرب، ولكنهم أشركوا معه الأصنام في العبادة، ألا ترى كيف أفحم خليل الله نمرودَ بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، وكليم الله موسى فرعون بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28]. قوله: (إنا لنكشر في وجوه قوم)، الأساس: "كَشَر الرجل إلى صاحبه: تَبسّم، وكاشره"، قال المتلمس: إنَّ شَرَّ الناس من يَكشِر لي حين ألقاه، وإن غِبتُ شَتم

وإن قلوبنا لتقليهم. وقيل: هو منسوخ بآية السيف. [(وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قَلِيلاً • إنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وجَحِيمًا • وطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وعَذَابًا أَلِيمًا • يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبَالُ وكَانَتِ الجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً) 11 - 14] إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه، أو بعدوّ يشتهي أن ينتقم له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال: ذرني وإياه، أي: لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك، إلا أن تخلي بيني وبينه بأن تكل أمره إلىّ وتستكفينيه، فإن في ما يفرغ بالك ويجلى همك، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أنه مُستهم)، الأساس: "اهتم به، ونزل به مُهم. وسمعتم يقولون: استهم لي بكذا"، فيه مبالغة، كانه يقصد قصداً واحداً، أو يطلب من يهم بذلك الأمر ويقصده. قوله: (وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره)، فهو من باب الكناية، قريب من نحو قولك: لا أرينك هاهنا، يعني: أنه تعالى أنهى إلى رسول الله? ، أنه طلب منعه أن يُوقع بالمكذبين، وأنه صلوات الله عليه ما طلب المنع، بل شوهد منه ما نزل منزلة المنع، من ترك الاستكفاء، وتفويض الأمر إليه تعالى. المعنى: مالك لا تستكفينيه، ولا تُفوض أمرك إليّ حتى أستكفيكه وأنتقم لك منه؟ ويجوز أن يكون من باب التهييج والالتفات، وفيه أن من له عدو يضاده ويناوبه، فالله بعزته وجلاله يجب أن يكفي شره، والمظلوم إذا لم يستكف شره من الله كأنه منعه، فإذا فعل ذلك كأنه ظفر به، وتمكن من المراد غاية التمكن، وهو المراد من قوله: "وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أُمنية المخاطب".

إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل أمره إليه، فكأنه منعه منه؛ فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه. النعمة بالفتح: التنعم، وبالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرة؛ يقال: نعم، ونعمة عين، وهم صناديد قريش، وكانوا أهل تنعم وترفه. (إنَّ لَدَيْنَا) ما يضاد تنعمهم: من أنكال، وهي القيود الثقال؛ عن الشعبي؛ إذا ارتفعوا استقلت بهم، الواحد: نكل ونكل. ومن جحيم: وهي النار، الشديدة الحر والاتقاد. ومن طعام ذي غصة، وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ، يعني: الضريع وشجر الزقوم. ومن عذاب أليم: من سائر العذاب، فلا ترى موكولاً إليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا ترك الاستكفاء)، قيل: الاستثناء مُنقطع، والظاهر أنه من قبيل قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]. قوله: (نَعَمْ، ونُعْمةَ عَين)، نَعَمْ: حرف إيجاب، يقول المجيب للطالب: نَعَمْ، ونُعْمةَ عَين، قيل: التقدير: أنعم عينك إنعاماً، أي: أقرَّها. وقال: ولم يسمع هذا إلا عندهم. الجوهري: " نُعْمة العين، بضمها: قُرَّتها. ويقال: نُعْمَ عَين، ونُعْمةَ عَين، أي: أفعل ذلك كرامة لك وإنعاماً لعينك، وما أشبهه". قوله: (فلا ترى موكولاً إليه)، متصل بقوله: {ذَرْنِي}، لأن الفاء نتيجة لقوله: "إن لدينا ما يُضاد تنعمهم". و"إن لدينا" تعليل لقوله: {ذَرْنِي}، أي: كل إليَّ أمرهم وذرني وإياهم، فإنك لا ترى أحداً موكولاً إليه [أمرهم]، ولا موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام، وهو الأنكال والجحيم والطعام والعذاب؛ فالضمير في "إليه" و "بينه"، يعود إلى الموصوف المحذوف، ولا ضمير في "مَوْكولاً" ولا "مَوْذوراً"، لإسنادهما إلى "أمرهم" وإلى "بينه وبينهم"، و "ينتقم": صفة للموصوف المحذوف، لا للموكول والموذور، لأنَّ الوصف لا يوصف.

أمرهم موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق، وعن الحسن: أنه أمسى صائماً، فأتى بطعام، فعرضت له هذه الآية؛ فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية، فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. (يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بما في (لَدَيْنَا). والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة، والكثيب: الرمل المجتمع، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن، قالت الضائنة: أجز جفالاً، وأحلب كثباً عجالاً، أي: كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلاً، أي: نثر وأسيل. [(إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً • فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وبِيلاً) 15 - 16] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بينه وبينهم)، أي: بين من وُكل أمره إلى القائل: {ذَرْنِي}، وهو الموكول إليه. قوله: (ومنه الكُثبة من اللبن)، كل شيء جمعته من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلاً، فهو كُثبة. قوله: (قالت الضائنة: أجز جفالاً)، الجوهري: "قالت الضائنة: أولد رخالاً، وأجز جُفالاً، وأحلب كُثباً ثقالاً، ولم تر مثلي مالاً". "الرَّخل، بفتح الراء وكسر الخاء: الأنثى من وَلَدِ الضأن، والجمع رُخال. والجُفال: الصوف الكثير، أي: أجز بمرة واحدة، وذلك أن صوفها لا يسقط على الأرض حتى يُجزَّ كله".

الخطاب لأهل مكة، (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم. فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده، وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إل المذكور بعينه. (وبِيلاً) ثقيلاً غليظاً، من قولهم: كلأ وبيل: وخم لا يستمرأ لثقله. والوبيل: العصا الضخمة، ومنه الوابل للمطر العظيم. [(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا • السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وعْدُهُ مَفْعُولاً) 17 - 18] (يَوْمًا) مفعول به، أي: فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له، إن بقيتم على الكفر، ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً. ويجوز أن يكون ظرفاً، أي: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، ويجوز أن ينتصب ب- «كفرتم» على تأويل جحدتم، أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء؛ لأن تقوى الله خوف عقابه. (يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا) مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، والأصل فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة)، يعني: إذا جحدتم يوم القيامة وأنكرتموه فلا تعتقدون العقاب، فلا يكون لكم خشية ولا تقوى. وهذا الوجه أوفق للتأليف، يعني: حوّقناكم بالأنكال والجحيم، وأرسلنا إليكم رسولاً شاهداً يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم، وأنْذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل، فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتَّقيتم الله، فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء؟ وفيه: أنّ ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة.

أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب، قال أبو الطيب: والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم وقد مر بى في بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. (السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ) وصف لليوم بالشدة أيضا، وإن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ وقرئ: «منفطر ومتفطر»، والمعنى: ذات انفطار، أو على تأويل: «السماء» بالسقف، أو: السماء شيء منفطر، والباء في «بِهِ» مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهو له، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ويجوز أن يراد: السماء مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) [الأعراف: 187] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالثَّغامة)، الجوهري: "الثَّغام، بالفتح: نبت يكون في الجبل يبيض إذا يَبِس، يشبَّه به الشَّيب، الواحدة: ثَغامة". قوله: (ويجوز أن يوصف اليوم بالطول)، يعني: يكون قوله: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، كناية عن طول اليوم. قوله: (والمعنى: ذات انفطار)، قال أبو البقاء: "مُنفطر، بغير تاء، على النَّسب، أي: ذات انفطار، وقد ذُكر حملاً على معنى السقف، وقيل: السماء تُذكر وتُؤنث". قوله: (ويجوز أن يُراد: السماء مُثقلة به)، أي: جعل كون السماء مُثقلة، لِعظم اليوم عليها

(وعَدَهَ) من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير لليوم، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل وهو الله عز وعلا، ولم يجر له ذكر لكونه معلوما. [(إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) 19] (إنَّ هَذِهِ) الآيات الناطقة بالوعيد الشديد (تَذْكِرَةٌ) موعظة (فَمَن شَاءَ) اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية. ومعنى اتخاذ السبيل إليه: التقرب والتوسل بالطاعة. [(إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ومَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وأَعْظَمَ أَجْرًا واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 20] (أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) أقل منهما؛ وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت، قل ما بينهما من الأحياز؛ وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ: () بالنصب على: أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخَشيتها من وُقوعه، كأنها مرفوعة مُنفطرة به، كقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187]، أي: ثَقُلت الساعة فيها، لأن كل شيء لا يُطيقها ولا يقوم لها، فهي ثقيلة فيها. قوله: (وقُرئ: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب)، الكوفيون وابن كثير: بنصبهما، والباقون: بالخفض، قال أبو البقاء: "بالجر حملاً على {ثُلُثَيِ}، وبالنصب حملاً على {أَدْنَى} ".

وهو مطابق لما مر في أوّل السورة، من التخيير بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه وهو الثلث، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين. وقرئ: «ونصفه وثلثه» بالجر، أي: تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف: وهو أدنى من الثلثين، والثلث: وهو أدنى من النصف، والربع: وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير. (وطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك جماعة من أصحابك (واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ) ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا الله وحده؛ وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه (يُقَدِّرُ): هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير؛ والمعنى: أنكم لا تقدرون عليه، والضمير في (لَّن تُحْصُوهُ) لمصدر «يقدر»، أي: علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو مطابق لما مرَّ في أول السورة) أي: في الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في قوله: {قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (نِّصْفَهُ} الآية. قوله: (وهو مطابق) إلى قوله: (وهو الوجه الأخير) أي: الوجه الرابع من الوجوه. قوله: (وتقديم اسمه تعالى [مبتدأ] مبنياً عليه {يُقَدِّرُ}: هو الدال على [معنى] الاختصاص، هذا خلاف رأي صاحب "المفتاح"، حيث قال: "لا يكون لقولنا: زيد عرف. غير احتمال الابتداء، اللهم إلا بذلك الوجه البعيد، فلا يرتكب عند المعرَّف لكونه على شرط الابتداء؛ وإنما يرتكب عند المُنكر لفوات الشرط". وجوابه ما سبق في سورة الرعد في قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} [الرعد: 26]، ان إفادة الاختصاص من خصوصية الاسم جامع

إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاق عليكم بالغ منكم. (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر، كقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ وعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة: 187]. والمعنى: أنه رفع التبعة في تركه عنكم، كما يرفع التبعة عن التائب. وعبر عن الصلاة بالقراءة لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد: فصلوا ما تيسر عليكم، ولم يتعذر من صلاة الليل؛ وهذا ناسخ للأوّل، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مع التركيب، لما تجد التفاوت بين ما عليه التلاوة وقولنا: يُقدر الله الليل، وكذا بين قولنا: زيد يَجود، وحاتم يجود. قوله: (ولم يتعذر من صلاة الليل)، أي: صلوا ما بَعُد من صلاة الليل، وما لم يُنسبوا إلى التقصير فيها، كما تقول: هذا لم يتعذر عليَّ، أي: هو سهل عندي، لأني لم أُقصر في تخصيله. الجوهري: "التعذير في الأمر: التقصير فيه". قوله: (وهذا ناسخ للأول)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل ومسلم وأبي داود والدرامي وابن ماجه والنسائي، عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أُمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله? ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله القرآن. قال: فَهَممت أن أقوم، ولا أسأل عن شيء حتى أموت. ثم بدا لي، فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله? ، قالت: ألست تقرأ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله? وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف، وقام قيام الليل تطوعاً".

ثم نسخا جميعاً بالصلوات الخمس. وقيل: هي قراءة القرآن بعينها؛ قيل: يقرأ مائة آية، ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين. وقيل: خمسين آية. وقد بين الحكمة في النسخ، وهي تعذر القيام على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله. وقيل: سوى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أيما رجل جلب شيأ إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه، كان عند الله من الشهداء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله: {قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} الآية. قال: نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} الحديث. قوله: (ثُمَّ نُسخاً جميعاً)، أي: الرُّخصة والعزيمة. قوله: (وقيل: هي قراءة القرآن بعينها)، عطف على قوله: "وعَبّرَ عن الصلاة بالقراءة". دليل الأول: ترتب {فَاقْرَءُوا} بالفاء على قوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ}. ودليل الثاني: عطف قوله {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} على {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. عن البخاري، عن سفيان، قال لي ابن شبرمة: نظرت كم يكفي الرجل من القرآن، فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات، فقلت: لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات". قوله: (لم يحاجَّه القرآن)، النهاية: "لم يَغلبه بالحُجة. ومنه الحديث: "فحجَّ آدم موسى"، أي: غلبه بالحُجة". قوله: (سوّى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال)، وذلك أنه أُعيد ذِكر

وعن عبد الله بن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله، أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحل، أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله. و (عَلِمَ) استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ. (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة والزكاة الواجبة، وقيل: زكاة الفطر؛ لأنه لم يكن بمكة زكاة، وإنما وجبت بعد ذلك. ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً. (وأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يجوز أن يريد سائر الصدقات، وأن يريد أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى المستحق، وأن يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال. (خَيْرًا) ثاني مفعولي وجد. و (هُوَ) فصل، وجاز - وإن لم يقع بين معرفتين - لأن «أفعل من» ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَآخَرُونَ}، وقوبل {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} بقوله {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ثم جمعا في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، لفظاً من حيث الضمير، وحكماً في الأمر بالقراءة على سبيل التيسير. وكان أصل الكلام: عَلِمَ أن سيكون منكم مرضى ومسافرون، فقسمهم قسمين: المُبتغين من فضل الله والمجاهدين، ولم يكتف بذلك، بل قدَّم المسافرين على المجاهدين. روينا عن أحمد بن حنبل، عن عمرو بن العاص، عن النبي? ، قال لي: "إني أُريد أن أبعثك على جيش فيُسلمك الله ويُغنمك، وأزعب لك من المال زَعبةً صالحةً"، قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله? ، فقال: "يا عمرو، نِعم المال الصالح للمرء الصالح". قوله: (و {هُوَ} فصل، وجاز - وإن لم يقع بين معرفتين - لأن أفعل) إلى آخره، "مِنْ"

أشبه في امتناعه من حرف التعريف، المعرفة. وقرأ أبو السمال: «هو خير وأعظم أجراً»، بالرفع على الابتداء والخبر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المزمل، دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مُتعلق بـ "أفعل"، أي: لفظه "أفعل من" أشبه المعرفة في امتناعه من حرف التعريف، قال ابن الحاجب: "أَفعل من كذا، مُشبه للمعرفة شبهاً قوياً من حيث المعنى، حتى معنى قولك: أَفضل من كذا: الأفضل، باعتباره: فضيلته معهودة، ولذلك قام مقامه". وقال أيضاً: "ولذلك لم يجمعوا بينهما". قوله: (وقرأ أبو السّمّال: "هو خير وأعظم أجراً"، بالرفع)، وفي "الموضح": عَدَّ من القُراء أبا السّمّال، وأبا السّماك أيضاً. قال الزجاج: " {خَيْرًا}: منصوب، مفعول ثانٍ لـ " {تَجِدُوهُ}، ودخلت {هُوَ} فصلاً. ولو كان في غير القرآن لَجازَ: "تَجدوه هو خير"، والنصب أجود في العربية، ولا يجوز غيره، أي: في القرآن". تمت السورة بحمد الله وعَوْنِه * ... * ... *

سورة المدثر

سورة المدثر مكية، وهي ست وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ • قُمْ فَأَنذِرْ • ورَبَّكَ فَكَبِّرْ • وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ • والرُّجْزَ فَاهْجُرْ) 1 - 5] (المُدَّثِّرُ) لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار: وهو الثوب الذي يلي الجسد. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المدثّر ست وخمسون آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (الأنصار شعار والناس دثار)، النهاية: "يعني: أنتم الخاصة والناس العامة". الراغب: "يقال: دَثَرتُه فتدثر، والدِّثار: ما يتدثر به، وتَدَثّر الفحل الناقة: تَسنّمها، والرجل الفرس: وَثَبَ عليه فركبه، ورجل دثور: خامل مُستتر، وسيف داثر: بعيد العهد بالصقال. ومنه قيل للمنزل الدارس: داثر، لزوال أعلامه، وفلان دِثر المال: حسن القيام به".

وقيل: هي أول سورة نزلت؛ وروى جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت على جبل حراء، فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى ويساري فلم أر شياً، فنظرت فوقي فرأيت شيئاً»، وفي رواية عائشة: «فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: «دثروني دثروني»، فنزل جبريل وقال: (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (روى جابر بن عبد الله) الحديث، روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن. قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ فقال أبو سلمة: سألت جابراً عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت لي، فقال لي جابر: لا أُحدثك إلا ما حدثنا رسول الله? ، قال: جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دَثِّروني، فدثَّروني وصبوا عليّ ماء بارداً، فنزلتْ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. وفي رواية: "فإذا هو قاعدٌ على العرش بين السماء والأرض". قوله: (فإذا به قاعد)، قيل: هو مبتدأ وخبر، والضمير في "به" لِ "فوق"، ويمكن أن يُجرى على التجريد، أي: حَصَلَ بسببه أو ملتبس به ملك جليل القدر قاعد على العرش. وهو هو. ويجوز أن يكون الباء بمعنى "في"، أي: استقرَّ فيه ملك قاعد كما قال: أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا وفي الله إن لم يَعدلوا حكم عدل

وعن الزهري: أول ما نزل سورة (اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله (مَا لَمْ يَعْلَمْ)، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة وقال: دثروني وصبوا علي ماء بارداً، فنزل: (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ). وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم، فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه. وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول، من دثره ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: الله حكم عدل؛ فالمعنى مطابق لما روينا عن الأئمة: فإذا هو قاعد على العرش. قوله: (شَواهِقَ الجبال)، الجوهري: "شَهِقَ يَشْهَقُ، أي: ارتفع. والشاهق: الجبل المرتفع". والصحيح أن هذه الحالة إنما ظهرت عند فترة الوحي، على ما روينا عن البخاري، عن عائشة في حديث طويل، قال: "وفَتَرَ الوحي فترة، حتى حزن النبي? ، فيما بلغنا حزناً شديداً، غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يُلقي نسفه منه، تبدّى له جبريل: فقال: يا محمد، إنّك لرسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع" الحديث. حِرا: ممدود، مُنصرف على التذكير، غير مُنصرف على التأنيث. قوله: (على لفظ اسم المفعول)، أي: "المدثر"، بفتح الثاء. قال في "المزمل": "قُرئ: "المزمل"، بتخفيف الزاي وفتح الميم، من: زُمِّلَه، وهو الذي زَمَّله غيرزه". وإليه الإشارة بقوله: كما قال في "المزَّمِّل".

وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك، كما قال في المزمل: قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم (فَأَنذِرْ) فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد (ورَبَّكَ فَكَبِّرْ) واختص ربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء؛ وأن يقال: الله أكبر. ويروى أنه لما نزل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي؛ وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. (وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسات. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات. يقال: فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو قُم قيام عزم وتصميم)، نحوه قال في "المزَّمِّل": "تَزمّل في قطيفته، واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يُهِمه أمر ولا يَعنيه شأن". قوله: (فافعل الإنذار)، أي: أَنذِر، حُذف مفعوله، وأُجري مجرى اللازم. قوله: (وما كان فلا تدع تكبيره)، أي: أيُّ شيء حدث ووقع فلا تترك تكبيره، ونحوه قولك: زيداً فاضربه. قوله: (وقيل: هو أمر بتطهير النفس)، وأنشد الراغب:

وفلان دنس الثياب للغادر؛ وذلك لأن الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فكني به عنه، ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثياب بني عَوف طهارى نَقيّةٌ وقال: "أصل الثوب الرجوع إلى الحالة الأولى التي كان عليها، أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة، وهي الحالة المشار إليها بقوله: أول الفكرة آخر العمل، فمن الرجوع إلى الحالة الأولى: ثاب فلان إلى داره، ومن الرجوع إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة الثَّوب، سمّي بذلك لرجوع الغزل إلى الحالة التي قُدِّر لها، وكذا ثوب العمل. والثواب: ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله؛ فسمّي الجزاء ثواباً تصوراً أنه هو هو، ألا ترى كيف جعل الجزاء نفس الفعل في قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، ولم يقل: جزاءه. والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف عليه في الخير، وكذلك المثوبة؛ وعلى طريق الاستعارة، يقال في الشر كاستعارة البشارة فيه". قوله: (فكُنّيَ به عنه)، أي: فكنّى بالثوب عما يلابس مما يستقذر من الأفعال.

كما يقولون: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته؛ ولأن الغالب أن من طهر باطنه ونقاه، عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء. (والرُّجْزَ) قرئ بالكسر والضم، وهو العذاب، ومعناه: اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى: الثبات على هجره؛ لأنه كان بريئاً منه. [(ولا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ • ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) 6 - 7] قرأ الحسن: «ولا تمنّ»، (تَسْتَكْثِرُ) مرفوع منصوب المحل على الحال، أي: ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيرا، أو طالباً للكثير؛ نهى عن الاستغزار: وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث: «المستغزر يثاب من هبته»، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المجد في ثوبه، والكرم تحت حُلته)، قال صاحب "المفتاح": "قولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين بُرديه: من الكناية المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف". أراد القائل أن لا يُصرح بتخصيص المجد والكرم بالممدوح، فجعلهما بين ثوبيه وبُرديه، تنبيهاً بذلك على أن محلهما الثوبان والبُردان، وهما مُشتملان على الممدوح، فتم غرضه بذلك. قوله: ({وَالرُّجْزَ} قُرئ بالضم والكسر)، بالضم: حفص وحده. قوله: (المستغرز يُثاب من هبته)، النهاية: "روي عن بعض التابعين: المستغزر: الذي يطلب أكثر مما يُعطي، أي: إذا أهدى لك الغريب شيئاً، يطلب أكثر منه، فأعطه في مُقابلة

لأن الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق، والثاني: أن يكون نهي تنزيه لا تحريم له ولأمته. وقرأ الحسن: «تستكثر» بالسكون، وفيه ثلاثة أوجه، الإبدال من تمنن، كأنه قيل: ولا تمنن لا تستكثر؛ على أنه من المن في قوله عز وجل: (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا ولا أَذًى) [البقرة: 262]؛ لأن من شأن المنان بما يعطي أن يستكثره، أي: يراه كثيرا ويعتد به، وأن يشبه «ثرو» بـ «عضد»، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هديته". فـ "مِن" في "من هِبته"، كـ "من" في "ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجِدُّ"، أي: بذلك. قوله: (وقرأ الحسن: "تَسْتكثِرْ")، قال ابن جني: "يحتمل أن يكون بدلاً، كأنه قال: لا تسكثر. فإن قيل: عبرة البدل أن يصلح إقامة الثاني مقام الأول، نحو: ضربت أخاك زيداً، أي: ضربت زيداً. ولو قلت: لا تستكثر، لم يدل إلا على النهي عن الاستكثار مُرسلاً. وإنما المعنى: ولا تمنن منَّ مُستكثر، أي: امنن من من لا يريد عوضاً، ولا يطلب الكثير عن القليل. فيقال: قد يكون البدل على حذف الأول، وقد يكون على نية إثباته، كقولك: زيد مررت به أبي محمد، فتبدل أبا محمد من الهاء. ولو قلت: زيد مررت بأبي محمد، كان قبيحاً. فقوله: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}، من هذا القبيل. ووجه آخر، وهو أن المراد: تَسْتَكْثِرُ، فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكى أبو زيد: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، بإسكان اللام". قوله: (وأن يُشبه "ثرو" بـ "عَضُد")، أي: الخروج من كسر الثاء إلى ضمة الراء وإلى فتحة الواو في {وَلِرَبِّكَ} ثقيل؛ فخفف الراء. كما أنّ "عَضُد" ثقيل، فخفف الضاد.

فيسكن تخفيفاً، وأن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار «أن» كقوله: ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى وتؤيده قراءة ابن مسعود: «ولا تمنن أن تستكثر»، ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها، كما روي: «أحضر الوغى» بالرفع. (ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) ولوجه الله فاستعمل الصبر، وقيل: على أذى المشركين، وقيل: على أداء الفرائض، وعن النخعي: على عطيتك، كأنه وصله بما قبله، وجعله صبراً على العطاء من غير استكثار، والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار "أن")، قال ابن جني: "هو بدل من قوله: {وَلَا تَمْنُن} في المعنى، لأن معناه: لا يكن منك مَنٌّ واستكثار، أي: لا يكن منك مَنٌّ أن تستكثر، فتضمر {أَنْ} لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلاً من المنِّ في المعنى الذي دلَّ عليه الفعل، ونظيره قولهم: لا تشتمه فيشتمك، أي: لا يكن منك شَتم له، ولا منه أن يشتمك، وأنشد أبو زيد: فقالوا: ما تشاء؟ فقلت: أَلْهو إلى الإصباحِ، آثِرَ ذي أَثير فوضع "أَلْهو" موضع (اللهو) ". قوله: (ولِوجه الله، فاستعمل الصبر)، فيه تخصيص ومبالغة؛ فالتخصيص مستفاد من التقديم، والمبالغة من حذف مُتعلق {فَاصْبِرْ} - غير مراد - ولذلك قال بعده: "قيل: على أذى المشركين". قوله: (والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل)، قيل: هذا هو الوجه الأول، وليس بصواب؛ لأن الوجه الأول مُطلق على إطلاقه، وأطلق هذا الوجه ليتناول كل صبور عليه ومصبور عنه، ثم كنى به عن الصبر على أذى الكفار، على أن الصبر على أذاهم، هو الصبر على كل

وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه، ويراد الصبر على أذى الكفار؛ لأنه أحد ما يتناوله العام. [(فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ • فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ • عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) 8 - 10] والفاء في قوله: (فَإذَا نُقِرَ) للتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في (فَذَلِكَ) للجزاء. فإن قلت: بم انتصب «إذا»، وكيف صح أن يقع (يَوْمَئِذٍ) ظرفا ل- «يوم عسير»؟ قلت: انتصب «إذا» بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع (يَوْمَئِذٍ) ظرفا ل- (يَوْمٌ عَسِيرٌ)، أن المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور، واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مصبور عليه، على ما سبق في قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، أي: أنعمت عليهم بالإسلام، فاُطلق ليتناول كل مُنعَم عليه، ثم كني به عن الإسلام، لأن من أنعم الله تعالى عليه بالإسلام، لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه، ولهذه الدقيقة قال: "والوجه" إلى آخره. قوله: (والذي أجاز وقوع {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً لـ {يَوْمٌ عَسِيرٌ}، أن المعنى). هذا جواب عن السؤال الثاني، يريد: أن المعنى هو الذي يجيز التقدير، لأن النقر في الصور من أمارات يوم القيامو، والقيامة إنما تأتي وتقع حين يُنقر في الصور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الفرائد": "لما كان العسير الذي جعل صفة لليوم، صفة للأمر الواقع فيه على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم، جعل وقت النَّقر ظرفاً، باعتبار ان المراد منه العُسر على الكفار. وقيل: لا يمكن جعل قوله: "وقوع {يَوْمَئِذٍ} [ظرفاً لـ] {يَوْمٌ عَسِيرٌ} "، خبراً لقوله {فَذَلِكَ}، ولا بد من تقدير مضاف، إذ المعنى: زمان النقر يومئذٍ زمان وقوع {يَوْمٌ عَسِيرٌ}، لأنه لا يمكن جعل {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً لما بعده، لأنه يلزم إعمال المصدر، الذي هو المضاف إليه فيما قبل المضاف وفيه نظر، لأن لفظة {ذَلِكَ} إشارة إلى نقر الناقور لا إلى زمان النقر، فيصح حينئذ وقوع {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبراً لـ {ذَلِكَ}، و {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً له، وإليه الإشارة بقوله: "لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور". فإن قيل: نقر الناقور سبب لوقوع يوم القيامة، لا نفس وقوعه؟ قلت: سببيته لاتنافي ظرفيته كما قال المصنف في آخر سورة "الأحقاف": "لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته، وضربته إذا أساء". قال صاحب "الكشف": " {ذَلِكَ}: ابتداء، وهو إشارة إلى المصدر، أي: فذلك النقر، وهو العامل في {يَوْمَئِذٍ}. و {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبر المبتدأ، والمضاف مُقدر، أي: فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير. و {عَلَى الْكَافِرِينَ} مُتعلق بـ {عَسِيرٌ} لا بـ {يَسِيرٍ}، لأن ما يعمل فيه المضاف إليه، لا يتقدم على المضاف، على أنهم قالوا: إن "غيراً" في حكم حرف النفي، فيجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله. وأجازوا: أنت زيداً غير ضارب، حملاً على: أنت زيداً لا ضارب".

ويجوز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) مبنياً مرفوع المحل بدلا من (ذَلِكَ)، و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. فإن قلت: فما فائدة قوله: (غَيْرُ يَسِيرٍ)، و (عَسِيرٌ) مغن عنه؟ قلت: لما قال: (عَلَى الكَافِرِينَ) فقصر العسر عليهم، قال: (غَيْرُ يَسِيرٍ) ليؤذن بأن لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال أبو البقاء: "إذا: ظرف، والعامل ما دل عليه {فَذَلِكَ}، لأنه إشارة إلى النقر. و {يَوْمَئِذٍ} بدل من {إِذَا}، و {ذَلِكَ} مبتدأ، والخبر {يَوْمٌ عَسِيرٌ}. العامل فيه ما دل عليه {عَسِيرٌ}، أي: تعسير، ولا يعمل فيه نفس {عَسِيرٌ}، لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها. يخرج على قول الأخفش، وهو أن يكون {إِذَا} مبتدأ، والخبر {فَذَلِكَ}، والفاء زائدة. وأما {يَوْمَئِذٍ} فظرف لـ {ذَلِكَ} ". وقلت: قد سبق غير مرة أن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى، دل على فخامة الجزاء، وكان الجزاء متضمناً للإخبار أو التوبيخ، وها هنا المشار إليه بقوله: فذلك الذي هو الجزاء، نفس الشرط الذي هو وقت النقر، وانضم معه تكرير {يَوْمَئِذٍ} و {يَوْمٌ عَسِيرٌ}، فدل على التنبيه على الخطب الجليل والأمر العظيم. قوله: (ويجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} مبنياً مرفوع المحل)، قال الزجاج: "إنما بُنِيَ {يَوْمَئِذٍ} على الفتح، لإضافته إلى إذْ، لأنها غير مُتمكنة". قوله: (فقصر العُسر عليهم)، لم يُرَد به القصر الاصطلاحي، بل يراد به تخصيص إيقاع ذكر العُسر عليهم. وعن بعضهم: نظيره قوله تعالى: {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44]، من

وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا. [(ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحِيدًا • وجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدودًا • وبَنِينَ شُهُودًا • ومَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا • ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ • كَلاَّ إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا • سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا • إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ • فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ • ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ • ثُمَّ نَظَرَ • ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ • ثُمَّ أَدْبَرَ واسْتَكْبَرَ • فَقَالَ إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ • إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ البَشَرِ) 11 - 25] (وحِيدًا) حال من «الله» عز وجل على معنيين، أحدهما: ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم، والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو حال من المخلوق على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد، كقوله: (ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 94]. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يلقب في قومه بالوحيد، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية؛ فإن كان ملقباً به قبل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث إنه تعريض بظل الجنة، وهذا غيظ لهم. والفرق أن القرينة الثانية على الأول استُجلبت بإثبات حكم مغني مغاير للمذكور، وعلى الثاني بإرادة استمرار الحكم الثابت تفريعاً. قوله: (أنه عسير لا يُرجى)، قال أبو البقاء: " {عَلَى} مُتعلق بـ {عَسِيرٌ}، أو هي نعت له، أو حال من الضمير الذي فيه، أو متعلق بـ {يَسِيرٍ}، أو بما دل عليه". قوله: (فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم)، إشارة إلى المعنى الذي سبق في قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11].

فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا إلى وجه الذم والعيب، وهو أنه خلق وحيداً لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه. (مَّمْدودًا) مبسوطاً كثيراً، أو ممداً بالنماء، من: مد الهر ومده نهر آخر، قيل: كان له الزرع والضرع والتجارة. وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال، وقيل: كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفاً وشتاء وقيل: كان له ألف مثقال، وقيل: أربعة آلاف، وقيل تسعة آلاف، وقيل: ألف ألف، وعن ابن جريج: غلة شهر بشهر. (وبَنِينَ شُهُودًا) حضوراً معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم. ويجوز أن يكون معناه: أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل، أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه. وعن مجاهد: كان له عشرة بنين، وقيل: ثلاثة عشر. وقيل: سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس؛ أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (غَلّة شهر بشهر)، أي: بحلول شهر. يعني: كان يأخذ غلة عقاره في كل شهر، وقيل: التقدير مستقر مع شهر أو شهر بعد شهر. قوله: (الوليد بن الوليد، وخالد، وعُمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس: أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة)، يُفهم منه أن الوليد بن الوليد لم يُسلم، والرواية بخلافه، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": "إن هشاماً من المُؤَلَّفة"، ولم يَذكر عمارة في

(ومَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه، فأتممت عليه نعمتي المال والجاه؛ واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا. ومنه قول الناس: أدام الله تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كتابه أصلاً، وذكر أن الوليد بن الوليد "أسلم وشهد مع رسول الله? ، وخالد كان فاراً من مكة، لئلا يرى رسول الله? . وسمع الوليد رسول الله? يقول: لو أتانا خالد لأكرمناه، ومثله سقط عليه الإسلام في عقله، فكتب إليه الوليد فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان سبب هجرته". وذكر البلاذري في "أنساب الأشراف"، أن أولاد الوليد بن المغيرة أربعة: خالداً، وهشاماً، وعمارة، ووليداً. وقال: وأما الوليد بن الوليد، فكام من المستضعفين المؤمنين، وهاجر إلى النبي? ماشياً. وأما هشام فأسلم وحسن إسلامه، وهو الذي بعثه عمر رضي الله عنه إلى الكوفة. وأما عمارة، فكان فتى قريش جمالاً، وشخص مع عمرو بن العاص إلى الحبشة، فعشقته امرأة النجاشي، فدعته فجعل يختلف إليها، وحدث عمراً بذلك وكان بينهما ضغن وحقد، فقال: إن صدقتني فأتني بدهن من دُهن النجاشي، فجاء به، فأتى عمرو النجاشي، وحدثه الحديث، فأخذه النجاشي وقطعه إرباً إرباً، فعلم من ذلك أنه قُتل مشركاً، والله أعلم" .. قوله: (فأتممت عليه نعمتي المال والجاه)، يريد أن قوله: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا}، تكميل، فعلم من الأول أنه أوتي المال والولد، وقد لا يحصل بهما الجاه، فتمَّم وكمّل بقوله: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا}، وإليه الإشارة بقوله: "واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا"، وقوله: "عند أهلِ

وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم؛ ولذلك لقب «الوحيد» و «ريحانة قريش». (ثُمَّ يَطْمَعُ) استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، يعني أنه لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة، وقيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. (كَلاَّ) ردع له وقطع لرجائه وطمعه (إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد. ويروى أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك. (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت»، وعنه عليه السلام: «الصعود جبل من نار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدنيا" تتميم للصيانة، لأن عند أهل الآخرة نقصان الفاء مثلها في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54]. التمهيد مأخوذ من: مهد الفراش. الأساس: "مَهَّدَ المَهْد والمَهُد والمِهاد، ومضجع ممهود وممهد، ومَهَّد الفراش فامْتَهَد وتَمهَّد. ومن المجاز: مَهَّد الأمر: وطّأَه وسواه، ومَهّت العُذر تمهيداً". قوله: (وريحانة قريش)، النهاية: "الرَّيحان يطلق على الرحمة والرزق والراحة، فبالرزق سُمِّي الولد ريحاناً".

يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً». (إنَّهُ فَكَّرَ) تعليل الوعيد، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقب في الآخرة بأشد العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحراً. ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) ردا لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له؛ وإخباراً بأنه من أشدّ أهل النار عذاباً، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله: (إنَّهُ فَكَّرَ) بدلا من قوله: (إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) بيانا لكنه عناده، ومعناه: فكر ماذا يقول في القرآن (وقَدَّرَ) في نفسه ما يقول وهيأه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سبعين خريفاً)، عن بعضهم: سبعين عاماً، لأن الخريف آخر السنة، لأن فيه تُدرك جميع الثمار، وكذلك الإنسان إذا بلغ آخر عمره قد يخرف. قوله: ({إِنَّهُ فَكَّرَ} تعليل للوعيد)، يريد أن قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا}، تعليل لقطع المزيد المعنى بقوله: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (كَلَّا}. وقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}، تعليل للوعيد المعني بقوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} لأنه {كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا}، وذلك بأنه فكر وقدر. وفي الكواشي: "يقف عند قوله: {أَنْ أَزِيدَ}، إن جعلت {كَلَّا} بمعنى "ألا" استفتاحاً. ويتم هنا إن جعلتها ردعاً، وهو أولى، ويبتدئ {إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا} ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الزجاج: "كلا: ردع وتنبيه، فيقول: كلا، لمن قال لك شيئاً تنكره، أي: ارتدع عن هذا وتنبه على الخطأ فيه". وقال ابن الحاجب" وقد تكون بمعنى: حقاً، وعليه حُمل مواضع من القرآن". وفي كتاب "المُرشد": "قال الخليل وسيبويه والأخفش: كلا: ردع وزجر. روى الخليل عن مقاتل ابن سليمان: كل شيء في القرآن من {كَلَّا}، فهو ردٌّ على الكلام الأول إلا بعضه. روى ابن الأنباري عن المفسرين، معناها: حقًّا، وحكي عن الكسائي أيضاً. وعن الفراء: هي حرف رد بمنزلة "نعم" و "لا" في الاكتفاء، وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة، لأنها بمنزلة قولك: إي ورب الكعبة، قال الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر: 32]، قال أبو حاتم: وهي على وجهين: أحدهما بمعنى "لا" رداً للأول. والثاني بمعنى ألا، التي هي للتنبيه يُستفتح بها الكلام، قال الأعشى: كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم إنا لأمثالكم - يا قومنا - قُتُلُ كأنه قال: ألا زعمتم. فقيل: يُحتمل أن الشاعر قد رد بها زعم القوم". وأجاب صاحب "المرشد": "إذا صح لأبي حاتم أن يقول: {كَلَّا} في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] بمعنى: ألا، لم يمتنع أن يُحمل البيت عليه. وقيل: ذهب ابن الأنباري أن {كَلَّا} في الآية بمعنى: حقاً. وأجيب: إن هذا أيضاً جائز، على أن كثيراً من أهل العلم يأباه، لأن {كَلَّا} حرف، و"حقاً" مصدر.

أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: قتل كيف قدر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله. ومعنى قول القائل: قتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره: الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الوقف عليها، فهي مختلفة الأحوال؛ فمنها ما يوقف عليه، ومنها ما يُبتدأ به، ومنها ما يصلح فيه الأمران، ومنها ما لا يحسن الوقف عليه ولا الابتداء به"، تم كلامه. وقلت: ضعف قول من زعم أن {كَلَّا} لا يكون بمعنى "حقاً" لكونه حرفاً وذلك اسم، لأن من قال به، ذهب إلى أنها مُعبرة عن متعلق معناه، كما تقول: "من" معناها ابتداء الغاية، و"إلى" معناها انتهاء الغاية، إلى غير ذلك. وقد سبق في أول "البقرة" عند قوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 22]. قوله: (حكاية لما كرّروه)، أي: لما كرره قريش من قولهم: قُتل كيف قدر، في حق الوليد تعجيباً، حكاه الله تعالى عنهم. ويجوز أن يكون من كلام الله، دعا عليه، ولا يكون تعجيباً ولا تكريراً مُجرداً، كما قال الراغب في "غرّة التنزيل": "كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي? : قدر ما أتى به من القرآن. فقال: إن قلنا: شاعر، كذبتنا العرب إذا قَدَّرت ما أتى به على الشعر، وكان يقصد بها التقدير تكذيب الرسول? بضرب من الاحتيال، فلذلك كان كل تقدير مستحقاً لعقوبة من الله تعالى، هي كالقتل إهلاكاً له، أي: هلك هلاك المقتول كيف قَدَّر. وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، أي أنه قال: إنه ليس ما أتى به من كلام الكهنة، فإن ادَّعينا ذلك عليه، كذبتنا العرب إذ رأوا هذا الكلام مخالفاً لكلام الكهان، فهو في تقديره له على كلام الكهنة، مُستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكاً له؛ فهو في نفيه عن القرآن الأقسام

روي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفاسدة، قاصد إلى إبطاله، وإلى إثبات قسم [لا] يصح إثباته، وهو قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 - 25]؛ وإذا كان كذلك، لم يكن في إعادة {قَدَّرَ} تكرار، بل عُلق به في الثاني مُقدر غير الأول، لفائدة جديدة". قوله: (لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً)، قال محيي السنة: "إن الله تعالى لما أنزل على النبي? : {حم (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، إلى قوله: {الْمَصِيرُ} [غافر: 1 - 3]، قام النبي? في المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي? لاستماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم، وقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً"، إلى آخر القصة. قوله: (وإن عليه لطلاوة)، النهاية: "رونقاً وحُسناً، وقد تُفتح الطاء". و "الغَدق، بالغين المعجمة وفتح الدال: المطر الكبار القطر، والمُغْدِق: مُفْعِل منه". الجوهري: "الماء الغَدَق: الكثير، وقد غدِقت عين الماء بالكسر، أي: غَزُرت". وقلت: لعل هذا التشبيه يُنظر [فيه] إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً

فقالت قريش: صبأ - والله - الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24]؛ استعار الوليد الشجرة للقرآن على التمثيلية أو المكنية، فجعل له الأعلى الذي هو الفرع، ورشحه بقوله: لمثمر، وأنبت له الأسفل الذي هو الأصل، ورشحه بقوله: لمغدق، وكنّى بقوله: "لمُغدق" عن كونها ثابتاً أصلها ريان فرعها. وتمم معنى ترشيح المثمر بقوله: لحلاوة، وتمم ترشيح المُغدق بقوله: لطلاوة؛ فقوله: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة" كالتمهيد للاستعارة وترشيحها، وقوله: "وإنه يعلو وما يعلى" كالخاتمة للمجموع، والزُّبدة والغاية: ما أفصح هذا الكلام! ولم يكن كذلك إلا لأنه مدح لأحسن الكلام. قوله: (صبأ والله الوليد)، النهاية: "يقال: صبأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره، وكانوا يُسموت من يدخل في الإسلام" مَصْبوَّا، لأنهم كانوا لا يهمزون، فأبدلوا من الهمزة واواً، ويُسمون المسلمين الصُّباة بغير همز، كأنه جمع الصابي غير مهموز، كقاضٍ وقضاة، وغازٍ وغُزاة". قوله: (فهل رأيتموه يُخنق)، كانوا يعتقدون أن الجن تخنق المجنون وتتخبطه. في "المُغرب": "الخنق بكسر النون: مصدر "خَنَقه"؛ إذا عصر حلقه. يُقال: خنقته العبرة، يعني: غصَّ بالبكاء حتى كأن الدموع أخذت بمخنقه".

فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر؛ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (اللهم لا)، قال المطرزي: "اللهم: كلمة تستعمل في الدعاء، بمعنى: يا الله، والميم فيها عوض من حرف النداء، ولذلك لا يُجمع بينهما. وقد يجيء في جواب الاستفهام قبل "لا" و "نعم" كثيراً، من ذلك ما قرأت في حديث عمير بن سعد، وقد أتاه رسول عمر رضي الله عنه، وقال له: كيف تركت أمير المؤمنين. فقال: صالحاً، وهو يقرئك السلام. فقال له: ويحك لعله استأثر نفسه، قال: اللهم لا. فقال: لعله فعل كذا، قال: اللهم لا" في حديث طويل. وكان المتكلم قصد إثبات الجواب مشفوعاً بذكر الله، ليكون أبلغ وأوقع، وفي نفس السامع أنجع، وليعلم أنه على يقين من إيراده وبصيرة في إثباته، قد جعل نفسه في معرض من أقبل على الله تعالى ليجيب فيما سأله مثلاً. ولا شك أن من كانت هذه حاله لا يتكلم إلا بما هو صدق ويقين وحق مبين. وقد يؤتى بها قبل "إلا"، إذا كان المستثنى عزيزاً نادراً، وكان قصدهم بذلك الاستظهار بمشئية الله في إثبات كونه ووجوده، إيذاناً بأنه بلغ في النُّدرة حد الشذوذ، وهذا كثير في كلام الفصحاء". قوله: (يأثره)، هو من قولك: "أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته من غيرك" ذكره الجوهري. قوله: (فارتج)، أي: اضطرب. المغرب: "ارتج الظلام إذا تراكب والتبس وقيل: ارتج: وقع في رجة، وهي الاختلاط". الجوهري: "ارتج البحر: اضطرب".

وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه (ثُمَّ نَظَرَ) في وجوه الناس، ثم قطب وجهه، ثم زحف مدبراً، وتشاوس مستكبراً، لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء، وهم بأن يرمي بها، وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط، استهزاءً به. وقيل: قدر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق (واسْتَكْبَرَ) عنه فقال ما قال. و (ثُمَّ نَظَرَ) عطف على (فَكَّرَ وقَدَّرَ) والدعاء اعتراض بينهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وتشاوس)، الجوهري: "الشَّوس، بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبراً أو تغيظاً". قوله: (وصف أشكاله)، أي: وصف الله تعالى أشكال الوليد وهيأته، وهي: {ثُمَّ نَظَرَ (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}. قوله: (والدعاء: اعتراض)، أي: قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}. وليس هذا الاعتراض من قبيل الاعتراض المتعارف، الذي يتخلل تزيين الكلام. وتقريره: لأن الفاء مانعة من ذلك، بل هو من كلام الغير، ووقع الفاء في تضاعيف كلامه، فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية، وهو مُتعسف، وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير. وأما إذا جُعلا من كلام الله تعالى استهزاءً كما ذكره، أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب، وعليه تفسير الواحدي على ما قال ونقل عن صاحب النظم: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}: "أي: عذب ولعن كيف قدر، كما يقال: لأضربنه كيف صنع، أي: على أي حال كانت منه"، لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة، على التفاوت في التعقيب والتراخي زماناً ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن.

فإن قلت: ما معنى (ثُمَّ) الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت: الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى، ونحوه قوله: ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمّت اسلمي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل، وذلك أنه تعالى لما حسم طمع الوليد بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا}، وبين عناده بقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}، دعا عليه بالدعاءين بتقديره مرتين، كما ذكره الراغب: قدر أولاً أنه شاعر ثم نفاه حيلة، وقدر ثانياً أنه كاهن كذلك، ثم بعد ذلك نظر في طلب ما يدفع به ويرده، ثم عبس وبسر كالمهتم المتفكر في شيء، ثم أدبر عن الحق واستكبر عن اتباعه، فقال: ما هذا الذي يقرؤه محمد، إلا سحر يُؤثر. والله أعلم. قوله: (ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثُمت اسلمي)، عجزه: ثلاث تحيات وإن لم تكلمي وفي بعض النسخ، العجز من المتن، أي: تبالغي في السلام، ثم تبالغي. وقيل: أي كوني سالمة، يخاطب الرَّبع والدار، والتقدير: أُحيي ثلاث تحيات. قبله: وما لي من ذنب إليهم علمته سوى أنني قد قلت: يا سَرحة، اسلمي أي: مالي من ذنب أهتدي إليهم، سوى قولي: يا سرحة، أدام الله سلامك. وسرحة: شجرة، عرض بها باسم امرأة فيهم؛ وإنما كرر ليغايظهم ويناكدهم.

فإن قلت: فما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: الدلالة على أنه قد تأتى في التأمل وتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد. فإن قلت: فلم قيل: (فَقَالَ إنْ هَذَا) بالفاء بعد عطف ما قبله ب- «ثم»؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث. فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد. [(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ • ومَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ • لا تُبْقِي ولا تَذَرُ • لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ • عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ • ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا ولا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ ومَا هِيَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) 26 - 31] (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) بدل من (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)، (لا تُبْقِي) شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته؛ وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بين الجملتين)، يعني قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}، وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، وذلك أن مراده أنه ليس من عند الله، وأنه من عند البشر؛ فكونه سحراً لا يكون من عند الله، بل يكون من عند البشر، فكان قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، من هذا الوجه توكيداً لمتبوعه، ولذلك قال: "أُجري مجرى التوكيد". قوله: ({سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بدل من {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا})، هذا إنما يستقيم، إذا جعل مثلاً لما يلقى من العذاب الشاق، وإذا قيل: إنه يكلف أن يصعد عقبة في النار، فلا؛ لقوله: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 28].

أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. (لَوَّاحَةٌ) من لوح الهجير، قال: تقول: ما لاحك يا مسافر؟ ... يا ابنة عمّى لاحنى الهواجر قيل: تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سواداً من الليل، والبشر: أعالي الجلود. وعن الحسن: تلوح للناس، كقوله: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ) [التكاثر: 7]. وقرئ: «لواحة» نصباً على الاختصاص للتهويل. (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) أي يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً، وقيل: صنفاً من الملائكة، وقيل: صفاً وقيل: نقيباً. وقرئ: «تسعة عشر» بسكون العين لتوالي الحركات في ما هو في حكم اسم واحد، وقرئ: «تسعة أعشر» جمع عشير، مثل: يمين وأيمن، جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من لوح الهجير)، أي: تغييره وتسويده. الأساس: "لاحته النار والسموم ولوحته: غيرته وسفعت وجهه". قوله: (تلوح للناس، كقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} [التكاثر: 7])، الأساس: "لاح البرق والنجم وغيرهما وألاح. ومن المجاز: ألاح بسيفه وبثوبه، ولوَّح به: لمع به". قوله: (وقُرئ: "تسعة عشر" بسكون العين)، قال ابن جنى: "وهي قراءة أبي جعفر يزيد وطلحة. وقرأ أنس بن مالك: تسعة أعشر.

فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد الخلق بأساً وأقواهم بطشاً. عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي بالجبل عليهم». وروي أنه لما نزلت (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أما القراءة بسكون العين، فلأجل كثرة الحركات؛ فإن الاسمين جعلا كالاسم الواحد، فلم يوقف على الأول فيحتاج إلى الابتداء بالثاني، فلما أُمن ذلك أُسكن تخفيفاً، وجُعل ذلك أمارة لقوة الاتصال، ولا يجوز ذلك مع اثنا عشر. وقال أبو جعفر: تسعة أعشر لا وجه له، إلا أن يعني تسعة أعشر، جمع العشير"، وهم الأصدقاء. ورُوي عن المصنف أنه قال: "أي: تسعة من الملائكة، كل واحد منهم عشير لتسعة، فهم مع أتباعهم تسعون، والعشير العُشر، أي: النُّقباء تسعة". قوله: (فتؤمن هوادتهم)، الأساس: "ما في فلان هوادة رفق ولين". قوله: (وكأن أفواههم الصياصي)، أي: أنيابهم، كذا في "المعالم" و"الوسيط". الأساس: "صئصئة الديك: مخلبه في ساقه. وأسنة كصياصي البقر وهي قرونها، والصياصي: الحصون".

قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله: (ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً)، أي: ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون. فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟ قلت: ما جعل افتتانهم بالعدة سبباً لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سبباً، وذلك أن المراد بقوله (ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا): وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع (فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) موضع (تِسْعَةَ عَشَرَ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ابن أبي كبشة)، النهاية: "هو رجل من خزاعة، خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وعبد الشعرى العبور، فلما خالفهم النبي? في عبادة الأوثان، شبهوه به". قوله: (فوضع {فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} موضع {تِسْعَةَ عَشَرَ})، وكان أصل الكلام: عليها تسعةَ عشر، وما جعلنا عدة أصحاب النار، إلا هذا العد المخصوص الذي هو سبب فتنة الكفار، فوضع المسبب موضع السبب ليؤذن بأن هذا العدد المخصوص ليس إلا، للابتلاء. قال القاضي: "وما جعلنا عدتهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم، وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر، تنبيهاً على أنه لا ينفك منه. وافتتانُهم به: استقلالهم له واستهزاؤهم به، واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين. ولعل المراد بالجعل: القول؛ ليحسن تعليله بقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. أي: ما قلنا: إن عدتهم كذا، إلا ليكتسبوا اليقين بنبوة مُحمد وصدق القرآن، لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم".

لأن حال هذه العدة الناقصة واحداً من عقد العشرين، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته، ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله، وازدياد المؤمنين إيماناً لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك. فإن قلت: لم قال: (ولا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ)، والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟ قلت: لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفي الشك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحب "الانتصاف": "السؤال أن الفتنة التي هي في تقدير الصفة؛ إذ معنى الكلام ذات فتنة، جعلت سبباً لما بعدها. والمجيب جعل العدة التي عرضت لها هذه الصفة، سبباً لا باعتبار عُروض الصفة. ويجوز أن يرجع قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ} إلى ما قبل الاستثناء، أي: جعلنا عدتهم سبباً لفتنة الكفار ويقين المؤمنين، وهو أقرب. وما ألجأ الزمخشري إلى خلافه، إلا اعتقاد أن الله ما فتنهم". وقلت: ما ألجأه إليه إلا أن استيقان أهل الكتاب، وازدياد إيمان المؤمنين، واستهزاء الكافرين والمنافقين، ليس مُسبباً عن جعل العدد فتنة؛ فلموافقته لما في الكتابين، صار سبباً لاستيقان أهل الكتاب، ولما كان من شأنه أن يُفتتن به، صار سبباً لحيرة الكافرين، بل الحق في هذا المقام ما قاله القاضي، لأن نفس جعل العدة الموصوفة ليس سبباً، بل القول به هو السبب. قوله: (لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين). أراد أن الأسلوب من باب الطرد والعكس، لقوله تعالى: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6].

كان آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس وثلج الصدر، ولأن فيه تعريضاً بحال من عداهم، كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر. فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه وليقول المنافقون، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة (والْكَافِرُونَ) بمكة: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)؟ وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضاً؟ قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضاً، ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد لمخافة الشر، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك. (مَثَلاً) تمييز لهذا، أو حال منه، كقوله: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) [هود: 64]. فإن قلت: لم سموه مثلاً؟ قلت: هو استعارة من المثل المضروب، لأنه مما غرب من الكلام وبدع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يصح أن يكونا غرضين)، الانتصاف: "لا يُطلق الغرض على الإرادة من الله وأصل السؤال على قاعدته، فأرح فكرك عن سؤاله، فالله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء".

استغراباً منهم لهذا العدد واستبداعاً له. والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص. الكاف في (كَذَلِكَ) نصب، وذلك: إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أي: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدى المؤمنين، يعني: يفعل فعلاً حسناً مبنياً على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيماناً، وينكره الكافرون ويشكون فيه فيزيدهم كفراً وضلالاً. (ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) وما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة (إلاَّ هُوَ) ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استغراباً)، قيل: هو متعلق بقوله: "استعارة"، فكأنه قال: استعاروه من المثل لاستغرابهم هذا العدد. قوله: (وما في اختصاص كل جُند)، عطف تفسيري على قوله: "وما عليه كل جند". وأما قوله: "وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو"، فعطف على "وما يعلم جنود ربك، وما عليه كل جند" إلى آخره لمغايرته له، وكذلك قوله: "وقيل: هو جواب لقول أبي جهل"، قال محيي السنة: "وهو قول مُقاتل". ويمكن أن يُقرر هذا القول بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر العدد الذي اقتضى فتنة الكفار، وطعن أبو جهل فيه تارة بقوله: أما لرب مُحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ ، وأخرى بقوله لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يُخبركم أن خَزَنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ كما سبق في "الكشاف"، فأجيب

كما لا يعرف الحكمة في أعداد السموات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة، أو: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها. وقيل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر؟ (ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) إلى قوله: (إلاَّ هُوَ) اعتراض. وقوله: (ومَا هِيَ إلاَّ ذِكْرَى) متصل بوصف (سَقَرَ) و (إلاَّ هُوَ) ضميرها، أي: وما سقر وصفتها إلا تذكرة (لِلْبَشَرِ)، أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها. [(كَلاَّ والْقَمَرِ • واللَّيْلِ إذْ أَدْبَرَ • والصُّبْحِ إذَا أَسْفَرَ • إنَّهَا لإحْدَى الكُبَرِ • نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ • لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) 32 - 37] (كَلاَّ) إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً. و «دبر» بمعنى أدبر، كقبل بمعنى أقبل، ومنه صاروا كأمس الدابر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً}، أي: ما جعلناهم من جنسكم يُطاقون، عقبة بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، أي: ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلا هو، لأنهم جنود الله يُسلطهم على أعدائه، وجبريل عليه السلام منهم، قلع مدائن قوم لوط بريشة من جناحه. قوله: ({وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} إلى قوله: {إِلَّا هُوَ} اعتراض). يعني: قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، معطوف على قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وما يتصل بها. وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا}، إلى قوله: {إِلَّا هُوَ}: استطراد، رداً لطعن الكفار، اعترض بين الكلامين المتصلين اهتماماً. قوله: (كأمس الدابر)، أمس: هو عند بعضهم مبني، وعند بعضهم غير مُنصرف.

وقيل: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. وقرئ: (إذْ أَدْبَرَ). (إنَّهَا لإحْدَى الكُبَرِ) جواب القسم أو تعليل ل- (كَلاَّ)، والقسم معترض للتوكيد. و «الكبر»: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل، جمعت فعلى عليها، ونظير ذلك: السوافي في جمع السافياء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم)، هذا إذا جعل {كَلَّا} إنكاراً للكلام السابق، فعلى هذا يقف القارئ عند {كَلَّا} ويبتدئ بالقسم. قوله: (أو تعليل لـ {كَلَّا})، هذا إذا جُعل ردعاً لمن يُنكر أن يكون {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} نذيراً. أي: حَقُّها إنّها لإحدى الكُبر، والقسم مُعترض وجوابه محذوف، فيقف القارئ عند قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. قال صاحب "المُرشد": هذا وقف تام، ويستأنف: كلا والقمر، بمعنى: ألا والقمر, والوقف ها هنا على {كَلَّا}، ليس بحسن وإن كان قد جوزه بعضهم". وقلت: وفيه معنى الترقي، كأنه قيل: ما هي ذكرى للجاحد ارتدع وتنبه على الخطأ، بل هي إحدى البلايا والدواهي والعظائم على الجاحد من جهة الإنذار. قوله: (وقُرئ: {إِذْ أَدْبَرَ})، نافع وحمزة وحفص: بالهمز وبإسكان الذال. والباقون: بلا همز وبفتح الذال. قوله: (السوافي)، الأساس: "الرِّيح تسفي التراب، وسفت عليه الرياح، ولعبت به السوافي".

والقواصع في جمع القاصعاء، كأنها جمع فاعلة، أي: لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها. كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. و (نَذِيرًا) تمييز من إحدى، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، كما تقول: هي إحدى النساء عفافاً. وقيل: هي حال، وقيل: هو متصل بأول السورة، يعني: قم نذيراً، وهو من بدع التفاسير. وفي قراءة أبي: «نذير» بالرفع خبر بعد خبر ل- «أن»، أو بحذف المبتدأ. (أَن يَتَقَدَّمَ) في موضع الرفع بالابتداء، و «لمن شاء»: خبر مقدم عليه، كقولك: لمن توضأ أن يصلي؛ ومعناه مطلق: لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله: (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: هي حال)، قال القاضي: "هو حال مما دلت عليه الكُبرى، أي: كبرت مُنذرة". قوله: (يعني: قُم نذيراً، وهو من بِدع التَّفاسير)، قال محيي السنة: "قيل: {نَذِيرًا} صفة محمد صلوات الله عليه، ومعناه: يا أيها المدثر، قُم نذيراً للبشر فأنْذِر، هذا معنى قول ابن زيد"، ولما لزم منه خرم النظم، قال: وهو من بدع التفاسير. قوله: (مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر)، يريد أن مُتعلق "أن يتقدم ويتأخر" غير مَنوي، ومعناه: أن لا إلجاء ولا قسر، والمكلَّف مختار في كل ما يريد أن يأتي ويذر.

ويجوز أن يكون (لِمَن شَاءَ) بدلاً من (لِّلْبَشَرِ) على أنها منذرة للمكلفين الممكنين: الذين إن شاؤوا تقدموا ففازوا، وإن شاؤوا تأخروا فهلكوا. [(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ • إلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ • فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ • مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ • قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ • ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ • وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ • وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ • حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ • فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) 38 - 48] (رَهِينَةٌ) ليست بتأنيث «رهين» في قوله: (امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21]، لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "احتجت المعتزلة بالآية على كون العبد مُتمكناً من الفعل غير مجبور عليه. وجوابه: أن الآية دلت على أنَّ فعل العبد مُعلق على مشيئته، ولكن مشيئة العبد مُعلقة على مشيئة الله تعالى، لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ". قوله: (ويجوز أن يكون في {لِمَن شَاءَ} بدلاً من {لِّلْبَشَرِ})، وهو على تكرير العامل، كقوله: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]. فإن قلت: مفعول {شَاءَ} و {أَرَادَ} يُحذف في الكلام الفصيح، اللهم إلا أن تكون فيه غرابة، فأي غرابة فيه حتى ذُكر في هذا الوجه دون الأول؟ قلت: غرابته أن التقدير: والله إنها لإحدى الكُبر، نذيراً للمكلَّفين المختارين المتمكِّنين من فعل الطاعة والمعصية، فكنى عن ذلك بقوله: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أحسن انتظاماً بهذا الوجه لما في الوجه الأول شائبة تهديد ووعيد، ونظيره قوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] شاهد عليه.

لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة: أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل كأنه قال: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك (إلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ)، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. وعن علي رضى الله عنه، أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هم الملائكة. (فِي جَنَّاتٍ) أي هم في جنات لا يكتنه وصفها (يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ) يسأل بعضهم بعضاً عنهم، أو يتساءلون غيرهم عنهم، كقولك: دعوته وتداعيناه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أبعد الذي بالنَّعف) البيت، النَّعْف: اسم جبل، وقيل: مكان مرتفع. ورهينة بمعنى رهن، مجرور، بدل من "الذي"، والرَّمس: القبر، وألف الاستفهام للإنكار، وبعده: أذكر بالبُقيا على ما أصابني وبُقياي أني جاهد غير مُؤتل وهمزة الإنكار تتناول الفعل الذي في صدر البيت الثاني، والمعنى: أبعد الذي دُفن بنعف أذكَّر بالبُقيا؟ أي: أَأُسام الإبقاء على من وترني عليه؟ أي: أجتهد في قتله ولا أُقصر. والبُقيا من الإبقاء. قائله: عبد الرحمن بن زيد، قُتل أبوه، وعُرض عليه سبع ديات، فأبى أن يأخذها، وقال هذا. قوله: (دعوته وتداعيناه)، أي: دعوته أنا وتداعيناه نحن، كقولك: رأيته أنا وتراأيناه نحن، يعني: إذا كان المتكلم مُفرداً بقوله: دعوته، وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه. ونظيره: رَميته

فإن قلت: كيف طابق قوله: (مَا سَلَكَكُمْ) - وهو سؤال للمجرمين - قوله: (يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ) وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين: ما سلككم؟ قلت: (مَا سَلَكَكُمْ) ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئوولين عنهم؛ لأن المسئوولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتراميناه، ورأيت الهلال وتراأيناه. وهذا التفاعل هنا لا يكون من الجانبين، فعلى هذا: يتساءلون بمعنى: يسألون. قوله: (كيف طابق قوله: {مَا سَلَكَكُمْ})، توجيهه: أن قوله: {مَا سَلَكَكُمْ}، الظاهر أنه بيان لقوله: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (عَنِ الْمُجْرِمِينَ}، أي: يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال أصحاب المجرمين، أو يتساءلون غيرهم عنهم، فحينذ لا يُطابق: {مَا سَلَكَكُمْ}، إذ لو قيل: ما سلكهم؟ أو قيل: يسألون المجرمين، أو يسألونهم عن أحوالهم، فقيل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، لصح كونه بياناً له. قوله: (وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم)، يعني: لما سألوا أصحابهم عن أحوال المجرمين، أجابوا بأنا سألناهم عن أحوالهم، وقلنا لهم: ما سَلَككم في سَقَر؟ قالوا: لم نَكُ من المصلين، وجيء بالكلام على الحذف. وقريب منه قوله تعالى حكاية عن جبريل أنه قال: {لِأَهَبَ لَكِ}، وليس هو الواهب، وإنما الواهب هو الله عز وجل، إلا أن جبريل عليه السلام: قال: لأهب لك، على أن الله تعالى أرسلني إليك، وقال لي: قل لها: إن الله تعالى قال: أهَبُ لكِ.

فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم (فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ) إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. الخوض: الشروع في الباطل وما لا ينبغي. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك؟ قلت: توبيخاً لهم وتحسيراً، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال، أنهم إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الخوض: الشروع في الباطل)، عن بعضهم: الخوض اسم غالب في الشر، كالخلود في إقامة لا انقطاع لها، وكذلك قولهم: "يَذْكُرُك" غالب في الشر، وعليه قوله تعالى: {فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60]، وهذا من الأسماء الغالبة، كـ[الصفات الغالبة والمعاني] الغالبة. قوله: (وقد عَضَدَ بعضهم)، هذا وجه ثالث في الجواب عن السؤال، و"أنهم" مُتعلق بـ "عضد"، أي: بأنهم. يعني: بعض من قال: إن المراد بقوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39]: [الأطفال]، وهو قول عليٍّ رضي الله عنه، أن هذا السؤال إنما يحسن ممن لا يعرف موجب دخول النار.

فإن قلت: أيريدون أن كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً. فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيما للتكذيب، كقوله (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: 17]، و (اليَقِينِ) الموت ومقدماته، أي: لو شفع لهم الشافعون جميعاً من الملائكة والنبيين وغيرهم؛ لم تنفعهم شفاعتهم؛ لأن الشفاعة لمن ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم، وفيه دليل على أن الشفاعة تنفع يومئذ؛ لأنها تزيد في درجات المرتضين. [(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ • كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ • فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ • بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً • كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ • كَلاَّ إنَّهُ تَذْكِرَةٌ • فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ • ومَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وأَهْلُ المَغْفِرَةِ) 49 - 56] (عَنِ التَّذْكِرَةِ) عن التذكير وهو العظة، يريد: القرآن أو غيره من المواعظ، و (مُعْرِضِينَ) نصب على الحال، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يحتمل الأمرين جميعاً)، أي: يدخل بعضهم النار بمجموع ذلك، وهو: ترك الصلاة، وترك الإطعام، والخوض في الباطل مع الخائضين فيه، والتكذيب بيوم القيامة. وبعضهم بمجرد ترك الصلاة، أو ترك الإطعام. الانتصاف: "هذا تخييل منه على أن تارك الصلاة يخلد في النار. والصحيح أن الآية في الكفار، أي: لم يكن من أهل الصلاة، وكذلك إلى آخرها، ولا تصح منهم هذه الطاعات، وإنما يتأسّفون على فوات ما ينفع". وقال القاضي: "وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع".

كقولك: مالك قائماً؟ والمستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه. وقرئ بالفتح: وهي المنفرة المحمولة على النفار. والقسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها، وقيل: الأسد، يقال: ليوث قساور، وهي فعولة من القسر، وهو القهر والغلبة، وفي وزنه (الحيدرة) من أسماء الأسد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كقولك: مالك قائماً)، قال صاحب "الكشف": " {مَآ} رفع بالابتداء، والخبر الجار والمجرور، {مُعْرِضِينَ}: حال من المجرور، أي: أي شيء ثابت لهم مُعرضين عن التذكرة، و {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} حال بعد حال، أي: مُشابهين حُمُراً". قوله: (في جمعها له وحملها عليه)، أي: جمع النفوس للنِّفار، وحملها على النِّفار. الأساس: "فلان جماع لبني فلان، يأوون إليه ويجتمعون عنده. ويقال: جمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم". وفي كلام المصنف شائبة تجريد. قوله: (وقُرئ بالفتح)، أي: "مُستنفرة" بفتح الفاء: نافع وابن عامر، والباقون: بكسرها. قال صاحب "الكشف": "القراءتان مبنيتان على أن {مُّسْتَنفِرَةٌ}، جاءت متعدية ولازمة". قوله: (وفي وزنه: الحيدرة)، بعضهم: إن {قَسْوَرَةٍ} فعولة، وحيدرة: فيعلة،

وعن ابن عباس: ركز الناس وأصواتهم، وعن عكرمة: ظلمة الليل، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه، بحمر جدت في نفارها مما أفزعها. وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، كما في قوله: (كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [الجمعة: 5]، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب؛ ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص. (صُحُفًا مُّنَشَّرَوؤةً) قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها، أو كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد؛ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها بإتباعك، ونحوه قوله: (ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ) [الإسراء: 93]، وقال: (ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) الآية [الأنعام: 7]. وقيل: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك؛ وهذا من الصحف المنشرة بمعزل؛ إلا أن براد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة. وقرأ سعيد بن جبير: «صحفاً منشرة» بتخفيفهما، على أن «أنشر» الصحف و «نشرها» واحد، كأنزله ونزله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا أنهما مُلحقان بـ "فعللة"، فلهذا قال: وفي وزنه. قوله: (وهذا من الصُّحف المُنشرة بمعزل)، أي هذا التأويل الأخير.

ردعهم بقوله (كَلاَّ) عن تلك الإرادة، وزجرهم عن اقتراح الآيات، ثم قال: (بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ)، فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال: (إنَّهُ تَذْكِرَةٌ) يعني: تذكرة بليغة كافية، مبهم أمرها في الكفاية (فَمَن شَاءَ) أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه. والضمير في (إنَّهُ) و (ذَكَرَهُ) للتذكرة في قوله (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر: 49]؛ وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن. (ومَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنهم مطبوع على قلوبهم، معلوم أنهم لا يؤمنون اختياراً (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وأَهْلُ المَغْفِرَةِ) هو حقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ردعهم بقوله {كَلَّا} عن تلك الإرادة. في الكواشي: " {صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}، عنده وقف تام إن جعلت {كَلَّا} بمعنى "ألا"، وعند {كَلَّا} إن جعلتها ردعاً، ثم تبتدئ: {بَل لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ}، وتقف عند {الْأخِرَةَ}، إن لم تجعل {كَلَّا} ردعاً، وعند {كَلَّا} إن جعلتها ردعاً، وتبتدئ: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} ". والمصنف جعلهما ردعين للكلامين السابقين، وابتدأ بما بعدها. قوله: ({إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} يعني: إلا أن يقسرهم على الذكر)، قال الإمام: "إنه تعالى نفى الذكر مُطلقاً، واستثنى عنه حال المشيئة المُطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة يحصل الذِّكر، فحيث لم يحصل الذّكر، علمنا أنه لم تحصل المشيئة. وتخصيص المشيئة بالمشيئة القسرية، ترك للظاهر". وقال القاضي: "وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله".

وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه». وقرئ: (يَذْكُرُونَ) بالياء والتاء مخففا ومشددا. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو أهل أن يُتقى)، روى الترمذي وابن ماجه والدارمي، عن أنس أن رسول الله? ، قال في هذه الآية: "قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى؛ فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً، فأنا أهل أن أغفر له". قوله: (وقُرئ: {يَذْكُرُونَ})، نافع: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء مخففاً، والتشديد: شاذ. تمت السورة بعون الله حامداً له * ... * ... *

سورة القيامة

سورة القيامة مكية، وهي تسع وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ • ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ • أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ • بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّ-سَوِّيَ بَنَانَهُ • بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ • يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ) 1 - 6] إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة القيامة أربعون آية، مكية إجماعاً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (إدخال "لا" النافية على فعل القسم مُستفيض)، في "اللباب": "فيه خمسة أقوال: الأول: قول الجمهور: إن "لا" صلة كقوله: {لِّئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29]. الثاني: قول المبّرد: "لا" تأكيد للقسم، وأنشد: فلا وأبيك ابنة العامري البيت

قال امرؤ القيس: فلا وأبيك ابنة العامري ... ي لا يدعي القوم أني أفر وقال غوية بن سلمى: ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: قول الفراء: "لا" رد لإنكار المشركين البعث. الرابع: أصله: لأقسم، اعتباراً بقراءة ابن كثير، ثم أُشبع فظهر من الإشباع ألف. وهذا اللام تصحبه نون التوكيد في الأغلب، وقد تُفارقه. الخامس: "لا" نفي للإقسام، لأن الناس يؤكدون أخبارهم بنفي القَسَم، كما يؤكدونها بالقسم؛ فإن ذكر ترك القسم، يقوم مقام المقسم". قوله: (فلا وأبيك ابنة العامري) البيت، بعده: تميم بن مُرٍّ وأشياعها وكِندة حولي جميعاً صُبُر تميم: بدل من "القوم"، أي: لا يدعي القوم تميم أني أَفِرُّ وكندة حولي, والواو للحال، والفاء هي التي رِدف القافية مكسورة، مقابلة للباء في البيت الثاني مضمومة، وهو عيب ويسمى الإجازة. قوله: (ألا نادت أُمامة باحتمال)، قيل: "ما أبالي" جواب القسم، وقيل: "لا" زائدة، والتقدير: فَبِكِ لا أبالي. أُمامة: امرأة، والاحتمال: الارتحال، ما أبالي: ما أَكترث ولا أحتفل،

وفائدتها توكيد القسم، وقالوا: إنها صلة، مثلها في (لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ) [الحديد: 29]، وفي قوله: في بئر لا حور سرى وما شعر واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح؛ لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"لا" زائدة، أي: فبحقك ما أبالي. يعني: أظهرت هذه المرأة من نفسها ارتحالاً عني لتجلب عليّ حزناً. وفي هذه اليمين تهكم، وقيل: تمثل بهذا البيت في موت الظالم. قوله: (في بئر لا حُور سرى وما شعر)، قال أبو عبيدة: في بئر حُور. و"لا" زائدة، والحُور: الهلكة. قوله: (وأجابوا بأن القرآن في حُكم سورة واحدة)، قال الإمام: قالوا: إن القرآن كله في حُكم سورة واحدة؛ بأنه قد يُذكر الشيء في سورة، ويجيء جوابه في أخرى، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وجوابه في سورة أخرى، وهو قوله: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]. والجواب أن المراد بقولهم: إن القرآن كالسورة الواحدة، في عدم التناقض؛ فأما أن يُقرن بكل آية ما يُقرن بالأخرى، فذلك غير جائز، لأنه يلزم جواز أن يُقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، فينقلب كل إثبات نفياً وعكسه. وقلت: قال حمزة وسعيد بن المسيب: إن البسملة آية من الفاتحة ليس إلا، والقرآن جميعه بمنزلة سورة واحدة، كذا في "الشُّعلة". وليس في جواز ضرب بعض السور ببعض، وتخليط ألفاظ سورة بسورة، كما يفعله بعض وُعاظ زماننا. نعم، فيه جواز القول بتعلق صدر السورة التالية بخاتمة السابقة لفظاً، وجواز القول بتعلق بعض السور ببعض معنًى، كما جاء {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5]، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وفي الكواشي: "لما ختم سورة النساء آمراً بالتوحيد والعدل بين العباد، أكَّد ذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وفي الحديث الذي جاء عن عثمان في اتصال "الأنفال" بـ "براءة"، شاهد صدق على ذلك. ومن قال باتصال النفي بما قبل السورة، لعلَّه ذهب إلى أنه رد لقوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ

ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته؟ والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، يدلك عليه قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ • وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة: 75 - 76]، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام؛ يعني أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل: إن (لا) نفي لكلام ورد له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أي ليس الأمر كما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52]، كما أن قوله: {كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ} [المدثر: 53] ردع له، كأنه كما أراد، أُقسم بيوم القيامة، إنه لا يصل إلى مراده. وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} لقوله: {لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ}، أي: لا يعتقدون الآخرة فيخافوا عقابها، والله أعلم. قوله: (والوجه أن يقال: هي للنفي)، قال الإمام: "وعلى هذا القول وقع اختيار أبي مسلم، وهو الأصح. ويمكن تقديره بأن يقال: كأنه تعالى يقول: لا أُقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإنه أعظم وأجل من أن يُقسم عليه بهذه الأشياء، والغرض تعظيم المقسم عليه. أو يقال: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإنه أظهر وأجلى أن تحاول إثباته بمثل هذا القسم"، وهذان القولان أحسن من قول المصنف. قوله: (إن {لَآ} نفي لكلام ورد له). قال أبو البقاء: " {لَآ}: رد لكلام مُقدر، لأنهم قالوا: أنت مفتر على الله في قولك: نُبعث، فقال: {لَآ}، ثم ابتدأ فقال: {أُقْسِمُ}، وهذا كثير في الشعر؛ فإن واو العطف تأتي في مبادئ القصاد كثيراً، يقدر هناك كلام يُعطف عليه".

فإن قلت: قوله تعالى (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء: 65] والأبيات التي أنشدتها، المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أن «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا، كقولك: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ)، لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف لقى (لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) [البلد: 1] بقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ) [التين: 4]، وكذلك (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75]، بقوله: (إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة: 77]؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: "وفيه إشكال، لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، يقدح فيه". قوله: ({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65])، قال في تفسيره: "معناه: فوربك، و"لا" مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في {لِّئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29] لتأكيد وجود العلم. و {لَا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم. فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر {لَا} في {لَا يُؤْمِنُونَ}؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38 - 40] "، وإليه الإشارة ها هنا بقوله: "لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات، لكان لهذا القول مساغ". وقد ذكرنا نظر صاحب "التقريب" فيه، حيث قال: "إنه تأكيد النفي في المنفى فقط" إلى آخره. وذكرنا كلام صاحب "الانتصاف" عليه، فلينظر هناك.

وقرئ: «لأقسم»، على أنّ اللام للابتداء، وأقسم خبر مبتدأ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه، أي في يوم القيامة، على تقصيرهن في التقوى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "لأُقسم")، قرأها قُنبل، ورواها النقاش عن أبي ربيعة عن البزي، والباقون: بالألف. قال الإمام: "تقديره: إني لأُقسم بيوم القيامة لشرفها، ولا أقسم بالنفس اللوامة لخستها". وقال ابن جني: "وهي قراءة الحسن، وروي عنه بغير ألف فيهما أيضاً. وهذه اللام لام الابتداء، أي: لأنا أقسم بيوم القيامة، وحُذف المبتدأ للعلم به". قال الإمام: "وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة، وقال: لو كان المراد هذا، لقال: لأُقسمن، لا يقال: لأفعل كذا، بل لأفعلن. وروى الواحدي جوازه عن سيبويه". وقال أبو البقاء: "ولم تصحبها النون اعتماداً على المعنى، ولأن خبر الله صدق، فجاز أن يأتي من غير توكيد. وقيل: شُبِّهت الجملة الفعلية بالجملة الاسمية، كقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. أو اللام لام توكيد لا لام قسم، دخلت على الفعل المضارع كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124] ". قوله: (بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه)، الراغب: "اللوم: عذل الإنسان بنسبته إلى ما

أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن الحسن: إن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه، وإن الكافر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه. وقيل: هي التي تتلوم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة، وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ)، وهو: لتبعثن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيه لوم، قال تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، فقد قيل: هي النفس التي اكتسبت بعض الفضيلة، فتلوم صاحبها إذا ارتكب مكروهاً، فهي دون النفس المطمئنة، وقيل: بل هي النفس التي اطمأنت في ذاتها، وترشحت لتأديب غيرها؛ فهي فوق النفس المطمئنة". قوله: (وإن الكافر يمضي قُدماً)، النهاية: "ومضى قُدماً، أي: لم يُعرج. وفي حديث علي: نظر قدماً أمامه، أي: لم يعرج ولم ينثن. وقد تسكن الدال، يقال: قدم بالفتح يقدم قُدماً: أي: تَقدم". وعن بعضهم: قدماً: أي: قُداماً، كما يقال: مضى أُخراً؛ أي: مستأخراً، وهو كقوله: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ فإن المؤمن يمتنع ويقف، بخلاف الكافر فإنه يريد ليفجر أمامه. قوله: (على التفريط إن كانت مُسيئة)، روى السُّلمي عن سهل: "النفس اللوامة: هي النفس الأمارة بالسوء، وهي قرينة الحرص والأمل. وعن أبي بكر الوراق: النفس كافرة في وقت، منافقة في وقت، مرائية في وقت، وعلى الأحوال كلها هي كافرة، لأنها لا تألف الحق أبداً، وهي منافقة لأنها لا تفي بالوعد، وهي مُرائية لأنها لا تحب أن تعمل عملاً، ولا تخطو خطوة إلا لرؤية الخلق؛ فمن كان هذه صفاته، فهي حقيقة بدوام الملامة لها".

وقرأ قتادة: «أن لن نجمع عظامه» على البناء للمفعول، والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب، وبعد ما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل: إن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق، وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جاري السوء»، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به، أو يجمع الله العظام؟ فنزلت. (بَلَى) أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل: (بَلَى) نجمعها، و (قَادِرِينَ) حال من الضمير في (نَّجْمَعَ)، أي: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول إلى أن نسوي بنانه، أي: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه، أو على أن نسوي بنانه، ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض، كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({بَلَى}: أوجبت ما بعد النفي، وهو الجمع)، لأن {بَلَى} وقعت موقع الفعل المحذوف. قوله: (و {قَادِرِينَ}: حال من الضمير في {نَّجْمَعَ})، وهي حال مقررة لما أُوجب بعد النفي: إما مكملة له على سبيل الترقي كما قال: (قادرين على تأليف جمعها)، إلى قوله: "على أن نُسوي بنانه"، أو واردة مبالغة كما قال: "فكيف بكبار العظام؟ "، أو مُوبخة كما قال: "أي نجعلها مُستوية كخُف البعير وحافر الحمار"، على أسلوب قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18]، في جواب قوله: {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [الصافات: 16] الآية. قوله: (سُلامياته)، النهاية: "السلامي: هي الأُنملة، من أنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على: سُلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان".

وقيل: معناه: بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه، أي نجعلها مستوية شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار لا تفرق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاٍ مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبسط والقبض، والتأنى لما يريد من الحوائج. وقرئ «قادرون»، أي: نحن قادرون. (بَلْ يُرِيدُ) عطف على (أَيَحْسَبُ)، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر. أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({بَلْ يُرِيدُ})، عطف على {أَيَحْسَبُ}. قيل: يجوز أن يكون عطفاً: إما على {أَيَحْسَبُ} بالهمزة، فلا يكون استفهاماً على سبيل التقرير، بل يكون إيجاباً. أو على "يحسب" بدون الهمزة، فيكون مثله استفهاماً. وقلت: معنى قوله: "وأن يكون إيجاباً"، أي: لا يكون استفهاماً مثله، للإنكار المفيد للنفي؛ وهو إما أن يكون استفهاماً على سبيل التقرير فيكون موجباً، أو لا يكون استفهاماً، بل يكون جملة خبرية موجبة. والمعنى على الأول: ليس الأمر كما ظن وحسب، بل ليس كما أراد واشتهى. وعلى الثاني: أحسب ذلك؟ بل يريد هذا. أي: يدع ذلك الحُسبان الباطل، بل ارتكب أمراً أعظم من ذلك. يعني: ليست إرادته في ذلك الحُسبان مُجرد إنكار البعث، بل غرضه الاشتغال بالشهوات والانهماك في الخلاعة والفجور دائماً. وفيه أنه عالم بوقوع الحشر لكنه مُغتاب. وسنبين إن شاء الله تعالى أن هذا هو الوجه في الآية. قوله: ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: ليدوم على فجوره)، وإفادة {لِيَفْجُرَ}، وهو مُستقبل، لمعنى الدوام والاستمرار: لاقترانه مع الإنسان، وانه للجنس يعني: من شأنه ذلك وجبلته يقتضي حُب الشهوات إلا من عصمه الله، لقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} [آل عمران: 14] الآية؛ ولذلك كرر لفظ {الْإِنسَانُ} وصرح به.

وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوأ أعماله (يَسْأَلُ) سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله (أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ)، ونحوه: (ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ) [يونس: 48]. [(فَإذَا بَرِقَ البَصَرُ • وخَسَفَ القَمَرُ • وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ • يَقُولُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ • كَلاَّ لا وزَرَ • إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ • يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وأَخَّرَ • بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ • ولَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) 7 - 15] (بَرِقَ البَصَرُ) تحير فزعاً؛ وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرئ: «برق» من البريق، أي لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال: «بلق» إذا انفتح وانفرج. يقال: بلق الباب وأبلقته وبلقته: فتحته (وخَسَفَ القَمَرُ) وذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه. وقرئ: «وخسف» على البناء للمفعول (وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ) حيث يطلعهما الله من المغرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "برق"، من البريق)، قرأ نافع: بفتح الراء، والباقون: بكسرها. قوله: (برق الرجل: إذا نظر إلى البرق)، نظيره: قمر الرجل، إذا نظر إلى القمر فدهش بصره وكذلك: ذهب وبقر، إذا نظر إلى الذهب والبقر. الراغب: "البرق: لمعان السحاب، ويقال: بَرِق وأَبْرق، وبَرَق: يقال في كل ما يلمع كسيف بارق، وبَرِق: يقال في العين إذا اضطربت وجالت من خوف، قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}، وقُرئ: بَرَقَ، وتصور منه تارة: اختلاف اللون فقيل: البُرقة، لأرض ذات أحجار مختلفة الألوان. وأخرى: ما يظهر من تجويفه، فقيل: برق فلان وأبرق، إذا تهدَّد".

وقيل: وجمعا في ذهاب الضوء، وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى (المَفَرّ) بالفتح: المصدر؛ وبالكسر: المكان. ويجوز أن يكون مصدراً كالمرجع، وقرئ بهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كأنهما ثوران عقيران)، النهاية: "وفي حديث كعب: أن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار. قيل: لما وصفهما الله تعالى بالسباحة في قوله عز وجل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33، يس: 40]، ثم أخبر أنه يجعلهما في النار يُعذب بهما أهلها، بحيث لا يبرحانها، صارا كأنهما زمنان عقيران". وقيل: إنما شُبها بالثور للذل، ثم إذا عُقر ازداد الذل. قوله: (فيكون نار الله الكبرى)، أي: البحر، قال في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]: "روى أن الله تعالى يجعل في يوم القيامة البحار كلها ناراً تُسجر بها نار جهنم". قوله: ({الْمَفَرُّ} بالفتح المصدر، وبالكسر المكان)، قال ابن جني: "بالكسر قراءة ابن عباس وعكرمة والحسن". وقال الزجاج: "المفعل، من مثل جلست بفتح العين: المصدر؛ يقال: جلست مجلساً بفتح اللام، بمعنى جلوساً. فإذا قلت: جلست مجلساً، فأنت تريد به المكان". فمن فتح فهو بمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر فعلى: أين مكان الفرار.

(كَلاَّ) ردع عن طلب المفر (لا وزَرَ) لا ملجأ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك (إلَى رَبِّكَ) خاصة (يَوْمَئِذٍ) مستقرّ العباد، أي استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه، أو إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره، كقوله: (لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ) [غافر: 16]، أو إلى ربك مستقرهم، أي: موضع قرارهم من جنة أو نار، أي: مفوض ذلك إلى مشيئته، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار (بِمَا قَدَّمَ) من عمل عمله (و) بما (أَخَّرَ) منه لم يعمله، أو بما قدم من ماله فتصدق به، أو بما أخره فخلفه. أو بما قدم من عمل الخير والشر، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد: بأول عمله وآخره، ونحوه: (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ). (بَصِيرَةٌ) حجة بينة، وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) [النمل: 13]، أو عين بصيرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وُصفت بالبصارة على المجاز)، هذا يحتمل أن يكون من الإسناد المجازي، أو استعارة مكنية، كما في الآية المُستشهد بها. قال أبو البقاء: " {الْإِنسَانُ}: مبتدأ، و {بَصِيرَةٌ} خبره، و {عَلَى} مُتعلقة بالخبر. والتأنيث للمبالغة، أي: بصير على نفسه، أو على المعنى، أي: حُجَّة بصيرة على نفسه، ونُسب الإبصار إلى الحجة على أنها دالة. وقيل: بصيرة هنا مصدر، أي: ذو بصيرة، ولا يصح إلا على التَّبيين". قوله: (أو عين بصيرة)، وفي الأول: {بَصِيرَةٌ} خبر عن {الْإِنسَانُ}، وعلى الثاني: يُحتمل أن تكون {بَصِيرَةٌ} مبتدأ، وخبره {عَلَى نَفْسِهِي}، والجملة خبر، كقوله: زيد على رأسه عمامة. والبصيرة على هذا الوجه: الملك الموكل، أو جوارحه. ويُحتمل أن تكون "عين بصيرة" خبراً، ويتعلق قوله: "والمعنى" بالوجهين. وفي قوله: "عين بصيرة" تجريد؛ جُرِّد من الإنسان عين، أي: جاسوس ذو بصيرة، وإليه الإشارة بقوله: "ففيه ما يُجزي عن الإنباء". والضمير في "عليها" للنفس وإن لم يجر لها ذكر، ولذلك قال: "بما عملت".

والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ، ففيه ما يجزئ عن الإنباء؛ لأنه شاهد عليها بما عملت؛ لأن جوارحه تنطق بذلك (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24]. (ولَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها. وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير: الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحوه: المناكير في المنكر. [(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ • إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ • فَإذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ • ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ • كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ • وتَذَرُونَ الآخِرَةَ • وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ • إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ • ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ • تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) 16 - 25] والضمير في (بِهِ) للقرآن. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإن صح، فلأنه يمنع رؤية المُحتجب)، قال محيي السنة: "هو قول الضحاك والسُّدي. وأهل اليمن يسمون معذاراً، أي: إن أسبل الستر وأغلق الباب ليُخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه". قوله: (المعاذير ليس بجمع معذرة)، قال صاحب "الفرائد": "يمكن أن يقال: الأصل فيه معاذر، فحصلت الياء بإشباع الكسر، وكذا المناكير". قوله: (إذا لُقِّن الوحي نازع جبريل)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن ابن عباس، في الآية، قال: "كان النبي? يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يُحرك به شفتيه، فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}. قال: جمعه في صدرك،

فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ. (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله: (إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك، وإثبات قراءته في لسانك (فَإذَا قَرَانَاهُ) جعل قراءة جبريل قراءته؛ والقرآن: القراءة (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فكن مقفيا له فيه ولا تراسله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم تقرؤه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. قال: فاستمع وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله? ، إذا أتاه جبريل عليه السلام بعد ذلك استمع، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه". وفي رواية: كما وعده الله عز وجل. قوله: (والقرآن: القراءة)، الراغب: "القرآن في الأصل مصدر كرجحان، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، قال ابن عباس: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به. وقد خُص بالكتاب المنزل على محمد صلوات الله عليه وسلامه، وصار له كالعلم. قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كُتب الله عز وجل، لكونه جامعاً لثمرة كُتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار إليه تعالى بقوله: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقوله: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27]. قوله: (ولا تراسله)، أي: لا تكن رسيلاً له. الأساس: "هو رسيله في الغناء، أي: يباريه في إرساله. قيل: رسيل الرجل: الذي يراسله في نضالٍ أو غيره".

وطأمن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم؛ ونحوه (ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وحْيُهُ) [طه: 114]، (كَلاَّ) ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله (بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ) كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة (وتَذَرُونَ الآخِرَةَ)، وقرئ بالياء وهو أبلغ. فإن قلت: كيف اتصل قوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) [القيامة: 16] إلى آخره، بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة، وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه: عبارة عن الجملة، والناضرة: من نضرة النعيم (إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وطَأمن نفسك)، الجوهري: "طأمنت منه: سكنت". قوله: (وقُرئ بالياء)، نافع والكوفيون: تحبون وتذرون، فيهما بالتاء الفوقانية، والباقون بالياء. وكونه أبلغ، للالتفات بعد تعميم الخطاب؛ قال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِي}، ثم عم وقال: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، وعلى الغيبة: يُغني من شأن بني آدم العجلة. قوله: (اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة)، فإن قلت: جوابه غير مطابق للسؤال: سأل عن كيفية اتصال {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} بذكر القيامة، وأجاب عن سبب اتصالهما حيث قال: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت: الجواب من بليغ الكلام وفصيحه، لأنه منطبق على الجواب مع فوائد أخرى، وهو على أسلوب سؤال الكفرة لمؤمني قوم صالح عليه السلام: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75]. أي: إرساله أمر معلوم مكشوف لا كلام فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به. يعني: اتصاله به أمر ظاهر، إنما السؤال عن اتصال هذا التوبيخ، وهو {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، بحديث يوم القيامة. وخلاصة الجواب، إن اتصال الثاني بالأول من جهة أن يتخلص منه إلى الكلام الثالث. والتخلص هو الانتقال من نوع كلام إلى آخر برابطة مناسبة لهما، ولو لم تكن الرابطة مشتملة على معنى الكلامين لم تصلح للربط. والذي يشتمل عليه الكلام الأول والثاني والثالث من المعنى، هو الاهتمام بعاجل الأمر دون الآجل منه، وهذا المعنى في الكلام الثالث ظاهر. أما في الأول، فكما سبق في تفسير قوله: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، على أن يكون إضراباً لما سبق إلى موجب؛ لأن من اشتغل بلذات هذا الأدنى، لا يريد الآجل ولا يؤثره عليها، كأنه قيل: انظر إلى هؤلاء وعظيم ما ارتكبوه، حيث آثروا الحياة الدنيا على نعيم العُقبى، واعتبر من حالهم، ولا تقتف آثارهم، بأنه تهتم بعاجل الحال، وتستعجل في أخذ القرآن، وتُنازع جبريل في القراءة خوفاً من فواتها، ولا تنظر إلى آجلها، لأنا ضمنا أن نحفظه عليك: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وتكلَّفنا جمعه وقرآنه، ثم عم الخطاب بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، أي: بل أنتم يا بني آدم، لأنكم خُلقتم من عَجل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تُحبون العاجلة وتذرون الآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما كيفية التخلص، فهو أنه عز وجل، لما ساق حديث القيامة، وكان حديثاً مُتضمناً للمعنى المذكور، عن بجانبه الأقدس حديث آخر لنبيه صلوات الله عليه، وهو عادته من العجلة، فأراد أن يردعه على وجه لا يُوحشه ولا ينفره، قال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، وإليه الإشارة بقوله: ({كَلَّا} ردع لرسول الله? عن عادة العجلة، وإنكار لها عليه). ولا يبعد ذلك، لأن تنزيل الآيات مُوزعاً على الأوقات، لقمع صفات البشرية عنه حالاً غب حال، تأديب من الله لحبيبه، رحمة خاصة له وعامة لأمته، ليكون خُلقُه القرآن؛ فوسط بين الكلامين حديث عجلته، وقلة أناته عند نزول القرآن، ليكون كالتمهيد لهذا الرَّدع الفظيع والإنكار الهائل؛ لله در المصنف ولطيف عباراته ودقيق إشاراته! وقريب مما ذكرنا قول الإمام: "إنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون السعادة العاجلة، وذلك قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، وبين أن التعجيل مذموم مطلقاً، حتى التعجيل في أمور الدين، فقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِي}، وقال في آخر الآية: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ". أقول قولاً إن أصاب فمن لطف الله تعالى وفيض كرمه، وإلا فأنا أستغفر الله من ذلك: إن قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}، متصل بقوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، أي: يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره: كلا، إن أعذارك غير مسموعة، لأنك فجرت وفسقت، وظننت أنك تدوم على فجورك، وأن لا حشر ولا عقاب، وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من عادته صلوات الله عليه، إذا لُقّن الوحي، أن ينازع جبريل القراءة ويتعجل فيها، وقد اتفق عند التلقين بالآيات السابقة، ما جرت به عادته من العجلة، فلما وصل إلى قوله: {أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام، بتأديبه في أخذ القراءة، وألقى إليه تلك

ألا ترى إلى قوله: (إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ) [القيامة: 12]، (إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ) [القيامة: 30]، (إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [السورى: 53]، (وإلَى اللَّهِ المَصِيرُ) [آل عمران: 28]، (وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245]، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص؟ ! ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكلمات، ثم عاد إلى إتمام ما بُدئ به بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}. مثاله الشيخ إذا لقن درساً تلميذه وألقى فصلاً، ويراه في أثناء ذلك يستعجل ويضطرب، فيقول له: لا تعجل، فإني إذا فرغت إن كان لك إشكال أزيله، أو تخاف فوتاً فإني أكرر لك حتى أحفظكه، ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتمه. وقراءة "يحبون" بالياء، صريح في أن الكلام مع الإنسان، ولا يتعدى إلى غيره. وقال القاضي: "قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} اعتراض، بما يؤكد التوبيخ على حب العاجلة، لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، فكيف بها في غيره؟ وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، أي: بيان ما أُشكل عليك من معانيه، دليل على جواز تأخير البيان من وقت الخطاب". قوله: (مُحال). خبر لقوله: "اختصاصه بنظرهم إليه"، وقوله: "لو كان منطوراً إليه" جملة مُعترضة، وقوله: "فوجب حمله" جزاء شرط محذوف، يعني أنا لو فرضنا أنه تعالى منظور إليه مع أن العقل يأباه، فإن اللفظ أيضاً لا يُساعد عليه. يعني: دل تقديم قوله: {إِلَى رَبِّهَا} على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {نَاظِرَةٌ} على الاختصاص، ولا بد من حمله على معنى يصح معه الاختصاص، فإذا حملناه على الحقيقة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، لا يستقيم المعنى؛ لأن المنظور إليه حينئذ أشياء لا يحيط بها الوصف، فإذا كان كذلك يجب أن يحمل على المجاز، وهو التوقع والرجاء وهو صحيح، لأنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة حينئذ من غيره. وأجاب صاحب "التقريب": "إنما خُص به مع أنهم ناظرون إلى أشياء، لأن نظرهم إلى وجهه الكريم يباين النظر، فذلك النظر يختص به". وقال صاحب "الفرائد": "استدلال ضعيف، لاحتمال أن يكون المراد: أن رؤيتك نعمة زائدة على النعمة منك، ولا يلزم من الاختصاص اللازم من التقديم، أن لا ينظروا يومئذ إلى الله، بل يلزم أن لا ينظروا يومئذ إذا رأوا الله عز وجل في ذلك اليوم إلى شيء غيره، ولأن التوقع الذي ذكر لا يختص بذلك اليوم، ولأن المقام مقام الوعد والجزاء الحسن، فلا يليق ما ذكر. وكيف وقد نُقل عن النبي? ، أنه قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تُريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"". وقلت: الحديث أخرجه مسلم والترمذي عن صهيب. وكيف يستبعد هذا، والعارفون في الدنيا ربما استغرقوا في بحار الحب، بحيث لم يلتفتوا إلى الكون؟ وذلك في مقام الغرق،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو انسداد مسالك الالتفات من القلب، باستيلاء أنوار الكشف عليه قد شغفها حُباً، قال: فلما استبان الصبح أدرج ضوؤه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب تجرعتهم كأساً لو ابتلى اللظى بتجريعه، طارت كأسرع ذاهب أنشدهما صاحب "الرسالة". وقال الإمام: "لا يمكن حمل النظر على الانتظار، لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع حاصلة في الدنيا، ولا بد أن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه في معرض الترغيب في الآخرة، وليس ذلك إلا النظر إلى وجهه الكريم". وقلت: استدلاله بالتقديم ضعيف، إذ ليس كل تقديم مفيداً للاختصاص، بل يكون لمجرد الاهتمام، مع أن الحديث الذي رويناه مؤذن به، وهو قوله: "فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"، وحديث جابر "فنظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم"، رواه ابن ماجه، أو لرعاية الفواصل، والفاصلة: ناضرة، باسرة، فاقرة، مع أن النظم لا يساعد إلا على الرؤية. قال أبو البقاء: {وُجُوهٌ}: مبتدأ، و {نَّاضِرَةٌ} خبره. وجاز الابتداء بالنكرة لحصول الفائدة، و {يَوْمَئِذٍ} ظرف للخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي: ثم وجوه، و {نَّاضِرَةٌ} صفة". يعني: كيف يَلَذُّ العيش في الدنيا، ووثم ما ذكر. وتحريره: أنه تعالى لما ذكر ردعهم بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ}، عقب ذلك بيان حسن عاقبة حب الآخرة، وسوء مغبة حب العاجلة. يعني: كيف يذر العاقل مثل تلك

والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل: وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المسرة التي ليس دونها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدَّنيئة؟ أم كيف يُنضر وجهه بهذا السرور، ووراءه ذلك البسور؟ وأما الانتظار الذي ذكره، فهو معدود من جمله قولهم: الانتظار موت أحمر. ومما ينصر مذهب أهل السنة تفسير أعلم البرية، على ما رويناه عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله? ، قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة، لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غُدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله? : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ". وروي أنه سئل مالك عن من قال: إلى ثواب ربها ناظرة؟ فقال: كذب، لو كان هذا صحيحاً لما أغاظ الكفار بقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. وروى السُّلمي عن أبي سليمان الداراني: "لو لم يكن لأهل المعرفة سرور، إلا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، لاكتفوا به. وأي سرور أتم من وصول المحب إلى حبيبه، والعارف إلى معروفه؟ ". قوله: (وإذا نظرت إليك) البيت، "من" - في قوله: "من ملك" -: تجريدية. قوله: "والبحر دونك": مُعترضة، يحتمل وجهين: أحدهما: البحر بيني وبينك، وثانيهما: أن البحر

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. والباسر: الشديد العبوس، والباسل: أشد منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلو حه. (تَظُنُّ) تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدته وفظاعته (فَاقِرَةٌ) داهية تقصم فقار الظهر، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير. [(كَلاَّ إذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ • وقِيلَ مَنْ رَاقٍ • وظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ • والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ • إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ) 26 - 30] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقل منك في الجود، وحينئذ لا يصلح للاستشهاد، وهذا أرجح، قال السجاوندي: "ولا حجة لهم في الشعر، لأن النظر بمعنى التأمل، لا يطلع عليه مخلوق، ولذلك قال: زدتني نعما". وقال القاضي: "النظر في البيت بمعنى السؤال، فإن الانتظار لا يستوجب العطاء، ولأن النظر بمعنى الانتظار لا يُعدى بـ "إلى"، على أن الانتظار لا يُسند إلى الوجه". قوله: (سمعت سروية)، النهاية: "السَّر ومحلة في حمير". مُستجدية: مُستعطية، سائلة. قوله: (كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير)، يُريد: دل معنى التقابل بين الفقرتين، يعني: ناظرة وتظن، على معنى التوقع، وحُمل النظر عليه. وقلت: الظن هاهنا بمعنى اليقين، لأن الكافر لا يتوقه الشر حينئذ، بل يتيقنه عين اليقين، ولأن الفاقرة هي الداهية، فلا تُقابل إلا بما ينتهي غاية النعمة، وليس وراء النظر نعمة، رزقنا الله عز وجل ما نرجوه الآن بفضله وكرمه.

(كَلاَّ) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس وإن لم يجر لها ذكر، لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها، كما قال حاتم: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصّدر وتقول العرب: أرسلت، يريدون: جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. (التَّرَاقِيَ) العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال؛ ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي، ودنا زهوقها، وقال حاضرو صاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض: (مَنْ رَاقٍ) أيكم يرقيه مما به؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أماوي ما يُغني) البيت، ماوي: اسم امرأة، شُبهت بالماء لصفائها، والنسبة إلى الماء: ماوي ومائي، كما يُقال: كساوي وكسائي. وهي ماوية بنت عفرز، وكانت ملكة وهي تحت حاتم. الحشرجة: الغرغرة عند الموت، والثراء: الغنى والثروة، والضمير في "حشرجت" للنفس. قوله: (لثُغرة النَّحر)، الجوهري: "الثُّغرة بالضم: نُقرة النحر التي بين التُّرقُوتين". قوله: (وقال حاضر وصاحبها)، تفسير لقوله تعالى: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}، أي: القائلون هم الذين حضروا صاحب الروح التي تُزهق، يقول بعضهم لبعض: من راقٍ؟ أي: أيكم يرقيه رُقية مما به؟ فقوله: "بعضهم لبعض" بدل من "حاضر وصاحبها"، وقوله: "وهو المحتضر" اعتراض بين البدل والمُبدل، تفسير لـ "صاحبها"، و {مَنْ رَاقٍ} مقول لقوله "قال".

وقيل: هو من كلام ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ (وظَنَّ) المحتضر (أَنَّهُ الفِرَاقُ) أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة (والْتَفَّتِ) ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت. وعن قتادة: أي: ماتت رجلاه فلا تحملانه، وقد كان عليهما جوالاً. وقيل: شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، على أن الساق مثل في الشدة. وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه (السَّاقُ) أي: يساق إلى الله وإلى حكمه. [(فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى • ولَكِن كَذَّبَ وتَوَلَّى • ثُمَّ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى • أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) 31 - 35] (فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى) يعني: الإنسان في قوله (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ) [القيامة: 3]، ألا ترى إلى قوله (أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عَلّزِ الموت)، الجوهري: "العَلَزُ: قلق وخفة وهلع يصيب الإنسان". قوله: (على أن الساق مثل في الشدة)، أي: قيل هذا القول بناء على أن الساق عبارة عن الشدة. الراغب: "قيل: أراد التفاف البلية بالبلية، نحو: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، من قولهم: كشفت الحرب عن ساقها. وقال بعضهم: هو إشارة إلى الشدة، وهو أن يموت الولد في بطن الناقة، فيُدخل المذَمِّر يده في رحمها، فيأخذ بساقه، فيخرجه. ثم جُعل لكل أمر فظيع". قوله: ({فَلَا صَدَّقَ}، يعني: الإنسان)، يُريد أن فاعل {فَلَا صَدَّقَ}، هو الإنسان المذكور

وهو معطوف على (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ) [القيامة: 6]، أي: لا يؤمن بالبعث، فلا صدق بالرسول والقرآن، ولا صلى، ويجوز أن يراد: فلا صدق ماله، بمعنى: فلا زكاه. وقيل: نزلت في أبى جهل. (يَتَمَطَّى) يتبختر. وأصله يتمطط، أي: يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه. وقيل: هو من المطا وهو الظهر، لأنه يلويه. وفي الحديث: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، فقد جعل بأسهم بينهم» يعني: كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه وأعرض، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أول السورة عند قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ}، بدليل قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، لأنه تكرير للمعنى بعد طول الكلام. فعلى هذا، عطفت هذه الجملة على جملة قوله: {يَسْ‍ئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}، تعجباً من حال الإنسان. يعني: سأل أيان يوم القيامة، {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، أي: يسأل، وما استعد له إلا ما يوجب دماره وهلاكه. وأما قوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}، فجواب عن السؤال، وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يخلص إلى ما استطرد من أحوال النبي? ، أُقحم الجواب بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام. قوله: (إذا مشت أمتي المُطيطاء) الحديث، أخرجه الترمذي عن ابن عمر، وفي آخره: "سُلِّطَ شِرارها على خيارها". النهاية: "المُطيطاء، بالمد والقصر: مشية فيها تبختر ومد اليدين، يقال: مطوت ومططت بمعنى مددت، وهي من المُصغَّرات التي لم يُستعمل لها مُكبَّر". وقيل: هذا الحديث من دلائل النبوة، لأنه إخبار بالغيب وقد وافق الواقع؛ فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم، أخذوا أموالهم وسبوا ذراريهم فاستخدموهم، فسلط الله قتلة عثمان رضى الله عنه حتى قتلوه، ثم سلَّط بني أمية على بني هاشم.

ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخاراً بذلك (أَوْلَى لَكَ) بمعنى: ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره. [(أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى • أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى • ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى • فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى • أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى) 36 - 40] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({أَوْلَى لَكَ}، بمعنى: ويل لك)، وقال القاضي: "قيل: هو أفعل، من الويل بعد القلب كأدنى من أدون. وقيل: أصله: أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة كما في {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ". قال الواحدي: "هذا تهديد من الله لأبي جهل، والمعنى: وليك المكروه يا أبا جهل وقَرُب منك". وقال محيي السنة: "وقيل: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به، وقيل: هو أفعل، من الولي وهو القُرب". قال الأصمعي: معناه: قاربه ما يُهلكه، قال ثعلب: "لم يقل أحد في {أَوْلَى} أحسن وأصح مما قاله الأصمعي". الراغب: " {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}: كلمة تهديد وتخويف، يُخاطب بها من أشرف على هلاك، فيحث بها على التحرز، أو يُخاطب بها من نجا ذليلاً منه فينهي عن مثله ثانياً، وأكثر ما يُستعمل مُكرراً، وكأنه حث على تأمل ما يؤول إليه أمره، ليتنبه للتحرز منه". وقال في "غُرَّة التنزيل": "اللفظة مُشتقة من: ولي يلي، إذا قَرُب منه قُرب مُجاور، فكأنه قال: الهلاك

(فَخَلَقَ) فقدر (فَسَوَّى) فعدل (مِنْهُ) من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (أَلَيْسَ ذَلِكَ) الذي أنشأ هذا الإنشاء (بِقَادِرٍ) على الإعادة. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك بلى». عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة، شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمناً بيوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قريب منك قُرب مُجاور لك، بل هو أولى وأقرب. وأما تكرير اللفظ، فالأول يُراد به الهلاك في الدنيا، والثاني في الأخرى، وعلى هذا يخرج عن التكريرات [المعيبة]، فاعرفه". قوله: (كان إذا قرأها قال: "سُبحانك بلى")، عن أبي داود، عن موسى بن أبي عائشة، عن رسول الله? . تمت السورة بحمد الله وعونه * ... * ... *

سورة الإنسان

سورة الإنسان مدنية، وهي إحدى وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) 1] (هَلْ) بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الإنسان إحدى وثلاثون آية، مكية، وقيل: مدنية بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: ({هَلْ} بمعنى: "قد" في الاستفهام خاصّة)، أي: "هل" تُستعمل في الاستفهام خاصة، وهو بمعنى "قد"، قال في "المفصل": "عند سيبويه أن "أهل" بمعنى "قد"، إلا أنهم قد تركوا الألف قبلها، لأنها لا تقع إلا في الاستفهام". قال في "الإقليد": "هَلْ: ضعيفة في الاستفهام، ألا تراها تجيء بمعنى "قد" كقوله: أهل رأوْنا

بدليل قوله: أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعاً، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب (حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن) فيه (شَيْئًا مَّذْكُورًا)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلو كان للاستفهام، للزم الجمع بين حرفين، وهما الهمزة وهل، وهو ممتنع". وقال ابن الحاجب: "أصلها أن يكون بمعنى "قد"، فاقتضت وقوع الفعل؛ فكما لا يقال: قد زيداً ضربت، لا يقال: هل زيداً ضربت؟ ". قوله: (أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم)، أوله: سائل فوارس يربوع بشدَّتنا يقال: سأل بشيء وعن شيء بمعنى، وهما من صلاته. بشدتنا، بفتح الشين: بحملتنا، والأولى بكسرها، أي: بقوتنا. يقول: سائل هذه القبيلة حين جُزنا بجانب القاع ذي الروابي، أي: هل رأوا منا جُبناً وضعفاً؟ البيت شاذ. قوله: (أقد أتى؟ على التقرير)، قال الواحدي: " {هَلْ} هاهنا خبر وليس باستفهام"،

أي: كان شيئاً منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب، والمراد بالإنسان: جنس بني آدم، بدليل قوله (إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) [الإنسان: 2]؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو عبيدة: "مجازها: "قد أتى على الإنسان" وليس باستفهام. قوله: (بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ})، يعني: تقرر أن الاسم المعرف باللام، إذا أعيد كان الثاني عين الأول، فحين أُعيد {الْإِنسَانَ} وبيَّن بأن المراد بالإنسان الجنس، لقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ}، عُلِمَ أن السابق كذلك. وإنما أراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، كالواحدي وغيره. ولعل نظرهم إلى قوله: {مِن نُّطْفَةٍ}؛ فإن آدم لم يُخلق منها. والجواب أنه من باب التغليب، أو من قوله: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (أَوَ لَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْ‍ئًا} [مريم: 66 - 67]. قال: "فإن قلت: لِمَ جازت إرادة الأناسي كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم". وعليه النظم؛ فإن {الْإِنسَانَ} الثاني مُظهر وضع موضع المضمر لإفادة الترقي، أي كان الشيء المنسي الذي لا يُلتفت إليه ولا يُذكر، فإنا قلبناه في الأطوار المتباينة والأحوال المُتخالفة، وجعلناه مما يذكر فيه ويعتبر، حيث

(حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) طائفة من الزمن الطويل الممتد. فإن قلت: ما محل (لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)؟ قلت: محله النصب على الحال من الإنسان، كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف ل- (حِينٍ)، كقوله: (يَوْمًا لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَن ولَدِهِ) [لقمان: 33]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جعلناه محلاً للمعرفة والعبادة، {سَمِيعًا بَصِيرًا}. ثم فصله بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، وبين افتراقهم بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ}، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ}، ففيه جمع وتقسيم وتفريق. قوله: ({حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ}: طائفة من الزمن الطويل الممتد)، الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ}، ثم يعبر عن كل مدة، وهو خلاف الزمان، فإنه يقع على [المدة] القليلة والكثيرة. ودهر فلان: مُدة حياته. وما روي في الحديث: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، قيل: معناه أن الله فاعل ما يضاف إلى الدهر، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد سببتموه. وقيل: الدهر الثاني في الخبر غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، أي أن الله هو الداهر، أي: المصرف المدبر والمقيض لما يحدث، والأول أظهر". قوله: (أو الرفع على الوصف لـ {حِينٌ})، والراجع محذوف، أي: لم يكن فيه شيئاً، كما أن تقدير الآية: لا يجزي فيه.

وعن بعضهم: أنها تليت عنده فقال: ليتها تمت، أراد: ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئاً غير مذكور، ولم يخلق ولم يكلف. [(إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) 2] (نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) كبرمة أعشار، وبرد أكياش: وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج، قال الشماخ: طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن بعضهم: أنها تُليت عنده، فقال: ليتها تمت)، قيل: هو أبو بكر رضي الله عنه. وفي "الوسيط": "سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلاً يقرأ هذه الآية، فقال: ليت ذلك تم، يعني: ليته بقى على ما كان، فكان لا يلد، ولا يبتلى أولاده". قوله: (كبُرمة أعشار)، الجوهري: "البُرمة: القدر، وبُرمة أعشار: إذا انكسرت قطعاً". قوله: (وبُرد أكياش)، في الحاشية: الأكياش: ثوب يُغزل غزله مرتين، وهو من بُرود اليمن. قوله: (طوت أحشاء مُرتجة) البيت، أرتجت الناقة: إذا أغلقت رحمها على الماء، يُقال: أُرتج عليه، إذا استغلق عليه الكلام. والمُرتجة المُطبقة، أي: أحشاء ناقة مُرتجة، أي: طوت أحشاء نفسها.

ولا يصح (أَمْشَاجٍ) أن يكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما. ومشجه ومزجه بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وعن قتادة: «أمشاج»: ألوان وأطوار، يريد: أنها تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة (نَّبْتَلِيهِ) في موضع الحال، أي: خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، تريد: قاصداً به الصيد غداً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "سلالته" مرفوع بـ "مُرتجة"، أي: مُرتجة سلالته. "على مشج": المشج: المختلط حمرة في بياض، وكل لون من ذلك مشج، والجمع أمشاج، وهو شبه ماء الرجل في بياضه، وماء المرأة في رقته واصفراره. والسلالة: ما ينسل من بين الأصابع من الطين، ومن النُّطفة ما ينسل ويندفق منها. مهين: [حقير] يصف أُنثى قبلت ماء الفحل وحملت منه، يقول: طوت أحشاء أمعاء كأثواب مُرتجة لوقت الولادة، على نُطفة مُختلطة حقيرة. على مشج: صلة "طوت"، أو صلة: "مُرتجة"، أي أغلقت الناقة الرحم بالولد. ويروى: "مُرتجة"، على لفظ الفاعل، و"مهين" بالرَّفع؛ فعلى هذا: "سلالته" مبتدأ، و"مهين" خبره. قوله: (هي عُروق النُّطفة) في "المطلع"، عن ابن مسعود: "عروق العلق تبدو في النطفة". قوله: (مررت برجل معه صقر صائداً به غداً)، اعلم أن قوله: {نَّبْتَلِيهِ} هو حال من فاعل {خَلَقْنَا}، وهو على ظاهر مُشكل، لأن قوله: {فَجَعَلْنَاهُ} عطف على {خَلَقْنَا} بالفاء. والابتلاء إنما يستقيم إذا حصل للمكلف السمع والبصر، وتأويله على وجوه: أحدها: أنه من الحال المقدرة، أي خلقنا الإنسان مُقدرين له الابتلاء، فجعلناه سميعاً بصيراً، ليترتب عليه ما قدرنا له من الابتلاء، وإليه ينظر قول القاضي: "نبتليه: في موضع

ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة. وقيل: هو في تقدير التأخير، يعني: فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، وهو من التعسف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحال، أي: خلقنا الإنسان مبتلين له، بمعنى: مُريدين اختباره، فجعلناه سميعاً بصيراً، ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب من إرادة الابتلاء. ولذلك، عُطف بالفاء على الفعل المقيد به، ورُتِّب عليه قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، بنصب الدلائل وإنزال الآيات". وثانيها: أن يكون الابتلاء استعارة للانتقال، استعارة الجحفلة وهي للفرس لشفة الإنسان، على ما سبق في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]؛ استعار الابتلاء للنقل لاستلزام كل منهما ظهور حال غِبَّ حال، ثم سرى منه إلى الفعل على التبعية، فحينئذ يحسن ترتيب ما بعد الفاء على {نَّبْتَلِيهِ}. المعنى: خلقنا الإنسان من نُطفة أمشاج ناقلين له من النُّطفة إلى العلقة ثم إلى المضغة، وهلم جرا، إلى أن جعلناه سميعاً بصيراً. وثالثها: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، أي: خلقناه من نطفة أمشاج، فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. قوله: (هو في تقدير التأخير)، روى الواحدي عن الفراء أنه قال: "المعنى: جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر". وعلى هذا

[(إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا) 3] شاكراً وكفوراً: حالان من الهاء في هديناه، أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي: عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله: (وهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10]، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في (إمَّا)، وهي قراءة حسنة، والمعنى: أما شاكراً فبتوفيقنا، وأما كفوراً فبسوء اختياره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون فيه قلب وكثرة حذف، لأن الأصل: لأن نبتليه، فحذف حرف الجر، ثم حُذف "أن" ورُفع الفعل؛ فللزوم كثرة الحذف والقلب، قال: "وهو من التعسف". قوله: (أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً)، فعلى هذا، الهُدى هو الدلالة الموصلة إلى البُغية. قال صاحب "الانتصاف": "هذا من تحريفه، والآية على ظاهرها". قوله: (أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع)، فعلى هذا: الهُدى: مجرد الدلالة، قال أبو البقاء: " {إمَّا} ها هنا لتفصيل الأحوال، أي: بينا له في كلتي حالتيه". قوله: (والمعنى: أما شاكراً فبتوفيقنا، وأما كفوراً فبسوء اختياره)، وعن بعضهم: هذا الوجه أقرب إلى التعسف مما ذكره قُبيل هذا في {نَّبْتَلِيهِ}، لأن ذالك تقديم وتأخير، وهو كثير في الكلام. وفي هذا حذف ذي الحال والعامل وخبر المبتدأ والفاء، إن قُدر: أما إقدارنا إياه فبتوفيقنا، وهو الظاهر في إعرابه. وتعدد المحذوفات سبب ظاهر في التعسف. الانتصاف: "اختياره هذه القراءة لأجل تقسيم لا يُفيده، فيجوز أن يكون المراد: أما

[(إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وأَغْلالاً وسَعِيرًا) 4] ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ: (سَلاسِلَ) غير منون، «وسلاسلاً»، بالتنوين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شاكراً فمثاب، وأما كفوراً فمعاقب". وقال الإمام: "هذه القراءة تُقوي تأويل أهل السنة. المعنى: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً وتارة كفوراً، كما في قوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] ". وقلت: الآية كما سبق، من باب الجمع مع التقسيم مع والتفريق، فمعنى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}: إنا دللناه على طريقي الخير والشر، بإرسال الرسل وإنزال الكنب ونصب الأدلة، ليمتاز السعيد من الشقي والشاكر من الكفور: أما شاكراً، فبما خلقناه سعيداً، وأما كفوراً، فبإقدارنا إياه شقياً. ثم فرق بينهما بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ}. قوله: (وقُرئ: {سَلَاسِلَا} غير منون، و"سلاسلاً"، بالتنوين)، نافع والكسائي وهشام وأبو بكر، والباقون: بغير تنوين. قال الزجاج: "الأجود أن لا ينصرف، ولكن لما جعلت رأس آية صُرفت، ليكون آخر الآي على لفظ واحد". وفي الكواشي: "القراءة: "سلاسلاً" منوناً مصروفاً وإن كان جمعاً ليس على وزانه مُفرد، لأن الأصل الصرف. ولذلك طائفة من العرب يصرفون كل ما لا ينصرف، إلا أفعل منك،

وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق، ويجرى الوصل مجري الوقف، والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وطائفة يصرفونه أيضاً. وقد يُجمع في الحديث: "إنكن أنتن صواحبات يوسف"، وقد جاء: مواليات. وقول من قال: إنها صرفت ليكون أواخر الآي على لفظ واحد فاسد، لأن ذلك إنما يجوز في محل الضرورات، وكذلك قول من قال: إن النون بدل من حرف الإطلاق، فجرى الوصل مجرى الوقف". وقال صاحب "المطلع": "إن هذا الجمع أشبه الآحاد حتى جمع مرة فقيل: صواحبات يوسف، ومواليات فلان، في جمع الصواحب والموالي؛ فمن حيث جمعوه جمع الآحاد المنصرفة، جعلوه في حكمها فصرفوه". قوله: (بدلاً من حرف الإطلاق)، عن بعضهم: حرف الإطلاق هو ألف {سَلَاسِلَا} يطلق لسانه، فإذا زيدت النون عند الوصل، صارت النون كالإطلاق عند الوقف. قيل: قوله: "أن يكون صاحب القراءة" إلى آخره، هذا تعليل أبي علي، وهذا ديل على أنه كان يرى الإطلاق لهم زيادة غير موقوفة على النقل المتواتر، وجعل التواتر من جملة غلط اللسان، أي: في القراءة، والأول هو الصحيح. قوله: (أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر)، الانتصاف: "هو يرى أن القراءات المُستفيضة غير موقوفة على النقل المتواتر، وجعل التواتر من جُملة غلط اللسان.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَاسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً *إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) 5 - 10) (الْأَبْرارَ) جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ. والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها كأسا (مِزاجُها) ما تمزج به (كافُوراً) ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده. و (عَيْناً) بدل منه. وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحق أنها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلّم وهي لغةُ من صرف في منثور الكلام جميع مالا ينصرف إلاّ (أَفعل) والقراءات تشتمل على اللغات المختلفة. وقيل: قول من قال: إن القراءات السبع متواترة في ما ليس من قبيل الأداء, كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمزة, برخص الزيادة والنقصان في المذكورات. قوله: (والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر) , قال الزجاج ((الكأس الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسمّ كأسا)) قال التغلبي: صددت الكأس عنّا أمّ عمرو**وكان الكأس مجراها اليمينا

وقيل: تخلق فها رائحة الكافور وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور. و (عَيْنًا) على هذين القولين: بدل من محل (مِن كَاسٍ) على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص. فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا، وبحرف الإلصاق آخراً؟ قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل. (يُفَجِّرُونَهَا) يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم (تَفْجِيرًا) سهلاً لا يمتنع عليهم. (يُوفُونَ) جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الكأس: الإناء بما فيه من الشراب، يُسمى كل واحد منهما بانفراده: كأساً. يُقال: كأس خال، ويقال: شربت كأساً، وكأس طيبة يعني بها الشراب، قال تعالى: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الواقعة: 18] ". قوله: (و {عَيْنًا} على هذين القولين)، أي: على أن لا يكون {كَافُورًا} اسم عين، بل تكون الخمر قد مُزجت بالكافور، أو خُلق في الخمر رائحته. فإن قلت: فما الفرق بين الإبدالين؟ قلت: على الأول: {كَافُورًا} علم للعين، فلا يُعتبر فيه معنى هذا الطيب المخصوص، فيصح إبدال {عَيْنًا} من {كَافُورًا}. وعلى الثاني: هذا الطيب منظور فيه، فلا يصح إبداله منه، بل من محل {مِن كَأْسٍ}، ولما كان المراد بالكأس الخمر، وجب أن يُقدر في البدل مُضاف، بأن يقال: خمر عين، ليصح الإبدال. قوله: (لأن الكأس مبدأ شُربهم)، الانتصاف: "هذا على القول الأول مُستقيم. أما على أن العين بدل من الكأس، إما لاشتمالها على أوصافه، وهو الكافور المعهود، فلا يتم الجواب بذلك". يريد أن "كأساً" {عَيْنًا} هما مُتحدان حينئذ، فلا يصدق قوله: "لأن الكأس مبدأ

والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات؛ لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله، كان بما أوجبه الله عليه أو في (مُسْتَطِيرًا) فاشياً منتشراً بالغا أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من: طار، بمنزلة «استنفر» من: نفر، (عَلَى حُبِّهِ) الضمير للطعام، أي: مع اشتهائه والحاجة إليه، ونحوه (وآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقرة: 177]، (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] وعن الفضيل بن عياض: على حب الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شربهم، وأما العين فيها يمزجون"، لأن هذه العبارة مُشعرة بالتغاير بين الكأس والعين. "بل الجواب: أنه لما ذكر الشُّرب أولا باعتبار الوقوع في الوجود، ذكره ثانياً مُضمناً للاستدامة، كأنه قال: يشربون منها فيلتذون بها، كذا قال أبو عبيدة". قال أبو البقاء: " {يَشْرَبُ بِهَا} حال من {يَشْرَبُونَ}؛ أي: يشربون ممزوجاً بها. والأولى أن يكون محمولاً على المعنى؛ أي: يلتذون بها". وقال صاحب "الكشف": "الباء زائدة، أي: يشربها، أي: ماءها". قوله: (وهو من: طار، بمنزلة "استنفر" من نفر)، أي: استطار من طار، لكن في "استطار" مبالغة، واستنفر ونفر كذلك، لقوله تعالى: {حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [المدثر: 50]. قوله: (مع اشتهائه والحاجة إليه)، فيكون من باب التعميم، وقوله: "على حُب الله" هو من باب التكميل، وصفهم اولاً بالجود والبذل، وكمله بأن ذلك عن إخلاص لا رياء فيه.

(وأَسِيرًا) عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه؛ فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة، وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أسيراً، فقال: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك». (إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ) على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولاً باللسان منعاً لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله؛ فلا معنى لمكافأة الخلق. وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقيهاً وتنبيهاً، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله. وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول: ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار)، قال الزجاج: "الأسير في ذلك الوقت كان من الكفار. وقد مدح الله من يطعم الأسير، وهذا يدل على أن في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلاً. وأهل الحبوس: الأُسراء". روى محيي السنة عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعطاء: "هو المسجون من أهل القبلة، وقال الحسن وقتادة: وفيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن، ويُرجى ثوابه". قوله: (هو الأسير من أهل القبلة)، هذا إنما يستقيم إذا أُنفق الإطعام في دار الحرب من السلم لأسير في أيديهم.

ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً. وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدر ان كالشكر والكفر. (إنَّا نَخَافُ) يحتمل: إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم؛ وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة. ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم؛ روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يكون بياناً وكشفاً عن اعتقادهم)، عطف على قوله: "ويجوز أن يكون قولاً باللسان"، يعني: قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} وراد على إرادة القول، وهذا القول يجوز أن يكون بلسان القال، وأن يكون بلسان الحال، والأول على وجهين: أحدهما: يقولون ذلك لئلا يجازيهم المستجدي بالشكر أو بمثله. وثانيهما: يقولون لينبهوهم على ما ينبغي من الإخلاص، قال الزجاج: "وجائز أن يكونوا يُطعمون ولا ينطقون بهذا، ولكن قصدهم في إطعامهم هذا، فترجم عما في قلوبهم، وكذلك: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا}. روى محيي السنة عن مجاهد وسعيد بن جُبير: "إنهم لم يتكلموا به، ولكن علم الله ذلك من قلوبهم فأثنى عليهم". وقلت: دل هذا على إثبات الكلام النفسي. قوله: (وأن يُشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس)، وعلى الأول من الإسناد المجازي، وعلى هذا من الإستعارة المكنية.

قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة، قال أسد بن ناعصة: واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر قمطرير الصّباح [(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا • وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا • مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا • ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً • ويُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ • قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا • ويُسْقَوْنَ فِيهَا كَاسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً • عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً • ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا • وإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا • عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا • إنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) 11 - 22] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وجمعت قُطريها)، الأساس: "يُقال: جمع فلان قُطريه إذا تغير مُغضباً، وأصله في الناقة إذا لقحت فزمت برأسها وشالت بذنبها كبراً. يقال: زم بأنفه: رفع رأسه كِبراً، ورأيته زاماً: شامخاً لا يتكلم. قوله: (واصطليت الحروب) البيت، اصطلى بهذا الأمر: إذا قاسى حره وشدته، يوم باسل: شديد، ويوم قماطر وقمطرير: شديد، واقمطرَّ يومنا: أي: اشتد، والباسل: الشجاع الذي اشتد كلوحه، وقوله: باسل الشر، كقول الحماسي: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووُحدانا

(ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا) أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب، وهذا يدل على أن اليوم موصوف بعبوس أهله (بِمَا صَبَرُوا) بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه؛ فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برءا مما بهما، أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً؛ فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه؛ ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك؛ فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: أعطاهم بدل عُبوس الفُجار نضرة في الوجوه)، الراغب: "يقال: لقيته بكذا إذا استقبلته به، قال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75]، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، وتلقاه كذا، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [النمل: 6]، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنبياء: 103] ".

فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هني، وحريراً فيه ملبس بهى. يعني: أن هواءها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي. وفي الحديث: هواء الجنة سجسج، لا حر ولا قر. وقيل: الزمهرير القمر، وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ، وأنشد: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت: (ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا)، علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين؛ وهذه حال مثلها عنهم، لرجوع الضمير منها إليهم في «عليهم»، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد، تقديره: غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها؛ ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنو الظلال عليهم وقرئ: «ودانية» بالرفع، على أن «ظلالها» مبتدأ، و «دانية» خبره، والجملة في موضع الحال؛ والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية عليهم؛ ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليلة ظلامُها) البيت، اعتكر الظلام: اختلط كأنه تراكم بعضه على بعض نت بُطءِ انجلائه، وزهرت النار زهوراً: أضاءت، وأزهرتها أنا. يقول: رُب ليلة شديدة الظلمة قطعتها بالسُّرى، والحال أن القمر ما طلع وما أضاء. قوله: (والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية)، يُريد: أن "دانية"، إذا قُرئت بالنصب يكون الحال مُفرداً؛ فالواو للعطف على الحال المتقدمة. وإذا

ويجوز أن تجعل (مُتَّكِئِينَ) و (لا يَرَوْنَ) و (ودَانِيَةً) كلها صفات ل- (جَنَّةً). ويجوز أن يكون (ودَانِيَةً) معطوفة على (جَنَّةً)، أي: وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله (ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، لأنهم وصفوا بالخوف: (إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا) [الإنسان: 10]. فإن قلت: فعلام عطف (وذُلِّلَتْ)؟ قلت: هي، إذا رفعت (ودَانِيَةً)، جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من «دانية»، أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها؛ وإذا نصبت (ودَانِيَةً) على الوصف، فهي صفة مثلها؛ ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها كان صحيحاً .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قُرئت بالرفع تكون الجملة الاسمية حالاً؛ فالواو للحال لا للعطف، وذو الحال الضمير في {لَا يَرَوْنَ}، والحال متداخلة لأن {مُّتَّكِ‍ئِينَ} قيل: حال من مفعول {وَجَزَاهُم}، و {لَا يَرَوْنَ} من ضمير {مُّتَّكِ‍ئِينَ}. وإنما قيل: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ}، ولم يقل: منهم، لأن الظلال عالية عليهم. قوله: (أن تجعل {مُّتَّكِ‍ئِينَ} و {لَا يَرَوْنَ})، قيل: في جعل {مُّتَّكِ‍ئِينَ} صفة ضعف، لأنه حينئذ جار على غير من هو له، فكان يجب إبراز الضمير. قوله: (جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية)، فيه لطيفة، وهي أن استدامة الظل مطلوبة هناك. واما التذليل للقطف، فهو على التجدد شيئاً غِبَّ شيء، قال الزجاج: "كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذُلِّلَ لهم ودنا منهم، قعوداً كانوا أو مضطجعين أو قياماً".

وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا! أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل، إذا كان قصيراً، (قَوَارِيرَ • قَوَارِيرَ): قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة؛ وفي الثاني لإتباعه الأول، ومعنى (قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ) أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تُجعل ذليلة)، قال: الأول: من الذِّلِّ، والثاني: من الذُّلِّ؛ بالضم. قال ابن جني في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24] بالضم والكسر في "الذل": "الذِّلُّ بالكسر: في الدابة؛ ضد الصعوبة، وبالضم: للإنسان وهو ضد العز؛ كأنهم فرقوا، لأن ما يلحق الإنسان أكبر قدراً مما يلحق الدابة، فاختاروا الضمة لقوتها للإنسان، والكسرة لضعفها للدابة، ولا تستنكر مثل هذا". قوله: (قُرئا غير مُنونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما)، "نافع والكسائي وأبو بكر: بتنوينهما، ووقفوا عليهما بالألف. وابن كثير: في الأول بالتنوين ووقف عليه بالألف، والثاني بغير تنوين ووقف عليه بغير ألف، والباقون: بغير تنوين فيهما، ووقف حمزة عليهما بغير ألف، ووقف هشام عليهما بالألف صلة للفتحة، ووقف الباقون - وهم أبو عمرو وحفص وابن ذكوان - على الأول بالألف، وعلى الثاني بغير ألف"، قاله صاحب "التيسير". وقال الزجاج: "من صرف الأول فلأنه رأس آية، ومن صرف الثاني أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا جُحر ضب خَرِب؛ وإنما الخرب من نعت الجُحر".

فإن قلت: ما معنى «كانت»؟ قلت: هو من «يكون» في قوله (كُن فَيَكُونُ) [البقرة: 117] أي: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه «كان» في قوله: (كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً)، وقرئ: «قوارير من فضة»، بالرفع على: هي قوارير (قَدَّرُوهَا) صفة ل- «قوارير من فضة»؛ ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله (ويُطَافُ عَلَيْهِم) [الإنسان: 15]، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: «قدروها»، على البناء للمفعول، ووجهه أن يكون من: قدر، منقولاً من: قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان؛ إذا جعلك قادراً له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاؤوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: تكونت قوارير)، "قوارير": حال، كما يقال: خُلِقَتْ قوارير. قوله: (وقيل: الضمير للطائفين)، أي: الواو في {قَدَّرُوهَا}، وفي معناه أنشد المصنف لأبي تمام: فلو صَوَّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع قوله: (ووجهه أن يكون من قُدر، منقولاً من قدر)، قال صاحب "الكشف": "أو هو من المقلوب، على تقدير: قَدِرت عليهم، أي: على ربهم، كما قالوا: إذا طلعت الجوزاء انتصب العود على الحرباء، أي: انتصب الحرباء على العود".

وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه. قال الأعشى: كأنّ القرنفل والزنجبيـ ... ـــل باتا بفيها وأريا مشورا وقال المسيب بن علس: وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر و(سَلْسَبِيلاً) لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعني: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأريا مشورا)، أي: عسلاً مُستخرجاً من بيت النحل. قوله: (وقال المسيب بن علس)، قيل: اسمه عمرو؛ وإنما لُقِّب بالمُسيب، لأن أباه أعطاه إبلاً يرعاها، فأبهل أصرتها، فقال له: أحق أسمائك المسيب. الأصرة: جمع صرار، وهو ما يُصر به الضرع، ومعنى أبهل أصرتها: عَطل الحبال التي يُصر بها ضرع الناقة. والضمير في "به" في قوله: وكأن طعم الزَّنجبيل به للفم، يصف فم امرأة. قوله: (وسُلافة الخمر)، السلاف: السائل من عصير العنب قبل أن يُعصر. وقيل: السُّلافة أول ولكل شيء عصرته. قوله: (وليس فيها لذعة)، اللذع - بالذال المعجمة والعين المهملة -: هو الإحراق.

يقال: شراب سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفةٌ لما كان في غاية السلاسة. وقرئ: "سلسبيل"، على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث، وقد عزوا إلى على بن أبى طالبٍ رضي الله عنه أن معناه: سل سبيلاً إليها، وهذا غير مستقيمٍ على ظاهره، إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً، جعلت علماً للعين، كما قيل: تأبط شراً، وذرّى حباً، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد عزوا إلى علي رضي الله تعالى عنه) إلى آخره، روى محيي السنة عن مُقاتل بن حيان: "سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى اهل الجنان، ويؤيد ذلك قوله: {تُسَمَّى}. وأما إذا جعلت صفة كما قال الزجاج/ فمعنى {تُسَمَّى}: تُوصف". الراغب: "سل الشيء من الشيء نزعه، كسل السيف من الغمد. وتسلسل الشيء: اضطرب، كأنه تصور منه تسلل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، ومنه السِّلسلة. وماء سَلْسَل: متردد في مقره حتى صفا، قال: أشهى إلىَّ من الرحيق السَّلسل وقوله: {سَلْسَبِيلًا}، أي: سهلاً لذيذاً سلساً، وقيل: هو مركب من سل سبيلاً كالبسملة، وقيل: اسم لكل عين الجرية. وأسلة اللسان: طرفه".

إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلفٌ وابتداع؛ وعزوه إلى مثل على رضي الله عنه أبدع، وفي شعر بعض المحدثين: سل سبيلا فيها إلى راحة النّف- ... -س براح كأنّها سلسبيل و(عَيْناً) بدلٌ من (زَنْجَبِيلًا)، وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها. و (عَيْنا) على هذا القول مبدلةٌ من (كَاساً) كأنه قيل: ويسقون فيها كأساً كأس عين، أو منصوبةٌ على الاختصاص؛ شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور. وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهلٍ وهو على بساطٍ منسوجٍ من ذهبٍ وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: لله درّ أبى نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول: كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي شعر بعض المحدثين)، ذكر في "اليتيمة" أنه لحسن بن مطران الشاشي. قوله: (و {عَيْنًا} بدل من {زَنجَبِيلًا})، وقد مضى مثل هذا الإبدال في قوله تعالى: {مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5]. قوله: (كأن صُغرى وكٌبرى من فواقعها)، "فواقعها": جمع فاقعة، وهي الحُبابة على وجه الخمر والماء، والضمير في "فواقعها" يعود إلى الخمر، قال ابن الأثير: "صُغرى وكُبرى غير جائز؛ فإن "فُعلى" أفعل لا يجوز نزع اللام منها، وإنما يجوز من "فُعلى" التي لا "أفعل" لها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحو حُبلى، إلا أن تكون "فُعلى" أفعل مضافة، وهاهنا قد عريت عن اللام والإضافة". وأجاب صاحب "الفلك الدائر": "إنا وجدنا "فُعلى" أفعل في غير موضع، واردة بغير لام ولا إضافة، قال الراجز: في سعي دُنيا طالما قد مُدت وقال الآخر: لا تبخلن بدنيا وهي مُقبلة والآخر: وإن دعوت إلى جُلي ومَكرُمة

وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء (رَأَيْتَ) ليس له مفعولٌ ظاهرٌ ولا مقدرٌ ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيمٍ كثيرٍ وملكٍ كبير، و (ثَمّ) في موضع النصب على الظرف، معناه: في الجنة. ومن قال: معناه: «ما ثم» فقد أخطأ، لأن «ثم» صلة ل- "ما"، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقالوا: طُوبى لك. وفي البيت وجه آخر، وهو ان يجعل "من" في قوله: من فواقعها، زائدة على مذهب الأخفش في الواجب، كقوله تعالى: {فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43]، فعلى هذا هي مضافة في البيت". قوله: (وقيل: شُبهوا باللؤلؤ الرَّطب إذا نُثر من صدفه)، وعلى هذا: التشبيه في حكم المفرد لأنهم شُبهوا باللؤلؤ، المخصوص. روى محيي السنة عن عطاء: "يريد في بياض اللؤلؤ وحُسنه، واللؤلؤ إذا نُثر من الخيط على البساط، كان أحسن من منظوماً". وعلى الأول مُركب، والوجه مُتعدد؛ لأن الانبثاث على الثاني غير منظور إليه. ويجوز أن يكون مُركباً لتصور النثر من الصدف مع تصوره، ومنه قول البحتري: إذا نضون شُفوف الرَّيط آونة قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا شبه أجسادهن إذا خلعن ثيابهن، بلؤلؤ قُشر عنه الصدف.

(كَبِيراً) واسعاً وهنيئاً. يروى: "أن أدنى أهل الجنة منزلةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه". وقيل: لا زوال له، وقيل: إذا أرادوا شيئاً كان. وقيل: تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ: "عاليهم" بالسكون، على أنه مبتدأٌ خبره (ثِيابُ سُندُسٍ)، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندسٍ. و"عاليهم"بالنصب، على أنه حالٌ من الضمير في (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أو في (حَسِبْتَهُمْ)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({كَبِيرًا}: واسعاً وهنيئاً)، قيل: المراد بالواسع امتداده في الطول والعرض، وبالهنيء سلامته عما ينغص. ثم حقق الأول بقوله: "يروى: أن أدنى" إلى آخره، والثاني بقوله: "لا زوال له"؛ وذلك أن النعمة إذا كانت في معرض الزوال، لا يتلذذ به صاحبه، ولا يستبشر به الاستبشار التام، قال: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا وإنما فُسر الكبير بالواسع الهنيء لإطلاقه، فاعتبره من جهة اللفظ والمعنى. وأما رواية قوله: "إن أدنى أهل الجنة منزلة"، [فقد] مضى تخريجه في تفسير قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، قال القاضي: "وللعارف أكبر من ذلك، وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قُدس الجبروت". قوله: (قُرئ: "عاليهم" بالسكون)، نافع وحمزة: "عاليهم"، بإسكان الياء وكسر الهاء، والباقون: بفتح الياء وضم الهاء.

أي: يطوف عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ. أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب سندس. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملكٍ عاليهم ثيابٌ. و"عاليتهم": بالرفع والنصب على ذلك. و"عليهم". و (خضرٌ وإستبرقٌ) بالرفع، حملاً على الثياب، بالجر على السندس. وقرئ: "وإستبرق" نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلطٌ لأنه نكرةٌ يدخله حرف التعريف؛ تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصنٍ أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب)، عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ}، وهما لف ونشر لما لف أولاً في الحالتين. والفرق أنه إذا كان حالاً من ضمير {عَلَيْهِمْ}، وهم المؤمنون، كان للمؤمنين ثياب، وهو المراد من قوله: "للمطوف عليهم ثياب". وإذا كان من ضمير {حَسِبْتَهُمْ}، كان على الغلمان ثياب، وإليه أشار بقوله: "لهم ثياب"، على الابتداء والخبر. "الانتصاف": "في هذا نظر، لأنه جعله داخلاً في مضمون الحسبان، وكيف هذا وهم لابسون السُّندس حقيقة، بخلاف كونهم لؤلؤاً، فإنه تشبيه وتمثيل". قوله: (و"عاليتهم": بالرفع والنصب على ذلك)، أي: على المذكور من وجه الرفع والنصب. قوله: (و"عليهم")، أي: وقُرئ: "عليهم"، مكان: "عاليهم". قوله: (و {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}، بالرفع)، حفص: برفعهما، وابن كثير وأبو بكر: بخفض

وقرئ "واستبرق"، بوصل الهمزة والفتح، على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً، لأنه معربٌ مشهورٌ تعريبه، وأنّ أصله: استبره. (وَحُلُّوا) عطف على (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) [الإنسان: 15]. فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضعٍ آخر أنها من ذهب. قلت: هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهبٍ ومن فضة، وهذا صحيحٌ لا إشكال فيه، على أنهم يسوّرون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوارٌ من ذهب، وسوارٌ من فضة! (شَراباً طَهُوراً) ليس برجسٍ كخمر الدنيا؛ لأنّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأول ورفع الثاني، وابن عامر وأبو عمرو: برفع الأول وخفض الثاني، وحمزة والكسائي: بخفضهما. قوله: (كما تزاوج)، بالتاء والزاي والجيم، ويروى: "تُراوح"، بالراء والحاء. الجوهري: "المُراوحة في العملين: أن يعمل هذا مرة وهذا مرة". "كما تُزاوج" نشر لقوله: "على المعاقبة"، وتجميع لقوله: "على الجمع". قوله: (بالشرع لا بالعقل)، خبر لـ "أن"، يريد أن كون الخمر رجساً ثابت بحكم الشرع ابتلاء، لأن فيها ما يُنجسه العقل من القاذورات. والآخرة ليست دار ابتلاء واختبار، بل فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فعلى هذا: معنى {طَهُورًا} رفع المانع الشرعي.

أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة، وتدوسه الأقدام الدّنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريحٌ كريح المسك. أي: يقال لأهل الجنة (إِنَّ هذا) وهذا إشارةٌ إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز. [(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) 23 - 26] تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً ل- "إنّ": تأكيدٌ على تأكيدٍ لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي: "شراباً طهوراً: يريد به نوعاً آخر تفوق على النوعين المُتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله سبحانه وتعالى، ووصفه بالطهورية؛ فإنه يُطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، مُلتذاً بلقائه، باقياً ببقائه، وهي مُنتهى درجات الصديقين، ولذلك ختم به على ثواب الأبرار". قوله: (الأيدي الوضرة)، الجوهري: "الوضر: الدرن والدَّسم"، قال: أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد

لم يكن تنزيله على أي وجهٍ نزل إلا حكمةً وصواباً، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلاً مفرقاً منجماً إلا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيماً فاعلاً لكل ما أفعله بدواعي الحكمة؛ ولقد دعتني حكمةٌ بالغةٌ إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبرٍ منك على أذاهم وضجراً من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره، ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما نزل عليك القرآن تنزيلاً مُفرقاً مُنجماً إلا أنا لا غيري)، هو نحو قولك: ما يقوم إلا زيد لا عمرو، وقد منعه صاحب "المفتاح". قوله: (وقد عرفتني حكيماً)، حال من فاعل "نَزَّلَ"، وإنما اعتبر في الآية معنى الحكمة، ليترتب عليه قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}. قوله: (بالمُكافة)، أي: كف الحرب من الطرفين. الأساس: "صافوهم ولافوهم ثم كافوهم، أي: حاجروهم، وتكافوا: تحاجروا". قوله: ({فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} الصادر عن الحكمة)، أي: نحن نزلنا الأمر بالمكافة والمصابرة، فلا تطلب وجه حكمة في ترك القتال. قوله: (ويبذلون له أموالهم)، روى محيي السنة عن مُقاتل: أراد بـ "الآثم" عُتبة بن ربيعة، وبـ "الكفور" الوليد بن المغيرة، قالا للنبي? : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال،

فإن قلت: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله (آثِماً أَوْ كَفُورا)؟ قلت: معناه ولا تطع منهم راكباً لما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفر، أو غير إثمٍ ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل: الآثم عتبة؛ والكفور: الوليد؛ لأنّ عتبة كان ركاباً للمآثم، متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت: معنى "أو": ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟ قلت: لو قيل: ولا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما؛ وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما، عن طاعتهما جميعاً أنهى ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فارجع عن هذا الأمر، قال عتبة: فأنا أُزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله هذه الآية". قوله: (معناه: ولا تُطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه، أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه)، قال القاضي: "التقسيم باعتبار ما يدعونه إليه؛ فإن ترتب النهي على الوصفين مُشعر بأنه لأجلهما، وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإثم والكفر محظوراً؛ فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور". قوله: (وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أن الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعاً أنهى)، قيل: جوابه فاسد، لاحتمال أن يكون المطلوب ترك واحد منهما، أي واحد كان، لا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ترك كل واحد. ويجوز له الإتيان بواحد منهما، أي واحد كان، بشرط ترك الآخر، لأي الآخر كان. والجواب الصحيح أن "أو" في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تُفيد نفي كلا الأمرين جميعاً. وقلت: هذا السؤال مبني على أن "أو" للتخيير، وهو عين السؤال الذي أورده المصنف، حيث قال: "معنى {أَوْ}: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو" إلى آخره. واعلم أن جواب المصنف إنما يتمشى إذا حققنا القول في هذا المقام، وذلك أن السؤال الأول وارد على إرادة العموم في قوله: {آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، لقوله: "كانوا كلهم كفرة". و {أَوْ} للتنويع لقوله: "فما معنى القسمة؟ "، وكان الوصف بالكفور والآثم علة للنهي كما سبق. والسؤال الثاني وارد على أن المراد بالآثم عُتبة بعينه، وبالكفور الوليد نفسه. والمراد بالوصفين الذم، فيرد حينئذ السؤال الذي أورده، وتقريره أن "أو" يوهم أن المنهي عنه طاعة أحدهما لا على التعيين، والحال أن كليهما مُستحقان لأن لا يطاعا لما علم من حالهما، ولو جيء بالواو لأُزيل الوهم، ودل على أن السؤالين مُتفرعان على القولين الفاسدين فيهما. وتقرير هذا الجواب: أن {أَوْ} حينئذ ليست للتخيير حتى يلزمنا ذلك، وإنما هي للإباحة، لما علم أن طاعة كل واحد منهما محترز عنهما، لما فيهما من تعاطي الإثم المبالغ والكفر الغالي. والمقام يقتضي المبالغة في النهي عن طاعتهما مُنفردين ومُجتمعين، ولو قيل: لا تُطعهما، لدل المنطوق على النهي عن طاعتهما مُجتمعين، وأوهم المفهوم جواز طاعة أحدهما فقيل: لا تُطع أحدهما، ليدل المنطوق على النهي عن طاعة أحدهما لا على التعيين، لأن كليهما مُستحقان لأن لا يُطاعا لما علم من حالهما، ولو جيء بالواو لأزيل الوهم ودل على الفحوى بمساعدة مُقتضى المقام على النَّهي عن طاعتهما جميعاً بالطريق الأولى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الزجاج: " {أَوْ} هاهنا أوكد من الواو، لأنك إذا قلت: لا تُطع زيداً وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاصٍ. فإن أبدلتها بـ "أَوْ"، فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يُعصى". ويُعلم من هذا التقرير أن "أو" التي للإباحة، إذا دخلت على الإثبات، كان سبيلها هذا السبيل. فإذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، علم أن الأمر وارد على استحقاق كل واحد منهما المجالسة، لما فيهما من الفضل والمزية. ودل على الفحوى على استحقاقهما المجالسة مجتمعين بالطريق الأولى؛ فالإباحة إنما نشأت من أمر خارج لا من اللفظ، كما أن حظر الإباحة عن طاعة عُتبة والوليد، إنما نشأ من أمر خارج، وهو ما فيهما من الإثم والكُفر الغالي. ويُوافقه قول ابن الحاحب: "إن وضع "أو" لإثبات الحُكم لأحد الأمرين، إلا أنه إن حصلت قرينة يُفهم معها أن الأمر غير حاجز عن الآخر، مثل قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، سُمِّي إباحة، وإن حجز فهو لأحد الأمرين، وإنما أُخذ نفي الحجز عن الآخر من أمر خارج". وأما قوله: "وقد استشكل بعضهم وقوع {أَوْ} في النهي، في مثل قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، وهاهنا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل، ولا يعد ممتثلاً إلا بالانتهاء عنهما جميعاً، ومن ثم حملها بعضهم على أنها بمعنى الواو، والأولى أن تبقى على بابها. وإنما جاء التعميم فيهما من أمر وراء ذلك، وهو النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي: تُطيع آثماً أو كفوراً، أي: واحداً منهما. فإذا جاء النهي، ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تُطع واحداً منهما، فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي، وهي على بابها فيما

كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهيٌ عن ضربهما على طريق الأولى. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ودم على صلاة الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) وبعض الليل فصل له، يعنى: صلاة المغرب والعشاء، وأدخل "مِنَ" على الظرف للتبعيض، كما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذكرناه، لأنه لا يحصل الانتهاء عن احدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات، فإنه قد يفعل أحدهما دون الاخر"، فليس بطائل، والقول ما قالت حذام. وتلخيصه: أن {آثِمًا} أو {كَفُورًا}، إذا أريد بهما الجنس كان الوصف علة للنهي، من حيث هو هو لا من حيث الذات، ولذلك جازت الإطاعة إذا فقد. وإذا عُني بهما العهد، كان النهي عن إطاعة الشخصين المعينين لما فيهما من الخلال الذميمة، فلا يعمل بالمفهوم؛ ولا يجوز طاعتهما على أي حال كان؛ فإذن لا مدخل للنهي في العموم. قوله: (ودُم على صلاة الفجر والعصر، {وَمِنَ الَّيْلِ} وبعض الليل فصَلِّ له، يعني صلاة المغرب والعشاء)، قيل: الليل اسم لسواد ممتد، والليلة اسم لكل الليل، وأتى بصلاتي النهار وصلاتي الليل ولم يظفر بصلاة الظهر. والأقرب من حيث النّظم: أنه تعالى لما نهى

دخل على المفعول في قوله (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح: 4]. (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) وتهجد له هزيعاً طويلاً من الليل: ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه. [(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) 27 - 28] (إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يؤثرونها على الآخرة، كقوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [الأعلي: 16]. (وَراءَهُمْ) قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به (يَوْماً ثَقِيلًا) استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه: (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 187]. الأسر: الربط والتوثيق، ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار، وفرسٌ مأسور الخلق، وترسٌُ مأسورٌُ بالعقب. والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب، ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق، ومجدولته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حبيبه صلوات الله عليه، عن طاعة الآثم والكفور، وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد أن يرشده إلى مشاركتهم، عقب ذلك الأمر باستغراق أوقاته بالاشتغال بالعبادة ليلاً ونهاراً، بالصلوات كلها من غير تخصيص، وبالتسبيح لما يطيق عليه، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 - 98]. قوله: (هزيعاً طويلاً)، الجوهري: "مضى هزيع من الليل، أي: طائفة، وهو نحو من ثُلثُه أو رُبعه". قوله: (ومَجدولته)، الجوهري: "جدلت الحبل أجدله جدلاً: فتلته فتلاً مُحكماً، ومنه: جارية مجدولة الخلق: حسنة الجدل".

(وَإِذا شِئْنا) أهلكناهم و (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بـ "إن" لا بـ "إذا"، كقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد: 38]، (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) [النساء: 133]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وحقه أن يجيء بـ "إن" لا بـ "إذا")، قال المصنف: "إذا: تدخل على الكان كقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، و "إن" تدخل على المقدر كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]. هذا رد للوجه الآخر، لأن تبديل أمثالهم العاصين بالمُطيعين في الدنيا مشكوك فيه، فحقه بأن يُجاء بـ "إن"، ليفرض كما يُفرض ما لا تحقق له. وأما التبديل بالمعنى السابق، وهو تبديل أمثالهم في شدة الأَسْرِ في النشأة الأخرى فمُحقق لا بد منه، فحقه أن يُجاء بـ "إذا". والتبديل على الوجه الأول التغيير في الصفات، ولذا قال: في شدة الأَسْر، لأن الذات المحشورة هي هذه الذات. وعلى الوجه الثاني بمعنى التغيير في الذات، ولذلك بدل قوله: "غيرهم" بقوله: "ممن يُطيع".

[(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَما تَشاءون إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) 29 - 31] (هذِه) إشارةٌ إلى السورة أو إلى الآيات القريبة (فَمَنْ شاءَ) فمن اختار الخير لنفسه؛ وحسن العاقبة. واتخاذ السبيل إلى الله عبارةٌ عن التقربٍ إليه والتوسل بالطاعة (وَما يَشاؤونَ) الطاعة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) بقسرهم عليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوجه هو الأول، لأن الآية واردة عقب قوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}. أنكر عليهم رُكونهم إلى هذه العاجلة التي هي لا طائل تحتها، بحيث بلغ إلى المحبة الذاتية، وذُهولهم عما هو مصيرهم إليه من الأمر المهول، بحيث بلغ إلى أن جعلوه كالشيء المتروك المنسي، ثم قال: نحن خلقناهم وشددنا توصيل أعصابهم، ليشتغلوا بعبادتنا عن الالتفات إلى الغير ويشكروا تلك النعمة. ولا بد أن يُفكك هذا التركيب، ويُحلل هذا التوثيق، ثم يعيده كما هو الآن في شدة الأَسْر، للمجازاة على ذلك، وحقق ذلك بقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}. قوله: ("وما يشاؤون" الطاعة {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بقسرهم عليها)، الإنصاف: "حَرَّف النص؛ والآية حاضرة بالنفي والإثبات، ككلمة لا إله إلا الله، وما ذكره مُضاد للآية بزعمه، فالمعنى عنده أن مشيئة العبد الفعل، لا يكون إلا إذا قسره الله عليه، والقسر ينافي المشيئة، فحاصله أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت، فأراد إثبات المشيئة مطلقاً، فنفاها

(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم وما يكون منهم (حَكِيماً) حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: (تشآءُون) بالتاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رأساً". وقال الإمام: "هذه الآيات من جملة الآيات، التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر، فالقدري يتمسك بقوله: {فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} خاتمة السورة، والجبري يقول: من ضم منعها قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}، خرج منه صريح مذهبنا". وقلت: وفي إيقاع {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} خاتمة للسورة، إيذان بإثبات الكسب للمُكلفين، وأنهم به يسلكون سبل النجاة، وبه يتذكرون، وينتفعون بإنزال الكتب وإرسال الرسل. ثم في تعقيبها بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}، إعلام بأنهم غير مُستقلين فيه، وأن ذلك الكسب أيضاً بمشيئة الله وإرادته، ليكون اعتمادهم عليه، وتفويضهم للأمور إليه، وعلل ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. والاستثناء مُفرغ، قال أبو البقاء: "وما تشاؤون إلا وقت مشيئة الله تعالى، أو إلا في حال مشيئة الله تعالى". قوله: (وقُرئ: {تَشَاءُونَ})، نافع وعاصم وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.

فإن قلت: ما محل (أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)؟ قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: إلا ما يشاء الله؛ لأنّ "ما" مع الفعل ك- "أن" معه. (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) هم المؤمنون، ونصب "الظَّالِمِينَ" بفعلٍ يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعودٍ: و"للظالمين"، على: وأعدّ للظالمين، وقرأ ابن الزبير: و"الظالمون" على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنةً وحريراً». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وغيرها أولى لذهاب الطباق)، يعني: النَّصب والجرُّ أولى من الرفع، لما يلزم من الرفع المخالفة بين الجملتين، فإن قوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ} فعلية، و "الظالمون" اسمية، فيختارون النصب على معنى: وبررت عمراً: أعددت له بُراً، فلا يختارون للقرآن إلا أجود الوجوه مع موافقة المصحف". ومن دعاء المصنف: "اللهم ارزقنا جنة وحريراً، وحررنا من النار تحريراً تحريراً". تمت السورة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه * ... * ... *

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكيهٌ، وهي خمسون آيةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِراتِ نَشْراً * فَالْفارِقاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً) 1 - 6] أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المُرسلات خمسون آية، مكية إجماعاً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي قوله: (أقسم سبحانه وتعالى بطوائف)، قيل: إنما قال: بطوائف دون طائفة، ليؤذن بأن "المُرْسلات" جمع المُرسلة، نحو: الملائكة المرسلة. قوله: (فعصفن في مُضِيِّهن)، جعل الفاء عاطفة داخلة بين الصفتين، نحو قال الشاعر: يا لهف زيابة للحارث الصـ صابح فالغانم فالآيب

كما تعصف الرياح، تخففاً في امتثال أمره، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرّقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً إلى الأنبياء (عُذْرا) للمحقين (أَوْ نُذْرا) للمبطلين. أو أقسم برياح عذابٍ أرسلهن فعصفن، وبرياح رحمةٍ نشرن السحاب في الجوّ ففرّقن بينه، كقوله: (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) [الروم: 48]، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: الذي صبح فغنم فآب، والفاء تدل على ترتيب معانيها في الوجود. قوله: (بما أوحين)، تنازع فيه الفعلان، وكان الترتيب: فألقين ذكراً إلى الأنبياء، ففرقن بين الحق والباطل، لكنه على منوال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، أي: أردن أن يفرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً. وفي قوله: بطوائف منهم، إشارة إلى أن هذه الطوائف، غير تلك الطوائف، والواو عطفت هذه الطوائف على تلك، قال أبو البقاء: "الواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، ولذلك جاءت الفاء". وقال القاضي: "أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحق، ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه، فرأوا كل شيء هالكاً إلا وجهه، وألقين ذكراً بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله". قوله: (ففرَّقن بينه)، الضمير عائد إلى السحاب، أي: الرياح الفارقات نشرن السحاب الواحد في الجو، فجعلته قزعة قزعة، وإليه أشار بقوله: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم: 48].

أو بسحائب نشرن الموات، ففرّقن بين هن يشكر لله تعالى وبين من يكفر، كقوله (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن: 16]، فألقين ذكرا: ً إمّا عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذاراً الذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقياتٍ للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نشرن الموات)، الموات: الأرض. الراغب: "الموتان بإزاء الحيوان، وهي الأرض التي لم تحي للزرع، وأرض موات". قوله: (إما عُذراً للذين يعتذرون) إلى قوله: (وإما إنذاراً للذين يغفلون)، يشعر بأن "أو" للتنويع، ومن ثم قال الدينوري في "مشكل القرآن": "إنّ "أو" بمعنى الواو". قوله: (للذين يغفلون)، أي: يتركون، يقال: أغفلت الشيء، أي: تركته على ذُكر منك. قوله: (وجعلن مُلقيات للذكر)، أي: وجعلت السحائب ملقيات للذكر. والذِّكر: التذكير، أي: سبباً للتذكير، وقالت للمكلَّف: إن عرفت شُكر المنعم بي، فأنت معذور، وإن أنكرته فأنت مُعذب. وحاصل الوجوه أن الصفات الخمس، إما مُجراة على الملائكة، أو على الرِّياح أو السَّحاب.

فإن قلت: ما معنى عرفاً؟ قلت: متتابعةً كشعر العرف، يقال: جاءوا عرفاً واحداً؛ وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر؛ وانتصابه على أنه مفعولٌ له، أي: أرسلن للإحسان والمعروف؛ والأول على الحال. وقرئ: "عرفا" على التثقيل، نحو "نكرٌ" في "نكر". فإن قلت: قد فسرت "المرسلات" بملائكة العذاب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى {وَالنَّاشِرَاتِ} على الأول: إما نشر الجناح، أو الشرائع، أو النفوس. ومعنى {فَالْفَارِقَاتِ}، مزاولة التمييز بين الحق والباطل، ويكون إسناد إلقاء الذكر إسناداً إلى الفاعل الحقيقي. وعلى الثاني، إما نشر الرياح السحاب، ومعنى الفارقات محاولة الافتراق بين أجزاء السحاب، أو نشر السحاب الأرض، والفارقات إظهار الفرق بين الشاكر وغير الشاكر. وأما إلقاء الذكر على التقديرين الأخيرين فعلى الإسناد المجازي، والله أعلم. قوله: (مُتتابعة كشعر العُرف)، قيل: أصله: متتابعة كتتابع شعر العُرف، فحذف "متتابعة"، فبقى "كتتابع"، ثم حُذف المثل، فبقى: تتابع شعر العُرف، ثم حُذف "التتابع"، ثم "الشعر"، فبقى "عُرفاً". قوله: (والأول على الحال)، قال القاضي: "عُرفاً: إما نقيض النُّكر، وانتصابه على العلة، أي: أُرسلن للإحسان والمعروف. أو بمعنى: المتتابعة، وانتصابه على الحال". قوله: (قد فُسِّرت "المرسلات" بملائكة العذاب)، ولو قال: برياح عذاب أرسلهن كان أصوب، لأنه ما سبق وجه يدل على هذا التفسير صريحاً.

فكيف يكون إرسالهم معروفاً؟ قلت: إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروفٌ للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم. فإن قلت: ما "العذر" و "النذر"، وبما انتصبا؟ قلت: هما مصدران: من: عذر؛ إذا محا الإساءة، ومن: أنذر؛ إذا خوّف على فعل، كالكفر والشكر، ويجوز أن يكون جمع عذير، بمعنى المعذرة؛ وجمع نذيرٍ بمعنى الإنذار، أو بمعنى العاذر والمنذر. وأما انتصابهما فعلى البدل من "ذكرا"ً على الوجهين الأوّلين، أو على المفعول له. وأما على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرئا: مخففين ومثقلين. [(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 7 - 15] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأما على الوجه الثالث فعلى الحال)، أي: على أن يكونا بمعنى العاذر والمُنذر، قال أبو البقاء: "على أن يكونا جمع عذير ونذير، حالان من الضمير في {فَالْمُلْقِيَاتِ}؛ أي مُعذرين ومُنذرين". قوله: (وقُرئا مُخففين ومُثقلين)، {عُذْرًا}، بالتخفيف: هي المشهورة، وبالتثقيل: شاذة. وأما {نُذْرًا} بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام وحفص، والباقون: بالتثقيل.

إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائنٌ نازلٌ لا ريب فيه، وهو جواب القسم، وعن بعضهم أن المعنى: ورب المرسلات (طُمِسَتْ) محيت ومحقت، وقيل: ذهب بنورها ومحق ذواتها، موافقٌ لقوله (انْتَثَرَتْ) و (انْكَدَرَتْ). ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور (فُرِجَتْ) فتحت فكانت أبواباً، قال: الفارجى باب الأمير المبهم (نُسِفَتْ) كالحب إذا نسف بالمنسف؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو جواب القسم)، أي: قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ}. قال محيي السنة: "إلى هنا أقسام، وذكرها على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ}، أي: من أمر الساعة والبعث، {لَوَاقِعٌ}: لكائن، ثم ذكر متى يقع، فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ". قوله: (ومُحق ذواتها)، الراغب: "المحق النقصان، ومنه المحاق في آخر الشهر إذا مُحق الهلال، يقال: محقه إذا نقصه وأذهب بركته، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَواا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقال: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] ". قوله: (الفارجي باب الأمير المبهم)، ذكر في "الأساس" أن سيبويه أنشده. فرج الباب: أي فتحه. هو كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج: 35]، ووقعت النون للإضافة. يصف القوم بالخطر والجاه، وأنهم إذا أتوا باب الأمير يُفتح لهم، وأبهمت الباب: أغلقته، وأمر مبهم: لا مأتى له. قوله: (بالمنسف)، الجوهري: "هو ما نُسف به الطعام، وهو شيء طويل منصوب الصدر، أعلاه مرتفع".

ونحوه (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعه: 5]، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) [المزمل: 14]. وقيل: أخذت بسرعةٍ من أماكنها، من: انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرئت: "طمست": و"فرجت" و"نسفت" مشدّدة. قرئ: "أقتت" و "وقتت"، بالتشديد والتخفيف فيهما. والأصل: الواو، ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. والتأجيل: من الأجل، كالتوقيت: من الوقت. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تعظيم لليوم، وتعجيبٌ من هوله (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيانٌ ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق. والوجه أن يكون معنى (وقتت): بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وهو يوم القيامة، وأجلت: أخرت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قُرئ: {أُقِّتَتْ}، و "وُقِّتتْ")، أبو عمرو: بالواو، والباقون: بالهمز. قال الزجاج: "فمن قرأ بالهمز، فإنه أبدلها من الواو لانضمامهما، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة، جاز إبدالها بالهمزة". قوله: (ومعنى توقيت الرُّسل: تبيين وقتها)، قال القاضي: "معناه: عُين لها وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على الأمم بحصوله، فإنه لا يتعين لهم قبله". قوله: (والوجه أن يكون معنى "وُقتت": بُلِّغتْ)، أي: بُلغت الرُّسل ميقاتها، قال في "الأساس": "شيء موقوت ومُوقت: محدود، وجاؤوا للميقات وبلغوا الميقات". وإنما كان هذا هو الوجه، لأن قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} مجمل يشتمل على أمر القيامة وأماراتها؛ فقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} إلى قوله {لِيَوْمِ الْفَصْلِ}، تفصيله، وينصره ما نقلناه عن محيي السنة: "ثم ذكر متى يقع؟ فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ".

فإن قلت: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)؟ قلت: هو في أصله مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مسدّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه، ونحوه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 54]، ويجوز: ويلا، بالنصب؛ ولكنه لم يقرأ به، يقال: ويلاً له ويلاً كيلاً. [(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 16 - 19] قرأ قتادة: "نهلك"، بفتح النون، من هلكه بمعنى أهلكه، قال العجاج: ومهمةٍ هالك من تعرّجا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا ارتياب أنه سبحانه وتعالى مُخبر عن وقوعها وبلوغ ميقاتها، وحضور الرُّسل والشهداء حينئذ فيها، وليس الكلام في تعيين وقتها للرُّسل، وإنما فُسِّر {أُجِّلَتْ} في هذا الوجه بأُخرت ليناسب بلوغ الميقات، وذكر في الأول أن التأجيل من الأجل كالتأقيت من الوقت، ليناسب {أُقِّتَتْ} في كونهما لبيان الوقت، قال الجوهري: "التوقيت تحديد الأوقات، يقال: وَقَّتُّه ليوم كذا، مثل أجَّلته"، واللام للتأريخ. قوله: (ويلاً كيلاً)، أي: يُكال له الهلاك كيلاً. قوله: (ومهمه هالك من تعرَّجا)، إن روي: "هالك" مرفوعاً، فهو خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة "مهمه"، وقيل: تعرج: مال. وفي "ديوان الأدب": "تعرج عليه: أي تحبس"، وقيل: "التعريج على الشيء: الإقامة عليه".

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ) بالرفع على الاستئناف، وهو وعيدٌ لأهل مكة، يريد: ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويها قراءة ابن مسعود: "ثم سنتبعهم"، وقرئ بالجزم عطفاً على (نهلك) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ} بالرفع على الاستناف)، أي: هو معطوف من حيث الحملية كما مر في قوله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، أي هم يسلمون. قال أبو البقاء: "أي: ثم نحن نُتبعهم، وليس بمعطوف؛ لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا المجرمين ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد"، ولهذا قال المصنف: "ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب". قوله: (ويُقويها قراءة ابن مسعود)، أي: يُقوي هذه القراءة، لأن معناها التهديد والوعيد لأهل مكة، بخلاف القراءة بالجزم، لأنه إخبار عن أتباع قوم لوط وشعيب وموسى قوم نوح وعاد وثمود في الإهلاك، و {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} تذييل. قوله: (وقُرئ بالجزم للعطف على {نُهْلِكِ})، قال ابن جني: "وهي قراءة الأعرج وتحتمل أمرين: أحدهما: ان يُراد بها معنى قراءة الجماعة "نُتبعهم" بالرفع، فأسكن العين استثقالاً لتوالي الحركات. والآخر: أن يُجزم عطفاً على "نُهلك"، فيجري مجرى قولك: ألم تزرني ثم أعطك؟ كقولك: فأُعطك؛ يريد أن قوماً أهلكهم الله عز وجل بعد قوم قبلهم، على اختلاف أوقات المرسلين إليهم شيئاً بعد شيء، {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}؛ المجرمون من يُهلكهم من بعد، ويجوز من مضى".

ومعناه: أنه أهلك الأولين من قوم نوحٍ وعادٍ وثمود، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيبٍ ولوطٍ وموسى (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ) بكل من أجرم إنذاراً وتحذيراً من عاقبة الجرم وسوء أثره. [(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ * إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 20 - 24] (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى مقدارٍ من الوقت معلومٍ قد علمه الله وحكم به، وهو تسعة الأشهر، أو ما دونها، أو ما فوقها (فَقَدَرْنا) فقدّرنا ذلك تقديراً (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فنعم المقدّرون له نحن، أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن؛ والأوّل أولى لقراءة من قرأ "فقدّرنا" بالتشديد، ولقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس: 19]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأول أولى)، أي: تفسير "قدَرنا" بـ "قدَّرنا" بمعنى التقدير، أولى من تفسيره بقدَرنا من القدرة، بدليل قراءة من قرأ بالتشديد، وبمجيئه في آية أخرى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19]. وقلت: يمكن أن يقال: إن معنى القدرة لازم لمعنى التقدير، وإبرازه في معرض المدح ظاهر، أو لم يضطر إلى تأويل {قَادِرُونَ} بـ "المقدرون"، ولأن إثبات القدرة أولى، لأن الكلام مع المنكرين بخلاف ذلك. قال أبو البقاء: "قدرنا، بالتخفيف، أجود؛ لقوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}، ولم يقل: المقدرون. ومن شدد نبه على التكثير واستغنى عن التكثير بتشديد الاسم، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: فنعم القادرون نحن". قوله: (من قرأ: "فقدرنا" بالتشديد). نافع والكسائي، والباقون: بالتخفيف.

[(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً * أَحْياءً وَأَمْواتاً * وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 25 - 28] الكفات: من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفت، كقولهم: الضمام والجماع لما يضم ويجمع، يقال: هذا الباب جماع الأبواب، وبه انتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) كأنه قيل: كافتةً أحياءً وأمواتاً. أو بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه، وهو: تكفت. والمعنى: تكفتُ أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش، بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتاً للأموات، فكان بطنها حرزاً لهم؛ فالنباش سارقٌ من الحرز. فإن قلت: لم قيل أحياءً وأمواتاً على التنكير، وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً؟ قلت: هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياءً لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون، على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم أحياءً وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير؛ لأنه قد علم أنها كفات الإنس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تكفت أحياء على ظهرها)، روى الواحدي عن الفراء أنه قال: "تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتاً: تحوزهم"، وهذا قول جماعة المفسرين. قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم)، قيل: هو عطف على قوله: "وبه انتصب {أَحْيَاءً} "، والظاهر أنه عطف [على] قوله: "كافتة أحياءً وأمواتاً"، لأنه على الأول

فإن قلت: فالتنكير في (رَواسِيَ شامِخاتٍ) و (ماءً فُراتاً)؟ قلت: يحتمل إفادة التبعيض؛ لأنّ في السماء جبالاً قال الله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور: 43]، وفيها ماءٌ فراتٌ أيضاً، بل هي معدنه ومصبه، وأن يكون للتفخيم. [(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ • انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ • لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ • إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ • كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ • وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ • هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ • وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ • وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 29 - 37] أي يقال لهم: انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب، و"انطلقوا" الثاني تكرير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منتصب به على المفعولية، وعلى الثاني على الحالية من "كُم" في "تكفتكم"؛ وإنما لم يذكر لأن {كِفَاتًا} دال عليه، وإليه الإشارة بقوله: "لأنه قد عُلم أنها، أي: الأرض، كفات الإنس". وعلى هذا، لا يراد السؤال وهو قوله: لم قيل أحياءً؟ لن المراد بالتنكير بعض الأحياء وهو الإنس، ومن ثم قربه بقوله: "على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء". قال أبو البقاء: " {أَحْيَاءً}: مفعول {كِفَاتًا}، أو المفعول الثاني لـ "جعل"، أي: جعلنا بعض الأرض أحياءً بالنبات، و"كفاتاً" على هذا: حال"، قال القاضي: "المعنى بالأحياء: ما ينبت، وبالأموات: ما لا ينبت"، وقال صاحب "الكشف": "جاز أن يكون {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}، بدلين من {كِفَاتًا} ". قوله: (فالتنكير)، الفاء متفرع على الجواب عن السؤال الأول، أي: عُلم معنى التنكير فيهما بما ذكر، فما معنى التنكير في هذين؟

وقرئ: "انطلقوا" على لفظ الماضي إخباراً بعد الأمر عن عملهم بموجبه، لأنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه (إِلى ظِلٍ) يعنى دخان جهنم، كقوله: (وظل من يحموم) [الواقعة: 43]. (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) بتشعب لعظمه ثلاث شعب، وهكذا الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب. وقيل: يخرج لسانٌ من النار فيحيط بالكفار كالسرادق، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم؛ والمؤمنون في ظل العرش (لا ظَلِيلٍ) تهكمٌ بهم وتعريضٌ بأن ظلهم غير ظل المؤمنين (وَلا يُغْنِي) في محل الجر، أي: وغير مغنٍ عنهم من حرّ اللهب شيئاً. (بِشَرَرٍ)، وقرئ: "بشرار" (كَالْقَصْر) أي: كل شررةٍ كالقصر من القصور في عظمها. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة قصرة، نحو: جمرةٌ وجمر. وقرئ: "كالقصر" بفتحتين: وهي أعناق الإبل، أو أعناق النخل، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين)، يعني: أدمج في معنى {لَّا ظَلِيلٍ} معنيين: أحدهما: التهكم بهم، لأن مفهوم الظل للاسترواح وهاهنا عكسه، كما في قوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43 - 44]. وثانيهما: تعريض بأن للمؤمنين ظلاً على خلافه، ليزيد في تحسرهم وتشويرهم، ومن ثم قال: "فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش". قوله: (أي: وغير مُغن عنهم)، قيل: هو من قولهم: أغن عني وجهك، أي: أبعده، ويقال: ما يُغني عنك هذا، أي: ما يُجزئ عنك ولا ينفعك، لأن الغني عن الشيء يباعده، كما أن المحتاج إليه يقاربه؛ وإنما عُدي بـ "عن" ليضمنه معنى "مُبعد". قوله: (وهي أعناق الإبل، أو أعناق النَّخل)، وإنما كرر الأعناق، ليؤذن بأن الأول غير الثاني. الأساس: "ومن المجاز: أتاتي عنق من الناس، وأقبلت أعناق الرجال، قال العجاج: حتى بدت أعناق صبح أبلجا

نحو: شجرةٌ وشجر. وقرأ ابن مسعود: ك- "القصر" بمعنى القصور، كرهنٍ ورهن. وقرأ سعيد ابن جبيرٍ: "كالقصر" في جمع قصرة، كحاجةٍ وحوج (جِمالَتٌ) جمع جمال، أو جمالةٌ جمع جمل؛ شبهت بالقصور، ثم بالجمال لبيان التشبيه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كحاجة وحوج)، وفيه بحث، لأنه لا يجيء مثل هذا الجمع إلا وتقلب واوه ياء، قال في "المفصل" في إعلال العين: "قالوا: تير وديم لإعلال الواحد والكسرة". وجاء في "الصحاح": "الحاجة تجمع على حاج وحاجات وحوج وحوائج". وقيل: لا يبعد أن يقال: هذا الإعلال مشروط بأن يكون هذا الألف في الجمع وإن لك يُذكر في "المفصل"، يدل عليه قول الجوهري: "أصل تير: تيار". قوله: (ثم بالجمال لبيان التشبيه)، فالضمير في {كَأَنَّهُ} راجع إلى الشرر باعتبار اللفظ، وكذا عن محيي السنة. أي: شُبهت الشرر بالقصور، ثم شبهت بالجمال، ليبين أن المراد من التشبيه الأول هو العظم مع اللون؛ فالجمال والقصر سيان باعتبار العظم، ثم ضم معه {صُفْرٌ}، فيكون التشبيه الثاني مع الأول، كبدل الاشتمال في نحو: أعجبني زيد كرمه. وعن بعضهم: المراد بقوله لبيان التشبيه تعيين التشبيه وتأكيده، وقال أيضاً: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} بيان للتشبيه الأول، ولو لم يكن بياناً لكان بدلاً، وهو لا يجوز.

ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ألا تراهم يشبهوم الإبل بالأفدان)، تعليل لادعاء المساواة بين الجمل والقصر؛ فإن الجمل مثل في العظم، قال: جِسم الجمال وأحلام العصافير ولما أن التشبيه الأول كالتوطئة والتمهيد للثاني، قال: "وقد عمى عن قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}؛ فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر"، يعني: كطراف. يعني: نظر أبو العلاء إلى التشبيه الأول الذي هو كالتوطئة، وتبجح أن تشبيهه أجمع، ولم ينظر إلى التشبيه الثاني الذي هو المقصود بالذكر. قال الإمام: "شبه الشرر في العظم بالقصر، وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر"، ثم قال: "هذا أولى من قول أبي العلاء، لأن القصر في المقدار أعظم من "الطراف"، فيلزم منه أن النار التي شرارتها القصر، لا تكون إلا مما لا يوصف كنهها، والجمالات أكثر في العدد منه، وفيها تصوير الحركة أيضاً". وقلت: مرادهم أن ما في التنزيل من التشبيه، أكثر تفصيلاً مما في بيت أبي العلاء، فيكون أدخل في القبول كما نص عليه صاحب "المفتاح". ومن الممكن أن يقال: إن الضمير في

والمجادل؟ وقرئ: "جمالاتٌ" بالضم: وهي قلوس الجسور، وقيل: قلوس سفن البحر، الواحدة جمالة، وقرئ: (جمالة) بالكسر، بمعنى: جمالٌ، و"جمالةٌ" بالضم: وهي القلس. وقيل: (صُفْرٌ) لإرادة الجنس. وقيل (صُفْرٌ): سود تضرب إلى الصفرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ} عائد إلى "القصر"، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتخييل غريب؛ شُبهت الشرارة حين تنقص من النار في عظمها بالقصر. ثم شبه القصر المشبه به حين يأخذ في الارتفاع والانبساط، فإنه حينئذ ينشق عن أعداد لا نهاية لها، بالجمالات المتكاثرة، فيتصور منها حينئذ العظم أولاً، والاتساق مع الكثرة والصُّفرة والحركة المخصوصة ثانياً، فيبلغ التشبيه إلى الذروة العليا. قوله: (بالأفدان والمجادل)، الفدن والمجدل: القصر، وليس منه مجدل بالفتح. قوله: (قُلوس)، هو جمع قلس، وهو حبل تشد به الجسور أو سفن البحار. قوله: (وقُرئ: {جِمَالَتٌ})، بالكسر والتوحيد: حفص وحمزة والكسائي، والباقون: بالألف على الجمع. قوله: (وقيل: {صُفْرٌ})، يريد على القراءة بضم الجيم، فإنها لما كانت مُفردة كان المناسب: صفراء، لكن جُمع بالنظر إلى إرادة الجنس.

وفي شعر عمران بن حطانٍ الخارجي: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى قال أبو العلاء: حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى ... ترمى بكلّ شرارة كطراف فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دعتهم بأعلى صوتها)، البيت، يصف جهنم ودعاءها الكفار إلى نفسها، مقتبس من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 15 - 17]، قال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح، وتقول: إلَّي إلَّي، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطَّير الحبَّ. الشوى: الأطراف، وهي القوائم والجلود. وقيل: الشَّوى: جمع شواة، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلاً، يقال: رماه فأشواه إذا لم يُصب مقتلاً، أي: دعتهم نزاعة الشَّوى، وهي لظى، بأعلى صوتها، ورمتهم بشرر كالقصر، كأنه جمالات صُفر. قوله: (حمراء ساطعة) البيت، قبله: الموقدي نار القرى الآصال والـ أسحار بالأهضام والأشعاف الهضم، بالكسر: المطمئن من الأرض، والجمع أهضام وهضوم، والشعفة، بالتحريك: رأس الجبل، والجمع شعف وشعاف. وقوله "حمراء": بدل من "نار القرى"، والطِّراف فيها من الأدم. والمعنى: أنهم يوقدون للأضياف نيراناً عظيمة شرارهاـ مقدار عظمها مقدار عظم "الطِّراف". قوله: (قصد بخُبثه أن يزيد على تشبيه القرآن)، زعم أنه طغى بتشبيهه على اللون والعظم،

ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة، جاء في صدر بيته بقوله (حمراء) توطئةً لها ومناداةً عليها، وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عمى، جمع الله له عمى الدارين، عن قوله عز وعلا: (كأنه جمالات صفر)؛ فإنه بمنزلة قوله: كبيتٍ أحمر؛ وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس، تشبيهٌ من ثلاث جهات: من جهة العظم والطول والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه، وما نفخ شدقيه من استطرافه. قرئ بنصب "اليوم"، ونصبه الأعمش، أي: هذا الذي قص عليكم واقع يومئذٍ؛ ويوم القيامة طويلٌ ذو مواطن ومواقيت: ينطقون في وقتٍ ولا ينطقون في وقت؛ ولذلك ورد الأمران في القرآن. أو جعل نطقهم كلا نطقٍ؛ لأنه لا ينفع ولا يسمع. (فَيَعْتَذِرُونَ) عطفٌ على (يُؤْذَنُ) منخرطٌ في سلك النفي، والمعنى: ولا يكون لهم إذنٌ واعتذارٌ متعقبٌ له، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن؛ ولو نصب لكان مسبباً عنه لا محالة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزاد على ما في التنزيل وليس بذلك، لأنه لا يخفى على مثل المعري أن الكلام بآخره، لأن الله تعالى شبه الشرارة أولاً حين تنقض من النار بالقصر في العظم، وثانياً حين تأخذ بالارتفاع والانبساط فتنشق عن أعداد لا نهاية لها، بالجمالات في التفرق واللون والعظم والثقل، ونظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية، وكل ذلك مفقود في نيته، قال الإمام: "كان الأولى لصاحب "الكشاف" أن لا يذكر أنه ذكره معارضة للقرآن". قوله: ({فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {يُؤْذَنُ} منخرط في سلك النفي)، قال في قوله: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52]: "يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة، لقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ".

[(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 38 - 45] (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) كلامٌ موضحٌ لقوله: (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ)، لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم، فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين، حتى يقع ذلك الفصل بينهم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تقريعٌ لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيلٌ عليهم بالعجز والاستكانة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في موضع الحال من ضمير "المتقين"، في الظرف الذي هو في ظلال، أي: هم مستقرّون في ظلالٍ، مقولاً لهم ذلك. [(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) 46 - 50] (وكُلُوا وَتَمَتَّعُوا) حال من المكذبين؛ أي: الويل ثابتٌ لهم في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا. فإن قلت: كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب "الكشف": "التقدير: هذا يوم لا ينطقون بنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذر ينفعهم، فـ "يعتذرون" داخل في النفي، ولو حملته على الظاهر ناقض، لأنه يصير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون، لأن الاعتذار نطق أيضاً". وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون مستأنفاً، أي: فهم يعتذرون، أي: أنهم لا ينطقون في بعض المواقف، وينطقون في بعضها، وليس بجواب النفي، إذ لو كان جواباً لحذل النون". قوله: (كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ )، لأن قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا}، مما يقال في حق الكفار في الدنيا لا في الآخرة، لأنهم متمتعون فيها أياماً قلائل.

قلت: يقال لهم ذلك في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد. وفي طريقته قوله: إخوتى لا تبعدوا أبداً ... وبلى والله قد بعدوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتلخيص الجواب، أن هذا القول كالوسم عليهم، وأيما ساعة وأيما شخص وقع نطره إليهم قال ذلك في حقهم، لتهالكهم في مشتهيات العاجلة والذهول عن تبعاتها في الآجلة. وفائدة ذكره في الآخرة، تذكير سوء اختيارهم، وهو إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، ونحوه قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْأخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 44 - 45]. روي عن المصنف أنه قال: "اتصال قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} بقوله: {لِّلْمُكَذِّبِينَ}، كأنه قيل: ويل يومئذ للمكذبين الذين كذبوا، وإذا قيل لهم: اركعوا، لا يركعون. ويجوز أن يكون اتصاله بقوله: {إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} على طريقة الالتفات، كأنه قيل: هو أحقاء بأن يقال لهم: كلوا وتمتعوا، ثم علل ذلك بكونهم مُجرمين، وبكونهم إذا قيل لهم: صلوا، لا يصلون". قوله: (إخوتي لا تبعدوا)، ليس فيه نهي ولا طلب، لأنهم هلكوا وبعدوا وأبادوا. ثم قوله: وبلى والله قد بعدوا تناهي تحسر وتوجع، يعني: أحقاء بأن يقال لكم في أيام حياتكم: لا تبعدوا أبداً،

يريد: كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك، وعلل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ماله إلا الأكل والتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً. ويجوز أن يكون (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) [المرسلات: 46] كلاماً مستأنفاً خطاباً للمكذبين في الدنيا (ارْكَعُوا) اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويصرون على استكبارهم. وقيل: ما كان على العرب أشدّ من الركوع والسجود: وقيل: نزلت في ثقيفٍ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد وقع خلاف ما كنتم تستحقونه. وكذا معنى الآية: كنتم في حياتكم وتمتعتم بملاذها، بحيث وجب لكل ناظر أن يقول في حقكم: كلوا وتمتعوا قليلاً، فإن الذي وقعتم فيه منقض، وتبعته لاحقة بكم، والآن وقع ما كنتم تستحقونه. قوله: (ويجوز أن يكون {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} كلاماً مُستأنفاً)، هذا يعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم، لأنه مذكور بعد ذكر الترجيع، وبعده {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}. قوله: (وقيل: ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود)، قال القاضي في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}: "واستدل به على أن الأمر للوجوب، وأن الكفار مُخاطبون بالفروع". قوله: (وقيل: نزلت في ثقيف) إلى آخره، مضى بيانه في قوله تعالى: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْ‍ئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]. النهاية: "أصل التَّجبية أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على رُكبتيه وهو قائم".

حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نجبي فإنها مسبةٌ علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوعٌ ولا سجودٌ" (بَعْدَهُ) بعد القرآن، يعنى أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آيةٌ مبصرةٌ ومعجزةٌ باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتابٍ بعده (يُؤْمِنُونَ)، وقرئ: " تؤمنون" بالتاء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (والمرسلات) كتب له أنه ليس من المشركين». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني أن القرآن من بين سائر الكتب المنزلة آية مبصرة)، وقد سبق في قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، أن لفظة "بعد" مثل "ثم" في إعطاء معنى التراخي في الرُّتبة. ولما قرر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة من الآيات، ولم يكن في سائر الكتب المنزلة مثل هذه البيانات الشافية، ختمها بهذه الخاتمة مُصدرة بالفاء، مفيدة ما قرره المصنف. وقال في أُختها في "الأعراف": "كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يُبادرون [إلى] الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا"؛ لأن ما قبلها من حديث الأجل، وهاهنا الحديث بالوعد والوعيد الذي تُلِيَ عليهم في هذه الآيات. تمت السورة بعون الله تعالى * ... * ... *

سورة عم يتساءلون (النبأ)

سورة عمّ يتساءلون مكية، وتسمى سورة النبأ وهي أربعون آيةً أو إحدى وأربعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) 1 - 3]. (عَمَّ) أصله عما، على أنه حرف جرٍ دخل على ما الاستفهامية وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر. قال حسان رضي الله عنه: على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النبأ مكية، وهي أربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر)، قال ابن جني: "إثبات الألف أضعف اللغتين"، قال الجرجاني: " (ما) الاستفهامية تُحذف ألفها تفرقة بينها وبين كونها خبراً، وقيل: حُذفت الألف بحرف الجر لتؤذن بشدة الاتصال، وقيل: حُذفت لكثرة الدوران". قوله: (تمرغ في رماد)، مرغته في التراب: قلبته فيه، وتمرغ، ومراغ الدابة: ممرغها.

والاستعمال الكثير على الحذف، والأصل: قليل. ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال: عن أي شأنٍ يتساءلون؟ ونحوه ما في قولك: زيدٌ ما زيد؟ جعلته - لانقطاع قرينه وعدم نظيره - كأنه شيءٌ خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد: أي شيء هو من الأشياء هذا أصله؟ ثم جرد للعبارة عن التفخيم، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضاً. أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نحو: يتداعونهم ويتراءونهم. والضمير لأهل مكة: كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء. (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بيانٌ للشأن المفخم. وعن ابن كثيرٍ قرأ (عمه) بهاء السكت، ولا يخلو: إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف ويبتدئ (يَتَساءَلُونَ) على أن يضمر (يَتَساءَلُونَ) لأنّ ما بعده يفسره، كشيء يبهم ثم يفسر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("ما" في قولك: زيد ما زيد؟ جعلته، لانقطاع قرينه وعدم نظيره، كأنه شيء خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه)، ومنه حديث عائشة، رواه البخاري في "صحيحه": قالت الحادية عشرة: "زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ أناس من حُلي أُذني، وملأ من شحم عضدي. أُمُّ أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمها، وملاء كسائها، وغيظ جارتها". النوس: تحرك الشيء متدلياً، أي: أناس أُذُني مما حلاهما من الشُّنوف والقرطة، والعكوم: جمع عِكم، وهو العدل إذا كان فيه متاع، والرَّداح: العظيمة الثقيلة، والمسل: مصدر بمعنى الشَّل، والشَّطبة: السيف، أي: كما سُل السيف من غمده، والجفرة: الأنثى من ولد المعز. قوله: ({عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}: بيان للشأن المفخم)، يريد أن قوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ليس

فإن قلت: قد زعمت أنّ الضمير في يتساءلون للكفار. فما تصنع بقوله (هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)؟ قلت: كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، ومنهم من يشك. وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً، وكانوا جميعاً يسألون عنه. أما المسلم فليزداد خشيةً واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء. وقيل: المتساءل عنه القرآن. وقيل: نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقرئ: (يسّاءلون بالإدغام)، وستعلمون بالتاء. [(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) 4 - 5] (كَلَّا) ردع للمتسائلين هزءوا. و (سَيَعْلَمُونَ) وعيدٌ لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق؛ لأنه واقعٌ لا ريب فيه. وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك، ومعنى (ثُمَّ) الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشد. [(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً * وَالْجِبالَ أَوْتاداً * وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً * وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً * وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً * وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً * وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) 6 - 16] فإن قلت: كيف اتصل به قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهادا). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بصلة {يَتَسَاءَلُونَ}؛ لأنه أخذ صلته وهي {عَمَّ}، بل هو صلة محذوف، على طريقة الاستئناف، للبيان، فإنه لما قيل: عن أي شيء عظيم يتساءلون وما ذلك الشيء العظيم الذي يتساءلون عنه؟ فقيل: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}، الذي هو البعث، وإذا وقف على "عمه" يكون صلة للمذكور، ويقدر مثله: لعمه، قال صاحب "الكشف": {عَنِ النَّبَإِ} لا يجوز أن يكون بدلاً من قوله: عمه بتة، لأنه لو كان بدلاً لوجب تكرار حرف الاستفهام؛ لأنه الجار المتصل بحرف الاستفهام إذا أُعيد أُعيد مع الحرف المستفهم به، كقولك: بكم ثوبك؟ أبعشرين أم بثلاثين؟ ولا يجوز: بعشرين، بغير همزة، فيكون متعلقاً بفعل آخر دون هذا الظاهر. وقال أبو البقاء: "يجوز

قلت: لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة، فما وجه إنكار قدرته على البعث، وما هو إلا اختراعٌ كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: ألم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة. والحكيم لا يفعل فعلاً عبثاً، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابثٌ في كل ما فعل؟ (مِهاداً) فراشاً. وقرئ: (مهدا) ومعناه: أنها لهم كالمهد للصبي: وهو ما يمهد له فينوّم عليه، تسميةً للممهود بالمصدر، كضرب الأمير أو وصفت بالمصدر. أو بمعنى: ذات مهدٍ، أي أرسيناها: بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد. (سُباتاً) موتاً. والمسبوت: الميت، من السبت وهو القطع؛ لأنه مقطوعٌ عن الحركة. والنوم: أحد التوفيين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون بدلاً، وألف الاستفهام، التي ينبغي أن تُعاد، محذوفة". الراغب: "عظم الشيء: أصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير، فأجري مجراه، محسوساً كان أو معقولاُ، عيناً كان أو معنى، قال تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة، والكبير يقال في المنفصلة، ثم قد يقال في المنفصل: عظيم، نحو، جيش عظيم ومال عظيم، وذلك في معنى الكبير. والعظيمة: النازلة". وعن بعضهم: الضمير في {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} تأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لما كان خوضهم فيه أكثر وتعنتهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به. قوله: (والنوم أحد التوفيين)، مقتبس من قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].

وهو على بناء الأدواء. ولما جعل النوم موتاً، جعل اليقظة معاشاً، أي: حياةً في قوله: (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)، أي: وقت معاشٍ تستيقظون فيه وتتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم. وقيل: السبات الراحة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على بناء الأدواء)، يعني: كالسعال والزكام والجذام. قوله: (ولما جعل النوم موتاً، جعل اليقظة معاشاً، أي: حياة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا})، راعى المطابقة بين قوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} وبين قوله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}، والمطابقة الحقيقية: جعلنا يقظتكم حياة، فوضع موضع اليقظة النهار؛ لأنها تقع فيه غالباً، وموضع حياة: معاشاً، فبقى قوله: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} جملة مستطردة بين القرينتين لذكر النوم في القرينة الأولى، هذا إذا جعل السُّبات بمعنى الموت، وأما إذا جعل بمعنى الراحة، وهو قول الزجاج: السبات: "أن تنقطع الحركة من بدنه بالنوم"، أي: جعلنا نومكم راحة، يكون قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}، قرينة لقوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}، فيصح الطباق بين القرينتين الأوليين؛ لأن جل الاستمتاع بين الزوجين في حالة النوم والراحة. وقال في قوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]: "المقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن"، ومنه قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِ‍ئُونَ} [يس: 56]، وبين القرينتين التاليتين، وهما: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}؛ لأنهما نحو قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِي} [القصص: 73]، ويؤيده قول الزجاج: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} أي: لتسكنوا فيه. قوله: (أي وقت معاش)، قيل: المعاش: مصدر، يقال: "عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة".

(لِباساً) يستركم عن العيون إذا أردتم هرباً من عدوّ، أو بياتاً له. أو إخفاء مالا تحبون الاطلاع عليه من كثيرٍ من الأمور. وكم لظلام اللّيل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب (سَبْعاً) سبع سماوات (شِداداً) جمع شديدة، يعنى: محكمةً قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الأزمان. (وَهَّاجاً) متلألئاً وقاداً، يعنى: الشمس: وتوهجت النار: إذا تلمظت فتوهجت بضوئها وحرّها. "المعصرات": السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكم لظلام الليل عندك من يد) البيت، قال الواحدي: المانوية: أصحاب ماني، وهو يقول بالنور والظلمة، يقولون: الخير كله في النور، والشر كله في الظلمة. ورد عليهم المتنبي فقال: كم من نعمة في الظلام تبين أن هؤلاء الذين نسبوا إليه الشر كله كاذبون، ثم بين تلك النعمة بقوله: وقاك ردى الأعداء تسري عليهم وزارك فيهم ذو الدلال المُحجب وذكر سر النور بقوله: ويوم كليل العاشقين كمنته أراقب فيه الشمس أيان تغرب قوله: ({وَهَّاجًا}: متلألئاً)، الراغب: "الوهج: حصول الضوء والحر من النار، والوهجان كذلك، وقوله تعالى: {سِرَاجًا وَهَّاجًا}، أي: مضيئاً. وقد وهجت النار توهج، ووهج يهج، وتوهج اللؤلؤ: تلألأ".

إذا حان له أن يجز. ومنه: أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. وقرأ عكرمة: (بالمعصرات)، وفيه وجهان: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها، كما تقول: أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده، وعن مجاهد: المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السماوات. وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر ويمكنّ منه. فإن قلت: فما وجه من قرأ: (مِنَ الْمُعْصِراتِ) وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطر لا ينزل من الرياح؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ عكرمة: "بالمعصرات")، قال ابن جني: "وهي قراءة ابن الزبير وابن عباس وغيرهما، ولم يذكر عكرمة، وقال: إذا نزل الماء منها فقد أنزل بها، كقولهم: أعطيته من يدي درهماً وبيدي درهماً، المعنى واحد، وليس "من" هاهنا مثلها في قولهم: أعطيته من الدراهم؛ لأن "من" فيه تبعيضية، وليس المراد أن الدراهم بعض اليد، لكن المراد أن ابتداء العطية من اليد"، فقول المصنف: "إذا كان الإنزال منها فهو بها"، إيذان بأن "من" الابتدائية فيها معنى السببية، كما مر في قوله: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] أي: من أجله وبسببه، فإذن هي والباء من وادٍ واحد. قوله: (أي: يحملن على العصر)، يعني: أن المعصرات على الحقيقة هي الرياح؛ لأنها تعصر السحاب لتمطر، وسميت السماء بالمعصرات، لما أن الماء إنما ينزل منها إلى السحاب، فيتمكن الرياح حينئذ من العصر، ولولاها لم يتمكن منه، فأسند إليه، فالهمزة في الإعصار: للتعدية. قوله: (ذوات الأعاصير)، الجوهري: "الإعصار: ريح تثير الغبار، فيرتفع إلى السماء كأنه عمود، ويقال: هي ريح تثير سحاباً ذات رعد وبرق وتعصر".

قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال؛ وقد جاء أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر. فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر. يقال: عصره فاعتصر. قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرن، أي حان لها أن تعصر، أي: تغيث، (ثَجَّاجاً) منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج نفسه، وفي الحديث: (أفضل الحج: العجّ والثجّ) أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدى. وكان ابن عباسٍ مثجا يسيل غرباً، يعنى يثج الكلام ثجاً في خطبته. وقرأ الأعرج: (ثجاجا)، ومثاجح الماء: مصابه، والماء ينثجح في الوادي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (بمعنى المغيثات)، الراغب: "الغيث: يقال في المطر، والغوث: في النصرة، واستغثته: طلبت الغيث منه والغوث، فأغاثني: من الغوث، وغاثني: من الغيث". قوله: (اللاتي أعصرن)، فيكون "أعصر" على هذا غير الأول، إذ "المعصرات" يراد بها الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، فالهمزة للحينونة لا للتعدية، وعن بعضهم: القبول والصبا بمعنى واحد، وهي من المشرق، وهي تجمع السحاب، والجنوب تعصرها وتحلبها، وهي من القبلة، والدَّبور من المغرب، وهي معاونة القبول، والشمال تفرقها. والعصر والحلب ها هنا: الاعتماد.

) حَبًّا وَنَباتاً (يريد ما يتقوّت من الحنطة والشعير وما يعتلف من التبن والحشيش، كما قال: ) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ([طه: 54]، وَ (الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) [الرحمن: 12]. (ألْفافاً) ملتفةً ولا واحد له، كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. وقال صاحب الإقليد: أنشدنى الحسن بن على الطوسي: جنّة لفّ وعيش مغدق ... وندامي كلهم بيضٌ زهر وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف، ثم ألفاف: وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو خضرٍ واخضار وحمرٍ وأحمار، ولو قيل: هو جمع ملتفةٍ بتقدير حذف الزوائد، لكان قولاً وجيها. [) َإن يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً *يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْواجاً *فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً *وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [17 - 20]. (كان ميقاتاً) كان: في تقدير الله وحكمه حدّاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَنَبَاتًا} يريد ما يتقوت)، النبات: مصدر أريد به النابت. روي عن المصنف: الاستعارة على ضربين: تارة لمعنى وتارة لغير معنى، فلا يطلب هاهنا معنى في النبات. قوله: (كالأوزاع والأخياف)، الجوهري: "الأوزاع من الناس: الجماعات، والأخياف: المختلف من الناس، وإخوة أخياف: إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى". قوله: (جنة لف)، البيت، لف: واحد الألفاف، وعيس مُغدق أي: ناعم. والغدق: الماء الكثير، والندامى: جمع الندمان، يقال: نادمني فلان فهو نديمي وندماني. وبيض: حسان، ورجل أزهر أي: أبيض مشرق الوجه؛ يصف طيب الزمان والمكان وكرم الإخوان. قوله: (حدا توقت به الدنيا وتنتهي عنده)، الراغب: "الوقت: نهاية الزمان المفروض للعمل، ولهذا لا يكاد يقال إلا مُقيداُ، كقولهم: وقت كذا: جعلت له وقتاً، قال تعالى: {إِنَّ

أو حداً للخلائق ينتهون إليه. َوْ (ويوم يُنْفَخُ) بدل من يوم الفصل، أو عطف بيانٍ، (فَتَاتُونَ فْواجاً) من القبور إلى الموقف أمماً، كل أمّةٍ مع إمامهم. وقيل: جماعاتٍ مختلفة. وعن معاذٍ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، سألت عن أمرٍ عظيمٍ من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي: بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون: أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاةٌ على صدورهم: يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوعٍ من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير: فأهل السحت. وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوعٍ من نارٍ، فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، والميقات: الوقت المضروب للشيء، والوعد الذي جعل له وقت، قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}، وقد يقال: الميقات: للمكان الذي يجعل وقتاً للشيء، كميقات الحج"، وعن بعضهم: الميقات: علم للحد، كالميعاد: علم للوعد، والميلاد: علم وقت الولادة. قوله: (أرسل عينيه)، أي: أرسل دمع عينيه.

وقرئ: (وفُتِحَتْ)، والتخفيف بالتشديد. والمعنى: كثرة أبوابها المفتحة لنزول الملائكة، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله: (وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا) [القمر: 12]، كأن كلهاً عيون تتفجر. وقيل: الأبواب الطرق والمسالك، أي: تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء. (فَكَانَتْ سَرَابًا) كقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا) [الواقعة: 6]. يعني أنها تصير شيئاً كلا شيء، لتفرق أجزائها وانبثات جواهرها. [(إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا • لِلطَّاغِينَ مَآبًا • لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا • لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولا شَرَابًا • إلاَّ حَمِيمًا وغَسَّاقًا • جَزَاءً وفَاقًا • إنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا • وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا • وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا • فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلاَّ عَذَابًا) 21 - 30] المرصاد: الحد الذي يكون فيه الرصد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({وَفُتِحَتِ}، بالتخفيف والتشديد)، بالتخفيف: حمزة والكسائي وعاصم، والباقون: بالتشديد. وعن بعضهم {وَفُتِحَتِ} معطوف على {فَتَأْتُونَ}، وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس واقفاً على هذا النوع. وقلت: هما متوافقان معنى عند من تدرب في هذا النوع، فإن كلاً من المعطوفين يكتسب من معنى الآخر؛ فإن عطف الماضي على المضارع، الدلالة على أنهما واقعان البتة؛ لأن المخبر صادق، وكون المعطوف عليه مضارعاً، مشعر بأنهما حكايتان للحال الآتية، تصويراً لتينك الحالتين الفظيعنتين في مشاهدة السامع، كما في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] والله أعلم. قوله: (الرصد)، جمع راصد، وهم الحراس. الجوهري: "الرصد: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع".

والمعنى: أن جهنم هي حد الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم. أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها، لأن مجازهم عليها، وهي مآب للطاغين. وعن الحسن وقتادة نحوه، قالا: طريقاً وممراً لأهل الجنة. وقرأ ابن يعمر: (أن جهنم) بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، كأنه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء. قرئ: (لابِثِينَ) و (لَبِثين)، واللبث أقوى، لأن اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث؛ إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه، (أَحْقَابًا) حقباً بعد حقب، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها، والاشتقاق يشهد لذلك ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يرصدون فيه للعذاب)، الجوهري: "الراصد للشيء: الراقب له، والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدت له: أعددت له، والمرصاد: الطريق". قوله: (قُرئ: {لَّابِثِينَ} و "لبثين")، "لبثين": حمزة وحده، قال الزجاج: "لبث الرجل فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا، أي: صار اللبث شأنه". قال صاحب "الكشف": فيه جواز أن يقال: حذراً أموراً، ألا تراه قال: {لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}؟ ". قوله: (كلما مضى حُقب تبعه آخر)، قال صاحب "الكشف": ذكر {أَحْقَابًا} للكثرة لا لتحديد اللبث، ألا تراك تقول: لبثت فيها سنين وأعواماً، وأنت لا تريد أنك لم تقم غيرها؟ ". الراغب: " {أَحْقَابًا} قيل: جمع الحُقُب، أي: الدهر، والحِقبة: ثمانون عاماً، وجمعها حِقَب، والصحيح أن الحِقبة: مدة من الزمان مُبهمة، والاحتقاب: شد الحقيبة من خلف

ألا ترى إلى حقيبة الراكب، والحقب الذي وراء التصدير، وقيل: الحقب ثمانون سنة، ويجوز أن يراد: لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقا، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من: حقب عامنا؛ إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان: إذا أخطأه الرزق، فهو حقب، وجمعه أحقاب، فينتصب حالاً عنهم، يعني لابثين فيها حقيبين جحدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراكب، وقيل: احتقبه واستحقبه"، وقال غيره: {لَّابِثِينَ}: حال مقدرة، أي: عاملين اللبث معتقدين له، و {لَّا يَذُوقُونَ}: حال أخرى مُترادفة أو مُتداخلة، أو استئناف. قوله: (والحقب الذي وراء التصدير)، الجوهري: "الحقب، بالتحريك: حبل يُشد به الرَّحل إلى بطن البعير كيلا يجتذبه التصدير، وهو الحبل الذي يكون على الصدر". قوله: (أحقاباً: غير ذائقين)، قيل: على هذا قوله: {لَّا يَذُوقُونَ} حال من الضمير في {لَّابِثِينَ}، ولا يجوز أن يكون صفة {أَحْقَابًا}؛ لأنه جار على غير من هو له، فكان يجب إبراز الضمير. وعن بعضهم: {لَّابِثِينَ}: حال مقدرة، أي: عاملين اللبث مقدرين له، كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مُقدرين الخلود. قوله: (ثم يبدلون)، عطف من حيث المعنى على قوله: "لابثين" إلى آخره. والحاصل أنهم يُعذبون في تلك الأحقاب بالحميم والغساق، ثم يُعذبون بعد تلك الأحقاب بأنواع أُخر من العذاب. قال القاضي: "وإن كان من قبيل المفهوم يدل على التناهي، فلا يعارض المنطوق الدال على خُلود الكفار"، وفي هذا الاستثناء تهكم. قوله: (جحدين)، الجوهري: "الجحد، بفتح الجيم وضمها وسكون الحاء، وبفتح الجيم والحاء أيضاً: قلة الخبر، وجحد الرجل، بالكسر، جحداً فهو جحد: إذا كان ضيقاً قليل الخير".

وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولا شَرَابًا) تفسيراً له، والاستثناء منقطع، يعني: لا يذوقون فيها برداً وروحاً ينفس عنهم حر النار، ولا شراباً يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغساقاً وقيل: البرد: النوم، وأنشد: فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا وعن بعض للعرب: منع البرد البرد. وقرئ: (غساقاً) بالتخفيف والتشديد؛ وهو ما يغسق، أي: يسيل من صديدهم. (وفَاقًا) وصف بالمصدر، أو ذا وفاق. وقرأ أبو حيوة: (وفاقاً)، فعال من وفقه كذا. (كِذَّابًا) تكذيباً؛ و (فعال) في باب (فعل) كله فاش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سواكم) نزلها منزلة الجماعة تعظيماً لها واحتراماً، "نقاخاً": النَّقاح: الماء العذب. قوله: (وقُرئ: "غساقاً")، بالتشديد: حمزة وحفص والكسائي، والباقون: بالتخفيف. قوله: ({وِفَاقًا}: وصف بالمصدر)، أي: جزوا جزاءً وفاقاً في عمل. الراغب: "الوفق: المطابقة بين الشيئين، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}، يقال: وافقت فلاناً ووافقت الأمر: صادفته، والاتفاق: مطابقة فعل الإنسان القدر، ويقال ذلك في الخير والشر، والتوفيق نحوه لكنه مختص في التعارف بالخير دون الشر، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88] ". قوله: (و"فعال" في باب "فعَّل" كله فاش"، قال الزجاج: "و {كِذَّابًا} بالتشديد أكثر، وهي في مصادر فعلت أجود من: فعال، ومثل "كذاباً" بالتخفيف قول الأعشى: فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه" وقال ابن جني: "قال قُطُرب: قالوا: رجل كذاب: صاحب كذب".

في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره؛ وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال: لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرئ: بالتخفيف، وهو مصدر كذب، بدليل قوله: فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه وهو مثل قوله: (والله أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) [نوح: 17] يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً. أو تنصبه بكذبوا، لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر، فيبلغ فيه أقصى جهده. وقرئ: (كذاباً)، وهو جمع كاذب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو تنصبه بـ "كذبوا")، أي: يكون مفعولاً مطلقاً من غير تقدير، لكن يُجعل المثقل بمعنى المخفف بطريق اللزوم. قال أبو البقاء: " (كذاباً) بالتخفيف: مصدر "كذب" بالتشديد: إذا تكرر منه الكذب، وهو في المعنى قريب من: كذب". قوله: (أو تنصبه بـ "كذبوا")، أي: يكون مفعولاً مطلقاً من غير تقدير، لكن يجعل المثقل بمعنى المخفف بطريق اللزوم. قال أبو البقاء: " (كذاباً) بالتخفيف: مصدر "كذب" بالتشديد: إذا تكرر منه الكذب، وهو في المعنى قريب من: كذب". قوله: (وإن جعلته بمعنى المكاذبة)، أي: إن جعلت كذاباً من باب المفاعلة نحو: ماريته مراءً وقاتلته قتالاً، ثم المفاعلة إما على حقيقته وهو المراد من قوله: "فكاذبوا مُكاذبة"، وتفسيره أنهم كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مُكاذبة، وإما على المجاز والمبالغة، وهو المراد من قوله: أو كذبوا بها مُكاذبين، وتفسيره أنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، ففي الكلام لف ونشر. قوله: (فعل من يُغالب في أمر): مفعول مطلق لمعنى يتكلمون بما هو إفراط في الكذب. قوله: (وقُرئ: "كذاباً")، قال ابن جني: "قرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كُذَّاباً"

أي: كذبوا بآياتنا كاذبين؛ وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، وبخال؛ فيجعل صفة لمصدر كذبوا، أي: تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه، وقرأ أبو السمال: وكل شيء أحصيناه، بالرفع على الابتداء. (كِتَابًا) مصدر في موضع إحصاء، وأحصينا في معنى كتبنا، لالتقاء الإحصاء، والكتبة في معنى الضبط والتحصيل. أو يكون حالاً في معني: مكتوباً في اللوح وفي صحف الحفظة. والمعنى: إحصاء معاصيهم، كقوله: (أَحْصَاهُ الله ونَسُوهُ) [المجادلة: 6] وهو اعتراض. وقوله: (فَذُوقُوا) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، وهي آية في غاية الشدة، وناهيك بـ «لن نزيدكم»، وبدلالته على أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة. وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهداً على أن الغضب قد تبالغ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بضم الكاف وتشديد الذال؛ جمع كاذب، منصوب على الحال، أي: كذبوا بآياتنا في حال كذبهم، وقال طرفة: إذا جاء ما لا بد منه، فمرحباً به حين يأتي لا كذاب ولا علل وقد يجوز أن يكون وصفاً للمصدر، أي: كذبوا بآياتنا كذاباً كُذابا، أي: كِذاباً مُتناهياً في معناه، فكذاباً حينئذ واحد لا جمع كرجل حُسان ووضاء. ويجوز أن يكون جمع كذب؛ لأنه جعله نوعاً ووصفه بالكذب، أي: كذباً كاذباً، فصار كِذاباً كُذاباً، فافهم ذلك". قوله: (وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهداً على أن الغضب قد تبالغ)، وذلك أنه تعالى لما حكى مآب الطاغين واستمرار لبثهم في جهنم، وأن لا ذوق لهم فيها سوى الحميم والغساق، وعلل ذلك على سبيل الشِّكاية إلى الغير بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا}،

[(إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا • حَدَائِقَ وأَعْنَابًا • وكَوَاعِبَ أَتْرَابًا • وكَاسًا دِهَاقًا • لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا كِذَّابًا • جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) 31 - 36]. (مَفَازًا) فوزاً وظفراً بالبغية. أو موضع فوز. وقيل: نجاة مما فيه أولئك. أو موضع نجاة. وفسر المفاز بما بعده. «والحدائق»: البساتين فيها أنواع الشجر المثمر. و «الأعناب»: الكروم. و «الكواعب»: اللاتي فلكت ثدييهن، وهن النواهد. و «الأتراب»: اللدات. «الدهاق»: المترعة. وأدهق الحوض: ملأه حتى قال: قطني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: لا يخافون أن يُحاسبوا، كناية عن أنهم كانوا ينكرون البعث إنكاراً بليغاً، ثم عظم شأن تكذيبهم رسل الله ووحيه بصيغة التعظيم وأكده بقوله: كذاباً، التفت إليهم قائلاً: فذوقوا أيها الجاحدون المكذبون ذلكم الغساق والحميم، وليس لكم عندي سوى المزيد من أنواع العذاب، هذا كما تشكو إلى الناس جانباً، ثم تقبل عليهم إذا حميت في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ والذم وإلزام الحُجة. وأما فائدة الاعتراض بقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} فللإشعار بأن تكذيبهم البعث والرسل والكتب، إنما نشأ من اعتقادهم أنه تعالى لا يعلم جُزيئات أعمالهم وأعمال الرسل، فلا حساب ولا بعثة ولا كتاب. قوله: (فلكت ثُديهن)، الجوهري: "فلك ثدي الجارية تفليكاً، وتفلك: استدار". قوله: (والأتراب: اللدات)، الجوهري: "لدة الرجل: تربه، والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة". قوله: (حتى قال: قطني)، أنشد الزجاج: امتلأ الحوض وقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني قطك هذا الشيء، أي: حسبك، وقطني وقطي، وإنما دخلت النون ليسلم السكون الذي بُني الاسم عليه، وهذه النون إنما تدخل الفعل الماضي إذا دخلت ياء المتكلم، نحو: ضربني،

وقرئ: (ولا كِذَّابًا) بالتشديد والتخفيف، أي: لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكذبه. أو لا يكاذبه. وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ بتخفيف الاثنين (جَزَاءً) مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: (إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) كأنه قال: جازى المتقين بمفاز. و (عَطَاءً) نصب بـ (جَزَاءً) نصب المفعول به. أي: جزاهم عطاء. و (حِسَابًا) صفة بمعنى: كافياً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لتسلم فتحة الياء ولوقاية الفعل من الجر، وقد أدخلوها في أسماء مخصوصة نحو: قدني وقطني وعني ولَدُني، ولا يقاس عليها في الصحاح. قوله: (وقُرئ: {وَلَا كِذَّابًا} بالتشديد والتخفيف)، الكسائي: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد، قيل: ذكر للتشديد معنى، وللتخفيف معنيان، أحدهما: أن يكون مصدر "فعل"، وثانيهما: مصدر "فاعل". قوله: (بتخفيف الآيتين)، أي: بتخفيف: "كذبوا" و"كذابا"، وفي نسخة "الاثنين"، أي: {كِذَّابًا} في الآيتين. قوله: ({جَزَاءً}: مصدر مؤكد)، إلى قوله: ({عَطَاءً} نصب بـ ({جَزَاءً} نصب المفعول به). قال الزجاج: " ({جَزَاءً}: منصوب بمعنى ({إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}، أي: جازاهم بذلك جزاءً، وكذلك {عَطَاءً}؛ لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد". وبينه أبو البقاء حيث قال: {عَطَاءً}: اسم للمصدر، وهو بدل من {جَزَاءً}. وأورد صاحب "الفرائد" على ثول المصنف: المصدر إنما يعمل إذا كان مُنزلاً منزلة "أن" مع الفعل، والمنصوب على المصدر لم يكن واقعاً موقعه، وكذا في "اللباب"، قال: "ويعمل عمل فعله ماضياً كان أو غيره إذا لم يكن مفعولاً مطلقاً". وقال شارحه: "لأنه إذا كان مفعولاً نحو: ضربت ضرباً زيداً، فإن العمل للفعل لا للمصدر لوجهين، أحدهما: أن الفعل هو الأصل، فلا يُعدل عنه إلى الفرع بلا موجب، والثاني: أن المصدر إنما يعمل لكونه مصدراً

من: أحسبه الشيء؛ إذا كفاه حتى قال: حسبي. وقيل: على حسب أعمالهم. وقرأ ابن قطيب (حسابا) بالتشديد، على أن الحساب بمعنى المحسب، كالدراك بمعنى المدرك. [(رَبِّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا • يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقَالَ صَوَابًا • ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ مَآبًا) 37 - 39]. قرئ: (رب السموات) و (الرحمن) بالرفع، على: هو رب السموات الرحمن. أو (رب السموات) مبتدأ، و (الرحمن) صفة، و (لا يَمْلِكُونَ): خبر، أو هما خبران. وبالجر على البدل من (رَبِّكَ)، وبجر الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره (لا يَمْلِكُونَ)، أو هو الرحمن لا يملكون، والضمير في (لا يَمْلِكُونَ) لأهل السماوات والأرض، أي: ليس في أيديهم مما يخاطب به الله ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى "أن" والفعل نحو: أعجبني ضرب زيد عمراً، أي: أن ضرب زيد عمراً، ولا يمكن إذا وقع مفعولاً مطلقاً ذلك، إذ لا يقال: ضربت أن ضرب زيد عمراً، إذ لا يؤكد الفعل بأن بل بالمصدر صريحاً، وإنما يُقدر بالمصدر بـ "أن" والفعل؛ لأن الاسم حقه أن لا يعمل، وأصل العمل للفعل"، والعجب أن الشارح تبع صاحب "الكشاف" في التقريب مع قوله هذا. قوله: (حتى قال: حسبي)، في "الكواشي": أعطاني فأحسبني، أي: أكثر عليّ، أي: أكثر عليَّ حتى قلت: حسبي. قوله: (قُرئ: "رب السماوات" و "الرحمن" بالرفع)، الكوفيون وابن عامر: {رَّبِّ} بالخفض، وعاصم وابن عامر: {وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} بالخفض أيضاً، والباقون: برفع الاسمين. قوله: (ليس في أيديهم مما يُخاطب به الله) إلى قوله: (خطابٌ واحد)، يريد أن التنكير في {خِطَابًا} للتقليل، ومن: بيان، والظرف: حال من {خِطَابًا}. المعنى: ليس في أيديهم خطابٌ كائنٌ من عند الله في أمر الشفاعة قط، أي: ليس لهم ممسك ونص يتصرفون به في أمر الشفاعة.

يتصرفون فيه تصرف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب، إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه. (يَوْمَ يَقُومُ) متعلق بلا يملكون، أو بلا يتكلمون. والمعنى: إن الذين هم أفضل الخلائق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه، وهم الروح والملائكة لا يملكون التكلم بين يديه، فما ظنك بمن عداهم من أهل السماوات والأرض؟ والروح: أعظم خلقاً من الملائكة، وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين. وقيل: هو ملك عظيم ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه. وقيل: ليسوا بالملائكة، وهم يأكلون. وقيل: جبريل. هما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذونا له في الكلام. وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى، لقوله تعالى (ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28]. [(إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) 40]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو لا يملكون أن يخاطبوه)، فالتنكير على هذا للنوع؛ ولأن قوله: "أن يُخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب" عبارة عن الشفاعة، ومن: ابتدائية صلة " لا يملكون"، أي: لا يقدرون أن يُخاطبوا الله في الشفاعة، إذ ليس لهم من جهته إذنٌ فيها. روى الواحدي عن مقاتل: "المعنى: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه". قوله: (فلا يشفع لغير مرتضى)، الانتصاف: هو تعريض أن الشفاعة لا تكون لأرباب الكبائر. والجواب أن المؤمنين مُرتضون، لقوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فجعل الشكر بمعنى الإيمان المقابل للكفر. وقلت: المرتضى هاهنا كالمصطفى في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِي} [فاطر: 32]. وقال الإمام: فإن قيل لما أذن له الرحمن في التكلم، علم أنه حق وصواب، فما الفائدة في قوله: {وَقَالَ صَوَابًا}؟ الجواب من وجهين، أحدهما: أن التقدير: لا ينطقون إلا بعد

(المَرْءُ) هو الكافر لقوله تعالى: (إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)، والكافر: ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم، ويعني (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من الشر، كقوله: (وذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ • ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [الأنفال: 50 - 51]، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ • ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) [الحج: 9 - 10]، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة: 95]، و (ما) يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدمت، أي ينظر أي شيء قدمت يداه، وموصولة منصوبة بـ «ينظر»، يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه، والراجع من الصلة محذوف، وقيل: المرء عام، وخصص منه الكافر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورود الإذن ثم يجتهدون في أن لا يتكلموا إلا بالحق والصواب، هذا مبالغة في وصفهم بالطاعة، وثانيهما: أن التقدير: لا يتكلمون إلا في شخص أذن له الرحمن في شفاعته، والمشفوع له ممن قال صواباً، وهو قول من قال: لا إله إلا الله؛ لأن قوله: {صَوَابًا} يكفي في صدقه أن يتكلم بالصواب الواحد، فكيف بمن تكلم طول عمره بأشرف الكلمات؟ . قوله: (وخُصِّص منه الكافر)، يحتمل وجهين، أحدهما: أن المرء عام وخصص منه الكافر بقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ}، أو عام متناول للمؤمن والكافر، وخصص منه بالذكر الكافر، وعلى هذا الاحتمال ورد عن الواحدي ومحيي السنة قالا: "ومعنى {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أن كل واحد يرى عمله في ذلك اليوم، ما قدم من خير وشر مُثبتاً عليه في صحيفته، فيرجو ثواب الله لى صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله". وقلت: النظم يساعد العموم، وذلك أنه تعالى ذكر في فاتحة هذه السورة، أن الميقات المضروب هو يوم الفصل، ووصف اليوم بصفات متعددة، ومن أوصافه قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (لِّلطَّاغِينَ مَ‍آبًا} وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}. ولما فرغ من بيان جزاء الفريقين، أراد أن يرجع إلى ذكر ذلك اليوم ويصفه بصفات أخرى، فجعل التخلص إلى ذكرها إبدال رب السموات

وعن قتادة: هو المؤمن. (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) في الدنيا؛ فلم أخلق ولم أكلف. أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من ربك، ووصف ذاته بالجبروت والكبرياء، وأن أحداً لا يملك منه خطاباً، وجعله ذريعة إلى ذكر اليوم، وأن الملائكة والروح لا يشفعون فيه للمرتضى إلا بالإذن، ثم ذكر أنه يوم الحق، أي الكائن الواقع، أو يحكم الله فيه بين عباده بالحق، كقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} [الزمر: 69]، وهذا أولى لما سبق من ذكر المتقين والطاغين، وبيان مفاز أولئك ومآب هؤلاء، ولذلك رتب عليه قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]، أي: بينا السبيلين للفريقين، فمن سلك سبيل المتقين واتخذ إلى ربه مآبا، فاز وأفلح، ومن اختار سبيل الطاغين خاب وخسر، فقد أزحنا العلل لأنا أنذرناكم عذاباً قريباً، وجعل تخلصاً إلى ذكر الاختتام بما افتتحت السورة به؛ لأن الظرف صفة لـ "عذاباً"، أي: أنذرناكم عذاباً كائناً هذا شأنه، وهو "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه"، مثله في الاختتام: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. وقال الإمام: "الأظهر أن المرء عام؛ لن المكلف إن اتقى الله فليس له إلا الثواب، وإن كفر بالله فليس له إلا العذاب، فلا حال للمكلفين حينئذ سوى هذين؛ فطوبى له إن قدم عمل الأبرار، وويل له إن قدم عمل الفجار". فإن قلت: لم خص قول الكافرين دون المؤمنين؟ قلت: دل قول الكافرين على غاية الخيبة ونهاية التحسر، ودل حذف قول المؤمن على غاية التبجح ونهاية الفرح مما لا يحيط به الوصف. قوله: (وعن قتادة: هو المؤمن)، قال الامام: "دل عليه قول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، فلما كان هذا بياناً لحال الكافر وجب أن يكون بياناً لحال المؤمن".

وقيل: يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء، ثم يردّه تراباً، فيود الكافر حاله وقيل: الكافر إبليس، يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف: 12]. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، سقاه الله برد الشراب يوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى يقتص للجماء من القرناء)، روينا عن مسلم والترمذي، عن أبي هريرة، في قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] قال: قال النبي? : "لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". الجلحاء: التي لا قرن لها. تمت السورة * ... * ... *

سورة النازعات

سورة النازعات مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا • والنَّاشِطَاتِ نَشْطًا • والسَّابِحَاتِ سَبْحًا • فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا • فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا • يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ • تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ • قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ • أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ • يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحَافِرَةِ • أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً • قَالُوا تِلْكَ إذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ • فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ • فَإذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) 1 - 14] أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النازعات مكية، وهي خمسٌ وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (التي تنزع الأرواح من الأجساد)، الراغب: "نزع الشيء: جذبه عن مقره، كنزع القوس عن كبده، ويُستعمل ذلك في الأعراض، ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب، ونزع فلان كذا، أي: سُلِبَ، ، قال تعالى: {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. والتنازع والمنازعة: المجاذبة، ويعبر بهما عن المخاصمة والمجادلة، قال تعالى: {تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ

وبالطوائف التي تنشطها؛ أي: تخرجها؛ من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي: تسرع فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم (غَرْقًا) إغراقاً في النزع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. والنزع عن الشيء: الكف عنه، والنزوع: الاشتياق، وذلك هو المعبر عنه بارتحال النفس مع الحبيب". قوله: (تنشطها؛ أي: تُخرجها، من: نشط الدلو من البئر)، الأساس: "بئر أنشاط: يخرج دلوها بجذبة واحدة"، وفي "الصحاح": "نشط الدلو من البئر: نزعها من غير بكرة". قال محيي السنة: "الناشطات: الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي: تحل حلاً رفيقاً فتقبضها كما ينشط العقال من البعير، أي: يُحل برفق". حكى هذا القول الفراء ثم قال: "والذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت العِقال: إذا حللته، ونشطته: إذا عقدته بأنشوطة"، وفي الحديث: "كأنما نُشط من عقال". قال الإمام: "وهي الملاكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها. فالمناسب أن يخصص هذا بالمؤمن، والأول بالكافر، لما بين النزع والنشط من الفرق، فإن النزع: جذب بشدة، والنشط: جذب برفق ولين". قوله: (كما رسم لهم)، الجوهري: "رسمت له كذا فارتسمته، أي: امتثلته". قوله: ({غَرْقًا} إغراقاً في النزع)، قيل: {غَرْقًا}: اسم موضوع للإغراق، كالسلام للتسليم. وعن بعضهم: الإغراق نوع من النزع، والنزع جنس. الأساس: "ومن المجاز: أغرق

أي: تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها، أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزغ في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها؛ لأنها عراب. والتي تخرج من دار الإسلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرامي النزع، ومنه الإغراق في القول وغيره، وهو المبالغة والإطناب، وأغرق الكأس: ملأها"، وإلى المبالغة أشار بقوله: "ينزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها"، أي: موضع أظفارها. قوله: (نزعاً تغرق فيه الأعنة)، الأساس: نزع الدلو من البئر، ونزع في قوسه، والخيل تنزع في أعنتها، قال: والخيل تنزع غرقاً في أعنتها كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البر الشؤبوب: الدفعة من المطر وغيره، وجمعه: الشايب، وفي "في أعنتها" مثلها في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاب: 15]؛ جعل النزه بمنزلة اللازم، ثم عداه بـ "في" مبالغة، تنبيهاً على أن الأعنة: مكان وظرف للنزع، وبهذا الاعتبار كان غرقاً: مفعولاً مطلقاً بمعنى نزعاً تغرق فيه الأعنة، قال أبو البقاء: "غرقاً: مصدر على المعنى؛ لأن النازع هو المغرق في نزع السهم، وهو مصدر محذوف الزيادة، أي: إغراقاً".

إلى دار الحرب؛ من قولك: (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها؛ لأنها من أسبابه. أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب. وإغراقها في النزع: أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (حتى تنحط في أقصى الغرب)، الأساس: "ومن المجاز: ناقة حطوط: سريعة السير، وحطت في سيرها وانحطت، وحط في عرض فلان: إذا اندفع في شتمه وانحط فيه". قوله: (والتي تخرج من برج إلى برج)، وهو تفسير لقوله: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا}، وهو مأخوذ من قوله: ثور ناشط: إذا خرج من بلد إلى بلد. قال الإمام: "دل قوله: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} على حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة، وهو مناسب؛ لأن حركاتها اليومية قسرية، فيناسب النزع، وحركاتها من برج إلى برج إرادية، فيناسب النشط". وقلت: فمدخول الفاء في {فَالسَّابِقَاتِ} مسبب عن كونها سابحات، وفي {فَالْمُدَبِّرَاتِ} عن كونها سابقات؛ لأن السبح في الفلك: لما كان سيراً مخصوصاً، والسيارة معلومة الاختلاف في السير بتقدير العزيز العليم، فيحصل وجود سير بطيء وآخ سريع، وذلك هو السبق، وبحسب السبق يتفاوت التدبير، فمن سير الشمس يعلم حساب السنة، وتحصل الفصول الأربعة، ومن سير القمر يعلم حساب الشهر والأيام، وهو المراد من قوله: "وتدبر أمراً من علم الحساب"، والوجوه رواها محيي السنة في "المعالم"، وليس في كلامه أن المدبرات هي النجوم. وقال الزجاج: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}: النجوم، إلى قوله: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}: الملائكة. وقال الإمام: "اعلم أن الوجوه المنقولة من المفسرين، ليست نصاً عن سيد المرسلين صلوات الله عليه حتى لا يمكن الزيادة عليها، وما ذكروها إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها،

في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فنحن إن وجدنا بين المعاني مفهوماً مشتركاً، حملنا اللفظ على ما يندرج تحته، ولكن لا نقول: إن مراد الله على هذا الجزم، فيمكن حمل هذه الآيات على المراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله إلى الله، أقسم بالأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة والوثقى، وتنزع غرقاً من تعلق هذا الأدنى، ثم تنشط وتأخذ في السلوك في الأحوال والمقامات إلى مستقره الأصلي: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28]، ثم تسبح في بحار الصفات، فتمحو فيها من صفاتها وتفنى في التوحيد، ثم تسبق بعد الفناء إلى البقاء بالله، ثم تعزم على الرجوع إلى تكميل الغير، فتُدبر أمر الدعوة، إلى الله". وقال القاضي: "هذه صفات النفوس وحال سلوكها، فإنها تنزع من الشهوات، فتنشط إلى عالم القُدس، فتسبح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المُكملات". قوله: (فتدبر أمراً من علم الحساب)، مقتبس من قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، وإبطال لزعيم المنجمين أنها مدبرة لهذا العالم بالكون والفساد، ويعضده ما روى البخاري، عن قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأولها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم". وزاد رزين: "وما علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة". وعن الربيع مثله، وزاد: والله، ما جعل الله في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب ويتعللون بالنجوم. ذكره صاحب "جامع الأصول". واعلم أن الشيخ أبا القاسم عبد الكريم بن هوزان القُشيري رحمه الله، عقد باباً في كتابه المسمى بـ "مفاتيح الحجج" في إبطال مذاهب المنجمين وأطنب فيه، وذكر أقوالهم، قال: "وأقربها

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول من قال: هذه الحوادث يحدثها الله تعالى ابتداء بقدرته واختياره، ولكن أجرى العادة بأنه إنما يخلقها عند كون هذه الكواكب في البروج المخصوصة، وتختلف باختلاف سيرها واتصالها ومطارح أشعتها، على جهة العادة من الله سبحانه وتعالى، كما أجرى العادة بخلق الولد عقيب الوطء، وخلق الشبع عقيب الطعام، ثم قال: هذا في القدرة جائز لكن ليس عليه دليل ولا إلى القطع سبيل؛ لأن ما كان على جهة العادة يجب أن يكون الطريق فيه مستمراً، وأقل ما فيه يحصل التكرار، وعندهم لا يحصل وقت في العالم مكرر على وجه واحد؛ لأن إذا كان في سنة الشمس مثلاً في درجة من برج، فإذا عادت إليها في السنة الأخرى، فالكواكب لا يتفق كونها في بروجها كما كانت في السنة الماضية، والأحكام تختلف بالقرانات والمقابلات ونظر الكواكب بعضها إلى بعض، فلا يحصل شيء من ذلك مكرراً. واتفقوا على أنه لا سبيل إلى الوقوف على الأحكام، ولا يجوز القطع على البت لتعذر الإحاطة بها على التفصيل. ومما يدل على أنه لا حجة في قولهم أنهم اختلفوا فيما بينهم في حكم الزَّنج، فلأهل السند والهند عن طريق تخالف طريق أرباب الزَّنج الممتحن". وفصل الشيخ في الاختلافات بينهم تفصيلاً ثم قال: "ومما يدل على فساد قولهم أن يقال لهم: أخبرونا عن مولودين ولدا في وقت واحد، ليس يجب تساويهما في كل وجه، لا تميز بينهما في الصورة والقد والمنظر، وحتى لا تصيب أحدهما نكبة إلا أصاب الآخر، وحتى لا يفعل هذا شيئاً إلا والآخر يفعل مثله، وليس في العالم اثنان هذه صفتهما؟ قالوا: ومن المحال أن يوجد مولودان في العالم في وقت واحد، ولا بد أن يتقدم أحدهما على الآخر، فيقال: أمحال ذلك في العقل والتدبير أم في الوجود؟ فإن قالوا بالأول: بان فساد قولهم، وإن قالوا بالثاني، قيل: وما يؤمنكم منه؟ فإن قالوا: ليس أمر الكسوفين بصدق، قلنا: ليس أمر الكسوفين من الأحكام، وإنما هو من طريق الحساب، وذلك غير منكر، ويجوز أن يكون أمر سير الكواكب على ما قالوه. وقد ورد في الشريعة في أمر الكسوفين

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بأنه آية من آيات الله تعالى. فإن قالوا: فما قولكم في المنجمين أنهم مخطئون في جميع ما يحكمون مكابرون للعقول؟ قلنا: إنا نقول: إنهم مخطئون في أصولهم عن شبه وقعت لهم، فلا يعرفون بطلان قولهم مكابرة للعقول، ولا بالضرورة، بل جربوا على مقتضى قواعد بنوها على أصول فاسدة وقعت الشبه لسلفهم في أصول قواعدهم، فربما يصيبون في تركيب الفروع على تلك الأصول، فمنزلتهم في الأحكام كمنزلة أصحاب الحدس والتخمين، وأصحاب الزوج والفرد، فربما يصيبون اتفاقاً لا عن ضرورة، وربما يخطئون. وكثيراً ما نجد من الحراثين والملاحين، يعتبرون نوع ما اعتادوا من توقع المطر وهبوب الرياح في أوقات راعوها بدلالات ادعوا أنهم جربوها في السماء والهواء وغير ذلك، فتحصل بعض أحكامهم اتفاقاً لا تحقيقاً". وقلت: ومنه ما روى ابن جني في "المحتسب"، أن ابنة معفر بن حماد البارقي شامت برقاً فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها عين جمل طريف، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت ملياً ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت ملياً، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: سطحت وابيضت، فقال: أدخلي غنيماتك، فجاءت السماء بشيء شطأ له الزرع. والشطء: فراخ الزرع. وصنف ابن دريد كتاباً في هذا المعنى وفيه هذه القصة، وروايته: كان أعرابي ضرير تقوده ابنته وهي ترعى غنيمات لها، فرأت سحاباً فقالت: يا أبه، إلخ، وفيه: قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قلت لأعرابي: ما أسح الغيث؟ فقال: ما لقحته الجنوب ومرته

وقيل: النازعات أيدي الغزاة، أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام، والتي تنشط الأوهاق والمقسم عليه محذوف، وهو (لتبعثن) لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة. و (يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بهذا المضمر. و (الرَّاجِفَةُ) الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى: وصفت بما يحدث بحدوثها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصبا ونتجته الشمال، ثم قال: أهلك والليل، وما نرى إلا أنه قد أخذه المطر. ولنختم الكلام بما روينا عن أبي داود، عن ابن عباس، أن رسول الله? قال: "من اقتبس باباً من علم النجوم لغير ما ذكر الله، فقد اقتبس شُعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر"، وفي رواية: "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد". أخرج الثانية الإمام أحمد وأبو داود، والأولى ذكرها رزين. قوله: (الأوهاق)، الجوهري: "الوهق بالتحريك: حبل كالطول، وقد يسكن نحو: نهر". وقوله: والتي تنشط، معناه أيدي الغزاة التي تنشط، وأنفسهم التي تنشط، أي: تعقد الحبل الذي يطول للخيل ترعى فيه. قوله: (وُصفت بما يحدث بحدوثها)، أي: أسند {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} وهو يحدث بحدوثها، فالإسناد مجازي نحو: جد جده، والأصل، ترجف الأرض بسبب حدوث الراجفة، أي: الواقعة الهائلة، فأُسند إلى السبب مبالغة. قال في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 5 - 6]: "مفعول به، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِي} [فاطر: 2] "، عبر عن النسبة وعن التعلق بالوصف.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية. ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [النمل: 72]، أي: القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها، وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل (الرَّاجِفَةُ) الأرض والجبال، من قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبَالُ) [المزمل: 14] و «الرادفة»: السماء والكواكب، لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك. فإن قلت: ما محل تتبعها؟ قلت: الحال، أي: ترجف تابعتها الرادفة. فإن قلت: كيف جعلت (يَوْمَ تَرْجُفُ) ظرفاً للمضمر الذي هو لتبعثن، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ قلت: المعنى لتبعثنّ في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى. ودل على ذلك أن قوله: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) جعل حالاً عن الراجفة. ويجوز أن ينتصب (يَوْمَ تَرْجُفُ) بما دل عليه (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي: يوم ترجف وجفت القلوب (واجِفَةٌ) شديدة الاضطراب، والوجيب والوجيف: أخوان. (خَاشِعَةٌ) ذليلة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: ترجف تابعتها الرادفة)، تابعتها، بنصب التاء وضمها في الرادفة، وهي فاعل "تابعتها"، والإضافة غير محضة، والأصل: تابعة لها الرادفة، أي: ترجف الأرض والجبال، أي حال كون السماء والكواكب تابعتها في الانشقاق والانتثار، وهي الرادفة، وأما تقديره على الوجه الأول فأن يقال: يوم تحدث الحادثة الكبرى، أي: النفخة الأولى حال كون الفنخة الثانية تابعتها، وهي الرادفة. قوله: (ودل على ذلك)، أي: على أن المراد باليوم: الوقت الواسع الذي فيه النفختان، أن فعل الراجفة مقيد بفعل النفخة الثانية.

فإن قلت: كيف جاز الابتداء بالنكرة؟ قلت: (قُلُوبٌ) مرفوعة بالابتداء، و (واجِفَةٌ) صفتها، و (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) خبرها فهو كقوله: (ولَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ) [البقرة: 221]. فإن قلت: كيف صح إضافة الأبصار إلى القلوب؟ قلت: معناه أبصار أصحابها، بدليل قوله: (يَقُولُونَ) (فِي الحَافِرَةِ) في الحالة الأولى، يعنون: الحياة بعد الموت. فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت: يقال: رجع فلان في حافرته، أي: في طريقه التي جاء فيها فحفرها، أي: أثر فيها بمشيه فيها: جعل أثر قدميه حفراً، كما قيل: حفرت أسنانه حفراً: إذا أثر الآكال في أسناخها. والخط المحفور في الصخر. وقيل: حافرة، كما قيل: عيشة راضية، أي: منسوبة إلى الحفر والرضا، أو كقولهم: نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: طريقته وحالته الأولى .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({قُلُوبٌ} مرفوعة بالابتداء، و {وَاجِفَةٌ} صفتها)، وعن بعضهم: لا يجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} صفة مخصصة للقلوب؛ لأنه جُثة، كما لا يجوز أن يكون خبراً عن الجثة. قوله: (في أسناخها)، الجوهري: "أسناخ الأسنان: أصولها". قال ابن جني: "قالوا: حُفِرَتْ أسناخها: إذا ركبها الوسخ من ظاهرها ومن باطنها". قوله: (والخط المحفور)، عطف على "حُفِرَتْ أسنانه". قوله: (وقيل: حافرة، كما قيل: عيشة راضية)، رد إلى قوله: "رجع فلان في حافرته، أي: في طريقته"، أي: قيل: حافرة، وأريد طريقة منسوبة إلى الحفر، أو طريقة حافرة، أي: صاحبها حافر مؤثر في طريقته، فأسند إليها مجازاً.

قال: أحافرة على صلع وشيب؟ ... معاذ الله من سفه وعار يريد: أرجوعاً إلى حافرة. وقيل: النقد عند الحافرة، يريدون عند الحالة الأولى: وهي الصفقة. وقرأ أبو حيوة (في الحفرة) والحفرة بمعنى: المحفورة. يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفراً، وهي حفرة؛ وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفورة. يقال: (نخر) العظم فهو نخر وناخر، كقولك طمع فهو طمع وطامع؛ وفعل أبلغ من فاعل؛ وقد قرئ بهما: وهو البالي الأجوف الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أحافرة على صلع) البيت، أي: ارجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت؟ ثم قال: معاذ الله، هذا سفه طائر وعار شديد. قوله: (النقد عند الحافرة)، روى الميداني عن ابن الأنباري: قال ثعلب: "معناه: النقد عند السبق، وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن، والحافرة: الأرض التي حفرها الفرس بقوائمه، فاعلة بمعنى مفعولة، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: النقد عند الحافر معناه عند حافر الفرس، وأصل المثل في الخيل ثم استعمل في غيرها، وقال غيره: النقد عند الحافرة معناه: عند أول كلمة، يقال: رجع فلان في حافرته أي: في أول الأمر"، الراغب: النقد عن الحافرة: يقال لما يُباع نقداً، وأصله في الفرس فيقال: لا يزول حافره أو ينقد ثمنه". قوله: (وقد قُرئ بهما)، أيو بكر وحمزة والكسائي: "ناخرة" بالألف، والباقون: بغير

و (إِذاً) منصوب بمحذوف، تقديره: أئذا كنا عظاماً نرد ونبعث (كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها. والمعنى: أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم. فإن قلت: بم تعلق قوله: (فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ)؟ قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها، فإنما هي زجرة واحدة؛ يعني: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل، فإنها سهلة هينة في قدرته، ما هي إلا صيحة واحدة، يريد النفخة الثانية. (فَإذَا هُم) أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في جوفها؛ من قولهم: زجر البعير، إذا صاح عليه. و (بِالسَّاهِرَةِ): الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجرى فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية الماء، وفي ضدها: نائمة. قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحى السراب مجللاً ... لأقطارها قد جبتها متلثما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ألف. قال الزجاج: " (ناخرة) أجود وأكثر شبهاً للفواصل، و {نَّخِرَةً} جيد أيضاً، يقال: نخر العظم ينخر فهو نخر، مثل: عفن يعفن فهو عَفِن، و"ناخرة" معناه: عظاماً يجيء فيها من هبوب الرياح كالنخير، ويجوز ناخرة نحو: بليت العظام [فهي] بالية". قوله: ({كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}: منسوبة إلى الخُسران)، قيل: كرة: خبر لـ {تِلْكَ}، وهو مبين لاسم الاشارة كما ان الصفة مبينة، ولا بد في الترجمة من ذكر الصفة، المعنى: تلك الكرة كرة خاسرة. قوله: (فإنها سهلة هينة في قدرته)، الانتصاف: "ما أحسن تسهيل أمر الإعادة بقوله: {زَجْرَةٌ} فهي أخف من صيحة، وبقوله: {وَاحِدَةٌ} أي: غير محتاجة إلى مثنوية". قوله: (وساهرة يُضحى السراب) البيت، مجللاً: مُعطياً وساتراً، لأقطارها: لجوانبها،

أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة. وعن قتادة: فإذا هم في جهنم: [(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى • إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى • اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى • فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى • وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى • فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى • فَكَذَّبَ وعَصَى • ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى • فَحَشَرَ فَنَادَى • فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخِرَةِ والأُولَى • إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) 15 - 26] (اذْهَبْ) على إرادة القول. وفي قراءة عبد الله: (أن اذهب)؛ لأن في النداء معنى القول: هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا؛ كما تقول: هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قطعتها متلثماً: مشدداً للثام من خوف هبوب السموم والحر القاتل. وقيل: متلثماً: واطئاً الأرض بخف البعير. قوله: (هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟ )، قال ابن جني: "متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيراً ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه، فيعدل في الاستعمال إليه، ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أجذبك إلى كذا، أو أدعوك إليه، قال: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى}، وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، في معنى الإفضاء إلى نسائكم؛ لا يقال: رفثت إلى المرأة، وإنما: رفثت بها، ومعها، لكنه لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بـ "إلى"، وهذا من أسد مذاهب العربية؛ لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه". وقلت: الظاهر أن هذا ليس من باب التضمين، بل من باب المجاز والقرينة الجادة. وقال صاحب "الكشف": هل لك في كذا؟ محمول على: أدعوك، فكأنه قال أدعوك إلى التزكي فهل ترغب فيه؟ وقال الواحدي: المبتدأ محذوف، أي: هل لك إلى أن تزكى

(إلَى أَن تَزَكَّى) إلى أن تتطهر من الشرك، وقرأ أهل المدينة: (تزكى)، بالإدغام (وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ) وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه، (فَتَخْشَى) لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال الله تعالى: (إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر: 28] أي العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله: أتى منه كل خير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حاجة أو أرب؟ وعن بعضهم: يقال: هل لك في كذا؟ فتقول في الجواب: أشد الهل وأوحي، أي: أسرع. قوله: (وقرأ أهل المدينة: "تزكى")، الحرميان: "أن تزكى" بتشديد الزاي، والباقون: بتخفيفها. قوله: (لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة)، روى السلمي عن ابن عطاءٍ: الخشية أتم من الخوف؛ لأنها صفة العلماء، لقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} [فاطر: 28]. وعن الواسطي: "أوائل العلم الخشية، ثم الإجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء". وعن بعضهم: من خاف مقام ربه علم قيام الله بأسبابه في دار الدنيا، وخاف من وقوفه في القيامة بين يديه، وقال: من تحقق الخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له الأمن من خوفه. وروى عن بزرجمهر: اعرفوا الله، فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفة عين. قوله: (لأنها ملاك الأمر)، الأساس: ومن المجاز: هدأ ملاك الأمر، أي: قوامه وما يملك به، والقلب ملاك الجسد، وركب ملاك الطريق: وسطه.

ومن أمن: اجترأ على كل شر. ومنه قوله عليه السلام: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل». بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا) [طه: 44]، (الآيَةَ الكُبْرَى) قلب العصا حية؛ لأنها كانت المقدمة والأصل، والأخرى كالتبع لها، لأنه كان يتقيها بيده، فقيل له: أدخل يدك في جيبك، أو أرادهما جميعاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من خاف أَدْلَجَ)، الحديث من رواية الترمذي، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله? يقول: "من خاف أَدْلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية"، النهاية: "الإدلاج مخففاً: السير من أول الليل، ومثقلاً: السير من آخره"، والمراد ها هنا: التشمير في أول الليل، فإن من سار من أول الليل كان جديراً ببلوغ المنزل، والسلعة: المتاع. قوله: (أو أرادهما جميعاً)، يريد: أن الآية الكبرى هي قلب العصا حية، فالصغرى يراد بها اليد البيضاء لأنها متمِّمة لها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما قصد أن تبقى الحية بيده قيل له: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه: 22] سبق بيانه في "القصص". أو أن كلتيهما آية واحدة لتلك العلة، والصغرى غيرهما. قال بعضهم: قوله: {فَأَرَاهُ الْأيَةَ الْكُبْرَى} معطوف على فعل محذوف، يد عليه قوله: {اذْهَبْ}، أي: فذهب فأراه؛ لأنه إذا كان الآمر هو الله تعالى والمأمور موسى، وجد الفور، وهذا مما يعضد

إلا أنه جعلهما واحدة؛ لأن الثانية كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها. (فَكَذَّبَ) بموسى والآية الكبرى، وسماهما ساحراً وسحراً (وعَصَى) الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر، وأن الطاعة قد وجبت عليه. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) أي: لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً، يسعى: يسرع في مشيته. قال الحسن: كان رجلاً طياشاً خفيفاً. أو تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته، وأريد: ثم أقبل يسعى، كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا، بمعنى: أنشأ يفعل، فوضع (أَدْبَرَ) موضع: أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال. (فَحَشَرَ) فجمع السحرة، كقوله (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ) [الشعراء: 53]. (فَنَادَى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر منادياً في الناس بذلك. وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك العظيمة. وعن ابن عباس: كلمته الأولى: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38] والآخرة: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات: 24]. (نَكَالَ) هو مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله؛ كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مذهب أبي حنيفة رحمة الله، أن الأمر للفور، ونظيره قوله تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ} [الأعراف: 160]، وأنشد للمتنبي: إن تدع يا سيف لتستعينه يُجبك قبل أن تتم سينه قوله: (فوضع {أَدْبَرَ} موضع "أقبل"؟ )، الانتصاف: "وهو وجه حسن، وأدبر على هذا من أفعال المقاربة". وقلت: ويمكن أن يقال: إن {أَدْبَرَ} استعير لأقبل على التلميحية؛ لأن سعيه كان دابراً عليه.

يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. وعن ابن عباس: نكال كلمتيه: الآخرة وهي قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، والأولى وهي قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]، وقيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة، وقيل عشرون. [(أَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا • رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا • وأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا • والأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا • أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومَرْعَاهَا • والْجِبَالَ أَرْسَاهَا • مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) 27 - 33] الخطاب لمنكري البعث، يعنى: (أَنتُمْ) أصعب (خَلْقًا) وإنشاء (أَمِ السَّمَاءُ) ثم بين كيف خلقها فقال: (بَنَاهَا) ثم بين البناء فقال: (رَفَعَ سَمْكَهَا) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة)، فيكون التقدير: أخذه الله نكال الدار الآخرة ونكال الدار الأولى، أو التقدير: أخذه الله نكال الكلمة الآخرة ونكال الكلمة الأولى، وفي تقدير المصنف تكرير؛ لأنه كرر الرواية عن ابن عباس. قوله: (الخطاب لمنكري البعث)، إشارة إلة أن قوله: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} مردود إلى فاتحة السورة، وذلك أنه تعالى أقسم على إثبات الحشر بما أقسم وبالغ فيه، وكان خطاباً لمنكري البعث، ومن ثم قُدر جواب القسم: "لتبعثن" لقرينه قوله: {أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} إنكاراً، وقولهم: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} استهزاءً، وأجابهم الله بقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}، أي: لا تستصعبوها فإنما هي سهلة هينة في قدرته، بين السهولة بقوله: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا}، وحين كان الجواب تسلياً لرسول الله? من استهزائهم، وتهديداً للكافرين لإنكارهم، أوقع قصة موسى وفرعون مجملاً في البين ومزيداً للتهديد، ومن ثم وُسطت القصة بحديث الخشية، حيث قيل: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وختمت به قائلاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}. قوله: (ثم بين كيف خلقها فقال: {بَنَاهَا})، أي: استئناف على سبيل البيان، قال الكسائي

أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمس مئة عام (فَسَوَّاهَا) فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور. أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها، من قولك: سوى فلان أمر فلان. غطش الليل وأغطشه الله، كقولك: ظلم وأظلمه. ويقال أيضاً: أغطش الليل، كما يقال أظلم (وأَخْرَجَ ضُحَاهَا) وأبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وضُحَاهَا) [الشمس: 1] يريد وضوئها. وقولهم: وقت الضحى، للوقت الذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها؛ وأضيف الليل والشمس إلى السماء، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفراء: تم الكلام عند قوله: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ}، وابتدأ من قوله: {بَنَاهَا}، الكواشي: {أَمِ السَّمَاءُ} مبتدأ محذوف الخبر، أي: أم السماء أشد؟ وعنده وقف تام إن استأنفت ولم تنصب {بَنَاهَا} تكون "أم" متصلة، وإذا وصل تكون منقطعة، ويكون في الكلام ترق من الأهون إلى الأغلظ. قوله: (أو فتممها بما علم أنها تتم به)، فعلى الأول: التسوية عبارة عن تعديل ذوات السماوات، وعلى الثاني: عبارة عن إصلاحها بزوائد خارجية، من كونها جعلت مقراً للملائكة المقربين المسبحين، ومسارح نظر المعتبرين، وجعلت مزينة بزينة الكواكب ومنزلاً منها البركات في الأرض وأحكام الدين، لقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. قوله: (وأضيف الليل والضحى - ويروى: الليل والشمس - إلى السماء)، يريد أن السماء جعلت كالقبة المضروبة والرواق الممدود، وكالبيت المظلم ليس فيه سراج، والشمس هي السراج المثقب في جوها، فإن قيل: إن الليل ظل الأرض، فيجاب: كم لمرأى الناظر من اعتبار؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] أي: مُزينة في مرأى النظر بالكواكب المضيئة، وبه فسر قول المعري: صغار الشهب أسرعها انتقالا

لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها. (مَاءَهَا) عيونها المتفجرة بالماء (ومَرْعَاهَا) ورعيها، وهو في الأصل موضع الرعي. ونصب الأرض والجبال بإضمار (دحا) و (أرسى)، وهو الإضمار على شريطة التفسير. وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء. فإن قلت: هلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى (دَحَاهَا) بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب؛ وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: "إنما أضاف الليل والنهار، لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها، وهما إنما يحصلان بسبب حركة الفلك". قوله: (ورعيها)، الجوهري: "الرعي بالكسر: الكلأ، وبالفتح: المصدر، والمرعى: الرعي والموضع". قوله: (وقرأهما الحسن مرفوعين)، أي: الأرض والجبال. قال الزجاج: "القراءة بنصب الأرض على معنى: ودحا الأرض بعد ذلك، وفسر هذا المضمر فقال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، وهو أجود من الرفع؛ لأنك أن تعطف بفعل على فعل أحسن". قوله: (ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سُكناها)، وفي تفسيره لف ونشر، الانتصاف: "هذا الجواب أحسن من الثاني؛ لأنه مناسب لقوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (رَفَعَ سَمْكَهَا}.

والثاني: أن يكون (اخْرُجْ) حالاً بإضمار (قد) كقوله: (جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء: 90] وأراد بـ (مرعاها): ما يأكل الناس والأنعام. واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: (يَرْتَعْ ويَلْعَبْ) [يوسف: 12]. والظاهر أنه تغليب، لأنه قوله (مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) وارد عليه، ومن حقه أن يغلب ذوي العقول على الأنعام، فعكس تجهيلاً؛ وقرئ: (نرتع)، من الرعي؛ ولهذا قيل: دل الله سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح؛ لأنه من الماء. (مَتَاعًا لَّكُمْ) فعل ذلك تمتيعاً لكم، (ولأَنْعَامِكُمْ)؛ لأن منفعة ذلك التمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم. [(فَإذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبْرَى • يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ مَا سَعَى • وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرَى) 34 - 36]. (الطَّامَّةُ) الداهية التي تطم على الدواهي، أي: تعلو وتغلب. وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القري، وهي القيامة لطمومها على كل هائلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واستعير الرعي للإنسان)، يعني: استعير الرعي والرتع لتناول الإنسان الطعام، كما يستعار المرسن للأنف، والمشفر للشفة. عن بعضهم: {مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} عبارة عن الأرزاق، جمع الله تعالى جميع ما يُتمتع به في هاتين الكلمتين. ويجوز أن يكون استعارة معنوية. لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة قوله: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} كما مر قبل أيها المعاندون الداخلون في زمرة البهائم الملزوزون في قرنها في تمتعكم بالدنيا، وذهولكم عن الأخرى. قوله: (وقُرئ: "نرتع")، أي: بكسر العين، من الارتعاء، افتعال من الرعي. قوله: (جرى الوادي فطم على القرى)، قال الميداني: "أي: جرى سبيل الوادي فطم، أي: دفن، يقال: طم السيل الركية، أي: دفنها. والقري: مجرى الماء في الروضة والجمع: أقرية، وقريان، يعني: أتى على القرى أي: أهلكه بأن دفنه، يُضرب عند تجاوز الشر حده".

وقيل: هي النفخة الثانية: وقيل: الساعة التي تساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) بدل من إذا جاءت، يعني: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها، كقوله: (أَحْصَاهُ الله ونَسُوهُ) [المجادلة: 6]، و «ما» في (مَا سَعَى) موصولة، أو مصدرية (وبُرِّزَتِ): أظهرت. وقرأ أبو نهيك: (وبرزت). (لِمَن يَرَى) للرائين جميعاً، أي: لكل أحد، يعني: أنها تظهر إظهاراً بينا مكشوفاً، يراها أهل الساهرة كلهم، كقوله: قد بين الصبح لذي عينين يريد: لكل من له بصر؛ وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد. وقرأ ابن مسعود: (لمن رأى). وقرأ عكرمة: (لمن ترى) والضمير للجحيم، كقوله: (إذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [الفرقان: 12] وقيل: لمن ترى يا محمد. [(فَأَمَّا مَن طَغَى • وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا • فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَاوَى) 37 - 39] (فَأَمَّا) جواب (فَإذَا) أي: فإذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن بعضهم: يقال: طم شعره، أي: جزه، ويقال: جاء السيل فطم الركية، أي: دفنها فسواها، وكل شيء كثر حتى يعلو فقد طم؛ ذكره في باب فعل يفعل بفتح العين، وذكر في باب فعل يفعل بكسرها يكم طميماً، أي: يعدو عدواً سهلاً. قوله: ({لِمَن يَرَى}: للرائين جميعاً)، الانتصاف: "أي: هو أمر ظاهر لا يتوقف إلا على وجود الحاسة لا غير، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب عنها". قوله: (قد بين الصبح لذي عينين)، قال الميداني: "بين هاهنا بمعنى: تبين، يضرب للأمر الذي يظهر كل الظهور". قوله: ({فَأَمَّا} جواب {فَإذَا})، وفي "المطلع": المقدر شيء آخر، أي: فإذا جاءت الطامة، وقع ما لا يدخل تحت الوصف، وقوله: {فَأَمَّا} تفصيل لذلك المقدر.

والمعنى: فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد: طرفك، وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره: تركت الإضافة؛ ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف: للتعريف؛ لأنهما معروفان، و (هِيَ) فصل أو مبتدأ. [(وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى • فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاوَى) 40 - 41] (ونَهَى النَّفْسَ) الأمارة بالسوء (عَنِ الهَوَى) المردي، وهو إتباع الشهوات، وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة)، قال صاحب "الكشف": قال الكوفي: بل التقدير: مأواه، فقام الألف مقام الضمير. قوله: (ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف: للتعريف؛ لأنهما معروفان)، قال الزجاج: ليس الألف واللام بدلاً من الكاف في الطرف وإن كان المعنى: غض طرفك؛ لأن المخاطب يعلم أنك لا تأمره بعض طرف غيره، قال: فغض الطرف إنك من نُمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا قوله: (وزجرها عنه)، عطف تفسيري على {وَنَهَى النَّفْسَ}، وقوله: "وضبطها بالصبر"، تفسير هكذا لـ "زجرها". الراغب: "النهي: الزجر عن الشيء، وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره، وما كان بالقول لا فرق بين أن يكون بلفظة افعل، نحو: اجتنب كذا، وبلفظة لا تفعل، ومن حيث اللفظ هو قولهم: لا تفعل كذا، فإذا قيل: لا تفعل فهو نهي من حيث اللفظ والمعنى جميعاً، نحو: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} لم يعن به أن يقول لنفسه: لا تفعل، بل أراد قمعها عن شهوتها،

وقيل: الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. [(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا • فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا • إلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا • إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا • كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) 42 - 46]. (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) متى إرساؤها، أي إقامتها، أرادوا: متى يقيمها الله ويثبتها ويكوّنها؟ وقيل أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفنية مستقرها، حيث تنتهي إليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ودفعها عما نزعت إليه وهمت به، وكذا النهي عن المنكر يكون تارة باليد وتارة باللسان وتارة بالقلب. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النحل: 90] أي: يحث على فعل الخير ويَذُب عن الشر، وذلك بعضه بالعقل الذي ركبه فينا، وبعضه بالشرع الذي شرعه لنا. والإنهاء في الأصل: إبلاغ النهي، ثم صار متعارفاً في كل إبلاغ، فقيل: أنهيت إلى فلان خبر كذا، أي: بلغت به النهاية، ورجل ناهيك كقولك: حسبك، ومعناه أنه غاية فيما تطلبه، وينهاك عن تطلب غيره، وناقة نهية: تناهت سمناً". قوله: (في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير)، أما أبو عزيز بضم العين، مصغر "عزيز"، فليس له ذكر في "الجامع"، وأما مصعب بن عمير، فذكر أنه مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف القرشي، من أجلة الصحابة وفُضلائهم، قتل يوم أُحد، وفيه نزل: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وعن بعضهم: صح "أبو عزيز" بفتح العين وتكرير الزاي، ذكره المصنف في كتاب "متشابه الأسماء". قوله: (المشاقص)، الجوهري: "المشقص من النصال: ما طال وعرض". قوله: (كما أن مرسى السفينة: مستقرها)، الانتصاف: "فيه إشعار بثقل اليوم، كقوله

(فِيمَ أَنتَ) في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به، يعني: ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها، لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة يسأل عنها حتى نزلت، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها. والمعنى: أنهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها، ثم قال: (إلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) أي: منتهى علمها؛ لم يؤت علمها أحداً من خلقه. وقيل: (فِيمَ) إنكار لسؤالهم، أي: فيما هذا السؤال، ثم قيل: (أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا)، أي: إرسالك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في نسم الساعة، ذكر من ذكرها وعلامة من علاماتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27]؛ فلم يطلق الإرساء إلا على ما فيه ثقل كالجبال والسفينة". قوله: (وتعجب من كثرة ذكره لها، أي: في أي شغل أنت من ذكراها)، الانتصاف: "وفيه ضعف؛ لأن قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] يرده". قلت: صدق، قال المصنف: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}: كأنك بليغ في السؤال عنها، يعني: يسألونك عنها، لأنهم يزعمون أنك بليغ في السؤال عنها، وليس كما يزعمون. قوله: (ثم قيل: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا})، الانتصاف: "فعلى هذا يوقف على قوله: {فِيمَ} ليفصل بين الكلامين". قوله: (في نسم الساعة)، الجوهري: "نسم الساعة: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها، ونسيم الريح: أولها حين تقبل".

فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها. (إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) أي: لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون من إنذارك لطفا له في الخشية منها. وقرئ: (منذر) بالتنوين، وهو الأصل؛ والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة؛ كقولك: هو منذر زيد أمس، أي: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، وقيل: في القبور (إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا). فإن قلت: كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد. فإن قلت: فهلا قيل: إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: الدلالة على أن مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه؛ فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته، فهو كقوله: (لَّمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ) [الأحقاف: 35]. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (وَالنَّازِعَاتِ) كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "مُنذر" بالتنوين)، وهي شاذة. قال الزجاج: "المعنى: إنما أنت في حال إنذار من يخشاها وفيما يستقبل أيضاً، ومفعل وفاعل إذا كانا بمعنى الحال والاستقبال نوناً؛ لأنه حينذ بدل من الفعل، والفعل نكرة، وقد يجوز حذف التنوين على الاستخفاف، والنعتى على ثبوت التنوين، فإذا كان لما مضى فهو غير منون البتة". قوله: (فهو كقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35]، روي عن المصنف أنه قال: لهذا الكلام أصل، وهو قوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عيشته أو ضحاه، فوضع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا المختصر مكانه. وقلت: الظاهر أن نسبة {مِّن نَّهَارٍ} إلى {سَاعَةً}، وإضافة "ضُحى" إلى "عيشة": للبيان، ولكن المراد التوكيد، وتحقيقهما، نحو: أخذت بيدي ورأيت بعيني؛ لأنه من الإمكان أن يراد بضُحى وساعة: النهار كله مجازاً، وإليه الإشارة بقوله: "كأن لم يبلغ يوماً كاملاً ولكن ساعة منه". تمت السورة بعون الله وحمده وصلى الله على مُحمد * ... * ... *

سورة عبس

سورة عبس مكية، وهي إحدى وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(عَبَسَ وتَولَّى • أَن جَاءَهُ الأَعْمَى • ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى • أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى • أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى • فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى • ومَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى • وأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى • وهُوَ يَخْشَى • فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) 1 - 10]. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم؛ وأم مكتوم أم أبيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة عبس مكية، وهي أربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (أتى رسول الله? ابن أم مكتوم)، الحديث عن مالك بن أنس في "الموطأ"، والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلت {عَبَسَ} في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله? فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله? رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله? يُعرض عنه ويُقبل على الآخر ويقول: "أترى بما أقول بأساً" فيقول: لا، ففيه أُنزل هذا. والضمير في "ترى": لابن أم مكتوم.

واسمه عبد الله بن شريح ابن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربى، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين؛ وقال أنس: رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء. وقرئ: (عبس) بالتشديد للمبالغة؛ ونحوه: كلح في كلح. (أَن جَاءَهُ) منصوب بتولي، أو بعبس، على اختلاف المذهبين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واسمه: عبد الله بن شريح)، وفي "جامع الأصول": "هو عمرو بن قيس بن زائدة ابن الأصم، والأصم هو جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القُرشي. وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو، والأول أكثر وأشهر. وهو ابن أم مكتوم، واسمها: عاتكة بنت عبد الله المخزومية، أسلم قديماً بمكة، استخلفه رسول الله? ثلاث عشرة مرة في غزواته على المدينة، وكان ضريراً، مات بالمدينة، وقيل: قُتل شهيداً بالقادسية"، يوم فتح المدائن أيام عمر. والقادسية: موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر - ميلاً. وأما قول المصنف: وأم مكتوم أم أبيه، أي: جدته، فهو وهم، كما سبق. ونص ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه أمه. قوله: (على اختلاف المذهبين)، أي: في تنازع الفعلين، وحذف الأمر من {أَن جَاءَهُ} للقياس المستمر، لا لكونه مفعولاً له؛ لأنه ليس فاعلاً لفاعل الفعل المعلل. قوله: (نحوه كلَّح وكلَح)، وفي نسخة: "كلَّح في كلَح".

ومعناه: عبس؛ لأن جاءه الأعمى. أو أعرض لذلك. وقرئ: (أأن جاءه) بهمزتين وبألف بينهما، ووقف على (عَبَسَ وتَولَّى) ثم ابتدئ، على معنى: الآن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكارا عليه؟ وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني. وفي الإخبار عما فرط منه، ثم الإقبال عليه بالخطاب: دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانباً جني عليه، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ وإلزام الحجة. وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "أأن جاءه"، بهمزتين وألف بينهما)، قال ابن جنى: "قرأها الحسن: وأن، معلقة بمحذوف دل عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، أي أأن جاءه الأعمى أعرض عنه وتولى بوجهه؟ قالوقف إذن على تولى والاستئناف بالاستفهام للإنكار. وأما {أَن} على القراءة العامة فمنصوبة بتولى؛ لأنه الأقرب، ومن أعمل الأول نصبها بعبس وقال: عَبَسَ أن جاءه الأعمى وتولى لذلك، والوجه: إعمال الثاني لقربه. وأما أن تنصبه بمجموع الفعلين فلا". وقلت: المصنف ذه إلى إعمال الأول بناء على مذهب الكوفيين، حيث قال: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك؛ لأن لطف المعنى معه، فإن الواو إن لم تدل على الترتيب لكن النظم يقتضيه، فلا يناسب أن يقال: تولى لأن جاءه الأعمى وعبس لذلك؛ لأن التولي بعد العبوس كما يشهد له الحال. قوله: (وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك)، يعني: العدول من اسم العلم إلى الوصف مزيد للإنكار وإلزام الحجة، مثل ما في العدول من الغيبة إلى الخطاب، وبيانه: قوله: كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس، إلى آخره، أي: أهذا حق الأعمى أهذا حق الضعيف؟ [إلى] آخره؟ وتحريره: أن في إسناد عبس وتولى إلى ضمير الرسول? في حال الغيبة، إشعاراً بأن ذلك مما لا يليق بمنزلة من في صدد الرسالة، لا سيما أنه ما أُرسل إلا رحمة

كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. (ومَا يُدْرِيكَ) وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى؟ (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم. (أَوْ يَذَّكَّرُ) أو يتعظ، (فَتَنفَعَهُ) ذكراك، أي: موعظتك؛ وتكون له لطفاً في بعض الطاعات. والمعنى: أنك لا تدري ما هو مترقب منه، من تزك أو تذكر، ولو دريت لما فرط ذلك منك. وقيل: الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للعالمين، وأنه لعلى خلق عظيم؛ فكأن العابس والمتولي غيره، ثم التفت يخاطبه قائلاً: وما يُدريك؟ تأنيباً، أي: مثلك بتلك المنزلة لا ينبغي أن يتصدى لغني ويتلهى عن فقير. وكذلك في صفة الأعمى؛ من حيث اعتبار الجبلة النفسانية منقصة توجب الإعراض والتولي عمن هو متصف بها، ومن حيث مرتبتك من الخلق العظيم، قمع النفس، والعمل بمقتضى الخُلُق العظيم لا بمقتضى شهوة النفس، أو في تلك الصفة إشعار باستعمال التعطف والترؤف، والتقريب والترحيب، لا سيما من مثلك، وقد وصفك الله بالخلق العظيم، أو في تلك الصفة من تمهيد العُذر، وأنه أعمى لم يهتد إلى عدم الإقدام بين يديك، وقطع كلامك عن كلام القوم، اعتذار عند الكرام، خصوصاً عند مثلك وكنت للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وهذه الآيات أيضاً من خُلُقه صلوات الله عليه؛ لأنها تأديب له، وكان خُلُقه القرآن، ثم في معنى الترجي الذي يعطيه {لَعَلَّهُ} تمهيد عُذر له صلوات الله عليه، جبراً لذلك الخطاب المشتمل على التوبيخ، يعني: أعذرناك لأنك حريص على إسلام القوم، فأدى اجتهادك إلى أن تُقبل عليهم وتُعرض عن الأعمى، ولو دريت ذلك ما فرطت ذلك، أي: وإن كان خفياً عليك يا رسول الله، كأن الله تعالى يعتذر من رسوله? . لله در المصنف ودركه أمثال هذه الرموز الجليلة! قوله: (الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر)، فعلى هذا {لَعَلَّ} راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام، أو يتذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق؛ وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرئ: (فتنفعه) بالرفع عطفاً على (يَذَّكَّرُ)، وبالنصب جواباً لـ «لعل»، كقوله: (فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى) [غافر: 37]، (تَصَدَّى) تتعرض بالإقبال عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك قال: "طمعت في أن يتزكى"، وإن ما طمعت فيه كائن، وعلى الأول راجع إلى الله تعالى، إما مجازاً على سبيل الرمز للقطع؛ لأن {لَعَلَّ} من مثل كلام الجبابرة قطع في حصول المطموع فيه، أو تمثيلاً وأنه تعالى يعامل معاملة من يطمع ويرجو، وإلى الأخير الإشارة: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، أي: يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أو ضار الإثم، وإدخال لفظ "بعض" في الموضعين، للهضم من حقه، والإيذان بأن المطلوب التطهر أو الطاعة وإن حصل البعض منهما، والتفادي عن فواتهما وإن كان عن البعض، والله أعلم. قوله: (وقُرئ: "فتنفعه" بالرفع)، عاصم: بالنصب، والباقون: برفعها. قوله: ({فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى})، قال صاحب "المفتاح": "وسبب توليد {لَعَلَّ} معنى التمني في قولهم: لعلي سأحُج فأزورك بالنصب، هو بعد المرجو عن الحصول". وهذه القراءة تقوي مذهب من قال: إن الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر؛ لأن المعنى: ما يُدريك أن ما طمعت فيه وتمنيت من إسلام القوم كائن؟ لأنه مما لا يمكن حصوله، وليس ذلك إلا طمع فارغ، وينصره التفصيل بعده، وهو {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}، {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى}؛ لأنه يقتضي أن يكون للكافر أيضاً ذكر في المجمل. قوله: ({تَصَدَّى}: تتعرض بالإقبال)، في "المطلع": أي: تقبل عليه بوجهك وتميل إليه.

والمصاداة: المعارضة؛ وقرئ: (تصدى) بالتشديد، بإدغام التاء في الصاد. وقرأ أبو جعفر: (تصدى)، بضم التاء، أي: تعرض. ومعناه: يدعوك داع إلى التصدي له، من الحرص والتهالك على إسلامه، وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ) [الشورى: 48]، (يَسْعَى) يسرع في طلب الخير (وهُوَ يَخْشَى) الله أو يخشى الكفار، وأذاهم في إتيانك. وقيل: جاء وليس معه قائد، فهو يخشى الكبوة. (تَلَهَّى) تتشاغل، من: لهى عنه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمصاداة: المعارضة)، الراغب: الصدى: صوت يرجع من مكان صقيل. والتصدية: كل صوت يجرى مجرى الصدى في أن لا غناء فيه. وقوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أي: غناءً، ما يوردونه غناء التصدي ومكاء الطير. والتصدي: أن يقابل الشيء مقابلة الصدى، أي: الصوت الراجع من الجبل، قال تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى}. قوله: (وقُرئ: "تصدى"، بالتشديد)، الحرميان، والباقون: بالتخفيف. قال الزجاج: "الأصل في التخفيف: تتصدى، حذفت الثانية لاجتماع تاءين. وفي التشديد أيضاً: تتصدى، فالتاء أيضاً أُدغمت في الصاد لقرب المخرجين". قوله: (وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام)، وجعل ما نافية، والجملة: حال مقررة لجهة الإشكال، وجعلها الزجاج استفهامية، أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام؟ . قوله: ({تَلَهَّى}: تتشاغل، من: لهى عنه)، الراغب: "اللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا ولهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو، ويعبر عن كل ما به استمتاع: باللهو".

والتهى، وتلهى. وقرأ طلحة بن مصرف: (تتلهى)، وقرأ أبو جعفر: (تلهى) أي: يلهيك شأن الصناديد. فإن قلت: قوله: (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى)، (فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) كأن فيه اختصاصاً. قلت: نعم، ومعناه: إنكار التصدي والتلهي عليه، أي: مثلك خصوصاً لا ينبغي له أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير. [(كَلاَّ إنَّهَا تَذْكِرَةٌ • فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ • فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ • مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ • بِأَيْدِي سَفَرَةٍ • كِرَامٍ بَرَرَةٍ) 11 - 16]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ أبو جعفر: "تُلهى")، قال ابن جني: "وكذلك قرأ: "تُصدى" بضم التاء وفتح الصاد. المعنى: يدعوك داع من زينة الدنيا وشارتها إلى التصدي له والإقبال عليه، وعلى ذلك تُلهى، أي: تُصرف عنه ويزوي وجهك دونه؛ لأنه لا غنى عنده ولا ظاهر معه، فخرج مخرج التنبيه للنبي? ". وفي "المطلع": تُلهى على بناء المفعول من التلهية. الجوهري: "لهاه به تلهية، أي: علله كما يتعلل الصبي بشيء من الطعام يتجزى به عن اللبن". قوله: (نعم، ومعناه إنكار التصدي)، اعلم أن نحو: "أنا عرفت" يحتمل التخصيص وتقوي الحكم، وإذا أريد التخصيص يُقدر تقديم الفاعل المعنوي على عامله، ولا بد من قيام قرينة ترجح أحد الاحتمالين. وقرينة الاختصاص هاهنا إضمار حرف الإنكار قبل الضمير المؤذن بأن الكلام في الفاعل لا في الفعل، وإليه الإشارة بقوله: إنكار التصدي والتلهي عليه، ولما بين لفظة "أنت" و "مثل" في مثل هذا التركيب من الملازمة، جعل "أنت" كناية عن المثل في قوله: "مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير".

(كَلاَّ) ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله، (إنَّهَا تَذْكِرَةٌ) أي: موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها. (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير؛ لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة، يعني: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح، (مُّكَرَّمَةٍ) عند الله (مَرْفُوعَةٍ) في السماء. أو مرفوعة المقدار، (مُّطَهَّرَةٍ) منزهة عن أيدي الشياطين، لا يمسها إلا أيدي ملائكة مطهرين. (سَفَرَةٍ) كتبة ينتسخون الكتب من اللوح. (بَرَرَةٍ) أتقياء. وقيل: هي صحف الأنبياء، كقوله: (إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى) [الأعلى: 18] وقيل السفرة: القراء. وقيل: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({فِي صُحُفٍ}: صفة لتذكرة)، قيل للمصنف: قوله تعالى: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراض؟ قال: لا؛ لأن من شرط الاعتراض أن يكون بواو وبدون واو، فأما بالفاء فلا، ولكنه حث على الذكر والتذكرة، أي: فتذكرها، وعلى كل مسلم أيضاً يجب ذلك. وقلت: أراد أنه استطراد، وبيانه: أنه لما خاطب النبي? بذلك الخطاب الهائل قيل: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}، أي: أن تلك المعاتبة موعظة للسامعين؛ فإن النبي? بجلالته إذا عوتب بذلك الخطاب الفظيع لذلك التصدي والتلهي، فما بال غيره؟ وإذا كان كذلك، فتذكرها أيها السامع. وكان من الظاهر أن يؤخر قوله: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} عن وصف التذكرة، فقدم لشدة العناية بها، ولعظم الحادثة عظم الكتب ووصفها بتلك الأوصاف العظيمة، ثم قيل: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}، فجمع في ألفاظ قليلة معاني كثيرة، ثم فصل بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، إلى آخره. قوله: {بَرَرَةٍ}: أتقياء)، وعن بعضهم: قيل: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}، لأنه لو لم يكن لهم من الكلام إلا هذه الواحدة لكفت به، وهي أنهم مع غنيتهم وأنهم في أعلى عليين، يستغفرون للمؤمنين ويذكرون خيرهم، وأنت لا تذكر أخاك إلا بالسوء والقُبح.

[(قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ • مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ • مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ • ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ • ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ • ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنشَرَهُ • كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) 17 - 23] (قُتِلَ الإنسَانُ) دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم؛ لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها. و (مَا أَكْفَرَهُ) تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوباً أغلظ منه. ولا أخشن مساً، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطاً في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه، ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط، وقلة الالتفات، إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) من أي شيء حقير مهين خلقه؟ ثم بين ذلك الشيء بقوله: (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا أجمع للائمة على قصر متنه)، اللائمة: الملائمة. قال الإمام: {قُتِلَ الْإِنسَانُ}: تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب عُرفاً، وقوله: {مَا أَكْفَرَهُ} تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعاً. قوله: (غارز فيه رأسه)، كناية عن الانهماك في الشيء والذهاب عما عليه. الأساس: "فلان غارز رأسه في سنة، وما طلع السماك إلا غارزاً ذنبه في برد، وهو الأعزل، يطلع لخمس خلت من تشرين الأول". قوله: (ونحوه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا})، يعني: مثله في عطف {فَقَدَّرَهُ} على {وَخَلَقَ}، والخلق والتقدير شيء واحد، لكن المراد من التقدير هاهنا التهيؤ والاستعداد، قال: المعنى: أنه أحدث كل شيء إحداثاُ مراعي فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما

نصب «السبيل» بإضمار (يسر) وفسره بـ (يسر) والمعنى: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه، كقوله: (إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) [الإنسان: 3]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: بين له سبيل الخير والشر. (فَأَقْبَرَهُ) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميت إذا دفنه، وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحاً، (أَنشَرَهُ) أنشأه النشأة الأخرى، وقرئ: (نشره). (كَلاَّ) ردع للإنسان عما هو عليه، (لَمَّا يَقْضِ) لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا. وينطبق على هذا قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}، على تأويل ابن عباس: ثم بين له سبيل الخير والشر، كما قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. ويشكل إذا قيل: السبيل: مخرجه من بطن أمه من حيث النظم. قوله: (جزراً للسباع)، الجوهري: "جرز السباع: اللحم الذي تأكله، يقال: تركوهم جزراً، بالتحريك: إذا قتلوهم". قوله: (أقبرنا صالحاً)، الجوهري: "أقبرته، أي: أمرت بأن يقبر. قال تميم للحجاج: أقبرنا صالحاً، وكان قد قتله وصلبه، أي: ائذن لنا في أن نقبره، فقال لهم: دونكموه. قال ابن السِّكّيت: أقبرته، أي: صيرت له قبراً يدفن فيه". وقيل: هو القابر، وأنشد للأعشى: لو أسندت ميتاً إلى نحرها عاش ولم يُنقل إلى قابر قوله: (وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية)، هذا معنى التوقع في لفظ "لما"؛ رويناه

(مَا أَمَرَه) الله حتى يخرج عن جميع أوامره، يعني: أن إنساناً لم يخل من تقصير قط. [(فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ • أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًا • ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًا • فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا • وعِنَبًا وقَضْبًا • وزَيْتُونًا ونَخْلاً • وحَدَائِقَ غُلْبًا • وفَاكِهَةً وأَبًا • مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) 24 - 32]. ولما عدد النعم في نفسه، أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال: (فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ) إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره، (أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ) يعني الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن علي رضي الله عنهما: (أنى صببنا) بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. و (ثُمَّ شَقَقْنَا): من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على البقر؛ وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في "صحيح البخاري" عن مجاهد: "لا يقضي أحد ما أُمر به"، أي: لم يقض أحد جميع ما كان مفروضاً؛ لأن الإنسان لا ينفك عن التقصير. قوله: ({مَا أَمَرَهُ} الله)، قال صاحب "الكشف": "الأصل: ما أمره الله فحذف الباء ثم حذف الهاء الأولى، فصار: ما أمره، فالهاء الباقية للموصولة، والمحذوفة للإنسان". قوله: (قُرئ بالكسر على الاستئناف)، الكوفيون: {أَنَّا صَبَبْنَا} بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها. قوله: (وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب)، الانتصاف: ما رأيت كاليوم عبداً ينازع ربه بقوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا} حقيقة، يجعله مجازاًّ ويضيفها إلى الحراث حقيقة.

و «الحب»: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. و «القضب»: الرطبة، والمقضاب: أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه؛ لأنه يقضب مرة بعد مرة (وحَدَائِقَ غُلْبًا) يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلباً، أي: عظاماً غلاظاً. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب؛ فاستعير؛ قال عمرو بن معد يكرب: يمشى بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسين من الكحيل جلالا والأب: المرعى؛ لأنه يؤب أي يؤم وينتجع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من نحو الحنطة والشعير)، الراغب: "الحب والحبة: في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات، والحب والحبة: في بروز الرياحين". قوله: (والأصل في الوصف بالغُلب: الرِّقاب، فاستعير)، وهو من استعارة المرسن لأنف الإنسان. قوله: (يمشي بها غُلب الرِّقاب) البيت، الضمير في "بها": عائد إلى الخيل أو الكتيبة غُلْب الرِّقاب، أي غلاظ الأعناق. والبزل: جمع البازل، وهو يطلق على الذكور والإناث من الإبل إذا فطر نابه، إذا جعل الضمير للكتيبة كانت الباء تجريدية، وقيل: يصف أرضاً مأسدة، يقول: يمشي بهذه الأرض أسود غلاظ العُنق، كأنها نوق كسين جلالاً من القطران. قوله: (والأب: المرعى)، الراغب: "الأب: المرعى المتهييء للرعي، من قولهم: أب لكذا: إذا تهيأ، وأب إلى وطنه: إذا نزع إليه نزوعاً: تهيأ لقصده. وإبان ذلك: فعلان منه، وهو الزمان المهيأ لفعله ومجيئه".

والأبّ والأمّ أخوان قال: جذمنا قيسٌ ونجد دارنا ... ولنا الأبّ به والمكرع وعن أبى بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أيّ سماءٍ تظلني، وأيّ أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والأب والأم) بفتح الهمزة فيهما (أخوان)، أي: مثلان في معنى القصد. قوله: (جُذمنا قيس) البيت، الجذم: الأصل، والمكرع: المنهل. يقال: كرعوا فيها أي: تناولوا الماء بأفواهمم، روي عن المصنف: كرعت الإبل: غيبت أكارعها، يقول: أصلنا من قبيلة قيس، ومنهلنا ومرعانا نجد. قوله: (وعن عمر رضي الله عنه، أنه قرأ هذه الآية)، روينا في "صحيح البخاري"، عن أنس أن عمر قرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}، قال: فما الأب؟ ثم قال: ما كُلفنا - أو قال: ما أُمِرنا - بهذا. قوله: (كل هذا)، أي: من الحب والعنب والقضب والزيتون والنخل، ثم رفض عصاه، أشار برفض عصاه إلى: أن ارفضوا هذا.

قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيءٍ من العلم لا يعمل به تكلفاً عندهم؛ فأراد أنّ الآية مسوقةٌ في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لإنعامه؛ فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسمٌ له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن. [(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ * مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) 32 - 41]. يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً)، الراغب: "الصاخة: شدة صوت ذي النطق، يقال: صخ يصخ فهو صاخ، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}: عبارة عن القيامة"، وقال الزجاج: "الصاخة هي الصخة التي تكون عندها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها فلا تسمع إلا ما تدعي به أحيائها. ثم فسر في أي وقت تجيء فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ}، ثم وصف أحوال المؤمنين والكافرين بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} الآية". وقال أبو البقاء: {فَإِذَا جَاءَتِ}: العامل فيها جوابها، وهو معنى قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ}، وقال المصنف في

لأنّ الناس يصخون لها، يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوعٌ إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً؛ وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أقرب وأحب؛ كأنه قال: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وقيل: يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه: هابيل؛ ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوحٌ ولوط؛ ومن ابنه: نوح، (يُغْنِيهِ) يكفيه في الاهتمام به. وقرئ: (يعنيه)، أي: يهمه، (مُسْفِرَةٌ) مضيئةٌ متهللة، من أسفر الصبح: إذا أضاء. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: من قيام الليل؛ لما روى في الحديث: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»، وعن الضحاك: من آثار الوضوء، وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله (غَبَرَةٌ) غبارٌ يعلوها، (قَتَرَةٌ) سوادٌ كالدخان؛ ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت؛ وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (عبس وتولى) جاء يوم القيامة ووجهه ضاحكٌ مستبشر». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} [النازعات: 34]: [{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ}]: بدل من "إذا جاءت"، يعني: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها، فالمعنى: فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه. قوله: (بما هو مدفوع إليه)، أي: من الأمور القادحة التي تثقله كقوله تعالى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]. الأساس: دفعت إلى أمر كذا، وأنا مدفوع إليه: مضطر. تمت السورة

سورة التكوير

سورة التكوير مكية، وهي تسع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ • وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ • وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ • وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ • وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ • وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ • وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ • وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ • بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ • وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ • وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ • وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ • وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ • عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) 1 ـ 14]. في التكوير وجهان: أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها، أي: يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارةٌ عن إزالتها والذهاب بها؛ لأنها ما دامت باقيةً كان ضياؤها منبسطاً غير ملفوف. أو يكون لفها عبارةً عن رفعها وسترها؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة التكوير مكية، وهي تسع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (أو يكون لفها)، عطف على قوله: أي: يلف ضوءها لفاً، وقوله: "وأن يكون من: طعنه"، عطف على قوله: "أن يكون من كُورت العمامة"، وهو الوجه الثاني، وكلا

لأنّ الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي؛ ونحوه قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّماء) [الأنبياء: 104 َ] وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية، رافعها فعلٌ مضمرٌ يفسره كوّرت؛ لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط (انْكَدَرَتْ) انقضت، قال: أبصر خربان فضاءٍ فانكدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجهين كناية. الراغب: "كور الشيء: إدارته وضم بعضه إلى بعض، ككور العمامة. وطعنه فكوره: إذا ألقاه مجتمعاً". قوله: (فجوره)، بالجيم، الجوهري: "ضربه فجوره، أي: صرعه، مثل: كوره، فتجور". قوله: ({انكَدَرَتْ}: انقضت)، الراغب: "الكدر: ضد الصفاء، يقال: عيش كدر، والكدرة: في اللون خاصة، والكدرة في الماء والعيش، والانكدار: تغير من انتشار الشيء، قال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}. وانكدار القوم على كذا: إذا قصدوا متناثرين عليه". قوله: (أبصر خربان فضاء فانكدر)، قبله في "المطلع": تقضى البازي إذا البازي كسر داني جناحيه من الطور فمر انقضت: هوت. خربان: جمع خرب، وهو ذكر الحبارى، فانكدر، أي أبصر البازي الحُبارى فانقض وسقط عليه. والشعر للعجاج يمدح عمر بن معمر.

ويروى في الشمس والنجوم: أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء: 98]، (سُيِّرَتْ) أي على وجه الأرض وأبعدت، أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل: 88]. والعشار في جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء: وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها. (عُطِّلَتْ) تركت مسيبة مهملة. وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ: (عطلت) بالتخفيف. (حُشِرَتْ) جمعت من كل ناحية؛ قال قتادة: يحشر كل شيءٍ حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضى بينها ردّت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرورٌ لبنى آدم وإعجابٌ بصورته، كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: حشرها موتها. يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({عُطِّلَتْ}: تُركت مُسيبة)، الراغب: "العطل: فقدان الزينة والشغل، يقال: عطلت المرأة فهي عَطِل وعاطل، وعطلته من الحلي ومن العمل فتعطل، قال تعالى: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} [الحج: 45]، ويقال لمن يجعل العالم بجهله وبزعمه فارغاً عن صانع أتقنه وزينة: معطل، وعطل الدار عن ساكنيها والإبل عن راعيها". قوله: (يُحشر كل شيء حتى الذباب)، عن مسلم والترمذي، عن أبي هريرة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال النبي? : "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" وزاد أحمد بن حنبل: وحتى الدرة من الدرة". قوله: (إذا أجحفت السنة)، بالجيم والحاء المهملة. الأساس: "أجحف بهم الدهر: استأصلهم، وأجحفهم فلان: كلفهم ما لا يطاق، وسنة مجحفة".

وقرئ (حشرت) بالتشديد. (سُجِّرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب، أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعضٍ حتى تعود بحراً واحداً. وقيل: ملئت نيراناً تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن الحسن: يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة. (زُوِّجَتْ) قرنت كل نفسٍ بشكلها، وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد. وقيل بكتبها وأعمالها. وعن الحسن هو كقوله: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة: 7] وقيل: نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين. وأد يئد مقلوبٌ من آد يؤود: إذا أثقل. قال الله تعالى: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة: 255]؛ لأنه إثقالٌ بالتراب: كان الرجل إذا ولدت له بنتٌ فأراد أن يستحييها: ألبسها جبةً من صوفٍ أو شعرٍ ترعى له الإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها، حتى إذا كانت سداسيةً فيقول لأمها: طيبيها وزينيها، حتى أذهب بها إلى أحمائها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({سُجِّرَتْ} قُرئ بالتخفيف والتشديد)، ابن كثير وأبو عمرو: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد. قوله: (قُرنت كل نفس بشكلها)، في "الكواشي": يُقرن الصالح بالصالح في الجنة، ويُقرن الطالح بالطالح في النار. قوله: (وعن الحسن: هو كقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً})، فالأزواج على هذا: الأصناف، قال: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} [طه: 131]. قوله: (فأراد أن يستجيبها)، هو من قوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. قوله: (سُداسية)، أي: بلغت قامتها ستة أشبار، وعمرها ست سنين. الأساس: "إزار سديس وسداسي: ست أذرع، وأسدس البعير: ألقى سديسه".

وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرةً فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته. فإن قلت: ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء: 31]، وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهنّ. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد؛ فيه افتخر الفرزدق في قوله: ومنّا الّذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومنا الذي) البيت، وفي رواية: وجدي الذي الوئيد: فعيل بمعنى مفعول، فلذا لم يؤنث. روي أن صعصعة جد الفرزدق قدم على رسول الله? ، فعرض عليه الإسلام، فقال له: يا رسول الله، عملت أعمالاً في الجاهلية، فهل لي فيها أجر؟ أحييت ثلاث مئة وستين من الموءودة، واشتريت كل واحدة منها بناقتين عشراوين وجمل، قال رسول الله? : "هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام"، وبه افتخر الفرزدق، والله أعلم بصحبته. وعد صاحب "الاستيعاب" صعصعة جد الفرزدق في الصحابة، وقال: روى عنه

فإن قلت: فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به؛ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت: سؤالها وجوابها تبكيتٌ لقاتلها، نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني) إلى قوله: (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) [المائدة: 116]. وقرئ: (سألت)، أي: خاصمت عن نفسها، وسألت الله أو قاتلها؛ وإنما قيل (قُتِلَتْ) بناءً على أن الكلام إخبارٌ عنها؛ ولو حكي ما خوطبت به حين سئلت. فقيل: قتلت أو كلامها حين سئلت لقيل: قتلت. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (قتلت)، على الحكاية، وقرئ (قتلت) بالتشديد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طفيل بن عمرو، وابنه عقال بن صعصعة، وروى عنه الحسن، وكان من أشراف بني تميم وكان في الجاهلية يفتدي الموءودات من بني تميم، وقال الفرزدق فيه: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم تُوأد قوله: (فما معنى سؤال الموءودة؟ ) الفاء دلت على إنكار على كلامه السابق، أي: ذكرت أن موجب الوأد؛ إما خوف العار أو الإملاق، لا من ذنب صدر عنها، فما معنى سؤال الموءودة، إلى آخره. قوله: (تبكيت لقائلها)، الأساس: "بكته بالحجة وبكته: غلبه، يقال: بكته حتى أسكته". وتقريره أن المجني عليه إذا سُئل بمحضر من الجاني ونُسب إليه الجناية دون الجاني، كان ذلك بعثاً للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيعثر على براءة ساحة صاحبه، وعلى أنه هو المستحق لكل نكال فيفحم، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض.

وفيه دليلٌ بينٌ على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤودة من الذنب: فما أقبح به، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّةٍ أن يكرّ عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد! وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك، فاحتجّ بهذه الآية. (نُشِرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد، يريد: صحف الأعمال؛ تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب. عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك، ثم تنشر يوم القيامة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يُعذبون)، ودليله أنه إذا بكت الله الكافرين ببراءة الموءودة من الذنب، فما أقبح به، وهو الذي لا يَظلم مثقال ذرة، أن يكر عليها بعد ذلك هذا التبكيت! وهو مبني على مسألة الحسن والقُبح العقلي. وروينا خلافه عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله? عن أولاد المشركين، فقال: "الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين". تفسيره ما روى أبو داود، عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ فقال: "من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال: "من آبائهم"، أي: متصلين بهم، كقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 68]. وفي "مسند" الإمام أحمد بن حنبل: سألت خديجة عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله? : "هما في النار". قوله: ({نُشِرَتْ} قُرئ بالتخفيف)، نافع وعاصم وابن عامر، والباقون: بتشديدها.

فلينظر رجلٌ ما يملى في صحيفته. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس عراةً حفاةً»، فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أمّ سلمة. قالت: وما شغلهم؟ قال: "نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل". ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أي فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنةٍ عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سمومٍ وحميم، أي مكتوبٌ فيها ذلك، وهي صحفٌ غير صحف الأعمال. (كُشِطَتْ) كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعودٍ (قشطت) واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور. (سُعِّرَتْ) أو قدت إيقاداً شديداً، وقرئ: (سعرت) بالتشديد للمبالغة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يُحشر الناس عُراة)، الحديث من رواية الترمذي، عن ابن عباس، أن النبي? قال: "تحشرون حفاة عراة غُرلاً". فقالت امرأة: أيبصر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: "يا فلانة، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه". وعن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك". قوله: (لبكت الثريد ولبقته)، الأساس: "لبق طعامه ولبقه، يلبقه، مثل: لبكه: إذا خلطه ولينه، ومنه: رجل لبق ولبيق: [لين] الأخلاق لطيف ظريف". قوله: (وقُرئ {سُعِّرَتْ} بالتشديد)، نافع وحفص وابن ذكوان، والباقون: بالتخفيف.

قيل: سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم، (أُزْلِفَتْ) أدنيت من المتقين، كقوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق: 31]، قيل: هذه اثنتا عشرة خصلة؛ ست منها في الدنيا، وست في الآخرة. و(عَلِمَتْ) هو عامل النصب في (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وفيما عطف عليه. فإن قلت: كل نفسٍ تعلم ما أحضرت، كقوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران: 30] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ست منها في الدنيا)، وهي من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}، (وست في الآخرة)، وهي من قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}. قوله: (و {عَلِمَتْ} هو عامل النصب في {إِذَا الشَّمْسُ})، قال الزجاج: "التقدير: إذا كانت هذه الأشياء، علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر تُجزى به". وقال صاحب "الكشف": "هذه اثنتا عشرة خصالاً: من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ}، كلها مضافة إلى الجمل، لم يتم بها الكلام، وإنما إتمامه بما عمل فيها من قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ}، فهي جملة من فعل وفاعل، ثم ابتدأ فأقسم، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ}، وتمامه آخر السورة؛ لأن قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} جواب القسم". قوله: (كقوله: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30])، الراغب: "الحضر: خلاف البدو، والحضارة والحضارة: السكون بالحضر، كالبداوة والبداوة، ثم جُعل ذلك [اسماً] لشهادة مكان أو إنسان أو غيره. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]، نحو: جاء أحدكم الموت، {وَأَعُوذُ بِكَ

لا نفسٌ واحدةٌ، فما معنى قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ)؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98]، فذلك من باب الكناية، أي: أن يحضرني الجن، وكني عن المجنون بالمحتضر وعمن حضره الموت بذلك". قوله: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا}، أي: مُشاهداً مُعايناً عنده. قوله: (لا نفس واحدة)، يعني: نفس في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} نكرة في سياق الإثبات، فلا يُفيد العموم والمقام يقتضيه. وأجاب الإمام بجوابين، أحدهما: ما ذكره المصنف ثم قال: "وهذا كمن يسأل عالماً عن مسألة ظاهرية ويقول له: هل عندك شيء فيها؟ فيقول ربما حضر شيء، وغرضه الإشارة إلى أن ما عنده في تلك المسألة، ما لا يقوم به غيره، وثانيهما: لعل الكفار كانوا يُتعبون أنفسهم في الدنيا فيما يعتقدونه طاعات، ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك". وقلت: والتنوين في {نَفْسٌ} إذن: للنوع، أي: علمت نفس كافرة أن ما حسبته طاعة كان وبالاً عليها، ويؤيده قوله: {وَإِذَاالْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}. وأما الواحدي ومحيي السنة فقد قالا: "علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر"، وقال القاضي: "نفس في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة". قوله: (يقصدون به الإفراط فيما يُعكس عنه)، أي: يقصدون الإفراط في الشيء الذي يجعل الكلام معكوساً عنه، مثاله: {نَفْسٌ} فيما نحن بصدده، فإنها تُفيد القلَّة وضعت موضع الكثرة تعكيساً، لإرادة الإفراط في الكثرة.

ومنه قوله عز وجل: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر: 2] ومعناه: معنى كم، وأبلغ منه وقول القائل: قد أترك القرن مصفرّا أنامله وتقول لبعض قوّاد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارسٍ عندي. أولا تعدم عندي فارساً، وعنده المقانب: وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه. ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده، فضلاً أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (قد أترك القرن مُصفراً أنامله)، تمامه: كأن أثوابه مُجَّت بفرصاد القرن: مثلك في الشجاعة. مُصفراً أنامله: كناية عن القتل. ومجَّ الماء من فيه: رمى به، الفرصاد: التوت. يقول: أترك قرني في المعركة مقتولاً مُلطخ الثوب بالدم. أراد بالتقليل في قوله: "قد أترك القِرن"، التكثير لمقام المدح. قوله: (المقانب)، الجوهري: "المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل". قوله: (ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين)، وذلك أن العكس في الكلام إنما يُصار إليه للمبالغة، والمتكلم إنما يتمكن منه إذا لم يُنازع فيما عكس فيه، وأنه كالمجمع عليه بقرائن الأحوال، ولذلك قال: وتقول لبعض قُواد العساكر، وعليه قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال: وانقطاع ظهرياه! [(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) 15 - 18]. (بِالْخُنَّسِ) الرواجع، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله، و (الْجَوارِ) السيارة. و (الْكُنَّسِ) الغيب، من كنس الوحشي: إذا دخل كناسه. قيل: هي الدراري الخمسة: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشترى، تجرى مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس؛ فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها، عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر. قال العجاج: حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا وقيل: (عسعس): إذا أقبل ظلامه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعطارد والزُّهرة)، عن بعضهم: صح الزُّهَرة، بفتح الهاء. قوله: (حتى إذا الصُّبح لها تنفَّسا) البيت، الضمير في "عنها" و"لها" و"ليلها": للمفازة. وانجاب: انكشف، وانجابت السحابة: انكشفت. قوله: (وقيل: {عَسْعَسَ}: إذا أقبل ظلامه)، قال الواحدي: " {عَسْعَسَ}: أدبر وذهب، وقال الحسن: أقبل بظلامه، وهو من الأضداد. ويدل على أن المراد هاهنا أدبر قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، أي: امتد ضوؤه حتى يصير نهاراً"، ولمن يقول بالأول أن يقول: إن التقابل لا يحصل إلا إذا فُسر بأقبل. وعن بعضهم: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أقبل وأدبر، وذلك في مبدأ الليل ومنتهاه، فالعسعسة والعساس: رقة الظلام، وذلك في طرفي الليل، والعَس والعسس: نفض الليل من أهل الريبة، فجعل ذلك نفساً له على المجاز بأدنى ملابسة. وقال الإمام: "ويجوز

فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح: أقبل بإقباله روحٌ ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل: تنفس الصبح. [(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) 19 - 21]. (إِنَّهُ) الضمير للقرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو جبريل صلوات الله عليه، (ذِي قُوَّةٍ) كقوله تعالى: (شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ) [النجم: 5 ـ 6]؛ لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن، قال: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ليدل على عظم منزلته ومكانته (ثَمَّ) إشارةٌ إلى الظرف المذكور، أعنى: عند ذي العرش، على أنه عند الله مطاعٌ في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ: (ثم) تعظيماً للأمانة، وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يشبه النهار الذي غشيه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي يخنس، وإذا تنفس يجد راحة، فالصبح لما تخلص من الظلام، كأنه تخلص من كربه، وهو استعارة لطيفة". قوله: (لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن)، يعني: وصف جبريل بقوله: {مَكِينٍ}، وخص من أوصاف الله {ذِي الْعَرْشِ}، ليدل على عظم منزلة جبريل عند الله ومكانته؛ لأن حال الشخص يتفاوت بتفاوت حال من له عنده المنزلة، فمرتبة من يُلازم السلطان عند سرير الملك، مُباين لمرتبة من يلازمه عند الوضوء. قال القاضي: "معنى قوله: {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}: عند الله ذي مكانة". قال الإمام: معنى: {مَكِينٍ}: ذي الجاه الذي يُعطى ما سأل، يقال: مُكن فلان، بالضم، عند فلان، مكانة. قوله: (بياناً لأنها أفضل صفاته)؛ لن ثم للتراخي في المرتبة هاهنا.

[(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) 22]. (وَما صاحِبُكُمْ) يعنى: محمداً صلى الله عليه وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة، وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة، ومباينة منزلته أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم، إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما، وقايست بين قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، وبين قوله: (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكان جبريل ... ومُباينة منزلة لمنزلة أفضل الإنس)، الانتصاف: "ما يرضى له جبريل هذا التفسير المقتضي لتنقيص البشير النذير، السراج المنير، وقد قيل: الرسول الكريم محمد صلوات الله عليه، ولو كان جبريل، وقيل بتفضيل الملائكة مثلاً، لما جاز أيضاً؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تنقيص أحد منهم بتعيين من يفضل عليه بعينه، وفي معناه: "لا تُفضلوني على يونس بن متى"، فلو قلت: زيد أفضل أهل عصره لما شق [على أحد، بخلاف] ما إذا قلت: هو أفضل منك أيها المخاطب. وهذه الصفات إذا سُلمت لجبريل في حق نبينا في آخر الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الآية: 40] ". وإن قيل: هو جبريل: رد بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41]. والزمخشري وافق هناك. وقوله: {ذِي قُوَّةٍ}، لا نزاع أن جبريل أقوى، وقوله: {مُّطَاعٍ}، فطاعة الملائكة لنبينا ظاهرة، فقال له ملك الجبال: إن الله أمرني أن أُطيعك، فإن أمرتني أن أُطبق عليهم الأخشبين فعلت. وله الشفاعة: العامة والخاصة. وأما أنه أمين فقوله صلوات الله عليه: "إني أمين في السماء أمين في الأرض".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام ما معناه: "كما أنه سبحانه وتعالى أجرى على جبريل هذه الصفات هاهنا، أجرى على نبينا صلوات الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، فإفراد أحد الشخصين بالذكر وإجراء صفاته عليه، لا يدل على انتفاء تلك الصفات عن الآخر". وقال القاضي: "استدلاله ضعيف، إذ المقصود من ذلك رد قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما". وقلت: سيقت الآيات لبيان شأن الكتاب، حيث جعل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} مقسماً عليه بالأقسام السابقة فذُكر محمد صلوات الله عليه، وجبريل عليه السلام تابع لذكره، ونحوه قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38 - 43]؛ لأنهم كانوا يقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه كاهن، وشاعر، فرد الله عليهم بهذه الآيات، يعني: أنه صلوات الله عليه يتلقى هذا القرآن من لدُن حكيم عليم، بواسطة ملك مقرب، ومن صفاته أنه كيت وكيت، لا من جني متمرد رجيم كما يفترونه، ولذا فالموازنة إذن بين الجني والملك، لا بين محمد صلوات الله عليه والملك. وأما تسميته مجنوناً في قوله: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}، فعلى المشاكلة وإطباق الجواب على ما سُمع منهم، ويؤيده قول الزجاج: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} جواب القسم، أي: أقسم بهذه الأشياء أن القرآن نزل به جبريل وأن صاحبكم ليس بمجنون؛ لأنهم قالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. تم كلامه.

[(وَلَقَدْ رءاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) 23 ـ 25]. (وَلَقَدْ رَأَىهُ) ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) بمطلع الشمس الأعلى، (وَما هُوَ) وما محمد على ما يخبر به من الغيب، من رؤية جبريل والوحي إليه وغير ذلك، (بِظَنِين) بمتهمٍ من الظنة وهي التهمة. وقرئ: (بضنينٍ)، من الضنّ وهو البخل أي: لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه؛ وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبىّ بالضاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما. وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ؛ فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بونٌ بعيد؛ فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان، ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إنك إن أمعنت النظر، وقفت على أن في إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماجاً لتعظيم الرسول? ، وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش، بأن جعل السفير بينه وبينه، مثل هذا الملك المُقرب المُطاع الأمين، فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله? رفعة منزلته، كالقول في قوله: {ذِي الْعَرْشِ} بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل كما سبق والله أعلم. قوله: (هو في مصحف عبد الله بالظاء)، ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: بالظاء، والباقون: بالضاد.

وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أضبط، يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلافٌ بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب. فإن قلت: فإن وضع المصلى أحد الحرفين مكان صاحبه؟ قلت: هو كواضع الذال مكان الجيم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أحد الأحرف الشجرية)، الجوهري: الشجر: ما بين اللحيين، وذلق اللسان: طرفه. وقال الخليل: إن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان، وهي مُستدقه. قوله: (واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة)، يعني: عبد الله بن مسعود وأُبي ابن كعب. تشبيههما بجبلين، إشارة إلى رسوخهما في العلم، قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]. قوله: (والاشتقاق والتركيب)، التركيب من حيث إن الظنين: فعيل بمعنى مفعول، والضنين: اسم فاعل. نسبتهما بجبلين، إشارة إلى رسوخهما في العلم، قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]. قوله: (هو كواضع الذال مكان الجيم)، كنى بهذا بطلان صلاة من بدل الظاء بالضاد، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وجاء في كتاب "الروضة" جواز الإبدال، وقال الإمام: "والمختار الجواز لعُسر التمييز وشدة الاشتباه؛ لأنهما من المجهورة ومن الرِّخوة ومن

والثاء مكان الشين، لأن التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما. (وَما هُوَ) وما القرآن، (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي: بقول بعض المسترقة للسمع، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة. [(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَما تَشاءوُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) 26 - 29]. (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلالٌ لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدلٌ من (للعالمين)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المطبقة، ولأن النطق بالضاد مخصوص بالعرب، لما روى: "أنا أفصح من نطق بالضاد"، فلو اعتبر الفرق بينهما لوقع السؤال عنه في زمن الرسول? وزمن الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، ولو وقع لثقل، فلما لم ينقل علم أن التمييز ليس في محل التكليف". قوله: (كالتفاوت بين أخواتهما)، قال: ذكرت العرب ثلاث لغات في حُظظ بظاءين، وحُضض بضادين، وحُضظ بضاد بعدها ظاء، فلو اتحد الحرفان لما كان لروايتهم فيها ثلاث لغات معنى، وينادى عليه: الخَولان الخَولان؛ لأنه يجلب من بلاد خَولان، وهو دواء للعين تُطلى به الأجفان ولا يُدخل في العين. قوله: (في بنيات الطريق)، الجوهري: "هي الطرق الصغار تتشعب من الجادة".

وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعاً (وَما تَشاءوُنَ) الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه. أو: وما تشاؤونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "إذا الشمس كورت" أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أو: وما تشاءونها أنتم)، وإنما غير العبارة، بأن زاد في الثاني كلمة النفي في (من لا يشاؤها)، ولفظة {أَنتُمْ}؛ لأن الخطاب في قوله تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ} إما عام وعليه الوجه الأول، وإما خاص والمخاطبون هم المار ذكرهم في قوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}، وعليه الوجه الثاني، ولذلك سجل على عنادهم بقوله: "يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه". قال الإمام: "إن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله؛ لأن مشيئة العبد مُحدثة، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله، وقول المعتزلة: إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القسر والإلجاء ضعيف؛ لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية حادثة، ولا بد من محدث يُحدثها والله أعلم". تمت السورة بعون الله وحسن توفيقه وصلى الله على محمد * ... * ... *

سورة انفطرت

سورة انفطرت مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) 1 - 5]. (انْفَطَرَتْ) انشقت، (البحار فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحراً واحداً. وروى أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن. وقرئ: (فجرت) بالتخفيف، وقرأ مجاهد: فجرت على البناء للفاعل والتخفيف، بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى: (لا يَبْغِيانِ) [الرحمن: 20] لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى، وهما مركبان من البعث والبحث مع راءٍ مضمومةٍ إليهما. والمعنى: يحثت وأخرج موتاها. وقيل: لبراءة المبعثرة؛ لأنها بعثرت أسرار المنافقين. [(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) 6 - 8] فإن قلت: ما معنى قوله: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟ وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {انفَطَرَتْ} مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به؟ )، يعني: أن قوله: {مَا غَرَّكَ}: إنكار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغرور، ووجود الغرور حُكم يصح ترتبه على وصف الكرم؛ لأنه مناسب، فكيف أنكره؟ يدل على المناسبة حديث عليٍّ رضي الله عنه مع غلامه. وأجاب أن وصف الكرم في الآية مُقيد مقرون بقوله: {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}، ومعناه: أنه تكرم على الإنسان بأن أخرجه من العدم إلى الوجود أولاً، ثم تفضل عليه ثانياً بأن مكنه من العمل، وعرضه للثواب والعقاب، ليعرف حق تلك النعمة ويشكر ربه، فلما قصر فيه وغفل عنه أنكر عليه بقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (الَّذِي خَلَقَكَ}، يعني: من حق الإنسان أن لا يغتر بهذا الكرم، بل يجتهد في العمل ويقابل تلك النعمة بالشكر ولا يقول: قد أحسن الله إليّ حيث أوجدني من العدم، كذلك يحسن إليَّ إذا أنا مِتُّ فيغفر لي، وهو المراد من قوله: "اغتراراً بالتفضل الأول". وحاصله: أنه تعيير وتوبيخ، وليس بإطماع، فقوله: "وبتفضله" عطف على "بتكرم الله"، و"حتى": غاية "أن لا يغتر". وقوله: "أن يتفضل": مفعول "يطمع"، و"اغتراراً": علة لقوله: "حتى يطمع أن يتفضل عليه بالثواب". وقوله: "فإنه مُنكر"، مسبب عن قوله: "إن حق الإنسان أن لا يغتر"، إلى آخره. وقوله: "وقيل: للفضيل" جواب عن سؤال مقدر، يعني: إذا كان القيد ما ذكرت، فكيف قيده فُضيل بالستور المرخاة. وأجاب: أن كلامه مبني على الاعتراف بالقصور لا على الاعتذار؛ لأن فُضيلاً كان يغلب عليه الخوف، وأنشد صاحب "المطلع" لمحمد بن السماك في المعنى: يا كاتم الذنب أما تستحي [و] الله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا قال صاحب "الانتصاف": "هذه جعجعة فارغة، فالآية في الكفار لقوله: {كَلَّا بَلْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، وتخليدهم حق ولكن ليس واجباً على الله، ويجوز عقلاً أن لا يُخلد الكافر وأن يدخله الجنة لولا ورود السمع، فالله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد". وقلت: الحق العموم في الآية كما ذهب إليه المصنف. وقال الإمام: "في الإنسان قولان، أحدهما: أنه الكافر، لقوله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، والثاني: أنه متناول لجميع العُصاة، وهو الأقرب؛ لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ". وقلت: والنظم يساعد عليه، وذلك أن قوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ} إلى قوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، كالاعتراض بين قرينتي الجمع والتقسيم. فإن قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}، عام اشتمل على الفُجار والأبرار، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، تقسيم تضمن معنى التفريق، فإنه تعالى لما بين أحوال القيامة بانفطار السماء وانتثار الكواكب وانفجار الأبحر والبعث عن القبور، ثم إطلاع كل نفس: برها وفاجرها على عملها، خيرها وشرها، نبه جنس الإنسان عن رقدة الغفلة وسنة الجهالة بقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ}، يعني: أيها الغافل، وراءك هذا الخطب الجسيم والخطر العظيم، وأنت قد اغتررت بما تكرم عليك ربك حيث خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، فاشتغلت بذلك عن التزود لدار القرار، وأخلدت إلى دار الغرور، ولما كان مؤدى هذه الغفلة، الاغترار إلى الذهول عن المستقر الأصلي، نزله منزلة التكديب بيوم الدين، حتى أضرب عنه بقوله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، وهذا كما ترى من حال المتمادي في أمور الدنيا من المتسمين بالإسلام، إذا سمع شيئاً من أمر الآخرة تقبض واشمأز لغاية انهماكه في لذات العاجلة. ونظيره في تهديد المطففين: {أَلَا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ} [المطففين: 4]، جعلهم

وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن على رضي الله عنه أنه صاح بغلام له كرّاتٍ فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه. وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. قلت: معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه، حيث خلقه حياً لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها، أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغتراراً بالتفضل الأوّل، فإنه منكرٌ خارجٌ من حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها: «غرّه جهله»، وقال عمر رضي الله عنه: غرّه حمقه وجهله، وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً وهو متفضلٌ عليك آخراً، حتى ورطه، وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: "ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"ماذا تقول؟ قال أقول: غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر، وليس باعتذارٍ كما يظنه الطماع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسوأ حالاً من الكفار؛ لأنه تعالى أثبت للكفار ظناً في قوله: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ونفاه عنهم. قال القاضي: " {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه؟ وذكر {الْكَرِيمِ} للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام؟ وعن الاشتغال بما به يغُرُه الشيطان، ويقول: افعل ما شئت، فربك كريم لا يُعذب أحداً ولا يُعاجل بالعقوبة. وللدلالة على أن كثرة كرمه، تستدعي الجِدَّ في الطاعة لا الانهماك في المعصية اغتراراً بكرمه. وقوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ}، صفة ثانية مقررة للربوبية، مبنية للكرم، منبهة على أن من قدر على ذلك أولاً، قدر عليه ثانياً". قوله: (كما يظنه الطماع)، قيل: "ما": مصدرية، والضمير في "يظنه" يعود إلى الظن،

ويظن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم: إنما قال: (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر صفاته، ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم. وقرأ سعيد بن جبير: (ما أغرّك) إما على التعجب، وإما على الاستفهام؛ من قولك: غرّ الرجل فهو غارّ: إذا غفل، من قولك: بيتهم العدوّ وهم غارّون، وأغرّه غيره: جعله غاراً. (فَسَوَّاكَ) فجعلك سوياً سالم الأعضاء، (فَعَدَلَكَ) فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوتٍ فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحماً وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشى قائما لا كالبهائم. وقرئ: (فعدلك) بالتخفيف، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أي: عدل بعض أعضائك ببعضٍ حتى اعتدلت. والثاني: (فَعَدَلَكَ) فصرفك؛ يقال: عدله عن الطريق يعنى: فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقةً حسنةً مفارقةً لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: ليس باعتذار مثل ظن الطماع ذلك الظن، كما في قولك: عبد الله أظنه منطلق، أي: أظن الظن، منطلق. ولا يجوز أن تكون موصولة، والعائد الضمير؛ لأنه يلزم اقتصار الظن على أحد مفعوليه، وهو غير جائز. وأما ما ذكر في مواضع من هذا الكتاب أن أحد مفعولي حسب محذوف، فهو فيما إذا كان الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في المعنى، كقوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ} [النور: 57]، وقد صرح بهذا الشرط في كتابه، حيث قال: "الأصل: لا تحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك، أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر الاتنين عن ذكر الثالث". قوله: (وقُرئ: {فَعَدَلَكَ} بالتخفيف)، الكوفيون، والباقون: بالتشديد.

(ما) في (ما شاءَ) مزيدة، أي: ركبك في أيّ صورةٍ اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قلت: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ قلت: لأنها بيانٌ لعدلك. فإن قلت: بم يتعلق الجار؟ قلت: يجوز أن يتعلق بركبك على معنى: وضعك في بعض الصور ومكنك فيه، وبمحذوف أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور؛ ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك، ويكون في «أيّ» معنى التعجب، أي فعدلك في صورةٍ عجيبة، ثم قال: ما شاء ركبك. أي ركبك ما شاء من التراكيب، يعنى تركيباً حسناً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هلا عُطفت هذه الجملة؟ )، أي: قوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}، أي: لِمَ لَمْ يقل: ففي أي صورة، أو: فركَّبك في أي صورة؟ كما عطف ما قبلها، أي: قوله: {فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}. قوله: (ويجوز أن يتعلق بعَدَلَك)، عطف على قوله: "يجوز أن يتعلق بـ {رَكَّبَكَ} "، وعلى الأول إما صلة له وضمن "ركب" معنى "وضع"، أو حال من المنصوب فيه، وعلى التقديرين الجملة بيان للجملة الأولى، وعلى الوجه الثاني {مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} بيان، فإنه لما قيل: {فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} على التعجب، والتنكير للتفخيم، قيل: ما ذلك التعديل المفخم العجيب الشأن، وأجيب: لا يحيط الوصف بذلك، فإنه كما شاء الله ركبك، ولا يعلم ذلك إلا هو. قال صاحب "الكشف": {مَّا} صلة زائدة، و {شَاءَ}: في موضع الجر صفة لـ {صُورَةٍ}، و {فِي أَيِّ صُورَةٍ}: صلة {رَكَّبَكَ}، أي: عدلك وركبك في أي صورة شاء، فحُذف لكون

[(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) 9 - 12]. (كَلَّا) ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به، وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. ثم قال: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أصلا وهو الجزاء، أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شر من الطمع المنكر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجملة الثانية بياناً للأولى. وقال: وقيل: ما: شرطية، وشاء: في موضع الجزم، وركبك: جواب الشرط، ولا يكون الجار على هذا صلة {رَكَّبَكَ}؛ لأنه يقال: إن تضرب زيداً أضرب عمراً، لا يجوز تقديم "عَمراً" على إن، فوجب أن تكون {فِي أَيِّ صُورَةٍ}: صلة مُضمر، ولا تكون من صلة "عدلك"؛ لأنه استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. فعلى هذا، في كلام المصنف إشكال؛ لأنه جعله من صلة عدلك في الوجه الأخير. والجواب: التقدير: فعدلك فيما يقال في حقه: أي صورة ما شاء ركبك. قوله: ({كَلَّا} ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله)، يعني: {كَلَّا}: ردع، لما دل عليه قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}. وقوله: إلى عكسهما، متعلق بقوله: "والتسلق به". وقوله: "وهو موجب الشكر والطاعة"، حال، أي: انتهوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به إلى الكفران والمعصية، والحال أن التسلق بكرم الله عز وجل موجب الشكر والطاعة. قوله: (وهو شر من الطمع المنكر)، يعني: في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} كما سبق، ففيه ترَقٍّ من الأهون إلى الأغلظ. قال القاضي: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}: "إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم". الراغب: "بل هاهنا التصحيح الثاني وإبطال الأول، كأنه قيل: ليس هنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى، ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه".

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) تحقيق لما يكذبون به من الجزاء، يعنى أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيمٌ لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازى به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذارٌ وتهويلٌ وتشويرٌ للعصاة ولطفٌ للمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين! [(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ * وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) 13 - 16]. (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) كقوله: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة: 37]، ويجوز أن يراد: يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تحقيق لما يكذبون به من الجزاء)، بيان "ما"، أي أن قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}، يقرر أن المراد بالدين هو الجزاء لا دين الإسلام، لأن الحفظة لا يكتبون الجزاء، فيكون قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}: حالاً مقررة لجهة الإشكال، وإليه الإشارة بقوله: إنكم تكذبون بالجزاء، والكاتبون عليكم أعمالكم. قوله: (وتشوير للعصاة)، الجوهري: "شورت الرجل فتشور، أي: أخجلته فخجل". قوله: ({وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} كقوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37])، قال في تفسيره: " {هُمْ} دلت على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص" بناء على مذهبه. والوجهان اللذان ذكرهما هاهنا، ذكرهما فراراً من معنى الاختصاص الذي يؤدي إليه مذهب أهل الحق ولا محيد له عنه؛ لأن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أن الكلام في الفاعل، لا في الفعل، والمسألة متفق عليها، وقد استقصيناها في البقرة.

يعني: في قبورهم، وقيل: أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة التي يجازى فيها، وحال البرزخ وهو قوله: (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ). [(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) 17 - 19]. يعنى أن أمر يوم الدين بحيث لا ندرك دراية دارٍ كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول في وصفه فقال: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي: لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه، ولا أمر إلا لله وحده. من رفع فغلى البدل من (يوم الدين)، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يعني: في قبورهم)، والواو على هذا: للعطف، فيقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: إنهم الآن ليسوا بغائبين عن الجحيم، كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وعلى الأول: للحال. قوله: (إن أمر يوم الدين بحيث لا تُدرك دراية دار)، وعن بعضهم: {ثُمَّ} هاهنا للاستبعاد، والاستفهام في "ما" للاستنكار، وجعل ذلك مستبعداً مستنكراً. قوله: (ولا أمر إلا لله وحده)، الأمر: واحد الأمور، لا واحد الأوامر، قال الواحدي عن قتادة: "ليس أحد يقضي شيئاً أو يضع شيئاً إلا رب العالمين"، ولذلك عقب المصنف قوله: ولا أمر إلا لله وحده، قوله: أي: لا يستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه. قوله: (من رفع فعلى البدل)، ابن كثي وأبو عمرو، والباقون: بنصبها.

أو على: هو يومٌ لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون؛ لأنّ الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكنٍ وهو في محل الرفع. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "إذا السماء انفطرت" كتب الله له بعدد كل قطرةٍ من السماء حسنة وبعدد كل قبرٍ حسنةً». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لإضافته إلى غير متمكن)، قال الزجاج: "هو مبني على الفتح لإضافته إلى قوله: {لَا تَمْلِكُ}؛ لأن ما يُضاف إلى غير المتمكن قد يُبني على الفتح وإن كان في موضع رفع أو جر"، والله تعالى أعلم. تمت السورة بعون الله وتوفيقه والحمد لله رب العالمين * ... * ... *

سورة المطففين

سورة المطففين مختلف فيها، وهي ست وثلاثون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) 1 - 6]. التطفيف: البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيفٌ حقير ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة المطففين ست وثلاثون آية، مكية بخلاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (لأن ما يُبخس شيء طفيف حقير)، تعليل للتسمية، وكان من الظاهر أن يقال: لأن كل ما يُطفف يُبخس، قال الزجاج: "إنما قيل للفاعل: مُطفف لأنه لا يكادي يُسرف في المكيال والميزان إلا الشيء الحقير الطفيف، وأُخذ من طف الشيء، وهو جانبه".

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً، فنزلت، فأحسنوا الكيل. وقيل: قدمها وبها رجلٌ يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان: يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال: «خمسٌ بخمسٍ» قيل: يا رسول الله، وما خمسٌ بخمسٍ؟ قال: «ما نقض قومٌ العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الطفيف: الشيء النزر، ومنه الطفافة: لما لا يعتد به، وطفف الكيل: قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه". قوله: (وكانوا من أخبث الناس كيلاً)، روى ابن ماجه، عن ابن عباس، أن رسول الله? لما قدم المدينة كانوا أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}؛ فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قوله: (المنابذة والملامسة والمخاطرة)، النهاية: المنابذة في البيع هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلىَّ الثوب، أو أَنبِذه إليك، ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا انتبذت إليك الحصاة وجب البيع، فيكون البيع مُعاطاة من غير عقد، ولا يصح أن يقال: نبذت الشيء أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقال: والخطر بالتحريك، في الأصل: الرَّهن، وما يخاطر عليه، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومنزلة. وقيل: المخاطرة: بيع الغرر، مثل بيع الطير في الهواء والسمك في الماء.

ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر». وعن على رضي الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين، بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان؛ وخص الأعاجم؛ لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيالٍ ووزانٍ في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيالٌ أو وزانٌ؛ فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبىّ رضي الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين، لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم: أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بـ "يستوفون"، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها؛ وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويفصل الواجب من النَّفل)، أي: يُميزه منه، ويفرق بينهما. قوله: (ليلجمهم)، النهاية: "يبلغ العرق منهم ما يُلجمهم، أي: يصل إلى أفواههم، فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام". قوله: (ويتحامل فيه عليهم)، الأساس: "تحاملت الشيء: حملته على مشقة، وتحام عليَّ فلان: لم يعدل"، يريد أن {اكْتَالُوا} مما يعدي بمن، فلما ضمن معنى التحامل، كقولك: تحامل عليَّ فلان، عُدي بعلى. وفي "المطلع": كانوا متمكنين من الاحتيال في الأخذ مستوفى في الكيل بزعزة المكيال وميله بقوة وضغط.

لأنه حق عليه؛ فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك؛ وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ضميرٌ منصوبٌ راجعٌ إلى الناس، وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم؛ فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال: ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن نبات الأوبر والحريص يصيدك لا الجواد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أن يراد: كالوا لهم)، يقال: كلت الطعام، ويقال: كالك أي: كال لك، وكال المُعطي واكتال الآخذ. قوله: (ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً)، البيت. أكمؤاً: جمع كمأة على غير قياس، وفي "المجمل": العساقل: ضرب من الكمأة، الواحد عُسقول، وبنات الأوبر: كمأة صغار على لون التراب رديء، قيل: يُضرب المثل بها، فيقال: إن بني فلان [مثل] بنات أبر، يُظن أن فيهم خيراً ولا خير فيهم؟ قوله: (والحريص يصيدك لا الجواد)، قيل: المعنى: الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد، أي: إنما تحصل الأشياء بالحرص والجد لا بمجرد الاستعداد. وقال الميداني: "أراد أن الذي له هوى وحرص على شأنك هو الذي يقوم به، لا القوي عليه ولا هوى له فيك، يُضرب لمن يستغنى عن الوصية لشدة عنايته بك".

بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين؛ لأنّ الكلام يخرج به إلى نظمٍ فاسد؛ وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا؛ وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافرٌ، لأنّ الحديث واقعٌ في الفعل لا في المباشر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمضاف هو المكيل أو الموزون)، أي: كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم. قوله: (وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر)، أي: الحديث في أن هذا الفعل، وهو الإخسار، يصدر منهم، لا أن غيرهم لا يُخسرون. الانتصاف: "لا تنافر فيه، ولا يجعل هذا العامل في الضمير ليكون دالاً على المباشرة، بل المعنى: إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه، وإذا كان من جهتهم خاصة أخسروه، سواء باشروه أم لا. ويدل على أن الضمير لا يُعطي المباشرة أنك تقول: الأمراء هم الذين يُقيمون الحدود لا السوقة، وإن كانوا لا يباشرونه". وقلت: هذا بمعزل عن مقصد المصنف؛ لأنه يريد أن الضمير إذا جُعل للمطففين أفاد التركيب معنى الحصر، لما يؤدي تقديم الفاعل المعنوي على عامله في قوله: هم يخسرون إلى معنى الاختصاص وأن الخُسران واقع، وإنما الكلام في فاعله ومباشره أنه: هم أو غيرهم، فقيل: {يُخْسِرُونَ} ليفيد ما قال: هم على الخصوص أخسروا دون غيرهم، وليس الكلام إلا في الإخبار عنهم أنهم يُخسرون، فلو أُريد ذلك لخرج الكلام عن مقابلة ما قبله، إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع لا في الاختصاص، هذا هو المراد، فظن صاحب

والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيكٌ؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثيرٍ منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أنى رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضةً لكونها غير ثابتةٍ في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطيةٌ معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقةً بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "الانتصاف" أن غرض المصنف أن الإتيان بالضمير حينئذ لدفع الإسناد المجازي، وإسناد الفعل إلى غير المباشر. لكن الجواب: أن ليس بواجب حينئذ أن يجعل التركيب من باب التقديم ليفيد التخصيص، لاحتمال أن يكون من باب تقوى الحكم، والتقدير أنهم إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا البتة، فأفاد أن اهتمامهم بالإخسار بالدفع أتم من اهتمامهم في الاستيفاء عند الأخذ؛ لأن به يظهر أثر الربح، وعليه قوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، حيث خص البيع دون الشراء على أحد الوجوه. ثم يقال: إن معنى التخصيص من قوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار: 16] في السورة السابقة قطعي، لإيلاء حرف النفي الفاعل المعنوي، ولما كان مُخالفاً لمذهبه ذهب إلى أنه مثل {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ}، في قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا في الاختصاص، وهاهنا احتمل الأمرين، فقام مقام قرينة إرادة تقوى الحكم، فينبغي أن يرجح جانبها. قوله: (والتعلق في إبطاله) وهو مبتدأ، وقوله: "ركيك" خبره، أي: التعلق في إبطال كون الضمير منصوباً عائداً إلى الناس بخط المصحف ركيك، والجملة عطف من حيث المعنى على جملة قوله: "لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد"، إلى آخره، عنى به قول الزجاج حيث قال: "الاختيار أن يكون {هُم} في موضع نصب، بمعنى: كالوا لهم، ولو كانت على معنى كالوا، ثم جاءت {هُم} تأكيداً، لكان في المصحف الألف مُثبتة".

فمن لم يثبتها قال: المعنى كافٍ في التفرقة بينهما. وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا. فإن قلت: هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل أَوْ (وَزَنُوهُمْ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الضميرين للمطففين ويقفان عند الواوين وقيفة)، هذا يدل على أنهما جعلاهم في الموضعين مبتدأ، فالوجه أن يكون الخبر من أحدهما محذوفاً، أي: إذا كالوهم يُخسرون، وإذا وزنوهم يُخسرون. قال الزجاج: "منهم من يجعل {هُم} تأكيداً لما في كالوا، فيجوز أن يقف على: كالوا"، وكذا في "الكواشي". وقال أبو البقاء: "إنه ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل، فعلى هذا يُكتبان بالألف". قوله: (هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل: {أَو وَّزَنُوهُمْ}؟ )، أي: لِمَ لَمْ يوازن بين القرينتين؟ بأن يقال: إذا اكتالوا على الناس، أو اتزنوا عليهم يستوفون، لمكان قوله: وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؟ أجاب: أنه أتى على ما كانوا عليه، وتُعُورف من أحوالهم؛ لأنهم كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين. قال الزجاج: "المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن، ولم يذكر إذا اتزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع بما يُكال ويوزن". يريد أنه استغنى عن ذكر إحدى القرينتين بالأخرى بدلالة القرينة الآتية عليها. وقلت: الذين إذا اكتالوا إما أن يكون صفة مخصصة أو كاشفة أو جارية على الذم، فعلى الأول لا ينبغي ذكر الوزن؛ لأن سبب النزول - كما سبق - في قوم مخصوصين وفي فعل مخصوص وهو الكيل، وعلى الثاني: كلام الزجاج؛ لأن معنى التطفيف: البخس في الكيل

قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة؛ لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً. (يُخْسِرُونَ) ينقصون. يقال: خسر الميزان وأخسره، (أَلا يَظُنُّ) إنكارٌ وتعجيبٌ عظيمٌ من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيلٍ ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والوزن، فيدخل في هذا العام من نزلت فيهم الآية دخولاً أولياً، وعلى الثالث: يكون ذكر الوزن لمزيد الذم، يعني: إذا اتفق أحياناً لهم وزن بما هو قانون العدل، لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، يُخسرون أيضاً. قوله: (ويُزَعزِعُون)، ويُروى: ويُدعدعون. الجوهري: "الدعدعة: تحريك المكيال ونحوه ليسعه الشيء، ودعدعت الشيء: ملأته". قوله: (وفي هذا الإنكار والتعجيب)، يعني: الهمزة الداخلة على النافية: للإنكار والتعجيب. قال أبو البقاء: {أَلَا} ليست للتنبيه؛ لأن ما بعد حرف التنبيه مثبت، وهاهنا نفي، فدل كلمة الظن على التجهيل، واسم الإشارة على التبعيد، ووصف القيامة بيوم عظيم، ثم إبداله بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} على استعظام ما يستحقرونه وأن الحكمة اقتضت أن لا يهمل ذرة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ

ووصفه ذاته برب العالمين: بيانٌ بليغٌ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذٍ وإعطاء، بل في كل قولٍ وعمل، وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وفي تخصيص رب العالمين من بين سائر الصفات إشعار بالمالكية والتربية، فلا يمتنع عليه الظالم القوي، ولا يترك حق المظلوم الضعيف. وليس ذلك كله لأجل التطفيف من حيث هو التطفيف، بل من حيث إن الميزان قانون العدل والاستقامة، وهو الحكمة في الخلق والتكليف والحشر والنشر، ومن تطفف حاول إبطال حكمة الله في الدارين. قال الإمام: "اعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم، وبه قامت السموات والأرض، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]، وقال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وعن بعضهم: الغرض من هذه التعظيمات كلها، تعظيم التطفيف من حيث إن الميزان قانون العدل، كما إذا قال الحالف: والله الطالب الغالب الحي القيوم الذي لا يَخفّى عليه شيء لا أفعل. هذا تعظيم للمقسم عليه لا تعظيم للمقسم به. قوله: (وقيل: الظن بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر)، من أن المراد الإنكار والتعجيب، وأن المعنى أنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة، فإذا لا يدخل اليقين في المعنى. وعن بعضهم: أُلحق باخس حقوق الناس بالكفار بقوله: {أَلَا يَظُنُّ}، كقوله تعالى حكاية عن ظنهم: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، بل جعلهم أسوأ حالاً من الكفار؛ لأنه أثبت للكفار ظناً ولم يثبت لهؤلاء. وفي اسم الإشارة إشارة إلى الشتيمة.

ونصب (يَوْمَ يَقُومُ) بـ (مبعوثون). وقرئ: بالجر بدلاً من (يَوْمٍ عَظِيمٍ). وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده. [(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ * كِتابٌ مَرْقُومٌ) 7 - 9]. (كَلَّا) ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. وكتاب الفجار: ما يكتب من أعمالهم. فإن قلت: قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين، وفسر سجيناً بكتابٍ مرقوم؛ فكأنه قيل: إن كتابهم في كتابٍ مرقوم. فما معناه؟ قلت: (سِجِّينٍ) كتابٍ جامعٍ هو ديوان الشر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({سِجِّينٍ}: كتاب جامع)، تلخيصه ما قال الإمام: "وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر، إما بأن يوضع كتاب الفُجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إليه في تفصيل أحوال الأشقياء، أو بأن ينقل ما في كتاب الفُجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين، قال القفال: "كتاب مرقوم": ليس غير السجين، والتقدير: كتاب الفجار لفي سجين، وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم، وقد وصف كتاب الفُجار بوصفين، ويكون قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} اعتراضاً". وقال الإمام: "وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد من الكتاب الكتابة، والمعنى: أن كتابة الفجار، أي، كتابة أعمالهم في سجين، ثم وصف السجين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الفجار".

دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتابٌ مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة، أو معلمٌ يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبتٌ في ذلك الديوان، وسمى سجيناً: فعيلاً من السجن، وهو الحبس والتضييق، لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروحٌ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى صاحب "الكشف" عن أبي علي أنه قال في هاتين الآيتين: إن قوله: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}: خبر مبتدأ مُضمر، أي: وما أدراك ما سجين؟ كتاب، أي: هو كتاب، أي: موضع كتاب، وكذا "عِليون"، هو موضع كتاب، فحُذف المبتدأ والمضاف جميعاً، ولا بد منه؛ لأنه ثبت بالدليل أن "عِلّيين" مكان. روينا عن الترمذي وأبي داود، عن أبي سعيد الخُدري، أن رسول الله? قال: "إن أهل الدرجات العُلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الساطع من أُفق السماء، وإن أبا بكر وعُمر منهم وأنعما". وفي لفظ أبي داود: "إن الرجل من أهل عِليين ليشرف على أهل الجنة فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دُري". قال صاحب "الجامع": "أنعم فلان النظر في الأمر: إذا بالغ في تدبره والتفكر فيه وزاد فيه، وأحسن فلان إليّ وأنعم، أي: أفضل وزاد في الإحسان، أي: هما منهم وزادا في هذا الأمر وتناهيا فيه إلى غايته. والكوكب الدري هو الكبير المضيء، كأنه نُسب إلى الدّرِّ تشبيهاً". قوله: (أو لأنه مطروح)، وجه آخر في تعليل التسمية، يعني: سُمِّي كتاب الفُجار سجيناً تسمية للسبب باسم المسبب، أو تسمية للحال باسم المحل. روى الواحدي بإسناده، أن الفلق: جُب في جهنم مُغطى، وسجين: جُبٌّ في جهنم مفتوح.

كما روي تحت الأرض السابعة في مكانٍ وحشٍ مظلم، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة، وليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. فإن قلت: فما "سجينٌ"، أصفةٌ هو أم اسم؟ قلت: بل هو اسم علمٍ منقولٍ من وصفٍ كحاتم. وهو منصرفٌ لأنه ليس فيه إلا سببٌ واحدٌ وهو التعريف. [(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) 10 - 17]. (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) مما وصف به للذم لا للبيان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (استهانة به وإذالة وليشهده الشياطين)، كلها مفعول له لقوله: مطروح، أتى باللام في الثالث، لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل. وقوله: "كما رُوي" معترض بين الظرف وعامله، وهو قوله: "تحت الأرض". والإذالة: الإهانة، وفي الحديث: نهى عن إذالة الخيل، وهي امتهانها بالعمل والحمل عليها. قوله: (المدحورون)، أي: المبعدون والمطرودون. الجوهري: "الدحور: الطرد والإبعاد". قوله: ({الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ} مما وصف به للذم لا للبيان)، يعني: ليس قوله: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ} صفة كاشفة للمكذبين لكونهم معلومين، ولا هي فارقة، لأنه لم يُرد تمييزهم عن غيرهم. بل مرفوع أو منصوب على الذم. ويجوز أن يُبدل ليُناط به قوله: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ}، أي: متجاوز عن النظر. قال في "التقليد": حين استقصر قدرة الله فأعلمه، فاستحال الإعادة. أثيم: مُنهمك في الشهوات الخادعة، بحيث أشغلتع عما وراءها وحملته على الارتكاب لما عداها. و {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: من فرط جهله وإعراضه عن الحق، فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل.

كقولك: فعل ذلك فلانٌ الفاسقٌ الخبيث. (كَلَّا) ردعٌ للمعتدى الأثيم عن قوله: (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها: وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه. وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه، ريناً وغيناً، والغين: الغيم، ويقال: ران فيه النوم رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ: بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت. (كَلَّا) ردعٌ عن الكسب الرائن على قلوبهم. وكونهم محجوبين عنه: تمثيلٌ للاستخفاف بهم وإهانتهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ردع للمعتدي الأثيم عن قوله)، أي: قوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، قال الإمام: "ليس الأمر كما يقول من أن ذلك أساطير الأولين، بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الدين في قلوبهم". قوله: (الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة أن رسول الله? قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} ". قوله: (وقُرئ بإدغام اللام في الراء)، أبو بكر وحمزة والكسائي: {بَلْ رَانَ}، بإمالة فتحة الراء، والباقون: بتفخيمها، وحفص: يسكت على اللام من {بَلْ}. قال الزجاج: "والإدغام في الراء أجود، لقُرب مخرج اللام من الراء، ولغلبة الراء على اللام، وإظهار اللام جائز؛ لأن اللام من كلمة والراء من أُخرى". قوله: (وكونهم محجوبين عن ربهم: تمثيل للاستخفاف بهم)، أي: مُثلت حالهم في إهانتهم

لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال: إذا اعتروا باب ذي عبيةٍ رجبوا ... والنّاس من بين مرجوبٍ ومحجوب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الله وإنزال السُّخط عليهم بحال من يُحجب عن بعض السلاطين لذلك. "الانتصاف": "هي عند أهل السنة على حقيقتها، وهي من أدلة الرؤية. لما خص الله الكفار بالحجاب، دل على أنه مرفوع عن الأبرار، ولا معنى لرفع الحجاب إلا الإدراك، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ . وقلت - والعلم عند الله-: ويساعده النظم؛ لأن قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}، مقابل لقوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}، والسجين - كما فسره المصنف، وعليه أكثر المفسرين -: هو تحت الأرض السابعة، وهو مسكن إبليس وذريته، ولذلك قوبل بقوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}، فيكون قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} مقابلاً لقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ}. وقوله: {يَنظُرُونَ} مطلق، ليس فيه أنهم ينظرون إلى ماذا، فدل قوله: محجوبون عن ربهم، على أنهم غير محجوبين عنه. ويؤيده قوله عز وجل: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}؛ لأن في معنى قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [القيامة: 22 - 23]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقوله: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} إلى قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}؛ لأنه في معنى قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]. وروى محيي السنة أنه سُئل مالك عن هذه الآية، قال: "لما حُجب أعداؤه فلم يروه تجلي لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون الله، وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا". قوله: (إذا اعتروا باب ذي عُبية) البيت، ذي عُبِّيَّة، أي: ذي كبر ونحوه، فُعلية من

عن ابن عباسٍ وقتادة وابن أبى مليكة: محجوبين عن رحمته، وعن ابن كيسان: عن كرامته. [(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) 18 - 21]. (كَلَّا) ردعٌ عن التكذيب. وكتاب الأبرار: ما كتب من أعمالهم. وعليون: علمٌ لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقولٌ من جمع «علىّ» فعيلٌ من العلو، كسجين من السجن، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوعٌ في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون، تكريماً له وتعظيماً. روى: «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العُباب، وهو الارتفاع، أي: ذي تكبر، من قوله: صلوات الله عليه، "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية وتعاظمها". رواه الترمذي عن ابن عمر، يقال: فلان تعروه الأضياف وتعتريه، أي: تغشاه، ويقال: رجبته، بالكسر، أي: هبته وعظمته فهو مرجوب بالجيم، وبه سمِّي رجب؛ لأنهم كانوا يعظمونه. ومعنى قوله: "الناس من بين مرجوب ومحجوب"، أي: يُؤذن على الملوك الوجهاء المكرمون، ويُحجب عنهم الأدنياء المهانون. قوله: (وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة)، الراغب: "قيل: عِليون: اسم أشرف الجنان، كما أن سجين: اسم شر النيران. وقيل: بل ذلك في الحقيقة اسم سُكانها، وهذا أقرب في العربية إذ كان هذا الجمع يختص بالناطقين. قال: والواحد علي نحو بِطِّيخ، ومعناه: فإن الأبرار في جُملة هؤلاء، فيكون ذلك كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّ‍ينَ} [النساء: 69] ".

فقد غفرت له؛ وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين». [(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ * وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) 22 - 28]. (الْأَرائِكِ) الأسرة في الحجال، (يَنْظُرُونَ) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك، (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعم وماءه ورونقه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الأسرة في الحجال)، الجوهري: "الحجلة، بالتحريك: واحد حجال العروس، وهو بيت يُزين بالثياب والأسرة والستور". وعن بعضهم: لا يقال: أريكة إلا للسرير الذي يكون في الكِلَّة، أو شيء يكون في الكلة، والكلة: الستر الرقيق. قوله: (وما تحجب الحجال أبصارهم)، يُنظر إلى معنى ما سبق في من يضادهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فيقال: إذا لم يمنع الحجال أبصارهم عما يستبعد في المشاهد بل يستحيل، وهو أن ينظروا إلى جميع ما أولاهم الله من النعمة والكرامةة من مسافة في غاية البعد مع مانع الحجاب، وإلى أعدائهم يُعذبون في النار، فأي بُعد في أن ينظروا إلى ما هو المقصد الأسنى؟ روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله? قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غُدوة وعَشية"، ثم قرأ? : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].

كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه، وقرئ: (تعرف) على البناء للمفعول، (ونضرة النعيم) بالرفع. "الرحيق": الشراب الخالص الذي لا غش فيه "مَخْتُومٍ" تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسكٍ مكان الطينة. وقيل (خِتامُهُ مِسْكٌ) مقطعه رائحة مسكٍ إذا شرب. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم مزاجه بالمسك. وقرئ: (خاتمه)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروى السلمي عن ابن عطاء: "على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف، وعلى أرائك القُربة ينظرون إلى الرءوف. وقال جعفر في قوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}: تبقى لذة النظر تتلألأ مثل الشمس في وجوههم. وقال الجريري في {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}: يشربون صرفاً على بساط القرب في مجلس الأنس، وفي رياض القُدس، بكأس الرضا على مُشاهدة الحق". قوله: (وقُرئ: "خاتمه")، الكسائي، والباقون: {خِتَامُهُ}، وقراءة الكسائي تؤيد تفسير القفال على ما رواه الإمام عنه، أنه قال: "يحتملأن هؤلاء يُسقون من شراب مختوم، قد خُتم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يُكرم ويُصان. ويُفهم منه أن هناك خمراً تجري منها أنها كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، إلا أن هذا المختوم أشرف من الجاري". وقلت: ويؤيده قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وأن الساقي إذا كان ملكاً كان الشراب مصوناً مختوماً، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. ويمكن أن يقال: إن قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}، عطف على قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}. والتسنيم هم المعني بالشراب الذي هو أرفع شراب في الجنة. وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} في حكم المتأخر، قدم لمكان العناية بشأنه. قال في قوله تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً} [البقرة: 249]: مستثنى من قوله: {فَمَن شَرِبَ

بفتح التاء وكسرها، أي: ما يختم به ويقطع (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون. (تَسْنِيمٍ) علم لعينٍ بعينها: سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه: إمّا لأنها أرفع شرابٍ في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق، على ما روى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. و (عَيْناً) نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال، وقيل: هي للمقربين، يشربونها صرفا. وتمزج لسائر أهل الجنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قُدمت للعناية، كما قُدم {وَالصَّابِ‍ئُونَ} في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِ‍ئُونَ وَالنَّصَارَى} [المائدة: 69]، وإنما قلنا: إنه في حكم المتأخر؛ لأن المشار إليه بذلك جميع ما سبق من قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إلى آخره. وفائدة التقديم: الترغيب والحث على التحري والاجتهاد وإيثار ذلك على طلب العاجلة والمسابقة فيه، ولذلك قدم الظرف، أي: وفي ذلك وخص التنافس مع بناء التفاعل. النهاية: "التنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نفسه، ونافست في الشيء منافسة ونفاساً: إذا رغبت فيه". وقال بعضهم: ارتغب وتراغب بمعنى إلا أن ارتغب أكثر. وقلت: الفاء في {فَلْيَتَنَافَسِ} جواب شرط محذوف، أي: وما كان فليتنافس المتنافسون في ذلك، فقدم الظرف للاهتمام، ويجوز أن يقدر: وفي ذلك: ليتنافس المتنافسون، وعلى الأول ورد قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (فَلْيَعْبُدُوا} [قريش: 1 - 3]، وعلى الثاني قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]. قوله: (نصب على الحال)، أي: جارياً، وذو الحال: تسنيم، وهو علم للماء. وقيل: يشرب بها، الباء: زائدة، وقيل: ظرف، وقيل: بمعنى "من".

[(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) 29 - 33] هم مشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم: كانوا يضحكون من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم. وقيل: جاء على ابن أبى طالب رضى الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. (فَكِهِينَ) ملتذين بذكرهم والسخرية منهم، أي: ينسبون المسلمين إلى الضلال. (وَما أُرْسِلُوا) على المسلمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (رأينا اليوم الأصلع)، وفي النسخ المتعددة: ربنا اليوم، أي: رأسُنا اليوم الأصلع، مرفوعاً. قوله: ({فَكِهِينَ}) قراءة حفص، والباقون: فاكهين. قوله: (أي: ينسبون المسلمين إلى الضلال)، قال الإمام: "أي: هم على ضلال في ترك التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يُدرى هل له وجود أم لا. ومعنى {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}: أن الله لم يبعث الكفار رُقباء على المؤمنين يحفظون عملهم عليهم، ويتفقدون ما يصنعونه فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ويُسمونهم. ضُلالاً. ويعضده قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}، أي: ينظرون إلى جميع ما أولاهم الله من

(حَافِظِينَ) موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم؛ وهذا تهكم بهم. أو هو من جملة قول الكفار، وإنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إن هؤلاء لضالون؛ وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام وجدهم في ذلك. [(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ • عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ • هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) 34 - 36] (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) حال من (يَضْحَكُونَ) أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه وهم على الأرائك آمنون. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها؛ فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم. (ثوبه) و (أثابه) بمعنى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النعمة والكرامة الأبدية، وينظرون إلى أعدائهم يُعذبون في النار، وإلى ما أورثهم الله التُّرفة والتنعم بتلك النعم من العقاب السرمدية، ويقال للمؤمنين: هل جازينا هؤلاء الكفار على عملهم، لا سيما على ما كانوا يضحكون منكم ويستهزئون بطريقتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة مزيداً لسرورهم وتبجحهم، وتشويراً لأعدائهم وتشميتاً بهم؟ قوله: ("ثوبه" و "أثابه" بمعنى)، عن المبرد: ثوب: فعل، من الثواب، أي: رجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر. والثواب قد يستعمل في المكافأة مطلقاً. قال الإمام: والأولى أن يُحمل على التهكم.

إذا جازاه قال أوس: سأجزيك أو يجزيك عنى مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي وقرئ بإدغام اللام في التاء. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «المطففين» سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (سأجزيك) البيت، يُخاطب الشاعر محبوبته، وهي سليمة بنت فضالة. قوله: (بإدغام اللام في الثاء)، حمزة والكسائي وهشام. تمت السورة * ... * ... *

سورة انشقت

سورة انشقت مكية، وهي خمس وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(إذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ • وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ • وإذَا الأَرْضُ مُدَّتْ • وأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتَخَلَّتْ • وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ) 1 - 5] حذف جواب (إذا) ليذهب المقدر كل مذهب. أو اكتفاءً بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار. وقيل: جوابها ما دل عليه (فَمُلاقِيهِ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الانشقاق خمس وعشرون آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (جوابها ما دل عليه {فَمُلَاقِيهِ})، قال الإمام: "فعلى هذا قوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ} معترض، وهو كقول القائل: إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان، ترى عند ذلك ما عملت من خير وشر، أي: إذا كان يوم القيامة لقى الإنسان عمله".

أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. ومعناه: إذا انشقت بالغمام، كقوله تعالى: (ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) [الفرقان: 25]، وعن على رضي الله عنه: تنشق من المجرة. أذن له: استمع له. ومنه قوله عليه السلام: «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن»، وقول حجاف بن حكيم: أذنت لكم لما سمعت هريركم والمعنى: أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعناه: إذا انشقت بالغمام)، عن بعضهم: نظيره: انشق الأرض بالنبات، والباء للدلالة، ويكون في ذلك الغمام ملائكة العذاب، وكان ذلك أشد وأفظع، حيث جاء العذاب من موضع الخير، وقلت: والأظهر أن يُراد أن الملائكة ينزلون وبأيديهم صحائف الأعمال، لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِي}. قوله: (تنشق من المجرة)، الجوهري: "المجرة: التي في السماء، سُميت بذلك لأنها كأثر المجر". قال ابن قُتيبة في كتاب "الأنواء": "المجرة: شُرُج السماء كشرج القُبة، وهي: ما يُرى في الشتاء أول الليل في ناحية السماء، وفي الصيف في أول الليل في وسط السماء، تنتقل في آخر الليل في غير موضعها، ويقال إن النجوم تقاربت في المجرة فطُمس بعضهم، فصارت كأنها سحائب". قوله: (ما أذن الله لنبي)، الحديث. رواه الشيخان وأبو داود والدرامي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومعناه: ما استمع إلى شيء كاستماعه إلى صوت نبي قرأ الكتاب المنزل عليه، أي: لا يعتد لشيء كاعتداده إلى هذا. قوله: (والمعنى: أنها فعلت في انقيادها)، يريد: أن إذن السماء للانشقاق تمثيل، على

الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]. (وحُقَّتْ) من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به، يعني: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع، ومعناه الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك. (مُدَّتْ) من مد الشيء فامتد: وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها، حتى تمتد وتنبسط ويستوي ظهرها، كما قال تعالى: (قَاعًا صَفْصَفًا • لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا) [طه: 106 - 107]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: مدت مد الأديم العكاظي؛ لأن الأديم إذا مد زال انثناء فيه وأمت واستوى، أو من مده بمعنى أمده، أي: زيدت سعة وبسطة. (وأَلْقَتْ مَا فِيهَا) ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز، (وتَخَلَّتْ) وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منوال قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. قال الإمام: "المعنى: لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله في شقها وتفريق أجزائها، فكانت في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع؛ إذا ورد عليه الأمر من جهة مالكه أذعن ولم يمتنع لذلك". قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}، يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام والإفناء من غير ممانعة أصلاً. قوله: (بأن القادر الذات)، الانتصاف: "ما باله لا يقول: الذي عمت قدرته الكائنات، فيُثبت لله تعالى صفة الكمال؟ وإنما قوله: القادر الذات ميل إلى البدعة". قوله: (وكل أمت)، الجوهري: "الأمت: المكان المرتفع. والأمت التلال الصغار". قوله: (العُكاظي)، النهاية: "العكاظ: موضع بقرب مكة كانت تُقام بها في الجاهلية سوق يقيمون فيها أياماً".

كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم: إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما. (وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا) في إلقاء ما في بطنها وتخليها. [(يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ • فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ • فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا • ويَنقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا • وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ورَاءَ ظَهْرِهِ • فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا • ويَصْلَى سَعِيرًا • إنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا • إنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ • بَلَى إنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) 6 - 15] الكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه. ومعنى: (كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ) جاهد إلى لقاء ربك، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء (فَمُلاقِيهِ) فملاق له لا مجالة لا مفر لك منه، وقيل: الضمير في (ملاقيه) للكدح (يسيراً)، سهلاً هيناً لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوؤه ويشق عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الكدح: جهد النفس في العمل)، الراغب: "الكدح: السعي والعناء، قد يستعمل استعمال الكدم في الأسنان. قال الخليل: الكدح دون الكدم". قوله: (من الحال الممثلة باللقاء)، قال في العنكبوت: "لقاء الله مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء. مُثلت تلك الحال، بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخط منها". قوله: (وقيل: الضمير في "مُلاقيه" للكدح)، وهو على تقدير حذف مضاف، أي: فمُلاق جزاء كدحك من خير وشر، وعلى هذا قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} إلى آخره تفصيل له،

كما يناقش أصحاب الشمال. وعن عائشة رضي الله عنها: هو أن يعرف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يحاسب يعذب، فقيل يا رسول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا). قال ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذب». (إلَى أَهْلِهِ) إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو إلى فريق المؤمنين، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين (ورَاءَ ظَهْرِهِ) قيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره، (يَدْعُو ثُبُورًا) يقول: يا ثبوراه. والثبور: الهلاك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] إلى آخره. وعلى الأول الضمير: لله عز وجل، أي: إنك عامل باجتهاد إلى وقت الموت فملاق ربك. قال الإمام: "وفي الآية نكتة لطيفة، وهي أنها تدل على وجوب الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادة الأبدية". وقلت: ومن ثم قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35]. قوله: (من يحاسب يُعذب)، الحديث من رواية الشيخين والترمذي وأبي داود، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي? قال: "ليس أحد يُحاسب إلا هلك"، قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداءك، أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟ قال: "ذلك العرض يعرضون، ومن نُوقش الحساب هلك". النهاية: "نوقش، أي: من استقصى في محاسبته وحوقق. وأصل المناقشة من نقش الشوكة إذا استخرجها من جسمه، وقد نقشها وانتقشها".

وقرئ: (ويصلى سعيراً)، كقوله: (وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة: 94]، ويصلى: بضم الياء والتخفيف، كقوله: (ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء: 115]. (فِي أَهْلِهِ) فِيما أَهْلِهِ فيما بين ظهرانيهم، أو معهم، على أنهم كانوا جميعا مسرورين، يعني: أنه كان في الدنيا مترفاً بطراً مستبشرا كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب. ولم يكن كئيباً حزيناً متفكرا كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم (إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) [الطور: 26]. (ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أي: لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد: يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "ويصلى سعيراً")، أبو عمرو وعاصم وحمزة: بفتح الياء وإسكان الصاد مخففاً، والباقون: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام. قوله: (مُترفاً)، الجوهري: "أترفته النعمة: أطغته". قوله: (وحكاية الله)، بالجر: عطف على عادة الصلحاء، أي: ولم يكن كئيباً حزيناً كما حكى الله عنهم، أي: عن المتقين. قوله: (يحور رماداً بعد إذ هو ساطع)، أوله: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي: ارجعي. (بَلَى) إيجاب لما بعد النفي في (لَّن يَحُورَ) أي: بلى ليحورن، (إنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه، فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها. وقيل: نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشد وأخيه الأسود بن عبد الأشد. [(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ • واللَّيْلِ ومَا وسَقَ • والْقَمَرِ إذَا اتَّسَقَ • لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) 16 - 19] الشفق: الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء، إلا ما يروى عن أبى حنيفة رضي الله عنه في إحدى الروايتين: أنه البياض. وروى أسد بن عمرو: أنه رجع عنه، سمى لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان: رقة القلب عليه، (ومَا وسَقَ) وما جمع وضم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: شهاب ساطع، أي: مرتفع ملتهب. قوله: (في أبي سلمة بن عبد الأشد)، في "الكشاف": "الأشد بالشين المعجمة. وفي "جامع الأصول": بالسين المهملة. "هو أبو سلمة بن [عبد] الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القُرشي، ابن عمة النبي? ، وكان زوج أُم سلمة قبل النبي? ". قوله: ({وَمَا وَسَقَ}: وما جمع)، الراغب: "الوسق: جمع المتفرق، وسمي قدر معلوم من الحمل كحمل البعير: وسقا، وقيل: هو ستون صاعاً. قوله: {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}، قيل: وما جمع من الظلام، وقيل: عبارة عن طوارق الليل. والوسيقة: الإبل المجموعة، والاتساق: الاجتماع والاطراد".

يقال: وسقه فاتسق واستوسق. قال: مستوسقات لو يجدن سائقا ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين: اتسع واستوسع. ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها. (إذَا اتَّسَقَ) إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. قرئ: (لتركبن)، على خطاب الإنسان في (يَا أَيُّهَا الإنسَانُ)، و (لتركبن)، بالضم على خطاب الجنس، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مستوسقات لو يجدن سائقاً)، أول الرجز في "المطلع": إن لنا قلائصاً نقانقاً النقنق: الظليم، وهو ذكر النعام. قوله: (و {لَتَرْكَبُنَّ}، بالضم: على خطاب الجنس)، الكسائي وابن كثير وحمزة: على الخطاب، والباقون: بضم الباء الموحدة، وبكسر الباء: شاذ، قال محيي السنة: "لتركبن بفتح الباء: خطاب لرسول الله? . قال الشعبي رحمه الله ومجاهد: سماء بعد سماء. قال الكلبي: يعني تصعد فيها ويجوز درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله والرفعة". وقال صاحب "الكشف": "عن" بمعنى "بعد"، كقولهم: سادوك كابراً عن كابر، أي: بعد كابر، قال الذبياني: بقية قدر من قدور تورثت لآل الجلاح كابراً بعد كابر

لأن النداء للجنس؛ ولتركبن بالكسر على خطاب النفس، وليركبن بالياء على: ليركبن الإنسان. والطبق: ما طابق غيره. يقال: ما هذا بطبق لذا، أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء الطبق. وإطباق الثرى: ما تطابق منه، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي "التيسير": عن ابن عباس وابن مسعود: أي: لتركبن يا محمد أطباق السماء ليلة الإسراء، وهي بشارة بالمعراج. وقال الإمام: وذلك بشارة لرسول الله? بصعوده إلى السموات لمشاهدة ملكوتها وإجلال الملائكة إياه فيها، قال الله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3، نوح: 15]، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود؛ فقوله: "عن طبق"، أي: "بعد طبق"، قال: مازلت أقطع منهلاً عن منهل حتى أنخت ببات عبد الواحد وقلت: ويؤيد هذا الوجه التوكيد بالجملة القسمية، والتعقيب بالإنكارية بقوله {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؟ ، وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}. قوله: (والطبق: ما طابق غيره)، الراغب: "المطابقة من الأسماء المتضايفة، وهو أن تجعل الشيء فوق آخر بقدره، ومنه: طابقت النعل. ثم يستعمل الطباق فيما يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره تارة، كسائر الأشياء الموضوعة لمعنيين، ثم يستعمل لأحدهما بدون الآخر كالكأس والرواية ونحوهما، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3]، وقال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ}، أي: يترقى منزلاً عن منزل، وذلك إشارة إلى أحوال الإنسان من ترقيه في أحوال شتى في الدنيا، نحو ما أشار إليه بقوله: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} [فاطر: 11]، وأحوال شتى في الآخرة من النشور والبعث والحساب وجواز الصراط، إلى حين المُستقر إلى أحد الدارين".

ومنه قوله عز وعلا: (طَبَقًا عَن طَبَقٍ) أي حالاً بعد حال: كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات، ومنه: طبق الظهر لفقاره. الواحدة: طبقة، على معنى: لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. فإن قلت: ما محل عن طبق؟ قلت: النصب على أنه صفة لـ (طبقاً)، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حال من الضمير في لتركبن، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق. أو مجاوزاً. أو مجاوزة، على حسب القراءة. وعن مكحول: كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه. [(فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ • وإذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ • بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ • واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ • فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ • إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) 20 - 25] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهي الموت وما بعده)، هذا هو الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في {فَلَا أُقْسِمُ} على قوله: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15]. قوله: (على حسب القراءة)، يعني في {لَتَرْكَبُنَّ} من الضم والفتح والكسر، فقوله: {مُجاوزين} على قراءة الضم، والخطاب للجنس، وقوله: "مُجازاً" على قراءة الباء بالفتح؛ على أن الخطاب للرسول? ، و (ليركبن) بالياء كذلك، وقوله: (مُجاوزة) بكسر الواو، على أن (لتركبن) بكسر الباء، والخطاب للنفس. قوله: (تجدون أمراً لم تكونوا عليه)، يجدون: بفتح الياء وكسر الجيم والدال مخففة، ويروى: "تجدون"، بضم التاء الفوقانية وكسر الجيم والدال مُشددة، من: أجده، أي: جعله جديداً. الجوهري: "تجدد الشيء صار جديداً، وأجده وجدده واستجده: صيره جديداً".

(يَسْجُدُونَ) لا يستكينون ولا يخضعون. وقيل. قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم (واسْجُدْ واقْتَرِبْ) [العلق: 19] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت. وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على وجوب السجدة. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة. وعن أبى هريرة رضي الله عنه: أنه سجد فيها وقال: والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وعن أنس: صليت خلف أبى بكر وعمر وعثمان فسجدوا. وعن الحسن: هي غير واجبة (الَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إلى المذكورين. (بِمَا يُوعُونَ) بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ليس في المفصل)، عن بعضهم: قيل اسم للسابع في أكثر الأحوال، وقيل: من: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} [محمد: 1]. قوله: (وعن أبي هريرة أنه سجد فيها)، روينا عن الشيخين وأبي داود والنسائي، عن أبي سلمة: "رأيت أبا هريرة قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد فيها، وقال: لو لم أر النبي? ، سجد، لم أسجد". وفي رواية: سجد أبو بكر وعمر في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، ومن هو خير منهما. وهو سنة عند الشافعي في المفصل، على الجديد.

(إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «انشقت» أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: استثناء منقطع)، وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً". وقيل: التقدير: فبشر الناس. وقلت: ليس بذاك، لأن الضمير راجع إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا}، و {الَّذِينَ كَفَرُوا} وضع موضع المظهر، للإشعار بأنهم لا يؤمنون ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم، لأنهم كافرون مكذبون. تمت السورة حامداً لله ومُصلياً * ... * ... *

سورة البروج

سورة البروج مكية، وهي ثنتان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ • والْيَوْمِ المَوْعُودِ • وشَاهِدٍ ومَشْهُودٍ) 1 - 3] هي البروج الاثنا عشر، وهي قصور السماء على التشبيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة البروج مكية، وهي ثنتان وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (على التشبيه)، أي: تشبيه السماء بسور المدينة؛ فإنه ذو أبراج، الأساس: "لها وجه مسرج، وعليها ثوب مبرج، وهو الذي عليه تصاوير كبروج السور". الراغب: "البروج: القصور. وسمي بروج النجوم بها لمنازلها المختصة بها، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، وثوب مبرج: صور عليه بروج، واعتبر حُسنه، فقيل: تبرجت المرأة، أي: تشبهت به في إظهار المحاسن. وقيل: ظهرت من بُرجها، ويدل عليه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] ".

وقيل: البروجِ: النجوم التي هي منازل القمر. وقيل: عظام الكواكب. سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. (والْيَوْمِ المَوْعُودِ) يوم القيامة. (وشَاهِدٍ ومَشْهُودٍ) يعني: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد بالشاهد: من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود: ما في ذلك اليوم من عجائبه. وطريق تنكيرهما: إما ما ذكرته في قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) [التكوير: 14] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. وإما الإبهام في الوصف، كأنه قيل: وشاهد مشهود لا يكتنه وصفهما. وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما؛ فقيل: الشاهد والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة. وقيل: عيسى وأمته، لقوله: (وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة: 117] وقيل: أمة محمد، وسائر الأمم. وقيل: يوم التروية، ويوم عرفة، وقيل: يوم عرفة، ويوم الجمعة. وقيل: الحجر الأسود والحجيج، وقيل: الأيام والليالي، وبنو آدم. وعن الحسن: ما من يوم إلا وينادي: إنى يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد؛ فاغتمنى، فلو غابت شمس لم تدركني إلى يوم القيامة؛ وقيل: الحفظة وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد عليه السلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام وصاحب "التيسير" والقاضي: "وهي البروج الاثنا عشر، تسير الشمس فيها في سنة، والقمر في شهر، وقد تعلقت بها مصالح ومنافع، فأقسم بها إظهاراً لقدرها". وأما قوله: (البروج: النجوم التي هي منازل القمر)، فيرجع إلى المعنى الأول، لأن البروج الاثنى عشر منقسمة إلى ثمان وعشرين منزلاً. وقال الواحدي: "البروج: النجوم، أو منازلها". قوله: (سُميت بروجاً لظهورها)، مأخوذ من التبرج، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. قوله: (وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما)، والضابط أن الشاهد قد يحمل على الذي يشهد للمدعي على المدعى عليه، أو على الحاضر نحو: فلان شاهد مجلس فلان، ضد غائب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمشهود أيضاً قد يُحمل على المشهود عليه، أو على المشهود فيه. وكل واحد منهما إما حقيقي أو مجازي، وفيه وجوه: أ- أن الشاهد محمد? ، والمشهود يوم القيامة. روى محيي السنة عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: الشاهد محمد? ، والمشهود يوم القيامة، ثم تلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]. ب- الشاهد عيسى عليه السلام، والمشهود أُمته، وهو من قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117]. ج- الشاهد أمة محمد? ، والمشهود سائر الأمم، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. د- الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة، رواه محيي السنة عن سعيد بن المسيب. وعن بعضهم: وصف يوم التروية بصفة أهله، لأنه مشهود عليهم. هـ- الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة، رواه الإمام عن سعيد بن المسيب مُرسلاً. و- الشاهد الحجر والمشهود الحجيج، لعله أُخذ مما روي أن الحجر الأسود يشهد لمن استلمه يوم القيامة. ز- الشاهد الأيام والليالي، والمشهود بنو آدم، وهو من قول الحسن كما رواه.

[(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ • النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ • إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ • وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ • ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ • الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) 4 - 9] فإن قلت: أين جواب القسم؟ قلت: محذوف يدل عليه قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ) كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون، يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى، وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود وقتل: دعاء عليهم، كقوله: (قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عيس: 17]، وقرئ: (قتل) بالتشديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (محذوف)، أي: جواب القسم أنهم ملعونون. فعلى هذا، {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} لا يكون دعاء عليهم، بل هي كلمة تعجب، يُعجب الناس من عنادهم وشدة شكيمتهم ومبالغتهم في تعذيب المؤمنين، فيكون كناية عن كونهم ملعونين، كما يقول قائله: لله ما أشجعه! يدل على قوله: "و {قُتِلَ}: دعاء عليه". قال الإمام: "كان مشركو قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار عن مبالغتهم في إيذاء عمار وبلال". وروى الإمام عن الزجاج والأخفش، "أن جواب القسم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، واللام مضمرة كما قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ... قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 1، 9]، أي: لقد أفلح. وقيل: الجواب: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وقيل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ}، وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: إن الأمر حق في الجزاء".

والأخدود: الخد في الأرض وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق. ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها؛ فقتلها، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال: من رد عليك بصرك؟ فقال: ربى، فغضب فعذبه. فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقد بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجب بالقوم، فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور فلججوا به ليغرقوه، فدعا فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان)، عن بعضهم: أي: غابت ودخلت قوائم فرس سُراقة بن جعشم، حين اتبع رسول الله? حين خرج من الغار. النهاية: "وفي حديث المحرم: "فوقصت به ناقته في أخاقيق جُرذان فمات". الوقص: كسر العنق، والباء في "به" كقولك: خذِ الخطام وخذْ بالخطام. ولا يقال: وقصت العنق نفسها، ولكن: وقص الرجل فهو موقوص. والأخاقيق: شقوق في الأرض كالأخاديد، وأحدها أُخقوق، يقال: خق في الأرض، صححه الأزهري". قوله: (عن النبي? : كان لبعض الملوك)، هذا حديث طويل، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، ومسلم، والترمذي عن صهيب، مع زيادات واختلافات، يطول ذكره. قوله: (إلى قُرقور فلججوه)، النهاية: "القرقور: هو السفينة العظيمة، وجمعها قراقير".

فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام؛ فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر؛ فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق؛ فاقتحمت. وقيل: قال لها قعي ولا تنافقي. وقيل: قال لها: ما هي إلا غميضة فصبرت. وعن علي رضي الله عنه: أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس، إن الله أحل نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله حرمه؛ فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له: ابسط فيهم السوط؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلججوه: أي أدخلوه في لجة البحر. وروى عن المصنف أنه قال: هو سفينة صغيرة، وأهل جدة يقولون: سنبوك، وجمعه سنابيك. قوله: (فاقتحمت)، أي: رمت نفسها من غير روية. قوله: (قفي)، ويروى: "قعي". قوله: (وما هي إلا غُميضة)، يقال: أغمض عينها، وغمضها: إذا أطبق أجفانها، والضمير أي: هي، قيل: يعود إلى النار، يعني: ليس العذاب بتلك النار إلا زماناً قليلاً قدر إطباق أجفان العين، ويمكن أن يقال: إن الضمير للقصة، أي: ليس الأمر إلا قدر إطباق العين.

فلم يقبلوا؛ فقالت له: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا؛ فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها؛ فهم الذين أرادهم الله بقوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ). وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا، فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد، وقيل: سبعين ألفاً؛ وذكر أن طول الأخدود، أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر ذراعاً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء. (النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود، (ذَاتِ الوَقُودِ) وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، وقرئ: (الوقود)، بالضم (إِذْ) ظرف لقتل، أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها. ومعنى (عَلَيْهَا) على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كقوله: وبات على النار النّدى والمحلق وكما تقول: مرت عليه، تريد: مستعلياً لمكان يدنو منه، ومعنى شهادتهم على إحراق المؤمنين: أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من جهد البلاء)، أي: من شدة البلاء والتكليف فوق الطاقة. قوله: (وبات على النار النَّدى والمحلق)، أوله: تُشب لمقرورين يصطليانها تُشب: تُوقد، المقرور: من أصابه البرد، والمحلق: اسم رجل مضى شرحه غير مرة.

ويجوز أن يراد: أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، يؤدون شهادتهم يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24]، (ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) وما عابوا منهم، وما أنكروا إلا الإيمان، كقوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم قال ابن الرقيات: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وقرأ أبو حيوة: (نقموا) بالكسر، والفصيح هو الفتح. وذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزا غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً؛ لأن (مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم)، تمامه: بهن فُلول من قراع الكتائب مضى شرحه. قوله: (ما نقموا) البيت، أي: ما أنكروا من بني أمية إلا ما هو أصل الشرف والسيادة، وهو الحلم عند الغضب، وكظم الغيظ. قوله: (تقريراً، لأن {وَمَا نَقَمُوا})، "لأن" صلة "تقريراً"، وهو مفعول له، لقوله: "وذكر

هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يعدله عذاب، (واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد لهم، يعني أنه علم ما فعلوا، وهو مجازيهم عليه. [(إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ولَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ • إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ) 10 - 11] ويجوز أن يريد بالذين فتنوا: أصحاب الأخدود خاصة، وبالذين آمنوا: المطروحين في الأخدود. ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم، (فَلَهُمْ) في الآخرة، (عَذَابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم، (ولَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأوصاف"، يعني: إنما لم يكتف بقوله {إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا}، وذكر اسم الله وأجرى عليه تلك الأوصاف العظيمة، ليقرر أن وصف الإيمان الذي عابوا منهم، وصف عظيم له جلاله، وأن من قصد صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغيّ، فإن من يضاد الحق الأبلج، يستحق أن ينتقم منه بعذاب لا يعدله عذاب. قوله: (كما يتسع الحريق بإحراقهم)، الأساس: "أحرقه بالنار وحرقته، واحترق ووقع الحريق في داره". يريد أن عطف {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} على {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} يقتضي المغايرة، فيحمل الأول على أنهم استحقوه لكفرهم، والثاني على أنهم كما أحرقوا المؤمنين يُحرقون بنار تشبه الحريق المشاهد في الاتساع، وأخّر عذاب الدنيا عن عذاب الآخرة مراعاة للفواصل؛ قال الإمام في الوجه الأول: "لما كان عذال جهنم بالنسبة إلى عذاب الحريق كلا عذاب، لأنه قد اجتمع فيه أنواع الإحراق، قيل له: عذاب الحريق".

ولهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ويجوز أن يريد: الذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم؛ والمؤمنين: المفتونين؛ وأن للفاتنين عذابين في الآخرة: لكفرهم، ولفتنتهم. [(إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ • إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويُعِيدُ • وهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ • ذُو العَرْشِ المَجِيدُ • فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) 12 - 16] البطش: الأخذ بالعنف؛ فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم: وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذهم بالعذاب والانتقام، (إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويُعِيدُ) أي يبدئ البطش ويعيده. يعني: يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والاعادة على شدة بطشه، وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويجوز أن يريد: الذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم)، معنى الآية تذييل للكلام السابق، وتوكيد لمعنى قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}. وعلى الوجه السابق وهو أن يراد: بـ {الَّذِينَ فَتَنُوا} أصحاب الأخدود خاصة، وبـ {الَّذِينَ آمَنُوا} المطروحين، يكون لمجرد معنى {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، من باب المظهر الذي وضع أقيم موضع المضمر. قوله: (أو دل باقتداره على الإبداء)، يريد أن قوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}، استئناف على بيان موجب شدة البطش، ولما كان {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} مُطلقين، تركهما في هذا الوجه على إطلاقهما، لإفادة أنه يُبدئ المخلوقات كلها ويعيدها بأسرها، كقوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4]. فمن كان كذلك كان قادراً على الإطلاق، وكان بطشه شديداً لاقتداره العظيم. وصرح بالمفعول في الوجهين: أما في الأول، فالمفعول البطش لدلالة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ}، وأما في الثاني فضمير الكفرة المار ذكرهم، ليؤذن بضرب من الوعيد كما قال.

إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالاعادة، وقرئ: (يبدأ). (الوَدُودُ) الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود: من إعطائهم ما أرادوا. وقرئ: (ذى العرش) صفة لربك، وقرئ: (المجيد) بالجر صفة للعرش. ومجد الله عظمته. (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ محذوف. وإنما قيل: فعال؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود)، أي: استعار لذاته صفة الودادة على سبيل التمثيل، قال الإمام: "الودود: المحب، وهو قول أكثر المفسرين، قال الكلبي: الودود: المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء. وقال الأزهري: يجوز أن يكون الودود فعولاً بمعنى مفعولاً، كركوب وحلوب، يعني أن عباده الصالحين يُحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وكلتا الصفتين مدح، لأنه تعالى إذا أحب عباده المخلصين فلإفضاله، وإن أحبوه فلجزيل إحسانه". قوله: (وقُرئ: "المجيد" بالجر)، حمزة والكسائي، والباقون: بالرفع. قوله: (خبر مبتدأ محذوف)، وعن بعضهم: كأنه فصله لفصل المجرورين والتنكير، وقلت: إنما فصله لأنه كالفذلكة للأوصاف السابقة والخاتمة لها، ونُكرت لضرب من التعظيم، يتلاشى عنده الأوهام والعقول. قوله: (وإنما قيل: فعال، لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة)، "الانتصاف": "لا فاعل إلا هو، وبهذا تنتظم الآية، فإن أكثر ما أراد الله تعالى عند المعتزلة لم يكن تعالى الله عن ذلك، وهب أنا أعرضنا عن أدلتنا، أليس قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} يقتضي العموم، وأنه تعالى يفعل ما يريد؟ ".

[(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ • فِرْعَوْنَ وثَمُودَ • بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ • واللَّهُ مِن ورَائِهِم مُّحِيطٌ • بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ • فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) 17 - 22] (فِرْعَوْنَ وثَمُودَ) بدل من الجنود، وأراد بفرعون إياه وآله، كما في قوله: (مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ) [يونس: 83]، والمعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) أي: تكذيب واستيجاب للعذاب، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن اقتضاء مذهبه يخالف تفسيره؛ فإنهم يقولون: الله يريد من العباد الإيمان والطاعة، ولا يريد الكفر والمعصية، ولا شك أن الثاني أكثر وقوعاً. وأيضاً إن العباد إذا كانوا فاعلين لأفعالهم مستقلين في خلقها، فكأن الكثرة فيها. وقال الإمام: "احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال، قالوا: لا خلاف في أنه يريد الإيمان من المكلف، فوجب أن يكون فاعلاً له، وإذا كان فاعلاً للإيمان، وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة، لأنه لا قائل بالفرق. وقال القفال: الفعّال لما يريد: يفعل ما يريد على ما يراه، ولا اعتراض عليه، ولا يغلبه غالب، فيُدخل من يشاء الجنة لا يمنعه مانع، ويُدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر". قوله: (قد عرفت تكذيب تلك الجنود)، تفسير لقوله {هَلْ أَتَاكَ}، وفيه أن {هَلْ} هاهنا بمعنى {قَدْ}، وضُمن معنى التعجب بدلالة {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ}، ليفيد الترقي من التعجيب إلى التعجب في الإضراب الأول، والترقي من التكذيب إلى التكذيب في الإضراب الثاني. بيان ذلك قوله: "إن أمرهم أعجب من أمر أولئك، لأنهم سمعوا بقصصهم"، إلى قوله: "وكذبوا أشد من تكذيبهم". والمبالغة في الثاني تفهم من التنكير في قوله {فِي تَكْذِيبٍ}، ثم ترقى وقال: دع تكذيبهم بذلك، فإن هاهنا ما هو أطَمّ منه، وهو تكذيبهم بهذا القرآن المجيد المثبت في اللوح المحفوظ.

والإحاطة بهم من ورائهم: مثل لأنهم لا يفوتونه، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به. ومعنى الاضراب: أن أمرهم أعجب من أمر أولئك؛ لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا، وكذبوا أشد من تكذيبهم. (بَلْ هُوَ) أي: بل هذا الذي كذبوا به (قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه. وقرئ: (قرآن مجيد) بالإضافة، أي: قرآن رب مجيد. وقرأ يحيى بن يعمر: (في لوح) واللوح: الهواء، يعني: اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح (مَّحْفُوظٍ) من وصول الشياطين إليه، وقرئ: (محفوظ) بالرفع صفة القرآن. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «البروج» أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأنهم لا يفوتونه)، اللام صلة "مثل"، وليست للتعليل، أي: مثل لعدم الفوات. قوله: (وقُرئ: "محفوظ" بالرفع)، قرأها نافع. قوله: (وكل يوم عرفة)، عرفة: علم للموقف. عن بعضهم: إنما صُرفت هاهنا لأنه أراد تنكير اليوم، ولا طريق إليه إلا بتنكير المضاف إليه. تمت السورة * ... * ... *

سورة الطارق

سورة الطارق مكية، وهي سبع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [(وَالسَّمَاءِ والطَّارِقِ • ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ • النَّجْمُ الثَّاقِبُ) 1 - 3] (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: دريء؛ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه. ووصف بالطارق؛ لأنه يبدو بالليل، كما يقال للآتي ليلاً: طارق: أو لأنه يطرق الجني، أي يصكه. والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الطارق سبع عشرة آية، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (للآتي ليلاً)، أي: كما يقال لمن يأتي في الليل: طارق، كذلك يقال للنجم الطالع في الليل: طارق. قوله: (أو لأنه يطرق الجني، أي: يصكه)، أي: يضربه. الراغب: "الطرق في الأصل الضَّرب، إلا أنه أخص، لأنه ضرب توقع كطرق الحديد بالمطرقة، ويتوسع فيه توسعهم في

فإن قلت: ما يشبه قوله: (ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ • النَّجْمُ الثَّاقِبُ) إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي أي فائدة تحته؟ قلت: أراد الله عز من قائل: أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيماً له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو الطارق، ثم قال: (ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)، ثم فسره بقوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) كل هذا إظهار لفخامة شأنه، كما قال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ • وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة: 75 - 76] روي: أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانحط نجم، فامتلأ ماء ثم نوراً، فجزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال عليه السلام: «هذا نجم رمى به، وهو آية من آيات الله»، فعجب أبو طالب، فنزلت. [(إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) 4] فإن قلت: ما جواب القسم؟ قلت: (إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)؛ لأن (إن) لا تخلو فيمن قرأ: (لَّمَّا) مشددة، بمعنى: إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة_على أن (ما) صلة_تكون مخففة من الثقيلة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضرب. وسمي الماء الكدر طرقاً لطرقه الدواب بالرِّجل، والطارق السالك للطريق، لكن في المتعارف خُص بالآتي ليلاً، وعُبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل، وعن الحوادث التي تأتي بالليل بالطوارق". قوله: (فانحط نجم)، الأساس: "ناقة حطوط: سريعة السير، وحطت في سيرها وانحطت". قوله: (لا تخلو فيمن قرأ: {لَّمَّا} مشددة)، قرأ عاصم وابن عامر وحمزة: مشددة، والباقون: مخففة؛ فإن قُرئ "لمَّا" مشددة، يكون "إنْ" في قوله {إِن كُلُّ نَفْسٍ} نافية على تقدير: ما كل نفس

وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم، حافظ مهيمن عليها رقيب، وهو الله عز وجل (وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) [الأحزاب: 52]، (وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا) [النساء: 85]، وقيل: ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين». [(فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ • خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ • يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ) 5 - 7] فإن قلت: ما وجه اتصال قوله (فَلْيَنظُرِ) بما قبله؟ قلت: وجه اتصاله به، أنه لما ذكر أن على كل نفسٍ حافظاً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا عليها حافظ. وإذا قُرئ مخففة تكون "إنْ" مخففة من الثقيلة، و"ما" في "لما" صلة، أي: إن كل نفس لعليها حافظ، وأيتهما كانت، فهي مما يتلقى به القسم. قال الزجاج: "استعملت "لما" في موضع "إلا" في موضعين، أحدهما هذا، والآخر في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت". قوله: (وجه اتصاله [به] أنه لما ذكر)، وتحريره أنه تعالى لما أثبت أن على كل نفس حافظاً، يكتب أعمالها دقيقها وجليلها، خيرها وشرها على التوكيد القسمي، عُلم أنه تعالى ما خلق الخلق سُدى وعبثاً، بل خلقهم لأمر خطير وخطب عظيم، وما ذاك إلا ليعرفوا مالكهم وخالقهم، ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعُلم منه أنه لا بد من ثواب المطيع وعقاب العاصي، ومن الرجوع إلى المالك العادل للوصول إلى ما لكل منهما، قال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4]. فمن أنكر ذلك، فلينظر إلى نفسه {مِمَّ خُلِقَ} إلى قوله {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}، وهو المراد من قوله: "أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أول أمره"، إلى قوله "ولا يُملي على حافظه من الأعمال إلا ما يَسُرُه في عاقبته".

أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أول أمره ونشأته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته؛ و (مِمَّ خُلِقَ) استفهام جوابه (خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ) والدفق: صب فيه دفع. ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق، كاللابن والتامر، أو الإسناد المجازي. والدفق في الحقيقة لصاحبه، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه، (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ) من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فظهر من هذا التقدير أن الفاء في {فَلْيَنظُرِ} فصيحة تُفصح عن هذه المقدرات، مثلها في قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، بعد قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]. قوله: (الدفق: صب فيه دفع)، عن بعضهم: {مِن مَّاءٍ دَافِقٍ}، أي: سائل بسرعة، ومنه استعير: جاؤوا دُفقة، وبعير أدفق، أي: سريع. قوله: (وترائب المرأة، وهي عظام الصدر)، قال الإمام: "طعن [في هذه الآية] الملحدة، خذلهم الله وأبادهم، وقالوا: إن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء. فإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف، لأن معظمه

وقرئ: (الصلب) بفتحتين، و (الصلب) بضمتين. وفيه أربع لغات: صلب، وصلب، وصلب وصالب. قال العجاج: في صلب مثل العنان المؤدم وقيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة. [(إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ • يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ • فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا نَاصِرٍ) 8 - 10] (إنَّهُ) الضمير للخالق، لدلالة خلق عليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما يتولد من الدماغ. وإن كان المراد أن مُستقر المني هناك فضعيف أيضاً، لأن مستقره أوعية المني، وهي عروق تلتف بعضها ببعض عند البيضتين". وأجاب أن "لا شك أن أعظم الأعضاء معونة الدماغ، ومنه النخاع في الصلب، وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التَّريبة؛ على أن كلامهم محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله المجيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". قوله: (وقُرئ: "الصَّلب" بفتحتين)، {الصُّلْبِ}: بضم الصاد وسكون اللام: هي المشهورة، والبواقي: شواذ. قوله: (في صلب مثل العنان المؤدم)، أوله: ريا العظام فخمة المخدم يصف صلب امرأة باللين. فخمة المخدم: عظيمة الساق، والعنان: السير الذي يأخذه

ومعناه: إن ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة (عَلَى رَجْعِهِ) على إعادته خصوصاً (لَقَادِرٌ) لبين القدرة لا يلتاث عليه ولا يعجز عنه. كقوله: إنني لفقير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراكب بيده. المؤدم: أي المتخذ من الأديم. وعن بعضهم: جاء الصُّلب، بضمتين، وقد قُرئ به، واستشهد بقول الشاعر. قوله: (وما معناه: إن ذلك الذي خلق الإنسان)، يعني: إن في مجيء الفعل مجهولاً أولاً، والإضمار قبل الذكر ثانياً، الدلالة على أن الكلام من باب إرخاء العنان. أي: ما أقول: إنني أنا المبدئ والمعيد، بل أقول: إن ذلك الذي تعورف عندكم واشتهر وتقرون أنه الخالق، هو القادر على الإعادة؛ فجيء بإن واللام وتنكير الخبر، ليدل على رد بليغ، وعلى إنكار مبالغ عنهم، بأنه لا حشر ولا نشر، بل إما تعطيل أو أمر آخر كما اختلف فيه المبطلون. يعني: لا تتعلق القدرة بشيء من الأشياء، إلا بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ومن ثم نص على قوله: "على إعادته خصوصاً {لَقَادِرٌ}؛ قال الإمام: "الضمير في {إِنَّهُ} للخالق، مع أنه لم يتقدم ذكره، لأنه قد تقرر في بدائه العقول، أن القادر على هذه التصرفات هو الله تعالى، ولذلك كان كالمذكور". قوله: (لا يلتاث عليه)، الجوهري: "الالتياث: الاختلاط والالتفات، يقال: التاثت الخطوب والتاثت برأس القلم شعرة". يعني: دل التنكير في {لَقَادِرٌ} على كمال القدرة، كما التنكير في قول الشاعر: لئن كان يهدي برد أنيابه العلا لأفقر مني، إنني لفقير يريد: بليغ الفقر جداً، ومضى شرحه في "البقرة".

(يَوْمَ تُبْلَى) منصوب بـ (رَجْعِهِ)، ومن جعل الضمير في (رَجْعِهِ) للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل، أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بمضمر (تُبْلَى السَّرَائِرُ) ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال. وبلاؤها: تعرفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({يَوْمَ تُبْلَى} منصوب بـ {رَجْعِهِي})، قال صاحب "الكشف": "لا يجوز أن ينتصب به، للفصل بين الصلة والموصول بقوله {لَقَادِرٌ}، ولا ينتصب أيضاً بقوله: {قَادِرٌ} " لأنه تعالى قادر في كل الأوقات؛ فإذن ينتصب بمُضمر دل عليه قوله {رَجْعِهِي}، أي: بعثه يوم تبلى السرائر. وإن شت بمضمر دل عليه قوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}. ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً بـ {رَجْعِهِي} للعلة المذكورة، وأجاز أن يكون منصوباً بـ {قَادِرٌ}. ويمكن أن يقال: إن الفصل غير مانع لأنه في تقدير التأخير، قُدم مُراعاة للفواصل، على أن الظرف اتسعوا فيه ما لم يتسعوا في غيره. قوله: (ومن جعل الضمير في {رَجْعِهِي} للماء، وفسَّره برجعه إلى مخرجه) إلى قوله (نصب الظرف بمضمر)، وفي "معالم التنزيل"، قال مجاهد: على رجعه: رد النطفة في الإحليل. وقال عكرمة: على رد الماء إلى الصُّلب الذي خرج منه، وقال الضحاك: إنه على رد الإنسان ماءً كما كان من قبل لقادر، وقال قتادة: إن الله على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر، وهذا أولالأقاويل لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، وذلك يوم القيامة، لأنه مردود إلى قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}، أي: يوم تبلى ما كتب عليه الملك من أعمال الخير والشر، وكانت خفية عليه وعلى الناس، فحينئذ لا يقدر على دفع ذلك بنفسه، ولا له ناصر يدفع عنه غير الله. قوله: (نصب الظرف بمضمر)، أي: بـ "اذكر" قبله، أو بقوله: "كان كيت وكيت" بعده.

وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر فقال: ما أغفله عما في (وَالسَّمَاءِ والطَّارِقِ)! (فَمَا لَهُ) فما للإنسان، (مِن قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها (ولا نَاصِرٍ) ولا مانع يمنعه. [(والسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ • والأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ • إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ • ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ) 11 - 14] سمي المطر رجعاً، كما سمي أوباً قال: رباء شمّاء لا يأوى لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل تسمية بمصدري: رجع، وآب؛ وذلك أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقال: ما أغفله عما في {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ})، يعني: يشتغل بالشدائد ولا يتفطن لها، إذ لو عقل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}، شغله عن هذه المحبة، لكنه ذُهل عن تلك الشؤون حتى تكلم بهذا. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "يُبدي الله تعالى يوم القيامة كل خير وشر، فيكون إما زيناً في الوجوه أو شيناً فيها". يعني: من حفظها كان وجهه مشرقاً، ومن ضيعها كان وجهه أغبر. قوله: (رباء شماء) البيت، وفي "المطلع": زناء، بالزاي والنون المشددة، من: زنأ في الجبل: إذا صعد فيه. ويروى: "رباء"، بالراء والباء الموحدة من تحت، يقال من: ربأ: الرَّبيئة: الديدبان، إذا صعد المربأ وهو المرقب. تم كلامه. الشمم: ارتفاع الأنف، والنعت منه الأشم. وقيل: شماء مضاف إليه، والسبل: المطر الجود. يصف الهضبة بالارتفاع، والمعنى: هذا الرجل رباء قلعة شماء. قوله: (كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض)، لعل هذه الوجه غير مرضي، لأن هذا الزعم باطل، وقد مر بطلانه في "البقرة"، ولم يذكره الإمام ولا المفسرون.

أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً، وأوباً ليرجع ويؤب. وقيل: لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً. قالت الخنساء: كالرجع في المدجنة السارية والصدع: ما يتصدّع عنه الأرض من النبات (إنَّهُ) الضمير للقرآن، (فَصْلٌ) فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له فرقان (ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يعني: أنه جد كله لا هوادة فيه. ومن حقه وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (كالرجع في المدجنة الساريه)، أوله: يوم الوداع ترى دموعاً جاريه المُدجنة: السحابة المظلمة، والسارية من السحاب: ما بين الغادية والرائحة. قوله: ({إِنَّهُ}: الضمير للقرآن)، روى الإمام عن القفال أنه قال: "إن المعنى أن ما أخبرتكم به من قُدرتي على إحيائكم يوم تُبلى فيه سراركم، قول حق وكلام فصل"، ثم قال الإمام: "هذا أولى، لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أحرى". وقلت: ويؤيده قضية النظم، وهو أنه تعالى لما بدأ في مفتتح السورة بما دل على إثبات الحشر، وأكده بالإقسام بالنجم الثاقب، ثنى بالإقسام بقوله: لإثبات ذلك المطلوب تشديداً وتقريراً، ولذلك نفى الهزل، وعبر عن إنكارهم بالكيد والحيلة والتلبيس على العوام، قال الإمام: "الكيد: هو إلقاء الشبهات، كقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]، قال: {مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ". قوله: (لا هوادة فيه)، الأساس: "بينهم مُهاودة وهوادة، وما في فلان هوادة: رفق ولين". قوله: (ومن حقه)، وهو خبر، والمبتدأ: "أن يكون مهيباً"، "وقد وصفه الله تعالى بذلك":

معظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه، وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أن جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده وبوعده، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادا غير هازل، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله: (وتَضْحَكُونَ ولا تَبْكُونَ • وأَنتُمْ سَامِدُونَ) [النجم: 60 - 61]، (والْغَوْا فِيهِ) [فصلت: 26]. [(إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا • وأَكِيدُ كَيْدًا • فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) 15 - 17]. (إنَّهُمْ) يعني أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق، وأنا أقابلهم بكيدي: من استدراجي لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم، (فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ) يعني: لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حال من الضمير المجرور في "حقه"، يريد أنه من المعلوم أن القرآن كله جد وليس بهزل؛ وإنما وصفه الله تعالى بذلك، ليكون مهيباً في الصدور، معظماً في القلوب. روينا عن الترمذي والدرامي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال: "سمعت رسول الله? يقول: إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله". الحديث. قوله: (يترفع به قارئه)، أي: يُعظه بأن لا يشتغل بما يخالف تعظيمه، من الإلمام بالهزل، والتفكه بالمزاح. "الأساس": "دخلت عليه فلم يرفع لي رأساً، ورفعت له غاية فسما إليها". قوله: (أن يُلم)، أي: أن ينزل. الجوهري: "قد ألم به، أي: نزل به". قوله: (وأن يلقي ذهنه)، عطف على قوله: أن يكون مهيباً" على سبيل البيان، يدل عليه قوله: "أن جبار السموات يخاطبه"، أي: به، لا على قوله: "أن يلمّ" لفساد المعنى.

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) أي إمهالاً يسيراً؛ وكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «الطارق»، أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أي: إمهالاً يسيراً)، جعله صفة مصدر محذوف، ومنه قوله: ضعه رويداً، أي: وضعاً رويداً؛ قال الإمام: "واعلم أن رُويد": إما اسم للأمر كقولك: رويد زيداً، أي: خله ودعه وارفق به، ولا تنصرف فيه حينئذ لأنه غير متمكن. أو يكون بمنزلة سائر المصادر، تقول: رويد زيد، كما تقول: ضرب زيد. أو يكون نعتاً منصوباً، أي: إمهالاً يسيراً، أو يكون حالاً، أي: أمهلهم غير مستعجل، قال أبو عبيدة: تكبيره: رود، وأنشد: يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته كأنه ثمل يمشي على رود أي: على مهل ورفق وتؤدة. وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال: "رويد زيداً، يريد: أرود زيداً، وأمهله، وأرفق به". قوله: (وكرر وخالف بين اللفظتين)، يعني: مَهِّل وأَمْهِل، ومعناهما واحد والباب مختلف. ولما كان الأصل في التكرار الموافقة، فلما خولف آذن أنه لأمر ما؛ فقوله: "لزيادة التسكين"، يتعلق بكل واحد من التكرير والمخالفة، فكأنه قيل: كرر وخالف لمزيد، مزيد التسكين منه. تمت السورة بعون الله * ... * ... *

سورة الأعلى

سورة الأعلى مكية، وهي تسع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم [(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى • الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى • والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى • والَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى • فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) 1 - 5] تسبيح اسمه عز وعلا: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه، كالجبر والتشبيه ونحو ذلك، مثل أن يفسر (الأَعْلَى) بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلو في المكان والاستواء على العرش حقيقة؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الأعلى مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (مثل أن يفسر {الْأَعْلَى})، متصل بقوله: "تنزيهه"، أي: تسبيح اسمه: تنزيهه عما لا يصح فيه، مثل أن يفسر {الْأَعْلَى} بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلو في المكان. الراغب: "العلو ضد السفل، والعلو: الارتفاع، وقد علا يعلو علواً، وعلي يعلى علاءً فهو علي؛ فـ "علا" بالفتح: في الأمكنة والأجسام أكثر، والعلي هو الرفيع القدر، من: علي، وإذا

وأن يصان عن الابتذال والذكر، لا على وجه الخشوع والتعظيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وصف الله تعالى به، فمعناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين، بل علم العارفين، وعلى ذلك يقال: تعالى، نحو: {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]. وتخصيص لفظ التفاعل مبالغة ذلك، لا على سبيل التكليف كما يكون من البشر. وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، أي: أعلى من أن يقاس به أو يعتبر بغيره". قوله: (وأن يصان عن الابتذال)، عطف على قوله: "تنزيهه"، أي: تسبيح اسمه: تنزيه ذاته عما لا يصح فيه من المعاني، وأن يصان اسمه من أن يبتذل، وأن يُذكر إلا على وجه التعظيم. ويجوز أن يُعطف على (أن يفسر)، على أن يجعل من اللف التقدير، بأن يقال: تسبيح اسمه: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني، وعما لا يليق باسمه من خلاف التعظيم، فالاسم على الأول مُقحم كما في قول القائل: إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما وإلى المعنى الأول ينظر قول محيي السنة: "قال قوم: نزه ربك عما يصفه الملحدون، جعلوا الاسم صلة؛ يحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحداً، لأن أحداً لا يقول: سبحان اسم الله، بل: سبحان الله". وإلى المعنى الثاني، يُلمح قوله: "وقال الآخرون: نزه تسمية ربك، بأن تذكره وأنت له معظم ولذكره محترم، جعلوا الاسم بمعنى التسمية".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام: "إنه كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب". وقال القاضي في "شرح المصابيح": "قال مشايخنا: التسمية هو اللفظ الدال على المسمى، والاسم هو المعنى المسمى به"، كما أن الوصف قد يطلق ويراد به اللفظ، كذلك الاسم يطلق ويراد به المسمى، إطلاقاً لاسم الدال على المدلول، وعليه اصطلحت النحاة. ويدل على أنه للمعنى دون اللفظ قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ}، و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40]؛ فإن من المعلوم أن عبدة الأصنام ما عبدوا اللفظ وإنما عبدوا المسمى. وقالت المعتزلة: الاسم هو التسمية دون المسمى. قال حجة الإسلام: "الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة، والمسمى هو المعنى الموضوع له، والتسمية: وضع اللفظ وإطلاقه". وقال الراغب: "ما ذكر من الخلاف في أن الاسم، هل هو المسمى أو هو غيره؟ كلاهما صحيح؛ فإن من قال: إن الاسم وهو زيد أو عمرو هو المسمى، نظر إلى قولهم: رأيت زيداً، وزيد رجل صالح، فإن زيداً هاهنا عبارة عن المسمى، والرؤية به تعلقت. ومن قال: هو غير المسمى، نظر إلى نحو قولهم: سميت ابني زيداً، وزيد اسم حسن، فإنه عنى أني سميت ابني بهذا اللفظ، وأن هذا اللفظ محكوم عليه بالحُسن. فإذن، قولك: زيد حسن، لفظ مشترك يصح أن يعني به أن هذا اللفظ حسن، وأن يعنى به أن المسمى حسن. وأما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى، لكان من قال: النار أحرقت فمه، فهو بعيد، لأن عاقلاً لا يقول: إن زيداً الذي هو زاي، وياء، ودال، هو الشخص".

ويجوز أن يكون (الأَعْلَى) صفة للرب، والاسم؛ وقرأ علي رضي الله عنه: سبحان ربي الأعلى. وفي الحديث لما نزلت: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم»، فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال: «اجعلوها في سجودكم»، وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت. (خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم (قَدَّرَ فَهَدَى) قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به؛ يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن المصنف قال في تفسير قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِي} [الأعراف: 180]: "ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والإحسان وانتفاء الشبه بالخلق. وذروا الذين يلحدون في أوصافه، فيصفونه بمشية القبائح، وخلق الفحشاء والمنكر، وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها". وأخفى هذه المعاني في قوله: "هي إلحاد في أسمائه كالجبر والتشبيه ونحو ذلك" هاهنا. ونحن معاشر أهل السنة، ننزه أسمائه بأن نمجده بأسمائه الحسنى الواردة في النقل الصحيح، وننزه صفاته بأن لا نخوض فيها من تلقاء أنفسنا، بل نصفه بما جاء في الكتاب والسنة، بعد أن نعتقد أنه تعالى ليس كمثله شيء. قوله: (عن الابتذال)، الجوهري: "ابتذال الثوب وغيره: امتهانه، والتبذل: ترك التصاون". قوله: (وفي الحديث: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74])، الحديث رواه أبو داود وابن ماجه والدرامي، عن عقبة بن عامر، وليس فيه: "وكانوا يقولون" إلى آخره.

وقد ألهمها الله أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله. وهدايات الله للإنسان إلى مالا يحد من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض: باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربي الأعلى. وقرئ: (قدر) بالتخفيف. (أَحْوَى) صفة لـ «غثاء»، أي: (أَخْرَجَ المَرْعَى) أنبته. (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته ورفيفه، (غُثَاءً أَحْوَى) دربنا أسود. ويجوز أن يكون (أَحْوَى) حالاً من (المَرْعَى)، ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وشوط بطين)، الأساس: "ومن المجاز: شأو بطين، أي: بعيد، قال كعب بن زهير: فبصبصن بين أداني الغضا وبين عُنيزة شأواً بطينا وتباطن المكان: تباعد. بصبص الكلب وتبصبص: حرك ذنبه، والتبصبص: التملق. قوله: (وقُرئ: "قدر" بالتخفيف)، الكسائي، والباقون: بالتشديد. قوله: (ورفيفه)، الجوهري: "رف لونه يرف - بالكسر- رفاً ورفيفاً، أي: برق وتلألأ. ثوب وشجر رفيف: إذا تندت". قوله: (دريناً أسود)، الجوهري: "الدرين: حطام المرعى إذا قدم، وهو ما يلي من الحشيش، قل ما ينتفع به الإبل". قوله: (ويجوز أن يكون {أَحْوَى} حالاً من {الْمَرْعَى})، قال صاحب "الكشف": {أَحْوَى} فسروه على وجهين: أحدهما: أسود يابساً، والثاني: أخضر يضرب إلى السواد لشدة الري.

أي: أخرجه أحوى أسود من شدة الخضرة والري، (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) بعد حويه. [(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى • إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى) 6 - 7] بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي: أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه، (إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته، كقوله: (أَوْ نُنسِهَا) [البقرة: 106] وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل، فقيل: لا تعجل، فإن جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه؛ ثم لا تنساه إلا ما شاء الله، ثم تذكره بعد النسيان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى الثاني: في الكلام تقديم وتأخير؛ إذ التقدير: الذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر، فجعله غثاءً، ولا يكون {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} فصلاً بين الصلة ومتعلقه، لأن قوله: {فَجَعَلَهُ} أيضاً في الصلة، والفصل بين الصلة وبعضها جائز. هذا هو المراد من قول أبي البقاء: "قيل: {أَحْوَى} حال من {الْمَرْعَى}، أي: أخرج المرعى أخضر، ثم صيره غثاءً؛ فقدم بعض الصلة"، ومن ثم قدر المصنف: فجعله غثاءً بعد حوته. قوله: (فيحفظه ولا ينساه {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ})، اعلم أنه أجرى {مَا شَاءَ اللَّهُ} تارة على حقيقية الاستثناء، وأخرى على المجاز. أما الأول فعلى وجوه: أحدها: قوله: "فيحفظه ولا ينساه {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ". والمراد بالنسيان على هذا ما هو قسيم النسخ، من رفع الحكم والتلاوة، كما قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]. ويلحق بهذا الوجه الوجه الأخير، وهو قوله: " {فَلَا تَنسَى}، على النهي"، كقوله: "إلا ما شاء الله أن ينسيكهه برفع تلاوته للمصلحة". وثانيها: قوله: "أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله"، فإن النسيان على هذا هو المتعارف، ولما كان المراد منه: لا ينساه نسياناً كلياً كما قال في الوجه الأول.

أو قال: إلا ما شاء الله، يعني: القلة والندرة، كما روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبى أنها نسخت، فسأله فقال: نسيتها أو قال: إلا ما شاء الله، الغرض نفي النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والفرق بين الوجه الأول والثاني، هو أن الإقراء على الأول محمول على رعاية مصالح الدين، فالأنسب أن الإنسان يُحمل على ما يجب أن يُنسى كالنسخ. وعلى الثاني كان الإقراء الحفظ، فاحتيج إلى التكرار؛ وإنما تكرر لأن يستقر ولا يُنسى فيتذكر، وإليه أشار بقوله: "ثم تذكره بعد النسيان". وثالثها: قوله: "قال: إلا ما شاء الله، يعني: القلة والنُّدرة"، أي: أصل الحكم، أي لا ينساه البتة، لأن النسيان غير مطلوب أصالة، قال الإمام: "ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع، بل من الآداب والسنن، لأنه لو نسى شيئاً من الواجبات لاختل أمر الشرع". وأما الثاني، فقوله: "قال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، والغرض نفي النسيان"، وذلك على سبيل المبالغة، أي أنه تعالى لم يشأ النسيان، فلا يقع على مذهبه لقوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، قال المصنف: "عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله"، وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، قال: " {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} في معنى كلمة: تأبيد، كأنه قيل: لا تقولنه أبداً". قوله: (وهو من استعمال القلة في معنى النفي)، مثاله: قل رجل يقول كذا، أي: ما رجل يقول كذا.

وقيل: قوله (فَلا تَنسَى) على النهي، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله: (السَّبِيلا) [الأحزاب: 67] يعني: فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة، (إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ) يعني: أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، فلا تفعل، فأنا أكفيك ما تخافه. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وبطن من أحوالكم، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه، فينسى من الوحي ما يشاء؛ ويترك محفوظاً ما يشاء. [(ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى • فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى • سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى • ويَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى • الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى • ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يَحْيَى) 8 - 13] (ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) معطوف على (سَنُقْرِئُكَ) وقوله: (إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى) اعتراض، ومعناه: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: قوله {فَلَا تَنسَى} على النهي، والألف مزيدة)، قال أبو علي: "نهاه عن التشاغل والإهمال المؤديين إلى نسيان ما يقرأ، لأن النسيان ليس بفعل الناسي فينهي عنه لأنه من فعل الله، فيحدثه عند إهمال تكريره وترك مراعاته". وقلت: ونحوه قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقولهم: لا أُرينك هاهنا، وإليه الإشارة بقوله: "فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه". قوله: ({إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} اعتراض)، فعلى الوجه الأول: هو كالتعليل لما ورد عليه قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى}، وإليه الإشارة بقوله: "إنك تجهر بالقراءة" إلى قوله: "فلا تغفل، فأنا أكفيك ما تخافه". وعلى الثاني: توكيد لمضمون الكلام السابق من مفتتح السورة واللاحق إلى مختتمها، لأنها محتوية على الأمور الدنيوية والأخروية، ولذلك عمم المعنى

يعني: حفظ الوحي. وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذاً. وقيل: نوفقك لعمل الجنة. فإن قلت: كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بالذكرى نفعت أو لم تنفع، فما معنى اشتراط النفع؟ قلت: هو على وجهين، أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوا وطغياناً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً، ويزداد جداً في تذكيرهم وحرصاً عليه، فقيل له: (ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وعِيدِ) [ق: 45]، فاعرض عنهم وقل سلام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال: "يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم" إلى آخره، فيكون الخطاب في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} لكل أحد، ويقويه ما روينا من حديث عقبة بن عامر: "لما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، قال: اجعلوها في سجودكم. والوجه الأول، وهو ن يختص الخطاب برسول الله? ، أظهر وأوفق لتأليف النظم، لما ذكر أن نبي الله? ، كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام، فقيل له: لا تعجل، وسبح باسم ربك الأعلى الذي له تلك القدرة الكاملة من الخلق والتسوية وكيت وكيت، وله ذلك العلم الشامل من الإحاطة بالسر وأخفى. ثم عقب الأمر بقوله بالتسبيح ما كان مهتماً بشأنه من الخلق من قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى}، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}، جزاءً لالتجائه إلى القادر على كل مقدور والعالم بكل معلوم، ووسط أحد الوصفين، أعني العلم، بين المعطوفين، لكونه أقرب من الآخر إلى المقصود، وإليه الإشارة بقوله: "والله يعلم جهرك معه، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر"، ثم أتبع ذلك ما هو مبعوث به ومرسل إلى الخلق لأجله من قوله: "فذكِّر". قوله: ({فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، فأعرض عنهم وقل: سلام)، أي: أعرض عن هؤلاء الذين كررت التذكير معهم، وألزمت الحجة عليهم، وذكر لمن ينفع التذكير

(فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. والثاني: أن يكون ظاهره شرطاً، ومعناه ذما للمذكرين، وإخباراً عن حالهم، واستبعاداً لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيلاً عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكاسين إن سمعوا منك. قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معهم ممن يخاف وعيد الله، فيطابقه قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]. وقلت: النظم يساعد قول الواحدي ومحيي السنة، قالا: "عِظْ يا محمد أهل مكة إن نفع التذكير أو لم ينفع، لأنه صلوات الله عليه بُعث مبلغاً للإنذار، فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع، تأكيداً للحجة واكتساباً للمثوبة، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ليوافق قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 10 - 12] ". قوله: {فَذَكِّرْ}، يعني: منك التذكير، ومنهم الإقبال والقبول أو الاجتناب والإباء، وللأولين الفلاح والنجاح، وللآخرين الصَّلْي بالنار الكبرى. "واعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحته، ومنهم من جوز وجوده، ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات، ومنهم من أصر على إنكاره. والقسمان الأولان ينتفعون بالتذكير بخلاف الثالث، ولذلك قال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}. ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها، وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود، لأن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير"، هذا تلخيص كلام الإمام. قوله: (المكاسين)، أي: العشارين، الجوهري: "المكاس: العشار، والمكس: ما يأخذه العشار".

(سَيَذَّكَّرُ) فيقبل التذكرة وينتفع بها، (مَن يَخْشَى) الله وسوء العاقبة، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى إتباع الحق: فأما هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك (ويَتَجَنَّبُهَا) ويتجنب الذكرى ويتحاماها، (الأَشْقَى) الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق. أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. (النَّارَ الكُبْرَى) السفلى من أطباق النار، وقيل: (الكُبْرَى) نار جهنم. والصغرى: نار الدنيا. وقيل: (ثُمَّ) لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدة؛ والمعنى: لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. [(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى • وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى • بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا • والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى) 14 - 17] (تَزَكَّى) تطهر من الشرك والمعاصي، أو تطهر للصلاة، أو تكثر من التقوى، من الزكاء وهو النماء. أو تفعل من الزكاة، كتصدق من الصدقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لأن الترجح)، الترجح: التردد، الأساس: "ترجحح في القول: تميل فيه"، قال الزجاج: "لا يموت موتاً يستريح به من العذاب، ولا يحيى حياة يجد معها روح الحياة". قوله: ({تَزَكَّى}: تطهر من الشرك والمعاصي)، قال الإمام: "هذا التفسير متعين، لأن مراتب أعمال المكلف ثلاث: أولها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، وإليه الإشارة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}. وثانيها: استحضار معرفة الله وصفاته وأسمائه، وهو المراد من قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِي}. وثالثها: الاشتغال بخدمة الله عز وجل، وإليه الإشارة بقوله: {فَصَلَّى}، لأن من تخلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل، لا بد أن يظهر في جوارحه نور ذلك بالخضوع والخشوع". قوله: (أو تكثر من التقوى: من الزكاء)، قال الزجاج: "ومعنى {تَزَكَّى}: تكثر من تقوى الله، ومعنى الزاكي: النامي الكثير".

(فَصَلَّى) أي: الصلوات الخمس، نحو قوله: (وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ) [البقرة: 177]، وعن ابن مسعود: رحم الله امرأ تصدق وصلى. وعن علي رضي الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال: لا أبالي أن لا أجد في كتابي غيرها، لقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) أي: أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى، فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نحو قوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177])، قال الإمام: "وفيه إشكال، لأن عادة الله تقديم الصلاة على الزكاة، والأولى: تزكى من الشرك والمعاصى ثم صلى، أو تطهر للصلاة ثم صلى". قوله: (أي: أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى)، قال الإمام: "وفيه إشكال لأن السورة مكية بالإجماع، ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر". وفي "البسيط": "لا يمتنع أن يقال: إن الله تعالى أخبر عما سيكون". قوله: (وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة عليها)، قال الإمام: "إن الآية دلت على مدح من ذكر اسم الله فصلى عقيبه، وليس فيها أنها تكبيرة الإحرام، ولعل المراد: ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه، فدعاه ذلك إلى فعل الصلاة".

وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد (بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا) فلا تفعلون ما تفلحون به. وقرئ: (يؤثرون) على الغيبة. ويعضد الأولى قراءة ابن مسعود: بل أنتم تؤثرون. (خَيْرٌ وأَبْقَى) أفضل في نفسها وأنعم وأدوم. وعن عمر رضي الله عنه: ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. [(إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى • صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى) 18 - 19] (هَذَا) إشارة إلى قوله: (قَدْ أَفْلَحَ) إلى (وأَبْقَى) يعني أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها. وروي: عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم: عشر صحف، وعلى شيث: خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس: ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم: عشر صحائف والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. وقيل: إن في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ("يؤثرون" على الغيبة)، أبو عمرو: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. وعلى الغيبة الضمير لأهل مكة، أُمر رسول الله? بالتذكير نفع أم لم ينفع، ثم أضرب عنه بقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، ولذلك لا ينجع فيهم الترغيب والترهيب. وعلى الخطاب عام لكل أحد، والمضروب عنه {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}، أي: أنتم، يا بني آدم، تؤثرون الحياة الدنيا، لأنه من جبلتكم كما قال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21]، فلا تفعلون ما تفلحون به. قوله: (إلا كنفجة أرنب)، النهاية: "وفي الحديث: "ما الأُولى عند الآخرة إلا كنَفْجة أرنب"، أي: كوثبته من مجثمه، يريد تقليل مدتها".

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى، أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد». وكان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى، وكان علي وابن عباس يقولان ذلك، وكان يحبها وقال: أول من قال (سبحان ربي الأعلى): مكيائيل عليه السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وكان يحبها)، أي: الرسول? . تمت السورة * ... * ... *

سورة الغاشية

سورة الغاشية مكية، وهي ست وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ • وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ • عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ • تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً • تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ • لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلاَّ مِن ضَرِيعٍ • لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ) 1 - 7] (الغَاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها. يعني القيامة، من قوله: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ) [العنكبوت: 55]، وقيل: النار، من قوله: (وتَغْشَى وجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم: 50]، (ومِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41]، (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ غشيت، (خَاشِعَةٌ) ذليلة. (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) تعمل في النار عملاً تتعب فيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الغاشية مكية، وهي ست وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (تعمل في النار عملاً)، ذكر في قوله: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} وجوهاً ثلاثةً: الأول مبني على أن العمل والتعب كلاهما في الآخرة، والثاني أن العمل في الدنيا والنصب في الآخرة، والثالث أن العمل والنصب كلاهما في الآخرة. وفي أن يكون العمل والنصب في لدنيا إشكال، لأن {خَاشِعَةٌ (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أخبار لـ {وُجُوهٌ}، وقد قُيدت بقوله {يَوْمَئِذٍ}؛

وهو جرها السلاسل والأغلال، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت، فهي في نصب منها في الآخرة، وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. من قوله: (وقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) [الفرقان: 23]. (وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104]، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [آل عمران: 22] وقيل: هم أصحاب الصوامع، ومعناه: أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب، والتهجد الواصب. وقرئ: (عاملة ناصبة) على الشتم. قرئ: (تَصْلَى) بفتح التاء. و (تصلى) بضمها. وتصلى بالتشديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالوجه أن يُجعلا خبرين لمبتدأ محذوف، حكاية عن الحال الماضية كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]، كأنه تعالى يخبر عن أحوالهم في القيامة على سبيل الحكاية عن الحال الماضية. قوله: (دائبة)، الجوهري: "دأب في عمله، أي: جد وتعب، دأباً ودؤوباً فهو دائب، والدائبان: الليل والنهار". قوله: (وهبوطها)، عطف على "ارتقاؤها"، و"في صعود" خبره. كما أن "في حدود منها" خبر "هبوطها"، و "دائبة" حال من الضمير في الجار والمجرور. والجملتان مُبينتان لتشبيه العامل بخوض الإبل في الوحل. قوله: (الواصب)، الجوهري: "وصب الشيء يصب وصوباً: إذا دام"، أي: ما نفعها هذه الأفعال لأنها لم تكن مع الإيمان. قوله: (وقرئ: {تَصْلَى}، بفتح التاء)، أبو عمرو وأبو بكر: بضم التاء، والباقون: بفتحها، وبالتشديد: شاذ.

وقيل: المصلى عند العرب: أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور، فلا يسمى مصلياً. (آنِيَةٍ) متناهية في الحر، كقوله: (وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 33]. الضريع: يبيس الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل، قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً بأن عنه النّحائص وقال: وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً)، قيل على هذا: معنى الآية معنى قوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]، {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. قوله: (رعى الشِّبرق) البيت، إذا ذوى: أي ذبل. النحوص: الأتان الحائل. قوله: (وحبسن)، البيت، الهزم: ما يبس وتكسر من الضريع. وناقة حدباء: إذا بدا عظم وركها، والحرود: قليلة اللبن؛ يصف نوقاً حُبسن في مرعى سوء غير ناجع، وهزلن، وكلهن داميات الأيدي من وضعها على الضريع ذي الشوك، عُصبن من سوء الحال، أو قليلة اللبن.

فإن قلت: كيف قيل (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلاَّ مِن ضَرِيعٍ) وفي الحاقة (ولا طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة: 36] قلت: العذاب ألوان، والمعذبون طبقات؛ فمنهم. أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع: (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ). (لا يُسْمِنُ) مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام، أو ضريع، يعني: أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس، وإنما هو شوك، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به. وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه. ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه: وهما إماطة الجوع، وإفادة القوّة والسمن في البدن. أو أريد: أن لا طعام لهم أصلاً: لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس، تريد: نفي الظل على التوكيد. وقيل: قالت كفار قريش: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت (لا يُسْمِنُ) فلا يخلو: إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر، فيرد قولهم بنفي السمن والشبع، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. [(وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ • لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ • فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ • لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً • فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ • فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ • وأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ • ونَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ • وزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) 8 - 16] (نَّاعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن، كقوله: (تَعْرِفُ فِي وجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين: 24] أو متنعمة. (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) رضيت بعملها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب. (عَالِيَةٍ) من علو المكان أو المقدار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فلا يخلو إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك) إلى آخره، الانتصاف: "فعلى الأول يكون صفة لازمة شارحة لحقيقة الضريع، وعلى الثاني صفة مخصصة".

(لا تَسْمَعُ) يا مخاطب، أو الوجوه، (لاغِيَةً) أي: لغواً، أو كلمة ذات لغو، أو نفساً تلغو، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({لَّا تَسْمَعُ} يا مخاطب)، أي: هو من الخطاب العام، كقوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته قوله: (أو كلمة ذات لغو)، قيل: يريد أن لغواً يجوز أن يكون مصدراً أو صفةً، فإن كان صفةً؛ فإما صفة "كلمة"، أي: كلمة ذات لغو، وإما صفة "نفس" وهو ظاهر، قال صاحب "الكشف": "لاغيةً: لغواً، كالعافية والعاقبة". قوله: (لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة)، قال الإمام: وهو قول الزجاج، وقال القفال: "أهل الجنة منزهون عن اللغو لأنها منزل جيران الله، وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم يكون مبرءاً عن اللغو". وقلت: ومن ثم وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مجلس رسول الله? بقوله: "لا تُثني فلتاته"، أي: لا فلتات ولا إنثاء.

وقرئ: (لا تسمع) على البناء للمفعول بالتاء والياء. (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) يريد عيوناً في غاية الكثرة، كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير: 14]، (مَّرْفُوعَةٌ) من رفعة المقدار أو السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم. وقيل: مخبوءة لهم، من رفع الشيء إذا خبأه. ..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: "لا تُسمع" على البناء للمفعول)، ابن كثير وأبو عمرو: بالياء التحتانية. و "لاغية" بالرفع، ونافع: كذلك إلا بالتاء. والباقون: بالتاء المفتوحة، و {لَاغِيَةً} بالنصب. قوله: (يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14])، قال في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]: "هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه". وقلت: هذا التعكيس يجيء: تارة على التهكم نحو قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]، وأخرى على التلميح كمان نحن بصدده، وقول الشاعر: قد أترك القرن مُصفراً أنامله وقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144].

(مَّوْضُوعَةٌ) كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب. ويجوز أن يراد: موضوعة عن حد الكبار، أوساط بين الصغر والكبر، كقوله: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) [الإنسان: 16] (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى جنب بعض، مساند ومطارح، أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى. (وزَرَابِيُّ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. جمع زربية، (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة أو مفرقة في المجالس. [(أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ • وإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ • وإلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ • وإلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ • فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ • لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ • إلاَّ مَن تَوَلَّى وكَفَرَ • فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ • إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ • ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) 17 - 26] (أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ) نظر اعتبار، (كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقاً عجيباً، دالاً على تقدير مقدر، شاهداً بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها: لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جلس على مسورة)، جزاءٌ للشرط، أي: النمارق بعضها مساند وبعضها مطارح، أي: مفارش، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة مثل الفراش، وأُسند إلى وسادة لأن النمارق الوسائد مطلقاً، قال الواحدي: "نمارق: وسائد، على قول الجميع، واحدها نُمرقة بضم النون، وعن الفراء: نِمْرقة، بكسر النون". قوله: (على مسورة)، الأساس: "جلس على المسورة وجلسوا على المساور، وهي الوسائد".

وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء، أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش؛ حتى إن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة: قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت. فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (برأها)، أي: خلقها. الجوهري: "برأ الله الخلق برءاً، والبرية: الخلق". قال المصنف: "البارئ: هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت". قوله: (لتنوء بالأثقال)، الجوهري: "ناء بالحمل: إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل إذا أثقله". يعني: الحكمة في خلق طول أعناقها، اقتدارها على النهوض بالأحمال الثقيلة؛ فإن الأعناق وعليها الرؤوس مع تلك الأثقال، كالقرسطون تجعل فيه القناطير، ويجعل في أقصاه مقدار يسير، فيوازي ذلك الثقيل باستعانة الطول فيه. قوله: (لترتفع إلى العشر)، الجوهري: "العشر بالكسر: ما بين الوردين، وهو ثمانية أيام، لأنها ترد اليوم العاشر. وكذلك الأظماء كلها بالكسر. وليس لها بعد العشر اسم إلا في العشرين، فإذا وردت يوم العشرين قيل: ظمؤها عِشْران، وهو ثمانية عشر يوماً. فإذا جاوزت العشرين فليس لها تسمية، فإنما حوازي بالحاء والزاي. حوز الإبل: ساقها إلى الماء. قوله: (الكناسة)، الجوهري: "هي القمامة، وهي اسم موضع في الكوفة".

قلت: قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم؛ فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين، وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز. (كَيْفَ رُفِعَتْ) رفعاً بعيد المدى بالإمساك وبغير عمد. (كَيْفَ نُصِبَتْ) نصباً ثابتاً، فهي راسخة لا تميل ولا تزول، (كَيْفَ سُطِحَتْ) سطحاً بتمهيد وتوطئة، فهي مهاد للمتقلب عليها. وقرأ علي بن أبى طالب رضي الله عنه: خلقت، ورفعت، ونصبت، وسطحت، على البناء للفاعل وتاء الضمير، والتقدير: فعلتها، فحذف المفعول. وعن هرون الرشيد أنه قرأ: (سطحت) بالتشديد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا طلب المناسبة)، استثناء مفرغ، أي: لم يدعه شيء إلا طلب المناسبة. قوله: (على طريق التشبيه والمجاز)، والمجاز عطف على طريق البيان، أي المجاز الذي يقع على طريق التشبيه، وهو الاستعارة، أي: استعار الإبل للسحاب بعد التشبيه به، والقرينة انضمامه مع السماء والجبال. قوله: (بلا مساك)، الجوهري: "يقال فيه: إمساك ومساك ومساكة، أي: بُخل". قوله: ("سُطِّحت" بالتشديد)، قال ابن جني: "وإنما جاز التضعيف بالتكرير، من قبل أن الأرض بسيطة فسيحة، فالعمل فيها مكرر على قدر سعتها، كقولك: قُطعت الشاة، لأنها أعضاء يختص بكل عضو منها عمل".

والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه. أي: لا ينظرون، فذكرهم ولا تلح عليهم، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون، (إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) كقوله: (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ) [الشورى: 48]. (لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ) بمتسلط، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث)، بيان لتوافق نظم الآيات بفاتحة السورة، وأن الخطاب بقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع العرب، وأن هذه الأشياء المذكورة منتظمة على حسب عُرفهم، وما ثبت في متخيلاتهم في أوديتهم وبواديهم، نبهتهم أولاً بقوله {هَلْ أَتَاكَ}، وفخم المستفهم منه وعظمه؛ إذ المعنى: تنبهوا لهذا الأمر الخطير والخطب الجسيم، وهُبوا من رقدة الغفلة، فخوفهم بالصلي في النار وبإطعام الضريع، ولما كان حديثاً مناسباً للإبل كما قال، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، وأراد أن يقرر ذلك، أتى تنبيه آخر على سبيل النظر، ليضم شاهد العقل مع شاهد النص، وأسس الدلائل والشواهد على حسب ما ألفوه في بواديهم وأوديتهم، وعدل من الخطاب إلى الغيبة توبيخاً لهم وتنبيهاً على مظان الافتكار، فقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} إلى آخره. قال الإمام: "لعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء المتباينة على أن هذا الوجه من الاستدلال، غير مختص بنوع دون نوع، بل هو عام في الكل كقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِي} [الإسراء: 44]، ولو ذكر نوعاً أو نوعين وراعى بينهما المناسبة لم يكن كذلك، بل ذكر أموراً متباعدة جداً، ليؤذن بأن الأجرام العلوية والسفلية، عظيمها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم. وهذا وجه حسن مقبول وعليه الاعتماد". قوله: ({بِمُصَيْطِرٍ}: بمتسلط)، الجوهري: "المصيطر والمسيطر: المسلط على الشيء

كقوله: (ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق: 45] وقيل: هو في لغة تميم مفتوح الطاء؛ على أن (سيطر) متعد عندهم وقولهم: تسيطر يدل عليه. (مَن تَوَلَّى) استثناء منقطع، أي: لست بمستول عليهم، ولكن من تولى (وكَفَرَ) منهم؛ فإن لله الولاية والقهر. فهو يعذبه (العَذَابَ الأَكْبَرَ) الذي هو عذاب جهنم. وقيل: هو استثناء من قوله: (فَذَكِّرْ) أي: فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى، فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض. وقرئ: (ألا من تولى) على التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود: (فإنه يعذبه). .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله. وأصله من السطر، لأن الكتاب مُسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا". قوله: (وقولهم: تُسيطر)، قيل: لما جاء "تُسيطر" بمعنى: تسلط، دل على أن "مسيطر" متعد، كما قالوا: دحرج وتدحرج. قوله: (وقيل: هو استثناء من قوله: {فَذَكِّرْ})، الكواشي: "هو استثناء متصل، أي: فذكر إلا من لا مطمع لك في إيمانه"، وقال القاضي: "الاستثناء متصل؛ فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا، وما بينهما اعتراض". وقلت: كأنه قيل: لست عليهم بمسيطر، أي بمتسلط بالقتل والجهاد إلا من تولى وكفر. وقال القاضي: "وما يدل على ترجح الاستثناء المنقطع، قراءة من قرأ: ألا، على التنبيه". قوله: (وقرئ: "ألا من تولى")، قال ابن جني: "قرأ ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد ابن علي: ألا، بالتخفيف، وهو افتتاح كلام، و"من" شرط وجوابه "فيعذبه الله"، كقولهم: من قام فيضربه زيد، أي: فهو يضربه زيد، أي: من يتول ويكفر به فهو يعذبه الله".

وقرأ أبو جعفر المدني (إيابهم) بالتشديد. ووجهه أن يكون (فيعالاً) مصدر (أيب) فيعل من الإياب. أو أن يكون أصله أواباً: فعالاً من أوب، ثم قيل: إيواباً كديوان في دوان، ثم فعل به ما فعل بأصل: سيد وميت. فإن قلت: ما معنى تقديم الظرف؟ قلت: معناه التشديد في الوعيد، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «الغاشية»، حاسبه الله حساباً يسيراً». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما فعل بأصل سيد)، أي سيود، جعل الواو ياء لكسرة ما قبله وأدغم في الياء، كذا جعل الواو في إيواب ياء وأدغم، قال الزجاج: "أُدغمت الياء في الواو، وانقلبت الواو ياء لأنها سبقت بسكون". قوله: (التشديد في الوعيد)، وذلك أنه تعالى علل قوله: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} بقوله {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}، والتفت فيه من الغيبة إلى الحكاية، ومن الاسم الجامع إلى صيغة الكبرياء والجبروت، وقدم الظرفين على عامليهما، وإليه الإشارة بقوله: "ليس إلا إلى الجبار المقتدر". الانتصاف: "وفي "ثم" الدلالة على أن الحساب أشد من الإياب، لأنه موجب العذاب وبدوه". قوله: (ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة)، الانتصاف: "أخطأ على عادته في قاعدته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يجب على الله شيء". وقال الإمام: "محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم، وذلك حق على الله، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه. ومعنى الوجوب: امتناع وقوع الخلف من الله تعالى بحكم الوعد". تمت السورة بحمد الله * ... * ... *

سورة الفجر

سورة الفجر مكية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم [(وَالْفَجْرِ • ولَيَالٍ عَشْرٍ • والشَّفْعِ والْوَتْرِ • واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ • هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) 1 - 5]. أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله: (والصُّبْحِ إذَا أَسْفَرَ) [المدثر: 34]، (والصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 18]، وقيل: بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر: عشر ذى الحجة. فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي: العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الفجر مكية، وهي تسع وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها)، يريد أن التنكير للتفخيم والتهويل، وعلى الأول للتقليل؛ فقوله: "بعض منها" بدل من "ليال" إلى آخره، فقسم الأزمان عشراً عشراً وجعله جنساً، وأراد بها بعضاً منها.

فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية. وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك. ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة)، يعني: لو عرفت الليالي احتجت لما يراد من اختصاصها بالفضيلة إلى مزيد انضمام قرينة خارجية بخلاف التنكير؛ فإن دلالته على الفضيلة بنفسه؛ لأنه موضوع له مستقل به؛ ولأنها لو عُرفت لم تتميز عن المذكورات فيما قصد منها وانخرطت في سلكها، ولو خصصت منها بشيء من غير تغيير، لدخل في حد اللغز، وهو المراد من قوله: "الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية". قوله: (وبالشفع)، معطوف على قوله: (بالليالي العشر). قوله: (أنه فسرهما بذلك)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل، عن النبي? ، قال: "إن العشر هي عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر". وروى الإمام أحمد والترمذي، عن عمران بن حصين، أن رسول الله? سُئل عن الشفع والوتر، قال: "الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر". وقلت: هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه، وجملة القول ما قاله القاضي: "فلعله تعالى أفردهما بالذكر من أنواع المدلول، لما رآهما أظهر مدخلاً في الدين، أو مناسبة لما قبلهما، أو أكثر منفعة موجبة للشكر، أو أبين دلالة على التوحيد".

وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهي عنه، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم. (إذَا يَسْرِ) إذا يمضي؛ كقوله: (واللَّيْلِ إذْ أَدْبَرَ) بالمدثر: 33]، (واللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ) [التكوير: 17]. وقرئ: (والْوَتْرِ) بفتح الواو، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "الشفع ضم الشيء إلى مثله، ويقال للمشفوع شفع، {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}: قيل: الشفع المخلوقات من حيث إنها مركبات، كما قال عز وجل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]، والوتر: هو الله تعالى من حيث إن له الوحدة من كل وجه، والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى منه". قوله: (قليل الطائل)، الأساس: "وما حليت بطائل: بفائدة، وهذا أمر غير طائل، للدون من الأمر". قوله: (بالتلهي عنه)، الأساس: "لهيت عنه وتلهيت والتهيت: شُغلت وأعرضت". قوله: (إذا يمضي، كقوله: {وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17])، قال القاضي: "التقييد بذلك لما في التفاوت من قوة الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة. أو يسري فيه: من قولهم: صلى المقام". وقلت: وخلاصة التقييد أنه تتميم لمعنى القدرة أو النعمة. قوله: ({وَالْوَتْرِ} بفتح الواو)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بفتحها. قال صاحب

وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد، وفي الترة: الكسر وحده. وقرئ: (الوتر) بفتح الواو وكسر التاء: رواها يونس عن أبى عمرو، وقرئ: (والفجر)، و (الوتر)، و (يسر)؛ بالتنوين، وهو التنوين الذي يقع بدلاً من حرف الإطلاق. وعن ابن عباس: وليال عشر بالإضافة، يريد: وليال أيام عشر. وياء (يَسْرِ) تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة، وقيل: معنى (يَسْرِ) يسرى فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "المطلع": "هما لغتان في العدد، والفتح لغة أهل الحجاز. وأما الوتر بمعنى التِّرة، فبالكسر لا غير". النهاية: "التِّرة: النقص، وقيل: التبعة، والتاء فيه عوض من الواو المحذوفة، مثل: وعدته عِدة". قوله: (اكتفاء عنها بالكسرة)، قال الزجاج: "حذف الياء أحب إليِّ من إثباتها، لأن القراءة بذلك أكثر، والفواصل تحذف معها الياءات، ويدل عليها الكسرات". وقال محيي السنة: "من أثبت الياء فلأنها لام الفعل، والفعل لا تُحذف منه في الوقف، نحو: هو يقضي، وأنا أقضي". وقال أبو علي: "إن الفواصل والقوافي من مظنة الوقف، والوقف موضع تغيير تُغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان والإشمام والرَّوم، فغير هذه الحروف المشابهة بالزيادة، أولى بالحذف". قوله: (وقيل: معنى {يَسْرِ}: يُسرى فيه)، روى محيي السنة أن الأخفش سئل عن العلة

(هَلْ فِي ذَلِكَ) أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء (قَسَمٌ) أي مقسم به، (لذي حجر) يريد: هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر: العقل؛ لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلاً ونهية؛ لأنه يعقل وينهى. وحصاة: من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال: إنه لذو حجر، إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها؛ والمقسم عليه محذوف وهو (ليعذبن) يدل عليه قوله: (أَلَمْ تَرَ) [الفجر: 6]، إلى قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر: 13]. [(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ • إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ • الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ • وثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ • وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ • الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ • فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ • فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ • إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) 6 - 14] قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم، تسمية لهم باسم جدهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في سقوط الياء، قال: الليل لا يَسري، ولكن يُسرى فيه، فهو مصروف؛ فلما صرفه بخسه حظه من الإعراب، كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، ولم يقل: بغية؛ لأنه صرف من: باغية". قوله: (أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه)، في ذكر مثله أيضاً تعظيم، لأنه نحو قولك: مثلك يجود، والمعنى: قسم عظيم مُكف ومقنع في القسم، قال الإمام: "دل الاستفهام على التأكيد كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى: من كان ذا لُب، علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه".

ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات: مجدا تليداً بناه أوله ... أدرك عاداً وقبلها إرما فإرم في قوله: (إرَمَ) عطف بيان لعاد، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل: (إرَمَ) بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها، ويدل عليه قراءة ابن الزبير (بعاد إرم) على الإضافة وتقديره: بعاد أهل إرم، كقوله: (واسْأَلِ القَرْيَةَ) [يوسف: 82]، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث. وقرأ الحسن: (بعاد إرم)، مفتوحتين. وقرئ: (بعاد إرم) بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ: (بورقكم). وقرئ: (بعاد إرم ذات العماد)، بإضافة إرم إلى ذات العماد. والإرم: العلم، يعني: بعاد أهل أعلام ذات العماد. و (ذَاتِ العِمَادِ) اسم المدينة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مجداً تليداً) البيت، "أوله" مبتدأ، و"أدرك" الخبر؛ أي: حاز مجداً قديماً. والتالد والتلاد ما ورث الرجل من آبائه، بناه أوله، أي: أبوه أدرك عاداً، أي: أدرك المجد عاداً، أراد قدم مجده. قوله: ("أرم"، بسكون الراء)، الأَرْم: لغة في الأَرَم بمعنى العلم، فمن قرأ بسكون الراء، فهو تخفيف أَرم بكسر الراء، والإيرم أيضاً علم. قوله: (أهل أعلام ذات العماد)، قال الإمام: "قيل: ذات العماد، لأنهم كانوا أهل البناء الرفيع، وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها، ويبنون فوقها القصور، قال تعالى في وصفهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128]، أي: علامةً وبناءً رفيعاً". الراغب: "الإرَم: علم يبني من الحجارة، وجمعه آرام، وقيل للحجارة: أُرَّم، ومنه قيل للمتغيظ: يحرق الأُرَّم. وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، إشارة إلى أعلامها المرفوعة المزخرفة،

وقرئ: (بعاد إرم ذات العماد) أي جعل الله ذات العماد رميماً بدلاً من فعل ربك؛ وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، ومنه قولهم: رجل معمد وعمدان: إذا كان طويلاً. وقيل: ذات البناء الرفيع، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال أبنى مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاث مئة سنة، وكان عمره تسع مئة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة؛ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته؛ فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) مثل عاد، (فِي البِلادِ) عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربع مئة ذراع، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما بها أَرِم وأريم، أي: أحد. وأصله اللازم للازم، وخص به النفي كقولهم: ما بها ديار، وأصله للمقيم في الدار". قوله: (بعاد أرم ذات العماد)، المشهورة: بتنوين "عادٍ"، وفتح الميم في {إِرَمَ}، والبواقي: شواذ.

وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا)، أي: لم يخلق الله مثلها. (جَابُوا الصَّخْرَ) قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً، كقوله: (وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا) [الشعراء: 149] قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبع مئة مدينة كلها من الحجارة. قيل له: ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد، كما فعل بماشطة بنته وبآسية. (الَّذِينَ طَغَوْا) أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على: هم الذين طغوا، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط: إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومضاربهم التي كانوا يضربونها)، المغرب: "وضرب الخيمة، وهو المضرب للقُبة؛ بفتح الميم وكسر الراء، ومنه: كانت مضارب رسول الله في الحل ومُصلاه في الحرم". قوله: (ضبَّ عليه السوط وغشاه وقنعه)، نقل الإمام عن القاضي: "شبه عذابه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه". وقال الواحدي: "وأجاد الزجاج في تفسير هذه الآية، فقال: جعل سوطه الذي ضربهم العذاب". الأساس: "ومن المجاز: قنعت رأسه بالعصا وبالسوط".

وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطاً كثيرة، فأخذهم بسوط منها. المرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد، مفعال من: رصده، كالميقات من: وقته. وهذا مثل لإرصاده. العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال: إن ربك لبالمرصاد يا فلان، عرض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة، فلله دره أي أسد فراس كان بين ثوبيه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (المرصاد: المكان الذي ترقب فيه)، الراغب: "الرصد: الاستعداد للترقب، يقال: رصد له، وترصد وأرصدته له، قال تعالى: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] ". قوله: (وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه)، يعني أن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} استعارة تمثيلية؛ شبه حالة كونه تعالى حفيظاً لأعمال العباد، ومترقباً لها ومجازياً عليها على النقير والقطمير، ولا محيد للعباد عن أن لا يكون مصيرهم إلا إليه، بحالة من قعد على طريق السائلة يترصد، ولا غناء لهم عن عبور البهائم، ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك. وروى الواحدي عن الكلبي أنه قال: "لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من بالمرصاد شيءٌ". قوله: (أي أسد فراس كان بين ثوبيه)، فيه مبالغات ولها مراتب؛ ففي الدرجة الرابعة: هو أسد، على ما تقرر في مراتب التشبيه. ثم فيه أسد على التجريد، كقولك: رأيت فيك أسداً. ثم أسد بين ثوبيه على الكناية، كما تقول: المجد بين ثوبيه. ثم أي أسد على التفخيم

يدق الظلمة بإنكاره، ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه. [(فَأَمَّا الإنسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ • وأَمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) 15 - 16] فإن قلت: بم اتصل قوله: (فَأَمَّا الإنسَانُ)؟ قلت: بقوله: (رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتعظيم. ثم وصفه بفراس وفيه مبالغتان: البناء ومعنى التتميم، لأنه كالترشيح للتشبيه. ثم إقحام "كان" للدلالة على أن هذا الوصف لازم، كالخلقي لقوله: {وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. وعمرو هذا كان معتزلياً، طعن فيه مسلم في "صحيحه"، وقد ذكرنا نبذاً من أخباره في سورة الكهف. قوله: (ويقصع)، "قصعت الرجل قصعاً: صغرته وحقرته، وقصعت هامته إذا ضربتها بُبسط كفك". قوله: (كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة)، الانتصاف: "هذا من فاسد الاعتقاد، ويُغير بأن يقال: لا يطلب ولا يأمر عباده إلا بالطاعة". وقلت: خلاصة الجواب أن الفاء في {فَأَمَّا الْإِنسَانُ}، رابطة بين الكلامين، ومؤذنة بالبون بين الأمرين المتنافين، وذلك أنه تعالى يطلب من العباد الطاعة والعبادة، وهو بالمرصاد كالمترقب الذي لا يفوته شيء من أعمال عباده، فيحاسبهم على النقير والقطمير ويجازيهم عليها، والإنسان غافل مولع بالتلهي، ومنغمس في أمور العاجلة، إن أصابه نصيب من الدنيا اطمأن إليه، وإن جاوزه حظ منها ضجر وقنط.

فإن قلت: فكيف توازن قوله، (فَأَمَّا الإنسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله: (وأَمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ)، وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما، تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور. أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه؛ وذلك أن قوله: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، فوجب أن يكون (فَيَقُولُ) الثاني خبراً لمبتدأ واجب تقديره. فإن قلت: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فكيف توازن قوله {فَأَمَّا الْإِنسَانُ})، تقرير السؤال أن "أما" كلمة تفصيل، ولا يجيء إلا متعدداً، ومن شرط مدخولها التوازن بين الفقرتين، والتقابل بينهما؛ فإن كان بعد الأولى اسماً، فالواجب بعد الثانية الاسم نحو قولك: أما الكافر فكفور، وأما المؤمن فشكور. وإن كان شرطاً فشرطاً نحو قولك: أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك. وأما الاسم بعد الأولى والشرط بعد الثانية، فلا توازن بينهما كما في الآية. وأجاب أن الموازنة حاصلة، لأن "أما" التفصيلية تقتضي أن يكون مدخولها مبتدأ وخبره مقيد بالفاء. و"إذا" هاهنا ليست بشرط، بل هي ظرف، و {فَيَقُولُ} خبر المبتدأ، ودخول الفاء لتضمن "أمّا" معنى الشرط، وعلى هذا قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ}، فينبغي أن يقدر مبتدأ وهو ضمير "الإنسان"، وإليه الإشارة بقوله: "فوجب أن يكون {فَيَقُولُ} الثاني خبراً لمبتدأ واجب تقديره".

قلت: لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحد، ونحوه قوله تعالى: (ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35]. فإن قلت: هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه)، يعني: وجه التوافق بين القرينتين أن يقال: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه، فيقول: ربي أكرمني. وأما إذا ما ابتلاه ربه فأهانه وقدر عليه رزقه، فيقول: ربي أهانني. فلم ترك مردوف {قُدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}، وهو "فأهانه"؟ وخلاصة الجواب: أن سعة الرزق، إن عُد إكراماً، لكن تضييقه ليس بإهانة. وقلت: الأمر عند العارفين والمحققين بالعكس، قال الزجاج: "هذا يعني به الكافر، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة حظوظ الدنيا وقلته. وصفة المؤمن أن الإكرام عنده توفيق الله إلى ما يؤديه إلى حظ الآخرة". فإذن: التقدير ما ذكره محيي السنة: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه بالنعمة، فأكرمه بالمال ووسع عليه، فيقول: ربي أكرمني بما أعطاني. وأما إذا ما ابتلاه بالفقر، فقدر عليه رزقه، أي: أعطاه ما يكفيه أو ضيق عليه، فيقول: ربي أذلني بالفقر". ويعضده ما رويناه عن سيد الخلق أنه قال: "عَرض عليَّ ربي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". أخرجه الترمذي عن أبي أمامة. قال حجة الإسلام: "بلغنا أنهم كانوا إذا سُلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا، وقالوا: ما لنا والدنيا؟ وما يراد بنا؟ فكأنهم كانوا على جناح خوف. وإذا سُلك بهم سبيل

قلت: لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة، وأما التقدير فليس بإهانة له؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركا للكرامة، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول: أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك. فإن قلت: فقد قال: (فَأَكْرَمَهُ) فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمه عليه، كما أنكر قوله: (أَهَانَنِ) وذمّه عليه. قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنه إنما أنكر قوله ربى أكرمن وذمّه عليه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن يتعاهدنا ربنا". ويؤيد هذا التأويل كلمة الردع في قوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}. قال محيي السنة: "رد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة. المعنى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال والسعة، لأنه تعالى يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقدر على المؤمن لا لهوانه، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته" ثم أضرب إلى ذم ما أورثهم غناهم وسعتهم من محبة المال والتمتع بألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة ومنع الحقوق عن المستحقين بقوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، أي: دع ذلك القول وانظر إلى هذا الفعل. الانتصاف: "في تخصيصه البسط أنه إكرام من الله من غير سابقة، بناءً على أصله الفاسد؛ لأن كل نعمة من الله كذلك". قوله: (فيه جوابان)، أما الجواب الأول فتلخيصه: أن انصباب قوله: {فَأَكْرَمَهُ} غير انصباب {رَبِّي أَكْرَمَنِ}؛ لأن المعنى بقوله: {فَأَكْرَمَهُ}، أن الله أعطاه ما أعطاه على

لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله: (إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجه التفضل ابتداءً، من غير أن يستوجبه بالتقوى بناءً على مذهبه. وبقوله "أكرمني"، أن الله أعطاني ما أعطاني لا على وجه التفضل باستحقاق نسبي وحسبي. والثاني أنهما متوافقان، وأن الثاني تقرير للأول، لكن المنكر قوله: {رَبِّي أَهَانَنِ}. الانتصاف: "في الإضراب بقوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} إلى قوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، إشعار بإبطال الجواب الثاني، لأنه ذهب إلى أن قوله "ربي أكرمني" غير مذموم، لأن معنى قوله {لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الآية، أن للغني المكرن ببسط الرزق حالتين: إحداهما اعتقاده أن إكرام الله له عن استحقاق، والثانية، وهي أشد، وهو أن لا يعرف بها الإكرام أصلاً، فيكون جاحداً لا يؤدي حق الله فيها". قوله: (مستحقاً ومستوجباً)، بكسر الحاء والجيم، ويروى بفتحهما. قيل: هو إما حال من مفعول "أعطاه"، أو من الضمير في "له" لأنه مفعول "إكراماً"، وقوله: "على عادة افتخارهم"، بدل من قوله: "على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه"، أي: قاله على عادة افتخارهم. وقوله: "إنما أعطاه الله" حال من الضمير في "قاله". وقوله: "مما لا يعتد الله" بيان سابقة، أي: أعطاه الله على وجه التفضل من غير أن يسبق منه ما لا يدخل في الاعتداد من الكرامة إلا بذلك وهو التقوى. هذا المعنى مقتبس من قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولذلك قال: "دون الأنساب والأحساب"، أي: لم يسبق منه تقوى يستحق به المعطى مما أعطاه الله. وأما الأنساب والأحساب فلا مدخل له في الاستحقاق. الانتصاف: "القدرية أيضاً يرون أن التعظيم الأعظم في الآخرة حق مستحق".

وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها. والثاني: أن ينساق الإنكار والذّمّ إلى قوله: (رَبِّي أَهانَنِ)، يعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله (فَأَكْرَمَهُ). وقرئ: (فقدر) بالتخفيف والتشديد. وأكرمن، وأهانن: بسكون النون في الوقف، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة. [(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَاكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) 17 - 20] (كَلَّا) ردع للإنسان عن قوله. ثم قال: بل هناك شرّ من القول «3». وهو: أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة، وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام، ويحبونه فيشحون به وقرئ: يكرمون، وما بعده بالياء والتاء ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله: {فَأَكْرَمَهُ})، يعني: أن الله تعالى أثبت له الإكرام؛ فقوله {أَكْرَمَنِ} تقرير لذلك، فلا يكون منكراً ولم تثبت له الإهانة، ولم يقل: فأهانه؛ فيكون قوله: {رَبِّي أَهَانَنِ} منكراً. قوله: (وقرئ: {فَقَدَرَ}، بالتخفيف والتشديد)، ابن عامر: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف. قوله: ("يُكرمون" وما بعده بالياء والتاء)، أبو عمرو: بالياء التحتانية فيها، والباقون: بالتاء.

وقرئ: (تحاضون) أي: يحض بعضكم بعضًا: وفي قراءة ابن مسعود: (ولا تحاضون) بضم التاء، من المحاضة. (أَكْلًا لَمًّا) ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام. قال الحطيئة: إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه ... فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا يعنى: أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم. وقيل كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون تراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلًا مهلًا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرئ: {تَحَاضُّونَ})، بفتح التاء: الكوفيون، أي: تتحاضون، بحذف إحدى التاءين. والباقون: بغير ألف. قوله: (إذا كان لماً) البيت، فلا قدس: فلا طهر، والطواحن من الأضراس التي تسمى الأرحاء، تقول إذا كان الأكل اللم، أي: كأكل الأنعام من غير تمييز بين الحلال والحرام: يتبع صاحبه ذم الناس، فلا طهر تلك الأسنان التي تطحن ذلك المأكول. قوله: (من الظلمة)، قيل: أراد بها الميت الظالم، أي: الذي من الظلمة، وفي نسخة: المظلمة. قوله: (مهلاً)، تابع لـ "سهلاً"، نصل حالاً، أي: حال الرفق والسهولة. قوله: (فيسرف)، عطف على قوله: "ظفر"، أي: الذي ظفر بالمال فهو يسرف، كقولك: الذي جاءني فيسرع.

ويأكله أكلًا واسعًا جامعًا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الورّاث البطالون. (حُبًّا جَمًّا) كثيرًا شديدًا مع الحرص والشره ومنع الحقوق. [(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)] 21 - 26 [ (كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة؛ ويومئذ بدل من (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) وعامل النصب فيهما (يتذكر). (دَكًّا دَكًّا) دكًا بعد دك. كقوله: حسبته بابًا بابًا، أي: كرّر عليها الدك حتى عادت هباًء منبثًا. فإن قلت: ما معنى إسناد المجيء إلى الله، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة؟ قلت: هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه: مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة، ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (دكاً بعد دك، كقوله: حسبته باباً باباً)، أي: التكرير للاستيعاب، قال ابن الحاجب: "يثبت له حسابه باباً باباً، أي مفصلاً. والعرب تكرر الشيء مرتين، فتستوعب تفصيل جميع جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ المكرر، فإذا قلت: بينت له الكتاب باباً باباً، فمعناه: بينت له مفصلاً باعتبار أبوابه"، وإليه الإشارة بقوله: "حتى عادت هباءً منبثاً". قوله: (عن بكرة أبيهم)، عن بعضهم: كان لزان عشرة بنين يُغيرون ويصيدون، فخرجوا يوماً فأناخوا في بعض المراعي، فهجم عليهم العدو فقتلهم وجعل رؤوسهم في

(صَفًّا صَفًّا) ينزل ملائكة كل سماٍء فيصطفون صفًا بعد صف محدقين بالجن والإنس. (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ)] النازعات: 36 [وروى: أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليًا رضي الله عنه، فجاء فاحتضنه من خلفه وقبله بين عاتقيه؛ ثم قال: يا نبيّ الله، بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم، وما الذي غيّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال على: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملٍك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردهً لو تركت لأحرقت أهل الجمع. [(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ) أي: يتذكر ما فرّط فيه، أو يتعظ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ومن أين له منفعة الذكرى، لا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين: يوم (يتذكر)، وبين (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) تناٍف وتناقض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مخلاة، فحملتها ناقة لزبان تدعى الدُّهيم، فجاءت إلى بيت زبان، فلما رأى المخلاة قال: أصاب بني بيض النعام، فضرب بيده فيها فأخرج رأساً منها، فقال: آخر البزِّ على القلوص، يعني: لا تُصيبون بزاً آخر، فذهب مثلاً. وقال الناس: جاؤوا على بكرة أبيهم، أي: ناقة أبيهم. الجوهري: "جاؤوا على بَكرة أبيهم: يضرب للجماعة إذا جاؤوا معاً، ولم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بَكرة في الحقيقة". قوله: (بأبي أنت وأمي)، النهاية: "الباء في "بأبي" متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم، فيكون ما بعده مرفوعاً تقديره: أنت مُفدى بأبي وأمي. وقيل: هو فعل وما بعده منصوب، أي: فديتك بأبي وأمي، وحذف هذا المقدر لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب به". قوله: (فبين [يوم] {يَتَذَكَّرُ} وبين {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} تنافٍ وتناقض)، لأنه تعالى

(قَدَّمْتُ لِحَياتِي) هذه، وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لعشر لياٍل خلون من رجب؛ وهذا أبين دليٍل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقًا بقصدهم وإرادتهم، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء والبدع، وإلا فما معنى التحسر؟ قرئ بالفتح: (يعذب ويوثق)، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبى عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره. والضمير للإنسان الموصوف. وقيل: هو أبىّ بن خلف أي: لا يعذب أحد مثل عذابه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أثبت له التذكير أولاً، ثم نفاه عنه آخراً في آنٍ واحد، نحو قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]. قال الزجاج ورواه محيي السنة: "يومئذ يظهر الإنسان التوبة، ومن أين له التوبة؟ ". قوله: (وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم)، قال الإمام: "هذا التحسرر على فعلهم الذي كان مسنداً إليهم ظاهراً، وتحقيقه: ليت الله وفقني على فعل الطاعة". قوله: (قرئ بالفتح: "يعذَّب" و"يوثَق")، الكسائي، والباقون: بكسرهما. قوله: (والضمير للإنسان الموصوف)، قال أبو علي: "وضع العذاب موضع التعذيب في هذا القول، كما وضع العطاء موضع الإعطاء في قول القائل: وبعد عطائك المئة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى المفعول به. والوثاق أيضاً في موضع الإيثاق". وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "العامل في الظرف "يعذب"، وقد جاء ما بعد النفي عاملاً في الظرف في مواضع، والضمير في "عذابه" في قراءة الكسر للإنسان المتقدم ذكره، ولا يحسن أن يكون لله، لأن المعنى: لا يعذب يوم القيامة عذاب الله أحد، فلا يقوى المعنى لما سيق له، وهو تعظيم عذاب الله لهذا الإنسان أكثر من عذاب غيره". وقلت: ويوافقه أيضاً معنى القراءة بالفتح ويساعده النظم؛ فإن المعنى: كل واحد من الزبانية يعذب أهل النار أنواعاً من الأعذبة، لكن لا يعذب أحد منهم أحداً عذاباً مثل عذاب هذا الإنسان، الذي طغى وتكبر وتجبر، وقابل إكرام الله إياه وإفضاله بالكفران، ومنع من إكرام اليتيم والحض على طعام المسكين، بل أكل نصيبه ونصيب الأيتام من الميراث أكلاً لماً كالأنعام، وأحب المال حباً جماً شديداً مع الشره والحرص، فكما جمع بين هذه الرذائل، يُجمع له بين ما لا نهاية له من التنكيل. ويمكن أن يقال: إن المراد بالإنسان أُمية بن خلف وذووه لما قال، وقيل: هو أمية بن خلف، وكما قال: إن قوله {فَأَمَّا الْإِنسَانُ}، متصل بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}. وتحريره أنه تعالى لما بين ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون، حيث صب عليهم سوط عذاب، أتبعه قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تخلصاً. أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو ترصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، وامتنعوا مما جاء به من المر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والنهي عن سَفسافها ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، وإليه لمح بقوله: "لتناهيه في كفره وعناده".

ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)] الإسراء: 15 [. وقرئ: بالكسر، والضمير لله تعالى؛ أي: لا يتولى عذاب الله أحد؛ لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم، أو للإنسان؛ أي: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه. [(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي)] 27 - 30 [. (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) على إرادة القول، أي: يقول الله للمؤمن: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) إمّا أن يكلمه إكرامًا له كما كلم موسى صلوات الله عليه، أو على لسان ملك. و (الْمُطْمَئِنَّةُ) الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك، ويشهد للتفسير الأوّل، قراءة أبىّ بن كعب: (يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ثلج اليقين)، الأساس: "ومن المجاز: ثُلج فؤاده وثَلجت فؤاده بالخير، والحمد لله على بلج الحق وثلج اليقين". يريد: أن في قلق الشك واضطراب القلق سُخونة، وفي ضده برودة. قوله: (ويشهد للتفسير الأول قراءة أُبي بن كعب)، وقلت: النظم أيضاً يساعد عليه، لأن في قوله {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}، إشعاراً بأن النفس الأمارة بالسوء، تصير حينئذ لوامة، لقوله: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، قال: وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل فحكمه أن لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وحكم النفس المطمئنة حينئذ

فإن قلت: متى يقال لها ذلك؟ قلت: إمّا عند الموت، وإمّا عند البعث، وإمّا عند دخول الجنة. على معنى: ارجعي إلى موعد ربك (راضِيَةً) بما أوتيت، (مَرْضِيَّةً) عند الله، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم، وقيل: النفس الروح. ومعناه: فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ ابن عباس: (فادخلي في عبدي). وقرأ ابن مسعود: (في جسد عبدي). وقرأ أبى: (ائتي ربك راضيةً مرضيةً، ادخلي في عبدي) وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يقال لها: ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. والذي عليه ظاهر كلام الإمام إيثار المعنى الثاني لقوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، لأن النفس الزكية إذا أخذت في الترقي في سلسلة الأسباب والمسببات، لا تقف إلا عند مقطع الحاجات، ولا تطمئن إلا إليه. قال ابن عطاء: "النفس المطمئنة هي العارفة بالله الذي لا تصبر عن الله طرفة عين"، وقال القاسم: "يا أيها الروح المتصلة بالحق، اطمأننت ورضيت بما قُضي لك وعليك، ارجعي إلى الذي زينك بهذه الزينة العظيمة، حتى يُصلحك للرجوع منه إليه". قوله: ({فَادْخُلِي [فِي عِبَادِي]} في جملة عبادي الصالحين)، قال الإمام: "هذه حالة شريفة، لأن الأرواح القدسية تكون كالمرايا المصقولة، فإذا انضم بعضها إلى بعض تنعكس الأشعة، فيظهر في كل منها ما لكلها، فتكون سبباً لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات، وذلك هو السعادة الروحانية". وقلت: ومن ثم جيء على وجه التتميم بالسعادة الجسمانية، وقيل: وادخلي جنتي.

وقيل: في خبيب بن عدى الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوّله، والظاهر العموم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الفجر" في الليالي العشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام، كانت له نورًا يوم القيامة». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في خُبيب بن عدي)، في "جامع الأصول": "هو أنصاري أوسي شهد بدراً، وأُسر في غزوة الرجيع، فانطلقوا إلى مكة فاشتراه بنو الحارث بن نوفل، وكان قد قتل الحارث يوم بدر كافراً، فأقام عندهم أسيراً، ثم صلبوه في التنعيم". وروينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة حديثاً طويلاً فيه. تمت السورة بعون الله وبحمده * ... * ... *

سورة البلد

سورة البلد مكية، وهي عشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)] 1 - 7 [ أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورًا في مكابدة المشاق والشدائد؛ واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يعنى: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدًا ويعضدوا بها شجرةً، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة البلد مكية، وهي عشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (أو سلي رسول الله? )، عطف على قوله: "أقسم سبحانه وتعالى بالبلد الحرام"، وفائدة القسم على الأول راجعة إلى تعظيم مُكابدة الإنسان المشاق والشدائد، ثم اعترض بين القسم والمقسوم عليه مكابدة النبي? ، توكيداً لتلك المكابدة ولإرادة ذلك التعظيم.

على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميمًا للتسلية والتنفيس عنه. فقال: وأنت حل بهذا البلد، يعنى: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحٍد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء؛ قتل ابن خطٍل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقبس بن صبابة وغيرهما، وحرّم دار أبى سفيان، ثم قال: "إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحٍد قبلي ولن تحل لأحٍد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من نهار، فلا يعضد شجرها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فسر "وأنت حِلٌ" بقوله: "إن مثلك على عظم حُرمتك"، وجعله من باب: أنت تجود، وقد مر غير مرة أن "أنت"، إذا بُني عليه الخبر في مقام التعظيم، نظير "مثل" في: مثلك يجود. وفائدة الاعتراض إرادة التثبيت من الرسول? ، لجعل حاله مؤكدة للحكم العام الذي عليه جبلة جنس الإنسان، وتعجيب من حال كفار مكة حيث صلحت أن يستشهد بها لذلك. وعلى الثاني راجعة إلى تعظيم المقسم به، ثم إلى تعظيم الرسول? تسلية، ولذلك أتى بلفظة "هذا" دلالة على كمال التمييز كقوله: هذا أبو الصقر فرداً من محاسنه ولا شك أن ترك استحلال البلد تعظيم شأنه، ثم أكد تلك الحُرمة بقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، أي: أنت على الخصوص تستحله دون غيرك لجلالة شأنك، كما جاء: "لم تَحِلَّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي"؛ و"أنت" على هذا من باب التقديم للاختصاص، نحو: أنا عرفت، ولذلك كانت المعترضة تتميماً للتسلية، قال الواحدي: "إن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة، دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حراماً، فوعد نبيه? أن يحلها له يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده ويكون بها حِلاً". قوله: (فلا يعضد شجرها)، النهاية: "يعضد: يقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده

ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر». فإن قلت: أين نظير قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ) في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)] الزمر: 30 [ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع؛ لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلًا قاطعًا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عضداً. والخلا مقصور: النبات الرقيق ما دام رطباً، واختلاؤه: قطعه، وأخلت الأرض: كثر خلاها، فإذا يبس فهو حشيش. القين: الحداد". قوله: (إلا لمنشد)، المنشد: المعرف. عن بعضهم: تأويل الحديث على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، تأكيد لئلا يُظن أن حكم لُقَطَة مكة بخلافه في سائر البلدان. وعلى قول الشافعي رضي الله عنه، تخصيص مكة بهذا الحكم، وهو أنه لا يجوز لأحد أخذ اللُّقَطَة إلا لمنشد، بخلاف سائر البلدان. القين: الحدّاد. قوله: (عن وقت نزولها)، قيل: هو متعلق بقوله "أين" من حيث المعنى، لأنه استفهام إنكار عن مقاربة الهجرة وقت نزول الآية، فكأنه قيل: بعدت الهجرة عن وقت نزلوها بعداً، وإن كانت الهجرة بعيدة فكيف بالفتح؟ وإذا ثبت أن وقت نزول الآية بعيد عن الفتح، فلا يكون قوله {وَأَنتَ حِلٌّ} بمعنى الحال، ويجوز أن يكون حالاً مقدرة وإن كانت جملة، وقد مر في سورة هود عند قوله {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، اعتراض وجواب.

فإن قلت: ما المراد بوالٍد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ)] آل عمران: 36 [أي: بأي شيٍء وضعت، يعنى موضوعًا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل: كل والٍد وولد. والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدًا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعٍب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله: كبده، إذا أصاب كبده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو مسقط رأسه)، الأساس: "ومن المجاز: هذا البلد مسقط رأسي، وفلان يحن إلى مسقطه"، قال: خرجنا جميعاً من مساقط رؤسنا على ثقة منا بجود ابن عامر قوله: (وبمن ولده وبه)، أي: بمن ولده، أي: بإسماعيل وبه، أي: بالرسول? . قوله: (فيه ما في قوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36])، يعني: أوثر "ما" على "من" لإرادة الوصف، ليفيد في مقام المدح ما لا يكتنه كُنهه من التعظيم.

قال لبيد: يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. والضمير في (أَيَحْسَبُ) لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، أنه يقول: (أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالي ومفاخر، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارًا بينهم، يعنى: أن الله كان يراه وكان عليه رقيبًا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (يا عين هلا بكيت) البيت، قبله: ما إن تعري المنون من أحد لا والد مُشفق ولا ولد يرثي لبيد أخاه أربد بن ربيعة، وهو الذي جاء النبي? مع عامر بن الطفيل، فدعا رسول الله? عليهما، فأربد أصابته صاعقة، وأصاب عامراً طاعونٌ، فقال: أغُدة كغُدة البعير، والموت في بيت سلولية؟ ! قوله: (هذا الصنديد)، النهاية: "كل عظيم غالب صنديد، والجمع: الصناديد، وهو عظماء القوم ورؤوسهم". قوله: (ويجوز أن يكون الضمير للإنسان)، عطف على قوله: "والضمير في {أَيَحْسَبُ} لبعض صناديد قريش"، ولما دل اختلاف مرجع الضميرين على اختلاف المعنى، قال: "على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد"، إلى آخره. فحصل من هذا الاختلاف إشكال، وهو أنه جًعل الضمير للصناديد، لم فرعه على المعنيين السابقين في أول السورة؟ وحين جُعل

على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرٌج بريٌء، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي: في مرض، وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد هو أبو الأشد، وكان قويًا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعًا ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة. (لُبَداً) قرى: بالضم والكسر: جمع لبدةٍ ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة: وقرئ: (لبدا) بضمتين: جمع لبود. ولبدا: بالتشديد جمع لا بد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الضمير للإنسان لم كان المعنى ما ذكره وما وقع الاستفهام في {أَيَحْسَبُ} على التقديرين؟ ولم خص قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} على هذا بما خصه؟ ويمكن أن يقال: إن الكبد إذا فسر بالمشاق والشدائد رجع المعنى إلى مقاساة الرسول? من القوم المكابد؛ فحينئذ يكون {أَيَحْسَبُ} وراداً على توبيخ القوم، فيجب أن يكونوا أقواماً مخصوصين. وإذا فُسرت المكابدة بمرض القلب والعقائد الفاسدة، فالواجب أن يراد من جنس الإنسان الموصوف به. والمناسب على هذا أن يجعل {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، توكيداً لبراءة ساحته صلوات الله عليه من هذه المكابدة، ومما اقترفوه من المآثم وأمراض القلب، وكالتعليل لتعظيم المقسم به. ولذلك قال: "ومن شرفه أنك حِلٌ به مما يقترفه أهله من المآثم". قوله: (من المآثم)، الأساس: "وتخرج من كذا: تأثَّم، ووقع في الحرج وهو ضيق المأثم"؛ فقوله: (حل به متحرج بريء)، أخبار مترادفة. قوله: (وقيل: الذي يحسب)، مردود إلى قوله: "والضمير في "يحسب" لبعض صناديد قريش"، وتعيين للمُبهم. قوله: (ولُبداً، بالتشديد، جمع لابِد)، قال ابن جني: "هي قراءة أبي جعفر، ويجوز أن

[(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)] 8 - 16 [ (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات، (وَلِساناً) يترجم به عن ضمائره، (وَشَفَتَيْنِ) يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك، (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي: طريقي الخير والشر. وقيل: الثديين. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يعنى: فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون بلفظ واحد، مثل: زُمل، وجباء. وبلفظ جمع نحو قائم وقوم، وصائم وصوم". الزمل بالزاي: الجبان الضعيف. قوله: ({النَّجْدَيْنِ}: أي: طريقي الخير والشر)، قال الزجاج: " {النَّجْدَيْنِ}: الطريقين الواضحين، والنجد: المرتفع من الأرض. المعنى: ألم نبين له طريقي الخير والشر بياناً كبيان الطريقين العاليتين". قوله: (وقيل: الثديين)، في "المطلع": "الثديين مما تُقسم به العرب، فتقول: أما ونجديها ما فعلت، تريد: وثديي الأم، لأنهما كالنجدين للبطن، وهو كالغور". قوله: ({فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}، يعني: فلم يشكر تلك الأيادي والأنعام بمعاجلة الأعمال الصالحة)، قال محيي السنة: "ذِكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة"، وإليه الإشارة بقوله: "جعل الصالحة:

ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير؛ بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضى النافع عند الله، لا أن يهلك مالًا لبدًا في الرياء والفخار، فيكون مثله (كمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ)] آل عمران: 117 [الآية. فإن قلت: قل ما تقع (لا) الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله: فأي أمر سيّئ لأفعله لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقبة، وعملها: اقتحاماً لها"، قال صاحب "الفرائد": "هذا تنبيه على أن النفس لا توافق صاحبها في الإنفاق لوجه الله ألبتة، فلا بد من التكلف وحمل المشقة على النفس. والذي توافقه النفس هو الافتخار والمراءاة، فكأنه تعالى ذكر هذا المثل بإزاء ما قال: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا}، والمراد بيان الإنفاق المفيد، وإن ذلك الإنفاق مُضر". وقلت: في التمثيل بالعقبة بعد ذكر النجدين ترشيح، ثم التقريع عليه بالاقتحام تربية لتلك المبالغة. قوله: (قل ما تقع "لا" الداخلة على الماضي إلا مكررة)، الراغب: " (لا): يستعمل في العدم المحض، نحو: زيد لا عالم، وهو يدل على كونه جاهلاً، وذلك يكون للنفي. و (لا): ويستعمل في الأزمنة الثلاثة، ومع الاسم والفعل، غير أنه إذا نُفي به الماضي، فإما أن لا يؤتى بعده بالفعل، نحو أن يقال لك: هل خرجت؟ فتقول: لا، أي: لا خرجت. ولكن قل ما يذكر بعده الماضي، إلا إذا فُصل بينهما بشيء نحو: لا رجل ضربت ولا امرأة، أو يكون عطفاً نحو: ما خرجت ولا ركبت، أو عند تكرير نحو: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، وعند الدعاء نحو: لا كان ولا أفلح، ونحو ذلك. ومما نُفي به المستقبل قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3]، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]. وقوله: {وَمَا

قلت: هي متكررة في المعنى؛ لأن معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فلا فك رقبةً، ولا أطعم مسكينًا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج قوله: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على معنى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، ولا آمن. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ} [النساء: 75]، يصح أن يكون في موضع الحال، أي: ما لكم غير مقاتلين. وقد يكرر {لَا} في المتضادين ويراد إثبات الأمر فيهما جميعاً، نحو: زيد ليس بمقيم ولا ظاعن، أي: يكون تارة كذا وتارة كذا. وقد يقال ذلك ويراد إثبات حالة بينهما، نحو أن يقال: ليس بأبيض ولا أسود، وقوله تعالى: {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، فقد قيل: معناه: إنها شرقية وغربية، وقيل: معناه: مصونة عن الإفراط والتفريط". قوله: (ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك)، يريد أن المفسِّر والمفسَّر واحد؛ فإن قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} منفي عن تلك العقبة، لأن المعرَّف باللام إذا أعيد معرفاً كان الثاني عين الأول، فتكون الجملة معترضة مُقحمة لبيان العقبة، مقررة لبيان معنى الإبهام والتفسير؛ فإن {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} مفسر بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ (أَوْ إِطْعَامٌ}، والمفسَّر منفي، والمفسِّر كذلك لاتحادهما في الاعتبار، كأنه قيل: غلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً. قوله: (وقال الزجاج: قوله {ثُمَّ كَانَ})، هذا وجه آخر، وصورة كلامه أنه قال: "قلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بـ (لا) مرتين أو أكثر، فلا تقول: لا جئتني، تريد: ما جئتني. وإن قلت: لا جئتني ولا زُرتني صلح. وهذا التكرير هاهنا موجود، لأن قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يدل عليه، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن". وقلت: فعلى هذا يكون من اللف التقديري، لأن الضمير في {كَانَ} للمذكور، ولا يمكن الإيمان داخلاً

والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدةٍ ومشقةٍ. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبةً، وعملها: اقتحامًا لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفاضل الأعمال. وعن أبى حنيفة رضي الله عنه: أن العتق أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبى حنيفة لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجٍل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فك رقبةً فك الله بكل عضٍو منها عضوًا منه من النار" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحت مفهوم العقبة المعبرة عن الأعمال الصالحة، وعلى الأول داخل تحتها جزء منها، لكنه أشرفها. ونُقل عن أبي على الفاري أنه رد قول الزجاج، وقال: "إذا كانت "لا" بمعنى "لم"، كان التكرير غير واجب، وإن تكررت في موضع نحو {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}، فهو كتكرير {وَلَمْ} نحو: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ". قوله: (وفي الحديث أن رجلاً قال)، الحديث رواه محيي السنة في "شرح السنة"، عن البراء بن عازب. قوله: (من فك رقبة)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال النبي? : "من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار، حتى فرجه بفرجه".

قرئ: (فك رقبةٍ أو إطعام) على: هي فك رقبة، أو إطعام. وقرئ: (فك رقبة) أو أطعم، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله: (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة، والمقربة، والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي. وترب: إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا ماٍل كالتراب في الكثرة، كما قيل: أثرى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقُرئ: "فك رقبة")، ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: "فك"، بفتح الكاف، "رقبة": بالنصب، "أو أطعم": بفتح الهمزة وحذف الألف. والباقون: برفع الكاف والخفض وكسر الهمزة وألف بعد العين. قال أبو البقاء: " {مَا الْعَقَبَةُ}: ما اقتحام العقبة؟ لأنه فسره بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ}؛ وهو فعل، سواء كان بلفظ الفعل، أو بلفظ المصدر. والعقبة: عين، فلا يفَّر بالفعل، فمن قرأ: "فك ... أو أطعم"، فسر المصدر بالجملة الفعلية لدلالتها عليه. ومن قرأ {فَكُّ رَقَبَةٍ (أَوْ إِطْعَامٌ}، كان التقدير: هو فك رقبة، والمصدر مضاف إلى المفعول، و {إِطْعَامٌ} غير مضاف إلى المفعول، ولا ضمير فيها، لأن المصدر لا يتحمل الضمير. وذهب بعض البصريين إلى أن المصدر إذا عمل في المفعول، كان فيه ضمير كالضمير في اسم الفاعل. و {يَتِيمًا}: مفعول (إطعام) ". والمصنف أيضاً أشار إلى هذا حيث قال: "لأن معنى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً". قوله: (يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي)، قال الزجاج: "وزيد قرابتي قبيح، لأن

وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ذا مَتْرَبَةٍ) الذي مأواه المزابل، ووصف اليوم بذي مسغبةٍ نحو ما يقول النحويون في قولهم: هم ناصب: ذو نصب. وقرأ الحسن: (ذا مسغبة) نصبه بإطعام. ومعناه: أو إطعام في يوٍم من الأيام ذا مسغبة. [(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)] 17 - 20 [ (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) جاء بـ (ثم) لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت؛ لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القرابة مصدر"، قال: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور قوله: (ووصف اليوم بذي مسغبة)، أي: على النسبة، قيل: معناه أنه ثابت له وحاصل. روى الإمام عن الحسن أنه قال: "يوم يُحرص فيه [على] الإطعام، وقال أبو علي: معناه ما قالوا في قولهم: ليله نائم ونهاره صائم، أي: ذو نوم، وذو صوم". قوله: (جاء بـ {ثُمَّ} لتراخي الإيمان وتباعده في الرُتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت)، ويجوز أن تُجرى على حقيقتها، قال صاحب "الكشف": "يجوز أن يكون

ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة: الرحمة، أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أو بما يؤدى إلى رحمة الله. الميمنة والمشأمة: اليمين والشمال، أو اليمن والشؤم، أي: الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ. قرئ: (موصدة) بالواو والهمزة، من: وصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته وأغلقته. وعن أبى بكر بن عياش: لنا إمام يهمز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لترتيب خبر على خبر، كقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، قال الإمام في وجه: إن من أتى بهذه القرية تقرباً إلى الله تعالى، قبل إيمانه بمحمد صلوات الله عليه، ثم آمن به يُثاب عليه". وقلت: على هذا، "كان" بمعنى "صار"، ويؤيده ما روينا عن البخاري عن حكيم بن حزام، أنه قال: "يا رسول الله، أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية، من صلة وعتاقة وصدقة، هل لي فيها أجر؟ قال حكيم: قال رسول? : أسلمت على ما سلف من خير". قوله: (أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه)، قال الإمام: "هذا يدل على أنه يجب على المؤمن، أن يدل الناس على طريق الحق، ويمنعهم من سلوك طريق الباطل؛ وأن الأصل في التصوف أمران: صدق مع الحق، وخُلق مع الخلق". وقلت: وفيه تحريض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(مؤصدة)؛ فأشتهي أن أسدّ أذني إذا سمعته. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لا أقسم بهذا البلد" أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مُّؤْصَدَةٌ})، حمزة وحفص وأبو عمرو: بالهمزة، وحمزة إذا وقف أبدلها واواً. والباقون: بغير همز. في "الكواشي": "من همز جعل من: آصدت الباب: أطبقته. ومن لم يهمز جعل مخفف: آصدت، أبدل الهمزة واواً للضمن قبلها، أو من أوصدت بمعنى آصدت؛ ففاء الفعل واو، فلا يُهمز اسم المفعول، إذ لا أصل له في الهمزة". تمت السورة بعون الله * ... * ... *

سورة الشمس

سورة الشمس مكية، وهي خمس عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)] 1 - 10 [ ضحاها: ضوءها إذا أشرقت وقام سلطانها؛ ولذلك قيل: وقت الضحى، وكأن وجهه شمس الضحى. وقيل: الضحوة ارتفاع النهار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الشمس مكية، وهي خمس عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (ضُحاها: ضوؤها إذا أشرقت)، في: المطلع": "عن مجاهد والكلبي: وضحاها: ضوؤها إذا أشرقت وارتفعت، والإشراق بعد الشروق، لأن الشروق الطلوع، ثم الضحوة، ولذلك قيل: كأن وجهه شمس الضحى". قوله: (ولذلك)، أي: ولأجل أن المراد بضحاها ضوؤها وإشراقها، أضيف الوقت إليه، فقيل: وقت الضحى، كما يقال: وقت الإشراق.

والضحى فوق ذلك. والضحاء بالفتح والمد: إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف، (إِذا تَلاها) طالعًا عند غروبها آخذًا من نورها؛ وذلك في النصف الأوّل من الشهر. وقيل: إذا استدار فتلاها في الضياء والنور. (إِذا جَلَّاها) عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل: الضمير للظلمة، أو للدنيا، أو للأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة؛ يريدون الغداة، وأرسلت: يريدون السماء. إذا يغشاها، فتغيب وتظلم الآفاق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (آخذاً من نورها؛ وذلك في النصف الأول من الشهر)، قال الفراء: "إن القمر يأخذ الضوء من الشمس، يقال: فلا يتبع فلاناً في كذا، أي: يأخذ منه". وفي "الوسيط": {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}: تبعها؛ يقال: تلا يتلو تُلواً، إذا تبع. قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. وقال الإمام: "تلاها في الضياء، أي صار كالقائم مقام الشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض". الراغب: "تلاه: تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك تارة يكون بالجسم وترة بالاقتداء في الحكم، ومصدره تِلو وتُلو. وتارة بالقراءة وتدبر المعنى ومصدره تلاوة، قال تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}؛ فإنما يراد به هاهنا الاقتداء والمرتبة، وذلك أنه فيما يقال: إن القمر يقتبس النور من الشمس، وهو لها بمنزلة الخليفة". قوله: (عند انتفاخ النهار)، الأساس: "ومن المجاز: انتفخ النهار: علا". قوله: (إذا يغشاها، فتغيب وتظلم الآفاق)، قال الإمام: "يغشى الليل فيُزيل ضوءها، وذلك يقوي القول: إن الضمير في {جَلَّاهَا} للشمس، لتتفق الفواصل، وليطابق بين قوله

فإن قلت: الأمر في نصب (إذا) معضل: لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفةً فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: مررت أمس بزيد، واليوم عمرو. وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت: الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحًا كليًا، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمةً مقام الفعل والباء سادّةً مسدهما معًا، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحققن أن يكون عوامل على الفعل والجار جميعًا، كما تقول: ضرب زيد عمرًا، وبكر خالدًا؛ فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما. ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا}، وبين قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، فلما حسن جعل الليل يغشى الشمس، يحسن أن النهار يجليها. وقال القفال: وهذه الأقسام الأربعة دائرة مع الشمس بحسب أوصافها". قوله: (مررت أمس بزيد)، أمس: منصوب بـ "مررت"، وزيد: مجرور بالباء؛ فإذا قلت: واليوم عمرو، فقد نصبت اليوم، وجررت عمراً بالواو، وقد جعلت هذه الواو نائبة عن "مررت" وعن الباء. ولا يجوز جعل الضعيف نائباً عن قويين. قوله: (على استكراهه)، قال صاحب "المطلع": "يعني أن الخليل وسيبويه استقرءا كلام العرب، فعلما أن لا بد لكل قسم من مُقسَم عليه، لأنه هو المطلوب بالقسم؛ فلو زعمت أن الكل قَسم، فقد جئت بأقسام كثيرة ليس لكل واحد مقسم عليه على حدة. وقد سبق القول فيه في فواتح البقرة مشبعاً". قوله: (أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل)، وعن بعضهم: الأصل: أقسمت بالله؛ فهاهنا تصير الواو نائباً عن الفعل المضمر في "إذا"، ونائباً عن الباء في "الليل"، وإنما لم يجز إظهار الفعل مع الواو، لأن الباء تلصق كل شيء، والواو لا تلصق إلا فعل القسم، فطلباً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للاختصاص أُضمر الفعل معها، لأن الواو فرع عن الباء. وقال ابن الحاجب: "يلزم من مجيء الواو حذف الفعل، كأنهم جعلوها عوضاً من الباء والفعل معاً، ومن ثم أجيب: لما استدل على جواز العطف على عاملين بقوله: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2]، بأن واو القسم جرت مجرى الباء والفعل معاً، فصح إعمالها بالاعتبارين، وكانت كأنها عامل واحد، أي: عامل واحد له معمولان، نحو: ضرب زيداً عمراً وبكراً خالداً، ولا خلاف في جواز ذلك". وقال صاحب "اللُّباب": "ما ذكره صاحب "الكشاف" لطيف، ولكن يرد عليه مثل قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 15 - 18]، حيث صرح العاملين وليس هناك شيء ناب عنهما وعمل علمهما، والأحسن عندي أن "إذا" هاهنا قد انسلخ للظرفية، ويكون منصوب المحل بدلاً من الليل، كأنه قيل: والليل وقت غشيانه، قال: وبعد غد يا لهف من غدٍ إذا راح أصحابي ولست برائح حيث أبدل "إذا" من "غد"، أو على حذف مضاف نحو: وغشيان الليل إذا يغشى، و"إذا" ظرف لهذا المضاف، ولا يحسن إعمال فعل القسم فيه إذ القسم مطلق وليس بمقيد بوقت من الأوقات، لصحة الكلام واستقامته في النهار". وقال صاحب "الانتصاف": "أجاز ابن الحاجب العطف على عاملين، وجعل هذه الآية حجته في مخالفة سيبويه، ورد جواب الزمخشري في {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] بأنه لم يستمر في التكوير، وكان يستحسن من نفسه هذا الاستنباط. ويمكن أن يقال: إن الواو

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] واو القسم، وفي {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] عاطفة، فيطرد ما قال الزمخشري". فإن قيل: خالفتم سيبويه؛ فإنه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم، بل عاطفة، وقد جعلتم الواو الأولى المتعقبة لباء القسم، وهي في {بِالْخُنَّسِ}، قسماً. قلنا: إنما تكلم سيبويه في واو تعقبت قسماً بالواو، فأما إذا جاءت الواو بعد الباء فلم يذكره؛ فإن الذي ذكره سيبويه فيه تكرار الواو في معنى واحد، وهو مُستكره بخلاف هذا، ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ثم تلاه قسم بالباء، لتحتم كونهما قسمين. وأيضاً فكان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسماً مستقلاً، مجيء الجواب واحداً، واحتياج الواو الأولى إلى محذوف؛ فالعطف يغني عن تقدير محذوف، فلا يلزم اطراده في الباء التي هي أصل للقسم، لا سيما مع التصريح بفعل القسم وتأكيده بزيادة "لا"؛ ففي مجموع ذلك ما يغني عن إفراده بجواب، ولا كذلك الواو، فإنها ضعيفة المكنة في القسم بالنسبة إلى الباء، فلا يلزم من حذف جواب، ويصح الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح. فهنا نكثة خصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] دون الثالثة، لأنه لا يلزم منها العطف على عاملين؛ لأنا نجعلها نائبة عن الباء، ونجعل "إذا" فيها منصوبة بالفعل مباشرة، إذ لم يتقدم في جملة الفعل ظرف يُعطف عليه "إذا"، فهو كقولك: مررت بزيد وعمرو اليوم، فاليوم منصوب بالفعل مباشرة؛ فمرورك بزيد غير مطلق غير مقيد بظرف، فالمقيد به عمرو خاصة، فالظرف وإن عمل فيه الفعل مباشرة، فهو مقيد للقسم بالليل لا للقسم بالخُنَّس". قال الدار الحديثي: "إن الواو في قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18]، وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 16 - 18]، للقسم لا للعطف، وجواب أحد القسمين محذوف، وهو أسهل تحملاً من ارتكاب العطف على عاملين".

جعلت (ما) مصدريةً في قوله: (وَما بَناها) (وَما طَحاها) (وَما سَوَّاها)، وليس بالوجه لقوله: (فَأَلْهَمَها) وما يؤدى إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (جعلت (ما) مصدرية في قوله {وَمَا بَنَاهَا})، روى الواحدي عن عطاء: "والذي بناها، والكلبي: ومن بناها. وقال الفراء زالزجاج: (ما): بمعنى المصدر". الراغب: "تسوية الشيء: جعله سواء، إما في الرفعة أو الضعة. قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7]، أي: جعل خلقك على ما اقتضت الحكمة، وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، فإشارة إلى القوى التي جعلها مقومة للنفس، فنُسب الفعل إليها، لأن الفعل كما يصح أن ينسب إلى الفاعل، يصح أن ينسب إلى الآلة، نحو: سيف قاطع، وهذا أولى من قول من قال: أراد {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، يعني: الله، لأن "ما" لا يعبر به عن الله، إذ هو موضوع للجنس، ولم يرد [به] سمع يصح". قوله: (وما يؤدي إليه من فساد النظم)، وذلك أن ضمير الفاعل في قوله: {فَأَلْهَمَهَا} لله تعالى، والفاء فيه للترتيب؛ فلا يجوز: ونفس وتسويتها فألهمها الله، فلا بد من ذلك التقدير، فإذن يوجب النظم السري الموافقة بين سائر القرائن. قال الإمام: "أورد القاضي عبد الجبار هذا القول وأبى إلا أن يكون مصدراً، لما يلزم من تقديم الأقسام بغير الله على أقسامه بنفسع عز وجل". وأجاب الإمام عنه "بأن أعظم المحسوسات الشمس، فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها، ثم ذكر ذاته المقدسة ووصفها بصفات ثلاث، ليحظى العقل بإدراك جلال اللع وعظمته كما يليق به، والحس لا ينازعه، فكان ذلك طريقاً إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات، إلى بيداء أوج كبريائه".

وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفس، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان ما سخركن لنا. فإن قلت: لم نكرت النفس؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسًا خاصةً من بين النفوس وهي نفس آدم، كأنه قال: وواحدة من النفوس. والثاني: أن يريد كل نفٍس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير: 14] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لإرادة معنى الوصفية)، لأن (ما) يستعمل في الصفات، إذا أردت أن تسأل عن صفو زيد، فقلت: ما زيد؟ والجواب عنه: فقيه أم طبيب. وإذا سألت عن ذاته فقل: من هو؟ والجواب عنه: إنه زيد. قوله: (الباهر الحكمة الذي سواها)، قال الإمام: "تسويتها: تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح، وإعطائها القوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكرة، على ما يشهد به علم النفس". وبهذه الدقيقة خص المصنف تفسير "ما" في {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} بصفة الحكمة. قوله: (سبحان ما سخركن لنا)، يخاطب النساء، وفي "سبحان" ما في معنى التعجب؛ يتعجب من كونهم مسخرات للرجال، قال الزجاج: "قيل: "ما" هاهنا بمعنى "من"، وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له". قوله: (وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة)، وهي أنه من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ويجوز أن يكون التنكير فيه للتعظيم والتفخيم، قال الإمام: "يريد

ومعنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامهما وإعقالهما، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نفساً خاصةً من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك أن كل كثرة لا بد لها من وحدة تكون هي الرئيس؛ فالمركبات جنس تحته أنواع، ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع، ورئيسها الإنسان، والإنسان أصناف ورئيسهم النبي، والأنبياء كثيرون، ورئيسهم المصطفى صلوات الله عليه". قوله: (بدليل قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا})، يريد أنه لما أسند التزكية والتدسية إلى ذي النفس، عُلم أنه متمكن من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى، وعُلم أن المراد من إلهام الفجور والتقوى، إفهام الله لا خلقهما. الانتصاف: "دس في كلامه نوعين من الباطل: أحدهما: تفسير "ألهمها" بقوله: "أفهمها الفجور والتقوى، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح". وظن الحسن والقبيح مُدركين للأحكام، إلا أنا لا ننكر أن العقل يدرك الأحكام الشرعية، بل لا بد في كل حكم شرعي من مقدمة عقلية موصلة إلى العقيدة، وسمعية دالة على خصوص الحكم. وثانيهما: وهي التي كشف القناع عنها، وهي أن التزكية والتدسية ليستا مخلوقتين لله تعالى، وذكر فيها مجرد دعوى مقرونة بسفاهة. فنقول: لا شك أن الضمير يمكن عوده إلى الله تعالى وإلى ذي النفس، لكن عوده إلى الله تعالى أولى لوجهين: أحدهما: أن الجمل سيقت سياقة واحدة من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}، وضمائرها

والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلها تعود إلى الله تعالى بالاتفاق، ولم يجر لغير الله تعالى ذكر. ومن ادعى عود الضمير إلى ذي النفس، فإنما يتمحله من حيث المعنى، وعود الضمير إلى ما جرى نطقاً أولى. والثاني: أن الفعل في الآية التي استشهد بها، وهي قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، مطاوع "زكي"، فهذا أولى أن يدل لنا، وأن المعنى: قد أفلح من زكاه الله فتزكى، وعنده الفاعل في الآيتين واحد، وأضاف إليه الفعلين المختلفين، ويُحتاج في تصحيحه تعدد اعتبار ونحن عنه في غنى، ونحن لا ننكر أن تُضاف التزكية والتدسية إلى العبد لأنه فاعلهما، كما يضاف إليه طاعته ومعصيته؛ لأن له عندنا قدرة مقارنة، بل ننفي أن تكون قدرة العبد مؤثرة خالقة". قوله: (والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور)، راعى في التقدير معنى اللف والنشر مع الطباق المعنوي، ونبه به على التقابل المعنوي بين قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، وأنهما متفرعان على قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، وقد لمح من القرينتين معنة قوله? : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله". أخرجه الترمذي عن شداد بن أوس، لأن الكياسة تقتضي الفلاح، وأن يفوز صاحبها ببغيه، ومن أتبع نفسه هواها خاب وخسر: وإنما قلنا: إن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، متفرع على قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، لأن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول داعية مخلوقة لله تعالى، فليجرب العاقل نفسه، فإنه ربما يكون ذاهلاً عن شيء، فتقع صورته في قلبه، وينبعث منه ميل، ويترتب على الميل حركة الأعضاء، فيصدر منه الفعل.

وأصل دسى: دسس، كما قيل في تقضض: تقضى. وسئل ابن عباٍس عنه فقال: أتقرأ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)] الأعلى: 14 [(وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)] طه: 111 [. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الواحدي وصاحب "المطلع": "الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان؛ فإذا أوقع في قلب عبد شيئاً، فقد ألزمه ذلك الشيء"، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود، عن عمران بن حصين، أن رجلين من مُزينة أتيا رسول الله? ، فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى فيهم، من قدر قد سبق، أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قُضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. قوله: (وسئل ابن عباس عنه)، أي: عن فاعل زكى ودسى. وأجاب: أن فاعل {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وفاعل {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، وفاعل {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]، وفاعل {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} سواء، أي: الضمير المستتر في {زَكَّاهَا}، عائد إلى "من"، والبارز إلى النفس، وكذا في {دَسَّاهَا}. ولما كان ظاهر هذا التأويل موافقاً لمذهبه، قال: "وأما قول من زعم أن الضمير في "زكى" و"دسَّي" لله، فمن تعكيس القدرية"، وهو كلام خارج عن جراءة عظيمة، لما روينا عن مسلم والنسائي، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله? ، قال: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال: "قد أفلحت نفس زكاها الله تعالى، وأصلحها وطهرها ووفقها للطاعة، وخابت وخسرت نفس أضلها الله وأغواها"، ونحو منه في "معالم التنزيل". وقد تقرر عند صاحب "الانتصاف"، أن النظم لا يساعد إلا هذا التأويل.

وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكى ودسي لله تعالى، وأنّ تأنيث الراجع إلى من؛ لأنه في معنى النفس: فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون على الله قدرًا هو بريء منه ومتعاٍل عنه، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشةٍ ينسبونها إليه. فإن قلت: فأين جواب القسم؟ قلت: هو محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحًا. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: "تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]. والثاني بالقول، وأما قول كتزكية العدل غيره، وهو مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً، ولذلك قيل: لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الرجل نفسه". وقال أيضاً: "الخيبة: فوت المطلوب، قال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ". قوله: (يُوركون)، أي: ينسبون ويُضيفون إليه. الجوهري: "ورك فلان ذنبه على غيره: أي قرفه به". قوله: (تقديره: ليُدمدمن الله عليهم)، قال الزجاج: "الجواب: قد أفلح، أي: لقد أفلح؛ حذفت اللام لطول الكلام"، وتبعه القاضي ثم قال: "كأنه لما أراد به الحث على تكميل

[(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها)] 11 - 15 [ الباء في (بِطَغْواها) مثلها في: كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان: فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيي وصديا، يعنى: فعلت التكذيب بطغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على الله. وقيل: كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ)] الحاقة: 5 [، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع، ووجوب ذاته وكمال صفاته، الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه، ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوة العملية. وقيل: استطرد بذكر بعض أحوال النفس، والجواب محذوف تقديره: لَيُدمْدمن الله"، إلى آخره. كأنه رجح قول الزجاج على قول المصنف. فعلى هذا: يكون قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11]، كلاماً تابعاً على سبيل الاستطراد لقوله: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}؛ فإن الطغيان أعظم أنواع التدسية، وعلى تأويل المصنف: استطراد لجواب القسم على طريق التشبيه. قوله: (خزيا وصديا)، "خَزْيا" من: خزي الرجل؛ إذا استحيا، والصدى: العطش، يقال: رجل صد وامرأة صديا. قوله: (وقيل: كذبت بما أوعدت به)، عطف على قوله: "الباء في {بِطَغْوَاهَا}: مثلها في قوله: كتبت بالقلم" فالباء مثل قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، ويؤيد الأول قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}.

وقرأ الحسن: (بطغواها) بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر. (إِذِ انْبَعَثَ) منصوب بكذبت، أو بالطغوى. و (أَشْقاها) قدار بن سالف. ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته. بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال: أشقوها، كما تقول: أفاضلهم. والضمير في (لَهُمْ) يجوز أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة، لأنّ من تولى الفقر وباشره كانت شقاوته أظهر وأبلغ. و (ناقَةَ اللَّهِ) نصب على التحذير، كقولك الأسد الأسد، والصبي الصبي، بإضمار: ذروا أو احذروا عقرها، (وَسُقْياها) فلا تزووها عنها، ولا تستأثروا بها عليها، (فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ) فأطلق عليهم العذاب، وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة: إذا ألبسها الشحم، (بِذَنْبِهِمْ) بسبب ذنبهم. وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب، فعلى كل مذنٍب أن يعتبر ويحذر، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته)، تقول: هذان أفضل الناس، وهؤلاء أفضلهم. قوله: (نصب على التحذير)، أي: اتركوا العَقْر والسُّقيا؛ يقال: سقيته وأسقيته، والاسم: السُّقيا، أي: احذروا سُقيا الناقة، فلا تمنعوا سقياها. قوله: (ولا تستأثروا بها)، أي: بسُقياها على الناقة؛ يقال: استأثر بالشيء، أي: استبد به. قوله: ({فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ}: فأطبق عليهم)، الراغب: "دمدم عليهم ربهم: أهلكهم وأزعجهم، وقيل: الدَّمدمة حكاية صوت الهرة، ومنه: دمدم فلان في كلامه، والدِّمام: يُطلى به، وبعير مُدمدم بالشحم".

(فَسَوَّاها) الضمير للدمدمة، أي: فسوّاها بينهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم. (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي: عاقبتها وتبعتها؛ كما يخاف كل معاقٍب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى: فسواها بالأرض، أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: فلا يخاف. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ولم يخف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الشمس"، فكأنما تصدق بكل شيٍء طلعت عليه الشمس والقمر». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في مصاحف أهل المدينة والشام)، أهل المدنة: نافع، (والشام): ابن عامر. والله أعلم. تمت السورة * ... * ... *

سورة الليل

سورة الليل مكية، وهي إحدى وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)] 1 - 4 [. المغشي: إما الشمس من قوله: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها)] الشمس: 4 [وإما النهار من قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ)] الرعد: 3 [وإما كل شيٍء يواريه بظلامه من قوله: (إِذا وَقَبَ)] الفلق: 3 [. (تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبين وتكشف بطلوع الشمس، (وَما خَلَقَ) والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماٍء واحد، وقيل: هما آدم عليه السلام وحواء. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (والذكر والأنثى). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الليل مكية، وهي إحدى وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (من قوله: {إِذَا وَقَبَ})، الجوهري: "وقب الظلام: دخل على الناس، ومنه قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] ". قوله: (وفي قراءة النبي? )، رواها البخاري ومسلم والترمذي، عن عبد الله بن مسعود وعن أبي الدرداء عن النبي? . قال ابن جني: " {الذكر والأنثى} بغير {وَمَا

وقرأ ابن مسعود: (والذي خلق الذكر والأنثى). وعن الكسائي: (وما خلق الذكر والأنثى) بالجر على أنه بدل من محل "ما خَلَقَ"، بمعنى: وما خلقه الله، أي: ومخلوق الله الذكر والأنثى. وجاز إضمار اسم الله؛ لأنه معلوم لانفراده بالخلق، إذ لا خالق سواه. وقيل: إنّ الله لم يخلق خلقًا من ذوى الأرواح ليس بذكٍر ولا أنثى. والخنثى، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكٍل، معلوم بالذكورة أو الأنوثة؛ فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرًا ولا أنثى، ولقد لقي خنثى مشكلًا: كان خانثًا؛ لأنه في الحقيقة إمّا ذكرًا أو أنثى، وإن كان مشكلًا عندنا. "شَتَّى" جمع شتيٍت، أي: إنّ مساعيكم أشتات مختلفة، وبيان اختلافهما فيما فصل على أثره. [(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)] 5 - 7 [ (أَعْطى) يعنى حقوق ماله، (وَاتَّقى) الله فلم يعصه. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالخصلة الحسنى، وهي الإيمان. أو بالملة الحسنى، وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى: وهي الجنة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيئه لها من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومنه قوله عليه السلام: «كل ميسر لما خلق له». ......... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خَلَقَ}: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء، وهي شاهدة لقراءة من قرأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى}، بجر {الذّكرِ} لكونه بدلاً من {مَا} ". قوله: (فَسَنُهيِّئُه لها)، عن بعضهم: تيسر، كذا. واستيسر: أي: تسهل وتهيأ، وقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20]، ويسرت كذا، أي: سهلته وهيأته، قال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}. قوله: (كل ميسر لما خُلق له)، الحديث من رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله? : "ما منكم من أحد إلا وكُتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا،

والمعنى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها، من قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)] الأنعام: 125 [. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكل ميسر لما خُلق له". أما من كان من أهل السعادة، فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسيصير لعمل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}، الآيتين. وما أدري كيف أورد هذا الحديث هاهنا، وهو يهدم قاعدة مذهبه. الانتصاف: "هلا أطال لسانه في هذا المقام، لكن قصره الحق، فتراه يتأول الكلام بخلق اللُّطف والخذلان، ويحمله على ما لا يحتمله". روى محيي السنة عن الخطابي أنه قال: "قولهم: أفلا نتكل على كتابنا؟ مطالبة منهم بأمر يوجب تعطيل العبودية، وروم أن يتخذوا حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبي? بقوله: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، بأمرين لا يُبطل أحدهما بالآخر: باطن هو العلة الموجبة في حُكم الربوبية، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم. ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب؛ فإنك تجد المغيب فيهما علة موجبة، والظاهر البادي سبباً مخيلاً، وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم، أن الظاهر منهما لا يترك بسبب الباطن". وقلت: تلخيصه: عليكم بشأن العبودية وما خُلقتم لأجله وأُمرتم به، وكِلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها، فلا عليكم بشأنها، والله أعلم. قوله: (حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها)، روينا عن أبي داود، عن سالم قال: قال رجل من خزاعة: "ليتني صليت فاسترحت! فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت

[(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)] 8 - 11 [. (وَاسْتَغْنى) وزهد فيما عند الله كأنه مستغٍن عنه فلم يتقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة؛ لأنه في مقابلة (وَاتَّقى). (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) فسنخذله ونمنعه الألطاف، حتى تكون الطاعة أعسر شيٍء عليه وأشدّه، من قوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)] الأنعام: 125 [أو سمى طريقة الخير باليسرى، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: أقم الصلاة يا بلال، أرحنا". وفي "الجامع"؛ أنه? ، كان يستروح بأدائها من شغل القلب بها. وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له لأنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكأنه يستريح بالصلاة من مناجاة الله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وقرة عيني في الصلاة"، وما أقرب الراحة من قُرة العين! . قوله: (كأنه مُستغن عنه فلم يتقه)، يعني: الذي يقتضيه التقابل أن يقال: وأما من بخل ولم يتق، لقوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى}، لكن وضع موضعه {وَاسْتَغْنَى}، لما وقع مقابلاً لقوله: {أَعْطَى وَاتَّقَى}، يقدر تارة: استغنى عن الله، وأخرى: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة، لأن مقابل له، لأن المتقي {مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، فإن له الجنة، وكان ذلك سبباً لأن يقال في حقه: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]. قوله: (أو سمى طريقة الخير)، عطف على قوله: "والمعنى: فسنلطف به"؛ فاليُسرى

لأنّ عاقبتها اليسر؛ وطريقة الشر العسرى، لأن عاقبتها العسر. أو أراد بهما طريقي الجنة والنار، أي: فسنهديهما في الآخرة للطريقين. وقيل: نزلتا في أبى بكٍر رضي الله عنه، وفي أبى سفيان بن حرٍب. (وَما يُغْنِي عَنْهُ) استفهام في معنى الإنكار، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعُسرى على الأول محمولتان على الطاعة، سُميت بهما لأنه تعالى يسرها على المكلف بمنح الألطاف، أو عسرها عليه بالخذلان، قال القفال: "هو من قوله تعالى: {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، فلما سمى الألطاف الداعية إلى الطاعة بتيسير اليُسرى، سمى ترك هذه الألطاف بتيسير العُسرى". وقال الإمام: "المعنى بتيسير اليُسرى: تسهيلها على من أراده تعالى، حتى لا يعتريه من الكسل والتثاقل ما يعتري المرائي والمنافق، قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، و {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]، {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38] ". وعلى الثاني مفسرتان بالطاعة والمعصية، وهو أحسن طباقاً بالحديث المروي: "كل ميسر لما خُلق له" إلى آخره، وأقرب إلى وصول أهل السنة، كما أن الأول أقرب إلى أصولهم. وقال الإمام: "كل ما أدت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليُسرى، وهو وصف كل الطاعات. وكل ما أدت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي. واستدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان. وأما وجه تأنيث اليُسرى والعُسرى، فإن كان المراد منهما جماعة الأعمال فذلك طاهر، وإن كان المراد عملاً واحداً، يرجع التأنيث إلى الحالة أو الفعلة، ويجوز أن يراد الطريقة، أي: اليُسرى والعُسرى". قوله: (نزلتا في أبي بكر رضي الله عنه، وفي أبي سفيان)، وروى الواحدي ومحيي السنة،

أو نفي، (تَرَدَّى) تفعل من الردى وهو الهلاك، يريد: الموت. أو تردّى في الحفرة إذا قبر، أو تردى في قعر جهنم. [(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)] 12 - 13 [. (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع. (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي: ثواب الدّارين للمهتدى، كقوله: (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] العنكبوت: 27 [. [(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى)] 14 - 21 [. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله تعالى، فأنزل الله إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}، سعى أبي بكر وأمية. وروى الإمام عن القفال أن السورة نزلت في أبي بكر الصديق وإنفاقع على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبُخله وكفره بالله تعالى، لكن معانيها عامة لقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}. وقلت: دل على العموم الحديث الذي رويناه عن الأئمة. قوله: (إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا)، قال القاضي: "إن علينا الإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو إن علينا بيان طريقة الهدى لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] ". وقال الزجاج: "علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال".

وقرأ أبو الزبير: (تتلظى). فإن قلت: كيف قال: (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) وقد علم أن كل شقيّ يصلاها، وكل تقيّ يجنبها، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارًا بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيٍم من المشركين وعظيٍم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصًا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي الله عنه. (يَتَزَكَّى) من الزكاء، أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، لا يريد به رياًء ولا سمعة. أو يتفعل من الزكاة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين)، يعني أبا بكر رضي الله عنه، وأُمية بن خلف قبحه الله كما سبق. الانتصاف: "بُني على مفهوم الآية لورود صيغة التخصيص، وحاصل جوابه أن التخصيص له فائدة سوى النفي عما عدا المخصص وهي المقابلة، وهذا يلاحظ ما لحظه الشافعي في قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الآية فإنه لم يقل بمفهوم حصرها، بل جعل فائدة المقابلة الرد لأحكام الجاهلية لا نفي ما عدا المحصور، والزمخشري

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خاصة ضاق ذرعه في هذه الآية حذراً على قاعدته، ويأبى الله إلا نقضها، فنقول: الصَّلي في اللغة: أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيسدوها وسطه؛ فأما ما يُشوى فوق الجمر، أو على المقلى، أو في التنور، فلا يسمى مصلياً. هذا بعينه ذكره الزمخشري في سورة الغاشية؛ فالتصلية أشد أنواع التعذيب. والناس عندنا ثلاثة أنواع: مؤمن فائز، ومؤمن عاص، وكافر. فالفائز يطفئ نوره لهب النار، والعاصي يُعذب في الطبقة الأولى، حتى إن منهم من تبلغ النار إلى كعبيه، وأشدهم من تصل إلى موضع سجوده، ولا يُعذب أحد من المؤمنين بين أطباقها بالصَّلي؛ فلا يصلاها إلا الكافر، وسيُجنبها الأتقى بالكلية لا يسمع حسيسها، فالعاصي ليس بأتقى ولا أشقى؛ فلا يصلاها ولا يُجنبها، بل يعذب بغير الصَّلى". وقلت: ويؤيد هذا التأويل اللفظتان، أعني {لَا يَصْلَاهَا} و {وَسَيُجَنَّبُهَا}، فإن إحداهما دلت على معنى البُحبوحة، والأخرى على المعنى البعيد، ولذلك قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه، قال: "عليكم بالجنبة فإنها عفاف"، قال الهروي: يقول اجتنبوا النساء ولا تقربوا ناحيتهن، يقال: رجل ذو جَنبة، أي: ذو اعتزال عن الناس متجنب لهم".

فإن قلت: ما محل يتزكى؟ قلت: هو على وجهين: إن جعلته بدلًا من (يُؤْتِي) فلا محل له؛ لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها. وإن جعلته حالًا من الضمير في (يُؤْتِي) فمحله النصب. (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مستثنًى من غير جنسه وهو النعمة أي: ما لأحٍد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارًا. وقرأ يحيى بن وثاب: (إلا ابتغاء وجه ربه) بالرفع: على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حمار، وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبى حازم: أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظّلمان تختلف وقول القائل: وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس ويجوز أن يكون (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مفعولًا له على المعنى، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والصلات لا محل لها)، قيل: لأن الصلة بعض الاسم، وبعض الاسم لا محل له، ولأن الصلة ليست بقائمة مقام المفرد. قوله: (على لغة من يقول)، وهي لغة بني تميم، وسبق تقريره في النمل. قوله: (أضحت خلاء) البيت، بعده: وقفت فيها قلوصي كي تجاوبني أو يُخبر الرَّسم عنهم آية صرفوا القفار: جمع قفر، وهي الخالي من المفاوز. والجآذر: أولاد البقر. والظلمان: جمع الظليم، وهو ذكر النعام. قوله: (ويجوز أن يكون {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ})، مفعولاً له) وعلى هذا المستثنى داخل في المستثنى منه حقيقة، لأن المعنى: لا يؤتي ماله لأمر من الأمور، إلا ابتغاء وجه ربه.

لأنّ معنى الكلام: لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمةٍ. (وَلَسَوْفَ يَرْضى) موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "والليل"، أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسر له اليسر». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: (لا لمكافأة نعمة)، توكيد للاستثناء. والتركيب مما رده صاحب "المفتاح". تمت السورة حامداً لله ومُصلياً * ... * ... *

سورة (والضحى)

سورة (والضحى) مكية، وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)] 1 - 3 [ المراد بالضحى: وقت الضحى، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {وَالضُّحَى} مكية، وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس)، الراغب: "الضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار، وسمي الوقت به، قال تعالى: {وَالضُّحَى (وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى}. وضحى يضحى: تعرض للشمس، وضاحية كل شيء: ناحيته البارزة. الأضحية جمعها أضاحي، وقيل: ضحية وضحايا، وأضحاة وأضحى، وتسميتها بذلك في الشرع لما ورد: "من ذبح قبل صلاتنا هذه فليُعِد".

وقيل: إنما خص وقت الضحى بالقسم؛ لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام، وألقى فيها السحرة سجدًا، لقوله: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)] طه: 59 [وقيل: أريد بالضحى: النهار، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: إنما خُص وقت الضحى بالقسم، لأنها الساعة التي كُلم فيها موسى عليه السلام)، وسُئلت عنه وعن قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى}، فأجبت: إنه من باب قوله: وثناياك إنها إغريض وذلك أن المشركين لما قالوا: إن محمداً ودعه ربه وقلاه، قيل له: كيف يودعك ويقليك وأنت خصصت بوجوب ما تقر عينك من الصلاة في هذين الوقتين، كقوله تعالى {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء: 79]، وقوله? : "كتب علي النحر ولم يُكتب عليكم، وأُمرت بصلاة الضحى ولم تُؤمروا بها"، رواه الدارقطني في كتاب "المجتني" عن ابن عباس، وهما الوقتان اللذان يخلو [فيهما] المحب مع المحبوب، يعني: وحق قربك عندنا، وزُلفاك لدينا، إنا ما ودعناك ولا قليناك. ثم لا يخلو تعلق الوداع بالضحوة والقلي بالليل من لطيفة، قال ابن عطاء: "ما حجبك عن قُربه حين بعثك إلى خلقه".

بيانه قوله: (أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا ضُحًى)] الأعراف: 98 [في مقابلة (بَياتاً). (سَجى) سكن وركد ظلامه. وقيل: ليلة ساجية: ساكنة الريح. وقيل معناه: سكون الناس والأصوات فيه. وسجا البحر: سكنت أمواجه. وطرف ساٍج: ساكن فاتر. (ما وَدَّعَكَ) جواب القسم، ومعناه: ما قطعك قطع المودع. وقرئ: بالتخفيف، يعني: ما تركك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: ليلة ساجية: ساكنة الريح)، بيان لما سبق. ويجوز أن يكون وجهاً آخر، قال في قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61]: "الليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه". قوله: (وقرئ بالتخفيف، يعني: ما تركك)، قال ابن جني: "وهي قراءة النبي? وعروة ابن الزبير، وهي قليلة الاستعمال، قال سيبويه: استغنوا عن وذر وودع بقولهم: ترك، على أنها جاءت في شعر أبي الأسود، وأنشدناه أبو علي: ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحُب حتى ودعه إلا أنهم قد استعملوا مضارعه". وقلت: وقد جاء في شعر المتنبي: يَشُقكم بقناها كل سَلْهَبة والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع وإنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين، كأنه قيل: ما تركك وما قلاك، ومُؤدى معنى المشهورة إلى هذا، لأن التوديع أمارة المحبة، وقصدهم غاية البغض، ولذلك قال: "التوديع: مبالغة في الوداع"، ونظيره ما جاء في الحديث: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا

قال: وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقّفة السّمر والتوديع: مبالغة في الودع؛ لأنّ من ودّعك مفارقًا فقد بالغ في تركك. روى أنّ الوحي قد تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا، فقال المشركون: إنّ محمدًا ودعه ربه وقلاه. وقيل: إنّ أم جميٍل امرأة أبى لهب قالت له: يا محمد، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الترك ما تركوكم"، لما في كل من الفقرتين من رد العجز على الصدر، وفي كليهما من صنعة الترصيع ما جبر منه. قوله: (وثم ودعنا آل عمرو) البيت، ودعنا: تركنا. فرائس: جمع فريسة، وهي صيد الأسود. والمثقفة: الرماح المقومة. والسُّمر: جمع أسمر، وهو لونه؛ يقول: تركنا في ذلك المقام قتلى آل عمرو وآل عامر، فرائس أطراف الرماح مجروحين مقتولين. قوله: (وقيل: إن أم جميل)، عن البخاري ومسلم والترمذي، عن جندب قال: اشتكى رسول الله? ، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فجاءته امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت. وفي رواية: أبطأ جبريل عليه السلام على رسول الله? ، فقال المشركون: قد وُدِّع محمد، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى}.

ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت. حذف الضمير من (قَلى) كحذفه من (الذَّاكِراتِ) في قوله: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ)] الأحزاب: 35 [يريد: والذاكراتة ونحوه: (فَآوى، فَهَدى، فَأَغْنى)، وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف. [(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)] 4 - 5 [ فإن قلت: كيف اتصل قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) بما قبله؟ قلت: لما كان في ضمن نفى التوديع والقلي، أنّ الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله ولا ترى كرامةً أعظم من ذلك ولا نعمةً أجل منه: أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهو اختصار لفظي)، يعني: اختصر وحذف المفعول ليوافق الفواصل بدلالة: "ما ودعك" عليه. قوله: (لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك)، قال الإمام: "ويمكن أن يقال: إن المعنى: ولأحوال الآتية خير لك من الماضية، كانه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز، ومنصباً إلى منصب". وقال الإمام أيضاً: "لما نزلت {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم ذلك، فقيل له: {وَلَلْأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى}، يعني: هذا التشريف وإن كان عظيماً، إلا ما لك عند الله في الآخرة أعظم وأعلى". وقلت: ويمكن أن يقال: وللآخرة خير لك في الاتصال والمحبة من الأولى، فيكتسب المعطوف من المعطوف عليه هذا المعنى، كما اكتسب المعطوف عليه منه معنى الأولية؛ فإن {مَا وَدَّعَكَ} و {وَمَا قَلَى}، معناه: قربك وأحبك في الدنيا، بدليل "وللآخرة"؛ وإن معنى {خَيْرٌ لَّكَ}، خير فيما يزلفك ويمنحك المحبة، بدلالة {مَا وَدَّعَكَ} و {وَمَا قَلَى}، إذ لا ينبغي أن يشاب

وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الفلج والظفر بأعدائه يوم بدٍر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجًا، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاتصال والمحبة بمعنى آخر للطفهما، ويكون قوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، معطياً جميع ما أحصاه المصنف وما لا يُحصى لإطلاقه. وأيضاً يتصل {وَالضُّحَى (وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى}، بهذه الآية اتصاله بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، فتصير الآيات من التثاني، ويتحقق فيها معنى المثاني. قوله: (وإعلاء مراتبهم بشفاعته)، الانتصاف: "وإخراج العُصاة من النار بشفاعته". قوله: (من الفلج)، بالجيم. الجوهري: "الفلج: الظَّفَر والفوز". النهاية: "وقد فلج أصحابه وعلى أصحابه: إذا غلبهم، والاسم: الفلج، بضم الفاء". قوله: (وما فتح على خلفائه)، عطف على "ما أعطاه"، و"ما" موصولة، والعائد محذوف، وكذا قوله: "وما قذف". قوله: (وأنهبهم)، أي: جعلهم متمكنين من النهب. و"أنهب" متعد إلى مفعولين، وحذف أحدهما وهو العائد إلى الموصول، أي: لما أنهبوه، يقال: أنهب الرجل ماله الناس. قوله: (وفشو الدعوة)، قيل: هو عطف على "ما" لا على "الإسلام". الرعب، "إذ ليس مما قُذف في القلوب، وفيه نظر لما سيجيء".

ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله. قال ابن عباٍس رضي الله عنهما: له في الجنة ألف قصٍر من لؤلٍؤ أبيض ترابه المسك. فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، كما ذكرنا في: لا أقسم، أن المعنى: لأنا أقسم؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولما ادخر له من الثواب)، عطف على قوله: (لما أعطاه في الدنيا). واعلم أنه راعى في هذه المعطوفات ترتيباً غريباً، لأن الموعد إما أمر يتعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فما يتعلق بالدنيا: أما ما يختص به صلوات الله عليه، فهو الذي أراده بقوله: "من الفلج والظفر بأعدائه". أو بخلفائه الراشدين، فهو قوله: "ما فتح في أقطار الأرض من المدائن". أو بأمته من بعده، فهو المراد كم قوله: "ما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب"، إلى قوله: "واستيلاء المسلمين"، لأن ما يختص بالأمة إما النهب أو الإستيلاء، لأنهم ما فتحوا المشرف والمغرب. ولما فرغ من ذكر أحوال الدنيا وشرع في أحوال الآخرة، أعاد اللام في المعطوف ليؤذن بالفرق بين المعطوفات، فظهر من هذا أن قوله: "وفشو الدعوة"، عطف على "الإسلام"، أي: تهيب فشو الدعوة والاستيلاء. قوله: (هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف)، قال ابن الحاجب: "هي لام التأكيد وليست لام الابتداء. وقول من قال: إنها لام الابتداء دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ فاسد، لأن اللام مع المبتدأ كـ "قد" مع الفعل و "إن" مع الاسم، فكما لا يحذف الاسم والفعل وتبقى "إن" و"قد"، كذلك لا تبقى اللام بعد حذف الاسم. وأيضاً اللام في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124]، لمجرد التأكيد، مثلها في قولك: إن زيداً لقائم، ولا يصح أن تكون للحال، لأن المعنى هو الاستقبال. وقد صرح في "مفصله": "ويجوز عندنا: إن زيداً لسوف يقوم، ولا يجيزه الكوفيون"، ولو كانت للحال لتناقض مع (سوف) ".

وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسٍم أو ابتداٍء؛ فلام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد، فبقى أن تكون لام ابتداٍء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك. فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير؟ قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر، لما في التأخير من المصلحة. [(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)] 6 - 8 [ عدّد عليه نعمه وأياديه، وأنه لم يخله منها من أول تربيه وابتداء نشئه، ترشيحًا لما أراد به؛ ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه، لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير والكرامة، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره. و (أَلَمْ يَجِدْكَ) من الوجود الذي بمعنى العلم، والمنصوبان مفعولا وجد. والمعنى: ألم تكن يتيمًا، وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمّه، وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: قد نص في "مريم" أن اللام مخلصة للتأكيد، ولا بأس بحذف المبتدأ، والفرق بين هذه اللام و"إن" و"قد"، أنهما مؤثران في المدخول عليه مع التوكيد بخلاف هذه اللام، لأن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير، وهو باق وإن حُذف المبتدأ. قوله: (بين حرفي التوكيد والتأخير)، أي اللام و"سوف". قوله: (ترشيحاً لما أراد به)، الأساس: "ومن المجاز: هو مرشح للخلافة، وأصله ترشيح الظبية ولدها تعوده المشي". قيل: "ترشيحاً" مفعول له، لقوله: "فلم يُخله"، أو لقوله: "عدد عليه نعمه".

ومن بدع التفاسير: أنه من قولهم: درّة يتيمة، وأن المعنى: ألم يجدك واحدًا في قريٍش عديم النظير فآواك. وقرئ: (فأوى) هو على معنيين: إما من أواه بمعنى آواه؛ سمع بعض الرعاة يقول: أين آوى هذه الموقسة وإما من: أوى له؛ إذا رحمه، (ضَالًّا) معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أين آوي هذه الموقسة؟ )، آوي: فعل مضارع من: أوي. الجوهري: "إن بالبعير لوقساً، إذا قارفه شيء من الجرب، فهو بعير موقوس". قوله: (الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع)، قال الواحدي: "أكثر المفسرين: وجدك ضالاً عن معالم النبوة وأحكام الشريعة، غافلاً عنها فهداك إليها، ودليله قوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وهو اختيار الزجاج"، وسيجيءفي سورة "الكافرون"، أنه? قبل البعثة على أي ملة كان. وقال الجُنيد: "وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل: 44]. وقال بعضهم: وجدك غافلاً بقدر نفسك، فأشرفك على عظيم محلك، وأيضاً وجدك ضالاً عن معنى محض المودة، فسقاك كأساً منم شراب القُربة والمودة، فهداك به إلى معرفته. وقال جعفر الصادق: كنت ضالاً عن محبتي لك في الأزل، فممنت عليك بمعرفتي. وقال الجريري: وجدك متردداً في غوامض معاني المحبة، فهداك بلطفه لها". وقلت: هذا ملائم لمعنى الفاتحة. الراغب: "الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية. ويقال الضلال لكل عدول عن النهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً طان أو كثيراً، فإن الطريق المستقيم المرتضى صعب جداً، ولذا قال? : "استقيموا ولن تُحصوا"، وقال بعضهم: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة؛ فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى المقرطس من المرمى،

كقوله: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ)] الشورى: 52 [. وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة، فردّه أبو جهٍل إلى عبد المطلب. وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب. فهداك: فعرفك القرآن والشرائع، أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك. ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلوهم عن العلوم السمعية، فنعم؛ وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم، فمعاذ الله؛ والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع؟ (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)] يوسف: 38 [وكفى بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر. (عائِلًا) فقيرًا. وقرئ: (عيلا) كما قرئ: (سيحات)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وما عداه من الجوانب كلها ضلال. فإذا كان الضلال ترك المستقيم عمداً أو سهواً، قليلاً أو كثيراً، صح أن يستعمل الضلال في من يكون منه خطأ ما، ولذلك نُسب إلى الأنبياء والكفار، وإن كان بينهما بون بعيد، قال في حق نبينا صلوات الله عليه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وقال أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8]، وقال موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20]، أي من الساهين، وقال تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]، أي: تنسى. وأما الضلال في معرفة وحدانية الله ومعرفة النبوة ونحوهما، فهو الضلال البعيد، قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِي} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] ". قوله: (كما قرئ: "سيحات")، يعني: قرئ بدل {سَائِحَاتٍ}: "سَيِّحات"، وإنما شبهه بذلك لأنه جعل فيها "فيعل" مكان "فاعل".

وعديمًا، (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة. أو بما أفاء عليك من الغنائم. قال عليه السلام: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وقيل: قنعك وأغنى قلبك. [(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)] 9 - 11 [ (فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه. وفي قراءة ابن مسعود: (فلا تكهر) وهو أن يعبس في وجهه. وفلان ذو كهرورة: عابس الوجه. ومنه الحديث: فبأبي وأمي هو، ما كهرني. النهر، والنهم: الزجر. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رددت السائل ثلاثًا فلم يرجع، فلا عليك أن تزبره». وقيل: أما إنه ليس بالسائل المستجدي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعديماً)، أي: وقرئ: عديماً، وفي "الموضح" أنها قراءة ابن مسعود. قوله: (فبأبي وأمي هو، ما كهرني)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود والنسائي، عن معاوية بن الحكم السُّلمي، قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله? ، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟ وجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني سكت. فلما صلى رسول الله? ، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيئ من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير". قوله: (أن تزبره)، الجوهري: "الزبر: الزحر والمنع، يقال: زَبَره يزبُره بالضم: إذا انتهره". قوله: (أما إنه ليس بالسائل المستجدي)، أي: لم يرد بهذا السائل من يطلب الجدوى، أي: العطاء، ولكن أُريد به طالب العلم.

ولكن طالب العلم: إذا جاء فلا تنهره. التحديث بنعمة الله: شكرها وإشاعتها، يريد: ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك. وعن مجاهد: بالقرآن، فحدث: أقرئه، وبلغ ما أرسلت به. وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول: رزقني الله البارحة خيرًا: قرأت كذا وصليت كذا، فإذا قيل له: يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا؟ قال: يقول الله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)] الضحى: 11 [وأنتم تقولون: لا تحدث بنعمة الله. وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الفتنة. والستر أفضل، ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى به. وفي قراءة على رضي الله عنه: (فخبر) والمعنى: أنك كنت يتيمًا، وضالًا وعائلًا، فآواك الله، وهداك: وأغناك؛ فمهما يكن من شيٍء وعلى ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث. واقتد بالله، فتعطف على اليتيم وآوه، فقد ذقت اليتم وهوانه، ورأيت كيف فعل الله بك؛ وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر؛ وحدّث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايته الضلال، وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتديًا بالله في أن هداه من الضلال. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "والضحى"، جعله الله فيمن يرضى لمحمٍد أن يشفع له، وعشر حسناٍت يكتبها الله له بعدد كل يتيٍم وسائٍل». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (عن عبد الله بن غالب)، في "الكاشف في أسماء الرجال": "هو عبد الله بن غالب البصري الحُداني، بضم الحاء المهملة والنون، كان عابداً واعظاً قانتاً متبتلاً، روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى عنه قتادة والقاسم بن فضل. قتل يوم الجماجم في سنة ثلاث وثمانين". قوله: (فمهمايكن من شيء)، يريد أن موقع "أما" مع مدخولها بعد قوله {أَلَمْ يَجِدْكَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يَتِيمًا فَ‍آوَى}، موقع الحكم الذي ترتب على الوصف المناسب، فيجب المداومة عليه، لأن معنى "أما" الشرطية على تفسير سيبويه، في نحو قولهم: أما زيد فذاهب، هو: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وفائدته التوكيد، يعني أنه لا محالة ذاهب، وأنه منه عزيمة، ولذلك قال: "وعلى ما خَيَّلت، أي: النفس، فلا تنس رحمة الله". وقيل: فاعل "ما خَيَّلت" الحال، أي: على أي حال كنت، يقولون: افعل على ما خَيَّلته، أي: ما شُبهت الحال. واعلم أن في كلامه إشعاراً بأن قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}، جاء مقابلاً لقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَ‍آوَى}، وقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}، مقابلاً لقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، لقوله: "وترحم على السائل كما رحمك ربك فأغناك". وأما قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فجيء على العموم، فدخل تحته مفهوم القرينة الثانية، وهو قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أول شيء، وإليه الإشارة بقوله: "وحدث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايته الضلال، وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتدياً بالله في أن هداه من الضلال". وقلت: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجدي، ولذلك أتى بكلمة التنبيه وحرف الاستدراك في قوله: "أما إنه ليس بالسائل المستجدي، ولكن طالب العلم"؛ فالجمل الثلاث المصدرة بـ "أما"، كالتفصيل لتلك الحالات الثلاث على الترتيب، ولذلك أتى بالفاء في الأولى، وعطف الآخران عليها بالواو. نعم، الثالثة من الجوامع التي تشتمل على المذكورات وغير المذكورات. ويؤيد هذا التأويل، ما رواه الإمام عن الحسن أنه قال: "المراد من السائل من يسأل العلم، ونظيره من وجه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]، وحينئذ يحصل الترتيب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه تعالى قال أولاً: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَ‍آوَى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، ثم اعتبر هذا الترتيب فأوصاه برعاية حق اليتيم، ثم برعاية من يسأله عن العلم والهداية، ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه". فإن قلت: ما الحكمة في تأخير حق الله عن حق اليتيم والسائل؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها كأنه يقول: أنا غني وهما محتاجان، وتقديم المحتاج أولى. وثانيها أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول. وثالثها أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله فختمت به. وأُوثر {فَحَدِّثْ} على "فخبِّر"، ليكون ذلك عنده حديثاً لا ينساه، ويوجده ساعة غب ساعة؛ قاله الإمام. تمت السورة * ... * ... *

سورة (ألم نشرح)

سورة (ألم نشرح) مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ)] 1 - 4 [ استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك؛ ولذلك عطف عليه (وضعنا) اعتبارًا للمعنى. ومعنى: شرحنا صدرك: فسحناه حتى وسع هموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (فأفاد إثبات الشرح وإيجابه)، أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح، لأن الهمزة للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عاد إثباتاً، ولا يجوز جعل الهزة للتقرير. قوله: (فسحناه حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين جميعاً)، فإن قلت: لم فسر هاهنا شرح الصدر أجمع وأشرح من تفسيره في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]، حيث قال: "لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنه كُلف أمراً عظيماً وخطباً جسيماً،

أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم، أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وعن الحسن: مليء حكمةً وعلمًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره؟ ". قلت: إن الهموم بقدر الهمم، ونعم ما قال الصاحب: وقائلة لم عزتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت: ذريني على غُصتي فإن الهموم بقدر الهمم ولكل مقام مقال؛ فإن الكليم حين بعث إلى فرعون الطاغي، طلب الانشراح كما قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 24 - 25]، والحبيب لما طُلب إلى مقام {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]، قيل له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، كما يجيء في حديث مالك بن صعصعة. وقال جعفر الصادق: "ألم نشرح لك صدرك لمشاهدتي ومُطالعتي. وقال ابن عطاء: ألم نخل سرك عن الكل، فغبت عن مشاهدة الكون وما سوى الحق، فشرح صدرك للنظر، وشرح صدر موسى للكلام. وقال سهل: ألم نوسع صدرك بنور الرسالة، فجعلناه معدناً للحقائق". قوله: (وعن الحسن: مُلئ حكمة وعلماً)، لعله يشير إلى ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن مالك بن صعصعة، عن النبي? : "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فأُتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشُرح صدري إلى كذا وكذا. قال قتادة: يعني لأنس: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: فاستخرج قلبي فغُسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه، ثم حُشي إيماناً وحكمة، ثم أُتي بدابة دون البغل وفوق الحمار" الحديث بطوله.

وعن أبي جعفر المنصور أنه قرأ: (ألم نشرح لك) بفتح الحاء. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "لا يبعد أن يكون حصول الدم الأسود الذي غسلوه من قلبه صلوات الله عليه، علامة الميل والركون إلى المعاصي والتحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة كون صاحبة مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات، يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد". الراغب: " أصل الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر، وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه". قوله: (قرأ: "ألم نشرح" بفتح الحاء)، أصله: "نشرحن"، فحذف وأبقى فتحة الحاء دليلاً على النون في "المنتقى"، قال ابن جنى: "رويت عن أبي جعفر المنصور: "ألم نشرح"، بفتح الحاء، قال ابن مجاهد: "هذا غير جائز أصلاً". وقال ابن جني: "ظاهر الأمر ومألوف الاستعمال ما ذكره ابن مجاهد، لكن جاء مثل هذا فيما قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: من أي يومي من الموت أفر أيوم لم يُقدر أم يوم قُدر؟ قيل: أراد: لم يُقدرن، بالنون الخفيفة، وحذفها عندنا غير جائز، لأن نون التأكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب، لا الإيجاز والاختصار. وفي نوادر أبي زيد أيضاً بيت آخر، ويقال إنه مصنوع، وهو قوله: اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس

وقالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها، والوزر الذي أنقض ظهره أي: حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمه من فرطاته قبل النبوّة، أو من جهله بالأحكام والشرائع، أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه: أن غفر له، أو علم الشرائع، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبالغ ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أراد: اضربن، بالنون الخفيفة، وحذفها". قوله: (وهو صوت الانتقاض والانفكاك)، وفي "الصحاح": "أنقض الحمل ظهره، أي: أثقله. وأصله الصوت، والنقيض: صوت المحامل والرّحال". الراغب: "أنقض ظهره: أي: كسره حتى صار له نقيض، ونقيض المفاصل صوتها. والظهر استعارة تشبيهاً للذنوب بالحمل الذي ينوء بحامله". قوله: (ووضعه عنه: أن غفر له)، مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على مثلها وهي قوله: "والوزر مثل"، أي: استعارة مسبوقة بالتشبيه، فيكون {وَوَضَعْنَا} ترشيحاً لها، لأنه وصف مناسب للمستعار منه. هذا هو المعنى بقوله: "ووضعه عنه: أن غُفر له" إلى آخره؛ فإذا استعير الوزر للذنب، فالمناسب أن يُحمل الترشيح على معنى الغفران، وإذا استعير للجهل بالأحكام، فالملائم أن يجري على تعليم الشرائع، وإذا حُمل على تهالكه صلوات الله عليه على إسلامهم، فالموافق أن يُتأول بتمهيد العُذر، أي: لا تحرص على هداهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، لأنك بالغت في التبليغ، وألزمت عليهم الحجة، ففيه لف ونشر.

وقرأ أنس: (وحللنا وحططنا). وقرأ ابن مسعود: (وحللنا عنك وقرك). ورفع ذكره: أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)] التوبة: 62 [، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)] النساء: 13 [، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)] المائدة: 92 [وفي تسميته رسول الله ونبى الله؛ ومنه ذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. فإن قلت: أي فائدة في زيادة (لك)، والمعنى مستقل بدونه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقرأ أنس: "وحللنا وحططنا")، عن ابن جني، "قال أبان: قلت لأنس: يا أبا حمزة: {وَوَضَعْنَا}؟ قال: "وضعنا" و"حللنا" و"حططنا" سواء. إن جبريل عليه السلام أتى النبي? ، قال: اقرأ على سبعة أحرف، ما لا تخلط مغفرة بعذاب، وعذاباً بمغفرة". قلت: قد جاء عن مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي، عن أنس في حديث طويل، وفي آخره: "ثم قال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ؛ إن قلت: سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحن بعذاب". قوله: (وفي تسميته رسول الله ونبي الله)، قال جعفر: "لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية، وقال ابن عطاء: جعلت تمام الإيمان بي بذكرك معي". قوله: (والأخذ على الأنبياء وأُممهم أن يؤمنوا به)، لعله أراد ما دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّ‍ينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].

قلت: في زيادة (لك) ما في طريقة الإبهام والإيضاح، كأنه قيل: (ألم نشرح لك)، ففهم أن ثم مشروحًا، ثم قيل: (صدرك)، فأوضح ما علم مبهمًا، وكذلك (لَكَ ذِكْرَكَ) و (عَنْكَ وِزْرَكَ). (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)] 5 - 6 [ فإن قلت: كيف تعلق قوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) بما قبله؟ قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة، ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في زيادة {لَكَ}). قال المصنف رحمه الله: "يحتمل أن يكون {لَكَ} زيادة للاختصاص، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وإن كان المعنى مستقلاً بـ "نعبدك"، وأن يكون من قبيل الأهم فالأهم". وقال السيد ابن الشجري في "الأمالي": "اللام في {لَكَ} لام العلة، نحو قولك: فعلت ذلك لإكرامك، فإن حذفتها قلت: فعلته إكرامك، وإن حذفت المصدر رددت اللام فقلت: فعلت ذلك لك؛ فالمعنى: ألم نشرح لهُداك صدرك؟ كما قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، فلما حُذف المصدر وجب إثبات اللام. وكذلك قوله: "ورفعنا لك ذكرك"، أي: رفعنا لتشريفك ذكرك". قوله: (كان المشركون يُعيرون)، تلخيصه: أن قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، سبب نزوله أن المشركين كانوا يُعيرون رسول الله? والمؤمنين بالفقر، فاهتم لذلك رسول الله? ، فأُزيل ذلك بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، فدل الاستفهام على إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته، يعني: ألم تر كيف فعل الله بك في بدء أمرك من انشراح الصدر والرفع من الذكر، وأنت غير عالم حينئذ بشيء مما تعلمه الآن، وأنت يومئذ خامل الذكر، ففعلنا بك ما فعلنا، فقس على ذلك ولا تهتم بتعييرهم لك وللمؤمنين بالفقر، فإن مع العسر يسراً.

حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كأنه قال: خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرًا. فإن قلت: (إِنَّ مَعَ) للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت: أراد أن الله يصيبهم بيسٍر بعد العسر الذي كانوا فيه بزماٍن قريب، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادةً في التسلية وتقوية القلوب. فإن قلت: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: "لن يغلب عسر يسرين"، وقد روى مرفوعًا: أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين»؟ قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوّة الرجاء، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقد روي مرفوعاً)، روى مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم، قال: "كتب أبو عُبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة، يجعل الله بعده فرجاً، ولن يغلب عسر يُسرين". قوله: (هذا عمل على الظاهر)، والمعنى بالظاهر: اللفظ المحتمل الراجح أحد محتملاته بقرينة ناهضة، يعني: ما ذكروه عمل بالظاهر؛ فإن ما في التنزيل يحتمل التكرير والاستئناف، والقرينة التي ترجح أحد الاحتمالين، أي: الاستئناف لأنه أوفاهما وأبلغهما، هي أن مبنى "أن موعد الله لا يُحمل إلا على أوفى الاحتمالين"، عطف تفسيري على قوله: "وبناء على قوة الرجاء"، وهو على "عمل بالظاهر" كذلك. وقوله: "والقول فيه" إلى آخره، بيان للاحتمالين.

تكريرًا للأولى كما كرر قوله: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)] الطور: 11 [لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدةً بأنّ العسر مردوف بيسٍر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدًا لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو؛ لأنّ حكمه حكم زيٍد في قولك: إن مع زيٍد مالًا، إن مع زيٍد مالًا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضًا. وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفًا غير مكرر، فقد تناول بعضًا غير البعض الأوّل بغير إشكال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا، لو لم يكرر - كما هي قراءة ابن مسعود، - أفاد المراد المقصود، وذلك أن التنكير في {يُسْرًا}، يحتمل أن يراد منه بعض من اليسر، وأن يراد منه التفخيم، ولما كان بناء الأمر على قوة الرجاء، رُجح الثاني. والفرق بين هذا والأول أن دلالة الأول على المراد بالوضع كما سيجيء، ودلالة الثاني عليه باللزوم والكناية؛ فإن التفخيم في {يُسْرًا}، اقتضى أن يتناهي في، ولو لم يكن متناهياً فيه، إذن لم يُرد به يسر الدارين، ولزم من ذلك تعدد اليُسر، وأن يقال: "لن يغلب عسر يسرين"، وإليه الإشارة بقوله: "وذلك يُسران في الحقيقة". وإذا ذُهب إلى هذا المعني في التكرير، كان أبلغ من الاستئناف، ولولا التنبيه بالأثر والحديث على هذه اللطيفة، لم يفهم ذلك. ويمكن أن يقال: لما كان ورود الآية في حق الصحابة الكرام، ووعداً لهم بالفرج بعد الشدة، أوجب أن يُحمل على يسر الدارين: أما في الدنيا، فبالغنى بعد الفقر، والقوة بعد الضعف، وبالعز بعد الذل. وأما في الآخرة، فلا كلام فيه. قوله: "وإنما كان العسر واحداً)، إلى آخره، اعلم أن لام التعريف عند المحقيين موضوعة للإشارة والعهد، قال صاحب "التخمير": "اعلم أن اللام لنفس الإشارة، لكن الإشارة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقع تارة إلى فرد لمخاطبك به عهد، وأخرى إلى جنس؛ فمعنى اللام واحد على كل حال فاعرفه؛ فإن غلط الناس فيه عظيم، وهي فائدة مذهبية". قلت: فإذن لا بد له من تقدم مشار إليه، فإذا جاء في الكلام ما يصلح أن يكون مشاراً إليه بأي وجه كان، تعين له، قال البزدوي: "اللام المعرفة للعهد، وهو أن يذكر شيئاً ثم يعاوده، فيكون الثاني هو الأول، مثاله قول علمائنا فيمن أقر بألف مقيداً بقيد، ثم أقر به كذلك أن الثاني هو الأول، وإذا كان كل واحد منهما نكرة، جاء الخلاف في أن اتحاد المجلس شرط لأن يكون الثاني عين الأول، فعند أبي حنيفة رحمه الله: نعم، وعند أبي يوسف: لا". وروى صاحب "المطلع" عن الفراء، أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة مثلها صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، فإذا أعادتها معرفة فهي هي. وذكر الزجاج نحوه. وقال السيد في "الأمالي": "وإنما كان "العسر" معرفاً و"اليسر" منكراً، لأن الاسم إذا تكرر منكراً فالثاني غير الأول، كقولك: جاءني رجل فقلت لرجل: كذا وكذا، وكذلك إن كان الأول معرفة والثاني نكرة، نحو: حضر الرجل، فقلت لرجل: كيت وكيت؛ فإن كان الأول نكرة والثاني معرفة، فالثاني هو الأول، وكذلك ذكر المعرفة بعد المعرفة، نحو: حضر الرجل. فأكرمت الرجل، ولذلك قال ابن عباس: (لن يغلب عسر يسرين) ".

فإن قلت: فما المراد باليسرين؟ قلت: يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة، كقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)] التوبة: 52 [وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب. فإن قلت: فما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيم، كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا وأاي يسر، وهو في مصحف ابن مسعوٍد مرةً واحدة. فإن قلت: فإذا ثبت في قراءته غير مكرر، فلم قال: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟ قلت: كأنه قصد باليسرين: ما في قوله: (يُسْراً) من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدارين، وذلك يسران في الحقيقة. [(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)] 7 - 8 [. فإن قلت: فكيف تعلق قوله: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) بما قبله؟ قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى. وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فما معنى هذا التنكير؟ )، دل الفاء على إنكار، يعني: إذا أُريد باليسرين ما ذكرت من الوجهين، فالواجب أن يجاء بهما معرفتين، فما معنى التنكير؟ قوله: (فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء)، عطف على قوله: "فإذا فرغ من عبادة ذَنَّبَها بأخرى"، فقوله {فَرَغْتَ فَانصَبْ} كلاهما مطلقان؛ يجوز أن يجريا على إطلاقهما بأن

وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة. وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الشعبي: أنه رأى رجلًا يشيل حجرًا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، وقعود الرجل فارغًا من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه، من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة، ولقد قال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا سبهللًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة. وقرأ أبو السمال: فرغت بكسر الراء وليست بفصيحة. ومن البدع: ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ: (فانصب) بكسر الصاد، أي: فانصب عليًا للإمامة؛ ولو صح هذا للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يقال: فإذا فرغت من عبادة ذنبها بأخرى. وأن يُخصصا بالصلاة والدعاء لأن الصلاة أفضل العبادات والدعاء مخها، أو بالغزو والعبادة كما قيل: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، أو بالدنيا والصلاة، لأن الفراغ أكثر ما يستعمل في الأمور الدنيوية، ومنه الحديث: "فراغك قبل شُغلك"، وهذه الرواية مذكورة في "شرح السنة" عن مجاهد. قوله: (فارغاً سَبَهللاً)، النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه: "إني لأكره أن أرى أحدكم سَبَهللاً، لا في عمل دنياً ولا في عمل آخرة". التنكير في "دنيا" و"آخرة" يرجع إلى المضاف إليهما، وهو العمل، كأنه قال: لا في عمل من أعمال الدنيا، ولا في عمل من أعمال الآخرة. يقال: جاء يمشي سَبَهللا، إذا جاء وذهب فارغاً في غير شيء".

ويجعله أمرًا بالنصب الذي هو بغض علىّ وعداوته (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) واجعل رغبتك إليه خصوصًا، ولا تسأل إلا فضله متوكلًا عليه. وقرئ: (فرغب) أي: رغب الناس إلى طلب ما عنده. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (ألم نشرح)، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (واجعل رغبتك إليع خصوصاً)، التخصيص يفيده تقديم الجار والمجرور على الفعل، قال السيد في "الأمالي": "جامعت الفاء والواو، "وإلى" متعلقة بما بعد الفاء. ومثله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ انتصب ما قبل الفاء بما بعدها، وهذا من عجيب كلامهم؛ لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبه الجواب، كخبر الاسم الناقص، أي الموصولة التي صلتها الفعل، وهي هاهنا خارجة عما وضعت له". تمت السورة بحمد الله وعونه وحسبنا الله ونعم الوكيل * ... * ... *

سورة التين

سورة التين مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)] 1 - 8 [ أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة، وروى: أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبٌق من تيٍن فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه؛ لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة التين مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (بلا عجم)، يروى بسكون الجيم وبفتحها. وفي "ديوان الأدب": "العجم بالتحريك: النوى"، وليس في عجم بهذا المعنى. الجوهري: "العامة تقول: عجم، بالتسكين".

فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس». ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبًا واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة». وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي». وعن ابن عباٍس رضي الله عنه: هو تينكم هذا وزيتونكم. وقيل: جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية: طور تينا وطور زيتا؛ لأنهما منبتا التين والزيتون. وقيل: (والتين) جبال ما بين حلوان وهمذان. و (الزيتون) جبال الشام، لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وأضيف الطور وهو الجبل، إلى سينين: وهي البقعة. ونحو سينون: يبرون، في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب. والبلد: مكة حماها الله. والأمين: من أمن الرجل أمانة فهو أمين. وقيل: أمان، كما قيل: كرام في كريم. وأمانته: أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول، من أمنه لأنه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمن في قوله تعالى: (حَرَماً آمِناً)] القصص: 57 [بمعنى ذي أمن: ومعنى القسم بهذه الأشياء: الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فإنها تقطع البواسير)، قال القاضي: "التين فاكهة طيبة لا فضل له، وعند الغداء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنه يلين الطبع، ويحل البلغم، ويُطهر الكُليتين، ويُزيل رمل المثانة، ويفتح سدة الكبد والطحال، ويُسمن البدن. والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دُهن لطيف كثير المنافع مع لذته، لكنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال". قوله: (ويذهب بالحفرة)، يقال: حُفرت أسنانه حفراً إذا فسد أسناخها، أي: أصولها، ويقال أيضاً: حفرت حفراً، والحفرة للمرة. قوله: (فهو أمين، وقيل: أمان)، أي: قالوا: في موضع أمين.

فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه، والطور: المكان الذي نودي منه موسى، ومكة: مكان البيت الذي هو هدًى للعالمين، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه. ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية، أن رددناه أسفل من سفل خلقًا وتركيبًا، يعنى: أقبح من قبح صورةً وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل: حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضًا، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه؛ فمشيه دليف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف. وقرأ عبد الله: (أسفل السافلين). فإن قلت: فكيف الاستثناء على المذهبين؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (تشنن)، الأساس: "تشنن جلده من الهرم، أي: تشنج ويبس. ويقال: شيخ كالشن البالي". قوله: (بضًّا)، بالباء الموحدة من تحت والضاد المعجمة. الأساس: "قال الأصمعي: أبيض بض. وهو الشديد البياض. وقال المبرد: هو الرقيق البشرة الذي يؤثر فيه كل شيء. وامرأة غَضة بَضة". قوله: (فمشيه دليف)، الدليف: المشي الرُّويد. الأساس: "دلف الشيخ والمقيد دليفاً ودلوفاً، وهو فوق الدبيب". قوله: (خَرَف)، الخرف بالتحريك: فساد العقل. قوله: (فكيف الاستثناء على المذهبين)، عن بعضهم: أراد الحجازية والتميمية وليس بذلك، بل على الوجهين المذكورين كما ينبئ عنه الجواب ودخول الفاء في السؤال.

قلت: هو على الأول متصل ظاهر الاتصال، وعلى الثاني: منقطع. يعنى: ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمي فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم. فإن قلت: (فَما يُكَذِّبُكَ) من المخاطب به؟ قلت: هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات، أي: فما يجعلك كاذبًا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل، يعنى أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب، فأي شيٍء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيب الجزاء. والباء مثلها في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)] النحل: 100 [، والمعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه بشرًا سويًا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلًا أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (هو على الأول متصل)، أي على أن يراد بالرد إلى أسفل سافلين، الرد إلى أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، وهم أصحاب النار، أو أسفل من سفل من أهل الدركات. قال الواحدي عن مجاهد: "ثم رددناه إلى النار، والنار أسفل سافلين، لأنه جهنم بعضها أسفل من بعض، ثم استثنى {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: إلا هؤلاء، فإنهم لا يُردون إلى النار". قوله: (وعلى الثاني منقطع)، أي على أن يُراد بـ "أسفل سافلين"، الرد إلى أسفل من سفل في حُسن الصورة والشكل، ولذلك قال: "لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب دائم". قوله: ({وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100])، أي: بسبب الشيطان يشركون بالله. والباء في {بِهِي} ليست بصلة {مُشْرِكُونَ}، بل صلته محذوفة.

لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها قال: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين). عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "التين"، أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل: الخطاب لرسول الله? )، عطف على قوله: "هو خطاب للإنسان"، وعلى هذا لا يكون في الكلام التفات، وتكون "ما" بمعنى "من"، أي: فمن يكذبك أيها الرسول الصادق المصدق، بما جئت به من الدين الحق، أو بسبب الدين بعد ظهور هذه الدلائل الدالة على نبوتك؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟ يحكم بينك وبين أهل التكذيب. وإذا قيل: إن الخطاب للإنسان، ينبغي أن يذهب إلى الالتفات، لما سبق من قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، ويجعل الباء للتسبيب، لأن الإنسان هو المكذب، والمعنى: أيها الإنسان، ما الذي يلجئك إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء. وفي الكلام تعجب وتعجيب؛ وذلك أنه تعالى لما قرر أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده إلى أرذل العُمر، دل على كمال قدرته على الإنشاء والإعادة، فسأل بعد ذلك عن سبب تكذيب الإنسان بالجزاء، لأن ما يتعجب منه يُخفي سببه، وهذا كما ترى ظاهر جلي، وإليه الإشارة بقوله: "فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء، بعد هذا الدليل القاطع؟ "، وعلى هذا قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هو أهله. قوله: (قال: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين")، الحديث من رواية الترمذي وأبي داود، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله? : "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين". تمت السورة * ... * ... *

سورة العلق

سورة العلق مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَا وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)] 1 - 5 [. عن ابن عباٍس ومجاهد: هي أول سورةٍ نزلت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة العلق مكية، وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (هي أول سورة نزلت)، عن الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، عن يحيى ابن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن. قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ قال: سألت جابراً عن ذلك، فقلت له مثل الذي قلت لي. فقال: ما أحدثُك إلا ما حدثنا رسول الله? ، إلى قوله: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. وفي رواية عن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها في حديث "في بدء الوحي"، هو "اقرأ باسم ربك

وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم. محل (بِاسْمِ رَبِّكَ) النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك، قل: بسم الله، ثم اقرأ. فإن قلت: كيف قال: (خَلَقَ) فلم يذكر له مفعولًا، ثم قال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ)؟ قلت: هو على وجهين: إما أن لا يقدر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه. وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي خلق". ويمكن أن يقال: إن وجه التوفيق بين الروايتين، هو أن أول ما بُدئ به من الأمر بإنشاء القراءة هو {اقْرَأْ}، ومن الأمر بإنشاء الإنذار {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ}. قوله: (محل {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال)، في "الكواشي": "الباء دخلت لتدل على الملازمة والتكرير، كأخذت بالخطام وأخذت الخطام، أو دخلت لتدل على البداية باسمه تعالى ومحلها حال، أي: اقرأ مبتدئاً باسم ربك". قوله: (قل: باسم الله، ثم اقرأ)، الجملة بيان لقوله: "اقرأ مفتتحاً باسم ربك، ولذلك أُخليت من العاطف". قوله: (لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض)، يعني: هذا من باب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، لكن تقييده الأشرف بقوله: {مَا عَلَى الْأَرْضِ}، إيماء إلى تفضيل الملائكة. وقال القاضي: "الذي خلق كل شيء، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعاً وتدبيراً"، وقال صاحب "الكشف": "خصص بعد التعميم؛ فهو

ويجوز أن يراد: الذي خلق الإنسان، كما قال: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ)] الرحمن: 1_ 3 [فقيل: (الَّذِي خَلَقَ) مبهمًا، ثم فسره بقوله: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تفخيمًا لخلق الإنسان، ودلالةً على عجيب فطرته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3 ٍ؛ فالغيب عام لكل ما غاب عنا، ثم قال: {وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. وعكسه قول الشاعر: وهم العشيرة أن يبطئ حاسد أو أن يلوم لحاجة لوامها ألا ترى أن اللوم أعم من التبطئة، لأن التبطئة نسب قوم إلى البُطء وهو بعض اللوم. أن يبطئ: أي لأن يبطئ. وقلت: إنما علل تخصيص اإنسان بالذكر بقوله: "لأن التنزيل إليه"، لأن الأمر بقراءة المنزل مترتب على وصف الله عز وجل بخلق الأشياء، ثم تخصيص خلق الإنسان، وذلك لأنه هو المشرف بأن التنزيل إليه. قوله: (خلق الإنسان، كما قال: {الرَّحْمَنُ (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 1 - 3 ٍ])، عن بعضهم: إنه استشهد به من حيث إن خلق الإنسان خلق عظيم. وقلت: تقريره أن قوله: {الَّذِي خَلَقَ} كقوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، في أن المراد منه خلق الإنسان فأُبهم، كما أن المراد من قوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}: علم الإنسان القرآن. ثم قال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ}: تفسير أو بيان للمجمل، كما قيل: {خَلَقَ الْإِنسَانَ (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4] كذلك، والفاء في قوله: "فقيل: {الَّذِي خَلَقَ} "، عطفت ما بعدها بقوله: "يُراد"، وما توسط بينهما اعتراض. ويمكن أن يقال: إنه إذا جعلت الصلة {خَلَقَ الْإِنسَانَ}، كان القصد في علة القراءة هو

فإن قلت: لم قال (مِنْ عَلَقٍ) على الجمع، وإنما خلق من علقة، كقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة)؟ قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)] العصر: 2 [. (الْأَكْرَمُ) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي واطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، حيث قال: (الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)، فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خلق الإنسان، كأنه قيل: اقرأ لأجل أنه خلقك للقراءة كما قال ثمة، وأخر ذكر {خَلَقَ الْإِنسَانَ} عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليُعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط به علماً بوحيه وكتُبه. قوله: ({الْأَكْرَمُ}: الذي له الكمال في زيادة كرمه)، الكواشي: "الأكرم: الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. أو أكرم بمعنى كريم". وقوله: "ينعم على عباده" بيان للجملة الأولى. قوله: (حيث قال: {الْأَكْرَمُ (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ})، يعني لما أطلق {الْأَكْرَمُ} وأبرزه في معرض "أفعل"، ليدل على الكمال في زيادة الكرم، وعلى الأنعام التي لا تُحصى، ثم أردفه بقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، وجعله توطئةً وتمهيداً لقوله: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، عُلِمَ أن ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، وفي ذكر بدء حال الإنسان وأخسها وهو كونه علقة، وانتهاء حاله وهو صيرورته عالماً، وإيصاله إلى أعلى المراتب، غاية الامتنان. يعني: كان ذليلاً مَهيناً، فاقتضى كرم الربوبية إلى ارتقائه ذروة العِز والشرف بفضله ولُطفه، ثم في جعل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، توطئة إدماج وتنبية على فضل علم الكتابة.

ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم: ورواقم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطا نيّالة أقصى المدى سود القوائم ما يجدّ مسيرها ... إلّا إذا لعبت بها بيض المدى وقرأ ابن الزبير: (علم الخط بالقلم). [(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)] 6_ 19 [. (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولبعضهم في صفة القلم)، قيل: يعني به نفسه. قُطف الخُطا: ضيقة الخُطا. الرُّقْش كالنقش، والرُّقش جمع الراقش. والأراقم جمع أرقم، وهي حية فيها سواد وبياض. ورواقم من الرقم وهو الكتابة. والمُدي جمع الُمدية وهي السكين العريض. يقول: رب أقلام منقوشة، كمثل الأراقم، متقاربة الخُطوة، لا تجد في السير إلا إذا قطعتها السكين. قوله: (ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه)، الباء في "بنعمة الله" صلة "كفر" و"بطغيانه"، ومثلها: كتبت بالقلم. قوله: (وإن لم يُذكر لدلالة الكلام عليه)، أي: وإن لم يُذكر الكافر بنعمة الله الطاغي على ربه، فإن الكلام السابق دل على أنه تعالى خلق الإنسان من العلقة، ثم علمه ما لم يكن يعلم، فرفعه من حضيض الخِسَّة إلى يفاع العلم والمعرفة، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق،

(أَنْ رءاهُ) أن رأى نفسه. يقال في أفعال القلوب: رأيتني وعلمتني، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. و (اسْتَغْنى) هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان، تهديدًا له وتحذيرًا من عاقبة الطغيان. والرجعى: مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع. وقيل: نزلت في أبى جهل، وكذلك (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى). وروى: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة فضةً وذهبًا، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاة إبقاء عليهم. وروى عنه لعنه الله أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فو الذي يحلف به، لئن رأيته توطأت عنقه، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلمناه ما لم يعلم، ليشكر تلك النعمة الجليلة، فطغى وكفر، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (أَن رَأَىهُ اسْتَغْنَى}. وكذلك اللاحق وهو التعليل بقوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (أَن رَأَىهُ اسْتَغْنَى}، فيقدر بعد قوله {مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ما يصح أن يكون {كَلَّا} ردعاً له. فعلى هذا، يحسن الوقف على {كَلَّا}. وفي "الكواشي": "يجوز أن يكون {كَلَّا} تنبيهاً فيقف على ما قبلها، وردعاً فيقف عليها". وفي "المرشد": "الوقف على {مَا لَمْ يَعْلَمْ} تام. قالوا: أول ما نزل من القرآن هذه السورة، فلما بلغ هذا الموضع جبريل طوى النمط، فحكى الفراء بأنه وقف تام، لقطع جبريل عليه السلام الكلام عنده، ولأن الكلام تمام لا يحتاج إلى غيره". قوله: (وروي عنه لعنه الله)، أي عن أبي جهل. الحديث مختصر من رواية الإمام أحمد ابن حنبل والبخاري عن أبي هريرة. قوله: (قال: فوالذي يحلف به)، أي: فوالذي يحلف به أبو جهل. قال المصنف: "يحكي الراوي حلفه، كي لا يذكر اللات والعُزى الذي يحلف به".

فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من ناٍر وهولًا وأجنحةً، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) ومعناه: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته، إن كان ذلك الناهي على طريقةٍ سديدةٍ فيما ينهى عنه من عبادة الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وهولاً وأجنحةً)، أي: أولى أجنحةٍ، وهم الملائكة؛ كقوله تعالى: {الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]. وفي الحديث: "إن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم". قوله: (ومعناه: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله)، قال الإمام: "أرأيت إن كان على الهُدى، خطاب لمن؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب للنبي? ، ولو جعلناه لغيره لاختل النظم، لأن {أَرَءَيْتَ} الأولى والثالثة خطاب له، كأنه تعالى يقول: أيها الرسول، أرأيت إن كان على الهدى واختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن حديثه؟ أي: تلهف عليه أنه كيف فوت على نفسه المراتب العالية. وثانيهما: أنه خطاب للكافر، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم، والمولى القائم بين يديه المظلوم والظالم، والحاكم الحاضر عنده المدعي والمدعى عليه، يخاطب هذا مرة وهذا مرة، فلما خاطب النبي? بقوله: {أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (عَبْدًا إِذَا صَلَّى}، التفت إلى الكافر وقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى، ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟ ". وقلت: بناء الكلام على "إن" الشرطية، وعلى التنكير في {عَبْدًا} معلوم، لأنه الرسول? ، دل على أن المقام مقام إرخاء العنان والكلام المنصف. ولذلك خص المصنف لفظ "البعض" أولاً في قوله: "بعض عباد الله"، وقال كما يعتقد ثانياً، ثم ثلث بقوله: "كما نقول نحن"؛ فحينئذ الواجب أن يكون المخاطب بقوله: {أَرَءَيْتَ}، غير النبي? وغير الكافر، لقوله: "أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله"، فإن الناهي والمنهي خارجان عن مورد

أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما بأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد. فإن قلت: ما متعلق أرأيت؟ قلت: الذي ينهى مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت: فأين جواب الشرط؟ قلت: هو محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن الله يرى. وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت: فكيف صح أن يكون (أَلَمْ يَعْلَمْ) جوابًا للشرط؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخطاب، فكأنه تعالى يجعل الغير حاكماً بين أهل الحق وأهل الباطل، ويهضم من حق أهل الحق، ويقول: أيها الحاكم، أخبرني عمن يزعم أنه على الحق، وينهي عبداً من عباد الله عن عبادة الله وطاعته، لا أقول إنه رسول الله وصفوته من خلقه، بل هو بعض خلقه، أو يأمره بعبادة الأوثان، ويعتقد أنه أمر بالمعروف والتقوى. وأخبرني أيضاً عما نقول نحن: إن ذلك الآمر والناهي حاصل على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح، فما حكمك في ذلك؟ قال بعضهم: {أَرَءَيْتَ} وأُختاها متوجهات إلى {أَلَمْ يَعْلَم}، وهو مقدر عند الأولين، وترك إظهاره اختصاراً، كما في قوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]. مثاله أن تقوله: أخبرني عن زيد إن وفدت عليه، أخبرني عنه إن استخبرته عنه، أخبرني عنه إن توسلت إليه، أما يوجب حقي؟ قوله: (تقديره: {أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى})، يعني: الشرط قوله: {إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى}، وجزاؤه ما دل عليه جزاء الشرط الثاني، وهو {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، وترك ذكره اختصاراً. قوله: (فكيف صح) أي: كيف صح أن يكون الاستفهام جزاء للشرط؟ وخلاصة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجواب أن الاستفهام دخل بين الشرط والجزاء مؤكدة مقررة للتعجب. قال الزجاج في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ}؟ [الزمر: 19]: "الهمزة جاءت مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط، وبين الخبر للطول"؛ فعلى هذا، لا يقال: إن أكرمتك، أتكرمني؟ إلا مع من استمر معه الإكرام، واستمر منه عدم المبالاة. فإن قلت: ذكر أن {الَّذِي يَنْهَى} مع الجملة الشرطية، هما في موضع المفعولين، لأنهما مبتدأ وخبر، والخبر شرط وجزاء. هذا صحيح في {أَرَءَيْتَ} الأولى. وأما الثالثة، فليس فيها سوى الجملة الشرطية، وقد تقرر أنه لا يحذف المفعول الأول، إلا إذا كان الفاعل والمفعولان لشيء واحد، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169]، على القراءة بالياء التحتانية، أي: لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم في سبيل الله أمواتاً. وإنما جاز الحذف لأنه في الأصل مبتدأ، فيحذف كما يحذف المبتدأ، لكن بذلك الشرط. قلت: إنما لم يجز حذف المفعول الأول للإلباس. فأما إذا قامت قرينة، نحو كون الفاعل والمفعولين شيئاً واحداً، وثم قرينة ظاهرة تدل على المحذوف، كما نحن بصدده من تصريحه بالقرينة الأولى، فما المانع من الجواز؟ وقد سبق عن المالكي وصاحب "التُّحفة" في سورة "القصص" جواز ذلك، على أن {أَرَءَيْتَ} استخبار ومتعلقه الجملة الشرطية. وفاعل {كَذَّب} ضمير راجع إلى الناهي والآمر، فلا يحتاج إلى شيء آخر، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]، في وجه.

قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما "أرأيت" الثانية وتوسطها بين مفعولي "أرأيت"؟ قلت: هي زائدة مكرّرة للتوكيد. وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. (كَلَّا) ردع لأبى جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات، ثم قال: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه، (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب: قوم إذا يقع الصّريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وأمره بعبادة اللات)، إشارة إلى تفسيره لقوله: {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} على زعمه كما قال: "آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد". قوله: (قوم إذا نقع الصريخ) البيت، النقيع: الصراخ، ونقع الصوت واستنقع، أي: ارتفع إذا صوت المصوت. ويروى: إذا فزعوا الصريخ والفزع: الرُّعب والنُّصرة أيضاً، والصريخ والصارخ: المستغيث، والمهر: الفتي من الخيل، أو سافع: أي: آخذ بناصية فرسه بالسرعة من غير لجام. الراغب: "السفع: الأخذ بسُفعة الفرس، وهو سواد ناصيته، قال تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15]. وباعتبار السواد يقال للأثافي: سُفع، وبه سُفعة غضب، اعتباراً بنا يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد غضبه". يصف القوم بأنهم يُغيثون المستغيث بسرعة وينصرونه، وبعضهم يُلجمون الخيل، وبعضهم يأخذون ناصية الخيل ولا يُلجمون.

وقرئ: (لنسفعنّ) بالنون المشدّدة. وقرأ ابن مسعود: (لأسفعا). وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى بلام العهد عن الإضافة. (ناصِيَةٍ) بدل من "الناصية"؛ جاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة؛ لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. وقرئ: (ناصية) على: هي ناصية، و (ناصية) بالنصب، وكلاهما على الشتم. ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازى، وهما في الحقيقة لصاحبها. وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطئ. والنادي: المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون. والمراد: أهل النادي. كما قال جرير: لهم مجلس صهب السّبال أذلّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({نَاصِيَةٍ} بدل من "الناصية") إلى قوله: (وصفت فاستقلت بفائدة)، قال ابن الحاجب: "سُئلت: لم جُمع بين ({بِالنَّاصِيَةِ (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}، فهلا اقتصر على إحداهما؟ فأجبت: أن الأولى ذكرت للتنصيص على ناصية الناهي، والثانية ذكرت تنبيهاً على علة السفع، ليشمل بظاهره على كل ناصية هذه صفتها". قوله: (ووصفها بالكذب والخطأ)، قال الزجاج: "تأويله: بناصية صاحبها كاذب، كما يقال: نهاره صائم وليله قائم، أي: هو صائم في نهاره وقائم في ليله". وقلت: والمبالغة فيه أن الكافر بلغ في الكذب والخطأ، إلى حيث إن الكذب والخطأ ظاهران من ناصيته، على نحو قولهم: وجهه نصف الجمال. قوله: (لهم مجلس صُهب السِّبال أذلة)، أي: لهم أهل مجلس. الأساس: "شعر أصهب: بين

وقال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم والمقامة: المجلس. روى أن أبا جهٍل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، فنزلت. وقرأ ابن أبى عبلة: (سيدعى الزبانية) على البناء للمفعول، والزبانية في كلام العرب: الشرط، الواحد، زبنية، كعفرية، من الزبن وهو الدفع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصُّهبة، وهو حُمرة في سواد. ومن المجاز: "هو أصهب السِّبال" للعدو، قال ابن قيس الرُّقيات: وظلال السيوف شيبن رأسي واعتناقي في الحرب صُهب السِّبال قال الميداني: "صُهب السِّبال: كناية عن الأعداء، قال الأصمعي: صهب السبال وسود الأكباد، يضربان مثلاً للأعداء، وإن لم يكونوا كذلك"، وأنشد البيت. قوله: (روي أن أبا جهل مر برسول الله? )، الحديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس، مع تغيير يسير. قوله: (زبنية كعفرية)، قال الأخفش: "قال بعضهم: الواحد: زباني، وبعضهم: زابن، وبعضهم: زبنية. قال: والعرب لا تكاد تعرف هذا، وتجعله من الجمع الذي لا واحد له، مثل: أبابيل". وقال الجوهري: "قال أبو عبيدة: العفريت من كل شيء: المبالغ. يقال: فلان عفريت نفريت، وعفرية نفرية، وفي الحديث: "إن الله يبغض العفرية النفرية، الذي لا يُرزأ في أهل ولا مال". والعفرية: المصحح، والنفرية إتباع".

وقيل: زبني، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم أمسيٌ، وأصله: زباني، فقيل: زبانية على التعويض؛ والمراد: ملائكة العذاب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا» (كَلَّا ردع) لأبى جهل، (لا تُطِعْهُ) أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)] القلم: 8 [. (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك، يريد: الصلاة (وَاقْتَرِبْ) وتقرّب إلى ربك. وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد». عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة العلق، أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وفي الحديث)، عن مسلم وأحمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله? ، قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". وعن مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي، عن معدان بن طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله? ، فقلت: أخبرني بعمل يُدخلني الله به الجنة، فقال: سألت ذلك رسول الله? ، فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة"، والله أعلم. تمت السورة بعون الله تعالى * ... * ... *

سورة القدر

سورة القدر مختلف فيها، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)] 1 - 5 [. عظم القرآن من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصًا به دون غيره. والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادةً له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه. والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة القدر مكية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وجعله مُختصاُ به)، يريد أن التركيب من باب تقديم الفاعل المعنوي، نحو: أنا كفيت مهمك، أنا قضيت حاجتك. وفي إيثار صيغة الجمع تعظيم دونه كل تعظيم. قوله: (الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه)، فيه لطيفة، حيث قال أولاً: "عُظم القرآن من ثلاثة أوجه"، ثم قال: "الرفع من مقدار الوقت". والظاهر الرفع من مقداره حيث أنزله في هذه الليلة، فعدل ليؤذن بأن الليلة شرفت بنزوله فيها، وصارت ذات خطر

روي أنه أنزل جملةًً واحدةً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجومًا في ثلاٍث وعشرين سنة. وعن الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. واختلفوا في وقتها؛ فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها، وأكثر القول أنها السابعة منها؛ ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة طلبًا لموافقتها، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وشرف، فيلزم شرفه وخطره بالطريق الأولى، ثم ترقى في الرفع من مقدارها بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، ثم إلى أعلى بقوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، ثم إلى أعلى بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}. قوله: (روي أنه أُنزل جملة واحدة)، فإن قلت: ذكرت في شرح الخطبة أن الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وهو مختص بالأجرام فلا يتحقق في الكلام، فوصف بصفة حامله لالتباسه به. وهذا المجاز إنما يستقيم في إنزاله جبريل عليه السلام القرآن على النبي? ، فكيف يستقيم إنزاله من اللوح إلى السماء، لأن ذلك من غير واسطة؟ قلت: الإنزال حينئذ مستعار للمعاني من الأجرام؛ شُبِّه نقل القرآن من اللوح إلى السماء وثبوته فيها، بنزول جسم من عُلو إلى أسفل، وقيل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. وعلى هذا، ظهوره في عالم الشهادة، أعني اللوح، من عالم الغيب الذي هو العالم الأعلى، يمكن أن يفسر بالنزول؛ فعلى الأول هو مجاز مرسل، وعلى الثاني مجاز مسبوق بالتشبيه. قوله: (على أنها في شهر رمضان)، روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن زر بن حُبيش، قال: سمعت أُبي بن كعب يقول، وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: "من قام السنة أصاب ليلة القدر". فقال أُبي: "والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان، يحلف ولا

ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)] الدخان: 4 [وقيل: سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يعنى: ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم بين ذلك بأنها (خير من ألف شهر)، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها؛ من تنزل الملائكة والروح، وفصل كل أمٍر حكيم. وذكر في تخصيص هذه المدّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستثني، ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله? بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين". الحديث. قوله: (ليلة تقدير الأمور)، نقل الإمام عن الواحدي أن القدر في اللغة بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان. وقال: "سُميت به لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام. عن ابن عباس، أن الله تعالى قدر فيها كل ما يكون في تلك السنة، من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، نحو قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا في تلك الليلة؛ فإنه تعالى قدر المقادير في الأزل قبل خلق السموات والأرض، بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة". قوله: (وقيل: سُميت بذلك لخطرها)، نقل الإمام عن الزهري أنه قال: "ليلة القدر ليلة العظمة والشرف؛ من قولهم: لفلان قدر عند فلان، أي: منزلة وشرف، ويدل عليه قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وهو يحتمل أن يراد منه، أن من أتى بفعل الطاعات صار ذا قدر وشرف، أو أن الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف. وعن أبي بكر الوراق: سُميت ليلة القدر، لأنه نُزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر".

وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلةً إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. (تَنَزَّلُ) إلى السماء الدنيا، وقيل: إلى الأرض، (وَالرُّوحُ) جبريل. وقيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي: تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. وقرئ: (من كل امرئ) أي: من أجل كل إنسان. وقيل: لا يلقون مؤمنًا ولا مؤمنةً إلا سلموا عليه في تلك الليلة. (سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة، أي: لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير، ويقضى في غيرها بلاًء وسلامة. أو: ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين. وقرئ: (مطلع) بفتح اللام وكسرها. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "القدر"، أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما هي إلا سلامة)، يريد أن {هِيَ} مبتدأ و {سَلَامٌ} الخبر، فقدم وجعل نفس السلام لإعطاء معنى الاختصاص. قال صاحب "الكشف": {هِيَ} ابتداء و {سَلَامٌ} خبر مقدم، وهو بمعنى الفاعل، أي: هي مُسلمة. ولا بد من هذا التقدير ليصح تعليق {حَتَّى} به؛ لأنه إذا حمل على المصدر لم يجز تعليق {حَتَّى} به؛ لأنه لا يفصل بين الصلة والموصول. ويجوز تعليقه بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}، ولا يجوز أن تكون {هِيَ} مبتدأ، و {حَتَّى} في موضع الخبر، لأنه لا فائدة فيه؛ إذ كل ليلة بهذه الصفة. قوله: (وقرئ: {مَطْلَعِ})، الكسائي: "مَطلع"، بكسر اللام، والباقون: بفتحها. قال الزجاج: "فمن فتح فهو المصدر بمعنى الطلوع، يقال: طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً. ومن كسر فهو اسم لوقت الطلوع". وعن بعضهم: ولا يجوز أن يراد هنا موضع الطلوع. والله أعلم. تمت السورة بحمد الله تعالى * ... * ... *

سورة البينة

سورة البينة مكية، وقيل: مدنية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)] 1 - 8 [. كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبده الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة البينة مدنية، وهي ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (لا ننفك مما نحن عليه من ديننا)، روي عن المصنف أنه قال: هذا من باب

ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكي الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقًا، فيقول واعظه: لم تكن منفكًا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار؛ يذكره ما كان يقوله توبيخًا وإلزامًا. وانفكاك الشيء من الشيء: أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله؛ والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم ولا يتركونه إلا عند مجيء البينة. و (الْبَيِّنَةُ) الحجة الواضحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكاية بزعمهم، وقوله: "وما تفرق الذين أوتوا الكتاب" إلزام عليهم؛ حكى الله كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير، وجاء به في بعض النُّسخ بدل قوله: "البينة: الحجة الواضحة": "البينة: القرآن، {أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، و {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ}: جبريل، وهو التالي للصحف المطهرة المنتسخة من اللوح، التي ذُكرت في سورة "عبس"، ولا بد من مضاف محذوف وهو الوحي، ويجوز أن يراد النبي? . فإن قلت: كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إليه وهو أمي؟ قلت: إذا تلا مثل المسطور فيها كان تالياً"، وشرح هذه الرواية قوله: {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}، معناه أن القرآن فيه بيانن أو حجة ما في الكتب المتقدمة، أو هو مصداقها. قوله: (التي ذُكرت في سورة عبس)، يعني: قوله {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} [عبس: 13]، أي: صحف منتسخة من اللوح، مكرمة عند الله، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]. قوله: (لا بد من مضاف محذوف)، أي: القرآن وحي رسول من الله.

و (رَسُولٌ) بدل من (البينة). وفي قراءة عبد الله: (رسولًا) حالًا من البينة. (صُحُفاً) قراطيس (مُطَهَّرَةً) من الباطل. (فِيها كُتُبٌ) مكتوبات، (قَيِّمَةٌ) مستقيمة ناطقة بالحق والعدل؛ والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه، أو تفرقهم فرقًا؛ فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، وقال: ليس به؛ ومنهم من عرف وعاند. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (و {رَسُولٌ} بدل من {الْبَيِّنَةُ})، قال الإمام: "وفائدته الإعلام بأن ذاته كانت بينة على نُبوته؛ لأنه كان في نهاية من الجد في تقرير النبوة، وفي غاية من الصدق وكمال من العقل. وروي عن حجة الإسلام أن مجموع الأخلاق الفاضلة، كان بالغاً فيه إلى حد الإعجاز، أو أن معجزاته كانت في غاية الظهور والكثرة". وقلت: الدليل على أن المراد بالبينة رسول الله? ، قوله: "لا تنفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود"، ولعل السر في جعله {الْبَيِّنَةُ} توطئة لذكر الرسول، كما وبخهم بقولهم: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. ولهذا السر أيضاً أُفرد ذكرهم عن المشركين في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، كأنهم عُيِّروا بالتفرق وهم أهل الكتاب، لأن جحود العالم أقبح من إنكار الغافل. قوله: ({صُحُفًا}: قراطيس {مُّطَهَّرَةً})، الراغب: "الصحيفة: المبسوط من الشيء كصحيفة الوجه، والصحيفة التي يُكتب فيها، وجمعها صحائف وصُحف، قال تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}؛ أُريد بها القرآن، جعله صُحفاً فيها كتب، من أجل تضمنه لزيادة ما في كتب الله. والمصحف ما جُعل جامعاً للصحف المكتوبة". وقال أيضاً: "أراد بقوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، لأن القرآن مجمع ثمرة كتب الله المتقدمة".

فإن قلت: لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلًا، ثم أفرد أهل الكتاب في قوله: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)؟ قلت: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. (وَما أُمِرُوا) يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، ولكنهم حرفوا وبدلوا، ...... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إلا بالدين الحنيفي)، كنى عن مجموع {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى آخره، بالدين الحنيفي. وفي عطف {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}، على {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} المقيد بالإخلاص، واختصاصهما بالذكر دون سائر العبادات، الدلالة على شرفهما واستبدادهما بشرط الإخلاص. وقال الإمام: "ذلك المجموع كله، هو دين الملة المستقيمة المعتدلة، فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد، كذا هذا المجموع دين واحد. واحتج القائلون بأن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية. وأجيب بأن المشار إليه المجموع، وهو محكوم بأنه الدين القيمة؛ فالدين غير {الدِّينُ الْقَيِّمُ}، لأن الدين القيم هو الدين الكامل المستقل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلاً، وكانت آثاره ونتائجه حاصلة معه، من الصلاة والزكاة وغيرهما؛ فإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلاً، والنزاع في مجرد الدين". فيقال: هذا الجواب ضعيف، لأن "القَيِّمَة" على القراءة الشاذة، أي: "وذلك الدين القيمة"، صفة مميزة فارقة للملة المستقيمة عن المعوجة، وهي غير دين المسلمين، لقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]. وعلى المشهورة: مضاف إما إلى الملة المستقيمة، أو إلى الأمة القيمة بالحق، إضافة بيان كأنه قيل: وذلك دين المسلمين. الراغب: "الدين أعم من الإسلام، إذ هو يستعمل في الحق والباطل. والإسلام لا

(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي: دين الملة القيمة. وقرئ: (وذلك الدين القيمة) على تأويل الدين بالملة. فإن قلت: ما وجه قوله: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستعمل إلا في الحق، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. وقال: "القيمة هاهنا اسم الأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ". قوله: (أي: دين الملة القيمة)، قال صاحب "الكشف": "لا بد من هذا التقدير، لأنه إذا لم يُحمل على هذا، كان إضافة الشيء إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، قال محيي السنة: "أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث {الْقَيِّمَةِ} رداً بها إلى الملة. وقيل: الهاء فيها للمبالغة، وقيل: {الْقَيِّمَةِ} هي الكتب التي جرى ذكرها، أي: وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عنها فقال: "القيمة" جمع القيم، والقيم والقائم واحد، ومجازه: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد". الراغب: "القيمة هاهنا: اسم الأمة القائمة بالقسط، المشار إليهم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ". قوله: (ما وجه قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}؟ )، يعني كان من حق الظاهر أن يقال "بأن يعبدوا الله" بالباء، فما وجه الإتيان باللام؟ فأجاب بأن صلة الأمر محذوفة، واللام للتعليل؛

قلت: معناه: وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة. وقرأ ابن مسعود: (إلا أن يعبدوا)، بمعنى: بأن يعبدوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فالتقدير: "وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله"، وهو استثناء من أعم عام المفعول له المقيد بقيد الإخلاص، قال الإمام: "هذا يدل على مذهب أهل السنة، حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البُعد من عقاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو معبود، وفيه أن من عبد للثواب والعقاب لم يكن مخلصاً. وفي الحقيقى الثواب والعقاب هما معبودان". وروى السُّلمي عن بعضهم، "أن الإخلاص ألا يطلع على عملك إلا الله، ولا ترى نفسك فيه. وتعلم أن المنة لله عليك في ذلك حيث أهلك لعبادته، ووفقك لها ولا تطلب من الله ثواباً. وعن سهل: نظر الأكياس في الإخلاص، وهو أن تكون حركات العابد وسكناته في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء". قوله: (وقرأ ابن مسعود: "إلا أن يعبدوا"، بمعنى: بأن يعبدوا)، قيل: الأولى أن يقال: بمعنى: لأن يعبدوا؛ ليوافق القراءة المشهورة في المعنى؛ وإنما حمله على ذلك أن مقتضى الظاهر هو أن يقال: ما أُمروا إلا لعبادة الله؛ ليكون المأمور به مذكوراً، وإنما عدلنا عن هذا المعنى في المشهورة لوجود اللام، وإذ لم تكن اللام في هذه القراءة، فليُحمل على ما هو الظاهر، ولذلك سأل: ما وجه قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}؟ أي: الأصل أن يقال: بأن يعبدوا الله. وقيل عليه: إنه لما ورد المشهورة على ما ورد، عُلِمَ أن الغرض بيان أنهم إنما أمروا في التوراة بما أمروا، لأجل أن يعبدوا الله بالإخلاص، تحريضاً على الإخلاص وعدم الإشراك في العبادة، فيجب أن تُحمل القراءة الشاذة على المشهورة لهذا الغرض.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: بل الغرض من السياق، إظهار توبيخ أهل الكتاب، والنعي على تعكيس أمرهم، لأن جملة قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} الآية، إما حال من فاعل {تَفَرَّقَ} مقررة لجهة الإشكال، أو عطف على جملة قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، من باب تفويض ترتب الثاني على الأول، على خلاف المقتضي إلى ذهن السامع. يعني: كان من موجب اتفاق الكتابين، أعني ما معهم، وهذا القرآن المجيد على دين التوحيد، الموافقة مع من يوافقهم فيه ومعاضدته والتفادي عن مخالفته، والتفرق عنهم وهم قد عكسوا، قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْ‍ئًا} [آل عمران: 64]. وهذا الغرض كما حصل من التعليل بأن قيل: وما أُمروا، وإنما قيل: في الكتابين لأجل أن يعبدوا الله مخلصين، قد يحصل من هذا التقرير أيضاً بأن يقال: وما أمروا بما في الكتابين إلا بعبادة الله مخلصين، لاسيما ظاهر عطف {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} يناسب الباء. ولذلك قال أبو البقاء في قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 71 - 72]: "قيل اللام بمعنى الباء، أو هي زائدة". وقال الزجاج: "فيه وجهان: أحدهما أن يكون التقدير: وأُمرنا لنُسلم ولأن نُقيم، وأن يُحمل على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة". وقلت: وأما قضية النظم، فإنه تعالى لما عير أهل الكتاب والمشركين في تقاعدهم عما وعدوا من أنفسهم، وما كانوا يقولون قبل المبعث: لا ننفك عن ديننا حتي يُبعث النبي الموعود، ثم بين ما لهم من الخزي دُنيا والنكال دُنيا وعُقبى، وما لأعدائهم من الذين قاموا على ما وعدوا تشويراً لأولئك وتحسيراً لهم، من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ} إلى آخر السورة،

قرأ نافع: (البريئة) بالهمز؛ والقرّاء على التخفيف. والنبيّ، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسط بين الكلامين النعي على أهل الكتاب خاصة، وأظهر أنهم أشد غياً وعناداً، حيث خالفوا مع ما يوجب الموافقة، والله أعلم. قوله: (والقُراء على التخفيف)، أي: مُطبقون متفقون على التخفيف، سوى نافع وابن ذكوان عن ابن عامر. وطُعن بقوله: "والنبي، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل" على قراءة نافع. قيل: الطعن مردود عليه، لأن تخفيف الهمزة في "نبي" و"برية"، إنما يُتصور على قول من يقول: إن نبياً مشتق من النبأ، والبرية من برأ الله الخلق. وأما من يرى أن النبي من النبوة وهو الارتفاع، والبرية من البرى وهو التراب، فلا مدخل لهما في الهمزة أصلاً، فلا يصح قوله: "استمر تخفيفه ورُفض الأصل". ثم لو سُلم أنه من الهمز، فلا يستمر أيضاً، لأنه قد ثبت أنهم يقولون: نبيئاً وبريئة، فكيف يصح دعوى التزام البراءة والتَّرك مع ثبوتها؟ بل نافع مقدم على جميع القراء، وقد قدمه الشيخ الشاطبي على القُراء كلهم، وقال فيه رحمه الله تعالى: فأما الكريم السِّر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا روى أنه إذا كان إذا قرأ القرآن، يفوح طيب المسك من فيه، فقيل له: أتتطيب للقراءة؟ فقال: لا، ولكن رأيت النبي? في المنام، فتفل في فيَّ، فكلما قرأت القرآن يفوح ريح المسك من فيَّ. قال صاحب "النهاية": "قيل: إن النبي مشتق من النباوة، وهي الشيء المرتفع، ومنه حديث البراء قال: قلت: ورسولك الذي أرسلت، فرد عليَّ وقال: ونبيك الذي أرسلت. وإنما رد ليختلف اللفظان ويجمع له الثناءين: معنى النبوة والرسالة، ويكون تعديداً للنعمة في الحالين.

وقرئ: (خيار البرية) جمع خير، كجياد وطياب: في جمع جيد وطيب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (لم يكن)، كان يوم القيامة مع خير البرية مساًء ومقيلًا». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي، كما تركوه في الذُّرية والبرية، إلا أهل مكة فإنهم يهمزونهما ويخالفون العرب في ذلك". قوله: (وقرئ: "خيار البرية")، روى ابن جني أن إماماً لأهل مكة سُمع يقرأ: "خيار"، فيجوز أن يكون جمع "خير"، فيُكسر فيعل على: فعال، نحو: صائم وصيام، وكيس وكياس. وأن يكون جمع خائر كقولك: هو مخير وأنا خائر له، وأن يكون جمع خير الذي هو ضد الشر، كقولك: هذا مجبول من خير". خاتمة قال القاضي في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}: "ذلك المذكور من الجزاء والرضوان لمن خشي ربه، لأن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير" وقلت: ولذلك قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} [فاطر: 28]. الراغب: "رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمراً لأمره، ومنتهياً عن نهيه، قال تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، والرضوان: الرضا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكثير. ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى، خص الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى، قال تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ". وقال الجُنيد: "الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة، والرضا حال يصحب العبد في الدنيا والآخرة، وليس محله محل الخوف والرجاء والصبر والإشفاق، وسائر الأحوال التي تزول عن العبد في الآخرة. بل السعيد يتنعم بالرضا في الجنة، ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم: برضائي أُحلكم داري، أي: برضائي عنكم رضيتم. وقال محمد بن الفضل: الروح والراحة في الرضا، واليقين والرضا باب الله الأعظم، ومحل استرواح العابدين"، والله سبحانه وتعالى أعلم. تمت السورة * ... * ... *

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة مختلف فيها، وهي تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)] 1 - 8 [. (زِلْزالَها) قرئ بكسر الزاي وفتحها؛ فالمكسور: مصدر، والمفتوح: اسم؛ وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الزلزلة مدنية، وهي تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف)، وفي "الكواشي": "وقد جاء "ناقة جزعال" التي تطلع، و"قصطال" اسم للغبار، وليسا من المضاعف. وقيل: أما بهرام وشهرام فعجميان". وأما القهقار فلغة ضعيفة؛ في "الصحاح": "القهقر، بتشديد الراء: الحجر الصلب، وكان أحمد بن يحيى وحده يقول: القهقار".

فإن قلت: ما معنى (زلزالها) بالإضافة؟ قلت: معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده. ونحوه قولك: أكرم التقىّ إكرامه، وأهن الفاسق إهانته، تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه. الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع البيت، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالًا لها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذي ليس بعده)، أي: ليس بعده زلزال، أي: ليس فوقه وأقوى منه. المغرب: "وقوله: وإن كان ليس بالذي لا بعد له، أي: ليس بنهاية في الجودة وهو من قولهم: هذا مما ليس بعده غاية في الجودة والرداءة. وربما اختصروا وقالوا: ليس بعده، ثم أُدخل عليه "لا" النافية للجنس، واستعمل استعمال الاسم المتمكن". قوله: (أو زلزالها كله)، أي: القدر اللائق بها ويضاف إليها. والفرق بينه وبين الوجه السابق، هو أن السابق مستند إلى الفاعل ومقتضٍ مشيئته، ومن ثم قال: "زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة". والثاني وإن دل على الشمول، ولكن دون الأول في الشدة، وفي قوله "تستوجبه في الحكمة" إشارة إلى مذهبه، قال الإمام: "أي الزلزال المكتوب عليها إذا قُدرت تقدير الحي. روي أنها تُزلزل من شدة صوت إسرافيل عليه السلام"، وليس ذلك إلا إذا قُدر أنها حية فزعة، كما كانت متكلمة في قوله: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}. قوله: (جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها)، الراغب: "أثقالها: قيل: كنوزها، وقيل: ما تضمنت من أجساد البشر عند الحشر، وقوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]: أي: أحمالكم الثقيلة".

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها؛ وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياًء، فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون: (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)] يس: 52 [. وقيل: هذا قول الكافر؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث؛ فأما المؤمن فيقول: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون)] يس: 52 [. فإن قلت: ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها؟ قلت: هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول مالها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه. وقيل: ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خيٍر وشر. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها". فإن قلت: (إِذا) و (يَوْمَئِذٍ): ما ناصبهما؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ({مَا لَهَا} زُلزلت؟ )، قيل: هذه إشارة إلى أن في الكلام حذفاً، وهو حال من الضمير المجرور لأنه مفعول، أي: أي شيء ثبت لها في هذه الحال، لقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]. قوله: (تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها)، روى الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قرأ رسول الله? هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، قال: "أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم [كذا] كذا وكذا، فهذه أخبارها".

قلت: (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إِذا)، وناصبهما (تُحَدِّثُ). ويجوز أن ينتصب (إِذا) بمضمٍر، و (يَوْمَئِذٍ) بتحدث. فإن قلت: أين مفعولا (تُحَدِّثُ)؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (أين مفعولاً {تُحَدِّثُ}؟ )، قيل: في السؤال والجواب نظر، لأن "حدث" ليس متعدياً إلى مفعولين، بل هو متعد إلى مفعول واحد، والمحذوف الذي صرح بذكره هاهنا هو المفعول به، وأما المذكور وهو {أَخْبَارَهَا} فمفعول مطلق، وهما لا يُسميان مفعولين في اصطلاح النحاة. نعم، إذا ذُكرت خصوصية المصدر في هذا الباب جُعل منصوباً، ويسميه بعض النحاة حينئذ مفعولاً ثانياً وثالثاً، نحو: حدثت زيداً عمراً قائماً، ويقال حينئذ: هو متعد إلى ثلاثة مفاعيل، وقد ذُكر وحُقق في موضعه أنه ليس كذلك، وأنه متعد إلى واحد، وأن "زيداً قائماً" نصبا لوقوعهما موقع المصدر. وأما إذا ذُكر المصدر بلفظه نحو: حدثته حديثاً وخبراً، فلا يقول أحد/ إنه متعد إلى مفعولين. والدليل على ما ذكرنا أن ابن الحاجب بعدما بين أن "زيداً قائماً" نُصب في مثل هذا الموضع لوقوعه موقع المصدر، لا لكونه مفعولاً ثانياً وثالثاً، قال: "بقى أن يقال: كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى مصدراً، وهو المفعول الثاني والثالث؟ " ثم قال: "والجواب عنه أنه لم يكن مصدراً باعتبار كونه زيداً قائماً، ولكن باعتبار كونه حديثاً مخصوصاً، فالوجه الذي صح الإخبار به عن الحديث إذا قلت: حدثني زيد عمرو منطلق، هو الذي صحح وقوعه مصدراً". وقلت: ويمكن أن يقال: إن "حدثت وأخواتها" متعديات إلى مفعول واحد حقيقة، وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين؛ قال في "المفصل": "حدثت

قلت: قد حذف أوّلهما، والثاني: (أخبارها)، وأصله تحدث الخلق أخبارها؛ إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما لليوم. فإن قلت: بم تعلقت الباء في قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ)؟ قلت: بتحدّث، معناه: تحدّث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أُجري مجرى أعلمت لموافقته له في معناه، فعُدي بتعديه". قال صاحب "الإقليد": "الأصل في أنبأ ونبأ، وأخبر وخبر، التعدي إلى مفعول واحد، نحو: أنبأت زيداً بكذا، ثم حُذف الجار فيقال: أنبأته كذا، وفي التنزيل: {مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3]، أي: بهذا، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]؛ فإذا عُديت إلى ثلاثة، فليس إلا لإجرائها مجرى أعلمت". فظهر أن سؤال المصنف مبني على هذا، وجوابه يدل عليه حيث صرح بقوله: "كأنه قيل: يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها؛ لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا". قوله: (إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار)، أي: الغرض في الآية هو المفعول الثاني لا الأول، لأن السورة مسوقة في هول القيامة، أي: يوم عظيم تحدث فيه الجمادات. قوله: (يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها)، والظاهر أن الباء على هذا كالباء في قولك: لئن لقيت فلاناً، لتلقين به رجلاً متناهياً في الخير. المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها المتناهية في بابها، فيكون من باب التجريد، ولذلك قال: "على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها: تحديث بأخبارها"؛ قال في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّ‍ينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]: "أراد

على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها: تحديث بأخبارها، كما تقول: نصحتني كل نصيحة، بأن نصحتني في الدين. ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) بدلًا من (أَخْبارَها) كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها؛ لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، و (أَوْحى لَها) بمعنى أوحى إليها، وهو مجاز كقوله: (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] يس: 82 [قال: أوحى لها القرار فاستقرّت وقرأ ابن مسعود: (تنبئ أخبارها)، وسعيد بن جبير: تنبئ، بالتخفيف. يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف، (أَشْتاتاً) بيض الوجوه آمنين؛ وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتًا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالثاني الأول بعينه، أي: أخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقاً غليظاً، وعليه المثال: نصحتني بكل نصيحة، بأن نصحتني في الدين؛ جرد من النصحية في الدين النصيحة الكاملة، وعليه قول الشاعر: فأنالني كل المنى بزيارة كانت مخالسة كخطفة طائر فلو استطعت إذا خلعت على الدجى لتطول ليلتنا سواد الناظر قوله: (وهو مجاز)، أي استعار تمثيلية كما سبق في قوله: {كُن فَيَكُونُ}؛ شبه إرادة إظهار ما فيها من الأحوال بما يُلقى إلى المأمور، لإظهار ما يراد منه من سراعة الامتثال.

ليروا جزاء أعمالهم. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (ليروا) بالفتح، وقرأ ابن عباس وزيد بن على: (يره) بالضم. ويحكى أنّ أعرابيا أخر (خَيْراً يَرَهُ) فقيل له: قدّمت وأخرت؛ فقال: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق والذرّة: النملة الصغيرة، وقيل: (الذرّ) ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. فإن قلت: حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوّه باجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشر؟ قلت: المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرّة شرًا من فريق الأشقياء؛ لأنه جاء بعد قوله: (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (خُذا بطن هَرشى) البيت، هَرشى: عقبة في طريق مكة قريبة من "الجُحفة" لها طريقات؛ يخاطب صاحبيه ويقول لهما: سيرا في بطن هذه الثنية أو في قفاها، فإن كلا الجانبين طريقاً للإبل، وهذا مثل فيما سهل الطريق من الجانبين. قيل: كان الأعرابي ظن أن التقديم والتأخير في هذا الموضع جائز وهو خطأ، فإنه غفل عن اللطائف القرآنية، ولا معنى لإيراد البيت في هذا المقام، فكان تركه أولى؛ لأن العناية منوطة بالخير، والشر عارض، قال القاضي في قوله تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 44 - 45]: " {لِيَجْزِيَ} علة لـ {يَمْهَدُونَ}، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصود بالذات". قوله: (لأنه جاء بعد قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا}، يعني: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} تفصيل للناس، وهم فريقان: السُّعداء والأشقياء، أي: الآية مختصة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانتصاف: "سؤاله مبني على قاعدتين: إحداهما: أن حسنات الكافر مُحطبة بالكفر وفيه نظر؛ فإن أريد به أنها لا يثاب بها فصحيح، وأما تخفيف العذاب فغير مُسلم، وقد وردت فيه الأحاديث أن حاتماً يُخفف الله عنه لكرمه، وفي حق أبي طالب وغيره، فلها أثر في تخفيف العذاب. وثانيتهما: أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر، فهو خلاف مذهب أهل السنة؛ فتكفير الصغائر بأحد أمرين، إما بالتوبة، وإما بمشيئة الله بالمغفرة؛ فهذا السؤال ساقط عندنا". وقال الإمام: "يجوز أن يقال: إن حسنات الكافر وإن كانت مُحبطة بكفره، لكن الموازنة معتبرة عندكم، فبقدر تلك الحسنات ينحط من عقاب كفره، وكذا القول في الجانب الآخر، فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية". وقلت: الآية تحتمل معنيين: أن يراد بإحدى القرينتين السعداء وبالأخرى الأشقياء لتكرير الموصول، وأن يراد العموم في كل قرينة كما يقال: فمن يعمل مثقال ذرة من المؤمنين والكافرين خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة من المؤمنين والكافرين شراً يره. وعلى الأول ورد كلام المصنف، وما روى محيي السنة والإمام عن محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر، فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله، حتى يلقى الآخرة وليس له فيها خير. ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن، كُفر ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله، حتى بلغ الآخرة وليس له فيها شر. لكن قصد المصنف في ذلك إدخال مرتكب الكبيرة في زمرة الكفار والأشقياء، لأن حسنات مرتكب الكبيرة محبطة به فلا يرى غير الشر، كما أن صغائر مجتنب الكبائر مكفرة به، فلا يرى غير الخير، يُعلم ذلك من سؤاله. وعلى الثاني ما رواه الواحدي عن مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيراً،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يره يوم القيامة فيفرح به، وكذلك الشر فيراه في كتابه، فيسوؤه ذلك. وروى محيي السنة والإمام عن ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً كان أو شراً، إلا أراه الله تعالى إياه؛ فأما المؤمن فتغفر له سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأما الكافر فتُرد حسناته ويعذب بسيئاته. وهذا الاحتمال يساعده النظم والمعنى والأسلوب. أما النظم، فإن قوله {فَمَن يَعْمَلْ} كما سبق، تفصيل لما عقب به من قوله {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}، فيجب التوافق. والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق، {يَصْدُرُ النَّاسُ} مقيد بقوله {أَشْتَاتًا}، فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار، بحسب أعمالهم المختلفة، ومن ثم كانت الجنة ذات درجات، والنار ذات دركات. وأما المعنى، فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْ‍ئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. وأما الأسلوب، فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصولاً وفروعاً، روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة: سُئل رسول الله? عن الحمر، فقال: لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فتلاها. قوله: عن الحُمر، أي: عن صدقة الحُمر. والفاذة: أي المنفردة في معناها؛ فذ الرجل عن أصحابه إذا شذ عنهم. وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (إذا زلزلت) أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ الآية، فقال: حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها. وفي "الحقائق": قيل لبعض الحكماء: عظ، فتلا الآية. فقال السائل: فقد انتهيت الموعظة. قوله: (من قرأ [سورة] {إِذَا زُلْزِلَتِ} أربع مرات، روينا عن الترمذي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله? : "من قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} عُدلت له بنف القرآن". تمت السورة * ... * ... *

سورة (والعاديات)

سورة (والعاديات) مختلف فيها، وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)] 1 - 11 [. أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {وَالْعَادِيَاتِ} مدنية، وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (والضبح: صوت أنفاسها)، الراغب: "قيل: الضَّبح: صوت أنفاس الفرس تشبيهاً بالضُّباح، وهو صوت الثعلب. وقيل: هو الخفيف العدو، وقد يقال ذلك للعدو. وقيل: الضبح كالضبع، وهو مد الضبعة في العدو، وشُبه عدوه به كتشبيهه بالنار في كثرة حركاتها". وع بعضهم: ضبح الخيل في عدوها: إذا سُمع من أفواهها صوت ليس بصهيل ولا حمحمة، يعني: أنهن يضبحن في المعركة عند الكر والفر.

وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح. قال عنترة: والخيل تكدح حين تضـ ... ـبح في حياض الموت ضبحا وانتصاب ضبحًا على: يضبحن ضبحًا، أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات؛ لأن الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات. (فَالْمُورِياتِ) تورى نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها، (قَدْحاً) قادحات صاكات بحوافرها الحجارة. والقدح: الصك، والإيراء: إخراج النار؛ تقول: قدح فأورى، وقدح فأصلد، وانتصب قدحًا بما انتصب به ضبحًا. (فَالْمُغِيراتِ) تغير على العدو، (صُبْحاً) في وقت الصبح. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهيجن بذلك الوقت غبارًا. (فَوَسَطْنَ بِهِ) بذلك الوقت، أو بالنقع، أي: وسطن النقع الجمع. أو فوسطن ملتبسات به (جَمْعاً) من جموع الأعداء. ووسطه بمعنى توسطه. وقيل: الضمير لمكان الغارة، وقيل: للعدو الذي دلّ عليه (وَالْعادِياتِ) ويجوز أن يراد بالنقع: الصياح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (نار الحُباحب)، الجوهري: "الحُباحب: اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا ناراً ضعيفة مخافة الضيفان، فضربوا بها المثل حتى قالوا: نار الحُباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها". قوله: (فأصلد)، الجوهري: "صَلَد الزَّند يَصلد - بالكسر - صُلوداً: إذا صوت ولم يُخرج ناراً، وأصلد الرجل، أي: صلد زنده". قوله: (وقيل: الضمير لمكان الغارة)، قال الفراء: "الضمير في {بِهِي} للمكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}، دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من موضع". وقال الواحدي: "يقال: وسطت المكان، أي: صرت في وسطه، يعني: صرن بعدوهن وسط جمع العدو".

من قوله عليه السلام: (ما لم يكن نقع ولا لقلقة)، وقول لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق أي: فهيجن في المغار عليهم صياحًا وجلبة. وقرأ أبو حيوه: (فأثرن) بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غبارًا؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة، وقرئ: (فوسطن) بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد، كقوله: (وَأُتُوا بِهِ)] البقرة: 25 [وهي مبالغة في وسطن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما لم يكن نقع ولا لقلقة)، وفي "الاستيعاب" قال: "بلغ عمر بن الخطاب، أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين أبا سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة". النهاية: "وفي حديث عمر رضي الله عنه: ما عليهم أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقع ولا لقلقة، يعني: خالد بن الوليد. النَّقع: رفع الصوت، وقيل: شق الجيوب، وقيل: وضع التراب على الرأس من النقع: الغبار، وهو أولى؛ لأنه قرن به اللَّقلقة، وهي الصوت، فحمل اللفظين على المعنيين أولى من معنى واحد". قوله: (فمتى ينقع صراخ صادق)، وتمامه في "الصحاح": يُحلبوه ذات جرس وزجل "الحلبة: خيل تُجمع للسباق من كل أوب، ولا تخرج من إصطبل واحد، كما يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنُّصرة: قد أحلبوا". قوله: (وقرئ: "فوسطن" بالتشديد)، قال ابن جني: "قرأها علي رضي الله عنه وابن أبي ليلى وقتادة، أي: أثرن باليد نقعاً، ووسطن بالعدو جمعاً، فأضمر المصدر لدلالة اسم الفاعل،

وعن ابن عباس: كنت جالسًا في الحجر فجاء رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) ففسرتها بالخيل، فذهب إلى علىّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد (الْعادِياتِ ضَبْحاً) الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى؛ فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والثفر للثورة وما أشبه ذلك. وقيل: الضبح لا يكون إلا للفرس والكلب والثعلب. وقيل: الضبح بمعنى الضبع، يقال: ضبحت الإبل وضبعت إذا مدت أضباعها في السير، وليس بثبت. وجمع: هو المزدلفة. فإن قلت: علام عطف (فَأَثَرْنَ)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما أُضمر لدلالة الفعل عليه في قوله: من كذب كان شراً له، أي: كان الكذب شراً له. فأما "وسطن" بالتشديد، فعلى معنى: ميزن به جمعاً، أي: جعلنه شطرين، "قسمين، شقين". قوله: (إن كانت لأول غزوة)، "إن" مخففة من الثقيلة، واسم "كانت" ضمير الآية، و"بدر" خبر مبتدأ محذوف، غير منصرف في الأصح كقوله تعالى: {ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف: 99]، للعلمية والتأنيث. قوله: (والثَّفر للثورة)، الجوهري: "الثَّفر للسباع وكل ذات مخلب، بمنزلة الحياء من الناقة، وربما استعير لغيرها، قال الأخطل: جزى الله عنا الأعورين ملامة وفروة ثفر الثورة المتضاجم نصب "ثفر الثورة" بدلاً من "فروة" وهو لقبه، وخفض "المتضاجم" وهو من صفى الثفر على الجوار، كقولك: جُحر ضب خرب". وهو من الأضجم، أي: مُعوج الفم.

قلت: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه؛ لأنّ المعنى: واللاتي عدون فأورين، فأغرن فأثرن. الكنود: الكفور، وكند النعمة كنودًا، ومنه سمي: كندة؛ لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور، يعنى: أنه لنعمة ربه خصوصًا لشديد الكفران؛ لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه، ثم إن عظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة. (عَلى ذلِكَ) على كنوده، (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره. وقيل: وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد. (الْخَيْرِ) المال من قوله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)] البقرة: 180] ....... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه)، الانتصاف: "والحكمة في مجيئه فعلاً تصوير هذه الأفعال في النفس؛ فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم، لما بينهما من التخالف، وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتباينة، وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي". وقلت: وحظ هذا المقام من الفائدة، أنها إنما وصفت بالأوصاف الثلاث، ليرتب عليها ما قُصد من الظفر بالفتح وغلبة العدو، فأوقع الفعلين الماضيين مُسببين عن أسماء الفاعلين، فأفاد أن تلك المداومة إنما حققت هاتين البُغيتين. قوله: (لأن تفريطه) تعليل لقوله: "إنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران"، ومعنى الاختصاص مستفاد من تقديم معمول "لكنود" عليه، ومعنى الشدة من بناء "كنود" من "فعول"، وتصدر الجملة بإن واللام في الخبر. قوله: (تفريط قريب)، أي: غير مجاوز للحد، وقوله: "لمقاربة" تعليل لقوله: "قريب"؛ من قولهم: شيء مقارب ومؤام وأمم، أي: وسط بين الجيد والرديء. قوله: ({الْخَيْرِ}: المال)، الراغب: "الخير: ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع والشر ضده.

والشديد: البخيل الممسك، يقال: فلان شديد ومتشدّد. قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: الخير ضربان: خير مطلق، وهو أن يكون مرغوباً فيه بكل حال، وعند كل أحد، كما ورد في وصف الجنة: "لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة". وخير وشر مقيدان، وهو أن يكون خيراً لواحد شراً لآخر، كالمال ربما كان خيراً لزيد وشراً لعمرو، ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، أي: مالاً، وقال في آخر: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55 - 56]. وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب؛ روي أن علياً رضي الله عنه دخل على مولى له، فقال له: ألا أوصي؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال: {إِن تَرَكَ خَيْرًا}، وليس لك مال كثير، وعلى هذا قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، أي: للمال الكثير. والاختيار طلب ما هو خير، وقد يقال لما يراه الإنسان خيراً وإن لم يكن خيراً. والمختار في عُرف المتكلمين، يقال لكل فعل يفعله الإنسان لا على سبيل الإكراه، فقولهم: هو مختار في كذا، فليس يريدون به ما يراد بقولهم: فلان له اختيار؛ فإن الاختيار أَخذ ما يراه الخير". قوله: (شديد ومُتشدد)، الراغب: "الشديد والمتشدد: البخيل، فالشديد يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأنه شُد، كما يقال: غُل عن الأفضال، وإلى نحو هذا أشار بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]. ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كالمتشدد، كأنه شد صُرَّتَه". قوله: (أرى الموت يعتام) البيت، يعتام: يختار، وعقيلة كل شيء أكرمه، والفاحش: البخيل الذي جاوز الحد في البخل. يقول: أرى الموت يختار كرام الناس، وكرائم الأموال التي يُضن بها.

يعني: وإنه لأجل حب المال، وأن إنفاقه يثقل عليه، لبخيل ممسك. أو أراد بالشديد: القوى، وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوى مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. تقول: هو شديد لهذا الأمر، وقوىّ له: إذا كان مطيقًا له ضابطًا. أو أراد: أنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه منقبض. (بُعْثِرَ) بعث. وقرئ: بحثر وبحث، وبحثر، وحصل على بنائهما للفاعل. وحصل: بالتخفيف. ومعنى (حُصِّلَ) جمع في الصحف، أي: أظهر محصلًا مجموعًا. وقيل: ميز بين خيره وشره، ومنه قيل للمنخل: المحصل. ومعنى علمه بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم؛ لأنّ ذلك أثر خبره بهم. وقرأ أبو السمال: (إنّ ربهم بهم يومئذ خبير). عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قرأ سورة "والعاديات"، أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ومعنى "حُصل" جُمع في الصحف، أي: مُحصلاً مجموعاً)، الراغب: "التحصيل: إخراج اللُّب من القشور، كإخراج الذهب من حجر المعدن، والبُّر من التبن، قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، أي: أُظهر ما فيها وجُمع، كإظهار اللُّب من القشر وجمعه، أو كإظهار الحاصل من الحساب. وحوصلة الطير: ما يحصل فيه الغذاء؟ . قوله: (ومعنى علمه بهم يوم القيامة)، قيل: فيه إشارة إلى أن قوله تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}، وهو العامل في "إذا" ومفعولاه محذوفان، أي: أفلا يعلمهم عاملين ما عملوا إذا بُعثر؟ أي: أفلا يجازيهم إذا بعثر؟ أو يقول: أُجري العلم مجرى الفعل اللازم، أي: أفلا يكون له العلم في هذه الحال؟ أي: أفلا يجازيهم حينئذ؟ يعني: يُجازيهم؛ ثم حقق ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو البقاء: "العامل في {إِذَا بُعْثِرَ}: "يعلم"، وقيل: العامل فيه ما دل عليه خبر "إن"، وهو "لخبير". والمعنى: إذا بُعثر جُوزوا". وقال صاحب "الكشف": "لا يجوز أن يعمل فيه "لخبير" بنفسه، لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبله". الجوهري: "يقال: من أين خبرت هذا الأمر؟ أي: من أين علمت؟ والاسم: الخُبر بالضم، وهو العلم بالشيء، والخبير: العالم". قال الإمام: "دلت هذه الآية على أنه تعالى عالم بالجزيئات الزمانيات وغيرها، لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فكيف لا يكون منكره كافراً؟ ". [تمت السورة] * ... * ... *

سورة القارعة

سورة القارعة مكية، وهي عشر آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ)] 1 - 11 [ الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة، أي: تقرع (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار؛ قال جرير: إنّ الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة القارعة مكية، وهي عشر آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (إن الفرزدق) البيت، ما علمت: أي الذي علمته، وهي معترضة. يهجوه وقومه،

وفي أمثالهم: أضعف من فراشةٍ وأذل وأجهل، وسمى فراشًا لتفرّشه وانتشاره. وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوانًا؛ لأنها ألوان، وبالمنفوش منه؛ لتفرق أجزائها. وقرأ ابن مسعود: (كالصوف). الموازين: جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها؛ ومنه حديث أبى بكر لعمر رضى الله عنهما في وصيته له: (وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف) (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه؛ لأنه إذا هوى أي: سقط وهلك، فقد هوت أمّه ثكلًا وحزنًا قال: هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يردّ اللّيل حين يثوب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي: إنهم ضعفاء أذلاء جهلاء، أمثال الفراش غشين، أي: حضرن في غشوة الليل نار الذي يصطلي بها الشاعر وهو جرير. وقيل: غشين: اقتحمن. قيل: "ما" في "ما علمت": مصدرية، والمدة معه مقدرة، أي: أن الفرزدق وقومه دوام علمي بهم ضعفاء. قوله: (ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه)، الحديث رواه صاحب "جامع الأصول"، عن رزين العبدري، وذكرناه بتمامه في "الأعراف". قوله: (هوت أمه) البيت، قائله: كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه. ما يبعث، من المبعث: من النوم، والغادي: الذي يغدو، وهو حال. وهوت أمه: دعاء لا يراد به الوقوع، بل التعجب والمدح، أي: أي شيء يبعث الصُّبح منه حين يغدو، وأي شيء يرد الليل منه

فكأنه قيل: وأما من خفت موازينه فقد هلك. وقيل: (هاوِيَةٌ) من أسماء النار، وكأنها النار العميقة لهوى أهل النار فيها مهوى بعيدًا، كما روى: (يهوى فيها سبعين خريفا) أي: فمأواه النار. وقيل: للمأوى: أمّ، على التشبيه؛ لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه. وعن قتادة: فأمّه هاوية، أي: فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم، لأنه يطرح فيها منكوسًا. (هِيَهْ) ضمير الداهية التي دلّ عليها قوله: (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) في التفسير الأوّل، أو ضمير (هاوية) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حين يرجع، وحُذف لفظة "منه" في الموضعين لدلالة الكلام عليها، كما حُذف من قوله: السمن منوان بدرهم، وفيه معنى التجريد، أي: يبعث الصبح منه مغيراً والليل غانماً. قوله: (سبعين خريفاً)، عن بعضهم: عُبر بالخريف عن السنة، لأن الثمار والزروع تنمو في هذا الوقت، ويُعبر بآخر الوقت عن كله. قوله: (في التفسير الأول)، أي: إذا فُسر "أمه هاوية" بالدعاء، ومن قولهم: هوت أمه؛ وإنما جُعل الضمير للداهية، لأن الشخص إذا سقط وهلك وصارت أمه ثكلى وخزيا، فقد أصابته الداهية. وعلى التفسير الثاني: أمه بمعنى المأوى، و {هَاوِيَةٌ} من أسماء النار. وأظهر التفسيرين الأول، لأن {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} مقابل لقوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، والهلاك أنسب إلى العيش لأنه الحياة المختصة بالحيوان، فكما بولغ في القرينة التالية بما أردف به، بولغ في السابقى بالإسناد المجازي. الراغب: "العيش: الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة، لأن الحياة تقال في الحيوان، وفي الباري تعالى، وفي الملك، ويُشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32]. وقال في أهل الجنة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، وقال? في الحديث: "لا عيش إلا عيش الآخرة".

والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها. وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج؛ لأنها ثابتة في المصحف، وقد أجيز إثباتها مع الوصل. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "القارعة"، ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والهاء للسَّكت، وإذا وصل القارئ حذفها)، قال في "المرشد": {مَا هِيَهْ}: وقف كاف. وقال أبو حاتم: وقف جيد، ثم فُسر بقوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ}. والله أعلم. [تمت السورة] * ... * ... *

سورة التكاثر

سورة التكاثر مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)] 1 - 8 [. ألهاه عن كذا وأقهاه: إذا شغله. و (التَّكاثُرُ) التباري في الكثرة والتباهي بها، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر. روى أن بني عبد مناٍف وبني سهٍم تفاخروا أيهم أكثر عددًا، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثرتهم بنو سهم ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة التكاثر مكية، وهي ثماني آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (فكثرتهم بنوسهم)، أي: غلبوهم بالكثرة، من قولهم: كاثرته فكثرته. والتكاثر تكلف الكثرة مالاً وعدداً.

والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات؛ عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكمًا بهم. وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلاٍن وهذا قبر فلاٍن عند تفاخرهم. والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم. أو أراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم، منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها، عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم. وزيارة القبور: عبارة عن الموت؛ قال: لن يخلص العام خليل عشرا ... ذاق الضّماد أو يزور القبرا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات)، فعلى هذا، {الْمَقَابِرَ} كناية عن الانتقال من ذكر الأحياء إلى ذكر الأموات تفاخراً؛ وإنما كان تهكماً، لأن زيارة القبور شُرعت لتذكر الموت، ورفض حب الدنيا، وترك المباهاة والتفاخر. وهؤلاء عكسوا، جيث جعلوا زيارة القبور سبباً لمزيد القسوة، والاستغراق في حب الدنيا، والتفاخر في الكثرة. روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي، عن بريدة قال: قال رسول الله? : "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها". وفي رواية أبي داود: "فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة". قوله: (أو أراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم)، فحاصل الوجوه الثلاثة راجع إلى أن المراد بالزيارة، إما الانتقال من الذكر إلى الذكر، أو إلى حقيقة الزيارة، أو إلى الموت. و"مُنفقين" حال من {أَلْهَاكُمُ}، و"عما هو أولى بكم" متعلق بألهاكم. قوله: (لن يخلص العام)، البيت قال في "الفائق": "ضمد المرأة جمعها واتخاذها

وقال: زار القبور أبو مالك ... فأصبح الأمّ زوّارها وقرأ ابن عباس: (أألهاكم)؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير. (كَلَّا): ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخليلين"، قال أبو ذؤيب: تُريدين كيما تضمديني وخالداً وهل يُجمع السيفات ويحك في غمد قائله: مقداد بن حسان الزُّبيري، قبله: إني رأيت الضَّمد شيئاً نُكرا وكانت المرأة في الجاهلية تتخذ سوى زوجها خليلاً، وهو الضَّمد. قوله: (عشراً)، أي: عشر ليال، وروي بكسر العين، أي: معاشرة، والمعاشرة: المخالطة، وكذلك التعاشر، والاسم: العِشرة. والخليل: الزوج. المعنى: لن يُخلص زوج معاشرة امرأة عشر ليال، إلا أن يموت. ذاق الضماد: صفة الخليل. قوله: ({كَلَّا}: ردع وتنبيه)، أي: رد للكلام السابق، وتنبيه على ما دل عليه الكلام التالي، فاعتبر في {كَلَّا} كلا مفهوميه، قال الإمام: "كلا: متصل بما قبله على وجه الرد والتكذيب، أي: ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأموال

(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار ليخافوا فينتبهوا من غفلتهم. والتكرير: تأكيد للردع والإنذار عليهم. و (ثُمَّ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضًا وقال: (لَوْ تَعْلَمُونَ) محذوف الجواب، يعنى: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم، ........ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والأولاد، ومتصل بما بعده على معنى: حقاً سوف تعلمون، لكن حين يصير الفاسق تائباً، والكافر مسلماً، والحريص زاهداً". وفي كلام المصنف إشعار بهذين المعنيين. الكواشي: "الوقف على {الْمَقَابِرَ}: تام، إن جعل {كَلَّا} تنبيهاً، وإن جعل ردعاً، الوقف على {كَلَّا} ". فإن قلت: على ما ذهب إليه المصنف، يلزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه المخالف. قلت: ليس كذلك؛ إذ المراد أنه إذا ابتدئ بها وقع الاستئناف عندها، فيقدر السؤال: فما جزاء هؤلاء الغفلة، وما يقال في حقهم؟ فيجاب: حقاً سيعلمون مآل حالهم حين يرون الجحيم، ففي الكلام ردع من حيث المعنى. وإذا وُقف عليها يقع السؤال بعدها، أي: فما يُفعل بهؤلاء المطرودين الذين ارتدعوا؟ فيقال: سوف يعلمون ما يُفعل بهم حين يرون الجحيم؛ فالكلام مستلزم للتنبيه من حيث المعنى. قال صاحب "المرشد": "حتى زرتم المقابر: وقف تام، وتبتدئ {كَلَّا} في معنى التهديد والوعيد". قوله: (يعني: لو تعلمون ما بين أيديكم)، قيل: المراد بالعلم هاهنا: هو علم الشيء في نفسه، لا علمه على صفته.

لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه؛ ولكنكم ضلال جهلة؛ ثم قال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به؛ وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه، وهو جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدوا به ما لا مدخل فيه للريب؛ وكرره معطوفًا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ: (لترؤن) بالهمز وهي مستكرهة. فإن قلت: لم استكرهت والواو المضمومة قبلها همزة قياس مطرد؟ قلت: ذاك في الواو التي ضمتها لازمة، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ: (لترون) و (لترونها) على البناء للمفعول، (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته. ويجوز أن يراد بالرؤية: العلم والإبصار (عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذاك في الواو التي ضمتها لازمة)، قال الزجاج: "القراءة: {لَتَرَوُنَّ}، بضم الواو غير مهموز، فضمت الواو لسكونها وسكون النون، وقد همزها بعضهم، والنحويون يكرهونها لأن ضمتها غير لازمة، لأنها حُركت لالتقاء الساكنين، ويهمزون الواو التي ضمتها لازمة، نحو: أدؤُر، جمع دار، ويجوز: أَدْوُر أيضاً". قوله: (وقرئ: "لَتُرَونّ")، ابن عامر والكسائي: بضم التاء، والباقون: بفتحها. ولا خلاف في السبعة في قوله: {لَتَرَوُنَّهَا} بفتح التاء. قوله: ({عَيْنَ الْيَقِينِ}: أي: الرؤية التي هي نفس اليقين)، قيل: أراد أن {عَيْنَ الْيَقِينِ} نُصب على المصدر، والعين هاهنا بمعنى نفس الشيء، كقولك: جاء زيد نفسه وعينه. والصواب أن الرؤية هاهنا بمعنى الإبصار لا العلم.

فإن قلت: ما النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلا وله نعيم؟ قلت: هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقهما؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضًا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل؛ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى: أنه أكل هو وأصحابه تمرًا وشربوا عليه ماًء فقال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين». عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (ألهاكم التكاثر) لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقلت: هذا هو الذي أراده بقوله: "ويجوز أن يراد بالرؤية العلم والإبصار"، على العطف التفسيري. وقال القاضي: "عين اليقين: الرؤية التي هي نفس اليقين؛ فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين". وقال شيخنا شيخ الإسلام قُدس سِره في "العوارف": "علم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال، وحق اليقين ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال، بورود رائد الوصال. وقال الجنيد: حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يُشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان". قوله: (هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات)، قال القاضي: "الخطاب بقوله: {ثُمَّ لَتُسْ‍ئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، مخصوص بكل من ألهاه دُنياه عن دينه، لا بالمؤمنين للقرينة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنصوص الكثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]. وقيل: مخصوص بالكفار، وقيل: عام؛ إذ كل يُسأل عن شُكره". وقلت: ويعضده ما روينا عن مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة: خرج رسول الله? ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ما أخرجكما عن بيتكما؟ قالا: الجوع. قال: وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما. فجاؤوا بيت أنصاري، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورُطب وذبح لهم، فأكلوا من الشاة والعِذق وشربوا، فلما أن شبعوا وَرَوَوا، قال رسول الله? لهما: "والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة". الحديث مختصر. وروى الواحدي عن مقاتل: "يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامو عن شُكر ما كانوا فيه ول يشكروا رب النعم، حيث عبدوا غيره وأشركوا به، ثم يُعذبون. هذا قول الحسن". وقلت: ويؤيده أن الخطاب من أول السورة مع المتكاثرين والمتباهين وهم كفرة، على ما سبق. ولما كان الاشتغال بنعيم الدنيا من صفات الغافلين، ويجب على المؤمن أن يجتنب عن رذائل الأخلاق، غلظ رسول الله? حيث قال: لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، لا أنه صلوات الله عليه فسر الآية بما قال. تمت * ... * ... *

سورة (والعصر)

سورة (والعصر) مكية، وهي ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)] 1 - 3 [ أقسم بصلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)] البقرة: 238 [صلاة العصر، في مصحف حفصة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {وَالْعَصْرِ} مكية، ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (فكأنما وُتر أهله وماله)، النهاية: "وتر: أي نقص، يقال: وترته إذا نقصته، فكأنك جعلته وتراً بعد أن كان كثيراً. وقيل: هو من الوتر: الجناية؛ فشُبه من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه، أو سلب أهله وماله. ويروى بنصب الأهل ورفعهـ فمن نصب جعله مفعولاً ثانياً لوتر، وأضمر فيها مفعولاً لم يُسم فاعله عائداً إلى الذي فاتته الصلاة، ومن رفع لم يُضمر وأقام الأهل مقام ما لم يُسم فاعله، لأنهم المصابون المأخوذون؛ فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما".

ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم. أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعًا من دلائل القدرة. أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. والإنسان: للجنس. والخسر: الخسران، كما قيل: الكفر في الكفران. والمعنى: أن الناس في خسران من تجارتهم إلا الصالحين وحدهم؛ لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم، فوقعوا في الخسارة والشقاوة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله: من توحيد الله وطاعته، وإتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبلو الله به عباده. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (والعصر)، غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لتهافت)، وهو التساقط قطعة قطعة، وتهافت الفراش في النار: تساقط. قوله: (أو أقسم بالزمان)، قال الزجاج: "والعصر: الدهر، والعصر: اليوم، والعصر: الليلة، قال حُميد بن ثور: ولا يلبث العصران يوماً وليلةً إذا طُلبا أن يُدركا ما تيمما قوله: ({وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: بالأمر الثابت) إلى آخره، الراغب: "الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقروناً بوعظ ونصيحة، من قولهم: أوض واصية: متصلة النبات، يقال: أوصاه ووصاه، وتواصى القوم: إذا أوصى بعضهم بعضاً"، يقال: "قدمت إليه بكذا، إذا أمرته قبل وقت الحاجة إلى الفعل".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "الآية فيها وعيد شديد، لأنه حكم بالخسار في جميع الناس، إلا من كان آتياً بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة تتعلق بمجموع هذه الأمور، وكما أنه يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه به، يلزمه في غيره: الدعاء إلى الدين، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه. ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه". [تمت السورة] * ... * ... *

سورة الهمزة

سورة الهمزة مكية، وهي تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)] 1 - 9 [. الهمز: الكسر، كالهزم. واللمز: الطعن؛ يقال: لمزه ولهزه طعنه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الهمزة مكية، تسع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (الهُمز: الكسر)، عن بعضهم: الهمز كالعصر باليد، [يقال]: همزت الشيء في كفي، ومنه: الهمز في الحروف. وهمز الإنسان: اغتيابه، يقال: رجل هامز وهماز وهُمزة.

والمراد: الكسر من أعراض الناس والغض منهم، واغتيابهم؛ والطعن فيهم. وبناء (فعلة) يدل على أنّ ذلك عادة منه قد ضري بها. ونحوهما: اللعنة والضحكة، قال: وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والغض منهم)، الجوهري: "وغض منه يُغض بالضم، أي: وضع ونقص من قدره". وعن غيره: منه غض الطرف والصوت: خفضهما، وغض الملامة: كفها. قوله: (وبناء فُعلة يدل على أن ذلك عادة منه)، الانتصاف: "ما أحسن مُقابلة الهُمزة واللُّمزة بالحُطمة، لأنه لما وسمه بهذه السمة، وبما يدل على الرسوخ والتمكن، توعد فيها بهذه الصفة ليحصل التعادل بين الفعل والجزاء". وقلت: فيه لطيفة أخرى من حيث التعادل، وهي أن الهمز فيه معنى الكسر من الأعراض، والحطم فيه معنى الكسر من الأضلاع، والنبذ فيه استحقار واستقلال، لأنه كان يزعم أنه من أهل الكرامة، قال في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40]: "شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم، بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر". روى الواحدي عن مقاتل: "هي تُحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب". قوله: (وإن أُغَيب فأنت الهامز اللُّمزة)، قيل: أوله: تُدلي بودي إذا لاقيتني كذباً

وقرئ: (ويل للهمزة اللمزة)، وقرئ: (ويل لكل همزة لمزة) بسكون الميم، وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم. وقيل: نزلت في الأخنس ابن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة. وقيل: في أمية بن خلف. وقيل: في الوليد ابن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه. ويجوز أن يكون السبب خاصًا والوعيد عامًا، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنشد الزجاج لزياد الأعجم: إذا لقيتك عن سُخط تُكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللُّمزه ابن السِّكيت: "الكشر: التبسم، يقال: كشر الرجل وافتر وابتسم، كل ذلك تبدو منه الأسنان". قوله: (بالأوابد)، الأساس: "ومن المجاز: فلان مولع بأوابد الكلام، وهي غرائبه، وبأوابد الشِّعر، وهي التي لا تُشاكل جودة". قوله: (ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً)، روى الإمام عن الفراء أنه قال: "كون اللفظ عاماً، لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً، كما أن إنساناً لو قال لك: لم أزرك أبداً، فتقول: كل من لم يزرني لا أزوره، وهو المسمى في "أصول الفقه" بتخصيص العام بقرينة العُرف".

وليكون جاريًا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإنّ ذلك أزجر له وأنكي فيه. (الَّذِي) بدل من كل، أو نصب على الذم. وقرئ: (جمع) بالتشديد، وهو مطابق لـ (عدده). وقيل: (عَدَّدَهُ) جعله عدة لحوادث الدهر. وقرئ: (وعدده) أي: جمع المال وضبط عدده وأحصاه، أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه، من قولك: فلان ذو عدد وعدد: إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. وقيل: (وَعَدَّدَهُ) معناه: وعدّه على فك الإدغام، نحو: ضننوا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وليكون جارياً مجرى التعريض بالوارد فيه)، يعني: إذا كان الوارد منه الأخنس أو أمية أو الوليد، ويجاء باللفظ على العموم تعريضاً، كان أزجر له وأنكى فيه، إذ لم يصرح باسمه حتى يلبس لمن كافحه به جلد النمر، بل يبعثه على الفكر في أحوال نفسه، وأنه هل دخل في هذا العام أول الناس بما اغتاب به خير البرية ونقص من حقه؟ الأساس: "نكيت في العدو نكاية: إذا أكثرت الجراح فيهم، يقال: فلان قليل النكاية طويل الشكاية". قوله: (أو نصب على الذم)، قيل: يجوز أن يكون صفة لـ "كُل" لأنه معرفة، كما ذكر في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}: أن {مَّعَهَا سَائِقٌ} محلها النصب على الحال من {كُلُّ}، لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حُكم المعرفة. قوله: (ضننوا)، أي في قول الشاعر: مهلاً أعاذل هل جربت من خلقي أني أجود لأقوام وإن ضننوا

(أَخْلَدَهُ) وخلده بمعنى أي: طوّل المال أمله، ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالدًا في الدنيا لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض، عمل من يظن أن ماله أبقاه حيًا. أو هو تعريض بالعمل الصالح، وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم؛ فأما المال فما أخلد أحدًا فيه. وروى أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: "وقيل: {وَعَدَّدَهُ}، معناه: وعده" عطف على قوله: " {وَعَدَّدَهُ}، أي: جمع المال وضبط عدده" فعلى هذا: هو مفعول فعل محذوف على طريقة قوله علفتها تبناً وماءً بارداً قوله: (أو يعمل)، عطف على قوله: "يحسب"، وقوله: "أو هو تعريض" عطف على قوله: "أي: طول المال أمله"، إلى آخره، من حيث المعنى. ولذلك غير العبارة؛ فهو وجهان على تقدير وجوه ثلاثة، وتقرير ذلك أن "يحسب" حال من الضمير في "جمع"، والحُسبان: إما حسبان الخلود في الدنيا، أو في النعيم أبداً، كما قال القائل: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36]، وقال العاص بن وائل: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]. وعلى الأول: الحُسبان إما حقيقي؛ فهو المراد من قوله: "يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا"، أو مجازي؛ فهو المعنى بقوله: "أو يعمل من تشييد البنيان"، كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]. وعلى الثاني: في الآية تعريض.

وعن الحسن: أنه عاد موسرًا فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت على كريم؟ قال: ولكن لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان، ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. (كَلَّا) ردع له عن حسبانه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم المناسب على الأول أن يجعل {الَّذِي} بدلاً من {كُلِّ}، لأن المعنى: ويل للذي جمع مالاً وعدده، وطول بعد ذلك أمله ووقع في الغرور، لأنه حسب أن ماله تركه خالداً في الدنيا. وعلى الثاني أن يجعل نصباً على الذم، لأن المعنى: ويل للطاعن الفاسق، أعني: الذي جرأه على الطعن والفسق، جمع المال والاعتماد على الرجال، ومع ذلك يحسب أن ماله يُخلده في النعيم، {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}؛ بل الذي يُخلد صاحبه في النعيم المقيم في الجنة، هو العمل الصالح، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، فحينئذ يحصل من الوجهين نشر لما لف في قوله: "الذي: بدل من "كل"، أو نصب على الذم"، والله أعلم. قوله: (لم أفتد بها من لئيم)، أي: ما جعلت مالي فداءً لعرضي منه لأسلم من أذاه، وأنشد: أصون عرضي بمالي لا أُدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال قوله: (لنبوة الزمان)، الأساس: "نبا عني فلان: فارقني، وبيني وبينه نبوة، وهو يشكو نبوة الزمان وجفوته". قوله: ({كَلَّا}: ردع له عن حُسبانه)، قال الإمام: "أي ليس كما ظن أن المال والعدد يُخلِد، بل العلم والصلاح، قال علي رضي الله عنه: "مات خزان المال وهم أحياء والعلماء

وقرئ: (لينبذان) أي: هو وماله. و (لينبذن)، بضم الذال، أي: هو وأنصاره، و (لينبذنه)، (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة. وقرئ: (الحاطمة) يعنى أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألمًا منه بأدنى أذًى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه. ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها. أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باقون ما بقي الدهر". أو حقاً لينبذن واللام جواب القسم، فدل على حصول القسم في {كَلَّا}، وفي النبذ الإهانة والتحقير، لأنه كان يزعم أنه من أهل الكرامة". قوله: (ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد)، الراغب: "الفؤاد كالقلب، لكن يقال له فؤاد، إذا اعتبر فيه معنى التفؤد، أي: التوقد، يقال: فأدت اللحم: شويته، ولحم فئيد: مشوي. وتخصيص الأفئدة في قوله تعالى: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْ‍ئِدَةِ}، تنبيه على فرط تأثير له". قوله: (أو تُطالع على سبيل المجاز معادن مُوجبها)، وفي اختصاص لفظ "معادن" تلويح إلى عكس معنى قوله? : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، ولما كانت أفئدة هؤلاء محل مقر الرجس والخبث من العقائد الفاسدة الموجبة للنار، وأُقر بدء إحراق كل أحد على قدر استحقاقه، قيل: تطالع على المجاز معادن مُوجبها. وفي "التيسير": قال أبو سعيد: إنها تعلم مقدار ما يستحق كل منهم من العذاب، لما كان في قلبه من الكفر والعقائد الفاسدة، من قولك: اطلع فلان على أمرنا، أي: وقف عليه، وعَلمَه، أي: جعلها الله بحيث

(مُؤْصَدَةٌ) مطبقة. قال: تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة وقرئ: (في عمد) بضمتين، و (عمد)، بسكون الميم، و (عمد) بفتحتين. والمعنى: أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد، استيثاقًا في استيثاق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحرق كل أحد على استحقاقه، لا تزيد ولا تنقص، كأنها وقفت على مبلغ استحقاقه، قال: ولما جاز وصفها بالتغيظ وبأنها تدعو من أدبر وتولى، جاز وصفها بهذا. قوله: ({مُّؤْصَدَةٌ}: مطبقة)، الراغب: "الوصيدة: حجرة تجعل للمال في الجبل، يقال: أوصدت الباب وآصدته: أطبقته وأحكمته، قال تعالى: ({عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}، وقرئ بالهمز". قوله: (وقرئ: "في عُمُد")، أبو بكر وحمزة والكسائي: بضمتين، والباقون: بفتحتين. قوله: (وتُمدد على الأبوا العُمُد)، قيل: على هذا: {فِي عَمَدٍ} حال من الضمير في {مُّؤْصَدَةٌ}، أعني العائد إلى الأبواب، وعلى قوله: "موثقين في عمد": حال من الضمير في: {عَلَيْهِمْ}.

ويجوز أن يكون المعنى: أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممدّدة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص، اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الهمزة"، أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (مثل المقاطر)، الجوهري: "المقطرة وهي الفلق، وهي خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المحبوسين". وقلت: الوجه الأول مناسب لما روي أن الآية نزلت في أخنس بن شريق، أو أمية بن خلف، أو الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله? ؛ فإنه تعالى لما بين أن {الْحُطَمَةِ}، هي النار التي تطالع معادن موجبها، أتبعه قوله: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}، أي: النار طالعت على استحقاق هؤلاء بسبب اغتيابهم خير البشر، فكانت عليهم مؤصدة مطبقة، فأكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد. والثاني موافق لأن يراد بقوله: {لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} العموم، وهو المشار إليه بقوله: "وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك"، لأنه يطعن في أعراض الناس، كاللص الذي يسرق أموالهم؛ فعلى هذا، يلزم خلودهم في النار. تمت السورة * ... * ... *

سورة الفيل

سورة الفيل مكية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ)] 1_ 5 [ روى أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بني كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الفيل مكية، خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (الأشرم)، الشرم: قطع الأرنبة وثفر الناقة، قيل: سُمي أشرم، لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه.

فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلًا، فأغضبه ذلك. وقيل: أججت رفقة من العرب نارًا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود، وكان قويًا عظيمًا، واثنا عشر فيلًا غيره. وقيل: ثمانية، وقيل: كان معه ألف فيل، وكان وحده؛ فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول؛ فأرسل الله طيرًا سودًا، وقيل: خضرًا، وقيل: بيضًا، مع كل طائٍر حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل؛ ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتًا بين يديه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فقعد فيها ليلاً)، كناية، أي: قضى حاجته. قوله: (المُغمس)، قيل: موضع بين مكة ومنى. قوله: (وعبأ جيشه)، الجوهري: "عبيت الجيش تعبية وتعبئة وتعبيئاً، إذ هيأته في مواضعه، وقال أبو زيد: عبأته، بالهمز". قوله: (ودوي أبرهة)، الدوى مقصور: المرض، يقال: منه: دوي بالكسر، أي: مَرِض، وقيل: أي مرض من الدواء. قوله: (وآرابه)، الإرب: العضو، يقال: السجود على سبعة آراب. قوله: (وطائر يُحلق)، تحليق الطائر: ارتفاعه في طيرانه.

وقيل: كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل: بثلاث وعشرين سنة. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه فيها، فجهره وكان رجلًا جسيمًا وسيمًا. وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذي كان في زمن النبي? )، صفة مميزة للنجاشي، قال صاحب "الجامع": "النجاشي: لقب ملك الحبشة، فالذي أسلم وآمن بالنبي? ، هو أصحمة، أسلم قبل الفتح، ومات قبله، وصلى عليه النبي? ". قوله: (بأربعين سنة)، أي: قبل مبعثه، و"بأربعين" خبر بعد خبر من "كان" الأول، أي كان موجوداً وملكاً قبل مبعثه? بأربعين سنة، وهذه الرواية أقرب من "ثلاث وعشرين سنة"، لأنه صلوات الله عليه بإجماع أهل النقل وُلد عام الفيل، وبُعث بعد أربعين سنة، وأسلم النجاشي بعد البعثة في السنة الخامسة، روى ابن الجوزي" وُلد رسول الله? ، يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول عام الفيل". وقال ابن إسحاق: "لاثنتي عشرة ليلة مضت منه"، وعن ابن قتيبة، قال: "أجمعوا على أن رسول الله? ، ولد عام الفيل". قوله: (فيها)، أي: في شأن الإبل واستخلاصها منه. قوله: (فجهره)، الأساس: "رأيته فجهرته واجتهرته، واستجهرته: رأيته عظيم المرآة. وجهرني فلان: راعني بجماله وهيئته".

فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول: لا همّ إنّ المرء يمـ ... ـنع أهله فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك إن كنت تاركهم وكعـ ... ـبتنا فأمر ما بدا لك يا ربّ أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذود أخذ لك)، الذود من الإبل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، كانه قلله وهي كثيرة جداً، تخقيراً وردعاً عن طلبه في تلك الحالة. قوله: (لاهم إن المرء) الأبيات، لاهم: أصله: اللهم. "رِحالك" - ويروى: "حلالك" - جمع حِلة، وهو الموضع الذي يحل فيه الناس. قيل: حلالك، بكسر الحاء: هم القوم المجتمعون المتاجورون، والمراد سكان الحرم. الأساس: "حللت بالقوم وحللت الدار، وهي محلتهم وحلتهم، وحي حلة وحلال: حالون في مكان". قوله: (صليبهم)، يقال: جاء الروم ومعهم الصلبان. والمحالة والمحال: الحيلة، ويقال: المرء يعجز لا محالة. قيل: المحال: العقوبة، وقيل: القوة، من قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]. قوله: (فأمر ما)، زائدة مؤكدة، أو موصولة، أي: الذي بدا لك من المصلحة. في "النهاية":

فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية. وفيه: أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور، وكان سبب يساره. وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها. وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم. وعن عكرمة: من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر. وقرئ: (ألم تر) بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "غدواً" بالغين المعجمة: "الغدو: أصل الغد، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لامه. ولم يستعمل تاماً إلا في الشعر، ومنه قول الشاعر: وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وغدواً بلاقع ولم يُرد عبد المطلب الغد بعينه، وإنما أراد القريب من الزمان". قوله: (الجور)، بفتح الجيم وسكون الواو وبالراء، من نسخة قوبلت بخط المصنف: المال الكثير؛ سمي بذلك لمجاوزته الحد في الجمع. وروي بالحاء والزاي. الجوهري: "الحوز: الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئاً، فقد حازه حوزاً وحيازة، واحتازه". وروي: "الجؤر"، الجوهري: "غيث جؤر، إذا كان غزيراً كثير المطر، وقيل: جؤر مثل نُغر، وأنشدوا: لا تسقه صيب عزف جؤر العزف: دوي الرعد".

والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة. و (كَيْفَ) في موضع نصب بـ (فعل ربك)، لا بـ (ألم تر)؛ لما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال. يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالًا ضائعًا. ومنه قوله تعالى: (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)] غافر: 25 [، وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه، أي: ضيعه، يعنى: أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القليس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه؛ وكادوه ثانيًا بإرادة هدمه، فضلل بإرسال الطير عليهم (أَبابِيلَ) حزائق، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة)، قال القاضي: " {أَلَمْ تَرَ}: خطاب لرسول الله? ، وهو وإن لم يشهد تلك الموقعة، لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها. وإنما قيل: "كيف فعل"، ولم يقل: ما فعل، لأن المراد أن يُذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزة نبيه وشرف رسوله، لأنها من الإرهاصات". وقال الإمام: "الأشياء لها ذوات ولها كيفيات، والكيفيات هي التي يُسميها المتكلمون "وجه الدليل"، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية الكيفيات لا برؤية الذوات، ولهذا قال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6]. ولا شك أن هذه الواقعة كانت تأسيساً لنبوته وإرهاصاً لرسالته"، وهو من الرِّهص: الساق الأسفل من الجدار، وذلك أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة، كإظلال الغمام لرسول الله? ، وتكلم الحجر والمدر معه. قوله: (حزائق)، أي: جماعات. الأساس: "بين يديه حزقة وحزيقة وحزيق، أي: جماعة. ويقال: تتابعوا كأنهم حزق الجراد".

الواحدة: إبالة. وفي أمثالهم: ضغث على إبالة، وهي: الحزمة الكبيرة، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة. وقيل: أبابيل مثل عباديد وشماطيط لا واحد لها، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: (يرميهم) أي: الله تعالى أو الطير؛ لأنه اسم جمع مذكر؛ وإنما يؤنث على المعنى. وسجيل: كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينًا علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأنّ العذاب موصوف بذلك، وأرسل عليهم طيرًا، فأرسلنا عليهم الطوفان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من طيٍن مطبوٍخ كما يطبخ الآجر. وقيل: هو معرب من سنككل. وقيل: من شديد عذابه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ضغث على إبالة)، قال الميداني: "الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ويروى: إيبالة، وبعضهم يقول: إبالةً مخففاً. ومعناه: بلية على أخرى". قوله: (مثل: عباديد وشماطيط)، الجوهري: "العباديد: الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه. والشماطيط: القطع المتفرقة، يقال: جاءت الخيل شماطيط، أي: متفرقة أرسالاً". قوله: (من الإسجال، وهو الإرسال)، الأساس: "هذا مُسجل، أي: مرسل مُطلق، إن شاء أخذه، وإن شاء لم يأخذه. وأُسجلت البهيمة مع أمها: إذا أُرسلت". قوله: (وقيل: من شديد عذابه)، قال الزجاج: "والعرب إذا وصفت المكروه بسجيل، فإنها تعني به الشدة، ولا يوصف به غير المكروه، قال ابن مقبل: ورجلة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصى به الأبطال سجيناً وفي حاشية كتابه: كذا أنشده أبو عبيدة في "مجازه"، وفي شعر ابن مقبل: سجيناً،

ورووا بيت ابن مقبل: ضربا تواصت به الأبطال سجّيلا وإنما هو سجينا، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل، أي: وقع فيه الأكال: وهو أن يأكله الدود. أو بتبن أكلته الدواب وراثته؛ ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن، كقوله: (كانا يَاكُلانِ الطَّعامَ)] المائدة: 75 [أو أريد: أكل حبه فبقى صفرًا منه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفيل، أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو الصواب. الرجلة: جمعة الراجل، وضاحية كل شيء: ناحيته البارزة، سجيناً: صفة "ضرباً"". وفي غير رواية الزجاج: البيض عن عُرُض البيض: السيوف. وعُرض كل شيء، بالغين المعجمة مضمومة: وسطه، وقيل: ناحيته. أي: رب رجلة يضربون السيوف في المعركة عن جوانب مختلفة ضرباً شديداً، كما تواصت به الأبطال. قوله: (كقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75])، يعني: عُبر عن الروث وعن فضلات الإنسان في الآيتين بما ذُكر مراعاة لحُسن الأدب؛ شُبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وفيه مع تلك المراعاة إظهار تشويه حالهم وسوء مآلهم. قوله: (أُكل حبه فبقى صِفراً)، أي: خالياً من الخير. المعنى: كعصف مأكول الحَبّ، كما يقال: فلان حسن، أي: حسن الوجه، حُذف لكونه معلوماً، وهو قول الحسن. تمت السورة

سورة قريش

سورة قريش مكية، وهي أربع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)] 1 - 4 [ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله: (لْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين. فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة قريش أريع آيات، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (فلم دخلت الفاء)، الفاء دلت على الإنكار، أي: إذا كان "لإيلاف" متعلقاً بقوله "فليعبدوا"، فلِمَ دخلت فاء التعقيب بين العامل ومعموله؟ وأجاب أن الفاء جزاء شرط محذوف ولا بد من هذا التقدير؛ لأنه إذا كان التقدير: فليعبدوه لإيلاف قريش، تبقى الفاء

قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم، على معنى: أنّ نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقيل: المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل: هو متعلق بما قبله، أي: فجعلهم كعصٍف مأكول لإيلاف قريش، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر: وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبىّ سورة واحدة، بلا فصل. وعن عمر: أنه قراهما في الثانية من صلاة المغرب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا متعلق لها. ويجوز أن يُحمل على التوكيد والفاء للتعقيب، كما يقال: لِئِلاف قريش ليعبدوه، فليعبدوا، وكذا قوله تعالى: {فَلْيَفْرَحُوا}، وقد مر عن الزبير عن الزجاج جوازه، وعليه قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]، قال: "دخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره". قوله: (لأن المعنى: إما لا فليعبدوه)، روي عن المصنف أنه قال: تقول العرب: افعل هذا إما لا، أي: إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا، و"ما" مزيدة، عوض من "كان" المحذوفة، وقد أمالوا "لا" لأنه ساد مسد الفعل كبلى، ولقيامهما مقام الفعل، ويقال: أعطني هذا إما لا. قوله: (فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف فريش)، قال الزجاج: "المعنى: أهلك الله أصحاب الفيل، لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف". قوله: (في الثانية من صلاة المغرب)، أي: في الركعة الثانية، وفي الركعة الأولى سورة والتين، هذا ظاهر بأنهما سورة واحدة.

وقرأ في الأولى: (والتين). والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم، فلا يجترئ أحد عليهم، وكانت لقريش رحلتان؛ يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يتعرّض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم، والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافا: إذا ألفته، فأنا مؤلف. قال: من المؤلفات الرّهو غير الأوارك وقرئ: (لئلاف قريش) أي: لمؤالفة قريش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (من المؤلفات)، يقال: آلفت المكان أُولفه إيلافاً إذا ألفته، فأنا مؤلف. الزهو غير الإدراك، الزهو: البقل، والزهو أيضاً البُسر الملون. ويقال: زهت الإبل زهواً، إذا سارت بعد الورد ليلة وأكثر. وزهوتها أنا: يتعدى ولا يتعدى. وإبل زاهية: لا ترعى الحمض. وبعضهم يروي: الرهو بالراء، وهو السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهواً. الأوارك جمع آركة، وهي الإبل الآكل للأراك. الجوهري: "أركت إذا قامت في الأراك، وهي الحمض، في آركة، والجمع: أوارك". قوله: (أي: لمؤالفة قريش)، قيل: على هذا، إلاف مصدر فاعل، فيكون بمعنى مؤالفة، نحو: ضارب مضاربة وضراباً.

وقيل: يقال: ألفته إلفًا وإلافًا. وقرأ أبو جعفر: (لإلف قريش)، وقد جمعهما من قال: زعمتم أنّ إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف وقرأ عكرمة: (ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف). وقريش: ولد النضر بن كنانة، سموا بتصغير القرش: وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار. وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى. وأنشد: وقريش هي الّتي تسكن البحـ ... ـر بها سمّيت قريش قريشاً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وقيل)، إشارة إلى أنه مصدر فَعَلَ، نحو: كَتَبَ كتاباً. قوله: (زعمتم) البيت، بعده: [الوافر]: أولئك أُومنوا جوعاً وخوفاً وقد جاعت بنو أسد وخافوا قائله مساور بن هند يهجو بني أسد، ويقول: إنكم لستم من قريش ولا قريش منكم، فدعواكم أخوتهم بهم باطلة؛ لأنهم أُطعموا من جوع وأُومنوا من خوف، ولستم كذلك، قال المصنف رحمه الله: وهذا من أبيات المعاني: المصراع الأول حكاية لدعواهم، والمصراع الثاني احتجاج عليهم وإلزام. قوله: (وقريش هي التي) البيت، بعده على ما رواه الواحدي ومحيي السنة للجمحي: قريش هي التي تسكن البحـ ـر، بها سميت قريش قريشاً تأكل الغث والسمين ولا تتـ ـرك يوماً لذي جناحين ريشا

والتصغير للتعظيم. وقيل: من القرش وهو الكسب: لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد. أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين، تفخيمًا لأمر الإيلاف، وتذكيرًا بعظيم النعمة فيه؛ ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولا به، كما نصب (يَتِيماً) بـ (إطعام)] البلد: 14 [، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله: كلوا في بعض بطنكم وقرئ: (رحلة) بالضم: وهي الجهة التي يرحل إليها. والتنكير في (جُوعٍ) و (خَوْفٍ) لشدتهما، يعنى: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقيل: كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. ....... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلاً كميشا ولهم آخر الزمان نبي يُكثر القتل فيهم والخُموشا قوله: (كما نُصب {يَتِيمًا}، بـ {إِطْعَامٌ} [البلد: 14])، قال أبو البقاء: " {يَتِيمًا} مفعول {إِطْعَامٌ}، وذهب بعض البصريين إلى أن المصدر إذا عمل في المفعول، كان فيه ضمير كالضمير في اسم الفاعل". قوله: (وهي الجهة التي يُرحل إليها)، وفي الكواشي: "أصل الرحلة السير على الراحلة، ثم استعمل لكل سير".

وقيل: ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه. ومن بدع التفاسير: وآمنهم من خوف، من أن تكون الخلافة في غيرهم. وقرئ: (من خوف) بإخفاء النون. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (لإيلاف قريش)، أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمت السورة * ... * ... *

سورة الماعون

سورة الماعون مكية، وقيل مدنية، وهي سبع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)] 1 - 7 [ قرئ: أريت، بحذف الهمزة، وليس بالاختيار؛ لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب: ريت، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الماعون مدنية، وهي ست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (قرئ: "أَرَيْتَ")، قراءة الكسائي، قال: "إنما سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام"، أي: إذا وقع في أوله حرف الاستفهام، ثقل همزة أخرى بعدها، فحذف.

ولكنَّ الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام، ونحوه: صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ الضّرع ما قرى في الحلاب؟ وقرأ ابن مسعود: (أرأيتك) بزيادة حرف الخطاب، كقوله: (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)] الإسراء: 62 [. والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ إن لم تعرفه (فَذلِكَ الَّذِي) يكذب بالجزاء، هو الذي (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، أي: يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوةٍ وأذًى، ويردّه ردًّا قبيحًا بزجٍر وخشونة. وقرئ: (يدع)، أي: يترك ويجفو، (وَلا يَحُضُّ) ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (صاح) البيت، وفي معناه قول أبي الطيب: وما مضى الشباب بمسترد ... وما يوم يمر بمُستعاد أصله: يا صاحب، فرُخم. والقَري جمع الماء في الحوض. والعلبة القدح الذي يُحلب فيه، من الخشب، والجمع: عُلب وعِلاب، يقول: يا صاحب، هل رأيت أو سمعت براع رد إلى الضرع ما حلب من اللبن، وجمعه في القدح. قوله: (أرأيتك، بزيادة حرف الخطاب)، عن بعضهم: أُكد معنى الخطاب في التاء بالكاف. قوله: ({وَلَا يَحُضُّ}: ولا يبعث أهله)، الراغب: "الحضُّ: التحريض كالحث، إلا أن الحث يكون بسير وسوق، والحضُّ لا يكون بذلك. وأصله: الحث على الحضيض وهو قرار الأرض".

جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، يعنى: أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه: علم أنه مكذب، فما أشده من كلام، وما أخوفه من مقام، وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين، ثم وصل به قوله (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) كأنه قال: فإذا كان الأمر كذلك، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ......... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الذين يسهون عن الصلاة)، الراغب: السهو خطأٌ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما أن يكون من الإنسان جوالبه ومُولداته، كمن شرب خمراً ثم ظهر منه منكر لا عن قصد. والثاني أن لا يكون منه مُولداته، كمجنون سب إنساناً؛ فالثاني معفو عنه، والأول مأخوذ به، وعلى نحو الأول ذم الله تعالى فقال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}. قوله: (أو لا يُصلونها)، عطف على قوله: "يَسهون عن الصلاة"، كأنه قال: المراد بقوله: {عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}: إخراجها عن وقتها قلة مبالاة، أو ترك أبعاضها وهيآتها وآدابها والطمأنينة فيها غفلةً وسهواً، ولذلك قال: "ولكن ينقرونها نقر الطائر الحبة". عن أبي داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن شبل: "نهى رسول الله? عن نقرة الغُراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان كما يوطن البعير". وعن البخاري والنسائي عن زيد بن وهب، قال: "رأى حذيفة رجلاً يصلي فطفف، فقال له حذيفة: مُذ كم تصلي هذه

ولكن ينقرونها نقرًا من غير خشوع وإخباٍت ولا اجتناٍب لما يكره فيها: من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدرى الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السور، وكما ترى صلاة أكثر من ترى، الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم. والمعنى: أنّ هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين، والفارق بين الإيمان والكفر، والرياء الذي هو شعبة من الشرك، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام، علمًا على أنهم مكذبون بالدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة. قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة، مت على غير فطرة محمد? ، ثم قال: إن الرجل ليُخفف ويُتم ويُحسن". قوله: (والرياء ... ومنع الزكاة)، هما مرفوعان على العطف على اسم "يكون"، وهو "سهوهم". والخبر: "علماً"، فيقدر للمعطوف عليهما مثل هذا الخبر، على منوال قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأيُ مختلف وإنما جُعل المذكورات علماً على أنهم مكذبون بالدين، لما قال آنفاً، ثم وُصل به قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}، أي: وُصل به اتصال المسبب بالسبب، والجزاء بالشرط، على سبيل الترقي، كأنه قيل: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ فإن لم تعرفه، فاعرف أنه الدافع لليتيم المانع يره، وهل عرفت أعظم من ذلك وأدهى منه؟ فإن تارك الصلاة والزكاة والمرائي أعظم منه، لأن العبادة هي المقصودة بالذات من خلق العالم. فعلى هذا، الواجب أن يفسر {الْمَاعُونَ} بمنع الزكاة، تتميماً لذكر الصلاة لا ترقياً، فثبت أن إنكار الجزاء هو الأصل في إبطال الحكمة في خلق السموات والأرض، وشرعية العبادات، والحض على سائر المبرات والخيرات، والعياذ بالله من ذلك.

وكم ترى من المتسمين بالإسلام، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة، فيا مصيبتاه! وطريقة أخرى: أن يكون (فَذلِكَ) عطفًا على (الَّذِي يُكَذِّبُ) إمّا عطف ذاٍت على ذات، أوصفةٍ على صفةٍ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام: "اعلم أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة، الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لما صدر عنه ذلك؛ فموجب الذنب هو التكذيب بالقيامة". قوله: (إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة)، وعلى الوجه الأول، الفاء جواب شرط محذوف لقوله: "إن لم تعرفه فذلك"، أي: فاعرف أنه ذلك الذي يكذب بالجزاء، فالتعريف في "الذي"، على تقدير الذات للعهد، وعلى تقدير الوصف يحتمل الجنس أيضاً، ولذلك اختلف المفسرون: عن مقاتل: الذي يكذب بالدين، هو العاص بن وائل. وعن السدي ومقاتل: هو الوليد بن المغيرة. وعن ابن عباس: رجل من المنافقين. هذا في "المعالم". وفي الكواشي: "لا تقف على {الْمِسْكِينِ} إن جعلت {الَّذِى} جنساً، وجعلت "المصلين" داخلاً في جملة الكلام. ويكون جواب "أرأيت" - أي متعلقه- محذوفاً، تقديره: ما تقول فيمن يكذب بالحق ويدفع اليتيم ويؤذي المسكين؟ أحسن فعل؟ ! فويل لهم، فوضع "المصلين" موضع لهم". قلت: من هذا يعلم أن قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}، على الأول منقطع عن الكلام السابق، من حيث إن المراد بالمصلين غير المكذب بالدين، لأنه الكافر كالوليد والعاص، و"المصلون": المسلمون. وإنما جعل المنع بالمعروف والإقدام على إيذاء الضعيف علماً للتكذيب بالجزاء، ليؤذن بأنهما من الشدة والغلظة بمكان ينبغي أن يحترز المؤمنون عن أمثالهما، لأنهما من أوصات الكافرين المكذبين بيوم الدين، وإليه الإشارة بقوله: "فما أشده من كلام، وما أخوفه من مقام! ، وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان".

ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفًا لدلالة ما بعده عليه، كأنه قيل: أخبرني، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء؟ وفيمن يؤذى اليتيم ولا يطعم المسكين؟ أنعم ما يصنع؟ ثم قال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أي: إذا علم أنه مسيء، فويل للمصلين، على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم؛ لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين، غير مزكين أموالهم. فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائمًا مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع، لأنّ المراد به الجنس. فإن قلت: أي فرٍق بين قوله: (عَنْ صَلاتِهِمْ) وبين قولك: (فِي صَلاتِهِمْ)؟ قلت: معنى: (عَنْ): أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى (فِي): أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلًا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذي يدل على أن المراد بالمصلين غير المكذب، قوله: "ثم وصل به قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} "، كأنه قال: "فإذا كان الأمر كذلك، فويل للمصلين الذين يسهون"، حيث ذكر لفظ "الأمر"، ولم يذكر أن "المصلين" من وضع المظهر موضع المضمر بخلافه في الوجه الأخير، فإنه قال: "أي: إذا عُلم أنه مسيء فويل للمصلين، على معنى: فويل لهم". فعلى هذا، المراد بالمصلين: المكذب كما قال: "لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة"، قال الإمام: "فعلى هذا التقدير، الآية دالة على أن الكافر له مزيد عقوبة، بسبب إقدامه على محظورات الشرع، وتركه لواجبات الدين، وهو يدل على صحة قول الشافعي: إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع".

وعن أنس رضي الله عنه: الحمد لله على أن لم يقل: في صلاتهم. وقرأ ابن مسعود: (لاهون). فإن قلت: ما معنى المراءاة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (وعن أنس: الحمد لله على أن لم يقل: في صلاتهم)، قال الإمام: "روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: لو قال تعالى: في صلاتهم ساهون، لكان هذا الوعيد في المؤمنين أولى، لكنه قال: عن صلاتهم ساهون. والساهي عن الصلاة هو الذي لا يذكرها، ويكون فارغاً عنها. وهذا القول ضعيف، لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسراً بترك الصلاة، لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}، وأيضاً فإن السهو عن الصلاة بمعنى الترك، لا يكون نفاقاً ولا كفراً. ويمكن أن يجاب عن الأول، بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مصلين نظراً إلى الصلاة، وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظراً إلى المعنى، كما قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] ". وقلت: ويمكن أن يقال: إن المراد بالمصلين، مَن مِن شأنه أن يؤدي ما عليه من شكر نعم الله، ولذلك أضافها في قوله "عن صلاتهم" إليهم، ليؤذن بأنها حق ثابت لازم على المكلف، ومن حقه أن لا يتجاوز عن الإقامة عليها وحفظ أركانها وهيئاتها وسُننها، إلى السهو فضلاً عن الترك. هذا مبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. وقال الإمام: "ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة، هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة، وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أن لا فائدة في الصلاة. وأما المسلم الذي يعتقد فيها الفوائد، فيمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزائها. نعم، قد يتطرق له السهو في بعض أجزائها، فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن، وعن الصلاة من أفعال الكافر".

قلت: هي مفاعلة من الإراءة، لأنّ المرائي يرى الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائيًا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضةً، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ولا غمة في فرائض الله"؛ لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين؛ ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار؛ وإن كان تطوعًا، فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه؛ فإن أظهره قاصدًا للاقتداء به كان جميلًا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فيثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلًا في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك؛ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة؛ على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود». "الْماعُونَ" الزكاة، قال الراعي: قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ولا غُمة)، يروى: ولا غرر في فرائض الله. النهاية: "في حديث وائل بن حُجر: أي: ولا تُستر وتُخفى فرائضه، وإنما تظهر وتُعلن ويُجهر بها". قوله: (قوم على الإسلام) البيت، المانعون فيه الزكاة، تعريض بأهل الردة، أي: لسنا من أهل الردة حتى تُعاملونا معاملتهم.

وعن ابن مسعود: ما يتعاون في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها. وعن عائشة: الماء والنار والملح؛ وقد يكون منع هذه الأشياء محظورًا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، وقبيحًا في المروءة في غير حال الضرورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (أرأيت)، غفر الله له إن كان للزكاة مؤديًا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ما يُتعاور في العادة)، الجوهري: "اعتوروا الشيء، أي: تداولوه فيما بينهم، وكذلك تعوّروه وتعاوروه". تمت السورة * ... * ... *

سورة الكوثر

سورة الكوثر مكية، وهي ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)] 1 - 3 [ في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أنطيناك" بالنون، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: «وأنطوا الثبجة». والكوثر: فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الكوثر ثلاث آيات، مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وأَنطوا الثَّبَجَة)، النهاية: "وهي لغة اليمن. كتب صلوات الله عليه لوائل: أنطوا الثبجة، أي: أعطوا الوسط من الصدقة، لا من خيار المال ولا من رُذالته، وألحقها تاء التأنيث لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية".

وقيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. وقال: وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا وقيل: الْكَوْثَرَ نهر في الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال: «أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربى، فيه خير كثير»، وروى في صفته: "أحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد؛ حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ابنَ العَقائِل)، أي: المختارُ من النساء، وعقيلةُ كلِّ شئٍ أكرمُه. والكوثَرُ من الرجالِ: الكثيرُ الخيرِ والعطاء. والبيتُ للكُميت. قولُه: (إنه نهرٌ في الجنّة)، روينا في صحيحِ البخاري، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباس، قالَ في الكوثر: «هو الكثيرُ الخير». قيلَ لابنِ جبير: فإنّ الناسِ يزعمونَ أنه نهرٌ في الجنة؟ فقالَ سعيد: «النهرُ الذي في الجنّةِ، من الخيرِ الذي أعطاه اللهُ تعالى إياه». وعن أحمدَ بنِ حنبلٍ والترمذي وابنِ ماجه والدرامي، عن ابنِ عمرَ قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «الكوثرُ نهرٌ في الجنّة، حافَتَاه من ذهب، ومَجْراه على الدُّرِّ والياقوت، تُرْبتُه أطيبُ من المِسْك، ومَاؤُه أحلى من العسل، وأبيضُ من الثلج». وفي حديثِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: «شاطئاه دُرٌّ مُجَوَّف، وآنيتُه كعددِ نجومِ السماء»، أخرجه البخاري.

وروي: "لا يظمأ من شرب منه أبدًا: أول وارديه: فقراء المهاجرين: الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد"، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرّه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لا تُفتحُ لهم أبوابُ السُّدَد)، الحديثُ من روايةِ الترمذيّ عن ثوبان، أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «حوضي مثلُ ما بينَ عَدَنٍ إلى عَمّان البلقاء، ماؤُه أشدُّ بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل، وأكوابُه عددُ نجومِ السماء، مَنْ شربَ منه لم يَظمأ بعدَها أبدًا، أولُ الناسِ ورودًا علىَّ فقراءُ المهاجرين، والشُّعثُ رؤوسًا، الدُّنْسُ ثيابًا، الذين لا يَنْكحون المتنعّمات، ولا تُفتح لهم أبوابُ السُّدَد». وقال الترمذي: قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز: قد نَكَحتُ المتنعّماتِ فاطمةَ بنَ عبد الملك، وفُتحتْ لي أبوابُ السُّدَد. لا جرمَ لا أغسلُ رأسي حتى يَشْعث، ولا ثوبي الذي يَلي جسدي حتى يَتّسخ. وفي "الجامع": «السُّدَدُ جمعُ سُدّة، وهي البابُ ها هنا». وفي "النهاية": «السُّدَةُ كالظُلّةِ على البابِ لتقيَ البابَ من المطر، وقيل: هي السّاحةُ بين يدي الباب، وقيل: هي البابُ نفسُه، أي: لا تفتحُ لهم الأبواب. وفي حديثِ أبي الدّرداء، أنه أتى بابَ معاويةَ فلم يُؤذنْ له، فقالَ: من يَغْشَ سُدَدَ السلطانِ يَقُمْ ويَقْعد». وقلتُ: الأشبهُ أن تُحملَ الإضافةُ في أبوابِ السُّددِ على البيان، فيكنّى بها عن أبوابِ الملوكِ والعظماء، على أنْيرادَ بالسُّدةِ الظُلّةُ أو الساحة. قولُه: (لو أقسمَ على الله لأبرّه)، قالَه صلواتُ اللهِ عليه في حديثِ الرُّبَيِّعَ، روينا عن البخاري ومسلمٍ وأبي داودَ والنسائي، عن أنسِ بنِ مالك، أنّ الرُّبَيِّعَ عَمّتَه كسرتْ ثَنِيّةَ جارية، فَطَلبوا إليها العفوَ فأبَوا، فَعرضوا الأَرْشَ فأبَوا، فأتوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأَبوا إلّا

وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إن ناسا يقولون: هو نهر في الجنة! فقال: هو من الخير الكثير. والنحر: نحر البدن؛ وعن عطية: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقيل: صلاة العيد والتضحية. وقيل: هي جنس الصلاة. والنحر: وضع اليمين على الشمال، والمعنى: أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطى ذلك كله أنا إله العالمين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القِصاص، فأَمرَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بالقِصاص، فقالَ أنسُ بنُ النَّضر: يا رسولَ الله، أتُكسرُ ثَنيةُ الرُّبَيِّع؟ لا، فرضيَ القومُ فعَفَوا، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنّ من عباِ الله مَن لو أقسمَ على اللهِ لأبَّره. معناه: لو سألَ اللهَ لأجابَه. والإقسامُ ها هنا بمعنى الاستعطاف. قولُه: (ومُعْطي ذلك كلِّه أنا إلهُ العالمين)، إيذانٌ باختيارِ قولِ ابنِ عباس: إنّ الكوثرَ الخيرُ الكثير، وبإفادةِ ضميرِ الجمعِ الدالِّ على العظمةِ والكبرياء، فإن قائلَه ليسَ إلّا إلهَ العالمين، وأنّ المُعطي لم يكن عظيمًا، إلّا أنّ المُعطي عظيم. ولأجلِ تَيْنِك المناسبتين، رُتّبَ عليه قولُه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}، وَوُضعَ المظهرُ موضعَ المضمر، يعني: كما أنّ المعطي والمعطي عظيمان، فأتِ أنتَ بأعظمِ ما يمكنُ من العباداتِ البدنيةِ والمالية. وإنما أُوثرَ النحرُ ليُدمجَ معنى معطي قطعِ النفسِ عن اللذاتِ العاجلة، ضُمّ مع ذلك {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} تكميلًا لِما بشَّره، قالَ الإمام: «لمّا بَشّره بالنِّعم العظيمة، وقد علمَ أن كمال ذلك إنما يكونُ بقهرِ الأعداء، قيل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}». نَقلَ السُّلميُّ عن جعفرِ الصادق: «إنّا أعطيناك نورًا في قلبك دَلَّكَ عَلَيّ، وقَطَعَك عمّا سواي. وعن القاسمِ: إنّ شانئَك المنقطعُ عن خيراتِ الدّارين»، واللهُ أعلم.

فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان: إصابة أشرف عطاء، وأوفره، من أكرم معط وأعظم منعم؛ فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك من منن الخلق، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله. (وانحر) لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفا لهم في النحر للأوثان. (إِنَّ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم، (هُوَ الْأَبْتَرُ) لا أنت؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويثنى بذكرك، ولك في الآخرة مالا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له: أبتر، وإنما الأبتر هو شانئك المنسى في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن. وكانوا يقولون: إنّ محمدا صنبور، إذا مات مات ذكره. وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقد سماه الأبتر، والأبتر: الذي لا عقب له، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والمَنَار)، النهاية: «المنَارُ جمع مَنارَة، وهي العلامةُ بين الحدَّيْن. ومنه حديثُ أبي هريرة: "إنّ للإسلامِ صُويّ ومَنارًا"، أي: علاماتٍ وشرائعَ يعرفُ بها». وقيل: المنائرُ: جمعُ المنارةِ التي يُؤذّنُ عليها، والأصلُ: مَناوِر؛ لأنه من النور، بُدّلَ الهمزةُ من الواو، وقد يُشَبَّهُ الأصليُّ بالزائد، كما قالوا: مَصائب، وأصلُه: مَصاوب. قولُه: (فمثلُك لا يقالُ له: الأبتر)، وهو نحوُ قولك: "مثلُك لا يَبْخل" في الكناية، أي: مَن هو في صفتِك، مِن أن كلِّ مَن يولدُ من المؤمنين إلى آخرِ الدَّهر أولادٌ له، لا يقالُ له: الأبتر. قولُه: (صُنْبور)، النهاية: «الأبترُ الذي لا عَقِب له. وأصلُ الصُّنْبورِ سَعَفةٌ تَنْبتُ في جِذْعِ النخلةِ لا في الأرض. وقيل: هي النخلةُ المنفردةُ التي يَدِقُّ أسفلُها. أرادوا أنه إذا قُلعَ انقطعَ ذِكرُه، كما يَذْهبُ أثرُ الصُّنبورِ، لأنه لا عقبَ له».

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكوثر، سقاه الله من كل نهر في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (أَوْ يُقَرِّبونَه)، عن بعضهم: "أو" للتنويع. تَمَّتِ السُّورة *****

سورة الكافرون

سورة الكافرون مكية، وهي ست آيات ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)] 1 - 6 [ المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روى أنّ رهطا من قريش قالوا: يا محمد، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الكافرون مكية، وهي ست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولُه: (ونَتَّبعُ)، عن بعضِهم: هو عطفٌ على محلِّ "فاتَّتبعْ"، لأنه لو كان مضارعًا لكان مجزومًا، أنه جوابُ "هَلُمَّ". وقولُه: "نعبدُ" إلى آخره، تفسير.

فقال: (معاذ الله أن أشرك بالله غيره) فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت؛ فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم؛ فأيسوا. (لا أَعْبُدُ) أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن (لا) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، ألا ترى أن (لن) تأكيد فيما تنفيه (لا). وقال الخليل في (لن): إنّ أصله (لا أن) والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي. (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي: وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه، يعنى: لم تعهد منى عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى منى في الإسلام. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. فإن قلت: فهلا قيل: ما عبدت، كما قيل: ما عبدتم؟ قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فاستلمْ)، أَيْ: قَبِّلْ؛ يقال: استلمِ الحجرَ، أي: صافحْه، ثُمّ عَمَّ في كلِّ مُماسّة. قولُه: (فَهلّا قيل)، يعني: قولُه: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، قرينةٌ لقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}، فلِمَ خولِفَ في الثانية إلى {مَا أَعْبُدُ}، وكان الظاهر {مَا عَبَدْتُ}، كما قيل في الأولى {مَا عَبَدْتُمْ}؟ قولُه: (وهو لم يكنْ يعبدُ اللهَ تعالى في 1 لك الوقت)، الانتصاف: «هذا القولُ خطأٌ أصلًا وفرعًا، أما أصلُه فإنّ القدريّ يعتقدُ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يكنْ قبلَ البعثِ على دينِ نبيٍّ قبلَه، لأن ذلك غَميزةٌ في حقّه ومنفّرٌ عن اتّباعه، ويعتقدون أن الناسَ كلَّهم متعبّدون بمقتضى العقلِ بوجوبِ النظرِ في آياتِ الله وأدلّةِ توحيدِه ومعرفتِه، وأنّ وجوبَ النظرِ بالعقلِ لا بالسمع؛

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فتلك عبادةُ قبل المبعث، يجبُ أن لا يظنوا به عليه السلامُ الإخلالَ بها فأصلُهم حينئذٍ يقتضي أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ قبلَ المبعثِ يعبدُ اللهَ عز وجل، فحافظَ الزمخشريُّ [على] هذا الأصلِ في عدمِ اتْباعِه لنبيٍّ سابق، فأخلَّ بالتفريعِ على أصلِه الآخرِ في وجوبِ العبادةِ بالعقل. والحقُّ أنه -صلى الله عليه وسلم- كانَ متعبدًا قبلَ الوحي ويَتَحنّثُ في غارِ حراء؛ فإنْ كانَ مجئُ قولِه {أَعْبُدُ}، لأن الماضي لم تحصلْ فيه العبادةُ المرادةُ في الآية، فيحملُ الأمرُ فيما عَبَدْتُ، على مدموعِ العبادةِ الحاصلةِ التي لم تُعلمْ إلّا بالشرع، لا على مجرّدِ توحيدِ الله ومعرفتِه؛ فإنّ ذلك لم يَزلْ ثابتًا له عليه السلامُ قبل البعثة. وأما مجيئُه مضارعًا، فلتصوير عبادتِه في نفسِ السامعِ وتَمكُّنِها، كقولِه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، والأصلُ: أصبحتْ؛ عُدلَ عنه للمعنى المذكور». وقلتُ: يجوزُ أن يُحملَ على الاستمرارِ في الماضي والآتي بقرينةِ التقابل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر: 29]، بعطفِ الماضي على المستقبل. والصحيحُ أنه صلواتُ الله عليه كانَ المبعثِ متعبدًا بشرعٍ. روى ابنُ الجوزي في كتابِ "الوفا"، عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رحمه اللهُ تعالى: «مَن قالَ: إن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ على دينِ قومِه، فهو قولُ سوء، أليسَ انَ لا يأكلُ ما ذُبحَ على النُّصب؟ وقالَ أبو الوفاءِ عليٌّ بنُ عقيل: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- متدينًا قبلَ بعثتِه، بما يَصحُّ عنده أنه مِن شريعةِ إبراهيم عليه السلام، وأما بعدَ بعثتِه، فهل كانَ يتعبّدُ بشريعةِ مَن قبلَه؟ فيه روايتان: إحداهما: أنه كانَ متعبدًا بما صَحَّ مِن شرائعِ مَن قبلَه بطريقِ الوحيِ إليه،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا من جهتِهم ولا نَقلِهم ولا كتبهم المنزلة، واختارها أبو الحسن التميميُّ، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ رحمهم الله. والروايةُ الثانية: أنه لم ينْ متعبدًا بشئٍ من الشرائعِ، إلّا ما أُوحيَ إليه من شريعتِه، وهو قولُ المعتزلةِ والأشعرية. ولأصحابِ الشافعيّ وجهانِ كالروايتين. واختلفَ القائلون بأنه متعبدٌ بشرعِ مَن قبلَه: بأيِّ شريعةٍ كان متعبدًا؟ قالَ بعضُهم: بشريعةِ موسى عليه السلام إلّا ما نُسخَ في شرعنا. وظاهرُ كلامِ أحمدَ رحمه الله تعالى، أنه كانَ متعبدًا بكلِّ ما صَحَّ أنه شريعةٌ لنبيٍّ قبلَه، ما لم يثبتْ نسخْه، لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. وقالَ ابنُ قتيبة: لم تَزلِ العربُ على بقايا من دينِ إسماعيلَ عليه السلام، من ذلك: حجُّ البيت، والخِتان، وإيقاعُ الطلاقِ إذا كان ثلاثًا، وأن للزوجِ الرّجعةَ في الواحدةِ والاثنين، ودِيّةُ النفسِ مئٌ من الإبل، والغُسلُ من الجنابة، وتحريمُ ذواتِ المحارمِ بالقرابةِ والصِّهر، فكانَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على ما كانوا عليه من الإيمانِ بالله والعملِ بشرائعهم. وأما قولِه تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، يُعنى به: شرائعُ الإيمان، ولم يُردْ به الإيمانُ الذي هو الإقرارُ بالله». تَمَّ كلامُ ابن الجوزي. وقلتُ: غرضُ المصنفِ من ارتكابِ هذا المحظور، دَفعُ التكرارِ من الكلام باختلافِ الزمانينِ المستقبلِ والماضي؛ فإنه جَعلَ القرينتينِ الأوليينِ للاستقبال والأخُريين للماضي، ولذلك توجّهَ عليه السؤال. والأوجَهُ أن يقال: إن الكلامَ ما وقع في عبادةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أيُّ شئٍ عبد فيما مضى من الزمان، بل وقع فيما يُستقبل، كما يشهدُ له سَببُ النزولِ بقوله: {مَا أَعْبُدُ}، على ظاهره. وأما قولُه: {مَا عَبَدْتُمْ} على الماضي، فللمبالغةِ مِن التبرّي عنهم وعن عبادتهم، فهو على خلافِ الظاهر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالَ الإمام: «في الآيةِ قولان: الأولُ: أنه لا تكرارَ فيها، وفيه وجوه: أحدهُا أنّ الأولَ للاستقبال، لأن "لا" لا تدخلُ إلّا على مضارعٍ في معنى الاستقبال، أي: لا أفعلُ في المستقبلِ ما تطلبونه مني من عبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبلِ ما أطلبُ منكم من عبادةِ إلهي، ثمّ قالَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}، أي: لستُ في الحالِ بعابدٍ معبوديكم، ولا أنتم في الحالِ بعابدين معبودي. وثانيها: أن يُقلب، فيجعلَ الأولُ للحالِ والثاني للاستقبال، وعليه كلامُ الزجاجِ والواحدي ومحيي السُّنة؛ قال الواحدي: «وإنما جئَ بـ"ما" بدلَ "من" ليقابلَ قولَه {مَا تَعْبُدُونَ} حملًا للثاني على الأول». وقال الزجاجُ ومحيي السُّنة: «هذا خطابٌ لمن سبقَ في علمِ الله أن لا يؤمن». وثالثُها: قولُ أبي مسلم: المقصودُ من الأُولَيينِ المعبود، و"ما" بمعنى "الذي"، أي: لا أعبدُ الأصنامَ ولا تعبدونَ الله، وفي الأُخريَيْنِ "ما" مصدرية، أي: ولا أنا عابدٌ مثلَ عبادتكم المبنيّةِ على الشك، ولا أنتم عابدون مثلَ عبادتي المبنيّةِ على اليقين. ورابعُها: أن تُحملَ الأولى على نفي الاعتبارِ الذي ذكروه، والثانيةُ على العامِ بجميعِ الجهات، أي: لا أعبدُ ما تعبدون رجاءَ أن تعبدوا الله، ولا أنتم عابدون رجاءَ أن أعبدَ صنمَكم، ثم قال: ولا أنا عابدٌ صنمَكم لغرضٍ من الأغراض، بوجهٍ من الوجوه، وكذا أنتم لا تعبدون اللهَ لغرضٍ من الأغراض؛ مثالُه: مَن يدعو غيرَه إلى الظلمِ لغرضِ التنعّم، فيقول: لا أظلمُ لغرضِ التنعّم، بل لا أظلمُ أصلًا، سواءٌ كان للتنعّمِ أو غيرِه.

فإن قلت: فلم جاء على (ما) دون (من)؟ قلت: لأن المراد الصفة، كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق. وقيل: إن (ما) مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي. (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم شرككم، ولى توحيدي. والمعنى: أنى نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعوني، فدعوني كفافًا ولا تدعوني إلى الشرك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والقولُ الثاني: هو أن يُسلَّمَ حصولُ التكرار، وهو لوجهين: أحدُهما أن التكرارَ يفيدُ التوكيد، وكلّما كانتِ الحاجةُ إلى التوكيدِ أشدَّ كانَ التكريرُ أحسن، ولا موضعَ أحوجُ إلى التأكيدِ من هذا المقام؛ لأنهم رجعوا إليه في هذا المعنى مرارًا، وطمعوا فيه لما رأوا فيه من الحرصِ على إبمانهم. وقالَ محيي السُّنة: «قالَ أكثرُ أهلِ العلم: إن القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ وعلى مجاري خطابِهم، ومن مذاهبِهم التكرارُ وإرادةَ التأكيدِ والإفهام، كما أن من مذاهبِهم الاختصارَ للتخفيفِ والإيجاز». وقلتُ: هذا الوجهُ هو الذي اخترناه لطباقِه المقام، ثُمّ المختارُ الوجهُ الرابعُ من القولِ الأول. وثانيهما: أنهم ذكروا تلك الكلمةَ مرتين، يعني: تعبدُ آلهتَنا شهرًا ونعبدُ إلهك شهرًا، وتعبد آهتَنا سنةً ونعبدُ إلهك سنة، فأتى الجوابُ على التكرار على وفِق قولِهم، وفيه ضَربُ من التهكُّم؛ فإنّ مَن كرّرَ الكلمةَ الواحدةَ لغرضٍ فاسد، فإنه يُجازى لدفعِ تلك الكلمةِ على سبيلِ التكرارِ استخفافًا». نقل هذا الوجهَ محيي السُّنةِ عن القُتَيْبي، أخصر منه. قولُه: (فَدَعوني كَفافًا)، النهاية: «الكَفافُ هو الذي لا يفضُلُ عن الشئ، ويكونُ بقَدرِ

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الكافرون"، فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبريء من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحاجةِ إليه، وهو نصبٌ على الحال. وقيل: أرادَ به مكفوفًا عنِّي شَرُّهم. وقيل: أن لا تنالوا منّي ولا أنا أنالُ منكم، أي: تكفّونَ عني وأكفُّ عنكم». فإذن، في قولِه {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} معنى المُتاركةِ وتقريرُ كلِّ من الفريقين الآخرَ على دينه، فيكون منسوخًا بآيةِ القتال. وقال القاضي: «ولي ديني الذي أنا عليه لا أرفضُه، فليس فيه إذنٌ في الكفرِ ولا مَنعٌ عن الجهاد، فلا يكونُ منسوخًا». وقد فُسِّرَ "الدِّينُ" بالحسابِ والجزاءِ والدعاءِ والعبادة. قولُه: (فكأنما قرأ ربع القرآن)، روينا عن الترمذي، عن ابنِ عباسٍ وأنس، قالا: قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، عَدلتْ له رُبعَ القرآن». تَمّتِ السُّورَة *************

سورة النصر

سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) 1 - 3) (إِذا) منصوب بـ (سبح)، وهو لما يستقبل. والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة. روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع. فإن قلت: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ قلت: النصر الاغاثة والاظهار على العدوّ. ومنه: نصر الله الأرض غاثها. والفتح: فتح البلاد. والمعنى: نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب. أو على قريش وفتح مكة. وقيل: جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله: (أو على قريش وفتح مكّة) , قال القاضي: (قيل: المراد جنس نصر الله وفتح مكّة وسائر البلاد عليهم, وإنما عبّر عن المحصول بالمجيء تجوّزا, للاشعار بأن المقدّرات متوجهة

سنة ثمان، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن، وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم قال: "يا أهل مكة، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم". قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئًا، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، (فِي دِينِ اللَّهِ) في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)] آل عمران: 85 [. (أَفْواجاً) جماعات كثيفة؛ كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه بكى ذات يوم، فقيل له ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من الأزلِ إلى أوقاتِها المعيَّنةِ لها، فتَقْرُبُ منها شيئًا فشيئًا، أي: قد قربَ النصرُ من وقتِه، فكن مترقّبًا لوروده مستعدًّا لشكره». وقلتُ: فيه وفي كلامِ المصنِّفِ نَظَر، لأن فتحَ مكةَ مقدّمٌ على نزولِ السورة، لِما روينا عن مسلم، عن عُبيدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عتبة، قال: قالَ لي ابنُ عباس: «أتدري آخرَ سورةٍ نزلتْ من القرآنِ جميعًا؟ » قلتُ: نعم، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. قال: "صدقت". وفي كلام المصنّفِ إيذانٌ به، وذلك أنه قال: «وكان فتحُ مكةَ لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ سنةَ ثمان». وقيل: إنها نزلتْ في أيامِ التشريقِ بمِنىّ في حجّةِ الوداع، وكانتْ حجّةُ الوداعِ في السَّنةِ العاشرة، لأنه صلواتُ الله عليه، مكثَ تسعَ سنينَ ولم يَحجَّ، ثم أُذنَ له في السنةِ العاشرة. قولُه: (وعن جابِر بنِ عبدِ الله -رضي الله عنه-، أنه بكى ذاتِ يوم)، الحديثُ أخرجَه أحمدُ

فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا» وقيل: أراد بالناس أهل اليمن. قال أبو هريرة: لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن: قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابنُ حنبلٍ عنه، ورواه الدّراميُّ عن أبي هريرة. قولُه: (الإيمانُ يَمانٍ)، الحديثُ من روايةِ البخاري ومسلم والتّرمذي عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتاكم أهلُ اليمن؛ فإنهم أرقُّ أفئدةً، وألينُ قلوبًا، الإيمانُ يَمانٍ، والحكمةُ يَمانِيَة»، وفي روايةٍ: "الفقهُ يَمان"، الحديث. النهاية: «إنما قالَ: الإيمانُ يَمانٍ والحكمةُ يَمانِيَة، لأنّ الإيمانَ بدأ من مكة، وهي من تِهامة، وتهامةُ من أرضِ اليمن، ولهذا يقال: الكعبةُ اليمانية. وقيل: إنه صلواتُ الله عليه قالَ هذا القولَ وهو بتبوك، ومكةُ والمدينةُ يومئذٍ بينه وبين اليمن، فأشارَ إلى ناحيةِ اليمنِ وهو يريدُ مكةَ والمدينة. وقيلَ: أرادَ بهذا القولِ الأنصارَ لأنهم يمانيون، وهم نَصروا الإيمانَ والمؤمنين وآوَوْهم، فنُسبِ الإيمانُ إليهم»، لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9]. وعن غيرِه: أريدَ بالحكمةِ السُّنةُ والفقه، لقولِه تعالى: {} [الجمعة: 2]. ويروى: الفقهُ يَمانٍ؛ هذا ثناءٌ على أهلِ اليمنِ لإسراعِهم إلى الإيمانِ، وحُسْنِ قَبولِهم إياه. وقلتُ: لعلَّ المعنيَّ من الفقهِ، ما عَناهُ الحسنُ في ما روينا عن الدّرامي عن عمران، قال: قلتُ للحسنِ يومًا في شئٍ قاله" يا أبا سعيد، ليسَ هكذا تقولُ الفقهاء. فقال: «ويحك!

يمان، والحكمة يمانية» وقال: "أجد نفس ربكم من قبل اليمن». وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجًا من غير قتال. وقرأ ابن عباس: فتح الله والنصر، وقرئ: يدخلون، على البناء للمفعول. فإن قلت: ما محل (يدخلون)؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورأيتَ فقيهًا قَطُّ؟ إنّما الفقيهُ الزاهدُ في الدّنيا، الراغبُ في الآخرة، البصيرُ بأمرِ دينه، المداومُ على عبادة ِ ربّه». قولُه: (أجدُ نَفَسَ ربّكم من قبلِ اليمن)، النهاية: «النّفَسُ مستعارٌ من نَفَس الهواءِ الذي يَرُدُّه التنفُّسُ إلى الجوف، فيُبْرِدُ من حرارتهِ ويُعدِّلُها، أو من نَفَسِ الرِّيحِ الذي يَتنسِّمُه فيستروحُ إليه، أو مِن نَفَسِ الرَّوْضةِ وهو طيبُ روائحها، فَينفرجُ به عنه. يقالُ: أنتَ في نَفَسٍ من أمرك، وأعملْ وأنتَ في نَفَسٍ من عمرك، أي: في سَعَةٍ وفُسْحة». قولُه: (أّمَا إذْ ظَفِر)، يُروى "أما" مخفّفُا ومثقلًا. والثاني هو الوجه، لأنّ "أمّا" تفصيلية، أي: أمّا إذا لم يظفرْ بأهلِ الحرم، فكنّا نطمعُ في غَلَبتنا عليه، وأما إذْ ظفرَ به، فليس لنا به يدان.

قلت: النصب إما على الحال، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت. أو هو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقل: سبحان الله؛ حامدًا له. أي: فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، واحمده على صنعه. أو: فاذكره مسبحًا حامدًا، زيادة في عبادته والثناء عليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فقل: سبحانَ الله: حامدًا له، أي: فتعجبْ)، والباءُ في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للحال، أي: قُلِ التسبيحَ وأنتَ ملتبسٌ بالحمد؛ فإذنْ لا يكونُ القصدُ بذكرِ التسبيح الذكر. قال: «والأصلُ في ذلك أن يسبحَ الله في رُؤيةِ العجيبِ من صنائعِه، ثم كثرَ حتى استُعملِ في كلِّ متعجَّبٍ منه». "الانتصاف": «الأمرُ على هذا بمعنى الخبر، لأن الأمرَ في صيغةِ التعجّبِ ليسَ مرادًا، والمرادُ أن هه القصةَ من شأنِها أن يُتعجَّبَ منها». قولُه: (أو: فاذكرْه مسبِّحًا حامدًا)، فعلى هذا، يكونُ القصدُ بذكرِ التسبيح، الذكرَ على سبيلِ التضمين، ولذلك أوقعَه حالًا، و {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ على التداخلِ، لأن التضمينَ يجعلُ المضمّنَ حالًا في الأكثر. قالَ القاضي: «المعنى: فأثنِ على الله بصفاتِ الجلالِ، حامدًا له على صفاتِ الإكرام». وقلتُ: هذا الوجهُ أولى من الأولِ وأحسنُ التئامًا، وقد مَرّ في سورةِ الفتح أنه تعالى، إنما جعلَ فتحَ مكةَ عِلةً للمغفرة، لأنه كان سببًا لأن يؤمرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالاشتغالِ بخاصّةِ نفسِه، بعدَ بَذْلِ المجهودِ فيما كُلِّفَ به من تبليغِ الرسالةِ ومجاهدةِ أعداءِ الدين، وبالإقبالِ على العبادةِ والتقوى، والتأهُّبِ للمسيرِ إلى المقاماتِ العليةِ واللُّحوقِ بالرفيقِ الأعلى، وإليه يُلمّحُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقولِه: «إنّ عبدًا خَيَّرَه اللهُ بين الدنيا وبين لقائِه، فاختارَ لقاءَ الله». ومن ثَمّ بكى عَمُّه العباسُ حين تُليتْ عليه السورة، وقَالَ: نُعيتْ إليك نفسُك. وهذا المعنى هو الذي فَهمَ منه ابنُ عمِّه حَبْرُ الأمة، حين ردّ على أولئك الشيوخ، وقال: نُعيتْ إليه نفسُه، وصَدَّقَه عمرُ رضي الله عنه. وأما ما روى محيي السُّنة عن محمدِ بنِ جريرٍ أن قولَه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، راجعٌ إلى قولِه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قولِه {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: واستغفره ليغفرَ لك اللهُ؛ فالمرادُ منه أن هذا التعليل متعلقٌ بمضمرٍ بعد قولِه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}، {لِيَغْفِرَ لَكَ}، لأن مرجعَ السُّورتين إلى قصةٍ واحدةٍ وحالةٍ متحدة، لا أنّ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} متعلقٌ بقوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} بعينه، لِما يؤدي إلى إخلالِ النظمِ المعجزِ الفائتِ للقُوى والقَدَر، فكيف ونزولُ {إِنَّا فَتَحْنَا}، كان قبلَ فتحِ مكةَ بعدَ مرجعِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- من الحُدَيْبية، وتأخُّرُ نزولِ سورةِ النصرِ عن الفتحِ بسنتين؟ وقد أسلفنا في سورةِ هودٍ قانونًا يضمّ أطرافِ قصةٍ واحدة، في مقاماتٍ شتّى، على أنحاءٍ مختلفة. فإن قلتَ: قد ذَلَّ اتحادُ القصةِ على هذا المُقدّر، فما تَصنعُ بما روى محيي السُّنةِ أيضًا عن الحسينِ بنِ الفضل، أن قولَه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} مردودٌ إلى قولِه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، أي: استغفرْ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}، و {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 5]. قلتُ: هذا ممّا يقوي ما آثرناه من التعلّقِ المعنوي؛ لأنك إذا جعلتَ التعلُّقَ فيه لفظيًا، وقعتَ في فيفاءَ، وخبطتَ خبطَ عشواء، ألا ترى كيف قُرِنَ مع {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} قولُه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهو عِلةٌ لقولِه {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، المعلَّلِ بقولِه: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}، وعُطفَ عليه {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، كما قالَ المصنف: «ومن قضيّتِه أن سَكَّن قلوبَ المؤمنين»، إلى قولِه: «فيستحقوا الثوابَ فيثيبَهم، ويعذّبَ الكافرين والمنافقين». وعلى هذا وردَ ما روينا عن مسلمٍ والترمذي، عن أنس: لَمّا نَزلتْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلى {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 1 - 5]، مَرْجِعَه من الجديبية، وهم يخالطُهم الزنُ والكآبة، وقد نَحَرَ الهَدْيَ بالحُدَيْبية، قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد أُنزلتْ عليَّ آيةٌ هي أحبُّ إلىَّ من الدنيا جميعًا». وفي روايةِ الترمذي: «فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسولَ الله، لقد بَيَّنَ لك اللهُ ما يُفعلَ بك، فماذا يفعلُ بنا؟ » فنزلتْ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. ولعلَّ القائلَ لمَّا نَظرَ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا استغفرَ لذنبِه وذنبِ المؤمنين، لا بُدَّ أن يَغفرَ اللهُ له، ويستجيبَ دعاءَه في حقِّ أُمتِه، كما قالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، عُلِّق به من حيثُ المعنى، ولأجلِ هذه الدَّقيقة، آثر لفظِ راجعٌ ومردودٌ على متعلق، والله أعلم.

لزيادة إنعامه عليك، أو فصل له. روت أمّ هانئ: أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات، وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك»، والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين: من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفًا لأمته؛ ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة»، وروى: أنه لما قرأها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أصحابه استبشروا وبكى العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عم»؟ قال: نعيت إليك نفسك. قال: «إنها لكما تقول»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (صلاةَ الضحى ثمانيَ ركعات)، الحديثُ رويناه في "صحيح البخاري". قولُه: (كانَ يكثرُ قبلَ موتِه)، الحديثُ رواه البخاري ومسلم. قولُه: (والأمرُ بالاستغفارِ مع التسبيحِ تكميل)، التكميلُ في الصناعةِ، هو أن يُؤتى بكلامٍ فيُرى ناقصًا فَيُتمَّمُ بكلامٍ آخر. وها هنا، الأمرُ بالتسبيحِ: أمرٌ بالطاعةِ، والإتيانُ بالطّاعات، لا يكونُ كاملًا ما لم يُضَمَّ معها الاحترازُ عن المعاصي، قالَ القاضي: «واستغفره هضمًا لنفسِك واستقصارًا لعملِك، واستدراكًا لِما فرط منك بالالتفاتِ إلى الغير، وقيل: استغفره لأمتك. وتقديمُ التسبيحِ ثُمّ الحمدِ على الاستغفار، على طريقة النزولِ من الخالقِ إلى الخَلْق». قولُه: (إني لأستغفرُ في اليومِ [والليلةِ] مئة مرّة)، رواه البخاريُّ والترمذيُّ عن أبي هريرة.

فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا، وقيل: إن ابن عباس هو الذي قال ذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتى هذا الغلام علمًا كثيرًا». وروى: أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء الله»، فعلم أبو بكر رضي الله عنه، فقال: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعن ابن عباس: أن عمر رضي الله عنهما كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبائنا من هو مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن قول الله تعالى: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ) ولا أراه سألهم إلا من أجلى؛ فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه؛ فقلت: ليس كذلك، ولكن نعيت إليه نفسه؛ فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعد ما ترون؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنتاه إنه نعيت إلىّ نفسي"، فبكت، فقال: "لا تبكى، فإنك أوّل أهلي لحوقًا بي». وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع، (كانَ تَوَّاباً) أي: كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين توابًا عليهم إذا استغفروا، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (إذا جاء نصر الله)، أعطى من الأجر كمن شهد مع محمٍد يوم فتح مكة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وعن ابنِ عباسٍ: أن عمرَ رضي الله عنه يُدْينه) الحديثُ أخرجَه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ والترمذيُّ. قولُه: (يُدْينه)، أي: يقدّمه ويسوّيه مع الشيوخ، ويأذنُ له في الدخولِ عليه. قولُه: (دعا فاطمةَ رضي اللهُ عنها)، الحديثُ مختصرٌ من روايةِ الدرامي، عن ابنِ عباس. **************

سورة (تبت)

سورة (تبت) مكية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)] 1 - 5 [ التباب: الهلاك. ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة {تَبَّتْ} مكية، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولُه: (التباب: الهلاك)، الراغب: «التَّبُّ والتَّباب: الاستمرار في الخسران، يقال: تبًّا له وتبٌّ له وتَببْتُه: إذا قلتُ له ذلك، ولتضمّن ِالاستمرار قيل: استتبَّ لفلانٍ كذا، أي: استمرَّ. و " تَبّتْ يدا أبي لهب"، أي: استمرت في الخُسران، قال الله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، أي: تخسير». قولهُ: (والتَّعْجيز)، عن بعضهم: عَجَزَتِ المرأةُ وعَجّزتْ: إذا صارت عجوزًا، كما تقول: تَثيّبتِ المرأة، إذا صارت ثَيِّبة.

والمعنى: هلكت يداه؛ لأنه فيما يروى: أخذ حجرًا ليرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَتَبَّ) وهلك كله، أو جعلت يداه هالكتين. والمراد: هلاك جملته، كقوله تعالى: (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ)] الحج: 10 [ومعنى: (وَتَبَّ): وكان ذلك وحصل، كقوله: جزاني جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (والمراد: هلاك جُملته)، ونحوه قول الشاعر: وإنّ امرءًا ضَنَّتْ يَداهُ على امرئٍ ... بِنَيْلِ يدٍ من غيرِه لبخيلُ أي: ضنّ على امرئٍ. الجوهري: «يُقال: هذا ما جَنَتْ يداك، أي: جَنَيت». قولُه: (ومعنى {وَتَبَّ}: وكان ذلك وحَصَل)، عن بعضهم: فتَبَّ على الأولِ: دعاءٌ، وعلى الثاني: خبر. و «تَبَّتْ» دعاءٌ على كلِّ حال. قال الإمام: «يجوزُ أن يراد بالأولِ هلاكُ عملِه، وبالثاني هلاكُ نفسِه، ووجهُهُ أن المرءَ إنما يسعى لمصلحةِ نفسِه وعملِه، فأخبرَ اللهُ تعالى أنه محرومٌ من الأمرين». وقلتُ: النظمُ يساعدُ قولَ الإمام، لأن ما بعدَه بيانٌ وتفسير؛ فإنّ قولَه: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، إشارةٌ إلى هلاكِ عملِه، وقولَه: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}، إشارةٌ إلى هلاكِ نفسِه. وقال «تَبَّ» أولًا على الماضي، ليؤذنَ بالقطعِ على سننِ إخبارِ الله عن المستقبل، و {سَيَصْلَى} ثانيًا على الاستقبال، حكايةً للحالِ الآتية، تصويرًا لها في مشاهدةِ السامع. يؤيدُه أيضًا قراءةُ ابنِ مسعود -رضي الله عنه-: «وقد تَبَّ»، لأن «قد» للتحقيق كما في قول الشاعر. وقد فَعَلْ.

ويدل عليه قراءة ابن مسعود: (وقد تب)، وروى: أنه لما نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)] الشعراء: 214 [رقى الصفا وقال: يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلًا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم؛ قال: فإني نذير لكم بين يدي الساعة؛ فقال أبو لهب: تبًا لك، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديره: جَزاني جزاء الكلابِ العاويات، ويروى: العاديات، جزاهُ اللهُ شَرَّ جزائِه وقد فعلَ ذلك، أي: كانَ ذلك وقد حَصَل. قولُه: (وروي أنه لمّا نزل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214])، الحديث ن رواية البخاريُّ ومسلمٍ والإمام أحمد َ والترمذيِّ، عن ابنِ عباس، قال: " لمّا نزلتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، صعِدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الصَّفا، فجعلَ ينادي: يا بني فِهْر، يا بني عديّ، لبطونِ قريش، حتى اجتمعوا، فجعلَ الرجلُ إذا لم يستطعْ أن يخرجَ، أرسلَ رسولًا لينظرَ ما هو، فجاءَ أبو لهبِ وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريدُ أن تغيرَ عليكم، كنتم مصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جَربّنا عليك إلا صدقًا. قال: فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديد. فقالَ أبو لهب: تَبًّا لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلتْ. قولُه: (يا صَباحاه)، النهاية «هذه كلمةٌ بقولُها المستغيث، وأصلها: إذا صاحوا للغارة؛ لأنهم أكثرُ ما كانوا يُغيرونَ عند الصباح، فكأنه يريد: قد جاءَ الصباحُ فتأهبوا». قولُه: (بسَفْحِ هذا الجبل)، سَفْحُ الجبلِ: أسفلُه، حيثُ يُسفحُ فيه الماء.

فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمه؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهرًا بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفًا بأحدهما، ولذلك تجرى الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: "يدا أبو لهب"، كما قيل: على بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله بجرّة الدال، لا يعرف إلا هكذا. والثاني: أنه كان اسمه عبد العزي، فعدل عنه إلى كنيته. والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديرًا بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير، وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب أبا صفرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لئلا يُغيّرَ منه شئٌ فيشكلُ على السامع)، "الانتصاف": «وفيهِ دليلٌ على أن الرّفعَ أسبقُ وحوهِ الإعراب، ألا تراهم حافظوا على صورتِه وصيغته، فاشتُهرَ الاسمُ بهذا، وعُدلَ عن اسمِه عبد العُزّى إلى كُنْيتِه لكراهيتِه». قولُه: (ولِفلِيتةَ)، فَلِيتة: بالفاء المفتوحةِ واللام المكسورة، ويُروى: (ولفُكَيْتة) بالكافِ والتصغير. قولُه: (وكما كنّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا المهلَّب: أبا صُفرة)، وليسَ في "جامعِ الأصولِ" له ذِكْر. وأما المهلَّبُ، فهو أبو سعيدٍ، المهلّبُ بنُ أبي صُفرة. وأبو صُفرة اسمُه ظالمُ بن سَرَّاق بنِ صبيح~ الأزدي. ومهلَّبُ صاحبُ الحروبِ المشهورة مع الخوارجِ، مات سنةَ ثلاثٍ وثمانين

بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكمًا به، وبافتخاره بذلك. وقرئ: (أبى لهب) بالسكون، وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم. (ما أَغْنى) استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفى، (وَما كَسَبَ) مرفوع، وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعنى: رأس المال والأرباح، أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمّرْو الُّروذ، في أيام بد الملك بنِ مروان، وهو من الطبقةِ الأولى من تابعي البصرة، رأى عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-. قولُه: (وقيل: كُنّي بذلك)، هذا قسيمٌ للوجه الثالث وليسَ بوجهٍ رابع، يعني: أوثرتِ الكنيةُ إما لاشتهارِه بها واختصاصِها به، حتى إنه لو سُمّي لالتبس، أو إنهما سِيِّان، فَعُدلَ إلى الكنيةِ ولو سُمّي لجاز، أو عُدل إليها رعايةُ لنكتة، وهي إما لأنه يكنى بها، أنه جَهَنّميّ، كنايةَ مُجّردة أو مع التهكّم. وقد أشارَ صاحبُ "المفتاح" إلى الوجه الأول، والأولِ من الثالث. قولُه: (وقرئ: "أبي لَهْبٍ" بالسكون)، ابنُ كثير، والباقونَ: بفتحِ الهاء. قالَ أبو البقاء: " {لَهَبٍ} بالفحِ والإسكانِ لغتان". قولُه: (ومَحَلُّه النصب)، أي على أنه مفعولٌ مطلق، أَي: أيَّ غناء. ذكرَ أبو البقاءِ الوجهين، وقال: "ما" لا يكونُ بمعنى "الذي". رُوي عن المصنف: المالُ اسمٌ عام؛ فعندَ أهلِ البدوِ استعملَ في الإبل، وعند دَهاقتِهم في الضّيعة.

وكان ذا سابياء، أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه، أو ماله التالد والطارف. وعن ابن عباس: ما كسب ولده. وحكي أن بني أبى لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع فغضب، فقال: أخرجوا عنى الكسب الخبيث، ومنه قوله عليه الصلاة السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»، وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعنى كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله: (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ)] الفرقان: 23 [وروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا، فأنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدي، (سَيَصْلى) قرئ: بفتح الياء وبضمها مخففًا ومشددًا، والسين للوعيد، أي: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته. (وَامْرَأَتُهُ) هي أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة، ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وكانَ ذا سايباء)، النهاية: «السَّايباء: النتاج في المواشي وكثرتِها، يقالُ: إنّ لآلِ فلانٍ سايباء، والجمع السَّوابي، وهي في الأصل الجلدةُ التي يخرجُ منها الولد، وقيل: هي المشيمة». وعن بعضهم: سايباء غيرُ منصرف، وهو اسمُ النتاج.4 قولُه: (التَّالِد)، وهو المالُ القديم، نقيضُ الطارف. قولُه: (إن أطيبَ ما يأكلُ الرجل)، الحديثُ أخرجه أبو داودَ، عن عائشة-رضي الله عنها-. قولُه: (سَيَصْلى: قرئَ بفتحِ الياء)، وهي المشهورة، وبالضمّ شاذّة.

أي: يوقد بينهم النائرة ويورّث الشر. قال: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحىّ بالحطب الرّطب جعله رطبًا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر، ورفعت عطفًا على الضمير في سَيَصْلى أي: سيصلى هو وامرأته. و (فِي جِيدِها) في موضع الحال، أو على الابتداء، وفي جيدها: الخبر. وقرئ: (حمالة الحطب) بالنصب على الشتم؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: (حمالة للحطب) و (حمالة للحطب): بالتنوين، والرفع والنصب. وقرئ: (ومريته) بالتصغير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (مِن البِيضِ لم تُصْطَدْ) البيت، لم تُصْطَدْ: لم توجَد؛ شُبّهتْ بالمها وأُجري صفتُها عليها. واللامةُ: الأمرُ الذي يُلام عليه، أي: لم توجدْ راكبةَ خصلةٍ تُلامُ عليها؛ يصفُ امرأةً بكرامةِ العِرْض. ويُروى: بالخطرِ الرَّطب. الخطرُ الرطبُ: الخطبُ الذي يُخْطر به، أي: يُجعلْ منه خطيرةٌ، والمعنى: لم يمشِ بالنميمةِ بين الناسِ، فتُلقى فيهم العداوة. قولُه: (جعلُه رطبًا ليدلَّ على التدخينِ الذي هو زيادةٌ في الشر)، يعني: ما كفى بأن جعلَه خطبًا بل جعلَه رطبًا للإيغالِ والتنميمِ لإرادةِ المبالغة، قال امرؤ القيس: حملتُ رُدَيْنيًّا كأنّ سنانَه ... سَنا لهَب لم يتصلْ بدُخان قولُه: (قُرئَ: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، بالنصب)، عاصمٌ، والباقون: بالرفع.

المسد: الذي فتل من الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما، قال: ومسد أمرّ من أيانق ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون، تخسيسًا لحالها، وتحقيرًا لها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ومَسَدٍ أُمِرَّ مِن أيانق)، تمامُه عن الزجاج. صُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مخٌّ راهقِ الأصهب، وفي "المطلع": ليسَ بأنيابٍ ولا حقائق. أُمِرّ: أَيْ فُتِل. الأيانقُ جمعُ أَيْنَق، وهو جمعُ ناقة؛ أرادَ أن المسدَ فُتِلَ من جلدِ الأيانق. صُهبٍ: صفةٌ لأيانق. الأصهبُ من الإبل: الذي يخالطُ بياضَه حمرة. راهق: مستعارٌ من راهقَ الغلامُ فهو مراهق. والأنيابُ جمعُ ناب. يعني: هذا المسَد لم يُتَخذ من جلدِ صغيرةٍ ولا كبيرة، وإنما اتخذ من جلدِ فتيّةٍ قويّة. قولُه: (مجدولُه)، الجوهري: " جاريةٌ مجدولةُ الخَلْق: حسنةُ الجدل". قولُه: (من المواهِنِ)، جمعُ الماهنة، الَمهْنَةُ بالفتحِ: الخدمة، والماهَنُ: الخادم.

لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة ابن أبى لهب بحمالة الحطب، فقال ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي ... أم ما تعيّر من حمّالة الحطب غرّاء شادخة في المجد غرّتها ... كانت سليلة شيخ ناقب الحسب ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (تبت)، رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبى لهب في دار واحدة». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (لِتَمْتعض)، مَعِضْتُ من ذلك الأمرِ أَمعضُ معضًا، وامتعضتُ منه، إذا غضبتَ وشقَّ عليك. قولُه: (ماذا أَرَدْتَ) البيتين، أَرَدْتَ: أي: مِلْتَ: ضُمّنَ الإرادةُ معنى الميل وعُدِّي بإلى. الشَّادخة: الغُرَّةُ التي فَشَتْ في الوجهِ من الناصيةِ إلى الأنفِ ولم تُصبْ العينين، يوصفُ بها كرائمُ الخيل. والمرادُ بالشيخِ عبدُ المطلبِ وليسَ به؛ لأنها بنتُ حربٍ، أُختُ أبي سفيانَ كما ذكره. قولُه: (ويُحتملُ أن يكونَ المعنى أن حالها تكونُ في نارِ جهنّمَ على الصورةِ التي كانت عليها)، فعلى هذا: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، الجملةُ حالٌ من الضميرِ في {سَيَصْلَى}،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أو يعطفُ {وَامْرَأَتُهُ} على الضمير. وعلى الأولِ لا يجوزُ الحال، بل عطفُ جملةٍ على جملة، قالَ أبو البقاء: «(امرأتُه) فيه وجهان: أحدهما مبتدأٌ والخبرُ حَمّالة"، وثانيهما هو معطوفٌ على الضمير في {سَيَصْلَى}؛ فعلى هذا، في "حَمّالة" وجهان: أحدهما نعتٌ لِما قبلَه، والثاني تقديرُه: وهي حَمّالة». تَمَّتِ السُّورة ************

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص مكية، وقيل: مدنية، وهي أربع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)] 1 - 4 [ (هُوَ) ضمير الشأن، و (اللَّهُ أَحَدٌ) هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه قيل: الشأن هذا، وهو أنّ الله واحد لا ثاني له. فإن قلت: ما محل (هو)؟ قلت: الرفع على الابتداء والخبر الجملة. فإن قلت: فالجملة الواقعة خبرًا لا بد فيها من راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع؟ قلت: حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك: (زيد غلامك) في أنه هو المبتدأ في المعنى، وذلك أن قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) هو الشأن الذي هو عبارة عنه، وليس كذلك (زيد أبوه منطلق)؛ فإنّ زيدًا والجملة يدلان على معنيين مختلفين، فلا بد مما يصل بينهما. وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت، يعنى: الذي سألتموني وصفه هو الله، و (أحد): بدل من قوله: (الله)، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الإخلاص مكية، وقيل مدنية، وهي أربع آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولُه: (الذي سألتموني وَصْفَه هو الله، و {أَحَدٌ} بدل)، قالَ أبو البقاء: «{هُوَ}: مبتدأُ

أو على: هو أحد، وهو بمعنى واحد، وأصله: وحد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى المسؤولِ عنه؛ لأنهم قالوا: ربُّك من نحاس أم من ذهب؟ فعلى هذا: يجوزُ أن يكونَ {اللَّهُ} خبرَ المبتدأ، و {أَحَدٌ} بدل، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. يجوزُ أن يكونَ {اللَّهُ} بدلًا، و {أَحَدٌ} الخبر. وهمزةُ {أَحَدٌ} بدل من الواو؛ لأنه بمعنى الواحد»، وإبدالُ الواو المفتوحةِ همزةً قليل، وقيل: الهمزةُ أصلٌ كالهمزة في {أَحَدٌ} المستعمل للعموم. قولُه: (وهو بمعنى واحد)، وفيه احتمالان: أحدُهما أن يتعلقَ بالوجهِ الثاني، وهو أن يكون {هُوَ} جوابًا عن قولهم: صِفْ لنا ربك، ولفظةُ {هُوَ} ضميرُ المسؤول؛ فإذن لابُدَّ من الفرقِ بين واحد وأَحد؛ قال في " الأحزاب": «أحدٌ في الأصلِ بمعنى وَحَدٍ، وهو الواحد، ثم وضعَ في النفيِ العامِّ مستويًا فيه المذكرُ والمؤنتُ والواحدُ وما وراءَه». وروى صاحبُ "النهاية" عن الأزهري أنه قال: «الفرقُ بين الواحدِ والأحدِ: أن الأحدَ بُني لنفيِ ما يُذْكَرُ معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحدُ: اسمٌ بني لمفتتحِ العدد، تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد؛ فالواحدُ منفردٌ بالذاتِ في عدمِ المثلِ والنظير، والأحدُ منفردٌ بالمعنى. وقيل: الواحدُ هو الذي يتجزّأ، ولا يُثنى، ولا يقبلُ الانقسام، ولا نظيرَ له ولا مِثْل، ولا يَجمعُ هذين الوصفين إلى الله تعالى». وقال الأزهريُّ في "تفسير أسماء الله الحسنى": «الأحدُ من صفاتِ الله التي استأثرَ اللهُ بها، فلايشركه فيها شئٌ، ولا يوصفُ شئٌ بالأحدِ غيرُ الله؛ لا يقال: رجلٌ احدٌ، ولا درهمٌ أحدٌ؛ وإنما يقال: رجلٌ واحدٌ».

وقرأ عبد الله وأبىّ: (هو الله أحد) بغير (قُلْ)، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أحد) بغير (قُلْ هُوَ)، وقال: "من قرأ: الله أحد، كان بعدل القرآن). وقرأ الأعمش: (قل هو الله الواحد). وقرئ: (أحد الله) بغير تنوين؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذا عُلِمَ هذا، فنقول: إنهم لما قالوا: صِفْ لنا ربَّك الذي تدعونا إليه، قيل لهم: المسؤول عنه الله، وهو واحدٌ متفردٌ بالذاتِ في عدم المثلِ والنظير؛ فإجراءُ الكلامِ للتمييز، والصّفةُ فارقة. وإن استلزمَ التعظيم؛ لأنه ابتداءُ أمرِ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إرشادًا للقوم، وتنبيهًا على معبودٍ عظيمِ الشأنِ قاهرِ السلطان، فكأنه قيل: قُلْ يا محمدُ: الشأنُ والأمرُ أن الله أحدٌ لا ثاني له، فَدلَّ بقوله: {اللَّهُ}، على جميعِ صفاتِ الكمال، وبالأحدِ على جميع صفاتِ الجلال؛ فالمناسبُ أن يقالَ: واحدٌ لا ثاني له، لأنه دالٌّ لنفيِ ما يُذكرُ معه. والاحتمالُ الثاني، وهو أن يتعلَّق بالوجهينِ كليهما، أي: {هُوَ} ضميرُ الشأن، أو {هُوَ} بمعنى المسؤول؛ فحينئذٍ لا فرق بين أحدٍ وواحد، قالَ الجوهري: «الأحدُ بمعنى الواحد، وهو أول العدد»، وقال صاحب "النهاية": «الواحدُ هو الفردُ الذي لم يزل وحدَه، ولم يكن معه آخر». قولُه: (كانَ يَعْدلُ القرآن)، قيل: كان قراءتُه يَعْدلُ قراءةَ القرآن، والحديث استشهادٌ لهذه القراءة. ولعلّ المرادَ أن قولَه: {قُلْ هُوَ} كالمقدمةِ والتمهيدِ لقوله {اللَّهُ أَحَدٌ}، وهو إنما يستقيمُ على جَعْلِ الضميرِ للشأن.

أسقط لملاقاته لام التعريف. ونحوه: ولا ذاكر الله إلّا قليلا والجيد هو التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين. و (الصَّمَدُ) فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (ولا ذاكِرِ اللهَ إلا قليلًا)، أولُه: فأَلفيتُه غيرَ مستعتبٍ أي: ذَكّرْتُه. أي: ولا ذاكر، على إرادةِ التنوين، فحذفَ لالتقاءِ الساكنين، فبقى "الله" منصوبًا لا مجرورًا للإضافةِ. و"ذاكر" جُرَّ عطفًا على "مُسْتعتِبٍ"، أي: ولا ذاكرٍ. أي: ذكّرتُه ما كانَ بيننا من المودةِ، فوجدَ غيرَ راجعٍ بالعتابِ من قُبحِ ما فَعَل. قولُه: (والجيّدُ هو التنوين)، وهي المشهورة. قولُه: (وهو السَّيدُ المصمودُ إليه في الحوائج)، وأنشدَ الزجاجُ للأسدي: لقد بَكَّرِ الناعي بِخَيْرَي بني أَسَد ... بعمرِو بنِ مسعودٍ وبالسيِّدِ الصَّمد الصَّمد: أي يصمدُ إليه كلُّ شئٍ، أي: الذي خلقَ الأشياء كلَّها، لا يستغنى عنه شئٌ. روى محيي السُّنة عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ والحسنِ وسعيدِ بنِ جُبير: «الصَّمَدُ: الذي لا جَوْفَ له، وقال الشعبي: الذي لا يأكلُ ولا يشربُ».

والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه، وهو الغنى عنهم. (لَمْ يَلِدْ) لأنه لا يجانس، حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا. وقد دل على هذا المعنى بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)] الأنعام: 101 [. (وَلَمْ يُولَدْ) لأنّ كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس يجسم ولم يكافئه أحد، أي: لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيًا للصاحبة: سألوه أن يصفه لهم، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته، فقوله: (هُوَ اللَّهُ) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الراغب: «الذي ليسَ بأجوفٍ، شيئان: أدونُ من الإنسانِ كالجمادات، وأعلى وهو الباري تعالى وتَقدّس. والقصدُ بقوله {الصَّمَدُ}، تنبيهٌ أنه بخلافِ مَن أثبتوا له الإلهية، وإلى نحوِ هذا أشار بقولِه: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]». قولُه: (وقَدْ دَلَّ على هذا المعنى بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، عطفٌ على قوله: (لأنه لا يُجانَس)، يعني: {لَمْ يَلِدْ}: إما كنايةٌ عن كونه تعالى متعاليًا عن الجنسية؛ لأن مَن جانسَ شيئًا اتّخذ من جنسِه صاحبةً، ومَن اتخذَ صاحبةٍ حصَل التوالدُ. أو بالعكس بأن يقال: كيف يكونُ له ولدٌ، وأنه ما اتخذ صاحبةً؟ لأن الولادةَ لا تكونُ إلّا بين زوجين من جنسٍ واحد، وهو متعالٍ عن مجانسٍ؛ فلم يَصحَّ أن تكونَ له صاحبة، فلم تَصحَّ الولادة، قالَه في تفسيرِ هذه الآيةِ في الأنعام. قولُه: (فقولُه: {هُوَ اللَّهُ})، الفاءُ تفصيليةٌ، والُمجمَلُ قولُه: "ما يحتوي على صفاته". ولمّا كان الله اسمًا للذات، وقرّرَ في فاتحةِ الكتابِ استحالةَ كونِه وصفًا، لكنْ له في كلِّ مقامٍ بحسبِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقتضاه معنى، وخصوصيةُ سؤالِ المشركين، أوجبَ أن يفسّرَ بأنه الخالق، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]؛ فاللهُ ها هنا، جوابًا، إشارةٌ لهم إلى مَن هو خالقُ الأشياء؟ وأنتَ تعلمُ أنّ مُصحّحَ الخالقية هو العلمُ والقُدرةُ، فاندرج تحته هاتانِ الصفتان، وإليه الإشارةُ بقولِه: "وفي طيِّ ذلك وَصَفَه بأنه قادرٌ عالم"، ولا يكونُ قادرًا عالماً، حتى يكونَ عالماً حيًّا سميعًا بصيرًا. ثُم عَقبَ هذه الأوصافَ معنى الوحدانية بقولِه: {أَحَدٌ}. ولما اقتضى الفردانيةُ قَطْعَ السبيلِ من الغير، أثبتَ له صفةَ الصَّمدانية، ليكون الإلتجاءُ إليه. ولما عُلم من ذلك ثبوتُ الذاتِ المستلزمةِ للصفاتِ من الخالقيةِ والعالمِيةِ والقادريةِ والحييّةِ والإلهية، أريدَ بيانُ كمالهِا وأنها مباينةٌ لصفاتِ المخلوقاتِ فيما مضى ويُستقبل. والآن قيل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}، ولحجةِ الإسلامِ كلامٌ إجماليٌ فيها، قال: «أحدٌ: هو الواحدُ الذي هو مرفوعُ الشركة، والأَحَدُ الذي لا تركيبَ فيه فالواحدُ نفيُ الشريكِ والمثلِ، والأحدُ نفيٌ للكثرةِ في ذاتِه، والصمدُ الغنيُّ المحتاجُ إليه غيرُه، وهو أحديُّ الذاتِ وواحديُّ الصفات، لأنه لو كان له شريكٌ في مُلكِه، لما كانَ غنيًا يحتاجُ إليه غيرُه، بل كانَ محتاجًا في قوامِه ووجودَه إلى أجزاءِ تركيبِه؛ فالصمديّةُ دليلٌ على الوحدانيةِ والأحديةِ، و {لَمْ يَلِدْ} دليلٌ على أن وجوده المستمرّ، ليس مثل وجود الإنسانِ الذي يبقى نوعُه بالتوالدِ والتناسلِ، بل هو وجودٌ مستمرٌ أزليٌ أبديّ، و {وَلَمْ يُولَدْ} دليلٌ على أنّ وجودِه ليس مثلَ وجودِ نفس الإنسان الذي يتحصّلُ بعدَ العدم: يبقى دائمًا إمّا في جنةٍ عاليةٍ لا تفنى، وإمّا في هاويةٍ لا تنقطع. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، دليلُ على الوجودِ الحقيقي الذي له تعالى، هو الوجودُ الذي يفيدُ وجودَ غيرِه، ولا يستفيدُ الوجودُ من غيرِه؛ فقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، دليلٌ على إثباتِ ذاتِه المقدّسةِ المنزَّهة. والصَّمديةُ تقتضي نفي الحاجةِ عنه واحتياجَ غيرهِ إليه،

وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم؛ لأن الخلق يستدعى القدرة والعلم، لكونه واقعًا على غاية إحكام واتساق وانتظام، وفي ذلك وصفه بأنه حي سميع بصير. وقوله: (أَحَدٌ) وصف بالوحدانية ونفى الشركاء. وقوله: (الصَّمَدُ) وصف بأنه ليس إلا محتاجًا إليه، وإذا لم يكن إلا محتاجًا إليه، فهو غنى، وفي كونه غنيًا مع كونه عالمًا، أنه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله: (ولَمْ يُولَدْ) وصف بالقدم والأوّلية. وقوله: (لَمْ يَلِدْ) نفى للشبه والمجانسة. وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) تقرير لذلك وبت للحكم به. فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدّمًا في أفصح كلام وأعربه؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ {وَلَمْ يُولَدْ} في آخر السورة، سلبُ ما يوصفُ به غيره عنه، ولا طريق في معرفة الله تعالى أوضحُ مِن سلبِ صفاتِ المخلوقات عنه». قولُه: (ليس إلا محتاجًا إليه)، والاستثناءُ مفرّغٌ، أي: ليس الله إلا محتاجًا إليه، أي بالنسبة إلى المخلوقات. قولُه: (لَغوٌ غير مستقر)، الظرفُ المستقر: هو الذي يفتقرُ تمام الكلامِ إليه، وذلك بأن يكون خبرًا كما في قولك: ما كانَ فيها أحدٌ خيرٌ منك. والَّلغوُ أن يكونَ الكلامُ تامًا بدونه كما في قولك: ما كانَ أحدٌ خيرًا منك فيها؛ وإنما قُدّم في اول المستقرّ لكونه مقصودًا، ةإنما رُفِضَ في الآية الأصل، لأنها سبقت لبيانِ التوحيد. قالَ ابنُ الحاجب: «إنما قُدِّمَ لاهتمامِ تناسبِ الفواصل، فلو قُدِّمَ على " أحد" لحصلَ الغرض، لكن كان يقع الفصلُ بين الجزأين اللذين هما مسندٌ إليه، فقدَّمَ عليهما جميعً وحصلَ الغرض».

قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفى المكافأة عن ذات الباري سبحانه؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيٍء وأعناه، وأحقه بالتقدم وأجراه. وقرئ: (كفؤا) بضم الكاف والفاء، وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال صاحبُ "الانتصاف": «نقلَ سيبويه أن سمعَ بعضَ الجُفاةِ من العربِ يقرأ: ولم يكنْ أحدٌ كفوًا له، فجرى هذا الجلفُ على عادته، فجفا طبعُه عن لُطفِ المعنى، الذي لأجله اقتضى تقديمَ الظرفِ والخبرِ على الاسم، وذلك أن الغرضَ الذي سيقت إليه الآيةُ، نفيُ المكافأة والمساواةِ عن ذاتِ الله تعالى، فكان تقديم المكافأةِ المقصودةِ بأن تُسلبَ عنه أنه أولى، ثم لما قُدِّمتْ لتسلبَ ذُكرَ معها الظرف، لتُبيَّنَ الذاتُ المقدسةُ بسلبِ المكافأة». وقلتُ: تلخيصُه أن مراعاةَ المعنى الذي يقتضيه المقامُ، أحرى وأحقُّ وأقدمُ من مراعاةِ اللفظِ والفواصلِ. قولُه: (وقرئ: {كُفُوًا}، بضم الكاف)، حَفْص: بضِّمها وضِّم الفاء من غيرِ همز، وحمزة: بإسكانِ الفاءِ مع الهمزةِ في الوصل، فإذا وقفَ أبدلَ واوًا مفتوحة، والباقون: بضمِّ الفاءِ مع الهمزة. الراغب: «الكُفْءُ: في المنزلةِ والقَدْر، ومنه الكِفاءُ لشُقّةٍ تُنْصحُ بالأخرى، فيُجَلّلُ بها مؤخرُ الخباء. قال: فلانٌ كفءُ فلانٍ في المناكحةِ والمحاربةِ ونحوِ ذلك. ومنه المكافأةُ أي: المساواةُ والمقابلةُ في الفعل، والإكفاءُ: قلبُ الشئِ كأنه إزالةُ المساواة، ومنه الإكفاءُ في الشعر».

فإن قلت: لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها؟ قلت: لأمر ما يسود من يسود ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (عَدْلَ القرآنِ كلِّه)، يُروى بفتح العين وكسرها، قال الأخفش: العِدْلُ بالكسر: المِثْل، والعَدْلُ بالفتح: أصلُه مصدر قولك: عَدَلْتَ بهذا عَدْلًا حسنًا، تجعله اسمًا للمِثْلِ، لِتُفْرُق بينه وبين عِدْل المتاع. وقال الفرّاء: العَدْلُ بالفتح: ما عادلَ الشّئ من غير جنسه، والعِدْلُ بالكسر: المِثْل. وتقول: عندي عِدْلُ غلامك، وعِدْلُ شاتك، إذا كان غلامًا يعدلُ غلامًا، أو شاةً تعدلُ شاة، فإذا أردت قيمته من غير جنسه، نَصبتَ العين، وربّما كَسَرها بعضُ العرب، وكان منهم غلط. والصحيحُ: ثلثُ القرآن؛ رَوينا عن البخاريّ ومسلم ومالك وأبي داودَ والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلًا سمعَ رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردّدها، فلما أصبحَ جاءَ إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فذكرَ ذلك له، وكأنّ الرجلَ يتَقألُّها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدلُ ثُلُثَ القرآن». قال القاضي: «ولاشتمال هذه السورة مع قِصرِها على جميع المعارفِ الإلهية، والردِّ على مَن ألحدَ فيها، جاء في الحديثِ أنها تعدلُ ثلثَ القرآن، لأن مقاصدِ القرآنِ محصورةٌ في بيانِ العقائد، والأحكام، والقضض، ومَن عَدَلَها بكلِّه اعتبرَ المقصودِ بالذاتِ من ذلك». قولُه: (لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَن يَسودُ)، أوله: عَزَمتُ على إقامةِ ذي صباحِ

وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى دليلًا من اعترف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم: يشرف بشرفه، ويتضع بضعته؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و"ما" مزيدةٌ إبهاميّة، أي: لأمرٍ عظيمٍ يُسَوَّدُ مَن يَسود. قولُه: (وكفى دليلًا من اعترف)، "من اعترف" مفعولُ "كفى"، والفاعلُ ما دلَّ عليه لاحتوائها على صفات الله، والضمير في "بفضلها" للسورة، و"صَدَّقَ" عطفٌ على "اعترف"، و"بقولِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- متعلقٌ بـ"صَدَّقَ". وقولُه: أن "علم التوحيد" متعلّقٌ بـ"دليلًا" وهو تمييز، أي" كفى ذلك مَن اعترفَ بفضلِ السورة، وصَدَّقَ بقولِ الرسولِ، دليلًا على أن علم التوحيد من الله بمكان. والمرادُ بقولِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه في خاتمة السورة: "أُسِّستْ السماواتُ السبعُ" إلى آخره؛ ولم أجدِ الحديثَ في الأصولِ المعتبرة. وقد وردَ عن الترمذيِّ وأبي داودَ وابن ماجه، عن بريدة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول: «اللهم إني أسألأك بأني أشهدُ أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحدُ الصمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-" والذي نفسي بيده، لقد سألَ اللهَ باسمِه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى».

وإنافته على كل علم، واستيلائه على قصب السبق دونه؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومة، وقلة تعظيمه له، وخلوه من خشيته، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، القائلين بعدلك وتوحيدك، الخائفين من وعيدك. وتسمى "سورة الأساس" لاشتمالها على أصول الدين، وروى أبىّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد»، يعنى ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ: (قل هو الله أحد)، فقال: «وجبت». قيل: يا رسول الله وما "وجبت"؟ قال: «وجبت له الجنة». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (فقال: وَجَبَتْ) الحديثُ أخرجه مالكٌ وأحمدُ والترمذيُّ والنسائي عن أبي هريرة. خاتِمة م كلامِ الشيخ فصيح الدين رحمه الله: لم يُعطفْ {اللَّهُ الصَّمَدُ} على الجملةِ المتقدمة؛ لأنها محقِّقة لمضمونها ومبينةٌ لها، وكذا {لَمْ يَلِدْ}؛ لأنها محقِّقةٌ لمضمونِ {اللَّهُ الصَّمَدُ}؛ لأن الغني المطلقَ الذي يفتقرُ إليه كل شئٍ لا ينبغي أن يكون والدًا ولا مولودًا؛ لأن ذلك يستلزم الافتقار بالضرورة. وعُطفَ {لَمْ يُولَدْ} على {لَمْ يَلِدْ} لأن {لَمْ يُولَدْ} لم يُنبئ عن معنى {لَمْ يَلِدْ}، فلم يكن محققًا لمعناه، بل الجملتانِ محققتانِ لمضمونِ الجملة السابقة. وعَطفُ {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، أن مضمونَها لم يكن محققًا لمضمون السابقتين؛ لأنها تُنبئ عن أنه لا يمكنُ أن يكون له مماثلٌ في شئ مِمّا ذُكِرَ في الذاتِ والصفات، فهو واحدٌ لا شريك له تعالى وتقدّسَ وتَعظّم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعُرفَ الخبرُ في {اللَّهُ الصَّمَدُ}، نفيًا لنفيِ مَن زعم وسمّى غيرَه صمدًا، ونُكِّرَ في {اللَّهُ أَحَدٌ}، لأنهم لم يُسمّوا أشياءًا "أحدًا" بهذا المعنى. تَمّتِ السُّورَة ************

سورة الفلق

سورة الفلق مختلف فيها، وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)] 1 - 5 [ الفلق والفرق: الصبح، لأن الليل يفلق عنه ويفرق: فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم: سطع الفرقان، إذا طلع الفجر. وقيل: هو كل ما يفلقه الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الفلق مكية، وقيل مدنية وهي خمس آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولُه: (لأن الليلَ يُفلَقُ عنه)، أي: لأن الليلَ يَنْشقُّ عن الصبحِ، فيخرجُ الصبح؛ فَعَلٌ بمعنى مفعول؛ فالليلُ مفلوقٌ عنه. قولُه: (وقيل: هو كلُّ ما يَفْلِقُه)، قال القاضي: «وهو يَعمُّ جميعَ الممكنات؛ فإنه تعالى فَلَقَ ظلمةَ العدمِ بنورِ الإيجادِ عنها، سيّما ما يخرجُ عن أصلٍ، كالعيونِ والأمطارِ والنباتِ والأولاد، ويَختْصُّ عُرفًا بالصُّبح، ولذلك فُسِّر به. وتَخْصيصُه لِما فيه من تَغيُرِ الحالِ، وتَبدُّلِ وحشةِ

كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقيل: هو واٍد في جهنم أوجب فيها، من قولهم لما اطمأن من الأرض: الفلق، والجمع: فلقان. وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش، وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الليلِ بسرورِ النور، ومحاكاةِ الخيرِ بيوم القيامة، والإشعارِ بأن مَن قدَر أن يزيلَ ظلمةَ الليلِ عن هذا العالم، قدَر أن يزيلَ عن العائذِ ما يخافه. ولفظُ الرّبّ ها هنا أوقعُ من سائرِ الأسماء، لأن الإعاذةَ مِن المضارِّ قريبة». قولُه: (لا أبالي، أليسَ من ورائهم الفَلَق؟ )، أي: لا أبالي بحُسنِ دُورِهم وخفضِ عَيْشِهم. ثم استأنفَ مستفهمًا على سبيل التقرير: أليسَ من ورائهم الفَلَق؟ ونظيرُه ما روينا البخاريِّ ومسلمٍ وأحمدَ والترمذيِّ والنسائي، عن ابنِ عباسٍ في حديثٍ طويل، عن عمرَ -رضي الله عنه-: دخلتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسلّمتُ وهو متكئ على رمالٍ حصيرٍ قد أثر في جنبِه وفه شيئًا ردَّيه، فجلستُ فرفعتُ رأسي في البيت، فوالله ما رأيتُ فيه شيئًا ردَّ البصرَ إلا أَهَبَةَّ ثلاثةً، فقال: يا رسولَ الله، ادع الله أن يوسعَ على أمتك، فقد وَسَّعَ على فارسَ والرومِ وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا، ثم قالَ: أفي شكٍّ أنت يا ابنَ الخطاب؟ أول~ك قومٌ قد عُجِّلتْ لهم طيباتُهم في الحياة الدنيا. فقلت: استغفِرْ لي يا رسولَ الله. الحديث. وأما تفسير الفلقِ بأنه وادٍ في جهنم، فروى محيي السُّنةِ عن ابن عباسٍ في رواية، أن الفلقَ سَجْنٌ في جهنم، وعن الكلبي أنه وادٍ في جهنم.

قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه. (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) من شر خلقه، وشرهم: ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضًا من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنهس واللدغ والعض كالسباع والحشرات، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. و"الغاسق": الليل إذا اعتكر ظلامه، من قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ)] الإسراء: 78 [ومنه: غسقت العين امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة: امتلأت دمًا. ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء، ويقال: وقبت الشمس إذا غابت. وفي الحديث: لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها، يعنى صلاة المغرب. وقيل: هو القمر إذا امتلأ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وشَرُّهم ما يفعله المكلَّفون من الحيوان)، لعلَّ إيقاعَ "من الحيوان" بيانًا للمكلَّفين، لإخراجِ الملائكةِ منهم. قال القاضي: «خُصَّ عالمُ الخلقِ بالاستعاذةِ عنه لانحصارِ الشرِّ فيه؛ فإن عالمَ الأمرِ خيرٌ كلُّه، وشَرُّه اختياريٌ لازمٌ ومتعدٍّ، كالكفرِ والظلم، وطبيعيٌ كإحراقِ النارِ وإهلاكِ السموم». قولُه: (إذا اعتكر ظَلامُه)، الجوهري: «اعتكرَ الظلامُ: اختلطَ كأنه كرَّ بعضُه على بعض من بُطْءِ انجلائِه». قولُه: (ويقال: وَقَبت الشمس، إذا غابت)، الراغب: «الوَقَبُ كالنُقْرةِ في الشئ، ومنه وَقَبتِ الشمس، والإيقابُ: تَغيّبُها» قولُه: (هذا حينُ حَلِّها)، برفعِ "حين"، وكسرِ الحاءِ، وجرِّ اللامِ من "حلها". النهاية:

وعن عائشة رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده. ويجوز أن يراد بالغاسق: الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه. والوقب: النقب، ومنه: وقبة الثريد؛ والتعوّذ من شر الليل؛ لأن انبثاثه فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أغدر الليل؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ «وفي الحديث: لّما رأى الشمسَ قد وَقَبتْ، قال: هذا حينُ حلِّها؛ وَقَبتْ: غابت. وحينُ حِلِّها: الوقتُ الذي يَحلُّ فيه أداؤها، يعني: صلاة المغرب. والاوُقوبُ: الدخولُ في كلِّ شئ». قولُه: (وعن عائشة-رضي الله عنها-)، الحديثُ اخرجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيّ، وليسَ فيه: آخذٌ بيدي؛ روى الإمامُ عن ابنِ قتيبة: «إنما سُمي القمرُ غاسقًا، لأنه يُكْسفُ فيغسِق، أي يذهبُ ضوؤُه، ويَسْود، ووقوبُه: دخولُه في ذلك الاسوداد». وقال: «وقد صَحَّ أن القمرَ في جِرْمه غيرُ مستنير فسمّى بالغاسِق لهذا. ووقوبُه المحاقُ في آخر الشهر، لأنه حينئذٍ قليلُ القوةِ وفي غايةِ الرذالة، ولذلك يشتغلُ السحرةُ فيه بالسحر الذي يورثُ التمريض، وهذا مناسبٌ لسبب نزولِ السورتين «، والله أعلم. قولُه: (الليلُ أخفى للوَيْل)، قالَ الميداني: «أي: افعلْ ما تريدُ ليلًا، فإنه أسْترُ لسِرِّك. وأولُ مَن قال ذلك ساريةُ بنُ عُويْمرِ بنِ عَدِيٍّ العُقَيلي»، وسببُه مذكورٌ في كتابه. قولُه: (أَغدرَ الليل)، قيل: هو من بابِ أَحصدَ الزّرع، أي حانَ وقتُ غَدْره. وقيل: صارَ ذا غَدْر.

لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه. النَّفَّاثاتِ: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شيء ضار، أو سقيه، أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه؛ ولكنّ الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلًا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوُله: (يَتميز به الثُّبَّتُ على الحقِّ من الحَشْوية)، الانتصاف: «القدريّةُ ينكرونَ السحر، والكتابُ والسُّنةُ واردانِ بوقوعِه، والأمرُ بالتعوّذِ منه دليلٌ عليه. وقد سُحِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، في مُشُطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعةِ ذَكَر». وقلتُ: الحديثُ رويناه عن البخاريِّ ومسلمٍ وابنِ ماجه، عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: «سُحِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه ليُخَيّلُ إليه أنه فعلَ الشئَ ولم يكن فعلَه، حتى إذا كانَ ذاتَ يومٍ وهو عندي، دعا الله ودَعاه، ثم قالَ: جاءني رجلان، فجلس أحدهُما عند رأسي والآخر عند رِجْليَّ، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وَجَعُ الرجل؟ قال مَطْبوب. قال: ومَن طَبَّه؟ قال: لبيدُ بنُ الأعصمِ اليهوديُّ من بني زُريق. قال: في ماذا؟ قال: في مُشُطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طَلْعةِ ذَكَرٍ. قال: فأين هو؟ قال: في بئرِ ذي أَرْوان»، الحديث. الراغب: «تأثيرُ السحرِ في النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن من حيثُ إنه نبي، وإنما كانَ في بَدَنِه من حيثُ إنه إنسانٌ أو بشر، كما كان يأكلُ ويتغوّطُ ويغضبُ ويَشْتهي ويَمْرض، فيصحُّ من حيثُ هو نبيّ، وإنما يكون ذلك قادحًا في النبوة. أو وُجدَ للسحرِ تأثيرٌ في أمر يرجعُ إلى النبوة،

فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به. فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك. والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن. والثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. ويجوز أن يراد بهن النساء الكيادات، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما أن جُرْحَه وكسرَ ثناياه يومَ أُحُد، لم يقدحْ فيما ضمنَ اللهُ له من عصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وكما لا اعتدادَ بما لا يقعُ في الإسلامِ من غلبةِ المشركين على بعضِ النواحي، فيما ذُكرَ من كمالِ الإسلامِ في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، قالَ القاضي: «ولا يوجبُ ذلك صِدْقَ الكفرةِ في أنه مسحور، لأنهم أرادوا به أنه مجنونٌ بواسطةِ السحر». النهاية: «أنه طُبَّ في مُشُطٍ ومُشاطة، وهو الشعرُ الذي يسقطُ من الرأسِ واللحيةِ عند التسريحِ بالمُشُط». ويُرْوى: مُشاقة، و «هي ما ينقطعُ من الإبْرَيْسَمِ والكَتّانِ عند تخليصِه وتَسْريحه. والمَشْقُ: جَذْبُ الشئِ ليطول». «الجُفّ: وعاءُ الطلع، وهو الغشاءُ الذي يكونُ فوقه». قولُه: (الِّرعَاع)، الأحداثُ والطَّغام. قولُه: (النساءُ الكيّادات)، شُبِّه كيدُهنّ بالسحر، اختصَره صاحبُ "الانتصاف" ثُم قال: «لو فَسَّرَ غيرُ الزمخشريّ هذا، لَعُدَّ من بِدَعِ التفاسير».

من قوله: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)] يوسف: 28 [تشبيهًا لكيدهن بالسحر والنفث في العقد. أو اللاتي يفتن الرجال بتعرّضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك (إِذا حَسَدَ) إذا ظهر حسده، وعمل بمقتضاه من بغى الغوائل للمحسود؛ لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره. وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد. ويجوز أن يراد بشر الحاسد: إثمه وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهاره أثره. فإن قلت: قوله: (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ قلت: قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به. وقالوا: المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر. فإن قلت: فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ قلت: عرفت النفاثات؛ لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق؛ لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضرّ. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلا في اثنتين»، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (كأنما يُغتالُ به)، الأساس: «فلانٌ يَغتالُ مَن يَمرُّ به، وقَنلَه غيلةً، وأخافُ غائلتَه، أي: عاقبةَ شَرِّه». قولُه: (لا حَسَدَ إلّا في اثنتين)، روينا عن البخاري، عن أبي هريرة، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا حَسَدَ إلّا على اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ القرآن، فهو يتلوه آناءَ الليلِ والنهار، فسمعَه جارُه فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل. ورجلٌ آتاه الله مالًا فهة ينفقه في حقه، فقال: يا ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل».

وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد وقال: إنّ العلا حسن في مثلها الحسد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "المعوّذتين"، فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها». ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النهاية: «الحسَدُ: أن يرى الرجلُ لأخيه نعمةٌ، فيتمنّى أن تول عنه، فتتكون له دونه. والغَبْط: أن يتمنى أن يكون له مثلها، ولا يتمنّى زوالها عنه. ومعنى الحديث: ليسَ حسدٌ لا يضرُّ إلّا في اثنتين». قولُه: (وما حاسدٌ) أولُه: وإني لمحسودٌ وأعذرُ حاسدي وقيل: أوله: هُمُ حَسَدوه -لا ملومين- مَجْدَه ... وما حاسدٌ في المكرمات بحاسد وقال: واعْذِرْ حَسودَك فيما قد خُصِصْتَ به ... إنّ العُلا حَسَنٌ في مثلِها الحسّدُ مِثْلُ ها هنا مثلُ ما في قولك: يجود. أي: إن العُلا حَسَنٌ فيها الحسَد. تَمَّتِ السُّورَة **********

سورة الناس

سورة الناس مختلف فيها، وهي ست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)] 1 - 6 [ قرئ: (قل أعوذ) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، ونحوه: فخذ أربعة. فإن قلت: لم قيل (بِرَبِّ النَّاسِ) مضافا إليهم خاصة؟ قلت: لأنّ الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سورة الناس مكية، وقيل: مدنية، وهي ست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولُه: (لِمَ قيل: {بِرَبِّ النَّاسِ})، أَيْ أنه ربُّ جميعِ العالمين، فلِمَ خُصَّ بالناسِ ها هنا؟ وأجابَ: إن المستغيثَ هو الناسُ وحدَه إلى ربِّه ومالكِه ومعبودِه، مما يُصيبُه من البلاء. قولُه: (كما يستغيثُ بعضُ الموالي إذا اعتراهم خَطْبٌ بسيّدهم ومخدومِهم ووالي أمرِهم)، راعى فيه الترقّي في الإغاثة؛ فإن الدّفعَ من جهةِ التوليةِ أقوى من جهةِ الخدمة، ثم من

فإن قلت: (مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) ما هما من رب الناس؟ قلت: هما عطف بيان، كقولك: سيرة أبى حفص عمر الفاروق. بين بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس، كقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)] التوبة: 31 [وقد يقال: ملك الناس. وأمّا (إِلهِ النَّاسِ) فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. فإن قلت: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ قلت: لأنّ عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار. (الْوَسْواسِ) اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جهة السيادة أضعفُ من جهةِ الخدمة. كذلك معنى القَهّاريةِ في الألوهيةِ أعلى منه من معنى المالكيّة، ثم من جهةِ الرّبيّة. وفي بعض التفاسير: إنَّ دَفْعَ شرِّ الشيطانِ ووسوستِه بأحدِ أمورً ثلاثة، إمّا بأن لا يُمكِّنُه من الوسوسةِ من حيثُ كونُه ربًّا، أو بأنْ يُمكِّنُه، لكن يمنعُه قهرًا من حيثُ المالكية، أو بأن ينهاه عن الوسوسةِ زجرًا، لكن يريدُها اختيارًا من حيثُ كونُه إلهًا، أو يُقال: إن العبدَ استعاذَ بالله من الشيطان. وعَلّلَ الاستعاذةَ بأوصافٍ مناسبةٍ على الترقي: وَصْفُه عَزَّ وجَلّ أولًا بأنه الرّبُّ، لأن أول ما يَعرفُ العبدُ من ربِّه، كونُه منعِمًا عليه ظاهرِه وباطنِه، ثم ينتقلُ منه إلى المعرفةِ بأنه متصرفٌ فيه ومالكُه، ثم ينتقلُ إلى المعرفةِ بأنه هو المعبودُ على الإطلاق، وأنْ لا مصيرَ إلا إليه. قولُه: (وقد يقال: مَلِكُ الناس)، الراغب: «المَلِك: هو المتصرِفُ بالأمرِ والنهيِ في الجمهور، وذلك مختصٌ بسياسةِ الناطقين؛ ولذلك يقال: مَلِكُ الناس، ولا يقال: مَلِكُ الأشياء». قولُه: (وأما المصدرُ فَوِسواس)، عن بعضِهم: أراد بالوَسواسِ الاسم الذي هو بمعنى الوسوسةِ وهو المصدر. وقال المغاربةُ: الفرقُ بين المصدرِ واسمِ المصدر هو أن المعنى الذي يُعبِّرُ

بالكسر كزلزال، والمراد به الشيطان، سمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه؛ لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه. أو أريد ذو الوسواس. والوسوسة: الصوت الخفي، ومنه: وسواس الحلي. و (الْخَنَّاسِ) الذي عادته أن يخنس، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات، لما روى عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه. (الَّذِي يُوَسْوِسُ) يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على (الْخَنَّاسِ)، ويبتدئ (الَّذِي يُوَسْوِسُ) على أحد هذين الوجهين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه بالفعلِ الحقيقي، الذي هو مبتدأ الفعلِ الصناعي، إذا اعتبرَ فيه تَلَبُّسُ الفاعلِ به وصدورُه منه وتَجدُّدُه؛ فاللفظُ الموضوعُ بإزائه مقيدًا بهذا القيد، سمّي مصدرًا وإن لم يعتبرْ فيه ذلك، فاللفظُ الموضوعُ بإزاءِ ذلك مطلقًا عن هذا القيدِ المذكور، هو اسمُ المصدر. قولُه: (صَنْعَتُه)، ويُرْوى: ضَيْعتُه. النهاية: «ضَيْعةُ الرجلِ: ما يكونُ منه معاشُه كالصنعةِ والتجارةِ والصناعةِ وغير ذلك». قولُه: (منسوبٌ إلى الخُنُوس)، قال: منسوبٌ من حيثُ إنه جعلَ الخنوسَ عادةً له. قولُه: (إذا ذَكرَ الإنسانُ ربَّه خَنَس)، روينا في "صحيح البخاري" تعليقًا عن ابنِ عباسٍ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الشيطانُ جاثمٌ على قلبِ ابنِ آدم؛ فإذا ذَكرَ الله خَنَس، وإذا غَفلَ وَسْوس». قولُه: (ويَحْسنُ أن يقف القارئ) إلى قولُه: (على أحدِ هذين الوجهين)، أي: الصَّفةِ والشَّتْم. وفيي "الكواشي": «يكفي الوقفُ على "الخنّاس" إن رفعتَ أو نصبتَ ذمًا، فلا يجوزُ إن جَرَرْتَه: صفةٌ للخناس. وقلتُ: وفي عدمِ الجوازِ نظرًا للفاصلة، قالَ صاحبُ "المرشد": فإذا قلتَ: "الرحمن الرحيم"، كان الوقفُ كافيًا لأنه رأسُ آية، ولا يكونُ تامًا

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس، على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي، كما قال (شياطين الإنس والجن)] الأنعام: 112 [، وعن أبى ذرّ رضي الله عنه قال لرجل: هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون (مِنَ) متعلقا بيوسوس، ومعناه: ابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس، وقيل: من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة، واستدلوا (بنفر) و (رجال) في سورة الجن. وما أحقه؛ لأن الجن سموا (جنا) لاجتنانهم، والناس (ناسا) لظهورهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سموا بشرا؛ ولو كان يقع الناس على القبيلين، وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لخلوِّ المجرورِ، أعنى: "مالكِ يومِ الدين"، من العامل، والفصلِ بين النعتِ والمنعوت، وكذا الوقفُ على "المستقيم" جائزٌ وليس بحَسَن، وإنما جُوِّزَ لأنه آخر الآية». قولُه: (ومن جهة الناس)، مثلُ أن يوسوسَ في قلب المسلمِ من جهة المنجّمين والكُهانِ أنهم يعلمون الغيب، ومن جهةِ الجنِّ أنهم يَضرّون وينفعون. في "المطلع": «وعن بعضهم: على البيانِ يكونُ "من الجِنّةِ والناس"، حالًا من ضمير "الذي يوسوس"». قولُه: (وما أحقّه)، يعني: ما أثبته من قولهم: حَقَقْتُ الشئَ أَحُقُّه، أي: أَثبتُه. قال الإمام: «قيل: إن قولَه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قسمان مندرجان تحت قولِه: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}، كأن القدرَ المشتركَ بين الجنِّ والإنسِ سُمّي إنسانًا، والإنسانُ أيضًا سُمّي إنسانًا، فيكون لفظُ الإنسانِ واقعًا على الجنسِ والنوعِ بالاشتراك. والدليلُ عليه ما رُويَ أنه جاءَ نفرٌ من الجن، فقيل لهم: مَنْ أنتم؟ فقالوا: ناسٌ من الجن. وأيضًا قد سَمّاهم اللهُ رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، فجازَ أن يُسميَهم هنا ناسًا. وهذا القولُث المتعسِّفُ لا يريدُ أنَه ضعيفٌ، لأن جَعْلَ الإنسانِ اسمًا للجنسِ الذي يندرجُ فيه الجنُّ والإنس، بعيدٌ من اللغة».

وأجود منه أن يراد بالناس: الناسي، كقوله: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ)] القمر: 6 [كما قرئ: (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)] البقرة: 199 [، ثم يبين بالجنة والناس؛ لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علىّ سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما» يعنى المعوذتين. ويقال للمعوذتين: المقشقشتان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قولُه: (وأجودُ منه)، أي: من هذا القولِ المتعسِّف: لا يريدُ أنه وجهٌ فيه جَوْدة، وهو أن يُحملَ "الناسِ" في قولِه: {صُدُورِ النَّاسِ} على الناسي، فحينئذٍ يمكنُ تقسيمُه إلى الجنِّ والإنسِ لأنهما صفتانِ موصوفانِ بنسيانِ حقِّ الله. قولُه: (المُقَشْقِشَتان)، النهاية: «في الحديثِ: يقالُ لسورتَيْ "قُلْ يا أيها الكافرون"، و"قُلْ هو الله أحد": المُقَشْقِشَتان، أي: المبرِّئتانِ من النفاقِ والشركِ، كما يَبرأُ المريضُ من عِلَّتِه؛ يقال: قد تَقَشْقشَ المريض: إذا أفاقَ وبَرَأ». تَمّتِ السُّورَة ************

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [تَذْييلٌ وتَتْميم] يقولُ العبدُ الفقيرُ إلى الله الغني، الإمامُ العالمُ العامل، والشيخُ الفاضلُ الكامل، الحَبْرُ المُدقّق، والنحريرُ المُدقّق، عَلّامةُ عَصرِه، وفريدُ دَهرِه، مولانا شَرفُ الملَّةِ والدِّين، الحسينُ بنُ عبدِ الله بنِ محمدٍ الطِّيبيّ، مَنَّ الله عليه بأمنِ طريقِه، وسَقاه من الفرحِ كأسِ رَحيقِه، وتَغَمَّده بغُفر انه، وألبسَه جَلابيبَ رحمتِه ورِضوانه، وحَشَرَه مع الذين أنعم اللهُ عليهم، مِن النبيّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصَّالحين: وحين انتهى الكلامُ إلى هذا المقام، اقترحوا مشيرينَ إلىَّ أن أُلحقَ خاتمة؛ تذييلًا للكتاب، وتتميمًا لفصلِ الخِطاب، مُضمّنًا خصوصًا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، وكانتِ القريحةُ إذْ ذاك خامدةً، والطبيعةُ هامدة، فتضرَّعْتُ مُبتهلًا إلى الله تعالى، مُستنزلًا الواردَ الإلهيَّ والفتحَ الغَيبيَّ، حتى بَرَقتْ بارقةٌ من بوارقِ سحائبِ سيّدِ المرسلين، ولَمعتْ لمعةٌ من لَمعاتِ أنوارِ خاتمِ النبيّين، صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه الطِّيّبينَ الطاهرين، أعني: معنى ما أوردَه الأئمةُ في كتبهم عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحةِ الكتابِ، فهو خِداجٌ -ثلاثًا- غيرُ تمام».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقيلَ لأبي هريرة: إنّا نكون وراءَ الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسِك، فإني سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «قالَ اللهُ عزّ وجلّ: قَسمت الصلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قالَ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال اللهُ: حَمِدني عبدي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال مجّدني عبدي. وإذا قالَ العبدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قالَ العبدُ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مالكٌ ومسلم، والترمذيُّ وأبو داود، والنسائيُّ وابنُ ماجه، رحمهم الله تعالى. وكنا قد أسلفنا في شرح الخُطبةِ أنّ المعوّذتينِ على قضيةِ قولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، مشيرتانِ على الافتتاح، وعلى مُوجَبِ قولِه -صلى الله عليه وسلم-: "الحالُّ المّرتَحِل"، جوابًا عن سؤالِ مَن قال: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ مُناديتانِ بالارتحال، فبالحَرِيّ أنْ نَرجعَ إلى ما كنّا قد تكلَّمنا فيه مفتتحين به، أعني تفسيرَ سورة "الفاتحة"، وأفضل التأويل: تأويلُ مَن نَزلَ عليه التنزيل، وهذا الحديثُ مما احتوى على حقائقِ هذه السّورة، وأسرارِها، ودقائقِها، كما سنكشفُ عنها؛ هيهات، إن البحرَ لا يُستنزَف! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فَصْل اعلَمْ أنّ شرحَ هذا الحديثِ مُعْضَل، وتَطبيقَه على معنى السُّورةِ أعضَل؛ ولذلك تكلَّمَ فيه العلماء، واختلفوا اختلافًا متباينًا، فلابُدَّ من إيراده، وباللهِ التوفيق. قالَ الشيخُ محيي الدّين في "شرح صحيح مسلم": «التمجيد: الثناءُ بصفاتِ الجلال، ووجهُ مطابقتِه لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: هو أنه مُضمَّنٌ بأنّ الله هو المتفرّدُ بالمُلكِ في ذلك اليوم، ولا دَعْوى لأحٍ فيه بالمُلكِ كما في الدنيا، وفي الاعترافِ من التعظيم والتفويضِ للأمرِ ما لا يخفى. وقال العلماءُ: المُرادُ بالصلاةِ في قوله: "قَسَمتُ الصلاة": الفاتحة؛ سُمِّيتْ بذلك لأنها لا تَصِحُّ إلا بها، كقولِه: "الحجُّ عَرَفة"، وفيه دليلٌ على وجوبها بعينها في الصلاة». وفحوى ما قال التُورِبِشْتي في هذا المقام: هو أنه قد عُرفَ المرادُ من لفظِ الصلاة، بما أردفَه من التفسير والتفصيل: أنها الفاتحة، وقالَ أيضًا: إنّ التصنيفَ مُنصرفٌ إلى آيات الثَّناء وآيات المسألة، نصفُها ثناءٌ ونصفُها دُعاء؛ فإذن ليستْ البسملةُ آيةً من الفاتحة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقالَ الشَّيخ محيي الدِّينِ النّوويّ رحمهُ الله عليه: «هذا قولٌ واضح، وأجابَ الأصحابُ بوجوه: أحدُها: أنّ التصنيفَ عائدٌ إلى جملةِ الصلاةِ لا إلى الفاتحة، هذا حقيقةُ اللفظ. والثاني: أنه عائدٌ إلى ما يختصُّ بالفتحةِ من الآياتِ الكاملة. والثالث: معناه: فإذا انتهى العبدُ إلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}». وقال القاضي: «الحديثُ دَلَّ على فضلِ الفاتحةِ دون وُجوبِها، إلا أن يقال: [قَسَمتُ] الصلاةَ من حيثُ إنها عامةٌ شاملةٌ لأفرادِ الصلاةِ كلِّها، في معنى قولنا: كلُّ صلاةٍ مقسومةٌ على هذا الوجه، ويلزمُه أنّ كلَّ ما لا يكونُ مقسومًا على هذا الوجهِ لا يكونُ صلاة، والخاليةُ عن الفاتحةِ لا تكونُ مقسومةً على هذا الوجه، فلا تكونُ صلاة». هذا وإنّ الفاءَ في قولِ أبي هريرة رضي الله عنه: «فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: وتقريرِ التثليثِ في الألفاظ النبوية تفسيرًا للتنصيف، يكشفان الغطاء؛ فلا مطمَع في على مغزى الكلامِ إلّا ببيانِ موقعِهما؛ أما الأول: فإنّ الفاءَ رَتّبت ما بعدَها على ما قبلَها، ترتيبَ الدليلِ على المدَّعي، لأنه رضي الله عنه استشهدَ بالحديثِ الثاني لإثباتِ الكمالِ لمطلقِ الصلاة، ونفي النقصانِ عنه، لأن الحديثَ القُدسيَّ نصٌ إلهي في الدرجةِ الثانية، وإن كانَ من غيرِ واسطةٍ غالبًا، لأن المنظورَ فيه: المعنى، وفي التنزيل: اللفظُ والمعنى منظوران، كأنه قال: قَسَمتُ الَّصلاة الكاملةَ نصفين، فلا يَدلُّ على نَفيِ حقيقةِ الصلاةِ كما قال، وفيه أيضًا إيجابُ الصلاةِ على حقيقتِها، لأن الكلامَ السابقَ سيقَ لها أصالةً والثاني تابعٌ له، فيكون الفاءُ في قولِه: «فإذا قالَ العبد» للتعقيبِ والشروعِ في بيانِ كيفيةِ التقسيم، لا المقسومِ به كما ظنّ هذا الذي عَناه شارحُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصحيح بقولِه: «فإذا انتهى العبدُ إلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ}»، وعلى هذا قياسُ سائرِ الأذكارِ فيها. وتخصيصُ الفاتحة: لتقدمِها وشرفِها وليُنبَّهَ على اشتمالِها على معاني الكتبِ السماوية، على أنّ مرجعَ الكلِّ إلى الدعوةِ إلى تَيْنِكَ الخُلّتين، أعني: العبادةَ والثناء، وإظهارَ الافتقارِ ونفيَ الحولِ والقوة إلا به. وبهذا ظهرَ سِرُّ قولِه صلواتُ الله عليه: "الدّعاءُ مخُّ العبادة"، ولا بُعْدَ أن نتَشبَّثَ بهذا على الوجوب. وتحريرُه: أنّ قولِه: "فهي خِداج" يَحتملُ مَعْنيينِ: نَفيَ الكمالِ كما سبق، ونَفيَ الحقيقة؛ من نَفي الجزء الذي يَنْتفي الكلُّ بانتفائه، رجّحنا الثاني بهذا الاعتبار؛ وذلك أنّ الصلاةَ عبارةٌ عن حركاتٍ مخصوصةٍ أذكارٍ مخصوصةٍ، فكما تَنتفي بإخلالِ معظمِ أذكارِها. وقد نَقرّر في علم البيان، أنّ إطلاقَ الجزءِ على الكلِّ مشروطٌ بكونِ ذلك الجزءِ أعظمه، كما مّثّل شارحُ الصّحيح بقولِه: "الحَجُّ عَرَفة"، وعليه قولُه سبحانه وتعالى: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، [يعني: صلاتَه]، والذي يَشدُّ من عَضُدِ هذا التقريرِ توكيدُ الخِداجِ بالتذكير، وتتميمُه بالتفسير، ولأنّ هذا المنهجَ أحوط، وإلى التحقيقِ أقرب، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما الثاني: فعليه ما ذكره الخطّابي: هذا التقسيمُ راجعٌ إلى المعنى لا إلى الألفاظِ المتلوّة، لأنا نجدُُ الشطرَ الآخِرَ يزيدُ على الشطرِ الأولِ من جهةِ الألفاظِ والحروفِ زيادةً بَيّنةً، فينصرفُ النصفُ إلى المعنى، لأن السورةَ من جهةِ المعنى نصفُها ثناءٌ ونصفُها دعاء، وقّسمُ الثناءِ ينتهي إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وباقي الآيةِ من قسمِ المسألة، فلهذا قالَ في هذه الآية: " بيني وبين عبدي". تمّ كلامُه. وتحريرُ ذلك: أنه تعالى قسمَ السورةَ في هذا التقرير أثلاثًا، وقالَ في الثلثِ الأول: "حمدني" و"أثنى عليّ" و"مجَّدني"، فأضافها إلى نفسِه. وقال في الثلثِ الآخرِ: " هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"، فَخصَّه بالعبد، وفي الوسط جَمع بينهما وقال: " هذا بيني وبينَ عبدي". ولأن يَربِطَ النصفَ الأول بالثاني، قَدّمَ فيه العبادةَ على الاستعانة، لأن الوسيلةَ مُقدَّمٌ على طلبِ الحاجة. وأيضًا إن العبادةَ متفرِّعةٌ على الثلثِ الأول، لأنّ استحقاقَ اختصاصِ العبادةِ به إنما كانَ لأجلِ تلك الأوصافِ الكاملة، وإنّ الاستعانةَ فُرِّعَ عليها الثلثُ الآتي وفُسِّرتْ به؛ فإنَّ التقدير: كيف أُعينُكم؟ فقالوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. ولاعتبارِ المعنى ولتَضمُّنِ الثلثِ الأول معنى البسملة، استُغنيَ عنها به، وكذلك ثَلّثَ الثلثَ الأول، وجعلَ الطرفين -أعني: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} - مؤسسينِ على الوسط- أعني: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} - حيث اختصَّه بالثناءِ في قوله: "أثنى عليَّ عبدي"، مع أنّ الكلَّ ثناء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما قلنا مؤسَّسينِ على الوسط، لأنَ الرحمةَ الإلهية والعواطفَ الربانية، هي التي اقتضتْ إخراجَ الخلقِ من العدمِ إلى الوجود، للتزوّدِ للمَسيرِ إلى السَّعاداتِ الأبديّة، والمصيرِ إلى الكمالاتِ السَّرمديّة، وإلى هذا يُلْمحُ ما ورد: "رحمنَ الدنيا ورحيمَ الآخرة". فإن قلتَ: لِمَ قيّدَ الثّلثَ الثاني والثّالثَ بقولِه: "ولعبدي ما سأل"، وأوقعَه حالًا من "لعبدي"، وأطلق الأول؟ قلتُ: لتضمّنها الطّلبَ والسّؤال؛ أمّا في الأول: فمستفاد من السّين، وفي الثاني: من صيغةِ الأمر. وإنّما وُضع المظهرُ مَوضعَ المُضمرِ الرّاجعِ إلى ذي الجلال، وخُصَّ بالعبدِ وكُرِّر، ليُشعر بأنّ الصّلاةَ معراجُ المؤمن، ولهذا السّر وُصفَ الحبيبُ بالعبد ليلة المعراج، كما أَومأَ إليه بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وظهرَ أيضًا أنّ المصلّى يناجي ربّه، وحُقّ لذلك أن تسمى الفاتحةُ بالصّلاة، وأنّ الصّلاةَ لا تَصحُّ إلّا بها. ولله درُّ الإمامِ حيثُ أوجبها فيها! اللهمّ يا موليَ النِّعم، ويا راحمَ الأُمم، ويا مُحييَ الرِّمَم، أنتَ المعبودُ وأنت المستعانُ بكرمك، ثَبِّتنا على صراطك، صراطِ الذين أنعمتَ عليهم من النبيينَ والصِّديقين والشُّهداء والصالحين، ووفِّقْنا على ما نُرافقُهم به في دارِ كرامتِك في جناتِ النعيم، وجَنِّبنا بشُمولِ رأفتِك عمّا نوافقُ به الزائغين، ممّا يَكلُمُ الدِّينَ ويُثلُمُ اليقين، آمين، ربَّ العالمين. ويا سامعَ الأصوات، ويا مجيبَ الدّعوات، ويا مُقيلَ العثرات، تَقبّلْ توبتي، وامحُ حِوبتي، وأقِلْ عَثْرتي فيما صدرَ مني مِمّا لا ترضاه، خصوصًا فيما تَصَدّيتً لإيراده في "فُتوحِ الغَيب"، وفيما تَوخّيتُ إبرازَه "في الكشفِ عن قناعِ الريب". وصَلِّ على حبيبِ الله، على من بدأ منه البدايات، وانتهى إليه النهايات، رَحْمةِ الله المهداةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للأُمم، سَلَفِها وخَلَفِها، النازلِ من آلِ إبراهيمَ ذُراها، وبَيتَ شَرَفِها. وعلى أله وعِتْرتِه وأزواجِه وذرِّيتِه، وعلى سائرِ المكرّمين بصُحبتِه، والمتبِعينَ لسُنتِه، الدارجينَ منهم واللاحقينَ لهم. وارحمْ أبويَّ اللذين قَوّمَا أَوَدي، وأَصْلحا عِوَجي، ودَعَواني إليك بكلِّ خير، وأَعاذاني بك من كلِّ شر. واجْزِ عَنّا أئمةَ الإسلام وأعلامَ الطريقةِ ومشايخي خيرًا، سيّما مَنْ علّمنا، وأدَّبنا، ونَصَحَنا فيك وهَدانا إليك. واخْلُفنا في أهالينا وذَرارينا، واسلكْ بنا وبهم صراطَك المستقيم، وأَرِهم سبيلَ المتقين، واجعَلْهم مِن عبادِك الصالحين، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

§1/1